الامام محمد الجواد علیه السلام معجزة السماء في الارض

اشارة

عنوانالامام محمد الجواد عليه السلام معجزه السماء في الارض
پديدآورنده صغير، محمدحسين علي، ۱۹۳۹-م .
موضوع سرگذشتنامه = محمد بن علي (ع)، امام نهم، ۱۹۵ - ق۲۲۰.
شماره رديف6256
مابقي فيلدها{117} = {19}
شماره ثبت۸۸۴۶
شرح پديدآورمحمد حسين علي الصغير
ناشرموسسه البلاغ
محل نشربيروت
سال نشر۱۳۸۷ = ۲۰۰۸م = ۱۴۲۹ق
رده كنگره8 فلا ۷ ص/BP۴۸
زبانعربي
نوعوزيري = خريداري ۸۹
يادداشتموسوعه اهل البيت الحضاريه = عربي = كتابنامه : ص . ۲۸۹ - ؛۳۰۸ همچنين به صورت زيرنويس = نمايه
مشخصات ظاهري۳۱۲ ص
نسخه۱
BARCODE8846
وارد كننده اطلاعات
كنترل كننده اطلاعات محمدي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم استهلت حياة الامام محمد بن علي الجواد (عليه‌السلام) فجرها المشرق بامامته في سن مبكرة من عمره الشاب. و قد احتج البحث للامامة في الصبا بمثل ما احتج به الله تعالي للنبوة، فقد بعث الله الله يحيي نبيأ في صباه، فقال تعالي: (يا يحيي خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا) مريم / 12. و بعث الله عيسي بن مريم نبيا في اليوم الأول من ولادته و قال فيما اقتص من خبره علي لسانه: (قال اني عبدالله آتاني الكتاب و جعلني نبيا) مريم / 30. و لما كانت الامامة امتدادا طبيعيا للنبوة، و جاز أن يكون النبي صبيا، فلا مانع من جواز كون الامام صبيا من باب أولي. و قد نص الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) علي امامة ولده الامام محمدالجواد (عليه‌السلام)، و تسلم قيادة الأمة في السابعة من العمر، فكان معجزة في امامته، و معجزة في أدائه، و معجزة في برهانه، و معجزة في معارفه الانسانية الكبري، و معجزة في اللمح الغيبي فيما أخبر به، و أفتي، و استنبط، و قرر، و حاور، و ناظر مستقيما علي الخط المنهجي لأهل البيت فكرا و أصالة و قيادة حكيمة فذة. [ صفحه 6] و لهذا كله، عاد الامام «محمد الجواد معجزة السماء في الأرض» يخترق نواميس الكون، و يستطيل سنن الحياة، فتخشع له العقول قبل الأبصار، و ترنو له القلوب بعد التجربة و الاختبار الميداني. أصيبت الخلافة العباسية بالهلع و القلق لذلك العطاء الذي لا ينضب من هذا (الصبي الامام) اذ أراد مركز الحكم العباسي أن يجعل امامته المبكرة مادة للسخرية و الاستهزاء بما يعبر عنه عند بعض الوافدين ب (أزمة الطفولة) و اذا بالسحر ينقلب علي الساحر، فتعد امامة الجواد أعجوبة في الأبعاد كافة: رسالة، و أصالة، و ثروة، و قيادة، و زهدا، و ورعا، و عزة، و ثباتا، و صلابة، و كفاية. و وقف المسلمون و الحاكمون ذاهلين أمام هذه الظاهرة الجديد، فمواكب العلماء تتري بالسؤال و الافادة من هذا الصبي الامام، و شيوخ الأمة جاثية بين يديه تطلب المزيد، و أتباع أهل البيت (عليهم‌السلام) يزيدهم الحدث ايمانا، و يثبت قلوبهم اطمئنانا. و في ضوء ما تقدم تتجلي أهمية هذا الموضوع في البحث العلمي، و هذه الأطروحة تعني بأهم الظواهر الايحائية التي أحاطت بمسيرة هذا الامام العظيم منذ ولادته حتي وفاته و هو ابن خمسة و عشرين ربيعا. و كانت هذه الرسالة قد انتظمت بسبعة فصول كالآتي: الفصل الأول: و عنوانه؛ (الامام محمد الجواد... سيرة) و تضمن المباحث الرئيسية بهذا الشكل: 1- ترجمة الامام في لمحات غراء. 2- نشأة الامام المثالية. [ صفحه 7] 3- خصائص الامام الانسانية. 4- رعاية الامام لأوليائه في ذات الله. 5- المناخ العرفاني في سلوك الامام. 6- الامام في تقييم الأعلام. الفصل الثاني: و عنوانه: (الامام محمد الجواد... و عصر السلاطين) و تضمن بدراسة موضوعية للمباحث الآتية: 1- الامام و ظواهر عصر السلاطين. 2- الامام محمد الجواد في حياة المأمون. 3- الامام محمد الجواد في عصر المعتصم. 4- الامام محمد الجواد... و القائم بالأمر. الفصل الثالث: و عنوانه (الامام محمد الجواد... معجزة) و تضمن بالبحث الرائد الدقيق الظواهر الآتية: 1- الامامة في سن الصبا... ظاهرة اعجازية. 2- الامام محمد الجواد في خضم الاختبار العلمي. 3- اضطراب النظام العباسي من الامام المعجزة. 4- استقراء الغيب المجهول لدي الامام. الفصل الرابع: و عنوانه (الامام محمد الجواد... تراثيا) و تضمن بالتركيز المعمق المباحث الآتية: 1- علم أهل البيت في تراث الامام الجواد. 2- مرويات الامام محمد الجواد عن: رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) أنموذجا. [ صفحه 8] 3- الدور الريادي لتلامذة الامام - الرواة و المؤلفين - في نشر تراثه الخالد. 4- الألفاظ الجارية مجري الأمثال في تراث الامام. الفصل الخامس: و عنوانه (الامام محمد الجواد... فقاهة) و قد بحث الموضوعات الآتية: 1- مسائل ذات أهمية خاصة. 2- يحيي بن أكثم في مسائلة الامام. 3- علل الأحكام عند الامام. الفصل السادس: و عنوانه (الامام محمد الجواد... منظرا) و تضمن العنوانات الآتية: 1- بيئة علم الكلام في عصر الامام. 2- قضايا التوحيد الالهي. 3- الامام يناظر في السنة. الفصل السابع: و عنوانه (الامام محمد الجواد... شهيدا) و قد أعطي تفصيلات مكثفة عن المباحث الآتية: 1- الامام محمد الجواد يتوقع الشهادة. 2- كيفية اغتيال الامام. 3- دوافع اغتيال الامام. 4- تشييع جثمان الامام و دفنه. 5- مشهد الامام في الكاظمية المقدسة. [ صفحه 9] و كانت مصادر هذا البحث و مراجعه تتنقل بين كتب الحديث، و الأثر، و الرواية، و التأريخ، و علم الكلام، و الأدب، و السيرة، و الترجمة، و كان النقد التاريخي و الاكتشاف المنهجي سبيل البحث دون التحايل علي حقيقة البعد الموضوعي، فجاء البحث بموارده و استقرائه و وعيه الحضاري عصارة فكر، و خلاصة استنباط دقيق في نضائد تجارب الامام العظيم محمد بن علي الجواد، حاولت أن أكون فيه محللا و منظرا و مكتشفا بأمانة و اخلاص فكان ذلك بحمد الله تعالي و بركة الامام (عليه‌السلام) و أردت أن أكون مؤصلا لشؤون لم تدرس من ذي قبل، فان أصبت فبفضل الله وحده، و ان كانت الأخري، فلي من شرف القصد و نبل الهدف ما يرفع بعض التقصير. (و ما تشاءون الا أن يشاء الله رب العالمين) [1] . و ما توفيقي الا بالله العلي العظيم، عليه توكلت و اليه أنيب، و هو حسبنا و نعم الوكيل. النجف الأشرف / جامعة الكوفة محمد حسين علي الصغير [ صفحه 13]

الامام محمد الجواد... سيرة

ترجمة الامام في لمحات غراء

باسمه تعالي الامام محمد الجواد بن الامام علي الرضا بن الامام موسي الكاظم بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام علي زين العابدين بن الامام الحسين - سيد الشهداء - بن الامام علي بن أبي طالب سيد الوصيين و قائد الغر المحجلين (صلوات الله عليهم أجمعين). و هو التاسع من أئمة أهل البيت المعصومين و خلفاء الله في العالمين. ولد في المدينة المنورة عام 195 من الهجرة النبوية المباركة. و اختلف في يوم ولادته و الشهر علي أقوال أبرزها: 1- احدي ليالي شهر رمضان المبارك [2] . 2- ليلة الجمعة من شهر رمضان لتسع عشرة ليلة خلت منه، أو لسبع عشرة ليلة مضت منه، أو في منتصف شهر رمضان، أو في الخامس منه. [3] . [ صفحه 14] 3- في رجب، العاشر منه، و هي الرواية المعمول بها في النجف الأشرف بخاصة و العراق بعامة في الاحتفاء بمولده الشريف منذ أدركنا ذلك. [4] . و يؤيده ما خرج عن السفير الثالث لصاحب الأمر عجل الله فرجه، أعني الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح (قدس سره): ((اللهم اني أسألك بالمولودين في رجب: محمد بن علي الثاني (الامام الجواد) و ابنه علي بن محمد المنتجب (الامام علي الهادي)). يضاف الي ذلك قول ابن عياش: ((كان يوم العاشر من رجب مولد أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام))) [5] . و احتفي الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، و الهاشميون بهذا الوليد الجديد، و كان السرور غامرا لأهل بيت النبوة، و بهجة الامام الرضا ظاهرة بأشراقة نجله الوحيد، و أبدي عند ولادته من الاهتمام به ما روي عن السيدة حكيمة بنت الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، انها قالت: ((حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر، و قد دعاني الرضا (عليه‌السلام) فقال: يا حكيمة! احضري ولادتها، و ادخلي و اياها و القابلة بيتا، و وضع لنا مصباحا... فأخذه بعد الولادة و وضعه في المهد، و قال لي: يا حكيمة الزمي مهده)). [6] . [ صفحه 15] و يبدو أن الامام (عليه‌السلام) قد سهر عنده لما ورد أنه ولد. «و كان طول ليلته يناغيه في مهده» [7] . و قد عبر الامام عن قيمة هذا الوليد الرسالية، و أعرب عن منزلته الكبري بما قاله لأصحابه: «قد ولد لي شبيه موسي بن عمران فالق البحار، و شبيه عيسي بن مريم، قدست أم ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة» [8] . و قد اجريت للامام مراسيم الاستحباب الشرعية علي يد أبيه الامام الرضا، كما هي عادة الأئمة الطاهرين (عليهم‌السلام). و أشاد الرضا (عليه‌السلام) بجلالة ولده منذ اليوم الأول، و أشار الي عظيم بركته فقد روي عن علي بن أسباط، و عباد بن اسماعيل، قالا: (انا لعند الرضا (عليه‌السلام) بمني، اذ جي‌ء بأبي جعفر (عليه‌السلام)، قلنا: هذا المولود المبارك؟ قال: نعم؛ هذا المولود الذي لم يولد في الاسلام أعظم بركة منه) [9] . و يبدو ان الامام الرضا (عليه‌السلام) كان يكرر هذا القول بالنسبة لولده الامام محمدالجواد، فقد روي أبو يحيي الصنعاني، قال: «كنت عند الامام الرضا، فجي‌ء بابنه أبي جعفر (عليه‌السلام) و هو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد أعظم علي شيعتنا بركة منه» [10] . [ صفحه 16] و يظهر أن الامام (عليه‌السلام) يشير بلمح غيبي الي ما سيجري علي يدي ولده الامام محمد الجواد من الدلائل و البراهين - كما سنري - التي تثبت أولياء أهل البيت (عليهم‌السلام) علي مبدئهم، و التي تدفع بها الشبهات عن معتقدهم، فتشرئب لذلك الأعناق، و تتطامن الأساطين، و تعفو العقول و الأفكار و كان الامام قد بشر أصحابه بما وهب له الله تعالي فقال: «ان الله قد وهب لي من يرثني و يرث من آل داوود» [11] . و قد أضفي الامام الرضا (عليه‌السلام) الصفات المثلي علي ولده، و بما يؤول اليه أمره، فيعبر عنه أنه: «الصادق و الصابر و الفاضل، و قرة أعين المؤمنين، و غيظ الكافرين» [12] . و قد سمي الامام بما أعلنه الامام الرضا (عليه‌السلام): محمدا، و كناه بأبي جعفر. [13] . و أورد الشيخ الصدوق، قال: «سمي محمد بن علي الثاني و عرف الامام بلقبه (الجواد) فكان علما له بين الناس و اشتهر ذلك علي ألسنة الخلائق. و ظفر الامام بألقاب أبرزها: (المختار، و المرتضي، و المتوكل، و المتقي، و الزكي، و النقي، و المنتجب، و المرتضي، و القانع، و العالم» [14] . [ صفحه 17] و كانت كنيته كنية جده الامام محمد الباقر (عليه‌السلام)، و هي: أبو جعفر، و للتفريق بينهما يقال للامام الباقر: أبو جعفر الأول، و يقال للامام الجواد: أبو جعفر الثاني. و كما اتحدت الكنيتان، فقد اتحد الاسمان ذاتا و أبا، فالامام الباقر: محمد بن علي، و الامام الجواد: محمد بن علي. و للتفريق بينهما في الروايات يقال للامام الباقر: محمد بن علي الأول. و يقال للامام الجواد: محمد بن علي الثاني. و قد اشتهر الامام محمد الجواد في العراق بأنه: (باب المراد) و امتد هذا التعبير عبر القصبات و البقاع و الأقاليم، فكان لقبا له عند جميع المسلمين، بل علما دالا عليه لأنه: «باب من أبواب الرحمة الالهية التي يلجأ اليها الملهوفون، و ذووا الحاجة لدفع ما ألم بهم من مكاره الدهر و فجائع الأيام». [15] . و كان تحقق المراد بالدعاء عند ضريحه الشريف أصل هذا القلب، و كانت تلبية الطلبات لديه متواترة، حتي شاع ذلك بين الناس، و حتي يقال عند زيارته علي ألسنة الجماهير الموقنة: السلام علي باب المراد الامام محمد الجواد. أما أمه فهي السيدة الفاضلة سبيكة كما نص علي ذلك المحققون [16] . [ صفحه 18] و صحف في بعض المصادر الي سكينة. [17] . قد ورد أن الامام الرضا (عليه‌السلام) سماها: الخيزران [18] . و قيل أن اسمها: درة، كما في بعض المصادر. [19] . و سميت بمصادر أخري باسم ريحانه. [20] . و مهما يكن من أمر، فقد ورد أنها: «كانت أفضل نساء زمانها» [21] . و روي أنها كانت من أهل بيت مارية القبطية أم ابراهيم بن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). [22] . و ورد أيضا أنه: أبيض معتدل. [23] . و في بعض الروايات أنه: شديد الأدمة [24] أي شديد السمرة. و قد اعتبرت هذه الرواية شاذة، وعدها سيدنا الأستاذ الخوئي من الموضوعات. [25] . [ صفحه 19] و مع هذا فقد ورد عن عسكر مولي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، يقول: «دخلت عليه - يعني الامام الجواد - فقلت في نفسي: يا سبحان الله!! ما أشد سمرة مولاي و أضوء جسده!» [26] . و ما تردد في مسألة اللون، فهذا مما لا يؤخر شيئا و لا يقدمه، فهو خلق الله. و كان نقش خاتم الامام متميزا في دلالته، رفيعا في مداركه، بز به الطغاة، و هزأ بالمستكبرين، اذ كتب عليه «العزة لله» [27] . و قيل: ان نقش خاتمه: «نعم القادر الله» [28] . و قيل: كان مكتوبا عليه: «حسبي الله». [29] . و مهما يكن من أمر فهو مرتبط بالله عزوجل عزة، أو قدرة، أو حسبي. [ صفحه 21]

نشأة الامام المثالية

نشأ الوليد المبارك في ظل أبيه الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، و في بيت المجد و الشرف الشامخ، بيت النبوة، و معدن الوحي، و مستقر التنزيل، و مختلف الملائكة المقربين. و قد غذاه أبوه روح الوحي و اليقظة، و منحه الحب الأبوي الخالص، و أشرف علي تربيته الفذة بذاته المقدسة، فعاد مثلا للطفولة البريئة الواعية، و للصبا المتطور، فبرز منذ ذلك الحين نموذجا جديدا في الأدب و الخلق و الفضيلة، و اعتبر مثالا فريدا للعلم و الحلم و الدين و المعارف الانسانية في شتي حقولها. اتجهت له الأنظار صغيرا، و انجذبت له المشاعر و الأحاسيس يافعا، فهذا الصبي الامام حالة جديدة خارقة، لا شبيه له في مؤهلاته، و لا نظير له في قابلياته، فهو ابن أبيه حقا حذو القذة بالقذة، و غصن من تلك الشجرة الطبيبة التي (أصلها ثابت و فرعها في السماء) [30] و من الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا. و لا مغالاة فيما قدمت، بل هو حكاية أمينة لواقع الامام الجواد (عليه‌السلام)، اذ كان الرمز الأسمي للمثالية بأدق معانيها و النموذج الأرقي للانسانية في تفتح مداركه و مواهبه، و توهج معارفه و قيمه، و تبلور أفكاره و ذهنيته، و هو في سن مبكرة رشحته للامامة في السابعة من عمره، [ صفحه 22] تحديا لجبروت السلطان، و مقاومته لفقدان الشرعية في الحكم، فكان مل‌ء السمع و البصر قدرة و افاضة في نشأة رائعة خلاقة. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «و هكذا فتح محمد بن علي (الثاني) عينيه علي الدنيا في تلك الأجواء النقية المطهرة، و تربي و ترعرع في تلك الأحضان الدافقة بالحب و الحنان، و حبا و سار علي ذلك الصعيد المبارك المقدس، و نما و شب في تلك البيئة الصالحة المصفاة، حتي أصبح ذلك الشارب الملائكي الذي تتطلع اليه النفوس قبل العيون، و تتملاه البصائر قبل الأبصار، و تنجذب اليه الأفئدة قبل الأسماع» [31] . و كان تكريم الامام الرضا لولده بالغا، و عنايته به فائقة، حتي روي أنه ما كان يذكره الا بكنيته، يقول: «كتب الي أبوجعفر، و كنت أكتب الي أبي جعفر و هو صبي في المدينة فيخاطبه بالتعظيم»، و ترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة و الحسن فسمعته يقول: «أبوجعفر وصيي و خليفتي في أهلي من بعدي». هذا ما رواه محمد بن أبي عباد كاتب الامام الرضا (عليه‌السلام) [32] . و الامام يكرر هذا المعني و يشيعه بين أوليائه و أصحابه ليكونوا علي بينه من الأمر، فعن محمد بن خلاد، قال: سمعت الرضا (عليه‌السلام)، و ذكر شيئا قال: ما حاجتكم الي ذلك؟ [ صفحه 23] «هذا أبوجعفر قد أجلسته مجلسي، و صيرته مكاني، و قال: انا أهل بيت يتوارث أصاغرنا أكابرنا حذو القذة بالقذة» [33] . و كان الامام ينوه بخلافة ولده الامام محمد الجواد له من بعده، فقد قال جعفر بن محمد النوفلي للامام الرضا (عليه‌السلام) ما تأمرني؟ قال الامام الرضا: عليك بابني محمد من بعدي... [34] . و قد تكرر هذا المعني من قبل الامام حتي في منفاه بخراسان فعن مسافر؛ قال: أمرني أبوالحسن (عليه‌السلام) بخراسان فقال: «الحق بأبي جعفر فأنه صاحبك» [35] . و هكذا فهم أتباع أهل البيت منزلة الامام الجواد و شأنه، و موقعه من الامامة، و بدأوا يعظمونه و يجعلونه كما هو أهل لذلك. فهذا عم أبيه العبد الصالح علي بن الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) يكرمه و يحتفي به، بما يرويه محمد بن الحسن بن عمار، قال: (كنت جالسا عند علي بن جعفر بن محمد بالمدينة، و كنت أقمت عنده سنتين أكتبت عنه ما سمع من أخيه، يعني أبا الحسن - الامام موسي بن جعفر - اذ دخل عليه أبوجعفر محمد بن علي الرضا المسجد - مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) -، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء و لا رداء فقبل يده و عظمه. فقال له أبوجعفر (عليه‌السلام): يا عم أجلس رحمك الله. [ صفحه 24] فقال: يا سيدي كيف أجلس و أنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر الي مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه، و يقولون: أنت عم أبيه!! و أنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال اسكتوا، اذا كان الله عزوجل - و قبض علي لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة، و أهل هذا الفتي، و وضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد» [36] . و يؤكد هذه الحقيقة ما كان يدور بأذهان الخلص من أصحاب الرضا، و تساؤلهم الحثيث عن الخلق من بعده، و ما كان من الامام الرضا (عليه‌السلام) لينص علي الامام الجواد فحسب، بل يصفه بأنه حجة الله تعالي من بعده، فعن بنان بن نافع، قال: «سألت علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، فقلت: جعلت فداك، من صاحب الأمر بعدك.؟ فقال لي: يا ابن نافع يدخل عليك من هذا الباب من ورث ما ورثته ممن هو قبلي، و هو حجة الله تعالي من بعدي. فبينا أنا كذلك اذ دخل علينا محمد بن علي (عليه‌السلام)» [37] . و يستخلص مما تقدم؛ ان الامام محمد الجواد قد نشأ في ظل أبيه، و رباه تربية صالحة، و رعاه رعاية فائقة، و بشر أصحابه به، و أظهر مقامه و كيانه، و نص علي امامته، و أوصي اليه من بعده فكان الامام المفترض الطاعة. [ صفحه 25]

خصائص الامام الانسانية

لا يختلف الامام محمد الجواد عن آبائه المعصومين في مميزاته و خصائصه و لا يتجاوزهم في مثله العليا في الزهد و التقوي و الانابة و الخلق الرصين العالي، فهو امتداد لهم و شجنة منهم، اشتدت أواصره بأواصرهم و اشتبكت جذوره بجذورهم، فهم كالحلقة المفرغة في أمهات الفضائل و أصول المواهب، فالخصائص بينهم مشتركة و المميزات متساوقة ولكنه اشتهر شهرة كبري مستفيضة بين أعدائه و أوليائه بالبر و الايثار و عرف بالكرم و السخاء المجرد عن الرياء و المن، و تسامي بوفرة العطاء و بسط اليد و لهذا سمي بالجواد. [38] . فهو لقب خاص به، و سمة امتاز بها، و الأئمة (عليهم‌السلام) يشاركونه فيها كما يشاركهم في تلك الكنايات النادرة، و هذا الكتاب و ان نهد الي البحث في فكر الامام محمد الجواد و قيادته للأمة في صباه و ريعان الشباب كما هو الشأن في أجزاء (موسوعة أهل البيت الحضارية) بما صدر منها و ما سيصدر بأذن الله تعالي، فانها ركزت القول و عمقت الحديث عن أفكار الأئمة المعصومين و سلطت الضوء علي أبرز المعالم التي تغلب علي كل امام بحسب ظروفه الاجتماعية و ما سمح له الزمن من تجسيد للقيادة النضالية أو العلمية أو الحضارية أو السياسية أو الابداعية أو الريادية أو التنظيمية أو الدعائية أو الاعلامية و سوي ذلك [ صفحه 26] من الميادين الرفيعة التي خاض غمارها المعصومون بكل أصالة و موضوعية و انتقاء، و لكن هذا لا يعني أن تهمل بعض الجوانب الأساسية في المثل و القدوة و الاهتداء و سنن الوعي و الحياة و الجهاد بالمال، فلكل من هذه المفاهيم مصاديقها الحية النابضة في سيرة الأئمة الطاهرين، و هذا ما يشير أن البحث قد يعني باثبات شذرات من هذه الظواهر و ابداء لقطات من تلك المشاهد ليستدل من خلالها بما ذكر علي ما لم يذكر. و من هذا المنطلق ارتأي البحث أن نقتصر بالحديث عن ظاهرة السخاء الذاتي و حياة الايثار في منظور تناول خصائص الامام من أنباء و طرائف و أساليب قد نلمس في بعضها نحوا من اللمح الغيبي في العطاء بقدر أو بغير سؤال، مما يضيف للمؤشر الاعجازي في مسيرة الامام بعدا جديدا يصطف في منظومة الرؤية الاعجازية لأبعاده التي سنقرؤها و تسمع فيما يأتي من البحث. و ما سنذكره هنا لا يعدو كونه نماذج علي سبيل المثال لا الحصر، و ينبغي الالتفات في هذا الملحظ من السلوك الايثاري الكريم أن أباه الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) كان يحضه علي البر و السخاء و الاحسان، و يحثه علي الاسراع في الخيرات، و يأمره بحمل المال معه حيثما سار أو اتجه لاسعاف ذوي الحاجة و الفاقة و تلبية صراخ المحرومين بنفحة من العطاء الجزل، و صلة الأرحام و ذوي القربي بما أجزي و أغني فعن محمد بن أحمد بن أبي نصر البزنطي، قال: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا الي أبي جعفر (عليه‌السلام): [ صفحه 27] (يا أبا جعفر؛ بلغني أن الموالي اذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير و انما ذلك من بخل بهم، لئلا ينال منك أحد خيرا، أسألك بحقي عليك: لا يكن مدخلك و مخرجك الا من الباب الكبير، و اذا ركبت فليكن معك ذهب و فضة، ثم لا يسألك أحد الا أعطيته و من سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين دينارا، و الكثير اليك، و من سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة و عشرين دينارا، و الكثير اليك، اني أريد أن يرفعك الله فانفق و لا تخش من ذي العرش اقتارا) [39] . و أمر الامام بأن يحمل ولده الذهب و الفضة، تعبيرا عن الدنانير و الدراهم، فالدينار ذهبي و الدرهم فضي، و المبلغ الذي وجهه بعطائه يغني السائل بالنسبة للقيمة السوقية آن ذاك فهو ثمن لشراء دار مناسبة في ذلك العصر. و كانت صلة الرحم من الأهداف المركزية لدي الامام الرضا،و كان يراسل في شأنها ولده الامام الجواد من خراسان و ولده في المدينة و هو صبي صغير، و كان هدف هذه المراسلات التأكيد علي بر الأرحام، و الانتداب الي صلة الموالين لأبيه و جده، فمن كتب للرضا اليه (عليه‌السلام): «بسم الله الرحمن الرحيم: أبقاك الله طويلا، و أعاد من عدوك يا ولدي، فداك أبوك، قد فسرت لك مالي و أنا حي سوي، رجاء أن ينميك الله بالصلة لقرابتك، و لموالي (موسي و جعفر) رضي الله عنهما... قال الله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة...) [40] . [ صفحه 28] و قال: (لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله...) [41] . و قد أوسع الله عليك كثيرا يا بني، فداك أبوك، و لا تستر دوني الأمور لحبها، فتخطي حظك، و السلام) [42] . و اتخذ الامام محمد الجواد نصائح أبيه منهجا فقد روي سهل بن زياد عن أحمد بن حديد، قال: «خرجت مع جماعة حجاجا، فقطع علينا الطريق، فلما دخلت المدينة لقيت أبا جعفر (عليه‌السلام) في بعض الطريق فأتيت المنزل، فأخبرته بالذي أصابنا فأمر لي بكسوة و أعطاني دنانير، و قال: فرقها علي أصحابك علي قدر ما ذهب!! فقسمتها بينهم، فاذا هي علي قدر ما ذهب منهم لا أقل و لا أكثر» [43] . و كان الحسن بن علي الوشا يقول في نفسه: كنت أردت أن أسأل أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) قميصا من ثيابه فلم أفعل!! فاذا عاد أبوجعفر فاسأله... و اذا برسول الامام (عليه‌السلام) يأتيه بقميص من دون أن يسأله، و يقول عن الامام: هذا من ثياب أبي الحسن التي كان يصلي فيها» [44] . [ صفحه 29] و في الخبرين معا دلالة علي علم موهبي يضاف الي الكرم المعهود. في عهد المعتصم العباسي، كان ركب الامام الجواد، كما يستفاد من أصحابه الذين رافقوه في سفر الحج هذا و ان مائدة كانت تمد بأمره في كل يوم لاطعام الحجيج [45] . و هناك نصوص أخري تتحدث عن كرم الامام في الاطعام ففي بعضها أن الامام كان يطعم أصحابه بل و يأمرهم بالجلوس عنده و بالأكل و قد يأتيه الضيف فيقول الامام للغلام: كل معه ينشط. [46] . و كان الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) جوادا بما في يده زاهدا في ذاته فلا يأسي علي ما فاته و لا يحزن لما أصابه منم حرب في ماله أو فقدان لشي‌ء من الحطام الزائل فقد روي أنه حمل اليه (عليه‌السلام) حمل بز له قيمة كبيرة، فسل في الطريق فكتب اليه الذي حمله يعرفه الخبر، فوقع بخطه (عليه‌السلام): «ان أنفسنا و أموالنا من مواهب الله الهنيئة و عواريه المستودعة يمتع بما متع فيها في سرور و غبطة و يأخذ ما أخذ منها في أجر و حسبة فمن غلب جزعه علي صبره حبط أجره، نعوذ بالله من ذلك» [47] . و ربما شاهده بعض المغفلين في حالة رفاه ظاهري لدي استدعائه الي بغداد، فظن أنه مقيم فيها بمدارج النعيم أو ساكن اليها في بحبوحة من العيش الرغيد، و الامام بعلمه اللدني و فراسته التي لا تخطئ، يقرأ النفوس، و يترجم الأفكار، فهذا الحسين قد ظن أن الامام في [ صفحه 30] ذلك المناخ المتصور من السعادة و الاطمئنان فقرأ (عليه‌السلام) ما في نفسه من خواطر و ما في ذهنه من شطحات و قال له: (يا حسين خبز شعير، و ملح جريش في حرم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أحب الي مما تراني فيها) [48] . و هذا القول يحكي عما يضم بين جوانح الامام من الزهد و الاعراض عن زخارف الدنيا و مناهجها. و بقي أن ننبه أن مصدر سخاء الامام كان من موارده الخاصة و مصادر الأوقاف في قم التي ترد عليه فيضعها و الحقوق الشرعية التي لا تتعدي حدود المسلمين لها، كل أولئك ينفقه الامام علي أهله من الضعفاء و الفقراء و المساكين، مضافا الي ممتلكاته ارثا و اكتسابا، تأتي الروافد الأخري لتسد احتياجات الآخرين كرما وجودا و شهامة. و لابد أن نشير الي الامام علي سخائه بماله، كان سخيا بجاهه و رعايته لأوليائه و هو أهم نوعي السخاء و ذلك مما يضاف لخصائصه كما ستقرأ في المبحث الآتي. [ صفحه 31]

رعاية الامام لأوليائه في ذات الله

و كانت عناية الامام بأوليائه لا تحدها حدود، فهو يبرهم و يدعو لهم، و يسعي في قضاء حوائجهم و يواسيهم في الضراء و السراء، و يشاركهم آلامهم و آمالهم، و لا يبخل بجاهه عليهم و يعلي من شأن أبرارهم و يكرم ذوي الثبات و التمحيص فيهم و يعظم أهل الدين و يتابع خطوات السائرين في درب جهاد النفس و التضحية و له في ذلك دلائل و شواهد و براهين نخلص منها أن الامام في الرعيل الأول من الذابين عن أحبائه و أتباعه و من المباركين لالتزامهم و تحفظهم و احتياطهم و من الداعين الي تسديد خطاهم، و من الداعين الي تصحيح أخطائهم فله في كل قلب جذوة و في كل درب شعله و في كل حقل وردة متفتحة و نحن نورد جزءا من أمثلة علي هذا نستقرئ بها هذا المناخ العابق بالنفحات. رافق الامام في سفره الي الحج أول ملك المعتصم أحد أوليائه فاستثمر هذه الرفقة المباركة و قال الامام: «ان والينا جعلت فداك رجل يتولاهم أهل البيت و يحبكم و علي في ديوانه خراج فان رأيت جعلني الله فداك أن تكتب اليه بالاحسان الي). و كان الوالي المذكور هو الحسين بن عبدالله النيسابوري و كان علي سجستان، فقال الامام (عليه‌السلام): لا اعرفه فقال: جعلت فداك انه علي ما قلت لك من محبيكم أهل البيت و كتابك ينفعني عنده. فأخذ الامام محمد الجواد القرطاس و كتب اليه: [ صفحه 32] (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فان موصل الكتاب ذكر عنكم مذهبا جميلا، و ان مالك من عملك ما أحسنت فيه فأحسن الي اخوانك و اعلم ان الله عزوجل سائلك عن مثاقيل الذر و الخردل). قال: فلما وردت سجستان سبق الخبر الي الحسين بن عبدالله النيسابوري و هو الوالي فاستقبلني علي فرسخين من المدينة فدفعت اليه الكتاب فقبله و وضعه علي عينيه و قال لي: حاجتك!! فقلت: خراج علي في ديوانك!! قال: فأمر بطرحه عني، و قال: لا تؤد خراجا ما دام لي عمل! ثم سألني عن عيالي: فأخبرته بمبلغهم فأمر لي و لهم بما يقوتنا و فضلا، فما أديت في عمله خرجا ما دام حيا و لا قطع عني صلته حتي مات) [49] . و قد يكون من كرم الامام الباذخ و رعايته لأتباعه البالغة اغاثة الملهوفين في شؤون ليست بالحسبان فقد روي العتبي عن بعض العلويين أنه كان يهوي جارية و كانت يده قاصرة عن ثمنها فشكا ذلك الي الامام الجواد (عليه‌السلام) فسأله عن صاحبها فأخبره عنه، و لما كان بعد أيام سأل العلوي عن الجارية فقيل له: قد بيعت و سأل عن المشتري لها فقال له: لا ندري و كان الامام الجواد (عليه‌السلام) قد اشتراها سرا ففزع العلوي نحو الامام و قد رفع صوته: بيعت فلانة. فقابله الامام ببسمات فياضة بالبشر قائلا: [ صفحه 33] هل تدري من اشتراها؟ فقال: لا و انطلق معه الامام الي الضيعة التي فيها الجارية فانتهي الي البيت الذي فيه الجارية فأمره (عليه‌السلام) بالدخول الي الدار فأبي العلوي و لم يعلم أن الامام قد اشتراها و أصر عليه الامام بالدخول و لم يلتفت الي انها ملك الامام، ثم أنه دخل الدار مع الامام فلما رأي الجارية التي يهواها قال له (عليه‌السلام): أتعرفها؟ قال: نعم!! قال الامام (عليه‌السلام): هي لك و القصر و الضيعة و الغلة و جميع ما في القصر فأقم مع الجارية. [50] . و هذه ظاهرة انسانية رفيعة المستوي سيرها لنا الامام تجربة فذة و أمثولة نادرة لاستثمار الاقتدار في اصطناع المعروف و الاستباق الحثيث الي مكارم الأخلاق. و كان الامام كبيرا في نفسه رفيعا في همته، عظيما في مرؤته، فهو يرعي الناس و هو يبر بهم، و هو يلوح لهم بجليل خلائقه، فقد أتاه رجل فقال له اعطني علي قدر مروتك!! فقال الامام الجواد (عليه‌السلام): لا يسعني!! فقال السائل: علي قدري. قال الامام: أما ذا فنعم، يا غلام أعطه مائة دينار. [51] . و كان علي بن مهزيار الأهوازي محمودا عند الامام و كان الامام يرعي حرمته و يعظم شأنه و له في حقه هذه الرسالة المهمة التي توج بها الامام مفرقه في الدعاء له، و الاعتداد به: [ صفحه 34] (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي أحسن الله جزاك و أسكنك جنته و منعك من الخزي في الدنيا و الآخرة و حشرك الله معنا. يا علي بلوتك و خيرتك «خبرتك» في النصيحة و الطاعة و الخدمة و التوقير و القيام بما يجب عليك فلو قلت: اني لم أر مثلك لرجوت أن أكون صادقا فجزاك الله جنات الفردوس نزلا، فما خفي علي مقامك و لا خدمتك في الحر و البرد في الليل و النهار فاسأل الله اذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تغتبط بها، انه سميع الدعاء) [52] . فانظر الي هذا الثناء العاطر و هذا الالتزام الفريد و هذا التكريم المتزايد مما يدل علي علو منزلة الرجل. و الامام في هذا الملحظ يعطي كل ذي حق حقه رعاية كبري منه لأوليائه!! و مرة أخري يكتب له الامام رسالة قصيرة معبرة، فيها الرقة و فيها الاغتباط و فيها الدعاء العريض قال الامام: (قد وصل الي كتابك و فهمت ما ذكرت فيه و قد ملأني سرورا فسرك الله و أنا أرجو من الكافي الدافع أن يكفيك كيد كل كائد ان شاء الله تعالي) [53] . فأي رجل هذا الذي يدخل السرور علي الامام فيدعو له أن يسره الله و أن يدفع عنه و يكفيه الكيد. و تارة أخري نجد ابن مهزيار هذا يسأل الامام التوسعة في أهله فينعم عليه الامام بالاجابة و يدعو له بما هو أوسع شأنا يقول الامام (عليه‌السلام) فيما كتبه اليه: [ صفحه 35] «وسع الله عليك و لمن سألت التوسعة في أهلك و أهل بيتك و لك يا علي عندي أكثر من التوسعة و أنا اسأل الله أن يصحبك بالتوسعة العافية و يقدمك علي العافية، و يسترك بالعافية، انه سميع الدعاء» [54] . و يتوجه علي بن مهزيار للامام الجواد طالبا منه الدعاء له فيكون الجواب له علي ذلك بكتاب عتيد يحكي جلالة قدر الرجل عند الامام و خلوص ذاته تقوي و ورعا في لفتات بارعة معبرة عن مدي الحب و التقدير و الالتزام، كتب الامام (عليه‌السلام) اليه: «و أما ما سألت من الدعاء فانك بعد لست تدري كيف جعلك الله عندي، و ربما سميتك باسمك و نسبك مع كثرة عنايتي بك و محبتي لك و معرفتي بما أنت عليه فأدام الله لك أفضل ما رزقك من ذلك و رضي عنك و بلغك أفضل نيتك و أنزلك الفردوس الأعلي برحمته انه سميع الدعاء حفظك الله و تولاك و دفع عنك السوء برحمته. و كتبت بخطي). [55] . و هناك رسائل أخري في هذا السياق كتبها الامام اليه، و فيها دلالة بالغة علي وثاقته و رفيع منزلته. [56] . و لئن صنع الامام هذا الصنيع الجميل بابن مهزيار فقد عطف في هذا المنحي بالذات علي عبدالعزيز بن المهتدي القمي الأشعري فخرج فيه عن الامام الجواد ما نصه: [ صفحه 36] (غفر الله ذنبك و رحمنا و اياك، و رضي عنك برضائي). [57] . و هذا ابراهيم بن محمد أحد وكلاء الامام، يدفع عنه الامام، و يوصي به و يعلن وكالته بما كتبه اليه بالقول: (و قد كتبت الي النضر، أمرته أن ينتهي عنك، و عن التعرض لك و لخلافك، و أعلمته موضعك عندي. و كتبت الي أيوب أمرته بذلك أيضا، و كتبت الي موالي بهمدان كتابا أمرتهم بطاعتك و المصير الي أمرك، و أن لا وكيل سواك). [58] . و روي الكشي بسنده عنه قال: كتبت الي أبي جعفر (عليه‌السلام) أصف له صنع السميع في، فكتب بخطه: (عجل الله نصرتك ممن ظلمك و كفاك مؤنته و أبشرك بنصر الله عاجلا، و الأجر آجلا، و أكثر من حمد الله) [59] . و هذا محمد بن اسماعيل بن بزيع، عده الطوسي في أصحاب الامامين الرضا و الجواد (عليه‌السلام) و قد سأل الامام الجواد أن يمنحه قميصا لامس بدنه ليجعله كفنا له فبعث اليه الامام (عليه‌السلام) ذلك و كان الامام الرضا (عليه‌السلام) يخاطب أصحابه بشأنه فيقول: (وددت أن فيكم مثله و قد رعاه الامام الجواد رعاية خاصة) [60] . و له رواية عن الامام الرضا (عليه‌السلام) تتعلق بتعليمات أهل البيت (عليهم‌السلام) فيما يخص أتباعهم و أوليائهم لدي تعاونهم مع السلطات لاصلاح أمر [ صفحه 37] المؤمنين و تلبية احتياج الضعفاء و قضاء مهمات أمناء الله في أرضه و تنفيس الكربات عن شيعتهم و أهمية ذلك في التخطيط العام بالدفع عن الأولياء و اعتبارهم المؤمنين حقا الذين خلقوا للجنة و خلقت لهم. قال الامام (عليه‌السلام): «ان لله تعالي بأبواب الظالمين من نور له البرهان و مكن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه، و يصلح الله به أمور المسلمين، اليهم يلجأ المؤمن من الضرر، و اليهم يفزع ذوالحاجة من شيعتنا، و بهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقا أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور في رعيتهم يوم القيامة، و يزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضي‌ء منه القيامة، خلقوا للجنة، و خلقت الجنة لهم، فهنيئا لهم، ما علي أحدكم أن لو شاء نال هذا كله. قال محمد بن اسماعيل قلت: بماذا؟ جعلني الله فداك!! قال: يكون معهم فيسرنا بادخال السرور علي المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد» [61] . و توفي زكريا ابن آدم رحمه الله تعالي و كان من الوثاقة و العلم بمكان عظيم فأبنه الامام الجواد (عليه‌السلام) حق تأبينه، و أثني عليه بما هو أهله، فعن محمد بن اسحاق و الحسن بن محمد، قالا: خرجنا بعد وفاة زكريا بن آدم الي الحج، فتلقانا كتابه، يعني (الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)) في بعض الطريق: «ذكرت ما جري من قضاء الله في الرجل المتوفي رحمه الله يوم ولد، و يوم قبض، صابرا محتسبا للحق، قائما بما يحب الله و رسوله و مضي [ صفحه 38] رحمة الله عليك غير ناكث و لا مبدل، فجزاه الله أجر نيته و أعطاه جزاء سعيه و ذكرت الرجل الموصي اليه فلم يعد في رأينا وعندنا من المعرفة به أكثر مما وصفت يعني الحسن بن محمد بن عمران» [62] . و من خلال النماذج المتقدمة يبدو أن هذه الرعاية التامة من الامام في التوجيه و النصح و الدعاء و التأييد و الثناء ذات مغزي رسالي عام يؤكد التزام أولياء الأئمة لبيان أهميتهم الولائية من جهة، و ليكونوا أمثولة للآخرين في الاقتداء، و هذا نموذج فريد لاعطاء كل ذي حق حقه في الشأن و المنزلة و البعد الرسالي، لئلا تفتقد الموازين الواعية في التقييم و التقويم معا و من أولي من الامام محمد الجواد بهذه النفحات الندية و من أجدر منه بوضع الرجل المناسب في الموقع المناسب من الوثاقة و الشرف و الدين. [ صفحه 39]

المناخ العرفاني في سلوك الامام

و كان السلوك في رياضة النفس، و النهج العرفاني في ادارة الذات للامام محمد الجواد في القمة الصاعدة لدي رصد علاقة المرء بربه و ربط تصرفات الكائن الأرضي بالسماء، في نموذج لتلك الحالة من الانابة و الاخبات و الخشوع فهو ذو برنامج خاص في الطاعة و العبادة الخالصة مما يذكرنا بآبائه من الأئمة المعصومين. و كان عابدا ناسكا كثير النوافل و المستحبات حتي روي أنه كان يصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة سورة الفاتحة، و سورة الاخلاص سبعين مرة. [63] . و في مثابرة جادة لتخير أماكن العبادة و مراعاة آداب الزيارة يحدثنا عبدالله بن رزين قائلا: (كنت مجاورا بالمدينة - مدينة الرسول -، و كان أبوجعفر (عليه‌السلام) يجي‌ء كل يوم مع الزوال الي المسجد فينزل الي الصخرة و يمر الي الرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و يسلم عليه و يرجع الي بيت فاطمة و يخلع نعله فيقوم فيصلي)... [64] . و كان يعلم أتباعه و أولياءه ما يقوله النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) اذا فرغ من صلاته: (اللهم اغفر لي ما قدمت و ما أخرت و ما أسررت و ما أعلنت، و اسرافي علي نفسي و ما أنت أعلم به مني... [ صفحه 40] اللهم اني أسألك خشيتك في السر و العلانية و كلمة الحق و الغضب و الرضا و القصد في الفقر و الغنا)... [65] . و كان يعطي بعض الشهور أهمية خاصة في مراسم العبادة و طقوس الانابة سيما في شهر رجب الأصب. و كان ما تناقله الرواة عنه لدي حضوره الي بغداد مثار اعجابهم، فقد حدث الريان بن الصلت قائلا: (صام أبوجعفر الثاني (عليه‌السلام) لما كان ببغداد يوم النصف من رجب و يوم سبع و عشرين منه و صام معه جميع حشمه، و أمرنا أن نصلي بالصلاة التي هي: اثنتا عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة الحمد سورة، فاذا فرغت قرأت الحمد أربعا و قل هو الله أحد أربعا، و قلت: لا اله الا الله و الله أكبر و سبحان الله و الحمد لله و لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم أربعا، و الله الله ربي، لا أشرك به شيئا أربعا و لا أشرك بربي أحدا أربعا) [66] . و قد ورد عنه (عليه‌السلام) أنه كان يقول: «ان في رجب لليلة خير مما طلعت عليه الشمس، و هي ليلة سبع و عشرين من رجب» و ذكر فيها صلاة خاصة. [67] . و من أرقي نماذج الانابة التوجه نحو الله تعالي بالدعاء، و قد أورد الشيخ الصدوق أمثلة من الدعاء لكل امام حتي اذا ذكر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، أورد له هذا الدعاء: [ صفحه 41] «يا من لا شبيه لعظمته و لا مثال، أنت الله لا اله الا أنت، و لا خالق الا أنت، تفني المخلوقين و تبقي أنت، حلمت عمن عصاك و في المغفرة رضاك» [68] . و قد حدب الامام (عليه‌السلام) علي تلقين أوليائه تلك الأذكار الجارية مجري الأمثال في بلاغتها و ايجازها، و مؤادها، مما سيره في الخلوات و قدمه بين يدي حاجاته عملا بما في التنزيل: (و اذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني) [69] و انصاتا لقوله تعالي: (قال ما يعبأ بكم ربي لو لا دعاؤكم) [70] . فقد علم محمد بن الفضيل ما سأله أن يعلمه اياه، يقول: كتبت الي أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) أسأله أن يعلمني دعاء فكتب الي، تقول اذا أصبحت و أمسيت: (الله الله ربي الرحمن الرحيم، لا أشرك به شيئا، و ان زدت علي ذلك فهو خير ثم تدعو بما بدا لك في حاجتك، فهو لكل شي‌ء باذن الله تعالي) [71] . يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: (ثم أثرت عن الامام (عليه‌السلام) تعليمات و توجيهات في ميادين صقل الروح و تهذيب النفس، و تعميق العلاقة بين العبد و ربه بالتسليم له [ صفحه 42] و التوكل عليه و الاستعانة به في التماس الحاجات و حل المشكلات و تسهيل المعضلات، و قد جاء في جملة تلك الاشارات و التوجيهات أدعية و أذكار حث الامام المؤمنين علي تردادها كل صباح و مساء لقضاء الحوائج و تيسير عقد الأمور) [72] . و لقد قال محمد بن الفرج: كتب الي أبوجعفر بن الرضا (عليه‌السلام) بهذا الدعاء و علمنيه، و قال: من قاله في دبر صلاة الفجر لم يلتمس حاجة الا تيسرت له و كفاه الله ما أهمه: «بسم الله و بالله و صلي الله علي محمد و آله؛ و أفوض أمري الي الله ان الله بصير بالعباد، فوقاه الله سيئات ما مكروا، لا اله من أنت سبحانك اني كنت من الظالمين، فاستجبنا له و نجيناه من الغم و كذلك ننجي المؤمنين، حسبنا الله و نعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء، ما شاء الله لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم» [73] . و في توجهه الدعائي لمحمد بن الفرج: «اذا انصرفت من صلاة مكتوبة فقل: رضيت بالله ربا، و بمحمد نبيا، و بالاسلام دينا، و بالقرآن كتابا، و بفلان و بفلان أئمة»... [74] . [ صفحه 43] و من دلائل انقطاعه الي الله و اخباته له، تلك المراسم و المستحبات التي رواها الحسن بن علي الكوفي مشاهدة في حج الامام لبيت الله الحرام، يقول: «رأيت أبا جعفر الثاني (عليه‌السلام) في سنة خمس عشرة و مأتين، و دع البيت بعد ارتفاع الشمس، و طاف بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط، فلما كان الشوط السابع استلمه و استلم الحجر و مسح بيده، ثم مسح وجهه بيده، ثم أتي المقام فصلي خلفه ركعتين، ثم خرج الي دبر الكعبة الي الملتزم، فالتزم البيت و كشف الثوب عن بطنه، ثم وقف طويلا يدعو، ثم خرج من باب الحناطين و توجه. قال: فرأيته في سنة 219 ه و دع البيت ليلا يستلم الركن اليماني و الحجر الأسود في كل شوط فلما كان الشوط السابع التزم البيت في دبر الكعبة قريبا من الركن اليماني... و كشف الثوب عن بطنه ثم أتي الحجر فقبله و مسحه و خرج الي المقام فصلي خلفه ثم مضي و لم يعد الي البيت، و كان وقوفه علي الملتزم بقدر ما طاف بعض أصحابنا سبعة أشواط و بعضهم ثمانية»... [75] . و روي علي بن مهزيار شيئا من المراسم التي أداها الامام في الحج فقال: «رأيت أبا جعفر الثاني (عليه‌السلام) ليلة الزيارة طاف طواف النساء، و صلي خلف المقام، ثم دخل زمزم، فاستقي منها بيده [ صفحه 44] و الدلو الذي يلي الحجر، و شرب منه، و صب علي بعض جسده، ثم طلع في زمزم مرتين. و أخبرني بعض أصحابنا أنه رآه بعد ذلك في سنة فعل مثل ذلك» [76] . ان هذه اللمسات العرفانية التي التقطنا بعض شذراتها في مسلكية الامام الروحية و التوجيهية و الدعائية تمثل جانبا مشرقا آخر في سيرة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، فهو في شبابه المتبرعم كما هو صباه المتقدم يعطي الصورة التكاملية لحياة الامام في البذل و العطاء و الهدي و الانابة. [ صفحه 45]

الامام في تقييم الأعلام

عد المؤرخون لمسيرة الامام القيادية من خلال التجربة القائمة علي أسس الموازنة الموضوعية أن الامام أبرز رجال عصره عزة و كرامة و شهامة، و أوسع علماء جيله ثقافة و حضارة و معارف، و أشهر عظماء أمته علما و عملا و أصالة، و هو بهذه المميزات العالية يعتبر المؤهل الوحيد دون منازع لمنصب الامامة الشرعية، لتوافر الشرائط الأساسية فيه دون سواه، و اذا كانت أقلام الخلف هي ألسنة الصدق والتقييم و ادراك حقائق الأشياء، فقد ظفر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) بأجلها قدرا، و أسماها كعبا، و أروعها ذكرا، و أشرفها أثرا لدي جمهرة من الباحثين المستقلين، و ان لم يكن بحاجة الي ذلك و قد رفعه الله تعالي، و وهبه من القابليات الكريمة مما تجاوز الآفاق. و اذا كان التأريخ الرسمي يدور في محور السلطان و زمرته الخاصة، و لا يخرج عن دائرة التسبيح بحمده، حتي حرفت الوقائع و شوهت صفحات التوثيق، فعاد تدوين الأمجاد الزائفة سجلا حافلا بما هب و درج من الأنباء المضخمة زورا و بهتانا، فان ما يخطه - و لو جزئيا - للحالات الصادقة يعتبر فتحا جديدا في ظواهر التاريخ المنحرف، و اذا تحدث عن أمجاد بناة الاسلام الحقيقيين، و أشاد بذكر هداة العباد و أئمة الرشاد فسيكون ذلك الحديث علي صدقه استثناء من القاعدة، و من خلال هذه الاستثناء الذي قد يتجسد نادرا لمسنا جزءا سليما من الشذرات الثمينة المتناثرة بأعماق هذا التاريخ و هي تروي بأمانة و حذر فضائل الامام محمد [ صفحه 46] الجواد (عليه‌السلام) و تؤكد سيرورة كرائمه النابضة بالحركة و الحيوية و تشير عن قرب الي مستوي شمائله النادرة. و البحث اذ يورد بعض تلك الشذرات و قد غطي علي قسم منها شي‌ء من التصبيب المتعمد أو الاختزال المقصود بما يؤوله بعض الباحثين بقصر عمره و اخترام حياته بالغيلة و الغدر، فانما يورد ما وضع يده علي أفضلها ذكرا، و انسبها تعبيرا، و أيسرها و جودا، و ما خفي عنا من ذلك أكثر فأكثر، و ما كتمه المؤرخون أوسع مما أبا نوا عنه، و مع هذا و ذاك فما لا يدرك كله لا يترك كله، و هي قاعدة نلجأ اليها في مثل هذه الحالة التي تفرض ارهاصاتها فرضا، و تتنفس عن أبنائها بعد طول عنت و مخاض. بادي ذي بدء نورد ما رواه الامام محمد الجواد نفسه، عن النحو الغيبي الذي سخره الله تعالي و يسره لأصفيائه من الأئمة المعصومين و هو أحدهم يقول الامام: (قال أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام): ان الأوصياء محدثون، يحدثهم روح القدس و لا يرونه) [77] . و الامام الجواد تاسع الأوصياء باجماع الامامية و رعيل كبير من جمهور المسلمين، و روح القدس هو جبرائيل (عليه‌السلام). و ليس هذا بغريب علي عباد الله المخلصين فقد حدثت مريم بنت عمران من قبل روح القدس (فتمثل لها بشرا سويا) [78] . [ صفحه 47] (و اذا قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك علي نساء العالمين) [79] . و كذلك (اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه) [80] . و كذلك أوحي الي أم موسي فقال تعالي فيما خاطب به موسي (عليه‌السلام): (اذ أوحينا الي أمك ما يوحي - أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) [81] . فاذا حدثت مريم ابنة عمران، و أوحي الي أم موسي بن عمران، فما المانع أن يحدث أوصياء محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، و هم بعد جدهم خير البشر. و من هذا المنطلق القرآني قال الامام الرضا (عليه‌السلام) في حق ولده الامام الجواد: (كان أبوجعفر محدثا) [82] . و هذه البداية الأولية ليست من التاريخ، و لكنها من التراث الذي ندين به، فاذا التمسنا المأثور التدويني وجدنا محمد بن طلحة الشافعي يقول: «و أما مناقب أبي جعفر الجواد، فما اتسعت حلبات مجالها، و لا امتدت أوقات آجالها، بل قضت عليه الأقدار الالهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها و أسجالها، فقل في الدنيا مقامه، و عجل القدوم عليه لزيارة حمامه، فلم تطل بها مدته، و لا امتدت فيها أيامه» [83] . [ صفحه 48] و واضح أن ابن‌طلحة ينعي علي الأيام حكمها، اذ لم يتمتع الامام الجواد (عليه‌السلام) بطول العمر، و انما اختطف شهيدا في أول شبابه، و سجل ملامح له من القول المجتزئ. و تحدث الصفدي عن الامام قائلا: «كان محمد يلقب بالجواد و بالقانع و بالمرتضي، و كان من سروات آل بيت النبود... و كان من الموصوفين بالسخاء و لذلك لقب بالجواد» [84] . و عزي أبو العيناء ابن الرضا عن أبيه (عليه‌السلام)، فقال: «أنت تجل عن وصفنا، و نحن نقل عن عظتك، و في علم الله ما كفاك، و في ثواب الله ما عزاك» [85] . و هي عبارات بليغة تحكي عند مدي منزلة الامام في النظر العام. و قال عنه يوسف بن اسماعيل النبهاني: «محمد الجواد بن علي الرضا أحد أكابر الأئمة و مصابيح الأمة، من ساداتنا أهل البيت» [86] . و قال ابن تيمية: «محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم، و هو معروف بالسخاء لهذا سمي بالجواد». [87] . و طبيعي من ابن تيمية أن يختزل ذكر الامام الجواد اختزالا، فهو معروف بوجهة نظره المعاكسة لمنهج أهل البيت عليهم‌السلام. [ صفحه 49] و قال ابن شهرآشوب، و هو يعدد ألقاب الامام و يثني علي مكانته: «... الجواد، و العالم الرباني، ظاهر المعاني، قليل التواني، المعروف بأبي جعفر الثاني، المنتجب المرتضي، المتوشح بالرضا، المستسلم للقضا، له من الله أكثر الرضا، ابن الرضا، توارث الشرف كابرا عن كابر، و شهد له بهذا الصوامع، استسقي عروقه من منبع النبوة، و رضعت شجرته ثدي الرسالة، و تهدلت أغصانه ثمر الامامة» [88] . و قال ابن الصباغ المالكي: «الامام التاسع... عرف بأبي جعفر الثاني «و هو» و ان كان صغير السن، فهو رفيع الذكر، كبير القدر، القائم بالامامة بعد علي بن موسي الرضا» [89] . و قال علي بن عيسي الأربلي: «الجواد في كل أحواله جواد... فاق الناس بطهارة العنصر، و زكاء الميلاد، و امترع قلة العلاء فما قاربه أحد و لا كاد، مجده عالي المراتب، و مكانته الرفيعة تسمو علي الكواكب، و منصبه يشرف علي المناصب، اذا آنس الوفد نارا قالوا ليتها ناره لا نار غالب، الي المعالي سمو، و الي الشرف رواح و غدو، و في السيادة اغراق و غلو، و علي هام السماك ارتفاع و علو، و عن كل رذيلة بعد، و الي كل فضيلة دنو، تتأرج المكارم من أعطافه، و يقطر المجد من أطرافه، و تروي أخبار السماح عنه و عن أبنائه و أسلافه، فطوبي لمن سعي في ولائه، و الويل لمن رغب في خلافه، اذا اقتسمت غنائم المجد و المعالي و المفاخر كان له صفاياها، و اذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها و أسماها، يباري الغيث [ صفحه 50] جودا و عطية، و يجاري الليث نجدة و حمية، و يبذ السير سيرة مرضية، فمن له أب كأبيه، أوجد كجده، فهو شريكهم في مجدهم، و هم شركائه في مجده، بهم اتضحت سبل الهدي، و بهم سلم من الردي، و بحبهم ترجي النجاة و الفوز غدا، و هم أهل المعروف أولوا الندي»... [90] . و هنا نجد الأربلي يعطي مسحا شاملا لمساحة كبيرة من أمجاد الامام الجواد بصفاته و خلائقه و شمائله، و يثني علي ذكر معاليه و مكانته و سؤدده وجوده و كرمه، و يتحدث عن شرفه و محتده و مجده، و يعقب بذكر ولائه و حبه، و يشارف بالاشارة المعبرة الي مفاخره في سجاياه، و مآثره في آبائه و أسلافه، و يعرض لمقامهم الأسمي بعباراته المهذبة الموحية. و كان الشيخ المفيد قدس سره قد تحدث عن الامام محمد الجواد من ذي قبل، فقال: «و كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (عليه‌السلام) لما رأي من فضله مع صغر سنه، و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال العقل ما لم يساوه أحد من مشايخ أهل الزمان... و كان متوافرا علي اكرامه و تعظيمه و اجلال قدره» [91] . و قد اتكأ عليه في هذا التقرير الطبرسي بما ذكره السيد الأمين: (كان (عليه‌السلام) قد بلغ في وقته من الفضل و العلم و الحكمة و الآداب مع صغر سنه منزلة لم يساوه فيها أحد من ذوي الأسنان من السادة و غيرهم، و لذلك كان المأمون مشغوفا به لما رأي من علو مرتبته و عظيم منزلته في جميع الفضائل فزوجه ابنته، و كان متوافرا علي اعظامه و تبجيله» [92] . [ صفحه 51] و قال الأستاذ خير الدين الزركلي: «محمد بن الرضا بن موسي الكاظم، الطالبي، الهاشمي، القرشي، أبوجعفر، الملقب بالجواد، تاسع الأئمة الاثني عشر عند الامامية، كان رفيع القدر كأسلافه ذكيا، طليق اللسان قوي البديهة» [93] . و قال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي: «قد كان أفضل أهل زمانه علما، و عملا، و ورعا، و عبادة، و سخاء و كرما، و في جميع صفات الفضل، و قد روي عنه من أنواع العلوم و أجوبة المسائل المشكلة الشي‌ء الكثير» [94] . و قال السيد هاشم معروف الحسني رحمه الله و هو يستعرض شذرات قيمة من حكم الامام و شوارده و أوابده: «و قد أحاطت كلماته هذه بجميع الجوانب التي تشد الانسان الي الخلق الكريم و الأدب الرفيع و السلوك القويم و كل ما يرفع من شأن الانسان، و يوفر له السعادة و الكرامة في دنياه و آخرته، بهذا و نحوه من القيم و المبادئ وهب الأئمة من أهل البيت حياتهم و وجدوهم، و تحملوا كل أنواع العسف و الجور و التشريد من الحكام و الطغاة و رحلوا عن دنيا الناس بأجسادهم، و ظلوا فيها أحياء بسيرتهم و مبادئهم و تعاليمهم التي تلهم الأجيال كل معاني الخير و النبل و الفضيلة في كل زمان و مكان» [95] . و تحدث الأستاذ باقر شريف القرشي عن الموقع النفسي للامام في ضمائر قواعده الشعبية من الجماهير المؤمنة فقال: [ صفحه 52] «و أحيط الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) بهالة من الحفاوة و التكريم و قابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار و التعظيم، فكانت تري في شخصيته امتدادا ذاتيا لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية و الخير الي الناس، الا أنه لم يحفل بتلك المظاهر التي أحيط بها و انما آثر الزهد في الدنيا، و التجرد عن جميع مباهجها... و اعتبره بحق: (من منابع الفكر و العلم في الاسلام، و أحد مفاخر هذه الأمة و قادتها الطليعيين و قد ملأ الدنيا بفضائله و علومه و زهده و تقواه» [96] . و قال الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «انه ابن الأئمة المنتجبين، و سليل الأمناء الميامين، و أحد حلقات تلك السلسلة الذهبية المشار اليها بالبنان في تاريخ الاسلام، و قد دلتنا النصوص الثابتة التي تضمنتها كتبنا السابقة المعنية بسير آبائه الأكارم - و هم الصفوة المختارة من أهل الأرض علما، و دينا، و زهدا، و نقي، و هديا، و صلاحا، و سلوكا، و أخلافا - أنهم كانوا المؤهلين دون غيرهم باعتراف القريب و البعيد، و المؤالف و المخالف، للامامة الحقة، و ولاية الأمر الشرعية كما أرادها الله تعالي لعباده المؤمنين، و ان أولئك الذي تقمصوا الخلافة بالقوة و القهر أو بالخداع و المكر، أو بالاغراء و شراء الذمم، لم يكونوا خلفاء الرسول و أئمة الدين، و ان زعموا ذلك، لفقدانهم صفات التأهيل المقررة في مدونات الفقه الاسلامي و الأحكام السلطانية» [97] . [ صفحه 55]

الامام الجواد و عصر السلاطين

الامام و ظواهر عصر السلاطين

اثر سقوط الدولة الأموية الارستوقراطية، انتقل الحكم لبني العباس عام (132 ه) و تسلم الحكم متسلطون من نوع جديد، أنافوا علي الأمويين بالظلم و الارهاب الدموي، فابتدعوا من الأحكام و العقوبات والاجراءات ما لم ينزل الله به سلطانا، مما ارتفعوا به الي مستوي الفراعنة ان صح التعبير، فأبو العباس السفاح أول السلاطين من بني العباس، و قد سمي (سفاحا) لكثرة ما استحل من سفك الدماء للأمويين و أشياعهم و ولاتهم حتي استأصل شأفتهم، و ما اكتفي بذلك حتي تعقب المعارضين غيلة و مغامضة، و كان القتل جماعيا في الأمويين، و كيفيا في أتباعهم، و ارتجاليا فيمن تشم منه رائحة المعارضة قولا أو عملا، و ما طال به الحكم حتي تسلمه أخوه أبوجعفر المنصور، فكان جبارا في التسلط عاليا في الأرض معروفا بالغدر، متفننا في الانتقام، و لقد تحاشاه الناس، و تواري عنه المعارضون، و اختفي ابرز شخصيات العمل السياسي، و ذلك لشدة الاجراءات القمعية، فقد استحدث من العقاب الصارم المتنوع ما لم يسبقه اليه أحد، و ابتدع من أساليب الجزاء ما لم يخطر علي ذهن انسان، و اخترع في المعتقلات و السجون من أصناف التعذيب ما لم يجر علي يد أحد من الطغاة، حتي لا يعرف بها الليل من النهار لأنها في ظلمات بعضها فوق بعض، و كان أمرا طبيعيا في اجراءاته: سمل العيون، و قطع الاطراف، و خلع الأكتاف، و حز الرؤوس، و الصلب [ صفحه 56] من خلاف، و حرق الأعضاء، و جز الشعور، و التمثيل بقادة المعارضة، و استئصال الثائرين و قطع الأزراق عن عوائلهم و ذويهم، حتي كان الفقر شعارا، و الجوع دثارا، لمئات الآلاف من أتباع أهل البيت (عليهم‌السلام)، و قد استطال حكمه حتي ضج الناس الي الله فقصف عمره و هو في عنفوان نشاطه السياسي، و استولي من بعده علي الحكم ولده المهدي العباسي، و كان شابا طائشا نزقا فصب العذاب علي الأمة صبا، و ورث عن أبيه أقذر الشمائل و أخبث الصفات، فبذر أموال الدولة، و أسرف في الدماء، و تحكم بالأعراض، و سود الغلمان و الخصيان، مما تقدم ذكره فيما مضي من الحديث في كتبنا السالفة من هذه الموسوعة. حتي اذا تسلم الحكم موسي الهادي عن المهدي العباسي سلفه، رانت علي الأفق سحابة سوداء من الظلم العنيف، فكان الطامة الكبري علي قصر عهده و اختطاف عمره، و قد فعل الأفاعيل و تصرف تصرف الطغاة، و أكثر من استئصال الثائرين تصفية، و أباد المعارضين جملة و حكم الناس حكما استبداديا مريعا، و لو لا أن يقصف الله ذلك العمر، و يطوي ذلك الذكر، لأعاد عصر الطواغيت من قوم عاد و ثمود، حتي اذا انقضت أيامه قام هارون الرشيد بالأمر السلطوي فكان أعتي ملوك الأرض و أشدهم فسادا، فلم تبق موبقة الا ارتكبها، و لا جريمة الا اقترفها، مندفعا بشهوة الملك وراء عواطفه و اولاعه، متظاهرا بالورع رياءا و بالتقوي نفاقا و هو ابعد الناس عن الورع و التقوي، فقد ولغ في دماء الشعب المسلم، و حدب علي قتل الأبرياء، و أقدم علي احتجان الذهب و الفضة، و برع في اجاعة الفقراء و ترويع المحرومين، و بسط الظلم [ صفحه 57] الهائل، و امتلأت السجون، و اصطفت الطوابير تنتظر القتل تارة، و الطوامير تارة أخري، و قطعت الأرزاق الا عن المغنين و المخنثين و شعراء البلاط و وعاظ السلاطين، فبلي الشعب المسلم بسيف قاطع، و نظام مشين صارم، و سطوة معتد أثيم، و قسوة حاكم غاشم، لا يقيل نادما، و لا يقبل توبة، و لا يلتمس غدرا، و قد شرع الغدر قانونا بأقرب الناس اليه، و أعلقهم بضميره و كيانه و مملكته، فكان للطالبيين السيف، و للبرامكة الاستئصال، و للمعارضين الاغتيال و التشريد و النفي، و للشعب الجوع و الحرمان و الفقر المدقع. أما زهو القصور، و شرب الخمور، و موائد القمار، فللحاكمين و الظالمين بركابهم. و استمرت الزوبعة في عصفها، و الكوارث في نفثها، و الانتكاسات في تلاحقها، فسأم الشعب الحياة، و بدأت التجمعات السياسية تنشط في سرية تامة، و التحركات الثورية تجد تنظيما و اعدادا، و القيادات المعارضة تنتشر في أرجاء الدولة الاسلامية. و مات الرشيد بما يشبه الفجأة بعد مرض التهمه في أيام معدودة، و دفن في شرق الدولة التي ملأها رعبا و رهبا و استطالة، مات وحيدا منبوذا في طوس، فما بكت عليه السماء و لا الأرض، و أسلم لعمله الشائن، و ذنوبه الكبري، و تسلم ولده محمد الأمين الحكم، و سرعان ما غدر بأخيه، و خلعه من ولاية العهد، فسير له المأمون الجيوش الجرارة، فقتل شر قتلة، بعد أن سالت الدماء كل مسيل، و انتكث عليه غروره و فجوره و انقلب فيه عبثه و مجونه، و انتهي أمره الي ما انتهي اليه، و جاء للحكم أخوه عبد الله المأمون عقب مجزرة بغداد بما تحدثنا عنه مفصلا في كتابنا السابق (الامام علي بن موسي الرضا / قيادة الأمة و ولاية العهد). [ صفحه 58] و كانت الدولة في اضطراب سياسي شديد، فالثورات في بقاع الأرض المختلفة، و المعارضة تشتد كفاحا مسلحا، و القلوب تنضح دما، و الأحاسيس تنطلق بعد صمت، و الشرارة تندلع بعد الاستتار، فاستطاع المأمون بحنكته السياسية و أساليبه الخاصة، أن يتظاهر بأمر، و ينطوي علي أمر آخر، فعجل بولاية العهد للامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، ريثما تطفأ الثائرة، و تخبو شعلة النضال المتأججة، و لو الي حين... و نجح المأمون في مسعاه، و انطلت اللعبة علي كثيرين، و أظهر التشيع جدلا، و ولاية أميرالمؤمنين اسما، و أغضب بني العباس ظاهرا، و هو جاد في العمل المضني لصيانة الدولة العباسية من الانهيار، و ممسك بزمام الحكم بقبضة حديدية، حذرا من لهيب الانتفاضات الموغلة بالاشتعال هنا و هناك، و مغرق في المؤامرات السرية لتثبيت السلطان و احتواء الشرر المتطاير بالآفاق، و لما تم له ما أراد بهذا التخطيط الدقيق، انتهي به الأمر الي اغتيال الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، فأظهر الحزن و الجزع عليه، و بانت علائم الأسي علي أساريره دجلا و مداراة، فلما استكان الوضع الداخلي و اطمأن الي السلامة، و ظن أنه قادر علي امتلاك العواطف و اكتساب مشاعر الشعب المسلم، تلألأ نجم الامام محمد الجواد في صباه، و غطي شعاعه مشارق الأرض و مغاربها، و اذا بالمأمون يفجأ بنازلة جديدة و هو في أخريات أيامه، فعاد الي أسلوبه القديم في المراوغة و سبق الأحداث فاستدعي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و أنعم عليه بالأعطيات الضخمة، و لم يمتنع الامام الجواد من أخذها، و كان ذلك لسببين فيما يبدو للبحث: [ صفحه 59] الأول: ان الامتناع من أخذ هبات السلطان - و هي جائزة شرعا - يعني تصنيفه في خط المعارضة، و ذلك ما يجعل الامام ضحية بلا قضية. الثاني: ان أخذ الامام لذلك المال و له حق فيه لأوليائه يكون من باب استنقاذه من أيدي الظلمة. و فضلا عن هذه المبررات الظاهرية، زوجه المأمون بابنته أم الفضل، فعاد الامام (عليه‌السلام) صهر المأمون، و أظهر له من الحب و المودة و الاخلاص ما سبق أن منحه لأبيه الامام الرضا (عليه‌السلام) من ذي قبل، و لم تتح الفرصة للمأمون بالقضاء علي الامام اذ اخترم عمره و انتهي أجله، فتسلم أخوه المعتصم بن الرشيد الملك، فكان له مع الامام أكثر من حادث، و جرت له معه أكثر من واقعة، و هو ما يحاول البحث تسليط الضوء الكاشف عليه في عصر المعتصم الذي قضي علي الامام محمد الجواد بقسوة و اصرار و تعمد قتل، كما ستراه في موقعه باذن الله تعالي. و لما كانت بداية الامام في تسلمه للمنصب الشرعي الالهي في عصر المأمون، كان لزاما علينا رصد ذلك العصر رصدا متوازنا و استقراء أبعاده فيما عرض للامام من مشكلات و أحداث له و لأتباع أهل البيت. و كانت سياسة القهر و الاذلال و الاغتصاب و خنق الأصوات منهجا لا محيص عنه في الاطار السياسي العام، و عليه من الشواهد كثرة القتل و سفك الدماء و عنصر الارهاب و مصادرة الحرية الفردية و العامة، و الغاء أبسط حقوق الانسان في المواطنة و الحياة الكريمة، و فوق هذا كله [ صفحه 60] تطاول غول الفقر و شبح المجاعة في جانب، و التضخم المالي و الاسراف اللامسؤول في جانب آخر، و كان شيعة أهل البيت في بؤس و شقاء و ملاحقة و استرقاق، و كانت واردات الدولة الضخمة تسد اندفاع السلاطين و الولاة في الشهوات و اجتراح المآثم و الموبقات و المسلمون في حال غريب يرثي له من الجوع و الحرمان. و كان العباسيون ممن أسس أساس الظلم و العدوان علي العباد، و كان السلطان الغاشم منهم يبتز حقوق المسلمين التي بذلوا فيها دماءهم و ضحوا من أجلها في البعوث العسكرية و الفتوح الاسلامية و ذهبوا شهداء تلك المناورات في الحروب الداخلية التي لا أول لها و لا آخر، فالمسلم - لا سيما أتباع أهل البيت - يدفع ضريبة الدم و لا يحصل علي قوت اليوم أو الشهر، و يختطف منه أبناؤه و شباب أسرته، و لا يوفر له أدني العيش الكفاف، ذلك كله في ظل نفقات الخلفاء من خلفاء بني العباس علي الملذات و السهرات و الجواري و موائد الخمر و الليالي الحمراء، و ما جري علي هذا النسق من الاسراف. و قد بلغ هذا الاسفاف المريع ذروته في العصر الذي عاش به الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) حياته القصيرة، و ليس له حول أو طول في تغيير الواقع المتهافت، و هو يري الشعب المسلم في ضائقة خانقة، و يري تلك الأموال المتراكمة و قد بذرت فيما لا يرضي الله، و لو أردنا نموذجا واحدا من الأكداس لذلك المال، و ليكن الخراج وحده، لرأينا ابن خلدون قد أحصاه فيما يتجاوز أربعين مليون درهم في عهد المأمون. [98] . [ صفحه 61] فما بالك في الايرادات الأخري و الضرائب و المصادرات و ما شرعوا من جباية الأموال من مشتبهاتها، و ما فرضوه من الغرامات و انتزاع الملكية، و ما وصل اليهم من الجزية و في‌ء الأقاليم، حتي أن المال لو فرته كان لا يعد عدا بل يوزن وزنا، فكانوا يصفون واردات الدولة العباسية في عصر المأمون، كما يذهب الي هذا ابن خلدون نفسه: بأنها بلغت ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب الخالص. [99] . حتي اذا جاء المعتصم عام (218 ه) بعد وفاة أخيه المأمون، رأينا البذخ و العبث المالي علي أشده، و في ضراوة تطوره التصاعدي في التضخم و العائدات، فقد حسب المعتصم نفسه خراج عامله علي الروم فكان أقل من ثلاثة ألاف ألف، فغاظه ذلك، و كتب الي عامله يعاتبه: «ان أخس ناحية عليها أخس عبيدي، خراجها أكثر من خراج أرضك» [100] . هكذا كانت حياة الجانب المالي المغتصب من الأمة و الامام. و نحن حينما نريد أن نؤرخ لهذه الحقبة الحرجة من أيام الامام المعدودة، فعلينا شرح معاناته العظمي من المأمون و المعتصم، و هما يتقمصان رداء الخلافة، و يدعيان لنفسيهما منصب الامامة الشرعية، و يحاولان تضليل السواد الأعظم باثبات صحة هذه الدعوي الكاذبة، و تلك احدي الكوارث الكبري التي مني بها الاسلام، اذ تصدر زعامة المسلمين في العصر الأموي أمثال معاوية و يزيد و مروان، و تزعم في [ صفحه 62] العصر العباسي أمثال المأمون و المعتصم، و هما يضفيان علي حكمهما الهزيل صفة الشرعية، بل و يصطبغان ذلك بألوان من القداسة الموهومة؛ فهل كانا أهلا لذلك الادعاء العريض الذي أحاطا شخصيتهما به؟؟ و هل تجسم فيهما - عملا و سلوكا - ما قرر فقهاء الأحكام السلطانية وجوب احرازه في القائم بهذه المهمة الخطيرة المقدسة من صفات و ملكات و الترامات؟» [101] . ان التجربة التي خاضها الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) مع المأمون و المعتصم أثبتت بما لا يقبل الشك أنهما ليسا أهلا لأي منصب الهي علي الاطلاق، و ذلك لما اقترفاه من مخالفات صريحة لكل فرضيات الاسلام الشرعية و العقائدية و العملية، فضلا عن الأسس التي يقوم عليها الدين الاسلامي في الورع و التقوي و أداء الواجبات و الامتناع عن المحرمات، و التورع عند الشبهات، فهما ليسا هناك، لانهما ليسا بالمستوي الأدني الذي يصدهما عن الجرائر و الاثام و الموبقات، و هما بما فيه الانحراف عن الخط المستقيم للهدي، لم يستطيعا أن يحققا جزءا ضئيلا من تلك الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يدعي المنصب الالهي، و كانت أعمالهم الفاضحة لمسيرتهما في ارتكاب المعاصي، و الاصرار علي الكبائر تشكل حاجزا عن انطباق أي صفة شرعية تؤهلهما لقيادة الأمة، كما أن الغرائز المتأصلة في حياة اللهو و المجون من جهة، و متابعة بطش الجبارين من جهة أخري يمنعان من ادارة دولة اسلامية تشترط بها مظاهر التقوي من جانب، و تتمثل سياسة العطف و اللين و الرأفة من [ صفحه 63] جانب آخر، يضاف الي هذا كله: الجهل المطبق بأحكام الشريعة الغراء مما يتنافي مع تلبية احتياج السائلين الي معرفة الفروع علي أقل تقدير، كما هو الجاري لدي الفقهاء. و من هنا كان التماع ذكر الامام الجواد (عليه‌السلام) يتراءي في الأفق الرحيب نيرا آخذا بالقلوب و المسامع و الأبصار، و كان هدية شعلة وقادة يهتدي بضوئها السائرون. لقد شكل هذا الملحظ زاوية حرجة بالنسبة للخلافة الدنيوية، اذ أظهر المخبأ من سيرة المأمون و المعتصم، كما أظهر الواقع المشرف من سيرة الامام محمد الجواد علما و ورعا و كفاية و مقدرة، و عبر عن التصاق متصل بالدين و عوالمه غير قابل للانفصال. و مما لا ريب فيه لدي البحث أن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) كان المحور الذي تدور عليه رحي الاسلام في التزامه و مواصفاته و أنماط سلوكه فقد عرف بالرشد و الصلاح و التقوي و العلم الذي بلا يجاريه به أحد في عصره علي الاطلاق، كما ستجد هذا في موقعه من البحث، و الذي كسب به شهرة ذائعة الصيت، و اكتسب سيرورة فاقت حد القصور الأولي باعتباره في مقتبل العمر، مما قطع به حتي أعداؤه، و أجمعوا علي: «التسليم بكونه الأوحد الذي لم يشاركه غيره من معاصريه فيما كان يتمتع به من مؤهلات الولاية الشرعية و ملكاتها الفذة، و ما كان يتجمع فيه من وراثة علم النبوة و هدي الرسالة، و عطاء الوحي و التنزيل» [102] . [ صفحه 64] هذا المنظور الأصيل في التقرير و التقدير هو الذي يدفعنا الي الامعان في تصوير معاناة الامام مع سلاطين عصره و البحث عن كيفية تعامله مع المأمون و المعتصم، و مدي تلك العلاقات العامة و الخاصة التي أحبكت فصولها بكثير من الغموض حتي انتهت باستشهاده سميما. و لابد لنا من تسجيل أسمي آيات الاكبار لهذا الامام الصامد في وجه المؤامرات الكبري التي عرضت له في حياته القصيرة، كما نسجل مدي الحزن و الأسي الذي يخامرنا لما تعرض له الامام من المآسي و الآلام في تلك الفترة المظلمة من حكام عصره، و ما حفل به تأريخه من هموم و مفاجئات و أحداث، و هو يخوض تلك التطورات الهائلة في زوابعها و أراجيفها في حين يشق غمراتها طلق المحيا أنف الجبين، رغم الأمواج الطاغية في خضم ذلك البحر اللجي من الأعاصير. تحية للامام الشاب من الأعماق، و صلوات علي تلك النفس المطمئنة في حياة الغضب و الاضطراب، و السلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيا، و العاقبة للمتقين. [ صفحه 65]

الامام في حكم المأمون

امتدت أصابع الاتهام مشرئبة نحو المأمون باغتيال الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) و كان يبرأ من ذلك، و يظهر الحزن و الجزع علي الامام، و يذكره بالخير و الثناء العاطر، و تلك أساليب السلاطين في المكر و الدهاء السياسي. و في محاولة للمأمون من أجل التغطية علي هذا الحدث المرعب، وجدناه يحكم أمره في تضليل القائلين بقتله الامام الرضا (عليه‌السلام) فمضافا الي مظاهر الأسي المفتعل علي الامام، فقد استدعي ولده الامام الجواد (عليه‌السلام) الي بغداد، و أنزله قريبا من قصر الخلافة، و أظهر بره و الاحسان اليه، و بالغ في اكرامه مكرا و تصنعا ليبدد من حوله تلك السحب الغائمة في قضية اتهامه باغتيال أبيه، و أبقاه معه في بغداد ما شاء، و حينما بلغ سن الزواج زوجه بابنته أم‌الفضل، و أجري عليه راتبا مجزيا، و تلك سياسية ايجابية تجاه التدبر السلبي المبيت للامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، فكانت مراقبته سريه، و تتبع نشاطه الديني قد أحيط بالكتمان، و هو يصل الي المأمون أولا بأول، فغض عن ذلك الطرف و قابله بالصبر. ولدي مكث الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، في بغداد استطاع أن يجمع حوله كوكبة من أصحابه و أمدهم بالأحاديث و الروايات التي توضح لهم معالم الدين و قد يكون اتصال بعضهم بالامام مباشرة، [ صفحه 66] و يروي عنه مشافهة و قد يكون ذلك عن طريق المكاتبة و تسلم الجواب، علي أن ذلك كان بحدود، الا أن مجالس المناظرة و المحاورة التي أعدت للامام الجواد (عليه‌السلام)، أكسبته شهرة مدوية في الوسط العلمي، و قداسته و هديه جعلاه في مصف الأولياء الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون. و كان للمجتمع أن يقارن بين سيرة الامام و معارفه، و بين سيرة المأمون و فراغه العقائدي، و قد مر فيما سبق في كتابنا (الامام علي الرضا / قيادة الأمة و ولاية العهد)، القاء جزء من الأضواء علي حياة المأمون العابثة و شمائله المتقلبة بين التظاهر بالورع جزافا، و بين الانحدار في مزالق الشهوات انجذابا، و هو علي ما هو عليه من المنصب المدعي ظلما و بهتانا، كان يخالفه الي السقطات في سلوكه، فقد ولع بالغناء و الموسيقي ولعا خاصا، و قرب أبا اسحاق الموصلي كبير العازفين و زعيم المغنين في العراق، و ذكره بالقول: «كان لا يغني أبدا الا و تذهب عني و ساوسي المتزايدة من الشيطان» [103] . و كان هذا مما يجلب عليه السخرية و يغري به المستهزئين، فالغناء من أسلحة الشيطان فكيف يذهب بوساوس الشيطان. و لم يكن هنا لك شي ء من الملاهي أحب الي المأمون من الشطرنج، فقد ولع به. [104] . [ صفحه 67] و قد وصف لعبة الشطرنج وصفا دقيقا ذكرها الأبشيهي [105] . و الي جانب هذا اللهو، يضيف اليه العبث الماجن الخليع، فتراه في عيد الشعانين أحد أعياد النصاري و بين يديه عشرون و صيفة جلبت، و هن روميات مزنرات قد تزين بالديباج الرومي و علقن في أعناقهن صلبان الذهب، و في أيديهن الخوص و الزيتون و كان يقول فيهن الشعر و يغني به، (فلم يزل يشرب و ترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص) [106] . و ثمة مظاهر أخري من اللهو تتمثل في تهارش الديوك و الكلاب [107] . و عرف باللعب بالميسر حتي انتشر ذلك في حانات الفقراء [108] . أما الاسراف في المأكل و المشرب فحدث و لا حرج، ففي بعض الوثائق عن جعفر بن محمد الأنماطي أنه تغدي عند المأمون، فوضع علي المائدة ثلاث مائة نوع من الطعام. [109] . و قد عقب الدكتور صالح أحمد العلي علي ذلك بأنه نظرا لتعدد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم مما اضطرهم الي شدها بالذهب للعلاج. [110] . [ صفحه 68] و كانت اللامبالاة في مقدرات الأمة من صفات المأمون الأساسية فقد ترك أحد وزرائه ما يقرب من ثمانية ملايين دينار ذهبا بعد وفاته، فأخبر بذلك المأمون في رقعة فكتب عليها: (هذا قليل لمن اتصل بنا، و طالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه) [111] . و في هذا اغراء بنهب المال و استدعاه للناس بالانخراط في سلك موظفي البلاط العباسي ليحصلوا علي مثل هذه المكاسب التي كانت تفوق حد الثراء بل الثراء الفاحش. و أخبار المأمون في الاسراف لا تقف عند حد، و ما صنع في زواجه ببوران بنت الحسن بن سهل، قد ناف علي مظاهر السرف في كل شي‌ء، هبات و عطايا، و اقطاع أراضي، و نثر بنادق العنبر و فيها الرقاع و الصكوك و المنح و الأعطيات الضخمة، بما ألمحنا اليه في حياة المأمون بعصر الامام الرضا (عليه‌السلام)، و بما أورده الطبري و ابن‌الأثير و سواهما في لمحات التأريخ، و الي جانب هذا اللهو المشين و التبذير المحرم كان المأمون معروفا بالشدة و الغلظة و حب الانتقام، و ان تظاهر بالعفو و الرحمة، فقد غدر بالفضل بن سهل بعد أن مهد له الأمور، و قد ضحي بقواد الجيش و زعماء العسكر بعد أن ضبطوا له الدولة، و قد قتل الامام الرضا (عليه‌السلام) بالسم و في يده، و قد أمر ولاته و عماله بقتل العلويين تحت كل حجر و مدر، و كان قتله لأخيه الأمين بداية للترويع السياسي الذي أنكره عليه حتي العباسيون، و كان بعد كل هذه الجرائر يبدو و كأنه الحمل الوديع [ صفحه 69] طيبة و سلوكا، فيعفو عن هذا، و يمسك عن ذاك و يتقرب لسواهما، حتي اذا واتته الفرصة بطش بطش الجبارين. و الأغرب من هذا أن يدعي المأمون التشيع تارة، و يتأزر بمئزر الخلافة الشرعية تارة أخري، و هو يتجاهر بالكبائر و يقترف المحرمات علي رؤوس الأشهاد، و من أطرفها استهتارا بالدين، و هتكا لحرمة شهر رمضان لدي زواجه ببوران سنة عشر و مأتين من الهجرة فقد أفطر الخليفة (هو و الحسن بن سهل و العباس... حتي اذا فرغوا من الافطار و غسلوا أيديهم فدعا المأمون بشراب فأتي بجام ذهب، و صب فيه و شرب، و مد يده بجام فيه شراب الي الحسن، فتباطأ عنه الحسن لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، فغمز دينار بن عبد الحسن فقال له الحسن: يا أميرالمؤمنين؟ اشربه باذنك و أمرك؟ فقال له المأمون: لو لا أمري لم امدد يدي اليك. فأخذ الجام و شربه) [112] . فما عسي أن تقول في خليفة يأمر وزيره في رمضان بتناول الخمرة و الوزير يتعفف عن ذلك؟ و قد قضي الامام الجواد (عليه‌السلام) زهرة أيامه في حياته مع المأمون منذ استشهاد أبيه الرضا عام ثلاثة و مائتين من الهجرة حتي وفاة المأمون يوم الخميس لثلاث عشر ليلة بقيت من رجب عام ثمانية عشر بعد المائتين من الهجرة. [ صفحه 70] و أعاد المأمون خلال هذه الحقبة سيرته الدبلوماسية مع الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و اغترف بيد مستطيلة من دهائه السياسي المعروف، فمال في مسلكيته مع الامام الي الوادعة و الموادعة و اظهار الحب و الاحترام، مما أغاظ بني العباس، و قد غاص سهمه في الأعماق. و قد أخذ المؤرخون هذا العطف المغلف و التخطيط المبرمج علي أنه ظاهرة من ظواهر التبجيل و التعظيم للامام، و ذلك لما ظهر له (من فضله و علمه و كمال عظمته و ظهور برهانه مع صغر سنه) [113] . و الأكثر من هذا أن سبط ابن الجوزي قد لمس من اعجاب المأمون بالامام أن فكر بأن يعهد الي ابن الرضا بولاية العهد، و منعه من ذلك شغب بني العباس عليه، و خشيته من الفتنة و النزاع الذي قد يؤدي الي خروج الأمر من يد بني العباس و بني علي كليهما بسبب الاختلاف [114] . و قد نظر الشيخ المفيد «قدس سره» الي الأمر علي ظاهره فقال: «كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (عليه‌السلام) لما رأي فضله مغ صغر سنه، و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال الفضل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان... و كان متوافرا علي اكرامه و تعظيمه و اجلال قدره» [115] . و البحث لا يستبعد علي المأمون انتهاج هذه السياسة، فهي سليمة، له نفعها و عليه درها، و هو غير آسف علي ما فعل من التكريم الظاهري، [ صفحه 71] فله مخططه الخاص الذي ينفذ فيه لأغراضه، فضلا عن اسدال الستار - و لو جزئيا - علي الماضي القريب و قد وجهت اليه التهمة علنا باغتيال الامام الرضا (عليه‌السلام) فما ضره من دفع الشبهات عنه بالمصافحة و الاصهار في السياسة لا يخشي عليه منها. و كانت البداية في اللقاء بين الامام و المأمون ما أشار اليه المسعودي صراحة أن المأمون لدي استقراره ببغداد، و تهدئة الفتنة استدعي الامام محمد الجواد من المدينة المنورة الي بغداد، و أنزله بالقرب من داره. [116] . و انزال الامام قرب دار المأمون يعني رصد التحركات، و احصاء الأولياء و الأتباع، و الرقابة الدقيقة الفاحصة، و النظر في أمر الامام محمد الجواد من كل زواياه و وجوهه، اذ لم يكن المأمون مغفلا بحيث يترك الامام في حرية مطلقة و هو يري نصف الامة تقول بامامته و أولويته بمنصب الخلافة الشرعية للمؤهلات و الهدي و العلم الخارق. أما ما يروي بأن لقاء المأمون بالامام محمد الجواد كان من خلال مرور المأمون ببعض أزقة بغداد، و كان الصبيان يلعبون و الامام يقف معهم!! فلما شاهدوا موكب المأمون تركوا لعبهم و فروا، باستثناء الامام محمد الجواد الذي بقي في مكانه و لم يفر معهم، مما أثار تعجب المأمون، فتساءل عنه أو سأله فعرفه. [117] . فموضوع لا أصل له من عدة جهات: [ صفحه 72] 1- متي أتاحت مشاغل الامامة و النهوض بالأمر فرصته للامام الجواد أن يلعب أو يقف مع الصبيان؟؟ 2- كيف يعقل أن المأمون لا يعرف الامام الجواد؟ و قد استدعاه الي بغداد! و من ثم يسأل عنه فاذا علم به أعجب فيه!! 3- أين الامام الجواد من الأزقة و الشوارع و قد احتفلت به الدواوين ببغداد علما و فقاهة و احتجاجا!! و الأمر الذي لا نشك فيه أن المأمون رأي سياسيا أن يبدد ما تراكم من ضبابية موقفه من الامام الرضا (عليه‌السلام)، فعزم علي العودة من جديد الي سياسة المراوغة و الموازنة بين الأحداث فتظاهر باعادة الصلات المنبثة بين العباسيين و أهل البيت، و مهد لذلك بتقريب الامام محمد الجواد(عليه‌السلام)، و التحدث عن قابلياته و مواهبه، و من ثم قراره بتزويج الامام من ابنته أم الفضل، حتي تناهي الخبر الي بني العباس فأنكروا ذلك، و خافوا أن ينتهي الأمر معه الي ما انتهي للامام الرضا عليه‌السلام، فخاضوا في ذلك، و قالوا للمأمون: (ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تقيم علي هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فانا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكنا الله عزوجل و ينزع منا عزا قد ألبسناه الله، و قد عرفت ما بيننا و بين هؤلاء القوم قديما و حديثا، و ما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم و التصغير بهم، و قد كنا في وهلة من عملك مع الرضا (عليه‌السلام) ما عملت، فكفانا الله المهم من ذلك، فالله الله أن تردنا [ صفحه 73] الي غم قد انحسر عنا و اصرف رأيك عن ابن الرضا، و اعدل الي من تراه من أهل بيتك ليصلح لذلك دون غيره!! فقال لهم المأمون: أما ما بينكم و بين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، و لو أنصفتم القوم لكانوا أولي بكم، و أما ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعا للرحم و أعوذ بالله من ذلك، و الله ما ندمت علي ما كان مني من استخلاف الرضا (عليه‌السلام)، و لقد سألته أن يقوم بالأمر و انزعه من نفسي فأبي، و كان أمر الله قدرا مقدورا. و أما أبوجعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه علي كافة أهل الفضل في العلم و الفضل، مع صفر سنه، و الأعجوبة فيه بذلك، و أنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه!! فقالوا له: ان هذا الفتي و ان راقك منه هديه، فانه صبي لا معرفة له و لا فقه، فأمهله حتي يتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك!! فقال لهم: و يحكم أني أعرف بهذا الفتي منكم!! و ان أهل هذا البيت علمهم من الله تعالي و مواده و الهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين و الأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله. قالوا: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين و لأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا و بينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شي‌ء من فقه الشريعة، فان أصاب في الجواب عنه لم يكن اعتراض في أمره، و ظهر للخاصة و العامة سديد [ صفحه 74] الرأي أميرالمؤمنين فيه، و ان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون: شأنكم و ذلك متي أردتم!! فخرجوا من عنده و اجتمع رأيهم علي مسألة يحيي بن أكثم و هو يومئذ قاضي الزمان علي أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، و وعدوه بأموال نفيسة علي ذلك، و عادوا الي المأمون و سألوا أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم الي ذلك. و جرت الأسئلة علي رسلها، و اعترض الامام عليها و طلب من ابن أكثم الرد علي اشكالياته و تحير يحيي بما سنذكره في موضعه) [118] . و مهما يكن من أمر، قال المأمون بعد انتصار الامام الجواد: (الحمد لله علي هذه النعمة و التوفيق لي في الرأي... ثم أقبل علي الامام (عليه‌السلام) فقال له: أخطب لنفسك، فقد رضيتك لنفسي، و ان رغم قوم ذلك، فقال أبو جعفر (عليه‌السلام): (الحمد لله اقرارا بنعمته، و لا اله الا الله أخلاصا لوحدانيته، و صلي الله علي محمد سيد بريته، و الأصفياء عترته، أما بعد: فقد كان من فضل الله علي الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام و قال سبحانه: (و أنكحوا الأيامي منكم و الصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله و الله واسع عليم) [119] . [ صفحه 75] ثم أن محمد بن علي بن موسي يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون، و قد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليهماالسلام، و هو خمسمائة درهم جيادا؛ فهل زوجتني يا أميرالمؤمنين علي الصداق المذكور؟ قال المأمون: نعم قد زوجتك يا أبا جعفر ابنتي علي هذا الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ فقال أبو جعفر (عليه‌السلام): و قد قبلت ذلك رضيت به. فأمر المأمون: أن يقعد للناس علي مراتبهم الخاصة و العامة. [120] . و كان الشيخ الصدوق من ذي قبل قد روي خطبة الزواج بصيغة أخري، قال: لما تزوج أبوجعفر محمد بن علي الرضا (عليه‌السلام)، ابنة المأمون خطب لنفسه فقال: «الحمد لله متمم النعم برحمته، و الهادي الي شكره بمنه، و صلي الله علي محمد خير خلقه، الذي جمع فيه من الفضل ما فرقه في الرسل قبله، و جعل تراثه الي من خصه بخلافته، و سلم تسليما: و هذا أميرالمؤمنين زوجني ابنته علي ما فرض الله عزوجل للمسلمات علي المؤمنين، من امساك بالمعروف، أو تسريح باحسان، و بذلك لها من الصداق ما بذله رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لأزواجه و هو: اثنتا [ صفحه 76] عشر أوقية و نش (نصف) و علي تمام الخمسمائة، و قد بجلتها من مالي مائة ألف. زوجتني يا أميرالمؤمنين؟ قال: بلي. قال: قبلت و رضيت» [121] . قال الريان: و لم نلبث أن سمعنا أصوات تشبه أصواب الملاحين في محاوراتهم، فاذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من الفضة مشدودة بالحبال من الابريسم علي عجل مملوءة من الغالية. فأمر المأمون أن يخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية، ثم مدت الي دار العامة فطيبوا منها. و وضعت الموائد فأكل الناس و خرجت الجوائز الي كل قوم علي قدرهم. [122] . قال الشيخ المفيد و المسعودي و ابن شعبة و ابن شهرآشوب، و الطبرسي مع الاختلاف البسيط: «فلما كان من الغد حضر الناس، و حضر أبو جعفر (عليه‌السلام)، و صار القواد و الحجاب و الخاصة و العامة لتهنئة المأمون و أبي جعفر (عليه‌السلام)، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك و زعفران معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوب عليها بأموال جزيلة و عطايا سنية و اقطاعات فأمر المأمون بنثرها علي القوم في خاصته، فكان من وقع في يده بندقه أخرج الرقة التي فيها و التمسه فأطلق له، و وضعت البدر، ففرق ما فيها علي القواد و غيرهم. [ صفحه 77] و انصرف الناس و هم أغنياء بالجوائز و العطايا، و تقدم المأمون بالصدقة علي كافة المساكين» [123] . و استبشر فريق من أولياء أهل البيت بهذا الزواج حتي قال أبوهاشم الجعفري للامام محمد الجواد (عليه‌السلام): (يا مولاي لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم!! فقال: يا أباهاشم، بركات الله علينا فيه. قلت: نعم يامولاي؛ فما أقول في اليوم؟ فقال: تقول فيه خيرا فانه يصيبك. قلت: يا مولاي أفعل هذا و لا أخالفه. قال: اذا ترشد و لا تري الا خيرا) [124] . و مهما يكن من أمر، فقد تحقق هذا الزواج لدوافع خفية و أخري ظاهرية، فقد ادعي المأمون في أسباب هذا الزواج أمرا بريئا و سببا و جيها في ظاهره، فقال: «اني أحببت أن أكون جدا لمرء ولده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و علي بن أبي طالب (عليه‌السلام)» [125] . و يميل الأستاذ باقر شريف القرشي الي أن المأمون حاول الوقوف علي نشاط الامام الجواد (عليه‌السلام)، و الاحاطة باتجاهاته السياسية، و معرفة [ صفحه 78] العناصر الموالية له و القائلة بامامته، و ذلك من طريق ابنته التي ستكون زوجة له. و أردف قائلا: (لعل من أهم الأسباب و أكثرها خطورة أن المأمون حاول من هذه المصاهرة جر الامام الي ميادين اللهو اللعب ليهدم بذلك صرح الامامة الذي تدين به الشيعة، و الذي كان من أهم بنوده و عصمة الامام و امتناعه من اقتراب أي ذنب عمدا كان أم سهوا، و كان من الطبيعي أن يفشل في ذلك، فان الامام (عليه‌السلام) لم يتجاوب معه بأي شكل من الأشكال) [126] . و هذا الافتراض ليس من السهل علي المأمون الجراءة عليه، أو التفكير به علي الاطلاق فيما نعتقد، فالمأمون أعلم الناس بورع الامام و تقواه، و هو الخبير الستراتيجي بما عليه شأن الأئمة المعصومين (عليه‌السلام)، و ان احتال علي الامام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شي‌ء علي حد تعبير الشيخ الكليني. [127] . ولدي زواج الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في بغداد، عزم علي السفر الي مسقط رأسه: المدينة المنورة، فانصرف عن بغداد و صار الي شارع باب الكوفة، و معه الناس يشيعونه، فانتهي الي دار المسيب عند مغيب الشمس فنزل و دخل المسجد و كان في صحنه نبقة لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء، فتوضأ في أصل النبقة، و قام (عليه‌السلام) و صلي بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الأولي منها: الحمد و اذا جاء نصر الله، و قرأ في الثانية [ صفحه 79] الحمد و قل هو الله أحد، و قنت قبل ركوعه فيها، و صلي الثالثة و تشهد و سلم، ثم جلس هنيئة يذكر الله جل اسمه، و قام من غير أن يعقب فصلي النوافل أربع ركعات، و عقب تعقيبها، و سجد سجدتي الشكر ثم خرج، فلما انتهي الي النبقة رآها الناس و قد حملت حملا حسنا، فتعجبوا من ذلك و أكلوا منه فوجدوا نبقا حلوا لا عجم فيه و ودعوه و مضي من وقته الي المدينة. [128] . و رأي الطبري أن خروج الامام الجواد (عليه‌السلام) من بغداد كان أيام الحج فقصد مكة المكرمة حاجا، ثم أتي منزله بالمدينة. [129] . (انه لم يتعرض أحد خاصة الامام التقي - يعني الجواد - فلم يوقف أو يزعج طول مدة حكم المأمون) [130] . بينما ذهب الشيخ المفيد الي أكثر من هذا، فاعتبر المأمون: (لم يزل مكرما لأبي جعفر (عليه‌السلام)، معظما لقدره مدة حياته، يؤثره علي ولده و جماعة من أهل بيته) [131] . و لكن العلاقة بين الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) و زوجته أم الفضل لم تكن علي ما يرام، فقد اعتادت حياة باذخة مسرفة في ظل القصور [ صفحه 80] و مرافق السلطان، و اذ بها تحيا حياة جديدة من الورع و الزهد و التقوي، فاختلف عليها المناخ النفسي و الأسري، و بدأت تشكو لأبيها علاقتها بالامام. قال الشيخ المفيد قدس سره: «و قد روي الناس أن أم الفضل كتبت الي أبيها تشكو أبا جعفر عليه‌السلام و تقول: انه يتسري عليه و يغيرني. فكتب اليها المأمون: يا بنية انا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالا، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها» [132] . فامتنعت أم الفضل عن مخاطبة أبيها بشي‌ء من أمر الامام، و لم ترزق منه الذرية فتأصلت عقدتها النفسية، و لم يكن زواجها من الامام خالصا من الأوشاب و لم نجد علاقتها بريئة من الامام، فأقدمت علي سمه كما ستري. و مهما يكن من أمر فقد رأيت حياة الامام في حكم المأمون، و بقي الامام و انتهت حياة المأمون بطرطوس احدي أعمال الشام عن تسعة و أربعين عاما و ذلك في سنة 218 ه. [ صفحه 81]

الامام في عصر المعتصم

و بويع المتعصم بن الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة و مائتين. [133] . و كان المعتصم متصفا بالحماقة و شدة الغضب، حتي عرف عنه أنه: (اذا غضب لا يبالي من قتل و ما فعل) [134] . و مع ذلك وصف بأنه كان ذا شجاعة... و بأس و شدة في قلبه) [135] . و كان أميا أو شبه أمي، و كان له وزير عامي، و قد بليت بهما الأمة، و وصفهما أمد بن عامر بقوله: (خليفة أمي، و وزير عامي) [136] . و كان شديد الكراهية للعرب و عمد الي الاستهانة بهم و أخرجهم من الديوان و أسقط أسماءهم منه، و منعهم العطاء كما منعهم الولايات. [137] . و في قبال هذا كان مغرما بحب الأتراك، متزلفا لهم، بسبب من خؤولتهم به، فأمه ماردة تركية النسب، و نشأ محاكيا للأتراك في نزواتهم النفسية و طبائعهم الخلقية،. أطلق لهم العنان في الدولة و تصريف الشؤون، و استكثر منهم، و بعث في طلبهم من فرغانه و أشر و سنة [138] . [ صفحه 82] و لما كان المعتصم جادا و محموما في طلب الأتراك فقد تم له ذلك فاجتمع له منهم أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج و المناطق الذهبية... و أبانهم بالزي عن سائر جنوده... و كانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها الخيول في الأسواق، و ما ينال الضعفاء و الصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير أو صبي أو ضرير، فعزم المعتصم علي الفعلة منهم... فلم يزل يتنقل و يتقري المواضع، فانتهي الي موضع سامراء، فكان ذلك سبب بنائه سر من رأي، و تحوله اليها. [139] . و استطال الأتراك في عهده و تناسلوا و قد بلغ عددهم سبعين ألفا، و حرص المعتصم علي أن تبقي دماؤهم متميزة، فجلب لهم نساء من جنسهم فزوجهم بهن، و منعهم من الزواج بغيرهن. [140] . و كان الأتراك قوة المعتصم الضاربة، فأسند بهم قيادة الجيش و العسكر و سلطهم علي مواقع الدولة صغيرها و كبيرها، و بذلك انسل العرب من مجال السياسة، و حرمهم من مظان السيادة و عزلهم من قيادة الجيوش. و لو أردنا الحديث عن ممارساته و أولاعه الخارجة عن نطاق الدين و الشريعة لوجدناه معاقرا للخمر و شاربا لها، و كان مشاركا في مجالس الطرب و الغناء طيلة حياته حتي الموت. [141] . و أما من الناحية السياسية فلم يكن المعتصم العباسي سياسيا محنكا و لا خبيرا بادارة الدولة و لا جديرا بالهيمنة علي الشؤون العامة للرعية، [ صفحه 83] فعلي الرغم من الضغط الدموي و الارهاب السياسي في عصره فقد اهتز الحكم بعدة ثورات هائلة زعزعت عرش الخلافة في بغداد و سامراء، فقد تناوبت في فترة حكمه التعسفي الطائش عدة تحركات ثورية كان أبرزها: 1- ثورة الطالقان بقيادة محمد بن القاسم العلوي. 2- ثورة بابك الخرمي و ما رافقها من القتل و سفك الدماء. 3- ثورة الزط في البصرة و مشاكلها العديدة الرعناء. 4- تحرك الروم الي زبطرة و سواها. 5- ثورة المبرقع في فلسطين و ما والاها. فما كتب الاستقرار السياسي و لا نعمت الشعوب الاسلامية بالاطمئنان و السلام، و لا هدأت الحياة من الصخب و الضجيج و الهرج. و قد مني الامام الجواد (عليه‌السلام) بهذا الطاغية، و أخذ يتربص به الدوائر و الفرص، و شعر الامام بأن العباسيين بعامة و المعتصم بخاصة غير تاركيه حتي يقتل أو يغتال أو يسم، و تحقق تخوف الامام (عليه‌السلام)، فقد أشخصه المعتصم الي بغداد، فوردها لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين و مائتين. [142] . فقد أمر وزيره عبدالملك ابن الزيات أن ينفذ اليه التقي و أم الفضل... فتجهز و خرج الي بغداد، فأنفذ المعتصم أشناس بالتحف اليه و الي أم الفضل. [143] . [ صفحه 84] و الذي يبدو أن الامام قد بدأ بالسفر الي مكة حاجا، و معه زوجته أم الفضل، ثم انصرف الي بغداد من هناك. [144] . و روي في عيون المعجزات، القول: (لماخرج أبو جعفر (عليه‌السلام) و زوجته ابنة المأمون حاجا، و خرج أبو الحسن علي ابنه (عليه‌السلام) و هو صغير، فخلفه في المدينة، و سلم اليه المواريث و السلاح و نص عليه بمشهد ثقاته و أصحابه) [145] . و مسألة السلاح و اعطاؤه لولده الامام علي الهادي (عليه‌السلام) مشعرة بأن الامام قد نعيت اليه نفسه، و أنه سوف لا يعود الي المدينة، و أن هذا آخر العهد بولده الامام الهادي (عليه‌السلام)، فسلمه سلاح رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و نص علي امامته بمحضر الثقات و الأصحاب. و الامام الجواد يشير الي هذا الأمر مصرحا به الي محمد بن فضيل الصيرفي، فيقول: «عندي سلاح رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و هو فينا بمنزلة التابوت في بني اسرائيل، يدور معنا حيث درنا، و هو مع كل امام» [146] . و ما أن بلغ الامام الجواد بغداد و شاع خبر قدومه حتي كان - كما هو منتظر - موضع اهتمام رجال الفقه و الحديث و مطمح أنظار أهل الايمان و الدين، و مفزع طلاب العلم و المعرفة في أحكام القرآن و مسائل الشريعة [147] . [ صفحه 85] و التف علماء الأمة حول الامام متحلقين في غبطة و اعتداد، فأفاض عليهم من نمير علمه الذي لا ينضب ما تحيرت به العقول، و جرت للامام في ديوان المعتصم محاورات فقهية رضي بها قوم و سخط آخرون، و لم يرق هذا المناخ المعرفي للمعتصم و بني العباس و هم يشاهدون الامام الشاب في مسيرة علمية هادرة ليس من جنس ما يحسنون، و لا من سنخ ما يعرفون، مسيرة تزخر بالعطاء التشريعي سنة و فقها و تفسيرا و الناس تنثال عليه من كل جانب بين مناظر و مسائل و محاور، و هو كالبحر اللجي الذي لا تدرك سواحله، ذلك ما أحنق عليه المعتصم، فشدد علي الامام، و فرض عليه رقابة صارمة، و ربما منع عنه شيعته و مواليه حتي انتهي ذلك باغتياله. و الذي نريد الاشارة اليه في هذا الموضع أن الامام عاش أيام حياته المتبرعمة بين متزعمين ادعيا المنصب الشرعي، و هما المأمون و المعتصم، و ليسا أهلا له في كل حال، فلو قارنا بين مدخرات الامام الموهبية، و شمائله الذاتية النقية، و بين تلك الأهواء الطائشة لذينك المتزعمين الكاذبين لرأينا البون الشاسع بين حقيقتين مختلفين و وضعيتين متقابلتين تماما. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «و عندما تنضح لنا السمات المميزة لكل من المأمون و المعتصم، و ما قيل فيهما من معاقرة الخمر و الملاهي، و العبث بأموال المسلمين، و القتل عند الغضب بلا مبالاة، و ما يقابل ذلك من سمات الامام لاجواد المميزة، و ما ورد في علمه و عبادته و تقواه و مجموع صفاته المرتبطة بسمو ذاته - نكون قد انتهينا الي نتيجة قطعية الحكم مسلمة الثبوت، يتجلي فيها [ صفحه 86] الجواب الصريح المقنع علي ما كنا نبحث عنه من خلال الأسئلة المتقدمة المعنية بتحديد المؤهل من بين هؤلاء المذكورين للولاية الدينية في ذلك اليوم، ممن اجتمعت فيه الشروط المطلوبة في المرشح لامامة المسلمين، و سنكون جميعا علي اتفاق لا يدخله الريب بان الامام الجواد هو الانسان الجامع يومذاك لتلك الصفات و الشروط، و ان الذين ادعيا الامامة في زمانه لم يكونا متطابقين مع تعاليم الاسلام في التصرف و العمل و السلوك، و لم يتمثل فيهما الحد الأدني - بل ما هو أقل من الأدني - من شروط الامامة و مواصفاتها المجمع عليها: دينا و فقها، و علما و التزاما، و ورعا، و فضائل أخلاق» [148] . و هذه المقارنة ضرورية من أجل الاسلام باعتباره النظام المقدس الصادر من السماء و من أجل المسلمين باعتبارهم الأمة التي رشحت لحمل رسالة الاسلام فلا بد و الحالة هذه من الفرز المضني لاقرار المؤهل لقيادة الاسلام و المسلمين، و هنا يبرز الامام الجواد في سنه المبكرة و شبابه الغض القائد الضرورة للأمة دون سواه، و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فيا ساعد الله الامام الجواد علي ما كابد من تناقضات و الآم و مفارقات، و هو يتجرع الغصص حينما يشاهد الانحراف عن طريق الاسلام، و هو يتحسس الألم حينما يتولي قيادة الأمة من يبرؤ من تصرفاته الاسلام. [ صفحه 87]

الامام الجواد و القائم بالأمر

نتيجة للافراز السابق نجد ردة فعل أولياء الامام ردة غاضبة عنيفة، فهم يتوسمون به القائم المنتظر من شدة معاناتهم، و يأملون أن يكون الداعي الي الله بالسيف، و المحقق لليوم الالهي الموعود في تخليص البشرية من الظلم و العدوان، و ذلك لما ثبت لديهم و تواتر عندهم من خبر المنقذ الأعظم الذي يملأ الدنيا قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و ذلك من ضروريات المذهب و ثوابت التشيع، و لشدة اصطدامهم بمآسي الحياة و لولعة معاناتهم من استبداد الطغاة، كانوا يأملون أن يكون الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) ذلك المصلح العالمي الذي يتحقق علي يديه تطبيق العدل الالهي و اقامة الدولة العالمية الكبري. و هذا الهاجس الذي يجول في خواطر أوليائه المقربين كان نتيجة الاعتساف الفادح و الطيش المرير، و الاستهتار بالمقدسات، و التطاول علي الشريعة و نبذ الكتاب و تحريف الكلم من قبل سلاطين الجور، و كان هذا الأمل يراودهم من أجل الانقاذ من براثن الطواغيت، عسي أن يكون الفتح المرتقب علي يد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و لكن الامام كان يقابل ذلك بهدوء، و يجيب عنه بحكمة و روية، و يحدثهم عن مهمة كل امام في قيامه بالحق و نهوضه بالأمر دون ذلك الأمل المنشود، فالذي يريدون ليس هو علي كل حال، بل هو ذلك المنظر الغائب الذي لا يقوم حتي تتهيأ له أسباب الثورة الكبري، و تتحقق له شرائط التحرك الجهادي في [ صفحه 88] المناخ الذي يتلائم و طبيعة التغيير الشامل، من حيث التمحيص و التجربة و القوة و العدة و العدد. فقد جاء عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، و هو من الثقات الأبرار، قال: قلت لمحمد بن علي (يعني الامام الجواد) اني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): (يا أبا القاسم ما منا الا و هو قائم بأمر الله عزوجل، و هاد الي دين الله و لكن القائم الذي يطهر الله عزوجل به الأرض من الكفر و الجحود، و يملأها عدلا و قسطا: هو الذي تخفي علي الناس ولادته، و يغيب عنهم شخصه، و يحرم عليهم تسميته، هو سمي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و كنيه، و هو تطوي له الأرض، و يذل له كل صعب، و يجتمع اليه أصحابه عدة أهل بدر: ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من أقاصي الأرض، و ذلك قول الله عزوجل: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله علي كل شي‌ء قدير) [149] . فاذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الاخلاص أظهر الله أمره) [150] . و الامام هنا يحدد شخصية القائم عجل الله تعالي فرجه بمواصفاته الدقيقة من الغيبة و الخفاء و طي الأرض، و كتمان الاسم، و اجتماع العدة و العدد من أنصاره، فهو اذن غيره و سواه. [ صفحه 89] و تارة أخري نجد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) يحدث علي بن جعفر الصادق، و هو عم أبيه، مشيرا الي الامام المنتظر بما حدث به أبوه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قائلا: (يا عم ألم تسمع أبي و هو يقول: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): بأبي ابن خيرة الاماء النوبية الطيبة، يكون من ولده الشريد المولود بأبيه و جده، صاحب الغيبة، فيقال: مات أو هلك، أو بأي واد سلك. فقلت: صدقت جعلت فداك) [151] . و هنا ينطوي الحديث علي بعد رمزي يعبر عن طول الغيبة و أمد الانتظار حتي يقال ما يقال في الموت أو الهلاك أو السبيل المجهول مع شدة الزمان و المحنة. و يعاود السيد عبدالعظيم الحسني حديثه في هذا المضمار فيقول: دخلت علي سيدي محمد بن علي بن موسي (عليه‌السلام)، و أنا أريد أن أسأله عن القائم هل هو المهدي أو غيره؟ فابتدأني قائلا: (يا أبا القاسم منا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته، و يطاع في ظهوره و هو الثالث من ولدي، و الذي بعث محمدا بالنبوة، و خصنا بالامامة، انه لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتي يخرج فيه فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و ان الله تبارك و تعالي ليصلح أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسي، اذ ذهب يقتبس نارا، فرجع و هو رسول نبي. [ صفحه 90] و أضاف الامام الجواد قائلا: أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج) [152] . و هنا يشير الامام (عليه‌السلام) الي شيعته، ويصرح عن طريقه هذا، بأن الحجة المنتظر هو الامام (عليه‌السلام)، و هو الثالث من ولده فالأول منهم الامام علي الهادي (عليه‌السلام)، و الثاني هو الامام الحسن العسكري، و الثالث هو صاحب الأمر. ثم أوضح الامام الجواد (عليه‌السلام) فيما يروي عنه معالم الحقبة الزمنية التي تواجه القيام، و ما يرافق ذلك من علائم ابتلائية في الخوف و الفتن و الابتلاء و الحروب، و ما يصيبهم من ظواهر طبيعية، و ما يبد بهم من الوباء و الحروب، و ما يصيرون اليه من الاختلاف و التشتت في الدين، فيقول: (لا يقوم القائم (عليه‌السلام) الا علي خوف شديد من الناس، و زلازل، و فتنة تصيب الناس، و طاعون، و سيف قاطع بين العرب، و اختلاف شديد في الناس، و تشتت في دينهم، و تغير في حالهم) [153] . و من ثم نجد الاما محمد الجواد (عليه‌السلام) يؤكد أن القادم من آل محمد من المحتوم الجاري به وعد الله عزوجل، و أن قيامه من الميعاد الذي لا يتخلف، و الميعاد و ليس مما يجري فيه البداء. فقد أخرج النعماني بسنده الي أبي هاشم الجعفري، قال: (كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه‌السلام) فجري ذكر السفياني، و ما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم. [ صفحه 91] فقلت لأبي جعفر (عليه‌السلام): هل يبدو الله في المحتوم؟ قال: نعم، قلنا له: فنخاف أن يبدو الله في القائم!! فقال: ان القائم من الميعاد، و الله لا يخالف (يخلف) الميعاد) [154] . ان ما جري بين يدي الامام (عليه‌السلام) من انقداح ذهن أوليائه المقربين بأنه القائم من آل محمد بالأمر، لم يكن فكرا طارئا، و لا أمرا اعتباطيا، و انما استند فيه الي حياة الامام و مسلكيته الروحية، و ما كان يتمتع به من شرائط الولاية الشرعية الحقة، و ما اجتمع فيه من القابليات و الملكات و المواهب، و كل أولئك قد يقود الي هذا الاعتقاد و في الأقل الي هذا الاحتمال. و لما كان هذا الاعتقاد بعيدا عن واقع الأمر، كان علي الامام الكشف عن الحقائق و ازالة الشبه التي قد تختلط بظلالها علي الآخرين، فكان بذلك أمام مسؤوليته الشرعية وجها لوجه، فصدع بحقيقة الأمر، و أزال تلك التساؤلات عن معالم الطريق. [ صفحه 95]

الامام الجواد ... معجزة

الامامة في سن الصبا... ظاهرة اعجازية

الاعجاز بمفهوم بديهي: عبارة عن خرق نواميس الكون و تغيير قوانين الطبيعة، و قلب للنظام الثابت في الموازين الي نظام متحول. فالثابت هو الأصل الجاري علي سنن الحياة العامة، و المتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة. هناك اذن معلمان: معلم طبيعي بسيط، و معلم خارق معقد، و المعلم الطبيعي هو الذي لا تجد عنه متحولا لأنه سنة الله عزوجل في الابداع و التكوين، و المعلم الخارق ما تجد فيه قبلا لتلك القواعد و مجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة بأخري اعجازية متطورة، فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء، و الطريق الي تسيير حياة الكائنات المرئية و المسموعة و المدركة و المتخيلة بدليل قوله تعالي: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا يعلمون) [155] . و في هذاالضوء يكون الايجاد الطبيعي للانسان منسجما مع نظام الزوجية العام في حالة اعتيادية جاءت نتيجة للتزواج، و يكون الأصل التكويني للبشرية في خلق آدم (عليه‌السلام) من التراب دون الطريق الطبيعي في الاقتران و التناسل هو الحالة الفريدة، و هي الاعجاز، و يحمل عليهما كلما [ صفحه 96] قابل العادة، و لم يخضع الي التجربة الطبيعية كما في خلق عيسي (عليه‌السلام) من أم دون أب، بما مثله القرآن بقوله تعالي: (ان مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) [156] و تلك حالة اعجازية دون ريب. [157] . و في تقلد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) منصب الامامة في سن الصبا نجد ملحظا اعجازيا متحولا اذ ليست الامامة المبكرة حدثا اعتياديا لا يسترعي النظر و الانتباه و ليست أمرا عابرا لا يدعو الي الدهشة و التساؤل، بل هي ظاهرة فريدة تمثل حالة متكررة في تاريخ أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و قد بدأت أبعاد هذه الظاهرة أولا في الاعلان عن الامام محمد الجواد فيما بين السابعة و الثامنة من عمره اماما مفترض الطاعة لأتباع مذهب أهل البيت سنة ثلاث و مائتين لدي وفاة أبيه الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) [158] . و تكررت في الاعلان عن الامام علي الهادي (عليه‌السلام) و هو فيما بين الثامنة و التاسعة من عمره اماما عاشرا لائمة أهل البيت لدي وفاة أبيه الامام محمد الجواد سنة عشرين و مائتين من الهجرة النبوية، و ختمت بالاعلان عن صاحب الأمر عجل الله فرجه، و هو فيما بين الخامسة [ صفحه 97] و السادسة من عمره باعتباره الامام الثاني عشر لأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و ذلك لدي وفاة أبيه الامام الحسن العسكري سنة ستين و مائتين من الهجرة النبوية و به تتم حلقات السلسلة الذهبية لمرجعية الأئمة الاثني عشر الذين أجمعت الروايات علي استخلافهم الشرعي عند الامامية و ان لم يقدر لأغلبهم ممارسة الحكم الاسلامي كما أراد الله تعالي ذلك لولاة الأمر و من الأئمة الاثني عشر حصرا، فالامام امام سواء أتسلم الحكم أو لم يتسلم: ان المفاجئات السياسية قد حالت دون تحقيق تسلم الأئمة لأزمة الأمور في ادارة الدولة الاسلامية، و حبكة المؤامرات الداخلية قد شكلت محورا تراجيديا مبتكرا يقضي بالتسليم لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و في الوقت نفسه يقضي ابعاد آله و أبنائه و هم ذوو القربي بنص القرآن عن سدة الحكم و شؤون الدولة و قيادة الأمة، و هو فرض متناقض من جهات كثيرة ليس هذا موقع بحثها، و لكنها حدثت فعزلت أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) عن ممارسة حقهم في قيادة الدولة الاسلامية. و الحق أن الولاية الالهية الكبري قد حسمت في القرآن العظيم بما لا يقبل الجدل، فقد أجمعت الأمة أن قوله تعالي: (انما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون - و من يتول الله و رسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون) [159] قد نزل في حق أميرالمؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) لدي تصدقه بخاتمه الشريف، و ان ذهبوا بمفاهيم الولاية [ صفحه 98] و تفسيرها و تشتيتها و تبعيضها بما يخالف أصول لغة العرب في دلالتها الأولية و حتي الثانوية، و مع هذا فانهم لا يستطيعون الفصل بن الآية و بين ما تحدثت به بلسان مبين عن الولاية باختصاصها النصي: لله تعالي، و لرسوله، و لأمير المؤمنين حصرا. و يتفرع علي هذا المنطلق الثابت اطاعة لله و الرسول و أولي الأمر علي المسلمين دون غيرهم بقوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فان تنازعتم في شي‌ء فردوه الي الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و احسن تأويلا) [160] . و الفطرة الانسانية الخالصة عند المتمرس في أوليات لغة القرآن تأبي اللف و الدوران في مخالفة ظاهر النص و دلالة اللفظ في هذه الآية الكريمة، فالطاعة لله أولا، و للرسول ثانيا، و لأولي الأمر ثالثا، و هي حلقة مترابطة الأجزاء تأبي الانفصال العضوي، و لا يمكن أن يدعو القرآن - و هو المنقذ الأكبر للبشرية - الي اطاعة الظلمة و أولياء الجور و طواغيت الأمة، و أن يعطف هؤلاء علي الله و علي الرسول في الاطاعة، و الله تعالي هو المشرع الأعظم، و الرسول هو المبلغ الأمين، و لا يعطف عليهما الا من التزم نهجهما و سار علي طريق الهدي و الاسلام حذو القذة بالقذة، و الدليل الاستقرائي أثبت بما لا يقبل الشك أن هؤلاء هم أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) دون سواهم، اذ لا معني أن يدعو القرآن الي اطاعة العباسيين و قبلهم الأمويين و من بعدهم العثمانيين و هم يعصون أمر الله، و يظلمون عباد [ صفحه 99] الله، و يبتزون الأمة مال الله، و يسفكون الدم الحرام، لهذا اشترط الامامية العصمة للائمة (عليه‌السلام)، في ضوء اعلان القرآن لذلك في نص صريح غير قابل للتأويل، و هو قوله تعالي: (... انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) [161] و قد جاء هذا نتيجة منطقية للولاية الالهية الكبري فالحصر بانما في آية الولاية غير قابل للتجزئة أو الاضافة، و الاطاعة لله و للرسول لأولي الأمر، جاء امتدادا لتطبيق مفهوم تلك الولاية علي المصداق الذي لا يتعدد، و حصر آية التطهير هذه دليل ارادة العصمة و النقاء الخالص من الآثام و الابتعاد عنها علي الاطلاق، مما يستدل فيه علي استبعاد الأمراء الفسقة و الظلمة و المارقين عن ربقة التشريع بالذنوب و المعاصي، و بدلالة القرآن نفسه في تنزيه عهده الله بالامامة أن لا ينال الظالمين قال تعالي: (و اذ ابتلي ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قاللا ينال عهدي الظالمين) [162] . هذا الترابط المتشابك المذهل في موضوع الامامة في القرآن يدحض تلك المحاولات البائسة التي تقول: ان الله و رسوله تركا المسلمين هملا دون الرجوع الي القائمين بأمر الله، المؤدين لرسالته في الأصول و الفروع و الفروض و الحقوق و الواجبات و ادارة شؤون الشريعة الغراء، و الا لزم الغاء ثوابت الشرع المقدس في الرجوع لأولي الأمر في الطاعة، لأنهم [ صفحه 100] خلفاء الله في أرضه، لا الطغاة من الحكام الذي استولوا علي السلطة بالقهر و الارهاب الدموي، و اذا كا الأمر كذلك، فقد أخذ الله في الامامة ما أخذه في النبوة و احتج لها بما يحتج به للنبوة سواء بسواء، و قد قال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) لعلي بن أسباط: «يا علي ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج في النبوة، قال تعالي (و أتيناه الحكم صبيا) [163] . و قال تعالي: (حتي اذا بلغ أشدة و بلغ أربعين سنة) [164] . فقد يجوز أن يعطي الحكم صبيا و يجوز أن يعطي الامامة و هو ابن أربعين سنة» [165] . و بعد الاستدلال علي صحة الامامة بصحة النبوة في الصبا، تسقط الخيارات في الافتراضات الباطلة جملة و تفصيلا. ان هذه الرواية التي برهن بها الامام الجواد قرآنيا علي صحة امامته، ما كانت لتكون لولا ظاهرة تسنمه (عليه‌السلام) لمنصب الامامة الشرعية في سن الصبا، و التي كانت مثارا للدهشة و الانبهار من أوليائه فضلا عن أعدائه، و يضاف اليهما السلطة القائمة المعبرة عن حيرتها كما ستري. و استغل الخلفاء العباسيون المعاصرون للامام محمد الجواد (عليه‌السلام) هذه الظاهرة، و جعلوا منها موضوعا غضا طريا للسخرية حينا، [ صفحه 101] و الاستهزاء حينا آخر، و للتشهير المعاكس بينهما، باعتبارها مادة جديدة في قلب المعادلات النوعية، و تفجر ذلك ضد مبدأ أهل البيت في شرائط الامامة الصعبة بكون الامام: أعلم الناس، و أفضل الناس، و أتقي الناس، و أورع الناس، و أشجعهم، و أسخاهم، و أتمهم جمعا للفضائل، و أقدرهم حلا للمشكلات، و أبلغهم قولا و منطقا و بيانا و أفقههم في الدين، و أعرفهم بمسائل الحلال و الحرام... الخ. و أثاروا التساؤلات في وجه هذا الحدث الانساني المدهش!! فما قدر ما يحسن هذا الامام الصبي؟ و هو في أول سن التعليم!! هل يستطيع هذا الامام الصبي؟ و هو في أول سن التعليم!! هل يستطيع هذا الامام الصبي اثبات الكفاية النادرة في المواهب؟ هل يتمتع هذا الصبي المعجزة بخصائص العلم اللدني و ملكاته؟ أين درس هذا الصبي؟ و أني تعلم؟ و قد تركه أبوه الامام الرضا (عليه‌السلام) في المدينة المنورة و هو بين الرابعة أو الخامسة؟ و ما بال هؤلاء الشيوخ و العلماء و الفقهاء و أهل الرأي - من الامامية - و هم يقفون بين يدي هذا لاصبي المحير بكل خضوع و تبجيل و احترام؟؟ هل بامكان الصدفة و الفرض الطارئ أن يخلقا من هذا الصبي اماما مفترض الطاعة، و كيف؟ اذن و الحالة هذه فبالامكان تسفيه نظرية أهل البيت في الامامة، ما دام الامام الجديد في السابعة من العمر، أو قد تجاوز ذلك بشهور معدودة و أيام. [ صفحه 102] و جندت الطاقات لابطال هذا الفرض المستحيل في تخيلهم، و بدا لهم أن مؤشرات الاسقاط لائحة فيما يخططون له من مؤامرات!! و أزمة الطفولة هذه قد تعبر عن نجاح أي مشروع مضاد، و حشدوا لذلك سيلا من الأسئلة و الاختبارات الوجاهية - كما ستري في موقعه من البحث - و قد ردت جميعها من قبل الامام بجدارة لا مثيل لها في تأريخ الاسلام. و لقد كلف هذا التحدي الخلافة العباسية ثمنا باهضا هو الاقرار و الاعتراف بامامة محمد الجواد (عليه‌السلام) علي صغر سنه و من هنا كان الخطر محدقا بها، اذ لم تستطع البرهنة و لو جزئيا علي بطلان ظاهرة الامامة المبكرة، أو زحزحتها من الأرض الصلبة التي ترسو عليها، مما أوقعها في حرج تام و فشل ذريع نظرا للتفاعل التام الذي خلفته هذه الظاهرة في المناخ الاسلامي العام، و هو يصحو من رقدته علي أنباء فتح جديد لمذهب أهل البيت لم يكن في الحسبان، مما جعله يمتلك القاعدة الجماهيرية في أغلبية ساحقة، بعد أن وضح للعيان أن الامام محمد الجواد كان بحيث ينبغي أن يكون موقع الامام في الذروة في فصل الخطاب و قصب السبق في المحافل العلمية حتي لم يكن ليجاري في حلبته، و لا ليماري في مواهبه و خصائصه، و من هنا كانت ظاهرة الصبا في الامامة، أو ظاهرة الامامة في الصبا عاملا قويا في انعاش مبدأ أهل البيت، و عنصرا مؤثرا في ترسيخ أصوله الثابتة، بينما كان المفروض عكسيا لو كان الأمر طبيعيا، و لكنه الاعجاز الأمامي الذي استبق مقاييس الكون في خرقه للمنطق البشري الاعتيادي. [ صفحه 103] يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره: «ان ظاهرة الامامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية، و لم تكن و هما من الأوهام، لأن الامام الذي يبرز علي المسرح و هو صغير فيعلن عن نفسه اماما روحيا و فكريا للمسلمين، و يدين له بالولاء و الامامة كل ذلك التيار الواسع، لابد أن يكون علي قدر واضح و ملحوظ، بل و كبير من العلم و المعرفة وسعة الأفق، و التمكن من الفقه و التفسير و العقائد، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع بتلك القواعد الشعبية بامامته.... و اذا افترضنا أن القواعد الشعبية لامامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة و لم تعمل لكشف الحقيقة اذا كانت في صالحها؟ و ما كان أيسر ذلك علي السلطة القائمة لو كان الامام الصبي صبيا في فكره و ثقافته كما هو المعهود في الصبيان!! و ما كان أنجحة من أسلوب أن تقدم هذا الصبي الي شيعته و غير شيعته علي حقيقته، و تبرهن علي عدم كفاءته للامامة و الزعامة الروحية و الفكرية فلئن كان من الصعب الاقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلم الامامة، فليس هناك صعوبة في الاقناع بعدم ثقافة صبي اعتيادي - مهما كان ذكيا و فطنا - للامامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون، و كان هذا أسهل و أيسر من الطرق المعقدة و أساليب القمع المجازفة التي انتهجتها السلطات و قتئذ. [ صفحه 104] ان التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت ان الامامة المبكرة ظاهرة حقيقية، و ليست شيئا مصطنعا» [166] . و لم تكن الامامة في هذا السن ظاهرة حقيقية فحسب، بل عادت بعد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) ظاهرة تاريخية امتدت قرابة أربعين عاما، اذ شاركه فيها ولده الأمام علي الهادي (عليه‌السلام) فأسندت اليه الامامة في سن الثامنة من العمر، و شاركه في ذلك أيضا حفيده الامام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، فأسندت اليه الامامة و هو في سن الخامسة من العمر، مما شكل بعدا واقعيا و تاريخيا في وقت واحد، و ليس ذلك جديدا علي الساحة الالهية بل شأنه شأن الرسالات السماوية في الأنبياء و المرسلين في سن مبكرة. [ صفحه 105]

الامام محمد الجواد في خضم الاختبار العلمي

و كان من افرازات هذه الظاهرة الصادقة في واقعها و أطروحتها الفريدة، أن تعرض الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) و هو في أول الصبا لاختبارات كثيرة من قبل الأولياء و الأعداء، كما تعرض لامتحان الباحثين عن الحقيقة مجردة، و يضاف الي هذا كله حيرة السلطة العباسية و استغرابها في أمره و الكل - الا النادر من الرساليين - بين مشكك و مضطرب، و الناس من خلال هذا و ذاك بين مصدق و مكذب بمؤهلات هذا الصبي للامامة الشرعية، حتي قام الدليل علي صحة الدعوة بعد اثبات الامام نتيجة الاختبارات المكثفة أنه: أعلم الأحياء في التشريع، و أبلغ الناطقين بالقرآن، و أجمع الناس بأشتات المسائل، و أفقه الأمة بفروع الدين و أقدر البشر علي استنباط الأحكام و أصدق العالمين لهجة و لسانا و أكثرهم احاطة بشؤون الدنيا و الدين بلا استثناء. و لم تأت هذه النتيجة اعتباطا أو ارتجالا و انما جاءت بعد اختبار اثر اختبار، و سؤال بعد سؤال، و استيعاب لما أفاد به الامام، و دراسة شاملة في المحاورة و المناظرة و الاستقصاء لمعارف الامام التي أذهلت كل الفرقاء المتطلعين الي النتائج سواء أكانت ايجابية أم سلبية أم بين السلب و الايجاب. فهنالك فريق من الأولياء جدوا في طلب الخلف الصالح للامامة بعد وفاة الامام الرضا (عليه‌السلام) فتيقنوا بما لا يقبل الشك بعد التجربة الامتحانية، أن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) هو الامام المفترض الطاعة. [ صفحه 106] و هنالك فريق من أعداء أهل البيت جدوا من خلال أزمة العمر فيما يزعمون في البحث عن المبررات التي يوقعون بها الامامية في التشكيك بصلاحية هذا الصبي لمنصب الامامة. و هنالك البلاط العباسي المتربص لتغذية حملة التشكيك بامامة هذا الصبي المعجزة بشتي الأساليب و الطرق التي تتوافر لدي القصر و أعوانه و وعاظ سلاطينه. و بعد اقناع الفريق الأول تجربة و دراية و نصوصا صك الفريقان الآخران بفارس الحلبة و جواد السبق، حينما طرحت المسائل الكبري علي الامام، فانجلي في اجاباته الدقيقة أغر الجبين، طلق المحيا، فخضع حينذاك رجال الفتيا و أصحاب السلطان و فقهاء البلاط اذعانا بعظيم تفوق الامام الفقهي، و اقرارا بأعلميته المطلقة، بعد أن بزهم بتيار معارفه المتدفق، و رفيع استدراكه المتميز، و جميل استدراجه الاقناعي، و فيض مخزونه الثقافي الذي لا ينضب. و كان الامام محمد الجواد، و قد علم سرائر القوم و استلهم مخطط العابثين و تطلع في الأفق البعيد الي تلك المحاولات اليائسة، أول من خرق تلك الحجب و - الأستار - بادئ ذي بدئ، ولدي موت أبيه مباشرة، فقد جاء الي مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، صعد منبر رسول الله، و رقا منه درجة، و قال فيما يروي عنه: «أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم و ظواهركم، و ما أنتم صائرون اليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين و بعد فناء السماوات و الأرضين. [ صفحه 107] و لولا تظاهر أهل الباطل و دولة أهل الضلال و وثوب أهل الشك، لقلت قولا تعجب منه الأولون و الآخرون، ثم وضع يده الشريفة علي فيه، و قال: يا محمد أصمت كما صمت آباؤك من قبل» [167] . و هذه اللغة العاصفة أوضحت باصرار و وثوق: منزلة الامام العلمية من جهة، و خصائصه المميزة من جهة أخري، و ما وهب هو و الأئمة (عليهم‌السلام) من منح ليست من جنس ما يحسن الناس، و لا من وصف ما يعرفون، بما فيها من ادراك الحقائق المغيبة، و رصد الظواهر الخفية، و علم السرائر في بواطنها، و قد أنحي - بعد ذلك - بالأئمة علي أهل الباطل في تألبهم ضد مسيرة أهل البيت الرسالية، و تمرد دولة الضلال و الريب و الشك عليهم، مما دعا أهل الحق الي السكوت، و الي صمته تلقائيا تحت هذا الضغط كما صمت آباؤه من ذي قبل. و الأمر الجدير بالتنبيه اشارته المعبرة أنه ابن الامام الرضا و سليل هذه العترة فهو - اذن - امتداد لهم، و هو الناطق باسمهم، و هو القائم مقامهم في الامامة. و لعل سبط ابن الجوزي من أبرع من أدرك هذه الخصيصة، و اعتبر الامام محمد الجواد امتدادا لمدرسة أبيه الامام الرضا. و الرضا امتداد لمدرسة آبائه و جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فهم يصدرون عن مورد واحد. قال عن الامام الجواد فأوجز: «كان علي منهاج أبيه في العلم و التقي و الزهد و الجود» [168] . [ صفحه 108] و ليس جديدا أن يفوق الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أبناء عصره في هذه المظاهر الأربعة التي حددها سبط ابن الجوزي فقد كان اشتهاره بالعلم مثار اعجاب الدنيا و حديث المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها حتي اعتبر دون مغالاة: الامام المعجزة، و ذلك لكثرة ما ورد عليه من السؤال و دقة ما أجاب عليه من مسائل، بالنسبة لصغر سنه و حداثته فكان اجماعا كونه أعلم الأمة. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «و أما كونه أعلم الناس بالشريعة، و أفقههم بأحكام الدين في عصره، فهو الذي أدركه ذلك «الخلق الكثير» الذي قدم من سائر البلدان الي المدينة المنورة بعد وفاة الامام الرضا (عليه‌السلام) سائلين و باحثين عن الخلف القائم مقامه، فعلموا أنه ابنه محمد الجواد (عليه‌السلام) فدخلوا عليه مسلمين معزين، و وجهوا اليه أسئلتهم و استفساراتهم، و ربما كان فيها ما هو امتحاني، يريدون به اختبار امامته و كفايته، فأجابهم علي ذلك كله، بما أوضح لهم جلية الأمر، و حملهم علي التصديق و الاذعان به بقناعة و اطمئنان» [169] . و قد روي علي بن ابراهيم عن أبيه قال: «لما مات أبوالحسن الرضا (عليه‌السلام) حججنا فدخلنا علي أبي جعفر (عليه‌السلام)، و قد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا الي أبي جعفر (عليه‌السلام)،... و خرج أبوجعفر (عليه‌السلام) من الحجرة... و قعد علي كرسي، و نظر الناس بعضهم الي بعض تحيرا لصغر سنه... فقالوا: يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟ [ صفحه 109] فقال: نعم، فسألوه عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها و له تسع سنين» [170] . و لك أن تتساءل عن مصير أجوبة هذه المسائل المتطاولة، و التي تعدت حدود التصور في رقمها الكبير، و لعل تفاصيلها قد جرت في أماكن متعددة و أزمان متفاوتة في تناوب الشيعة علي الالتقاء بالامام لاستقصاء حاله و حقيقته، و لما كان التأريخ قد ضن علي أهل البيت (عليه‌السلام)، بتسجيل وقائعهم فقد غمر أكثرها متلاشيا بين الضياع و عدم التدوين. و كانت مفاجأة العمر الصغير تدعو الي البحث والنظر عند الأكثرين، الا أن الامام الرضا (عليه‌السلام)، قد سبق الي بيان ذلك و الاستدلال عليه فقد قال له صفوان بن يحيي: «ان كان كون فالي من؟ فأشار الامام الي أبي جعفر (عليه‌السلام) و هو قائم بين يديه. فقلت: جعلت فداك و هو ابن ثلاث سنين، فقال الامام الرضا: و ما يضره من ذلك؟ و قد قام عيسي بالحجة، و هو ابن أقل من ثلاث سنين» [171] . و كان جراء هذا الملحظ من العمر أن توافد الناس من الأقطار لمعرفة هذا الأمر الجديد، و فوجئوا بالأمر الواقع - بعد الاختبار - فأذعنوا خاضعين خاشعين لدي قيام الحجة عليهم. و قد أورد صاحب المناقب طائفة من أعيان الشيعة بأسمائهم ممن وردوا المدينة المنورة بعد وفاة الامام الرضا لاستطلاع جلية الأمر في الامام بعده، فكان الامام محمد الجواد ضالتهم فسلموا [172] . [ صفحه 110] و الدلالة البارزة في هذا التجمع يمثل ظاهرة استقرائية في التحري و الاستقصاء و البحث عن الامام القائم بالأمر، اذ يتوارد هذا الخلق الكثير و هو يؤم المدينة متسائلين عن الخلف بعد السلف، و أعناقهم مشرئبة لمطالعة الامام. و لا أدل علي ذلك مما أورده المجلسي عن عيون المعجزات: «لما قبض الرضا (عليه‌السلام) كان سن أبي جعفر (عليه‌السلام) نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد و في الأمصار، و اجتمع الريان بن الصلت و صفوان بن يحيي و محمد بن حكيم، و عبدالرحمن بن الحجاج، و يونس بن عبدالرحمن، و جماعة من وجوه الشيعة و ثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون و يتوجعون من المصيبة فقال لهم يونس بن عبدالرحمن، دعوا البكاء! من لهذا الأمر و الي من نقصد بالمسائل الي أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر (عليه‌السلام). فقام اليه الريان بن الصلت و وضع يده في حلقه و لم يزل يلطمه و يقول له: أنت تظهر الايمان لنا و تبطن الشك و الشرك، ان كان أمره من الله جل و علا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم و فوقه، و ان لم يكن من عندالله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس، و هذا مما ينبغي أن يفكر فيه، فأقبلت العصابة عليه تعذله و توبخه. و كانت وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد و الأمصار و علمائهم ثمانون رجلا فخرجوا الي الحج، و قصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (عليه‌السلام)، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه‌السلام)، لأنها كانت فارغة و دخلوها و جلسوا علي بساط كبيرة ففتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق و قال: هذا أبوجعفر!! [ صفحه 111] فقاموا اليه بأجمعهم و استقبلوه و سلموا عليه فدخل صلوات الله عليه، و عليه قميصان و عمامة بذؤابتين، و في رجليه نعلان، و جلس و أمسك الناس كلهم فقام صاحب مسألة فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعوا له و أثنوا عليه»... [173] . و كان عمه عبدالله بن موسي قد سئل عن أشياء فأجاب عنها بغير الواجب، فورد عليهم ما حيرهم و غمهم و اضطربت الفقهاء و العلماء و قاموا و هموا بالانصراف فأنقذهم الله باجابة مسائلهم من قبل الامام. [174] . و لم يكن الامام منغلقا علي نفسه بل كان منفتحا رحيب الصدر علي قومه و شيعته و أمته و قد اتسع علمه و حلمه لمئات الأسئلة المحرجة لغيره، و اليسيرة عليه، حتي تعدي السؤال دائرة الانصاف الي الاعتات، و كان الامام يقابل ذلك بحكمة و أناة، و لم يكن الامام لينفي عن ذاته المقدسة معرفة أصول العلوم و جذور المعارف بشتي الاختصاصات، حتي شاع أمر ذلك بين الناس، و طار صيته في البلدان. فهذا عمر بن فرج الرخجي، و هو من أعداء أهل البيت و من المتجاهرين بالنصب لهم، حتي قال أبوالفرج الأصبهاني: «استعمل المتوكل علي المدينة و مكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض المسألة الناس، و منع الناس من البر لهم، و كان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشي‌ء - و ان قل - الا أنهكه عقوبة و أثقله غرما. [ صفحه 112] حتي كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين به واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه و يجلسن علي مغازلهن عواري حواسر» [175] . أراد عمر هذا احراج الامام تعنتا لا استفهاما و ايضاحا و ذلك في سؤال انكاري أو استغرابي وجهه للامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، فألقمه الامام في رده حجرا، فبهت و لم ينبس ببنت شفة. تقول عمر هذا: قلت لأبي جعفر: ان شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء من دجلة و وزنه؟!! و في رواية (انك تعلم مثاقيل وزن ماء دجلة). و كنا علي شاطي دجلة (أيام المعتصم). فقال الامام محمد الجواد لي: يقدر الله تعالي أن يفوض علم ذلك الي بعوضة من خلقه أم لا؟ قال عمر بن فرج: قلت نعم يقدر. فقال (عليه‌السلام): أنا أكرم علي الله تعالي من بعوضة و من أكثر خلقه» [176] . فالامام (عليه‌السلام) لم ينف عن نفسه العلم بمعرفة أوزان مثاقيل ماء دجلة و هو لا تحده حدود الأرقام، و انما استدل علي معرفته بذلك بشكل قطعي باللازم و الدليل، و ذلك باستقرائه بأن الله يستطيع أن يفوض أمر ذلك الي بعوضة ما، و لما كان الامام أكرم علي الله من بعوضة و أكثر خلقه فهو يستطيع علم ذلك. [ صفحه 113] لقد تقبل عمر بن الفرج هذا الافلاج مضطرا اليه، لأنه لا يستطيع دفعه بشي‌ء اطلاقا، و مع هذا فقد استمر علي نصبه و عدائه و عناده للامام، كما تصوره لنا الرواية عن سيدنا و مولانا علي الهادي ولده، فقد أورد الكليني بسنده عن الحسين بن محمد، عن معلي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبدالله، عن محمد بن سنان، قال: دخلت علي أبي الحسن - يعني الامام علي الهادي (عليه‌السلام) - فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت مات عمر فقال: الحمد لله - حتي أحصيت له أربعا و عشرين مرة - فقلت: يا سيد لو علمت أن هذا يسرك لجئت حافيا أعدو اليك!! قال: يا محمد أو تدري ما قال لعنه الله، لمحمد بن علي أبي؟ قال: قلت: لا. قال (عليه‌السلام): خاطبه في شي‌ء، فقال: أظنك سكران!! فقال أبي: «اللهم ان كنت تعلم أني أمسيت لك صائما، فأذقه الحرب و ذل الأسر». «فو الله ما كان أن ذهبت الأيام حتي حرب ما له، و ما كان له، ثم أخذ أسيرا و هو ذا قد مات - لا رحمه الله - و قد أدال الله عزوجل منه، و ما زال يديل أولياءه من أعدائه» [177] . قال المسعودي: «في سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين، سخط المتوكل علي عمر بن الفرج الرخجي، و كان من علية الكتاب، و أخذ منه مالا [ صفحه 114] و جواهر مائة ألف و عشرين ألف دينار، و أخذ من أخيه نحو مائة ألف دينار، و خمسين ألف دينار، ثم صالح عمر علي أحد عشر ألف درهما علي أن يرد عليه ضياعه. ثم غضب مرة ثانية ثم أمر أن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، و ألبس جبة صوف، ثم رضي عنه، ثم سخط عليه ثالثة و أحدر الي بغداد و أقام بها حتي مات» [178] . فاستجيب دعاء الامام محمد الجواد فيه، فحرب في ماله، و أذل في أسره و ضرب ضربا مبرحا، حتي مات. و يبدو مما تقدم أن جميع المحاولات التي قادها النظام العباسي في مجال الاختبار للامام، قد أعطت نتائج مضادة للنظام و فقهاء القصر العباسي، كما أعطت الدلائل الايجابية لأتباع الامام و أوليائه، فقد فاق التصور في امداداته العلمية و أفحم الخصوم في معارفه الموسوعية، و جلي في الميدان الفكري بما عجز ذوو السن و شيوخ المدارس العلمية و الكلامية، بل و أضاف الامام الي ذلك استقراء الغيب المجهول كما ستري و ستسمع.!! [ صفحه 115]

استقراء الغيب المجهول لدي الامام محمد الجواد

هنالك حديث شريف متواتر عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و هو قوله: «أنا مدينة العلم و علي بابها... فمن أراد العلم فليأت الباب». هذا الحديث الشريف يروي عن مائة و ثلاثة و أربعين مصدرا من مصادر أهل السنة. و قد صححه اثنان و عشرون اماما من أئمة الحديث من علماء الجمهور فضلا عن اجماع الامامية عليه. [179] . و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فعلم أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) مصدره صاحب الرسالة الغراء محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، و مصدر صاحب الرسالة الوحي عن السماء، و اذا روي الجمهور في أحاديثه الصحيحة علي شرط الشيخين مسلم و البخاري عن عمر بن الخطاب و أبي سعيد الخدري و حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم، و سواهم من شيوخ الصحابة أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قام خطيبا (فلم يدع شيئا و يكون الي قيام الساعة الا أخبرهم به) أو أنه (حدثهم بما هو كائن الي أن تقوم الساعة) [180] . [ صفحه 116] فهل تري ان عليا (عليه‌السلام) كان يغفل عن ضبط و وعي و حفظ بل و تدوين ذلك، و هو صنو النبي و عيبة علمه و كان يلازمه ملازمة الظل للشاخص؟؟ الحق أن عليا من خلال مسؤوليته الرسالية و موقعه القريب من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) كان معنيا بتسجيل ما يدور في هذا المحور بل و يدون ذلك أولا بأول كما ستري، فقد روي عن الامام الصادق (عليه‌السلام): «ان عندنا ما لا نحتاج معه الي الناس، و ان الناس ليحتاجون الينا، و ان عندنا كتابا باملاء رسول الله (صلي الله عليه و اله و سلم) و خط علي (عليه‌السلام)، صحيفة فيها كل حلال و حرام، و انكم لتأتون بالأمر فنعرف اذا أخذتم به، و نعرف اذا تركتموه» [181] . و كان أميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) يجمع «علم ما يحتاج الناس اليه من الحلال و الحرام حتي ارش الخدش» [182] . و الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) يؤكد في هذا الخصوص علم أميرالمؤمنين يضاف اليه افادة الأئمة من بعده هذا العلم المتوارث يقول الامام (عليه‌السلام): «ان عليا كان عالما، و العلم يتوارث، و لن يهلك عالم الا بقي من بعده من يعلم علمه، أو ما شاء الله» [183] . و يؤكد هذا ما رواه الحاج خليفة عن الشيخ كمال الدين بن طلحة الشافعي (ت 652 ه) بقوله: [ صفحه 117] «ان الأئمة من أولاد علي كانوا يعرفون (الجفر) رواية عن جدهم أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و يخبرون عما جاء فيه من (أبناء الغيب) و أحكام الدين و هم يتوارثون ذلك كله» [184] . و أنباء الغيب هذه تعلم من ذي علم، و قد كان الامام علي أميرالمؤمنين دقيقا في الرد علي من نسب اليه علم الغيب أصالة، فقال: «ليس هو بعلم غيب، و انما هو تعلم من ذي علم و انما علم الغيب: علم الساعة و ما عدده الله بقوله: (ان الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) [185] . و ما سوي ذلك، فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، و تضطم عليه جوانحي» [186] . فما تحدث عنه الامام علي (عليه‌السلام) من أبناء الغيب، و كذلك الأئمة المعصومون من بعده ليس من علم الغيب اختصاصا، و لكنه من علم الغيب افاضة، و شتان بين الاختصاص و الافاضة، فعلم الغيب بحد ذاته مما يختص به الله وحده فهو كصفة ذاتية لله عزوجل، و غيره يعد حالة استثنائية ممكنة، يخص بها الله من يشاء من عباده. و علم الغيب بالملحظ الأول عبارة عن رصد حقائق الأشياء في الغيب المجهول تلقائيا، و التحدث عنها بلغة قاطعة فوق المنظور [ صفحه 118] الاعتيادي، باعتبارها واقعة حقيقية دون شك، و هذا ما يختص به الله وحده و لكن الله عزوجل قد أخبر نبيه بجزء من علم الغيب فيما مضي و مستقبليا، كما ورد ذلك في القرآن العظيم و أخبر بها الناس كالحديث عن خلق آدم، و سجود الملائكة له الا ابليس، و قتل قابيل هابيل، و قصة نوح و الطوفان، و حديث ابراهيم و قومه و القائه في النار، و الأصنام، و الكواكب، و الهجرة، و بناء البيت، و ضيف ابراهيم المكرمين، و نبأ عاد و ثمود، و أهل الكهف، و ذوي القرنين، و قصص موسي و فرعون، و حياة عيسي و يحيي و سليمان و داود و أيوب و يعقوب و يوسف و الأنبياء الآخرين ممن سلفوا، و تحدث عنهم القرآن غيبيا. يضاف الي هذا كله، حديث القرآن عن غلبة الروم و غلبها، و عن فتح مكة، و عن انهزام الجمع، و عن انتصار المسلمين، كل ذلك في زمن مستقبلي، و حدث ذلك كله. و كما كان هذا أمرا واقعا كان غيره أمرا ممكنا، فالله وحده قد خص الأنبياء و النبي محمدا بالذات، بايحاء كثير من علم الغيب، و لا استحالة عقلية من أن يكون النبي (صلي الله و عليه و آله و سلم) قد أفاض بذلك - جزءا أو كلا - علي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و أميرالمؤمنين قد أفاض ذلك علي المعصوم من ولده و هكذا... و اذا أمكن ذلك شرعا و عقلا، فلا مانع من تحققه فعلا و استقراء [187] . و الدليل علي ما تقدم من القول قوله عزوجل: [ صفحه 119] (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا - الا من ارتضي من رسول) [188] . و المعني في الآية الأولي: ان الله وحده هو عالم كل غيب يختص به، فلا يطلع علي الغيب - و هو مختص به - أحد من الناس. و المفاد في هذا هو السلب الكلي، أي لا يظهر علي غيبه أحدا. و في الآية الثانية في قوله (الا من ارتضي من رسول) استثناء من قوله (أحدا) في الآية الأولي. و (من رسول) بيان لقوله (من ارتضي). فيفيد أن الله تعالي يظهر رسله علي ما شاء من الغيب المختص به. [189] . فهو جل جلاله يتعالي بعلم الغيب بذاته أصالة، و هو اذا شاء يعلم غيره تبعا. و اذا سلمنا بهذا، فلا مانع أن يفيض الله من هذا الغيب علي النبي محمد (صلي الله عليه و اله و سلم) و النبي يفيض علي الامام (عليه‌السلام)، لاكمال متطلبات الرسالة، بدليل قوله: (أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون) [190] . و هذا العلم عند أئمتنا (عليهم‌السلام)، تعلم خاص من ذي علم، للغاية التي بعث الله بها الأنبياء، باعتبار الامامة امتدادا حتميا للنبوة. [ صفحه 120] و هذا ما جعل الأسئلة تتوالي علي الأئمة المعصومين، لشيوع هذه الظاهرة في أحاديثهم، فكانت الاجابات متقاربة يتمم بعضها بعضا في ضوء ما بيناه سلفا. فعن عمار الساباطي، قال: «سألت أبا عبدالله (عليه‌السلام)، عن الامام: يعلم الغيب؟ قال: لا، لكن اذا أراد ان يعلم الشي‌ء أعلمه الله ذلك» [191] . و هنا نقطة جديرة باللحاظ: ان الامام نفي عنهم علم الغيب ذاتيا، و لم ينفه عنهم عرضيا، و أثبته للامام اذا اقتضت الضرورة الدينية، و ينبغي الالتفات ذهنيا الي ما رواه معمر بن خلاد، قال: سأل أبا الحسن (عليه‌السلام) رجل من فارس فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه‌السلام) يعني الامام الباقر: «يبسط لناالعلم فنعلم، و يقبض عنا فلا نعلم». و قال: «سر الله عزوجل أسره الي جبرئيل، و أسره جبرئيل الي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، و أسره محمد الي من شاء» [192] . و قد استنكر الأئمة (عليهم‌السلام)، اضافة علم الغيب اليهم ذاتيا حتي يكون هناك غلو و افراط في التقدير، و لئلا يفسح المجال لقول ما يخرجهم عن كونهم عبادا لله مكرمين. فعن الامام الصادق (عليه‌السلام): أنه خرج الي مجلسه يوما، و هو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال: [ صفحه 121] «يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب الا الله عزوجل، لقد هممت أن أضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي!!» [193] . و هذا التقرير يوحي صراحة أن علم الغيب خاصة الهية لا يشاركه فيها أحد، ما في ذلك من شك، و لكنه تعالي قد يفيض من هذا الرافد علي نبيه الصادق الأمين، و يفيض رسوله علي أهل بيته، و يتحدث أهل بيته عن الأحداث المستقبلية، و عما سيكون بلغة الحتم و الجزم. و قد يقتضي الانباء بشي‌ء من هذا العلم كشف الشبه، و دفع الظنون، و احراج الخصم، و اقامة الحجة، بما تترتب عليه مصلحة دينية عليا، فقد ورد في عدة مصادر: ان أبا يوسف القاضي و محمد بن الحسن الشيباني زارا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في السجن و قال أحدهما للآخر: نحن علي أحد أمرين؟ أما أن نساويه أو نشكله!! فجلسنا بين يديه، فجاء رجل كان موكلا بالامام من قبل السندي فقال: ان نوبتي قد انقضت، و أنا علي الانصراف، فان كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة، فقال الامام (عليه‌السلام): مالي حاجة. فلما خرج، قال الامام لأبي يوسف و صاحبه: ما أعجب هذا؟ يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع، و هو ميت في هذه الليلة!! [ صفحه 122] فقاما، و قال أحدهما للآخر انا جئنا نسأله عن الفرض و السنة، و هو الآن جاء بشي‌ء كأنه من علم الغيب!! ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا: اذهب حتي تلزمه، و تنظر في أمره هذه الليلة... فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره فلما أصبح سمع الناعية و رأي الناس يدخلون داره!! فقال: ما هذا؟ قالوا: مات فلان في هذه الليلة... فانصرف الرجل الي أبي يوسف و محمد و أخبرهما الخبر، فأتيا أبا الحسن (عليه‌السلام)، فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال و الحرام، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت الليلة؟ قال الامام: من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) علي بن أبي طالب!! فلما رد عليهما بهذا بقيا لا يحيران جوابا. [194] . و هذا باب متسع لدي الأئمة المعصومين (عليه‌السلام)، و هو ليس من قبيل الفراسة أو الحدس أو التخمين، و انما هو تعلم من ذي علم. اذا ثبت هذا و هو ثابت دون ريب، فقد كان ما فاجأبه الامام الجواد (عليه‌السلام) الأمة باستقراء الغيب المجهول، و التحدث الجازم بايحاء اللمح الغيبي، و القول الصادق بأنباء مستقبلية ليس أمرا جديدا، و انما هو جار بسبيل من سبل الأئمة (عليهم‌السلام)، حتي عاد حقيقة تاريخية واقعة. هذه الحقيقة أشار اليها أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) بقوله: [ صفحه 123] «الا، و انا أهل البيت، من علم الله علمنا، و بحكم الله حكمنا، و من قول صادق سمعنا، فأن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحق، و من تبعها لحق، و من تأخر عنها غرق» [195] . و الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في القمة الشامخة من هذا العلم اللدني، اذ لم يتكأ في علمه علي أساتيذ و شيوخ و حلقات درس، و من كان علمه من علم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فهو في غني جميع طرائق التعليم. و الامامية لا تستكثر علي أئمتها أي امداد تصاعدي في العلم الموهبي، و كذلك ذو و النظر العقلي من أهل الاسلام، بما في ذلك ما تحقق علي يد الصبي الامام محمد الجواد و الذي بعث الانبهار و العجب العجاب في شتي الأصعدة و المستويات. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «لن يخالجنا أي احساس بعجب أو استغراب عندما نقف علي المأثور عن الامام الجواد، و علي ما قيل في سعة علمه و غزارة فضله، و عندما نلمس تدفق ذلك العطاء الفكري و امتداد آفاقه المترامية، علي الرغم من صغر سن الامام بالقياس الي الحسابات المتداولة في أعمار الناس، و ما يمكن أن يتعلموه في مثل تلك المدة الزمنية من العمر» [196] . و كان هذا التقرير فيما يتعلق بافاضات الامام العلمية التي لا تناسب عمره الشريف في سن الصبا، فاذا أضفنا الي ذلك مشاهد اللمح [ صفحه 124] الغيبي في استقراء المجهول من قبل الامام و استباق الأحداث في انباءات الامام القاطعة، خرجنا بحصيلة جديدة تخرق العادة في استكناه الحقائق. و لهذا فان ما ورد عن الامام في هذا المجال يعتبر بحق ظاهرة من ظواهر كشف الأستار و الحجب عن الوقائق القادمة بكل دقة و أمانة بحيث لا تتخلف الأخبار عن اصابة الواقع في شي‌ء مطلقا، و شواهد ذلك كثيرة كما ستري. فعن ابراهيم بن محمد، قال: كان أبوجعفر محمد بن علي كتب الي كتابا، و أمرني أن لا أفكه حتي يموت يحيي بن أبي عمران. قال: فمكث الكتاب عندي سنتين فلما كان اليوم الذي مات فيه يحيي بن أبي عمران فككت الكتاب فاذا فيه: «قم بما كان يقوم به أو نحو هذا من الأمر: و كان ابراهيم يقول كنت لا أخاف الموت ما كان يحيي بن أبي عمران حيا» [197] . و في هذا الكتاب ملحظان غيبيان: الأول: الانباء بأن عمر ابراهيم بن محمد أطول من عمر وكيله يحيي بن أبي عمران لهذا، أسند اليه الأمر قبل وفاة يحيي بسنتين. الثاني: القطع بأن ابراهيم بن محمد سوف لا ينحرف عن منهج أهل البيت طيلة هذه المدة بحيث استحق وكالة الامام، أو القيام بمهمة يحيي بن أبي عمران من بعده. [ صفحه 125] و عن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت علي أبي جعفر الثاني، و معي ثلاث رقاع غير معنونة و اشتبهت علي، و اغتممت لذلك فتناول الامام احداهن، و قال: هذه رقعة الريان بن شبيب، و تناول الثانية، و قال: هذه رقعة محمد بن أبي حمزة، و تناول الثالثة، و قال: هذه رقعة فلان. فبهت، فنظر الي و تبسم» [198] . فبماذا نعلل هذا الانباء؟ و كيف يتم هذا الاكتشاف؟ و بم تفسر هذه الظاهرة؟ لقد ملكت الدهشة الوسط المحيط بالامام، و هما فريقان، أولياؤه و أعداؤه. أما الأولياء فآمنوا بالعلم الموهبي للامام. و أما الأعداء فكانوا بين بين، بين التسليم و بين العناد. و هكذا شأن الناس، فعن محمد بن حمزة عن محمد بن علي الهاشمي، أنه دخل علي الامام الجواد، و أصابه العطش، و كره أن يدعو بالماء، يقول: فنظر أبو جعفر (عليه‌السلام) في وجهي، و قال: أراك عطشان؟ قلت: أجل. قال: يا غلام اسقنا ماء. فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء مسموم، و اغتممت لذلك. فأقبل الغلام و معه الماء، فتبسم في وجهي، ثم قال: يا غلام، ناولني الماء، فشرب منه ثم ناولني فشربت، و أطلت عنده فعطشت فدعا بالماء ففعل كما فعل في المرة الأولي. فشرب ثم ناولني و تبسم. [ صفحه 126] قال محمد بن حمزة: فقال لي محمد بن علي الهاشمي: و الله اني أظن أن أباجعفر يعلم ما في النفوس، كما تقول الرافضة» [199] . و روي الحميري أن أبا هاشم قال: «ان أبا جعفر أعطاني ثلاثمائة دينار في صرة و أمرني أن أحملها الي بعض بني عمه، و قال: أما أنه سيقول لك: دلني علي من أشتري بها منه متاعا، فدله: قال: فأتيته بالدنانير، فقال لي: يا أبا هاشم دلني علي حريف يشتري بها متاعا، ففعلت» [200] . أتري الامام (عليه‌السلام) قد قرأ ما في نفس المرسل اليه فتحدث بذلك، أما أن هناك استقراء للمجهول تلوح بوادره؟ و روي عن أبي هاشم الجعفري، قال: كلفني جمالي أن أكلم أبا جعفر (عليه‌السلام) ليدخله في بعض أموره، قال: فدخلت عليه لأكلمه فوجدته في جماعة فلم يمكني كلامه، فقال: يا أبا هاشم، كل، و قد وضع الطعام بين يديه، ثم قال ابتداء منه من غير مساءلة مني: يا غلام، انظر الجمال الذي أتانا أبو هاشم فضمه اليك. [201] . [ صفحه 127] و لم يكن هذا اللمح الغيبي الذي يستخدمه الامام الا لتثبيت قلوب المؤمنين، و تعميق معرفتهم بمدركات الأئمة العلمية و أبعادها الطبيعية و الكسبية و اللدنية. و أورد في الخرائج عن صالح بن عطية الأصحب، قال: حججت فشكوت الي أبي جعفر (عليه‌السلام) الوحدة!! فقال: أما انك لا تخرج من الحرم حتي تشتري جارية ترزق منها ابنا فقلت: تسير الي؟ قال: نعم، و ركب الي النخاس و كتب الي جارية، فقال: اشترها فاشتريتها فولدت محمدا ابني. [202] . و عن عمران بن محمد الأشعري، قال: دخلت علي أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام)، و قضيت حوائجي، و قلت له: ان أم الحسن تقرؤك السلام، و تسألك ثوبا من ثيابك تجعله كفنا لها، قال: قد استغنت عن ذلك!! فخرجت، و لست أدري معني ذلك، فأتاني الخبر بأنها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوما أو أربعة عشر يوما. [203] . و نظير هذا ما رواه عمران بن محمد نفسه، قال: دفع الي أخي درعة أحملها الي أبي جعفر (عليه‌السلام) مع أشياء، فقدمت بها و نسيت الدرع، فلما أردت أن أودعه، قال: لي أحمل الدرع. [ صفحه 128] و سألتني والدتي أن أساله قميصا من ثيابه!! فقال: ليس بمحتاج اليه!! فجائني الخبر أنها توفيت قبل عشرين يوما. [204] . و كانت هذه الانباءات - و ما أوردناه غيض من فيض - مما كشف حجاب الريب عن أزمة الطفولة المدعاة و ألقت بمصادر التشكيك في مزبلة التأريخ، و كان لها الأثر الكبير في ترسيخ مفهوم الامامة في النفوس، لأنها دلائل و براهين ناطقة، ما اتفق أن تخلف انباؤها و لا مرة واحدة. [ صفحه 129]

اضطراب النظام العباسي... من الامام المعجزة

و اضطرب النظام العباسي اضطرابا هائلا، حينما فوجئ بمقدرة الامام العلمية و التشريعية و الغيبية، و امتلاكه قلوب الناس، و التفاف الأمة حول قيادته المتبرعمة في سن الصبا و أول الشباب، و بدأت الجماهير تتساءل، و ما بعد الشك الا اليقين!! ما هذه المميزات و الخصائص لهذا الانسان المعجزة؟؟ عن آية قوة غيبية يتحدي السلطان فيطأطئ من جبروته؟؟ فلماذا تقف السلطة بامكاناتها متصاغرة بين يديه؟؟ لماذا بهت العلماء و الفقهاء و المتكلمون أمام هذا الحدث الجديد؟ و ما بال شيوخ الشيعة و أساطينها و رجالها و تجارها و كسبتها و جمهورها و سوادها، تتلقي تعليماتها ممن لم يبلغ الحلم؟؟ فهل أصيب هذا الحشد الهائل باختلال التوازن العقلي؟ أم ماذا؟ و ما طبيعة هذه الوفود من البلدان و الأقاليم و القصبات تتجه بعد الحج و زيارة الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله و سلم) شطر بيت الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)؟ تسأله فيجيب، و تستنقبه فلا ينبو، و يتستفهمه فلا يحيد!! و تطلب اليه فلا يردها، و تتودد اليه فيبرها و يحنو عليها!! و تتقرب منه خطوة فخطوة، فلا تلمس الا علما و حزما، و لا تجد الا نبلا و شرفا، [ صفحه 130] و لا تري الا جودا و سخاء، و لا تنظر الا ادراكا و معرفة، و لا تكتشف الا أصالة و رفعة!! أين هم اليوم في مثل هذا العالم الجديد؟ العالم الذي لا يخضع لمعيار الفطرة و لا نظام الكون!! و انما ينفجر - كما هو المتوقع لذوي الألباب - عن مفاهيم جديدة تطوي الزمن كلمح بالبصر عن مخزون حضاري عتيد ينبع من القرآن، و يصدر عن الشرع الحنيف، و يحكي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) تشريعه و تأصيله و تمويله لهذا الدين القيم!! و كيف تأخذ هذه الجموع المتدافعة فقه عباداتها و معاملاتها، و أمر ثوابتها و أصولها و تعاليم معتقداتها و فروضها و ما يترتب علي ذلك من ادارة شؤونها و اصلاح معاشها، و تهذيب نفوسها و ترويض صعبها و تطبيع علاقاتها الاجتماعية و الدينية علي أرض صلبة؟ من هذا الصبي المعجزة الذي استولي علي المشاعر و الأحاسيس حبا و اكبارا. و كيف استطاع صهر هذا الأفق الحاد المتناقض بين جمهرة المشككين و المستغربين و المتحيرين؟ فجذبهم الي حضرته انجذابا رفيعا، و استحوذ عليهم بالدليل و المنطق و العلم الهادر!! و هل من المتعارف عليه في نظام الأحكام السلطانية، و في حياة الفقه الدستوري أن يتصدر مذهب أهل البيت هذا اليافع الذي لم يبلغ الحلم؟ و ماذا تقول الأمة، و أبوه الامام علي بن موسي الرضا يكتب اليه و هو في هذه السن المبكرة؟ و من خراسان التي وردها عام مائتين من الهجرة بالرسائل الرقيقة معظما و مبجلا و ترده أجوبة ولده شافية [ صفحه 131] مستوعبة، فيشير منذ ذلك الحين الي امامته من بعده علما بأن مولده في عام خمسة و تسعين بعد المائة من الهجرة اجماعا؟!! فعمره الشريف اذن خمس سنوات فحسب. يقول محمد بن بي أبي عباد، و كان يكتب للرضا (عليه‌السلام): «ان الامام ما كان يذكر محمدا ابنه (عليه‌السلام) الا بكنيته، يقول: كتب الي أبوجعفر!! و كنت أكتب الي أبي جعفر و هو صبي في المدينة!! فيخاطب بالتعظيم!! و ترد كتب أبي جعفر (عليه‌السلام) في نهاية البلاغة و الحسن!! فسمعته أي - الامام الرضا - يقول: «أبو جعفر وصيي و خليفتي في أهلي من بعدي» [205] . و الأكثر من هذا بعد أن يسأل الامام الرضا (عليه‌السلام): «فان كان كون فالي أين؟ فيشير بيده الي أبي جعفر (عليه‌السلام)، و هو قائم بين يديه».!! فقلت له: (و القائل صفوان بن يحيي) جعلت فداك و هو ابن الثلاث سنين؟ قال الامام الرضا (عليه‌السلام)؟ «و ما يضره من ذلك؟ قد قام عيسي بالحجة و هو ابن أقل من ثلاث سنين» [206] . و يكرر الرضا (عليه‌السلام) هذا المعني مؤكدا عليه، فقد روي الحسن بن محمد عن الخيراني عن أبيه، قال: [ صفحه 132] «كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) بخراسان، فقال قائل: يا سيدي ان كان كون فالي من؟ قال: الي أبي جعفر ابني!! فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر!! فقال أبو الحسن (الرضا) (عليه‌السلام): «ان الله سبحانه بعث عيسي بن مريم رسولا نبيا، صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (عليه‌السلام)» [207] . و كان من دقة الامام الرضا (عليه‌السلام)، و تفكيره الموضوعي أن لم يصطحب معه ولده الامام الرضا الي مرو، بل أبقاه في المدينة المنورة حفاظا عليه من النظام الطائش الذي قد يقدم علي تصفيته جسديا، لو حصل لأبيه الأمر كما هو المتوقع، و كان هذا الملحظ الدقيق مؤشرا سياسيا رفيعا في تمرس الامام الرضا (عليه‌السلام)، في الأحداث، و معرفته النوعية بمؤامرات البلاط العباسي الذي لا يتورع عن شي‌ء. هذا من وجه احترازي خالص، و من وجه آخر ايجابي كان بقاء الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و هو في عمر الورود، يشكل منعطفا تأريخيا في حياة الامامة، فهو لم يتجاوز الخامسة من عمره الشريف، الا أن التفاف الشيعة - بعد تصريحات أبيه السابقة - كان مكثفا حوله، باعتباره ظاهرة جديدة في حياة الامامة نظرا لصغره، و مع هذا فان الاقبال عليه كان منقطع النظير من أوليائه، و أهل بيته و الهاشميين. [ صفحه 133] فقد أورد المجلسي عن أمية بن علي قوله: «كنت بالمدينة، و كنت أختلف الي أبي جعفر (عليه‌السلام)، و أبوالحسن - الرضا - بخراسان، و كان أهل بيته و عمومة أبيه يأتونه و يسلمون عليه» [208] . بل ذهب المسعودي الي أكثر من هذا فقال: «انه كان يدبر أمر الرضا (عليه‌السلام) بالمدينة» [209] . و كذلك كان أوليائه يتحينون الفرص بالاجتماع به، انبهارا بقابلياته الفذة و هو صغير، فعن ابن أبي النضر و محمد بن سنان قالا: «كنا بمكة و أبوالحسن الرضا (عليه‌السلام) بها، فقلنا له: جعلناالله فداك، نحن خارجون و أنت مقيم، فان رأيت أن تكتب لأبي جعفر (عليه‌السلام)، كتابا نلم به، قالا: فكتب اليه فقدمنا، و اجتمعوا بالامام الجواد (عليه‌السلام)، و قرأ كتاب أبيه و هو يبتسم. [210] . و ما اكتفي الامام الرضا (عليه‌السلام) بهذا حتي أمر أصحابه و أولياءه باحداث العهد به و التسليم له في حياته. و مما يروي في هذا الصدد، أن الامام كان في جماعة فلما نهضوا قال لهم أبوالحسن الرضا (عليه‌السلام): [ صفحه 134] القوا أبا جعفر فسلموا له، و أحدثوا به عهدا. [211] . و الطريف أن يحتج الامام محمد الجواد بلغة العصر اعلاميا في اثبات امامته بما رواه الشيخ المفيد قائلا: «أخبرني أبوالقاسم، جعفر بن محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد عن معلي بن محمد، قال: خرج علي أبو جعفر (عليه‌السلام) حدثان موت أبيه، فنظرت الي قده لأصف قامته لأصحابنا، فقعد ثم قال: يا معلي ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج في النبوة فقال: (و آتيناه الحكم صبيا) [212] [213] . و قد كرر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) جوهر هذا الاحتجاج مع علي بن أسباط بروايته، قال: «رأيت أبا جعفر (عليه‌السلام) قد خرج علي، فأحددت النظر اليه و الي رأسه، و الي رجله، لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فخر (الامام محمد الجواد) ساجدا، و قال: ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج في النبوة. قال تعالي (و آتيناه الحكم صبيا) [214] . [ صفحه 135] و قال الله: (حتي اذا بلغ أشده...) [215] . (و بلغ أربعين سنة...) [216] . فقد يجوز أن يؤتي الحكمة و هو صبي و يجوز أن يؤتي و هو ابن أربعين سنة» [217] . و مهما يكن من أمر، فقد تسنم الامام محمد الجواد منصب الامامة الشرعي، و قد أقام مع أبيه سبع سنين و أربعة أشهر و يومين، و نهض من بعده بالأمر اماما ثماني عشرة سنة الا عشرين يوما... [218] . و كان منذ صباه حتي أول شبابه، و في جميع أدوار حياته، مضرب المثل في العفة و الزهد و العلم و الاستقامة. و اشتهر ذكر الامام في الآفاق و ذاع صيته في العواصم، و تطلعت الي أخباره الأقاليم، فلمس النظام فيه خطرا عتيدا حاضرا، و وجد فيه ظاهرة لا قبل لها بها فأرجف عليه من هنا و هناك، و ابتغي له الغوائل، و بدأ يبحث عن الوسائل التي تصد هذا التأييد الحافل به، سيما بعد وفاة المأمون و تسلم المعتصم للحكم في شعبان من سنة ثماني عشرة و مائتين. فقد روي عن ابن أرومه أنه قال: «ان المعتصم دعا جماعة من وزرائه، فقال: اشهدوا علي محمد بن علي بن موسي زورا، و اكتبوا أنه أراد أن يخرج. [ صفحه 136] ثم دعاه المعتصم فقال له: انك أردت أن تخرج علي!! فقال: و الله ما فعلت شيئا من ذلك. قال: ان فلانا و فلانا شهدوا عليك!! فأحضروا، فقالوا: نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك، قال: و كان جالسا في بهو فرفع أبو جعفر يده، و قال: اللهم ان كانوا كذبوا علي فخذهم!! قال: فنظرنا الي ذلك البهو و كيف يرجف و يذهب و يجي‌ء!! و كلما قام واحد وقع!! فقال المعتصم: يا ابن رسول الله: اني تائب مما قلت، فادع ربك أن يسكنه فقال الامام: اللهم سكنه انك تعلم أنهم أعداؤك و أعدائي، فسكن» [219] . و لم يكن الامام مع هذه الضغوط و المفارقات لينفي عن نفسه امامة الأمة، بل ثبتها لنفسه جهارا و بكل وثوق و اطمئنان، يصاحبه فيها التأييد الغيبي بما يعتبر معجزة، فقد قال له يحيي بن أكثم، قاضي القضاة: «و الله اني أريد أن أسألك مسألة واحدة، و اني لأستحي مكن ذلك!! قال الامام محمد الجواد: أنا أخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الامام!! فقلت: هو و الله هذا. فقال الامام (عليه‌السلام): أنا هو. [ صفحه 137] فقلت: علامة، فكان في يده عصا فنطقت و قالت: انه مولاي امام هذا الزمان و هو الحجة» [220] . و مع هذا فقد، كان النظام يحاول الاستخفاف بالامام، و يحاول الاغراء جزافا، و هو يتصور خائبا الاستهانة بمقام الامامة من وجه، و استغفال الآخرين من وجه، وكلن الله يأبي الا أن يتم نوره، و يظهر حجته و يكبت عدوه، فقد جمع المأمون للامام (عليه‌السلام) المغنين!! و أهل الطرب!! و ضربوا بالعود في حضرته!! و الامام لا يلتفت يمينا و شمالا، بل قال لمن تولي كبر ذلك، و هو مخارق المغني: اتق الله ياذا العثنون!! فسقط المضراب من يده و العود، فلم ينتفع بيده الي أن مات. فسأله المأمون عن حاله! فقال: لما صاح بي أبوجعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبدا [221] . و مع هذا فقد كان التشكيك المتعمد في امامة الجواد قائما لدي بعضهم عنادا أو جهلا أو اصرارا أو حقدا، بل و يلعنون القائل بامامتهم من أتباع أهل البيت!! فقد اطلع قاسم بن عبدالرحمن في بغداد، و الناس يستشرفون لرؤية الامام محمدالجواد (عليه‌السلام)، فقال: و الله لأنظرن اليه، فطلع الامام علي بغل، فقلت: لعن الله أصحاب الامامة حيث يقولون: ان الله افترض طاعة هذا!! [ صفحه 138] فعدل الامام الجواد الي و قال: يا قاسم بن عبدالرحمن: (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه انا اذا لفي ضلال و سعر) [222] . فقلت في نفسي: ساحر و الله. فعدل الي، فقال: (أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) [223] . قال فانصرفت و قلت بالامامة و شهدت أنه حجة الله علي خلقه و اعتقدت) [224] . و قد شاءت السلطة الغاشمة أن تستطيل بقضائها، لمقام الامام بالتوهين و ابتداع الأباطيل، ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا فقد روي محمد بن مسعود عن المحمودي، قال: حدثني أبي؛ أنه دخل علي ابن أبي دؤاد، و هو في مجلسه و حوله أصحابه، فقال لهم ابن أبي دؤاد: يا هؤلاء؛ ما تقولون في شي‌ء قاله الخليفة البارحة؟ فقالوا: و ما ذاك؟ قال: قال الخليفة: ما تري الفلانية «الرافضة» تصنع ان أخرجنا اليهم أباجعفر «يعني الامام الجواد» سكران، يمضي مضمخا بالخلوق؟ قالوا: اذن تبطل حجتهم و تبطل مقالتهم!! قلت: ان الفلانية «الرافضة» يخالطوني كثيرا و يفضون الي بسر مقالتهم و ليس يلزمهم هذا الذي يجري!! [ صفحه 139] قال: و من أني قلت؟ قلت: انهم يقولون: لابد في كل زمان و علي كل حال، لله في أرضه من حجة يقطع العذر بينه و بين خلقه. قلت: فان كان في زمان الحجة من هو مثله أو فوقه في الشرف و النسب كان أدل الدلائل علي الحجة قصد السلطان له من بين أهله و نوعه. قال: فعرض بي أبي دؤاد هذا الكلام علي الخليفة. فقال: ليس في هؤلاء اليوم حيلة. لا تؤذوا أبا جعفر (يعني الامام الجواد) [225] . و هذا النحو من التوجه في افتعال الأكاذيب و تجربة الافتراضات المختلفة، له خطورته الاعلامية بين أعداء الامامية و أتباع مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام)، فلا يعيرون لذلك أهمية، و لا يلقون اليه السمع لأنهم كما في جواب أبي المحمودي [226] فانهم يذهبون الي القول أن لابد من حجة في كل زمان، و حينما يعرض السلطان لمن هو في هذا الوصف كان ذلك لهم دليلا أنه الحجة دونه سواه، لأنه لا يعرض الا له، لعلم السلطان أنه صاحب مرتبة الامامة عند أولياء أهل البيت (عليهم‌السلام)، و لو لم يكن كذلك لما عرض له. [ صفحه 140] كما أشار الي نحو من هذا الشيخ المجلسي أعلي الله مقامه. [227] . و لم يكن هذا المقام الذي عليه الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، ليخفي علي السلطان، أو أولياء السلطان، و هم يعلمون جيدا أن ذلك من المناصب الالهية التي لا أمر معها للبشر، ولكنه البغي و العدوان و شهوة الحكم و الاستطالة علي أولياء الله. و لم يكن الامام (عليه‌السلام) ليقابل السلطة الا باللطف و النصح الكريم، شأنه بهذا شأن آبائه الطاهرين، حفاظا منهم علي النظام و رعاية للصالح العام. فقد جاء في بعض المرويات أن الامام محمد الجواد قال للمأمون: لك عندي نصيحة فاقبلها. قال المأمون بالحمد و الشكر، فما ذاك يا ابن رسول الله؟؟ قال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): أحب أن لا تخرج بالليل، فأني لا آمن عليك هذا الخلق المنكوس، و عندي عقد تحصن به نفسك، و تحترز به عن الشرور و البلايا و المكاره... و ان أحببت بعثت به اليك لتتحرز من جميع ما ذكرت لك. قال: نعم؟ فاكتب ذلك بخطك و ابعثه الي. قال (عليه‌السلام): نعم و أنفذ له ذلك مع تعليمات في آداب استعماله. [228] . هذه الروح الرائدة للخير و حب النظام و الألفة و معالي الأمور، بوادر انسانية تتفجر بها فطرة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و تضطم عليها جوانحه. [ صفحه 141] و لعل لهذا التوجه هدفا أكبر مما يبدو لأول وهلة، فهو يريد أن لا يغلق الباب بينه و بين السلطان، و يريد أيضا أن يجعل الخطوط التفاهمية بينه و بين السلطان مفتوحة، و ان كان ذلك بحدود معينة، لينفذ من خلال ذلك الي أداء تكليفه الشرعي في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقد كان مما اشتهر به المأمون شرب الخمرة، و أراد الامام أن يحد من هذه الظاهرة لدي المأمون فقال له: «لك عندي نصيحة فاسمعها مني!! قال المأمون: هاتها. قال الامام: أشير عليك بترك الشراب المسكر!! قال المأمون: فداك ابن عمك، قد قبلت نصيحتك» [229] . و لك أن تقدر مدي معاناة الامام من هؤلاء المستهترين بشريعة سيد المرسلين و لك أن نتصور مدي تحمله للمصاعب و المتاعب، و هو يحمل هموم أمته و دينه و عقيدته. [ صفحه 145]

الامام محمد الجواد... تراثيا

علم أهل البيت في تراث الامام

ليس أمرا جديدا علي سليل النبوة و وليد الامامة أن يكون أحد رموز التراث العلمي في الدنيا منذ نعومة أظفاره، فآباؤه أساطين العلم و منبع الحكمة، و ببوتهم مهبط الوحي و مدارج الملائكة، و محافلهم أندية الفضل و الفيض الالهي. و كان تراث الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في الذروة في المعارف الانسانية السائرة، اذ فجر ينبوعا عليما ثرا عذب الموارد، استوعب لباب العلم و مقتطفاتها الندية، و سلط الأضواء الكاشفة علي أصوله و جذوره الأولي، حتي عاد ظاهرة من ظواهر الاعجاز الحضاري، لم يخضع لمقاييس التعلم و التعليم، و لا اتبع الأسلوب التقليدي في طلب العلم، فالامام لم يحضر حلقات الدرس عند أحد، و لم يحدثنا التأريخ حتي الرسمي مه أنه أخذ عن شيوخ و أساتيذ منذ صباه حتي استشهاده في الخامسة و العشرين من العمر، فقد تركه أبوه الامام علي بن موسي الرضا في المدينة المنورة خماسي الأسنان، و لم يعهد لمعلم ما أن يعلمه شيئا علي الاطلاق، بل أمر أولياءه و شيعته بالاغتراف من معينه و الرجوع اليه باعتباره الوريث الشرعي لمكنون علمه و خزانة أسراره، فعن معمر بن خلاد، قال: «سمعت الامام الرضا (عليه‌السلام) و ذكر شيئا، فقال: ما حاجتكم الي ذلك؟ [ صفحه 146] هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي و صيرته مكاني، و قال: انا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة» [230] . بل ينسب الي الامام محمد الجواد نفسه، أنه قال - في سن الصبا - ما هو أعظم أثرا، و أوسع شمولا: «اني و الله لأعلم ما في سرائرهم و خواطرهم، و اني و الله لأعلم الناس أجمعين بما هم اليه صائرون، أقول حقا، و أظهر صدقا، علما قد نبأه الله تعالي قبل الخلق أجمعين، و قبل بناء السماوات و الأرضين» [231] . و كأن الامام يريد أن ينبه الأمة الي حقيقة أكبر من العلم الاعتيادي، و هي حقيقة العلم اللدني الذي خص به هو و آباؤه من ذي قبل، و قد أشرنا لذلك في الفصل السابق. و الحق أن العلم اللدني هو أحد مصادر علم الامام محمد الجواد، و سبق أن بحثنا ذلك مفصلا في عمل مستقل. [232] . و هذا العلم بمواهبه الالهية هو ما يتناسب بالفعل مع الانباء بالغيب المأثور عن الامام، و هو ما ينسجم مع السيل المتدافع من الأسئلة التي أجاب عليها في حياته في شتي العلوم الفقهية و الفلسفية و العرفانية و الكلامية كما ستري ذلك في موقعه من هذا الكتاب. و هو الأمر الذي تعلل به ظاهرة استقراء الغيب المجهول في سن مبكرة مما لا يتوافر رصده الا عند المرسلين و الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام). [ صفحه 147] وهو - أيضا - التفسير الأمثل لما تحدث به الرواة عن غزارة علم الامام و شمولية عطائه الفكري، بما يحفظ لنا المعادلة المتوازنة لأبعاد علم الامام المترامية الأطراف في سجل تاريخه المعرفي، مما لا يحيط به الفكر التقليدي في تصور أولي. و قد يرفضه المثقف العصري ابتداء قبل التمحيص و التحقيق، و لكن التجربة التأريخية الصادقة قد أثبتت بما لا يقبل الشك أنه حقيقة واقعة لا فرضية جدلية، فما اتفق للامام محمد الجواد أن تلكأ في اجابة، و لا توقف عند مسألة، و لا تسامح في بيان جزئي أو كلي، و لا استمد معلومة لا صغيرة و لا كبيرة من راو، أو محدث أو عالم، أو تابعي، أو سوي هؤلاء من المتخصصين. و هذا العلم لطف الهي لاستكمال رسالة الامامة باعتبارها وريثا لرسالة السماء، و هو بعيد كل البعد عن الغلو علي الاطلاق، و لكنه فوق مدرسة العلم الكسبي، و قد صرح به القرآن العظيم فيما اقتص من خبر موسي و صاحبه، حين التقيا العالم الذي أبهم ذكر اسمه في القرآن، و تبين في الروايات أنه الخضر (عليه‌السلام)، و ذلك في قوله تعالي: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما) [233] . و الامامية لا تستكثر امداد العلم اللدني و مصاحبته لائمة أهل البيت (عليهم‌السلام)، سيما أن ذوي النظر العقلي من أهل الاسلام يشاركون الامامية في هذا الملحظ، و ذلك لانتشار شواهده في السيرة العطرة للائمة (عليهم‌السلام)، و هم يرفدون العقل البشري بما يستجد لطالبيه من الأسئلة [ صفحه 148] و الاستفسارات الدقيقة، و معالم هذا المشهد أكثر من أن تحصي في مفرداتها كثرة. و هذا العلم ليس من قبيل الوحي، و لكنه يتأتي بوسائط لخصها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في تقسيمه لمبلغ علم أهل البيت، و منه العلم الحادث، فعبر عنه بقوله: «و أما الحادث فقذف في القلوب، و نقر في الأسماع» [234] . و قد يكون ذلك من الالهام اليقيني الخالص، كما عن علي بن يقطين قال: قلت للامام موسي (يعني الامام الكاظم (عليه‌السلام)): «علم عالمكم سماع أم الهام؟ فقال: قد يكون سماعا، و يكون الهاما، و يكونان معا» [235] . و هذا الأمر ليس حادثا، بل هو قديم يمتد الي عصر الامام علي (عليه‌السلام)، و الأئمة من بعده، و كل امام يؤكد هذه الحقيقة بضرس قاطع، و قد قال الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) لعبد الله النجاشي: «و الله ان فينا من ينكث في قلبه، و ينقر في أذنه، و تصافحه الملائكة»... [236] . و لا أدل هذا علي هذا من هلع الطغاة و خوف الجبابرة من هذه الظاهرة، فهم يتحسسون منها، و ترتعد لها فرائصهم، اذ قد تتحدث عن [ صفحه 149] مستقبلهم، و قد تكشف عما خبأ الدهر لهم [237] . و كان الامام الجواد في صباه قد أخبر فيما أخبر به في ضوء هذا العلم، حديثه بموت أبيه الامام الرضا (عليه‌السلام) في خراسان و هو في المدينة المنورة، و البريد لا يأتي بالخبر الا بعد أيام و ليال، لبعد المسافة. فعن أمية بن علي، قال: «كنت بالمدينة و كنت أختلف الي أبي جعفر، و أبوالحسن بخراسان، و كان أهل بيته و عمومة أبيه يأتون و يسلمون عليه، فدعا يوما بجارية، فقال لها: قولي لهم يتهيأون للمأتم، فلما تفرقوا، قالوا: هلا سألناه مأتم من؟ فلما كان من الغد فعل مثل ذلك، فقالوا مأتم من؟ فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): خير من علي ظهرها!! فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام، فاذا هو قد مات في ذلك اليوم» [238] . و لا أدل علي ذلك من اخبار الامام محمد الجواد بوفاته نفسه، و قد كابد المحن و المآسي العامة و الخاصة في عصر المأمون، و هو ينتظر الفرج فيما يبدو، فعن أبي بزيع العطار: قال أبو جعفر: الفرج بعد المأمون بثلاثين شهرا. قال: فنظرنا، فمات بعد ثلاثين شهرا من وفاة المأمون. [239] . [ صفحه 150] و كان الأصل الطبيعي لعلم الامام محمد الجواد(عليه‌السلام) هو ذلك الموروث العلمي الذي يتوارثه كل امام عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حتي انتهي الأمر اليه. و هذا العلم غير قابل للرد من جهة، و غير خاضع لعملية الاجتهاد من جهة آخري، و غير معارض فيهما معا، فهو نص، و لا اجتهاد في قبال النص و اذا ثبت تلقي الامام له مباشرة أو بوساطة فهو السنة نفسها، و اذا أفتي به الامام فهو السنة أيضا، و ليس من شي‌ء يصدر عن الامام محمد الجواد الا من خلال الكتاب و السنة مضافا الي علم الموهبة، فنحن - اذن - بين يدي علمه الزاخر: أمام مخزون من العلم يعتمد القرآن أولا، و السنة الشريفة ثانيا، و هذان الأثران هما المصدر الأساس للتشريع، و ما أبداه الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) من خلالهما فهو التراث الخالد الذي لا يزول. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين: «و كان المنبع الأكبر لعلم الامام الجواد - بعد هذه المواريث المشار اليها من مدونات آبائه الغر الميامين، و قد رووها مسندة عن جدهم أميرالمؤمنين - [240] ما تعلمه و رواه مباشرة عن أبيه الامام الرضا (عليه‌السلام) خلال تلك السنوات القليلة التي عاشها في ضلاله» [241] . فاجتمع له ببركة هذين المنبعين المقدسين ما تسامي به شأنا و مقاما، و تعالي شرفا و رفعة، بما ضم من لباب علم النبوة و أسرار حقائق التنزيل [ صفحه 151] و ما انتهي اليه بواسطة تلك السلسلة المباركة الزاهية عن جده الأعظم (صلي الله عليه و اله و سلم) مما كان يحدث به عن لسان الوحي و بلاغ السماء، و حكم الله في أمور العباد و مصالح البلاد. و من هنا كان تراث الامامة المأثور عن الامام الجواد (عليه‌السلام) بهذه الدرجة العليا من التقدير بل التقديس [242] . و ان الباحث لتأخده الدهشة و هو يغوص في أعماق ما خلفه الامام محمد الجواد من تراث حضاري أصيل علي ما كان عليه من شدة الرقابة و دقيق الرصد من قبل السلطة العباسية، فهي تحصي عليه الأنفاس، و تسجل الخطوات، و تلتقط ما يتفوه به أولا بأول، و تنكل بالأتباع و الموالين من حملة علمه و فقه و حضارته، و مع قصر عمره الشريف، و مراوغه المأمون، و غطرسة المعتصم، و ملاحقة والي المدينة عمر بن فرج الرخجي، فقد برزت للعيان تلك المشاهد الحافلة بالافتاء، و الفقاهة، و المناظرة، و الاحتجاج بكتاب الله و السنة، و تبرعمت تلك المعارف العليا بمفرداتها الضخمة، و هي تزحف بركبها الصاعد لتطوير حياة الانسانية جمعاء، و التي سنتناول بعض مظاهرها علي سبيل النموذج في مباحث لا حقة بأذن الله تعالي. و يبدو للبحث أن الامام الجواد (عليه‌السلام)، كان قد استشف من وراء الغيب أن السلطان سيقضي عليه في وقت مبكر. الامام بأطروحته الصادقة في الوعي و الفكر و الشريعة قد أكذب أحدوثتهم في الدجل و الزيف و الانحراف عن الخط الاسلامي، و سفه أحلامهم في بناء الحكم [ صفحه 152] علي جماجم الأبرياء و الشهداء، و لقي ما أفاض به من المعارضة في حدودها دويا هائلا في العواصم الاسلامية. و ليس من الطبيعي أن تقف منه السلطة موقف اللامبالاة، و الأمة تنظر اليه بمنظور القداسة و الاجلال ذاتيا، و تكن له الحب في أعماقها تلقائيا، و استيقظت علي ملامح النور الذي يخطف الأبصار في علمه و فضله و امكاناته المعرفية، فالتفت حوله زرافات و وحدانا بما لا مثيل له أو نظير، بحيث استطاع الامام أن يرسخ كثيرا من الثوابت التي جحدت، و أن يجدد جمهرة من العوالم التي درست، و اذا به ينهض بها شاهقة متعالية، و هي تسخر بزوبعة الأعاصير المفتعلة و تهزأ بتضليل تلك الأوهام المرجفة، معتمدا بعد الله تعالي علي صلابته في المبدأ أولا، و علي التأييد الشعبي المتلاحق ثانيا، و علي الأصالة و الموضوعية و الاستقلال لمدرسة أهل البيت ثالثا، و كان دوره في تعميق هذا الاستقلال عظيما لاثباته له بالبرهان و الممارسة و التجديد. «و استقلالية مدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام) حقيقة زمنية شاخصة، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة، و هي لا تسير بركات الحاكمين، و هي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي الأمة، و هي لا تتوسل بالمال لتعزيز نفوذها، و هي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس. بل قامت علي سجيتها، فطرية الأداء عفوية الارادة» [243] . و قد أرسي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قواعد هذه المدرسة بتراثها الكبير علي أصول صلبة بما أوتي من قوة تعبيرية و ملكة بيانية، و موهبة خارقة في النقض و الابرام، و قدرة متميزة لدي تناول المسائل المعقدة، [ صفحه 153] و هو يطرحها طرحا موضوعيا دقيقا، تقف مدارك القوم أمامه حائرة من جهة، و معترفة بالعجز من جهة ثانية، حتي انتشر ذكره العطر في الآفاق انتشار النار في الحطب الجزل، فأذعنت له العلماء، و تحاشاه الفقهاء، و تقاصر عن مداه أهل الكلام. و قد كثر تداول هذه الحقيقة تاريخيا، و دونتها أقلام الصدق بأحرف من نور في مختلف الأجيال، حتي برز في كل جيل في تأريخ الاسلام من يسجل مآثر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، بقدر الطاقة التي تسمح بها الظروف السياسية. و قد عبر الأستاذ باقر شريف القرشي عن مدي اعتداده بتلك القابليات الخلاقة التي سيرها الامام محمد الجواد في هدف مركزي عميق يتبني وسائل الحفاظ علي تراث أهل البيت غضا جديدا متواصلا، يقول: «من أروع صور الفكر و العلم في الاسلام الامام أبو جعفر الثاني محمد الجواد (عليه‌السلام) الذي حوي فضائل الدنيا و مكارمها، و فجر ينابيع الحكمة و العلم في الأرض، فكان المعلم و الرائد للنهضة العلمية و الثقافية في عصره، و قد أقبل عليه العلماء و الفقهاء و رواة الحديث، و طلبة الحكمة، و المعارف، و هم ينتهلون من نمير علومه و آدابه، و قد روي عنه الفقهاء الشي‌ء الكثير مما يتعلق بأحكام الشريعة الاسلامية من العبادات و المعاملات و غير ذلك من أبواب الفقه، و قد دونت في موسوعات الفقه و الحديث. لقد كان هذا الامام العظيم أحد المؤسسين لفقه أهل البيت (عليهم‌السلام) الذي يمثل الابداع و الأصالة و تطور الفكر. و روي عنه العلماء ألوانا ممتعة [ صفحه 154] من الحكم و الآداب التي تتعلق بمكارم الأخلاق و آداب السلوك، و هي من أثمن ما أثر عن الاسلام من غرر الحكم التي عالجت مختلف القضايا التربوية و الأخلاقية» [244] . و هذا ما يدعو البحث الي تسليط الضوء علي عملية النقل الثقافي التي مهد بها الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) لتراث جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) علي سبيل الاستدلال في اشارات موحية و لقطات معبرة، و هو ما يحاوله المبحث الآتي. [ صفحه 155]

مرويات الامام عن رسول الله و أميرالمؤمنين نموذجا

في هذا الجزء من البحث نضع أيدينا علي مئات المرويات التي ظفرنا بها مسندة في روايتها عن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) و هو يرويها عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، و عن أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام)، و هي عبارة عن شذرات في الحكمة و الأدب و الأخلاق و رياضة النفس، تلتقط من هنا و هناك في مصادرها الرئيسية، لتزين جيد الزمان و صدره بلآلئها الثمينة، فيتناولها العلماء و الباحثون و أهل الفضل بالدرس و التمحيص لاضاءة درب السائرين. انها كنوز تربوية و تهذيبية و أخلاقية في سلسلة ذهبية، تراصفت عقودها اللامعة في التوجيه و النصح الكريم، حدب علي اختيارها الامام الجواد (عليه‌السلام) في كوكبة من الأحاديث الشريفة المسندة. روي الامام محمد الجواد عن آبائه عن أميرالمؤمنين أنه قال: بعثني النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الي اليمن، فقال لي و هو يوصيني: «يا علي ما حار (ما خاب) من استخار، و لا ندم من استشار. يا علي عليك بالدلجة فان الأرض تطوي في الليل ما لا تطوي بالنهار. يا علي اغد باسم الله، فأن الله بارك لأمتي في بكورها». [ صفحه 156] و قال (صلي الله عليه و آله و سلم): «من استفاد أخا في الله، فقد استفاد بيتا في الجنة» [245] . و روي الاما محمد الجواد بسنده أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «ان فاطمة أحصنت فرجها، فحرم ذريتها علي النار» [246] . و قد سئل (عليه‌السلام) عن دلالة الحديث بالتحريم علي النار من الذرية، فقال: (خاص للحسن و الحسين) [247] . و روي الامام محمد الجواد بسنده عن جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، أنه قال في حجة الوداع: «قد كثرت علي الكذابة، و ستكثر من بعدي، فمن كذب علي متعمدا، فليتبؤ مقعده من النار» [248] . «فاذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه علي كتاب الله عزوجل و سنتي، فما وافق كتاب الله و سنتي فخذوا به، و ما خالف كتاب الله و سنتي فلا تأخذوا به» [249] . و هذا أصل من أصول نقد متن الحديث و تمحيصه في ضوء كتاب الله و سنة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). و روي الامام محمد الجواد بسنده أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: [ صفحه 157] «المرء مخبوء تحت لسانه» [250] . هذه الكوكبة من الأحاديث النبوية نموذج مما وضع البحث يده عليها، و للباحث أن يستدل بما ذكرنا علي ما لم نذكر. و أما مرويات الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، عن جده أميرالمؤمنين الامام علي صلوات الله عليه، فقد تجاوزت حد الحصر و الاحصاء، و يكفي أن الحافظ الضابط عبدالعزيز بن الأخضر الجنابذي وحده «قد نقل أشياء رائعة و فوائد فائقة، و آدابا نافعة، و فقرا ناصعة من كلام أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) مما رواه الامام محمد الجواد بن الامام علي الرضا عن آبائه عنه (عليه‌السلام)» [251] . و قد بلغ ما نقل عنه في ثلاثة و ثلاثين موضعا من المرويات عددا هائلا، يشتمل بعضها علي حدة فقرات و عبارات من حكم و عبر و أمثال. و قد أثبتها الأربلي جميعها نقلا عن كتاب الجنابذي فحسب. [252] . و فيها من النوادر التي لم يشتمل عليها نهج‌البلاغة. فاذا كان راو واحد من الرواة ينفرد بهذا العدد الضخم من مرويات الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، فما بالك بمئات الرواة اذن!! و سأختار لا علي التعيين بعض هذه المرويات مع التعقيب علي بعضها. [ صفحه 158] 1- روي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) عن أميرالمؤمنين قائلا: «في كتاب علي بن أبي طالب (عليه‌السلام): ان ابن آدم أشبه شي‌ء بالمعيار، اما راجع بعلم - و قال مرة - أو ناقص بجهل» [253] . و في هذا تصريح أن الامام يروي هذا الحديث عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و هو مدون في كتاب، و ذلك دليل وراثته هذا الكتاب، أو أنه بحوزته علي الأقل، و هو يروي عنه مباشرة دون واسطة، و عليه قول ابن طلحة الشافعي، (ت 652 ه): «ان الأئمة من أولاد علي كانوا يعرفون الجفر رواية عن جدهم أميرالمؤمنين» [254] . و يؤكد صحة هذا الخبر «ما هو ثابت تأريخيا من التزام علي (عليه‌السلام) بتسجيل أخبار الغيب التي سمعها من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) خلال امتداد عصر النبوة، و تدوين ذلك كله في (جفر) احتفظ به عنده. و الجفر جلد ولد الماعز، اذ لم يكن لديهم يومذاك ما يكتبون فيه غير الجلود» [255] . بل هو و الرق - جلد الغزال، أفضل ما يكتبون فيه. 2- و روي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قائلا: «قال علي (عليه‌السلام) لأبي ذر (رضي الله عنه): [ صفحه 159] انما غضبت لله عزوجل، فارج من غضبت له، ان القوم خافوك علي دنياهم، و خفتهم علي دينك. و الله لو كانت السماوات و الأرضون رتقا علي عبد، ثم اتقي الله، لجعل الله له منها مخرجا، و لا يؤنسنك الا الحق، و لا يوحشنك الا الباطل» [256] . 3- روي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) عن جده أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) قائلا: «قال الي أميرالمؤمنين رجل بالبصرة، فقال أخبرنا عن الاخوان!! فقال الاخوان: صنفان: اخوان الثقة، و اخوان المكاشرة. فأما اخوان الثقة فهم كالكف و الجناح، و الأهل، و المال. فاذا كنت من أخيك علي ثقة فابذل مالك و يدك، و صاف من صافاه و عاد من عاداه و اكتم سره و أعنه، و أظهر منه الحسن، و اعلم أيها السائل انهم أعز من الكبريت الأحمر. و أما اخوان المكاشرة، فانك تصيب منهم لذتك، فلا تقطعن ذلك منهم، و لا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم، و ابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه و حلاوة اللسان» [257] . و في اجابة الامام تقييم موضوعي دقيق لطرفي أصناف الناس في اخائهم و صداقتهم و تحليل فريد لتراجيدية الأحوال، و دراسة تصحيحية لأولاع البشر و مكنونات الضمائر و السلوك بين القسمين. [ صفحه 160] فالاخوان بحسب تصنيف أميرالمؤمنين نوعان: اخوان الثقة و الصدق، و اخوان تطيب الخواطر و هز المشاعر دون صفاء النفس و صدق النية، و هم هكذا دائما و أبدا. فلا يطلبن الانسان أكثر من هذا. و الاندماج معهم بقدره مما يظهر علي الوجه من طلاقه، و علي اللسان من حلاوة. أما أولئك النوادر من أصدقاء الشدة فعليهم المعول في الأزمات فهم بمنزلة الكف من اليد، و الجناح من الطائر، و هم بمقام الأهل في الشفقة، و هم كحساب المال في تلبية الاحتياج، و لهم الود الخالص في المصافاة و معاداة الأعداء و كتم الأسرار، و اظهار شمائل الحسن، علي عزتهم و ندرتهم. 4- روي الامام محمد الجواد عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) كوكبة من الحكم و الشوارد و الأمثال لانارة درب السالكين، و استصلاح نوازع الخلق الانساني و دفعه الي الخير المطلق. قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): و من وثق بالله أراه السرور، و من توكل عليه كفاه الأمر. و الثقة بالله حصن لا يتحصن فيه الا مؤمن أمين. و التوكل علي الله نجاة من كل سوء، و حرز من كل عدو. و الدين عز، و العلم كنز، و الصمت نور. و غاية الزهد الورع. و لا هدم للدين مثل البدع، و لا أفسد للرجال مثل الطمع. و بالراعي تصلح الرعية، و بالدعاء تصرف البلية. و من ركب مركب الصبر اهتدي الي مضمار النصر. [ صفحه 161] و من عاب عيب، و من شتم أجيب. و من غرس أشجار التقي اجتني ثمار المني. [258] . 5- و في استطالة النعم و قرارها و فرارها، و في عظمتها لدي احتياج الناس، و في زوالها لعدم احتمال مؤنة الآخرين، و في اصطناع المعروف حين يكون أهله أحوج اليه من أهل حاجته، نضع أيدينا علي ثلاثة أحاديث يرويها الامام عن جده أمير المؤمنين: الأول، قوله (عليه‌السلام): ان لله عبادا يخصهم بالنعم، و يقرها فيهم ما بذلوها، فاذا منعوها نزعها عنهم و حولها الي غيرهم. الثاني، قوله (عليه‌السلام): ما عظمت نعمة الله علي عبد الا عظمت عليه مؤنة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤنة فقد عرض النعمة للزوال. الثالث، قوله (عليه‌السلام): «أهل المعروف الي اصطناعه أحوج من أهل الحاجة اليه، لأن لهم أجره و فخره و ذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف، فانما يبدأ فيه بنفسه، فلا يطلبن شكر ما صنع الي نفسه من غيره» [259] . 6- و يزف البحث الي المتعظين و المعتبرين و ذوي الحجي، طائفة من شوارد و أوابد كلام امام البلغاء أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) فيما رواه عنه الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): قال أميرالمؤمنين: «العفاف زينة الفقر، و الشكر زينة الغني، [ صفحه 162] و الصبر زينة البلاء، و التواضع زينة الحسب، و الفصاحة زينة الكلام و العدل زينة الايمان، و السكينة زينة العبادة، و الحفظ زينة الرواية، و خفض الجناح زينة العلم، و حسن الأدب زينة العقل، و بسط الوجه زينة الخلق، و الايثار زينة الزهد، و بذل المجهود زينة النفس، و كثرة البكاء زينة الخوف، و التقلل زينة القناعة، و ترك المن زينة المعروف، و الخشوع زينة الصلاة، و ترك ما لا يعني زينة الورع» [260] . 7- و للامام علي (عليه‌السلام) في توجيه النفس الانسانية، و رفع مستواها التفكيري و العقلي، و استلهام عوالم التربية المثلي، و اعداد الفرد المسلم اعدادا يتناسب مع ثقل المسؤولية، و ذلك مما رواه الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قاصدا اليه، و مؤكدا عليه، عسي أن يهتدي به الناس في السلوك، و أن يجعلوه معيارا دقيقا في رصد مظاهر العفة و الكمال. قال الامام أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): «حسب المرء من كمال المروءة، تركه ما لا يجمل به، و من حيائه: أن لا يلقي أحدا بما يكره، و من عقله حسن رفقه، و من أدبه أن لا يترك ما لابد له منه، و من عرفانه علمه بزمانه، و من ورعه غض بصره و عفة بطنة، و من حسن خلقه كفه أذاه، و من سخائه بره بمن يجب حقه عليه، و اخراجه حق الله من ماله، و من اسلامه تركه ما لا يعنيه، و تجنبه الجدال و المراء في دينه، و من كرمه ايثاره علي نفسه، و من صبره قلة شكواه، و من عقله انصافه من نفسه، و من حلمه تركه الغضب عند مخالفته، و من انصافه قبوله الحق اذا بان له، و من نصحه [ صفحه 163] نهيه عما لا يرضاه لنفسه، و من حفظه جوارك تركه توبيخك عند اسائتك مع علمه بعيوبك، و من رفقه تركه عذلك عند غضبك بحضرة من تكره، و من حسن صحبته لك اسقاطه عنك مؤنة أذاك، و من صداقته كثرة موافقته و قلة مخالفته، و من صلاحه شدة خوفه من ذنوبه، و من شكره معرفة احسان من أحسن اليه، و من تواضعه معرفته بقدره، و من حكمته عمله بنفسه، و من سلامته قلة حفظه لعيوب غيره، و عنايته باصلاح عيوبه»... [261] . 8- و في لغة بلاغية بارعة، يضع أميرالمؤمنين طائفة من الاشارات الموحية و الدلائل اللائحة للالتزام بمصارد الشرع المقدس، و استقراء تعليمات الاسلام، في نوادر منا لحكم و الأمثال السائرة، يرويها حفيده الامام محمد الجواد عنه: أ- العامل بالظلم، و المعين له، و الراضي به: شركاء!! ب - يوم العدل علي الظالم أشد من يوم الجور علي المظلوم. ج - لن يستكمل العبد حقيقة الايمان حتي يؤثر دينه علي شهوته، و لن يهلك حتي يؤثر شهوته علي دينه. د- الصبر علي المصيبة مصيبة علي الشامت بها. ه - لو سكت الجاهل ما اختلف الناس. و - مقتل الرجل بين لحييه، و الرأي مع الأناة، و بئس الظهير الرأي الفطير. [ صفحه 164] ز- كفر النعمة داعية للمقت، و من جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك. ح - من أمل فاجرا كان أدني عقوبته الحرمان. [262] . 9- و هناك ملحمة روائية عظمي يرويها الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، عن آبائه متسلسلا عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، فيها مدخرات الحياة العقلية في توجيه الانسانية تلقائيا الي ارتقاء مدارج الخلود، و بها من بناء الهيئة الاجتماعية ترسيخ أصول الحضارة، و عليها من نفح النبوة أرج العبير، و من شذا الامامة مسك التعبير، ملئت بالحقائق الجمة، و ازدهرت بالعظات البليغة، و اشتملت علي المثل العليا، و استوعب آداب الاسلام، و استقطبت كثيرا من شؤون الدين و الدنيا، فهي مرويات عن امام البلغاء علي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و كفي بذلك شاهدا ميدانيا علي ما نقول؛ فقد أورد الشيخ الصدوق «قدس سره»، بسنده عن الامام العالم الأجل الموقر الثقة الثبت السيد عبدالعظيم بن عبدالله الحسني؛ قال: «قلت لأبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه‌السلام): يا ابن رسول الله، حدثني بحديث عن آبائك (عليهم‌السلام). فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فاذا استووا هلكوا. [ صفحه 165] قال: فقلت له زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): لو تكاشفتم ما تدافنتم. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): انكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه و حسن اللقاء، فأني سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: انكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): من عتب علي الزمان طالت معتبته. فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): بئس الزاد الي المعاد العدوان علي العباد. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): قيمة كل امرئ ما يحسنه. [ صفحه 166] قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): المرء مخبوء تحت لسانه. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): ما هلك امرء عرف قدره. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. قال: فقلت زدني يا ابن رسول الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام) فقال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): من وثق بالزمان صرع. قال: فقلت زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): خاطر بنفسه من استغني. قال: فقلت زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام): قلة العيال أحد اليسارين. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: [ صفحه 167] حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمين: من دخله العجب هلك. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين: من أيقن بالخلف جاد بالعطية. قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم‌السلام)، قال: قال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): من رضي بالعافية ممن دونه، رزق السلامة ممن فوقه. قال فقلت له حسبي. [263] . و أنت تري هذا التسلسل في الرواية من الجواد عن أبيه عن جده عن آبائه عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و هو أرقي درجة اسناد في علم الرواية، و أرقي درجة مضمون في علم الدراية، و هو بعد كغيره مما سبقه من المرويات النابضة بالحركة و الحياة الحرة الكريمة، سيل متدافع الأمواج يغترف من ذلك البحر المحيط لأميرالمؤمنين، و ما أورده الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، في هذه المرويات بسلسلتها الذهبية في الاسناد، و قوة مداليلها في الأداء و البيان، ليعد في أعلي مراتب الصدور، و أبهي حلل المتن في الحديث، مضامين و مفاهيم و توجيها. [ صفحه 168] و في ظل مرويات الامام محمد الجواد عن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، يؤخذ بعين الاعتبار ما رواه عن أبيه الامام الرضا و جده الامام الكاظم، و ما روي عن الامامين الصادق و الباقر (عليه‌السلام) أجمعين، و كذلك ما رواه عن بقية الأئمة الطاهرين، و كل أولئك مما يشكل ثروة حضارية متجددة، و ثورة انسانية متطورة. و هكذا تراث أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام): كنز من المعارف لا يفني، و معين من الثقافة لا ينضب، و جدة من العلوم لاتبلي. [ صفحه 169]

الدور الريادي لتلامذة الامام في نشر تراثه الخالد

و كان تلامذة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) مزيجا ثقافيا في التلقي المعرفي بينه و بين أبيه في طائفة كثيرة، و وليدا حضاريا في الافادة منه و من ولده الامام الهادي (عليه‌السلام) في جمهرة منهم، و قد عكفوا - بجد و اخلاص - علي رواية حديثه، و تدوين مروياته بما أبقي لنا ثروة تراثية لا نظير لها في الأصالة و العمق و الابداع. و كان نصيب هؤلاء الأفذاذ من وراء هذا الجهد الخلاق: التواري عن السلطة و الحذر من الطواغيت، و الحرب التي لا هوادة فيها علي جبهتين من النضال: منع الأرزاق و قطع الأعناق، و كفي فيهما حاجزا عن التقرب لأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و لكنها التضحية المرة في سبيل المبدأ و العقيدة. و في هذا الضوء لم يكن طريق هؤلاء البررة معبدا بالورود، اذن بل هو شائك و مخيف حقا، فلا يأمل أصحاب الأئمة من الحاكمين الا الذل و المطاردة، و لم يحصدوا جراء ذلك الا الارهاب الدموي، و الألم النفسي، فالرقابة الظالمة و الارصاد الأمني، و الملاحقة الطائشة، و التشريد و الابعاد و التغريب، مفردات اعتيادية في معجم الاضطهاد السياسي لأولياء أهل البيت (عليهم‌السلام) و مبادئهم الانسانية. [ صفحه 170] يقول الأستاذ باقر شريف القرشي دام عزه: «و الشي‌ء الذي يدعو الي الاعتزاز بأصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) هو أنهم قد جهدوا في ملازمة الأئمة و تدوين حديثهم في وقت كان من أعسر الأوقات و أشدها حراجة، و أعظمها ضيقا، فقد ضربت الحكومات العباسية الحصار الشديد علي الأئمة، و منعت من الاتصال بهم، لئلا تتبعهم الجماهير الاسلامية، و قد بلغ من الضيق علي العلماء الرواة أنهم كانوا لا يستطيعون أن يجهروا باسم أحد الأئمة الذين أخذوا الحديث عنه، و انما كانوا يلمحون اليه ببعض أوصافه و سماته من دون التصريح باسمه خوفا من القتل و السجن» [264] . و الظاهرة الجديرة بالذكر أن الأئمة السابقين من آباء الامام محمد الجواد (عليهم‌السلام) و من عهد الامام محمدالباقر (عليه‌السلام) حتي عهده الزاهر، قد مهدوا لمبادئ أهل البيت تركيزا مكثفا في بلورة الفكر الامامي من خلال تلامذتهم و أصحابهم و رواة حديثهم، حيث افترشوا مساحة كبري في آفاق الدنيا دعاة و وكلاء و مبشرين، و لما آلت الامامة الي الامام محمد الجواد تضاعف هذا الزخم المتصاعد من التلامذة و الوكلاء في مغرب الدولة الاسلامية و وسطها و مشرقها، اذ كانت امامته حدثا عالميا جديدا قد اقترن في أبعاده بظاهرة الصبا، و هي ظاهرة غريبة علي العالم الاسلامي، و قد اقترنت ظاهرة الصبا هذه بظاهرة التحدي، و كان هذا التحدي صامدا أمام تلك الاشاعات و الأراجيف، و حينما أثبتت الامامة المبكرة في تجاربها المذهلة صدق الدعوي، و أظهر الاختبار المتعدد صحة [ صفحه 171] المنصب الالهي، كان ذلك دعما لمبدأ أهل البيت في اناطة الامامة، فقد يعهد بها للصغير في عمره كما هي للكبير في منظور واحد، لكونها منحة ربانية غير خاضعة لمقاييس الحكم البشري، انطلاقا من قوله تعالي: (و آتيناه الحكم صبيا) [265] . و لما كانت النبوة هي التي شرعت منصب الامامة، كانت الامامة امتدادا شرعيا للنبوة، و كان الاحتجاج في الاثبات و المثبت هو عين الاحتجاج للنبوة من باب اولي باعتبار النبوة منصبا أعلي من الامامة. و كان لهذا الحدث تأثيره المباشر في التفاف الشعب المسلم الرسالي حول الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و مع أن عمره الشريف لم يمتد به زمنا طويلا بل اخترم في أول الشباب، فان الاندفاع الواعي وراء الامام قد بلغ ذروته في التفاعل، مما خلق طبقة من التلامذة و الأصحاب الأقربين قد امتازوا بالضبط و الجد في نشر تراثه في الآفاق، فكان لهم السبق المجلي في هذا المضمار. يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين دام علاه: «و قد رجع اليه - يعني الامام محمد الجواد - و أفاد منه الطلاب الدارسون، و الفقهاء الراغبون في الوقوف علي اللباب الديني الأصيل، قرنا بعد قرن، و جيلا بعد جيل. و كلمة حق يجب أن تقال: «ان الفضل الأكبر في وقوف الأجيال التالية لعصر الامام علي تراثه العظيم، و ما حمل من فكر و عطاء، انما يعود الي أولئك الرواة عنه، [ صفحه 172] و المشافهين له الذين سمعوا منه ذلك، فحدثوا به، و أبلغوه الي من جاء بعدهم، فأنعموا علينا بالافادة منه و الاطلاع عليه، و الاهتداء بأنواره الدالة علي سواء السبيل، و نخص منهم بالذكر أولئك الواعين الذين بادروا الي تدوين تلك أمالي و الأحاديث في كتب و مؤلفات تحفظها من الضياع، و تحميها من النسيان، و كان فيهم من بوب تلك الروايات بحسب مطالبها و موضوعاتها، و فيهم من جمع ما سمع في مجموعات أطلق عليها في فهارس ذلك العصر اسم (النوادر) أو (كتاب المسائل)» [266] . و لك أن تقف مبهورا أو مغتبطا بوقت أوحد عند هؤلاء الباحثين الموضوعيين في جهودهم العلمية بعامة، و الفقهية بخاصة، اذ حدبوا علي التقاط الشوارد و الأوابد من آراء الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و دونوا أمهات المسائل و النوادر من فتاواه و أقواله، فأبقووا لنا تراثا ضخما ما كان ليتسني معرفته لولا حفظهم له في التدوين، و انكبابهم عليه في التأليف، و لئن فجعتنا حوادث الزمن بأغلب هذه الكتب، و نكبتنا ظروف الفتن الطائفية خاصة في العصر السلجوقي ببغداد في القرن الخامس الهجري، فذهب أعز تلك الآثار بين النهب و السلب، و تشتت القسم الأوفر منها بين التلف و الاحراق و الاغراق المعتمد، فان الله عزوجل قد عوضنا عن بعض أعيانها بالنقول عنها في كتب أخري قدرت لهاالسلامة من تلك النوازل، و خلص لنا من هذا و ذاك ما قوم به الأود و الخلل، فشملنا نصيب و ان لم يكن الأوفي من هذا التراث، و كان عليه المعول في الاستنباط و الفتوي. [ صفحه 173] و لم تكن عدة هؤلاء المؤلفين - من ذوي الفضل الكبير و الأيادي المشكورة - قليلة، بل هي كثيرة في الاحصاء بما وقع لنا، اذا تجاوز عددهم العشرة بعد المائة من المصنفين. و قد أفرد لهم الأستاذ الشيخ محمد حسن آل ياسين مبحثا خاصا، اشتمل علي جريدة بأسمائهم و أسماء مؤلفاتهم، و كانت عدتهم لديه (107) من أصحاب الكتب و المؤلفات، مع ذكره لأسماء كتبهم و مدوناتهم و المصنفات، معتمدا علي ما حققه الرجالي المتخصص الشيخ عناية الله القهبائي في القرن الحادي عشر الهجري، من جمعه لرجال الكشي و ابن الغضائري و النجاشي و الشيخ الطوسي بما أسماه (مجمع الرجال) في سبعة أجزاء. كما رجع الي ما ذكره ابن النديم في الفهرست. [267] . و قد بلغ مجموع هذه المصنفات المروية عن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أو المتضمنة لرأيه و رأي آبائه، مئات الكتب الفريدة في دقتها و تخصصها، و للتدليل علي مدي هذه الكثرة، و استيعاب المعارف الانسانية، نضرب أنموذجا مثاليا بما حققه و أنجزه مؤلف واحد، و هو أبوجعفر، أحمد بن محمد خالد عبدالرحمن البرقي الكوفي (ت 280 - 274 ه)، و قد عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الامام محمد الجواد و من أصحاب الامام علي الهادي (عليه‌السلام) و قد امتد به العمر الي عصر الغيبة الصغري، و معني هذا أنه أدرك أربعة من أئمة أهل البيت هم الجواد و الهادي و العسكري و الحجة المنتظر (عليهم‌السلام). [ صفحه 174] و يبدو أن الرجل كان موسوعيا، فصنف في شتي العلوم كتبا كثيرة، نؤكد منها ما ذكره الشيخ القهبائي [268] و أورده ابن النديم [269] و فهرسه محمد حسن آل ياسين. [270] . و قد بلغ مجموع ذلك عشرة و مائة من المؤلفات هي: كتاب الابلاغ / كتاب الأجناس و الحيوان / كتاب الاحتجاج / كتاب أحكام الأنبياء و الرسل / كتاب أخبار الأمم / كتاب اختلاف الحديث / كتاب أخص الأعمال / كتاب الاخوان / كتاب آداب المعاشرة / كتاب آداب النفس / كتاب الأركان / كتاب الأزاهير / كتاب الأشكال و القرائن / كتاب أفاضل الأعمال / كتاب الأفانين / كتاب الامتحان / كتاب الأمثال / كتاب الأمم / كتاب الأوائل / كتاب الأوامر و الزواجر / كتاب بدء خلق ابليس و الجن / كتاب البلدان و المساحة / كتاب بنات النبي و أزواجه / كتاب التأريخ / كتاب التأويل / كتاب التبصرة / كتاب التبيان / كتاب التجمل / كتاب التخدير / كتاب التخويف / كتاب التراحم و التعاطف / كتاب الترغيب / كتاب التسلية / كتاب التعازي / كتاب التعويض / كتاب التفسير / كتاب تفسير الأحاديث و أحكامها / كتاب التهاني / كتاب التهذيب / كتاب الثواب / كتاب ثواب القرآن / كتاب جداول الحكمة / كتاب الجمل / كتاب الحبوة / كتاب الحقائق / كتاب الحياة - و هو كتاب النور و الرحمة / كتاب الحيل / كتاب خلق السماء و الأرض / كتاب الدعاء / كتاب الدعابة و المزاح / كتاب الدواجن و الرواجن / كتاب ذكر [ صفحه 175] الكعبة / كتاب الرؤيا / كتاب الرياضة / كتاب الزجر و الفأل / كتاب الزهد و المواعظ / كتاب الزي / كتاب الزينة / كتاب السفر / كتاب الشعر و الشعراء / كتاب الشواهد من كتاب الله عزوجل / كتاب الشوم، كتاب الصفوة، كتاب صوم الأيام / كتاب الصيانة / كتاب الطب / كتاب طبقات الرجال / كتاب الطيب / كتاب الطيرة / كتاب العجائب / كتاب العقاب / كتاب العقل / كتاب العقوبات / كتاب العيافة و القيافة / كتاب العين / كتاب الغرائب / كتاب الفراسة / كتاب الفروق / كتاب فضل القرآن / كتاب الفهم / كتاب القريب / كتاب ما خاطب الله به خلقه / كتاب المآثر و الأنساب / كتاب المأكل / كتاب الماء / كتاب المحاسن / كتاب المحبوبات و المكروهات / كتاب مذام الأخلاق / كتاب مذام الأفعال / كتاب المراشد / كتاب المرافق / كتاب المساجد الأربعة / كتاب المستحبات / كتاب مصابيح الظلم / كتاب المصالح / كتاب المعاريض / كتاب المعاني و التحريف / كتاب المعيشة / كتاب مغازي النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) / كتاب مكارم الأخلاق / كتاب المكاسب / كتاب المنافع / كتاب المواهب، و الحظوظ / كتاب النجابة / كتاب النجوم / كتاب النحو / كتاب النساء / كتاب النوادر / كتاب الهداية. و يبدو أن البر في هذا المختار من مؤلفاته الهائلة، ليس موسوعيا فحسب بل من المغرقين في الموسوعية بحيث اشتملت قائمة مصنفاته علي مفردات أغلب العلوم الانسانية و الصرفة، يضاف اليهما العلوم التكميلية لشتي المعارف. لقد ألف البرقي في علوم القرآن و التفسير و الحديث و الرواية و الرجال و الفقه و الأحكام و الكلام و الاحتجاج و العقائد و الفلك [ صفحه 176] و النجوم و الجغرافيا و الهندسة و الموازين، و الخلق و النشأة و البلدان و الخطط، و التأريخ و التراجم و السيرة، و علم النفس و علم الاجتماع و حياة الكائنات، و التهاني و التعازي، و التراحم التعاطف، و الترغيب و الترهيب، و التسلية و التهذيب، و الأرض و السماء و العالم، و الحكمة و الرياضة و الفلسفة، و الزهد و القناعة، و الموعظة، و الأدب و الشعر و الشواهد، و الطب و الصيدلة و الصيانة و العيافة و القيافة و الزجر و الفأل، و الفراسة و الفروق، و الأنساب و الطبقات و المآثر، و المحاسن و المساوئ و الأضداد، و الأكل و الشرب و المستحبات، و التعريض و الكناية و الرمز و المعاني و المغازي، و المكاسب و المنافع، و المواهب و الحظوظ، النساء و النوادر و غير ذلك. هذا أنموذج رفيع لعالم موسوعي كتب و ألف و ناظر و حاور و نقب وحدث، و حاول و طاول، و أراد أن يلم بأشتات عوالم الفنون الشائعة بعصره، و أن يتمحض لها جميعا، ليقدم فيها دراسات تخصصية، قل، نظيرها، و عز أن تجتمع افاضاتها في رجل واحد من تلامذة الامامين الجواد والهادي (عليهماالسلام)، و كان سوق الوراقين رائجا في بغداد، و مهمته استنساخ الكتب، فهو يقوم بدور الطباعة اليوم، و طبيعي أن هذه المؤلفات قد تناولها الوراقون بالنسخ و التجليد، و قدموها بحفاوة الي القارئ المسلم، و من هنا ينطلق انتشارها، و هنا تكمن افادتها، فلله در البرقي و أمره. فاذا تركنا جانب الموسوعية المترامية الأطراف، و وقفنا عند التخصص الدقيق عند تلامذة الامام محمدالجواد (عليه‌السلام)، لرأينا الحسين بن [ صفحه 177] سعيد بن حماد الكوفي الأهوازي، و هو ثقة، قد وقع في اسناد كثير من الروايات تبلغ خمسة آلاف و عشرين موردا، كما ذكر ذلك سيدنا الأستاذ الخوئي. [271] . و قد روي عن الامام موسي بن جعفر، و أبي الحسن الامام علي بن موسي الرضا، و أبي جعفر الامام محمد الجواد (عليهم‌السلام). و قد ترك لنا كنزا علميا أصيلا، كان أغلبه في علم الفقه و فروعه، و مفرداته تسجل الأحكام في العبادات و المعاملات و كبريات مسائل الشريعة الغراء، مما شكل مدرسة تخصصية لا غني الأساطين العلم من مراجعتها و مدارستها، و استنباط الأحكام من خلال الرجوع الي رواياتها في شتي مسائل الفقه في أبرز موضوعاتها المتسلسلة ابتداءا بالعبادات و مرورا بالعقود و الحدود و الديات، و انتهاء بالمواريث. و اليك بعض نماذجها مرتبة علي طريقة (الألفباء) كما سبق ذلك في كتب أحمد بن محمد البرقي: كتاب الأيمان و النذور و الكفارات / كتاب التجارات و الاجارات / كتاب الحج / كتاب الحدود / كتاب الخمس / كتاب الديات / كتاب الزكاة / كتاب الشهادات / كتاب الصلاة / كتاب الصوم / كتاب الصيد والذبائح / كتاب الطلاق / كتاب العتق و التدبر و المكاتبة / كتاب الفرائض / كتاب المكاسب / كتاب النكاح / كتاب الوصايا / كتاب الوضوء. و أمثالها. [272] . [ صفحه 178] فهذه ثمانية عشر أثرا علميا في موضوع الفقه وحده. و لم يكن ليهمل جوانب أخري من الموضوعات الدائرة في فلك التفسير و العقائد و حقوق المؤمن، و الرد علي الغلاة، و الزهد، و المزار و المروءة و التجمل، و المثالب، و المناقب، و الملاحم، و كان أهمها: كتاب تفسير القرآن / كتاب التقية / كتاب حقوق المؤمنين / كتاب الدعاء / كتاب الرد علي الغلاة / كتاب الزهد / كتاب المؤمن / كتاب المثالب / كتاب المروءة و التجمل / كتاب المزار / كتاب الملاحم / كتاب المناقب / و سوي ذلك. [273] . و علي هذين الباحثين يقاس جملة من المؤلفين من تلامذة الامام محمد الجواد و أصحابه: أمثال علي بن مهزيار الذي ذكر له النجاشي و حده أربعة و ثلاثين كتابا في شتي الفنون و العلوم. [274] . أما رواة حديث الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و خريجوا مدرسته العلمية فهم جمع كثير و جمهور غفير. و قد أحصي الأستاذ باقر شريف القرشي منهم مائة و اثنين و ثلاثين نفرا، ضمت تراجمهم كتب الرجال و فهارس التحقيق من أعلام الرواية و الجرح و التعديل. [275] . و قد أحصي الشيخ العطاردي صاحب مسند الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) مائة و واحدا و عشرين راويا من رواة أحاديث الامام (عليه‌السلام)، [ صفحه 179] بما فيهم أصحابه و وكلاءه و خواصه الذي يمثلون طائفة من كبار الفقهاء، و وجوه الطالبيين و الطالبيات، و شعراء الامام، و من حضي بخدمة الامام في عصر أبيه الرضا (عليه‌السلام). بينما أحصي السيد محمد كاظم القزويني في كتابه (الامام الجواد من المهد الي اللحد) مائتين و خمسة و سبعين راويا من الرجال و النساء و الأصحاب بعنوان: أصحاب الامام الجواد [276] . و هكذا نجد تلامذة و رواة الامام محمد الجواد الخاصين به في هذا الكم الجيد من الأعداد، و في ذلك الكيف المقبول لدي علماء الرواية، ذلك مع ملاحقة السلطات لهم و مطاردة أجهزة الأمن والرصد لأشخاصهم، و مراقبة نشاطهم حتي العلمي منه، و مع ذلك كله، فقد ظهر لهؤلاء من الآثار ما بقي خالدا مع الزمن. و لم يكن هؤلاء الرجال من المناكير و لا المجاهيل ولا سواد الناس، بل كانوا في أغلبيتهم المطلقة من أهل العلم و رجال الصناعة، و لم يكونوا مغمورين بل هم الي الشهرة و المعرفة أقرب فأقرب، و قد عرض لترجمة كل منهم الأعلام من الرواة و المؤلفين و أصحاب الفهارس و رجال المعاجم، و جمهور المحدثين من الامامية، و علماء التصنيف و الببلو غرافيا، و لم يبخسوا كل ذي حق حقه، و كان أبرزهم في ذكرهم من نذكره: البرقي في الرجال / الكشي في الرجال / النجاشي في الرجال / الطوسي في الفهرست / ابن الغضائري في الضعفاء / الصفدي في الوافي [ صفحه 180] بالوفيات / ابن النديم في الفهرست / الأربلي في كشف الغمة / ابن خلكان في وفيات الأعيان / ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة / سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / الذهبي في سير أعلام النبلاء / اليافعي في مرآة الجنان / و الصباغ في الفصول المهمة / و المامقاني في تنقيح المقال / و المجلسي في بحارالأنوار / و القهبائي في مجمع الرجال / و اغا بزرگ في الذريعة / و الأستاذ الخوئي في معجم رجال الحديث و سوي هؤلاء. و من رغب في الاطلاع علي أحوالهم و طبقاتهم في الحديث الوثاقة أو التعديل فلديه المتسع من الموارد هناك. [ صفحه 181]

الألفاظ الجارية مجري الأمثال في تراث الامام

و اتماما للبحث فأن طبيعته التراثية تقتضي أن نورد جزءا مما أفاد به الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، من حكم و وصايا، و مواعظ و آداب، و شوارد و نوادر تجري مجري الأمثال في ألفاظها السائرة، باعتبارها شريحة من تراث الامامة. و غني عن البيان أنها في ذورة البلاغة في الأداء البياني. و دقة العبارة في ايجاز القول، و كان اختيارنا لهذه الألفاظ من مصادرها الأولي يتحري الاختصار المركز دون الاطناب الممل، و قد رتبتها علي طريقة الالفباء، جريا علي عادتنا في مثل هذه الموارد ليسهل تناولها و ينتشر تداولها، و ينتظم عقدها في سلك ذهبي موصول الحلقات ببلغرافيا، فيلتقي البعد الفني بالعبد الديني باطار موحد، و من ثم يقترن الشكل بالمضمون في صورته الأدبية. و كانت مصادر هذه الشذرات المختارة، و مراجع ثبتها كتب التراث و الأدب و التراجم و السيرة و النوادر، التي عرضت لها، و انتشرت بين طياتها، و أبرزها: ابن شعبة / تحف العقول، الأربلي / كشف الغمة، اليافعي / مرآة الجنان، الأمير ورام / مجموعة ورام، ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة، الحر العاملي / وسائل الشيعة، ابن حجر / الصواعق المحرقة، الأمين الحسيني / أعيان الشيعة، هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة [ صفحه 182] الاثني عشر، باقر شريف القرشي / حياة الامام الجواد، محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / و سواها. و كان دور البحث فيها الاختيار و التنظيم، و جهده ينصب بذلك في التنقيب عنها بهذا المصادر و المراجع و سواها، و الهدف منها توعية الجيل الرسالي بأفكارها، و اصلاح المجتمع الانساني بآثارها، فهي في المكان الرحب الأوسع من النصح و الارشاد و الاضاءة، و حسبها أنها صدرت من بيت وحي النبوة و مهبط الرسالة. [ صفحه 183] (أ) - اظهار الشي‌ء قبل أن يستحكم مفسدة له. - الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة. - اتئذ تصب أو تكد. - اياك و مصاحبة الشرير فأنه كالسيف المسلول يحسن منظره و يقبح أثره. - اذا نزل القضاء ضاق الفضاء. - اعلموا ان التقوي عز، و ان العلم كنز، و ان الصمت نور. - اصبر علي ما تكره فيما يلزمك الحق و اصطبر عما لا تحب فيما يدعوك الي الهوي. - أربع خصال تعين المرء علي العمل: الصحة و الغني و العلم و التوفيق. - أفضل العبادة الاخلاص. (ت) - تأخير التوبة اغترار، و طول التسويق حيرة، و الاعتلال علي الله هلكة، و الاصرار علي الذنب أمن لمكر الله، و لا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون. - التحفظ علي قدر الخوف. [ صفحه 184] (ث) - الثقة بالله تعالي ثمن لكل غال، و سلم لكل عال. - ثلاثة يبلغن بالعبد رضوان الله تعالي: كثرة الاستغفار، و لين الجانب، و كثرة الصدقة. و ثلاث من كن فيه لم يندم: ترك العجلة، و لين الجانب، و التوكل علي الله عند العزم. (ج) - الجمال في اللسان، و الكمال في العقل. (ح) - الحوائج تطلب بالرجاء، و هي تنزل بالقضاء. (ر) - راكب الشهوات لا تقال عثرته. (س) - السؤدد كل السؤدد لمن اتقي ربه. (ش) - الشريف كل الشريف من شرفه علمه. (ط) - الطمع علي قدر النيل. [ صفحه 185] (ع) -عز المؤمن غناه عن الناس. - العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم. - العافية أحسن عطاء. (ق) - قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعا لما تهواه. (ك) - كيف يضيع من الله كافله، و كيف ينجو من الله طالبه. - كفي بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. (ل) - لا تعاد أحدا حتي تعرف الذي بينه و بين الله تعالي، فان كان محسنا فانه لا يسلمه اليك و ان كان مسيئا فان علمك به يكفيه فلا تعاده. - لا تكن وليا لله في العلانية، و عدوا له في السر. - لا يضرك سخط من رضاه الجور. - لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، و لا يطولن عليكم الأمل فتقسو قلبوكم، و ارحموا ضعفاءكم و اطلبوا الرحمة من الله بالرحمة منكم. (م) - من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده. [ صفحه 186] - من أصغي الي ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله، و ان كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس. - المؤمن يحتاج الي ثلاث خصال: توفيق من الله، و واعظ من نفسه، و قبول ممن ينصحه. - من انقطع الي غير الله و كله الله اليه، و من عمل علي غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. - من أطاع هواه أعطي عدوه مناه. - من هجر المداراة قاربه المكروه. - من لم يعرف الموارد أعيته المصادر. - من انقاد الي الطمأنينة قبل الخبرة، فقد عرض نفسه للهلكة و العاقبة المتعبة. - من عتب من غير ارتياب أعتب من غير استعتاب. - من لم يرض من أخيه بحسن النية لم يرض بالعطية. - من وعض أخاه سرا فقد زانه، و من وعظه علانية فقد شانه. - ما هدم الدين مثل البدع، و لا أزال الوقار مثل الطمع، و بالراعي تصلح الرعية، و بالدعاء تصرف البلية. - ما استوي رجلان في حسب و دين الا كان أفضلهما عند الله أدبهما. - من شتم أجيب، و من تهور أجيب. [ صفحه 187] - من طلب البقاء فليعد للمصائب قلبا صبورا. - من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر مما أصلح. - مقتل الرجل بين فكيه. - من أمل فاجرا كان أدني عقوبته الحرمان. - ما شكر الله أحد علي نعمة أنعمها عليه الا استوجب بذلك المزيد قبل أن يظهر علي لسانه. - موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، و حياته بالبر أكثر من حياته بالعمر. - من استحسن قبيحا كان شريكا فيه. - من أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل. - من كتم همه سقم جسده. (ن) - نعمة لا تشكر سيئة لا تغفر. - الناس أشكال، و كل يعمل علي شاكلته. - الناس اخوان، فمن كانت أخوته في غير ذات الله، فانها تعود عداوة، و ذلك قول الله عزوجل: - (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين) [277] . [ صفحه 188] (ي) - يوم العدل علي الظالم أشد من يوم الجور علي المظلوم. و بهذه الألفاظ الجارية مجري الأمثال من أقوال سيدنا و مولانا الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) يكون مسك الختام لهذا الفصل من الكتاب. [ صفحه 191]

الامام محمد الجواد... فقاهة

مسائل ذات أهمية خاصة

سبق القول أن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أعلم الأمة في أحكام الشريعة و أفقه الناس في الدين، و قد أثبتت التجارب الاختبارية صدق هذا الملحظ بما لا يقبل الشك، و عاد واضحا في المناخ العلمي أسبقية الامام الي استنباط الأحكام من ينابيعها الأولي من دون الرجوع الي أساتيذ أو شيوخ، فهو نسيج وحده باعتباره الوريث الشرعي لعلم هل البيت (عليهم‌السلام)، حتي قال سبط ابن الجوزي عنه: «كان علي منهاج أبيه في العلم و التقي و الزهد و الجود» [278] . و مصادر التشريع عند الامامية: الكتاب و السنة و الاجماع و العقل، و لا يعنينا في هذا البحث الخوض في الاستدلال علي صحة هذا المنهج و رصانته، فقد سبق القول فيه بما سبق من البحوث المخصصة له في هذه الموسوعة. [279] . و الذي نود الاشارة اليه هنا أن السنة عند الامامية تشمل قول المعصوم و فعله و تقريره، والمعصوم عندهم يتحقق حصرا، بالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و الزهراء سيدة نساء العالمين عليهاالسلام و الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم‌السلام) [ صفحه 192] و الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) هو الامام التاسع منهم، فقوله و فعله و تقريره هو السنة بعينها. و هذا الحقل في حياة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) - علي الرغم من موقف التأريخ الرسمي تجاهه - باب واسع متلئب، حفل باجابات الامام الشرعية، و الافصاح عن مشكلات أمهات المسائل الفقهية. و كان من وصل الينا في هذا الحقل قليل جدا بالنسبة لافاضات الامام و اطروحاته الفقهية المتنوعة، و قد حكم علي تضييع هذا التراث علينا عاملان: 1- الرقابة الصارمة التي أحيط بها الامام الي درجة احصاء الأنفاس، مما ضيق علي صدور ذلك حينا، و اتلافه و مصادرته حينا آخر. 2- الحقبة الزمنية التي صاحبت عمر الامام فما امتد به العمر، و لا اتسعت الحياة معه لأن تلقي تلك المعارف الالهية علي طبيعتها الاعتيادية، فقد اخترمت باخترام عمره. و الحق ان معالم مدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام) في عصر الامام الجواد (عليه‌السلام) كانت قد ظهرت لوائحها المشرقة من خلال الجهود المضنية للأئمة منذ تأسيس قاعدتها الصلبة ببركاتهم، فالامام محمد الباقر و أياديه البيضاء في التعميق للفكر الامامي، و الامام جعفر بن محمد الصادق و زعامته لمدرسة أهل البيت، و الامام موسي بن جعفر و امداده المعرفي رغم السجون و المعتقلات، و الامام علي بن موسي الرضا بما أتيح له من محافل العلم العامرة، و دواوين الاحتجاج و المناظرة الحافلة، و ما انتشر من تلامذتهم في الأقاليم و بقاع الأرض، كان قد أرسي دعائم مدرسة أهل البيت علي أسس ثابتة، و كانت متابعة الامام محمد [ صفحه 193] الجواد لهذا البناء الأشم متابعة رائدة استوعبت الثغرات التي أحدثتها السياسة المعاصرة ضد هذا الكيان، و كان التشيع قد ضرب بأطنابه في مشارق الأرض و مغاربها، و اتسعت دائرته لتشمل أغلب الديار الاسلامية، و كان علماء الطائفة و محدثوهم في الرعيل الأول المتقدم لنشر مبادئ أهل البيت سرا و علنا. و كان اهتمام الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) منصبا علي استثمار الجهود السابقة لآبائه، و تجسيدها علي الواقع العملي، و كانت اجاباته الفقهية تؤكد علي الأحكام في فروع العبادات و المعاملات مما يحتاج اليه الانسان لتعود أصلا شرعيا يرجع اليه، باعتباره أحد مصادر السنة الشريفة. الا أن هنالك واقعا يجب أن لا نغفله يتمثل في الضغوط التي منعت الأئمة من التعبير عن كل ما يجول بأذهانهم من أحكام الشريعة التي صادرت السياسية الظالمة جزءا كبيرا من حقائقها، بل التهمته التهاما حثيثا بشكل و آخر، حتي أوقعت المسلمين في مأساة من شؤونهم الدينية، فعطلت جملة من الأحكام وراء تعليلات سيرها الفقهاء الرسميون حتي اخترمت جملة و تفصيلا، و من ثم طال عليها الزمن فأوشكت علي الاندثار من لائحة الأحكام الا عند طبقات محددة من الامامية ممن تمسكوا بذلك تبعا لائمتهم عليهم‌السلام. و في طليعة هذه الأحكام (الخمس) الذي صدع به كتاب الله قائلا: (و أعلموا أنما غنمتم من شي‌ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل و ان كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان و الله علي كل شي‌ء قدير) [280] . [ صفحه 194] و الآية تصرح بفرض نسبة مالية تخرج من الأرباح (الغنائم) بقدر خمسها، و تتوسع كتب الفقه المتخصصة بأقسامه، و وجوبه، و مصارفه، و قد عبر عن تعريفه اصطلاحا. الفقيه الأكبر الشيخ محمد حسن النجفي بقوله: (و هو حق مالي، فرضه الله مالك الملك بالأصالة علي عباده في مال مخصوص له و لبني هاشم... عوض اكرامه اياهم بمنع الصدقة). و لا يعنينا الخوض في معني (الغنائم) في دلالتها بقدر ما يعنينا أنها تخص الأرباح حربية و تجارية و سواهما كما عليه التحقيق. و الذي نؤكد عليه أن هذه الفريضة قد عطلت تماما في استخراجها من الأرباح، و في دفعها لبني هاشم، كما جرت علي ذلك السياسة المعاصرة لأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام). و قد مرت هذه الفريضة بأدوار حرجة نتيجة الفرض القاطع من الحكام لظاهرتها باعتبارها عاملا فاعلا كبيرا في دعم مرجعية أهل البيت و استمرار عملهم القيادي، فالخمس سهمان عند الامامية: سهم الامام و هو المتصرف فيه أو من ينيبه، و يقبضه المرجع الأعلي أو الفقيه الجامع للشرائط لصرفة علي الفقراء و مصالح المؤمنين، و سهم السادة، و يصرف علي فقراء بني هاشم و أيتامهم و عوائلهم و تدبير شؤونهم. و لكن الأئمة لم يستطيعوا مواجهة هذا الرفض الصارم من كل الجهات، فسكتوا ن حقهم حينا، و ألزموه أصحابهم سرا، متشددين علي ذلك ما استطاعوا اليه سبيلا و قد بدأت المعركة في هذا المضمار منذ وفاة الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله و سلم)، فقال أميرالمؤمنين (عليه‌السلام): [ صفحه 195] «ان الله تعالي قبض نبيه (صلي الله عليه و آله و سلم)، و أنا يوم قبضه أولي بالناس مني بقميصي... و ان أول ما انتقصناه بعده ابطال حقنا في الخمس» [281] . و لكن أميرالمؤمنين آثر ظلامته شخصيا و ظلامة بني هاشم من أجل تلافي الفتن و الناس حديثو عهد بالاسلام، فأغمض عن حقه و آله صابرا و محتسبا. و قد منع أبوبكر بني هاشم الخمس. [282] . «و كان أبوبكر يقسم الخمس... غير أنه لم يكن يعطي قربي رسول الله ما كان النبي يعطيهم» [283] . و قد أبي عمر بن الخطاب أن يعطي الخمس لبني هاشم. [284] . و حينما تولي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، الخلافة أبقي ما كان، و لم يغير شيئا كراهية الخلاف للشيخين، فقد روي أبويوسف القاضي (ت 182 ه) ما قاله محمد بن اسحاق لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام): «قال: قلت له: ما كان رأي علي كرم الله وجهه في الخمس؟ قال: كان رأيه فيه رأي أهل بيته و لكنه كره أن يخالف أبابكر و عمر» [285] . [ صفحه 196] و عن محمد بن اسحاق أيضا، قال: «سألت أباجعفر محمد بن علي، فقلت: علي بن أبي طالب حيث ولي من أمر الناس ما ولي، كيف صنع في سهم ذوي القربي؟ قال: سلك به سبيل أبي بكر و عمر. قلت: و كيف و أنتم تقولون ما تقولون؟ فقال: ما كان أهله يصدرون الا عن رأيه!! قلت: فما منعه؟ قال: كره - و الله - أن يدعي عليه خلاف أبي بكر و عمر»... [286] . و كانت نظرة أميرالمؤمنين موضوعية في أبعادها كافة، «ليتأكد - الباحث - ان منعا مدروسا و صدا مدبرا كان وراء كف الامام علي (عليه‌السلام) عن بحث مسألة الخمس ميدانيا سواء من خلال المطالبة، أو اظهار القبول و أخذه، و لا سيما أن الحالة آخذة بالتفاقم و الحدة، الأمر الذي يحتم ضرورة اللجوء الي الصبر و المسالمة ريثما تحين الفرصة للمطالبة بالحقوق» [287] . و استمر منع الخمس علي أشده في العصر الأموي، و سمح عمر بن عبدالعزيز باعطائه لبني هاشم في خلافته عام مائة من الهجرة فقد روي ابن سعد في الطبقات عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: «أول ما قسمه عمر بن عبدالعزيز لمال بعث به اليها أهل [ صفحه 197] البيت... فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار، و كتب لنا: اني ان بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم» [288] . و في الدولة العباسية منع ذلك جملة و تفصيلا الا فيما روي عن المأمون مع تشكيكنا في صحته. و لكن الامام محمد الباقر (عليه‌السلام)، قد أفاض في ذلك تمثلا لرأي أميرالمؤمنين، و تلقي ذلك الامامية و ساروا عليه سرا، و ذلك لتصريحه، جهارا «ان لنا الخمس في كتاب الله» [289] . و كذلك صنع الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام)، فكان الخمس يعطي له مباشرة سرا أو بيد أحد من أصحابه الثقات، و لكن الحركة بالعمل بهذه الفريضة قد بدأ و لو من وراء حجاب كثيف. و هكذا الحال في عصر الامام الكاظم (عليه‌السلام)، حيث كانت الرقابة صارمة و ان تنفست جزئيا في عهد الامام الرضا نسبيا. حتي اذا تسلم الامام محمدالجواد (عليه‌السلام)، منصب الامامة الشرعية رأينا له دورا خاصا في التأكيد علي الخمس، و المطالبة به، و أبدي بذلك أطروحته لشيعته بما أوصاهم به، بما يعتبر به محررا لهذا الحكم من الاستئثار و الابتلاع و التعطيل، قال (عليه‌السلام): «و انما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب و الفضة التي قد حال عليهما الحول، و لم أوجب ذلك عليهم في متاع، و لا آنية، و لا دواب، و لا خدم، و لا ربح ربحوه في تجارة و لا ضيعة، الا في ضيعة [ صفحه 198] سأفسر لك أمرها، تخفيفا مني عن موالي و منا مني عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم، و لما ينوبهم في ذاتهم، فأما الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام، قال تعالي: (و أعلموا أنما غنمتم من شي‌ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان و الله علي كل شي‌ء قدير) [290] . فالغنائم و الفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، و الفائدة يفيدها، و الجائزة من الانسان للانسان التي لها خطر، و الميراث الذي لا يحتسب من غير أب أو ابن، و مثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب، و ما صار الي موالي من أموال الخرمية الفسقة، فقد علمت أن أموالا عظاما صارت الي قوم من موالي، فمن كان عنده شي‌ء من ذلك فليوصله الي وكيلي، و من كان نائيا بعيد الشقة فليعمد لايصاله بعد حين فان نية المرء خير من عمله»... [291] . و النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و أهل بيته (عليهم‌السلام) يفسرون الغنم: بالربح التجاري في المعاملات و المتاجرة و أمثالها، و النقد، و الكنز، و المعادن، و ما يستخرج من الأرض و البحر، و المال المختلط حلاله بحرامه دون تمييز، و الزائد عن المؤنة السنوية. و سواء أحصل الربح في حرب أو في سلم، و المراد بالحرب هنا غنائم الحرب، أم في الغنائم الأخري أعلاه، و المبحث محرر في كتاب الأحكام فتوائيا و استدلاليا. [292] . [ صفحه 199] و في زمن الغيبة تنحصر الأصناف في الآية الي سهمين عند الامامية هما: سهم الامام و سهم السادة من بني هاشم، يقول السيد السيستاني دام ظله الشريف: «يقسم الخمس في زماننا - زمان الغيبة - الي نصفين: نصف لامام العصر الحجة المنتظر - عجل الله تعالي فرجه و جعل أرواحنا فداه - و نصف لبني هاشم: أيتامهم، و مساكينهم و أبناء سبيلهم، و يشترط في هذه الأصناف جميعا الايمان كما يعتبر الفقر في الأيتام، و يكفي في ابن السبيل الفقر في بلد التسليم» [293] . و يستخرج الخمس لدي تحقق الربح، و للمستخرج تأجيله الي رأس السنة التي جعلها بداية لأرباحه، فيستخرج ما زاد علي مؤنته السنوية، و يستثني احتياجاته الضرورية بحسب طبيعة منزلته في المصارف الواجبة و الحقوق و المستحبات كل بحسبه. و قد تحدث الفقهاء عن أهمية الخمس، و عرضوا للروايات التي تجعل مانعه في عداد الظالمين و الغاصبين، و التشدد في اعطائه، فما أيسر ما يدخل العبد النار بمنعه. جاء في المستمسك: «و هو من الفرائض، و قد جعلها الله تعالي لمحمد (صلي الله عليه و آله و سلم) و ذريته عوضا عن الزكاة اكراما لهم، و من منع منه درهما أو أقل كان مندرجا في الظالمين لهم، و الغاصبين لحقهم، بل من كان مستحلا لذلك كان من الكافرين. ففي الخبر عن أبي بصير قال: قلت: لأبي جعفر (عليه‌السلام): ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ [ صفحه 200] قال (عليه‌السلام): من أكل من مال اليتيم درهما، و نحن اليتيم. و عن الامام الصادق (عليه‌السلام) ان الله لا اله الا هو حيث حرم علينا الصدقة، أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام، و الخمس لنا فريضة، و الكرامة لنا حلال. و عن أبي جعفر (عليه‌السلام): لا يحل لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتي يصل الينا حقنا. و عن أبي عبدالله (عليه‌السلام): لا يعذر عبد اشتري من الخمس شيئا أن يقول: يا رب اشتريته بمالي!! حتي يأذن له أهل الخمس» [294] . و الذي نشير اليه هنا أن دفع الخمس كا متزلزلا بين المنع و الخوف و الحذر، فهو فريضة معطلة الا عند الواعين من أتباع أهل البيت (عليه‌السلام)، يؤدونها سرا بحسب الطاقة البشرية في التحمل و الرقابة و التصفية. و من خلال هذا الأفق الضيق في الشدة و الرصد نجد دور الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، بارزا في ارساء هذا الأمر. فبادئ ذي بدء أباح لأوليائه التصرف في أموالهم، و الترفيه علي أنفسهم و من ثم يكون استخراج الخمس. كتب الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) بخطه الي بعض أصحابه: (الخمس عبد المؤنة) [295] . و يري البحث أن للامام محمد الجواد (عليه‌السلام) منة في ترسيخ هذا الأمر سواه في عنق كل امامي الي يوم القيامة، اذ ثبت مرتكزات التشيع علي [ صفحه 201] أساس رصين في كل مجال من مجالات الحياة، سيما في احياء هذه الفريضة المعطلة، لقد اعتقد أحمد بن محمد بن عيسي أن الامام في موجدة علي زكريا بن آدم فدفع ذلك الامام قائلا له: «يا أبا علي ليس علي مثل أبي يحيي يعجل!! و كان من خدمته لأبي (عليه‌السلام) و منزلته عنده و عندي من بعده، غير أني احتجت الي المال فلم يبعث. فقلت: جعلت فداك هو باعث اليك بالمال، و قال لي: ان وصلت اليه فأعلمه ان الذي يمنعني من بعث المال: اختلاف ميمون و مسافر. فقال: احمل كتابي اليه، و مره أن يبعث الي بالمال. فحملت كتابه الي زكريا فوجه اليه بالمال» [296] . و دلالة هذا الحدث، أن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) كان يطالب أولياءه ببعث الخمس اليه و يؤكد عليه، و قد يمتنع بعض أوليائه من بعث المال اليه لأسباب خارجية، فاذا زالت تلك الأسباب جري الأمر علي طبيعته. و كان الامام (عليه‌السلام) حينما يقبض الخمس قد يراسل صاحب المال بتسلمه للمال، كما عن ابراهيم بن محمد، قال عن الامام الجواد بعد دفع حسابه: «كتب الي قد وصل الحساب، تقبل الله منك، و رضي عنهم، و جعلهم معنا في الدنيا و الآخرة، و قد بعثت اليك من الدنانير بكذا، و من الكسوة بكذا، فبارك لك فيه و في جميع نعم الله اليك» [297] . [ صفحه 202] فمضافا الي اشعاره بوصول الحساب، فقد دعا له و لأصحابه ممن دفعوا حق الله، و بعث اليه بدنانير و كسوة تكريما و كرما. و قد يستغل بعض أصحابه كرمه و سخاءه فيتجاوز بذلك حدود الأمانة، و يتعدي ما ينبغي له، فيتناول شيئا من الحقوق المفروضة، و يستأذن بعضهم الامام أن يكون في حل منها فيكون الموقف محرجا، فالامام لا يغتفر التجاوز، و لكنه لا يترك كرمه و طيبة النفس. فعن علي بن ابراهيم عن أبيه، قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام)، اذ دخل اليه صالح بن محمد بن سهل الهمداني، و كان يتولي له. فقال للامام: جعلت فداك؟ اجعلني من عشرة آلاف درهم في حل!! فاني أنفقتها!! فقال له أبوجعفر (عليه‌السلام): أنت في حل، فلما خرج صالح من عنده، قال أبو جعفر (عليه‌السلام): أحدهم يثب علي مال آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) و فقرائهم و مساكينهم و أبناء سبيلهم فيأخذ ثم يقول: اجعلني في حل!! أتراه ظن بي أني أقول له لا أفعل؟ و الله ليسألنهم يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا» [298] . و قد جاهد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في سبيل تعميق الوعي ازاء هذه الفريضة الملغاة (الخمس) من قبل الطواغيت و حكام الجور بحيث أغلقوا علي آل رسول الله منافذ العيش الكريم بل الكفاف منه، و قد قام الامام (عليه‌السلام) بدوره الايجابي تجاه استخراج الخمس حتي آخر حياته. [ صفحه 203] فقد قال محمد بن الفرج: «كتب الي أبوجعفر (عليه‌السلام): احملوا الي الخمس فأني لست آخذه منكم سوي عامي هذا، فقبض (عليه‌السلام) في تلك السنة» [299] . و كان من المحمودين عند الامام، عبدالعزيز بن المهتدي القمي الأشعري، و يبدو أنه أرسل حقا شرعيا في تفصيل في الموضوع. فكتب اليه الامام (عليه‌السلام): «قبضت و الحمد لله، و قد عرفت الوجوه التي صارت اليك منها، غفر لك و لهم الذنوب، و رحمنا و اياكم» [300] . و كانت خطوة الامام محمدالجواد (عليه‌السلام)، في هذا الملحظ جريئة جدا نظرا للرصد المطبق من جهة، و للضياع الشامل لأحكام الدين من جهة أخري، و للتعثر في اعطائه هذا الحق من الموالين أحيانا، و لهذا حدب الامام مشفقا علي انتشال هذه الفريضة من التعطيل و الجمود، و وهبها الحياة و الحركة، حتي روي أنه قال - بين التقرير للحقيقة و العتاب الجميل -: «ان موالي - أسأل الله صلاحهم - أو بعضهم قد قصروا فيما يجب عليهم، فعلمت ذلك، فأحببت أن أطهرهم و أزكيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا»... [301] . و ينبغي أن يدرك جيدا أن الخمس من حقوق المنصب الالهي للامام، في حقه المفترض، و هذا ما يفسر لنا التأكيد علي اخراجه، [ صفحه 204] و السعي الحثيث علي تحصيله، و الاعتداد بمورده موضوعيا، فالمنصب في حاجة الي المال الانجاز مشاريع الامام في انعاش الفقراء و اعالة المحرومين و تيسير المصالح في هدف مزدوج. و هؤلاء الذين حرموا من الصدقات و هم بنوهاشم لابد لهم من بديل، و لا بد لقائم علي شؤون ذلك، و كان الخمس هو الحل المنطقي لاشكالية منع الزكاة عنهم، بايجاب الخمس لهم، و ذلك مقتضي العدل الالهي في ضمان حياة المسلمين أجمعين. هذه التداعيات المتشابكة و ضرورتها اللملحة هي التي تفسر لنا حالة التشدد و الاصرار علي استخراج الخمس و التأكيد عليه من قبل الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) تبعا لآبائه (عليهم‌السلام)، حتي أصبح اغتصابه علة لكثير من الظواهر المحرمة في الاسلام، ففي صحيحة ضريس الكناسي: قال أبو عبدالله (عليه‌السلام): «أتدري من أين دخل علي الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري!! فقال: من قبل خمسنا أهل البيت، الا لشيعتنا الأطيبين، فانهم محلل لهم و لميلادهم» [302] . و التحليل هنا محمول علي الجواري اللاتي استولي عليها السلطان، و هو ليس من الخلافة الشرعية في شي‌ء، فشاء الامام أن يتنازل عن حقه ذاك في هذا الجانب من أجل الطيبين من شيعته لا أنه اسقط الخمس عنهم، لما رأينا من تشددهم في هذا الملحظ كما تشير الي ذلك الروايات. [303] . [ صفحه 205] و لم يكن نشاط الامام محمد الجواد الفقهي مقتصرا علي هذا الوجه، بل تعداه الي جملة من الفروع و الأحكام فيما يبتلي به المؤمنون، و من ذلك أحكام الصلاة، و الحج، و النذر، و الكفارات، و الوقف مشكلاته، الشفعة، و الزواج، و الميراث، و سواها. [304] . [ صفحه 207]

يحيي بن أكثم في مسائلة الامام

و حياة أئمة أهل البيت مع الفقهاء الرسميين ذات أبعاد تأريخية شائكة، تمتد جذورها الي بعد عصر الرسالة مباشرة، فقد تصدر للافتاء و الرواية و الحديث نفر ممن ادعي الصحبة، فكثر الكذب علي رسول (صلي الله عليه و آله و سلم) و تمادي الانتحال، و ظهرت علي الأفق أحاديث مفتعلة تتعارض مع صريح القرآن، فكان هذا المناخ الجديد بديلا عن مرجعية أهل البيت (عليهم‌السلام)، و الامام علي قد يشاور حينا، و لكنه لا يستفتي أحيانا كثيرة، و قد يقرب فترة، و لكنه يستبعد فترات أخري، و كانت الاسرائيليات تغزو المجتمع المدني شاء ذلك أو أبا، و تصدر جيل من اليهود ممن أظهروا الاسلام لقضايا المسلمين التشريعية، فكان كعب الأحبار، و وهب بن منبه، و أمثالهما ممن أدخلا علي الاسلام ما ليس منه. حتي اذا استولي الأمويون علي الحكم اتخذوا بطانة من وعاظ السلاطين يبرمجون التشريع و علم الكلام وفق رغبات النظام الحاكم، و استبعد الأئمة (عليهم‌السلام) استبعادا تاما علي المستوي الرسمي و ان تغلغل نفوذهم الجماهيري في المستوي الشعبي، و لكنه بسرية و كتمان شديدين، و مع هذا فقد ذهب الكثير ضحايا لمجرد انتسابهم للتشيع، و حرف كثير من مفاهيم الاسلام نتيجة الزيغ عن مرجعية أهل البيت، و قرب الوضاعون فدست أحاديث لم ينطق بها النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و رويت أخبار ما أنزل الله بها من سلطان، و وضعت فضائل و مناقب للأموين= [ صفحه 208] بألسنة هؤلاء الكذبة، حتي اذا جاء الحكم العباسي كان الانحراف عن الصراط واضحا، و نفوذ فقهاء البلاط قويا، و الدولة تنعم عليهم بالأعطيات و الجرايات، و الجوائز و الهبات، حتي استفحل الداء العياء، و عمت البلوي، و اتسعت الاشكالات المعقدة بما فاض به الاناء و تمادت السياسة بغيها و انحرافها عن النهج الاسلامي، فقيدت الأفكار و الآراء، و دعت الي تعطيل الأحكام و تجميد النظر الشرعي، فألغت عملية الاستنباط من أدلتها التفصيلية و أغلقت باب الاجتهاد. و لم يقف أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) من هذا الاعتداء السافر موقف المتفرج و اللامبالاة، و لكنهم جدوا و شمروا عن ساعد النضال العلمي في أطاريح جديدة شملت الدعاة و المبلغين و التلامذة و الأصحاب، و هم يمدونهم بالعلم الخالص المستند الي الكتاب و السنة، و أمروا بتقييد العلم، و تدوين الحديث، و ضبط الرواية، و أسسوا عملية الاجتهاد بالرجوع الي الأصول التي شرعوها، و القواعد التي ثبتوها و عملوا جاهدين الي برمجة التعدد في التخصص، فكان الرواة و المحدثون، و أهل الكلام، و مفسرو القرآن، و رجال الفقه، و علماء التشريع، عدا مجالات العلوم الانسانية بعامة، فكانت الحركة الفكرية دائبة في الحياة، تواكب الزمن، و تستقطب الأجيال، و كان الدور التأسيسي للامامين محمد الباقر و ولده جعفر الصادق (عليه‌السلام) ذا عمق أصيل في ترسيخ دعائم هذا المنهج، و تسلم ذلك من بعدهم الامام الكاظم و الامام الرضا و الامام الجواد (عليهم‌السلام)، فكانت الجهود العلمية المركزة حائلا دون مبادرات الحاكمين في شل التوجه التشريعي، و الغاء العقل الانساني، و سيادة [ صفحه 209] الهوي و الرأي الاستحساني دون مستند ديني أو رسالي، و بذلك بدأ الصراع علي أشده بين دعاة الجمود لأغراض سياسية، و بين قادة الوعي المعرفي علي أساس ديني لا ريب فيه. و في ظل هذه المفارقات و تحت الضغوط السياسية الحرجة، تسلم الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) منصب الامامة الشرعية - بما أوضحنا آنفا - ما عرض له من الاستفزاز و التشكيك و الاختبار الميداني، و لكن الامام محمد الجواد بما أوتي من التسديد الالهي، و بما امتلك من خصائص و مواهب و قابليات، شق طريقه بثبات و صلابة و ايمان. و حينما عزم المأمون علي تزويجه من ابنته أم الفضل كبر ذلك علي بني العباس، و طلبوا للمأمون أن يمهل الامام حتي يتفقه في الدين علي حد زعمهم، فقال لهم: «و يحكم أنا اعرف بهذا الفتي منكم، و ان هذا من أهل بيت علمهم من الله، و مواده و الهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين و الأدب عن الرعايات الناقصة عن حد الكمال!! فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله!! قالوا له: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين و لأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا و بينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شي‌ء من فقه الشريعة!! فان أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، و ظهر للخاصة و العامة سديد رأي أميرالمؤمنين، و ان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون: شأنكم ذلك و متي أردتم. [ صفحه 210] فخرجوا من عنده، و اجتمع رأيهم علي مسائلة يحيي بن أكثم، و هو قاضي الزمان أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، و وعدوه بأموال نفسية علي ذلك!! و عادوا الي المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع، فأجابهم الي ذلك، فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه و حضر معهم يحيي بن أكثم فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر (عليه‌السلام) دست و يجعل فيه مسورتان ففعل ذلك، و خرج أبوجعفر (عليه‌السلام) و هو يومئذ ابن تسع سنين و أشهر فجلس بين المسورتين، و جلس يحيي بن أكثم بين يديه، و قام الناس في مراتبهم، و المأمون جالس في دست متصل بدست أبي‌جعفر (عليه‌السلام). فقال له المأمون: استأذنه في ذلك. فأقبل عليه يحيي بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال له أبوجعفر (عليه‌السلام): سل ان شئت. قال يحيي: ما تقول - جعلني الله فداك - في محرم قتل صيدا؟ فقال له أبوجعفر (عليه‌السلام): قتله في حل أو حرم؟ عالما كان المحرم أم جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أم عبدا؟ صغيرا كان أم كبيرا؟ [ صفحه 211] مبتدئا بالقتل أم معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصرا عيل ما فعل أم نادما؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرما كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرما؟ فتحير يحيي بن أكثم و بان في وجه العجز و الانقطاع، و لجلج حتي عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال المأمون: الحمد لله علي هذه النعمة و التوفيق لي في الرأي. ثم نظر الي أهل بيته و قال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ فلما تفرق الناس و بقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر (عليه‌السلام): ان رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد؟ لنعلمه و نستفيده. فقال أبوجعفر (عليه‌السلام): نعم. ان المحرم اذا قتل صيدا في الحل و كان الصيد من ذوات الطير، و كان من كبارها فعلية شاة، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، فاذا قتل فرخا في الحل فعلية حمل قد فطم من اللبن، و اذا قتله في الحرم فعليه الحمل [ صفحه 212] و قيمة الفرخ، فان كان من الوحش، و كان حمار وحش فعلية بقرة و ان كان نعامة فعلية بدنة، و ان كان ظبيا فعليه شاة، فان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعلية الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة، و اذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، و كان احرامه بالحج نحره بمني، و ان كان احرامه بالعمرة نحره بمكة، و جزاء الصيد علي العالم و الجاهل سواء، و في العمد له المأثم، و هو موضوع عنه في الخطأ، و الكفارة علي الحر في نفسه، و علي السيد في عبده، و الصغير لا كفارة عليه، و هي علي الكبير واجبة، و النادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، و المصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله اليك، فان رأيت أن تسأل يحيي عن مسألة كما سألك؟ فقال أبوجعفر (عليه‌السلام) ليحيي: أسألك؟ قال يحيي: ذلك اليك جعلت فداك، فان عرفت جواب ما تسألني عنه و الا استفدته منك!! فقال له أبوجعفر (عليه‌السلام): أخبرني عن رجل نظر الي امرأة في أول النهار، فكان نظره اليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه فما طلع الفجر حلت له. ما حال هذه المرأة؟ و بماذا حلت له و حرمت عليه؟ [ صفحه 213] فقال له يحيي بن أكثم: و الله ما اهتدي الي جواب هذا السؤال، و لا أعرف الوجه فيه، فان رأيت أن تفيدناه؟ فقال أبوجعفر(عليه‌السلام): هذه أمة لرجل من الناس نظر اليها أجنبي في أول النهار فكان نظره اليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له. قال: فأقبل المأمون علي من حضرت من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن المسألة بمثل هذا الجواب؟ أو يطرف القول فيما تقدم من السؤال؟ قالوا: لا و الله ان أميرالمؤمنين أعلم بما رأي. فقال لهم المأمون: و يحكم ان أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل و ان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) و هو ابن عشر سنين؟ و قبل منه الاسلام و حكم له به، و لم يدع أحدا في سنه غيره؟ و بايع الحسن و الحسين (عليهماالسلام)، و هما ابنا ست سنين؟ و لم يبايع صبيا غيرهما. أفلا تعلمون الآن ما اختص به هؤلاء القوم؟ [ صفحه 214] و انهم ذرية طيبة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟ قالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، ثم نهض القوم. [305] . و أنت تري الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) كيف فرع هذه المسألة و كيف صنفها؟ و كيف بوبها؟ بما أذهل السائل!! ثم كيف أجاب عنها جوابا تفصيليا حافلا بالجزئيات الضرورية التي تغطي الموضوع من جوانبه كلها. و كذلك صنع الامام (عليه‌السلام) حينما سأل ابن أكثم سؤالا محيرا لم يصل الي جوابه، بل و لم يستوعب أبعاده، مما كشف عن قصوره بين يدي المأمون، و من ثم تولي الامام الجواب، فلم يدع فيه قولا لقائل. و هكذا نجد فقاهة الامام منفتحة علي المبتكر الأصيل من الفروع الفقهية تتحري الأهم، و تستوحي الأفضل. [ صفحه 215]

الامام و فقهاء عصره في بلاط المعتصم

و لم يكن الامام بمنأي عن حياة البلاط الفعلية، فقد يرسل عليه في حالات معينة، و قد يسأل في لحظات حرجة، و قد يطلب اليه الرأي ولات حين مناص، فيكون له القول الفصل. و في أغلب أن منشأ هذا التوجه ليس الاعتزاز بالامام، و لا الحرص علي اشاعة علمه، و لكنه الادراك بأن للامام الافتاء بما يوافق الكتاب و السنة شاءوا أم أبوا، رضوا أم سخطوا، لأن البلاط في رجاله و علي رأسهم الخلفية يعلمون علما يقينا بأن الامام يغترف من ذلك البحر الذي لا ينضب الصادر عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). فكانت الضرورة التي تغطي علي فشلهم أن يستنجدوا بالامام لدي المهمات الصعبة، و لعل من الطريف حقا أن كل مسألة مهما كانت يسيرة الفهم و الجواب تجد صعوبة في تداركها و حلها في بلاط العباسيين، لأنهم لن يخلقوا لهذا، و لم يستضيئوا بنور العلم و الايمان. و من الشواهد علي هذا الملحظ ما أورد العياشي عن زرقان، و هو أبوجعفر الزيات، صاحب ابن أبي دؤاد القاضي، قال: «رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم، و هو مغتم!! فقلت له في ذلك فقال: و ددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة!! قلت له: و لم ذاك؟ [ صفحه 216] قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمدبن علي موسي اليوم بين يدي المعتصم!! قلت له: و كيف ذلك؟ قال: ان سارقا أقرا علي نفسه بالسرقة، و سأل الخليفة تطهيره باقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع!! في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع!! قال: و ما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد هي الأصابع و الكف الي الكرسوع، لقوله في التيمم: (فامسحوا بوجوهكم و أيديكم) [306] . و اتفق معي في ذلك قوم. و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق!! قال: و ما الدليل علي ذلك؟ قالوا: لأن الله لما قال: (و أيديكم الي المرافق) [307] . في الغسل دل ذلك علي أن حد اليد هو المرفق. قال: فالتفت الي محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا أميرالمؤمنين. [ صفحه 217] قال: دعني مما تكلموا به!! أي شي‌ء عندك؟ قال: اعفني من هذا يا أميرالمؤمنين. قال: أقسم عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه. فقال: أما اذا أقسمت علي بالله؛ اني أقول انهم أخطأوا في السنة، فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف. قال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله: السجود علي سبعة أعضاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين. فاذا قطعت يده الي الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال تبارك و تعالي: (و أن المساجد لله...) [308] . يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: (فلا تدعوا مع الله أحدا) [309] . و ما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك، و أمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال أبي دؤاد، فقامت قيامتي و تمنيت أني لم أك حيا!! قال زرقان: قال ابن أبي دؤاد: [ صفحه 218] صرت الي المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: ان نصيحة أميرالمؤمنين علي واجبة، و أنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار!! قال: و ما هو؟ قلت اذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماءهم لأمر واقع في أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضرت مجلسه أهل بيته و قواده، و كتابه. و قد تسامع الناس بذلك من وراء و بابه!! ثم يترك أقاوليهم كلهم لرجل يقول شطر هذه الأمة بامامته، و يدعون أنه أولي منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغير لونه، و انتبه لما نبهته له، و قال: جزاك الله علي نصيحتك خيرا!! قال: فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه الي منزله فدعاه فأبي أن يجيبه. فقال: انما أدعوك الي طعام، و أحب أن تطأ ثيابي، و تدخل منزلي، فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك فصار اليه، فلما طعم فيها أحسن السم فدعا بدابته، فسأله رب المنزل أن يقيم، فقال: خروجي من دارك خير لك!! [310] . [ صفحه 219] ان ما استند اليه الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في حدود قطع اليد كان نابعا من القرآن الكريم و السنة النبوية، و بذلك أفحم الخصم، و أقام الدليل و الحجة. و أعجب ذلك المعتصم مضطرا، و ان جر هذا الأمر علي الامام البلاء من قبل القاضي أبو دؤاد، و هو أمر متوقع بين فقهاء البلاط العباسي، و لك أن تعجب من نصيحته للمعتصم بأمر يدخل به النار كما يقرر نفسه ذلك. [ صفحه 221]

علل الأحكام عند الامام

و ولج الامام محمد الجواد باب بيان علل الأحكام، و فيه الحكم الفقهي و علة ذلك الحكم، و كان الامام قاصدا الي ذلك لتبديد تلك السحب الكثيفة التي تلبدت في الأفق السياسي من قبل الحكم العباسي و وعاظ السلاطين، و شرائح كبيرة من الموالين للنظام علي حد سواء. لقد أثيرت في طريق الامام عدة شبهات مضللة كان أقربها الي أذهان السذج و البسطاء من الناس هي مسألة حداثة السن و صغر العمر، و قد شاء الحكم اللعب بهذه الورقة فما استطاع الي ذلك سبيلا. و علي الرغم من أن الامام قد برهن ميدانيا علي امامته في تلك السن المبكرة من خلال اجاباته العلمية، و الفقهية. و العقائدية. و التفسيرية. و الفلسفية، فأن هذه الشبهة تثار في الوسط الرسمي بين الآونة و الأخري، لسبب و آخر. قال الرواي: قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام): انهم يقولون في حداثة سنك!! فقال: «أن الله تعالي أوحي الي دواد أن يستخلف سليمان و هو صبي يرعي الغنم، فأنكر ذلك عباد بني اسرائيل و علماؤهم!! فأوحي الله الي داود (عليه‌السلام): أن خذ عصي المتكلمين و عصا سليمان، و اجعلها في بيت و اختم عليها بخواتيم القوم، فاذا كان من الغد، فمن كانت عصاه [ صفحه 222] قد أورقت و أثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود (عليه‌السلام)، فقالوا: قد رضينا و سلمنا. [311] . و في نص آخر، قال الراوي للامام محمد الجواد (عليه‌السلام): يا سيدي ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك!! فقال: و ما ينكرون من ذلك، قول الله عزوجل؟ لقد قال عزوجل لنبيه: (قل هذه سبيلي أدعوا الي الله علي بصيرة أنا و من اتبعني...) [312] . فو الله ما تبعه الا علي (عليه‌السلام)، و له تسع سنين، و أنا ابن تسع سنين» [313] . و أنت تجد الامام (عليه‌السلام) في هاتين الروايتين ينطلق تكوينيا و تشريعيا بوقت واحد لرد هذه الشبهة باستخلاف سليمان من قبل داود بأمر الله تعالي، و سليمان صبي يرعي الغنم، فأقام له الحجة حتي رضوا و سلموا. و من ثم يعطف الامام علي هذا اتباع علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و عمره تسع سنين، و قبل منه ذلك الاتباع، و عمر الجواد آنذاك تسع سنين أيضا، فهذه كتلك. هذا كله فضلا عن الاختبار الدقيق الذي أسفر عن تقدم الامام العلمي في الأسئلة المعمقة من قبل أوليائه و أعدائه، فانجلي عنها ألق الجبين بما سخره من براهين و أدلة و حجج و افاضات لا تتأتي الا لعلماء الأمة الأفذاذ. [ صفحه 223] و في هذا المجال نجد الامام (عليه‌السلام) مفيضا بجملة من علل الأحكام الشرعية علي قدر بما يرفع فيه هذه الشبهة علي الأقل من جهة، و بما يعزز الملحظ التشريعي القائم علي أساس من الحكمة و مصلحة البشر. و قد يسال الامام سؤالا فقهيا و لا يراد منه الا الافتاء به، و لكنه - (عليه‌السلام) - يفتي به، و يعلل في الموضوع، فيبين علة الحكم و سببه، لعلمه أن ما يفتي به سوف ينتشر بين الناس، و الناس يختلفون في مدي استيعابهم للاجابة، فبعضهم يغنيه التلميح عن التصريح، و بعضهم يكتفي بالايجاز و الاختصار، و بعضم يريد الا طالة و الاسهاب. و لم يكن الامام ليبخل بالعطاء فيفيض من علمه ما يلبي رغبات الجميع، كما شاهدنا هذا في اجاباته ليحيي بن أكثم و سواه. و الامام في عطائه الثر هذا ينظر الي عدة توجهات أساسية، فقد جرد العباسيون من فقهاء العصر أداة يراد منها تعجيز الامام، فما أفلحوا بذلك قط، بل كان الأمر عكسيا اذا انقلب السحر علي الساحر، ففلجوا بالحجة و المنطق. و فشلت مسألة العمر، و كانت اجاباته العلمية دليلا علي امامته، و ادعوا فيما زعموا أن لا خبرة للامام فقهيا و كان الرد حاسما، و التطلعات المولوية في افاداته الفقهية عتيدة حاضرة، ذلك كله بما أصابهم جراء تواترة و توافره بالهلع حينا، و بالحسد حينا آخر. «قال المأمون ليحيي بن أكثم: اطرح علي أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه‌السلام) مسألة تقطعه فيها!! [ صفحه 224] فقال يحيي بن أكثم للامام: يا أباجعفر: ما تقول في رجل نكح امرأة علي زنا؟ أيحل أن يتزوجها؟ فقال الامام محمدالجواد (عليه‌السلام): يدعها حتي يتسبرئها من نطفته و نطفة غيره، اذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه، ثم يتزوج بها ان أراد، فانما مثلها مثل النخلة أكل رجل منها حراما ثم اشتراها، فأكل منها حلالا». فانقطع يحيي. [314] . و كانت هذه الاجابات ضرورية لاثارة الوعي و تمكين السائل من استيعاب فلسفة الحكم الشرعي، و نشر رأي أهل البيت. و للامام (عليه‌السلام) في هذا الجانب مجالات عديدة. روي أن محمد بن سليمان سأله عن العلة في جعل عدة المطلقة ثلاثة قروء، بينما عدة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر و عشرة أيام، فأجاب الامام: أما عدة المطلقة ثلاثة قروء، فلاستبراء الرحم من الولد، و أما عدة المتوفي عنها زوجها، فان الله تعالي شرط للنساء شرطا، و شرط عليهن شرطا، فلم يحابهن فيما شرط لهن، و لم يجر فيما اشترط عليهن. [ صفحه 225] أما ما شرط لهن في الايلاء... أربعة أشهر، اذ يقول الله عزوجل: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر...) [315] . فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الايلاء، لعلمه تبارك اسمه أنه غاية صبر المرأة عن الرجل. و أما ما شرط عليهن فانه أمرها أن تعتد اذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الايلاء، قال الله عزوجل: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا)... [316] . و لم يذكر العشرة أيام في العدة الا مع الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثم أوجبه عليه و لها. [317] . و كان هذا التفصيل حكيما في نظر الشارع الأقدس لغاية صبر المرأة عن الزوج، و ما جاء من التعليل واضح لا يحتاج الي بيان. و مرة أخري يسأل محمد بن سليمان الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) عن العلة فيما اذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا كون شهادته أربع شهادات بالله، و اذا قذفها غيره سواء أكان قريبا لها أم بعيدا جلد الحد، أو يقيم البينة علي ما قال!! فأجابه الامام محمد الجواد قائلا: «قد سئل أبوجعفر - يعني الامام محمد الباقر (عليه‌السلام) - عن ذلك فقال: ان الزوج اذا قذف امرأته فقال: رأيت ذلك بعيني، كانت شهادته [ صفحه 226] أربع شهادات بالله. و اذا قال: انه لم يره، قيل له، أقم البينة علي ما قلت: و الا كان منزلة غيره. و ذلك ان الله تعالي جعل للزوج مدخلا لا يدخله غيره، والد و لا ولد يدخله بالليل و النهار، فجاز أن يقول: رأيت، و لو قال غيره: رأيت، قيل له: و ما أدخلك الذي تري هذا فيه وحدك؟ أنت متهم، فلابد أن يقيم عليك الحد الذي أوجبه الله عليك» [318] . و قد تروي هذه المسألة بصورة أخري و النتيجة واحدة في الجواب. [319] . [ صفحه 229]

الامام محمد الجواد... منظرا

بيئة الفكر الكلامي في عصر الامام

ازدهرت الحياة العقلية في عصر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، و كانت النهضة الحضارية قد بلغت قمتها في عهده. فقد أولاها الامام جهاده و جهوده، و ربي جيلا متحفزا من العلماء النابهين، و تزعم جمهرة من الفقهاء الأكابر، و ثقف طائفة من المتكلمين و علماء الاحتجاج، و درب ناشئة من المتلهفين علي تلقي المعرفة، و من هنا انطلقت الثقافة في فنونها المعددة تغزو الميدان الاجتماعي، ابتعادا عن المناخ السياسي المتعثر بالدماء و الحروب و الفتن و المؤامرات. و كان لهذا الانقلاب المفاجئ في حياة الأمة المسلمة أسبابه و مسوغاته و مؤثراته في كثير من الأبعاد و لعل الأستاذ نيكلسون من أبرع من صور ذلك تصويرا مقاربا للواقع من الناحية الاجتماعية فقال: «و كان لانبساط رقعة الدولة العباسية، و وفرة ثروتها، و رواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتي لقد بدا أن الناس جميعا... غدوا فجأة طلابا للعلم، أو علي الأقل أنصارا للأدب، و في عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيا الي موارد العلم و العرفان، ليعودوا الي بلادهم كالنحل يحملون الشهد الي جموع التلاميذ المتلهفين، ثم يصنفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شي‌ء [ صفحه 230] بدوائر المعارف، و التي كان لها أكبر الفضل في ايصال هذه العلوم الحديثة الينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل» [320] . و كانت حواضر العالم الاسلامي تعج بالعلماء و المتعلمين في كل من: مكة المكرمة، و المدينة المنورة، و الكوفة الغراء، و البصرة الفيحاء، و بغداد دارالسلام التي تميزت بكونها مقر الدولة، و ملتقي العلماء، و قبلة المهاجرين و الدارسين. يقول الدكتور غوستاف لوبون: «كان العلماء و رجال الفن و الأدباء من جميع الملل و النحل من يونان، و فرس، و أقباط، و كلدان، يتقاطرون الي بغداد، و يجعلون منها مركزا للثقافة في الدنيا» [321] . و كانت مدارس الافادة و الاضاءة غزيرة العطاء عند الفرق الاسلامية الثلاث: الامامية، و المعتزلة، الأشاعرة. الا أن مدرسة الامامية كانت أعمقها أصولا، و أرسخها جذورا، لأنها تستمد أصالتها من روافد جامعة أهل البيت عليم‌السلام، بما عرفت به من العمق و دقة الآراء التي فجرها الأئمة المعصومون متصلة برسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). فكانت علوم القرآن. و الحديث الشريف، و التفسير، و الفقه، و الأصول، و الفلسفة، و علم الكلام، و النحو، و اللغة، مضافا الي جزء كبير من العلوم الصرفة كالطب و الكيمياء و الفيزياء، و الهندسة، و الفلك، و الرياضيات من أبرز مظاهر التنوع الثقافي الذي حفل به عصر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام). [ صفحه 231] و كانت الأمة الاسلامية بأغلبيتها الساحقة تمثل التأييد الصامت لمدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و تستمد معارفها مها رغم الرصد و كثافة الرقابة و تحسسن الدولة. و كان المكر السياسي للسلطة العباسية يشجع الخوض بمتاهات علم الكلام، فهو يريد اشغال الأمة بنفسها عن نفسها، و يجدلها فيما بينها عن مشاكلها، و بتحزبها الكلامي عن تجمعها السياسي. و يبدو للبحث أن الهدف من وراء علم الكلام قد انحرف عن الخط الأساسي الذي يجب أن يسير عليه، فبدلا من أن تكرس الجهود لرد الزنادقة و الملحدين و المشككين، تحولت الي صراع غبي مقيت بين المعتزلة و الأشاعرة الي الحد الذي كفر بعضهم بعضا، و ليست تلك مهمة علم الكلام في أي حال من الأحوال. بينما وقفت الامامية موقف الحذر المتيقظ من هذا المناخ، فأعرض صفحا عن كثير من المهاترات، و اتجه اتجاها ايجابيا في نقض شبهات المنحرفين، و رد مزاعم الزندقة و الالحاد، و حمل علي المشككين ليعود بالمناخ الفعلي الي جذره التاريخي في الدفاع عن حوزة الاسلام. و مهما يكن من أمر، فأن الحياة الكلامية بايجابياتها و سلبياتها و تناقضاتها قد أبقت لنا ثروة حافلة بالابداع و عصارة الآراء، مما قد يعد خلاصة التجربة الاسلامية في الجدل و المناظرة و الاحتجاج. و كان الخط الهادئ المتزن يمتثل في أولياء أهل البيت عليهم‌السلام، فكان علم الكلام لديهم وسيلة الي دحض الشبهات، و ابطال [ صفحه 232] آراء المنحرفين، و قد برز من أساطينهم في هذا الفن جمع مشهود و له بالاستقامة و حسن التأني علي طول الخط الممتد من العصر الأموي حتي نهاية العصر العباسي الأول. و هي حقبة امتدت قرنين من الزمان في حضرة الأئمة و قيامهم بالأمر الالهي سبق لنا الاشارة اليه في كتبنا السابقة من هذه الموسوعة. «و الذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة، بل هي الي الصخب و الضجيج أقرب، و هي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق و جماعات و تكتلات... و كانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة، و هي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق، أبرم بنوده سلاطين الجور و أدعياء الفكر الوافد» [322] فانجر كثير من النزاع الي مداخلات غير بريئة. بيد أن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قد ابتعد بثقله الرسالي عن هذه المظاهر، و اتجه الي اصلاح ما فسد من عقائد المسلمين، و اثراء الشعلة الوهاجة في درب الموحدين كما ستري. [ صفحه 233]

قضايا التوحيد الالهي

من أبرز ملامح عصر الامام (عليه‌السلام) في مسائل علم الكلام، ما يتعلق بقضايا التوحيد، و ما يدور في فلك معرفة الله تعالي، و ما يثار حول أسماء الباري و صفاته، و ما يراد من معاني الألفاظ في الذات و الرؤية و التشبيه و التجسيم، و ما يجري هذا المجري من مصطلحات كلامية ولدتها حركة الترجمة للفلسفة الاغريقية لدي المسلمين، و أوجدتها موجات الامتزاج بين الشعوب المختلفة في ظل الاسلام نتيجة اتساع الدولة الاسلامية بالفتوح لبلاد المشرق و قصبات المغرب، و ما أثارته مدارس الشك و الارتياب لدي الوافدين علي الديار الاسلامية من أشتاب الجنس البشري، و ما زرعه أولئك الحاقدون علي مبادئ الشريعة الغراء، فسيروا الشبه و المقالات، و أوردوا الأسئلة الاعتراضية أو الاحتجاجية لكل ما هو جديد علي الساحة أو غريب عنها أحيانا. و لما كانت مهمة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) مهمة رسالية، فقد شمر عن ساعديه جدا و نشاطا و حيوية، فرد الشبهات، و صد الهجمات، و فسر ما يدور في معجم القوم من مصطلحات و اشارات، و فند ما جاء فيها من نزغات جارحة و اعتداءات صارخة، و أعاد الحق الي نصابه، و ذلك من خلال اجاباته و استدراكاته في الوصول الي حقائق الأشياء، باعتباره الامام المفترض الطاعة علي المسلمين، و هو المعني الأول و الأخير في عصره للذب عن أصالة الاسلام حينا، و الكشف عن قيمة و مثله العليا [ صفحه 234] حينا أخر، لهذا كان النضال في الميدان الكلامي أصلا من أصول جهاده العلمي الذي طبق الخافقين، و هو يؤكد هذا الملحظ، و يخلص الي الاشارة الصريحة لذاته في أولوية النصرة و الدفاع فيقول: «ان الله خلق الاسلام فجعل له عرصة، و جعل له نورا، و جعل له حصنا، و جعل له ناصرا، فأما عرصته فالقرآن، و أما نوره فالحكمة، و أما حصنه فالمعروف، و أما أنصاره فأنا و أهل بيتي»... [323] . و الامام في هذا الحصر يصدر عن واقعية لا مبالغة معها، و يؤكد علي جانب امامته فيه و في أهل بيته علي عادة الأئمة عليهم‌السلام في اعلان ذلك و التصريح به في أحلك الظروف رغم كل المخاطر التي تحيط بهذا التصريح الجري‌ء، لأنه بمثابة الثورة المضادة لكل ولاية ظالمة و خلافة مدعاة. و فيما نحن فيه من حياة المناظرة و الحوار الكلامي نجد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) فارس هذه الحلبة في عصره، و خريت هذه الصناعة في تمرسه. روي أبوهاشم الجعفري قائلا: كنت عند أبي جعفرالثاني (عليه‌السلام)، فسأله رجل - و يبدو أنه كان علي جانب من الفلسفة الالهية - فقال: «أخبرني عن الرب تبارك و تعالي، له أسماء وصفات في كتابه؟ فأسماؤه و صفاته هي هو؟ فانبري له الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) محللا و مبرمجا و مقسما، فقال: «أن لهذا الكلام وجهين، ان كنت تقول: هو هي، أي أنه ذو عدد و كثرة!! فتعالي الله عن ذلك. [ صفحه 235] و ان كنت تقول: لم تزل هذه الصفات و الأسماء، فان (لم تزل) يحتمل معنيين: فان قلت: لم تزل عنده فعلمه، و هو مستحقها، فنعم. و ان كنت تقول: لم يزل تصويرها، و هجاؤها، و تقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شي‌ء غيره، بل كان الله و لا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه و بين خلقه، يتضرعون بها اليه، و يعبدونه، و هي ذكره، و كان الله و لا ذكر، و المذكور بالذكر هو الله القديم، الذي لم يزل و الأسماء و الصفات مخلوقات المعاني، و المعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف و الائتلاف، و انما يختلف و يأتلف المتجزئ، فلا يقال: الله مؤتلف، و لا الله كثير، و لا قليل، و لكنه القديم في ذاته، لأن ما سوي الواحد متجزئ، و الله واحد لا متجزئ، و لا متوهم بالقلة و الكثرة، و كل متجزئ متوهم بالقلة و الكثرة فهو مخلوق دال علي خالق له. فقولك: ان الله قدير، خبرت انه لا يعجزه شي‌ء، فنفيت بالكلمة العجز، و جعلت العجز سواه، و كذلك قولك: عالم، انما نفيت بالكلمة الجهل، و جعلت الجهل سواه، فاذا أفني الله الأشياء أفني الصور و الهجاء، و لا ينقطع و لا يزال من لم يزل عالما. فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟ فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): «انه لا يخفي عليك ما يدرك بالأسماع!! و لم نصفه بالسمع المعقول بالرأس، و كذلك سميناه بصيرا، لأنه لا يخفي عليه ما يدرك بالأبصار من لون و شخص و غير ذلك، و لم نصفه بنظر لحظ العين. و كذلك سميناه [ صفحه 236] لطيفا لعلمه بالشي‌ء اللطيف مثل البعوضة و أخفي، و موضوع النشوء منها، و العقل و الشهوة للسفاد و الحدب علي نسلها، و افهام بعضها عن بعض، و نقلها الطعام و الشراب الي أولادها في الجبال و المفاوز و الأودية و القفار، فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف، و انما الكيفية للمخلوق المكيف. و كذلك سمي ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، و لو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق، لوقع التشبيه و لاحتمل الزيادة، و ما احتمل الزيادة احتمل النقصان، و ما كان ناقصا كان غير قديم، و ما كان غير قديم كان عاجزا. فربنا تبارك و تعالي لا شبه له و لا ضد، و لا ند، و لا كيف، و لا نهاية، و لا تبصار بصر، و محرم علي القلوب أن تمثله، و علي الأوهام أن تحده، و علي الضمائر أن تكونه، جل و عز عن أداة خلقه، و سمات بريته، و تعالي عن ذلك علوا كبيرا» [324] . و ينظر الي افادة الامام محمدالجواد (عليه‌السلام) في هذا العرض الفلسفي من خلال مستويين: المستوي الأول: كون الامام (عليه‌السلام) منظرا علي سوية عالمية بحيث استطاع من خلال اجابته الدقيقة المنظمة، و من خلال استدراك حيثيات الموضوع أن يستوعب قضايا التوحيد في جزئياتها المتشعبة، فلم يغادر صغيرة و لا كبيرة الا استقطبها شرحا و تفصيلا ملك علي المسائل سمعه و بصره. [ صفحه 237] المستوي الثاني: ان الامام (عليه‌السلام) بحث ما يسمي في علم الكلام بالصفات الثبوتية و السلبية، و استدل علي مفاهيمها بالدليل البديهي تارة، و بالاستقراء المنطقي تارة أخري، فالله سميع بصير لطيف، بمعني لا يشمل الحواس المتداولة و المعروفة فيما تعارفنا عليه، فهو سميع بمعني أنه لا يخفي عليه ما يدرك بالأسماع، و هو بصير بمعني أنه لا يخفي عليه ما يري بالأبصار، و هو لطيف بمعني علمه باللطيف الدقيق من حقائق الأشياء و أجناس المخلوقات و خفيات الأمور، و ما جري هذا المجري. و من هذا الباب سأله أحدهم: هل يجور أن يقال الله تعالي: انه شي‌ء؟ فقال (عليه‌السلام): نعم، و يخرجه عن حد التعطيل وحد التشبيه [325] . و من هذا القبيل ما سأله به محمد بن عيسي قائلا: اني أتوهم شيئا!! فأجاب الامام (عليه‌السلام): «نعم، غير معقول، لا محدود، فما وقع و همك عليه من شي‌ء فهو خلافه، لا يشبه شي‌ء، و لا تدركه الأوهام، و هو خلاف ما يتصور في الأوهام، انما يتصور شي‌ء غير معقول و لا محدود» [326] . و الامام (عليه‌السلام) يعالج المناظرة في صيغة كلامية واضحة بحيث يستوعبها السائل بحسب ثقافته و ادراكه، فتبدو له الاجابة يسيرة الفهم، واضحة البعد، دقيقة التشخيص، لا لبس فيها و لا ايهام. [ صفحه 238] سأله أبوهاشم الجعفري عن قوله تعالي: (لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار) [327] . فقال الامام محمدالجواد (عليه‌السلام): «يا أباهاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند و الهند والبلدان التي لم تدخلها، لم تدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون؟» [328] . و روي أن أحد أصحابه سأله عن معني الواحد، فقال (عليه‌السلام): اجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالي: (و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله...) [329] [330] . و في هذا السياق يسأله داود بن القاسم عن معني الصمد في قوله تعالي: (الله الصمد) [331] . فيقول الامام: «يعني المصمود اليه في القليل و الكثير» أي المقصود [332] . هذه الاجابات السريعة الموجزة لم تكن مرتجلة و لا اعتباطية ولكنها صادرة عن فكر تنظيري عميق ذي تجربة احتجاجية نادرة. [ صفحه 239]

الامام يناظر في السنة

و كما ناظر الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) في القرآن و شؤونه في ضوء قضايا التوحيد القائمة في مضمار التنظير الكلامي، فانه - (عليه‌السلام) - ناظر في السنة الشريفة، ورد الأحاديث الموضوعة، و فند الكاذب من الروايات، بأدلة عقلية و نقلية و استقراء لعوالم الحديث الشريف. فقد أورد فريق من المؤرخين أن المأمون بعد ما زوج الامام من ابنته أم الفضل، كان في احدي مجالسه، و عنده الامام (عليه‌السلام)، و يحيي بن أكثم قاضي القضاة، و جماعة آخرون من الوجوه و الأعيان و القادة. فقال يحيي بن أكثم للامام محمدالجواد (عليه‌السلام): ما تقول يا ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): في الخبر الذي روي أنه نزل جبرائيل (عليه‌السلام) علي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و قال: يا محمد، ان الله عزوجل يقرؤك السلام و يقول لك: سل أبابكر، هل هو عني راض؟ فاني عنه راض!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): لست بمنكر فضل أبي بكر، و لكن يجب علي صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) في حجة الوداع: «قد كثرت علي الكذابة، و ستكثر فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدة من النار، فاذا أتاكم الحديث فاعرضوه علي كتاب الله و سنتي، [ صفحه 240] فما وافق كتاب الله و سنتي فخذوا به، و ما خالف كتاب الله و سنتي فلا تأخذوا به». و ليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال تعالي: (و لقد خلقنا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب اليه من حبل الوريد) [333] فالله عزوجل خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتي سأل من مكنون سره؟ هذا مستحيل في العقول. ثم قال يحيي بن أكثم: و قد روي أن مثل أبي بكر و عمر كمثل جبرائيل و ميكائيل في السماء؟!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): و هذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرائيل و ميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط، و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد أشركا بالله عزوجل، و ان أسلما بعد الشرك، و كان أكثر أيامهما في الشرك بالله، فمحال أن يشبهما بهما. قال يحيي: و قد روي أنهما سيدا كهول أهل الجنة!! فما تقول فيه؟ فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): و هذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا، و لا يكون فيهم كهل، و هذا الخبر وضعه بنوا أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) في الحسن و الحسين بأنهما: سيدا شباب أهل الجنة. فقال يحيي بن أكثم: و روي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة!! [ صفحه 241] فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): و هذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، و آدم و محمد و جميع الأنبياء و المرسلين لا تضي‌ء بأنوارهم حتي تضي‌ء بنور عمر؟. فقال يحيي بن أكثم: و قد روي ان السكينة تنطق علي لسان عمر!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): لست بمنكر فضائل عمر، و لكن أبا بكر أفضل من عمر، فقال علي رأس المنبر: ان لي شيطانا يعتريني، فاذا ملت فسددوني!! فقال يحيي: قد روي أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: لو لم أبعث لبعث عمر!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (و اذا أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و ابراهيم و موسي و عيسي ابن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا) [334] فقد أخذ الله ميثاق النبيين، فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، و كان الأنبياء عليهم‌السلام، لم يشركوا طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك، و كان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟ و قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): نبئت و آدم بين الروح و الجسد. فقال يحيي بن أكثم: و قد روي ان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: ما احتبس الوحي عني قط الا ظننته قد نزل علي آل الخطاب!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): [ صفحه 242] و هذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و في نبوته، قال تعالي: (الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس...) [335] فيكف يمكن أن تنقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالي الي من أشرك به؟. قال يحيي بن أكثم: روي أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: لو نزل العذاب لما نجا منه الا عمر!! فقال الامام محمد الجواد (عليه‌السلام): و هذا محال أيضا، أن الله تعالي يقول: (ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون) [336] . فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و ما داموا يستغفرون الله تعالي. [337] . و هذه المناظرة التي فرضت علي الامام فرضا بقصد اثارة الصراع الانساني، أجاب الامام عن مفرداتها بالدليل العقلي تارة، و بالدليل النصي تارة أخري، دون أن تمس بأحد مسا عنيفا، و لكن أجوبته كانت مسكتة بحيث لم يتجرأ السائل أن يجد فيها مطعنا فيرد عليها، و انما أفحم افحاما لا متنفس معه. [ صفحه 245]

الامام محمد الجواد... شهيدا

الامام يتوقع الشهادة

حينما استدعي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) الي بغداد من قبل المعتصم بن هارون الرشيد، وصل اليها بعد أدائه مناسك الحج لليلتين بقيتا من المحرم عام عشرين و مائتين من الهجرة. [338] . و احتفلت بغداد بالامام احتفالا عارما، و التف حوله العلماء و الفقهاء و رجال الحديث وقادة الفكر الكلامي، و احتفي به المعتصم - ظاهرا- احتفاء عظيما، و فزع اليه طلاب العلم و رواد المعرفة، فكانت تلك الأيام مشرقة بهذا السراج الهادي الي النهج النبوي، و توجت بالعطاء العلمي الزاخر و الوعي المستفيض، و اشرأبت الأعناق الي هذا الشاب المعجزة تستلهم هداه، و تستوحي تعبيره النابض بشتي المعارف الاسلامية، و استبشر أتباع أهل البيت (عليهم‌السلام) بهذا الفتح المبين، و هم يرون ذلك الانبهار المتصاعد بشخصية الامام، و يستعمون لذك الثناء العاطر علي امكاناته الهائلة، و لم يكن ليدور بخلدهم أن الزمان سيجهز عليه بسرعة قياسية، الا أن الالتفات الشعبي حول الامام، و نفوذه الواعي في ضمير الأمة مما أغاظ البلاط العباسي، فبدأ يدبر المؤامرة النكراء لاغتياله. و قد كان الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قد استشعر بلمح غيبي دنو أجله في هذه السفرة، و توقع استشهاده بهذه الرحلة توقعا يعتد به تاريخيا، فقد روي عن اسماعيل بن مهران قال: «لما أخرج أبو [ صفحه 246] جعفر (عليه‌السلام) من المدينة الي بغداد في الدفعة الأولي من خرجته، قلت له عند خروجه: جعلت فداك، اني أخاف عليك من هذا الوجه، فالي من الأمر من بعدك؟ قال: فكر بوجه الي ضاحكا و قال: ليس حيث ظننت في هذه السنة!! فلما استدعي به الي المعتصم صرت اليه، فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج، فالي من هذا الأمر من بعدك؟ فبكي حتي اخضلت لحيته، ثم التفت الي، فقال: عند هذه يخاف علي!! الأمر من بعدي الي ابني علي» [339] . و هذا تنبؤ من الامام علي نحو غيبي استقاه - دون شك - من آبائه (عليهم‌السلام). و المعروف أن الامام (عليه‌السلام) كان في عنفوان شبابه فهو في الخامسة و العشرين من عمره، و لم يحدثنا التاريخ أنه كان يشكو من أي مرض أو عارض صحي قد أصابه، فهو سليم من الناحية الصحية، و ليس هناك أي سبب لموته المفاجئ الا ما دبره المعتصم له من الاغتيال. و الطريف جدا أن الامام (عليه‌السلام) قد حدد موعد وفاته و هو في عصر المأمون قبل عهد المعتصم، فعن ابن بزيع قال: قال أبو جعفر (عليه‌السلام): الفرج بعد المأمون بثلاثين شهرا. قال: فنظرنا، فمات بعد ثلاثين شهرا. [340] . [ صفحه 247] و في سنة وفاته (عليه‌السلام)، قال محمد بن الفرج: كتب الي أبوجعفر (عليه‌السلام): «احملوا الي الخمس فاني لست آخذه منكم سوي عامي هذا» فقبض في تلك السنة. [341] . و الأهم من جميع ما تقدم، ما صدر عنه (عليه‌السلام) ليلة وفاته مخبرا بها بما روي عن أبي مسافر، عن الامام (عليه‌السلام)، أنه قال في العشية التي توفي فيها: اني ميت الليلة، ثم قال: نحن معشر ا ذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نقلنا اليه. [342] . و هذا من غرائب الأمور في اطارها الاعتيادي، الا أننا اذا نظرنا اليها من ذلك الباب الذي علمه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لأميرالمؤمنين (عليه‌السلام)، و علمه أميرالمؤمنين لأبنائه المعصومين، ترفع الغرابة لأنه علم من ذي علم، استوعبه الأئمة عن جدهم (صلي الله عليه و آله و سلم). و حينما استشعر الامام (عليه‌السلام) بدنو أجله، كان لابد أن يتخذ الاجراءات الكفيلة بمواصلة مسيرة أهل البيت في مبدأ الامامة، فعهد الي ولده الامام علي الهادي (عليه‌السلام)، بما روه الخيراني عن أبيه: ان الامام الجواد بعث اليه رسولا قال له: «ان مولاك يقرأ عليك السلام، و يقول لك: اني ماض، و الأمر صائر الي ابني علي، و له عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي» [343] . [ صفحه 248] و كان الشيخ الصدوق قد روي عن الصقر قوله: «و سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه‌السلام)، يقول: ان الامام بعدي ابني علي، أمره أمري، و قوله قولي، و طاعته طاعتي» [344] . و ما روي في هذين النصين و سواهما، يعتبر أصلا في النص علي امامة ولده الامام علي الهادي (عليه‌السلام)، يضاف اليها الاخبارات السابقة و الأصول المدونة الأخري، و هو أي الامامية أجمع. [ صفحه 249]

كيفية اغتيال الامام

و الأمر المقطوع به الذي توصل اليه البحث أن الامام أبا جعفر محمد بن علي الجواد (عليه‌السلام) لم يمت حتف أنفه، و انما مات مسموما علي يد المعتصم العباسي. و قد اختلفت الرواية في كيفية سمه و طريق ذلك علي أقوال: 1- أجمل ابن بابويه الأمر فقال: سم المعتصم محمد بن علي (عليه‌السلام) [345] . 2- ان المعتصم أنفذ اليه شرب حماض الأترج تحت ختمه علي يدي أشناس، فقال للامام: ان أميرالمؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي داؤد سعد بن الخصيب، و جماعة من المعروفين، و يأمرك أن تشرب منها بماء الثلج، و صنع في الحال، و قال: اشربها... و أصر علي ذلك، فشربها عالما بفعلهم. [346] . 3- ان المعتصم، أمر أحد وزرائه بأن يدعو الامام الي منزله علي وليمة فدعاه... فلما صار اليه طعم منها، فلما طعم أحسن السم، فدعا بدابته و ذهب الي داره، فلم يزل يومه ذلك و ليله، في خلفة (الهيضة و انطلاق البطن) حتي قبض (عليه‌السلام) [347] . [ صفحه 250] 4- ان المعتصم جل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر الجواد (عليه‌السلام)، فأشار علي ابنة المأمون زوجته بأن تسمه، لأنه وقف علي انحرافها عنه... فأجابته الي ذلك، و جعلت سما في عنب رازفي، و وضعته بين يديه، فلما أكل منه ندمت و جعلت تبكي... و مات الامام سميما. [348] . 5- و روي المسعودي: أن جعفر بن المأمون قد حرض و أغري زوجة الامام أم الفضل - و كانت أخته لأمه و أبيه - علي أن تدس السم الي الامام ففعلت ما طلب منها. [349] . و مهما يكن من أمر فقد استشهد الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) مسموما، و فاضت روحه المقدسة، و التحق بالشهداء و الصالحين و الصديقين و حسن اؤلئك رفيقا. و كانت وفاته يوم الثلاثاء باتفاق المؤرخين [350] و الأشهر و الذي عليه العمل و ترتيب الآثار أنه توفي في آخر ذي القعدة الحرام عام عشرين و مائتين. [351] . و قيل أنه توفي في الحادي عشر من ذي القعدة. [352] . و قيل أنه توفي في الخامس أو السادس من ذي الحجة [353] . [ صفحه 251] و أني كان يوم الوفاة، فقد ذهب الامام أبوجعفر محمد بن علي الجواد (صلوات الله عليه) شهيد صلابته و قيادته الفذة، و صريع مواهبه و كفايته النادرة، و له من العمر خمس و عشرون سنة. قال محمد بن سنان: قبض أبو جعفر محمد بن علي، و هو ابن خمس و عشرون سنة، و ثلاثة أشهر، و اثني عشر يوما، سنة عشرين و مائتين، عاش بعد أبيه تسع عشرة سنة الا خمسة و عشرين يوما. [354] . و كونه عاش بعد أبيه تسع عشرة سنة يعني أنه تولي منصب الخلافة و عمره ست سنوات. بينما ذهب آخرون أن مدة امامته سبع عشر سنة. أو ثماني عشرة سنة الا عشرين يوما. [355] . [ صفحه 253]

دوافع اغتيال الامام

مني الحكم العباسي بهزيمة كبري بين يدي الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، في الوقت الذي أراد به النظام تصيير الامامة في نظر الشعب المسلم أضحوكة، و ولاية أهل البيت في نظر أتباعهم ألعوبة، و ذلك للقول بامامة هذا اليافع الدارج في سنواته السبع!! و اذا بهم يفاجئون بسيل متحدر من الأعالي يغمر التلاع و التلال و الأباطح بالعلم و المعرفة و الافاضة الانسانية المترامية الأطراف، و اذا بهذا الصبي الامام يصبح أعجوبة الزمن و حديث الجيل المعاصر، و اذا بشيوخ الاسلام تنحني أمام عظمته الكبري، و اذا بأساطين العلم شاخصة الأبصار و هي ترنو اليه خاشعة و اذا بقادة الفكر و أرباب الكلام يتطلعون الي مزيد من الأفكار الجديدة، و الامام يتحدث الي هذا الجمع الحاشد من العلماء بنظر ثاقب و قلب ثابت، تتفجر الحكمة ببيانه، و ينطلق صوت الحق مدويا بلسانه، صلبا لا يتزلزل، و شامخا لا يتداني، حتي انهزم الجمع و ولو الدبر!! و لو أردنا استقراء الحوادث المحيطة بحضرة الامام (عليه‌السلام)، لوجدناها تنبئ جميعا بمخطط القضاء عليه مبكرا، و ذلك مما يمثل دوافع اغتياله و أسباب قتله المفجع. و بامكان البحث تشخيص جملة من هذه الدوافع و الأسباب، في نقاط قد تستوعب الجزء الأكبر منها في تلخيص مركز: 1- كان الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) لدي تبرعم شبابه قبلة القاصد و الوارد من طلاب العلم و رواد المعرفة الحقة المسائل الشريعة و أحكام [ صفحه 254] الدين، و هم يتوافدون زرافات و وحدانا شطر سدته المنيعة بالتأييد الالهي، و كان هذا التلاحم في التوافد، و الاندفاع في القصد اليه بأعداد كبيرة مما يثير غضب الحاكمين و سخط المتنفذين، فتألبت عليه السلطات الجائرة و أجهزتها الأمنية، و أسرعت بحبك المؤامرة الكبري لاغتياله. و علاقة تفوق الامام العلمي باستشهاده علاقة وثيقة الصلة، لأن من أوليات المتصدي للخلاقة الالهية الشرعية، و قيادة جماهير الشعب المسلم في ذلك الاتساع الجغرافي و الامتدد علي طول البلاد الاسلامية و عرضها، لابد أن يتسلح - بادئ ذي بدء - بالعلم النابض المتحرك مع متطلبات الزمن و الحضارة، و لابد له من الكفاية العالية في الأداء و البيان لتلبية متطلبات الشعوب الاسلامية في معرفة فروع الأحكام و مسائل الشريعة، و هذا هو المتوافر بغزارة معمقة بأكثر من المتصور لدي الامام الجواد (عليه‌السلام)، و هو المتوقع من أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) في الشعور العام، فاذا دعم ذلك الشعور بالتطبيق الخارجي كانت النظرية متكاملة الأبعاد، بينما مركز الخلافة الرسمي المتمثل بسلطان الزمان قد ثبت خسرانه في هذا المجال، فهو صفر الكفين من أبسط مقومات هذا الجانب. 2- كانت ردة الفعل الشعبية علي هذا الاكتشاف السريع الذي لا يحتاج الي الصبر و الاطالة. ان تعلق الشعب المسلم بالامام محمد الجواد في الاضاءة و الانارة لمعالم الطريق السوي في الهدي و الرشد، فحينما استدعي الي بغداد من قبل المعتصم كان التفاف الفقهاء و العلماء و حملة الفكر الانساني المجرد من التعصب منقطع النظير حوله، و كانت الفروق المميزة بين المناخ العقلي الذي يحمله الامام، و بين الأفكار العشوائية التي [ صفحه 255] مني بها قادة النظام تحتم اضطلاع الصفوة المثقفة بعب‌ء التمييز بين المؤشرين: الصاعد المتطلع في الرؤية، و الهابط المتخبط في الانحراف، و النظام يعي ما في هذا من الخطر المحدق الذي يدفع بالأمة الي تزلزل عقيدتها بصلاحية رجال الدولة، و هم يتربعون علي عروشها باسم الاسلام، و لا يحيطون بأدني الضروريات معرفة منه، فما علي السلطان بعد هذا الا أن يتخلص من الامام عاجلا، و بالقضاء عليه. 3- و في ضوء ما تقدم فان الاشكاليات ازدادت ضراوة ضد الامام من قبل السلطان، كما ازدادت القواعد الشعبية التصاقا بالامام (عليه‌السلام)، فالسلطان يكيد له و يمكر به، و الشعب المسلم يتمسك به أساسا راسخا قد تمكن من القلوب و استولي علي المشاعر و الأحاسيس. هذه المفارقة في كل تبعاتها المحزنة و المفرحة، و لدت جوا من الحساسية الملتهبة في المناخ السياسي و الشعبي، فالموازين في الأحكام السلطانية و النظم الاسلامية لها موقفها الصريح في الحكم للامام، اذ الولاية الالهية لا تنطبق الا عليه من خلال ضروريات الدين، و هو ما توصل اليه الواعون من الوسط الشعبي المستقل، و التفكير السياسي يري في هذا التقرير الخطر كل علي مراكز الدولة و ذات السلطان، و في مثل هذه المعادلة يكون التخلص من حياة الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) قضية مركزية للحكم. 4- كان للوشايات و تقريرات الأجهزة المسؤولة عن الأمن أثرها الفاعل في تأليب النظام الحاكم علي الامام، فهي تفتعل و تتقول و تفتري تقربا للنظام بما لا أصل له، و هذا جار في كل زمان و مكان لدي الأنظمة [ صفحه 256] الدكتاتورية التي تتراءي لها أشباح الهزيمة في كل بادرة، فالامام لا يحاول حكما، و لم يسع الي سلطان، و المعنيون بحفظ النظام يحاولون تأكيد التهم ضد الامام، و يكاد المريب أن يقول خذوني، و من هذه المقولة كان التخوف جاثما علي صدور الحاكمين، يضاف الي ذلك الأحقاد المتأصلة و الكراهية لأهل هذا البيت في مسلكهم الداعي الي العدل الاجتماعي، و حقوق الانسانية، و المساواة بين أبناء الشعب الواحد، و هذا ما يطوح بأحلام حكام الزمان الذين اتخذوا عبادالله خولا، و دينهم دخلا، و مال المسلمين دولا، فاجتمع هذا و ذاك في لا تفكير جديا بالقضاء علي الامام و هو في أول شبابه، و أوج نشاطه القيادي، و هو ما حصل علي يد المعتصم بن هارون الرشيد!! 5- كان الأثر الاجتماعي الفريد لسلوك الامام في حياته المتواضعة، و زهده الواقعي في فطرته الذاتية، و خلقه الرفيع في مثله العليا، مثار جدل كبير ازاء غطرسة السلطة، و كبريائها، و جبروتها، و اسرافها، و تبذيرها، و كان هذا الجدل يصب في رافد الامام عائدية، و كأنه التصويت الصامت علي أحقية الامام بادارة الدولة الاسلامية، فالامام يعيش حياة المسلم الاعتيادي في كل مظاهرها البسيطة، في البيت و المسجد و المحافل العامة، و في الممارسات السكنية و الغذائية و الألبسة والأثاث و متطلبات الحياة، و الحكام يتراوحون في ذلك البرج العاجي بين لهو و عبث و مجون، يرتكبون المحرمات و يسعون الي اللذائذ، و يتحينون الفرص للاقتناص الشهوة المحرمة و اللذة المشبوهة، و الارتماء بأحضان الجواري و القيان، و احياء [ صفحه 257] حفلات الرقص و الغناء، و اعمار موائد الخمور و الفجور، عدا الظلم الفاحش و الطغيان المستيطر. و يبقي الشعب المسلم في فصائله الواعية و شرائحه المختلفة مبهوتا تجاه هذه الفوارق الفجة في كل شي‌ء!! و هذه مشاهدات ميدانية لها وزنها الوثائقي لدي من ألقي السمع و هو شهيد، و هو مما ازدادت معه شعبية الامام، و تلاشت به هيبة السلطان. و شعر الحكم العباسي بهذه المسألة الخطيرة، و عليه أن يتأهب بجهد حثيث يصور الحاكم بأنه خليفة الله في أرضه و ان ظلم العباد و مزق البلاد، و تقف ثقافة الامام الرائدة ضد هذا الاتجاه الجبري، و يعود الحكم الي حل لمشكلته المتفاقمة، و لا حل لديه سوي القضاء علي الامام و هكذا كان. و اخترم عمر الامام و هو في ريعان شبابه، و سلامة من صحته و بدنه، و باستشهاده تنطوي تلك الصفحة المشرقة التي أنارت الدنيا بشعاعها الهادي. و سيظل الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) شعلة وضاءة تذكي حرارة النضال العلمي، و جذوة متوهجة تهدي الي الله تعالي. و العاقبة اللمتقين. [ صفحه 259]

تشييع جثمان الامام و دفنه

جهز بدن الامام، و غسل طبقا للموازين الشرعية واجبها و مستحبها، و أدرج في أكفانه الطاهرة، و قد تناهي خبر استشهاده الي أحياء بغداد و القصبات المجاورة، فخف لتشييعه الناس علماء و فقهاء و جماهير، و حمل الي مثواه الأخير - و الجثمان علي أعناق الرجال - الي مقابر قريش في الكاظمية المقدسة، و دفن في جوار جده الامام موسي جعفر (عليهماالسلام)، و هي مسألة اجماعية نص عليها جميع من ترجم للامام محمد الجواد فكانا جنبا الي جنب في مضجع طاهر تجللهما السكينة، و تباركهما الطمأنينة بعناية الهية «حيث مثواهما الزاهر و مرقدهما المقدس الذي أصبح محجة لزيارة الناس من كل حدب و صوب، و معلما يزهي حتي اليوم بصرحه الشامخ و قبتيه الذهبيتين، [و منائره الأربع] و بنائه الحاوي لبدائع الفن و الريازة و الزركشة، و روائع ضروب التطعيم الفضي و الزجاجي البالغ أسمي مراتب الجمال المدهش و الحسن الأخاذ» [356] . يقول الامام الشيخ راضي آل ياسين قدس سره: «اذا وقفت داخل حرمه المقدس صرت في روضة كبيرة، طولها من القبلة الي الجوف أربعة و عشرون مترا، و عرضها من شرق الي غرب عشرة أمتار، و في وسط هذه الروضة الضريح الفضي يغشي العيون و ميضا و نورا، و هو [ صفحه 260] يشغل من هذه الساحة سبعة أمتار من القبلة الي الجوف طولا، و خمسة أمتار عرضا، و يرتفع عن الأرض أربعة أمتار تقريبا، و بابه في وسط جهته الشرقية... و داخله صندوقان مفروش عليهما الفضة... و الصندوق الذي في جهة القبلة منهما هو مرقد الامام موسي بن جعفر و الآخر مرقد الامام محمد الجواد عليهم‌السلام» [357] . و في المبحث الآتي عرض تفصيلي مكثف عن المشهد. [ صفحه 261]

مشهد الامام محمد الجواد في الكاظمية المقدسة

الكاظمية المقدسة روضة غناء تحيط بها أزاهير الرياحين، و تتخللها حدائق الورد، و لتعمرها البساتين الفارعة في أشجارها و نخيلها، و يكاد أن يحيط أراضيها نهر دجلة من ثلاث جهات تستدير عليها، ينعش من هوائها، و يطيب مناخ أجوائها، حتي عادت مصطفافا و مرتعا، و فيها البناء التراثي في عمارتها القديمة، و فيها البناء الجديد في طوابقه و مدارجه، و من حولها البيوت الفارهة و القصور المعتدلة في تنظيمها و اصطفافها، و قد اتسعت في العمارة و البناء حتي كادت تبلغ العطيفية شرقا، و التاجي جنوبا، و سواهما شمالا و غربا، و في وسطها يربض مشهد الامامين موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و حفيده الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) و هو من الخارج حتي الداخل عبارة عن صحن كبير بين الاستطالة و التربيع، ذي جدار ضخم و سور عال علي أساس متين من الآجر و الطابوق الأثري القديم، بنيت من داخله غرف من جهاته الأربع يأوي اليها الزائرون عند الحاجة، و فيها المكتبات و مقرات بعض العلماء و رجال الدين، و عادة ما يدفن فيها العلماء و أهل الدين و الأشراف و أعيان الشيعة، و أمام كل غرفة ايوان بمساحة أربعة عشرا مترا تقريبا بلطت باحته بالرخام، و غلفت جدرانه بالكاشاني المقرنص و المزركش و المزجج، و يحتوي الصحن علي عشرة أبواب للداخل اليه و الخارج منه. و قد وصف الشيخ راضي آل ياسين الصحن بقوله: «و هو محل متسع الساحة ذرعه من شرق الي غرب 130 مترا، و طوله من جنوب الي شمال [ صفحه 262] 135 مترا، و قد أحيط بسور بنيت في وجهه الغرف و الايوانات، فأشغلت من سعته مستديرا عرضه سبعة أمتار، و أرضه المحفوفة بالايوانات و الغرف مفروشة كلها بالمرمر، و في باطنها سراديب محكمة البناء... طولا و عرضا و عمقا، و هي مرتبة بأشكال لطيفة و نقوش طريفة، و في جبهة هذا السور كتيبة فائقة الحسن، و بقلم ثلثي تقرؤ بعض سور القرآن المجيد، و تنتهي بالزاوية التي بالشمال الغربي لصحن المراد... و تشق في هذا السور الايونات التي في وسطها الغرفات، فتراها مرتبة منظمة تروق العيون، و هي (86) ايوانا و (75) غرفة و ذلك لأن بعض مواقع الايونات اتفقت مداخل للصحن، ففي الجبهة القبلية ثلاثة و عشرون ايوانا، منها ايوانان صغيران في الزاويتين، و اثنتان و عشرون غرفة لمكان الباب الكبير أواسط هذه الجهة. و في الجهة الشرقية ثلاثة و عشرون ايوانا، منها أربعة صغار في الزاويتين و في جانبي الباب الكبير، و تسع عشرة غرفة لمكان البابين الصغير و الكبير... و في الجهة الغريبة ثلاث و عشرون ايوانا، منها أربعة صغار كما في الصحن الشرقي، و احدي و عشرون غرفة لمكان البابين الكبير و الصغير في هذه الجهة. و في الجهة الشمالية أربعة عشر ايوانا و اثنتا عشرة غرفة لمكان البابين الشماليين» [358] . و يفضي الصحن الشريف الي طارمات ثلاث مسقفة ببناء ضخم، و قد زينت بالنقوش الثمينة بالذهب و الفضة و الازورد و (العينة كاري) و هي قطع المرايا الصغيرة المصنوعة بأشكال هندسية عاكسة ثلاثية و رباعية و خماسية و سداسية. و هذه الطوارم الثلاث هي: [ صفحه 263] 1- طارمة باب المراد، و هي الطارمة الشرقية. 2- طارمة قريش، و هي الطارمة الغربية. 3- طارمة القبلة، و هي الطارمة الجنوبية. و قد وصفها جميعا بأحجامها و أشكالها و كتابات جدرانها الشيخ آل ياسين. [359] . و يتخلل كل طارمة ايوان ذهبي أو زجاجي علي نمط فريد من الأحكام و الهندسية المعمارية، و تفصل هذه الطوارم بجدار أروقة الحرم الشريف، عن طريق الأبواب الذهبية التي توصل ايوان الطارمة بالرواق المفضي الي الحرم المطهر، و أكبرها طارمة (باب المراد) المسماة تبركا بلقب الامام محمد الجواد (عليه‌السلام). و هذه الأروقة جميعها يفضي بعضها الي بعض من جهات الحرم الشريف الأربع، و كلها مبلطة بالرخام الثمين المرمري، و جدرانها مزينة بالرخام النفيس الي ارتفاع أكثر من مترين، ثم تبدو الجدران و السقوف كلها مزينة و منقوشة بالمرايا و الزجاج المقرنص و المقطع بأشكال هندسية خاصة تسمي بالعرف (العينة كاري) و هذه الأروقة ثلاثة سميت بأسماء الجهات التي تتجه اليها و هي الرواق الشمالي، و الرواق الغربي و الرواق الشرقي، و هي تتصل بالروضة المقدسة للامامين الكاظم و الجواد (عليهماالسلام) من خلال عدة أبواب، أهمها أبواب الرواق الشرقي، و بينه و بين الحرم بابان، و يتصل من جهته الشرقية بطارمة باب المراد عدة أبواب هي: الباب الشمالي، و الباب الجنوبي، و الباب الأوسط. [ صفحه 264] و ليس بالامكان عزل الامام الكاظم عن حفيده الامام الجواد في حديثنا عن الحرم الكاظمي الشريف، فقد اضطم علي جثمانيهما الطاهرين، و هي فرصة نتحدث بها عن الضريحين المباركين و توابعهما بحسب الاجمال باذن الله تعالي. و الروضة المقدسة قد وصفها وصفا ميدانيا دقيقا سماحة الأخ الشيخ محمد آل ياسين بقوله: «و نعني بها (الروضة) [360] ذلك الفضاء المحيط بالضريح داخل المشهد مما اصطلح الناس علي تسميته ب (الروضة) و هي تنقسم الي قسمين أو روضتين: جنوبية، و تدعي روضة الامام الكاظم (عليه‌السلام). و شمالية، تدعي روضة الامام الجواد (عليه‌السلام). و يصل بينهما من الشرق الغرب طريقان ضيقان، و يقع الضريح المطهر في الوسط بين الروضتين. ان طول الضريح الفضي (6. 74 م) و عرضه (5. 17 م) و ترتفع أعلي نقطة فيه قرابة ثلاثة أمتار و نصف المترعن الأرض، و هو مشبك و منقوش علي نحو جميل جدا... و قد أقيم علي الضريح علي قاعدة من الطابوق و الاسمنت مغلفة من خارجها بالرخام، تعلو عن أرض الروضة 22 سم، و يعلو فوقها [ صفحه 265] المشبك، بارتفاع 142 سم، و بعرض 107 سم لكل نافذة منه، و يفصل بين كل نافذة و أخري فاصل أو عمود مطلي بالفضة بعرض 20 سم. و في سنة 1385 ه وضعت كتيبة قرآنية بعرض 24 سم فوق الشبابيك متصلة بها، و قد صنعت قاعدتها من الميناء، و كتبت عليها بالذهب سورتا الدهر و الفجر. ثم تأتي فوق هذه الكتيبة نقوش ذهبية تدور حول الضريح كله بارتفاع حوالي 130 سم، و قد تم صنعها عام 1378 ه و كانت قبل ذلك من الفضة. و يقع باب الضريح في وسط جهته الشرقية، و بداخل الضريح (الصندوقان الخشبيان) الموضوعان علي القبرين الشريفين، و هما صندوقان كبيران متساويان في الهيئة و الحجم، مسطحا أشكل، من الخشب الجيد المتين، طول كل منهما نحو ثلاثة أمتار و نصف المتر، و عرض كل منهما نحو مترين، و كذلك ارتفاعهما، و هذه الأبعاد تقريبية. و كل صندوق منهما يتكون من أربعة ألواح كبيرة، و ثمانية ألواح صغيرة، متصلة بأطراف الألواح الكبيرة، أي أن كل جهة من جهات الصندوق الأربع تتكون من ثلاثة ألواح، أحدها كبير في الوسط، و في كل طرف منه لوح صغير تعلوه الأفاريز المزخرفة و المزينة بالنقوش و الكتابات، و كل لوح منم هذه الألواح الصغيرة و الكبيرة مكون من عدد كبير من قطع صغيرة صنعت بأشكال هندسية مختلفة و متنوعة، تتصل مع بضعها فتتداخل و ترتبط بمتانة و احكام حتي يتكون منها لوح واحد منسق يحيط بأطرافه الأربعة اطار مزخرف ينتهي بالأفاريز، يعلوها الغطاء، و هو محاط بافريز بارز، و كل قطعة من تلك القطع الهندسية الصغيرة زخرف و زينت بنقوش هندسية و زهرية، و نقوش أخري مختلفة بالحفر و التطعيم و التلوين. [ صفحه 266] و تكاد تكون زخرفة كل لوح تختلف عن اللوح الآخر، و قد عرف هذا النقش بنقش (الخاتم) و هو أدق و أجمل نقش معروف. و قد استعمل للزخرفة و التطعيم خشب الآبنوس، و العناب، و الليمون، و الصاج، و عظم العاج، و الجمل، و الحصان، و الأصداف، و سبائك البرونز، و المعادن الملونة، من مذهبة و مفضضة، و الأصباغ المعنوية الملونة البراقة، و دهن الصندلوس، و مواد دهنية أخري، الي غير ذلك مما لا يمكن استيفاء و صفة، كما تزين بعض الألواح كتابات نسخية مركبة متداخلة بأحرف بارزة واضحة جميلة، و قد كتب بعض الكلمات بالخط الكوفي علي طريقة النقش للتزيين»... [361] . و ليس فيما تقدم وصفه مبالغة أو اضافة، بل هو واقع مشاهد ميدانيا أدركناه بأنفسنا، و لو سمح للخيال أن يتأنق باختيار ألفاظ الوصف لما فيه من الابداع و حسن الصنعة، لفاق الوصف هذا القدر من الاضاءة و التنوير. «و الصندوقان مغلفان بالزجاج السميك حماية لهما من الغبار، و قد شارك في نفقة هذا الزجاج كل من الحاج عبدالهادي الچلبي الكاظمي و الحاج محمد علي أبو الصمون. و سقف الضريح من الداخل من الخشب الساج الجيد المصنوع علي شكل نقوش هندسية و زهرية... ان طول كل روضة عشرة أمتار و اثنان و ستون سنتمترا، بعرض سبعة أمتار و خمسة و خمسين سنتمترا، و طول كل من الطريقين الموصلين بين الروضتين 6.74 م بعرض 1.17 م. [ صفحه 267] و الروضة بقسميها و طريقيها مبلطة بالرخام الجيد، و تزين جدرانها من الأرض الي ارتفاع 140 سم قطع الرخام أيضا، و قد تم عمل هذا الرخام في 25 محرم الحرام سنة 1370 ه. لم يلي الرخام كتابة قرآنية بعرض 75 سم، و تبدأ بعدها النقوش الزجاجية الرائعة المسماة ب (العينة كاري) مرتفعة علي الجدران الي باطن القبتين المنقوش بنفس بالكاشاني الجميل، و في أعلي الروضتين نوافذ للتهوية و النور تنفذ الي سطح الحرم، و يرتفع كل واحد منها حوالي مترين، و فوق هذه النوافذ من الخارج كتيبة قرآنية من الطابوق الكاشاني بعرض 60 سم، تدور حول سطح الروضتين، و قد جددت سنة 1387 ه. والقبتان و الماذن الأربعة الصغيرة مغلفة - بأجمعها - بالذهب، و كذلك المآذن الأربعة الكبيرة في قسميها العلوي من مكان وقوف المؤذن فيها الي قمتها. و علي الرغم من عدم استطاعتنا تحديد ارتفاع القبتين و المآذن و ضبط قطر كل منها، فقد علمنا من بعض المطلعين أن عدد الطابوق الذهبي في كل قبة سبعة آلاف طابوقة بامتداد 20 سم ضربدر 20 سم لكل واحدة» [362] . هذه قبسات لامعة - قد تكون مفيدة - من تاريخ المشهد الكاظمي ضمت بين دفتيها أبعادا وصفية ميدانية لضريحي الامامين العظيمين موسي بن جعفر و محمد الجواد (عليهماالسلام) و هي تسجل جزءا من التطور التاريخي الجاري علي المشهد في نظرات سريعة. و هنا ينبغي أن نشير أن سيدنا الأستاذ الامام السيد أبوالقاسم الخوئي «قدس سره»، قد أوعز قبل ربع قرن من الزمان باقامة ضريح [ صفحه 268] جديد نفيس للروضة الكاظمية المقدسة، و تصميم ذلك وفق أحدث المواصفات الفنية التي تتوافق و معالم التطور الحضاري في صنع الضرائح جدة و هندسة و براعة و مادة مزيجة بين الذهب الخالص و الفضة المنتقاة، و لوائح الزجاج المرمري النفيس، و صفائح الساج الثمين، و قد حالت الحكومة البائدة والحرب العراقية الايرانية عن وصوله الي الكاظمية، و قد علمت - اجمالا - بأنه صنع بأمانة و اتقان علي أيدي أمهر الصناع و العملة و المهندسين المتخصصين في العالم. و في عام 2004 م قدمت لجنة من العلماء و التجار و أرباب الصناعة و رجال الفن، و كان من بينها صديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الروحاني - كما أخبرني بذلك و هو أحد تلامذة سيدنا الأستاذ الخوئي «طاب ثراه»، و هم يحملون الضريح المطهر بصناديق و خزائن محكمة لغرض القيام بنصبه. و قد تم نصبه في موقعه من الروضة الكاظمية المباركة علي القبرين الشريفين منذ عام علي ما حدثني به ولدنا المفضال الشيخ حسين آل ياسين «دام مجده»، و لم أستطع الوقوف علي ذلك بنفسي، فقد حالت برامج الارهاب الدموي، و جرائم القتل السياسي و الطائفي عن سفرنا الي بغداد و الكاظمية منذ سقوط النظام و حتي اليوم: الجمعة 11 / شوال / 1427 ه مساوي 3 / 11 / 2006 م. و الله المستعان، و هو حسبنا و نعم النصير. [ صفحه 269]

قصيدتان للمؤلف في الامام

اشاره

نظم المؤلف قصيدتين في مدح الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) كانت الأولي بتاريخ نيسان عام 1976 م، و كانت الثانية بتاريخ 5 / 4 / عام 1999 اثر شفائه من عملية جراحية كبري تعرض بعدها لمضاعفات أشرفت به علي الموت فنذر لله تعالي ان هو شافاه أن يحيي الامام محمد بن علي الجواد بقصيدة فكان ذلك. القصيدة الأولي، و عنوانها: [ صفحه 270]

الامام محمد الجواد

سموت... و أنت سر في اعتقادي بمنزلة الشغاف من الفؤاد و رمز للأصالة و التسامي و فيض للاحاطة و السداد و كنز من كنوز العلم أضفي علي الآفاق باب الاجتهاد و ركب من فتوة هاشمي حثيث الخطو... صلب الانقياد ركينا... لم تزلزله الرزايا و قد لاقي صنوف الاضطهاد و تعركه الصروف فيحتويها حديد الطرف... ممتنع الرقاد يدير الحق في عزم و حزم و يمضي الأمر في أي اعتداد لقد نفست بك الدنيا فريدا فحزت المجد فيها بانفراد تعج بك المآثر و المعالي و تفتخر الحواضر و البوادي رأي التاريخ فيك عميد دين رفيع الشأن... منتصب العماد فقلدك الخلود... و كنت فذا بعيد الغور... رحب الامتداد تجلي نورك الألق اتقادا فغطي كل نور و اتقاد فأنت لكل مكرمة فتاها و أنت الصوت فيها و المنادي سليل محمد... و فتي علي و صنو طريف مجدك و التلاد فما «سقراط» الا مستمد لحكمتك المنوطة بالرشاد و «رسطاليس» قد قصرت يداه و «افلاطون» دونك في العداد [ صفحه 271] و كل فضيلة رسمت... تنادي بفضلك... و الشمائل... و الأيادي أراد الله رفعك سرمديا فأني تستطيل يد العباد؟ و أني يستعيد الشعر معني؟؟ و أنت بكل معني مستعاد اذا العلماء قد منعوا حديثا فقد نشرت فضائلك الأعادي و ان حبس اللسان القول عيا فمجدك ناطق في كل ناد و ان عصفعت بمغناك الرزايا فذكرك سائر بين البلاد تؤم ضريحك الأرج المندي و فود الله من حضر و باد فيعمر بالصلاة و بالتناجي و يزهر بالدعاء و بالسهاد كأن المسك ضمخ جانبيه بأشذاء الروائح و الغوادي يباكره الندي غضا ذكيا و يسقي روضه صوب العهاد (أبا الهادي) سلام الله يسري علي تاريخك النضر المعاد و عمر بالصلاح قضي شبابا ذخيرته المزيد من الجهاد كأن الخمسة العشرين عاما حياة معمر صلب القياد كشف بها عن الأمد المجلي و طلت بها الجياد من الطراد سديد الرأي... لم تهدأ عصوفا يحيل رؤي الطغاة الي رماد و يعتصر النضال يحف عودا ليوريه بأي شبا زناد و يدفع بالضمير... و قد تهادي: الي لقيا مراح مستراد الي كنف الرجولة و المعالي و أروقة المروءة و النجاد فكان النبل مندفعا سيولا و كان الفضل يزخر بازدياد [ صفحه 272] و سار العلم في ركب وقور صليب العود... مخضر المداد فللتاريخ ما أبقي جهاد و للأجيال أصداء الجلاد لقد ضمدت جرح الدين فيه و هل تؤسي الجروح بلا ضماد فأنت (العروة الوثقي) بحق و حصن الله في الكرب الشداد و (باب للحوائج) جئت أسعي اليه... فطاب لي نيل المراد و سرت علي خطاه بلا انحراف و صرت علي هداه بلا ارتداد علي باب الجواد أنخت ركبي فكان الفتح في (باب الجواد) و لا عجب... فقد قالوا قديما: (و فدت علي الكريم بغير زاد) [ صفحه 273]

فتي الرضا

أما القصيدة الثانية للمؤلف في الامام محمد الجواد (عليه‌السلام)، فعنوانها: فتي الرضا... لاحرمنا منك مكتسبا و أنت في الله ما أعطي و ما وهبا تستلهم النعمة الكبري... فتمنحها قلبا جريحا... و فكرا و اجما و صبا تشيع فيه حياة الخير فارهة و تسترد عليه كل ما سلبا تهدي الي الحق في عليائه غدقا و تحمل الصدق... اما حالفوا الكذبا سيرتها حكما في الكون غامرة من شئت مهتديا أو شئت محتسبا تلود فيك الليالي من جرائرها و تستجير بك الأيام منقلبا أنت الامام الذي ترجي شفاعته يوم القيامة... أما برة و أبا زورا (الجواد) و أموا قدس ساحته فكل فخر الي أمجاده انتسبا تجاوز الدهر تاريخا و فلسفة و راح ينشد هذا العالم الرحبا كالفجر تستقطب الدنيا أشعته و البحر يرسل في أمواجه السحبا فكر (الأئمة) نور يستضاء به يضم متقريا منا و مقتربا محلقا في الذري... لم يلف شائبة و لا ثقلت في الميزان و اضطربا و فيضه كشعاع الشمس في فلك علي سرادق (أهل البيت) قد ضربا في الأرض منه ترانيم و هيمنة و في السماء دوي يخرق الحجبا [ صفحه 274] و في (الجواد) تراءي الغيب ملحمة تستمطر الغيث أو تستنزل الشهبا فتي من (الخمس و العشرين) في لجب طوي بخبرته الأجيال و الحقبا قديس مجتمع... عملاق فلسفة ربان عائمة تجري بها خببا الحلم و العلم و الأعداد طائفة من الخصائص... لاعيا و لا نصبا و قبة الوحي في أسمي مدارجها تغذو العقول و تزجي المرتع الخصبا القائد الفذ... لم تفتر عزائمه و الرائد الأمر... رأسا يسحق الذنبا شبيه (يحيي) و (عيسي) في امامته من يقرؤ الذكر يبصر آية عجبا رد الألوف علي الأعقاب، يحشدها (المأمون)... لا منطقا تبدي و لا ذربا ما كان غير (أبي الهادي) بحجته ليستطيل عليها منعة و ابا تلك الأراجيف قد نآءت فما وجدت غير (الجواد) اماما يكشف الريبا ترخي الامامة أثقالا... فيحملها رسالة... و يعيها مشفقا حدبا يا من رأي الشاطي الميمون طائره يهدي السلامة من أسري و من ركبا و يا نزيلا علي بغداد محتضنا في (الكاظمية) جدا خاشعا رهبا (موسي بن جعفر) من جلت مواقفه و من تحدي من الطغيان مؤتشبا حلف السجون... بحيث الدهر ذو غير و الملك يهتز في أعطافه طربا حسب الطواغيت أياما مزلزلة أما (الأئمة)... فالناجون منقلبا ها... بعد لم تنقض الدنيا... و مجدهم يعلو النياشين و الألقاب و الرتبا أما (علي) فقد أبقت فضائله في الخافقين سجلا حافلا رحبا [ صفحه 275] و قد سما (الحسن الزاكي) بحكمته ظلا و حاز (الحسين) السبق و القصبا حسب (الصحيفة) زين العابدين هدي و (باقر العلم) أبقي منهلا عذبا و (صادق القول). عملاق بأودية من العلوم تريك الدر مخشلبا و (كاظم الغيظ) في بر و في دعة يهدي الرضا حكمه و الحلم و الغضبا حتي اذا زخر الوادي بمائجة من (الجواد) رأيت الخصب و العشبا غذي المعارف أجيالا بما وهبا و قد أفاض عليها النوز منسكبا رسالة بفم التوحيد هادفة توحد الفكر و الاسلام و العربا يا سيدي ان بعض الشعر منطلق من الضمير نداء صارخا لجبا شربت حبكم طفلا... و خامرني فتي... و ذا الشيب في رأسي قد التهبا أرجوا الممات عليه في ولايتكم من يأمن البدء فيكم... يأمن العقبا ما كنت اسأل اذ أبدي ولايتكم أجرا... سوي آية القربي لمن نسبا فأنتم الآية العظمي التي نطقت بالمعجزات... و كل الكائنات هبا و أنتم الحجة الكبري... و عندكم علم الكتاب... و ما قد خط أو كتبا الواقفون علي (الأعراف) تكرمة و الحاملون لواء الحمد منتصبا غدا شفاعتكم ترجي... و رحمتكم تجري... لتنقذ هذا المذنب الثربا فكم له وقفة في الدهر فجرها مجاهدا في سبيل الله محتسبا و اليوم يأمل أن يشفي علي يدكم و من أتي البحر حاز اللؤلؤ الرطبا تنازعته من الأمراض جمهرة فعاش ما عاش منهوكا و محتربا [ صفحه 276] باب (السلاطين) لم يعرف أزقتها و (باب حطة) يسعي منه مقتربا يأبي له الفكر خطا طائشا نزقا و رب ثورة فكر أعقبت لعبا صبرا علي الحق... لا يبغي به بدلا فما تنكب يوما نهجه الصعبا 25 / 12 / 1999 - 27 / شعبان / 1420 ه. [ صفحه 277]

خاتمة المطاف و نتائج البحث

بعد هذه المسيرة الممتعة الحافلة بسيرة الامام التاسع من أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم‌السلام)، الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) الذي كان بحق (معجزة السماء في الأرض) في الخصائص و المميزات و الادراك الرسالي منذ صباه حتي شبابه المخترم بالاغتيال، حتي عاد وحيد عصره في المآثر و المفاخر و علوم العترة الطاهرة، بما تحدثت عنه فصول هذه الرسالة بتكثيف مركز، و ايجاز معمق، ربما أمكننا القاء بعض الضوء علي أهم ما توصلنا اليه من حقائق صادعة تجمل بشكل نقاط رئيسة، اكمالا لمتطلبات البحث العلمي الموضوعي. 1- توصلنا في الفصل الأول الي صيغة ذات عمق تاريخي شملت ترجمة الامام و نشأته المثالية و خصائصه الانسانية، و رعايته لأتباعه و أوليائه، و ابراز تلك النغمات العرفانية في سلوكه (عليه‌السلام)، و من ثم عرضنا لطائفة من آراء علماء الأمة و فقهائها و كتابها في شخصية الامام من جهات متعددة، بما نعده بحثا تاريخيا و ذاتيا في اطار مزدوج. 2- بحثنا في الفصل الثاني حياة الامام و موقفه الصلب في عصر السلاطين الذي عاش به، و كان ذلك البحث خارجا عن حدود المنهج التقليدي في العرض و الأسلوب و النتائج، اذ خضع لفلسفة (النقد التاريخي) و استيحاء (البعد الاستقرائي) لظواهر عصر السلاطين في مفارقاتها و افرازاتها، و مدي قلق الحاكمين من تصاعد شعبية الامام، [ صفحه 278] و موقفه الصارم في حياة المأمون من الأحداث و التحديات، و تألق نجمه المعرفي في شتي الحقول بما ثار الاعجاب من جهة، و الحقد من جهة أخري، و رصد سياسة المأمون الدبلوماسية تجاه الامام، و عرض سيل المخالفات الصريحة للشريعة الغراء متمثلة باندفاع النظام العباسي في عصر المأمون خليفة و ولاة و عمالا وراء الشهوات و الاسراف و العبث و المجون، بما ثبت فيه عدم صلاحية القائمين في النظام علي الحكم باسم الاسلام. و أبان البحث مدي تخطيط المعتصم بن هارون الرشيد علي تصفية الامام حسدا حينما ظهر الزخم القيادي للامام مشرئبا في التفاف القاعدة الجماهيرية حول سيادته المطلقة في التشريع و أداء الأحكام، و تفرده الخالص بالحب و المودة من قبل الشعب المسلم، بما فضحت به ألعوبة الحكم و أكذوبة الدعوي بأولويته بالخلافة مع وجود الامام، مما جعل المعتصم حاقدا غاشما يعجل باغتيال الامام من وجه، و مما جعل أتباع الامام و أولياءه يعتقدون بأنه الامام القائم بالأمر فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعد أن ملئت ظلما و جورا من وجه آخر، ذلك ما حدا بالامام أن يبين حقيقة الموضوع بكل وضوح، فكل امام قائم بأمر الله تعالي، و لكنه ليس الامام الذي يقوم بالسيف لتأسيس الدولة الاسلامية العالمية، فذلك هو الثالث من ولده، و هو الحجة ابن الحسن العسكري عجل الله فرجه. 3- و عرضنا في الفصل الثالث من البحث أخطر قضية في تاريخ الامامة، و اعتبرناها ظاهرة اعجازية خرقت نواميس الكون و مقاييس [ صفحه 279] العادة، و هي مسألة (الامامة في سن مبكرة) و أوضحنا من خلالها أن الله تعالي قد احتج للامامة في مرحلة الصبا بالنبوة في مرحلة الصبا حذو القذة بالقذة، فكما أرسل عيسي (عليه‌السلام) نبيا في اليوم الأول من ولادته، و يحيي نبيا صبيا، فكذلك كان الامام الجواد (عليه‌السلام) اماما مفترض الطاعة في السابعة من عمره الشريف، مؤيدا بالعناية الالهية، و مسددا باللمح الغيبي الذي اخترق حجب الثابت من الأنظمة الكونية الي المتحول من الارادة الاعجازية، فسار شيوخ الشيعة و أعلام الامامية و جمهرة الشعب المسلم وراء القول بامامة محمد الجواد (عليه‌السلام) بكل وقوف و اطمئنان، في حين عمد النظام الي استغلال هذه الظاهرة للطعن بالقائلين بامامة أهل البيت أجمعين، و لكنهم صدموا بأنها ورقة خاسرة، و فوجئوا بالامكانات الهائلة لتي يتمتع بها الامام بعد تعرضه للاختبار العلمي من قبل أعدائه و أوليائه بالشكل الذي أثبت فيه بما لا يتقبل الشك صدق أمانته و خارق مؤهلاته و استيعابه لعلوم الدين و الدنيا و هو في عمر الصبا، فانقلب الأمر وبالا علي السلطة أولا، و تثبيتا لقلوب المؤمنين ثانيا، و كلا الأمرين قد أوجد حالة قصوي في اضطراب النظام العباسي من الامام المعجزة، و كان استقراء الغيب المجهول لدي الامام، و التحدث بما سيكون فكان من أبرز دلائل امامته المبكرة. 4- و خصصنا الفصل الرابع من هذا الكتاب لاستقطاب المعالم التراثية للشريعة الاسلامية و المعارف الانسانية التي نهد بها الامام و عمل علي نشرها في الآفاق من خلال التحدث عن علم أهل البيت و دوره الفاعل في تراث الامام العلمي، و اخترنا مروياته عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) [ صفحه 280] و مروياته عن جده أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) أنموذجا أرقي لذلك التراث الذي طبق الخافقين ذكره، و انتشر في العالم عطره، و أكدنا علي الدور الريادي لتلامذة الامام من الرواة و المؤلفين خاصة في نشرهم لتراث الامام الخالد، و أعطينا لذلك فهرسة ببلغرافية احصائية دقيقة، شملت عشرات العلوم الأساسية و عشرات العلوم التكميلية و عشرات العلوم الاضافية التي كتب بها المؤلفون، أو رواها المحدثون، أو أثبتها المصنفون، بما يؤكد نظرية علم الامام الخارق للعادة و السنن الكونية الطبيعية، فكان ذلك من حسنات الدهر الكبري في عطائه العلمي الثر، و من مفاخر الدنيا في أصالته و موضوعيته. و من ثم أثبتنا علي طريقة (الألفباء) معجما تراثيا حافلا بالألفاظ الجارية مجري الأمثال لدي الامام، استوعبت معالم الآداب النفسية للانسان، و أكدت علي التحلي بالشمائل و الفضائل و كرم النفس و الأخلاق و الصبر و المواساة و التوكل علي الله، و الايثار و البر و الاحسان، مما ينبغي أن يتصف به الشعب المسلم، و لم نشرح ذلك و لم نعلق عليه بسبب بديهي، هو أن هذه الحكم الناطقة من (السهل الممتنع) فهي واضحة في التعبير، سليمة في الأداء، مفهومة لدي المتلقي، فقد روعي فيها من قبل الامام - فيما يبدو لي - أن تكون بالشكل الذي يعرفه كل واحد، و يفيد منه كل أحد، و ذلك احدي دلائل تمرس الامام في أساليب البيان العربي. 5- و بحثنا في الفصل الخامس ذلك الأثر الضخم في فقاهة الامام علي سبيل النموذج لا الاحصاء فتناولنا قضية (الخمس) لأهميتها [ صفحه 281] الخاصة، باعتبارها فريضة معطلة، و قد نص عليها القرآن العظيم، و أجرتها السنة النبوية، و منعت في العهد الراشدي الا في غنائم الحرب، و كان هنالك عرض موجز لتاريخ هذه المشكلة و هي تخبو حينا و تتوقد حينا آخر، حتي اذا تسلم الامام محمد الجواد القيادة الشرعية للأمة، أحيا هذه الفريضة بشرائطها و أكد عليها في خطاباته و مراسلاته، و شدد النكير علي منعها و اختطافها، و ألزم أولياءه بدفعها، و كان بهذا و ذاك ممن ثبت مشروعية الخمس بعد ابتلاعه، و عبر من أثره في بناء هيكلية، مبدأ الامامة و المرجعية الدينية، فهو حق الله و رسوله و أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) يصرف في مواقعه المنصوص عليها في فروع الأحكام. و في ضوء حملات الاختبار للامام كان ليحيي بن أكثم قاضي القضاة في عصر المأمون خط استراتيجي في مسائلة الامام عن أبرز ما يدور في ذهنه من مسائل يطرحها بسيطة غير معقدة، فينقض الامام كالصقر مفرعا و مفصلا و مشقا و مجزئا و مبرمجا لتعود المسألة الواحدة ذات أبعاد مكثفة ترعب ابن أكثم و تسقط في يده، فيعود متلمسا الجواب حريصا علي الاستماع طالبا للمزيد من الايضاح، و قد اختلس اختلاسا حتي بان عجزه و ظهرت فهاهته في أكثر من مورد و مورد. و كان لفقهاء عصر الامام (عليه‌السلام) من وعاظ السلاطين في بلاط المعتصم العباسي شأن في انتزاع الرأي الصريح للامام في مسائل أكبرها قطع يد السارق، في حدود من الكف، و شروطه في الانطاق، و تفصيلاته الأخري، و حينما يتحدثون بما يمليه الهوي و الاستحسان يكون الامام متحدثا بالدليل من القرآن و السنة النبوية، فيأخذ المعتصم بما قرر الامام [ صفحه 282] و يفتي به، فيمتلئ قلب ابن أبي دؤاد بالحقد و الغيظ و الحسد، فيخطط للانتقام من الامام بما يشهد به علي نفسه بأنه يدخل النار جراء وشايته بالامام و شحن صدر المعتصم عليه. و كان لعل الأحكام و بواعثها ملحظ موجز لدي الامام أشرنا اليه، اذ غطي علي تراثه فما وصل الينا منه الا القليل، و كان هذا القليل مصدرا أساسيا لهذا الكتاب. 6- و وجدنا الامام محمد الجواد منظرا احتجاجيا في بيئة علم الكلام و تنامي حركتها و اتساعها في عصر الامام، فأعطي الفصل السادس ملخصا معمقا لمناخ الحياة العقلية و الأفكار الكلامية في ذلك الأفق الذي رانت عليه سحب الانشقاق الداخلي في صفوف المسلمين، و الكشف عن موقع الامام و أثره في توحيد الكلمة و جمع شمل الأمة. و تناول الفضل فضلا عما تقدم قضايا التوحيد الالهي التي نهد الامام بالتنظير المنطقي لأعقد مسائلها مستدلا علي ذلك بالقرآن الكريم في آياته المخصصة لتلك الأطاريح التي شغلت بال المتكلين و الاحتجاجيين، فكان له قصب السبق في تنزيه الباري عن التجسيم و التثنية و الرؤية، و تعليل الألفاظ في الذات و الصفات و الأسماء، و أمثال ذلك مما جاء نتيجة امتزاج المسلمين بالشعوب، و نشاط حركة الترجمة في الفلسفة و ثقافة الاغريق. و من ثم وجدنا الامام منظرا قديرا فيما ابتليت به السنة النبوية من الدس والوضع و الافتراء و الاسرائيليات و ما أصلته مظاهر التعصب الأعمي و الفتن المذهبية... فكان الامام يرد الحديث المنسوب للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) [ صفحه 283] و هو مفتري عليه بما يستدل فيه عقلا و نقلا و رواية و دراية، و كان لحسن التأني و آداب المجاملة و لطيف التخلص دور فاعل في اسكات الخصم، و رد الحق الي نصابه، بعيدا عن الاثارة و الاستفزاز. 7- و نهد الفصل السابع بأجواء استشهاد الامام (عليه‌السلام)، و كا مفصلا ناهضا بتوقع الامام الشهادة من خلال اخباره بها من جهة، و من خلال التوجه الطاغوتي للنظام باختطاف حياته الغضة في ريعان الشباب لما أحرج به ذلك النظام في كفاية القيادة و أبعاد شعبيته الجماهيرية و امتلاكه القاعدة الضخمة في ضمير الشعب المسلم، فاستدعي الي بغداد في عصر المعتصم و غادر مدينة جده (صلي الله عليه و اله و سلم) و أدي مناسك الحج و توجه الي مقر العاصمة للدولة العباسية. و تحدث الفصل عن كيفية اغتيال الامام مسموما بما ذكر من الروايات في ذلك، و اختار البحث منها الوجه الرابع بحسب القرائن التاريخية المؤيدة بشواهد الأحوال. و عرضنا الي دوافع اغتيال الامام بالقاء الضوء علي هزيمة الحكم العباسي علي يد الامام، حينما أراد النظام أن يجعل من امامته المبكرة أضحوكة، و اذا بالصبي الامام يصبح أعجوبة في عمله الفياض، فتخشع له الأبصار و تمتد الأعناق مما شجع الي تسريع عملية التخلص منه و تصفيته جسديا، فقد تمسك الشعب المسلم بالامام في انارة معالم الطريق المستقيم، و ذلك ما يتقاطع عادة مع الخط العباسي في ادعائه الخلافة و قيادة الأمور، و اعتبروا توهج سمعة الامام تمثل الخطر الأقصي علي مراكز الدولة و سلطة الحاكم باسم الاسلام، فعجلوا بالقضاء عليه في أول شبابه، و ذكر الفصل بايجاز تشييع جثمان الامام و دفنه الي جنب [ صفحه 284] جده الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في مقابر قريش و هي الكاظمية اليوم. و تحدث الفصل بتكثيف معمق عن مشهد الامام الجواد (عليه‌السلام) في الكاظمية المقدسة في ضوء الكشف الميداني و المشاهد الشخصية مفيدا كما كتبه الامام المجاهد الشيخ راضي آل ياسين في (تاريخ الكاظمية). و مما حبرته يد الفقيد السعيد العلامة الشيخ محمد حسن آل ياسين رحمه الله [363] في كتابه (تاريخ المشهد الكاظمي). و قد جاء هذا الجزء من الفصل غنيا بالوصف الدقيق و الدراسة الميدانية التي تعطي الصورة الصادقة عن واقع المشهد المقدس في أبعاد قياسية و هندسية و رياضية و ذلك فضل من الله تعالي علي عبده الذليل العاصي: محمدحسين علي الصغير النجف الأشرف

پاورقي

[1] سورة التكوير، 29.
[2] ظ، الكليني / الكافي 1 / 492 به اضافه المفيد / الارشاد / 339، الطوسي / تهذيب الأحكام 6 / 90، المجلسي / البحار / 1 - 2 - 11، جواهر الكلام 20 / 99.
[3] ظ: المسعودي / اثبات الوصية / 181، ابن شهرآشوب / وفيات الأعيان 3 / 315، المجلسي / البحار 50 / 1 - 2 - 7 - 11 - 13 و سواها.
[4] ابن شهرآشوب / المناقب 2 / 426، ابن طعمة / مطالب السؤول 2 / 74، البحار / 13 - 11 - 50، حيدر الحسني / عمدة الزائر 323 / 323.
[5] المجلسي / بحارالأنوار 50 / 14.
[6] ابن شهر آشوب / المناقب 4 / 394، المجلسي / بحارالأنوار 50 / 10.
[7] المسعودي / اثبات الوصية / 81، المجلسي / البحار 50 / 15.
[8] المجلسي / بحارالأنوار 50 / 15 و انظر مصدره.
[9] المصدر نفسه 50 / 20. [
[10] الكليني / الكافي 1 / 321.
[11] الصفار / بصائر الدرجات / 138، الطوسي / التهذيب 6 / 90، الداوودي / عمدة الطالب / 187، ابن العماد و شذرات الذهب / 48، القندوزي / الينابيع / 385.
[12] الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 250.
[13] الخطيب / تاريخ بغداد / 138، الطوسي / التهذيب 6 / 90، الداوودي / عمدة الطالب / 187، ابن العماد و شذرات الذهب / 48، القندوزي / الينابيع / 385.
[14] الصدوق / معاني الأخبار / 65.
[15] باقر شريف القرشي / حياة الامام الجواد / 26.
[16] ظ: الكليني / الكافي / 492، المسعودي / اثبات الوصية / 181، المفيد / الارشاد / 356، المجلسي / البحار 50 / 13 - 7 - 2 - 1.
[17] ظ، الكافي 1 / 492، الطوسي / التهذيب.
[18] ظ: الكليني / الكافي 1 / 492، الطوسي / التهذيب 6 / 90.
[19] ظ: المجلسي / البحار 50 / 7.
[20] ظ: المصدر السابق 50 / 11 - 7، حيدر الحسني / عمدة الزائر / 324.
[21] المسعودي / اثبات الوصية / 181.
[22] الكليني / الكافي / 492، المجلسي / البحار.
[23] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 15، و انظر مصدره.
[24] المصدر نفسه، 50 / 8.
[25] ظ: باقر القرشي / حياة الامام الجواد م 27 عن مصباح الفقاهة.
[26] ظ: ابن شهرآشوب / المناقب 4 / 387، المجلسي / البحار 50 / 55.
[27] الطبري / دلائل الامامة / 209.
[28] ظ: المجلسي / بحار الأنوار / 209.
[29] ظ: باقر القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 27 عن مكارم الأخلاق / 92.
[30] سورة ابراهيم، 24.
[31] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 21.
[32] الصدوق / الكافي 1 / 320، المفيد / الارشاد / 357.
[33] الكليني / الكافي 1 / 320، المفيد / الارشاد / 357.
[34] ظ: الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 216.
[35] ظ: المصدر نفسه 2 / 216.
[36] الكليني / الكافي 1 / 322، البحار 50 / 36.
[37] ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 494، البحار 5 / 50.
[38] ابن تيمية / منهاج السنة 2 / 127، الصفدي / الوافي بالوفيات 4 / 105.
[39] الكليني / الكافي 4 / 34، الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 8.
[40] سورة البقرة. 245.
[41] سورة الطلاق، 7.
[42] العياشي / تفسير العياشي / 1 / 131، المجلسي / البحار 50 / 103.
[43] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 44، و انظر مصدره.
[44] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 52، و انظر مصدره.
[45] ظ: محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 49.
[46] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 50 / 87، و انظر مصدره.
[47] ابن شعبة / تحف العقول / 479.
[48] الحر العاملي / اثبات الهداة 6 / 185.
[49] الكليني / الكافي / 5 / 112 - 11، المجلسي / البحار 5 / 87 - 86.
[50] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام الجواد / 76، و انظر مصدره.
[51] الأربلي / كشف الغمة 3 / 161.
[52] الطوسي / الغيبة / 226.
[53] ظ: باقر القرشي / حياة الامام الجواد / 116، عن الكشي في رجاله.
[54] الكشي / رجال الكشي / 551، طبعة مشهد.
[55] الكشي / رجال الكشي / 551.
[56] ظ: المصدر نفسه / 551 - 550.
[57] الطوسي / الغيبة / 225.
[58] الكشي / رجال الكشي / 506، المجلسي / البحار 50 / 109.
[59] الكشي / رجال الكشي / 507.
[60] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 172، و انظر مصدره.
[61] الخوئي معجم رجال الحديث / 15 / 107.
[62] المفيد / الاختصاص / 87، الكشي / الرجال / 496، البحار 50 / 104.
[63] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 5 / 298.
[64] الكليني / الكافي / 1 / 493، المجلسي / البحار / 50 / 6.
[65] الكليني / الكافي / 2 / 549.
[66] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 5 / 243.
[67] المصدر نفسه / 5 / 242.
[68] الأمين الحسيني العاملين أعيان الشيعة / 4 / ق 3 / 245 و انظر مصدره.
[69] سورة البقرة، 186.
[70] سورة النور، 77.
[71] الكليني / الكافي / 2 / 534.
[72] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد الجواد / 70.
[73] الكليني / الكافي / 2 / 548.
[74] الكليني / الكافي / 2 / 548.
[75] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 10 / 232.
[76] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 73، و انظر مصدره.
[77] ظ: المجمع العالمي لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 31، و انظر مصدره.
[78] سورة مريم، 17.
[79] سورة آل عمران، 42.
[80] سورة آل عمران، 45.
[81] سورة طه، 39 - 38.
[82] المسعودي / اثبات الوصية / 212.
[83] ابن طلحة / مطالب السؤول / 2 / 74.
[84] الصفدي / الوافي بالوفيات / 4 / 105.
[85] ابن شهرآشوب / المناقب / 4 / 362.
[86] ظ: المجمع لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 24 / من جامع كرامات الأولياء.
[87] ابن تيمية / منهاج السنة / 2 / 127.
[88] ابن شهرآشوب / المناقب 3 / 486.
[89] ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة 1035 / 2.
[90] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 163.
[91] المفيد / الارشاد / 359.
[92] ظ: محسن الأمين الحسيني / المجالسي السنية / 5 / 464.
[93] الزركلي / الأعلام / 7 / 155.
[94] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة / 4 / ق 3 / 225.
[95] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر / 4 / 464.
[96] باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 1 / 12 و 17.
[97] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 20.
[98] ظ: ابن خلدون / المقدمة / 180 - 179.
[99] ظ: المصدر نفسه / 180. [
[100] البشاري المقدسي أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم / 64.
[101] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 33.
[102] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 37.
[103] ظ / الحضارة العربية / جاك. س. ريسلر / 108.
[104] ظ: ابن عبد ربه / العقد الفريد / 3 / 254.
[105] الأبشيهي / المستطرف / 2 / 306.
[106] أبوالفرج الأصبهاني / الأغاني / 19 / 138.
[107] ظ: المصدر نفسه / 6 / 75.
[108] الدميري / حياة الحيوان / 5 / 115.
[109] ظ: طيفور / تأريخ بغداد / 36.
[110] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 225 عن التنظيمات الاجتماعية و الاقتصادية / 177.
[111] محمد كرد علي / الاسلام و الحضارة العربية / 2 / 231.
[112] ظ: الطبري / التأريخ / 8 / 578، 8 / 656، الأصبهاني / الأغاني / 10 / 130، 161، 164.
[113] ابن حجر / الصواعق المحرقة / 123.
[114] ظ: سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 366 - 365.
[115] المفيد / الارشاد / 359.
[116] ظ: المسعودي / اثبات الوصية / 186.
[117] ظ: ابن الصباغ / الفصول المهمة / 248، ابن شهرآشوب / المناقب / 2 / 433، ابن طلحة الشافعي / مطالب السؤول / 2 / 74.
[118] ظ: المسعودي / اثبات الوصية / 189 - 187، المفيد / الارشاد / 360 -359، الطبرسي الاحتجاج 229 - 227، ابن شعبة / تحف العقول / 338 - 335، المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 75 - 74.
[119] سورة النور. 32.
[120] ظ: المفيد / الارشاد / 361 - 362، الطبرسي الاحتجاج 2 / 475.
[121] الصدوق / من لا يحضره الفقيه / 3 / 252.
[122] المفيد / الارشاد / 362، المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 77.
[123] ظ: المفيد / الارشاد / 364، المسعودي / اثبات الوصية / 189، ابن شعبة / تحف العقول 338، الطبرسي / الاحتجاج / 477.
[124] ابن شعبة / تحف العقول / 479 / المطبعة الاسلامية.
[125] اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / 3 / 182.
[126] باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 238.
[127] ظ: الكليني / أصول الكافي / 1 / 494.
[128] ظ: المفيد / الارشاد / 364.
[129] ظ: الطبري / تاريخ الامام و الملوك / 8 / 623.
[130] دونالدسن / عقيدة الشيعة / 202.
[131] المفيد / الارشاد / 33364.
[132] المصدر السابق.
[133] ظ: ابن عبد ربه / العقد الفريد / 50 / 121 - 120.
[134] الطبري / التاريخ / 9 / 121، المسعودي / مروج الذهب / 4 / 3، السيوطي / تاريخ الخلفاء / 222.
[135] ظ: الطبري / التاريخ / 9 / 121، المسعودي مروج الذهب / 4 / 3.
[136] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام الجواد / 267 و انظر مصدره.
[137] ظ: محمد كرد علي / الاسلام و الحضارة العربية / 2 / 449.
[138] ظ: المسعودي / مروج الذهب / 4 / 9.
[139] ظ: المسعودي / مروج الذهب 4 / 9، السيوطي / تاريخ الخلفاء / 223.
[140] ظ: الدكتور أحمد امين / ظهور الاسلام / 1 / 5 - 4.
[141] ظ: الطبري / التأريخ / 9 / 11، الأصبهاني / الأغاني / 1 / 133 / 210.
[142] ظ: المفيد / الارشاد / 368، ابن الصباغ / الفصول المهمة / 262، ابن شهرآشوب / المناقب / 4 / 379، ابن حجر / الصواعق / 123، القندوزي / ينابيع المودة / 365، المجلسي / بحار الأنوار / 50 / 80.
[143] ظ: المجلسي / البحار / 50 / 8.
[144] ظ:المسعودي / اثبات الوصية / 190.
[145] المجلسي / البحار / 50 / 16.
[146] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 53 / و انظر مصدره.
[147] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 50.
[148] محمد حسين آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 36.
[149] سورة البقرة، 148.
[150] الصدوق / كمال الدين و تمام النعمة / 2 / 49.
[151] المفيد / الارشاد / 357.
[152] الصدوق / اكمال الدين و اتمام النعمة / 2 / 49 - 48.
[153] النعماني / الغيبة / 135.
[154] النعماني / الغيبة / 142.
[155] سورة يس، 36.
[156] سورة آل عمران، 59.
[157] ظ: المؤلف، ملامح الاعجاز في القرآن العظيم (بحث) من كتابه: نظرات معاصرة في القرآن الكريم، 10.
[158] ظ: اليعقوبي / التأريخ / 3 / 18، الطبري / التأريخ / 8 / 568، الكليني / الكافي / 1 / 486، المسعودي / مروج الذهب / 3 / 350، الصدوق / عيون أخبار الرضا / 1 / 298، الطوسي / التهذيب / 6 / 83.
[159] سورة المائدة، 56 - 55.
[160] سورة النساء، 59.
[161] سورة الأحزاب، 33.
[162] سورة البقرة، 124.
[163] سورة مريم، 12.
[164] سورة الأحقاف، 15.
[165] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 20 و انظر مصدره.
[166] محمد باقر الصدر / بحث حول المهدي / 98 - 97.
[167] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 108.
[168] سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 386.
[169] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 31.
[170] المفيد / الاختصاص / 102، المجلسي / البحار / 50 / 86 - 85.
[171] الكليني / الكافي / 1 / 321، المفيد / الارشاد / 357، المجلسي / البحار / 50 / 21.
[172] ظ: ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 489.
[173] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 100 - 99.
[174] المصدر السابق.
[175] أبو الفرج الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 396.
[176] المجلسين بحارالأنوار / 50 / 101 - 100 / و انظر مصدره.
[177] الكليني / الكافي / 1 / 496.
[178] ظ: المجلسي / التجار / 50 / 221 / و انظر الهامش مصدره.
[179] ظ: الترمذي / الصحيح / 5 / 301، الذهبي / ميزان الاعتدال / 1 / 415، الحمويني / فرائد السمطين / 1 / 98، أبونعيم / حلية الأولياء 1 / 63، الأميني / الغدير في الكتاب و السنة و الأدب / 1 / 77 - 61.
[180] ظ: البخاري / الجامع الصحيح / 4 / 129، أبا داوود / السنن 2 / 410، الترمذي / الصحيح 4 / 483، أحمد بن حنبل / المسند 4 / 254، 5/ 385، 389، 401 و سواها من صحاح الجمهور.
[181] الكليني / الكافي / 1 / 242.
[182] الكليني / الكافي / 1 / 239 و 240 و 241، المفيد / الارشاد / 292.
[183] الكليني / الكافي / 1 / 221.
[184] حاجي خليفة / كشف الظنون / 1 / 591.
[185] سورة لقمان، 34.
[186] محمد عبده / شرح نهج البلاغة للامام علي / 239.
[187] ظ: المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت / 247 - 246.
[188] سورة الجن، 27 - 26.
[189] ظ: الطباطبائي / تفسيرالميزان / 20 / 53 بتصرف.
[190] سورة السجدة، 24.
[191] الكليني / الكافي / 1 / 253.
[192] الكليني / الكافي / 1 / 256.
[193] المصدر نفسه / 1 / 256.
[194] ظ: الراوندي / الخرائح و الجرائح / 202، المجلسي / البحار / 48 / 64.
[195] ابن عبد ربه / العقد الفريد / 4 / 67.
[196] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 62.
[197] الصفار / بصائر الدرجات / 263، المجلسي / البحار / 50 / 38 - 37.
[198] الكليني / الكافي / 1 / 495، المفيد / الارشاد / 367.
[199] المفيد / الارشاد / 366.
[200] المجلسي / البحار / 50 / 41 و انظر مصادره و راجع / الكليني / الكافي / 495.
[201] الكليني / الكافي / 1 / 495، المجلسي / البحار / 50 / 42.
[202] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 43.
[203] الراوندي / الخرائج والجرائح / 237.
[204] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 45 و انظر مصدره.
[205] الصدوق / عيون أخبار الرضا / 2 / 240.
[206] الكليني / الكافي / 1 / 321، المفيد / الارشاد / 357.
[207] المفيد الارشاد / 359 - 358.
[208] المجلسي / بحارالأنوار 50 / 63.
[209] المسعودي / اثبات الوصية / 183.
[210] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 67.
[211] المفيد / الارشاد / 359.
[212] سورة مريم، 12.
[213] المفيد / الارشاد 3 - 27، الكليني / الكافي بسند آخر / 1 / 322.
[214] سورة مريم، 12.
[215] سورة يوسف، 22.
[216] سورة الأحقاف، 15.
[217] الصفار / بصائر الدرجات / 238.
[218] ظ: المجلسي / البحار / 50 / 7 / و انظر مصادره.
[219] المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 46 - 45.
[220] الكليني / الكافي / 1 / 353.
[221] ظ: الكليني / الكافي / 1 / 494، المجلسي / البحار / 50 / 62 ز.
[222] سورة القمر، 24.
[223] سورة القمر، 25.
[224] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 216.
[225] الكشي / رجال الكشي / 469.
[226] المحمودي: هو محمد بن أحمد بن حماد المروزي المتوفي أبوه في عصر الامام علي بن محمد الهادي (ع)، فكتب الامام الي ولده: قد مضي أبوك رضي الله عنه و عنك، و هو عندنا علي حال محمود، و لن تبعد عن تلك الحال، فلقب بالمحمودي، و هو من أصحاب الامام الجواد و الهادي و العسكري (ع)، فهنيئا لك علي هذه الكرامة. ظ: المجلسي / البحار / 50 / 94 / هامش المحقق.
[227] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 90.
[228] ظ: المصدر السابق / 50 / 98 عن منهج الدعوات / 48 - 44.
[229] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 71 و انظر مصدره.
[230] المفيد / الارشاد / 357.
[231] ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 493، المجلسي / البحار / 50 / 9.
[232] ظ: المؤلف الامام جعفر الصادق زعيم مدرسة أهل البيت / 269 - 243.
[233] سورة الكهف، 65.
[234] الكليني / الكافي / 1 / 264.
[235] المفيد / الاختصاص / 286، المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 59.
[236] الأربلي / كشف الغمة / 2 / 416.
[237] ظ: المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 62.
[238] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 162.
[239] المصدر نفسه / 3 / 156.
[240] كان الأستاذ آل ياسين / تحدث عن الجعفر و الجامعة باشارات فصلها في كتابه / الامام جعفر بن محمد الصادق / 169 - 155، اليافعي / مرآة الجنان 2 / 81، ابن طولون الدمشقي / الائمة الاثنا عشر / 103 / بيروت 1377 ه.
[241] ظ: الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / 3 / 54.
[242] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 63.
[243] المؤلف / الامام موسي بن جعفر / ضحية الارهاب السياسي / 53.
[244] باقر شريف القرشي / حياةالامام الجواد / 9.
[245] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 137.
[246] الصفدي / الوافي بالوفيات / 4 / 106، ابن طولون / الائمة الاثنا عشر / 103.
[247] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 138.
[248] الطبرسي / الاحتجاج / 2 / 477.
[249] المصدر نفسه و الصفحة / و ينظر هذا الحديف في: البخاري / الصحيح / 1 / 37.
[250] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الجواد / 84 و انظر مصدره.
[251] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 142.
[252] المصدر نفسه / 3 / 142 - 137.
[253] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 138.
[254] حاجي خليفة / كشف الظنون / 1 / 591.
[255] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 61.
[256] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 138.
[257] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 8 / 58.
[258] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 138.
[259] المصدر نفسه / 3 / 139 - 138.
[260] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 139.
[261] الأربلي / كشف الغمة / 3 / 140.
[262] المصدر نفسه / 142 - 140.
[263] الصدوق / عيون أخبار الرضا / 2 / 54 - 53.
[264] باقر شريف القرشي / حياة الامام الجواد / 133.
[265] سورة مريم، 12.
[266] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 73.
[267] ظ: محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 90 - 74.
[268] ظ: القهبائي / معجم الرجال 1 / 143 - 139 / طبعة طهران / 1384 ه.
[269] ظ: ابن النديم / الفهرست / 277 / طبعة طهران / 1391 ه.
[270] ظ: محمد حسن آل ياسين / الامام محمد بن علي الجواد / 81 - 75.
[271] الخوئي / معجم رجال الحديث / 5 / 248.
[272] ظ: ابن النديم / الفهرست / 277، القهبائي / معجم الرجال / 2 / 179، محمد حسن آل ياسين ألكاظمي / الامام علي بن موسي الرضا / 142 - 140.
[273] ظ: المصادر السابقة / نفسها و الصفحات.
[274] ظ: النجاشي / رجال النجاشي / 253.
[275] ظ: باقر القرشي / حياة الامام الجواد / 186 - 134.
[276] ظ: المجمع العالمي لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 209.
[277] سورة الزخرف، 67.
[278] سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 368.
[279] ظ: المؤلف في كتابيه: الامام محمد الباقر مجدد الحضارة الاسلامية، الامام جعفر الصادق زعيم مدرسة أهل البيت.
[280] سورة الأنفال، 41.
[281] المفيد / الأمالي / 224 - 223.
[282] ظ: الزمخشري / الكشاف / 2 / 159.
[283] ظ: أبو عبيد / الأموال / 138. ط، مؤسسة ناصر / بيروت / 1981.
[284] ظ: ابن قتيبة / المعارف / 159 م. ط، دار الكتب المصرية / القاهرة / 1960.
[285] أبويوسف القاضي / الخراج / 1 / 168.
[286] أبوعبيد / الأموال / 137.
[287] محمد صادق الموسوي الخرسان / الخمس: الحوافز و المعطيات / 74.
[288] ابن سعد / الطبقات / 1 / 168.
[289] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 6 / 383.
[290] سورة الأنفال، 41.
[291] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 6 / 350.
[292] ظ: محسن الطباطبائي الحكيم / مستمسك العروة الوثقي / 9 / 528 - 387.
[293] علي الحسيني السيستاني / منهاج الصالحين / 1 / 410.
[294] محسن الطباطبائي الحكيم / مستمسك العروة الوثقي / 9 / 386.
[295] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 6 / 348.
[296] الكشي / الرجال / 497، البحار 50 / 68 - 67.
[297] الكشي / الرجال / 506، المجلسي / البحار / 50 / 109 - 108.
[298] الطوسي / الغيبة / 227، المجلسي / البحار / 50 / 105.
[299] ابن شهرآشوب / المناقب / 3 / 495.
[300] الطوسي / الغيبة / 225.
[301] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 349.
[302] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 6 / 379.
[303] ظ: المصدر نفسه / 6 / 376 / و ما بعدها.
[304] ظ / المصدر نفسه / 3 / 253، 3 / 303، 6 / 31، 13 / 304، 308، 14 / 207، 15، 320، 17 / 67 و سوي ذلك.
[305] المفيد / الارشاد / 363 - 360.
[306] سورة المائدة، 6.
[307] سورة المائدة، 6.
[308] سورة الجن، 18.
[309] سورة الجن، 18.
[310] ظ: العياشي / التفسير / 1 / 319، المجلسي / البحار / 50 / 7 - 50.
[311] الكليني / أصول الكافي / 1 / 314.
[312] سورة يوسف، 108.
[313] الكليني / أصول الكافي / 1 / 315.
[314] ابن شعبة / تحف العقول / 454.
[315] سورة البقرة، 226.
[316] سورة البقرة، 234.
[317] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 15 / 452، الصدوق / علل الشرائع / 72.
[318] الحر العاملي / وسائل الشيعة / 15 / 594.
[319] المجتمع العاملي لأهل البيت / الامام محمد بن علي الجواد / 180 / و انظر مصدره.
[320] حسين ابراهيم حسن / تاريخ الاسلام السياسي / 322.
[321] غوستاف لوبون / حضارة العرب / 218.
[322] ظ: المؤلف / الامام موسي بن جعفر ضحية الارهاب السياسي / 113.
[323] الكليني / الكافي / 2 / 46.
[324] ظ: الكليني / الكافي 1 / 117 - 116، الصدوق / التوحيد / 143 - 142، الطبرسي / الاحتجاج 2 / 468 - 467.
[325] الكليني / الكافي / 1 / 82.
[326] الصدوق / التوحيد / 164.
[327] سورة الأنعام، 103.
[328] الصدوق / التوحيد / 69.
[329] سورة الزخرف، 87.
[330] الكليني / الكافي / 1 / 118.
[331] سورة الاخلاص، 2.
[332] الكليني / الكافي 1 / 123.
[333] سورة ق، 16.
[334] سورة الأحزاب، 7، و الآية لن ترد كلها في الرواية فأكملناها.
[335] سورة الحج، 75.
[336] سورة الأنفال، 33.
[337] الطبرسي / الاحتجاج / 230 - 229، المجلسي / البحار / 83 - 80.
[338] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 50 / 8، عن المناقب 4 / 379.
[339] المفيد / الارشاد / 369.
[340] ظ: المجلسي / البحار 50 / 64، الحر العاملي / اثبات الهداة 6 / 190.
[341] المجلسي / البحار 50 / 63 عن المناقب 4 / 389.
[342] المجلسي / البحار 50 / 2.
[343] المفيد / الارشاد / 369.
[344] الصدوق / اكمال الدين / 2 / 50.
[345] المجلسي / البحار 50 / 8 و انظر مصدره.
[346] ابن شهرآشوب / المناقب 4 / 379.
[347] العياشي / تفسير العياشي 1 / 320.
[348] المجلسي / بحارالأنوار 50 / 17 و انظر مصدره.
[349] المسعودي / اثبات الوصية / 90.
[350] الكليني / الكافي 1 / 297، الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 3 / 55، ابن خلكان / وفيات الأعيان 3 / 315، ابن الصباغ / الفصول / 258.
[351] ظ: الكليني / الكافي 1 / 492، المفيد / الارشاد / 368، الطوسي / التهذيب 6 / 90، ابن حجر / الصواعق / 123، الشبلنجي / نورالأبصار / 149.
[352] ظ: المجلسي / البحار 50 / 15، محمد حسن النجفي / جواهر الكلام 20 / 99.
[353] ظ: الكليني / الكافي 1 / 497، المسعودي / اثبات الوصية / 190.
[354] الأربلي / كشف الغمة 3 / 217.
[355] ظ، المجلسي / البحار / 50 / 7.
[356] محمد حسن آل ياسين / الامام محمد الجواد / 54.
[357] راضي آل ياسين / تاريخ الكاظمية / 154.
[358] راضي آل ياسين / تاريخ الكاظمية / فصل منه / اعداد سبطه الطيب محمد حسين آل ياسين / 163 - 162. عن مجلة الهدي العمارية.
[359] المرجع السابق / 189 - 187.
[360] و يبدو لي أن هذه التسمية منشأ قديم يمتد لي عهد الرسول الأعظم (ص) حيث قال: (بين قبري و منبري روضة من رياض الجنة) فعمم هذا القول علي الضرائح المقدسة، و وصف به حرم كل امام من أئمة اهل البيت عليهم‌السلام.
[361] محمد حسن آل ياسين / تاريخ المشهد الكاظمي / 70 - 69.
[362] محمدحسن آل ياسين / تاريخ المشهد الكاظمي / 158 - 154.
[363] توفي الأستاذ محمد حسن آل ياسين عضوا المجمع العلمي العراقي و كبير علماء الكاظمية المقدسة قبيل الغروب من يوم السبت 26 / جمادي الثانية / 1427 ه. 22 / تموز / 2006 م و شيع تشييعا ضخما في الكاظمية، و دفن في حجرة لمشايخ آل ياسين قرب (باب المراد) من الصحن الكاظمي الشريف. و كانت ولادته عام 1350 ه مساوي 1931 م في النجف الأشرف في أوائل مرجعية أبيه الآية الكبري الامام الشيخ محمد رضا آل ياسين المتوفي 28 / رجب / 1370 ه.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.