الرجعة أو العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت

اشارة

المؤلف : مركز الرسالة.

المجموعة : من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية.

سنة الطبع : 1418.

مركز الرسالة.

سلسلة المعارف الإسلامية (12).

الرجعة أو العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت.

مركز الرسالة.

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة.

للناشر.

شابك (ردمك) 0 - 039 - 319 - 964.

0 - 039 - 319 - ISBN 964.

الكتاب: الرجعة أو العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت.

الناشر: مركز الرسالة.

الطبعة: الأولى / لسنة 1418 ه..

المطبعة: ستاره - قم.

الكمية: 2000 نسخة.

السعر: 1800 ريال.

إيران - قم - هاتف: 730021، فاكس: 730020.

، ص. ب: 737 / 37185.

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على الحبيب المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.

مما لا ريب فيه أن صحة الأحكام والعقائد تتوقف على ورودها في مصادر التشريع الإسلامي، سيما ما يتعلق منها بأنباء الغيب وحوادث المستقبل.

والرجعة التي تعد واحدة من أمور الغيب وأشراط الساعة، استدل الإمامية على صحة الاعتقاد بها بالأحاديث الصحيحة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله المعصومين (عليهم السلام) المروية في المصادر المعتبرة، فضلا عن إجماع الطائفة المحقة على ثبوتها حتى أصبحت من ضروريات المذهب عند جميع الأعلام المعروفين والمصنفين المشهورين، وهذان الدليلان من أهم ما استدل به الإمامية على صحة الاعتقاد بها.

كما استدلوا على إمكانها بالآيات القرآنية الدالة على رجوع أقوام من الأمم السابقة إلى الحياة الدنيا رغم خروجهم من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، كالذين خرجوا من ديارهم حذر الموت وهم ألوف، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، والذين أخذتهم الصاعقة، وأصحاب الكهف، وذي القرنين وغيرهم، أو الدالة على وقوعها في المستقبل إما نصا صريحا كقوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) * الدال على الحشر الخاص قبل يوم القيامة، أو بمعونة الأحاديث المعتمدة في تفسيرها كقوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *.

ويمكن أن يتجلى لنا الهدف من هذا الأمر الخارق الذي أخبر عنه أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام) إذا عرفنا أن العدل الإلهي واسع سعة الرحمة الإلهية ومطلق لا يحده زمان ولا مكان وأنه أصيل على أحداث الماضي

ص: 5

والحاضر والمستقبل، والرجعة نموذج رائع لتطبيق العدالة الإلهية، ذلك لأنها تعني أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات ممن محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فيديل المحقين من المبطلين عند قيام المهدي من آل محمد (عليهم السلام) وهو يوم الفتح الذي أخبر عنه تعالى بقوله: * (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) * وفيه يتحقق الوعد الإلهي بالنصر للأنبياء والمؤمنين * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) *.

ولقد اتخذت الرجعة وسيلة للطعن والتشنيع على مذهب الإمامية حتى عدها بعض المخالفين من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، مع أن الدليل على إمكانها وارد في الكتاب الكريم بصريح العبارة وبما لا يقبل التأويل أو الحمل، ومع أنها من أشراط الساعة كنزول عيسى (عليه السلام) وظهور الدجال وخروج السفياني وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين ولا يترتب على اعتقادهم بها أدنى إنكار لأي حكم ضروري من أحكام الإسلام، وفوق ذلك أن الرجعة دليل على القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشور، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة كبرى لنبينا وآل بيته المعصومين (عليهم السلام).

فمن أجل توضيح مباني هذا الاعتقاد وإزالة اللبس الذي يعتري أذهان البعض حوله، قام مركزنا بإصدار هذه الدراسة التي تحتوي على ستة فصول تلم بأطراف الموضوع تعريفا وأدلة وأحكاما باعتماد ما ورد في الكتاب العزيز والأحاديث المستفيضة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، نسأل الله تعالى أن ينفع بها.

إنه ولي التوفيق مركز الرسالة

ص: 6

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على الحبيب المصطفى الأمين وآله الهداة الميامين وصحبهم المتقين.

وبعد:

إن أنباء الغيب وحوادث المستقبل وما سيقع من الفتن والملاحم وعلامات الظهور وأشراط الساعة وغيرها تعد من المسائل التي أولاها المحدثون أهمية خاصة، ذلك لأن الكتاب الكريم والسنة المباركة يدلان على أن الموت ليس هو النتيجة النهائية لرحلة الروح والبدن في هذا الكون، بل هو نافذة تطل على حياة جديدة وعوالم مختلفة * (أيحسب الانسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * (1).

روى سعد بن عبد الله الأشعري بالإسناد عن بريدة الأسلمي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كيف أنت إذا استيأست أمتي من المهدي، فيأتيها مثل قرن الشمس، يستبشر به أهل السماء وأهل الأرض؟ فقلت: يا رسول الله بعد الموت؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): والله إن بعد الموت هدى وإيمانا ونورا. قلت:

ص: 7


1- (1) سورة القيامة 75: 36 - 40.

يا رسول الله، أي العمرين أطول؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الآخر بالضعف) (1).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (أيها الناس، إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنكم من دار إلى دار تنقلون، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه) (2).

إن اعتقادنا بعودة بعض الناس إلى الحياة بعد الموت لم يكن اعتباطيا، وإنما كان تبعا للآثار الصحيحة المتواترة التي حفلت بها كتب أصحابنا، واحتلت مساحة واسعة من أحاديث النبي وعترته الطاهرة (عليهم السلام) الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وعلى هذا إجماعهم، وإجماعهم حجة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (3).

وقد دل الكتاب الكريم على الحشر الخاص قبل يوم القيامة، وهو عودة بعض الأموات إلى الحياة في قوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) * (4) كما دل على الحشر العام بعد نفخة النشور في نفس السورة بقوله: * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) * إلى قوله تعالى: * (وكل أتوه داخرين) * (5)

ص: 8


1- (1) بحار الأنوار، للمجلسي 53: 65 / 56 المكتبة الإسلامية - طهران.
2- (2) الإرشاد، للمفيد 1: 338 تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) - قم.
3- (3) سنن الترمذي - كتاب المناقب: 663 / 3786 و 3788 تحقيق أحمد محمد شاكر - دار إحياء التراث العربي. ومستدرك الحاكم 3: 148 حيدرآباد - الهند.
4- (4) سورة النمل 27: 83.
5- (5) سورة النمل 27: 87.

ويستفاد من مجموع الآيتين أن يوم الحشر الخاص هو غير يوم النفخ والنشور الذي يحشر فيه الناس جميعا، وبما أنه ليس ثمة حشر بعد يوم القيامة بدليل الكتاب والسنة، فلا بد أن يكون الحشر الخاص واقعا قبل يوم القيامة، فهو إذن من العلامات الواقعة بين يدي الساعة، كظهور الدجال وخروج السفياني ونزول عيسى من السماء وطلوع الشمس من مغربها وغيرها من الأشراط المدلولة بالكتاب والسنة.

كما دل الكتاب الكريم على رجعة بعض الناس في الأمم السابقة إلى الحياة بعد الموت في عدة آيات صريحة لا تقبل التأويل، منها قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (1) وهو يدل على إمكان الرجعة في هذه الأمة أيضا لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم) (2).

وملخص الاعتقاد بالرجعة هو أن الله تعالى يعيد في آخر الزمان طائفة من الأموات إلى الدنيا ممن محضوا الإيمان محضا أو محضوا الكفر محضا، فينتصر لأهل الحق من أهل الباطل، وعلى هذا إجماع الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وقد علم دخول المعصوم في هذا الاجماع بورود الأحاديث المتواترة عن النبي وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) الدالة على اعتقادهم بصحة الرجعة.

إن الاعتقاد بالرجعة على ما جاء في الروايات عن آل البيت (عليهم السلام) من

ص: 9


1- (1) سورة البقرة 2: 243.
2- (2) كنز العمال، للمتقي الهندي 11: 134 / 30924 مؤسسة الرسالة.

ضروريات المذهب الشيعي، وقد بحث العلماء عن حكم من أنكر شيئا من الضروريات - من أتباع المذهب أو سائر من نطق بالشهادتين - في الكتب المتعلقة بهذا الشأن، الأمر الذي لسنا الآن بصدد التحقيق عنه في هذه الرسالة.

والاعتقاد بالرجعة من مظاهر الإيمان بالقدرة الإلهية، فقد روي أن ابن الكواء الخارجي سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الرجعة - في حديث طويل - قال (عليه السلام) في آخره: (لا تشكن يا بن الكواء في قدرة الله عز وجل) (1).

وسأل أبو الصباح الإمام الباقر عن الرجعة، فقال (عليه السلام): (تلك القدرة، ولا ينكرها إلا القدرية، تلك القدرة فلا تنكرها) (2) وبمثل ذلك أجاب (عليه السلام) عبد الرحمن القصير (3).

إن من يعتقد بأن الله تعالى هو الذي برأ الخلق من العدم إلى حيز الوجود كيف يشك ويتردد في أنه يعجزه إعادتهم! ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر، قال تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (4).

ص: 10


1- (1) بحار الأنوار 53: 74.
2- (2) المصدر السابق: 72 / 71.
3- (3) المصدر السابق: 74 / 73.
4- (4) سورة يس 36: 78 - 82.

هذه هي الرجعة التي كثرت التهويلات والتشنيعات على المعتقدين بها حتى عدوها أسطورة وقولا بالتناسخ، وأن معتقدها خارج عن الإسلام والدين، وأنها من مفتريات عبد الله بن سبأ، وما إلى ذلك من التشدق على مدرسة الإسلام الأصيل، إننا لا نعطي الحق لمن لا يؤمن برجعة بعض الأموات إلى الحياة الدنيا بعد الموت لعدم ثبوته عنده، بل عليه أن يبحث ويسأل أهل الذكر وليس من حقه أن يشنع على من يقول بذلك لتواتر الأحاديث وثبوت النصوص عنده، إذ لا حجة للجاهل على العالم.

ويحق لنا في هذا المقام أن نسأل المنكرين لأنباء الغيب وما يقع في المستقبل، ما الدليل على زعمكم أنه لا يوجد ثمة عودة إلى الحياة بعد الموت؟ وما الحجة التي تعزز ما تذهبون إليه؟ هل تخلل أحد منكم في آفاق المستقبل، وسبر أغوارها، ووقف على حقيقة الأمر ثم عاد وأخبر أنه لم يجد شيئا مما أخبر به القرآن الكريم والعترة النبوية الطاهرة (عليهم السلام)؟ في هذا البحث سنحاول تسليط الضوء على تعريف الرجعة وفقا لما ورد عن أئمة الإمامية وعلمائهم، ونسوق الأدلة التي احتجوا بها لإثبات صحة الاعتقاد بها من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والاجماع وغيرها من القرائن المختلفة، ونبين أيضا الهدف منها وحكم منكريها، وجملة من احتجاجات العلماء وردودهم على الاشكالات المطروحة حول هذا الموضوع وغيرها إن شاء الله تعالى.

ولله الأمر من قبل ومن بعد

ص: 11

ص: 12

الفصل الأول: تعريف الرجعة

الرجعة في اللغة:

العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت.

قال الجوهري والفيروزآبادي: فلان يؤمن بالرجعة، أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت (1).

ويطلق على الرجعة الكرة أيضا، وهو من الألفاظ المرادفة لها، قال الجوهري: الكر: الرجوع، يقال: كره وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى (2).

وفي حديث أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (وإني لصاحب الكرات ودولة الدول) (3). وجاء في زيارته (عليه السلام): (السلام عليك يا صاحب الكرة والرجعة) (4).

ص: 13


1- (1) الصحاح 3: 1216. والقاموس المحيط 3: 28.
2- (2) الصحاح 2: 805.
3- (3) الكافي 1: 198 / 3 باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم أركان الأرض - دار الكتب الإسلامية.
4- (4) بحار الأنوار 100: 349.

الرجعة عند الشيعة الإمامية:

إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما جاء عن آل البيت (عليهم السلام)، هو نفس المعنى المحقق في اللغة، وهو أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين، والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام) الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، ولذلك تعد الرجعة مظهرا يتجلى فيه مقتضى العدل الإلهي بعقاب المجرمين على نفس الأرض التي ملأوها ظلما وعدوانا.

ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور، وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع، فنالوا مقت الله، أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (1) ولكن أنى لهم ذلك وهم في عذاب مقيم؟

ص: 14


1- (1) عقائد الإمامية، للمظفر: 108 تحقيق مؤسسة البعثة. والآية من سورة غافر 40: 11.

الفصل الثاني: إمكان الرجعة وأدلتها

إمكان الرجعة:

إن الرجعة من نوع البعث والمعاد الجسماني، غير أنها بعث موقوت في الدنيا ومحدود كما وكيفا، ويحدث قبل يوم القيامة، بينما يبعث الناس جميعا يوم القيامة ليلاقوا حسابهم ويبدأوا حياتهم الخالدة، وأهوال يوم القيامة أعجب وأغرب وأمرها أعظم من الرجعة.

وبما أن الرجعة والمعاد ظاهرتان متماثلتان من حيث النوع، فالدليل على إمكان المعاد يمكن أن يقام دليلا على إمكان الرجعة، والاعتراف بإمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة يترتب عليه الاعتراف بإمكان الرجعة في حياتنا الدنيوية، ولا ريب أن جميع المسلمين يعتبرون الإيمان بالمعاد من أصول عقيدتهم، إذن فجميعهم يذعنون بإمكانية الرجعة.

يقول السيد المرتضى (قدس سره): إعلم أن الذي يقوله الإمامية في الرجعة لا خلاف بين المسلمين - بل بين الموحدين - في جوازه، وأنه مقدور لله تعالى، وإنما الخلاف بينهم في أنه يوجد لا محالة أوليس كذلك.

ص: 15

ولا يخالف في صحة رجعة الأموات إلا خارج عن أقوال أهل التوحيد، لأن الله تعالى قادر على إيجاد الجواهر بعد إعدامها، وإذا كان عليها قادرا، جاز أن يوجدها متى شاء (1).

فإذا كان إمكان الرجعة أمرا مسلما به عند جميع المسلمين - حتى قال الآلوسي: وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان، إلا أن الكلام في وقوعه (2) -.

إذن فلماذا الشك والاستغراب لوقوع الرجعة؟ ولماذا التشنيع والنبز بمن يعتقد بها لورود الأخبار الصحيحة المتواترة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بوقوعها؟ يقول الشيخ محمد رضا المظفر: (لا سبب لاستغراب الرجعة إلا أنها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقر بها إلى اعترافنا أو يبعدها، وخيال الانسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول: * (من يحيي العظام وهي رميم) * فيقال له: * (يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * (3).

نعم في مثل ذلك، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته، أو نتخيل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات، كمعجزة عيسى (عليه السلام) في إحياء الموتى

ص: 16


1- (1) رسائل الشريف المرتضى 3: 135 - الدمشقيات - دار القرآن الكريم - قم.
2- (2) روح المعاني 20: 27 دار إحياء التراث العربي - بيروت.
3- (3) سورة يس 36: 78 - 79.

* (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) * (1) وكقوله تعالى:

* (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه) *) (2).

يضاف إلى ذلك أن نفوس الظالمين تأبى إقامة العدل وإحقاق الحق لما اقترفته أيديهم الآثمة من الظلم والجور والمنكرات، والرجعة تنطوي على أمر يحقق العدالة الإلهية في أرض الواقع بانتصاف الظالم من المظلوم وإدالة أهل الحق من أهل الباطل، ولهذه العلة أبت نفوس المكابرين من أهل الجاهلية الاعتقاد بالمعاد والنشور رغم أنهم عاينوا المعجزات وضربت لهم الأمثال الواضحة وأقيمت لهم الدلائل البينة والبراهين الساطعة، لأن قبول هذا الاعتقاد يعني الانصياع للحق والعدل بالوقوف أمام المحكمة الإلهية الكبرى * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * (3).

أدلة الرجعة:

أورد الحر العاملي في الباب الثاني من كتابه (الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) اثني عشر دليلا على صحة الاعتقاد بالرجعة، وأهم ما استدل به الإمامية على ذلك هو الأحاديث الكثيرة المتواترة عن النبي والأئمة (عليهم السلام) المروية في الكتب المعتمدة، وإجماع الطائفة المحقة على ثبوت الرجعة حتى أصبحت من ضروريات مذهب الإمامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنفين المشهورين، كما استدلوا أيضا

ص: 17


1- (1) سورة آل عمران 3: 49.
2- (2) عقائد الإمامية، للشيخ المظفر: 111 - 112. والآية من سورة البقرة 2: 259.
3- (3) سورة النور 24: 24.

بالآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في الأمم السابقة، أو الدالة على وقوعها في المستقبل إما نصا صريحا أو بمعونة الأحاديث المعتمدة الواردة في تفسيرها، وفيما يلي نسوق خمسة أدلة نبدأها بالأدلة القرآنية:

أولا: وقوعها في الأمم السابقة:

لقد حدثنا القرآن الكريم بصريح العبارة وبما لا يقبل التأويل أو الحمل عن رجوع أقوام من الأمم السابقة إلى الحياة الدنيا رغم ما عرف وثبت من موتهم وخروجهم من الحياة إلى عالم الموتى، فإذا جاز حدوثها في الأزمنة الغابرة، فلم لا يجوز حدوثها مستقبلا: * (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) * (1).

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن الحسن بن الجهم، قال: قال المأمون للرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن، ما تقول في الرجعة؟ فقال (عليه السلام): (إنها الحق، قد كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم (عليه السلام) فصلى خلفه، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ثم يكون ماذا؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ثم يرجع الحق إلى أهله) (2).

وفيما يلي نقرأ ونتأمل الآيات الدالة على إحياء الموتى وحدوث

ص: 18


1- (1) سورة الأحزاب 33: 62.
2- (2) بحار الأنوار 53: 59 / 45.

الرجعة في الأمم السابقة:

إحياء قوم من بني إسرائيل:

قال تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * (1).

فجميع الروايات الواردة في تفسير هذه الآية المباركة تدل على أن هؤلاء ماتوا مدة طويلة، ثم أحياهم الله تعالى، فرجعوا إلى الدنيا، وعاشوا مدة طويلة.

قال الشيخ الصدوق: كان هؤلاء سبعين ألف بيت، وكان يقع فيهم الطاعون كل سنة، فيخرج الأغنياء لقوتهم، ويبقى الفقراء لضعفهم، فيقل الطاعون في الذين يخرجون، ويكثر في الذين يقيمون، فيقول الذين يقيمون: لو خرجنا لما أصابنا الطاعون، ويقول الذين خرجوا، لو أقمنا لأصابنا كما أصابهم.

فأجمعوا على أن يخرجوا جميعا من ديارهم إذا كان وقت الطاعون، فخرجوا بأجمعهم، فنزلوا على شط البحر، فلما وضعوا رحالهم ناداهم الله: موتوا، فماتوا جميعا، فكنستهم المارة عن الطريق، فبقوا بذلك ما شاء الله.

ثم مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا (2)، فقال: لو شئت

ص: 19


1- (1) سورة البقرة 2: 243.
2- (2) في رواية الشيخ الكليني في الكافي 8: 170 / 237 عن الإمام الباقر (عليه السلام) ورواية السيوطي عن السدي عن أبي مالك وغيره: يقال له حزقيل.

يا رب لأحييتهم، فيعمروا بلادك، ويلدوا عبادك، ويعبدوك مع من يعبدك، فأوحى الله تعالى إليه: أفتحب أن أحييهم لك؟ قال: نعم.

فأحياهم الله تعالى وبعثهم معه، فهؤلاء ماتوا، ورجعوا إلى الدنيا، ثم ماتوا بآجالهم (1).

فهذه رجعة إلى الحياة الدنيا بعد الموت، وقد سأل حمران بن أعين الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن هؤلاء، قائلا: أحياهم حتى نظر الناس إليهم، ثم أماتهم من يومهم، أو ردهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور، وأكلوا الطعام، ونكحوا النساء؟ قال (عليه السلام): (بل ردهم الله حتى سكنوا الدور، وأكلوا الطعام، ونكحوا النساء، ولبثوا بذلك ما شاء الله، ثم ماتوا بآجالهم) (2).

إحياء عزير أو أرميا:

قال تعالى: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) * (3).

ص: 20


1- (1) الاعتقادات، للصدوق: 60 نشر مؤتمر الذكرى الألفية للشيخ المفيد. والدر المنثور، للسيوطي 1: 741 - 743 دار الفكر - بيروت.
2- (2) تفسير العياشي 1: 130 / 433 المكتبة العلمية - طهران.
3- (3) سورة البقرة 2: 259.

لقد اختلفت الروايات والتفاسير في تحديد هذا الذي مر على قرية، لكنها متفقة على أنه مات مائة سنة ورجع إلى الدنيا وبقي فيها، ثم مات بأجله، فهذه رجعة إلى الحياة الدنيا.

قال الطبرسي: الذي مر على قرية هو عزير، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل: هو أرميا، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) (1).

وروى العياشي بالإسناد عن إبراهيم بن محمد، قال: ذكر جماعة من أهل العلم أن ابن الكواء الخارجي قال لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال (عليه السلام): (نعم، أولئك ولد عزير، حيث مر على قرية خربة، وقد جاء من ضيعة له، تحته حمار، ومعه شنة فيها تين، وكوز فيه عصير، فمر على قرية خربة، فقال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) * فتوالد ولده وتناسلوا، ثم بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فيه، فأولئك ولده أكبر من أبيهم) (2).

إحياء سبعين رجلا من قوم موسى (عليه السلام):

قال تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * (3).

هاتان الآيتان تتحدثان عن قصة المختارين من قوم موسى (عليه السلام) لميقات

ص: 21


1- (1) مجمع البيان، للطبرسي 2: 639 دار المعرفة - بيروت.
2- (2) تفسير العياشي 1: 141 / 468 المكتبة العلمية - طهران.
3- (3) سورة البقرة 2: 55 - 56.

ربه، وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله تعالى قالوا: لا نصدق به حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى (عليه السلام): (يا رب، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم) فأحياهم الله له، فرجعوا إلى الدنيا، فأكلوا وشربوا، ونكحوا النساء، وولد لهم الأولاد، ثم ماتوا بآجالهم (1).

فهذه رجعة أخرى إلى الحياة الدنيا بعد الموت لسبعين رجلا من بني إسرائيل، قال تعالى: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * (2).

المسيح (عليه السلام) يحيي الموتى:

ذكر في القرآن الكريم في غير مورد إحياء المسيح للموتى، قال تعالى لعيسى (عليه السلام): * (وإذ تخرج الموتى بإذني) * (3)، وقال تعالى حاكيا عنه:

* (وأحيي الموتى بإذن الله) * (4).

فكان بعض الموتى الذين أحياهم عيسى (عليه السلام) بإذن الله تعالى قد رجعوا إلى الدنيا وبقوا فيها ثم ماتوا بآجالهم (5).

ص: 22


1- (1) الاعتقادات، للصدوق: 61.
2- (2) سورة الأعراف 7: 155.
3- (3) سورة المائدة 5: 110.
4- (4) سورة آل عمران 3: 49.
5- (5) الكافي 8: 337 / 532. وتفسير العياشي 1: 174 / 51.

إحياء أصحاب الكهف:

هؤلاء كانوا فتية آمنوا بالله تعالى، وكانوا يكتمون إيمانهم خوفا من ملكهم الذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من يخالفه، ثم اتفق أنهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم، ولجأوا إلى الكهف * (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) * (1) ثم بعثهم الله فرجعوا إلى الدنيا ليتساءلوا بينهم وقصتهم معروفة.

فإن قال قائل: إن الله عز وجل قال: * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) * (2) وليسوا موتى. قيل له: رقود يعني موتى، قال تعالى: * (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * (3)، ومثل هذا كثير (4).

وروى يوسف بن يحيى المقدسي الشافعي في (عقد الدرر) عن الثعلبي في تفسيره في قصة أصحاب الكهف، قال: (وأخذوا مضاجعهم، فصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي (عليه السلام)، يقال: إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله عز وجل) (5)، وهو يدل على رجعتهم في آخر الزمان.

ص: 23


1- (1) سورة الكهف 18: 25.
2- (2) سورة الكهف 18: 18.
3- (3) سورة يس 36: 51 - 52.
4- (4) راجع الاعتقادات، للصدوق: 62.
5- (5) عقد الدرر: 192 نشر دار النصايح - قم.

إحياء قتيل بني إسرائيل:

روى المفسرون أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له غنيا ليرثه وأخفى قتله له، فرغب اليهود في معرفة قاتله، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة، ليحيا ويخبر عن قاتله، وبعد جدال ونزاع قاموا بذبح البقرة، ثم ضربوا بعض القتيل بها، فقام حيا وأوداجه تشخب دما وأخبر عن قاتله، قال تعالى * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) * (1).

إحياء الطيور لإبراهيم (عليه السلام) بإذن الله:

ذكر المفسرون أن إبراهيم (عليه السلام) رأى جيفة تمزقها السباع، فيأكل منها سباع البر وسباع البحر، فسأل الله سبحانه قائلا (يا رب، قد علمت أنك تجمعها في بطون السباع والطير ودواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك)؟ قال سبحانه: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) * (2).

فأخذ طيورا مختلفة الأجناس، قيل: إنها الطاووس والديك والحمام والغراب، فقطعها وخلط ريشها بدمها، ثم فرقها على عشرة جبال، ثم أخذ بمناقيرها ودعاها باسمه سبحانه فأتته سعيا، فكانت تجتمع ويأتلف

ص: 24


1- (1) سورة البقرة 2: 73. وراجع قصص الأنبياء، للثعلبي: 204 - 207 المكتبة الثقافية - بيروت.
2- (2) سورة البقرة 2: 260.

لحم كل واحد وعظمه إلى رأسه، حتى قامت أحياء بين يديه (1).

إحياء ذي القرنين:

اختلف في ذي القرنين فقيل: إنه نبي مبعوث فتح الله على يديه الأرض، عن مجاهد وعبد الله بن عمر. وقيل: إنه كان ملكا عادلا.

وروي بالإسناد عن أبي الطفيل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (إنه كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه، قد أمر قومه بتقوى الله، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله، فضربوه على قرنه الآخر فمات، فسمي ذا القرنين). قال (عليه السلام):

(وفيكم مثله) (2) يعني نفسه (عليه السلام) (3).

وفي رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن ذا القرنين بعثه الله إلى قومه، فضربوه على قرنه الأيمن، فأماته الله خمسمائة عام ثم بعثه إليهم بعد ذلك، فضربوه على قرنه الأيسر، فأماته الله خمسمائة عام ثم بعثه إليهم بعد ذلك، فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب) (4).

إحياء أهل أيوب (عليه السلام):

قال تعالى: * (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) * قال ابن عباس وابن مسعود:

رد الله سبحانه عليه أهله ومواشيه وأعطاه مثلها معها. وبه قال الحسن

ص: 25


1- (1) راجع تفسير القمي 1: 91. وتفسير العياشي 1: 142 / 469.
2- (2) تفسير الطبري 16: 8 دار المعرفة - بيروت.
3- (3) تفسير الطبرسي 6: 756 دار المعرفة - بيروت.
4- (4) تفسير القمي 2: 40.

وقتادة وكعب، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1).

هذه الحالات جميعا تشير إلى الرجوع للحياة بعد الموت في الأمم السابقة، وقد وقعت في أدوار وأمكنة مختلفة، ولأغراض مختلفة، ولأشخاص تجد فيهم الأنبياء والأوصياء والرعية، وهي دليل لا ينازع فيه على نفي استحالة عودة الأموات إلى الحياة الدنيا بعد الموت.

وهنا من حقنا أن نتساءل: ما المانع من حدوث ذلك في المستقبل لغرض لعله أسمى من جميع الأغراض التي حدثت لأجلها الرجعات السابقة؟ ألا وهو تحقيق مواعيد النبوات وأهداف الرسالات في نشر مبادئ العدالة وتطبيق موازين الحق على أرض دنستها يد الجناة والظلمة، وأشبعتها ظلما وجورا حتى عادت لا تطاق * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (2) وقال تعالى:

* (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) *.

ويعزز الدليل على حدوث الرجعة في المستقبل كما حدثت في الأمم الغابرة ما روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قالوا:

اليهود والنصارى؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فمن) (3).

ص: 26


1- (1) تفسير الطبرسي 7: 94. وتفسير الطبري 17: 58. وقصص الأنبياء، للثعلبي: 144. والآية من سورة الأنبياء 21: 84.
2- (2) سورة الأنبياء 21: 105.
3- (3) كنز العمال، للمتقي الهندي 11: 133 / 30923. وروى نحوه الشيخ الصدوق في كمال الدين: 576 جماعة المدرسين - قم.

ثانيا: الآيات الدالة على وقوعها قبل القيامة:

أولا: قوله تعالى: * (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون * ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون) * (1) إلى قوله تعالى: * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين) * (2).

من أمعن النظر في سياق الآيات المباركة وما قيل حولها من تفسير، يلاحظ أن هناك ثلاثة أحداث مهمة تدل عليها، وهي بمجموعها تدل على علامات تقع بين يدي الساعة وهي:

1 - إخراج دابة من الأرض: * (أخرجنا لهم دابة من الأرض) *.

2 - الحشر الخاص: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) *.

3 - نفخة النشور ثم القيامة: * (ويوم ينفخ في الصور... وكل أتوه داخرين) *، وسوف نتحدث عما في تلك الآيات من دلالة واضحة على الاعتقاد بالرجعة وعلى النحو الآتي:

فالآية الأولى تتعلق بالوقائع التي تحدث قبل يوم القيامة باتفاق المفسرين، ويدل عليه أيضا ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن بين يدي الساعة الدجال والدابة ويأجوج

ص: 27


1- (1) سورة النمل 27: 82 - 84.
2- (2) سورة النمل 27: 87.

ومأجوج والدخان وطلوع الشمس من مغربها) (1).

وروى البغوي عن طريق مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى) (2).

ما هي دابة الأرض؟

الدابة تطلق في اللغة على كل ما يدب ويتحرك على وجه الأرض من الانسان والحيوان وغيره، قال تعالى: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (3)، وقال تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة) * (4).

وخصصت في بعض آي القرآن بالإنسان، كقوله تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * (5)، وفي بعض آخر بغير الانسان، كقوله تعالى: * (والدواب وكثير من الناس) * (6)، وقوله تعالى:

* (ومن الناس والدواب) * (7).

وقد ذكرت الدابة التي في قوله تعالى: * (دابة من الأرض) * بشكل

ص: 28


1- (1) الدر المنثور، للسيوطي 6: 380.
2- (2) مسند أحمد 2: 201 دار الفكر. ونظم الدرر، للبقاعي 5: 451 دار الكتب العلمية.
3- (3) سورة هود 11: 6.
4- (4) سورة النحل 16: 61.
5- (5) سورة الأنفال 8: 22.
6- (6) سورة الحج 22: 18.
7- (7) سورة فاطر 35: 28.

مجمل، والوصف القرآني الوحيد المذكور لها بأنها تكلم الناس، أما سائر أحوالها وخصوصياتها وكيفية ومكان خروجها، فإنها مبهمة في ظهر الغيب ولا يفصح عنها إلا المستقبل.

والروايات الواردة بشأن تفسير هذه الآية كثيرة، ولا دلالة من الكتاب الكريم على شئ منها، فإن صح الخبر فيها عن الرسول الأكرم وآله (عليهم السلام) قبلت، وإلا لم يلتفت إليها، ويمكن تلخيص مضمون هذه الروايات في نقطتين:

1 - إن طائفة منها تدل على أن هذه الدابة كائن حي غير معروف ومن غير جنس الانسان، ولها شكل مخيف، فهي ذات وبر وريش ومؤلفة من كل لون، ولها أربع قوائم، ولها عنق مشرف يبلغ السحاب، ويراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب، تخرج في آخر الزمان من الصفا ليلة منى، وقيل: من جبل جياد في أيام التشريق، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، وتحدث الناس عن الإيمان والكفر، وتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر.

2 - والطائفة الثانية تدل على أن وجهها كوجه انسان وجسمها كجسم الطير، وأنها تصرخ بأعلى صوتها بلسان عربي مبين: * (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) * وأن معها عصا موسى وخاتم سليمان، وتميز بهما بين المؤمنين والكافرين، فتنكت وجه المؤمن بالخاتم فتكون في وجهه نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة حتى يضئ لها وجهه، وتنكت أنف الكافر بالعصا فتكون في وجهه نكتة سوداء فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها

ص: 29

وجهه (1).

وفي بعض الروايات ما يدل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو مصداق لهذه الآية، فقد روي بالإسناد عن سفيان بن عيينة، عن جابر بن يزيد الجعفي، أنه قال: دابة الأرض علي (قدس سره) (2).

وروى الشيخ الكليني بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): وإني لصاحب الكرات ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس) (3).

وروى الشيخ علي بن إبراهيم بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال:

(قال رجل لعمار بن ياسر، يا أبا اليقظان، آية في كتاب الله قد أفسدت قلبي وشككتني. قال عمار: أية آية هي؟ قال: * (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) * فأية دابة هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل تمرا وزبدا، فقال: يا أبا اليقظان، هلم، فجلس عمار، وأقبل يأكل معه، فتعجب الرجل منه، فلما قام قال له الرجل: سبحان الله يا أبا اليقظان، حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب

ص: 30


1- (1) مجمع البيان، للطبرسي 7: 366. وتفسير القرطبي 13: 237. والدر المنثور 6: 378. وروح المعاني، للآلوسي 20: 21. وتفسير الرازي 24: 217. وتفسير ابن كثير 3: 387. والآية من سورة النمل 27: 82.
2- (2) ميزان الاعتدال، للذهبي 1: 384 دار المعرفة.
3- (3) الكافي 1: 198 / 3 باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم أركان الأرض.

ولا تجلس حتى ترينيها. قال عمار: قد أريتكها، إن كنت تعقل) (1).

وروي أيضا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو نائم في المسجد، وقد جمع رملا ووضع رأسه عليه، فحركه ثم قال له: قم يا دابة الأرض.

فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا والله، ما هو إلا له خاصة، وهو الدابة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: * (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض) *) (2).

وروي عن الأصبغ بن نباتة، قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل خبزا وخلا وزيتا، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال الله عز وجل: * (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) * الآية، فما هذه الدابة؟ قال (عليه السلام): (هي دابة تأكل خبزا وخلا وزيتا) (3).

ويقول أبو الفتوح الرازي في تفسيره: طبقا للأخبار التي جاءتنا عن طريق الأصحاب، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي صاحب الزمان (عليه السلام) (4).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة، يمكن

ص: 31


1- (1) تفسير القمي 2: 131. ومجمع البيان 7: 366.
2- (2) تفسير القمي 2: 130. وتفسير البرهان، للبحراني 4: 228 / 8043 تحقيق مؤسسة البعثة.
3- (3) تأويل الآيات، للسيد شرف الدين 1: 404 / 109. والرجعة، للأسترآبادي: 166 / 95 دار الاعتصام.
4- (4) تفسير الأمثل، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 12: 129 مؤسسة البعثة - بيروت. عن تفسير أبي الفتوح 8: 423.

أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ينطبق على أي إمام عظيم يرجع في آخر الزمان، ويميز الحق عن الباطل والمؤمن من الكافر، وهو آية من آيات عظمة الخالق.

والتعبير الوارد في الروايات المتقدمة بأن معه عصا موسى التي ترمز إلى القوة والاعجاز، وخاتم سليمان الذي يرمز إلى الحكومة الإلهية، قرينة على كون الدابة انسانا مسددا بالقدرة الإلهية العظيمة بحيث يكون آية للناس، إضافة إلى ذلك فإن قوله تعالى: * (تكلمهم) * يساعد على هذا المعنى.

الحشر الخاص، قوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) *.

سبق أن بينا أن الآية الأولى * (أخرجنا لهم دابة من الأرض) * تتعلق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة، وذلك باتفاق المفسرين، وعليه تكون آية الحشر الخاص * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) * مكملة لها ومرتبطة بها من حيث التسلسل الزمني للأحداث فضلا عن سياق الآيات وترتيبها، فقد وقعت آية الحشر الخاص بين علامتين من العلامات التي تقع قبيل الساعة وهي الدابة والنفخة * (ويوم ينفخ في الصور) * مما يدل على أن الحشر الخاص يقع قبل القيامة وأنه من علاماتها، وعبر تعالى عن الحشر العام بعد نفخة النشور بقوله: * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض... وكل أتوه داخرين) *، إذن فهناك حشران حشر يجمع فيه من كل أمة فوجا وهو الرجعة، وحشر يشمل الناس جميعا وهو يوم القيامة، وبما أنه ليس ثمة حشر بعد القيامة إجماعا فيتعين وقوع هذا الحشر بين يدي القيامة.

ص: 32

وبعبارة أخرى أن ما يدل على منافاة الحشر الخاص ليوم القيامة، هو أن هذه الآية تدل على حشر فوج من كل أمة من أمم البشرية ممن كان يكذب بآيات الله، و * (من) * في قوله تعالى * (من كل أمة) * تفيد التبعيض، وهذا يعني الاستثناء، وقد دلنا الكتاب الكريم في آيات عديدة على أن حشر القيامة لا يختص بقوم دون آخرين، ولا بجماعة دون أخرى، بل يشمل الجميع دون استثناء * (ويوم يحشرهم جميعا) * (1)، فطالما حصل الاستثناء فإن ذلك لا يتعلق بأحداث يوم القيامة الذي ينهي الحياة برمتها على وجه الأرض، ومن خلال ما تقدم اتضح الكلام عن دلالة الآية الثانية التي ذكرناها كعلامة بين يدي الساعة.

إذن فالآية تأكيد لحدوث الرجعة التي تعتقد بها الشيعة الإمامية في حق جماعة خاصة ممن محضوا الكفر أو الإيمان، وتعني عودة هذه الجماعة للحياة قبل يوم القيامة، أما خصوصيات هذه العودة وكيفيتها وطبيعتها وما يجري فيها، فلم يتحدث عنها القرآن الكريم، بل جاء تفصيلها في السنة المباركة، فإن صحت الأخبار بها توجب قبولها والاعتقاد بها، وإلا وجب طرحها (2).

استدلال الأئمة (عليهم السلام):

لقد استدل أئمة الهدى من آل البيت (عليهم السلام) بهذه الآية على صحة الاعتقاد بالرجعة، فقد روي عن أبي بصير، أنه قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (ينكر أهل العراق الرجعة؟) قلت: نعم، قال: (أما يقرأون القرآن * (ويوم

ص: 33


1- (1) سورة الأنعام 6: 128.
2- (2) راجع نقض الوشيعة، للسيد محسن الأمين: 473 طبعة 1951 م.

نحشر من كل أمة فوجا) *؟) (1).

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره بالإسناد عن حماد، عن الصادق (عليه السلام)، قال: (ما يقول الناس في هذه الآية * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) *؟). قلت: يقولون إنها في القيامة.

قال (عليه السلام): (ليس كما يقولون، إن ذلك في الرجعة، أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة قوله: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *) (2).

استدلال أعلام الشيعة:

واستدل بها أيضا جملة علماء الشيعة ومفسريهم على صحة عودة الأموات إلى الحياة قبل يوم القيامة، قال الشيخ المفيد (قدس سره): إن الله تعالى يحيي قوما من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موتهم قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أخبر الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) * (3)، وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا) * فأخبر أن الحشر حشران عام وخاص (4).

ص: 34


1- (1) مختصر بصائر الدرجات: 25. وبحار الأنوار، للمجلسي 53: 40 / 6. والايقاظ من الهجعة: 278 / 91. والرجعة، للأسترآبادي: 55 / 30.
2- (2) تفسير القمي 1: 24. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 41. وبحار الأنوار 53: 60 / 49. والرجعة، للأسترآبادي: 77 / 48.
3- (3) سورة الكهف 18: 47.
4- (4) المسائل السروية، تحقيق الأستاذ صائب عبد الحميد: 33 نشر مؤتمر الشيخ المفيد (قدس سره).

وقال الشيخ الطبرسي (قدس سره): استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية، بأن قال: أن دخول (من) في الكلام يوجب التبعيض، فدل ذلك على أن اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.

وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام) في أن الله تعالى سيعيد عند قيام القائم (عليه السلام) قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب في الدنيا من القتل على أيدي شيعته والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته، ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره، وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه) (1).

أقوال المفسرين:

أغلب المفسرين من غير الإمامية يمرون في تفاسيرهم بهذه الآية مرورا سريعا، ويوجزون القول بكلمات معدودة، ويمكن إجمال حصيلة آرائهم في نقطتين:

ص: 35


1- (1) مجمع البيان، للطبرسي 7: 366.

الأولى:

إنها إخبار عن يوم القيامة (1)، وبيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها (2).

الثانية:

إنها من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة (3)، وإن المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق (4)، أي هو حشر بعد حشر.

وهذا الكلام لا يستند إلى أساس علمي، وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ينفيه كما أسلفنا، ولأن تفسير الحشر الأول بيوم القيامة سيوقع التناقض في حق الله تعالى، فكيف يقول تعالى سنحشر من كل أمة فوجا يوم القيامة، وسنحشر الناس جميعا يوم القيامة؟ قال ابن شهرآشوب:

لا خلاف أن الله يحيي الجملة يوم القيامة، فالفوج إنما يكون في غير القيامة (5).

يقول السيد الطباطبائي: لو كان المراد الحشر إلى العذاب، لزم ذكر هذه الغاية دفعا للابهام، كما في قوله تعالى: * (ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤها) * (6)، مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلا العتاب والحكم الفصل دون العذاب، والآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شئ يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور، ويزيدها إطلاقا قوله

ص: 36


1- (1) تفسير ابن كثير 3: 388. وتفسير البيضاوي 2: 183.
2- (2) روح المعاني 20: 26.
3- (3) تفسير الرازي 24: 218.
4- (4) روح البيان، للبروسوي 6: 373.
5- (5) متشابه القرآن 2: 97.
6- (6) سورة فصلت 41: 19.

بعدها: * (حتى إذا جاءوها) * فلم يقل: حتى إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.

ويؤيد ذلك أيضا وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابة الأرض، وهي من أشراط الساعة، وقبل قوله: * (ونفخ في الصور) * إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه، فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل أمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.

وقد تنبه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة، فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء، حقيقة بالتذكير على حيالها، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة.

قال: وأنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه.

فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة (1).

ص: 37


1- (1) الميزان، للطباطبائي 15: 397.

أما القائلون بالحشر الخاص بعد حشر يوم القيامة فهو رأي غريب لا يستند إلى شئ من القرآن الكريم أو السنة المطهرة الناطقين بوحدة يوم المعاد.

ثانيا:

قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) * (1).

روى الشيخ الكليني (قدس سره) بالإسناد عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل جلاله * (وعد الله الذين آمنوا) * الآية، فقال (عليه السلام): (هم الأئمة (عليهم السلام) (2).

وقال الطبرسي: المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وتضمنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمكين في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي (عليه السلام) منهم، ويكون المراد بقوله تعالى: * (كما استخلف الذين من قبلهم) * هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة مثل آدم وداود وسليمان (عليهم السلام)، ويدل على ذلك قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (3) وقوله * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (4) وقوله: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناه ملكا عظيما) * (5).

ص: 38


1- (1) سورة النور 24: 55.
2- (2) الكافي 1: 150 / 3.
3- (3) سورة البقرة 2: 30.
4- (4) سورة ص 38: 26.
5- (5) سورة النساء 4: 54.

قال: وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة، وإجماعهم حجة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وأيضا فإن التمكين في الأرض على الاطلاق لم يتفق فيما مضى فهو منتظر، لأن الله عز اسمه لا يخلف وعده (1).

قال الحر العاملي (قدس سره): وهذا أوضح تصريح في نقل الاجماع على رجعة النبي والأئمة (عليهم السلام)، ويظهر ذلك جليا من ضمائر الجمع في الآية (2)، ومن الأفعال المستقبلة الكثيرة، ولفظ الاستخلاف والتمكين والخوف والأمن والعبادة وغير ذلك من التصريحات والتلويحات التي لا تستقيم إلا في الرجعة (3).

ثالثا:

قوله تعالى: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (4).

قال الشيخ المفيد (قدس سره): قال سبحانه مخبرا عمن يحشر من الظالمين أنه يقول يوم الحشر الأكبر: * (ربنا أمتنا اثنتين) * الآية، وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أن قالوا: إن المعني بقوله تعالى: * (ربنا أمتنا اثنتين) * أنه خلقهم أمواتا بعد الحياة، وهذا باطل لا يجري على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على ما كان بغير الصفة التي انطوى اللفظ على معناها، ومن خلقه الله مواتا لا يقال إنه أماته، وإنما يدخل ذلك فيمن طرأ عليه

ص: 39


1- (1) مجمع البيان، للطبرسي 7: 239.
2- (2) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 38.
3- (3) المصدر السابق: 74.
4- (4) سورة غافر 40: 11.

الموت بعد الحياة، كذلك لا يقال أحيا الله ميتا، إلا أن يكون قبل إحيائه ميتا، وهذا بين لمن تأمله.

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: * (ربنا أمتنا اثنتين) * الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل الإقبار والثانية بعده، وهذا أيضا باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الانسان على ما فاته في حياته، وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرتين يدل على أنه لم يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم على تفريطهم فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك (1).

إذن فالمراد بالموتتين موتة عند انتهاء آجالهم، والموتة الثانية بعد عودتهم إلى الحياة، وتفسير منكري الرجعة بأن الموتة الثانية قبل خلقهم حين كانوا عدما لا يستقيم، لأن الموت لا يكون إلا للحي، ويلزم هذا وجودهم أحياء وهم في العدم، فلا يبقى إلا ما بيناه للخروج من هذا التناقض.

رابعا:

قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * إلى قوله تعالى: * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) * (2).

روى الشيخ الصدوق والكليني وعلي بن إبراهيم والعياشي وغيرهم

ص: 40


1- (1) المسائل السروية: 33.
2- (2) سورة النحل 16: 38 - 39.

أنها نزلت في الرجعة (1)، ولا يخفى أنها لا تستقيم في إنكار البعث، لأنهم ما كانوا يقسمون بالله بل كانوا يقسمون باللات والعزى، ولأن التبيين إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة (2).

خامسا:

قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * (3).

قال ابن شهرآشوب: (هذه الآية تدل على أن بين رجعة الآخرة والموت حياة أخرى، ولا ينكر ذلك لأنه قد جرى مثله في الزمن الأول، قوله في قصة بني إسرائيل: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) *، وقوله في قصة عزير أو أرميا: * (أو كالذي مر على قرية) *، وقوله في قصة إبراهيم: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *) (4).

وقال الشيخ الحر العاملي: وجه الاستدلال بهذه الآية أنه أثبت الإحياء مرتين، ثم قال بعدها * (ثم إليه ترجعون) * والمراد به القيامة قطعا، والعطف - خصوصا بثم - ظاهر في المغايرة، فالإحياء الثاني إما في الرجعة أو نظير لها، وبالجملة ففيها دلالة على وقوع الإحياء قبل القيامة (5).

سادسا:

قوله تعالى: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض

ص: 41


1- (1) الكافي 8: 50 / 14. وتفسير القمي 1: 385. وتفسير العياشي 2: 259 / 26. والاعتقادات، للصدوق: 62.
2- (2) الايقاظ من الهجعة، للعاملي: 76.
3- (3) سورة البقرة 2: 28.
4- (4) متشابه القرآن 2: 97. والآيات من سورة البقرة 2: 243، 259، 260 على التوالي.
5- (5) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي 8: 84.

ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) * إلى قوله تعالى: * (ما كانوا يحذرون) * (1).

روى الشيخ الكليني والصدوق بالإسناد عن الباقر والصادق (عليهما السلام):

(أن المراد بالذين استضعفوا هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأن هذه الآية جارية فيهم (عليهم السلام) إلى يوم القيامة) (2).

وروى السيد الرضي (قدس سره) بالإسناد عن الصادق (عليه السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لتعطفن علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها، ثم تلا قوله تعالى: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) *) (3)، وفي روايات عديدة أن ذلك يكون إذا رجعوا إلى الدنيا وقتلوا أعداءهم وملكوا الأرض (4).

قال الحر العاملي: وهذه الآية تدل على أن المن على الجماعة المذكورين وجعلهم أئمة وارثين والتمكين لهم في الأرض وحذر أعدائهم منهم، كله بعد ما استضعفوا في الأرض، وهل يتصور لذلك مصداق إلا الرجعة، وهل يجوز التصدي لتأويلها وصرفها عن ظاهرها ودليلها بغير قرينة، وضمائر الجمع وألفاظه في المواضع الثمانية يتعين حملها على الحقيقة، ولا يجوز صرفها إلى تأويل بعيد ولا قريب، إلا أن يخرج الناظر فيها عن الإنصاف ويكذب الأحاديث الكثيرة المتواترة في تفسير الآية

ص: 42


1- (1) سورة القصص 28: 5 - 6.
2- (2) الكافي، للكليني 1: 243 / 1. ومعاني الأخبار، للصدوق: 79.
3- (3) خصائص الأئمة، للسيد الرضي: 70 مجمع البحوث الإسلامية - مشهد.
4- (4) تفسير القمي 1: 25 و 106 و 2: 297. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 42 و 46 و 167. والرجعة، للأسترآبادي: 129 دار الاعتصام.

بالرجعة (1).

سابعا:

قوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (2).

روى علي بن إبراهيم والطبرسي وغيرهما بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كل قرية أهلك الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرجعة، وأما في القيامة فيرجعون، ومن محض الإيمان محضا وغيرهم ممن لم يهلكوا بالعذاب، ومحضوا الكفر محضا يرجعون) (3) وهذه الآية أوضح دلالة على الرجعة، لأن أحدا من أهل الإسلام لا ينكر أن الناس كلهم يرجعون إلى القيامة، من هلك ومن لم يهلك، فقوله: * (لا يرجعون) * يعني في الرجعة، فأما إلى القيامة فيرجعون حتى يدخلوا النار (4).

ثامنا:

قوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) * (5).

روي عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) من عدة طرق (أن هذا النصر يكون في الرجعة، ذلك لأن كثيرا من الأنبياء والأوصياء قتلوا وظلموا ولم ينصروا، وأن الله لا يخلف الميعاد) (6).

ص: 43


1- (1) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 75.
2- (2) سورة الأنبياء 21: 95.
3- (3) تفسير القمي 1: 24. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 41. وبحار الأنوار، للمجلسي 53: 60 / 49. والايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 89.
4- (4) بحار الأنوار 53: 52 / 29.
5- (5) سورة غافر 40: 51.
6- (6) تفسير القمي 2: 258. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 45. وكامل الزيارات، لابن قولويه: 63 / 3.

وسئل الشيخ المفيد (قدس سره) في المسائل الحاجبية عن هذه الآية، حيث قيل له: في هذه الآية تأكيد، فقد أوجب تعالى بأنه ينصرهم في الحالين جميعا في الدنيا والآخرة، وهذا الحسين بن علي (عليهما السلام) حجة الله قتل مظلوما فلم ينصره أحد؟ فأجاب الشيخ المفيد (قدس سره) بوجوه، إلى أن قال: وقد قالت الإمامية أن الله تعالى ينجز الوعد بالنصر للأولياء قبل الآخرة عند قيام القائم (عليه السلام) والكرة التي وعد بها المؤمنين، وهذا لا يمنع من تمام الظلم عليهم حينا مع النصر لهم في العاقبة (1).

ثالثا: الحديث:

مما لا ريب فيه أن صحة الأحكام والعقائد تتوقف على ورود أحاديث شريفة ثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) سيما ما يتعلق بالاعتقاد بالأمور الغيبية وحوادث المستقبل، روى الشيخ الكليني (قدس سره) في باب الضلال، بالإسناد عن هاشم صاحب البريد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(أما والله إنه شر عليكم أن تقولوا لشئ ما لم تسمعوه منا) (2)، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تستقصى.

ومما يؤيد الرجعة الروايات الكثيرة المتواترة التي نقلها الثقات عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، حتى إنها وردت في الأدعية والزيارات المأثورة عنهم (عليهم السلام)، وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها، فيكفي أن نذكر أن السيد محمد مؤمن الحسيني الأسترآبادي الشهيد بمكة سنة 1088 ه قد

ص: 44


1- (1) المسائل الحاجبية: 74.
2- (2) الكافي، للكليني 2: 401 / 1.

جمع في رسالته المختصرة في الرجعة نحو 111 حديثا من الكتب المعتمدة وجميعها تنص على الرجعة.

وأخرج الحر العاملي (ت 1104 ه) في كتابه (الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) ما يزيد على 620 بين آية وحديث صريح في الرجعة نقلها عن سبعين كتابا قد صنفها عظماء علماء الإمامية (1)، وقال:

إن أحاديث الرجعة ثابتة عن أهل العصمة (عليهم السلام) لوجودها في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتمدة، وكثرة القرائن القطعية الدالة على صحتها وثبوت روايتها، على أنها لا تحتاج إلى شئ من القرائن لكونها قد بلغت حد التواتر، بل تجاوزت ذلك الحد، وكل حديث منها يفيد العلم مع القرائن المشار إليها، فكيف يبقى شك مع اجتماع الجميع؟ (2).

وجمع العلامة المجلسي المتوفى سنة 1111 ه نحو 200 حديث في باب الرجعة من كتاب (بحار الأنوار) وقال: كيف يشك مؤمن بحقية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح، رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم، كثقة الإسلام الكليني، والصدوق محمد بن بابويه، والشيخ أبي جعفر الطوسي، والسيد المرتضى، والنجاشي، والكشي، والعياشي، وعلي بن إبراهيم، وسليم الهلالي، والشيخ المفيد، والكراجكي، والنعماني، والصفار، وسعد بن عبد الله، وابن قولويه، والسيد علي بن طاووس، وفرات بن إبراهيم، وأبي الفضل الطبرسي،

ص: 45


1- (1) الايقاظ من الهجعة: 450 و 430.
2- (2) المصدر السابق: 26.

وإبراهيم بن محمد الثقفي، ومحمد بن العباس بن مروان، والبرقي، وابن شهرآشوب، والحسن بن سليمان، والقطب الراوندي، والعلامة الحلي وغيرهم.

إلى أن قال: وإذا لم يكن مثل هذا متواترا، ففي أي شئ يمكن دعوى التواتر مع ما روته كافة الشيعة خلفا عن سلف (1).

المصنفون فيها:

ولم يقتصر علماء الإمامية ومصنفوهم على إيراد أحاديث الرجعة ضمن باب الغيبة من مصنفاتهم وحسب، بل أفردوها في تأليف خاص بها، وقد عددنا نحو أربعين كتابا خاصا بهذا الموضوع، نذكر منها على سبيل المثال:

1 - كتاب الرجعة للحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني، ذكره النجاشي في الرجال (2).

2 - كتاب إثبات الرجعة (3)، وكتاب الرجعة وأحاديثها (4)، وكتاب مختصر إثبات الرجعة (5)، جميعها للشيخ أبي محمد الفضل بن شاذان الأزدي النيشابوري، المتوفى سنة 260 ه، روى عن الإمام الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، وقيل: روى عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان ثقة

ص: 46


1- (1) بحار الأنوار، للمجلسي 53: 122.
2- (2) رجال النجاشي: 37.
3- (3) الفهرست للشيخ الطوسي: 124 / 552. والذريعة، للشيخ آقا بزرك 1: 93.
4- (4) الذريعة 10: 162.
5- (5) مطبوع في مجلة تراثنا العدد (15) ص 193 السنة الرابعة بتحقيق السيد باسم الموسوي.

جليلا فقيها متكلما (1).

3 - كتاب الرجعة، لأحمد بن داود بن سعيد الفزاري، أبو يحيى الجرجاني، ذكره النجاشي والشيخ الطوسي في الفهرست (2).

4 - كتاب الرجعة، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، المتوفى سنة 381 ه.

5 - كتاب الرجعة، للشيخ أبي النضر محمد بن مسعود العياشي صاحب التفسير، ذكره النجاشي والشيخ الطوسي في الفهرست (3).

6 - كتاب إثبات الرجعة، للعلامة الحلي المتوفى سنة 726 ه (4).

7 - كتابة الرجعة للشيخ الحسن بن سليمان الحلي، تلميذ الشهيد الأول، وهو صاحب مختصر بصائر الدرجات (5).

ومن أشهر الكتب المطبوعة والمتداولة في عصرنا الحالي:

1 - كتاب (الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) للمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، المتوفى سنة 1104 ه، وهو أوسع كتاب في بابه، فقد ضمنه نحو 600 حديث و 64 آية، وأدلة وقرائن أخرى في البرهان على الرجعة، وفرغ منه سنة 1075 ه (6).

ص: 47


1- (1) رجال النجاشي: 306 / 840. والخلاصة، للعلامة الحلي: 132 / 2.
2- (2) رجال النجاشي: 454. والفهرست، للشيخ الطوسي: 33.
3- (3) المصدر السابق: 351. و 138 على التوالي.
4- (4) الذريعة، للشيخ آقا بزرك 1: 92 دار الأضواء.
5- (5) بحار الأنوار 1: 16. والذريعة 1: 91.
6- (6) مطبوع بتصحيح السيد هاشم الرسولي المحلاتي.

2 - الشيعة والرجعة، للشيخ محمد رضا الطبسي النجفي، مطبوع في النجف سنة 1975 م.

3 - الرجعة، للسيد محمد مؤمن الحسيني الأسترآبادي، الشهيد في مكة سنة 1088 ه (1).

رابعا: الاجماع:

نقل جماعة من علمائنا إجماع الإمامية على اعتقاد صحة الرجعة وإطباقهم على نقل أحاديثها وروايتها، وعلى أنها من اعتقادات أهل العصمة (عليهم السلام)، وكل ما كان من اعتقاداتهم فهو حق، وتأولوا معارضها على شذوذ وندور:

قال الشيخ الجليل رئيس المحدثين أبو جعفر ابن بابويه (رحمه الله) في كتاب (الاعتقادات) باب الاعتقاد بالرجعة: اعتقادنا - يعني الإمامية - في الرجعة أنها حق (2).

وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): اتفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف (3).

ونقل الاجماع السيد المرتضى علم الهدى (رحمه الله) في أكثر من موضع من رسائله، قال في (الدمشقيات): قد اجتمعت الإمامية على أن الله تعالى

ص: 48


1- (1) مطبوع بتحقيق الأستاذ فارس حسون كريم.
2- (2) الاعتقادات، للصدوق: 60.
3- (3) أوائل المقالات، للمفيد: 46. والاختلاف الذي أشار إليه وقع في تأويل معنى الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الأموات وسيأتي بيانه في الفصل اللاحق.

عند ظهور القائم صاحب الزمان (عليه السلام) يعيد قوما من أوليائه لنصرته والابتهاج بدولته، وقوما من أعدائه ليفعل بهم ما يستحق من العذاب، وإجماع هذه الطائفة قد بينا في غير موضع من كتبنا أنه حجة، لأن المعصوم فيهم، فيجب القطع على ثبوت الرجعة مضافا إلى جوازها في القدرة (1).

وقال في جواب المسائل التي وردت إليه من الري: الطريق إلى إثبات الرجعة إجماع الإمامية على وقوعها، فإنهم لا يختلفون في ذلك، وإجماعهم قد بينا في مواضع من كتبنا أنه حجة لدخول قول الإمام فيه، وما يشتمل على قول المعصوم من الأقوال لا بد فيه من كونه صوابا (2) ونقل هذا عنه الشيخ ابن شهرآشوب (رحمه الله) في (متشابه القرآن) (3).

وقال الشيخ الطبرسي (قدس سره) في تفسيره: إن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق إليها التأويل عليها - أي على رجوع الدولة دون رجوع أعيان الأشخاص - وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده (4).

وألف الشيخ الحسن بن سليمان بن خالد القمي رسالة في الرجعة قال فيها: الرجعة مما أجمع عليه علماؤنا بل جميع الإمامية (5).

ص: 49


1- (1) رسائل الشريف المرتضى 3: 136 - الدمشقيات - دار القرآن الكريم - قم.
2- (2) المصدر السابق 1: 125.
3- (3) متشابه القرآن ومختلفه، لابن شهرآشوب 2: 97.
4- (4) مجمع البيان، للطبرسي 7: 367.
5- (5) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 43.

ونقل الإجماع على ذلك من علمائنا المتأخرين الشيخ الحر العاملي، قال: الذي يدل على صحة الرجعة إجماع جميع الشيعة الإمامية وإطباق الطائفة الاثني عشرية على اعتقاد صحة الرجعة، فلا يظهر منهم مخالف يعتد به من العلماء السابقين ولا اللاحقين، وقد علم دخول المعصوم في هذا الاجماع بورود الأحاديث المتواترة عن النبي والأئمة (عليهم السلام) الدالة على اعتقادهم بصحة الرجعة، حتى إنه قد ورد ذلك عن صاحب الزمان محمد ابن الحسن المهدي (عليه السلام) في التوقيعات الواردة عنه وغيرها (1) ومما يدل على ثبوت الاجماع اتفاقهم على رواية أحاديث الرجعة حتى إنه لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب الشيعة (2).

وكذلك العلامة المجلسي في (البحار)، قال: أجمعت الشيعة على الرجعة في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار، حتى نظموها في أشعارهم (3) واحتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم، وشنع المخالفون عليهم في ذلك، وأثبتوه في كتبهم وأسفارهم، منهم الرازي والنيسابوري وغيرهما (4).

خامسا: الضرورة:

مما يدل على ذلك، الروايات الكثيرة الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام)

ص: 50


1- (1) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 33.
2- (2) المصدر السابق: 43.
3- (3) من ذلك ما رواه ابن عياش في (المقتضب: 48) بالإسناد عن أبي سهل النوشجاني، أنه أنشد لأبيه مصعب بن وهب الحرون: ولي ثقة بالرجعة الحق مثلما * وثقت برجع الطرف مني إلى الطرف
4- (4) بحار الأنوار، للمجلسي 53: 122.

والتي هي نص صريح في ضرورة الاعتقاد بالرجعة، ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب صفات الشيعة بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال:

(من أقر بسبعة أشياء فهو مؤمن - وذكر منها - الإيمان بالرجعة) (1).

ورى عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (من أقر بتوحيد الله - وساق الكلام إلى أن قال - وأقر بالرجعة والمتعتين، وآمن بالمعراج، والمسألة في القبر، والحوض، والشفاعة، وخلق الجنة والنار، والصراط والميزان، والبعث والنشور، والجزاء والحساب، فهو مؤمن حقا، وهو من شيعتنا أهل البيت (عليهم السلام) (2).

ومما يدل على أن الاعتقاد بالرجعة من ضروريات مذهب الإمامية، ورودها في الأدعية والزيارات المروية عن الأئمة الهداة من عترة المصطفى (عليهم السلام)، والتي علموها لشيعتهم منها زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المروية في المصباح عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها: (وأشهد الله وملائكته وأنبياءه ورسله أني بكم مؤمن، وبإيابكم موقن) (3)، والمراد بالإياب: الرجعة.

وفي الاقبال والمصباح في الدعاء في اليوم الذي ولد فيه الإمام الحسين (عليه السلام) المروي عن الهمداني وكيل الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) وفيه: (المعوض من قتله أن الأئمة من نسله، والشفاء في تربته، والفوز معه في أوبته - إلى قوله - فنحن عائذون بقبره نشهد تربته وننتظر أوبته) (4)، والأوبة: الرجعة.

ص: 51


1- (1) حق اليقين، للسيد عبد الله شبر 2: 20.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) المصدر السابق: 15.
4- (4) المصدر السابق 2: 15.

وفي زيارات الإمام القائم (عليه السلام) التي ذكرها السيد ابن طاووس فقرات كثيرة تدل على ذلك، ففي بعضها: (فاجعلني يا رب فيمن يكر في رجعته، ويملك في دولته، ويتمكن في أيامه) (1).

وروى السيد ابن طاووس بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارة النبي والأئمة (عليهم السلام) ومنها: (إني من القائلين بفضلكم، مقر برجعتكم، لا أنكر لله قدرة) (2).

قال الحر العاملي: والذي يدل على صحة الرجعة الضرورة، فإن ثبوت الرجعة من ضروريات مذهب الإمامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنفين المشهورين، بل يعلم العامة أن ذلك من مذهب الشيعة، فلا ترى أحدا يعرف اسمه ويعلم له تصنيف من الإمامية يصرح بإنكار الرجعة ولا تأويلها.. والذي يعلم بالتتبع أن صحة الرجعة أمر محقق معلوم مفروغ منه مقطوع به ضروري عند أكثر علماء الإمامية أو الجميع، حتى لقد صنفت الإمامية كتبا كثيرة في إثبات الرجعة، كما صنفوا في إثبات المتعة وإثبات الإمامة وغير ذلك (3).

ومما يدل على أن صحة الرجعة أمر قد صار ضروريا ما نقل عن (كتاب سليم من قيس الهلالي) الذي صنفه في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) وقوله:

حتى صرت ما أنا بيوم القيامة أشد يقينا مني بالرجعة (4).

ص: 52


1- (1) حق اليقين، للسيد عبد الله شبر 2: 15.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 60.
4- (4) المصدر السابق: 64.

الفصل الثالث: أحكام في الرجعة

الرجعة خاصة:

الرجعة خاصة بدلالة قوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) * (1) وقوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (2) وقد تقدم القول فيهما آنفا، ويستفاد من مجموع الأخبار المستفيضة من طرق الإمامية أن الراجعين صنفان من المؤمنين والكافرين، فقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصة، لا يرجع إلا من محض الإيمان محضا أو محض الشرك محضا) (3) أما سوى هذين الصنفين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب.

من هم الراجعون؟

من حصيلة مجموع الروايات الواردة في هذا الباب نلاحظ أنها تنص

ص: 53


1- (1) سورة النمل 27: 83.
2- (2) سورة الأنبياء 21: 95.
3- (3) مختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 34. وبحار الأنوار 53: 39 / 1.

على رجعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) (1) والإمام الحسين (عليه السلام) (2) وكذلك باقي الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) (3).

وتنص كذلك على رجعة عدد من أنصار الإمام المهدي (عليه السلام) ووزرائه، وبعض أصحاب الأئمة وشيعتهم (4)، ورجعة الشهداء والمؤمنين (5)، ومن جانب آخر تنص على رجعة الظالمين وأعداء الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) (6)، وخصوم الأنبياء والمؤمنين، ومحاربي الحق والمنافقين (7)، وجميع هؤلاء لا يخرجون من الصنفين المذكورين في الحديث المتقدم.

ص: 54


1- (1) تفسير القمي 2: 147. وغيبة النعماني: 234 / 22. والخرائج والجرائح، للقطب الراوندي 2: 848. ومختصر بصائر الدرجات: 17 و 24 و 26 و 28 و 29. وبحار الأنوار 53: 39 / 2 و 42 / 10، 12 و 46 / 19 و 56 / 33 و 91 / 96.
2- (2) الكافي، للكليني 8: 206 / 250. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 24 و 28 و 29. وبحار الأنوار 53: 39 / 1 و 43 / 14 و 89 / 90.
3- (3) تفسير القمي 1: 25 و 106، 2: 147. وتفسير العياشي 1: 181 / 76. ومختصر بصائر الدرجات: 26 و 28. وبحار الأنوار 53: 41 / 9 و 45 / 18 و 54 / 32 و 56 / 38 و 61 / 50.
4- (4) رجال الكشي: 217 / 391. والكافي، للكليني 8: 50 / 14. وتفسير العياشي 2: 32 / 90 و 259 / 28. ودلائل الإمامة، للطبري: 247 و 248. وروضة الواعظين، للفتال: 266. والزهد، للحسين بن سعيد: 82. وبحار الأنوار 53: 40 / 7 و 70 / 67 و 76 / 81 و 76 /
5- 82 و 92 / 102. (5) تفسير العياشي 1: 181 / 77 و 2: 112 / 139. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 19. والخرائج والجرائح، للقطب الراوندي 3: 1166 / 64. وبحار الأنوار 53: 65 /
6- 58 و 70 / 67. (6) كتاب زيد النرسي، الأصول الستة عشر: 43 - 44. وبحار الأنوار 53: 54 / 32.
7- (7) دلائل الإمامة، للطبري: 247. وتفسير القمي 1: 385. ومختصر بصائر الدرجات: 194.

هل ثمة رجعة بعد عصر الظهور؟

استفاضت الأخبار من عدة طرق بحديث الرجعة في عصر الإمام المهدي (عليه السلام) وعدها الشيخ المفيد (قدس سره) من علامات الظهور، حيث قال في باب ذكر علامات القائم (عليه السلام) من كتاب (الارشاد): قد جاءت الأخبار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (عليه السلام) وحوادث تكون أمام قيامه وآيات ودلالات، فمنها خروج السفياني.. إلى أن قال: وأموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون.. إلى أن قال:

فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة، فيتوجهون نحوه لنصرته (1).

وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم الكرة، ويوم القيامة) (2). وهو يدل على أن هناك كرة بعد عصر الإمام صاحب الزمان (عليه السلام)، ويستفاد من روايات الرجعة أن لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كرات عدة (3)، وأن الإمام الحسين (عليه السلام) يكر بعد عصر الظهور (4).

وفي هذا السياق يقول السيد عبد الله شبر: يجب الإيمان بأصل الرجعة إجمالا، وأن بعض المؤمنين وبعض الكفار يرجعون إلى الدنيا، وإيكال تفاصيلها إليهم (عليهم السلام) والأحاديث في رجعة أمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام) متواترة معنى، وفي باقي الأئمة قريبة من التواتر، وكيفية رجوعهم هل هو

ص: 55


1- (1) الارشاد 2: 368 - 370.
2- (2) الخصال، للصدوق: 108 / 75. ومعاني الأخبار، للصدوق: 365 / 1.
3- (3) مختصر بصائر الدرجات: 29. وبحار الأنوار 53: 74 / 75 و 98 / 114 و 101 / 123.
4- (4) تفسير العياشي 2: 326 / 24. ومختصر بصائر الدرجات: 48. والاختصاص، للمفيد: 257.

على الترتيب أو غيره، فكل علمه إلى الله سبحانه وإلى أوليائه (1).

حكم الرجعة:

هل الرجعة من أصول الدين؟ وهل الإسلام منوط بالاعتقاد بها؟ وما هي الأحكام التي أصدرها علماء الإمامية بشأن متأولي الرجعة؟ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عليها في هذا البحث.

الرجعة وأصول الإسلام:

تعتقد الشيعة الإمامية بالرجعة من بين الفرق الإسلامية طبقا لما ورد وصح من الأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة (عليهم السلام)، وليس هذا بمعنى أن عقيدة الرجعة تعد واحدة من أصول الدين، ولا هي في مرتبة الاعتقاد بالله وتوحيده أو بدرجة النبوة والمعاد، بل هي من ضروريات المذهب كما تقدم.

ولا يترتب على الاعتقاد بالرجعة إنكار لأي حكم ضروري من أحكام الإسلام، وليس ثمة تضاد بين هذا الاعتقاد وبين أصول الإسلام.

يقول الشيخ المظفر: إن الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد، ولا في عقيدة النبوة، بل يؤكد صحة العقيدتين، إن الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشور، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا محمد وآل بيته (عليهم السلام)، وهي عينا معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح (عليه السلام) بل أبلغ هنا لأنها بعد أن يصبح الأموات رميما * (قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي

ص: 56


1- (1) حق اليقين، للسيد عبد الله شبر 2: 35.

أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * (1).

ويقول أيضا: والرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت (عليهم السلام) الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الأمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها (2).

الاختلاف في معنى الرجعة:

رغم أن الأخبار قد تضافرت عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) بوقوع الرجعة إلى الدنيا بعد الموت، والإمامية بأجمعها على ذلك أخذا بالروايات الصريحة الواردة في هذا الباب، لكن البعض من المتقدمين تأول ما ورد في الرجعة بأن معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت (عليهم السلام) بظهور الإمام المنتظر (عليه السلام) من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى، وإلى هؤلاء المتأولين يشير الشيخ المفيد (قدس سره) بقوله: اتفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف (3).

وأشار إلى هذا الاختلاف العلامة الطبرسي في تفسيره الآية 83 من سورة النمل حيث قال: استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية (4).

ص: 57


1- (1) عقائد الإمامية: 109. والآيتان من سورة يس 36: 78 - 79.
2- (2) عقائد الإمامية: 113.
3- (3) أوائل المقالات: 46.
4- (4) مجمع البيان 7: 366.

وقد ذكر هذا الاختلاف الشيخ أبو زهرة حيث قال: ويظهر أن فكرة الرجعة على هذا الوضع ليست أمرا متفقا عليه عند إخواننا الاثني عشرية، بل فريق لم يعتقده (1).

إذن هناك متأولون للرجعة من بين الشيعة الإمامية، فهؤلاء ينكرون الرجعة بالمعنى الذي ذهبت إليه أكثر الشيعة الإمامية أخذا بالأخبار والروايات الواردة فيها، ولم يصرح أحد بكفر هؤلاء أو خروجهم من الإسلام، لأنهم لم ينكروا أصل الاعتقاد بالرجعة والروايات المتكاثرة الواردة فيها.

على أن المحققين من أعلام الطائفة قد أجابوا هؤلاء عن قولهم بما لا مزيد عليه، قال السيد المرتضى علم الهدى مجيبا على سؤال بهذا الخصوص، وهو من جملة المسائل التي وردت عليه من الري: فأما من تأول الرجعة من أصحابنا على أن معناها رجوع الدولة من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، فإن قوما من الشيعة لما عجزوا عن نصرة الرجعة وبيان جوازها وأنها تنافي التكليف (2) عولوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة، وهو منهم غير صحيح، لأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فتتطرق التأويلات عليها، وكيف يثبت ما هو مقطوع على صحته بأخبار الآحاد التي لا توجب العلم، وإنما المعول في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية على معناها، بأن الله يحيي أمواتا عند قيام القائم (عليه السلام) من أوليائه وأعدائه على ما بيناه، فكيف يتطرق التأويل

ص: 58


1- (1) الإمام الصادق، للشيخ محمد أبو زهرة: 240.
2- (2) وسيأتي الجواب تاما عن هذه المسألة في الفصل السادس.

على ما هو معلوم، فالمعنى غير محتمل (1).

حكم متأولي الرجعة:

على ضوء ما تقدم، تبين لنا أن الرجعة من ضروريات المذهب عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وإن كان هناك في السابقين منهم قول بتأويل رواياتها، لكن القائل بالتأويل لا ينكرها، لالتفاته إلى أن الانكار مع العلم بالروايات وتواترها تكذيب لأهل العصمة المخبرين بها، والعياذ بالله.

وبالجملة: فإن حال الاعتقاد بالرجعة حال سائر الأمور الضرورية في المذهب، فإنه - بعد ثبوت كونه من الضروريات - يجب الاعتقاد به، لكن الاعتقاد بالتفاصيل والجزئيات غير واجب.

وأما تفاصيل الأحكام المترتبة على إنكار الضروري من المذهب أو الدين، فليرجع فيها إلى الكتب الاعتقادية والفقهية.

الهدف من الرجعة:

إن أحداث آخر الزمان لا تزال في ظهر الغيب، إلا أننا نستطيع أن نقرأ الحكم عليها أيضا، لأن العدل الإلهي مطلق لا يحده زمان ولا مكان، والحكم بالعدل أصيل على أحداث الماضي والحاضر والمستقبل، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يأتي بالخير المخبوء المتمثل بمهدي آخر الزمان (عليه السلام) ورجاله ليجتث مؤسسات الباطل وأجهزة الظلم والجور ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما

ص: 59


1- (1) رسائل الشريف المرتضى 1: 126.

وجورا قال تعالى: * (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) * (1).

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمد بن أبي عمير، قال: كان الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول:

(لكل أناس دولة يرقبونها * ودولتنا في آخر الدهر تظهر) (2).

إن تطبيق العدالة السماوية في الأرض قبل يوم المحشر وقيام الناس للحساب الأكبر يشمل ثلة من الماضين كما يشمل الذين هم في زمان ظهور الإمام (عليه السلام)، والماضون هم أولئك الذين حكم عليهم بالعودة إلى الحياة مرة أخرى، ويشكلون لفيفا متميزا من المؤمنين والظالمين، يعودون لينال المجرمون الذين محضوا الكفر محضا جزاء ما اقترفته أيديهم الآثمة من الظلم والفساد ومحاربة أولياء الله وعباده المخلصين، وما يستحقونه من حدود الله تعالى التي عطلوها وأسقطوها من حسابهم، واستبدلوها بالكفر والطغيان، ليذوقوا العذاب في دار الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.

وعودة المؤمنين تعني انتصار أولياء الله الذين محضوا الإيمان محضا بعد أن ذاقوا الويل والعذاب لدهور طويلة من قبل أولئك المتسلطين والمتجبرين، وهذا المعنى يمكن أن نستشعره في قوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (3) فهو يعني أن الذين ذاقوا العذاب

ص: 60


1- (1) سورة السجدة: 28 - 29.
2- (2) أمالي الصدوق: 578 / 791.
3- (3) سورة الأنبياء 21: 95.

في هذه الدنيا على كفرهم وطغيانهم لا يرجعون إليها، وإنما يرجعون في القيامة ليذوقوا العذاب في نارها، والعودة إلى الدنيا إنما تختص بغيرهم من الكافرين والظالمين المفسدين في الأرض الذين لم يذوقوا ألم القصاص فيها، ولا يصح أن يكون المراد بالآية أنهم لا يرجعون في القيامة لوضوح بطلانه.

ويمكن من خلال دراسة الأحاديث الواردة في هذا المجال وأقوال الأعلام تحديد ثلاثة أهداف ينطوي عليها هذا الأمر الخارق:

1 - القتال على الدين، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (كنت مريضا بمنى وأبي (عليه السلام) عندي، فجاءه الغلام فقال: هاهنا رهط من العراقيين يسألون الأذن عليك. فقال أبي (عليه السلام): أدخلهم الفسطاط، وقام إليهم ودخل عليهم، فما لبثت أن سمعت ضحك أبي (عليه السلام) قد ارتفع، فأنكرت ذلك ووجدت في نفسي من ضحكه وأنا في تلك الحال.

ثم عاد إلي فقال: يا أبا جعفر، عساك وجدت في نفسك من ضحكي؟ فقلت: وما الذي غلبك منه الضحك، جعلت فداك؟ فقال: إن هؤلاء العراقيين سألوني عن أمر كان من مضى من آبائك وسلفك يؤمنون به ويقرون، فغلبني الضحك سرورا أن في الخلق من يؤمن به ويقر.

فقلت: وما هو، جعلت فداك؟ قال: سألوني عن الأموات متى يبعثون فيقاتلون الأحياء على الدين) (1).

ص: 61


1- (1) مختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 20 و 24. وبحار الأنوار 53: 67 / 62.

2 - مقاتلة أعداء الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: (العجب كل العجب بين جمادى ورجب) فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا العجب الذي لا تزال تعجب منه؟ فقال: (وأي عجب أعجب من أموات يضربون كل عدو لله ولرسوله ولأهل بيته، وذلك تأويل هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) (1).

3 - إقامة القصاص والعدل، فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: (لترجعن نفوس ذهبت، وليقتصن يوم يقوم (2)، ومن عذب يقتص بعذابه ومن أغيظ أغاظ بغيظه، ومن قتل اقتص بقتله، ويرد لهم أعداؤهم معهم حتى يأخذوا بثأرهم، ثم يعمرون بعدهم ثلاثين شهرا، ثم يموتون في ليلة واحدة قد أدركوا ثأرهم، وشفوا أنفسهم، ويصير عدوهم إلى أشد النار عذابا، ثم يوقفون بين يدي الجبار عز وجل فيؤخذ لهم بحقوقهم) (3).

وفي هذا المجال يقول الشيخ المفيد: إن الله تعالى يرد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز منهم فريقا، ويذل فريقا، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد (عليه السلام)، وإن الراجعين إلى الدنيا فريقان:

أحدهما من علت درجته في الإيمان، وكثرت أعماله الصالحات وخرج

ص: 62


1- (1) بحار الأنوار 53: 60 / 48 والآية من سورة الممتحنة 60: 13.
2- (2) أي القائم (عليه السلام).
3- (3) مختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 28. وبحار الأنوار 53: 44 / 16.

من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله عز وجل دولة الحق ويعزه بها، ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه، والآخر من بلغ الغاية في الفساد، وانتهى في خلاف المحقين إلى أقصى الغايات، وكثر ظلمه لأولياء الله، واقترافه السيئات، فينتصر الله تعالى لمن تعدى عليه قبل الممات، ويشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات، ثم يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من دوام الثواب والعقاب، وقد جاء القرآن بصحة ذلك وتظاهرت به الأخبار، والإمامية بأجمعها عليه إلا شذاذا منهم تأولوا ما ورد فيه على وجه يخالف ما وصفناه (1).

ص: 63


1- (1) أوائل المقالات: 77. والتأويل المشار إليه هو أن البعض تأول الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة في زمان ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) لا رجوع أعيان الأشخاص كما تقدم آنفا.

الفصل الرابع: الرجعة عند العامة

إحياء الموتى:

ليس للرجعة في كتب العامة أثر يذكر سيما بالمعنى الذي جاء في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، إلا على سبيل بيان آراء الشيعة أو التشنيع عليهم، ولكنهم نقلوا روايات في رجوع الأموات إلى الحياة الدنيا (1) ولم يستنكروها بل عدوها من المعاجز أو الكرامات.

وقد ألف ابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان الأموي القرشي المتوفى سنة (281 ه) (2) كتابا في ذلك عنوانه (من عاش بعد الموت) وصدر هذا الكتاب محققا عن دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1987 م.

وأفرد أبو نعيم الأصفهاني في " الدلائل "، والسيوطي في " الخصائص "

ص: 64


1- (1) تجد بعض نصوصها في احتجاج الفضل بن شاذان الفصل الخامس.
2- (2) ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 10: 89.

بابا في معجزات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إحياء الموتى (1)، وروى الماوردي والقاضي عياض بعض معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في إحياء الموتى (2)، وذكر السيوطي كرامات في إحياء الموتى لغير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ورووا أن زيد بن حارثة (3) والربيع بن خراش (4) ورجلا من الأنصار (5) قد تكلموا بعد الموت، وأن ربعي بن حراش الغطفاني تبسم بعد الموت (6)، وأن أبا القاسم الطلحي إسماعيل بن محمد الحافظ قد ستر سوأته بعد موته (7)، وأن شيبان النخعي - وقيل: نباتة بن يزيد - أحيا حماره (8)، وأن أبا المعالي سراج الدين الرفاعي المتوفى سنة (885 ه) أحيا شاة، وأمات رجلا (9)، وأن الماجشون مات وحيي (10). وغيرها مما يفوق حد

ص: 65


1- (1) دلائل النبوة، لأبي نعيم: 223. والخصائص الكبرى، للسيوطي 2: 110 - 114.
2- (2) أعلام النبوة، للماوردي: 141. والشفا 1: 614.
3- (3) الغدير، للأميني 11: 103 عن الاستيعاب 1: 192. والبداية والنهاية 6: 156 و 158. والروض الأنف 2: 37. والإصابة 1: 565 و 2: 24. وتهذيب التهذيب 3: 410. والخصائص الكبرى 2: 85. وشرح الشفا للخفاجي 3: 105 و 108.
4- (4) الغدير، للأميني 11: 113 عن البداية والنهاية 6: 158. والروض الأنف 2: 370. وصفة الصفوة 3: 19.
5- (5) الغدير، للأميني 11: 105 عن البداية والنهاية 6: 158.
6- (6) الغدير، للأميني 11: 119 عن صفة الصفوة 2: 19. وطبقات الشعراني 1: 37. وتاريخ ابن عساكر 5: 298.
7- (7) الغدير، للأميني 11: 167 عن المنتظم 10: 90. والبداية والنهاية 12: 217.
8- (8) الغدير 11: 106 عن البداية والنهاية 6: 153 و 292. والإصابة 2: 169.
9- (9) الغدير 11: 187 عن روضة الناظرين، للإمام ضياء الدين الوتري: 112.
10- (10) الغدير 11: 135 عن وفيات الأعيان 2: 461. ومرآة الجنان 1: 351. وتهذيب التهذيب 11: 389. وشذرات الذهب 1: 259.

الاحصاء.

ونقل محيي الدين عبد القادر بن شيخ العيدروسي في النور السافر حوادث سنة (914 ه) كرامات كثيرة للشيخ أبي بكر بن عبد الله باعلوي المتوفى سنة 914 ه، منها أنه لما رجع من الحج دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنه ماتت أم ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفا بها، فكاد عقله يذهب لموتها، قال: فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدة الجزع، ليعزيه ويأمره بالصبر والرضا بالقضاء، وهي مسجاة بين يدي الحاكم بثوب، فعزاه وصبره، فلم يفد فيه ذلك، وأكب على قدم سيدي الشيخ يقبلها، وقال: يا سيدي، إن لم يحيي الله هذه مت أنا أيضا، ولم تبق لي عقيدة في أحد! فكشف سيدي وجهها، وناداها باسمها فأجابته: لبيك، ورد الله روحها، وخرج الحاضرون، ولم يخرج سيدي الشيخ حتى أكلت مع سيدها الهريسة، وعاشت مدة طويلة (1).

ومن يروي مثل هذه الروايات مخبتا إليها دون أي غمز فيها، لماذا يستحيل القول بالرجعة، وهل الرجعة إلا رجوع الحياة للميت بعد زهوق نفسه، والأخبار التي ذكرناها ما هي إلا من مصاديقها وتدل على جوهرية إمكانها وجوازها عقلا.

ص: 66


1- (1) النور السافر عن أخبار القرن العاشر: 84. وراجع الغدير 11: 190. وشذرات الذهب 8: 63.

السيوطي والصبان:

وفي هذا السياق يقول الأستاذ مروان خليفات: وقد قال الحافظ جلال الدين السيوطي بالرجعة، لكن بمعنى مختلف عن الذي تقول به الإمامية، فقد ادعى إمكانية رؤية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليقظة، وألف رسالة في ذلك هي (إمكان رؤية النبي والملك في اليقظة) وادعى السيوطي رؤيته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بضعا وسبعين مرة كلها في اليقظة.

واعتقاد السيوطي هذا شبيه باعتقاد الشيعة بالرجعة، وقوله برجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليقظة لا يختلف عن قول الشيعة برجوع بعض الأموات إلى الحياة، فلماذا يشنع على الشيعة لاعتقادهم الرجعة، ولا يشنع على السيوطي؟! بل إنه ما زال محل احترام وتقدير من جميع المذاهب، فكل من يطعن بعقيدة الشيعة في الرجعة، فهو طاعن بالسيوطي الملقب بشيخ الإسلام.

وحين تكلم محمد بن علي الصبان في " إسعاف الراغبين ص 161 " - وهو من العامة - عن طرق معرفة عيسى الأحكام الإسلامية بعد نزوله، قال:

ومنها - أي الطرق - أن عيسى إذا نزل يجتمع به (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا مانع من أن يأخذ عنه ما يحتاج إليه من أحكام شريعته (1)، واعتقاد الاجتماع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني رجوعه إلى الدنيا في زمان الظهور.

أشراط الساعة:

ونضيف إلى ما تقدم أن من تمعن في أحاديث وأخبار أشراط الساعة

ص: 67


1- (1) وركبت السفينة: 644.

وعلامات الظهور يجد مزيدا من الأحاديث والأخبار تشير إلى أن الإمام المهدي (عليه السلام) والممهدين له يقاتلون بني أمية وآل أبي سفيان وبني العباس وغيرهم من الأسر والبيوتات الغابرة (1)، فلعل ذلك يوحي إلى عودتهم إلى الحياة الدنيا، للاقتصاص منهم.

ويشير إلى هذا المعنى ما نقله ابن أبي الحديد، وفقا لرأي الشيعة الإمامية، عند شرحه لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في إخباره عن ظهور الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) قال: (يغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا).

قال ابن أبي الحديد: فإن قيل ممن يكون من بني أمية في ذلك الوقت موجودا حتى يقول (عليه السلام) في أمرهم ما قال من انتقام الرجل منهم، حتى يودوا لو أن عليا (عليه السلام) كان المتولي لأمرهم عوضا عنه؟ قيل: أما الإمامية فيقولون بالرجعة، ويزعمون أنه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أمية وغيرهم إذا ظهر إمامهم المنتظر، وأنه يقطع أيدي أقوام وأرجلهم، ويسمل عيون بعضهم، ويصلب قوما آخرين، وينتقم من أعداء آل محمد (عليهم السلام) المتقدمين والمتأخرين (2).

ومما يدل على الرجعة من أحاديث أشراط الساعة عند العامة ما رواه الشيخ يوسف بن يحيى الشافعي عن الثعلبي في تفسيره، قال: إن المهدي يسلم على أهل الكهف، فيحييهم الله عز وجل (3).

ص: 68


1- (1) راجع عقد الدرر، للمقدسي الشافعي: 76 و 80 و 110 دار النصايح - قم.
2- (2) شرح بن أبي الحديد 7: 58 - 59.
3- (3) عقد الدرر، للمقدسي الشافعي: 192.

ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن أبي الحديد في شرحه لخطبة أمير المؤمنين (عليه السلام): (حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية) قال: وهذه الخطبة طويلة، وقد حذف الرضي (قدس سره) منها كثيرا، ومن جملتها:

(والله والله، لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم وإيماضا بحواجبكم، وحتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم، وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم، فيومئذ لا ينصرني إلا الله بملائكته، ومن كتب على قلبه الإيمان، والذي نفس علي بيده لا تقوم عصابة تطلب لي أو لغيري حقا، أو تدفع عنا ضيما، إلا صرعتهم البلية، حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا) (1).

وهو واضح الدلالة على رجعة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحياة الدنيا وقتاله الظالمين مع عصابة من الملائكة.

موقف العامة من الرجعة:

القول بالرجعة يعد عند العامة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها، وكان علماء الجرح والتعديل ولا يزالون إذا ذكروا بعض العظماء من رواة الشيعة ومحدثيهم ولم يجدوا مجالا للطعن فيه لوثاقته وورعه وأمانته، نبذوه بأنه يقول بالرجعة، فكأنهم يقولون يعبد صنما أو يجعل لله شريكا، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم.

ولنأخذ مثالا على ذلك جابر بن يزيد الجعفي، فالثابت عند أغلب

ص: 69


1- (1) شرح ابن أبي الحديد 6: 382.

أهل الجرح والتعديل من العامة أن جابرا كان ثقة صدوقا في الحديث.

قال سفيان: كان جابر ورعا في الحديث، ما رأيت أورع في الحديث منه (1).

وقال إسماعيل بن علية: سمعت شعبة يقول: جابر الجعفي صدوق في الحديث (2).

وقال شعبة: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذي يقعون في جابر الجعفي، هل جاءكم عن أحد بشئ لم يقله (3).

وقال وكيع: مهما شككتم في شئ، فلا تشكوا في أن جابرا ثقة، حدثنا عنه مسعر، وسفيان، وشعبة، وحسن بن صالح (4).

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك (5).

وقال معلى بن منصور الرازي: قال لي أبو معاوية: كان سفيان وشعبة ينهياني عن جابر الجعفي، وكنت أدخل عليه فأقول: من كان عندك؟

ص: 70


1- (1) تهذيب الكمال 4: 467. وتاريخ الإسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 - 140 ه): 59. وميزان الاعتدال 1: 379. وتهذيب التهذيب 2: 47.
2- (2) الجرح والتعديل 1: 136. والمصدر السابق.
3- (3) الجرح والتعديل 1: 136.
4- (4) تهذيب الكمال 4: 467. وتاريخ الإسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 - 140 ه): 59. وميزان الاعتدال 1: 379. وتهذيب التهذيب 2: 47.
5- (5) المصدر السابق.

فيقول: شعبة وسفيان (1).

وكان جابر أحد الذين أخذ عنهم العلم، فقد وصفه الذهبي بأنه أحد أوعية العلم (2).

وقال عبد الرحمن بن شريك: كان عند أبي عن جابر الجعفي عشرة آلاف مسألة (3).

وعن الجراح بن مليح، قال: سمعت جابرا يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر الباقر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، تركوها كلها (4).

وعن سلام بن أبي مطيع، قال: سمعت جابرا الجعفي يقول: إن عندي خمسين ألف حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما حدثت بها أحدا (5).

وروي نحو ذلك عن زهير بن معاوية (6).

إذن فلماذا ترك بعضهم حديث جابر، واتهموه بالكذب في الحديث تارة، وبالرفض أخرى، وضعفوه، ونهوا عن كتابة حديثه (7)؟ والجواب كما تجده عند أقطابهم لا يعدو أكثر من نقطتين:

ص: 71


1- (1) تهذيب الكمال 4: 468. وتهذيب التهذيب 2: 47.
2- (2) تاريخ الإسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 - 140 ه): 59.
3- (3) ميزان الاعتدال 1: 380.
4- (4) صحيح مسلم - المقدمة: 25. وميزان الاعتدال 1: 383.
5- (5) ميزان الاعتدال 1: 380. وتهذيب التهذيب 2: 48.
6- (6) ميزان الاعتدال 1: 379.
7- (7) راجع تهذيب الكمال 4: 469. وتاريخ الإسلام (وفيات سنة 121 - 140 ه): 60. وميزان الاعتدال 1: 380. وضعفاء العقيلي 1: 192 - 196. وتهذيب التهذيب 2: 47 - 49.

الأولى: اعتقاده الجازم بأولوية أهل البيت (عليهم السلام) بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع الخلق وكونهم أوصياءه وحملة علمه.

فلقد عابوا عليه أن يقول: حدثني وصي الأوصياء (1)، يريد بذلك الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام).

وذكر شهاب أنه سمع ابن عيينة يقول: تركت جابرا الجعفي وما سمعت منه قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا فعلمه مما تعلم، ثم دعا علي الحسن فعلمه مما تعلم، ثم دعا الحسن الحسين فعلمه مما تعلم، ثم دعا ولده... حتى بلغ جعفر بن محمد.

قال سفيان: فتركته لذلك (2).

وسمعه يقول أيضا: انتقل العلم الذي كان في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي، ثم انتقل من علي إلى الحسن، ثم لم يزل حتى بلغ جعفرا (3).

وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم، وعلي بابها) (4)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا دار الحكمة وعلي بابها) (5).

الثانية: قوله بالرجعة، وعليه إجماعهم.

قال أبو أحمد بن عدي: عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة (6).

ص: 72


1- (1) ضعفاء العقيلي 1: 194. وميزان الاعتدال 1: 383. وتهذيب التهذيب 3: 49.
2- (2) ميزان الاعتدال 1: 381.
3- (3) المصدر السابق.
4- (4) المستدرك على الصحيحين، للحاكم 3: 126 و 127. وجامع الأصول 9: 473.
5- (5) سنن الترمذي 5: 637. ومصابيح السنة 4: 174.
6- (6) تهذيب الكمال 4: 469. وتهذيب التهذيب 2: 48.

وقال زائدة: أما جابر الجعفي فكان يؤمن بالرجعة (1).

وقال جرير بن عبد الحميد: لا استحل أن أروي عنه، كان يؤمن بالرجعة (2).

وعن ابن قتيبة وابن حبان قال: كان جابر يؤمن بالرجعة (3).

وروى العقيلي بالإسناد عن سفيان، قال: كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتهمه الناس في حديثه، وتركه بعض الناس. فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة (4).

وقال أبو أحمد الحاكم: جابر يؤمن بالرجعة (5).

إذن فقد اتضح أن جابرا كان يعتقد بالرجعة، وأن معاصريه من أقطاب الحديث عند العامة كانوا يعلمون عقيدته تلك جيدا، كما هو مفاد التصريحات السابقة. فمن أين جاءه هذا الاعتقاد، وما هو مصدر روايته؟ مما لا ريب فيه أن جابرا الجعفي كان معاصرا لثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهم علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام)، وكان من خواص الإمامين الباقر

ص: 73


1- (1) تهذيب الكمال 4: 468. وتهذيب التهذيب 2: 48. ونحوه في ضعفاء العقيلي 1: 193. وميزان الاعتدال 1: 380.
2- (2) ميزان الاعتدال 1: 380. وتهذيب التهذيب 2: 49. ضعفاء العقيلي 1: 192 نحوه.
3- (3) تهذيب الكمال 4: 470 الهامش. وتهذيب التهذيب 2: 50. وميزان الاعتدال 1: 383.
4- (4) ضعفاء العقيلي 1: 194.
5- (5) تهذيب التهذيب 2: 50.

والصادق (عليهما السلام) (1)، وروي أنه خدم الإمام الباقر (عليه السلام) 18 سنة (2)، وبقي ملازما للإمام الصادق (عليه السلام) حتى توفي في أيامه سنة 128 ه (3).

والروايات عن أئمة الهدى (عليهم السلام) تدل على صدقه وأمانته وجلالته، وأن عنده الكثير من أسرارهم (عليهم السلام)، فقد روي في الصحيح بالإسناد عن الحسين بن أبي العلاء وزياد بن أبي الحلال، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، أنه قال: رحم الله جابر الجعفي، كان يصدق علينا (4).

وعن يونس بن عبد الرحمن: أن علم الأئمة (عليهم السلام) انتهى إلى أربعة أحدهم جابر (5).

وعن ذريح المحاربي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جابر الجعفي، فقال لي (عليه السلام): (يا ذريح دع ذكر جابر، فإن السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنعوا - أو قال - أذاعوا) (6).

إذن فالرجل من الثقات الأجلاء، وقد شهد له بذلك أعلام الطائفة، كابن قولويه، وعلي بن إبراهيم، والشيخ المفيد في رسالته العددية، وابن الغضائري على ما حكاه العلامة عنه، وقد مر ما يؤيد جلالته وثقته وكونه من أوعية العلم فيما تقدم بمصادر العامة.

ص: 74


1- (1) رجال الشيخ: 111 / 6 و 163 / 30. ومستدركات علم الرجال 2: 106 عن المناقب لابن شهرآشوب.
2- (2) مستدركات علم الرجال 2: 105 و 107 عن أمالي الشيخ الطوسي.
3- (3) رجال النجاشي: 128 / 332.
4- (4) رجال الكشي: 191 / 336. ومنتهى المقال 2: 214.
5- (5) رجال الكشي: 485 / 917.
6- (6) قاموس الرجال 2: 534.

ونخلص من كل ما تقدم أن جابرا كان قد أخذ هذه العقيدة من عترة المصطفى (عليهم السلام) الذين أمرنا بالتمسك بهم بدليل حديث الثقلين، ولو كانت هذه العقيدة غير ثابتة عنهم (عليهم السلام) لورد ولو حديث واحد يدل على منع جابر من القول بالرجعة، على أنه قد أظهر القول بها في حياة الصادقين (عليهما السلام)، لأنه مات في حياة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كما تقدم، وقد كان خلال ذلك متوفرا على خدمتهم والأخذ عنهم (عليهم السلام).

إذن فالطعن في جابر لقوله بالرجعة هو طعن في عقائد أهل البيت (عليهم السلام) ومدرسة الإسلام الأصيل المتمثلة بالإمامين محمد الباقر وابنه جعفر الصادق (عليهما السلام).

قال السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف): روى مسلم في صحيحه في أوائل الجزء الأول بإسناده إلى الجراح بن مليح، قال: سمعت جابرا يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، تركوها كلها، ثم ذكر مسلم في صحيحه بإسناده إلى محمد بن عمر الرازي، قال: سمعت حريزا يقول: لقيت جابر بن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه لأنه كان يؤمن بالرجعة.

ثم قال: انظر رحمك الله كيف حرموا أنفسهم الانتفاع برواية سبعين ألف حديث عن نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) برواية أبي جعفر (عليه السلام) الذي هو من أعيان أهل بيته الذين أمرهم بالتمسك بهم، ثم إن أكثر المسلمين أو كلهم قد رووا إحياء الأموات في الدنيا وحديث إحياء الله تعالى الأموات في القبور للمسألة، ورواياتهم عن أصحاب الكهف، وهذا كتابهم يتضمن * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم

ص: 75

أحياهم) * (1) والسبعون الذين أصابتهم الصاعقة مع موسى (عليه السلام)، وحديث العزير، ومن أحياه عيسى بن مريم (عليه السلام)، وحديث جريج الذي أجمع على صحته أيضا. فأي فرق بين هؤلاء وبين ما رواه أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم من الرجعة، وأي ذنب كان لجابر في ذلك حتى يسقط حديثه (2)؟ ولا ريب أن هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده، ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل ضد أمر لا يحيطون به علما.

روى حماد عن زرارة، أنه قال: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن هذه الأمور العظام من الرجعة وأشباهها. فقال (عليه السلام): (إن هذا الذي تسألون عنه لم يجئ أوانه، وقد قال الله عز وجل: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) *) (3).

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت (عليهم السلام) فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من 2: 1316 طبعة سنة 1348 ه، ورواها أيضا أبو داود في سننه 2: 542 طبعة سنة 1952 م وكالأحاديث التي رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات في كتاب مجمع الزوائد للهيثمي 1: 228 طبعة سنة 1352 ه.

إن هذه الأحاديث التي رواها العامة في الدجال وعرض أعمال الأحياء

ص: 76


1- (1) سورة البقرة 2: 243.
2- (2) بحار الأنوار 53: 140. وحق اليقين، لعبد الله شبر 2: 35.
3- (3) بحار الأنوار 53: 40 / 4 والآية من سورة يونس 10: 39.

على الأموات وما إلى ذلك تماما كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت (عليهم السلام) (1)! وفي هذا الصدد ينبغي الالتفات إلى أن هناك بعض الخرافات التي تمتزج أحيانا في الحديث عن الرجعة فتشوه وجهها في نظر البعض حتى من الشيعة الإمامية، يقول الحر العاملي (قدس سره) في مقدمة كتابه (الايقاظ من الهجعة): قد جمع بعض السادات المعاصرين رسالة (إثبات الرجعة) (2) التي وعد الله بها المؤمنين والنبي والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وفيها أشياء غريبة مستبعدة لم يعلم من أين نقلها، ليظهر أنها من الكتب المعتمدة، فكان ذلك سببا لتوقف بعض الشيعة عن قبولها حتى انتهى إلى إنكار أصل الرجعة وحاول إبطال برهانها ودليلها، وربما مال إلى صرفها عن ظاهرها وتأويلها، مع أن الأخبار بها متواترة، والأدلة العقلية والنقلية على إمكانها ووقوعها كثيرة متظاهرة (3).

إذن يجب أن نعول على الأحاديث الصحيحة في هذا الشأن، وأن نتجنب الأحاديث المشكوكة أو المطعون فيها.

ص: 77


1- (1) الشيعة والتشيع، لمحمد جواد مغنية: 56.
2- (2) وهي للسيد محمود بن فتح الله الحسيني الكاظمي النجفي معاصر الشيخ الحر العاملي. راجع الذريعة، للشيخ آقا بزرك 1: 94.
3- (3) الايقاظ من الهجعة، للعاملي: 3.

الفصل الخامس: مناظرات واحتجاجات

اشارة

ورد عن الأئمة (عليهم السلام) وأعلام الطائفة عدة مناظرات للدفاع عن عقيدة الرجعة، أجابوا فيها عن شبهات المخالفين للقول بها، أو مصححين بعض الآراء التي تعترض لأصحابهم، أو شارحين لهم بعض المفاهيم المتعلقة بها.

والدفاع عن هذه العقيدة لم يكن وليد الأمس، بل إنه راسخ منذ عصر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وباقي الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، فقد روي عن نجم ابن أعين أنه كان مجاهدا في الرجعة (1)، وروى العلامة (قدس سره) في الخلاصة في ترجمة ميسر بن عبد العزيز عن العقيقي، قال: أثنى عليه آل محمد (عليهم السلام)، وهو ممن يجاهد (2) في الرجعة (3).

قال المجلسي (قدس سره): قيل: المعنى أنه يرجع بعد موته مع القائم (عليه السلام) ويجاهد معه، والأظهر عندي أن المعنى أنه كان يجادل مع المخالفين،

ص: 78


1- (1) رجال ابن داود: 195.
2- (2) هكذا في نسخة البحار، وفي الخلاصة: يجاهر.
3- (3) الخلاصة، للعلامة الحلي: 279.

ويحتج عليهم في حقية الرجعة (1).

1 - احتجاج أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

روى الحسن بن سليمان الحلي بالإسناد عن الأصبغ بن نباتة، قال: إن عبد الله بن الكواء اليشكري قام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا المعتمر تكلم آنفا بكلام لا يحتمله قلبي.

فقال (عليه السلام): (وما ذاك؟ قال: يزعم أنك حدثته أنك سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنا قد رأينا أو سمعنا برجل أكبر سنا من أبيه؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): فهذا الذي كبر عليك؟ قال: نعم، فهل تؤمن أنت بهذا وتعرفه؟ فقال (عليه السلام): نعم، ويلك يا ابن الكواء، إفقه عني أخبرك عن ذلك، إن عزيرا خرج من أهله وامرأته في شهرها، وله يومئذ خمسون سنة، فلما ابتلاه الله عز وجل بذنبه أماته مائة عام ثم بعثه، فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة، فاستقبله ابنه وهو ابن مائة سنة، ورد الله عزيرا في السن الذي كان به.

فقال: أسألك ما نريد؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): سل عما بدا لك.

فقال: نعم، إن أناسا من أصحابك يزعمون أنهم يردون بعد الموت.

ص: 79


1- (1) بحار الأنوار 53: 124.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): نعم، تكلم بما سمعت ولا تزد في الكلام، فما قلت لهم؟ قال: قلت: لا أؤمن بشئ مما قلتم.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ويلك إن الله عز وجل ابتلى قوما بما كان من ذنوبهم، فأماتهم قبل آجالهم التي سميت لهم ثم ردهم إلى الدنيا ليستوفوا أرزاقهم، ثم أماتهم بعد ذلك.

قال: فكبر على ابن الكواء ولم يهتد له، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام):

ويلك تعلم أن الله عز وجل قال في كتابه: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * (1) فانطلق بهم معه ليشهدوا له إذا رجعوا عند الملأ من بني إسرائيل إن ربي قد كلمني، فلو أنهم سلموا ذلك له، وصدقوا به، لكان خيرا لهم، ولكنهم قالوا لموسى (عليه السلام): * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * قال الله عز وجل * (فأخذتكم الصاعقة) * يعني الموت * (وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * (2).

أفترى يا ابن الكواء أن هؤلاء قد رجعوا إلى منازلهم بعد ما ماتوا؟ فقال ابن الكواء: وما ذاك، ثم أماتهم مكانهم؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ويلك، أوليس قد أخبرك الله في كتابه حيث يقول: * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * (3) فهذا بعد

ص: 80


1- (1) سورة الأعراف 7: 155.
2- (2) سورة البقرة 2: 55 - 56.
3- (3) سورة البقرة 2: 57.

الموت إذ بعثهم، وأيضا مثلهم يا بن الكواء الملأ من بني إسرائيل حيث يقول الله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (1).

وقوله أيضا في عزير حيث أخبر الله عز وجل فقال: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله) * وأخذه بذلك الذنب * (مائة عام ثم بعثه) * ورده إلى الدنيا * (قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام) * (2) فلا تشكن يا ابن الكواء في قدرة الله عز وجل) (3).

2 - احتجاج الشيخ أبي محمد الفضل بن شاذان:

2- احتجاج الشيخ أبي محمد الفضل بن شاذان: (4) ذكر الشيخ ابن شاذان (قدس سره) في احتجاجه على هذه المسألة روايات عديدة في إحياء الموتى مروية بطرق العامة، وقد ذكرنا بعضا منها مراعاة للاختصار:

قال في ذكر الرجعة من كتاب (الايضاح):

ورأيناكم عبتم عليهم - أي على الإمامية - شيئا تروونه من وجوه كثيرة

ص: 81


1- (1) سورة البقرة 2: 243.
2- (2) سورة البقرة 2: 259.
3- (3) مختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 22. وبحار الأنوار 53: 72 / 72. والايقاظ من الهجعة: 185 / 42. والرجعة، للأسترآبادي: 49 / 23.
4- (4) وهو أبو محمد الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري، روى عن أبي جعفر الثاني والهادي والعسكري (عليهم السلام)، وقيل: روى عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان ثقة جليلا، وفقيها ومتكلما، ذكر أنه صنف 180 كتابا، وترحم عليه الإمام أبو محمد العسكري (عليه السلام) مرتين وقيل: ثلاثا، وتوفي سنة 260 ه. رجال النجاشي: 306 / 840. والخلاصة: 132 / 2.

عن علمائكم وتؤمنون به وتصدقونه، ونحن مفسرون ذلك لكم من أحاديثكم بما لا يمكنكم دفعه ولا جحوده.

من ذلك ما رويتم عن إبراهيم بن موسى الفراء، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم - يعني إلى أمه - بسم الله الرحمن الرحيم، من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.

أما بعد، فإني كتبت إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من أمره أنه أخذه وجع في كتفه، وهو يومئذ من أصح أهل المدينة حالا في نفسه فمات، فأتاني آت وأنا أسبح بعد الغروب فقال لي: إن زيدا تكلم بعد وفاته.

ورويتم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، قال: كنا أربع إخوة، وكان الربيع أخونا أصومنا في اليوم الحار، وأطولنا صلاة، فخرجت فقيل لي: إنه قد مات، فاسترجعت، ثم رجعت حتى دخلت عليه فإذا هو مسجى عليه، وإذا أهله عنده، وهم يذكرون الحنوط، فجلست فما أدري أجلوسي كان أسرع أم كشف الثوب عن وجهه، ثم قال: السلام عليك، فأخذني ما تقدم وما تأخر من الذعر، ثم قلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، أبعد الموت؟! قال: نعم، إني لقيت ربي بعدكم فتلقاني بروح وريحان ورب غير غضبان، فكساني ثياب السندس والإستبرق، وإن الأمر أيسر مما في أنفسكم ولا تغتروا، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقسم علي أن لا يسبقني حتى أدركه، فاحملوني إلى

ص: 82

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فما شبهت موته إلا بحصاة رمى بها في ماء، ثم ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: ما سمعت بمثل حديث صاحبكم في هذه الأمة، ولقد صدقكم.

وروى عدة روايات عن إحياء الموتى بطرق العامة، إلى أن قال:

فهذه رواياتكم وروايات فقهائكم في الرجعة بعد الموت، وأنتم تنحلون الشيعة ذلك جرأة على الله وقلة رعة وقلة حياء لا تبالون ما قلتم.

وروى علي ابن أخت يعلى الطنافسي ومحمد بن الحسين بن المختار كلاهما عن محمد بن الفضيل، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن فراس، عن الشعبي، قال: أغمي على رجل من جهينة في بدء الإسلام، كان اسمه المفضل، فبينا نحن كذلك عنده وقد حفر له، إذ مر بهم رجل يقال له المفضل، فأفاق الرجل، فكشف عن وجهه، وقال: هل مر بكم المفضل؟ قالوا: نعم، مر بنا الساعة، فقال: ويحكم كاد أن يغلط بي، أتاني حين رأيتموني أغمي علي آت، فقال: لأمك الهبل، أما ترى حفرتك تنثل، وقد كادت أمك أن تثكل، أرأيت أن حولناها عنك بمحول، وجعلنا في حفرتك المفضل، الذي مشى فاجتذل، إنه لم يؤد ولم يفعل، ثم ملأنا عليه الجندل، أتشكر لربك وتصل، وتدع سبيل من أشرك وأضل؟ قال: قلت: أجل، قال: فأطلق عني، فعاش هو، ودفن المفضل مكانه.

فلم ترضوا بالرجعة حتى نسبتم ملك الموت إلى الغلط جرأة منكم، ثم لم ترضوا أن تحيوا الموتى من الناس برواياتكم حتى أحييتم البهائم من الحمر وغير ذلك.

ص: 83

من ذلك ما رواه عدة من فقهائكم منهم محمد بن عبيد الطنافسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي: أن قوما أقبلوا من الدفينة متطوعين - أو قال: مجاهدين - فنفق حمار رجل منهم، فسألوه أن ينطلق معهم ولا يتخلف، فأبى فقام فتوضأ ثم صلى، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني قد أقبلت من الدفينة مجاهدا في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وإني أسألك أن لا تجعل لأحد علي منة، وأن تبعث لي حماري، ثم قام فضربه برجله، فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه وألجمه، ثم ركب حتى لحق أصحابه، فقالوا له: ما شأنك؟ قال: شأني أن الله بعث لي حماري.

قال محمد بن عبيد: قال إسماعيل بن أبي خالد: قال الشعبي: فأنا رأيت حماره بيع بالكناسة.

فهذا من عجائبكم ورواياتكم، ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، ولكنا نعجب أنكم إذا بلغكم عن الشيعة قول عظمتموه وشنعتموه، وأنتم تقولون بأكثر منه، والشيعة لا تروي حديثا واحدا عن آل محمد (عليهم السلام) أن ميتا رجع إلى الدنيا كما تروون أنتم عن علمائكم، إنما يروون عن آل محمد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأمته: (أنتم أشبه شئ ببني إسرائيل، والله ليكونن فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

وهذه الرواية أنتم تروونها أيضا، وقد علمتم أن بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت، ورجعوا إلى الدنيا، فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء، وولد لهم الأولاد، ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، فإن شاء أن يرد من مات من هذه الأمة كما رد بني إسرائيل فعل، وإن شاء لم يفعل.

ص: 84

فهذا قول الشيعة، وأنتم تروون أن قوما قد رجعوا بعد الموت ثم ماتوا بعد، ثم تنكرون أمرا أنتم تروونه وتقولون به ظلما وبهتانا (1).

3 - احتجاج السيد الحميري (قدس سره):

3- احتجاج السيد الحميري (قدس سره): .(2) روى الشيخ المفيد (قدس سره) عن الحارث بن عبيد الله الربعي، أنه قال: كنت جالسا في مجلس المنصور، وهو بالجسر الأكبر، وسوار القاضي عنده والسيد الحميري ينشده:

إن الإله الذي لا شئ يشبهه * آتاكم الملك للدنيا وللدين حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور، فقال سوار: هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، والله إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنه لينطوي في عداوتكم، إلى أن قال: يا أمير المؤمنين، إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما.

فقال السيد: أما قوله بأني أقول بالرجعة، فإن قولي في ذلك على ما قال الله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) * (3).

ص: 85


1- (1) الايضاح، لابن شاذان: 189 - 195.
2- (2) هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري، أبو هاشم، شاعر إمامي متقدم، أكثر شعره في مدح آل البيت (عليهم السلام)، كان ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة، لقي الإمام الصادق (عليه السلام)، وعده أبو عبيدة من أشعر المحدثين، وجعله أبو الفرج ثالث ثلاثة هم أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام. ولد في نعمان سنة 105 ه ومات ببغداد سنة 173 ه.
3- (3) سورة النمل 27: 83.

وقال: قال في موضع آخر: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) * (1) فعلمت أن هاهنا حشرين: أحدهما عام، والآخر خاص.

وقال سبحانه: * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (2)، وقال الله تعالى: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * (3) وقال الله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (4)، فهذا كتاب الله عز وجل.

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف). وقال حذيفة: والله ما أبعد أن يمسخ الله كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير.

فالرجعة التي أذهب إليها، هي ما نطق به القرآن، وجاءت به السنة، وأني لأعتقد أن الله تعالى يرد هذا - يعني سوارا - إلى الدنيا كلبا أو قردا أو خنزيرا أو ذرة، فإنه والله متكبر متجبر كافر.

فضحك المنصور وأنشأ السيد يقول:

جاثيت سوارا أبا شملة * عند الإمام الحاكم العادل فقال قولا خطأ كله * عند الورى الحافي والناعل

ص: 86


1- (1) سورة الكهف 18: 47.
2- (2) سورة غافر 40: 11.
3- (3) سورة البقرة 2: 259.
4- (4) سورة البقرة 2: 243.

حتى أتى على القصيدة، قال: فقال المنصور: كف عنه. فقال السيد:

يا أمير المؤمنين، البادئ أظلم، يكف عني حتى أكف عنه.

فقال المنصور لسوار: تكلم بكلام فيه نصفة، كف عنه حتى لا يهجوك (1).

4 - احتجاج الشيخ المفيد (قدس سره):

4 - احتجاج الشيخ المفيد (قدس سره): (2) روى السيد المرتضى (قدس سره) عن الشيخ المفيد، أنه قال: سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضم جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة، فقال له: إذا كان من قولك إن الله يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم ليشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين، وينتقم لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتم حتى تتعلقون بقوله تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) * (3) فخبرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر وعبد الرحمن بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم، ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الإمام، فيجب عليك ولايتهم والقطع بالثواب لهم، وهذا نقض مذهب الشيعة؟

ص: 87


1- (1) الفصول المختارة، للسيد المرتضى: 93 - 95.
2- (2) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد، وابن المعلم، انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم، وكان (رحمه الله)، خاشعا متعبدا متألها كثير الصلاة والصوم والصدقات، توفي في بغداد سنة 413 ه.
3- (3) سورة الإسراء 17: 6.

فقال الشيخ المسؤول: القول بالرجعة إنما قبلته من طريق التوقيف، وليس للنظر فيه مجال، وأنا لا أجيب عن هذا السؤال لأنه لا نص عندي فيه، وليس يجوز أن أتكلف من غير جهة النص الجواب، فشنع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.

فقال الشيخ المفيد (قدس سره): فأقول أنا: إن على هذا السؤال جوابين:

أحدهما: إن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل، لأنه يكون إذ ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه، لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بالقطع عليهم بالخلود في النار والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلى آخر الزمان، منع من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون، ومجرى من قطع الله عز اسمه على خلوده في النار، ودل بالقطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان، وأنهم ممن قال الله تعالى في جملتهم: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * (1) يريد إلا أن يلجئهم الله، والذين قال الله تعالى فيهم * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * (2).

ثم قال جل من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس:

* (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (3) وقوله: * (وإن عليك لعنتي

ص: 88


1- (1) سورة الأنعام 6: 111.
2- (2) سورة الأنفال 8: 22 - 23.
3- (3) سورة ص 38: 85.

إلى يوم الدين) * (1) وقال: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (2) وقال: * (تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب) * (3) فقطع عليه بالنار، وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما توهموه على هذا الجواب.

والجواب الآخر: أن الله سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة، وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق * (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) *، وقال الله سبحانه: * (ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * (4) فرد الله عليه إيمانه، ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم، لأنهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا، وتوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.

وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد (عليهم السلام) حتى روي عنهم في قوله سبحانه: * (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) * (5) فقالوا: إن هذه الآية هو القائم (عليه السلام)، فإذا ظهر لم تقبل توبة المخالف، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.

ص: 89


1- (1) سورة ص 38: 78.
2- (2) سورة الأنعام 6: 28.
3- (3) سورة المسد 111: 1 - 3.
4- (4) سورة يونس 10: 90 - 91.
5- (5) سورة الأنعام 6: 158.

سؤال: فإن قالوا في هذا الجواب: ما أنكرتم أن يكون الله سبحانه على ما أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لأنهم إذا كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال، وقد يئسوا من قبل التوبة، لم يدعهم داع إلى الكف عما في طباعهم، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل، ومن وصف الله سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب، فقد أعظم الفرية عليه؟ جواب: قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه، وذلك أن الدواعي لهم إلى المعاصي ترتفع إذ ذاك، ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب، لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلى وقت الرجعة على خلاف أئمتهم (عليهم السلام)، ويعلمون في الحال أنهم معذبون على ما سبق لهم من العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب، بل تتوفر لهم دواعي الطباع والخواطر كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم، وكون توبتهم غير مقبولة منهم، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك، فهو جوابنا بعينه.

سؤال آخر: وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا:

كيف يتوهم من القوم الإقامة على العناد والاصرار على الخلاف، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور، وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما يعلمون مما زعمتم أنهم مقيمون عليه، وكيف يصح أن تدعوهم الدواعي إلى ذلك، ويخطر لهم في فعله الخواطر، وما أنكرتم أن تكونوا

ص: 90

في هذه الدعوى مكابرين؟ الجواب: قيل لهم: يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن نقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في استحسان الخلاف، لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا الدنيا كما كانوا، ويظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا منهم، وإذا حل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك ليس من طريق الاستحقاق، وأنه من الله تعالى، لكنه كما تكون الدول، وكما حل بالأنبياء.

ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسى وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات، وعاينوا ما حل بفرعون وملئه على الخلاف، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته عليه وآله السلام، ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (1) وقوله: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (2). وقوله:

* (ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * (3) وما حل بهم من العقاب بسيفه عليه وآله السلام، وهلاك كل من توعده بالهلاك، هذا وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال.

ص: 91


1- (1) سورة القمر 54: 45.
2- (2) سورة الفتح 48: 27.
3- (3) سورة الروم 30: 1 - 3.

على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة، لأنهم يزعمون أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين للجهل بالله يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولكنهم في الخلاف على اللجاجة والعناد، فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف الذي حكيناه، وقد قال الله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) * (1). فأخبر سبحانه أن أهل العقاب لو ردهم الله تعالى إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال وما ذاقوا من أليم العذاب (2).

5 - احتجاج السيد محسن الأمين العاملي:

5 - احتجاج السيد محسن الأمين العاملي: (3) في معرض ردوده على أحمد أمين في افتراءاته على الشيعة الإمامية التي أوردها في كتابه (ضحى الإسلام) وتراجع عن بعضها في أواخر حياته.

يقول أحمد أمين: وأما الرجعة، فقد بدأ قوله - أي ابن سبأ - بأن محمدا يرجع، ثم تحول إلى القول بأن عليا يرجع، وفكرة الرجعة أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبي إلياس صعد إلى السماء، وسيعود

ص: 92


1- (1) الأنعام 6: 27 - 28.
2- (2) الفصول المختارة، للمرتضى: 153 - 157.
3- (3) هو العالم الكبير السيد محسن بن عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي، من أشهر علماء عصره، ولد في شقراء بلبنان نحو سنة 1284 ه، وتوفي في بيروت 1371 ه، له كتاب أعيان الشيعة، والرحيق المختوم " شعر "، والحصون المنيعة، والمجالس السنية، وغيرها.

فيعيد الدين والقانون، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضا في عصورها الأولى (1).

يقول السيد محسن الأمين (قدس سره) في مقام الاحتجاج والإلزام: فكرة الرجعة أول من قال بها عمر بن الخطاب، روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن ابن عباس، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا)، قال عمر: من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إن رسول الله ليس بميت حتى نفتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى.

وقال الطبري وابن سعد وغيرهما: لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عمر:

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات (2).

ص: 93


1- (1) ضحى الإسلام 1: 356.
2- (2) أعيان الشيعة 1: 53. وراجع السيرة النبوية، لابن هشام 4: 305. والطبقات الكبرى، لابن سعد 2: 266.

الفصل السادس: شبهات وردود

اشارة

لا يخفى، أنه لا يكاد يوجد حق يخلو من شبهة تعارضه، ولقد تعرضت عقائد أهل بيت النبوة الحقة لشبهات المعاندين على طول مسيرة التاريخ، وواقع الأحداث ملئ بالشواهد التي يطول بذكرها المقام، وما ذلك إلا من محض التعصب المقيت الذي أولده الأمويون والعباسيون بما كانوا يحقدون على أعدال وقرناء كتاب الله العالمين الصادقين عترة المصطفى الأمين.

والرجعة التي تعتبر من أسرار آل البيت (عليهم السلام)، واحدة من تلك العقائد التي أحيطت بالشبهات واتخذت ذريعة ووسيلة للتشنيع على شيعتهم من قبل بعض المخالفين، وفيما يلي أهم الشبهات التي أثارها منكري الرجعة مع جوابها:

الشبهة الأولى: الرجعة تنافي التكليف.

الجواب: القول بمنافاة الرجعة للتكليف جعل بعض الشيعة يتأولونها على وجه إعادة الدولة لا إعادة أعيان الأشخاص، وبما أن هذا الأمر من الأمور الغيبية، فلا يمكن إصدار الحكم القطعي عليه، لكن عامة أعلام

ص: 94

الطائفة يقولون إن الدواعي معها مترددة، أي إنها لا تستلزم التكليف ولا تنافيه، وإن تكليف من يعاد غير باطل، وقد أجابوا على ما يترتب على ذلك من إشكالات.

يقول السيد المرتضى (قدس سره): إن الرجعة لا تنافي التكليف، وإن الدواعي مترددة معها حتى لا يظن ظان أن تكليف من يعاد باطل، وإن التكليف كما يصح مع ظهور المعجزات والآيات القاهرة، فكذلك مع الرجعة لأنه ليس في جميع ذلك ملجئ إلى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح (1).

أما من هرب من القول بإثبات التكليف على أهل الرجعة لاعتقاده أن التكليف في تلك الحال لا يصح، لأنها على طريق الثواب وإدخال المسرة على المؤمنين بظهور كلمة الحق، فيقول السيد المرتضى: هو غير مصيب، لأنه لا خلاف بين أصحابنا في أن الله تعالى ليعيد من سبقت وفاته من المؤمنين لينصروا الإمام وليشاركوا إخوانهم من ناصريه ومحاربي أعدائه وأنهم أدركوا من نصرته ومعونته ما كان يفوتهم لولاها، ومن أعيد للثواب المحض فمما يجب عليه نصرة الإمام والقتال عنه والدفاع (2).

وهؤلاء المتهربون من القول بإثبات التكليف، تأولوا الرجعة على أنها تعني إعادة الدولة والأمر والنهي لا عودة الأشخاص، ذلك لأنهم عجزوا عن نصرة الرجعة، وظنوا أنها تنافي التكليف، يقول الشيخ أبو علي الطبرسي (قدس سره): وليس كذلك، لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب

ص: 95


1- (1) رسائل الشريف المرتضى 1: 126 المسائل التي وردت من الري.
2- (2) المصدر السابق 3: 136 الدمشقيات.

والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك.

ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده (1).

توبة الكفار:

إن قيل: إذا كان التكليف ثابتا على أهل الرجعة، فيجوز تكليف الكفار الذين استحقوا العقاب، وأن يختاروا التوبة.

قال الشيخ المفيد (قدس سره): إذا أراد الله تعالى (رجعة الذين محضوا الكفر محضا) أوهم الشياطين أعداء الله عز وجل أنهم إنما ردوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله، فيزدادوا عتوا، فينتقم الله منهم بأوليائه المؤمنين، ويجعل لهم الكرة عليهم، فلا يبقى منهم أحد إلا وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب، وتصفو الأرض من الطغاة، ويكون الدين لله، والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية (2).

وأجاب السيد المرتضى (قدس سره) عن هذا بجوابين:

أحدهما:

إن من أعيد من الأعداء للنكال والعقاب لا تكليف عليه،

ص: 96


1- (1) مجمع البيان 7: 367.
2- (2) المسائل السروية: 35 وقد تقدم في الفصل الخامس جواب مفصل للشيخ المفيد (قدس سره) عن هذه المسألة.

وإنما قلنا إن التكليف باق على الأولياء لأجل النصرة والدفاع والمعونة.

والجواب الآخر: إن التكليف وإن كان ثابتا عليهم، فيجوز أنهم لا يختارون التوبة، لأنا قد بينا أن الرجعة غير ملجئة إلى قول القبيح وفعل الواجب وإن الدواعي مترددة، ويكون وجه القطع على أنهم لا يختارون ذلك مما علمنا وقطعنا عليه من أنهم مخلدون لا محالة في النار (1)، قال تعالى: * (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) * (2)، وقال تعالى:

* (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) * (3).

الشبهة الثانية:

قال أبو القاسم البلخي: لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها، لأن فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتكال على التوبة في الكرة الثانية.

الجواب: إن من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أن الناس كلهم يرجعون، فيصير إغراء بأن يقع الاتكال على التوبة فيها، بل لا أحد من المكلفين إلا ويجوز أن لا يرجع، وذلك يكفي في باب الزجر (4).

الشبهة الثالثة:

كيف يعود كفار الملة بعد الموت إلى طغيانهم، وقد عاينوا عذاب الله تعالى في البرزخ، وتيقنوا بذلك أنهم مبطلون.

قال الشيخ المفيد (قدس سره): ليس ذلك بأعجب من الكفار الذين يشاهدون في البرزخ ما يحل بهم من العذاب ويعلمونه ضرورة بعد المدافعة لهم

ص: 97


1- (1) رسائل الشريف المرتضى 3: 137 الدمشقيات.
2- (2) سورة التوبة 9: 68.
3- (3) سورة النساء 4: 18.
4- (4) مجمع البيان، للطبرسي 1: 242.

والاحتجاج عليهم بضلالهم في الدنيا، فيقولون حينئذ * (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) * فقال الله عز وجل: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) * (1).

الشبهة الرابعة: الرجعة تفضي إلى القول بالتناسخ.

وللجواب على هذه الشبهة لا بد من بيان عدة أمور:

1 - تواترت الروايات عن أئمة الهدى (عليهم السلام) على بطلان التناسخ وامتناعه، واتفقت كلمة الشيعة على ذلك وقد كتبوا في ذلك مقالات ورسائل.

سأل المأمون الإمام الرضا (عليه السلام): ما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال (عليه السلام): (من قال بالتناسخ فهو كافر مكذب بالجنة) (2).

ويقول الشيخ الصدوق (قدس سره): القول بالتناسخ باطل، ومن دان بالتناسخ فهو كافر، لأن في التناسخ إبطال الجنة والنار (3).

2 - إن الذين يقولون بالتناسخ هم أهل الغلو الذين ينكرون القيامة والآخرة، وقد فرق الأشعري في (مقالات الإسلاميين) بين قول الشيعة بالرجعة وقول الغلاة بالتناسخ بقوله:

واختلف الروافض في رجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة، وهم فرقتان:

ص: 98


1- (1) المسائل السروية، للشيخ المفيد: 36 والآيتان من سورة الأنعام 6: 27 - 28.
2- (2) بحار الأنوار، للمجلسي 4: 320.
3- (3) الاعتقادات، للصدوق: 62.

الأولى: يزعمون أن الأموات يرجعون إلى الدنيا (1) قبل يوم الحساب، وهذا قول الأكثر منهم (2)، وزعموا أنه لم يكن في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في هذه الأمة مثله، وإن الله سبحانه قد أحيا قوما من بني إسرائيل بعد الموت، فكذلك يحيي الأموات في هذه الأمة ويردهم إلى الدنيا قبل يوم القيامة.

والثانية: وهم أهل الغلو، ينكرون القيامة والآخرة، ويقولون ليس قيامة ولا آخرة، وإنما هي أرواح تتناسخ في الصور، فمن كان محسنا جوزي بأن ينقل روحه إلى جسد لا يلحقه فيه ضرر ولا ألم، ومن كان مسيئا جوزي بأن ينقل روحه إلى أجساد يلحق الروح في كونه فيها الضرر والألم، وليس شئ غير ذلك، وأن الدنيا لا تزال أبدا هكذا (3).

ومن درس تاريخ أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) وشيعتهم الأبرار يلمس أنهم يكفرون الغلاة ويبرأون منهم، ولهم في هذا الباب مواقف مشهورة يطول شرحها.

يقول الدكتور ضياء الدين الريس بعد تعداده لفرق الشيعة: وقد تزاد عليهم فرقة خامسة هي الغلاة، ولكنها في الحقيقة ليست منهم، بل يخرجها غلوها عن دائرة الإسلام نفسه (4).

ص: 99


1- (1) لا يرجع جميع الأموات، بل الرجعة خاصة كما بيناه في الفصل الثالث.
2- (2) بينا في الفصل الثالث أن بعض الإمامية قد تأولوا الرجعة بمعنى يخالف ما عليه ظواهر أحاديثها.
3- (3) مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري 1: 114.
4- (4) النظريات السياسية الاسلامية: 64 ط 4 سنة 1967 م.

3 - إن من طعن في الرجعة باعتبار أنها من التناسخ الباطل، فلأنه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإن معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإن معناه رجوع نفس البدن الأول بمشخصاته النفسية، فكذلك الرجعة.

وإذا كانت الرجعة تناسخا، فإن إحياء الموتى على يد عيسى (عليه السلام) كان تناسخا، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا (1).

وبعد هذا ليس لمتطفل على العلم أن يقول: وفكرة الرجعة شبيهة مع فارق كبير إلى الفكرة التناسخية التي جاء بها فيثاغورس... (2).

الشبهة الخامسة: ظهور اليهودية في التشيع بالقول بالرجعة.

يقول أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام): فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة! وقد أجاب أعلام الطائفة بما يفند مدعاه الذي لا يقوله ذو مسكه إذا أراد الإنصاف.

يقول الشيخ المظفر: فأنا أقول على مدعاه: فاليهودية أيضا ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة (3)، ونزيده فنقول: والحقيقة أنه لا بد أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من

ص: 100


1- (1) عقائد الإمامية، للمظفر: 110. والإلهيات 2: 809. والملل والنحل 6: 364.
2- (2) الشيعة والتصحيح، موسى الموسوي: 142 - 143.
3- (3) ذكرنا الآيات التي أشار إليها في مقدمة البحث، وهي تدل على وقوع الرجعة في الأمم السابقة، وقد صرح القرآن الكريم بذكرها بما لا يقبل التأويل.

المعتقدات والأحكام الإسلامية، لأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء مصدقا لما بين يديه من الشرائع السماوية، وإن نسخ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ليس عيبا في الإسلام، على تقدير أن الرجعة من الآراء اليهودية كما يدعيه هذه الكاتب (1).

ويقول الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ليت شعري هل القول بالرجعة أصل من أصول الشيعة وركن من أركان مذهبها حتى يكون نبزا عليها، ويقول القائل: ظهرت اليهودية فيها! ومن يكون هذا مبلغ علمه عن طائفة، أليس كان الأحرى به السكوت وعدم التعرض لها؟ إذا لم تستطع أمرا فدعه.

وعلى فرض أنها أصل من أصولهم، فهل اتفاقهم مع اليهود بهذا يوجب كون اليهودية ظهرت في التشيع، وهل يصح أن يقال إن اليهودية ظهرت في الإسلام، لأن اليهود يقولون بعبادة إله واحد والمسلمون به قائلون؟! وهل هذ إلا قول زائف واستنباط سخيف (2).

الشبهة السادسة: الظاهر من قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * (3) نفي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، فكيف يمكن التوفيق بين القول بالرجعة وبين ما يدل عليه ظاهر الآية؟

ص: 101


1- (1) عقائد الإمامية، للمظفر: 112.
2- (2) أصل الشيعة وأصولها: 167 وللسيد محسن الأمين العاملي (قدس سره) رد على هذه المسألة أورده في مقدمة أعيان الشيعة 1: 56 - 57.
3- (3) سورة المؤمنون 23: 99 - 100.

الجواب من عدة وجوه:

أولا: إنه ليس في الآية شئ من ألفاظ العموم، فلعل المشار إليهم لا يرجع أحد منهم، لأن الرجعة خاصة كما تقدم.

ثانيا: إن الذي يفهم من الآية أن المذكورين طلبوا الرجعة قبل الموت لا بعده، والذي نقول به ونعتقده هو الرجعة بعد الموت، فالآية لا تنافي صحة الرجعة بهذا المعنى.

ثالثا: إن الظاهر من الآية هو إرادة الرجعة مع التكليف في دار الدنيا، بل يكاد يكون صريح معناها، ونحن لا نجزم بوقوع التكليف في الرجعة، وأن الدواعي معها مترددة، وأنه أمر منوط بعلم الغيب، ولا يفصح عنه إلا المستقبل (1).

الشبهة السابعة: أحاديث الرجعة موضوعة.

الجواب: هذه الدعوى لا وجه لها، ذلك لأن الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت (عليهم السلام) من الأخبار المتواترة، وعلى تقدير صحة هذه الدعوى، فإنه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هولها خصوم الشيعة، وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنها لم توجب تكفيرا وخروجا عن الإسلام؟ ولذلك أمثلة كثيرة، منها الاعتقاد بجواز سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عصيانه، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن، ومنها القول بالوعيد، ومنها الاعتقاد بأن

ص: 102


1- (1) راجع الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 422.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينص على خليفة من بعده (1).

وقد بينا في الدليل الثالث من الفصل الثاني ثبوت الاعتقاد بالرجعة عند أئمة الهدى من عترة المصطفى (عليهم السلام) وذلك لتواتر الروايات التي نقلها الثقات عنهم (عليهم السلام).

الشبهة الثامنة: الرجعة محدودة في زمان النبوة.

قيل: إن الرجعة لا تجوز إلا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون معجزا له ودلالة على نبوته.

قال الشيخ الطبرسي: وذلك باطل، لأن عندنا بل عند أكثر الأمة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمة والأولياء، والأدلة على ذلك مذكورة في كتب الأصول (2).

ولله الحمد والمنة أولا وآخرا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 103


1- (1) عقائد الإمامية، للمظفر: 110.
2- (2) مجمع البيان، للطبرسي 1: 242.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.