الغیبة و الانتظار قراءة تاریخ و رؤیة مستقبل

اشارة

الغیبة و الانتظار قراءة تاریخ و رؤیة مستقبل

تألیف: السید محمّد علي الحلو

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

رقم الإصدار: 92

ص: 1

اشارة

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

النجف الأشرف - شارع السور-قرب جبل الحویش

الهاتف: 218318 و 372011 _ النقال : 07804754535

www.m.mahdi.com

info@m-mahdi.com

------------------------

الغیبة و الانتظار قراءة تاریخ و رؤیة مستقبل

تألیف: السید محمّد علي الحلو

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

الطبعة الأُولى: 1429ه

رقم الإصدار: 92

عدد النسخ: 3000

جميع الحقوق محفوظة للمركز

ص: 2

اللّٰهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ

فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ رَسُولَكَ

اللّٰهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ

فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ

اللّٰهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ

فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي

***

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين..

أمّا بعد:

فقد أولى الدين الإسلامي الحنيف بعض الأفكار والقضايا العقائدية اهتماماً خاصاً وأولوية مميّزة، ولعلّنا لا نبالغ ولا نذيع سرّاً إذا قلنا بأنّ الثقافة المهدوية تعدّ من أوائل تلك القضايا ترتيباً من حيث الأهمية والعناية التي أولاها المعصومون عليهم السلام من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وقد سبقهم إلى ذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فكان ينتهز المناسبة تلو الأخرى ليطبع في ذهن الأمّة وتفكيرها مصطلحات ثقافة انتظار القائد المظفّر الذي سيرسم ملامح القسط والعدل على ربوع الأرض بعد أن تغرق في غياهب الظلم والجور، محقّقاً بذلك الحلم السرمدي الذي نامت البشرية حالمة به على مرّ العصور، والذي كان هو الأمل الأكبر الذي سعى إليه الأنبياء كافة.

ص: 5

وإذا كانت مقاييس الأهمّية والرفعة والخطر الذي تحظى به كل القضايا تتمثل بطرفين هما مبدأ ومآل كل قضية. فإنّ قضيتنا المقدّسة _ التي نحن بصدد الحديث عنها _ لا تدانيها قضية في الفكر الإسلامي.

فلو تحقّقنا في مبدأ هذه القضية وأصلها لوجدنا أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يعادل بينها وبين مجموع رسالة السماء المباركة الخالدة التي حملها إلى البشرية، فقد ورد عنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنّه قال: (من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني)،(1) ولا نجد أنفسنا بحاجة إلى مزيد من التوضيح لأهمية فكرة يعدّ إنكارها إنكاراً لخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين.

بل يمكن القول بأنّ عدم الإيمان بهذه العقيدة يوازي عدم الإيمان بكل رسائل الأنبياء، وهو الذي عبّر عنه بالضلالة عن الدين، فقد ورد في الدعاء في زمن الغيبة : (اللّهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهم عرّفني رسولك فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهم عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني) ، ومن واضحات الأمور نوع العلاقة والارتباط بين عدم معرفة الحجّة وبين الضلالة عن الدين، إذ أنّ هناك ثوابت ورواسخ لا يمكن أن تنفك بحال من الأحوال عن قاموس الفكر العقائدي2.

ص: 6


1- منتخب الأثر : 492.

الشيعي، بل الإسلامي بكل أطيافه، منها أنّ الذي يموت دون أن يعرف إمام زمانه، أو دون أن تكون في عنقه بيعة لإمام زمانه يموت ميتة جاهليّة كما ورد في الأحاديث الشريفة التي تناقلها المحدّثون من كافة الطوائف الإسلامية، وأي تعبير أفصح وأصرح من التعبير بالميتة الجاهلية عن بيان الضلالة في الدين؟!

هذا بالنسبة إلى الطرف الأوّل من طرفي مقياس أهمّية القضايا، والذي هو مبدأ هذه القضية وأصلها والإيمان بها.

وأمّا بالنسبة للطرف الثاني لهذه الفكرة المقدّسة التي حرص النبي والأئمّة من أهل بيته عليهم السلام على غرسها في صميم أفكار الفرد المسلم، وهو المآل الذي تؤول إليه أو الثمرة التي تنتجها، فإنّ فيها تحقيق حلم الأنبياء وهدفهم الذي سعوا لأجله على مرّ العصور، والأمنية التي رافقت العقل البشري منذ اليوم الأوّل لترعرعه، لأنّ هذا القائد المؤمّل هو الذي سينزع عن البشرية قيود الظلم والعبودية، وهو الذي سيخلع عليها حلّة العدل والإنصاف، فإنّه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.

وليس بعيداً عن توقّع كل عاقل أنّ مثل هذه القضية التي تحمل بين طيّاتها كل هذا المقدار من الأهمية والخطورة ستتعرّض _ حالها في ذلك حال كل مفاهيم العدالة الربّانية _ إلى وابل من سهام الغدر والعداوة، حيث أنّها تمثّل الخط العقائدي

ص: 7

الإسلامي الأصيل الذي رسم ملامحه الناصعة نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وواكبه على ذلك الأئمّة المعصومون عليهم السلام. فلقد أبت القوانين الدنيوية إلاّ أن تضع بإزاء كل حق باطلاً ينازعه ويناوئه، فتكالب أعداء الحقيقة من كل حدب وصوب ليوجّهوا نبال التشويه والتشكيك، وكل أنواع المحاربة لهذه العقيدة التي هي من مسلّمات العقل الإسلامي، الذي تعامل مع هذه الفكرة منذ أعماق تأريخه على أنّها أمر لا يمكن الغفلة عنه أو التنكّر له.

وهذا واحد من أهم الأسباب التي حفّزت فينا الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا في الحفاظ والدفاع عن هذه العقيدة المباركة التي حظت بهذا المقدار العظيم من الرعاية الإلهية. هذا الأمر هو الذي دفعنا للنهوض لتحمّل جزء من أعباء هذه المسؤولية وإنجاز هذا التكليف الذي لا مناص من تحمّله، وإيصال ما يمكن إيصاله إلى المؤمنين المهتمّين بشؤون دينهم وعقائدهم، وذلك بعون الباري عزّ وجل، ورعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني دام ظلّه الوارف، فكان تأسيس مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف، وقد عني هذا المركز بالاهتمام بكل ما يرتبط بالإمام المنتظر عجّل الله فرجه، ومن هذه الاهتمامات:

1 _ طباعة ونشر الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام، بعد تحقيقها.

ص: 8

2 _ نشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها.

3 _ إقامة الندوات العلمية التخصصية في الإمام عجّل الله فرجه، ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كتيّبات أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.

4 _ إصدار مجلّة شهرية تخصّصية باسم (الانتظار).

5 _ العمل في المجال الإعلامي بكل ما نتمكّن عليه من وسائل مرئية ومسموعة، بما فيها شبكة الانترنت العالمية من خلال الصفحة الخاصّة بالمركز.

6 _ نشر كل ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأطفال وإمامهم المنتظر عليه السلام.

وقد سعى مركزنا بكافة ما يملك من طاقات لأن يعمل على أداء ما يقع على عاتقه من مهام ضمن هذه المحاور من العمل.

فكان من بين ما وفقنا الله لإنتاجه سلسلة من الكتب المتخصّصة في ما يتعلّق بالإمام المهدي عجّل الله فرجه، أسميناها: (س_لس_لة اعرف إمامك)، نق_دّم بين يديك _ عزيزي القارئ _ هذا الكتاب كحلقة من هذه السلسة التي نسأل الباري عز وجل أن يوفّقنا للتواصل في العمل بها لتوفير كل ما يمكن أن يخدم إخواننا المؤمنين وإعطائهم ما يحتاجون في رفد أفكارهم العقائدية المرتبطة بالإمام الغائب عجّل الله فرجه.

ص: 9

وكان العمل التحقيقي في هذا الكتاب يتضمّن تقطيع العبارات وإظهارها بالشكل المناسب الذي يضمن المساعدة في توضيح الفكرة المرادة من الكتاب وراحة القارئ الكريم، ثمّ استخراج المصادر والمآخذ للأحاديث والأقوال بشكل مختصر، والتخلّص من الأخطاء والاشتباهات، ثمّ إخراج الكتاب بالشكل المناسب له.

ولا بدّ في نهاية المطاف من تقديم الشكر الجزيل والثناء الجميل للأخوة الأفاضل في المركز كافة، الّذين لم يألوا جهداً في العمل على إظهار هذه السلسلة بشكلها اللائق.

مدير المركز

السيد محمد القبانجي

ص: 10

الإهداء:

إليك يا سيدي يا صاحب الزمان عليه السلام.

جهد المقل..

راجياً القبول.

محمد علي

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلف

بالرغم من وضوح مفهوم الغيبة والانتظار، لما حظي هذان المفهومان من رعايةٍ على مستوى الحديث الذي رواه الفريقان، إلاّ أنّ المحاولات السياسية تبقى طامحةً إلى تأجيج حملات التشكيك والتساؤل حول هذين المفهومين، ومحاولة استغفال الأوساط الإسلامية وإلقاء شبهاتٍ ليست بالجديدة في هذا المجال، سعياً منها إلى زعزعة الاعتقاد العام بهذين المفهومين، ومحاولة الشطب على هذا التراث الإسلامي الذي بات من أساسيات المفهوم الإسلامي الجلي، بالرغم من ذلك فإنّ ثقافة الغيبة لا زالت تحاصر من قبل أوساطٍ فكرية تلقي بشبهاتها بين الحين والآخر كلما صارت فلسفة الغيبة أمراً مسلّماً ومتعارفاً لدى الوسط الإسلامي.

وإذا كانت محاولات تقديم مفهوم الغيبة لدى الأوساط العامة أمراً ضرورياً فإنّ هناك حلقة مفقودة لعلها لم ترعَ إلى حد ما في تأسيس ثقافة الغيبة والانتظار ، وهذه الحلقة بالرغم من سهولة تناولها إلاّ أنها غير منقّحة أو مبسوطة بأساليبها الغنية التي

ص: 13

تتيح للقارئ استيعاب هذا المفهوم، وهذه الحلقة هي تاريخ الغيبة الذي بات أمراً ضرورياً يجب التنويه إليه والعناية به بشكل يقدّم تصوراته عن هذا التاريخ الحافل بمغامرات الأنظمة السياسية وبحسن السلوك ودقّة التصرف من قبل الأئمة "عليهم السلام" ومن ثم شيعتهم حفاظاً على وجودهم " المطارد " وحقهم المصادر منذ المحاولات التأسيسية الأولى لنظام خلافة الملك والسلطة التي مارسها ساسة البلاط الأموي والعباسي بشكل فجٍ يدعو إلى المرارة والأسف الشديدين على ما ارتكبه هؤلاء من خروقات شرعية غير مبررة.

وهذه الدراسة بين أيديكم محاولة لتصوير التأريخ العام للغيبة ومحاولات لمفهوم الانتظار بشكل يسير يتناوله الجميع.

محمد علي الحلو

ص: 14

المدخل: إلاّ ليعبدون..

اشارة

ص: 15

ص: 16

إلاّ ليعبدون..:

ثمّة أمور لا يمكن تجاوزها فيما إذا أردنا البحث عن خلافة الله في الأرض، وهي ذاتها تدفعنا إلى التساؤل عن سبب خلقة الخلق من قبله تعالى، ولعل ذلك التساؤل الأول الذي يطرحه الإنسان ليس على مستوى البحث فحسب، بل على أساس معرفة علّة وجوده والغرض من تكامله وتدرجات رقيه كذلك.

ولم يغفل القرآن الكريم هذه الحقيقة التي ترافق الإنسان بكل وجدانياته وأحاسيسه وكنه معرفته لنفسه، ولهذا الكون الرحيب، لذا فقد أولى عنايته البالغة في الإجابة على هذا التساؤل بما ورد فيه من تعليل الغرض الإلهي لهذا الخلق وما رافق ذلك من المعارف الأخروية والدنيوية، وما يترتب من جزاءٍ على أعماله من ثواب وعقاب، وما تؤول إليه طاعته ومعصيته، وما يتوقف عليه الرضى والقبول، وما تتضمنه الأوامر والنواهي، إلى غير ذلك مما يكفل تنظيم علاقة الخلق بخالقه، ومعرفتهم لغرضه تعالى وتكليفهم بعد ذلك.

هذه التساؤلات رافقت الخلق منذ فطرته حتى صار ذلك الهمّ الأساس الذي يحمله الإنسان في ضميره، ولعل الإجابات التي طُرحت من قِبَلِ مختلفِ التنظيرات لم تكن قد استجابت إلى

ص: 17

حقيقة هذا التساؤل بقدر ما كانت تلبّي نزعات التنظير، ورغبات هذه التشكيلات التي " تبرعت " للإجابة على ذلك، إلاّ أنّ التساؤل لازال قائماً يحمل همّ الإنسان وتطلعاته إلى معرفة نفسه وعلة وجوده، ولم تكن الرسالات السماوية بمنئى عن هذه التطلعات حتى ضمنت الإجابة على ذلك بما يتكفل تلبية الحاجة الإنسانية إلى تلك المعرفة، وكان القرآن الكريم في طليعة هذه " المحاولات " التي تكفلت إشباع الضمير المعرفي في تطلعاته ونزعاته، وكان قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون)(1) إجابة وافية " تستريح " من خلالها النزعة الإنسانية المتطلعة إلى معرفة ذاتها.

وجوب الخليفة:

ومعنى ذلك أنّ تقديم الإجابة من خلال الآية لا يعني توقف كل شيء وإنهاء كل شيء، بل تنطلق المعرفة الإنسانية من خلال هذه الإجابة التي أشارت إلى أن الغرض الإلهي لهذا الخلق هو عبادته تعالى وأن تنفتح الآفاق المعرفية إلى رحابٍ واسع من البحث عن هذه العبادة وحدودها. وتلك الطاعة ورسومها، وهكذا تحتاج هذه المعرفة إلى من يتكفّل بيان ذلك وتوضيحه، وإيصاله وتبليغه، فكما أنّ القرآن فيه من المحكمات الواضحات، فانّ فيه من المجملات المبهمات، وكما فيه من

ص: 18


1- الذاريات (51) : 56.

الخصوص والتقييد، فانّ فيه من الإطلاق والعموم، وهكذا فانّ القرآن لائحة قانونية إلهية تنطوي على معارف ومسائل تضمن تنظيم العلاقة بين الخالق وعباده، وتعزيز الوشائج بين العباد أنفسهم، وفيه كل شيء ومنه يؤخذ كل شيء، إلاّ أن ذلك لا يعني إمكانية فهمه وقراءته اعتماداً على أفهام المكلفين وقراءتهم وحدهم دون اللجوء إلى حملة علومه وعارفي أسراره وهم الراسخون في العلم لقوله تعالى (هُوَ الّذي أنْزَلَ عَليكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أمُّ الكِتابِ وَأخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمّا الّذينَ فِي قُلُوبِهمْ زَيْغُ فَيَتّبِعُونَ ما تَشابَه مِنْهُ ابْتغاءَ الفِتنَة وَابْتِغاءَ تَأويلِه وما يَعْلُمُ تَأويلَهُ إلاّ اللهَ والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ..)(1) فاتباع ما تشابه ابتغاء معرفته اعتماداً على الفهم الاجتهادي الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يختلط عليه الواقع منهي عنه، وقد أوجب القرآن أتباع أهل تفسيره ومعرفته وهم الراسخون في العلم. وهؤلاء الراسخون هم صفوة خلق الله وحججه على عباده الذين اصطفاهم لمهمة التبليغ، وانتجبهم لأداء الرسالة بما ينسجم وواقعها وما يتفق ونفس المكلف ونزعاته، بل وتطلعاته كذلك.

من هنا ظهرت الحاجة إلى وجود الخليفة فهو المبلّغ لأحكامه، فقولُهُ تعالى (وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أَنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَة)(2) دلالةٌ على وجوب وجوده قبل وجود الخلق، وان ابتداءه تعالى لخلق آدم دليل واضح أن الخلق لا يمكنهم0.

ص: 19


1- آل عمران (3) : 7.
2- البقرة (2) : 30.

الاستغناء عن الخليفة؛ لذا ابتدأ بخلقه قبل خلقهم، وبلّغه أحكامه وعلّمه شرائعه، فأقامه سفيراً بينه وبين خلقه، منه يأخذون واليه يرجعون، وهذا شأنه تعالى في لطفه بعباده إذ لابدّ أن يقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجّة الواضحة، فله الحجة البالغة على خلقه.

قال الصادق عليه السلام : الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق.(1) فضرورة وجود الحجة إذاً تنشأ من حتمية إقامة غرضه تعالى وهو عبادته من قبل خلقه.

وقد ورد عن علي عليه السلام بأسانيد معتبرة قوله: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجةٍ ظاهر مشهور أو باطن مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيّناته.(2)

وكان لآدم عليه السلام خلفاء أوصياء مؤتمنين على مهمته، إذ من غير المعقول أن يترك الله عباده بعد موت آدم دون مبلّغ، فغرضه تعالى من الخلق عبادته، ومعلوم أن ذلك لا ينتهي بانتهاء أمر خليفته، فلابد من خليفةٍ يوصل أحكامه ويقيم سفارته، فجعل لآدم عليه السلام أوصياء خلفاء أمناء على ما ائتمنه عليه تعالى.

وهكذا الحال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وآله، فلئلا يترك أمته دون هادٍ ودليل فقد أوصى للخليفة من بعده ليؤدي مهمته ويقيم حجته8.

ص: 20


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 16.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 278.

فأوصى إلى علي بن أبي طالب ومن بعده ولده الأحد عشر صلوات الله عليهم أجمعين، وسيأتي تفصيل ذلك في محله ان شاء الله تعالى.

عصمة الخليفة:

إذن فوجود المبلّغ على هذا المستوى من التكامل إحدى مقومات نجاح الرسالة أداءً وتطبيقاً، وهذا التكامل المفترض في المبلّغ سنطلق عليه مصطلح " العصمة " التي هي ملكة في نفس المبلّغ المعصوم تعصمه عن الخطأ في التبليغ والقصور في الأداء فضلاً عن عصمته من ارتكاب الذنوب صغيرها وكبيرها تحقيقاً لغرض الخلافة التي تناسب أن يتصف الخليفة بصفة العصمة، وخلافها يوجب تخلّفه عن أداء الرسالة ومهمة التبليغ في شرحٍ ليس هنا محل بيانه.

هذه العصمة إذن هي مواصفات ينبغي توافرها في المبلّغ الذي هو خليفة الله في أرضه وهو النبي على مستوى بعثته ومهامه والإمام على مستوى وصيته ونيابته، فكما أن النبي المبلّغ لأحكام ربّه لابدّ من عصمته، فالإمام كذلك؛ لوحدة الغرض في المهمة، إذ كيف نتصور أن يكون الخليفة غير معصوم ما لم يرتكب الخطأ في مهمته وإسقاطه عن أعين الناس فيما لو افترضنا عدم عصمته لقبيح ارتكاب ما ينافي مقامه كالكذب والسرقة والزنا وغير ذلك من منافيات مقام الخلافة، أضف إلى أن الإمام لو لم

ص: 21

يكن معصوماً لترتبت عليه محاذير عدم عصمته، وهو احتياج الإمام إلى رعيته في شؤون إمامته، فربما احتاج إلى من هو الأعلم منه أو الأتقى أو الأفضل، وهذا _ لعمري _ خلاف العقل إذ كيف يمكننا تصور إمام محتاج إلى رعيته؟ ألا يكون ذلك غبناً للأفضل حين تقدّم المفضول عليه؟

على أن غير المعصوم نتوقع منه الخطأ في التبليغ والاشتباه في إيصال الأحكام إلى المكلفين فيكون قوله وفعله غير حجة، بل يجب على رعيته أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر، فإنّ غير المعصوم يمكن وقوعه في المعصية واشتباه الأمر عليه، وهذا من أقبح القبائح أن يحتاج الإمام إلى من يسدّده وينهاه، والمفروض أن تكون الرعية مسددة من قبل الإمام متبعةً له وليس العكس، وهكذا يحتاج الإمام إلى إمام آخر، وكل إمام يحتاج معه إلى إمام دون انقطاعٍ لهذا التسلسل. كما أن غير المعصوم يمكن أن يقيم الحد على غير مستحقه ويترك من استحق إقامة الحدّ عليه، فيختل النظام وتنتفي الحاجة إلى إمام يمارس مهمة هداية الناس وتنظيم شؤونهم، بل تبطل عند ذلك الحاجة إلى الرسالة والغرض من البعثة.

وإذا كان الغرض من البعثة هو التكامل الإنساني ورقي الفرد إلى أعلى مراتب الكمال، فإنّ النبي وكذلك الإمام يجب أن يكون في مرتبة من الرقي والكمال بما يمكنهما من تربية الأمة

ص: 22

وما ينسجم واللطف الإلهي بعباده من أجل وصولهم إلى مراقي التكامل.

وهذا التكامل في النبي والإمام نطلق عليه العصمة، وهي حالة الكمال التي يبلغها الإمام في جميع تصرفاته وسلوكياته.

فالعصمة إذن ليس أمراً خيالياً أو ميتافيريقياً _ كما تصورته الاطروحات الأخرى _ لا يمكن تناوله نظرياً وتطبيقياً، أو تصوره مع الحالة الإنسانية التي يتصف بها النبي والإمام، بل هي إحدى ضرورات القيادة الروحية التي يسعى إليها الإسلام من أجل الوصول إلى خلق مجتمعٍ متكاملٍ يقوده إمامٌ معصوم تخطّى حدود النفس الإنسانية المشوبة بنزعاتٍ خاصة تحول دون الرقي بشخص الإمام فضلاً عن مجتمعٍ يقوده حينذاك.

القرآن الكريم وعصمة الإمام:

على أن عصمة الإمام ليست أمراً عقلياً فحسب، بل أكدها القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته، مؤيداً بذلك ما ذهبت إليه الإمامية من وجوب عصمة الإمام وتنزيهه عن الخطأ أياً كان، خلافاً لما اختارته المذاهب الأخرى من عدم وجوب عصمته منطلقةً من كون الإمامة منصباً دنيوياً شأنه شأن القيادات الوضعية الناشئة من الغلبة والانتخاب والشورى، إلى غير ذلك من الاطروحات التنظيرية الأخرى.

وسنأتي على بعض الآيات الموجبة لعصمة الإمام مقتصرين على بيانٍ مقتضبٍ موجز.

ص: 23

الأولى: قوله تعالى: (إنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلى العالمَينَ).(1)

والاصطفاء بمعنى الاختيار والاجتباء، والله تعالى لا يختار لرسالاته من يمارس الخطيئة ويرتكب ما ينافي الحكمة من رسالاته، بل الله تعالى يختار لرسالاته من هو مطهّرٌ من أدناس المعصية وأدران الفساد، وإلاّ يكون تقريراً لعباده، وتعالى الله عن كل قبيح.

قال الطوسي في البيان: والآية تدل على أنّ الذين اصطفاهم معصومون منزهون، لأنه لا يختار ولا يصطفي إلاّ من كان كذلك، ويكون ظاهره وباطنه واحداً، فإذاً يجب أن يختص الاصطفاء، بآل إبراهيم وآل عمران من كان مرضياً معصوماً سواء كان نبياً أو إماماً.(2)

والى ذلك يذهب البيضاوي في تفسيره بقوله: الاصطفاء بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم..(3)

فالاختيار إذن لا يكون بعيداً عن العصمة، والخليفة الذي يصطفيه الله هو من خيرة عباده، لطفاً منه بهم فهو لا يختار من تاقت نفسه للمعصية وجُلبَ على ارتكاب الفاحشة والخطيئة.6.

ص: 24


1- آل عمران (3) : 33.
2- البيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي:2 / 441.
3- تفسير البيضاوي: 1 / 156.

الثانية: قوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ).(1)

فالإتباع للرسول والإمام واجب، ولا يمكن أن يكون من أمرنا بمتابعته فاسقاً أو مرتكباً للخطيئة، إذ كيف يكون وجوب المتابعة على الخطيئة والمعصية ؟ وهذا دليل على كون الإمام المتبَع معصوماً مطلقاً.

الثالثة: قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوُ اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً).(2)

وهذه تدل كذلك على وجوب عصمة النبي والإمام، إذ القدوة المتّبع لا يكون مرتكباً للذنوب ولا تصدر منه المعصية إقتداءً من الأمة به وإتباعا له.

الرابعة: قوله تعالى: (إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(3)

أجمعت روايات الفريقين على نزولها في النبي صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وكون الرجس هو مطلق الذنب، فإنّ الله تعالى أخبر أنّهم منزهون عمّا يشينهم من الذنوب والمعاصي والعيوب.2.

ص: 25


1- آل عمران (3) : 31 .
2- الأحزاب (33) : 21.
3- الأحزاب (33) : 32.

الخامسة: قوله تعالى (وَما أَتاكُمُ الرّسُوُلُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).(1)

وهو الحث على متابعة الرسول، فكلما أمركم به فخذوه، وكل ما نهاكم عنه فاتركوه، وهذا لا يتوفر إلاّ في المعصوم الذي لا يرتكب ما يخالف الشرع سواء قبل بعثته أم بعدها، فإنّ بعد البعثة واضح بل هو الإجماع عليه، أما قبل البعثة فلئلا يكون الرسول أو الإمام قد ارتكب أمراً أو جاء بمعصيةٍ ينهيان عنها بعد بعثتهما، وهو ما تستقبحه النفوس وتنفر عنه الأذواق.

السادسة: قوله تعالى: (يا أيّها الّذينَ آمَنُوا صَلّوا عَليْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً ).(2)

فالتسليم والانقياد والمتابعة لا تتم إلاّ للمعصوم الذي لا يمكن أن يرتكب الخطأ ويأتي بالمعصية، وقد مر الكلام في ذلك.

السابعة: قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلّذينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزّكاةَ وَالّذينَ هُمْ لِفَرُوجِهِمْ حافِظُونَ وَالّذينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّي).(3)

والكلام كما سبق في وجوب المتابعة والتسليم.6.

ص: 26


1- الحشر (59) : 9.
2- الأحزاب (23): 59.
3- الأعراف (7): 156.

فهذه الآيات الكريمة كما أنّها تثبت العصمة للنبي، فإنها تثبتها للإمام لوحدة الغرض من مهمتهما.

النص على الإمام:

ولما كانت العصمة الواجبة في الإمام أمرٌ خفي لا يمكن معرفته والإطلاع عليه، وهي ملكة نفسانية يصعب معرفتها من خلال الظاهر، فإنّ ذلك موكول لمعرفته تعالى، فهو المطّلع على خفايا النفوس ودواخلها.

ولما كان الأمر كذلك فلا يتسنى للرعية اختيارهم الإمام، لأن الفرض أن يكون الإمام معصوماً والعصمة ملكة نفسية خفية لا يعلم توفرها إلا خلاقها وهو الله تعالى، فوجب أن يكون تعيين المعصوم من قبله تعالى، ولا مجال بعد ذلك للاختيار والبيعة من قبل الناس، فإنّ في اختيارهم مجازفةً في شرط العصمة التي يجب توافره لدى الإمام.

وهذا ما يطلق عليه نظرية النص التي تتبناها الإمامية موافقة للقرآن الكريم، ومن ثم العقل والوجدان، فإثبات وجوب العصمة لدى الإمام يستلزم معه سقوط نظرية الاختيار وإيكال الأمر إلى النص الإلهي الذي معه تضمن الأمة سلامة تعيين الإمام وواقعيته.

ولعلّ ما أجاب به الإمام المهدي عجل الله فرجه سعد بن عبد الله الأشعري القمي حين سأله عن سبب امتناع اختيار الإمام من قبل الأمة تُعد الإجابة الوافية في وجوب النص على الإمام مستشهداً

ص: 27

بالقرآن الكريم، وما حكاه عن قصة اختيار موسى عليه السلام من قومه لميقات ربّه. ففي أسئلته للإمام عجل الله فرجه سأل سعد بن عبد الله الأشعري الإمام عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟

قال عليه السلام: مصلحٌ أو مفسد؟

فقلت (أي سعد بن عبد الله): مصلحٌ.

قال: هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد.

قلت: بلى.

قال عليه السلام: فهي العلة أيدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك. قلت: نعم.

قال عليه السلام: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتب، وأيدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم، فاهدي إلى ثبت الاختيار ومنهم موسى وعيسى هل يجوز وفور عقلهما وكمال علمهما، إذ هما على المنافق بالاختيار أن يقع خيرتهما وهم يظنان أنه مؤمن؟

قلت: لا.

قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلاً ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقع

ص: 28

خيرته على المنافقين قال الله عز وجل: (وَاخْتارَ مُوْسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لمِيقاتِنا..) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن الاختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر، وينصرف عنه السرائر وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح..(1)

وبهذا تصلح نظرية النص التي تلتزمها الإمامية مشروعاً متكاملاً للإجابة على تساؤلات يطرحها الواقع العلمي والعملي للإمامة.

وبإزاء ذلك تعد النظريات الأخرى التي تتبناها الاطروحات غير الإمامية في الخلافة مسألة تسابقٍ سياسيٍ وتكالبٍ على الحكم والرئاسة دون أن تكون لها واقعيتها الحقيقية. فالشورى والإجماع وأمثالهما من طرق اختيار الخليفة تبدو فرضيات تخفق على المستوى التنظيري فضلاً عن الواقع العملي الذي يمارسه الإمام بما هو إمام، وترتطم هذه التنظيرات الوضعية في اختيار الخليفة مع حيثيات المنتخب الذي تتجاذبه نزعاته الخاصة وأهواؤه الشخصية، كما أنها تصطف في "خانة" التنظيرات المنطلقة من4.

ص: 29


1- الاحتجاج للطبرسي: 2274.

رؤية إنسانية ضيقة، في حين تنبثق نظرية النص على الإمام وتعيينه من الاختيار الإلهي الذي يشخّص الواقع بكل أبعاده، وشتان بين الاختيارين بعد ذلك.

الأئمّة الاثنا عشر:

بعد أن عرفنا أنّ نظرية النص على الإمام تنبثق من الواقع النظري والعملي لماهية الإمامة، علمنا أن النص على الأئمة الإثني عشر أمر بديهي تتحكم به الاراده الإلهية وليس للرغبات الشخصية واختيار الأمة دخل في مسألة التعيين، لذا تكفلت النصوص الصحيحة على إمامة الإثني عشر إماماً وحصرها في أشخاصهم دون غيرهم، ونشير إلى بعض تلك النصوص الصحيحة، منها:

1_ روى الصدوق بسنده عن مسروق قال: بينما نحن عند عبد الله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه إذ قال له فتى شاب: هل عهد إليكم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون من بعده خليفة ؟ قال: انك لحدث السنِّ، وانّ هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك، نعم عهد إلينا نبينا صلى الله عليه وآله أنه يكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل.(1)

2_ وفي البخاري رفعه بسنده عن جابر بن سمرة قال:

ص: 30


1- الخصال: 2 / 467.

سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: انه قال: كلهم من قريش.(1)

3_ وعن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وآله فسمعته يقول: بعدي اثنا عشر خليفة، ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: كلهم من بني هاشم.

وعن سماك بن حرب مثله.(2)

هذه الصحاح تشير إلى اتفاق الفريقين على أن الأئمة اثني عشر كلهم من قريش، وفي رواية عبد الملك بن عمير حصرتها في بني هاشم مما يدل على أن الإمامة أمر الهي يتم تعيينه بالنص عليه.

وهذه الروايات الصحاح تؤكد على بطلان نظرية الاختيار للإمام من قبل الأمة، إذ لو كان الأمر كذلك لتعدّى عدد الأئمة إلى أكثر من هذا كما تراه عند مدارس الإجماع والشورى التي جاوزت في تعدادها لخلفائها إلى أكثر من أربعين خليفة، فهل ينسجم هذا الأمر مع ما أقره الفريقان من كون الأئمة اثني عشر كلهم من قريش وبصحاحٍ صحيحة صريحة ؟!

* * *4.

ص: 31


1- صحيح البخاري كتاب الأحكام باب الاستخلاف: 4/ 448.
2- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 3/ 104.

ص: 32

الفصل الأول: الأئمة من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي عليه السلام وأحد عشر من ولده عليهم السلام

اشارة

ص: 33

ص: 34

والأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله هم علي بن أبي طالب وأولاده الأحد عشر، نصّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله في نصوصٍ صحيحةٍ صريحة منها:

1_ ما رواه المفيد بسنده إلى أبي جعفر الثاني عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: آمنوا بليلة القدر فإنّه ينزل فيها أمر السنة، وإن لذلك ولاةً من بعدي علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده.(1)

2_ وبنفس الإسناد قال أمير المؤمنين عليه السلام لابن عباس: إنّ ليلة القدر في كل سنةٍ، وأنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ولذلك الأمر ولاةٌ من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدّثون.(2)

3_ وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)(3) فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام، فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته عليهم السلام في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن9.

ص: 35


1- الإرشاد للشيخ المفيد:2 / 346.
2- الإرشاد للشيخ المفيد:2 / 346.
3- النساء (4) : 59.

رسول الله صلى الله عليه وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كل أربعين درهماً درهمٌ حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت: (أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُم) ونزلت في علي والحسن والحسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في علي: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال صلى الله عليه وآله أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي فاني سألت الله عز وجل أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك، وقال: لا تعلّموهم فهم أعلم منكم، وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالةٍ، فلو سكت رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يبيّن من أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان، ولكن الله عز وجل أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه صلى الله عليه وآله: (إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً)(1) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام فأدخلهم رسول الله صلى الله عليه وآله تحت الكساء في بيت أم سلمة ثم قال: اللهم إنّ لكلّ نبيٍ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي، فقالت أم سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: انك إلى خيرٍ، ولكن هؤلاء أهلي وثقلي، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله كان علي أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وإقامته للناس وأخذه بيده، فلما مضى عليٌ لم يكن يستطيع عليٌ ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس3.

ص: 36


1- الأحزاب (33) : 33.

بن علي ولا واحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك، وبلّغ فينا رسول الله صلى الله عليه وآله كما بلّغ فيك، وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك، فلما مضى عليٌ عليه السلام كان الحسن عليه السلام أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده _ ولم يكن ليفعل ذلك _ والله عز وجل يقول: (وَأولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(1) فيجعلها في ولده إذاً لقال الحسين أمر الله بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلّغ فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله كما بلّغ فيك وفي أبيك، وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى الحسين لم يكن أحدٌ من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدّعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا، ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه السلام فجرى تأويل هذه الآية (وأولوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتاب الله) ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين، ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي وقال: الرجس هو الشك، والله لا نشك في ربنا أبداً.(2)

توقفنا هذه الرواية الشريفة على معالم النص والتعيين الإلهي للإمام، وكونها مسألة ترتبط بالإرادة الإلهية كما هو في اصطفاء النبي وبعثته، فالأمة لا تختار نبيها ولا حقّ لها في تعيينه،م.

ص: 37


1- الأنفال (8) : 75, الأحزاب ( 33) : 6.
2- الكافي: 1/ 286 باب ما نصّ الله ورسوله على الأئمة عليهم السلام.

وإذا علمنا وحدة الغرض بين النبي والإمام في مهمته، علمنا أن ما للنبي للإمام _ إلاّ النبوّة _ فالاصطفاء والاختيار والتعيين للإمام لا يخضع لرغبات الناس وأذواقهم.

وإذا لم يحق للإمام، وهو المعصوم _ أن يختار الإمام بعده، فكيف بالأمة يحق لها الاختيار والتعيين ؟! وإذا كان الإمام _ وهو المعصوم _ قد خفت عليه مصلحة اختيار الإمام من بعده فلم يستطع تعيينه والنص عليه ما لم يكن المنصوص عليه مسبقاً في علم الله تعالى وبنصٍ من النبي صلى الله عليه وآله، فكيف بالأمة بعد ذلك تستطيع تعيين الإمام وتشخيصه واختياره ؟! بل لم يكن ذلك حتى للنبي صلى الله عليه وآله فهو أمرٌ الهي متّبع، وقد قال تعالى (وَما يُنْطِقُ عَنْ الهَوى إنّ هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحَى).(1)

فكيف بنا وقد خفيت علينا أبسط المصالح في اختيار الإمام وتعيينه حتى نتشبث " بنظرياتٍ " وضعيّة تبرر تنصيب الآخرين أنفسهم أئمةً للأمة، وخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله؟!

آخرهم قائمهم..

على أنّ روايات التعيين هذه لم تغفل أسماءهم، فبعضها تعهدت ببيانها، والأخرى أشارت إلى بعضها، كما في جملةٍ منها أشارت إلى أن أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي عجل الله فرجه الشريف.

ص: 38


1- النجم (53) : 3-4.

وقد أولت الكثير منها عنايتها بالإشارة إلى المهدي إما باسمه الصريح أو بصفته أو بالإشارة إليه، منها:

1_ ما رواه المفيد بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على فاطمة بنت رسول الله عليهما السلام وبين يديها لوحٌ فيه أسماء الأوصياء والأئمة من ولدها، فعدّدت اثني عشر اسماً آخرهم القائم من ولد فاطمة، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي.

2_ وعن أبي جعفر عليه السلام قال: ويكون بعد الحسين عليه السلام تسعة أئمةٍ تاسعهم قائمهم.

3_ عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا سيد المرسلين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وان أوصيائي بعدي اثنا عشر أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم.(1)

4_ وعن المفضل بن عمر قال: قال الصادق جعفر بن محمد: إنّ الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف عام فهي أرواحنا، فقيل له: يا ابن رسول الله، ومن الأربعة عشر؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين،1.

ص: 39


1- فرائد السمطين للمحدث الجويني: 2 / 71.

آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبته فيقتل الدجال ويطهّر الأرض من كل جور وظلم.(1)

هذه الروايات وأمثالها تعدّ تمهيداً للنص على إمامة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، فهي إشارات صريحة على إمامته تفسرها روايات تشير إلى صفته الشريفة منها:

1_ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين.(2)

2_ وعن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المهدي رجل من ولدي لونه لون عربي وجسمه جسم إسرائيلي على خدّه الأيمن خال، كأنه كوكب درّي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً يرضى بخلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير في الجو.(3)

3_ وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليبعثنّ الله من عترتي رجلاً أفرق الثنايا أجلى الجبهة يملأ الأرض عدلاً ويفيض المال فيضاً.(4)ه.

ص: 40


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/315.
2- بحار الأنوار: 51 /90.
3- بحار الأنوار : 51/90.
4- بحار الأنوار: 51 /90 عن أبي نعيم في عواليه.

هذه هي أوصافه صلوات الله عليه، إذ كثير من الروايات أولت اهتمامها بأوصافه الكريمة تمهيداً لذكر اسمه صريحاً.

ومن الروايات ما ذكرت نسبه الشريف وأنه من بني هاشم من فاطمة عليها السلام، من ولد الحسين عليه السلام ، أبوه الحسن العسكري عليه السلام، ومن هذه الروايات:

أولاً: المهدي هاشمي قريشي.

روى قتادة عن سعيد بن المسيب قال: قلت لسعيد بن المسيب: المهدي حق؟

قال: حق.

قلت: ممن؟

قال: من كنانة.

قلت: ثم ممن؟

قال: من قريش.

قلت: ثم ممن؟

قال: من بني هاشم..(1)

ثانياً: أنّه من أولاد عبد المطّلب.

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي.

ص: 41


1- المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي.( مركز الرسالة) عن عقد الدرر: 42 الباب الأول.

وفي عقد الدرر: نحن سبعة بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة أنا وأخي علي وعمّي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي.(1)

ثالثاً: المهدي من أهل البيت:

عن سفيان الثوري روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله مرفوعاً: لا تذهب _ أولا تنقضي _ الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي.(2)

وعن نعيم بن حماد عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة.(3)

وعن مكحول عن علي قال: قلت يا رسول الله أمنا آل محمد المهدي أم من غيرنا ؟ فقال: لا بل منّا يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتنة كما أنقذوا من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخواناً كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم.(4)

رابعاً: المهدي من ولد علي عليه السلام:

ما ورد في جملة من الأخبار عن علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال في المهدي: هو رجلٌ مني.(5)

ص: 42


1- المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ( مركز الرسالة) عن ابن ماجة : 3/1368 باب خروج المهدي.
2- كتاب النهاية أو الفتن والملاحم لابن كثير: 1/ 108 دار الكتب القاهرة.
3- الحاوي للفتاوي للسيوطي: 2/ 129.
4- الحاوي للفتاوي للسيوطي 2: 134.
5- المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: 56 عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 1/ 369.

خامساً: المهدي من ولد فاطمة عليه السلام:

عن سعيد بن المسيّب قال: كنا عند أم سلمة فتذاكرنا المهدي، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: المهدي من ولد فاطمة.(1)

وعن علي عليه السلام قال: المهدي رجلٌ منا من ولد فاطمة.(2)

وروى ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية بطرقه: أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله من ولد فاطمة رضي الله عنها ابنته وأنه أجلى الجبهة أقنى الأنف.(3)

وفي كنز العمال: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.(4)

وعلّق الشريف البرنجي في الإشاعة لإشراط الساعة بقوله: إن أحاديث وجود المهدي آخر الزمان وانه من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله من ولد فاطمة عليها السلام بلغت حد التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها، ومن ثَمّ ورد من كذب بالدجال فقد كفر ومن كذّب بالمهدي فقد كفر..(5)

وقال القرطبي في التذكرة: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة.(6)

ص: 43


1- سنن ابن ماجة: كتاب الفتن باب خروج المهدي حديث 34086.
2- الحاوي للفتاوي للسيوطي: 2 / 156.
3- الفتاوي الحديثة لابن حجر: 197.
4- كنز العمال:الحديث 38662.
5- الإشاعة لإشراط الساعة للشريف البرنجي: 249.
6- الحاوي للفتاوي: 2 / 170.

سادساً: المهدي من ولد الحسين عليه السلام:

عن حذيفة رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله فذكر ما هو كائن ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من ولدي اسمه اسمي.

فقام سلمان رضي الله عنه فقال: يا رسول الله من أيّ ولدك هو؟ قال من ولدي هذا، فضرب بيده على ظهر الحسين رضي الله عنه.(1)

وعن أبي هارون العبدي قال: أتيت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل شهدت بدراً ؟ قال: نعم فقلت: ألا تحدّثني بشيء مما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله في علي وفضله؟ فقال: بلى أخبرك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله مرض مرضةً نقه منها فدخلت عليه فاطمة تعوده وأنا جالس عن يمين النبي صلى الله عليه وآله، فلما رأت ما برسول الله صلى الله عليه وآله من الضعف خنقتها العبرة ..إلى أن قال: قال النبي: يا فاطمة ولعلي عليه السلام ثمانية أضراس يعني مناقب إيمان بالله ورسوله وحكمته وزوجته وسبطاه الحسن والحسين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، يا فاطمة إنا أهل بيت أعطينا ستّ خصال لم يعطها أحدٌ من الأولين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا، نبينا خير الأنبياء وهو أبوك ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك وشهيدنا خير الشهداء وهو حمزة عم

ص: 44


1- فرائد السمطين للجويني: 2/ 83.

أبيك ومنها سبطا هذه الأمة وهما ابناك ومنا مهدي الأمة الذي يصلي عيسى خلفه، ثم ضرب على منكب الحسين فقال: من هذا مهدي الأمة.(1)

وفي عقد الدرر للمقدسي الشافعي روى خبراً عن علي عليه السلام جاء فيه أنّ المهدي من ولد الحسين ألا فمن تولى غيره لعنه الله.(2)

ومثله عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث طويل جاء فيه: والمهدي يا جابر رجل من ولد الحسين.(3)

سابعاً: المهدي من ولد الحسن العسكري عليه السلام:

اشارة

في الكافي عن محمد بن علي بن بلال قال: خرج إليّ من أبي محمدٍ قبل مضيّه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم خرج إليّ من قبل مضيّه بثلاثة أيامٍ يخبرني بالخلف من بعده.(4)

وعن عمرو الأهوازي قال: أراني أبو محمد ابنه عليهما السلام وقال: هذا صاحبكم بعدي.(5)

وعن أحمد بن إسحاق قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام يقول: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقاً

ص: 45


1- بحار الأنوار: 51 / 91.
2- المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي : 94 عن عقد الدرر: 132.
3- المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي : 94 عن عقد الدرر:132.
4- الكافي: 1/264 باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار عليه السلام.
5- الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 348.

وخُلُقاً يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.(1)

وعن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد عليه السلام: جلالتك تمنعني عن مسألتك فتأذن لي في أن أسألك؟ قال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد ؟ قال: نعم، قلت: فإن حدث حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة.(2)

وفي ينابيع المودة عن الإمام الرضا عليه السلام: ان الإمام من بعدي ابني محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وأما متى يقوم، فإخبار عن الوقت، لقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلاّ بغتة.(3)

وفي حديث اللوح .. إلى أن قال جابر: فقرأت فإذا فيها: أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى أمه آمنة بنت وهب، أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أبو محمد بن علي البر، أبو عبد الله الحسين بن علي التقي أمهما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، أبو محمد علي بن8.

ص: 46


1- بحار الأنوار : 51/161.
2- بحار الأنوار : 51/161.
3- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 3 / 166 عنه المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: 98.

الحسين العدل، أمه شهربانويه بنت يزدجرد ابن شاهنشاه، أبو جعفر محمد بن علي الباقر أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، أبو ابراهيم موسى بن جعفر الثقة، أمه جارية اسمها حميدة، أبو الحسن علي بن الرضا أمه جارية اسمها سوسن، أبو محمد الحسن بن علي الرفيق أمه جارية اسمها سمانة وتكنى بأم الحسن، أبو القاسم محمد بن الحسن هو حجة الله تعالى على خلقه القائم، أمه جارية اسمها نرجس صلوات الله عليهم أجمعين.(1)

وعن أبي الهيثم بن أبي حبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا اجتمعت ثلاثة أسماء متوالية: محمد وعلي والحسن فالرابع القائم.(2)

وعن المفضل بن عمر قال: دخلت على سيدي جعفر بن محمد فقلت: يا سيدي لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك؟ فقال لي: يا مفضّل الإمام من بعدي ابني موسى والخلف المأمول المنتظر "محمد" بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى.(3)1.

ص: 47


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 1/347 _ 351.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة :1 /347 _ 351.
3- إكمال الدين وإتمام النعمة :1/ 347 _ 351.

عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: من أقرّ بالأئمة من آبائي وولدي وجحد المهدي من ولدي كان كمن أقرّ بجميع الأنبياء وجحد محمداً صلى الله عليه وآله ونبوته. فقلت: يا سيدي ومن المهدي من ولدك ؟ قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه، ولا يحل لكم تسميته.

عن السيد الحميري في حديث طويل يقول فيه: قلت للصادق جعفر بن محمد: يا ابن رسول الله قد روي لنا أخبارٌ عن آبائك في الغيبة وصحة كونها فأخبرني بمن تقع ؟ فقال عليه السلام: إنّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحق بقية الله في الأرض وصاحب الزمان، والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(1)

وعن الريّان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر ولكني لست بالذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وان القائم هو الذي إذا خرج كان في سنّ الشيوخ ومنظر الشبان، قوياً في بدنه حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين1.

ص: 48


1- إكمال الدين وإتمام النعمة : 1/347 _ 351.

الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام ذاك الرابع من ولدي، يغيّبه الله في ستره ما شاء، ثم يظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(1)

وعن عبد العظيم الحسني قال: دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم فابتدأني فقال لي: يا أبا القاسم إن القائم منا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي...(2)

وعن الصقر بن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام يقول: إنّ الإمام بعدي ابني علي أمره أمري، وقوله قولي وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه وطاعته طاعته أبيه، ثم سكت، فقلت له: يا بن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءً شديداً ثم قال: إنّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر..(3)

ما يعتقده عبد العظيم الحسني رحمه الله وكل شيعي:

روى الصدوق بسنده الصحيح عن عبد العظيم الحسني قال: دخلت على سيدي علي بن محمد عليها السلام فلما بصر بي قال7.

ص: 49


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 1/ 347 _ 351.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة : 1/347 _ 351.
3- بحار الأنوار : 51/157.

لي: مرحباً بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقاً قال: فقلت له: يا ابن رسول الله أني أريد أن أعرض عليك ديني، فان كان مرضيّا ثبتّ عليه حتى ألقى الله عز وجل، فقال: هات يا أبا القاسم فقلت: إني أقول: إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه، وانه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وان محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة. وأقول: إن الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي، فقال عليه السلام: ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال: فقلت: وكيف ذاك يا مولاي قال: لأنه لا يرى شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، قال: فقلت: أقررت وأقول: ان وليهم ولي الله وعدوّهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، وأقول: إنّ المعراج حق، والمساءلة في القبر حق، وان الجنة حق، والنار حق، والصراط حق، والميزان حق (وان الساعة آتية لا ريب

ص: 50

فيها) وان الله يبعث من في القبور، وأقول: ان الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمد عليهما السلام: يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(1)

وعن الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا عليهم السلام: يقول: إنّ الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(2)

وعن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق إنّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض وبه ينزل الغيث وبه يخرج بركات الأرض.

قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟7.

ص: 51


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/ 353_357.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2 / 353_357.

فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلامٌ كأن وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين فقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، انه سمّي رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(1)

وعن يعقوب بن منقوش قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وهو جالس على دكانٍ في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل فقلت له: يا سيدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلامٌ خماسي له عشراً أو ثمان أو نحو ذلك(2)، واضح الجبين أبيض الوجه دري المقلتين، شأن الكفين، معطوف الركبتين في خده الأيمن خال وفي رأسه ذوابة، فجلس على فخذ أبي محمد عليه السلام قال لي: هذا صاحبكم، ثم وثب فقال له: يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثم قال لي: يا يعقوب انظر من في البيت، فدخلت فما رأيت أحداً.

وروى الصدوق عن محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنية.

ص: 52


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/353 _ 357.
2- الخماسي من له من العمر خمس سنين وقوله: له عشراً أو ثمان، الظاهر أن له هيئة عمر ثمان أو عشر سنوات، فان نمو أجسادهم لها حالات تختلف عن أبدان غيرهم لا علاقة لها بأعمارهم الشريفة.

علاّن الرازي قال: أخبرني بعض أصحابنا أنه لما حملت جارية أبي محمد عليه السلام قال: ستحملين ذكراً واسمه محمد وهو القائم من بعدي.(1)

وعن علي بن أحمد الرازي عن أحمد بن إسحاق بن سعد قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام يقول: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقا وخلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته، ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.(2)

وعن علي بن همام قال: سمعت محمد بن عثمان العمري _ قدس الله روحه _ يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام: أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة وأنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فقال عليه السلام: ان هذا حق كما أن النهار حق. فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، إما أن له غيبة يحار فيها الجاهلون ويهلك فيها المبطلون، ويكذّب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني انظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة.(3)6.

ص: 53


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2 / 376.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2 / 376.
3- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2 / 376.

هذه الروايات وغيرها أثبتت ولادة المهدي عجل الله فرجه الشريف من الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، وقد أعرضنا عن أكثرها، وفي ذلك دلالة كافية على ولادته الشريفة ووجوده المقدّس.

ما أقرّ به أهل السنة من ولادة الإمام المهدي عليه السلام وهو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام:

ولم تقتصر هذه المسألة على الاعتقاد الشيعي فحسب، بل أقر بذلك علماء أهل السنة وسلّموا بها تسليم الضرورات، وسنذكر بعض هذه الأقوال:

1_ ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة:

قال: أبو القاسم محمد الحجة وعمره عند وفاة أبيه (الحسن العسكري) خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة ويسمى القائم المنتظر.(1)

2_ ابن خلكان في وفيات الأعيان:

قال في ترجمة الإمام العسكري عليه السلام ما نصّه:

أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن الرضا بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد

ص: 54


1- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: 208.

المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة..(1)

3_ ابن شحنة الحنفي:

ذكر في تأريخه المسمى بروضة المناظر في أخبار الأوائل المطبوع بهامش مروج الذهب في المطبعة الأزهرية المصرية سنة 1303 الجزء الأول صفحة 294: وولد لهذا الحسن _ يعني الحسن العسكري عليه السلام _ ولده المنتظر ثاني عشرهم، ويقال له المهدي والقائم والحجة محمد، ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين.(2)

4_ ابن الصباغ المالكي

المتوفى سنة 855 ه_. في الفصول المهمة، الفصل الثاني عشر: في ذكر أبي القاسم محمد الحجة الخلف الصالح ابن أبي محمد الحسن الخالص: قال صاحب الإرشاد..: كان الإمام بعد أبي محمد الحسن ابنه محمداً، ولم يخلف أبوه ولداًَ غيره، وخلفه أبوه غائباً مستتراً بالمدينة، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين..

ولد أبو القاسم محمد بن الحجة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأما نسبه أباً وأماً فهو: أبو القاسم محمد بن الحجة بن

ص: 55


1- وفيات الأعيان: 1/ 238.
2- منتخب الأثر: 427.

الحسن الخالص ابن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين.

وأما أمه فأم ولد يقال لها نرجس خير أمة، وقيل اسمها غير ذلك. وأما كنيته فأبو القاسم، وأما لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم لمنتظر وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.(1)

5 _ أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد الشافعي.

قال في مطالب السؤول:

أبو القاسم محمد بن الحسن الخالص بن علي المتوكل بن محمد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسن الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر عليهم السلام ورحمته وبركاته.

فهذا الخلف الحجة قد أيده الله

هدانا منهج الحق وأتاه سجاياه

وأعلى في ذرى العليا بالتأييد مرقاه

وآتاه حلى فضل عظيم فتحلاّه

ص: 56


1- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 287.

وقد قال رسول الله قولاً قد رويناه

وذو العلم بما قال إذا أدرك معناه

يرى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه

وقد أبداه بالنسبة والوصف وسمّاه

ويكفي قوله مني لإشراق محيّاه

ومن بضعته الزهراء مجراه ومرساه

ولن يبلغ ما أوتيه أمثال وأشباه

فإن قالوا هو المهدي ما ماتوا بما فعلوا

قد رتع من النبوة في أكناف عناصرها، ووضع من الرسالة أخلاف إصرها وترعرع من القرابة بسجال معاصرها، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه بخناصرها، فاقتنى من الأنساب شرف نصابها، واعتلى عند الانتساب على شرف أحسابها، واجتنى جنا الهداية من معادنها وأسبابها، فهو من ولد الطهر البتول المجزوم بكونها بضعة الرسول، فالرسالة أصلها وأنها لأشرف العناصر والأصول. إلى أن قال: فأما مولده فبسر من رأى في ثالث وعشرين سنة 258، وأما نسبه أباً وأماً فأبوه الحسن الخالص.(1)

6_ الحافظ أبو الفتح محمد ابن أبي الفوارس الشافعي:

ص: 57


1- كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأستار للميرزا النوري : 41.

روى في كتابه الأربعين رواية طويلة ذكر فيها أئمة آل البيت عليه السلام ثم قال في آخرها:

ومن أحب أن يلقى الله عز وجل وهو من الفائزين فليوال ابنه الحسن العسكري، ومن أحب أن يلقى الله عز وجل وقد كمل إيمانه وحسن إسلامه فليوال ابنه صاحب الزمان المهدي .. إلى آخر الرواية الشريفة.(1)

7_ أبو المجد عبد الحق الدهلوي البخاري الحنفي

المتوفى 1052 ه_. في كتابه تحصيل الكمال:

وأبو محمد الحسن العسكري ولده محمد رضي الله عنهما معلوم عند خواص أصحابه وثقاته.

ثم نقل قصة الولادة بالفارسية.(2)

8_ الحافظ أبو محمد الطوسي البلاذري:

قال السمعاني في الأنساب الكبير:

وأبو محمد البلاذري الواعظ الطوسي كان واحد عصره في الحفظ والوعظ، ومن أحسن الناس عشرة وأكثرهم فائدة، وكان يكثر المقام بنيسابور، يكون له في كل أسبوع مجلسان عند شيخي البلد أبي الحسين المحمي وأبي نصر العبدي. وكان أبو علي الحافظ ومشايخنا يحضرون مجالسه ويفرحون بما يذكره

ص: 58


1- كشف الأستار : 61.
2- كشف الأستار : 63.

على الملأ من الأساتيد ولم أرهم غمزوه قط في إسناد أو اسم أو حديث، وكتب بمكة عن إمام أهل البيت عليهم السلام أبي محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم السلام.(1)

9_ أبو المعالي محمد سراج الدين الرفاعي

ذكر في كتابه " صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار " في ترجمة الإمام الهادي عليه السلام ما نصه:

وأما الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد عليهما السلام ولقبه النقي والعالم والفقيه والأمير والدليل والعسكري والنجيب، ولد في المدينة سنة اثني عشر ومائتين من الهجرة، وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان له خمسة أولاد الإمام الحسن العسكري والحسين ومحمد وجعفر وعائشة.

فأما الحسن العسكري فأعقب صاحب السرداب الحجة المنتظر ولي الله الإمام محمد المهدي عليه السلام..(2)

10_ أحمد بن يوسف القرماني الحنفي

المتوفى 1019 ه_ قال في كتابه " أخبار الدول وآثار الأول " في الفصل الحادي عشر، في ذكر أبي القاسم محمد الحجة الخلف الصالح.

ص: 59


1- منتخب الأثر: 406.
2- كشف الأستار: 95.

وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين آتاه الله فيها الحكمة كما أوتيها يحيى عليه السلام صبياً، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر أقنى الأنف وأجلى الجبهة..(1)

11_ تقي الدين ابن أبي منصور:

في كلام طويل ذكره الشعراني: وذلك الاضمحلال يكون بدايته من مضي ثلاثين سنة من القرن الحادي عشر، فهناك يترقب خروج المهدي عليه السلام ، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باقٍ إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم عليه السلام فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، سبعمائة سنة وست سنين.(2)

12_ السيد جمال الدين بن السيد غياث الدين

صاحب كتاب " روضة الأحباب " كتابه في الفارسية وذكر أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن عليهما السلام.(3)

13_ شيخ الإسلام الجويني الشافعي

من أعلام الشافعية في القرن السابع والثامن:

بسنده عن محمد بن علي بن بابويه، قال: حدثنا أحمد بن زياد،

ص: 60


1- أخبار الدول وآثار الأول: ,353 عنه المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: 132.
2- اليواقيت والجواهر للشعراني : 562.
3- كشف الاستار : 64.

وعنه حدثنا أحمد بن زياد الهمداني حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا عليه السلام قصيدتي التي أوّلها:

مدارس آياتٍ خلت من تلاوة

فلما انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميز فينا كل حقٍ وباطلٍ

ويجزي على النعماء والنقمات

بكى الرضا عليه السلام بكاءً شديداً ثم رفع رأسه إليّ فقال: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟ قلت: لا يا مولاي إلاّ أني سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي، وبعد عليّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم، المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً.وأما متى ؟ فأخبار عن الوقت، فقد حدّثني أبي عن جدي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال: مثله كمثل الساعة لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة.(1)5.

ص: 61


1- فرائد السمطين للجويني: 2/ 95.

14_ حسن العراقي:

هو الذي أخبر تقي الدين بن أبي منصور بوجود المهدي عليه السلام وهو ابن الحسن العسكري عليه السلام فقال: هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة، عن الإمام المهدي حين اجتمع به.(1)

15_ القاضي حسين الديار بكري

في كتابه تاريخ الخميس:

في هذا الكتاب جعل الحجة بن الحسن عليهما السلام الإمام الثاني عشر..

وذكر قصة ولادته كاملةً.(2)

16_ العلامة سبط ابن الجوزي الحنبلي

المتوفى 654 ه_ .قال: فصل في ذكر الحجة المهدي:

هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وكنيته أبو القاسم، وهو الخلف الحجة صاحب الزمان القائم المنتظر والتالي، وهو آخر الأئمة.

أنبأنا عبد العزيز بن محمود بن البزاز عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه

ص: 62


1- اليواقيت والجواهر: 562.
2- كشف الأستار: 54.

كاسمي وكنيته ككنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً فذلك هو المهدي، وهذا حديث مشهور.(1)

17_ سليمان بن إبراهيم المعروف بالقندوزي الحنفي

المتوفى 1270ه_.قال في كتابه ينابيع المودة:

فالخبر المعلوم المحقق عند الثقات أن ولادة القائم عليه السلام كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامراء.(2)

18_ مؤرخ دمشق شمس الدين بن طولون الحنفي

المتوفى 953ه_ في كتابه الأئمة الاثنا عشر: قال: وثاني عشرهم ابنه محمد بن الحسن، وهو أبو القاسم محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

ثم قال: وقد نظمتهم على ذلك فقلت:

عليك بالأئمة الإثني عشر

من آل بيت المصطفى خير البشر

أبو ترابٍ حسنُ حسينُ

وبغض زين العابدين شين

محمد الباقر كم علمٍ درى

والصادق ادع جعفر بين الورى

موسى هو الكاظم وابنه عليٌ

لقبه الرضا وقدره علي

ص: 63


1- تذكرة الخواص (سبط ابن الجوزي) : 325.
2- ينابيع المودة 3: 114, عنه المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: 133.

محمد التقي قلبه معمور

على التقى دُرّه منثور

والعسكري الحسن المطهر

محمد المهدي سوف يظهرُ(1)

19_ شهاب الدين بن شمس الدين الهندي المعروف بملك العلماء:

قال في كتابه " هداية السعداء " :

لِمَ لم يدّعِ زين العابدين الخلافة ؟ فأجاب عنه بكلام طويل حاصله: أنّه رأى ما فعل بجده أمير المؤمنين عليه السلام وأبيه عليه السلام من الخروج والقتل والظلم..

ثم عدّد الأئمة بعد الإمام الحسين عليهم السلام فقال: وأولهم الإمام زين العابدين، والثاني الإمام محمد الباقر، والثالث الإمام جعفر الصادق ابنه، والرابع الإمام موسى الكاظم ابنه، والخامس الإمام علي الرضا ابنه، والسادس الإمام محمد التقي ابنه، والسابع الإمام علي النقي ابنه، والثامن الإمام الحسن العسكري ابنه، والتاسع الإمام حجة الله القائم الإمام المهدي ابنه، وهو غائب وله عمر طويل كما بين المؤمنين عيسى وإلياس وخضر، وفي الكافرين الدجال والسامري.(2)

20_ صلاح الدين الصفدي

قال في ينابيع المودة: قال الشيخ الكبير العارف بأسرار

ص: 64


1- الأئمة الاثنى عشر لابن طولون : 117.
2- كشف الأستار: 71.

الحروف صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة: إنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر من الأئمة، أولهم سيدنا علي وآخرهم المهدي رضي الله عنهم ونفعنا بهم.(1)

21_ عبد الله بن محمد المطيري الشافعي.

قال المحدث النوري: روي أنّ من ذرية الحسين بن علي رضي الله عنه المهدي المبعوث في آخر الزمان. إلى أن قال: وجميع نسل الحسين وذريته يعودون إلى إمام الأئمة المحقق المجمع على جلالته وغزارة علمه وزهده وورعه وكماله سلالة الأنبياء والمرسلين وسلالة خير المخلوقين زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وأرضاه. ثم ذكر بعض فضائله وجماعة من ذريته وجملة من المنامات في فضيلتهم. إلى أن قال: فالإمام الأول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وساق أسامي الأئمة، ثم قال: الحادي عشر ابنه الحسن العسكري رضي الله عنه، الثاني عشر ابنه محمد القائم المهدي رضي الله عنه، وقد سبق النص عليه في ملة الإسلام من النبي محمد صلى الله عليه وآله، وكذا من جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن بقية آبائه أهل الشرف والمراتب، وهو صاحب السيف القائم المنتظر، كما ورد ذلك في صحيح الخبر، وله قبل قيامه غيبتان ..إلى آخر ما قال.

قال المحقق النوري: والنسخة التي عثرت عليها عتيقة

ص: 65


1- كشف الأستار : 77.

وكانت لمؤلفها وبخطه وعلى ظهرها كتاب "الرياض الزاهرة في فضل آل بيت النبي وعترته الطاهرة " تأليف الفقير إلى الله عبد الله محمد المطيري شهرةً، المدني حالاً، الشافعي مذهباً، الأشعري اعتقاداً، والنقشبندي طريقة، نفعنا الله من بركاتهم آمين.(1)

22_ الشيخ العارف عبد الوهاب الشعراني

المتوفى 973ه_. في كتابه اليواقيت والجواهر أورد قول ابن عربي والشيخ حسن العراقي والشيخ علي الخواص حيث أثبتوا أن الإمام المهدي عليه السلام هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وذكر ذلك مستدلاً على عقيدته.(2)

23_ الفضل بن روزبهان المتوفى بعد 909 ه_.

قال في كتابه إبطال الباطل: ونعم ما قلت فيهم (أي أهل البيت عليهم السلام) منظوماً:

24_ الشيخ علي الخواص:

سلام على المصطفى المجتبى

سلام على السيد المرتضى

سلام على ستنا فاطمة

من اختارها الله خير النسا

سلام من المسك أنفاسه

على الحسن الألمعي الرضا

سلام على الأروعي الحسين

شهيد يرى جسمه كربلا

سلام على سيد العابدين

علي بن الحسين المجتبى

ص: 66


1- كشف الأستار : 94.
2- اليواقيت والجواهر: 562.

سلام على الباقر المهتدي

رضيّ السجايا إمام التقى

سلام على الكاظم الممتحن

سلام على الصادق المقتدى

سلام على الثامن المؤتمن

علي الرضا سيد الأصفيا

سلام على المتقي التقي

محمد الطيب المرتجى

سلام على الأريحي النقي

علي المكرّم هادي الورى

سلام على السيد العسكري

إمام يجّهز جيش الصفا

سلام على القائم المنتظر

أي القاسم العرم نورالهدى

سيطلع كالشمس في غاسقٍِ

ينجبه من سيفه المنتضى(1)

هو الذي وافق الشيخ حسن العراقي على حياة الإمام المهدي عليه السلام ووجوده وكونه ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام.(2)

25_ النسابة محمد أمين البغدادي السويدي

صاحب كتاب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، فإنه ذكر أسماء الأئمة الإثني عشر وبعض فضائلهم ومناقبهم، وذكر الإمام الحسن العسكري في صفحة 77 وقال في صفحة 78 في خط الحسن العسكري: محمد المهدي وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين.

ص: 67


1- دلائل الصدق للمظفر: 2/ 574.
2- اليواقيت والجواهر: 562.

وكان مربوع القامة حسن الوجه والشعر أقنى الأنف صبيح الجبهة.(1)

26_ الحافظ محمد بن محمد بن محمود البخاري المعروف بخواجه بارسا

من أعيان علماء الحنفية وأكابر مشايخ النقشبندية قال: ولما زعم أبو عبد الله جعفر بن أبي الحسن علي الهادي رضي الله عنه أنّه لا ولد لأخيه أبي محمد الحسن العسكري رضي الله عنه، وادعى أنّ أخاه الحسن العسكري رضي الله عنه جعل الإمامة فيه سمي: الكذاب، وهو معروف بذلك، والعقب من ولد جعفر بن علي هذا في علي بن جعفر، وعقب علي هذا في ثلاثة عبد الله وجعفر وإسماعيل.

وأبو محمد الحسن العسكري ولده محمد رضي الله عنهما معلوم عند خاصة خواص أصحابه وثقات أهله.

ويروى أن حكيمة بنت أبي جعفر محمد الجواد رضي الله عنه عمة أبي محمد الحسن العسكري كانت تحبّه وتدعو له وتتضرع أن ترى له ولداً، وكان أبو محمد الحسن العسكري اصطفى جارية يقال لها نرجس، فلما كان ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين دخلت حكيمة فدعت لأبي محمد الحسن العسكري عليه السلام فقال لها: يا عمة كوني الليلة عندنا لأمرٍ، فأقامت كما رسم فلما كان وقت الفجر اضطربت نرجس فقامت إليها

ص: 68


1- منتخب الأثر: 424.

حكيمة، فلما رأت المولود أتت به أبا محمد الحسن العسكري رضي الله عنه وهو مختون مفروغ منه، فأخذه وأمرّ يده على ظهره وعينيه وأدخل لسانه في فمه وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في الأخرى. ثم قال: يا عمة اذهبي به إلى أمه، فذهبت به ورددته إلى أمه.

قالت حكيمة: فجئت إلى أبي محمد الحسن العسكري رضي الله عنه فإذا المولود بين يديه في ثياب صفر وعليه من البهاء والنور ما أخذ بمجامع قلبي فقلت: سيدي هل عندك من علم في هذا المولود المبارك فتلقيه إلي؟ فقال: أي عمة هذا المنتظر، هذا الذي بشرنا به.

فقالت حكيمة: فخررت لله تعالى ساجدة شكراً على ذلك. قالت: ثم كنت أتردد إلى أبي محمد الحسن العسكري رضي الله عنه، فلما لم أره قلت له يوماً: يا مولاي ما فعلت بسيدنا ومنتظرنا؟ قال: استودعناه الذي استودعته أم موسى ابنها.(1)

27_ محمد بن يوسف أبو عبد الله الكنجي الشافعي

المقتول سنة 658 هج، قال في كتابه كفاية الطالب عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام ما نصه: مولده بالمدينة في شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ومضى يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وله يومئذٍ ثمان وعشرون سنة، ودفن في

ص: 69


1- كشف الأستار:58.

داره بسرّ من رأى في البيت الذي دفن فيه أبوه، وخلف ابنه وهو الإمام المنتظر صلوات الله عليه.(1)

28_ محيي الدين ابن العربي

نقل الشعراني في اليواقيت والجواهر عنه قال:

وعبارة الشيخ محيي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات: واعلموا أنه لابد من خروج المهدي عليه السلام، ولكن لا يخرج حتى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يكن من الدنيا إلاّ يوم واحد طوّل الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله من ولد فاطمة عليه السلام وجدّه الحسين بن علي بن أبي طالب ووالده حسن العسكري ابن الإمام علي النقي.(2)

29_ الخليفة الناصر لدين الله العباسي:

وهو الذي أمر بعمارة السرداب الشريف وجعل على الصفة التي فيه شباكاً من خشب ساج.. ونقش أيضاً في الخشب الساج داخل الصفة داير الحائط:

بسم الله الرحمن الرحيم: محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي ولي الله، فاطمة، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد بن علي، جعفر بن محمد، موسى بن جعفر، علي

ص: 70


1- البيان في أخبار صاحب الزمان: 521، عنه المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: 129.
2- اليواقيت والجواهر للشعراني : 562.

بن موسى، محمد بن علي، علي بن محمد، الحسن بن علي، القائم بالحق عليهم السلام، هذا عمل علي بن محمد ولي آل محمد رحمه الله.

ثم جعل الميرزا النوري أن ذلك دليل اعتقاده بالإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف وكونه ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام.(1)

لماذا غيبة الإمام

بعد أن عرفنا إجماع المسلمين على أن الأئمة من قريش اثني عشر، وبعد أن أجمعوا على أن الثاني عشر منهم يملك الأرض فيملؤها قسطاً عدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، علمنا أن أطروحة السلطة ستتجه نحو محاولة البحث والمطاردة عن هذا الثاني عشر الذي سيكون بديلاً عن أنظمتهم وحكوماتهم.

أي أن أطروحة الإمام المهدي عليه السلام هي تهديدٌ حقيقي لأنظمة الحكم ومحاولة استبدالها بنظامٍ عالمي يأخذ بزمام الأوضاع العالمية ويحطّم أسطورة خلافة القوة والغلبة التي مارسها بنو العباس وأمثالهم وكسبوا من خلالها " شرعيةً سياسيةً " لا تنازع حتى عدّوا الخارج على كيانهم خارجاً عن شرعية الخلافة والإمامة..

هكذا صوّر الحكام وجودهم وشرعيتهم المفتعلة، وهكذا تعاملوا مع الأطروحات الخارجة على سلطتهم، وعدّوهم خارجين

ص: 71


1- كشف الأستار: 75.

على جماعة المسلمين وخليفتهم، وبهذا فهم يستحقون عقوبة القتل والتنكيل، ومن ثم تمت تصفية المعارضات السياسية والدينية على حدّ سواء، وكان نصيب الأئمة عليهم السلام التصفيات الجسدية " المنظّمة " من قبل خلفاء عصرهم، حيث تولى كل خليفة تصفية إمام عصره بما أكد أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد تعرضوا إلى محاولات تنكيل تنتهي أخيراً بالتصفية الجسدية.

هذا هو تأريخ العلاقة بين أهل البيت عليهم السلام وخلفاء عصرهم، تصفيات جسدية تتبعها محاولات مطاردة وتنكيل بأتباعهم الذين يلتزمون نهجهم ويدينون بإمامتهم، إلا أن أسلوب التقية الذي فرضه أئمة آل البيت عليهم السلام على مجمل العلاقات بين قواعدهم وبين السلطة وبينهم وبين هذه القواعد كذلك أحبط محاولات السلطة العدوانية الهادفة لسحق القواعد عن آخرهم ودون أن يبقى لذكر شيعة أهل البيت عليهم السلام من أثر.

على أننا نؤكد أن أئمة آل البيت عليهم السلام لم يقروا أطروحة التغيير لأنظمة الحكم هذه بأسلوب عسكري أو بحركةٍ معينة، وذلك لعلمهم المسبق الغيب_ي بعدم تمامية أية حركة ثورية مسلحة، فضلاً عمّا تؤكده القرائن الحالية من عدم تمامية المنهج الثوري التغييري المطروح من قبل فصائل ثورية شيعية كثورة زيد بن علي عليه السلام ، أو ثورية تدعي التشيع كحركة أبي سلمة الخلال وغيرها، وذلك لعدم جدوى قيام نظامٍ إسلامي شرعي يقوده أهل

ص: 72

البيت عليهم السلام في ظروفٍ سياسية مضطربة، واجتماعية غير رشيدة أو دينية غير ناضجة تنسجم والنهج الإلهي لأهل البيت عليهم السلام.

هذه هي خلاصة الموقف الذي كان يلتزمه أهل البيت عليهم في التعامل مع حركات الإصلاح السياسي المضطرب لدولتي بني أمية وبني العباسي.

لذا فإنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يتعاملوا مع هذه الحركات الثورية، بل كانوا ينهون أتباعهم في الدخول ضمن هذه الحركات المسلّحة التي تؤدي أخيراً بأتباعها إلى التصفية الكاملة وسحقها من قبل النظام، وكان النظام على علمٍ بعلاقة الأئمة عليهم السلام مع هذه الحركات المسلّحة والموقف السلبي، أي غير المؤيد أو الساكت _ على أقل تقدير _ لهذه الحركات المسلحة التي يعرف الأئمة عليهم السلام نتائجها سلفاً، وهو فشلها وسحقها من قبل النظام..

كان النظام يعلم بعدم مشاركة الأئمة عليهم السلام وشيعتهم في هذه الأنشطة الثورية والحركات المسلحة، وهو مع هذا يلقي باللائمة على الأئمة ويتهمهم بمحاولة تهديد أمن الدولة والإطاحة به، وهي إشارة واضحة إلى أنّ وجود الأئمة عليهم السلام هكذا دون أية مشاركة تعد " معارضةً صامتة تهدد كيانه، وذلك لأن النظام يفقد شرعيته الحقيقية وهو يحصل بعد ذلك على " شرعيةٍ " يأخذها بالقوة والقهر من قبل قطاعات الأمة التي ترزح

ص: 73

تحت مطرقة النظام الدموية، والأمة بعد ذلك تقر الشرعية الإلهية لأهل البيت عليهم وتعترف قطاعاتها بإمامتهم إلاّ أن هذا الاعتراف والإذعان يختلف باختلاف المدارس التي ينتمي لها هذا القطاع أو ذاك.

فالذين يدينون بمذهب التشيع يلتزمون بإمامة أئمة أهل البيت عليهم السلام والنص عليهم دون أدنى ريب، والذين ينتمون لمدارس إسلامية أخرى غير شيعية يذعنون _ هم الآخرون _ بأحقية الأئمة عليهم السلام بالخلافة والإمامة وإن اختلفوا مع أتباع أهل البيت عليهم السلام بجزئيات وتفاصيل الإمامة إلاّ أنهم يذعنون لها مجملاً دون أدنى ريبٍ كذلك. ونموذج من هذا الإذعان لإمامة آل البيت عليهم السلام نستعرض ما ذكره ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة في مناقب الإمام الحسن العسكري عليه السلام فقال:

مناقب سيدنا أبي محمد الحسن العسكري دالة على أنه السري ابن السري، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري، واعلم أنه يبعث مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع، ويسبح وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة، وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى، ومبين غوامضها فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر

ص: 74

الدقائق بفكره الثاقب المحدّث في سرّه بالأمور الخفيات، الكريم الأصل والنفس والذات.(1)

وقال العلامة محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: اعلم أنّ المنقبة العلياء والمزية الكبرى التي خصه الله بها، وقلده فريدها، ومنحه تقليدها، وجعلها صفة دائمة لا يبلي الدهر جديدها، ولا تنسى الألسنة تلاوتها وترديدها، أن المهدي محمداً نسله منه، ولده المنتسب إليه، بضعته المنفصلة عنه.(2) وكانت له عليه السلام هيمنته على النفوس حتى على شر خلق الله، فإنّ لهيبته وجلالته أثرٌ في استقطاب أعتاهم وأشدهم، روى المفيد أنّ العباسيين دخلوا على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد عليه السلام فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به؟! قد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمرٍ عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما نقول في رجلٍ يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لانملكه من أنفسنا: فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين.(3)4.

ص: 75


1- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 286.
2- مطالب السؤول: 88.
3- الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 334.

إذن فالنظام الآن يعيش هاجس شرعية آل البيت عليهم السلام التي تعترف لهم الأمة جميعاً، وفي نفس الوقت يعيش هاجس شرعيته المفقودة، وهو مهما فعل من إصرارٍ وقهر على إذعان الأمة لشرعيته فهم لا يعترفون بها إلاّ من خلال القوة فقط ..

هذه الهواجس يعيشها النظام طالما يعيش أهل البيت عليهم السلام أحياء تنظر إليهم الأمة جميعاً بأنهم التعبير الوحيد عن سلامة الدين وعافيته، وكونهم يمثلون الرسالة ومكارم الوحي، وامتداد النبوة، فمتى يبقى للنظام بعد ذلك شرعية لولا قوته وبطشه لهؤلاء المغلوبين على أمرهم والمستضعفين الذين يعيشون تحت سطوة النظام؟

هذه صورة مجملة عن علاقة النظام بأئمة أهل البيت عليهم السلام بعدما التزموا بحالة التعايش والمهادنة مع النظام حفاظاً على الكيان الإسلامي المتمثل بهم، والحفاظ _ كذلك _ على قواعدهم وقطاعات أتباعهم المنبثين تحت وطأة النظام وغلبته.

أي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام أجّلوا محاولات التغيير المسلح إلى وقت يعد النتيجة الحتمية لقبول أطروحتهم الإلهية، وذلك بعد فشل كل أطروحة تقدمها الاتجاهات المدعية للشرعية الإسلامية وإخفاقها في غمرة ظروف تعجز فيها عن إثبات قابليتها، أي لا تبقى حينئذ سوى الأطروحة الإلهية لأهل البيت عليهم السلام، والتي يتولى تنفيذها الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.

ص: 76

إنّ الأطروحة المهدوية هذه ستكون حقيقة واقعة وقضية إسلامية محتومة لا يمكن تجاوزها بعد أن تعهدت الأحاديث النبوية بإثباتها والتعامل معها تعاملاً حسياً واقعيا، أي ستكون الأطروحة المهدوية نقطة اشتراك فكري عقائدي بين جميع المذاهب الإسلامية دون استثناء، فالأحاديث الواردة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف مسألة تتعامل معها جميع المدارس الإسلامية بكل اتجاهاتها، فهي لا تقتصر على اتجاه دون اتجاه، أو رؤية دون رؤية.

أي أن الاعتقاد المهدوي غير مقتصر على الفكر الشيعي وحده بقدر ما هو اتجاه إسلامي يشترك الجميع في الاعتقاد به والتسليم إليه.

ومن هذا المنطلق تعامل الخلفاء العباسيون مع الأطروحة المهدوية تعاملاً حقيقياً جدياً، فباتوا يعيشون هاجس الظهور المهدوي الذي يزلزل كيانهم ويهدد وجودهم.

وطبيعي أن هذه الهواجس ستكون كفيلة وحدها بالتعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام تعاملاً مشوباً بحذر دائم، تتوقع من خلاله السلطة إمكانية إيقاف هذا المد الإمامي الذي سيتمثل بولده الموعود، وهو المهدي الذي أذعن خلفاء بني العباس بحتمية وجوده الآن أو مستقبلاً، لذا فعلى السلطة إذن _ بعد غياب الرؤية الواقعية عن وجوده وولادته _ اتخاذ الإجراءات الأمنية

ص: 77

الكفيلة بتطويق هذا الخطر القادم بولادة الموعود، وذلك إذا ما عرفنا أن السلطة أظهرت فزعها بُعيد وفاته عليه السلام وبدأت بعمليات بحثٍ وتحري كاملين عن الوليد الموعود، وهو المهدي الذي سيكون بديلاً عن السلطة فيما تحسب هي ويحسبه الآخرون.

شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام:

يبدأ ذعر السلطة واضحاً إذا ما علمنا أن الدلائل تشير إلى اغتيالها للإمام الحسن العسكري عليه السلام تحسباً لولادة المهدي الموعود منه. إذ لم يكن في المعلومات الرسمية لدى الخليفة ومساعديه ما يشير إلى وجود ولد للإمام عليه السلام في هذه الفترة، لذا فعليها معاجلة الإمام عليه السلام بتصفيته وإيقاف هذا الخطر الذي سيسببه وجوده بولادة الموعود ، وبالفعل فقد أقدمت السلطة على تدبير عملية تصفية للإمام العسكري عليه السلام وتظاهرت بقلقها حيال مرضه الذي أودى بحياته عليه السلام.

فقد روى الصدوق عن خبر الوفاة في حديث طويل قال: "... لما اعتل بعث إلى أبي (عبيد الله بن خاقان وزير الموفق العباسي) أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته فمنهم نحرير وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي عليه السلام وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما

ص: 78

كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف، فركب حتى بكّر إليه ثم أمر بالمتطبّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلس وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه السلام لأيامٍ مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين، فصارت سرّ من رأى ضجة واحدة _ مات ابن الرضا _ وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهنّ أن هناك جارية بها حمل فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم..(1)

هذا الإجراء الجائر الذي مارسته السلطة مع الإمام عليه السلام وعائلته يؤكد على أمور منها:

1_ مراقبة بيت الإمام عليه السلام إبان مرضه، وهي الفترة التي يفترض أن يكون لولده دور في رعاية والده المريض أو على الأقل تحسس وجوده في الدار من خلال وضع العيون على هيئة متطببين،أو أشخاص يقومون بدور خدمة الإمام عليه السلام كما احتج بذلك النظام، وسعى إلى ترصّد حركات الإمام عليه السلام وعائلته.

2_ محاولة التفتيش عن الوليد الموعود أو مراقبة جواري1.

ص: 79


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 51.

الإمام الحوامل لحين وضع إحداهن للوليد الموعود _ كما نصت الرواية أن نحريراً الخادم قد كلّف بمهمة مراقبة إحدى جواريه الحوامل مع مجموعة من النساء _ وبذلك نجح النظام في اقتحام بيت الإمام عليه السلام ومراقبته وتطويق عياله بطريقةٍ يحسبها الآخرون أنها من ضمن إجراءات خدمة الإمام عليه السلام ورعايته وحرص النظام على حياته.

شهادته عليه السلام بالسم:

تشير الدلائل إلى أن أبا محمد الحسن عليه السلام مات مسموماً على يد النظام، وذلك لما ذكرنا من أن النظام لا يزال مذعوراً فاقداً لشرعيته مع وجود الأئمة عليهم السلام بين ظهراني الأمة وهم معارضة صامتةً كما ذكرنا، لذا فإنّ أضمن الحلول في ذهن النظام هو تصفية الإمام بل الإسراع في ذلك، وهو أسلوب استعمله النظام طوال تأريخه مع الأئمة عليهم السلام بدلاً من محاولة المعايشة السلمية التي كان أحرى للنظام انتهاجها، فإنّ في تصفية إمام الوقت سيخلق جواً من عدم الثقة بين النظام وبين الأمة التي باتت تنظر إلى النظام بأنه وجود إرهابي يحكم بالقهر والغلبة مع ما يملكه من آليات التصفية التي لا تأمن الأمة شرها في يوم ما.

لذا فالنظام الذي يتمثل بالمعتمد العباسي يعمد اليوم إلى تصفية الإمام بدس السم إليه، بل احتمالات تصفية الإمام العسكري عليه السلام بالسم من قبل النظام ستكون أقرب من غيرها،

ص: 80

فهي المتوقعة من قبل النظام والنتيجة الحتمية في نهاية الإمام عليه السلام بعد ذلك.

فالإمام العسكري عليه السلام هو الحادي عشر من أئمة آل البيت عليهم السلام، وهو المولود منه المهدي الموعود الذي سيكون بديلاً عن أنظمة الحكم عند ذاك، فمتى يستقر للنظام حال مالم تجر تصفية الإمام على يديه وملاحقة المهدي الموعود لغرض تصفيته كذلك لينتهي كل شيء.

هذا هي حسابات النظام، وهذا ما دفع بالنظام إلى معاجلة الإمام عليه السلام واغتياله.

فاحتمالات شهادته بالسم هي التي يمكن أن نقطع بها جزماً دون أدنى شك، وإلاّ ما الذي أصاب الإمام العسكري عليه السلام وهو في الثامنة والعشرين من عمره الشريف وفي أوج سلامته وصحته فيعتل يومين ويموت دون أدنى مقدمات ضعفٍ أو مرضٍ تلوح على الإمام ؟ والمتعارف لأبناء هذا العمر أن لا يموتوا إلا بعد حادثةٍ عرضية أو أمرٍ مدبّرٍ يودي بحياتهم، وإلاّ فمن المفروض عادةً أن لا نقبل بوفاة الإمام عليه السلام دون أدنى احتمالٍ لتصفيته جسدياً.

وفي أيدينا ما يدين النظام كذلك ، إذ تكرر حبس الإمام عليه السلام مع أصحابه دون سابق أسبابٍ قانونية تبيح للنظام حبسه أو إقامته الجبرية في بيته في أحسن الأحوال، أو مراقبة تحركاته والتضييق عليه في أحايين كثيرة.

ص: 81

ولم تكن هذه القرائن وحدها تتهم النظام وتدينه في قتل الإمام عليه السلام ، بل هناك اتفاق لدى علماء الإمامية بأن النظام قد أقدم على قتل الإمام عليه السلام وتصفيته فضلاً عن اتفاق علماء أهل السنة على ذلك.

قال الأربلي في كشف الغمة عند تأريخه للإمام العسكري عليه السلام: وذهب كثير من أصحابنا إلى أنه عليه السلام مضى مسموماً، وكذلك أبوه وجدّه وجميع الأئمة عليهم السلام خرجوا من الدنيا بالشهادة، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليه السلام: والله مامنا إلا مقتول أو شهيد.(1)

وإذا أجمعت الطائفة على صحة الحديث هذا، فقد أجمعت على شهادته عليه السلام بالسم دون أدنى ريب، ولا حاجة بعد ذلك إلى التصريح عن الأمر في تأريخهم لأئمة آل البيت عليهم السلام، حيث تعد شهادتهم أمراً مسلّماً لا يختلف عليه أحد من أهل البحث والتحقيق.

وقال أبو جعفر الطبري الإمامي في ترجمة أبي محمد العسكري عليه السلام:

استشهد ولي الله وقد كمل عمره تسعاً وعشرين سنة، ومات مسموماً يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول، سنة ستين ومائتين من الهجرة بسر من رأى ودفن في داره بجنب أبيه.(2)9.

ص: 82


1- كشف الغمة في معرفة الائمة عليهم السلام 2: 934.
2- دلائل الإمامة للطبري : 219.

وانظر ما ذهب إليه ابن شهر آشوب(1) في شهادته عليه السلام بالسم وغيره كثير.

أما علماء أهل السنة ومؤرخيهم، فقد ذكروا شهادته مسموماً بقولهم:

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة في تأريخه للإمام العسكري عليه السلام: وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال أنّه سم أيضاً ولم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة.(2)

وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة قال: ذهب كثير من الشيعة إلى أن أبا محمد الحسن مات مسموماً وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة الذين من قبلهم خرجوا كلهم تغمدهم الله برحمته من الدنيا على الشهادة، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ما منا إلاّ مقتول أو شهيد.(3)

والسبط ابن الجوزي قال: وكانت وفاته في أيام المعتز بالله، ودفن بسرّ من رأى، وقيل أنّه مات مسموماً.(4)

إلى هنا عرفنا كيف يتعامل النظام مع أهل البيت عليهم السلام الذين اختاروا أسلوب المسالمة والمهادنة مع أنظمة زمانهم، ولم4.

ص: 83


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 3/ 455.
2- الصواعق المحرقة: 208.
3- الفصول المهمة : 286.
4- تذكرة الخواص: 324.

يغب عن هذه الأنظمة موقف الأئمة عليهم السلام وابتعادهم عن ممارسة المعارضات المسلحة، بل توفرت لدى الأنظمة معلومات موثقة في نهي الأئمة عليه السلام أتباعهم عن الدخول في هذه المعارضات المسلحة الكفيلة بزعزعة أمن النظام وذعره على أقل تقدير.

ولم تهدأ تحريات السلطة عن أنشطة الأئمة عليه السلام حتى تيقّنت بأن الحركات المسلحة والمعارضة لا ترتبط بأدنى علاقة بالأئمة عليه السلام بالرغم من رفع أكثرها لا فتاتٍ علوية تدعو للرضا من آل محمد صلوات الله عليهم.

هذه المواقف وغيرها من أئمة آل البيت عليهم السلام لم "تطمئن" النظام على مستقبله على ما يبدو، فهو لا يزال يعيش هاجس الخوف والترقب الحذر من الأئمة عليهم السلام.

فكيف بمن تظافرت أخبار الفريقين على أنه الذي يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، أي أن أطروحة التغيير التي سيتكفلها الإمام المهدي عليه السلام تعد حافزاً مهماً على إظهار النظام قلقه من ولادة المهدي الموعود إذن، وستكون مبررات ذعره من ذلك متوفرة إذا ما علمنا أن المهدي الموعود هو إحدى مسلّمات الفكر الإسلامي الذي لا يختص بجماعةٍ دون غيرها.

من هنا أعد النظام عدته لتصفية الموعود، ووضع خطته الأمنية لمحاولة إلقاء القبض على هذا الوليد الذي سينهيه النظام متى ما ظفر بوجوده، وإذا تمت تصفيته فإنّ النظام سيعيش في

ص: 84

ضمانةٍ أمنية واسعة تضمن كيانه من الانهيار ومستقبل الأنظمة القادمة كذلك.

هذه هي أطروحة النظام " الأمنية " في محاولة تصفية المهدي الموعود التي من خلالها سيحصل على مكسبٍ أمني يضمن بقاءه والأنظمة القادمة كذلك.

لذا فستكون حتمية تصفية الإمام المهدي عليه السلام من قبل النظام أقرب للواقع الأمني الذي يعيشه النظام بكل هواجسه ومخاوفه، وهو ما دعاه إلى اتخاذ إجراءات المطاردة للإمام وعائلته وخواصه.

ولعل صورة لأحداث رحيل الإمام العسكري عليه السلام توقفنا على مدى تشدد النظام في إجراءاته الأمنية التي حاولت سبق الأحداث، بغض النظر عن كونها أثمرت الهدف المنشود للنظام أم أُحبِطت في ظل الإجراءات " الوقائية " التي عملها الإمام العسكري عليه السلام من قبل، والتكتيكات التي مارسها الإمام المهدي عليه السلام إبان رحيل والده.

فقد روى الصدوق في ذلك روايةً طويلة تحدثت عن جهات عدة، لعلها تفيدنا في تحديد ملامح الظرف الذي عاشه الإمامان العسكري والمهدي عليهما السلام في ظل تحضيرات النظام الأمنية وهواجس الخوف التي كان يعيشها، إلى جانب ذلك توضّح ما يكنه النظام وأتباعه وجميع الأمة من إجلال الإمام

ص: 85

وإكباره واختلاف التعامل لدى التشكيلات الرسمية والشيعية المختلفة.

ملحمة الصدوق الروائية(1):

قال الصدوق: حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنهما قالا: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا من حضر موت الحسن بن علي بن محمد العسكري عليهم السلام ودفنه، ممن لا يوقف على إحصاء عددهم ولا يجوز على مثلهم التواطؤ بالكذب:(2)

وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين، وذلك بعد مضيّ أبي محمد الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام بثماني عشرة سنة أو أكثر مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم، وكان من أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لهم، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرّ من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا عليهم السلام، ولا سمعت به في هديه وسكونهت.

ص: 86


1- تعد الرواية هذه إحدى المستفيضات التي تعارف عليها علماء الإمامية في تأريخ فترة الإمامين العسكري والمهدي عليهما السلام، فقد تكفلت كتب الغيبة وغيرها نقل الرواية والاهتمام بها كونها مصدراً مهماً في تأريخ هذه الفترة.
2- ظاهر كلامه قدس سره عدّها من المتواترات.

وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام الناس.

إذعان رجال الدولة لجلالة الإمام العسكري عليه السلام

..فإني كنت قائماً ذات يوم على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه صحبه فقالوا له: إنّ ابن الرضا على الباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فدخل رجلٌ أسمرٌ أعينٌ حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن حدث السنّ، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم ولا بالقواد ولا بأولياء العهد، فلما دنا منه عانقه وقبّل وجهه ومنكبيه وأخذ بيده فأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويكنيه، ويفدّيه بنفسه وبأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل عليه الحجاب فقال: الموفق قد جاء، وكان الموفق إذا جاء ودخل على أبي تقدّم حجابه وخاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج.

فلم يزل أبي مقبلاً عليه يحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذٍ: إذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبا محمد، ثم قال لغلمانه: خذوا به خلف السماطين لكيلا يراه الأمير _ يعني الموفق _ فقام وقام أبي فعانقه وقبّل وجهه ومضى.

ص: 87

فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي فعل به أبي هذا الذي فعل؟ فقالوا: هذا رجلٌ من العلوية يقال له: الحسن بن علي يعرف بابن الرضا، فازددت تعجباً.

فلم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي ومارأيت منه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان..

ابن خاقان يصف الإمام عليه السلام وهو لسان حال الدولة والأمة جميعاً

..فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه فقال: يا أحمد ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا أبة إن أذنت سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بنيّ فقل ما أحببت، فقلت له: يا أبة من كان الرجل الذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الإجلال والإكرام والتبجيل، وفدّيته بنفسك وبأبويك؟

فقال: يا بنيّ ذاك إمام الرافضة، ذاك ابن الرضا، فسكت ساعة فقال: يا بني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحدٌ من بني هاشم غير هذا، فإنّ هذا يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً..

ص: 88

رجال الدولة وقادتها على هذا الرأي كذلك:

.. فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي مما سمعت منه فيه، ولم يكن لي همّة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره، والبحث عن أمره.

فما سألت عنه أحداً من بني هاشم ومن القواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلّا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه وغيرهم، وكلٌ يقول: هو إمام الرافضة.

فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدوّا إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه..

جعفر في نظر السلطة ورجالاتها:

..فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر فيسأل عن خبره، أيقرن به؟ إنّ جعفراً معلن بالفسق ماجن شريب للخمور، وأقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لستره، فدمٌ خمار قليل في نفسه خفيف، والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي عليهما السلام ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون..(1)

النظام إبّان شهادة الإمام العسكري عليه السلام وبحثه عن الإمام المهدي عليه السلام

.. وذلك أنه لما اعتلّ بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل، فركب

ص: 89


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 42.

من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته فمنهم نحرير.

وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي عليه السلام وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً.

فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف، فركب حتى بكّر إليه، ثم أمر المتطببين بلزومه وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً.

فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه السلام لأيام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين.

فصارت سرّ من رأى ضجة واحدة _ مات ابن الرضا _ وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهن، فذكر بعضهنّ أن هناك جارية بها حمل فأمر بها فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته. وعطّلت الأسواق وركب أبي وبنو هاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته عليه السلام فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهةً بالقيامة..

ص: 90

النظام يحاول دفع تهمة اغتياله للإمام عليه السلام بطرقه الرسمية الباطلة

.. فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها، فكشف عن وجهه، فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية، والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد ابن الرضا مات حتف أنفه(1) على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان، ثم غطّى وجهه وقام فصلى عليه(2) خمساً وأمر بحمله من وسط داره.

ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه عليه السلام.

البحث عن المهدي الموعود عليه السلام ومحاولات جعفر الفاشلة

.. فلما دفن وتفرّق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في

ص: 91


1- والنظام بهذه الطريقة يؤكد تورطه في اغتيال الإمام عليه السلام، إذ محاولة تبرئته من تصفية الإمام بأنه مات حتف أنفه إشارة إلى ما اعتاده الناس ارتكازاً في أذهانهم أن أئمة أهل البيت عليه السلام يكون مصيرهم المحتوم على يد النظام كما أن مثل عمر الإمام عليه السلام غير متعارف عادةً أن يموت حتف أنفه لولا تدخّل محاولات خارجية لاغتياله، وبهذا فضح النظام نفسه في تدبيره لمحاولة الاغتيال وتصفية الإمام بطرقٍ معهودة لدى الأمة سلفاً.
2- الصلاة على الإمام عليه السلام كانت من قبل ولده المهدي عليه السلام في روايات كثيرة، وهذه الصلاة التي أشارت إليها الرواية هي صلاة رسمية يزاولها النظام كمحاولاتٍ تشريفية رسمية وليس أكثر من ذلك.

طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا على قسمة ميراثه.

ولم يزل الذين وكّلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل، فقسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادّعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي.

والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده، فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي، وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار مسلّمة، فزبره أبي وأسمعه وقال له: يا أحمق إنّ السلطان _ أعزه الله _ جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك فلم يقدر عليه، ولم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك الرتبة فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السلطان ليرتبك مراتبهم ولا غير السلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، واستقله أبي عند ذلك، واستضعفه وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له بالدخول عليه حتى مات أبي.

وخرجنا والأمر على تلك الحال، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي عليهما السلام حتى اليوم.(1)9.

ص: 92


1- إكمال الدين وإتمام النعمة : 1/49.

ثلاث معادلات خطيرة:

هذه الرواية توقفنا على ثلاث معادلات تدخلت في خفاء الإمام المهدي عليه السلام إبان شهادة والده صلوات الله عليه.

الأولى:

اشارة

العلاقة بين الإمام الحسن العسكري عليه السلام وبين السلطة.

فقد شاهدنا حذر السلطة واضطرابها في علاقتها مع الإمام عليه السلام، فمرّة تتعامل معه بالإكبار وتعترف له بالتقديم على غيره بل إمامته في أحيان أخرى، كما في تعامل ابن خاقان مع الإمام وتصريحه بأحقيته بالخلافة، ومن جهة تودع الإمام عليه السلام في السجن أو تحتم عليه الإقامة الجبرية فتعزله عن قواعده دون سابق إنذار.

أي أن علاقة الإمام عليه السلام بالسلطة تتذبذب بين ذعر السلطة ومخاوفها من مجرد وجود الإمام عليه السلام إلى حالات اطمئنان من موقف الإمام ووجوده تبعاً " لتخيلات " الخليفة وما توهمه توجهات حرصه على منصبه وبقائه على دست الحكم منعّماً دون أدنى معارضٍ هناك.

وهذا العامل يعدّ من أقوى عوامل إجراءات الاختفاء وغيبته عن أعين العامة فضلاً عن الخاصة كذلك.

على أنّ " الاعتقاد الخفي " بالأئمة عليهم السلام لدى دوائر النظام لا تمثله حالة ابن خاقان وحدها، فالنظام يكمن في دواخله حالات

ص: 93

التعاطف، بل التشيع من بعض أعضائه، فأسر النظام كانت ترى فضل الأئمة صلوات الله عليهم ظاهراً، وهذا التحسس لدى نساء البلاط ظهر في أكثر من ظاهرة، ويمكننا أن نطلق عليها بظاهرة " الاعتقاد الخفي " التي تكنه نساء البلاط للأئمة عليهم السلام، وسنذكر بعض نماذج ذلك:

1_ زبيدة زوجة الرشيد:

عدّها الصدوق من الشيعة، وأثنى عليها كثيراً، وقال المامقاني _ تبعاً للشيخ الصدوق _ أنها من الشيعة كذلك، قال: زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة هارون الرشيد أم محمد الأمين، قال الصدوق في المجالس: إنّها كانت من الشيعة فلما عرفها أنّها منهم حلف بطلاقها، وقال ابن خلكان: لها معروف كثير وفعل خير وقصتها في حجها وما اعتمرته في طريقها مشهورة فلا حاجة إلى شرحها، قال الشيخ أبو الفرج.. كان لها مائة جارية يحفظن القرآن ولكل واحدة ورد عشر القرآن.

وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن..(1)

وعدّ الطبري في دلائل الإمامة أن زبيدة من النساء اللاتي يخرجن مع القائم عليه السلام، فقد روى بسنده عن الصادق عليه السلام: يكنّ مع القائم ثلاثة عشر امرأة، قلت (الراوي): وما يصنع بهنّ؟

ص: 94


1- تنقيح المقال للمامقاني: 3/ 78.

قال: يداوين الجرحى ويقمن على المرضى كما كان رسول الله، قلت: فسمّهن لي، قال: القنوا بنت رُشيد، وأم أيمن، وحبابة الوالبية، وسمية أم عمار بن ياسر، وزبيدة، وأم خالد الأحمسية، وأم سعيد الحنفية، وصبانة الماشطة، وأم خالد الجهنية.(1)

وربما يتساءل عن كون نسبة التشيع إلى زبيدة لم تشتهر بين الأصحاب، فنقول: إنّ شهادة الشيخ الصدوق تعد من الشهادات التي يعدها أصحابنا رضوان الله عليهم أنها حسية أو قريبة منه، لقرب عهده بأصحاب الأئمة وسفراء الحجة عجل الله فرجه الشريف، والشيخ الصدوق أجل من أن يروي أمراً حدسياً يخبر به وينسبه إلى نفسه دون تحقيق في النسبة، كما أن نسبة التشيع إلى زبيدة لم تكن مشهورة لخفاء أمر تشيعها وكتمانه خوفاً من الرشيد وبني العباس، كما أن نسبة التشيع إلى سيدة البلاط العباسي أمر غير متعارف عادة لدى الأوساط الذين عرفوا بني العباسي وعداءهم لأهل البيت عليهم السلام، إلاّ أن ذلك أمراً جديراً بالاهتمام سنشير إلى دوافعه وملازماته قريباً.

2_ أخت السندي بن شاهك:

قال الخطيب البغدادي: إنّ أبا الحسن موسى بن جعفر حبس عند السندي فسألته أخته أن تتولى حبسه، وكانت تتدين

ص: 95


1- دلائل الإمامة للطبري: 256.

ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكي أنها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي الصبح، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه، فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل.(1)

فاعتقادها خالف اعتقاد البلاط الذي يرى قتل الإمام عليه السلام دون وازع ورادع، فهي بمخالفتها لاعتقادهم دليل على معرفتها لهذا الأمر وإن لم تصرّح بذلك.

3_ أم المتوكل العباسي:

قال ابن الصباغ المالكي: مرض المتوكل من خراج خرج بحلقه فأشرف على الهلاك.. فنذرت أم المتوكل لأبي الحسن علي بن محمد إن عوفي ولدها من هذه العلة لتعطيه مالاً جليلاً من مالها..(2)

4_ زوجة نحرير الخادم:

ونحرير هو من مساعدي المعتمد العباسي، وكان ظالماً يتولى حبس الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، وكانت امرأته ترى خلاف رأيه في أبي محمد عليه السلام، فحذرته عن مغبّة عمله هذا وأشارت عليه بالكف عن تعرضه للإمام عليه السلام.

ص: 96


1- تأريخ بغداد للخطيب البغدادي 13 : 32.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 277.

قال المجلسي: سلّم أبو محمد عليه السلام إلى نحرير وكان يضيّق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله فإنّك لا تدري من في منزلك؟ وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت: إني أخاف عليك منه، فقال: والله لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها فلم يشكّوا في أكلها، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه عليه السلام قائماً يصلي وهي حوله، فأمر بإخراجه إلى داره.(1)

على أن هذه الظواهر لدى نساء البلاط لا تنحصر في هذه النماذج، فربما كانت هناك نماذج أخرى خفية لا يتسنى للمؤرخين ذكرها، لخفاء أمرها وشدة تكتمها..

وتركيزنا على مثل هذه الظواهر للإشارة إلى إمكانية تأثر خاصة البلاط بالأئمة عليهم السلام وإذعانهم بل اعتقادهم في بعض الأحيان، وهي معادلة خطيرة يتوجس منها النظام ويستشعر منها كذلك بالاستصغار وعدم الأهلية للخلافة وأن الحق في أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين " اقتحمت " شهرتهم وحسن سيرتهم حتى نساء البلاط وأذعنّ لهم بالأحقية، وهي ظاهرة تستحق الاهتمام من قبل النظام لخطر حالة الولاء وزحفها حتى إلى خبايا القصر، وتستدعي منا الاهتمام كذلك كونها تشير إلى تأثير الأئمة عليهم السلام بخاصة النظام، ومدى أهمية وجودهم عليهم السلام في التأثير بفصائل الأمة وقطاعاتها فضلاً عن خاصة النظام.9.

ص: 97


1- بحار الأنوار: 50/ 309.

وظاهرة نساء البلاط هذه في اعتقادهنّ بالأئمة عليهم السلام خلافاً للبلاط وتوجهاته، وذلك لكون النساء يعبّرن عن اعتقادهنّ وتعاطفهنّ دون النظر إلى مصالح أخرى، خلافاً للرجال الذين يحاولون كتمان الحق حرصاً على الجاه والمنصب.

على أن هذه الظاهرة لم تتداولها مصادر التأريخ السنية كما تداولتها المصادر الشيعية _ بالرغم من ذكر بعضها في مصادرهم _ وذلك لأن إشاعة هذه الظاهرة تشير إلى أحقية أهل البيت عليه السلام خلافاً لأعدائهم الذين يتعامل معهم بعض المؤرخين أئمةً خلفاء.

الثانية:

علاقة الأمة بالإمام عليه السلام ، فقد رأينا الموقف العام في سر من رأى بعد شياع خبر وفاة الإمام، حيث ضج الناس: "مات ابن الرضا" كما في تعبير الرواية، "وكان ذلك اليوم شبيهاً بيوم القيامة"، كما في تعبير آخر، "وعطّلت الأسواق" كما في صورتها الثالثة.

وهكذا فإنّ علاقة الأمة بالإمام عليه السلام تدفع النظام إلى ازدياد حذره ومخاوفه من هذه العلاقة الروحية بين الإمام وبين الأمة بمختلف توجهاتها الفكرية والعقائدية، وهذا الحب سيشكّل فيما بعد علاقة " رسمية " تنطلق منها معارضة حقيقية للنظام، فالالتفاف الذي تبديه الأمة حول الإمام عليه السلام سيثير حفيظة النظام الذي يرغب في عزل الأمة عن الإمام والخوف من كون هذا الولاء هو تعبير عن هيكلةٍ لقاعدة معارضة تنشأ فيما بعد.

ص: 98

لذا فابتعاد الإمام عليه السلام عن القواعد سيشكل ضمانة اطمئان للنظام _ على أقل تقدير _ لكيلا تشكّل هذه القواعد خطرها المحسوب على السلطة.

إنّ هذا الحب الذي تكنه الأمة لا ينشأ أغلبه من فهم أطروحة الإمامة، وأن الأمة تتعامل مع الإمام كونه إمام، بل هي تتعاطف مع الإمام عليه السلام على أساس ما تراه من حسن سيرته وروعة سلوكه التي عجز الخليفة وغيره عن إبدائها والتحلي بها، وترى الأمة في شخص الإمام حالة الرشد الرسالي الذي تمثله امتداداًَ للسيرة النبوية المقدّسة بكل كمالاتها.

كل هذه التصورات في ذهن الأمة سيكون بمعزلٍ عن الاعتقاد بكون الإمام إماماً مفترض الطاعة تتعاطى معه الأمة على أساس تكليفها الشرعي، بل الأمة تتعاطى مع الإمام على أساس العاطفة ومشاعر الحب، وهو غير التكليف الذي يحمله المؤمن في تعاطيه مع الإمام، ومعلوم أن مشاعر العاطفة لا تعني بالضرورة حالات تأييد وتضحيةٍ وولاء يمكن للإمام استثمارها لتنفيذ أطروحته الإلهية.

هذا ما دعى الإمام المهدي عليه السلام إلى تغييب شخصه عن الأمة بكل فصائلها، وانعزاله عن قواعده المؤمنة والاتصال معهم عن طريق سفرائه الأربعة بعد ذلك.

الثالثة:

وهي معادلة عمّه جعفر الذي سعى إلى كشف (سر

ص: 99

الله) كما في تعبير بعض الروايات، ومحاولة تقرّبه للنظام عن طريق إفشاء أسرار الإمامة وتحريض النظام بالقبض على الوليد الموعود.

كما سعى من خلال ذلك إلى إحباط خطط الإمام عليه السلام في تعامله الطبيعي حتى مع قواعده أو مع خواصه على أقل تقدير.

فقد شكّل جعفراً هذا خطراً على حياة الإمام عليه السلام بتوجيه السلطة إلى مكان إقامته سعياً منه في التخلص من الإمام والتربّع على منصب الإمامة الّذي ظن أنه منصب تشكّله المساعي الرسمية للسلطة أو ما يحاوله من إعزاء رجالاتها بالمال _ كما في تعبير الرواية _ وتحفيز ابن خاقان بإعطائه عشرين ألفاً كل عام.

ومعلوم أنّ الخطر الذي يداهم الإمام من داخل عائلته _ عمه جعفر _ دفع الإمام إلى التشديد باتخاذ إجراءات الأمن حفاظاً على حياته، فعمّه جعفر هذا يعرف أماكن تواجده، واطلاعه على حالات العائلة الخاصة تعين جعفراً على معرفة مكان الوليد الجديد، مما دعى الإمام المهدي عليه السلام إلى الاختفاء والابتعاد عن مكان خطر ملاحقة عمّه.

هذه المعادلات الثلاث تعيننا على استيعاب أطروحة الغيبة، وتدفعنا إلى الاعتقاد بأن إجراءات الغيبة هي الحالة الطبيعية التي يتخذها المرء في حال مداهمته بالخطر، بل عدم اتخاذ هذه الإجراءات الأمنية تودي بحياة الإمام ومن ثم بأطروحته الإلهية

ص: 100

في ظهوره، وعلى الإمام إذن أن يختار سلوك تغييب شخصه حفاظاً على مهمته وتكليفه الإلهي.

لا غرابة ...فالأنبياء أصحاب غيبة كذلك:

اشارة

و لم تكن الغيبة أمراً جديداً في تأريخ المهمات الإلهية والرسالات السماوية، فقد كانت إجراءات الغيبة معروفة لدى أنبياء الله حين يداهمهم الخطر من قبل طواغيت زمانهم، وسنستعرض نماذج من غيبات الأنبياء اعتماداً على بعض الروايات:

أولاً _ غيبة إدريس عليه السلام:

روى الصدوق بسنده إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: كان بدء نبوة إدريس عليه السلام أنه كان في زمانه ملك جبار وأنه ركب ذات يوم في نزهة، فمر بأرضٍ خضرة نضرة لعبد مؤمن من الرافضة(1) فأعجبته، فسأل وزراءه: لمن هذه الأرض؟ قالوا: لعبد مؤمن من عبيد الملك فلان الرافضي، فدعا به فقال له: امتعني بأرضك هذه، فقال: عيالي أحوج إليها منك، قال: فسمني بها أثمن لك، قال: لا أمتعك بها ولا أسومك عد عنك ذكرها، فغضب الملك عند ذلك وأسف وانصرف إلى أهله وهو مغموم متفكر في أمره، وكانت له إمرأة من الأزارقة، وكان بها معجباً.. إلى أن قال: فأشارت عليه بقتله وأخذ أرضه، فعارضه إدريس وحذّره،

ص: 101


1- لقب المؤمنين الذين رفضوا دين الملك وتبعوا إدريس عليه السلام وصدّقوا برسالته.

فهدده الجبار.. إلى أن قال في رواية طويلة الذيل .. فقالوا له: خذ حذرك يا إدريس فإنّ الجبار قاتلك قد بعث اليوم أربعين رجلاً من الأزارقة ليقتلوك فاخرج من هذه القرية، فتنحى إدريس عن القرية من يومه ذلك، ومعه نفر من أصحابه، فلما كان في السحر ناجى إدريس ربه فقال: يا رب بعثتني إلى جبار فبلّغت رسالتك وقد توعدني هذا الجبار بالقتل، بل هو قاتلي إن ظفر بي، فأوحى الله عز وجل: أن تنحّ عنه واخرج من قريته، وخلّني وإياه، فوعزتي لأنفذن فيه أمري..(1)

ثانياً: غيبة نبيّ الله إبراهيم عليه السلام:

روى السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم عن السدي قال: كان من شأن إبراهيم عليه السلام أنّ أول ملكٍ ملك في الأرض شرقها وغربها نمرود بن كنعان بن كوش، وكانت الملوك الذين ملكوا الأرض كلها أربعة، بن كنعان وسليمان بن داود، وذو القرنين، وبختنصر، مسلمين وكافرين، وأنه طلع كوكب على نمرود ذهب بضوء الشمس والقمر ففزع من ذلك، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة فسألهم عن ذلك، فقالوا: يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك، وكان مسكنه ببابل الكوفة، فخرج من قريته إلى قرية أخرى، وأخرج الرجال وترك النساء، وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلاّ ذبحه، فذبح

ص: 102


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 1/ 129.

أولادهم. ثم إنّه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلاّ آزر أبا إبراهيم فدعاه فأرسله فقال له: انظر لا تواقع أهلك، فقال له آزر أنا أضنّ بديني من ذلك، فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها، ففرّ بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها ادر فجعلها في سرب، فكان يتعهدها بالطعام وما يصلحها، وإنّ الملك لما طال عليه الأمر قال: قول سحرة كذابين ارجعوا إلى بلدكم، فرجعوا وولد إبراهيم، فكان في كل يوم يمر به كأنه جمعة والجمعة كالشهر من سرعة شبابه، ونسى الملك ذاك، وكبر إبراهيم ولا يرى أن أحداً من الخلق غيره وغير أبيه وأمه، فقال أبو إبراهيم لأصحابه: إنّ لي ابناً وقد خبأته فتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ قالوا: لا فائت به، فانطلق فأخرجه، فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق، فجعل يسأل أباه فيقول: ما هذا؟ فيخبره عن البعير أنّه بعير. وعن البقرة أنّها بقرة وعن الفرس أنّها فرس وعن الشاة أنّها شاة، فقال: ما لهؤلاء بد من أن يكون لهم رب.. إلى آخر الرواية.(1)

ثالثاً: غيبة نبي الله يوسف عليه السلام:

فقد تحدّث القرآن الكريم عن قصة يوسف وغيبته حينما ألقي في البئر وأودع في السجن بسبب امرأة العزيز، حتى طالت غيبته عن أبيه وعن الناس سنين متطاولة، فأمكنه الله في الأرض

ص: 103


1- الدر المنثور للسيوطي: 7/ 303.

فكان على خزائنها.

ورجع إليه أهله جميعاً ونصره الله نصراً عزيزاً، وقد يئس منه أبوه وظن أنه هلك ولم يرجع كما ظنّ الناس ذلك بعد غيبته.

رابعاً: غيبة نبي الله موسى عليه السلام:

فقد ذكر القرآن الكريم في قصصه عن موسى عليه السلام أنّ فرعون حينما طلب من يولد هذا العام ليقتله لأن على يد هذا الوليد يكون هلاك ملكه ونهايته، فإنّ الله تعالى أوحى إلى أم موسى أن تلقيه في اليمّ، حتى تكفلته امرأة فرعون، وغاب عن أهله سنين حتى رجع إليهم وهو رجلٌُ رشيد، ثم غاب عن قومه بعد قتل القبطي خوفاً من قتله والبحث عنه.

وهكذا كان لموسى غيبتان، أحدهما عند ولادته كما حدث للإمام المهدي عليه السلام، والثانية حين خاف القتل من قبل فرعون.

وبهذا شابه الإمام المهدي عليه السلام في غيبته غيبة موسى حين خاف طاغية زمانه وفرعون أمته، وكذا الإمام غاب عن أعين الناس خوف القتل من جبابرة زمانه وطغام قومه.

إلى هنا عرفنا، أن غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف أمرٌ قد تعارف في تأريخ الأنبياء، حيث الخوف من طواغيت زمانهم والتكذيب من قومهم ألجأهم إلى إخفاء أشخاصهم وحجبها عن أعين أعدائهم وهو أمر متسالم عند العقلاء، فالخطر المداهم

ص: 104

للشخص لا يدفعه إلاّ بالاحتجاب باختلاف الوسائل والأساليب، والإمام اتّبع هذه الوسيلة درءً للخطر عن نفسه الشريفة وإتماماً لرسالته الإلهية.

غيبة الإمام المهدي عليه السلام.. الأدوار والمراحل

اشارة

بعد أن تيقّنا من ضرورة وقوع الغيبة وكونها لا تنفك عن تنفيذ المهمة الإلهية التي كلّف بها الإمام المهدي عليه السلام، وأنها العملية التدبيرية التي لابد من اتخاذها درءً للخطر الذي أحاط بالإمام عليه السلام منذ ولادته، بل منذ حمله، وذلك حين توجّس النظام من ولادته ومتابعة خطواتها عن طريق العيون التي بثها في بيت الإمام العسكري عليه السلام ومحاولة اختراقه دون الحصول على أدنى معلومةٍ تعين النظام على معرفة وجود الإمام المهدي عليه السلام.

وقد تقدّمت الإشارة في ملحمة الصدوق الروائية إلى إحباط محاولات السلطة في القبض على الإمام عليه السلام.

إذن فقد بات من المؤكد أن تُتخذ تدابير الغيبة وإجراءاتها بما يضمن الإبقاء على دور الإمام المهدي عليه السلام محسوساً لدى الخاصة، أو ممارسة بعض مهامه على المستوى العام لدى شيعته عليه السلام بما يكفل سلامة وجوده والحفاظ على حياته الشريفة.

لذا فقد بادر الإمام الحسن العسكري عليه السلام إلى اتخاذ إجراءات الغيبة منذ ولادة الموعود، ومن ثم استمرت إجراءات الغيبة يزاولها الإمام المهدي عليه السلام كجزءٍ من مهمته الإلهية.

ص: 105

مرت إجراءات الغيبة هذه بمراحل مهمة يمكننا تأريخها كما يلي:

أولاً: الغيبة منذ حمله عليه السلام:

لم تبنْ أدوار الحمل على السيدة نرجس عليها السلام، ولعلها لم تكن تعلم أية آثار في هذا الشأن حتى اللحظات الأخيرة، إخفاءً من الله تعالى للوليد الموعود الذي لا تزال السلطة ترقب من الإمام الحسن العسكري عليه السلام ولادته منه عليه السلام.

فقد تكاملت الدلائل لدى السلطة بأن الثاني عشر القادم سيكون هو المهدي الموعود، والأخبار في هذا الشأن توفرت من فرق المسلمين تروي عن النبي صلى الله عليه وآله حتمية ولادته وظهوره ودكه لعروش الظالمين، ولم يبق أمام السلطة إلاّ اتخاذ اللازم لتطويق حالة الظهور.

أُحبطت محاولات السلطة بعد أن تم الحمل بطرقٍ إعجازية أخفت معها دلائله وفوّتت على السلطة إجراءاتها في شأن تصفية الإمام عليه السلام إبان ولادته، وسيتم لنا الوقوف على هذه الحالة الإعجازية في الرواية القادمة.

ثانياً: الغيبة إبّان ولادته عليه السلام:

اشارة

أُحيطت ولادة الإمام عليه السلام بالسرّية التامة، وكان للحالات الإعجازية التي رافقتها أثرها البالغ في إخفاق جهود السلطة بإجراءاتها التعسفية في ملاحقة الوليد الجديد، وما كان للإمام

ص: 106

الحسن العسكري عليه السلام من جهدٍ مبارك في هذا الشأن حين أخفى وليده الجديد، وفي الوقت نفسه أبلغت قواعده المؤمنة بحلول الوليد الموعود.

وتفاوتت إجراءات التبليغ بين محدوديتها من جهة وإبلاغها إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من جهةٍ أخرى، فمشاهدة الوليد أقتصرت على عددٍ "ناشطٍ " من أصحاب الإمام عليه السلام يمكنهم تبليغ ما رأوه بروايته لمجاميع الشيعة المرتبطة بكل فردٍ منهم.

ومن جهته انتهج الإمام العسكري عليه السلام برنامجاً واسعاً بعيد المدى في تبليغه بولادة الإمام المهدي عليه السلام ولأكبر عدد من شيعته، وذلك بعد أن أمر أحد وكلائه بتوزيع لحمٍ وخبزٍ _ كما في بعض الروايات _ أو لحمٍ من عقيقة ولده محمد _ كما في رواياتٍ أخرى _ وهو أسلوب يبقي على سرية الولادة الجديدة وفي الوقت نفسه يضمن التبليغ لأكبر عددٍ ممكن من الشيعة حيث توزيع اللحم والعقائق عن الإمام ديل حي وشهاده حسية على ولادة الإمام تتوفر لدى قطاعات الشيعة الواسعة.

وبهذا استطاع الإمام العسكري عليه السلام ممارسة دور التبليغ بولادة ولده لقواعده الواسعة بأسلوب التكتم والسرية التامة، منجزاً بذلك مهمة التبليغ بأدق أساليبها مع السرية التامة التي تضمن سلامة الوليد الجديد.

ومن الروايات التالية يمكننا التعرف على ظروف الولادة

ص: 107

المباركة، والوقوف على بعض الجزئيات التي رافقت ذلك والإجراءات المتخذة بهذا الشأن:

1_ روى الصدوق بسنده عن محمد بن عبد الله الطهوي قال: قصدت حكيمة بنت محمد عليه السلام بعد مضي أبي محمد عليه السلام أسألها عن الحجة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها.

فقالت لي: اجلس فجلست، ثم قالت: يا محمد إنّ الله تبارك وتعالى لا يخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام تفضيلاً للحسن والحسين وتنزيهاً لهما أن يكون في الأرض عديلهما إلاّ أنّ الله تبارك وتعالى خصّ ولد الحسين بالفضل على ولد الحسن عليه السلام كما خصّ ولد هارون على ولد موسى عليه السلام وإن كان موسى حجةً على هارون والفضل لولده إلى يوم القيامة، ولابدّ للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقون كيلا يكون للخلق على الله حجة، وأنّ الحيرة لابد واقعة بعد مضيّ أبي محمد الحسن عليه السلام.

فقلت: يا مولاتي هل كان للحسن عليه السلام ولد؟

فتبسمت ثم قالت: إذا لم يكن للحسن عليه السلام عقب فمن الحجة من بعده؟! وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام.

ص: 108

فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته عليه السلام

قالت: نعم، كانت لي جارية يقال لها نرجس، فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها فقلت له: يا سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال لها: لا يا عمة ولكني أتعجب منها، فقلت: وما أعجبك منها؟ فقال عليه السلام: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: استأذني في ذلك أبي عليه السلام.

قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن عليه السلام فسلّمت وجلست فبدأني عليه السلام وقال: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد

قالت: قلت: يا سيدي على هذا قصدتك، على أن أستأذنك في ذلك، فقال لي: يا مباركة إنّ الله تبارك وتعالى أحبّ أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.

قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمد عليه السلام وجمعت بينه وبينها في منزلي، فأقام عندي أياماً، ثم مضى إلى والده عليهما السلام ووجّهت بها معه.

قالت حكيمة: فمضى أبو الحسن عليه السلام وجلس أبو محمد عليه السلام مكان والده، وكنت أزوره كما كنت أزور والده، فجاءتني نرجس يوماً تخلع خفي، فقالت: يا مولاتي ناوليني خفّك، فقلت:

ص: 109

بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري، فسمع أبو محمد عليه السلام ذلك فقال: جزاك الله يا عمة خيراً، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف، فقال عليه السلام: لا يا عمة بيتي الليلة عندنا، فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزوجل الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها، فقلت: ممن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟ فقال: من نرجس لا من غيرها.

قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أربها أثر حبل، فعدت إليه عليه السلام فأخبرته بما فعلت، فتبسم ثم قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأن مثلها مثل أمّ موسى عليه السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحدٌ إلى وقت ولادتها، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام ، وهذا نظير موسى عليه السلام.

قالت حكيمة: فعدت إليها فأخبرتها بما قال وسألتها عن حالها فقالت: يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا.

قالت حكيمة: فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنباً إلى جنب، حتى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها، فصاح إليّ أبو محمد عليه السلام وقال: اقرئي عليها (إنّا أنزلناه

ص: 110

في ليلة القدر) فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها: ما حالك؟ قالت: ظهر بي الأمر الذي أخبرك به مولاي، فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما أقرأ ومسلّم عليّ.

قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت، فصاح بي أبو محمد عليه السلام: لا تعجبي من أمر الله عز وجل إنّ الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجةً في أرضه كباراً، فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني نرجس فلم أرها كأنه ضرب بيني وبينها حجاب، فعدوت نحو أبي محمد عليه السلام وأنا صارخة، فقال لي: ارجعي يا عمة فإنّك ستجديها في مكانها.

قالت: فرجعت فلم ألبث أن كشف الغطاء الذي كان بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري وإذا أنا بالصبي عليه السلام ساجداً لوجهه جاثياً على ركبتيه رافعاً سبابتيه، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن جدي محمداً رسول الله وأن أبي أمير المؤمنين، ثم عدّ إماماً إماماً إلى أن بلغ إلى نفسه، ثم قال: اللهم انجز لي ما وعدتني واتمم لي أمري وثبت وطأتي، وأملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً.

فصاح بي أبو محمد عليه السلام فقال: يا عمة تناوليه وهاتيه، فتناولته وأتيت به نحوه، فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي سلّم على أبيه، فتناوله الحسن عليه السلام مني والطير ترفرف على رأسه، وناوله لسانه فشرب منه، ثم قال: امضي به إلى أمه لترضعه

ص: 111

ورديّه إليّ، قالت: فتناولته أمه فأرضعته فرددته إلى أبي محمد عليه السلام والطير ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال: احمله واحفظه وردّه إلينا في كل أربعين يوماً، فتناوله الطير وطار به في جوّ السماء وأتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمد عليه السلام يقول: استودعك الله الذي أودعته أمّ موسى، فبكت نرجس فقال لها: اسكتي فإنّ الرضاع محرّم عليه إلاّ من ثديك وسيعاد عليك كما ردّ موسى إلى أمه وذلك قول الله عز وجل: (فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ).(1)

قالت حكيمة: فقلت: وما هذا الطير ؟ قال: هذا روح القدس الموكّل بالأئمة عليه السلام يوفقهم ويسددهم ويريبهم بالعلم.

قالت حكيمة: فلما كان بعد أربعين يوماً ردّ الغلام ووجّه إليّ ابن أخي عليه السلام فدعاني، فدخلت عليه فإذا أنا بالصبي متحرّك يمشي بين يديه، فقلت: يا سيدي هذا ابن سنتين؟ فتبسم عليه السلام ثم قال: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنّ الصبي منّا إذا كان أتى عليه شهرٌ كان كمن أتى عليه سنة، وإنّ الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عز وجل وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحاً ومساءً.

قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين3.

ص: 112


1- القصص (28) : 13.

يوماً إلى أن رأيته رجلاً قبل مضيّ أبي محمد عليه السلام بأيام قلائل فلم أعرفه، فقلت لابن أخي عليه السلام من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لي: هذا ابن نرجس وهذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي.

قالت حكيمة: فمضى أبو محمد عليه السلام بعد ذلك بأيام قلائل، وافترق الناس كما ترى، ووالله إني لأراه صباحاً ومساءً وإنّه لينبئني عما تسألون عنه فأخبركم، ووالله إني لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدؤني به وإنه ليرد عليّ الأمر فيخرج إليّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي. وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليّ وأمرني أن أخبرك بالحق.

قال محمد بن عبد الله: فوالله لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد إلاّ الله عز وجل، فعلمت أن ذلك صدق وعدل من الله عز وجل، لأن الله عز وجل قد أطلعه على ما لم يطلع عليه أحداً من خلقه.(1)

و الرواية الشريفة تطالعنا بعدة أمور، منها:

1_ إنّ الحمل الذي كان لدى السيدة نرجس لم تعلم به السيدة إلاّ قبيل لحظاتٍ من ولادته الشريفة. وهي إشارة للسرية التامة.

وقد أخفي أمر حمله حتى على أمه، مما يدلل على أن طلب السلطة له كان حثيثاً وتتبع أخبار حمله وولادته من أهم ما3.

ص: 113


1- إكمال الدين وإتمام النعمة : 426 الحديث 3.

أشغل السلطة في ترتيباتها الأمنية لتطويق ولادة الإمام بالقضاء عليها فوراً ودون علم أحد من الناس، لإحباط المشروع الإلهي وعدم "فاعلية" الأحاديث التي روت ولادته مستقبلاً وتكذيبها، وبذلك "يغلق" ملف هذه الأحاديث وتلغى تماماً.

هذه هي خطة النظام، إلاّ أنّها غير واقعية تبعاً للاعجاز الذي صاحب ظروف ولادة الإمام الموعود عليه السلام كما سمعنا من الرواية.

2_ لم تتعرض الرواية الشريفة إلى حالات الولادة الإعجازية بل أحاطت أخبارها بالسرية التامة، فسببُ فقدانِ السيدة نرجس من بين يدي السيدة حكيمة لحظة الولادة الشريفة أمرٌ ساكتة عنه الرواية، ولم يكن للسيدة نرجس في رواية الأحداث دورٌ في هذه الرواية وفي غيرها، حيث لم تتعرض السيدة حكيمة عما رأته السيدة نرجس لحظة احتجابها، لغفلة السيدة حكيمة عن سؤال السيدة نرجس، لتزاحم الأحداث التي رأتها السيدة حكيمة وللإبقاء على السرية التامة لظروف الولادة الإعجازية، كما كان أمر ولادة نبي الله عيسى عليه السلام أمراً مجهول التفاصيل ولم ينقل لنا القرآن الكريم ولا الروايات الشريفة إلاّ مجمل الولادة دون ذكر تفاصيلها.

3_ تحدثت الرواية الشريفة أنّ الإمام العسكري عليه السلام قال للسيدة نرجس: "اسكتي فإنّ الرضاع محرّم عليه إلاّ من ثديك

ص: 114

وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمه..." وهي محاولة من الإمام الحسن العسكري عليه السلام لتهدئة روعة السيدة نرجس ومراعاة عاطفة الأمومة التي تكنها السيدة لوليدها الموعود بالرغم مما رأته من الإعجاز، فلا زالت السيدة نرجس تقوم بدور الأمومة بالرغم من دورها الخطير في حفظ الإمام المهدي عليه السلام وكتمان ولادته.

4_ إنّ دور الوكالة الخاصة للسيدة حكيمة ووساطتها بين الشيعة وبين الإمام عليه السلام على ما يبدو كان بعيد شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام ولم يشأ للوكيل العمري أن يمارس مهام وكالته بشكلها الطبيعي، وذلك للرقابة التي كانت تفرضها السلطة على تحركات العمري وعلى خاصة الإمام، ولم يكن لهذه المهمة الخطيرة وفي هذه الظروف المحفوفة بالمخاطرات إلاّ السيدة حكيمة وهي امرأة شهد لها الإمام الهادي عليه السلام بالصلاح، وذلك حين خاطبها في الرواية "يا مباركة" إشارة إلى بركات هذه السيدة وجلالة أمرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ النظام أكد في سعيه عند مراقبته لبيت الإمام وخاصته على أخص أصحابه وهو العمري وغيره، وعلى السيدة نرجس التي أودعها النظام في غرفةٍ خاصة ليراقب حملها كما ادّعت هي إيهاماً منها للنظام بأن المهدي لم يولد منها بعد ومشاغلتها للنظام كذلك عن ملاحقة الإمام عليه السلام.

والنظام لم يتصور بعد ذلك أن تمارس مهمة السفارة امرأة،

ص: 115

ولو وشي بالسيدة حكيمة لدى السلطات فإنّ دفع التهمة عن نفسها أمرٌ يسير وذلك من خلال إنكار الأمر وكون المرأة التي تدّعي هذه المهمة الخطيرة لا تصدّق، إذ أن النظام لا يتفاعل مع هذه الأخبار وباستطاعة السيدة حكيمة نفي ما أشيع عنها، وإمكان تصديق النظام ذلك أمرٌ متعارف.

وهذه الحادثة شبيهة بوكالة السيدة زينب عليها السلام في تبليغ الشؤون الخطيرة عن الإمام السجاد بعيد الفاجعة التي من شأنها قتل الإمام السجاد الذي يدعي إمامته بعد أبيه، وهناك روايات أشارت إلى هذه المقارنة كذلك.

5_ تحدّثت الرواية عن مشاهدة السيدة حكيمة لطيورٍِ كانت فوق رأس الإمام عليه السلام ثم أمر الإمام أحد لطيور بحمل الوليد الجديد، وقالت: "و طار به في جو السماء واتبعه سائر الطيور" وهو أمرٌ إعجازي حقاً، وليس أمامنا إلاّ التسليم لذلك وقبول هذه الفقرة من الرواية كأمرٍ متعارف في حالة الإعجاز، إذ يمكننا أن نتساءل: أننا لو توقفنا عن قبول ذلك فكيف تم انتقال نبي الله عيسى وعروجه إلى السماء لولا هذه الحالة التي أشارت إليها الرواية أو ما يشابهها، وليس الأمر إلاّ أن تكون هناك وسائل لعروج عيسى عليه السلام وليس أمراً آخر، فالأمر إذن في انتقال الإمام عليه السلام إلى مكانٍ غيبي أمرٌ يجب قبوله في ظل ظروف الإعجاز التي أحاطت بولادة الإمام عليه السلام.

ص: 116

6_ أشارت الرواية الشريفة إلى أن الإمام عليه السلام كان يمشي بين يديه بعد أربعين يوماً، وأجاب الإمام عليه السلام عن تعجب السيدة حكيمة من ذلك "بأن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وأنّ الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة.." وهذه الحالة شبيهة بولادة السيدة الزهراء عليها السلام وكيفية نشوئها، إذ صرحت رواية الإمام الصادق عليه السلام بقوله: فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمي الصبي في الشهر، وتنمي في الشهر كما ينمي الصبي في السنة.(1)

تشابه الحالات.. تشابه المهام:

على أنّ هناك حالات ظهرت على الإمام المهدي منذ حمله إلى ولادته تشابه الحالات التي ظهرت لدى عيسى عند ولادته كذلك.

ولعل تشابه الصفات يوحي إلى تشابه المهمة بين الوليدين، فالروايات الصحاح التي رواها الفريقان تؤكد أن ظهور الإمام المهدي عليه السلام يتزامن مع نزول عيسى عليه السلام وسيصلي عيسى خلفه، أي أن الله تعالى ادّخر عيسى لمهمة المهدي الإلهية، وبهذا فإنّ التشابه بينهما سيكون سبباً في التشابه بين المهمتين، فإذا

ص: 117


1- عوالم العلوم للشيخ عبد الله الأصفهاني: :11/55 الحديث 1.

صدقنا ما في عيسى عليه السلام فإنّ ما في المهدي من إعجاز سيكون أمراً مقبولاً، أي أن حالات عيسى عليه السلام الإعجازية حجةً علينا في قبول الحالات الإعجازية لدى الإمام عليه السلام عند ولادته:

1_ ذكرت الرواية السابقة أن السيدة نرجس عليه السلام لم تعلم بالحمل إلاّ قبيل الولادة بلحظات، وأهل الأخبار ذكروا أن مريم عليه السلام لم تر الحمل إلاّ بسبع أو تسع ساعات، فلم تظهر عليها آثاره.

أخرج ابن عساكر عن الحسن قال: بلغني أن مريم حملت لسبع أو تسع ساعات، ووضعته من يومها. وعن ابن عباس قال: حين حملت وضعت.(1)

2_ إنّ السيدة حكيمة حينما قرأت على السيدة نرجس سورة (إنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قالت: فكان الجنين يقرأ معي، وكان عيسى عليه السلام في بطن أمه يكلمها.

أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن مجاهد قال: قالت مريم:

كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني، وإذا كنت مع الناس سبّح في بطني وكبّر وأنا أسمع.(2)

3_ ذكرت الرواية أن المهدي عليه السلام عند ولادته أودعه أبوه لدى إحدى الطيور التي كانت على رأسه وأمر أحدها أن7.

ص: 118


1- تفسير الدر المنثور: 16/ 497.
2- تفسير الدر المنثور: 16/497.

يأخذه ويودعه فطار به إلى جو السماء واتبعه سائر الطير، ثم بيّن الإمام عليه السلام أن هذا روح القدس الموكّل بالأئمة عليه السلام ، في حين نرى في قصة عيسى عليه السلام وعروجه إلى السماء أن الله كساه ريشاً فطار مع الملائكة.

قال القرطبي في تفسيره: أما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة.(1)

4_ إن غيبة عيسى عليه السلام إذا أذعنّا بها وصدقناها فإنّ غيبة الإمام المهدي عليه السلام ستكون أمراً ممكناً حيال تشابه مهمتي السيدين عليهما من الله السلام التام.

5_ المعاناة التي لاقتها السيدة نرجس في حملها وإخفاءها لسرّ الوليد الموعود وما جرى عليها من رجال السلطة بالتضييق عليها وحبسها ومطالبتها إخبارهم بأمر الوليد ومن ثم ثباتها وصمودها أمام هذه المحن دون أن تحصل السلطة على أدنى اعتراف منها، وبذلك شاركت السيدة نرجس ولدها المهدي في حفظ المهمة الإلهية وإنجاحها، فانّ السيدة مريم عليها السلام كذلك لاقت من بني إسرائيل ما لا تحتمله أية امرأة عفيفة طعنوا فيها واتهموا عفتها وهي لا تزال صامدة أمام حملات هؤلاء الذين وصفهم الإمام الصادق عليه السلام بأن مريم لم تجد من قومها رجلاً0.

ص: 119


1- تفسير القرطبي:4/ 100.

رشيداً، كل هذا لم يثنها عن إتمام مهمتها والمحافظه على رسالة السيد المسيح وإيصالها إلى غايتها المرجوة.

ثالثاً: الغيبة بُعيد شهادة والده عليهما السلام:

تعد هذه المرحلة من أهم المراحل في تأريخ الغيبة، فهي المرحلة الحاسمة التي تحددت من خلالها معالم غيبة الإمام عليه السلام ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين(1) حسب معالم كل مرحلة، وبالتالي قابلية الاتصال بالإمام عليه السلام في كل منهما وإمكانية قواعده من ذلك.

المرحلة الأولى: الغيبة الصغرى

فقد عُرفت مرحلة غيبة الإمام منذ ولادته حتى آخر سفير من سفرائه عليه السلام بالغيبة الصغرى، وتتحدد معالم هذه الغيبة بما يلي:

1_ بُعيد ولادته عليه السلام لم يظهر إلاّ إلى بعض خاصة والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فقد حدد الإمام العسكري إمكانية مشاهدته على عدد محدود جداً كما سيأتي في محله.

فقد نوّع الإمام العسكري عليه السلام مجالات مشاهدته حسبما تقتضيه الظروف وقابلية الشخص المشاهِد، فمنهم من دعاه الإمام عليه السلام لمشاهدته، ومنهم من زار الإمام العسكري ووجد

ص: 120


1- بحث المؤلف تفاصيل المرحلة الثانية في الفصل الثاني من هذا الكتاب ( الانتظار).

عنده الإمام المهدي عليه السلام وكلّمه مباشرة وجرى بينه وبين الإمام المهدي الحديث، ومنهم من كتب الإمام العسكري عليه السلام كتاباً يخبره بولادة الموعود، ومنهم من حدث لديه علمٌ بالولادة بما وصله من الإمام العسكري عليه السلام بعض الخبز واللحم، كما في الرواية التالية.

وهكذا فإنّ غيبة الإمام المهدي منذ ولادته تكفّل بترتيبها الإمام الحسن العسكري عليه السلام واشترك في رؤيته عدد يعتد به من خاصّته.

طرق مشاهدة الإمام المهدي عليه السلام إبّان ولادته المباركة

اشارة

قلنا أن أساليب المشاهدة للإمام عليه السلام قد تعددت حسبما يقتضيه حال المشاهِد والظروف المحيطة لذلك، وبإمكاننا أن نقف على ذلك بالروايات التالية:

أولاً: أسلوب المراسلات:

كان أحد أساليب معرفة ولادة الموعود إبّان فترة ولادته بطرق المراسلة التي اعتمدها الإمام العسكري عليه السلام مع أصحابه، كما في رواية أحمد بن إسحاق القمي قال: لما ولد الخلف الصالح عليه السلام ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي على جدي أحمد بن إسحاق كتاب، وإذا فيه مكتوب بخط يده عليه السلام الذي كان يرد به التوقيعات عليه:

ولد المولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس

ص: 121

مكتوماً، فإنّا لم نظهر عليه إلّا الأقرب لقرابته والمولى لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك الله به كما سرّنا والسلام.(1)

ثانياً: أسلوب المشاهدة المباشرة عن طريق الإمام العسكري عليه السلام:

فقد عمد الإمام العسكري عليه السلام إلى تعريف الوليد إلى خاصة أصحابه ووصيتهم به.

1_ روى الصدوق بسنده عن محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه ومعاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا.

قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلّا أيامٌ قلائل حتى مضى أبو محمد عليه السلام.(2)

2_ وروى الشيخ المفيد بسنده عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر _ وكان أسنّ شيخ من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله بالعراق _ قال: رأيت ابن الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام بين المسجدين وهو غلام.(3)

ص: 122


1- بحار الأنوار:51/ 16.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/ 399.
3- الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 353_354.

3_ وروى عن عمرو الأهوازي قال: أرانيه أبو محمد وقال: هذا صاحبكم.(1)

4_ وروى القندوزي الشافعي في ينابيع المودة عن الخادم الفارسي قال: كنت بباب الدار خرجت جارية من البيت ومعها شيء مغطيّ، فقال لها أبو محمد: اكشفي عمّا معك، فإذا غلام أبيض حسن الوجه فقال: هذا إمامكم من بعدي، قال: فما رأيته بعد ذلك.(2)

5_ وروى الطوسي في غيبته بسنده عن أبي سليمان داود بن غسان البحراني قال: قرأت على إسماعيل بن علي النوبختي قال: مولد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين، ولد عليه السلام بسامراء سنة ست وخمسين ومائتين، وأمه صقيل، ويكنى أبو القاسم، بهذه الكنية أوصى النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: اسمه كاسمي وكنيته كنيتي، لقبه المهدي وهو الحجة وهو المنتظر وهو صاحب الزمان عليه السلام.

قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد، وكان الخادم أسوداً نوبياً قد خدم من قبله علي بن محمد،6.

ص: 123


1- الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 353_354.
2- ينابيع المودة: 461، عنه منتخب الاثر: 356.

وهو ربى الحسن عليه السلام(1) فقال له: يا عقيد اغل لي ماءً بمصطكي، فأغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية أم الخلف عليه السلام.

فلما صار القدح في يديه وهمّ بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن، فتركه من يده، وقال لعقيد: ادخل البيت فإنك ترى صبياً ساجداً فائتني به، قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت: إن سيدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت أمه صقيل، فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام. قال أبو سهل: فلما مثل الصبي بين يديه سلّم وإذا هو درّي اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلّج الأسنان، فلما رآه الحسن بكى وقال: يا سيد أهل بيته اسقني الماء فإني ذاهب إلى ربي، وأخذ الصبي القدح المغليّ بالمصطكي بيده ثم حرّك شفتيه ثم سقاه، فلما شربه قال: هيئوني للصلاة فطرح في حجره منديل فوضأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه.

فقال له أبو محمد عليه السلام: أبشر يا بني فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك، وأنت م ح م د بن الحسن بن علي بن محمد بنظ.

ص: 124


1- أي قام على شؤونه وتكفّل خدمته، وليس من المقصود ربّاه بمعنى التزم تربيته ونشأته، فإن الإمام يختص بأمره إمام مثله، وعلمه اللدني الغيبي يغنيه عن أي عمل آخر، فلاحظ.

علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

ولدك رسول الله وأنت خاتم الأئمة الطاهرين، وبشّر بك رسول الله وسمّاك وكنّاك، بذلك عهد إليّ أبي عن آبائك الطاهرين صلى الله على أهل البيت ربنا إنّه حميد مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته صلوات الله عليهم أجمعين.(1)

6_ عن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن الخلف بعده فقال لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم ولا تخلو إلى يوم القيامة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.

قال: فقلت: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين فقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله وعلى حججه، ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سمي رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاًَ كما ملئت جوراً وظلماً، يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأمة مثل الخضر عليه السلام ومثله كمثل ذي القرنين، والله ليغيبنّ غيبة لا6.

ص: 125


1- بحار الأنوار: 52/ 16.

ينجو فيها من التهلكة إلاّ من يثبته الله على القول بإمامته ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه.

قال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي هل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربي فصيح فقال: أنا بقية الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق.

قال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلما كان من الغد عدت إليه فقلت له: يا ابن رسول الله لقد عظم سروري بما أنعمت عليّ، فما السّنة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: طول الغيبة يا أحمد، فقلت له: يا ابن رسول الله وإنّ غيبته لتطول؟ قال: أي وربّي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقى إلّا من أخذ الله عهده بولايتنا وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين، تكن غداً في عليين.(1)

7_ عن يعقوب بن منفوس قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وهو جالس على دكان(2) في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل فقلت له: سيدي من صاحب هذا الأمر؟ا.

ص: 126


1- بحار الأنوار: 52/ 23.
2- الدكان: الدكة وهو المرتفع من الأرض تصنع من البناء للجلوس عليها.

فقال: ارفع الستر، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك(1)، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفين، معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمد عليه السلام فقال: هذا صاحبكم، ثم وثب فقال له: يا بنيّ ادخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثم قال لي: يا يعقوب انظر من في البيت فدخلت فما رأيت أحداً.(2)

مشاهدة الإمام الغائب عليه السلام عند شهادة والده عليه السلام

كانت مشاهدة الإمام المهدي عليه السلام وقت شهادة والده عليه السلام أمراً حاسماً، ففي فترةٍ تعد أحرج الفترات التي تمر بها مسألة الإمامة، وعدم وضوح الخلف من بعد الإمام عند الكثير من الشيعة، كما أن جعفراً قد تهيا لدعوى الإمامة بواسطة السلطة العباسية التي تعد من جعفر بديلاً " رسمياً " عن الإمام، وقد حاولت السلطة أن تستفيد من هذه الفترة أمرين:

أولاهما: كشف حال الإمام الغائب عند شهادة والده عليه السلام، فإنّ كان موجوداً نفّذت السلطة خطتها في تصفيته، وإن كان غير

ص: 127


1- الخماسي من هوفي سن الخامسة ثم قوله له عشر أو ثمان أي من العمر، والظاهر أن الراوي أراد القول أن عمره خمس سنوات إلا أن له هيئة سن العاشرة أو الثمان سنوات في هيئته عليه صلوات الله.
2- بحار الأنوار:52/ 25.

موجود فهو ما تطمح إليه السلطة وتحاول إشاعته ذلك وإنهاء "ملف" الإمامة من الأساس، فلا أحدٌ بعد ذلك يشكّل تهديداً خطيراً حقيقياً لها، وبذلك تحقق السلطة العباسية آمالها في إقصاء آل البيت عليهم السلام من مناصبهم الإلهية.

ثانيهما: تنصيب جعفر بن علي عمّ الإمام المهدي عليه السلام إماماً "رسمياً" من قبل السلطة وذلك لمحاولة استغلال ظرف غياب الإمام الشرعي وتوجيه الأنظار إلى جعفر الذي عرف بعدم التزامه وارتكابه محرمات الشريعة، لتوهم الناس بأن أئمة آل البيت الذين تعتقدون إمامتهم هم في مستوى عدم الالتزام الشرعي وغياب مقومات الإمامة عنهم وعدم أهليتهم لذلك، لذا فقد كان جعفراً يشكل بادرة خطيرة إبّان الغيبة الصغرى، وهو أحد أهم عوائق ظهور الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الصغرى لشيعته، كون جعفراً يترصد وجوده ويحاول تمويه الناس بعدم ولادته، ومن ثم دعوى إمامته الباطلة.

هاتان المحاولتان لم تتجح في استغلالهما السلطة، فإنّ الإمام المهدي عليه السلام ظهر بصورة مفاجئة في اللحظات الأخيرة التي تمت بها محاولة النظام في التمويه على عدم وجوده، فقد باغت الإمام عليه السلام السلطة بظهوره والصلاة على أبيه، وأحبط محاولاتها ومحاولات عمّه جعفر وأسقط ما في أيدي جعفر من الدعاوى الكاذبة وأثبت لشيعته وجوده ومحاولة أخذ زمام

ص: 128

المبادرة في اللحظات الأخيرة من مشاهد "السيناريو" الذي حاول إيجاده النظام بواسطة جعفر.

وبهذا فقد أثبت الإمام وجوده لشيعته أولاً وللسلطة ولعمّه ثانياً دون أدنى خطرٍ على حياته، حيث بعد أدائه الصلاة غاب بشكلٍ أفشل محاولات القبض عليه وتصفيته.

والرواية التالية تحكي لنا مشاهد اللحظات الحاسمة.

اللحظات الحاسمة:

بعد أن وضعت جنازة الإمام العسكري عليه السلام همّ أخوه جعفر للصلاة عليه فلم يمهله الإمام المهدي عليه السلام بأن باغته بالخروج والصلاة على أبيه وتولي شؤون إمامته والاتصال بشيعته سراً، كما في الرواية التالية:

روى المجلسي: " قال أبو الحسن علي بن محمد بن حباب: حدثنا أبو الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام(1) وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في

ص: 129


1- الملاحظ في أكثر الروايات أنها تذكر نسب الإمام المهدي عليه السلام أو نسب أبيه وذلك للتأكيد على أنه هو الإمام المهدي المولود من الحسن العسكري عليهما السلام وليس أمراً آخر يدعيه بعضهم للتمويه على غيبة الإمام المهدي وفلسفة ظهوره ووجوده بين ظهراني شيعته.

علته التي توفي فيها صلوات الله عليه فكتب معي كتباً(1) وقال: تمضي بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.

قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم بعدي؟ فقلت: زدني، فقال: من يصلي عليّ فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.

ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان؟ وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر، كما قال لي عليه السلام، فإذا أنا بالواعية في داره وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه.

فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة، لأني كنت أعرفه بشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فقدمت فعزّيت وهنّيت، فلم يسألني عن شيء ثم خرجه.

ص: 130


1- لعل هذه إحدى القنوات التي كان الإمام الحسن العسكري عليه السلام يقيم بواسطتها اتصاله بشيعته ويأمرهم بأوامره ويفرض عليهم تكاليفهم عند غيبة الإمام المهدي عليه السلام وتعريفهم بأمر شهادته الوشيكة وغيبة ولده من بعده وشرح أحوال إمامته.

عقيد فقال: يا سيدي قد كفّن أخوك فقم للصلاة عليه،(1) فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمّان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة.

فلما صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن علي عليه السلام على نعشه مكفّناً، فتقدّم جعفر بن علي ليصلي على أخيه فلمّا هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عمّ فأنا أحق بالصلاة على أبي فتأخر جعفر، وقد اربدّ وجهه، فتقدّم الصبي فصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه.

ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه، وقلت في نفسي: هذه اثنتان بقي الهميان، ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي مَن الصبي؟ ليقيم الحجة، فقال: والله ما رأيت قط ولا عرفته.ك.

ص: 131


1- تقدّم أن عقيد الخادم يعرف بولادة الإمام المهدي عليه السلام ولديه أسرار ولادته وغيبته ولعل دعوته جعفراً للصلاة على الإمام عليه السلام مع علمه الحال محاولة من عقيد وغيره لفضح موقف جعفر وانكشاف الأمر الذي كان جعفر يحاول التغطية عليه والتمويه كذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى دقة أتباع أهل البيت(ع) من شيعتهم في التسليم لأمرهم وانتظار ما الله تعالى فاعله في إظهار الحق، لذا فهو لم يتردد في دعوة جعفر منتظراً أمر الله في تسديد وليه عليه السلام وبيان حجته، ولعل ذلك عهد الإمام الحسن العسكري(ع) لعقيد الخادم باتباع الأمور الطبيعية في معرفة أمر الإمام المهدي عليه السلام لدى الشيعة والنظام كذلك.

فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته فقالوا: فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلّموا عليه وعزّوه وهنؤوه، وقالوا: معنا كتب ومال، فتقول ممن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منّا أن نعلم الغيب.

قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلية فدفعوا الكتب والمال، وقالوا: الذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.

فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك فوجّه المعتمد خدمه، فقبضوا على صقيل الجارية وطالبوها بالصبي، فأنكرته وادّعت حملاًَ بها لتغطي على حال الصبي فسلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بين يحيى بن خاقان فجأة، وخرج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين لا شريك له.(1)

جعفر بن علي بادرة سيئة وظاهرةٌ خطيرة:

قلنا أن حركة جعفر بن علي كانت بادرة سيئة تستفتح الغيبة تأريخها بها وهو وإن كان ساذجاً في تصرفاته إلا أنه شكّل ظاهرةً خطيرة امتدت آثارها إلى مديات طويلة، فقد كشف ستراً

ص: 132


1- بحار الأنوار:50/ 332.

كما في تعبير بعض الروايات، وأفشى سراً كما في روايات أخرى، ثم هو يشكل حالة الانحطاط الفكري التي كان يتميزبها بعضهم وعدم وعيهم بمسؤولياتهم الحقيقية، كما أنه مثّل نموذجاً سيئاً لحالات الانحراف التي تكمن في دواخل البعض، ومن جهته فإنّ دوافع حبّ الرئاسة والجاه غير المشروع كان الأساس في ارتكاب مثل هذه الاختراقات.

وهذه الظاهرة وإن كان لها أثرها السيئ إلا أن لها أهميتها كذلك، فهي ظاهرة أغلقت الباب على محاولات البعض من تصوير الانحرافات التي صدرت من بعض الشيعة بأنها مسألةً عامة يبتلى بها أكثر أتباع الأئمة، حيث دعوى السفارة والوكالة الكاذبة عن الإمام عليه السلام يصورها البعض أنها إحدى سلبيات الطائفة، في حين أن هذه الدعوى لها مثيلها في عم الإمام عليه السلام وهو ابن إمام وأخو إمام إلا أن دوافع حبّ الجاه لا يخص أحداً دون أحد إذا استمكن من نفس الإنسان ومشاعره بحيث يطغى على قلبه وفكره فينسيه ما هو فيه.

كما أن هذه المحالات تكشف عن خللٍ في بعض جوانب المدّعي لم تسد فكرياً، ونقصٍ في التزامه الديني لم يعالجه في حينه فاستفحل عليه، واستجاب لأدنى شبهةٍ عرضت في نفسه.

فلا غرابة إذن أن يتصرف بعضهم بمواقف سلبية وخروقاتٍ دينية، فإنّ لهذه الحالات مثيلاتها من قبل جعفر عم

ص: 133

الإمام وليس هذا عيباً يطغى على الطائفة كأتباع لهم علاقتهم المقدسة مع أهل البيت عليهم السلام.

أسلوب السفارة:

ولم يكن بداً من غيبة الإمام في ظل هذه الظروف الأمنية الحرجة والرقابة المشددة التي اشترك في ممارستها حتى أقرب الناس من أهله، وهو عمّه الذي كان من المفترض أن يكون عنصراً مهماً في مهمته وليس ظاهرة سلبية تعرّض الإمام عليه السلام إلى الخطر وشيعته المخلصين إلى التصفية الجسدية كذلك.

وهل تعني غيبته عليه السلام عزلته عن الناس عامة وعن شيعته خاصة؟ وهل يبرر التهديد الذي لاقاه الإمام عليه السلام من السلطة بالقتل أن تنقطع ارتباطاته بقواعده؟ أم لابد من استحداث شيء آخر لم يعهد في عصر آبائه الطاهرين عليه السلام بل بدأت بوادره إبّان عهد جده الإمام علي بن محمد عليه السلام حين عيّن له وكيلاً يرعى بعض مصالح مهمته ولتكون بداية مهمة لأسلوب الوكالة يألفها الناس إبّان غيبة الإمام المهدي عليه السلام.

لذا فإنّ الوكيل للإمام الهادي عليه السلام كان عثمان بن سعيد العمري وهو الوكيل كذلك للإمام الحسن العسكري عليه السلام وقد عرف بصلاحه وورعه وتقواه لدى الخاصة والعامة.

إذن فأسلوب الوكالة أو السفارة للإمام المهدي عليه السلام صار أمراً مألوفاً في الوسط الشيعي، فهم تعاملوا مع سفير جده الإمام

ص: 134

الهادي عليه السلام ومع سفير والده الإمام العسكري عليه السلام، ولم يكن بعد ذلك أسلوب السفارة أمراً جديداً تثار من خلاله الريبة بل هي الطريقة التي عهدها الشيعة وألفوها.

السفراء والسفارة في الغيبة الصغرى

الأسلوب الذي لابد من اتباعه في هذه الفترة الخطيرة من الغيبة هو أسلوب السفارة التي مارسها الإمام المهدي عليه السلام إبّان غيبته، وهؤلاء السفراء شكّلوا قنوات الاتصال الدقيقة مع الإمام عليه السلام وشيعته، وهو الأسلوب الذي أثبت نجاحه على مدى سبعين عاماً من عمر الغيبة الصغرى، وكانت تشكيلة السفراء وبمواصفاتٍ خاصة تنم عن دقة العمل المتخذ في هذه الفترة والأسلوب الأمثل الذي اتبع في انسيابية المعلومات بين الإمام عليه السلام وبين قواعده.

بل لعل القواعد الشيعية لم تستشعر الفراغ إبّان عهد الغيبة الصغرى بوجود السفراء، فكان أسلوباً مثيراً حقاً أثبت جدارة مهمة الإمام عليه السلام في غيبته.

السفراء الأربعة

السفير الأول: أبو عمر عثمان بن سعيد العمري:

وهو السفير الأول للإمام عليه السلام الذي مارس مهمة السفارة لدى الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام.

ولعل الإبقاء على هذا السفير يساعد الأوساط الشيعية على

ص: 135

استيعاب ظرف الغيبة الجديد وشعورها باستمرار إمامة الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام طالما لهذا السفير وجوده، واستمرارية مهمته، فهم عهدوه سفيراً لمرحلتي الإمامة "الخطيرة" والتي تبنت تهيئة الذهنية العامة للغيبة، والتقديم لها وترويض الأمة على ذلك.

كما أن مزاولة هذا السفير عمله في عهدي الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، يعطي المشروعية الكاملة لنشاط هذا السفير حين يمارسه إبّان عهد الغيبة الصغرى، أي أنّ وجود عثمان بن سعيد العمري في مهام السفارة الأول للغيبة الصغرى يعد توثيقاً لهذه الفترة من الإمامة واطمئناناً للوسط الشيعي الذي يتعامل في هذه الفترة الحرجة من الإمامة.

السفير الثاني:

محمد بن عثمان بن سعيد العمري:

وهو السفير الثاني، نصّ عليه الإمام الحسن العسكري عليه السلام بقوله: واشهدوا عليّ أن عثمان بن سعيد وكيلي، وأن ابنه محمد وكيل ابني مهديكم.(1)

وتعد وصية الإمام العسكري عليه السلام وثيقة مهمة بإقرار مشروعية الغيبة في أذهان الوسط الشيعي، فهم إبّان الغيبة يستذكرون ما أوصى به الإمام العسكري عليه السلام في وكالة محمد بن عثمان.

وبذلك راعى الإمام العسكري عليه السلام نفسية قواعده الشيعية

ص: 136


1- تأريخ الغيبة الصغرى، السيد محمد الصدر: 402.

من أن وصيته إلى السفير الثاني تعد حالة معايشة من قبل الإمام العسكري عليه السلام لأوساطه في ظرف الغيبة، أي أن الشيعة يرون في شخص السفير الثاني عهد الإمام العسكري عليه السلام إليه، مما يساعدهم على استيعاب الظرف الجديد وغياب الإمام عليه السلام عن أوساطهم.

السفير الثالث:

أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي:

عرف بجلالة قدره وعظم شأنه لدى الأوساط فضلاً عمّا قدّمه الإمام المهدي عليه السلام لشيعته بتعريفه عند قوله: وإنه عندنا بالمنزلة والمحل اللذين يسرانه زاد الله في إحسانه إليه إنه ولي قدير، والحمد لله لا شريك له وصلى الله على رسوله محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.(1)

تعد سفارته من أحرج السفارات، إذ في عهد سفارته بدأت دعاوى السفارة الكاذبة التي ادعاها بعضهم، ولعل ذلك ناشئ عن عدم شهرة الحسين بن روح، بل كان من يتقدم عليه في الاختصاص بالسفير الثالث مثل جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه وغيرهما حيث كانت الأنظار موجهة إليهما وإلى غيرهما، وكان الحسين بن روح في عداد جملة أصحاب السفير الثاني.

فلما جاء الأمر بإيكال مهمة السفارة إلى الحسين بن روح حسده أهل الجاه والدنيا ورأوا أنهم أحق منه حسب قياساتهم الباطلة، وظنوا

ص: 137


1- تأريخ الغيبة الصغرى: 411.

أنهم مؤهلون لذلك، فلما لم يحصلوا على ما طمحوا له من المنصب ادعوا السفارة كذباً والوكالة زوراً، وكان دور الحسين بن روح التصدي لهم وفضح أكاذيبهم، ومعلوم أن ذلك يستدعي قابلية خاصة في مواجهة مثل هذه الأراجيف، كما أنه سيعاني " الحسين بن روح " من حملات عداءٍ ضده، وهذا بحدّ ذاته جهد عظيم تبناه الحسين بن روح، فضلاً عن لياقته في المهام التي أنيطت إليه من قبل الإمام عليه السلام .

توفي رضوان الله عليه سنة 326 هج.

السفير الرابع:

علي بن محمد السمري

تولى السفارة عند وفاة الحسين بن روح رضوان الله عليه عام 326 هج حتى وفاته عام 329 هج.

تعد سفارة السمري من أحرج الفترات، وأشدها وطأةً على الشيعة، وأصعبها ظرفاً أمنياً يعيشه المجتمع الشيعي في ظل ظروفٍ سياسيةٍ قاهرة، وكانت هذه الظروف السيئة باعثاً إلى تجميد فعاليات السفير الرابع وتقليل نشاطه في الاتصال بالأوساط الشيعية الملاحقة من قبل النظام. وبالرغم من تقليص أنشطة السفارة في هذا العهد فإننا نعدّ سفارة السمري من أبدع السفارات دقةً وأعظمها تنظيماً في المحافظة على هيكلة القواعد الشيعية، فضلاً عن القيام بمهمته السرية دون أن يكشف النظام أية بادرة من شأنها أن تعين النظام على اكتشاف العلاقات السرية بين الإمام عليه السلام وبين قواعده عن طريق السفير الرابع الذي أحكم مهمته

ص: 138

بدقة وبإبداع يعجز عنه حتى أعظم التنظيمات العالمية في عصرنا هذا، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على حكمة السمري ودقته ومن ثم تسديد الإمام عليه السلام وتوجيهه له.

وبعد مهمةٍ شاقة وفترةٍ عسيرة تلقى علي بن محمد السمري نعيه عن الإمام عليه السلام في رسالة تعزيةٍ يأمره فيها بعدم العهد إلى أحد جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلاّ بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً.

وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر.

ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.(1)

ونحن نقول كذلك: لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، فقد وقعت الغيبة، آملين منه تعالى أن يقر عيوننا بمشاهدته ويفتح لنا سبل هدايته ويجعلنا من جنود وليّه والذابين عنه، إنه وليٌ قدير، سميعٌ مجيب.5.

ص: 139


1- تأريخ الغيبة الصغرى: 415.

ص: 140

الفصل الثاني:الانتظار

اشارة

ص: 141

ص: 142

أضحت مسألة الانتظار مسألة مهمة لدى المدارس الإسلامية جميعاً ، فالمدارس الإسلامية _ عدا الإمامية _ تنظر إلى مسألة الانتظار على أنها حالة سلبية يعيشها الفرد ، فهي حالة سكون وانطواء على النفس، بل هي حالة تجميد الطاقات بحجة انتظار الموعود، وهذه النظرة وليدة تراكمات ظروف معرفية خاصة، إضافة إلى حالة عدم الوعي والقصور في فلسفة الغيبة المهدوية المباركة.

فالظروف السياسية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلفت لديها حالة عكوف على رؤية مهدوية خاصة تبتعد عن واقع الأحاديث التي رواها الفريقان ، فالأحاديث تؤكد على وجوب ظهور المهدي، ومن ثم فإنّ الشواهد تؤكد كذلك على إمكانية حياته وبقائه لمدة طويلة ، والإقرار بوجود المسيح عليه السلام الذي سيكون ظهيراً للمهدي في نهضته وادخاره لهذه المهمة الإلهية ، والتسليم للخضر بحياته وبقائه لهذه السنين المتطاولة يوجب قبول أطروحة المهدي وكونه حياً يعيش بين أوساط الأمة حتى يأذن الله له بالظهور.

كل هذه المسائل تطرح على الذهنية الإسلامية العامة وينتظر منها الإجابة عن سبب إمكانية قبول بقاء عيسى حياً

ص: 143

والتردد في إمكانية بقاء الإمام المهدي حياً كذلك ، أليس مهمة السيدين واحدة وهي إقامة الدولة المهدوية الكبرى ؟ أليس التسليم بأن بقاء عيسى عليه السلام مذخوراً لمهمة الإمام المهدي عليه السلام؟ ما الفرق بين الحالتين! خصوصاً أنهما يشتركان في هدف واحد؟

هذه التساؤلات لها إجاباتها ارتكازاً في غضون العقلية السنّية وإمكانية قبولها كأمر منطقي تفرضه براهينها ودلائلها، فلماذا يتخلف المنطق السني عن قبول مثل هذه المسلّمات على المستوى العملي إذن؟

وللإجابة على ذلك فإنّ الإحاطة بالسير التأريخي وانسيابية المعلومة التأريخية في خضم هذه المباحث يعطي الإجابة الجديدة في هذا المجال.

وبما أن البحث مبني على الاختصار فلا يمكننا بعد ذلك الغور في أعماق المعطيات التأريخية التي لابد أن تشارك في تكوين فكرة أولية _ على الأقل _ في هذا المجال.

ومع هذا فسوف لا نغفل عن التعرض إلى شيء مقتضب يساهم في بحثنا هذا.

من المعلوم أن الظروف التأريخية التي زامنت فترة الغيبة أضفت واقعاً آخر على فلسفة الغيبة، إلاّ أنه واقع يتعلق بمصلحة الأنظمة السياسية وليس في ذات الغيبة وحقيقتها، لأن المشتركات يبن الفريقين يقرها الحاكم السياسي وغيره ويعترف بها كأمر

ص: 144

واقع لا يمكن رفضه، إلا أنه يسعى إلى إلغاء القضية المهدوية، أو على الأقل التقليل من شأنها ، لذا سعى جاهداً في إخفاء معالم هذه المسألة، وتعامل معها على أساس أمني حذر ، وفكري يضمن مصالحه كذلك.

من هنا حاولت الأنظمة الأموية والعباسية التعامل مع الدعاوى المهدوية الكاذبة بكل جدية ، فالنظام الأموي سعى إلى إيجاد علاقة ما مع عمر بن عبد العزيز ومع الأحاديث المهدوية وادعى أن عمر بن عبد العزيز هو المهدي الذي ملأها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وركزت جهودها على تصوير عدالته وتقواه وزهده، وبموته فقد مات المهدي وانتهى دوره بعد ذلك، وهكذا أثبتت مدوناتهم التأريخية قصص ودعاوى عدالة عمر بن عبد العزيز، إلا أنها لا تلقى اهتماما على مستوى الأمة التي قرأت أحاديث المهدي بكل وعي وتيقنت من حتمية ظهوره وإقامة دولته الإلهية ليملأها عدلاً وقسطاً .

أما النظام العباسي فقد أضفى على حركة محمد النفس الزكية دعوى المهدوية وادعى أن محمد النفس الزكية هو المهدي المنتظر، وادعى ذلك إبان حركته، وحاول تحريف أحاديث المهدي وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أن المهدي اسمه اسمي، وبدل: كنيته كنيتي، ذيّل الحديث هكذا: واسم أبيه اسم أبي، أي صار الحديث المروي بين الفريقين المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي.

ص: 145

في حين عند متابعة حركة النفس الزكية لم تجد دليلاً واضحاً يساعد على هذه الدعوى، وأن محمداً لم يدع المهدوية كما صورته وسائل النظام العباسي وأثبته في ذهنية بعضهم.

وبهذا تعامل النظام العباسي مع حركة المهدي على أنها حركة محمد النفس الزكية الذي قتل في واقعة دير الجماجم، وبهذا حاولت إنهاء مسألة المهدي وإغلاق ملف المهدوية من أذهان الأمة، وتعاملت معها على أنها مسألة تأريخية انتهت في حينها . إلا أن ذلك لم يقنع الأمة وهي أمام هذا السيل من الأحاديث الصحيحة في مسألة الظهور، نعم أمكن إقناع العقلية السلفية بهذه المحاولات غير الجادة على المستوى العلمي ومستوى الواقع العملي.

بل حتى أن النظام أخفى عدم قناعته بهذه المحاولات الفاشلة وأظهر قلقله حيال المسألة المهدوية، بعدما تعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام على أنه المولود منه المهدي فعلاً ، لذا فبعد شهادته عليه السلام ألقي القبض على نسائه للبحث عن الوليد الموعود أو الحمل الجديد، اعترافاً منهم بحتمية ظهور المهدي عليه السلام.

وبذلك فإنّ ما أقدم عليه النظام الأموي والحكم العباسي كذلك هو محاولة إلغاء المسألة المهدوية من أذهان العامة وكونها قضية تأريخية انتهت بانتهاء ظروفها.

لذا لم تعد لمسألة الانتظار أهمية على مستوى المذاهب الإسلامية الأخرى، ولم تتعامل معها بجدية، كونها قضية تأريخية.

ص: 146

وبذلك فإنّ مسألة الانتظار صارت من "مختصات" الفكر الإمامي الذي تعامل مع الإمام المهدي عليه السلام على أساس الروايات الصحاح التي أقرها الفريقان، وصار الانتظار واقعاً عملياً يتعامل معه أتباع أهل البيت عليهم السلام.

ما هو الانتظار؟

الانتظار بمفهومه الذي تؤكده الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام هو حالة ترقب يصاحبه عمل يمارسه المنتظر لاستقبال اليوم الموعود ، وهذا العمل يجمعه مصطلح واحد ليكون من أظهر مصاديقه وهو التقوى ، فالانتظار إذن هو عمل المنتظر بتقوى عملية يحققها واقعه المعاش.

من هنا أمكننا أن نجد مفاهيم متعددة تحقق هذه التقوى على مستواها العملي، وهذا يعني أن الانتظار هو آلية لبناء الفرد وتكامله، وكذا بناء المجتمع المتكامل حينئذٍ.

وبذلك سيكون الانتظار منهجية للبناء الحضاري المنشود الذي لم تحققه أية فلسفة وضعية أو عقيدة دينية خارجة عن إطار ولاء أهل البيت عليهم السلام والانتساب إليهم.

منهجية البناء الحضاري لجماعة الانتظار

إذا كانت الحضارة هي مجموع ثقافات الأفراد للمجتمع الواحد ومن ثم هي حصيلة ثقافات ذلك المجتمع، وإذا كانت

ص: 147

الثقافة بمعناها الأعم هي السلوك "الراقي" الذي يتحقق بطاعته لله تعالى وذلك من خلال انتهاج التعاليم الشرعية المأمور بها الفرد، وهذه بمجموعها تسمى التقوى التي من خلالها تتحقق سمة الالتزام الشرعي لذلك الفرد، ومعلوم أن هذه التقوى التي حث عليها الأئمة الأطهار عليهم السلام إحدى أهم آليات الانتظار.

ففي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر يا بن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي أياكم؟ قال فقال: نعم، قال: فقلت: فأني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين، قال : هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنت وأهل بيتك لأدين الله تعالى به، قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا اله إلّا الله، وأنّ محمداً رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لأمرنا ، وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع.(1)

على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام حددوا تكليف أتباعهم وما يجب أن يعملوه إبان غيبة إمامهم، وما هي حدود مسؤولية كل واحدٍ منهم اتجاه نفسه واتجاه الآخرين، أي تحديد التكافل8.

ص: 148


1- منتخب الأثر: 498.

الاجتماعي الذي من خلاله يتاح للمكلف أن يتكامل وللمجتمع الإسلامي أن يرقى إلى درجة الكمال والبناء.

روى المجلسي بسندٍ صحيح عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله، فقال: ليعين قلوبكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً ، ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين ، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً.(1)

والرواية بذلك تحدد المعالم العامة للسلوكية الشيعية إبان الغيبة ووظيفة المكلف عند الانتظار، فقد حدد الإمام عليه السلام سلوكية المكلف على المستوى العملي وعلى المستوى العلمي _ الفكري كذلك0

الاستقرار النفسي لجماعة الانتظار:

لعل أهم ما يميز أتباع أهل البيت عليهم السلام المتطلعون لانتظار اليوم الموعود هو حالة الاستقرار النفسي الذي يميزهم عن غيرهم.

ص: 149


1- بحار الأنوار: 52/ 122.

وهذا الاستقرار ناشئ من حالة الاطمئنان المنبعثة من التطلع إلى مستقبل مشرق ترتسم صورته في ذهنية المنتظِر _ بالكسر_ من خلال فلسفة الانتظار التي يدين بها إلى الله تعالى ، فحالات الإحباط الناشئة من ظروف سياسية تحيط بأتباع أهل البيت عليهم السلام لم تعد ذات أثر على مستقبل وجودهم، بل وحتى على ما يتطلع إليه هؤلاء الأتباع من بناء هيكلتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك ، وهذا راجع إلى ما تحمله فلسفة الانتظار من آمال تعقدها النفسية الشيعية على قيام دولة المنتظَر _ بالفتح _ فعلى المستوى الفردي يشعر الفرد وهو يعيش حالة الانتظار بالأمل الكبير في تحقق أهدافه تحت ظل الدولة المهدوية المباركة.

فالإحباطات النفسية لأسباب متعددة يمكن للفرد أن يتفاداها بما يعقده من آمال على تلك الدولة القادمة التي تبسط العدل والسلام في ربوع هذه الأرض المقهورة، فإذا لم يتحقق هدفه عاجلاً فإنّ مستقبله في الآجل سينجزه ذلك الإمام الموعود ، وبذلك فإنّ هذا الفرد سيكون في حالة أمل دائم وترقب متفاءل يصنع من خلاله غده السعيد ، وبذلك فإنّ الاستقرار النفسي الذي يعيشه المنتظِر هو إحدى خصوصياته، وهذا الاستقرار سيكون سبباً في الإبداع ومن ثم التكامل الذاتي.

أما على المستوى الجماعي فإنّ جماعة الانتظار تطمح إلى

ص: 150

تحقيق برامجها في ضوء الآمال المعقودة على ترقب الدولة المهدوية ، وهذه الجماعة تستشعر معايشة قائدها معها في كل الأحوال، وتقطع أن نجاح ما تصبو إليه يكون مرهوناً بتسديد هذا القائد الإلهي ورضاه، وهو مصداق قوله تعالى: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(1) ، قال الصادق عليه السلام : والمؤمنون هم الأئمة،(2) وهذا ما يناسبه سياق الآية.

ومن غريب ما فسرته بعض المذاهب الإسلامية أن المقصود من قوله تعالى : "و المؤمنون " هم جماعة المؤمنين، وهذا من غريب ما وقع به هؤلاء دفعاً لمحذور الاعتراف بمقامات الأئمة الأطهار عليهم السلام التي يقررها القرآن الكريم وتقتضيه شؤون خلافة الله في أرضه _ في بحث ليس هنا محل ذكره _، على أن الخطاب في الأمة للمؤمنين، فكيف يكون بعد ذلك قول الحكيم حكيماً حينما يكون المخاطب المكلف هو نفس الشاهد على عمله؟! وما إلى غير ذلك من خروقات الرؤية السياسية التي تتدخل في التفسير القرآني والحديث النبوي من أجل "استحصال " حالات التأييد لمواقفها المناهضة لأهل البيت عليهم السلام.

وعلى كل حال فإن نجاح جماعة الانتظار يكمن في تفاؤلها الطموح بقيام دولة الحق والعدل، وهي تسعى دائماً إلى9.

ص: 151


1- التوبة (9) : 105.
2- تفسير العياشي: 2/ 109.

صياغة أعمالها على أساس ذلك ، لذا فهي في حيوية دائمة غير مشلولة نتيجة الإحباطات السياسية المحيطة بجماعة الانتظار ، فضلاً عن أن هذه الجماعة تحقق نجاحها في خضم تحديات تواجهها دائماً.

وعلى هذا فأي نجاح مهما تكون درجته سيكون له معناه في ظل هذه التحديات وهو مكسب مهم وقضية خطيرة في ظل ذلك.

ومقابل هذا فإن أي تعثر في عمل هذه الجماعات سوف لن يسلمها إلى اليأس والتردد طالما هناك البديل الذي يحققه قيام الدولة المهدوية المباركة.

وعلى هذا الأساس فإن جماعة الانتظار تعيش دائماً طموحاتها الواقعية، متحدية بذلك الصعاب والإحباطات التي تواجهها في ظل ظروف تتكالب على هذه الجماعة سعياً لإنهائها وتصفيتها.

هذه الحالة من التفاؤل التي تعيشها جماعة الانتظار تبعث على الأمل في تحقيق برامجها وبناء حضارتها والسعي من أجل التكامل في كل الميادين.

من هنا علمنا دواعي العمل الدائم الحثيث لجماعة الانتظار، وأسباب نجاحها على كل الأصعدة بالرغم من كل ماعانته وتعانيه من ظروف قاهرة يصعب معها الإبداع، فضلاً عن البقاء، لولا ذلك الأمل الذي يحدو جماعة الانتظار.

ص: 152

وعلمنا في الوقت نفسه إمكانية تأسيس حضارة تعيش طموحاتها هذه الجماعة في ظل فلسفة الانتظار.

إلى جانب ذلك، يعيش الفرد البعيد عن حالة الانتظار حالات التوجس من الفشل وهاجس الخوف على مستقبله المجهول ، فأية قضية يواجهها هذا الفرد تودي بكل طموحاته وتشل قدراته، فهو يحاول أن يحقق مكسبه عاجلاً لغياب حوافز البديل فيما لو أخفق على صعيد عمله، فإن خسارته هذه ستكون فادحة فيما إذا هو أحس بعدم تعويضها بالبديل.

والانتظار حالة أملٍ وطيد يعيشه المنتظِر _ بالكسر_ فإذا غابت عن الإنسان هذه الرؤية فلابد أن تحيط ذاته هواجس الخوف، وبذلك سيكون مهزوماً دائماً، غير جدير بإمكانية مواجهة الصعاب والمحن التي تعصف به في كل حين من خلال ظروف عالميةِ متقلبة وإقليمية غير مستقرة، وبذلك فلم يكن مثل هذا الفرد جديراً في بناء حضارة أو السعي لتكامل ذاته وبناء شخصيته.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصوصيات حضارة الانتظار:

على أن ما يميز جماعة الانتظار هو حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الحالة تساعد على تمتين أواصر العلاقة بين أعضاء هذه الجماعة، إذ هي تشير إلى حالة الشعور بالمسؤولية دائماً اتجاه ذات الفرد ومن ثم اتجاه مجتمعه.

ص: 153

فملاحقة حالات الخرق للمجتمع الملتزم تتكفل إصلاحه قابلية أفراد المجتمع على متابعة المنكر المرتكب من قبل الأفراد أو الجماعات، لتقف بوجه الخطر الناشئ عن هذا الخرق المرتكب ، والمحافظة على حدود الشريعة بالتذكير الدائم والرقابة المستمرة لعدم تجاوز حيثيات الالتزام الديني.

ومن جهته يسعى هذا المجتمع بكل شرائحه وفصائله إلى تميتن العلاقة بينه وبين إقامة الواجبات الدينية، وكذلك المستحبات التي يرغب الشارع في مزاولتها من قبل المكلفين.

فإذا تمت هذه الحالات واستطاع المجتمع من المداومة عليها ورعاية حقوقها، أمكن لهذا المجتمع من بناء شخصيته الحضارية المتميزة بالأمن والسلام، وذلك بتجنب المنكر المنهي عنه من قبل أفراده، إضافة للعدل والمعروف بكل مصاديقه لعناية أفراد المجتمع بإتيانه والأمر به.

وهكذا سوف تكون لحضارة جماعة الانتظار حضورها الدائم وشخصيتها المتميزة.

فقد حث أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم على التزام هذه الفريضة وكونها إحدى ميزاتهم التي تركها غيرهم ولم يتحلوا بها، ثم بيّنوا ما لهذه الفريضة من آثار وضعية فضلاً عن إسقاط التكليف بالعمل بها وعدم العقوبة عند إتيانها.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبع

ص: 154

فيهم قوم مراؤون... إلى أن قال: ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عز وجل عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار ، والصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض ، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر ... الحديث.(1)

والحديث يبين أسس البناء الحضاري عند مراعاة الفريضة، فبها تقام الفرائض أي يشيّد مجتمع إسلامي تكون معالمه أحكام الشريعة، ويطبق من خلال ذلك النظام الإسلامي الذي يطمح إليه الجميع.

كما أنّ قوله عليه السلام: " وتأمن المذاهب" فإن استتباب الأمن والسلام مرهون بتطبيق هذه الفريضة.

وقوله عليه السلام : وتحل المكاسب، فإنّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم تشييد البنية الاقتصادية وهيكلة النظام المعاشي، وذلك من خلال استتباب الأمن وإمكانية تنشيط دور القطاعات العاملة والرساميل التي يمتلكها أصحابها.6.

ص: 155


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الباب 1 وجوب الأمر بالمعروف الحديث 6.

وقوله عليه السلام :" وترد المظالم " فإن الحقوق المدنية تتحقق في ظل نظام أمني مستقر، وبغياب ذلك لا يمكن القيام بأية مهمة من شأنها تحقيق ضمانة النظام الإنساني.

وقوله عليه السلام : و" تعمر الأرض " فإن الإصلاح الاقتصادي يمكن القيام به عندما يتعاهد ذلك نظام يحفظ الحقوق ويشجّع على استثمارات اقتصادية تتكفل بنظام اقتصادي رشيد، وإعمار الأرض لا يقتصر على استصلاحها زراعياً أو معدنياً ، فلعل ذلك إشارة إلى إصلاح الأرض وما عليها من نظام سكاني يلازم صلاحية الأرض لاحتواء التجمعات البشرية حينئذٍ.

وقوله عليه السلام : و" ينتصف من الأعداء" فإن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يستتب الأمن بسببهما يمكن من خلال ذلك إيجاد قوة دفاعية ترد كيد الأعداء ، أو هجومية تعين جماعة الانتظار على حفظ حقوقهم والحصول على مكاسبهم المشروعة اتجاه القوى الأخرى.

وقوله عليه السلام: " ويستقيم الأمر" فهو محصلة هذه الجهات التي يمكن تحققها في ظل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما أن اللهجة التي يستخدمها الأئمة عليهم السلام في مراعاة هذه الفريضة والوجوب بإتيانها لهجة تتعدى أسلوب الحث والترغيب إلى أسلوب الإنذار والتهديد، وحلول اللعنة التي يحذّر الإمام عليه السلام أتباعه

ص: 156

منها بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسلوب يشدده الأئمة عليهم السلام في استتباب هذه الفريضة بين جماعة الانتظار.

فعن محمد بن مسلم قال: كتب أبو عبد الله عليه السلام إلى الشيعة: ليعطفن ذوو السن منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنّكم لعنتي أجمعين.(1)

على أن من مهام التغيير هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك سبب في بناء حضاري وتكامل ذاتي.

فعن الحسن عن أبيه عن جده قال: كان يقال: لايحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره.(2)

فإنّ النزعة التغييرية لدى جماعة الانتظار مبنية على محاولة الإصلاح والارتباط بالله تعالى وتطبيق شريعته.

خصوصية العزة والكرامة ورفض الذل والهوان:

وإذا كانت جماعة الانتظار ترتبط بقيادتها المعصومة التي ستحقق لها آمالها ببسط العدل والسلام بقيام دولتها الموعودة، فإن لهذا الشعور الدائم آثاره في سلوكية هذه الجماعة، فهي تستشعر الأمل بتحقيق طموحاتها، وعندها فلا داعي للركون إلى الغير أو الشعور بحاجة الغير فهي في غنىً دائم عن الأخرين، لأنها ترتبط بقيادة تسحق بظهورها كل ظلم وطغيان.

ص: 157


1- وسائل الشيعة :كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الباب 1 وجوب الأمر بالمعروف الحديث 8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الباب 1 الأمر بالمعروف: الحديث 8.

وهذه الدواعي لدى جماعة الانتظار تدفعها إلى الإحساس بالنجاح والظفر على مدى مستقبل أطروحة الانتظار التي تحقق معها قيام دولة الحق، وهذه الدواعي تعزز لدى الأفراد منهم العزة والكرامة ورفض الذل والهوان بالركون إلى الأخرين. إذن فالانتظار يدعو إلى الأمل الدائم وتحقيق النصر والنجاح على كل المستويات. وهذا هو سبب استقلالية جماعة الانتظار وعدم لجوئها إلى غيرها، حيث تقررت شخصيتها من خلال ممارسة أسلوب الاعتماد على النفس من دون الخضوع إلى أطروحات الأخرين علمياً أو عملياً.

خاتمة في فضل الانتظار

تعرضت كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين عليهم السلام إلى فضيلة الانتظار.

ولعل هذه الأحاديث ليست على سبيل الحصر، بل ذكرها أهل البيت عليهم السلام كأجلى مصاديق الانتظار وأوضحها، وإلاّ ففضائل الانتظار أكثر من أن تحصى، ويكفيها قولهم عليهم السلام: أفضل العبادة انتظار الفرج، فإن أرقى ما يصل إليه الإنسان من تكامل ورقي روحي وعملي كذلك هو بلوغه أرقى مقامات القرب إلى الله تعالى الذي تحققه عبادته، فكيف إذا وصف

ص: 158

العمل بأنه أفضل العبادات؟ مما يعني أن الإنتظار يعد في أولوية حالات التكامل والنهوض بمستوى الفرد، ومن ثم مستوى المجتمع.

روى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم عليه السلام.(1)

وبنفس إسناده عن أبي الحسن عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عز وجل.(2)

وعن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله.(3)

وفي البحار عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : العبادة مع الإمام منكم المستتر في السر في دولة الباطل أفضل، أم العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟

فقال: يا عمار الصدقة في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل أفضل، لخوفكم من عدوّكم في دولة الباطل وحال الهدنة، ممن يعبد الله في ظهور الحق مع الإمام الظاهر في دولة الحق، وليس العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحق.ج.

ص: 159


1- إكمال الدين وإتمام النعمة:2/ 584 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة:2/ 584 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.
3- إكمال الدين وإتمام النعمة:2/584 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.

اعلموا أن من صلى منكم صلاة فريضة وحداناً مستتراً بها من عدوه في وقتها فأتمها كتب الله عز وجل له بها خمسة وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلى منكم صلاة نافلة في وقتها فأتمها كتب الله له بها عشرين حسنة، ويضاعف الله تعالى حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله، ودان الله بالتقية على دينه وعلى إمامه وعلى نفسه، وأمسك من لسانه، أضعافاً مضاعفة كثيرة، إن الله عز وجل كريم.

قال: فقلت: جعلت فداك رغبتني في العمل، وحثثتني عليه، ولكني أحب أن أعلم : كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ونحن وهم على دين واحد، وهو دين الله عز وجل؟

فقال: إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل فقه وخير، وإلى عبادة الله سراً من عدوكم مع الإمام المستتر ، مطيعون له، صابرون معه، منتظرون لدولة الحق، خائفون على إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة، قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى جذب الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم، وعبادتكم وطاعة ربكم والخوف من عدوكم، فبذلك ضاعف الله أعمالكم فهنيئاً لكم هنيئاً.

قال: فقلت: جعلت فداك فما نتمنى إذاً أن نكون من أصحاب القائم عليه السلام في ظهور الحق، و نحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أعمال أصحاب دولة الحق؟

ص: 160

فقال: سبحان الله أما تحبون أن يظهر الله عز وجل الحق والعدل في البلاد ويحسن حال عامة الناس ويجمع الله الكلمة ويؤلف بين القلوب المختلفة ولا يعصى الله في أرضه، ويقام حدود الله في خلقه، ويردّ الحق إلى أهله فيظهرون حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق؟

أما والله يا عمار لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها إلاّ كان أفضل عند الله عز وجل من كثير ممن شهد بدراً وأحداً فأبشروا.(1)

وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم ، قالوا: يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأحد وصفين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تحمّلوا ما حمّلوا لم تصبروا ما صبروا.(2)

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري عز وجل: عبادي آمنتم بسرّي وصدّقتم بغيبي ، فأبشروا بحسن الثواب مني فأنتم عبادي وإمائي حقاً، منكم أتقبّل وعنكم أعفو، ولكم أغفر ، وبكم أسقي عبادي الغيث، وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي.

ص: 161


1- بحار الأنوار: 52/ 127.
2- بحار الأنوار: 52/ 130.

قال جابر: فقلت يا ابن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان : قال حفظ اللسان ولزوم البيت.(1)

غيبة النعماني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال ذات يوم: ألا أخبركم بما لا يقبل الله عز وجل من العباد عملاً إلّا به؟ فقلت: بلى، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لهم _ يعني الأئمة خاصة _ والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم عليه السلام، ثم قال: إن لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء، ثم قال : من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر من أدركه فجدّوا وانتظروا ، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة.(2)

هذه هي أسس حضارة جماعة الانتظار، أمكننا قرائتها مما ورد من أحاديثهم صلوات الله عليهم والاهتمام بأمر الانتظار والحثّ عليه ومدح المنتظرين.

جعلنا الله من المنتظرين لأمرهم والمتمسّكين بولايتهم والثابتين على نهجهم، إنه سميع مجيب.

وصلى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين

ص: 162


1- بحار الأنوار: 52/ 145.
2- كتاب الغيبة للنعماني : 200.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.