(جديد)

الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) ضحية الارهاب السياسي

اشارة

المؤلف: محمدحسين علي الصغير

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم في حياة الايمان المشرق ألق و صفاء يخترق ضمير الكائن الانساني، فيمنحه الدف‌ء و الحرارة، و يمده بالنبض و الحركة، و يدفع به شوطا بعيدا في مضمار التكامل الاجتماعي. فاذا اقترن ذلك الايمان الخالص بالانابة المطلقة و الاخبات المتصاعد، التقي الهدف الأخلاقي الأمثل بالهدف الديني السليم، و في ضوء هذا الاغناء الفسيح تكون الثمار الايجابية مزدوجة العطاء، و تعود الأطروحة واضحة الأبعاد، فاذا أضفت لهذا و ذاك: الثبات في المبدأ، و الصلابة في الحق، و الصبر علي المحن و الشدائد، خرجته بحصيلة أخلاقية وارفة الظلال، تتفيأ المناخ الانساني المزدهر في رحاب العقيدة الراسخة، و تستبق الوعي الحضاري بخطوات واثقة، و تحتضن مدارج النضال المبدئي بقوة وروعة. و هكذا كانت الأجواء التي عاشها هذا الامام العظيم موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و هو ينهض برسالة السماء، و يحيا مأساة الانسان، و يعيش مظاهر الارهاب السياسي، و يقارع جور الطواغيت اضطهادا لا تحده حدود، و تمييزا طبقيا لا يعرفه الاسلام، و رقابة ملتوية الأساليب، و رصدا بعيد المرامي، و أثرة لا مثيل لها في اقتطاع المناصب و احتجان الأموال و مصادرة الحريات؛ و الشعب المسلم في بؤس و شقاء و حرمان، و طوابير الجياع يلتهمها الفقر و الضياع، و قصور السلاطين تموج بالترف و البذخ و الاسراف، و لا سلطان [ صفحه 6] لأحد في الانكار و التغيير، و الناس كل الناس بين خليفة لاه، و مسؤول ساه، و سياط تلهب الظهور. هذا غيض من فيض لتلك الصورة المأساوية التي دونها التأريخ في الحنايا لا في الصفحات الأولي؛ و ينفجر الموقف عن اتجاهات ثورية، فتسيل الدماء، و تزهق الأرواح، و تتكاتف أعداد الأسري، و ينفجر الموقف أيضا عن هلع و فزع و قلق فيتجرع الناس مرارة الخوف و سيل الأزمات النفسية. و كان الحكم العباسي دون مغالاة: عبارة عن مخلوق دموي عنيف، ينام و يستيقظ علي الارهاب و الفكر المتعثر، فلا يحلم الا بالدمار الشامل للرافضين، و لا يستمع لأنات هذا الشعب الضائع، و لا يفكر بمصير الأمة المتداعي، و كل ما يصدر عنه ازاء ذلك كله هو تفجير طاقات العنف و الانفعال للقضاء علي المعارضين أو الناصحين، و لا يكاد يصحو من جرائمه اطلاقا و لا يفكر لحظة زمنية في يقظة الضمير التي قد تغتاب الطغاة حينا، فيرتد عن تصرفاته الشاذة، و يعي أن الانسان كائن ذو أهمية خاصة و له نقطته المركزية في الكون، و انما هو الاندفاع بأعمال القهر و القسر، و الاغراق في العمي المطبق، و كأن تصرفاته السلوكية هذه انعكاس للبركان الحاقد المتواجد في نفوس الحاكمين. و كان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الاتجاه المعاكس لهذا التخلف العريض، و كان التماعه الذهني المتوقد دقيقا في رصد العواطف المرهفة عند الانسان، و كان الوعي الرسالي لديه حريصا علي كشف القدرات الكامنة في الذات الانسانية، فهو يريد لها الازدهار و الانبعاث لتكون كيانا مجسدا يتصرف و يعي و يدرك، لا آلة تستخدم و تشتري و تعار، و هو بذلك صريح دون رموز و ألغاز، و انما هوي الوعي المتدافع الذي يعصف بكيان التعسف و الانحدار الخلقي. [ صفحه 7] و من هنا تدرك مدي الهلع الذي يقض مضاجع السلطان، من الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) باعتباره العاصفة التي تقتلع مفاهيم الاستعباد الجماعي، و تخترق حواجز الاستبداد الفردي، فتنهار الأعراف السلطوية التي تعمل علي صنمية المجتمع و تخديره، و تنتقل به من النمط التقليدي في الاذعان و الاذلال الي سياق تحرري جديد من الحيوية و الادراك. فالامام يشجب كل مظاهر القهر و الاكراه، و يدعو الي الموقف الحاسم، و يصدع بالصوت الجري‌ء النافذ فيهز الأنظمة الهزيلة بقدرة فائقة تفوق قدرة السلاح، و لكنه النضال السلبي الموجه، أو المواجهة الرافضة المنظمة، فلا موادعة مع الظالمين و القتلة، فكان ضحية الارهاب السياسي، نتيجة هذا الطرح الرائد. بيد أن رسالة السماء التي نهد الامام برفع لوائها، بدأت في اتساقها و شموخها تنشر الهدي و تفيض المعرفة، فكان للنضال موقع في كسر القيود و الأغلال، و كان لصوت العلم موقع و دوي في الآفاق، و كان هذا التلاحم في كشف الظلم و نشر العلم يعني انتصار مدرسة أهل البيت في هذين الخطين المتوازيين. و كانت حياة الامام (عليه‌السلام) تقتسمها المظالم و المعارف، مظالم الطواغيت، و معارف الرسالة الاسلامية، و جاء هذا الكتاب لرصد ذلك الزخم الهائل من المعارف، و سبر ذلك السيل المتلاطم من المظالم، و هما موضوع هذه الرسالة في الكشف الموضوعي و الاستقراء العلمي و تحديد الرؤية. و كانت طبيعة البحث في أصوله و فروعه و متعلقاته أن انتظم في ثمانية فصول: كان الفصل الأول منها بعنوان: [ صفحه 8] «الامام في سماته و مميزاته» و قد اشتمل علي قبس من الأضواء الكاشفة عن مسيرة الامام بايجاز معبر في ولادته، و نشأته المباركة، و التأكيد علي منزلته العليا ناهضة نابضة دون عواطف، يلي ذلك كشف الامام من مرآة التاريخ في شخصيته و مواهبه و قدراته، و تسليط الضوء علي جزء من نماذج خصائص الامام بما فيها المنظور المشترك في الخصائص بين الأئمة (عليهم‌السلام)، متحدثا عن الورع و التقوي في ظاهرة ايجابية، و عن حلم الامام و كظمه الغيظ في جبلة نفسية، متوقفا عند ظاهرة تتحدي شح الحاكمين في الكرم و السخاء و المواساة. بما نعتبره دراسة مكثفة في أبرز خصائص الامام و مميزاته. و كان الفصل الثاني بعنوان: «الامام و المسيرة العلمية الرائدة» و قد تناول بالبحث المعمق خمسة ظواهر متأصلة هي: المدرسة الأولي لأهل البيت في ارساء قواعد العلوم المتطورة، و بناء صرح الحضارة الانسانية. و كانت الظاهرة الثانية معبرة عن مصادر علم الامام الكسبية و اللدنية بشواهد شاخصة، و أمثلة بارزة الملامح. و كان المبحث الثالث متساوقا عمليا مع ظاهرة السيرورة النادرة، و الانتشار الذائع الصيت لعلم الامام الهادر في الآفاق و الأقاليم. و تبني المبحث الرابع ظاهرة الدور الريادي لتلامذه الامام و طلابه في نشر التراث العلمي الأصيل الصادر عن الامام مشافهة أو تدوينا، في نماذج حية ناطقة و قد أكدت فيه علي من كان من هؤلاء التلاميذ مؤلفا و أحصيت بعضا من مؤلفاتهم. [ صفحه 9] و نظر المبحث الخامس في ظاهرة متحركة لتعليمات الامام في دائرة معارفه الموسوعية، و قد بدا سجلا حافلا بالأعلاق النفسية، و كنزا لا يثمن من الذخائر المفجرة للطاقات البشرية. و كان الفصل الثالث بعنوان: «الامام و ظواهر الحياة العقلية المتطورة» و قد ركز البحث علي أربع ظواهر عقلية في حاة الامام (عليه‌السلام). كان الأول منها عارضا أمينا و محللا للعقل و المناخ العقلي المضطرب في عصر الامام، و رصد شوارده و أوابده في ضوء المنهج الاستقرائي. و كان الثاني متحدثا بموضوعية عن تعدد الاتجاهات العقائدية مذهبيا و كلاميا بلمحات بارزة تطرح الفكر الكلامي كما هو علي صعيد المناقشة. و كان الثالث متحدثا عن الموجات الجديدة التي أحدثت الانقسام في فرق الشيعة، و معرضا بالانشقاق الداخلي الذي عرض لها، فكان منه ما ولد ميتا فلم يكتب له بقاء، و منه ما استمر متعثرا دون أي تأثير علي الفكر الامامي الأصل، و منه ما ظل حتي اليوم في كيان متزلزل. و كان الرابع مستوعبا لأفكار الامام الصادعة في خضم التيار الكلامي، و اثرائه الفكر الاسلامي بالحقائق مجردة نظرا و عملا، و ذائقة توحيدية خالصة. و كان الفصل الرابع بعنوان: «الامام و طواغيت عصره» و قد بدأ برؤية استراتيجية للمبادي‌ء السياسية المتقابلة لدي الامام و عند الطواغيت، فأعطت تصورا دقيقا للفروق المميزة بين فكر الامام السياسي في البناء و الانعتاق، و بين تسلط الحاكمين في الاضطهاد و الاستبداد. [ صفحه 10] تلت ذلك أربعة مباحث راصدة لمعاناة الامام الهائلة من أبعاد شتي، لدي استخلاف المنصور، و في عهد ولده المهدي، و في أيام موسي الهادي، و في مملكة هارون الرشيد. و كان فيها مسح تأريخي مركز لعوالم الارهاب التي تعرض لها الامام، و تصوير للحاجة المأساوية التي مثلث كابوسا مطبقا علي حياة الامام. و كان الفصل الخامس بعنوان: «المناخ الثوري و اجراءات الارهاب السياسي» و قد انتظم في خمسة مباحث ناطقة بصدق و أمانة عن: / قمع التحرك الثوري من قبل العباسيين، و ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ)، و انتفاضة يحيي بن عبدالله المخص، و التصفية الجسدية للعلويين، و موقف الامام من العنف الثوري. و كان هذا الفصل حافلا بمشاهد الدماء القانية، و تأريخ الثورات العلوية المضطربة، و تصوير الاجراءات الصارمة في الاقتصاص، بما يمثل موجة الارهاب السياسي العنيف في معالجاته البدوية المعقدة، و استخفافه بالدماء و الأعراض و قيمة الانسان. و عرض لموقف الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من هذه الأحداث الحزينة، و لوح بتوجيهاته بالترقب و النصح الكريم، و أشار لمعارضته هذا المنهج. و كان الفصل السادس بعنوان: «البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي» و هو عرض جديد لأبعاد استراتيجية بارزة في سياسة الامام المنطلقة من صميم رسالته و قيادته للأمة في ضوء تعليمات السماء. [ صفحه 11] و قد اشتمل علي ثلاثة مباحث رئيسية لخصت سياسة الامام تجاه عملية التخطيط المكثفة لعوالم التضليل العباسي بأحداث ماثلة أبرزت الامام و سياسة النضال السلبي، و الامام و اختراق النظام العباسي، و الامام و مجابهة الانحراف و التضليل الديني. و هي عوالم تمثل عمق الصدق السياسي لدي الامام في صور دقيقة الآثار. و كان الفصل السابع بعنوان: «الامام في غياهب السجون» و هو فصل فريد تناول بالبحث العوامل الرئيسية التي أدت الي سجن الامام، و أكدت تكرار اعتقال الامام مرة بعد مرة، و عرضت لأماكن سجن الامام، و أبرزت الجوانب الايجابية لحياة الامام في السجن عبادة و علما و عملا. و كان ذلك في أربعة مباحث هي: رؤية مجهرية في أسباب سجن الامام. ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون. حياة الامام في طوامير السجون. الامام يوصي بأمواله و يوقف أراضيه. و كان الفصل الثامن بعنوان: «الامام في مدارج الشهادة» و قد اشتمل علي أربعة مباحث تناولت أواخر حياة الامام في الاعتقال، و اشتملت علي بيان دوافع سجن الامام و محاولات اغتياله، و عرضت لمشاهد الاشهاد علي وفاة الامام، و أنهت بمعالم تجهيزه و تشييعه الي مقره الأخير، حيث مرقده الشامخ - اليوم - في الكاظمية المقدسة. و هذه المباحث كالآتي: فزع الرشيد من منزلة الامام، اغتيال الامام بالسم، الاشهاد علي وفاة الامام، تجهيز الامام و تشييعه الي مثواه الأخير. [ صفحه 12] و كان ما تقدم من الفصول قد نهض بعنوان هذا الكتاب: «الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ضحية الارهاب السياسي» و لم يكن باستطاعة هذه الدراسة الالمام بالدور المشرق للامام في ميادين الحياة الاجتماعية كافة، و اكتفت برصد الأحداث في مسيرة الامام، و الاشارة بعمق الي مخزونه الفكري و التراثي و العقائدي، فمثل ذلك ألقا من حياة الامام، و التمس قبسا من شعاعه الفياض، و عرض لنماذج من مميزاته الكبري، و تناول بعرض جديد و أسلوب جديد ذلك اللمعان المتوهج في خصائص الامام، و علم الامام، و الحياة العقلية للامام، و سياسة الامام، و اضطهاد الامام، و استشهاد الامام. و كان الرأي الحر رائد هذه الدراسة، و استقراء المجهول مهمتها الأساسية، و تصوير حقائق الأشياء هدفا موضوعيا. و ما توفيقي الا بالله العلي العظيم، عليه توكلت و اليه أنيب، و هو حسبنا و نعم الوكيل. النجف الأشرف محمدحسين علي الصغير [ صفحه 13]

الامام في سماته و مميزاته

الوليد العظيم

الامام موسي الكاظم بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام علي زين‌العابدين بن الامام الحسين سيدالشهداء بن الامام علي بن أبي‌طالب أميرالمؤمنين (عليه‌السلام). و هو الامام السابع من أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم). ولد - في أشهر الأقوال - في السابع من شهر صفر الخير عام 128 ه عند سحر يوم [ صفحه 14] الأحد أو الثلاثاء في «الأبواء» أحد منازل الطريق بين مكة و المدينة، و ذلك لدي عودة الامام الصادق من الحج [1] . ولدي ولادته الشريفة أمر الامام الصادق (عليه‌السلام) أحد أصحابه باطعام الناس ثلاثة أيام ابتهاجا بهذا الحدث السعيد [2] . و كان وليدا مباركا، تبوأ مقعد الامامة، و تسلم ارث النبوة، ملئت به القلوب بهجة و اغتباطا، و عمرت به البشائر أفقا و رحابا، و سارت الركبان باطلالته احتفاء و احتفالا. أمه: حميدة بنت صاعد الأندلسية، مثال المرأة المسلمة الملتزمة، و رمز النساء الصالحات حتي عرفت به «المصفاة» فيما أثر عن الصادق أنه قال: «حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب» [3] . و كان في ملامحه العامة: أزهر الا في الغيظ [4] أسمر اللون [5] «حسن الصوت حسن القراءة» [6] و كان «رابط الجأش» [7] و تمرس قراءة القرآن العظيم بخشوع و امعان «و كان اذا قرأ يحزن و يبكي، و يبكي السامعون لتلاوته» [8] . و أجمعت مصادر ترجمته المتقدمة بأنه لقب ب «الكاظم» حتي عاد علما له، و اكتفي به عن اسمه الشريف، و اشتهر ذلك شهرة عظيمة، و قد لقب به لكظمه الغيظ، و تجاوزه عن المسيئين. [ صفحه 15] و كنيته «أبوالحسن» و «أبوالحسن الأول» و «أبوالحسن الماضي» و عرف ب «العبد الصالح» لفرط عبادته، و «النفس الزكية» و «الوقي» و «زين المتهجدين» و «الأمين» و «الصابر» و «الزاهر» سمي به لأنه زهر بأخلاقه الشريفة، و كرمه المضي‌ء التام [9] . و له كني و ألقاب سواها، منها: «أبوابراهيم» و «أبوعلي» و «أبواسماعيل» و الراجح أنها كني متأخرة التأريخ، و قد أطلقت عليه بعد ذلك عندما أصبح أبا لهذا أو ذاك من الأولاد [10] . و قد وجد من ألقابه سبط ابن الجوزي فأضاف اليها: «السيد» و «الطيب» و «المأمون» [11] . و هي ألقاب تحكي عظيم منزلته، و كرم أرومته، و مدارج كماله النفسي. و عرف بعد وفاته ب «باب الحوائج» عند القاصي و الداني لا سيما العراقيين بخاصة، حتي قال الشاعر: باب الحوائج.. ما أتته مروعة في حاجة.. الا و لبي حاجها و قال الآخر فيه و في حفيده الامام محمد الجواد: لذ ان دهتك الرزايا و الدهر عيشك نكد بكاظم الغيظ «موسي» و بالجواد «محمد» يقول الاربلي (ت 694 ه): «و يعرف في العراق بباب الحوائج الي الله، لنجح المتوسلين الي الله تعالي به...» [12] . [ صفحه 16]

النشأة المباركة

درج الامام في طفولته و صباه يتفيأ ضلال النبوة، و يتغذي روح الايمان، و أدرك من حياة أبيه الامام الصادق (عليه‌السلام) عشرين عاما، ينتهل رافد معارفه، و يغترف من بحر علمه الهادر، و ابتهج به أبوه ابتهاجا عظيما و هو يافع يحتضن الفكر الناهض، و ينطلق الي الهدف الرائد، حتي قال أبوه: «الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء، و سرورا من الأبناء، و عوضا عن الأصدقاء» [13] . و تمثلت في الامام الأصالة منذ صغره، و عرف بالشمم و الاباء و هو صبي يافع، و ذاع صيته في الآفاق مبكرا، و سرت هيبته في الأنظار و القلوب، و اعتمرت الضمائر بمحبته حتي قال أبونواس [14] . اذا أبصرتك العين من غير ريبة و عارض فيك الشك أثبتك القلب و لو أن ركبا أمموك لقادهم نسيمك حتي يستدل بك الركب جعلتك حسبي في أموري كلها و ما خاب من أضحي و أنت له حسب و الظاهرة الجديرة بالاهتمام أن الامام كان منذ صباه يتمتع بحياة عقلية نيرة، يعي المسائل بفكر ثاقب، و يجيب السائل بادراك متوهج، حتي كان مثار اعجاب العلماء و الفقهاء، و قد تحدثوا عن ذلك بشكل مدهش ينم عن الاعجاب و الاكبار. فقد روي الاربلي عن أبي‌حنيفة امام المذهب الحنفي قوله: «رأيت موسي بن جعفر و هو صغير السن في دهليز أبيه، فقلت: أين يحدث الغريب منكم اذا أراد ذلك؟ فنظر الي ثم قال: يتواري خلف الجدار، [ صفحه 17] و يتوقي أعين الجار، و يتجنب شطوط الأنهار و مساقط الثمار، و أفنية الدور و الطرق النافذة و المساجد، و لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها، و يرفع و يضع بعد ذلك حيث شاء». قال: فلما سمعت هذا القول نبل في عيني، و عظم في قلبي، فقلت له: ممن المعصية؟ فقال: «ان المعصية لابد أن تكون من العبد، أو من ربه، أو منهما جميعا. فان كانت من الله (تعالي)، فهو أعدل و أنصف من أن يظلم عبده، أو يؤاخذه بما لم يفعله، و ان كانت منهما فهو شريكه. و القوي أولي بانصاف الضعيف. و ان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، و اليه توجه النهي، و له حق الثواب و العقاب، و وجبت الجنة و النار». قال أبوحنيفة: فقلت: «ذرية بعضها من بعض» [15] . و هذه الاجابة في شطرها الأول بدا بها الامام في صباه فقيها ناطقا بالسنة، و صادعا بالافتاء، و في شطرها الثاني بدا متكلما نزه الباري عن الظلم و القبح العقلي، و دحض نظرية الجبر و التفويض. و ليس عجيبا أن ينطلق الامام متهاديا بهذا المستوي الرفيع في سن مبكرة. فللنشأة أثرها في المعرفة و الادراك و التمييز، و للتربية الفذة ثمارها في الوعي و الدراية المتنورة، و خصائص الامام - باعتباره معصوما - تبدو متكاملة في ظل مواهبه و عصمته، و هي مزيج بين ملكته الراسخة التكوينية و بين عبقرياته المتعددة. و بعد هذا فحديثه حديث أبيه، و حديث أبيه حديث جده، و حديث جده حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و رسول الله هو المشرع الأعظم، و كفي بذلك شرفا. [ صفحه 18] و ليس جديدا القول ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، وريث النبوة الشرعي، و حامل الرسالة اماما مفترض الطاعة، و قد حمل بين جنبيه من عوامل الوراثة، و صدور النص عليه، و مقومات النمو الفكري ما يجعله حجة لله في بلاده و علي عباده. عاش الامام حياته في الصبا و الشباب في أكناف مدرسة أبيه، الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم مدرسة أهل البيت (صلي الله عليه و آله) في موسوعيتها و موضوعيتها، و قد صقلت هذه المدرسة قابلياته و قدراته الخارقة، و هي تستوحي مصادرها من ذلك المخزون الثقافي الحافل بأصناف المعارف الانسانية التي سيرها الامام الصادق في الخافقين، و أشرقت بأشعتها الملونة في الفكر البشري ففاق حد الطموح المرتقب الي الأفق المديد، فاذا أضفنا الي ذلك الاعداد الكريم الذي حظي به الامام، و المواهب الراقية التي انفرد بها، و الفضائل العامة التي اكتسبها، و ما أحياه من مآثر، خلصنا أنه خلاصة أطروحة أهل البيت في التربية و التأصيل، و زبدة هذا الكون في العبقرية و النبوغ. و لا أدل علي هذا من تنويه أبيه به، و ارشاد الناس اليه، و وضعه موضع القيادة المرتقبة، ذلك كله مع وجود الامام الصادق (عليه‌السلام). فقد كانت الخطابية في غلوها قد استشري داؤها و بلاؤها في عهد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي يد محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بأبي‌الخطاب، و كان من أعنف الغلاة و أشدهم انحرافا، و قد تبرأ منه الأئمة مدي التأريخ، و حذروا شيعتهم، و فندوا آراءه الغالية جملة و تفصيلا. و قد التجأ عيسي الشلقاني الي الامام الصادق (عليه‌السلام) مستجيرا من هذه الظاهرة، طالبا القول الفصل فيها، فقال له الامام الصادق (عليه‌السلام): «يا عيسي: ما منعك أن تلقي ابني - يعني الامام الكاظم - فتسأله عن جميع ما تريد؟». [ صفحه 19] فاتجه عيسي صوب الامام الكاظم، و كان صبيا في المكتب - كما تقول الرواية - فلما رآه الامام الموسي بن جعفر (عليه‌السلام) بدره بالقول: «يا عيسي؛ ان الله (تبارك و تعالي) أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا، و أخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا، و أعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم اياه، و ان أباالخطاب ممن أعير الايمان، ثم سلبه اياه». فقلت: «ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم» [16] . و نخلص من هذا الحديث الي أمور: الأول: أن الامام الصادق (عليه‌السلام) قد أراد الاشادة العملية بولده، و أمر شيعته بالتوجه نحوه، عالما بقدرته علي الاجابة، ليوحي بذلك أنه الامام المفترض الطاعة. الثاني: أن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد بادر بالاجابة عما يختلج في ضمير السائل قبل سؤاله، مما يشكل بعدا محوريا في القول بالعلم اللدني و الموهبي لدي الامام كما سلف لنا فيه القول ببحث سابق. الثالث: الاستعداد الفطري لدي الامام موسي بن جعفر في استقبال ما يطرح عليه من المعضلات و هو في سن الصبا، مما يعني تأثير النشأة المباركة في مسلكيته العلمية النادرة. يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين: «هكذا نشأ موسي بن جعفر في هذه البيئة المباركة الناصعة النقاء، و في تلك البيوت التي يعلو فيها ذكر الله أطراف الليل و آناء النهار، و تتردد في جنباتها همسات التسبيح و التهليل، و أصداء الابتهال و الترتيل، و ينتشر منها علي الناس فيوض العلم النافع، و دروس العمل الصالح، و أمثولة الخلق [ صفحه 20] الرفيع. و سرعان ما اكتملت خطوط رجولته الناطقة، و معالم شبابه الندي، و اتضحت للعيان صفاته الخلقية و مواهبه الخلقية و ملكاته الذاتية علي نحو ممتاز لافت للنظر» [17] . حتي اذا انتقل الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الرفيق الأعلي عام (148 ه) استقل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالامامة، و نهد بأعباء القيادة، فكان بطلها المجرب، و عملاقها العظيم، و رائد التحرر الاجتماعي، و رافض الاستعباد الجماعي، و ناشر الفكر الانساني. و كانت تطلعات الامام الرائدة تتقوم بعناصر حية تسعي الي اقامة المجتمع المتكامل بأساليب دفع ناهضة، تبعثه من رقدة الجفاف و الانكماش و التخدير الي صحوة الوعي و الحرية، و تطل به علي آفاق الأنشطة المتعددة في الموقف و التفكير، و هو يتفجر بأنماط الحياة العاملة علي الايمان بقضية الانسان، باعتباره نقطة الانطلاق في الكون.

المنزلة العليا

لم يكن حب الامام الصادق (عليه‌السلام) لولده الامام الكاظم (عليه‌السلام) عاطفيا، و لا تقييمه لمكانته أبويا، و التأكيد عليه اعتباطيا، و ان كانت العاطفة و الأبوة أمرا طبيعيا، و لكن الامام لا يصدر عنهما في النص أو الاشادة أو التقييم، و انما ينطلق فيما يفيض به من خلال التكليف الشرعي و الأداء الالهي ليس غير. و هذه الظاهرة في السلوك لدي الامام الصادق ايديولوجية رسالية لا يحيد عنها في قول أو عمل أو اقرار، فهو حينما يصرح باستيلاء حب ولده الكاظم عليه بقوله: [ صفحه 21] «وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبه أحد...» [18] . انما يعبر عن هدف آخر هو الاعلان بأنه الامام من بعده، و القائم بالأمر في الناس، و الحجة علي الخلائق، بدليل قوله لأوليائه: «قد وهب الله لي غلاما، و هو خير من برأ الله...» و قال لهم: «فدونكم، فوالله هو صاحبكم» [19] . و روي المفيد أن الامام الصادق دعا ولده الامام الكاظم، و قال لمن عنده: «عليكم بهذا بعدي، فهو و الله صاحبكم بعدي» [20] . و هناك ما هو أكثر تفصيلا، و أقدم رواية، فعن علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) يقول: سمعت أبي‌جعفر بن محمد (عليهماالسلام) يقول لجماعة من خاصته و أصحابه: «استوصوا بابني موسي (عليه‌السلام) خيرا، فانه أفضل ولدي، و من أخلف بعدي، و هو القائم مقامي، و الحجة لله (تعالي) علي كافة خلقه من بعدي» [21] . و هذه الابانة من الامام الصادق بحق ولده الامام انما تعني النص عليه، و اشهاد من يسمع علي ذلك، و تبليغ أوليائه به، و قد جمع الامام الصادق ولده، و قال لهم: «هذا وصي الأوصياء، و عالم علم العلماء، و شهيد علي الأموات و الأحياء» ثم قال: يا يزيد «ستكتب شهادتهم و يسألون» [22] . و قول الامام للفيض بن المختار مشهور، و قد سأله عن الامام فأشار الي موسي بن جعفر و قال: «هذا صاحبكم فتمسك به» [23] . [ صفحه 22] و لقد روي النص علي امامته جماعة من أعيان أصحاب أبيه، منهم: أخوه علي بن جعفر، و اسحاق بن جعفر، و المفضل بن عمر الجعفي، و معاذ بن كثير، و عبدالرحمن بن الحجاج، و الفيض بن المختار، و يعقوب السراج، و سليمان بن خالد، و صفوان بن مهران الجمال، و حمران بن أعين، و أبوبصير، و داود الرقي، و يزيد بن سليط، و يونس بن ظبيان [24] . و هذا التواتر مما أجمع عليه الامامية، و نضيف الي هؤلاء: منصور بن حازم، و ابراهيم الكرخي، و يزيد بن أسباط، و سلمة بن محمد [25] و سوي هؤلاء من الأعلام، مما استقرت عليه الامامية. و كان المجلسي قد أوفي بأكثرها [26] . و هي متوافرة في كل من عيون أخبار الرضا، و الكافي، و بصائر الدرجات، و اعلام الوري، و كمال‌الدين، و قرب الأسناد، و ارشاد المفيد، و الاختصاص، و غيبة النعماني، و المناقب، و رجال الكشي، و كشف الغمة، و الفصول المهمة، و سواها من كتب السير و التواريخ. و كان ترشيح الامام له مدعاة اعتزاز أتباع أهل البيت من العلماء و الفقهاء و المتكلمين و شرائح المجتمع كافة، لأنه صادر عن صادق القول، و كان جماع قوله في حق ولده علي وجه الاجمال ما تحدث به الصادق (عليه‌السلام) الي عيسي بن شلقان: «يا عيسي ان ابني هذا الذي رأيت، لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم، ثم أخرجه ذلك اليوم بكتاب» [27] . [ صفحه 23] و مع كل هذا فقد اختلف سواد الناس بعد الامام الصادق (عليه‌السلام)، و رجع قسم منهم الي ولده عبدالله دون دليل نصي أو استقرائي أو شرعي. و قد اختبر جماعة من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) فيهم هشام بن سالم، و محمد بن النعمان حال عبدالله فلم يجدوه شيئا، طبق المواصفات الدقيقة للامام، فقالوا في بعض أزقة المدينة بعد خيبتهم: الي أين نتوجه؟ الي المرجئة؟ الي القدرية؟ الي المعتزلة؟ الي الزيدية؟ و اذا بمن يشير علي هشام باتباعه، فيوقفه عند منزل الامام الكاظم (عليه‌السلام)، و يشير عليه بالدخول، فيدخل، و يقول: «فدخلت فاذا أبوالحسن موسي (عليه‌السلام)، فقال لي ابتداء: الي الي، لا الي المرجئة و لا الي القدرية و لا الي المعتزلة و لا الي الزيدية، و لا الي الخوارج. قلت: جعلت فداك؛ مضي أبوك؟ قال: نعم؛ قلت: مضي موتا؟ قال نعم؛ فقلت: فمن لنا بعده؟ قال: ان شاء الله أن يهديك هداك. قلت: جعلت فداك، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام بعد أبيه!! فقال: عبدالله يريد أن لا يعبد الله. قلت: جعلت فداك، فمن لنا من بعده؟ فقال: ان شاء الله أن يهديك هداك. قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟ قال: لا أقول ذلك. فقلت في نفسي: اني لم أصب طريق المسألة. ثم قلت له: جعلت فداك؛ أعليك امام؟ قال: لا. قال هشام: فدخلني شي‌ء لا يعلمه الا الله (تعالي) اعظاما له و هيبة. ثم قلت له: جعلت فداك؛ أسألك كما كنت أسأل أباك؟ قال: سل تخبر، و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح. [ صفحه 24] قال هشام: فسألته، فاذا هو بحر لا ينزف. قلت: جعلت فداك؟ شيعة أبيك ضلال، فألقي اليهم هذا الأمر؟ و أدعوهم اليك؟ فقد أخذت علي الكتمان. قال (عليه‌السلام): من آنست منه رشدا، فألق اليه، و خذ عليه الكتمان، فان أذاع فهو الذبح، و أشار بيده الي حلقه. قال هشام: فخرجت من عنده فلقيت أباجعفر الأحول. فقال لي: ما وراءك؟ قلت: الهدي، و حدثته بالقصة. قال: ثم لقينا زرارة و أبابصير، فدخلا عليه، و سمعا كلامه، و سايلاه، و قطعا عليه، ثم لقينا الناس أفواجا، فكل من دخل عليه قطع بالامامة...» [28] . و كان لا مناص للمسيرة الاسلامية - كما ألزم قائدها الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله و سلم) - من جواد امام مفترض الطاعة في كل عصر و زمان حتي قيام الساعة، يكون هو الحجة علي الخلق، و يقتدي الناس به و يهتدون بهديه، و يستضيئون بنور علمه، و يتقربون الي الله بمعرفته المطلقة. و تلفت المسلمون الملتزمون بأحكام دينهم - يمينا و يسارا - بحثا عن الامام الجامع الشرائط الشرعية المقررة في مواصفات الامامة و ضوابطها العامة و الخاصة، فلم يجدوا من تجتمع فيه تلك الضوابط و المواصفات الا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بل لم يكن من هو أهل لها غيره علي وجه الحصر و التعيين..» [29] . و هذا الحصر و ذلك التعيين قد نبه اليه الامام الصادق (عليه‌السلام) كما رأيت، فهو الحجة علي أهل الأرض، بما انضمت عليه جوانحه من مآثر و معارف أشار اليها الامام الصادق بقوله: [ صفحه 25] «فيه علم الحكم، و الفهم، و السخاء، و المعرفة بما يحتاج الناس اليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، و فيه حسن الخلق، و حسن الجوار، و هو باب من أبواب الله (عزوجل)...» [30] . و هذ جماع ما عليه اشتراط الامام من سمات و مميزات. و قد أجمع أصحاب السنن و الصحاح علي افتراض وجود امام باللازم من هذا الحديث الشريف: «من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية». و قد قامت الدلائل علي امامة موسي بن جعفر من مصادرها كافة، و لم تكن مقتصرة علي أولياء أهل البيت، و انما نص عليه المعتدلون كافة. فقد روي القندوزي - علي سبيل المثال - أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قد نص في تسميته للأئمة، و فيهم موسي بن جعفر، و ما نص عليه من الأوصياء من بعده، و منهم موسي بن جعفر الذي يدعي بالكاظم [31] . هذا بالاضافة الي عشرات الأحاديث المستفيضة في النصوص المتوافرة علي تعيين أئمة أهل البيت حصرا، و ما سارت به الركبان من بشارته بذلك، و منها ما أخرجه الحافظ أبونعيم بسنده عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): «من سره أن يحيا حياتي، و يموت مماتي، و يسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال عليا من بعدي، و ليوال وليه، و ليقتد بالأئمة من بعدي، فانهم عترتي، خلقوا من طينتي، و رزقوا فهما و علما، و ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، للقاطعين صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي» [32] . [ صفحه 26] و هذه اللمحات العابرة تكفي للاستدلال علي ما نحن بصدده. أما التوسع في موضوع الامامة كلاميا، و موقعها من النظام الاسلامي، فقد تكفلت به بحوث سابقة أوردنا فيها رأي المسلمين [33] . أما الامام موسي بن جعفر نفسه فقد قال لعلي بن صالح: «ان الله لا يخلي أرضه من حجة طرفة عين أبدا، اما باطن و اما ظاهر، أنا حجة الله و حجته الباطنة... أنا المؤدي الناطق عن الرسول... أنا موسي بن جعفر» [34] . و مهما يكن من أمر، فقد تسلم الامام قيادة الأمة، و هي قدره الالهي من الله (تعالي)، في ظروف سياسية غائمة، و حياة عقلية مضطربة، تمثل التقلب السياسي و العقائدي المرير، فقد انقسمت الأمة علي نفسها فئويا و مذهبيا نتيجة التخطيط السياسي الحاكم، و انقسم أتباع أهل البيت أنفسهم، فكان الأمر يدور بين الافراط و التفريط. و انقسم الحكام أنفسهم فيما بينهم، فبين قائل بابادة الأئمة و استئصالهم علنا، و بين من مهد لذلك بالسجن و الاستدعاء، و بين من فرض حدود الرقابة الصارمة، فكمت الأفواه، و خمدت الأنفاس، الا أن الثورات الدموية من هنا و هناك بددت مناخ الصمت حينا، و استبدلته بقعقعة اللجم و احتكاك الأسنة حينا آخر، فنتج عن هذا و ذاك ضبط و شماس، أدي الي الانكماش الاجتماعي من جهة، و الي الانهيار النفسي من جهة أخري. و عاش الامام بين ذلك في رقابة و رصد و اعتقال، و لكن صفحته هي البيضاء في نظر التأريخ، و قد انجلت عن واقع مؤثر في الأحداث، فرغم [ صفحه 27] المنظور الضيق في التفكير و الارادة و التنفيذ لدي الطبقة الحاكمة، نجد الامام منفتحا في نظرته الشمولية الي الأمة، و الأمة في مناخ مرير لا تحسد عليه في البؤس و الحزن و الشقاء، حتي ليغيب الأمل المرتقب عن الميدان، و اذا بالامام يتقدم في خطواته المضادة للاتجاه السلطوي، فينقذ الأمة من التدهور و الضياع، و يرتفع بها تدريجيا الي مستوي الحياة المليئة بالأمل و التفاؤل، فيقضي علي التيار التشاؤمي العارم لدي كثير من الأحاسيس و العواطف المغالية بالانكماش و الكآبة، و هما داء قد استشري في عصر الامام حتي عاد داء العصر نتيجة افرازات مغرقة في الحيف و العسف و الاستبداد، فأدي الي التمزق الداخلي في صفوف الأمة، فتداركه الامام بقدراته الفائقة علي التغيير، فأعاد للأمة الاستقرار النفسي المفقود باذكائه الجذوة الكامنة في قرارة النفس الانسانية، فأفاقت مستيقظة علي هدير هذا الانبعاث الجديد الذي انتشلها من ذلك المستنقع الغارق بالتشاؤم و الخمول و الحزن السرمدي.

الامام في مرآة التأريخ

كان اللمعان الفكري المتألق في ذهنية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يضفي بأشعته الغامرة في نقلة للانسانية عبر مواصفات مثالية في السلوك و الأخلاق و الحياة و الاجتماع، و لم تكن أفكار الامام في هذا المنحني الفسيح غارقة في دنيا من المآثر الخارقة علي سبيل التحدي، و انما هي امتداد موضوعي للعقل المفكر الواهب، و ثمرة فعلية للحس العملي الذي نهد به الفكر الامامي من عهد أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) حتي قيادة موسي بن جعفر نفسه. و كان هذا التخطيط المنهجي في ذلك المناخ المتفجر الرهيب، قد أعطي نتائج مدهشة في الثبات الذي كاد أن يتلاشي و يذهب ضوؤه الخافت من الأعماق، و كان هذا الثبات مرتكزا في الاتكاء علي قاعدة صلبة تعني بعودة [ صفحه 28] الاستقرار النفسي بعد أن مني بالقلق و التمزق و الانفراط، و بذلك تحول المجتمع - رغم كل المعوقات - الي صورته الجديدة في الاعتداد بالشخصية بعد فقدان الأمل بالاصلاح و التوازن. لقد كان الشعب المسلم يعاني من الغربة القاتلة في ظل الحكم العباسي الجاثم بثقله علي النفوس، و قد ينتابه شعور عارم رقيق أو كثيف بالكآبة المطبقة لما يشاهده من التدارك السفلي في القيم و الاعتبارات و التعامل العام، و هي صفحات تحكي عن اللون القاتم المميز للعصر بما أبقته لنا الوثائق المعتمدة، و ما أملته النصوص التأريخية المفعمة بالمآسي كصورة حقيقية تتحدث عن انحلال و انحطاط تلك الحقبة من الزمن الصعب، حتي لم يعد مسلم متحفز جاد ليتذوق طعم الحياة. و بالرغم من أن التأريخ - و هو يكتب بلغة رسمية - قد ناصب العداء لأئمة أهل البيت عن قصد و عمد، لأنه بسبيل من ارضاء شهوة خلفاء الجور و ولاة السوء الذين يضطربون اضطرابا عنيفا لأية بادرة تؤكد التماع ذلك الأفق الرفيع في حياة أئمة أهل البيت، الا أن النصاعة لهذه الحياة في السيرة و السمت و العطاء قد أرغمت التأريخ علي الاقرار بالنتائج المذهلة التي حققتها في الميدان الاجتماعي حين فضحت أساليب الزيف و الدجل السياسي، و حين عصفت بتلك الكيانات الهزيلة و كشفت الأقنعة عن تلك الممارسات اللاانسانية، و ظهر من بين هذين ذلك الوجه المشرق للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و هو يتزعم تلك المهمة الصعبة، في حين تمتنع مصادر الهوس الديني من التفوه باسمه، فقد جذت الألسن عن الحديث حوله أو الاشارة اليه، فذلك من المحظور الذي لا يباح، و رغم هذه الضبابية و ذلك التعتيم، رأينا الامام موسي ابن جعفر (عليه‌السلام) يمثل الألق الهادي لسنن الطريق، فكان النجم المتألق شعاعا و نورا و قد عصف بالشبهات و الانحرافات، في صراع مرير. [ صفحه 29] و كانت ألسنة الخطف هي أقلام الحق فيما وصف به الامام، و كان التأريخ مع تجهمه العابس للامام قد أفلت منه كثير من الاعتراف و الاقرار بالواقع المشهود، و تلك سمة خاصة بأئمة أهل البيت، فهم و ان كتم التأريخ جل فضائلهم و مآثرهم، الا أنه ما استطاع أن يلوح بمنقصة واحدة في أي معلم من معالم أي امام، و ما ذاك الا لقرب الصلة مع الله (تعالي)، دون الاغترار بملحظ الرضا و الغضب في المشاعر القابلة لخيانة الذمم و اتباع العاطفة أو المصلحة في كتابة التأريخ. و تأسيسا علي ما تقدم، فقد وجدنا العزل السياسي للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) متقاطعا مع الأضواء المتلألئة ليقظة التأريخ في التحدث عنه، و هذا ما يفسر تلك الاشارات الرائعة عن شخصية الامام في سجل الخالدين، مما يعني أن التخطيط المتواصل لاقصاء أهل البيت سياسيا، لم يوفق لاقصائهم فكرا، و أن البعد عن السلطة و الحكم لم ينسحب طردا ليعزلهم عن القيادة و التشريع، و أن السلطان الدنيوي لم يستطع ان يطوح بالسلطان الديني الماثل. و لقد كان ما منح به التأريخ الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من السمات في المستوي الفكري و العلمي و العقلي و المعرفي و النفسي يفوق في مفرداته ما وصف به أساطين الاسلام وقادة الأمة، و معني هذا أن الامام قد اقتطع هذا المنح اقتطاعا عن ذمة التأريخ بين كل الدواعي القاضية باقصاء شبح الامام عن الأفق سياسيا و مذهبيا. لقد قال التأريخ بمل‌ء فيه أن الامام (عليه‌السلام): «كان أجل الناس شأنا، و أعلاهم في الدين مكانا، و أسخاهم بنانا، و أفصحهم لسانا، و أشجعهم جنانا، قد خص بشرف الولاية، و حاز ارث النبوة، و بوأ محل الخلافة، سليل النبوة، و عقيد الخلافة» [35] . [ صفحه 30] و النظرة التحليلية لهذا النص تقضي باختفاء الأجواء الضبابية المحيطة بتأريخ الامام، فهي تنتزع الصورة الحقيقية للامام انتزاعا، و هي تعني بالمنظور الصادق في الأداء و التعبير. و ليس بالامكان التفرغ لتدوين ما كتبه التأريخ عن الامام بهذا الملحظ، فهو كثير جدا، و سبق اليه من تناول الموضوع، و لكني أقف منه موقفا وسطا، لا أتغافله و لا أستوعبه، و انما هو شي‌ء بين ذلك. فقد قال ابن الصباغ أنه: «الامام الكبير القدر، و الأوحد الحجة الحبر» [36] و قال أيضا: «و أما مناقبه و كراماته الظاهرة، و فضائله و صفاته الباهرة، فتشهد له بأنه: افترع قبة الشرف و علاها، و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها، و ذللت له كواهل السيادة فامتطاها، و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها، فاصطفاها» [37] . و قال أبوحاتم - واصفا الامام - بأنه: «ثقة أمين صدوق» [38] و أضاف ابن تغري بردي أنه: «كان سيدا، عالما، فاضلا، سنيا، جوادا، ممدحا، مجاب الدعوة» [39] . و قال ابن‌تيمية: «موسي بن جعفر مشهور بالعبادة و النسك» [40] . و قال الشيخ المفيد: «و كان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) أعبد أهل زمانه، و أفقههم، و أسخاهم كفا، و أكرمهم نفسا» [41] . و وصفه ابن‌طلحة الشافعي بأنه: «الامام الكبير القدر العظيم الشأن، المشهور بالكرامات» [42] أما الذهبي فقد أجمل القول - تارة - بأنه «الامام [ صفحه 31] القدوة» [43] و فصل القول شيئا ما بقوله: «كان موسي بن جعفر من أجواد الحكماء، و من العباد الأتقياء، و له مشهد معروف ببغداد» [44] . و هنالك عشرات الشهادات في حق الامام (عليه‌السلام)، سردها الأستاذ باقر شريف القرشي، و تطلب من مظانها للباحثين عن المزيد [45] . و التأريخ حينما يصور هذه اللقطات، فانما ينزع الي الموضوعية المحدودة بأقلام هؤلاء العلماء، و الا ففضائله أسمي رفعة، و أكثر عائدية، و أجل منزلة مما دونوه و أفادوه. و الذي بهرني حقا أن أجد هارون الرشيد يغتصب نفسه اغتصابا، فيدلي برأيه في الامام - مضطرا - لولده المأمون، و قد دهش المأمون باحترام الرشيد للامام و تقديمه و تعظيمه، قال هارون: «يا بني: هذا امام الناس و حجة الله علي خلقه، و خليفته في عباده، أنا امام الجماعة في الظاهر و الغلبة و القهر، و انه و الله لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) مني و من الخلق جميعا، و الله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه، فان الملك عقيم... يا بني: هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر، ان أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» [46] . و لئن ذكر القدامي جزءا يسيرا من ملامح الامام القيادية و المرجعية. فقد أورد المحدثون شيئا من ذلك. و قد أورده أغلبهم اقتضابا، و مهما يكن من أمر، فان ما ذكره القدامي و المحدثون يعتبر تبلورا محدودا التصق بمرآة التأريخ فحكي توهجا لامعا في سيرة الامام و آثاره. [ صفحه 32] قال الدكتور زكي مبارك من رواد النهضة الحديثة في مصر: «كان موسي بن جعفر سيدا من سادات بني‌هاشم، و اماما مقدما في العلم و الدين» [47] . و قال الأستاذ خيرالدين الزركلي: «موسي بن جعفر الصادق بن الباقر، أبوالحسن، سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية، كان من سادات بني‌هاشم، و من أعبد أهل زمانه، و أحد كبار العلماء الأجواد» [48] . و قال الدكتور عبدالجبار الجومرد وزير الخارجية العراقية الأسبق: «الامام الكاظم... كان ذا تأريخ حافل بالزهد و الورع و الكرم و دماثة الخلق، و قد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسي‌ء اليه» [49] . و قال العلامة محمد أمين السويدي البغدادي: «موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر، الكثير الخير، كان يقوم ليله و يصوم نهاره، و سمي الكاظم لكثرة تجاوزه عن المعتدين» [50] . و قال سيدنا الأستاذ السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي: «موسي بن جعفر بن محمد: هو الامام السابع المنصوص علي امامته من قبل أبيه و أجداده الطاهرين، سلام الله عليهم أجمعين» [51] . و قال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي: «الامام موسي الكاظم: روي عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين و غيره، حاملا بطون الدفاتر، و ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة: و كان يعرف بين الرواة بالعالم» [52] . [ صفحه 33] و قال السيد هاشم معروف الحسني: «كان أبوالحسن موسي بن جعفر يتابع رسالة آبائه في نشر العلم و الحديث و الأخلاق و الدفاع عن الاسلام، و روي عنه أصحابه آلاف الأحاديث في مختلف المواضيع... و قد روي عنه المحدثون في مختلف أبواب الفقه و غيره من المواضيع الاسلامية أكثر مما رووه عن غيره ممن جاء بعده من أئمة أهل البيت» [53] . و قال الشيخ باقر شريف القرشي: «الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، فذ من أفذاذ العقل الانساني، و من كبار أئمة المسلمين، و أحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي أضاء الحياة الفكرية في الاسلام» [54] . و قال الشيخ محمدحسن آل‌ياسين: «نشأ الامام موسي بن جعفر في حجر هذا الأب العظيم (الامام الصادق) متفيئا ظلال شجرة النبوة و دوحة الامامة، حيث اختار الله موضع الرسالة و مختلف الملائكة و مهبط الوحي، و حيث استقر ملتقي رافدي السماء و الأرض، و اجتمع الثقلان اللذان لن يفترقا حتي يردا الحوض: كتاب الله و عترة الرسول. فكانت نشأة متميزة فذة لا يتسني مثلها الا لنظرائه من ذرية النبيين و سلالة المرسلين، فاذا هو منذ صباه: بحر مواج بالعلم، دفاق بالمعرفة، زخار بفقه الكتاب و حقائق الدين و أسرار الشريعة» [55] . و بعد هذه الاضمامة من الأقوال العطرة الندية، أحسبني في غني عن القول: ان الامام موسي بن جعفر، أحد عمالقة الفكر الانساني، و النموذج الأرقي [ صفحه 34] لحضارة العقل البشري، شأنه بذلك شأن الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

من خصائص الامام

المنظور المشترك في خصائص الأئمة

هنالك ملحظ جدير بالأهمية أن الأئمة (عليهم‌السلام) يشتركون بمميزات فريدة، فلا يعني التأكيد علي خصائص امام منهم، نفي تلك الخصائص عن الآخرين، لأنهم يصدرون عن نبع واحد، و يصبون في روافد متقاربة المصادر، و كلها تتجاذب أطرافها من ذلك المورد الثر الذي أسال فيضه اللامتناهي جدهم الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله). الا أن لكل امام سمات بارزة تلوح و كأنها من مآثرة بخاصة. و ما ذاك الا نتيجة الظروف الموضوعية لشتي الأحداث التي يحياها الامام بكل تداعياتها و ملابساتها، فيتجه الامام مبادرا للرد العملي علي الظواهر السلبية بظواهر ايجابية، و علي التناقضات بالقصد و الاعتدال. فحينما نري الغضب و الطيش و الانتقام ضاربا أطنابه في المجتمع المسلم من قبل الطغاة، نجد الامام يقابل ذلك بالحلم و الأناة و رحابة الصدر، و حينما تكون أموال المسلمين مبذر بالعبث و الاسراف، و موارد الحياة مصادرة لترفيه الحاكمين و الولاة، نجد الامام مشاركا للشعب المضطهد في رزقه و عيشه، فيناهض ذلك الاحتكار و الاختلاس بظاهرة الكرم و السخاء تلبية للضروريات الملحة في الاغاثة و الانقاذ، و حينما تكون أوضار الجهل و الضياع و التسيب متفشية في المناخ الاجتماعي، نجد الامام مشمرا عن ساعديه في نشر العلم، و اذاعة المعارف، و بث الدعاة و المبلغين للقضاء علي مظاهر الأمية و حياة التخلف. [ صفحه 35] و هكذا الأمر في بقية الظواهر المتجددة علي الشعوب المغلوبة و هي تساس بالارهاب و التسلط الغاشم، فنجد الامام - أي امام لا علي التعيين - ينهد بمسؤوليته القيادية لصد الاعتداء المتلاحق الأثيم علي الحريات و الحرمات و الذمم؛ و من هنا تبرز خصائص كل امام قائمة بذاتها، تعبيرا عن الحالة المضادة التي يعني بمقاومتها، و الا فالأئمة (عليهم‌السلام) في ميزان واحد راجح بالعطاء و البر و التقوي و العلم و المجاهدة و النضال، و ينبغي لفت النظر بجدية معمقة الي أن الظرف الاجتماعي في كثير من الأحيان قد يملي التكليف الشرعي علي الامام، فيؤدي رسالته تبعا لمسؤوليته، علي الوجه الأتم. و من هنا رأينا أميرالمؤمنين عليا (عليه‌السلام): محاربا و مجاهدا، و زاهدا و معرضا عن السلطان، حتي جاءه الأمر يسعي اليه دون العمل من أجله، فنهض بمسؤوليته الشرعية لا تأخذه في الله لومة لائم، فكان النموذج الأرقي للخليفة الحاكم بأمر الله (تعالي). بينما نجد الامام الحسن بن علي (عليه‌السلام) صابرا محتسبا مترصدا، لأنه رأي الغدر و الخيانة تفتك بجيشه غير المقاتل، و نظر الي الذمم و هي تشتري، و الي الضمائر و هي تباع، فأعرض عن الحكم لتفاقم هذه الظواهر المعقدة، و قد شكلت خطرا متفاقما، كاد أن يعصف بكيان الاسلام، فبادر الي الصلح المشروط الذي ما وفي به عدوه علي رؤوس الأشهاد، و بذلك سجل الامام الحسن نصرا فعليا علي معاوية، بأنه يغدر و يفجر، و بأن من كان كذلك ليس أهلا للامامة الشرعية. في حين نلحظ الامام الحسين بن علي سيدالشهداء (عليه‌السلام) يتجه الي الكفاح المسلح حينما رأي مسؤوليته تقتضي هذا الموقف. فأعلنها ثورة عارمة ضد الظلم و الاستبداد و الانحراف العقائدي، فضحي بنفسه و آله و صحابته، فكان مضرب المثل في الاباء و الشمم و الفداء و التضحية، و ذهب شهيد عظمته علي مذبح الحرية و الوعي الديني، و هو و ان لم يحقق نصرا فعليا في معركة الطف، و لكنه حقق [ صفحه 36] نصرا مستقبليا قوض فيه أركان الحكم الأموي، و أبقي جذوة النضال الديني متقدة مع الأجيال، و ظل رمزا شاخصا لكل عمل ثوري في تأريخ الاسلام. بينما نجد ولده الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) و قد عاش مأساة الطف بكل مشاهدها الدامية، كن قد ادرع الصبر لباسا، و أحيا ثبات الأبطال قائدا، و جدد عهد الرسول الأعظم داعيا، و أعلن حقوق الانسان مشرعا، فعاد ما أثر عنه يفوق مقررات الأمم المتحدة، و منظمات حقوق الانسان الدولية. و كان الامام محمد الباقر (عليه‌السلام) مؤسسا لمدرسة أهل البيت في فروعها العلمية المتعددة، و مجددا للحضارة الاسلامية علي رأس القرن الثاني من الهجرة، حينما كان الجهل مسيطرا علي الحياة الاجتماعية، و حينما كانت الدعوات منحرفة عن النهج السوي، و نزغات النزق و اللهو متحكمة في ضمير الجيل الناشي‌ء، فكانت ظاهرة العلم الرفيع الهادف يتزعمها الامام الباقر (عليه‌السلام)، مبتعدا عن مظاهر الزيف المعقدة في الجهل و الغرور و الدجل السياسي، متحفزا لخلق جيل تتكافأ فرصه الثقافية بما يتناسب مع حمل الاسلام نظاما و عقيدة و حياة، فكان له ذلك. و حينما تسلم الامام الصادق (عليه‌السلام) قيادة الأمة، بعد وفاة أبيه، عام (114 ه)، اتجه بالركب الحضاري - و قد رسخت أصوله - الي مبدأ جديد من القيم العليا، في حين تتصارع الأحزاب و رجال المؤامرات في الساحة علي استصفاء الملك و السلطان، الا أن تجربة الامام الصادق في السياسة و الحياة و الاجتماع، حددت له في ضوء مسؤوليته الرسالية التكليف الشرعي في بناء صرح الاسلام علي أسس رصينة لدي تنازع الأهواء، و تعدد النحل و المذاهب. أما حين يلتمع في الأفق بريق السلاح، و يلتهب المناخ بالثورة اثر الثورة، و يقرع الحديد بالحديد، و تسفك الدماء بين أبناء الدين الواحد دون جدوي [ صفحه 37] و دون أثر، و اذا بوريث النبوة يحتفظ بالبقية الباقية من حملة الاسلام، و يشمر ساعديه لاعادة الدين غضا طريا نديا في مبادئه، فتلتف حوله الأطراف كافة، كما يلتف الورق حول الشجرة النضرة، فكان زعيم الجماعة الاسلامية علما و عملا و كياسة، كما كان زعيم مدرسة أهل البيت اصالة و موضوعية و ازدهارا. حتي اذا تسلم منصب الامامة سيدنا و مولانا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عند وفاة أبيه الصادق عام (148 ه) و هو في العشرينات من العمر في ظل حكم ارهابي صارم، و سيف دموي قاطع عالج الأمر بروية فائقة، و بظواهر مضادة لتلك الممارسات اللاانسانية، فضاقت به السلطات ذرعا، و ارتهن مغيبا بين أطباق السجون و أقبية المعتقلات، و لم يمنعه ذلك من ارسال أشعته النافذة الي القلوب من خلال تلك الظواهر التي سنتحدث عنها اجمالا.

الورع و التقوي في ظاهرة ايجابية

و هي ميزة انفرد بها أئمة أهل البيت بأدق معانيها الهادئة، و تجلت بنضائد تلك السيرة الزكية لأولئك الميامين الأبرار، و الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) أحد النماذج الفضلي لهذا المنهج الدقيق، و الورع لديه ظاهرة ايجابية و ليست انهزامية، و التقوي لديه حقيقة ائتلافية و ليست سلبية، و التعامل مع الورع و التقوي منظور متطور لا يوازيه ذلك التهرب من الواقع، و لا التخفف من أعباء الحياة، و هما يمثلان لدي الامام حقيقة تأريخية في الاجتماع و الاندماج مع الناس، و لأنهما مفهومان من مفاهيم الاسلام فهما يتأطران بالصلاح و الاصلاح و رباطة الجأش، و ينزعان الي الصلابة و الايثار و الايمان المطلق، نعم هما مرتبطان بذلك الوثاق النزيه الطاهر: خشية الله في السر و العلن، و الخوف منه في الشدة و الرخاء، و هما مظهران للعبودية الخالصة المطمئنة، [ صفحه 38] و من هذا الخلال وصف الامام بأنه أعبد أهل زمانه و أفقههم، و كان يصلي نوافل الليل فيصلها بصلاة الصبح، فاذا طلعت الشمس خر ساجدا لله، و يقول في دعائه: «اللهم اني أسألك الراحة عند الموت، و العفو عند الحساب». و من دعائه: «عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك». و كان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع، و كان أوصل الناس لأهله و رحمه [56] . و كان يجازي المسي‌ء باحسانه اليه، و يقابل الجاني بعفوه عنه [57] و هذه ظواهر ايمانية ايجابية تمثل الورع و التقوي في صور متعددة، و كان عمله يكشف عن هذه الحقيقة في ملامح من رياضة السلوك، تحتضن الزهد و التقشف و الدربة كما حدث أخوه علي بن جعفر، قال: «خرجنا مع أخي موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في أربع عمر يمشي فيها الي مكة بعياله و أهله، واحدة منهن مشي فيها ستة و عشرين يوما!! و أخري خمسة و عشرين يوما، و أخري أربعة و عشرين يوما!! و أخري أحد عشر يوما» [58] . و في هذا المسلك توطين للنفس علي الشدائد، و رغبة ملحة في تحصيل منازل الأولياء، و هو يسير علي قدميه في طريقه الي حرم الله تعالي. أما اذ لحظت حياته الخاصة، فكان يقنع بالجشب من الطعام و الخشن من الثياب، و الاقلال من الأكل، و الانشغال بالسنن و الفروض. و كان مع هذا العيش البسيط يلبي نداء الاحتياج، و يقف مع الناس في الفرح و الحزن، و يشاطرهم الأسي في البؤس و الفقر، و يدفع بهم شوطا كبيرا [ صفحه 39] نحو الألفة و التوادد و حسن العشرة، و هو فيما بينهم كأحدهم في اصلاح ذات البين، و قضاء الحقوق، و حل الاشكال الاجتماعي.

حلم الامام و كظمه للغيظ

و هذه مميزة أخري اتسم بها الامام، و هي مرتبة في ترويض النفس لا ينالها الا ذو حظ عظيم، و قد كان حظ الامام منها الأوفر، ألا و هي الحلم و كظم الغيظ، و ليس هذا شيئا جديدا علي الامام فقد عرف به في أدوار حياته كلها، حتي أصبح ذلك شعارا لاصقا به، و لقبا يتسابق مع اسمه الشريف في العلمية عليه، حتي قال ابن أبي‌الحديد عنه «موسي بن جعفر بن محمد، هو العبد الصالح، جمع بين الفقه و الدين و النسك و الحلم و الصبر» [59] . و للامام في المشهد شواهد و أمثال و أحداث، ذكرها التأريخ في طياته، حتي عرف عنه أنه يحسن لمن يسي‌ء اليه، فقد ذكر السيد الأمين عن الخطيب البغدادي: «أن الامام موسي بن جعفر كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار» [60] . و حديث صراره في هذا الملحظ متواترة، حتي روي أبوالفرج بسنده عن يحيي بن الحسن، قال: (كان موسي بن جعفر اذا بلغه عن الرجل ما يكره، بعث اليه بصرة دنانير، و كانت صراره ما بين الثلثمائة الي المائتين الي المائة دينار، و كانت صرار موسي مثلا» [61] . و الامام (عليه‌السلام) يكظم غيظه عن أعدائه حتي يعودوا أولياءه، و عن مبغضيه حتي يكونوا أحباءه، و له في ذلك أخبار حسان. [ صفحه 40] قال الشيخ المفيد بسنده، و كذلك الخطيب البغدادي عن جده عن أصحابه: «أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب (رض) كان بالمدينة يؤذي أباالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و يسبه اذا رآه، و يشتم عليا (عليه‌السلام)، فقال للامام بعض جلسائه: دعنا نقتله، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، و زجرهم أشد الزجر، و سأل عن العمري، فذكر له أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة. فركب اليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره... و نزل فجلس عنده، و ضاحكه و قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال: مائة دينار. قال الامام: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا أعلم الغيب. قال الامام: انما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار. فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار، و قال: هذا زرعك علي حاله، فقام العمري فقبل رأسه، و سأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم اليه أبوالحسن (عليه‌السلام) و انصرف. و ذهب الامام الكاظم الي المسجد فوجد العمري جالسا، فلما نظر الي الامام، قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته». فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، قال: فخاصمهم و شاتمهم، و جعل يدعو لأبي‌الحسن موسي كلما دخل و خرج» [62] . [ صفحه 41] و من برامج حلم الامام و كظمه الغيظ: مداراته للناس، و ذلك ما يحتاج الي رحابة صدر، وسعة أفق، و انفتاح نفس، و له في ذلك أمثلة نابضة، و لعل من أطرفها: «أنه اجتاز بشر ذمة و فيهم ابن‌هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام و يدعيها، فمضي الرجل الي الأمام، و تعلق بلجام بغلته و ادعاها، فعرف الامام غايته، فنزل عن بغلته، و أعطاها له [63] . و من أمثلة حلمه الرائعة ضم الحلم الي الكرم، و التجاوز عن أصحاب السيئات، و قد روي الكليني عن معتب قال: «كان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) في حائط له يصرم، فنظرت الي غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمي بها وراء الحائط، فأتيته فأخذته و ذهبت به اليه، فقلت: جعلت فداك؛ اني وجدت هذا و هذه الكارة، فقال للغلام: فلان، قال: لبيك، قال: أتجوع؟ قال: لا يا سيدي، قال: فتعري؟ قال: لا يا سيدي، قال: فلأي شي‌ء أخذت هذه؟ قال: اشتهيت ذلك. قال: اذهب فهي لك، و قال: خلوا عنه» [64] . و قد يكون الحلم و كرم الأخلاق عسيرا في اللحظات الحاسمة، و قد يخرج المرء عن طوره في الاتزان عند الحرج، و لكن الامام في مثل هذا الموقع كان سيد الموقف، فقد روي ابن أبي‌الحديد المعتزلي: «أن عبدا لموسي بن جعفر (عليه‌السلام) قدم له صحفة فيها طعام حار، فعجل فصبها علي رأسه و وجهه، فغضب فقال له: «و الكاظمين الغيظ» قال الامام: قد كظمت. قال: «و العافين عن الناس» قال: قد عفوت. [ صفحه 42] قال: «و الله يحب المحسنين» قال: «انت حر لوجه الله، و قد نحلتك ضيعتي الفلانية» [65] . و أنت تري الامام في هذه الشواهد يصدر عن نفس مندمجة في معايير جديدة من الحلم و الكظم، فهو لا يكظم الغيظ فحسب، بل يتفضل و يعفو و يجود، فيخلق جوا نديا من المحبة و الألفة و السلام. و الامام يقصد عامدا الي هذا المنهج، فقد جمع أولاده و أوصاهم: «يا بني؛ اني أوصيكم بوصية من حفظها انفتح بها، اذا أتاكم آت، فأسمع أحدكم في الأذن اليمني مكروها، ثم تحول الي اليسري فاعتذر لكم، و قال: اني لم أقل شيئا فاقبلوا منه» [66] . و الامام في هذا كله ينطلق من مفهوم قرآني بعيد النظر، قوي الأسر، و هو يطبقه فعلا، ليدعم القول بالعمل. قال تعالي: (خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين) [67] . و قال تعالي: (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم) [68] . و من أولي من عدل القرآن بتطبيق مبادي‌ء القرآن. يضاف الي هذا كله؛ أن الامام يزين حلمه بالتواضع، و سيرته هذه بمكارم الأخلاق، و ذلك مسلك عرفاني له شواهده عند الامام. أورد السيد الأمين عن تحف العقول: ان الامام مر برجل من أهل السواد، دميم المنظر، فسلم عليه و نزل عنده، و حادثه طويلا، ثم عرض [ صفحه 43] عليه نفسه في القيام بحاجته... فقيل الامام: يابن رسول الله، أتنزل الي هذا؟ ثم تسأله عن حوائجه، و هو أحوج اليك؟ فقال: «عبد من عبيدالله، و أخ في كتاب الله، و جار في بلاد الله، يجمعنا و اياه خير الآباء آدم، و أفضل الأديان الاسلام، و لعل الدهر يرد من حاجتنا اليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه» [69] . و هذا النحو من التواضع فيه نظرة فاحصة لأصول الأخوة البشرية في ضوء انسانية الاسلام، و فيه تلويح بأن بقاء الحال من المحال، فهذا الرجل المحتاج اليوم، قد يضطر الآخرون لاحتياجه يوما ما، و تلك نظرات قل من يدقق فيها منفتحا عليها كما صنع الامام (عليه‌السلام).

ظاهرة السخاء و الكرم النفسي

نظر الامام الي سرف أبي‌جعفر المنصور، و سرف ولده المهدي، و تبذير موسي الهادي، و مجون هارون الرشيد، و هم يتناوبون علي احتجان أموال المسلمين، و يمعنون بمصادرة أملاكهم، و حقوق الناس بأيدي الطغمة الحاكمة تدار بها الكؤوس و موائد القمار، و مجالس العبث و اللهو، فكان الامام بظاهرة سخائه يمثل ردة فعل لاستبداد العباسيين في بخلهم علي الآخرين، و جشعهم المفرط في الاستيلاء علي مصادر الغني و الثروة، فعمد الي انعاش الضعفاء، و ارفاد المحرومين، و اجراء الرزق علي أهل الفاقة، فسارت الركبان بأنباء كرمه الفياض، و تحدث الشعب المسلم عن أفضال هذا السخاء و العطاء. قال الشيخ المفيد: «و كان أوصل الناس لأهله و رحمه، و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل اليهم الزنبيل فيه العين و الورق، و الأدقة و التمور، فيوصل ذلك، و لا يعلمون من أي جهة هذا» [70] . [ صفحه 44] و هذا منهج جديد في الاسرار بهذه الأعطيات، لتكون خالصة لوجهه الكريم، و لئلا يزري بالفقير فقره، و قد كفاه الامام ذلك. و لم تكن بين الامام و الفقراء أية وساطة، و انما هو معهم في قضاء حوائجهم وجها لوجه. فقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي: ان بعض الفقراء دخل علي الامام يسأله العطاء، فقال له الامام: لو جعل لك التمني في الدنيا، ما كنت تتمني؟ قال: كنت أتمني أن أرزق التقية في ديني، و قضاء حقوق اخواني، فاستحسن الامام جوابه، و أمر أن يعطي ألف دينار [71] . و كان الامام في كرمه يقابل الألطاف بالاحسان، و الهدية بالعطاء الوفير، فقد أهدي اليه أحد العبيد في بعض أسفاره شيئا من الألطاف فقبلها الامام بقبول حسن، و سأل عن اسم العبد و مولاه، فوقف عليه. فقال الامام لمولاه: «غلامك فلان تبيعه؟ قال له: جعلت فداك؛ الغلام لك و الضيعة، فاشتري أبوالحسن الضيعة و الرقيق بألف دينار، و أعتق العبد، و وهب له الضيعة...» [72] . و أمثلة كرم الامام عديدة، و هدفها البر و الاحسان، و طبيعتها اغاثة الملهوف، و امدادها ذلك الحلال الخالص الذي ينتقيه الامام من طيب ماله و غلات مزارعه، و أراضيه الموروثة، و تلك موارد سليمة الأصل، و ربما افتقرت أن يعمل الامام بنفسه علي انمائها، و أن يتفقدها بذاته من أجل اعمارها؛ و قد يستغرب هذا من الامام مع توفر مساعديه و غلمانه من جهة، و مع جلالة قدرة و عظيم منزلته من جهة أخري، و لكنه العمل الذي يوجهنا [ صفحه 45] نحوه، و ليكون به قدوة تحتذي لأتباعه و أوليائه، فالعمل شرف لا يدانيه شرف. و عمل الامام لا يقلل من قيمته القيادية علي الاطلاق، بل يقربه من النفوس الوادعة المطمئنة، و يعلي منزلته في أنظار ذوي الهمم العالية. روي علي بن حمزة قال: «رأيت أباالحسن (عليه‌السلام) يعمل في أرض له، قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت: جعلت فداك؛ أين الرجال؟ قال (عليه‌السلام): يا علي؛ قد عمل باليد من خير مني في أرضه. فقلت: و من هو؟ فقال (عليه‌السلام): رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) و آبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، و هو من عمل النبيين و المرسلين و الأوصياء و الصالحين» [73] . فاذا علمنا أن للامام ضياعا موروثة، و أن بعض المزارع كانت بحيازته بالاحياء لأراضيها، و أن قسما منها تملكها بالشراء، علمنا مصدر هذا الكرم، و مورد هذا السخاء الرهيف [74] . يقول الأستاذ الشيخ محمدحسن آل‌ياسين: «و كلمة يجب أن تسجل هنا... تلك هي أن هذا الكرم الواسع الذي أصبحت صرره مضرب المثل، لم يكن بفضل ما يصل الامام من الأموال الشرعية من أتباعه و شيعته في شرق الأرض و غربها، لأن ايصال تلك الأموال لمستحقيها لا يعد كرما و جودا. و انما تجسد ذلك السخاء الثر و العطاء المغدق بسبب ما كان يصله من حاصل ضياعه و مزارعه التي دخلت في ملكه شراء أو ارثا من أسلافه» [75] . [ صفحه 46] و هنا نسجل ظاهرة يرددها المعنيون بسيرة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و هي ظاهرة صراره التي يضرب بها المثل حتي قيل: «عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» [76] . و معني هذا أن في صراره الغني و الاغناء، و في صلاته بها الكفاية و الثراء، و اذا دققنا النظر في قيمة الدينار الذهبي في عصره عرفنا مدي قيمة صراره بالصلات بالمائة و المائتين و الثلاث و الأربع حتي الألف من الدنانير، فهي تسبب لمن تصل اليه الغني بحدود معينة، و للامام في ذلك أخبار طريفة تقدم بعضها في موقعها من الرسالة شاهدا أو نموذجا. قال الاربلي: «و ذكر جماعة من أهل العلم أن أباالحسن (عليه‌السلام) كان يصل بالمائتي دينار الي الثلاثمائة دينار، و كانت صرار موسي (عليه‌السلام) مثلا» [77] . و روي عن محمد بن عبدالله البكري قال: «قدمت الي المدينة أطلب دينا فأعياني، فقلت: لو ذهبت الي أبي‌الحسن (عليه‌السلام) فشكوت اليه، فأتيته... و سألني عن حاجتي فذكرت له قصتي، فدخل و لم يقم الا يسيرا حتي خرج الي، فقال لغلامه: اذهب، ثم مد يده الي فدفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار...» [78] . فاذا علمنا أن ثمن الدار في عصر الامام أربعون دينارا كما يقول المؤرخون، عرفنا أن هذا المبلغ ضخم في حينه. و من النماذج الراقية لكرمه الفياض ما حدث به عيسي بن محمد بن مغيث القرظي- و كان قد بلغ تسعين سنة حينما حدث بهذا الحديث - [ صفحه 47] قال: «زرعت بطيخا و قثاء و قرعا في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها: «أم عظام» فلما بلغ الخير و استوي الزرع، بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله، و كنت قد غرمت علي الزرع و في ثمن جملين: مائة و عشرين دينارا. فبينما أنا جالس طلع موسي بن جعفر بن محمد، فسلم ثم قال: ايش حالك؟ فقلت أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي، قال: و كم غرمت فيه؟ قلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين، فقال: يا عرفة؛ زن لأبي المغيث مائة و خمسين دينارا... فقلت: يا مبارك، ادخل و ادع لي فيها، فدخل و دعا... ثم علفت عليه الجملين و شيعته، فجعل الله فيها البركة، زكت فبعث منها بعشرة آلاف» [79] . و كان الامام (عليه‌السلام) يتصدق بالمزارع و الضياع و البساتين، و يوقف بعضها علي ذريته من بعده، و قد جمع روايات ذلك و أشار اليه الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين [80] . و هذا أيضا يضاف الي قاموس كرم الامام و فيضه الزاخر. و لنا أن نتساءل عن هذه النفس الكريمة في العطاء و الايثار، كيف اندفعت هذا الاندفاع لاحياء النفوس، و بعث الأمل في القلوب البائسة و المنكوبة؟ و الاجابة عن هذا لا تحتاج كثير تأمل أو طول تفكير، فما يصدر عن الامام في هذا الصدد نابع من مفاهيم انسانية عليا سبق لها آباؤه و أجداده، و لا حاجة بنا أن نذكر أن الامام الحسن بن علي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) كان يوصف بأنه (كريم أهل البيت) و هذا أشهر من أن يذكر، و لا كبير جهد لدينا أن نعتبر هذا الجود الغامر من صميم المفردات [ صفحه 48] الانسانية التي طرحها الامام بحيث اعتبر ذلك مثالا لشجرة في الجنة فقال: (السخاء شجرة في الجنة، و أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصين منها أدته الي الجنة. و البخل شجرة في النار، و أغصانها في الدنيا، من تعلق بغصن منها أدته الي النار) [81] . [ صفحه 49]

الامام و المسيرة العلمية الرائدة

المدرسة الأولي

كانت جامعة أهل البيت (عليهم‌السلام) هي الأمل الباسم لصيانة التراث الاسلامي من الضياع، و مؤسس هذه الجامعة هو أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) بما غرس من أصول معرفية ذات ارتباط عريق بالفيض النبوي الشامل، فالنبي مدينة العلم و علي بابها باجماع المسلمين، و كان سيدا شباب أهل الجنة الحسن و الحسين يغذيان أصول هذه الجامعة بما سمح لها العصر، و ما وجدا الي ذلك سبيلا، و كان الامام زين‌العابدين مشفقا علي هذه الجامعة من الانحلال و التدهور بعصر فقدت به مقاييس الفضيلة، و لكنه استطاع من خلال قيادته و مناداته بحقوق الانسان، و سيل أدعيته الهادرة أن يضفي ظلال الاستقرار علي المبادي‌ء العامة للجامعة دون الاغراق بالتفصيلات الدقيقة. حتي اذا أوشك القرن الأول [ صفحه 50] الهجري علي الغياب، التمع في الأفق ذلك الشهاب الثاقب الامام محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام). فكان المجدد الحقيقي لحضارة التشريع، و كان الرائد الصادق لمعارف الرسالة الاسلامية، بناء و تطويرا و اذاعة و نشرا [82] . حتي اذا تسلم الامام جعفر بن محمد الصادق قيادة الأمة، كان زعيم مدرسة أهل البيت الريادية دون منازع، و بدأ التحرر الانساني في العقل يخطو خطوات رهيفة في الانفتاح علي كل جديد، و بدأ الفكر المعرفي يتطلع الي المزيد من الثقافة العليا، و انحسر المد العلمي عن كوكبة من المعارف السائرة مع الزمن، فللتشريع أساطينه، و للفقه جهابذته، و للحديث رجاله، و للعلم التجريبي متخصصوه، و للعلوم الانسانية روادها الأوائل، و للابداع في النظر و الفنون و الحياة العقلية جمهرة من المتتبعين و العاملين باخلاص و أمانة. ولدي اضطلاع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالمسؤولية القيادية، نهد بصيانة هذا التراث الضخم، و عمل علي اذاعته في الآفاق، و أصبح العلم الشاخص الذي ترنو له الأبصار و الضمائر. و كانت هذه المدرسة عالمية الدلالة، انسانية العطاء، اسلامية المصادر، تتسم بالعمق و الأصالة، و تمتاز بالموسوعية النادرة، و كان من خصائصها الشمولية و الاستيعاب لمفردات الحضارة الاسلامية، لا تجمد علي مادة، و لا تقف عند موضوع، فهي متجددة الآراء، موضوعية النظرة، سليمة الأداء. و كان من رصانتها الاجتماعية أنها للانسان بكل شرائحه المتعددة، و للمسلم المتحفز بكل آثارها الراسخة، و هي بذلك تحقق مبدأ الرسالة العامة التي لا تقتصر علي موقع، و لا تتحدد باقليم، بعيدة عن الأثرة، قريبة من التفاعل الاجتماعي. [ صفحه 51] و اذا تدارسنا ببصيرة و امعان مركز الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من هذه المدرسة؛ رأيناه القائم علي ادارتها و استمراريتها بعد أبيه، و وجدناه المشفق الحدب علي اغناء هذه المدرسة و اثرائها، فكان العامل اليقظ علي تطبيق أهدافها المركزية من جهة، و الناشط الواعي في نمو حركتها من جهة أخري، و قد حقق ذلك بما عرف عنه بأنه الرائد المتمرس لمعالم التحضر الانساني، و القائد المجرب في ميادين التجديد و الابداع. و لم يكن الامام مخلي السرب، آمن الجريرة، و ليس لديه من النفوذ ما يجعله في وضع استقراري يحمد عليه، و ليست له الحرية الكاملة في التحرك و الانطلاق، و مع هذا كله، لم تكن السجون و المعتقلات التي تعرض لها، و لا موجات الارهاب السياسي التي واجهها لتعيق مسيرة هذه المدرسة الصاعدة، لأن الكفاح في غمرات هذا المناخ كان متواصلا علي أية حال، حتي ان رسائله و اجاباته و فتاواه لتصدر عنه و هو في غياهب السجون، فيتلقاها تلامذته و أولياؤه بالنشر و الاذاعة و ابلاغ الناس. و لم تكن الرقابة الصارمة لتحد من نشاط هذه المدرسة الا بحدود، و ذلك أن الامام قد غرس في كل دار منها نبتة طيبة تجد التربة الصالحة للازدهار و الاثمار، فيتناولها تلامذته المقربون بكل حرص و أمانة، و هم أداة التبليغ الاسلامي الأمين. ان معاناة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) كانت كفيلة بالقضاء علي كيان هذه المدرسة، و لكن الشعلة ما كان لها أن تنطفي‌ء، و قد خلق من حولها الرواة و المحدثون و الأعلام يذكون جذوتها، و يتابعون ايراءها و ايقادها، و هي تزدهر ما بين المغرب و المشرق. و من هنا بلغت الذروة في العطاء السائر الذي يدان فيه للامام عبر تطلعاته في جعل العلم بديلا لجاهلية النظام العباسي في كل ممارساته التي تدل علي الجهل و الضلال و الزيغ المتعمد، و كان ذلك [ صفحه 52] خطرا داهما علي كيان الأمة يهددها بالدمار و البوار، لولا أن يتداركها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في ذلك التوجه النابض. يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «و كان من أهم ما عني به الامام موسي (عليه‌السلام) نشر الثقافة الاسلامية، و اشاعة المعارف العامة بين الناس، و قد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول، و تثقيف الأفكار، و تقدم المسلمين في الميادين العلمية... و نظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد، و تحدث الركبان بوفرة مواهبه و مقدراته العلمية، و قد دان شطر كبير من المسلمين بامامته، و جعلوا مودته، و الأخذ بقوله، فرضا من فروض الدين» [83] . و هنا يقترن الهدف الديني بالهدف العلمي، فتكون الحصيلة المزدوجة من اقترانهما: أن ما يبلغ علميا يصدر عن قناعة دينية، و بذلك يكتب لأي أثر في هذا المنظور السيرورة النافذة. و كان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد استشف من وراء الغيب أن حياته مهددة بالخطر سياسيا، و ليس في مقدوره تغيير هذا المنحني السياسي الطائش، فاتجه الي الرسالة العلمية مناضلا في ميادينها كافة، و التزم الخط المنهجي لجامعة أهل البيت في تخطيطها البعيد، و هو يستشرف العالم الاسلامي في حركته العلمية الدائبة، فغذاها - أعني الجامعة - بفيض امداده الذي لا ينضب، و تبني الملتفين حول أغصانها بأبوة مانحة للتوجيه و النصح الكريم، و تلقي هؤلاء هذا العطف المثالي بجد و اجتهاد فما فرطوا في شي‌ء، بل اهتبلوا الفرص المواتية - علي شدة الرقابة - للافادة و الاضاءة، و كان هذا الحافز الشريف، يسترعي نظر الامام في العطاء، فكتب، و ألف، و حدث، و أفتي، و ناظر، و حاضر، فصان الجامعة بأبنائها الواثقين، و نشر مبادئها الكبري في شتي الممالك و الأقاليم، فكانت قبلة الطالبين و السالكين معا. [ صفحه 53] و عاد هذا التراث الهادي متوافرا لدي العلماء، و في أيدي العاملين علي ارفاد الثقافة الملتزمة، و الصابرين علي شدة المحنة في التحري و الرصد. و نجم عن هذا كله: خلود هذه المدرسة السيارة بعطائها الجزل، و كيانها المستقل. و استقلالية مدرسة أهل البيت حقيقة زمنية شاخصة، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة، و هي لا تسير بركاب الحاكمين، و هي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي العقول، و هي لا تتوسل بالمال علي تعزيز نفوذها، و هي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس، بل قامت علي سجيتها، فطرية الأداء، عفوية الارادة. و كان دور الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) دور المجدد و المطور لمبادي‌ء هذه المدرسة بما أوتي من قوة عقلية و ادراك علمي متميز، و بما استقي من معارف متسلسلة من ذلك الرافد الأساس الذي تفجرت منه أمواج الثقافة عند أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام). و عندما تتحقق هذه الظواهر في أي أثر معرفي يكون الخلود السرمدي الرابض في صدر الحياة، و تكون الافادة من تراثه الأثير في الموقع المتجدد، و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فما علينا الا أن نتحدث لماما عن موارد هذا العلم و مصادره.

مصادر علم الامام

هناك مسألة كبري تشغل مساحة كبيرة من التساؤل، و تثير في طريقها جملة من الاشكاليات التي لا يستهان بها، و قد يبدو عليها الاستغراب حينا، و الاستبعاد حينا آخر. هذه المسألة تنحصر في مصادر علم الأئمة (عليهم‌السلام). و تشكل الاجابة عن هذه المسألة مشكلة معقدة عند بعض الباحثين الذين يجهلون كنه حقائق الأشياء. [ صفحه 54] و ما دمنا في هذا الصدد، فان الموروث الاستقرائي هو الذي يجيب عن هذه الحقيقة باعتبارها أرفع مستوي عن الأوهام، فقد بحثنا من قبل موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام) فكانت من منبعين، هما: 1 - العلم التكسبي الذي توارثه كل امام عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه و آله). 2 - العلم الموهبي الذي يرتبط بالله (تعالي) بما يفيضه من لدنه علي الأئمة لاكمال متطلبات الرسالة، باعتبار الامامة امتدادا للنبوة [84] . و نحاول استقراء لمحات من الموضوع، في ضوء مصادر علم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، حيث نجد المبدأ ثابتا بدلائله العلمية. ان العلم الوراثي الذي احتضنه الامام الكاظم (عليه‌السلام) مما تدل عليه الآثار و تصرح به الروايات الصادرة عن آبائه (عليه‌السلام): و هذا النوع من العلم له مصدران هما الكتاب و السنة ليس غير. و اذا كان الأمر كذلك، خرجنا من عهدة التساؤل و الاثارة، فهو علم كسبي يتدارسه الامام في ظل من كان قبله من الأئمة شفاها أو تدوينا أو رواية، أو هي كلها، و الامام موسي بن جعفر تلميذ أبيه الامام الصادق، و الصادق تلميذ أبيه الامام الباقر حتي ينتهي أمر ذلك الي أميرالمؤمنين، و علم أميرالمؤمنين فرع أثير من علم رسول الله (صلي الله عليه و آله) ما في ذلك من شك. اذن نحن أمام مخزون مدخر لكنوز العلم السائر مصدره، ذلك الباب الذي لا يوصد، و هو مبني اما علي الرواية المتسلسلة حتي تتصل برسول الله (صلي الله عليه و آله) و اما علي أساس العلم التكسبي الذي يتلقاه الامام من أبيه، و هكذا. و كان الامام أحمد بن حنبل زعيم الحنابلة شديد الاعجاب بما يرويه عن الامام موسي بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام)، فيقول: «حدثني موسي بن جعفر، [ صفحه 55] قال: حدثني أبي‌جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي‌محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي‌طالب، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله)». ثم قال أحمد بن حنبل بعد رواية هذا السند بالحرف الواحد: «هذا اسناد لو قري‌ء علي المجنون لأفاق» [85] . و من كان هذا سنده في الرواية عرفت مصدر علمه الوراثي. لقد سأل خلف بن حماد الامام موسي بن جعفر مسألة، فأجابه عليها، فقال له خلف: جعلت فداك؛ من يحسن هذا غيرك؟ فرفع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يده الي السماء، و قال: «اني و الله ما أخبرك الا عن رسول الله عن جبرئيل عن الله (تعالي) [86] و هناك ما هو أصرح من هذا في النظر الي موقع علم الوراثة من علمه، قال ابن المغيرة: «كنت أنا و يحيي بن عبدالله بن الحسن عند أبي‌الحسن (عليه‌السلام) (يعني الامام موسي بن جعفر) قال له يحيي: جعلت فداك، انهم يزعمون أنك تعلم الغيب فقال:... لا و الله؛ ما هي الا وراثة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله)» [87] . و هنالك انباء آخر عن العلم الوراثي التدويني لديه (عليه‌السلام)، فقد سئل الحسين بن زيد عن معرفة الامام موسي بن جعفر ببعض الغيب، فقال: «و كيف لا يعرفه، و عنده خط علي (عليه‌السلام)، و املاء رسول الله (صلي الله عليه و آله)» [88] . و هذا العلم غير خاضع للاجتهاد، و هو نص صريح مطلق، و لا مصدر له الا الكتاب و السنة كما هو الواقع بما تفيده الآثار، فقد روي سماعة عن الامام موسي بن جعفر، قال: قلت له: أكل شي‌ء في كتاب الله و سنة [ صفحه 56] نبيه (صلي الله عليه و آله)، أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شي‌ء في كتاب الله و سنة نبيه (صلي الله عليه و آله) [89] . و بهذا يتضح للباحث المحايد أن مصدر علم الامام يستند الي الركنين الأساسيين في التشريع: القرآن العظيم و السنة النبوية. و كان انتظام هذا المصدر متجانسا مع طبيعة حياة الامام الدراسية، فما تحدث أحد أنه درس علي أحد، أو أخذ عن أحد، فليس له شيوخ أو أساتيذ كما هو شأن العلماء الآخرين، و لم يحضر في حلقة أستاذ، و لم يتخرج في معهد ما، و انما تخرج في مدرسة أبيه ضمن التسلسل الاسنادي في الرواية و الحديث و التفقه العام، حتي أصبح قائد هذه المدرسة بعد حين. و لا أدل علي صحة هذا القول و واقعه من شهادة هارون الرشيد في حق الامام، و هو يشير اليه فيما قاله لولده المأمون: «يا بني؛ هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر بن محمد، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا» [90] . و كان من العلم الصحيح الذي أشار اليه الرشيد، أن الامام (عليه‌السلام) يؤكد علي الكتاب و السنة فيما يتلقي من العلم، و يدرأ الرأي و القياس في الافتاء، فعن سماعة عنه (عليه‌السلام) قال: و سألته فقلت: ان أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك و جدك، و سمعوا منهما الحديث، فربما كان شي‌ء يبتلي به بعض أصحابنا، و ليس في ذلك عندهم شي‌ء يفتيه، و عندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال: لا، انما هلك من كان قبلكم بالقياس. فقلت له: لم لا يقبل ذلك؟ [ صفحه 57] فقال: لأنه ليس من شي‌ء الا و جاء في الكتاب و السنة» [91] . و اتساع السنة، و استيعاب الكتاب كما يدور في الابتلاء العملي أو النظري للأمة، مما لا شك فيه، نعم قد يجهله من يجهل، و قد يعلمه من يعلم، و انما علم الكتاب و السنة عند أهله. و قد أكد الامام هذا الملحظ في حديث آخر قال في آخره: «... أتي رسول الله الناس بما استغنوا به في عهده، و بما يكتفون به من بعده الي يوم القيامة». فقلت له: فضاع منه شي‌ء؟ فقال: لا، هو عند أهله» [92] . و هو بهذا يشير الي وراثته لهذا العلم الذي انضوي عليه صدره. و بهذا يتجلي لنا مصدر علم الامام استقراء و واقعا. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و هكذا يتضح أن كتاب الله و سنة رسوله الأكرم (صلي الله عليه و آله) كاناهما المصدرين الحقيقين الوحيدين حصرا و تعيينا لعلم الامام الكاظم، و دائرة معارفه الكبري الشاملة، و أن كل ما كان يحمله من فضل و فكر متفرع منهما، و كان أبوه الامام الصادق - و هو بحر العلم و ينبوع المعرفة باجماع المسلمين و اتفاق الباحثين - طريقه الأوحد الي تناول ذلك كله، و أستاذه الأكبر الذي لم يعرف أستاذا غيره، و قد تلقي من نميره المتدفق صفو العطاء و الرواء، فكانت حصيلة تلك الأستاذية المثلي و ذلك الارث العظيم بروز هذا الانسان الملائكي الفريد، مجسدا علي الأرض بصورة الامام موسي بن جعفر» [93] . [ صفحه 58] و اننا اذ نثبت هذا الأصل، و هو ثابت بالدليل، فليس من قبيل التعصب أو المبالغة، فلسنا منهما في شي‌ء، و انما هو البحث الموضوعي الخالص لا القول الجزاف، بل هناك ما هو صريح بالسنة التدوينية لدي الامام، و فيه ما يحتاج اليه الناس، بل فيه فوق هذا الانفتاح علي مغاليق الأمور، و قد أكد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي هذا الملحظ بقوله: «ان عندنا ما لا نحتاج معه الي الناس، و ان الناس ليحتاجون الينا، و ان عندنا كتابا من املاء رسول الله (صلي الله عليه و آله) و خط علي (عليه‌السلام)، صحيفة فيها كل حلال و حرام. و انكم لتأتون بالأمر، فنعرف اذا أخذتم به، و نعرف اذا تركتموه» [94] . و أما العلم الموهبي الذي أشار له البحث، فهو لطف الهي بعيد عن المزاعم الغالية، و لكنه فوق مدرسة الكسب و التعلم التقليدي، و حقيقته نابعة فيما آتاه الله عباده المقربين في ضوء قوله (تعالي) - فيما اقتص من خبر موسي (عليه‌السلام) مع العالم الذي قد يعرف بالخضر - (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما) [95] فهو علم لدني يهبه الله لمن يشاء من عباده الصديقين، و كان أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) من أبرز مصاديق هؤلاء العباد. و هذا ما يفسر لنا قول الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام): «مبلغ علمنا علي ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث، فأما الماضي فمفسر، و أما الغابر فمزبور، و أما الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع» [96] . [ صفحه 59] و ليس ما تحدث عنه الامام في الوجه الثالث و هو العلم الحادث، من العلم بالغيب اختصاصا، و لكنه من علم الغيب افاضة أو اخبارا، فعلم الغيب بحد ذاته مما يختص به الله وحده، و هو بوصفه مما يختص به الله غيره باعتباره حالة ممكنة يخص بها الله من يشاء من رسله و أصفيائه ضمن قوله (تعالي): (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا - الا من ارتضي من رسول..) [97] . و هذا ليس من قبيل الوحي، و لكنه يتأتي بوسائط تحدث عنها الامام، فالقذف في القلوب، و النقر في الأسماع، و الالهام اليقيني الخالص، كل أولئك من مفردات هذا العلم. فعن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام): «علم عالمكم؛ سماع أم الهام؟ فقال: قد يكون سماعا، و يكون الهاما، و يكونان معا» [98] . و هذا ما يفسر لنا تلك الانباءات الغيبية المتواترة التي تحدث عنها الامام ببصر قاطع، و أخبر عن وقوعها فوقعت. فكتب الامام الي الرشيد: «يقول موسي بن جعفر: رسولي يأتيك يوم الجمعة، و يخبرك بما يري، و ستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم و المعتدي علي صاحبه». فأخبر هارون بذلك فقال: (ان لم يدع النبوة بعد أيام، فما أحسن حالنا). فلما كان يوم الجمعة مات الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) [99] . [ صفحه 60] و كاخباره عن مدي بعض الأعمار، و ما تبقي منها، و ما أزيد عليها، بلغة جادة، فكان ذلك [100] . و كالتماسه أن يدعو للمفضل و هو في النزع الأخير، فأخبر بموته قائلا: قد استراح [101] . و كتعظيمه لأجر بيان بن نافع بأبيه، و اخباره بأنه قبض في هذه الساعة، فيقي ابن نافع متحيرا، حتي أتاه الخبر مطابقا [102] . و كاخباره بمن سيموت في سفره قبل أن يصل الي أهله [103] . و كاخباره بحضور أجل من وصل عمته فزيد الي أجله عشرين [104] . و كقوله (عليه‌السلام) لعبدالله بن يحيي الكاهلي: «اعمل خيرا في سنتك هذه، فان أجلك قد دنا». فما لبث الا يسيرا حتي مات [105] . و كأمره الفوري لعثمان بن عيسي، و قد نزل هو و رفاقه في منزل، فأمره أن يخرجوا منه الساعة. فلما خرجوا انهارت الدار [106] . و كقوله (عليه‌السلام) لاسحق بن عمار: «يا اسحاق تموت الي سنتين، و يتشتت أهلك و ولدك، و عيالك، و أهل بيتك...» فكان كما أخبر [107] . [ صفحه 61] و كالخبر المستفيض المعروف بدرهم شطيطة، و هو درهم أرسلته هذه المرأة الصالحة حقا شرعيا للامام، و قد أخفاه المرسل بيده عن الامام، ازدراء بقلة المبلغ و تواضعه، فطالبه الامام بذلك الدرهم عينه، و وزنه درهم و دانقان، في الكيس الذي فيه أربعمائة درهم [108] . و كان هذا كله رصدا لحقائق الأشياء بلمح غيبي لا سبيل معه الي التردد و الانكار، فهو واقع بالفعل. و قد سئل الامام الصادق (عليه‌السلام) عن الامام يعلم الغيب؟ فقال: «لا، لكن اذا أراد أن يعلم الشي‌ء، أعلمه الله» [109] . و قد سئل الامام موسي بن جعفر نفسه: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبوجعفر (عليه‌السلام): «يبسط لنا العلم فنعلم، و يقبض عنا فلا نعلم». و قال: «سر الله (عزوجل)، أسره الي جبرئيل، و أسره جبرئيل الي محمد (صلي الله عليه و آله) و أسره محمد الي من شاء» [110] . و هذا الطرح الموضوعي للأئمة يوحي بصريح القول: أن علم الغيب خاصة الهية، و لكن الله (تعالي) قد يفيض من هذا الرافد علي رسوله، و رسوله يفيض علي أهل بيته، و أهل بيته قد يتحدثون بجزء منه بضرس قاطع، فينبئون عن الحدث المستقبلي بلغة الحتم. و قد كان أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) دقيقا في الرد علي من نسب اليه علم الغيب، فقال: «ليس هو بعلم غيب، و انما هو تعلم من ذي علم، و انما علم الغيب علم الساعة، و ما عدده الله بقوله: [ صفحه 62] (ان الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) [111] . و ما سوي ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، و دعا لي أن يعيه صدري، و تفتطم عليه جوانحي» [112] . و الامامية لا تستكثر امداد العلم الموهبي لأئمة أهل البيت و يشاركهم في هذا ذوو النظر العقلي من أهل الاسلام، و أدلته في السيرة أكثر من أن تحصي، و لقد قال الامام الصادق لعبدالله النجاشي: «و الله ان فينا من ينكث في قلبه، و ينقر في اذنه، و تصافحه الملائكة». فقلت: اليوم، أو كان قبل اليوم؟ فقال الامام: «اليوم و الله يابن النجاشي» [113] . و لا أدل علي هذا من خوف الجبابرة و هلع الطغاة من هذه الظاهرة، فهم يتحسسون منها، و ترتعد لها فرائصهم، فقد تتحدث عن مستقبلهم، و قد تكشف عما خبأ الدهر لهم. و قد يبدأ الامام ذلك كما أخبر المأمون بأنه سيلي الخلافة [114] . و لا برهان علي حقيقة هذا الأمر مما اكده الدينوري في روايته: ان الرشيد قال يوما للأصمعي، و هو يحدثه عن ولديه الأمين و المأمون: «كيف بكم؟ اذا ظهر تعاديهما، و بدا تباغضهما، و وقع بأسهما بينهما؟ حتي تسفك الدماء، و يود كثير من الأحياء أنهم كانوا موتي». [ صفحه 63] فسألنا الأصمعي:... هذا شي‌ء قضي به المنجمون عند مولدهما، أو شي‌ء أثرته العلماء في أمرهما؟ قال الرشيد: بل شي‌ء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما. قال الرواة: «فكان المأمون يقول في خلافته: قد كان الرشيد سمع جميع ما جري بيننا من موسي بن جعفر بن محمد، فلذلك قال ما قال» [115] . و سواء استجاب أعداء الامام لهذا النوع من العلم الذي تحدث به القرآن فيما اقتص من نبأ موسي مع العالم، و صفة هذا العالم بأنه علم من الله علما، أم لم يستجيبوا، فقد ألمحت الي نماذج من لمحات هذا العلم في ضوء ما نطقت به الوثائق التأريخية. و مهما يكن من أمر؛ فان الامام موسي بن جعفر في علمه الوراثي و اللدني قد بلغ الغاية القصوي، فما سئل الا أجاب، و ما حدث الا استوفي، و ما أنبأ الا كان، و ما قال الا صدق. و كان سبيل انتشار علمه وجوده الشريف مباشرة قبل اعتقاله، فهو يدلي به لرواد المعرفة وقادة الفكر العلمي. و كان سبيل انتشاره بعد اعتقاله، تلامذته المقربون، و ما صدر عنه من رسائل و اجابات و هو في غياهب السجون. و قد ظهر من هذين ما طبق الخافقين.

سيرورة علم الامام

نهض الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بأعباء الامامة في ريعان الشباب و عنفوان الفتوة، و عمره عشرون عاما. و رغم الظروف القاتلة للتحرك، و الليالي الحالكة التي قضاها في السجون، فان المهمة الأساسية لديه هي [ صفحه 64] «تعليم الانسان» و هذا التعليم الانساني له أبعاده في آفاق متعددة من الهداية و التشريع و المعارف الانسانية بمفرداتها الهائلة، و كل هذه الآثار كانت تدور في فكر الامام، فيجسدها بأطاريح تعبر عن آرائه المتميزة، و هي تعبر عن الفكر الاسلامي ليس غير. و قد بدأ المد الاسلامي العقلي بالانحسار نتيجة السياسة المترفة و الحياة اللاهية التي انتهجها الطغاة، فكان علي الامام التصدي للمفاهيم و النظريات الجديدة التي تسربت الي البيئة العربية جراء هذا التلاقح الحضاري بين الأمم و الشعوب، و كان عليه أن يرصد ذلك بحذر و يقظة و اعداد، من أجل الحفاظ علي جوهر الاسلام، و كانت المبادي‌ء و النظريات الوافدة تشكل محورا جديدا فيه كثير من الأخطار، و فيه كثير من التحديات، و فيه كثير من الاضافة المعرفية أيضا. و بدأ الامام في تصديه لهذه الظواهر، فدرأ منها ما رآه يصطدم بتعاليم السماء، و أقر منها الأفكار التي تحمل سمة التقاليد العريقة للحضارات بحيث يري مداليلها الموروثة تصب في روافد معرفية لا تتعارض مع مفاهيم الاسلام في رسالته الانسانية. و كل حرصه أن لا يهمش دور التراث الاسلامي في بناء الحياة العقلية الجديدة كما ستري هذا في الفصل القادم مفصلا. و قد مهد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بذهنه الوقاد المتفجر، بين يدي تلك الامدادات الداعية الي احياء التراث التشريعي في الاسلام، و رفد القيم الدينية و تطويرها و اغنائها بالعناصر النابعة من صميم العقيدة لا من خارجها، و هو بذلك يوحد الفكر الانساني في ملامح متأصلة في خضم التيارات الكبري المتصارعة. و كانت ثقافة الامام التكاملية - باعتباره قد أعد اعدادا خالصا - تفيض عبر صور مشرقة تحمل بين سماتها ألوان الأصالة و الابداع، فتشكل ألقا [ صفحه 65] مذهلا في استيحاء الفكر الاسلامي الخالص من مصادره الأولي، و هو يزخر برهافة عالية و حس مجرد. و كانت نقطة الانطلاق في هذا الخط المحوري: التأكيد علي تلقي العلم الناهض، و التحصن بسياجه المحكم، و من ثم الشروع بتحقيق الهدف المركزي الذي يسعي اليه. و لتطبيق هذا المبدأ كانت دعوة الامام بادي‌ء ذي بدء تتمثل بتوجيهه النابض: «تعلم من العلم ما جهلت، و علم الجاهل ما علمت» [116] . و هذه الدعوة ترمي الي هدف ذي شقين رئيسيين في الارادة: تعلم ما تجهل، و تعليم من يجهل، و تلك هي النظرة الشمولية التي تدرأ الأنانية، و تدعو الي السماح بانتشار العلم و ضبطه و مدارسته و تعليمه. و قد ندب الامام لهذه المهمة من يستمع الي القول فيتبع أحسنه، و أكد طلب العلم، و علل فضيلة ذلك بقوله: «زاحموا العلماء في مجالسهم و لو حبوا علي الركب، فان الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» [117] . و هذا التشبيه التمثيلي الذي يسره الامام الكاظم (عليه‌السلام)، صورة ناطقة حية تمثل احياء القلوب بنور الحكمة، كاحياء الأرض الميتة بوابل المطر، و هذا يقضي بأن الجاهل من الأموات، و المزاحم للعلماء من أجل الافادة من الأحياء فعلا. و دخل علي الامام الحسن بن عبدالله و كان زاهدا، و من أعبد أهل زمانه في المسجد، فأومأ اليه الامام فأتاه، فقال له الامام: يا أباعلي ما [ صفحه 66] أحب الي ما أنت عليه و أسرني به، الا أنه ليست لك معرفة، فاطلب المعرفة. فقال له: جعلت فداك، و ما المعرفة؟ قال الامام: اذهب تفقه و اطلب الحديث. قال عمن؟ قال الامام: عن فقهاء المدينة، ثم اعرض الحديث علي... ففعل، فدله الامام علي ما يلزمه من المعرفة [118] . و روي ابن‌حمدون في تذكرته: قال موسي بن جعفر (عليه‌السلام): وجدت علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربك. و الثانية: أن تعرف ما صنع بك. و الثالثة: أن تعرف ما أراد منك. و الرابعة: أن تعرف ما يخرجك عن دينك. و قد فسر ابن‌حمدون هذه الأربع: الأولي: وجوب معرفة الله تعالي التي هي اللطف. الثانية: معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر و العبادة. الثالثة: أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك، و ندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي أراده منك، فتستحق بذلك الثواب. الرابعة: أن تعرف الشي‌ء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه [119] . و بديهي أن الامام قد أراد بهذا العلم ذلك العلم الروحي، و غايته أن ينبع من المعرفة الداخلية للانسان، و هو العلم الالهي الذي يقف بالانسان علي [ صفحه 67] الحقيقة، فتصقل بها روحه، و يمسك بها عمله، و يتعلق بأضوائها ضميره. فهو يتحدث عن العلم و يريد غايته. و لهذا نجد الامام يحث علي العلم، و يفضله علي العبادة الساذجة، فيقول: «فقيه واحد... أشد علي ابليس من ألف عابد، لأن العابد همه نفسه فقط، و الفقيه همه مع ذات نفسه ذات عباد الله و ارضائه... و لذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد، و ألف ألف عابد» [120] . و يعلل الامام قبول العمل مع العلم، و رده مع الجهل، فيقول: «قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، و كثير العمل من أهل الهوي و الجهل مردود» [121] . و كان من غرر أقواله، و عجيب نصائحه، و بليغ وصاياه قوله: «محادثة العالم علي المزابل خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» [122] . و المزابل معروفة و هي مجتمع النفايات، و الزرابي هي البسط و الفرش الفاخرة، و اذا كانت الأولي رفضها العلم طبيعة و منطقا، فهي خير من الثانية مع اقبال النفس عليها. و هدف الامام في هذا التوجه هو التوصل الي حقائق ناصعة و مرضية عند الله تعالي، لأنها الطريق الأمثل في استقراء المجهول. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و لكي يكون العلم في جانبه الديني مرضيا عند الله تعالي، و محققا هدفه الكبير في تعزيز الايمان و ترسيخ الاعتقاد و الابتعاد عما يسخط الله عزوجل، نهي الامام عن الأخذ بالبدع، و حذر أشد [ صفحه 68] التحذير من العمل بالرأي خلافا لحكم الله و نص رسوله (صلي الله عليه و آله) و في ذلك يقول مخاطبا بعض أصحابه: «لا تكونن مبتدعا، من نظر برأيه هلك، و من ترك أهل بيت نبيه (صلي الله عليه و آله) ضل، و من ترك كتاب الله و قول نبيه (صلي الله عليه و آله) كفر» [123] . و لما كان القياس في بعض حالاته ضربا من ضروب الابتداع، و لونا من ألوان الأخذ بالرأي، فقد نهي (عليه‌السلام) أصرح النهي عن العمل بالقياس في تقرير حكم النظير و المشابه ان لم تكن العلة المشتركة منصوصة بصريح اللفظ. و جاء في الرواية عن سماعة بن مهران أنه قال للامام: «انا نجتمع فنتذاكر ما عندنا، فلا يرد علينا شي‌ء الا و عندنا فيه شي‌ء مسطر، و ذلك مما أنعم الله به علينا بكم. ثم يرد علينا الشي‌ء الصغير ليس عندنا فيه شي‌ء، فينظر بعضنا الي بعض، و عندنا ما يشبهه، فنقيس علي أحسنه». فقال الامام (عليه‌السلام): ما لكم و للقياس!! انما هلك من هلك قبلكم بالقياس [124] [125] . و كان علم الامام متنقل الأفياء في موضوعات متعددة، و مفردات لا حصر لها، و قد اشتملت عليها المصادر المتخصصة، و قد أوردت أحاديثه و رواياته و استنتاجاته و هي تزخر بالعطاء السمح الكثير، وكان أبرزها ما ضم الكتاب و احتوته السنة من الروائع، و قد تلقاها الناس في شتي القصبات و الأقاليم فحدبوا علي مدارستها. و له شذرات ثمينة استخرجها من القرآن الكريم، تتجلي بتفسيرها منزلة أهل البيت القيادية، و تؤكد دور الولاية الكبري في قبول الأعمال و تلقي الحسنات، و الانابة الي الله عزوجل. [ صفحه 69] ففي قوله تعالي: (بلي من كسب سيئة) [126] . قال الامام: بغضنا [127] . و في قوله تعالي: (و أحاطت به خطيئته...) [128] . قال الامام: «من أشرك في دمائنا» [129] . و في قوله تعالي: (فاكتبنا مع الشاهدين...) [130] . قال الامام: «نحن نشهد للرسل علي أممها» [131] . و في قوله تعالي: (و اذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم...) [132] . قال الامام: «هم عدونا أهل البيت، اذا سألوا عنا قالوا ذلك.» [133] . و في قوله تعالي: (و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون) [134] . قال الامام: «ان الله أعز و أمنع من أن يظلم، أو ينسب نفسه الي الظلم، ولكن الله خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته» [135] . و في قوله تعالي: (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين...) [136] . قال الامام: «الذين فجروا في حق الأئمة، و اعتدوا عليهم» [137] . [ صفحه 70] و في قوله تعالي: (و وهبنا له اسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين - و زكريا و يحيي و عيسي...) [138] . استدل فيهما الامام علي الرشيد بأن أبناء أميرالمؤمنين هم أبناء رسول الله (صلي الله عليه و آله) من جهة أمهم فاطمة (عليهاالسلام)، فقال: «انما ألحق عيسي بذراري الأنبياء من قبل مريم، و ألحقنا بذراري الأنبياء من قبل فاطمة، لا من قبل علي (عليه‌السلام)». فقال له الرشيد: أحسنت أحسنت يا موسي، زدني من قوله. فقال الامام: اجتمعت الأمة برها و فاجرها، أن حديث النصراني حين دعاه النبي (صلي الله عليه و آله) الي المباهلة، لم يكن في الكساء الا النبي و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم‌السلام)، فقال تبارك و تعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و أنفسنا و أنفسكم...) [139] . فكان تأويل (أبناءنا) الحسن و الحسين، و (نساءنا) فاطمة، و (أنفسنا) علي بن أبي‌طالب. فقال الرشيد: أحسنت [140] . و في هذا السياق أورد الامام موسي بن جعفر عند المهدي العباسي، في قوله تعالي: (و آت ذا القربي حقه...) [141] . قال الامام:، ان الله تبارك و تعالي لما فتح علي نبيه فداك و ما ولاها، لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، فأنزل الله علي نبيه (صلي الله عليه و آله): [ صفحه 71] (و آت ذا القربي حقه...) [142] ، فلم يدر رسول الله (صلي الله عليه و آله) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، و راجع جبرئيل (عليه‌السلام) ربه، فأوحي الله اليه: أن ادفع فدك لفاطمة (عليهاالسلام) [143] . و في مقام التحذير و الانذار اتخذ الامام سبيلا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أورده الامام رفيقا تارة، و عنيفا تارة أخري، ليحقق أبعاد هذه الفريضة التي ابتعد عنها الناس، و هو يسير ذلك - مضافا الي التحذير - في سياق العبرة و الموعظة، و له في هذا مواقف أغمض التأريخ عنها عينا، و أضرب عن ذكرها صفحا، و أكتفي منها بنموذج صريح صارخ، فيما أورده الشيخ المفيد بسنده: «فقد أدخل الامام علي الرشيد، فكان مما قاله الرشيد له حين أدخل عليه، ما هذه الدار؟ قال الامام: هذه دار الفاسقين، قال الله تعالي: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها و ان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا...) [144] . فقال له هارون: فدار من هي؟ قال الامام: هي لشيعتنا فترة و لغيرهم فتنة. قال هارون: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال الامام: أخذت منه عامرة، و لا يأخذها الا معمورة. [ صفحه 72] قال هارون: أين شيعتك؟ فقرأ الامام: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتي تأتيهم البينة) [145] . قال هارون: فنحن كفار؟ قال الامام: لا، و لكن كما قال الله: (... الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار) [146] . «فغضب عند ذلك الرشيد و غلظ عليه، فقد لقيه الامام أبوالحسن (عليه‌السلام) بمثل هذه المقالة و ما رهبه، و هذا خلاف قول من زعم أنه هرب منه من الخوف» [147] . و بهذه الشذرات النادرة نكتفي ايرادا لما فجره الامام موسي (عليه‌السلام) من طاقات قرآنية تهدي سواء السبيل فاذا وقفنا عند باب الفقه و الأحكام تشريعا و انتقاء و افاضة، فاجأنا ذلك البحر الخضم الذي استقت منه مصادر التشريع أحكامها في الفقه و الحديث. و أبرزها: الكافي للكليني، و من لا يحضره الفقيه للصدوق، و الاستبصار و التهذيب للشيخ الطوسي، و وسائل الشيعة للحر العاملي، و سواها من كتب الفقه و الحديث و الاستدلال بما هو متوافر فيها من فتاوي و أحاديث و روايات، جعل لها القرآن شاهدا، و استخرج من آياته دليلا، و ذلك من باب النوادر التي لا يمكن أن تقدر بثمن لأنها من الكنوز و الذخائر النفيسة. «سئل (عليه‌السلام): ما يقول العالم (عليه‌السلام) في رجل قال: نذرت لله لأعتقن كل مملوك كان في رقي قديما، و كان له جماعة من المماليك؟ فكان الجواب [ صفحه 73] بخطه (عليه‌السلام): ليعتقن من كان في ملكه من قبل ستة أشهر، و الدليل علي صحة ذلك قوله تعالي: (و القمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم) [148] . «و الحديث ما ليس له ستة أشهر» [149] . و في السياق نفسه، سئل (عليه‌السلام): ما يقول العالم في رجل قال: و الله لأتصدقن بمال كثير؛ فما يتصدق؟ فأجاب الامام بخطه: ان كان الذي حلف من أرباب شياه، فليتصدق بأربع و ثمانين شاة، و ان كان من أصحاب النعم، فليتصدق بأربعة و ثمانين بعيرا، و ان كان من أرباب الدراهم فليتصدق بأربعة و ثمانين درهما، و الدليل عليه قوله تعالي: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) [150] . فعدت مواطن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قبل نزول تلك الآية، فكانت أربعة و ثمانين موطنا [151] . و سئل (عليه‌السلام)، ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت، و قطع رأس الميت و أخذ الكفن؟ فكان الجواب بخطه: يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الحرز، و يلزم مائة دينار لقطع رأس الميت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح [152] . [ صفحه 74] و عن علي بن أبي‌حمزة، قال: كنا بمكة سنة من السنين، فأصاب الناس تلك السنة صاعقة كبيرة حتي مات من ذلك خلق كثير، فدخلت علي أبي‌الحسن (عليه‌السلام)، فقال مبتدئا من غير أن أسأله: يا علي ينبغي للغريق و المصعوق أن يتربص به ثلاثا الي أن تجي‌ء منه ريح يدل علي موته. قلت: جعلت فداك، كأنك تخبرني أن دفن ناس كثير أحياء؟ قال: نعم، يا علي، قد دفن ناس كثير أحياء، و ما ماتوا الا في قبورهم» [153] . ان هذه الاجابات و هي سمحة لا عسير فيها، و واضحة لا ابهام بها، توحي بالمستوي العلمي لموازين الشريعة و أحكامها، و كانت استدلالاتها حجة لا تقبل الريب أو الشك، و هي غيض من فيض. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و يظهر من بعض النصوص المأثورة عن الامام أن هناك من كان يعترض عليه في أحكامه و فتاواه، فلا يجد مناصا من اضافة شرح أو زيادة استدلال، لاقناع خصمه بصواب قوله و صحة فتواه». و قد أورد بعض النماذج علي ذلك [154] . و من ذلك: أن أبايوسف أمره الرشيد بسؤال الامام. فقال للامام: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال الامام: لا يصلح. قال أبويوسف: فيضرب الخباء في الأرض و يدخل البيت؟ قال: نعم. قال: فما الفرق بين الموضعين؟ قال الامام: ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ [ صفحه 75] قال: لا. قال الامام: فتقضي الصوم؟ قال: نعم. قال الامام: و لم؟ قال أبويوسف: هكذا جاء. قال الامام: و هكذا جاء [155] . و قد دحض الامام في اجابته هذه مبدأ القول بالقياس، كما أوضح بأن الأحكام توقيفية تؤخذ كما ورد بها النص، و أن لا اجتهاد في مقابل النص. و عن علي بن يقطين، قال: سأل المهدي أباالحسن (عليه‌السلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها، و لا يعرفون التحريم لها. فقال له أبوالحسن (عليه‌السلام): بل هي محرمة في كتاب الله عزوجل. فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ يا أباالحسن. فقال الامام: قول الله عزوجل: (انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق...) [156] . و أما الاثم فانها الخمرة بعينها [157] . قال أبوعلي الطبرسي (ت 548 ه) و الاثم: قيل هو الذنوب و المعاصي عن الجبائي، و قيل الاثم ما دون الحد عن الفراء، و قيل: الاثم الخمر، و أنشد الأخفش: شربت الاثم حتي ضل عقلي كذاك الاثم تفعل بالعقول [ صفحه 76] و قال الآخر: نهانا رسول الله أن نقرب الخنا و أن نشرب الاثم الذي يوجب الوزرا [158] . و قد ظهر مما تقدم: أن الاثم لا يخلو من معنيين: اما أن يكون هو المعاصي و الذنوب، و الخمرة أحد مفرداتها و أبرز مصاديقها، و اما أن يكون هو الخمرة بعينها كما تدل عليه الرواية عن الامام الكاظم، و يؤيده لغة و استعمالا عند العرب الشاهدان الشعريان المتقدمان، و علي كلا المذهبين في المعني، فالخمرة محرمة بهذه الآية، اما لكونها أحد مصاديق الاثم، و اما لأنها الاثم ذاته، و اما بهما معا [159] . و لم يكن علم الامام مقتصرا علي جانب معين، و انما كان يعالج شتي المواضيع بأسلوبه الرقيق، و بلغات متعددة؛ فقد كلم الامام غلاما بالحبشية، و أمره، و نهاه، و أوصاه... فعجب علي بن أبي‌حمزة من ذلك، فقال الامام: «لا تعجب، فما خفي عليك من أمر الامام أعجب و أكثر، و ما هذا من الامام في علمه الا كطير أخذ بمنقاره من البحر قطرة من ماء، أفتري الذي أخذ بمنقاره نقص من البحر شيئا؟ قال: فان الامام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده، و عجائبه أكثر من ذلك، و الطير حين أخذ من البحر قطرة بمنقاره لم ينقص من البحر شيئا، كذلك العالم لا ينقصه علمه شيئا، و لا تنفد عجائبه» [160] . ان هذه الظاهرة في التفوق العلمي تمثل ذاتية التحرك المعرفي لدي الامام، حتي أنها جلبت انتباه السلاطين و هم لا يعبأون بالعلم، و لكنهم تحلقوا حول [ صفحه 77] الامام اختيارا، و هم أدري الناس بكفايته العلمية، فقد روي أن هارون الرشيد أنفذ الي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فأحضره، فلما حضر عنده، قال ان الناس ينسبونكم يابن فاطمة الي علم النجوم، و ان معرفتكم بها معرفة جيدة، و فقهاء العامة يقولون: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: اذا ذكرني أصحابي فاسكتوا، و اذا ذكروا القدر فاسكتوا، و اذا ذكروا النجوم فاسكتوا. و أميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) كان أعلم الخلائق بعلم النجوم، و أولاده و ذريته الذين يقول الشيعة بامامتهم كانوا عارفين بها. فقال له الكاظم (عليه‌السلام): هذا حديث ضعيف، و اسناده مطعون فيه، و الله تبارك و تعالي قد مدح النجوم، و لولا أن النجوم صحيحة لما مدحها الله عزوجل، و الأنبياء (عليهم‌السلام) كانوا عالمين بها، و قد قال الله تعالي في حق ابراهيم الخليل (عليه‌السلام): (و كذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين) [161] . و قال في موضع آخر: (فنظر نظرة في النجوم - فقال اني سقيم) [162] . فلو لم يكن عالما بعلم النجوم ما نظر فيها، و قال: اني سقيم. و ادريس (عليه‌السلام) كان أعلم أهل زمانه بالنجوم. و الله تعالي قد أقسم بمواقع النجوم: (و انه لقسم لو تعلمون عظيم) [163] . و قال في موضع: (و النازعات غرقا) الي قوله: (فالمدبرات أمرا) [164] . [ صفحه 78] يعني بذلك اثني عشر برجا، و سبعة سيارات، و الذي يظهر بالليل و النهار بأمر الله عزوجل، و بعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم، و هو علم الأنبياء و الأوصياء و ورثة الأنبياء الذين قال الله عزوجل: (و علامات و بالنجم هم يهتدون) [165] . و نحن نعرف هذا العلم و ما نذكره [166] . و هذا الاتساع في الادراك المعرفي لا يصدر الا من تلك النجمة المختارة فيما وهبت من العلم الرفيع، و كما قال هو (عليه‌السلام): «ان الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شي‌ء، فيقول: لا أدري» [167] . و لما كان الهدف العلمي معنيا باصلاح الذات أولا، كان اهتمام الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالنفس الانسانية و تهذيبها معلما بارزا من معالم تنمية الأخلاق و تقويمها لديه، فعمل علي شحذ الهمم و صقلها، و حدب علي معالجة ظواهر التخلف الاجتماعي، و عني بالتربية الفاضلة المهذبة، و أراد للانسان حياة الصدق و الايثار، و حبب اليه محاسبة نفسه، و موازنة عمله. قال الامام: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنا استزاد الله، و ان عمل شيئا استغفر الله منه، و تاب اليه» [168] . هذه المحاسبة أداة فاعلة في الازدياد من الخير، و العمل علي ضبط النفس و صيانتها من السيئات، و لو ارتطم بها كان عليه الانابة و الاستغفار، و هذا كله من سيماء الصالحين. [ صفحه 79] و يضيف الامام (عليه‌السلام) الي هذا التوجه خصائص أخري ينبغي لأهل الخير الارتباط بها علي الصعيد العملي فيقول: «التحدث بنعم الله شكر، و ترك ذلك كفر، فأربطوا نعم ربكم بالشكر، و حصنوا أموالكم بالزكاة، و ادفعوا البلاء بالدعاء، فان الدعاء جنة ترد البلاء و قد أبرم ابراما» [169] . و ندب الامام الي تعظيم أمر الخير، و اجتناب قليل الذنب، و أشار الي مراقبة النفس بخوف الله سرا، و دعا الي مكارم أخري بقوله: «لا تستكثروا كثير الخير، و لا تستقلوا قليل الذنوب، فان قليل الذنوب يجتمع حتي يصير كثيرا، و خافوا الله في السر حتي تعطوا من أنفسكم النصف، و سارعوا الي طاعة الله، و أصدقوا الحديث، و أدوا الأمانة، فان ذلك لكم، و لا تدخلوا فيما لا يحل لكم، فانما ذلك عليكم» [170] . و هذا المنطق الجزل منحي جديد في استباق الخير، و الانتهاء عن الفكر، و الاسراع في الطاعة، و حمل معالي الأمور شعارا. و نهي الامام النفس عن الهوي، و النفس أثمن متاع ينبغي أن لا يفرط فيه جزافا، و لا يلقي له القياد انحدارا، قال الامام: «اتق المرتقي السهل اذا كان منحدره و عرا» [171] . و الحديث هذا من غرر الأحاديث بلاغة و دلالة و ايجازا. و دعا الامام الي الموازنة في استقبال أيام العمر، فلا يستوي لدي الانسان الأريب يوماه، و لا يستغل بيوم عما قبله، و ليكن يومه خيرا من أمسه، و غده خيرا من يومه، لئلا يغبن. [ صفحه 80] قال الامام: «من استوي يوماه فهو مغبون، و من كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، و من لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان، و من كان الي النقصان فالموت خير له من الحياة» [172] . و كانت دعوة الامام الي التقوي تمثل ملحظا ايجابيا يتوصل معه المرء الي الحق، فيقول: «اتق الله و قل الحق و ان كان فيه هلاكك، فان فيه نجاتك. اتق الله ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك، فان فيه هلاكك، اياك أن تمنع في طاعة الله فتنفق مثليه في معصية الله. المؤمن مثل كفتي ميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه» [173] . و كان من أروع ما تحدث به الامام بيانا و دلالة و استقطابا تلك النفحات الندية العطرة التي تختلج في جوانحه الحري، و هي تسترعي مشاعر الانسان نحو أخيه الانسان، و سعي المؤمن في قضاء حاجة أخيه المؤمن، و وقوف الأخ جنب أخيه في الله لدي الشدائد، و متابعة الاحسان، ذلك كله في توجيهات رائعة المساس بصلب حياة الناس و تفجير طاقاتهم، و اعادة جزء من حقوقهم اليهم، مما أتاحه الله علي أيدي الساعين الي الخير. قال الامام: «ان لله عبادا في الأرض يسعون في قضاء حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، و من أدخل علي مؤمن سرورا أفرح الله قلبه يوم القيامة» [174] . [ صفحه 81] أين نحن اليوم من هذه الحياة الحرة الكريمة التي يدعو الامام الي الالمام بها؟ و أين هو السعي الحثيث لقضاء حوائج الناس؟ و أين أصحاب الجاه و المال و السلطان عن هذه المعاني التي تنبع من الضمير في تلبية النداء الانساني؟ و أين هم الراغبون بالأمن يوم القيامة؛ مساكين هؤلاء الذين تتاح لهم الفرص في اجراء المعروف و هم يتخلفون عنه، و ما الحياة الا اصطناع الخيرات، و الأيام دول... ألا وازع من شعور و احساس بالنفع الاجتماعي؟ ألا عودة بالغرائز الي ما فيه خير الدنيا و الآخرة؟ ألا اصلاح لدخائل هذا الكائن التائه فيلجأ الي مواني‌ء الايثار و العمل الصالح؟ يخيل الي أن الناس هم الناس في الأثرة و الأنانية، يسعي أكثرهم الي الشر و المكر، و يسعي القليل منهم الي الخير و المعروف، و قليل أولئك الذين يعانون من أجل مصلحة الآخرين، و لكنهم الآمنون يوم القيامة. و هنالك حديث ذو اسناد عال يرويه العبد الصالح علي بن جعفر الصادق عن أخيه الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فيه التحذير كل التحذير من التقصير في قضاء حاجة المسلم لأخيه المسلم، و هو من مضامين الاختبار العملي لحقيقة ولاية أهل البيت، و هو محك الاتصال بهذه الولاية و الفوز بها، و الا فهو النهش في القبر من قبل أبشع ضروب الأفاعي حتي يوم القيامة. يقول الامام: «من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك و تعالي ساقها اليه، فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، و هو موصول بولاية الله تبارك و تعالي، و ان رده عن حاجته و هو يقدر علي قضائها سلط الله سليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة مغفورا له أو معذبا، فان عذره الطالب كان أسوأ حالا» [175] . [ صفحه 82] و كان الامام شديد الوطأة علي الرافضين لاصطناع هذا المعروف المفترض، فهو ينذر و يحذر، و هو ينبي‌ء و يخبر، عسي أن تتسع ذهنية أهل الحول و الطول و الفاعلية لاستقبال هذا التوجيه و التسديد. قال الامام: «من قصد اليه رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره و هو قادر، فقد قطع ولاية الله عزوجل» [176] . و لم ينس الامام أن يتعاهد الناس بضروب التوجيه نحو الخير بكل طرقه و وسائله و أساليبه، و هو يريد للمسلم أن يتسم بالرجولة و الاستقلالية و القرار، و أن لا يعيش ذنبا أو تبعا، و أن لا يري مذبذبا لا الي هؤلاء و لا الي هؤلاء فالانسان موقف، و الموقف سمة ذوي الادراك العقلي في التمييز الدقيق بين الحق و الباطل، و افراز الخير عن الشر، في رؤية مركزية. فعن الفضيل بن يونس الكاتب، قال: قال لي أبوالحسن موسي بن جعفر بن محمد (عليه‌السلام): «أبلغ خيرا، و قل خيرا، و لا تكونن امعة». قلت: و ما الأمعة؟ قال الامام: تقول أنا مع الناس، و أنا كواحد من الناس. ان رسول الله (صلي الله عليه و آله)، قال: «يا أيها الناس، انهما نجدان، نجد خير و نجد شر، فما بال نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير» [177] . و لقائل أن يقول ما علاقة هذا كله بسيرورة علم الامام، و قد يكون الاعتراض وجيها، الا أن نظرة فاحصة في المثل العليا التي يدعو اليها العلم، تفترض أن هذه الانسانيات الصارخة من أهم أهداف ذلك العلم الذي يدعو [ صفحه 83] الي الحب و الاخاء و السلام و المواساة، و هو ما رأيته في هذا الطرح، و كان استقبال النخبة الواعية لهذه المعطيات الخيرة سبيلا رائعا الي انتشار علم الامام في الآفاق، و هذا ما يؤكد عليه الامام الرضا نجل الامام موسي بن جعفر (عليهماالسلام)، قال الامام الرضا: «رحم الله عبدا أحيا أمرنا؛ فقيل له: و كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا و يعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا» [178] . أليس ما قدمناه من محاسن الكلام؟ أليس كلامهم جزءا من علومهم؟ و اذا ودعت هذا الجانب من العطاء العلمي السمح، و أردت الوقوف علي الحياة العقلية عند الامام، فستجده عملاق النظر العقلي، و بكل الجدل الكلامي المفعم بروح الحضارة و التألق الفكري، بما سيره من مناظرات و محاضرات و محاورات تكفل بها الفصل القادم. و اذا أردت طلائع الاصرار علي افاضة العلم في أحلك الظروف، فما عليك الا الوقوف علي تلك المراسلات و المكاتبات التي حررها الامام (عليه‌السلام) سواء أكان في المدينة المنورة في ظل الرقابة و الرصد السياسي، أم كان في محنة الارهاب في قعر السجون و المعتقلات، فان الظاهرة اللائحة في هذا الأثر أن الامام كان علي أهبة الاستعداد المتكامل للاجابة الناجعة. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين في هذا الشأن: «لم يكن بامكان السائلين و المستفهمين الراغبين في معرفة حكم الشرع و رأي الدين، أن يحضروا الي المدينة لملاقاة الامام و سماع ما يغنيهم به فيما يريدون معرفته و الوقوف علي وجه الصواب فيه، بل كان بين هؤلاء المؤمنين المنتشرين في أصقاع العالم الاسلامي من لا يجد وسيلة الا مكاتبة الامام [ صفحه 84] للسؤال منه عما يخص شؤون دينه أو هموم دنياه و مشاكلها المستجدة علي الدوام، و كان الامام يتلقي تلك الكتب برحابة صدر، و يقرأها بامعان، و يحرر لهم أجوبة ذلك كتابة أيضا [179] . و يبدو من قراءة تلك المكاتبات و الجوابات أن الامام لم يكن يكتفي في بعض الأحيان بمجرد الرد علي مورد السؤال و بيان الحكم الشرعي فيه، و انما كان يتعدي هذا الجانب بعد الاجابة عليه الي التنبيه علي أمور أخري ليست من صلب المطلب الذي حرر الكتاب لأجله، و لكنها ذات مساس بصاحب الرسالة فيما يتعلق بوهم فكري قد سقط فيه، أو شأن دنيوي قد جهله أو غفل عما ينطوي عليه من نتائج غير محمودة العاقبة...» [180] . و هنالك آثار تدل علي هذا الملحظ بالاشارة الي تنبيهات خارجة عن الموضوع داخلة فيه، فهي غيره و هي امتداد له [181] و الذي يعنينا هذا الزخم الهائل من الاجابات التي تندفع بدقة و امعان لتعيد الي الذهن ما رآه السيد أمير علي الهندي عندما تحدث عن مدي الخسارة الكبري التي مني بها العالم الاسلامي بوفاة الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام)، و لكنه استثني بقوله: «غير أن الحلقة العلمية - لحسن الطالع - لم تتوقف بوفاته، اذ طفقت تزدهر برئاسة ابنه موسي، الملقب بالكاظم». لقد كان هذا الازدهار علي يد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حقيقة علمية لا فرضية اعلامية، فعلي الرغم من كل المعوقات الجامحة التي مني بها عصره، و في ظل جميع الافرازات السياسية المضنية، رأينا عطاء الامام حثيثا في شموليته، [ صفحه 85] مشرقا في انسانيته، متوسعا في ترامي أطرافه. و كان من التوفيق الالهي و اللمح الغيبي المتواصل أن نشأ في ظل الامام و رعايته جيل عتيد من أعاظم تلامذته و طلابه في مرافقتهم اياه و ملازمتهم له، فهم قد انتهلوا من نمير علمه العذب، و هم أيضا قد بادروا الي تسجيل ذلك في الآثار، مما أوجد حالة علمية تحدوها الرغبة الملحة في اشاعة المعرفة الانسانية، و تدفعهم النيات الخالصة الي تعميق ما حصلوا عليه من الثقافية التشريعية النقية، و تواكبهم الآمال المشرقة في تحصيل المعارف الاسلامية الجوهرية، و كان هذا الترويض قد حرمهم كثيرا من الامتيازات و الحقوق في حياتهم السياسية، فلم ينعموا برفاه اقتصادي، و لم يحلموا بجاه اعتباري، و لم يحصلوا علي مكسب اضافي، و كان العكس هو الصحيح، فالدولة لهم بالمرصاد، تتعقب حركاتهم و سكناتهم، و تحتجن حقوقهم العامة و الخاصة، و تصادر لهم كل حرية. و بتعبير أوضح: فان تلامذة الامام بالتفافهم حول علم أهل البيت (عليهم‌السلام)، قد اتخذوا التضحية مبدأ، و الحرمان شعارا، لما سوف يتعرضون له من النقمة و البؤس و الشقاء، و لما سوف يطرأ علي حياتهم و استقرارهم من جور و عسف، و لما سوف تتعرض له حريتهم الشخصية من ملاحقة أجهزة القمع و الارهاب.

تلامذة الامام و التراث العلمي

احتضن تلامذة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خزانة التراث العلمي للامام، و نهض هؤلاء التلامذة بعب‌ء الرواية و التحديث و التأليف و التصنيف، و شرعوا بمهمة التلقي الحثيث لينهضوا بمهمة الابلاغ و التبليغ، و ما عتموا أن أجادوا فني المدارسة و البحث، و من ثم تخصصت كل طائفة منهم بفن من الفنون الأساسية كان أبرزها: علوم القرآن، الحديث، الفقه، الأصول، الكلام، الغريب، المنطق، الفلسفة، و الانسانيات بعامة. [ صفحه 86] فكان منهم المفسرون و المحدثون و الرواة و علماء الأخبار، و رجال التشريع، و قادة الفكر الامامي، و رواد الثقافة الحرة، و حماة التراث. و لم تكن معارف الامام لتفرض علي الطلاب فرضا في شي‌ء من مفرداتها الموسوعية الضخمة، و انما كانت حرية الاختيار من ألمع ملامحها، و ارادة التخصص هي الحاكمة في المشروع العلمي، دون أية ضغوط أو احراجات أو تعقيد، فالاكراه غير وارد علي الاطلاق في فرض علم معين؛ نعم لا ريب أن علوم الشريعة أسماها منزلة، و أجداها عائدية، لأنها من سبل الهداية. و الظاهرة التي تلحظ في الاتجاه كثرة تلامذة الامام، و تعدد نزعاتهم العلمية، و المنظور العام لهذه الظاهرة يؤكد حقيقتين: الأولي: تتمثل بهذه الأعداد الهائلة لأولئك التلامذة مع وجود الصارف التعسفي لازديادها، نظرا لاجراءات الضغط السياسي. الثانية: تتمثل بذلك المخزون الثقافي المدخر و هو يفيض بالحرية و الأكاديمية في مجالي التخصص و البحث الطليق علي حد سواء، و هذا ما نهضت به في بداية القرن العشرين الجامعات الرصينة في العالم، و الا ما كان لدي الأثنيين و الاغريقيين قبل المسيح (عليه‌السلام)، حينما كان بعض الفلاسفة يتنعمون الهواء الطلق و هم يلقون دروسهم بحرية في حدود. و لست أعلم مصدرا حديثيا أو روائيا من موسوعات الامامية الا و عرض لمئات الرواة و المحدثين و العلماء من أصحاب الامام و تلامذته، يضاف لذلك كتب التراجم و السيرة و الفهارس و الببلغرافيا [182] . [ صفحه 87] يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «لقد احتفي بالامام - موسي بن جعفر (عليه‌السلام) - أثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء و رواة الحديث ممن تتلمذ في جامعة أبيه الكبري التي أنارت العقل الانساني، و أطلقته من عقال الجهل، و قد أفاض عليهم الامام الشي‌ء الكثير من علومه و معارفه المستمدة من علم جده الرسول (صلي الله عليه و آله)، كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه...» [183] . و كان احتفاء هؤلاء التلامذة فيه كثير من الاعداد الحضاري، و كثير من الحرص المعرفي، و هناك نص ثمين في هذا السياق رواه ابن طاووس، و النص هذا يشير الي: أن أصحاب الامام و خواصه كانوا يحضرون مجلسه، و معهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف، و أميال، فاذا نطق الامام بكلمة، أو أفتي في نازلة، بادروا الي تسجيل ذلك [184] . و تلامذة الامام كتلامذة غيره من العظماء، ليسوا في سوية واحدة، و انما تختلف مراتبهم في الضبط و العدالة و الوثاقة، فمنهم الطبقة العليا الرفيعة المعبر عنهم: بأصحاب الاجماع الذين أشار اليهم الشيخ الطوسي (ت 660 ه) بقوله: «انه اجتمع أصحابنا علي تصديق ستة نفر من فقهاء الكاظم و الرضا (عليهماالسلام)، و هم: يونس بن عبدالرحمن، و صفوان بن يحيي بياع السابري، و محمد بن أبي‌عمير، و عبدالله بن المغيرة، و الحسن بن محبوب السراد، و أحمد بن محمد بن أبي‌نصر...» [185] . و منهم من هو دون ذلك، و هو ما تتكفل بالاشارة اليه مصادر الجرح و التعديل عند الامامية. [ صفحه 88] و هؤلاء أصحاب الاجماع يمتازون بأن لهم مؤلفات و روايات تؤخذ بعين الرضا و التسليم لمضامينها كما قيل أن مراسيل ابن أبي‌عمير كمسانيد غيره من الثقات. و قد ألف صفوان بن يحيي أكثر من ثلاثين مؤلفا، و روي عن أربعين من تلامذة الامام الصادق (عليه‌السلام). و ألف يونس بن عبدالرحمن أكثر من ثلاثين مؤلفا نص عليها آل‌ياسين [186] . و ألف عبدالله بن المغيرة الكوفي الخزاز ثلاثين كتابا، أبرزها: كتاب الزكاة، و كتاب الصلاة، و كتاب الفرائض، و كتاب الوضوء، و كتاب في أصناف الكلام [187] . أما الحسن بن محبوب السراد فمؤلفاته كثيرة، و هو من ثقات أصحاب الامامين موسي بن جعفر، و ولده علي الرضا (عليهماالسلام) [188] . و لأحمد بن محمد بن أبي‌نصر البزنطي عدة مؤلفات نص عليها ابن النديم [189] . يقول الأستاذ هاشم معروف الحسني بعد ذكره لهؤلاء الثقات: «هؤلاء الستة، و ستة من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق، قد أجمع المحدثون علي تصديقهم و الأخذ بمروياتهم، و هذا ما تعنيه تسميتهم بأصحاب الاجماع» [190] . و الحديث عن ثقات الأصحاب قد يطول بنا، فهم من الكثرة بمكان، و الذي يعنينا من هذا كله: أن هؤلاء فرادي و مجتمعين قد شكلوا المحور [ صفحه 89] الأساسي لنشر علم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فنهد كل منهم بمهمته ما استطاع الي ذلك سبيلا دون ملل أو كلل. فكانوا رجال المهمات الصعبة كما يقال اليوم. و لا نريد أن نؤكد علي هؤلاء فحسب، فقد كان من ثقاته: الحسن بن علي بن فضال الكوفي، و عثمان بن عيسي، و داود بن كثير الرقي، و علي بن الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام). و من خواص أصحابه: علي بن يقطين، و أبوالصلت: عبدالسلام الهروي، و اسماعيل بن مهران، و أحمد بن محمد الحلبي، و موسي بن بكير الواسطي، و ابراهيم بن أبي‌البلاد الكوفي [191] . و قد تحدث الأستاذ باقر شريف القرشي عن كوكبة أصحاب الامام و تلامذته و الرواة عنه من المشهورين شهرة مستفيضة في مائة و خمسين صفحة احتضنت تراجم ثلاثمائة و واحد و عشرين علما من أعلامهم، بما يعد مرجعا مهما في معرفة أحوالهم، و تعداد مؤلفاتهم، و بيان منزلة كل واحد منهم [192] . و قد رصد الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين مهمات طائفة من هؤلاء المنفلين عن الامام، و أكد دورهم في التصنيف و التأليف، و تناول ضبطهم في تدوين الأمالي و تسجيل الأصول، فقال: «و أمر يجب أن يسجل بفخز و اعتزاز أن النوابغ و البارعين من حضار مجلس الامام و حلقة درسه، و من المتلقين الواعين الذين سمعوا منه و شافهوه، قد بادروا أولا بأول الي تسجيل تلك الأمالي و المسموعات في مدونات خصصوها لهذا الغرض سماها بعضهم (الأصول) و ربما أضافوا فيها الي تلك المشافهة من الامام الكاظم (عليه‌السلام) ما رووه مباشرة أو اسنادا عن أئمة أهل البيت السابقين (عليهم‌السلام)، [ صفحه 90] و كان منهم من بوب تلك الروايات بحسب مطالبها و موضوعاتها، فجعل كل ما يتعلق بموضوع منها في كتاب خاص مستقل باسمه و محتواه» [193] . ثم قدم الأستاذ آل‌ياسين كشفا ببلغرافيا دقيقا للمؤلفين من تلامذة الامام (عليه‌السلام) و سجل أسماء كتبهم و موضوعاتها، و أشار الي المصادر التي ذكرتها، فكان عدد ما توصل اليه: مائة و خمسة عشر مؤلفا، تصل بعض أعداد مؤلفات الواحد منهم الي ثلاثين كتابا، و تلك لعمري ثروة طائلة. كما أشار الي الأحاديث التي جمعها أبوعمران موسي بن ابراهيم المروزي مما سمعه من الامام (عليه‌السلام)، و دونه عنه، و يعرف ب «مسند الامام موسي بن جعفر». و قد وقف علي نسخته المخطوطة في خزانة الكتب الظاهرية بدمشق، و عرف بها في بحث تفصيلي في مجلته «البلاغ» الصادرة في الكاظمية: 1396 ه [194] . و كان لتسجيل مرويات الامام من قبل طلابه النابهين و تدوينها في رسائل و كتب و أطاريح - حذر التلف و الضياع و النسيان - أهمية كبري ذات هدفين في سياق واحد، الأول: كونها سلاحا معرفيا متميزا بكفايته العالية المتقدمة يقضي فيه علي الجهل و الأمية و التخلف. و الثاني: كونها عبارة عن وثائق مكتوبة عن الامام مباشرة لها قيمتها التأريخية الدقيقة. و هما معا مما تحتاج له مرحلة التدوين الموثق للاحتفاظ بذخائر أهل البيت من مصادرها الأولي. و للأمانة و التقدير؛ فلله در تلك الصفوة المختارة في تحقيق هذه المهمة الريادية بتلك الأجواء القاتمة، حتي ليعد عملهم هذا ثورة شعواء علي التقاليد السياسية [ صفحه 91] الموروثة في الغاء دور أهل البيت في المجالات كافة. كما يعتبر هذا الجهد الجبار حيوية نابضة جديدة في احكام الروابط المصيرية الكبري بين الامام و تلامذته، بحيث تحولت تلقائيا الي أواصر مثبتة من الحب و الولاء و التفاني، فتشابكت العلاقات الأساسية بينهما بحيث عادا ممثلين حقيقيين لتلك الثوابت الأخلاقية في وجه مشرق من الاخلاص و التضحية للمبادي‌ء التي يحملها فكر أهل البيت في ميادين العقيدة و الحياة، و بما يتطلب ذلك الاخلاص و تلك التضحية من ثبات، و جرأة، و ألم، و خوف، و قلق، و مداراة، و ترقب، و حرمان، و مأساة. و هذا سبيل النضال المرير المعاكس لتيار الضغط و الشر و الارهاب، و ليس هو مجرد أفكار عابرة تنام حينا، و تستيقظ حينا، و لكنه الاعتداد بالفكر المناوي‌ء لحقائق الأشياء، و هو لذلك يحسب له ألف حساب و حساب من قبل السلطان. و لك أن تقدر مدي عناء هؤلاء العلماء من ملوك الزمان، و لك أن تتصور تلك التضحيات الضخام التي قدموها من أجل اعلاء كلمة الله في الأرض، فهم بين هلع و اضطراب من الولاة، و هم بين رقابة و استنفار من الأجهزة، بل حتي قذف ببعضهم الي السجون. فهذا محمد بن أبي‌عمير، و هو من أوثق الرواة، و تقدم أن مراسليه بمنزلة الصحاح، و قد ألف أربعة و تسعين كتابا في مختلف الفنون، فكان أحد أساطين الفقه و الحديث [195] . و كان من عباد الله الصالحين، شديد الورع، معروفا بالتقوي، ذا منزلة متميزة في العابدين، مشتهرا بسجوده و تخنثه حتي ضرب به المثل [196] . و يبدو أن سجلا خاصا بأعيان أصحاب الامام كان لديه، أو أنه علي معرفة بعلية القوم كما يقال، فأمر به الرشيد الي السجن، و بقي في غياهبه [ صفحه 92] سبعة عشر عاما، و جي‌ء به مكبلا بالقيود، فطلب اليه الرشيد أن يعرفه بأسماء الشيعة، فامتنع عن ذلك، فأمر به أن يضرب مائة سوط، فكاد أن يبوح بأسمائهم. يقول هو نفسه: فكدت أن أبوح بأسمائهم، الا أنني سمعت نداء يونس بن عبدالرحمن يقول لي: يا محمد بن أبي‌عمير؛ أذكر موقفك بين يدي الله، فتقويت بقوله، فصبرت، و لم أخبر، و الحمد لله [197] و يبدو أن يونس بن عبدالرحمن كان معه في السجن، فناداه بذلك. و هذا هشام بن الحكم، و هو من أبرز علماء الكلام من الامامية، و ذو منزلة عليا عند الامام الصادق و ولده الكاظم (عليهماالسلام)، و هو في الشرف الباذخ من التكريم و التجلة لديهم، و له باع طويل في الاحتجاج لمبدأ الامامة، و نصر فكر الأئمة في العقائد، و له من المؤلفات العدد الأكثر كما ذكر ذلك ابن‌النديم و النجاشي [198] . و قد ذكر له القرشي ثلاثين كتابا فيما تتبعه [199] . و قد عدد آل‌ياسين من مؤلفاته بأسمائها: اثنين و ثلاثين كتابا [200] و قد قوبل بالجحود، و وجد عليه يحيي بن خالد البرمكي، فوشي به الي الرشيد بأنه يقول بالامامة، و أن الامام اذا أمره بأمر نفذ ذلك. و وقف الرشيد علي هذا الأمر، و استمع الي هشام يقول: «ان الامام اذا أمره بحمل السيف، أذعن لأمره، و نفذ طلبه». فأمر الرشيد بالقاء القبض عليه، فهرب هشام الي الكوفة مستخفيا، و نزل علي بشير النبال، و كان من حملة الحديث، فأخفاه. [ صفحه 93] ثم اعتل علة شديدة، و الطلب عليه حثيث، فقال له آتيك بطبيب؟ قال: لا؛ أنا ميت. و لما حضره الموت قال لبشير: اذا فرغت من جهازي، فاحملني وضعني في الكناسة، و اكتب رقعة: هذا هشام بن الحكم الذي طلبه الرشيد مات حتف أنفه. و كان الرشيد قد أخذ به اخوانه و أصحابه، فاعتقلهم؛ و نفذ بشير الوصية، فحضر القضاة و المعدلون فشهدوا بذلك، و كتب به الي الرشيد [201] . و هذا يونس به عبدالله، كثر حساده و أعداؤه، لقوله بهذا الأمر، حتي ضجر، و شكا ذلك الي الامام، و قال له: انهم يقولون لي زنديق!! فنهنه الامام عن وجده، و قال له: «ما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة، فيقول الناس: هي حصاة. و ما ينفعك أن يكون في يدك حصاة، فيقول الناس لؤلؤة» [202] . و كان سلاح الاتهام بالزندقة قد يشهر في وجوه أولياء أهل البيت ظلما و عدوانا، فينكل بهم، و يعتدي عليهم. كل هذا المناخ الجاف البغيض لم يمنع أصحاب الامام موسي بن جعفر من التوجه اليه حتي و هو سجين، و كان من بينهم: هند بن الحجاج، و علي بن سويد، و المسيب بن زهرة الذي نيطت به حراسة الامام، أو حبس عنده [203] . الا أن الامام هداه السبيل، فأصبح من أوليائه، و من حملة أسرار الأئمة [204] . [ صفحه 94] و كان من أبرز أصحابه الذين تشرفوا بخدمته في سجن السندي: موسي بن ابراهيم المروزي. و قد سمح له السندي بالاتصال بالامام، و الاستماع اليه، لأنه كان معلما لولده. و قد قام موسي هذا بدور مشرف حينما ألف كتابا مما رواه عن الامام مباشرة و سماه «مسند الامام موسي بن جعفر» [205] و قد سبق الحديث عنه. و هكذا تابع تلامذة الامام أستاذهم الأعظم، و نشروا علمه بين الناس، و استخدموا الوسائل المشروعة لاذاعته، حتي بلغوا بهذه الغاية الذروة، بما قضي علي الجمود و الاخفاق المعرفي، و بما حرر تلك الأحاسيس الكئيبة- نتيجة ظلم العصر - و أطلق منها بالثقافة الواعية. ان هذه الكوكبة اللامعة سلوكا و ادراكا و مسؤولية، لتستحق منا الاجلال و الكرامة، لأنها آثرت المصلحة الاسلامية علي مصالح الذات، فعانت من الكيد السياسي و التخطيط الارهابي صابرة محتسبة، لم تنزع الي منصب، و لم تطمع بسلطان، و لكنها فضلت ما عند الله مردا، فزهدت بما عداه من الظواهر.

تعليمات الامام لتهذيب الشعب المسلم

في أعالي النصح البشري، و قمة الوعي الاصلاحي تبدو للامام موسي بن جعفر وصايا و ارشادات و حكم قصار، تمثل عصارة الفكر التجريبي في حياة العقل، أفاض بها الامام نضرة عطرة تتروح بها القلوب، و تهفو لها المشاعر و الأحاسيس، و هي جزء لامع من ذلك الاشعاع المتوهج الداعي لتهذيب النفس الانسانية، و انقاذ الهيكل [ صفحه 95] الاجتماعي من التداعي و الانهيار، و الأخذ بكيان الشعب المسلم الي التماسك و الاستمرار، و كأنها تلك اليد التي تدفع به الي شواطي‌ء الأمن و الدعة و الحرية من وراء الغيب. و هي بعد ألفاظ جارية مجري الأمثال في الذيوع و الانتشار، فيها بلاغة القول، و فخامة المعني، و جلاء الصورة، جاءت برصف بياني عفوي جديد، لاعنت فيه و لا تكلف به، فهو حديث النفس للنفس. و نداء الضمير للضمير، و أي ضمير أنقي و أطهر من ضمير الامام موسي بن جعفر، و هو يريد للمستوي الأخلاقي أن يتطور، و للذات أن ترتفع عن صغائر الأمور، و للنفس أن تمتلي‌ء نورا و ثباتا و يقينا، و أن يلتقي الوجه الخارجي للانسان بالمحتوي الداخلي ليشكل كلا لا ينفصل في تهذيب الأفكار. و تلك اشارات و رموز و شواخص لا تجد أمثالها في غير مشروع أهل البيت الحضاري، فهم للبشرية جمعاء، و هم للناس في كل زمان و مكان. و الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قديس أهل البيت في السلوك و الانابة، و رهباني هذه الأمة في الخشوع و السمت العرفاني، هذا من جانب؛ و من جانب آخر نجده رمز التصدي للانحلال و التدهور، و قد نذر نفسه من موقع المسؤولية الرسالية لقيادة الأمة، و مباشرة مشكلاتها في التربية و التعليم و الأخلاق وجها لوجه، فما استلان عودا، و لا وهن تبليغا، و لا ضعف أداء، كيف لا؟ و هو الناطق الهادر بالابلاغ الرسالي، لم تثنه عن مهمته العقبات و لا النكبات في أقسي الظروف ضراوة، و أشد العصور استفزازا، فكان الشاخص الماثل الذي تستطيل له العيون، فيغمرها هيبة و وقارا و جلالا. ان هذه النصائح و الوصايا المختارة التي ستقرأها بالامكان - لو استثمرت استثمارا عقليا مجردا - أن تؤدي الي رحاب الحكمة و رياضة [ صفحه 96] النفس بعيدا عن الأوهام و التعالي، فهي تصور المبدأ العام للآداب الرفيعة، و هي تعبد الطريق الي تفاعل الضمير مع الحياة، و تدعو الي التعامل البشري السليم، و هي بعد: ليست من قبيل الأصوات التي لا تجد لها صدي في التأثير، بل هي نهج عالمي نظما و تكوينا و فكرا، ينطلق من ذات عرفت بترسيخ القيم و المبادي‌ء، و من شأنها أن توفر علي الطالب قراءة عشرات الكتب في تهذيب النفس. و لا يخالجنا أدني شك أن هذه المقتطفات السائرة من تعليمات الامام تعتبر كنزا من كنوز الاسلام، حاولنا اختيار نماذج منها تعني بالأدب، و الخلق، و البر، و الايثار، و التراحم، و الاحسان، و الارتفاع بالانسان الي انسانيته الفاضلة، و هي من خزائن علم الامام في الدين و الاجتماع و الحب و فلسفة الحياة من نوادر الآثار العالمية. و ميزة أخري أنها من السهل الممتنع، فهي في غاية الوضوح و السماح، و كان دوري فيها: حسن الاختيار، و ترتيبها علي طريقة «الألفباء» تسهيلا للتداول، و تنظيما للآخذ. و كانت مواردها منتشرة و مزدهرة في طائفة من المصادر منها: أصول الكافي للكليني، و التوحيد و المعاني للصدوق، و التهذيب و الاستبصار للشيخ الطوسي / و الارشاد للمفيد / و قرب الاسناد للحميري / و المحاسن للبرقي / و تحف العقول لابن شعبة / و الاحتجاج للطبرسي / و كشف الغمة للاربلي / و بحارالأنوار للمجلسي، و وسائل الشيعة للحر العاملي، و أعيان الشيعة للأمين الحسيني العاملي / و حياة الامام موسي بن جعفر لباقر شريف القرشي / و الامام موسي بن جعفر لمحمد حسن آل‌ياسين، و سواها. [ صفحه 97] (أ) 1 - الله ينزل المعونة علي قدر المؤونة، و ينزل الصبر علي قدر المصيبة. 2 - أداء الأمانة و الصدق يجلبان الرزق، و الخيانة و الكذب يجلبان الفقر و النفاق. 3 - اتق الله، و قل الحق و ان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك. 4 - اتق الله، ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك، فان فيه هلاكك. 5 - اياك أن تمنع في طاعة الله، فتنفق مثليه في معصية الله. قال عند قبر حضره: 6 - ان شيئا هذا آخره، لحقيق أن يزهد في أوله، و ان شيئا هذا أوله، لحقيق أن يخاف آخره. 7 - اذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتي يعرف ذلك منه. 8 - ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره. 9 - ان كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس شي‌ء من الدنيا يغنيك. 10 - ان أعظم الناس قدرا الذي لا يري الدنيا لنفسه خطرا. 11 - أما أن أبدانكم ليس لها ثمن الا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها. 12 - أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا. 13 - ان العاقل: لا يحدث من يخاف تكذيبه، و لا يسأل من يخاف منعه، و لا يعد ما لا يقدر عليه، و لا يرجو ما يعنف برجائه، و لا يتقدم علي ما يخاف العجز عنه. 14 - ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر الديار، و يزيد في الرزق. 15 - اصبر علي طاعة الله، و اصبر عن معاصي الله... [ صفحه 98] 16 - اياك و الكبر، فانه لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من كبر. 17 - اياك و مخالطة الناس و الأنس بهم، الا أن تجد منهم عاقلا و مأمونا فأنس به، و اهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية. 18 - اياك و الطمع، و عليك باليأس من أيدي الناس. 19 - اياك و الكسل و الضجر، فانهما مفتاح كل سوء. 20 - اياك و المزاح فانه يذهب بنور ايمانك، و يستخف بمروءتك. 21 - اياك و الكسل و الضجر، فانهما يمنعانك من حظك في الدنيا و الآخرة. 22 - اياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، و اياك أن يفقدك عند طاعة أمرك بها... 23 - أمت الطمع من المخلوقين؛ فان الطمع مفتاح الذل، و اختلاس العقل، و اختلاف المروات، و تدنيس العرض، و الذهاب بالعلم. 24 - ان ضوء الروح العقل، فان كان العبد عاقلا كان عالما بربه، و اذا كان عالما بربه أبصر دينه. 25 - ان كل الناس يبصر النجوم، و لكن لا يهتدي بها الا من يعرف مجاريها و منازلها، و كذلك أنتم تدرسون الحكمة، و لكن لا يهتدي بها منكم الا من عمل بها. 26 - ان لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة. 27 - أفضل العبادة بعد المعرفة: انتظار الفرج. 28 - اذا كان الرجل حاضرا فكنه، و اذا كان غائبا فسمه. 29 - اتق المرتقي السهل اذا كان منحدره و عرا. 30 - ان قوما يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفا؛ هم الآمنون يوم القيامة. [ صفحه 99] 31 - ان أهل الأرض لمرحومون ما تحابوا، و أدوا الأمانة، و عملوا بالحق. 32 - اذا لم تستح فاعمل ما شئت. 33 - ان الصبر علي البلاء أفضل من العافية عند الرخاء. 34 - ان الصمت باب من أبواب الحكمة، و ان الصمت يكسب المحبة، و انه دليل كل خير. 35 - أحسن من الصدق قائله، و خير من الخير فاعله. 36 - أما و الله؛ لئن عز بالظلم في الدنيا، ليذلن بالعدل بالآخرة. (ت) 37 - التدبير نصف العيش. 38 - التودد الي الناس نصف العقل. 39 - تفقهوا في دين الله، فان الفقه مفتاح البصيرة، و تمام العبادة، و السبب الي المنازل الرفيعة و الرتب العالية في الدنيا و الدين. (ث) 40 - ثلاثة يجلين البصر: النظر الي الخضرة، و النظر الي الماء الجاري، و النظر الي الوجه الحسن. (ر) 41 - رأس السخاء أداء الأمانة. (ز) 42 - زاحموا العلماء في مجالسهم و لو حبوا علي الركب، فان الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر. [ صفحه 100] (ص) 43 - الصنيعة لا تكون صنيعة الا عند ذي دين أو حسب. (ع) 44 - العجلة هي الخرق. 45 - عليك بالرفق فان الرفق يمن و الخرق شؤم. 46 - عليك بالاعتصام بربك، و التوكل عليه، و جاهد نفسك لتردها عن هواها، فانه واجب عليك كجهادك عدوك. 47 - عونك للضعيف أفضل من الصدقة. 48 - العجب كل العجب للمحتمين من الطعام و الشراب مخافة الداء ان نزل بهم، كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار اذا اشتعلت في أبدانهم. (غ) 49 - الغضب مفتاح الشر. (ف) 50 - فضل الفقيه علي العابد كفضل الشمس علي الكواكب. (ق) 51 - قلة العيال أحد اليسارين. 52 - قلة الوفاء عيب بالمروءة. (ك) 54 - كثرة الهم تورث الهرم. 55 - كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان. [ صفحه 101] 56 - كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون. 57 - كن بارا و اقتصر علي الجنة، و ان كنت عاقا فظا فاقتصر علي النار. 58 - كذب سمعك و بصرك عن أخيك... 59 - كفي بالتجارب تأديبا، و بممر الأيام عظة، و بأخلاق من عاشرت معرفة، و بذكر الموت حاجزا عن المعاصي... 60 - الكبر رداء الله، فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار. (ل) 61 - لا دين لمن لا مروءة له، و لا مروءة لمن لا عقل له. 62 - لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها، و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم. 63 - ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنا استزاد منه، و ان عمل سيئا استغفر الله منه، و تاب اليه. 64 - لا تكونن مبتدعا. 65 - لا خير في العيش الا لمسمع واع أو عالم ناطق. 66 - لا تبذل لاخوانك من نفسك ما ضرره أكثر من منفعته لهم. 67 - لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. 68 - لا تضيع حق أخيك اتكالا علي ما بينك و بينه، فانه ليس بأخ من ضيعت حقه. 69 - لا يكونن أخوك أقوي علي قطيعتك منك علي صلته. 70 - ليس حسن الجوار كف الأذي، و لكن حسن الجوار الصبر علي الأذي. 71 - لا تذهب الحشمة بينك و بين أخيك، و ابق منها، فان ذهابها ذهاب الحياء. [ صفحه 102] 72 - لا تحدثوا أنفسكم بفقر و لا بطول عمر، فان من حدث نفسه بالفقر بخل، و من حدثها بطول العمر يحرص. (م) 73 - من أيقن بالخلف جاد بالعطية. 74 - ما عال امرؤ اقتصد. 75 - من أحزن والديه فقد عقهما. 76 - من ضرب بيده علي فخذه، أو واحدة علي الأخري عند المصيبة، فقد حبط أجره. 77 - من اقتصده و قنع بقيت عليه النعمة. 78 - من بذر و أسرف زالت عنه النعمة. 79 - المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها الا بالصبر، و الاسترجاع عند الصدمة. 80 - المؤمن كمثل كفتي ميزان، كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه. 81 - من لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا. 82 - المصيبة للصابر واحدة، و للجازع اثنتان. 83 - ما عبد الا و ملك آخذ بناصيته، فلا يتواضع الا رفعه الله، و لا يتعاظم الا وضعه الله. 84 - مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة. 85 - محادثة العالم علي المزابل، خير من محادثة الجاهل علي الزرابي. 86 - من نظر برأيه هلك. 87 - من ترك أهل بيت نبيه (صلي الله عليه و آله) ضل. [ صفحه 103] 88 - مشاركة العاقل يمن و بركة و رشد و توفيق من الله، فاذا أشار عليك العاقل الناصح فاياك و الخلاف، فان في ذلك العطب. 89 - من قصد اليه رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية الله عزوجل. 90 - من أدخل علي مؤمن سرورا فرح الله قلبه يوم القيامة. 91 - المؤمن أعز من الجبل، الجبل يستغل بالمعاول، و المؤمن لا يستغل دينه بشي‌ء. 92 - من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله، و خاب أمله. 93 - ما أهان الدنيا قوم قط الا هنأهم الله اياها، و بارك لهم فيها، و ما أعزها قوم الا بغضهم الله اياها. 94 - من أتي الي أخيه مكروها فبنفسه بدأها. 95 - من ولده الفقر أبطره الغني. 96 - ما أستب اثنان الا انحط الأعلي منهما الي المرتبة السفلي. 97 - المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه، و ان لم يلده أبوه. 98 - المعروف تلو المعروف غل لا يفكه الا مكافأة أو شكر. 99 - ملعون من اتهم أخاه. 100 - ملعون من لم ينصح لأخيه. 101 - ملعون من احتجب عن أخيه. 102 - ملعون من اغتاب أخاه. 103 - من لم يكن له من نفسه واعظ تمكن عدوه منه. 104 - المغبون من غبن من عمره ساعة. [ صفحه 104] 105 - من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينل جسيما. 106 - من تكلم في الله هلك، و من طلب الرئاسة هلك، و من دخله العجب هلك. 107 - من قصده رجل من اخوانه مستجيرا في بعض أحواله، فلم يجره أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية الله عزوجل. 108 - من استشار لا يعدم عند الصواب مادحا، و عند الخطأ عاذرا. 109 - من اقتصد و قنع بقيت عليه النعمة، و من بذر و أسرف زالت عنه النعمة. 110 - من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك و تعالي ساقها اليه، فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، و هو موصول بولاية الله تبارك و تعالي، و ان رده عن حاجته و هو يقدر علي قضائها، سلط الله تبارك و تعالي عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة، مغفورا له أو معذبا، فان عذره الطالب كان أسوأ حالا. (ي) 111 - يعرف شدة الجور من حكم به عليه. 112 - ينادي مناد يوم القيامة: ألا من كان له علي الله أجر فليقم، فلا يقوم الا من عفا و أصلح، فأجره علي الله. 113 - ينبغي لمن عقل من الله أن لا يستبطأه في رزقه، و لا يتهمه في قضائه. [ صفحه 105]

الامام و ظواهر الحياة العقلية المتطورة

العقل و المناخ العقلي المضطرب

قال الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام): «ان ضوء الروح العقل، فاذا العبد عاقلا كان عالما بربه، و اذا كان عالما بربه أبصر دينه» [206] . و هذا القول أطروحة فريدة يضعها الامام بين يدي العارفين، فالعقل عند الامام مدار الحجة علي الانسان، و هو سبيل الاطراد العلمي بما يزنه من دقائق الأمور، و هو أيضا منار الهداية في الحياة، حتي اعتبره الامام عدلا لرسالة السماء و قيادة الأئمة فقال: «ان لله علي الناس حجتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أما الباطنة فالعقول» [207] . [ صفحه 106] و بهذه الرؤية نجد اهتمام الامام بالعقل الانساني المجرد، و عدة من الأصول التي لا غني عنها في تيسير الحياة و ضبط النفس، و هو يسلط الأضواء علي العقل في رصد منابع الخير كلها، فيقول: «من أراد الغني بلا مال، و راحة القلب من الحسد، و السلامة في الدين، فليتضرع الي الله في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، و من قنع بما يكفيه استغني، و من لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا» [208] . يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين تعقيبا: «و لما كان المراد من العقل في هذه النصوص هو النضج المثمر و الوجود الفاعل المؤثر - و ليس ما يقابل الجنون الذي يعني فقدان السيطرة علي الشعور المنضبط و الاحساس المتزن - كان الانسان المجرد من المعرفة و المحروم من التعلم و ان كمل عقله؛ محكوما بالنقص الذي لا ينكر و لا يستر، بسبب جهله المخل بدوره الانساني النافع لنفسه و مجتمعه، و لذلك أضاف الامام الي ما تقدم منه في تكريم العقل: التنبيه علي أهمية العلم و شأنه الكبير و أثره العظيم في بناء الأفراد و المجتمعات» [209] . و لما كان العقل المتكامل منحة الهية من وجه، و تجربة ذاتية من وجه آخر، وجدنا القلة النادرة في الاجتماع البشري هي التي تتمتع به ادراكا و معرفة و فلسفة. و حينما تطورت الحياة العلمية في عصر الامام بفضل الجهود المضنية للعلماء و الباحثين و المترجمين، فقد وجدنا في ضوء ذلك تطورا سريعا للحياة العقلية، و كان هذا التطور مصاحبا لعلم الاحتجاج في أبرز فروعه، و للفن الجدلي في مظاهره، و لازدهار حياة المقالات و الفرق و الاتجاهات. و ليس غريبا أن نجد الحياة العقلية قد نشأت في ظل المناخ السياسي، بيد أننا نجد [ صفحه 107] للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وثيقة تأريخية في العقل، كانت وليدة الشعور بالمسؤولية، و لم تتأثر بأية عوامل سياسية اطلاقا، و هي عبارة عن رسالة مهذبة نابضة وجهها الامام الي تلميذه العظيم هشام بن الحكم، و قد شرحها الفيلسوف المتأله الملا صدرالدين الشيرازي المعروف ب «الملاصدرا» في رسالة خاصة، و قد تعقبها بالتحليل الموضوعي الأستاذ باقر شريف القرشي (دام علاه)، فكانت مع الأصل في أربعين صفحة» [210] . و لا أعلم رسالة في العقل قد مهدت للحياة العقلية المتطورة بهذا المستوي الفكري كهذه الرسالة التي ربط بها الامام بين ذوي العقول و منزلتهم و ما بين ما أفاض به القرآن الكريم من الاعتداد الرفيع بهم، و ثمة ظاهرة أخري يشير لها الامام فيما حققه أصحاب العقل السليم من المعرفة بأسرار الهداية و الكون بافاضة من الله تعالي عليهم. و قد أكد الامام أن الله عزوجل قد جعل العقل حجة يستدل بها علي عظيم خلقه في السماوات و الأرض، و ما فيهما من الكائنات المرئية و غير المرئية، و العوامل الحسية و المتصورة المعلومة و المجهولة و المتخيلة، و ما في ذلك من عجائب صنع الله في الخلق و الايجاد و التصريف و الادارة و الابداع، مما جعله الله برهانا علي معرفته الخارقة، و دليلا علي عظيم قدرته التي لا تدرك [211] . و بالامكان الاشارة الي نهج هادي‌ء لنقاط الارتكاز في الرسالة. 1 - أبان الامام (عليه‌السلام) أن الله خوف الذين لا يعقلون من عقابه، و قرن العلم بالعقل، فقال تعالي: [ صفحه 108] (و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها الا العالمون) [212] . ثم ذم الله الذين لا يعقلون في آيات عديدة من قرآنه المجيد، عرض الامام لها، و ختم ذلك بقوله تعالي: (تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [213] . و مدح الله تعالي القلة لأنهم العقلاء حقا، فقال عزوجل: (و قليل من عبادي الشكور) [214] . و قال تعالي: (و قليل ما هم) [215] . و قال تعالي: (و ما آمن معه الا قليل) [216] . و أشار الامام أن القرآن ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، و حلاهم بأحسن الحلية، فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و ما يذكر الا أولوا الألباب) [217] . و تحدث الامام عما مدح الله به لقمان بايتا الحكمة، و يعني بذلك الفهم و العقل، و ما أوصي به لقمان ولده بالتواضع للحق ليكون أعقل الناس. 2 - و اعتبر الامام أن لكل شي‌ء دليلا «و دليل العقل التفكر، و دليل التفكر الصمت، و لكل شي‌ء مطية، و مطية العقل التواضع». و صرح بأن الله تعالي ما بعث الأنبياء و رسله و عباده الا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة [ صفحه 109] أحسنهم معرفة، و أعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، و أكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة، و اعتبر الامام العقل حجة باطنة. و أن العاقل لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره. و عد الامام طول الأمل، و فضول الكلام، و شهوات النفس، مؤشرات تعين علي هدم العقل. «و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه». 3 - و اعتبر الامام: «الصبر علي الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل من الله اعتزل أهل الدنيا و الراغبين فيها، و رغب فيما عند الله». «كما اعتبر نصب الحق لطاعة الله، و لا نجاة الا بالطاعة، و الطاعة بالعلم، و العلم بالتعلم، و التعلم بالعقل يعتقد، و لا علم الا من عالم رباني، و معرفة العلم بالعقل». 4 - و رأي الامام: «ان العاقل قد رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، فالعقلاء تركوا فضول الدنيا، و ان العاقل نظر الي الدنيا و أهلها فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، و نظر الي الآخرة فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما». و رأي الامام أن العقلاء زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة. و أن الله حكي عن قوم صالحين قولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) [218] . و انه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه علي معرفة... و روي عن جده أميرالمؤمنين: «ما عبدالله بشي‌ء أفضل من العقل». و عقب الامام علي ذلك بافاضات رائعة تخص الموضوع. [ صفحه 110] 5 - و رأي الامام رؤية مجهرية: «أن العاقل لا يكذب، و ان كان فيه هواه» و قال أيضا: «لا دين لمن لا مروة له، و لا مروة لمن لا عقل له» و روي عن جده أميرالمؤمنين صفة العاقل: «ان من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب اذا سئل، و ينطق اذا عجز القوم عن الكلام، و يشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه هذه الخصال الثلاث فهو أحمق». الي آخر فقرات هذه الرسالة الثمينة. و كان الامام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي، و يعرف جيدا توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه و تلبية رغباته، فأراد الشعب التمتع بجوهرة العقل، لتمنعه و تعصمه عن الانزلاق السياسي الذي تجهد السلطات علي احداثه و توسيع ثغراته، و من البديهي أن يفيد قلة من المثقفين و العلماء من هذا الأمداد الطهور، و تندفع أكثرية القوم نحو السراب. و مهما يكن من أمر، فان الاتجاهات السياسية المعقدة قد أذكت شرارة الجذوة الكلامية، لا حبا بالعلم و تشجيعا له، بل لتفيد منه في الابقاء علي النفوذ، و اشغال الشعب المسلم عن نفسه بنفسه، و بمبادئه عن مشكلاته، و قد مهد هذا التخطيط الي قيام الأشاعرة و المعتزلة و المرجئة و المفوضة، و ساعد علي ظهور الزندقة و المانوية و المزدكية و الشعوبية و سواها في افرازات أحدثها البعد السياسي في المناخ العقلي، و هو ينتقل من دور العلم بالشي‌ء الي دور النقاش، و من طور الفهم الي طور المناظرة، ازاء اثبات هذا الأصل أو دحض ذلك المبدأ، و من هنا نشأت الحياة العقلية و هي تتدرج بالتصاعد من البسيط الي المركب، و من السهل الي الصعب، و من القاعدة الي القمة، و اذا بالأفق الحالم المتزن يتحول الي شعلة نار متلهبة تزيد في حرارة الجو و سعرات الحياة. [ صفحه 111] و لا أدل علي هذا من نشوء بدعة الارجاء في ظل الحكم الأموي، و استمراريتها حتي اليوم، لأن الارجاء قد ابتدع مقالة تعني بمجاراة السلطان، و الابقاء علي عروش الطغاة، تثبيتا لأنظمة الحكم السائدة، فالحاكم هو الحاكم المطاع، ما دام يشهد الشهادتين ليس غير، لا يغيره فسق، و لا يعزله اسراف، و ان خاض في دماء المسلمين خوضا، فأمره الي الله، و علي المسلمين الطاعة، و ان ظلم عباد الله، و غير أحكام الله، و أكل أموال المسلمين، و ثوابه أو عقابه علي الله، و ليس لأحد أن يعتدي علي ذاته المقدسة!!. الجديد في هذا المنحي في الاسلام أن الحاكم مصون غير مسؤول، فقد أبيح له كل شي‌ء، و قد خول بكل شي‌ء. و قد رحب الطغاة و الجبابرة و الملوك بهذا المبدأ الجديد. فالارجاء اذن مذهب الطواغيت، و هو المذهب الذي يبيح الانحراف و الخروج عن الخط الديني، و يجعل الحاكم مستقلا في برجه العاجي عن النقد و التجريح و الرفض. و طبيعي أن مذهب الارجاء قد ابتدعته الأعطيات الضخمة من السلاطين، و جعلت منه مبدأ لا ينطق، و لا يعترض، و لا يحاجج، بل يظل مسالما طول الخط. يقول الأستاذ خودابخش: «ان أصل المرجئة، يرجع الي ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم» [219] . و أقره علي ذلك أستاذنا الدكتور يوسف خليف بقوله: «فقد وجد الحاكمون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات و المذاهب المتعددة المعادية لهم» [220] . [ صفحه 112] و لم يقف المسلمون بمنحي عن فكرة الارجاء، بل وقفوا في الاتجاه المعاكس لمجابهة الارجاء فالامامية يرون في مذهب الارجاء احتضانا لتطلع الطواغيت في اباحة المحظورات، يسوغ لهم الاستبداد و سفك الدماء دون أن يخرجهم ذلك عن حضيرة الايمان، و كان في طليعة ذلك الامام محمد الباقر (ت 114 ه) حينما قصده عمرو بن قيس الماصر، و هو ممن يقول بالارجاء، فقال للامام: انا لا نخرج أهل دعوتنا و أهل ملتنا من الايمان في المعاصي و الذنوب. فرد عليه الامام مستندا الي السنة الشريفة، فقال: «يا ابن‌قيس: أما رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقد قال: لا يزني الزاني و هو مؤمن. و لا يسرق السارق هو مؤمن. فاذهب أنت و اصحابك حيث شئت» [221] . و كان ابراهيم النخعي (ت 96 ه) عنيفا في مقاومة الارجاء. و المرجئة عنده هم أهل الرأي المحدث، و الارجاء بدعة، و قد تركوا الدين أرق من الثوب السابري، بل ذهب الي أكثر من هذا فقال: «لأنا علي هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» [222] . و في قبال أهل الجبر و الارجاء، كانت عقيدة القدرية القائمة علي القول بحرية الارادة و الاختيار، و زعيم القائلين بالقدر - غير منازع - الحسن البصري [223] . و الذي يهمنا في الأمر أن العباسيين قد رحبوا بفكرة الاعتزال كالأمويين من ذي قبل، لأنهم أزاحوا فكرة التقديس عن الأبدال و الأئمة، فهم بذلك يقفون في الصف المقابل للفكر الامامي الذي يعطي للأئمة (عليهم‌السلام) مكانتهم في الولاء و التقديس. [ صفحه 113] أما الخوارج فلم يكن لهم أمر ذو بال في العصر العباسي، و كان الخروج علي الدولة من شأن الطالبيين فحسب، و الحسنيين منهم بالذات، و لم يكن المسلمون ليعتبروا العلويين خوارج في المفهوم الاصطلاحي، بل عدوهم من الثائرين. الا أن الحياة العقلية في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد انفجرت بأفكار جديدة مضافا الي مخلفات الخوارج و المرجئة و أهل القدر المعتزلة. فكانت متاعب الامام مضنية في صد التيارات و الرياح الوافدة، و هو يعيش تبعات ذلك كله، يعالجها حينا، و يدفعها حينا آخر، و يوفق بين المسلمين فيما بينهما، حتي سجل له تأريخيا ذلك الدور المشرف. لقد نشأت في عهد أبيه الامام الصادق فرق الغلاة و الزنادقة و الالحاد، و نشأت في عهده فرق أخري وثيقة الصلة بما ابتلي به عصر أبيه. فأضاف ذلك جهدا الي جهده. و الذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة، بل هي الي الصخب و الضجيج أقرب، و هي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق و جماعات و جماعات و تكتلات. و قد شجعت السياسة هذا الجو المحموم المضطرب، ليصفو لها الأفق بعيدا عن المجابهة و الرفض، و بمعزل عن مشكلات التحسس الجماعي بالظلم و المأساة و الاذلال. و كانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي بالضرورة أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة. و هي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق، أبرم بنوده سلاطين الجور و أدعياء الفكر الوافد. [ صفحه 114]

تعدد الاتجاهات العقائدية

و مع كل ذلك العمل التكاملي الرائد الذي فجره الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) لتوحيد الأمة، و رأب الصدع، الا أن بعض الظواهر العقلية قد برزت في الميدان، نحاول القاء بعض الضوء علي مصادرها و أثرها في الظروف الاجتماعية، كما نعرض لجزء من حياتها المترددة بتكثيف و ضغط قد يؤديان المهمة دون الاغراق في التفصيلات الهامشية. و لو أن أهداف هذه الاتجاهات كانت علمية خالصة، أو تنافعية مشروعة، لوصل الينا علم كثير خالص، الا أن ما يحز في النفس أن ينحر الكثير منها الي مداخلات غير بريئة، و أن تطغي لغة الهجوم و الاسفاف علي لغة العقل و الاناة، فينشأ عن هذا و ذاك احتدام لا مسوغ له في التعدي و التحدي و التداعي الذي قد يصل ببعض مفرداته الي تكفير هذا و تضليل ذاك، و هنا تفقد الحياة العقلية هذا الوهج الحضاري في تلاقح القيم و الأفكار. و تلك مأساة نتلقاها بمرارة و حزن عميق، حتي عادت صراعا يطال المعتقدات بكثير من التهاون تارة و التجاهل تارة أخري. يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «و اتسم عصر الامام بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية و العنصرية و النحل الدينية، و التجاهات العقائدية التي لا تمت الي الاسلام بصلة، و لا تلتقي معه بطريق، و قد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعا لا هدوء فيه و لا استقرار، حتي امتد ذلك الصراع الي أكثر العصور، و يعود السبب في ذلك الي أن الفتح الاسلامي قد نقل ثقافات الأمم و سائر علومهم الي العالم الغربي و الاسلامي، بالاضافة الي أن السلام قد جاء بموجة عارمة من العلوم و الأفكار، و دعا المسلمين الي الانطلاق و التخصص في [ صفحه 115] جميع ألوان المعارف، و قد أحدث ذلك انقلابا فكريا في المجتمع الاسلامي، و تبلورت الأفكار بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيرا في العصور السالفة، و قد اتجهت تلك الطاقات... الي الجانب العقائدي من واقع الحياة، فحدثت المذاهب الاسلامية و الفرق الدينية، و تشعبت الأمة الي طوائف وقع فيما بينها من النزاع و المخاصمات و الجدال الشي‌ء الكثير، فكانت النوادي تعج بالمعارك الدامية و الصراع العنيف... و كان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة هم علماء الكلام و المتكلمون» [224] . و قد ألمحنا لحياة كثير من هذه الصراعات فيما مضي من هذه الموسوعة في أعمال سابقة [225] . و قد فصلنا القول في كتابنا «الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت» فتحدثنا عن الثورة المضادة التي قادها الامام ضد متناقضات العصر العباسي في المناخ العقلي، و عرضنا لظاهرة الغلاة و محاربة أئمة أهل البيت لتلك الظاهرة الضالة. و استوفينا القول - بايجاز - في حركات الالحاد و الزندقة، و عرضنا لحياة المذاهب الكلامية في عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) و وجدنا أن الامام قد وظف نظره العقلي من خلال المحاورات و المناظرات مع زعماء علم الكلام. و كان هذا التوظيف الدقيق قد اشتمل علي ظاهرتين: الأولي: الاستدلال العقلي و البديهي الذي لا سبيل الي انكاره. الثانية: الاقناع المقبول الذي فجره هذا الاستدلال [226] و لا ضرورة لاعادة هيكلية ذلك البحث فقد سبق القول فيه. [ صفحه 116] و هنا لابد من رصد بعض المشاهد العقلية التي حفلت بها حياة عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) مما دأب المناخ السياسي الي التشجيع عليه، للهدف المركزي في التخطيط السلطوي للاستبداد أني كان سبيله، و لا مانع بعد هذا من تشعب آراء الأمة، و تمزيق الصف الاسلامي. روي محمد بن أبي‌عمير عن علي الأسواري، قال: كان ليحيي بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة و ملة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، و يحتج بعضهم علي بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيي بن خالد: يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال:... ما شي‌ء مما رفعني به أميرالمؤمنين، و بلغ من الكرامة و الرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، فانه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم علي بعض، و يعرف المحق منهم، و يتبين فساد كل مذهب من مذاهبهم. قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، و أسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري... و بلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم و عزموا أن لا يكلموا هشاما الا في الامامة، لعلمهم بمذهب الرشيد و انكاره علي من قال بالامامة. و يحضر الرشيد هذه الجلسة، و فيها هشام بن الحكم من الامامية و عبدالله بن يزيد الأباضي من الخوارج، و حضر جماعة المعتزلة. و لك أن تختبر أهداف هذه الجلسة، فمن رأي يحيي بن خالد البرمكي أن «يتبين فساد كل مذهب» من مذاهب القوم، و هدف المعتزلة الايقاع بهشام بن الحكم لأنه امامي، و يعرفون رأي الرشيد بمن قال ذلك، فلا يسألونه الا بالامامة، و الرشيد يحضر ليعرف أعداءه من أوليائه، و القوم في أخذ ورد من مبحث [ صفحه 117] الامامة، و هشام يعطي الدليل اثر الدليل علي صحة مذهبه، و المعتزلة يردون و ينقضون، و هشام يرد الرد و النقض معا، و الخوارج يعتذرون عن الخوض في الموضوع لأن هشاما شريك الأباضي في التجارة، و تحتدم آراء القوم في جدل مستميت و خصام شديد، حتي ينجر الحديث الي القول من قبل هشام أن الامام معصوم من الذنوب، و أنه أشجع الناس، و أسخي الناس، و أعلم الناس، و قرع الحجة بالحجة. و الرشيد يسمع هذا كله، و معه جعفر بن يحيي يسمع هذا كله، فقال الرشيد لجعفر، من يعني بهذا؟ قال: يا أميرالمؤمنين يعني موسي بن جعفر، قال، ما عني بها غير أهلها، ثم عض علي شفته، و قال: مثل هذا حي و يبقي لي ملكي ساعة واحدة؟ فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف. و علم يحيي بن خالد أن هشاما قد أتي، فغمز الي هشام بالخروج، و علم هشام أنه قد أخذ علي حين غرة، فانسل من المجلس و هرب، و كان ذلك آخر العهد به حتي مات [227] . في هذه المحاورات و المناظرات عمق علمي لا شك في ذلك، و لكن تبني السلطة لهذا النوع من الجهد العقلي يكشف أنهم بسبيل كشف من يواليهم ممن يخالف عليهم، و لابانة من يؤيد مذهبهم السياسي ممن يحتمل عليه، فهي و ان كانت آفاقا معرفية في الجدل و الحجاج و المناظرة، الا أن عليها رصدا سياسيا جاثما، يأخذ عليهم الأنفاس، و يلتقط الاشارات فيذهب ضحية ذلك أمثال هؤلاء العلماء. و ظاهرة أخري أن الحكم يبارك هذه الخطوات أني كانت النتائج، لأنها تصب في رافد مصالحهم الفئوية السياسية، فما علي المتكلمين الا الجهد [ صفحه 118] المضني في الجدل و الاحتجاج، و ما علي الحكم الا استثمار ذلك في صراعات بين صفوف الأمة لا أول لها و لا آخر، و لكنها تشغل الناس، و تلك نقطة انطلاق كبري يسعي اليها الحكم و السلطان.

الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة

و كما انشق المسلمون الي مذاهب متعددة في القدر و الارجاء و الجبر و التفويض، و كما نشأت المعتزلة و الأشاعرة و الخوارج، فقد انشق الشيعة فيما بينهم، فكانت الفرق الخارجة عن نظام أهل البيت مفارقة لتسلسل الأئمة الاثني عشر القائل بامامة أميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) و ولايته الكبري، ثم الحسن و الحسين، و علي بن الحسين (عليهماالسلام)، و محمد الباقر، و جعفر الصادق. و موسي الكاظم، و علي الرضا، و محمد الجواد، و علي الهادي، و الحسن العسكري، و الحجة القائم المنتظر (عليهم‌السلام) أجمعين. هذا التسلسل الامامي كان منظورا اليه، و متحدثا عنه، منذ عهد مبكر، بدأه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي، و الحسن و الحسين حتي عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) بروايات متواترة و أحاديث مستفيضة و هو ما عليه الامامية، و هو جزء لا يتجزأ من مبدأ الامامة. ولدي الامعان في تأريخ الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة نجده أسبق عهدا من عصر الامام موسي بن جعفر، فقد نشأت الكيسانية القائلة بامامة محمد بن الحنفية، و هو الأخ الثالث غير الشقيق لسيدي شباب أهل الجنة الحسن و الحسين (عليهماالسلام). فكانت الفتنة به عظيمة - و لا علاقة له بها - لأنه ابن أميرالمؤمنين، و ليس بأيدينا من المصادر ما يشير الي ادعائه الامامة لا من قريب و لا من [ صفحه 119] بعيد؛ بينما رأي أتباعه بأنه المهدي المنتظر، و أن وفاته كانت غيبة له، بل هو حي لم يمت و انما احتجب عن الأنظار. و سميت هذه الفرقة بالكيسانية نسبة الي كيسان مولي المختار الثقفي، بل قيل انه المختار نفسه. و قد انقرضت هذه الفرقة، فلا وجود لها اليوم. و من أبرز الفرق التي انشقت علي نظام أهل البيت «الزيدية» نسبة الي الشهيد زيد بن علي بن الحسين زين‌العابدين (عليه‌السلام)، و لم يكن زيد قد ادعي لنفسه الامامة أبدا، بل كان ثائرا، آمرا بالمعروف و ناهيا عن المنكر، حتي سفك في سبيل الله دمه، و صلبت جثته بعد القتل و أحرقت، و هو مرضي عند الأئمة (عليهم‌السلام)، و قد دعا الي الرضا من آل محمد. روي العيص بن القاسم، قال: «سمعت أباعبدالله (الامام الصادق) يقول: عليكم بتقوي الله... ان أتاكم آت منا، فانظروا علي أي شي‌ء تخرجون؟ و لا تقولوا خرج زيد، فان زيدا كان عالما، و كان صدوقا؛ و لم يدعكم الي نفسه، و انما دعاكم الي الرضا من آل محمد (صلي الله عليه و آله)، و لو ظهر لوفي بما دعاكم اليه، و انما خرج الي سلطان مجتمع ليفضه (ليقضه) [228] . و لم يكن للامام أن يسدد رأي زيد لو لم يكن علي حق. الا أن الزيدية اتخذت منهجا في دعوي الامامة يقوم علي مبدأ السيف، من خرج بالسيف فهو الامام المفترض الطاعة، و من أقام امامته علي غير الكفاح المسلح، فليس بامام، فلا يجوز اتباعه بزعمهم، و لا يجوز القول بامامته [229] . و هنالك فرق انطلقت في الميدان في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و كان أبرزها: الاسماعيلية، و الفطحية، و الواقفة. [ صفحه 120] و لكل فرقة من هذه الفرق الثلاث دعواها في تسلم منصب الامامة لغير الامام الشرعي المنصوص عليه في سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام). فالاسماعيلية تنتسب الي اسماعيل بن الامام جعفر الصادق، فعلي الرغم من وفاته في حياة أبيه، فقد أنكروا ذلك بشدة، و قالوا: لا يموت حتي يملك [230] . و كان هذا الزعم مخالفا لحقائق الاحداث، اذ توفي اسماعيل في عهد مبكر قبل الدعوة اليه، فقد مات في حياة أبيه في «العريض» و حمل علي رقاب الرجال الي المدينة، و دفن بالبقيع، و تقدم الامام الصادق سريره، و أمر بوضعه علي الأرض قبل دفنه مرارا كثيرة، و كان يكشف عن وجهه و ينظر اليه، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، و ازالة الشبهة عنهم في حياته [231] . و يقوم مذهب هذه الطائفة علي الغلو، و حصر الامامة في ذرية اسماعيل فيما يزعمون، و يضفون علي زعمائهم أقدس النعوت التي يرفضها حتي شبابهم المثقف. و في هذا الجو الغائم نشأت (الفطحية) القائلة بامامة عبدالله بن الامام الصادق (عليه‌السلام)، و قد لزمهم هذا اللقب لقولهم بامامته، و هو أفطح الرجلين. و يقال أنهم لقبوا بذلك لأن داعيهم الي امامة عبدالله هذا كان رجلا يقال له: عبدالله بن الأفطح [232] و قد تسمي هذه الفرقة العمارية، نسبة الي أحد زعمائها المسمي «عمار» [233] . [ صفحه 121] و سرعان ما اختفت هذه الفرقة، اذ لم يعش عبدالله بعد أبيه الا سبعين يوما، و لم يعقب ولدا ذكرا [234] و كأن مبدأ هذه الفرقة قد ولد ميتا، و انتهي أمرها. و نشأت أفكار فرقة ضالة، كان لها الأثر في تفريق الكلمة، و تشويه الحقائق المجردة، و هي فرقة الواقفة، و قد تسمي «الواقفية» و سبب هذه التسمية أنها وقفت علي امامة موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و ادعت أنه حي لم يمت و لا يموت، و أنه رفع الي السماء كما رفع عيسي بن مريم (عليه‌السلام) و أنه هو القائم المنتظر الذي يملأ الدنيا قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و أن الذي في سجن السندي بن شاهك ليس هو الامام موسي بن جعفر بل شبه و خيل اليهم أنه هو [235] . و كانت هذه المقالة مدعاة الي السخرية من قبل الامامية لأنها لا تقوم علي أساس نصي أو تأريخي علي الاطلاق. قال الشيخ الطوسي (ت 460 ه): «أما الذي يدل علي فساد مذهب الواقفة... فما ظهر من موته (عليه‌السلام)، و اشتهر و استفاض كما اشتهر موت أبيه و جده و من تقدمه من آبائه... علي أن موته اشتهر ما لم يشتهر موت أحد من آبائه (عليهم‌السلام)، لأنه أظهر، فقد أحضروا القضاة و الشهود، و نودي عليه ببغداد علي الجسر، و قيل: هذا الذي تزعم الرافضة أنه حي لا يموت، مات حتف أنفه» [236] . و يبدو أن العنصر المادي، و خيانة الله و رسوله في احتجان الحق الشرعي و مال المسلمين، هو الذي أدي بالقول الي الوقف. [ صفحه 122] فروي الثقات: ان اول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي‌حمزة البطائني، و زياد بن مروان القندي، و عثمان بن عيسي الرواسي، طمعوا في الدنيا، و مالوا الي حطامها، و استمالوا قوما، فبذلوا لهم مما اختانوه من الأموال... فكان عند زياد بن مروان سبعون ألف دينار... و عند عثمان بن عيسي ثلاثون ألف دينار و خمس جوار، فبعث اليهم الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام): أن احملوا ما قبلكم من المال، و ما كان اجتمع لأبي عندكم من أثاث و جوار، فاني وارثه، و قائم مقامه، فأنكر ذلك البطائني و القندي، و أما عثمان بن عيسي الرواسي فكتب اليه: ان أباك (عليه‌السلام) لم يمت، و هو حي قائم، و من ذكر أنه مات فهو مبطل، و اعمل علي أنه قد مضي كما تقول، فلم يأمرني بدفع شي‌ء اليك، و أما الجواري: فقد أعتقتهن، و تزوجت بهن [237] . و تهافت كثير من ذوي الأحلام القاصرة و ذوي الأطماع الواهنة الي اعتناق مذهب الواقفة دون هدي من كتاب أو سنة أو عقل. و الطريف في الأمر أن يحمل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في حياته علي هذه الفرقة و علي رئيسها بالذات، فعن ابن أبي‌داود، قال: «كنت أنا و عيينة بياع القصب عند علي بن أبي‌حمزة البطائني، - و كان رئيس الوافقة - فسمعته يقول: قال أبوابراهيم (عليه‌السلام) (موسي بن جعفر): انما أنت و أصحابك يا علي أشباه الحمير!!. فقال لي عيينة: أسمعت؟ قلت: اي و الله لقد سمعت. فقال: لا، و الله لا أنقل اليه قدمي ما حييت» [238] . [ صفحه 123] و قال ربيع بن عبدالرحمن: «كان و الله موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته، و يجحد الامام بعد امامته» [239] . و قد تمخض الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، لقيادة حملة واسعة ندد فيها بالواقفة، و حذر منها، و فند آراءها، و أخبر عن الضلال و الانحراف في خطواتها. فقد سأل مرة ما فعل الشقي حمزة بن بزيع؟ فقال ابراهيم بن أبي‌البلاد: هو ذا قد قدم. فقال (عليه‌السلام): يزعم أن أبي حي، هم اليوم شكاك، و لا يموتون غدا الا علي الزندقة. يقول صفوان بن يحيي: فقلت في نفسي: شكاك قد عرفتهم، فكيف يموتون علي الزندقة؟ فما لبثنا الا قليلا حتي بلغنا عن رجل منهم أنه قال عند موته: هو كافر برب أماته. فقلت: هذا تصديق الحديث [240] . و عن محمد بن سنان؛ قال: ذكر علي بن أبي‌حمزة عند الامام الرضا (عليه‌السلام) فلعنه ثم قال: ان علي بن أبي‌حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه و أرضه، فأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره المشركون، و لو كره اللعين المشرك، قلت: المشرك؟ قال: نعم و الله رغم أنفه، كذلك هو في كتاب الله: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم...) [241] و قد جرت فيه و في أمثاله، انه أراد أن يطفي‌ء نور الله [242] . و قد روي جعفر بن محمد النوفلي، أنه سأل الامام الرضا (عليه‌السلام): قلت: جعلت فداك، ان أناسا يزعمون أن أباك حي؟ [ صفحه 124] فقال: «كذبوا لعنهم الله؛ لو كان حيا ما قسم ميراثه، و لا نكح نساؤه، و لكنه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي‌طالب...» [243] . و مع هذا الشجب المستمر، و الانكار الصريح، فان فتنة الواقفة قد استهوت جماعة من أعيان الشيعة فيهم الأكابر و الأعاظم، الا أن الله تعالي قد كشفها ببركة الامام الرضا (عليه‌السلام)، فرجع عنها أولئك الذين شكوا بوفاة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، ثم عادوا لامامة الرضا (عليه‌السلام) بعد البراهين و الأدلة. و قد استوعب الشيخ الطوسي ذكرهم بأسمائهم و أعيانهم، بعد أن لزمتهم الحجة، و لا داعي لاعادة ذلك مع عودتهم الي الهدي [244] . و كان هذا بحسن التأتي لسيدنا و مولانا الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) و قوة حجته، و نفاذ بصيرته، و صدق تجاربه، و قرعه الدليل بالدليل، و جهره بمعاداة أولئك الأفاقين. فقد روي أحمد بن محمد قال: «وقف علي، أبوالحسن (الامام الرضا) في بني زريق، فقال لي و هو رافع صوته، يا أحمد؛ قلت: لبيك، قال: انه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) جهد الناس في اطفاء نور الله، فأبي الله الا أن يتم نوره بأميرالمؤمنين (عليه‌السلام). فلما توفي أبوالحسن (عليه‌السلام) (الامام موسي بن جعفر) جهد علي ابن أبي‌حمزة و أصحابه في اطفاء نور الله، فأبي الله الا أن يتم نوره، و ان أهل الحق اذا دخل عليهم داخل سروا به، و اذا خرج عنهم [ صفحه 125] خارج لم يجزعوا عليه، و ذلك أنهم علي يقين من أمرهم، و ان أهل الباطل اذا دخل فيهم داخل سروا به، و اذا خرج عنهم خارج جزعوا عليه، و ذلك أنهم علي شك من أمرهم، ان الله جل جلاله يقول: (... فمستقر و مستودع...) [245] . قال: ثم قال أبوعبدالله (عليه‌السلام): المستقر الثابت، و المستودع المعار» [246] و لما صرح الحق عن وجهه، انتهي أمر هذه الفرقة، و ذهبت أدراج الرياح، و كأنها لم تكن. و لئن انشقت فرق الشيعة من الداخل، فقد انشق المسلمون من الخارج، فوفدت عليهم الرياح الصفراء يحملها الأعاجم في كثير من الضغط علي النفوس الضعيفة و الأحلام الطائشة، و قد استأثرت الشعوبية بطائفة منهم، و استقطبت المزدكية و الزرادشتية و المانوية جيلا من الناس، و أسفرت حركات الالحاد و الزندقة عن اتباع و سائرين بالركاب، و قد شاء أربابها تزيين مبادئهم بشعارات براقة لم تظهر حتي اختفت، و لكنها أثرت في الحياة الفعلية ايما تأثير، و لكنها عاشت في أوهام العقول و لم تبلغ الأفئدة، و قد وقف منها المسلمون موقف المناضل المستميت، و كان الدور الأكبر للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بارز السمات و الآثار، فرفضها المجتمع المسلم، و عادت ادعاءاتها باهتة الألوان، فما استقرت حتي تبددت، و ما اجتمعت حتي تفرقت. و لئن أتاح المناخ السياسي لهذه المبادي‌ء الوافدة أن تتطاول، فقد أتاحت قيادة أهل البيت الفرصة للعمل علي الاطاحة بها، كما ستشاهد هذا في المبحث الآتي. [ صفحه 126]

الامام في خضم التيار الكلامي

و استبق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خطا المتكلمين، و بادر الي الدفاع عن التوحيد، و أبطل شبهات الانحراف، و حمل الفكر علي المحجة البيضاء، كما حدب علي ايصال المفردات الرائدة الي الذهن الانساني بيسر و سماح من خلال ذلك الوهج اللماع لاستلهام الحقائق ناصعة مجردة. فللامام رسالة في التوحيد بلغ بها الذروة في الحديث عن الخالق و صفاته، و تنزيه الباري‌ء المصور من كل المقولات الضالة، و افتقار الناس اليه تعالي و استغناؤه عن الخلق، بما يعتبر سجلا حافلا بأصول التوحيد، و هو بمعطياته لا نظير له في تأريخ حضارة الانسان. بدأ الامام (عليه‌السلام) في هذه الرسالة: بحمد الله الدال علي وجوده بمخلوقاته، و المستشهد بآياته علي قدرته. و ذهب الامام أن صفات الله عين ذاته، فلا يحاط بحد، بصير لا بأداة، سميع لا بآلة، لا تدركه العقول لقصورها عن ذلك، و هو في غاية الظهور لتجرده عن الحجب، الديانة معرفته، و كمال معرفته توحيده، الي آخر ما أبان (عليه‌السلام)؛ و ان من كمال البحث العقلي اثبات نص هذه الرسالة. قال الامام (عليه‌السلام): «الحمد لله الملهم عباده حمده، و فاطرهم علي معرفة ربوبيته، الدال علي وجوده بخلقه، المستشهد بآياته علي قدرته، الممتنعة من الصفات ذاته، و من الأبصار رؤيته، و من الأوهام الاحاطة به، لا أمد لكونه، و لا غاية لبقائه، لا تشمله المشاعر، و لا تحجبه الحجب، و الحجاب بينه و بين خلقه بأخلقه اياهم، لامتناعه مما يمكن في ذواتهم، و لا مكان مما يمتنع منه، و لافتراق الصانع من المصنوع، و الحاد من المحدود، و الرب من المربوب، و الواحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعني حركة، و البصير [ صفحه 127] لا بأداة، و السميع لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و الباطن باجتنان، و الظاهر البائن لا بتراخي مسافة، أزلة نهي لمجاول الأفكار، و دوامه ردع لطامحات العقول، قد حسر كنهه نوافذ الأبصار، و قمح وجوده جوائل الأوهام. أول الديانة به معرفته، و كمال معرفته توحيده، و كمال توحيده نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة الموصوف أنه غير الصفة، و شهادتهما جميعا بالتثنية. الممتنع من الأزل، فمن وصف الله فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله، و من قال: كيف؟ فقد استوصفه، و من قال: فيم؟ فقد ضمنه، و من قال: علي م؟ فقد جهله، و من قال: أين؟ فقد أخلي منه، و من قال: ما هو؟ فقد نعته، و من قال: الي م؟ فقد غاياه، عالم اذ لا معلوم، و خالق اذ لا مخلوق، و رب اذ لا مربوب، و كذلك يوصف ربنا، و فوق ما يصفه الواصفون» [247] . و لا أعلم وثيقة توحيدية نابضة كهذه الوثيقة في أدلتها و ايجازها و بلاغتها، الا أن تكون لأميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) و أولاده المعصومين، فموردهم واحد، و رافدهم واحد. و في مجال التجسيد، دحض الامام الأقوال بالحركة، و نزه الباري عزوجل عن الانتقال و التخطي، لأن ذلك وصف للمتحرك، و المتحرك لا يكون بمكانين في آن واحد، و الله تعالي فوق الزمان و المكان، و هو علي سواء في القرب و البعد، فلا يحد بمكان، و لا يتحرك بجوارح، و لا يتحدث بفم. قال الامام (عليه‌السلام): «لا أقول انه قائم فأزيله عن مكانه، و لا أحده بمكان يكون فيه، و لا أحده أن يتحرك في شي‌ء من الأركان و الجوارح، و لا أحده [ صفحه 128] بلفظ شق فم، و لكن كما قال تعالي: (... كن فيكون) [248] بمشيئته من غير تردد في نفس، صمدا فردا، لم يحتج الي شريك يذكر له ملكه، و لا يفتح له أبواب عمله» [249] . و في السياق نفسه نفي الامام نزول الله فيما تزعم بعض المرويات، و نفي احتياجه للنزول، فكل شي‌ء محتاج اليه، و هو ليس بحاجة الي شي‌ء. قال الامام (عليه‌السلام): «ان الله لا ينزل، و لا يحتاج أن ينزل، انما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب، و لم يقرب منه بعيد، و لم يحتج الي شي‌ء بل يحتاج اليه، و هو ذو الطول لا اله الا هو العزيز الحكيم» [250] . ثم دعم الامام هذا الرأي بالدليل العقلي، فان النزول دليل الحركة، و المتحرك له من يحركه، و ذلك من المحدثات، و الله تعالي هو الأزلي القديم. قال الامام (عليه‌السلام): «أما قول الواصفين: انه ينزل تبارك و تعالي، فانما يقول بذلك من ينسبه الي نقص أو زيادة، و كل متحرك يحتاج الي من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له علي حد تحدونه بنقص، أو زيادة، أو تحريك، أو تحرك، أو زوال، أو استنزال، أو نهوض، أو قعود، فان الله جل و عز عن صفة الواصفين، و نعت الناعتين، و توهم المتوهمين» [251] . و كما نفي الامام الحركة و أبطلها، فقد نفي القول بالجسم و الصورة و المثلية. [ صفحه 129] قال الامام: «سبحان من ليس كمثله شي‌ء، لا جسم و لا صورة» [252] . و عرض علي الامام قول أهل التجسيم فيما نصه: «ان الله جسم ليس كمثله شي‌ء، عالم، سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، و الكلام و القدرة و العمل تجري مجري واحدا، ليس شي‌ء منها مخلوقا». فرد الامام هذه المزاعم الفجة، و حمل علي قائلها، بقوله: «قاتله الله، أما علم أن الجسم محدود، و الكلام غير المتكلم، معاذ الله!! و أبرأ الي الله من هذا القول. لا جسم، و لا صورة، و لا تحديد، و كل شي‌ء سواه مخلوق. انما تكون الأشياء بارادته و مشيئته من غير كلام، و لا تردد نفس، و لا نطق لسان» [253] . ان هذا المنطق الفياض بروائعه الكلامية ينطلق من معرفة خارقة بحقائق الأشياء، و من نفس أثيرة غمرها الايمان، فنظرت في صفات الباري بعين البصيرة، و كانت الأدلة البرهانية تتقاطر معها كالسيل اذا انحدر، لذلك كان المتكلمون ينتظمون في موقع الافادة و الاستزادة من الامام، لا في موضع الجدل و المناظرة، فهم بازاء أحد عباقرة الدنيا في استقراء المفاهيم و ابراز المصاديق، و انارة السبيل بين أيدي الباحثين الالهيين. لقد سئل الامام عن ارادة الله تعالي، فأجاب بديهة: «الارادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. و أما من الله فارادته احداثه لا غير، لأنه لا يروي، و لا يهم، و لا يفكر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فارادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له: (... كن فيكون) [254] بلا لفظ، و لا نطق، و لا لسان، و لا همة، و لا تفكر، و لا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له» [255] . [ صفحه 130] أرأيت كيف أفرغت البلاغة جوهرها في هذا النص الفريد، فميز فيه بين ارادة الخالق و المخلوق، بأبلغ لفظ، و أوجز بيان، و أوضح أسلوب. فارادة الانسان قرار داخلي محدث فيما يبدو له من الأفعال بعد التأمل و التفكير، و ارادة الله تعالي احداثه للشي‌ء ليس غير، و هذا الاحداث يتم بأمر الكينونة المطلقة منه، دون لفظ و ذبذبة لسان، و لا نطق و لا هم و لا تفكير. و الطريف في هذا الملحظ أن الامام يتحدث عن ارادة الله في شقيها التكويني و التشريعي، بما لم يسبق اليه من قبل فلاسفة عصره و المتكلمين. يقول الامام (عليه‌السلام): «ان الله ارادتين و مشيئتين: ارادة حتم، و ارادة عزم، ينهي و هو يشاء، و يأمر و هو يشاء، أو رأيت أنه نهي آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك؟ و لو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالي، و أمر ابراهيم بذبح اسحاق (ولده) و لم يشأ أن يذبحه، و لو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالي» [256] . و قد عقب الأستاذ باقر شريف القرشي علي هذا بقوله: «و بيان مراده (عليه‌السلام): أن الارادة تنقسم الي الارادة التكوينية الحقيقية، و الي الارادة التشريعية الاعتبارية، فارادة الانسان التي تتعلق بفعل نفسه ارادة تكوينية تؤثر في أعضائه الي ايجاد المطاوعة الا لمانع، و أما الارادة التي تتعلق بفعل الغير كما اذا أمر بشي‌ء أو نهي عنه، فان هذه الارادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر ايجاد الفعل أو تركه من الغير، بل تتوقف علي الارادة التكوينية له. و اما ارادة الله التكوينية فهي التي تتعلق بالشي‌ء، و لابد من ايجاده، و يستحيل فيها التخلف. [ صفحه 131] و أما ارادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث أنه حسن و صالح. و أما نهي الله لآدم عن الأكل... و أمره لابراهيم بالذبح... فان النهي و الأمر فيهما تشريعيان، كما أن المشيئة هي المشيئة التكوينية. و الأخبار الواردة عن أئمة الهدي (عليهم‌السلام) بأن الذي جعل قربانا للبيت الحرام هو اسماعيل دون اسحاق» [257] . و ها أنت تري أن هذا المناخ العقلي المتطور لدي الامام كان زاخرا بعبارات تنبض بالجمال الفني لغة، و تصقل بصفاء الأسلوب أداء، مما حول المعركة الكلامية المتنافرة الي مادة تفاهم و نشاط عقلي يبتعد بأفكاره عن الانكفاء وراء التهم، و يتحاشي الهجوم المرير. علي أن هذا المناخ الذي أوجده الامام كان يتردد في أفق ملتهب لا معقول، الا أن الامام قد عدل من مساره و قاده الي شواطي‌ء الأمن. و لم يكن الامام الا داعية الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، عليه ابداء الحقائق مجردة، و وضع الأعلام لائحة، فمن أخذ بها فقد أخذ بالسهم الأرشد، و من أبي ذلك عليه فهو و شأنه. فقد دحض الامام مزاعم أهل الجبر باستدلال بديهي أن الله تعالي بأمره و نهيه قد جعل السبيل ممهدا للأخذ بما أمر، و جعله كذلك في ترك ما نهي عنه، و لم يجبر أحدا علي عمل، قال (عليه‌السلام): «ان الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون، فأمرهم و نهاهم، فما أمرهم به شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي الأخذ به، و ما نهاهم عنه من شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي تركه، و لا يكونون آخذين و لا تاركين الا باذنه، و ما جبر الله أحدا من خلقه علي معصيته، بل اختبرهم بالبلوي، و كما قال: [ صفحه 132] (... ليبلوكم أيكم أحسن عملا...) [258] [259] . و من هذا القبيل ما روي عن الامام الرضا (عليه‌السلام) أنه قال: سأل رجل أبي: هل منع الله عما أمر به؟ و هل نهي عما أراد؟ و هل أعان علي ما لم يرد؟ فقال (عليه‌السلام): أما قولك هل منع عما أمر به، فلا يجوز ذلك عليه، و لو جاز ذلك لكان قد منع ابليس عن السجود لآدم، و لو منعه لقدره و لم يلعنه. و أما قولك هل نهي عما أراد؟ فلا يجوز، و لو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة أراد أكلها... و الله تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشي‌ء و يريد غيره. و أما قولك: هل أعان علي ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك عليه، و تعالي الله عن أن يعين علي قتل الأنبياء و تكفيرهم، و قتل الحسين بن علي و الفضلاء من ولده، و كيف يعين علي ما لم يرد؟ و قد أعد جهنم لمخالفيه، و لعنهم علي تكذيبهم لطاعته و ارتكابهم لمخالفته، و لو جاز أن يعين علي ما لم يرد لكان أعان فرعون علي كفره و ادعائه أنه رب العالمين، أفتري أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية...» [260] و هذا أبوحنيفة، النعمان بن ثابت، يسأل الامام و هو صبي. قال له: «يا ابن رسول الله؛ ما تقول في أفعال العباد؛ ممن هي؟ قال الامام: يا نعمان، قد سألت فاسمع، و اذا سمعت فعه، و اذا وعيت فاعمل. ان أفعال العباد لا تخلو من ثلاث خصال: [ صفحه 133] اما من الله علي انفراده، أو من الله و العبد شركة، أو من العبد بانفراده. فان كانت من الله علي انفراده، فما باله سبحانه يعذب عبده علي ما لم يفعله مع عدله و رحمته و حكمته؟ و ان كانت من الله و العبد شركة، فما بال الشريك القوي يعذب شريكه علي ما قد شركه فيه، و أعانه عليه؟ ثم قال الامام: استحال الوجهان يا نعمان؟ فقال: نعم. قال الامام: فلم يبق الا أن يكون من العبد علي انفراده...» [261] . و هذا تأكيد علي أصل العدل من جهة، و هو نفي للجبر و التفويض من جهة أخري. و قد كرر أبوحنيفة نفسه هذا السؤال للامام بصيغة أخري تحوم حول الغرض ذاته، الا أنه خصص السؤال بصدور المعصية. فأجابه الامام الجواب نفسه تقريبا بطرح جديد. قال أبوحنيفة للامام: «جعلت فداك ممن المعصية؟... قال الامام: ان المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه، أو منهما جميعا، فان كانت من الله تعالي فهو أعدل و أنصف من أن يظلم عبده، و يأخذه بما لم يفعله. و ان كانت منهما فهو شريكه، و القوي أولي بانصاف عبده الضعيف. و ان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، و اليه توجه النهي، و له حق الثواب و العقاب، و وجبت له الجنة و النار. قال أبوحنيفة: فقلت: (ذرية بعضها من بعض) [262] [263] . [ صفحه 134] و مع أن أباحنيفة من القائلين بالجبر، و ممن قيدوا حرية الارادة، فانه قد سجل اعجابه بما أجاب به الامام، سيما و الرواية تقول بأن الامام كان آنذاك صغير السن. و كان الامام لا يبخل علي أحد بالافادة منه في النظر العقلي، لا سيما في أصول الدين و فروعه، و الظاهرة الماثلة للعيان أن جرت بينه و بين هارون الرشيد عدة مباحثات و مناظرات و احتجاجات، يأتي بعضها في محلها، و لكن الملفت للنظر حقا أن يطب اليه الرشيد أن يكتب له كلاما موجزا له أصول و فروع، يفهم تفسيره... فكتب الامام: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمور الدنيا أمران: أمر لا اختلاف فيه، و هو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون اليها، و الأخبار المجمع عليها، المعروض عليها شبهة، و المستنبط منها كل حادثة، و أمر يحتمل الشك و الانكار، و سبيل استنصاح أهل الحجة، فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمع علي تأويله، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه و آله) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، ضاق علي من استوضح تلك الحجة ردها، و وجب عليه قبولها، و الاقرار و الديانة بها، و ما لم يثبت لمنتحليه به حجة من كتاب مستجمع علي تأويله، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه و آله) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، وسع خاص الأمة و عامها الشك فيه و الانكار له كذلك، هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه الي ارش الخدش و ما دونه، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيته، و ما غمض عنك ضوؤه نفيته. و لا قوة الا بالله، و حسبنا الله و نعم الوكيل» [264] . [ صفحه 135] و هذا الانفتاح علي المناخ العقلي لدي الامام لم يكن مقتصرا علي المسلمين وحدهم، بل تجاوزه الي الملل و النحل الأخري... فقد روي هشام بن الحكم أن الامام موسي بن جعفر قال لأبرهة النصراني: كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا عالم به و بتأويله. قال: فابتدأ الامام (عليه‌السلام) يقرأ الانجيل. فقال أبرهة: و المسيح لقد كان يقرأها هكذا؛ و ما قرأ هكذا الا المسيح، و أنا كنت أطلبه منذ خمسين سنة. فأسلم علي يديه [265] . و اجتمع الامام موسي بن جعفر براهب، و جرت بينهما المحاورة الآتية: قال الراهب للامام: يا هذا أنت غريب؟ قال الامام: نعم. قال الراهب: منا أو علينا؟ قال الامام: لست منكم. قال: أنت من الأمة المرحومة؟ قال الامام: نعم. قال: أفمن علمائهم أنت أم جهالهم؟ قال الامام: لست من جهالهم. قال: كيف طوبي أصلها في دار عيسي و عندكم في دار محمد، و أغصانها في كل دار؟ قال الامام: الشمس قد وصل ضوؤها الي كل مكان و كل موضع و هي في السماء. [ صفحه 136] قال الراهب: و في الجنة لا ينفد طعامها و ان أكلوا منه، و لا ينقص منه شي‌ء؟ قال الامام: السراج يقتبس منه و لا ينقص منه شي‌ء. قال الراهب: و في الجنة ظل ممدود؟ فقال الامام: الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها؛ ظل ممدود. و قوله: (ألم تر الي ربك كيف مد الظل...) [266] . قال الراهب: ما يؤكل و يشرب في الجنة لا يكون بولا و لا غائطا؟ قال الامام: الجنين في بطنه أمه... قال الراهب: أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟ قال الامام: اذا احتاج الانسان الي شي‌ء عرفت أعضاؤه ذلك، و يفعلون بما أرادوا من غير أمر. قال الراهب: مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟ قال الامام: مفتاح الجنة لسان العبد: لا اله الا الله. قال صدقت، و أسلم و الجماعة معه [267] . و لا تحسبن المناخ العقلي لدي الامام كان مقتصرا علي المناظرات و المحاورات، و انما هو خصيصة رسالية سيرها الامام ما وجد الي ذلك سبيلا، و مهمة قيادية وجه بها الأجيال نحو المعرفة الالهية و الكمال النفسي. [ صفحه 137]

الامام و طواغيت عصره

المبادي‌ء السياسية المتقابلة

و كانت السلطات القائمة في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تنطلق سياسيا من واقع أرستقراطي قائم علي أساس الأثرة و الاستعلاء، بينما كانت سياسة الامام و هي تنطلق من واقع اسلامي متوازن، معنيا للعدل الاجتماعي المفقود، و ألقا من النصح الكريم في بعث القدرات الانسانية، و دليلا من القيم التي تشجب عبادة الدولة و الأصنام البشرية، مؤكدة علي المبادي‌ء التي تعتبر الانسان مخلوقا رفيعا له كرامته المضمونة في اطار تعليمات الدولة الاسلامية التي تستنكر كون الفرد عبدا للدولة. و من هنا كانت الفروق المميزة بين واقعين متناقضين، واقع الاستبداد المطلق المتمثل بسلاطين الجور، و واقع الكرامة الانسانية المتمثلة بأفكار الامام. [ صفحه 138] و كان استنطاق الوثائق التأريخية المحايدة، و استحضار النصوص الطريفة لحياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الرصد و التوجيه و التأثير، قد أحدثت في الأفق العام صوتا مدويا حاول البحث القاء المزيد من الضوء علي معطياته، و قد تأكد لنا من أبعاده و جوانبه استيعاب الامام المشروع الطموح البشري في العدل و المساواة و الحرية الاجتماعية، مما أوجد حالة كبري في الاستنفار اليقظ من ركود الماضي الي الانبعاث الجديد من التحرر و الانعتاق من تجاوزات السياسة الجافة التي انتهجتها خلائق السوء و دعاة التخريب الجماعي، فكان الانقلاب الجذري في فكر الانسان المسلم الواعي و حياته الحقيقية منطلقا - في ضوء توجيه الامام - لمعالجته الوضع الشاذ في أنماطه المأساوية، اذ انفتح العقل الانساني علي معايير جديدة في الأحكام و الأعراف و التقييم الموضوعي تختلف علي تلك الأعراف الشائعة وراء حجز الأفكار و وأد المنطلق المنطقي للانسان، مما جعل النظام العباسي يعيش في عزله قاتلة بين أفياء القصور و أحضان الجواري و المولدات، و هو يبتعد عن هموم الشعب، و الشعب يبتعد عن همومه، فهما مفترقان لا يلتقيان، و ان فرضت السيطرة بالقوة و الاكراه نوعا من الطاعة، و لكن هذا الفرض قد يتعكر صفوه بالانتفاضات المسلحة - كما ستري- فلم يكتب للدولة العباسية الاستقرار السياسي الا في ظل مسرحيات مفضوحة الغايات حاولها النظام للحل المؤقت، كالتجائه الي نصب الامام الثامن من أئمة أهل البيت؛ الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) في مركز ولاية العهد للمأمون ريثما تهدأ العاصفة. و لقد أصيب المجتمع الاسلامي بالشلل التام و الانكماش علي الذات جراء ما يعانيه من مخلفات هذا الوضع الغريب حتي أسقط في يده، و لكن التجربة الرافضة لظواهر التمزق الداخلي، و التي نهض بها الامام موسي بن [ صفحه 139] جعفر (عليه‌السلام) بصلابة و أناة، تعطي الجماعة الاسلامية زخما متحركا في مجابهة المناخ المريض الملوث، و تمد الأمة قوة و فتوة للانطلاق الغاضب علي العنف و التسلط. و كان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) نموذجا لا مثيل له في اشراق الضمير و توهج الذات، فحقق مبدأ «الغيرية» الذي يعيش فيه القائد الفذ لغيره من الناس لا لنفسه، و تلك هي التضحية التي ندبت لها شريعة السماء. لقد كان بامكان الامام أن يغض طرفا عن تجاوزات الحكم العباسي فحسب، لا أن يجاربه أو يؤيده، فالحاكم لا يطمح بذلك، و لو تجاوز الامام ما رسمه لنفسه لعاش في بحبوحة من النعيم، بين القصور الفارهة و الحياة الرغيدة، و لكنه لم يخلق لهذا قط، بل انتصب شاخصا ماثلا للمبادي‌ء الرسالية التي ترفض كل صيغ المحاباة و الاستئثار بحقوق الفرد و الأمة، فكانت المجابهة للاضطهاد و الاستبداد تشكل نظرة مستقبلية لارساء مرجعية أهل البيت في اثراء الضمير الانساني بالموقف الصلب، و المبدأ الثابت، و الحياة الحرة الكريمة، دونما اراقة دماء بريئة، أو اثارة معارك عقيمة، فليكن و الحالة هذه هو الضحية لهذا التوجه الناهض، فما خلق الامام ليريح أو يستريح، بل ليناضل ما استطاع الي ذلك سبيلا، و كان تكليفه الشرعي هو الذي يملي عليه طبيعة العمل و التعبير عن الموقف بطرقه الخاصة التي تتفادي الصراع المرير بين الجمهور الأعزل المضطهد، و بين القوي الفاعلة و هي تتسلح بالجبروت و الجيش المدرب، و بذلك استطاع الامام تحقيق هدفين مهمين في سهم واحد: الأول: مجابهة التعالي و شريعة الغاب؛ بالقول الصارم، أو النضال السلبي الهادر، أو الكلمة النافذة الي الأعماق، و هي تزلزل عروش الطغاة و كبرياء الجبابرة. [ صفحه 140] الثاني: الابقاء بحدود كبيرة علي البقية المؤمنة، دون التفريط بها في خنادق القتال و ميادين الحروب المدمرة. فقد رأي الامام - علي قلة أنصاره - أن القتال لا يحقق له نصرا فعليا ولا مستقبليا، فعليه أن يسلك بأتباعه بحلم و رؤية، و يحفزهم باعداد القوة الي الظرف المناسب. و كان عصر الامام قد أتاح له الالتقاء البغيض بطواغيت عصره من بني العباس، فكانت مبادؤه متقاطعة مع كل من: أبي‌جعفر المنصور، و المهدي العباسي، و موسي الهادي، و هارون الرشيد، و هم يمثلون الدولة العباسية في قوتها و عنفوانها. و سنلاحظ عن قرب مدي الاستهانة بالقيم الانسانية و الأخلاقية لدي هؤلاء، و الامام موسي بن جعفر كالجبل الأشم رسوخا و ثباتا و قيما.

في استخلاف المنصور

لم يكن المنصور حازما كما صوره مدونو التأريخ، و لم يكن داهية كما يصفه رواة الأحداث، بل كان من جبابرة الأرض الذين سفكوا الدماء، و انتهكوا الحرمات. و لم يكن ليتعامل بمنظور ديني علي الاطلاق، و انما هو الملك الدنيوي العقيم، فهو لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم و الموبقات ازاء تثبيت أركان مملكته، و لا أدل علي ذلك ما اقترفه من قتل الحسنيين تحت كل حجر و مدر، و من تتبع آثار المعارضين ابادة و سجونا و طوامير، حتي طفح الاناء بما فيه شدة و قسوة و تنكيلا. و مع أن التأريخ الرسمي قد منح الطغاة هالة من التعظيم و شيئا من الاكبار، الا أن شذرات من تقريراته قد فضحت ذلك الستار الشفاف الذي أحيط بتلك الأبراج العاجية التي استقل في ظلالها دعاة الجور و قتلة الأبرياء. [ صفحه 141] لقد أنزل العباسيون بقيادة أبي‌جعفر المنصور أفدح العقوبات بأبناء عمومتهم من العلويين، لم يمنعهم عن ذلك قرابة أو لحمة نسب، و لم يردعهم دين أو ورع، و انما هو الاستئثار الشامل بكل شي‌ء، و الأحكام العرفية الصارمة لأدني مخالفة، و لم تكن جرائم المنصور نفسه بريئة من القسوة الضارية التي أنست جرائم الجاهلية في عنفها و شدتها، يضاف اليها الغدر بأقرب الناس، و أنصار النظام، و قادة الحركة العباسية أنفسهم، حتي قال الأستاذ السيد أمير علي الهندي: «كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء، و تعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط... سادرا في بطشه، و مستهترا في فتكه، و تعتبر معاملته لأولاد علي (عليه‌السلام) صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي» [268] . و لم يكن أمر قسوته بمعزل عن تسليط الضوء علي برنامجه الدموي في استئصال شأفة المعارضين السياسيين من قبل التأريخ، بل صرح بأكثر من مصدر و مورد بآثار ذلك النهج الارهابي المفجع في صوره المرعبة. قال الطبري (ت 310 ه): ان المنصور: «أمر بأسطوانة مبنية ففرغت، ثم أدخل فيها محمد بن ابراهيم بن الحسن، فبني عليه و هو حي» [269] . بل أنه عمد الي جملة الأسري من الحسنيين فكبلهم بالقيود و الأغلال حتي ماتوا في السجون [270] . و قيل: انهم وجدوا مسمرين في الحيطان [271] . قال السيوطي بأنه: «قتل خلقا كثيرا حتي استقام ملكه» [272] . [ صفحه 142] و هو الذي أمر بضرب أبي‌حنيفة النعمان بن ثابت، ثم سجنه فمات بعد أيام [273] . بل روي السيوطي: أنه قتل أباحنيفة بالسم [274] . و هذه أمثلة شاردة علي فظاظة أفعاله و سوء معاملته، مع شرائح من الناس و الأبرياء منهم بخاصة، و لا أدل علي ذلك من قتله الامام الصادق (عليه‌السلام) فقضي مسموما بأمره. و قد عرضنا لشي‌ء من سيرته في البطش الدموي في كتابنا: «الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم أهل البيت» و نضيف هنا أنه كان ممن يتلاعب بشريعة سيد المرسلين (صلي الله عليه و آله)، و يخالف أحكامها بأحكام ما أنزل الله بها سلطانا. «فقد دخل عليه ابن هرمة الشاعر المشهور بشرب الحمر، فقال له المنصور: ما حاجتك؟ قال ابن هرمة: تكتب الي عاملك بالمدينة أن لا يحدني اذا وجدني سكران!! فقال: لا أعطل حدا من حدود الله. قال: تحتال لي!! فكتب المنصور الي عامله: من أتاك بابن هرمة سكرانا فاجلده مائة، و اجلد ابن‌هرمة ثمانين. فكان من يراه سكران يقول: - من يشتري مائة بثمانين، ثم يتركه و يمضي» [275] . و هكذا يجد المنصور المخرج لاباحة شرب الخمر و تعطيل الحدود، علما بأنه كان يتناول الخمرة، و لكنه لا يظهر لندمائه بشرب و لا غناء [276] و كان [ صفحه 143] معروفا بالفتك، و لقد غدر بأب مسلم الخراساني قائد الدعوة العباسية، و بأبي‌سلمة الخلال وزير آل محمد كما وصفوه، و بعمه عبدالله بن علي، و سواهم من أعيان رجاله. و كان بخيلا يضرب المثل بشحه و بخله، و يجد ذلك مكرمة و حسن تدبير، و يحرص علي خزائنه جمعا و احتكارا، و الشعب المسلم يتضور جوعا و بؤسا، و يعلل ذلك بقوله: «من قل ماله قل رجاله، و من قل رجاله قوي عليه عدوه، و من قوي عليه عدوه اتضع ملكه، و من اتضع ملكه استبيح حماه» [277] . و هكذا تري حاكما غادرا بخيلا فاتكا يتقمص الخلافة الاسلامية، و يتبوأ مقعد ادارة المسلمين بهذه الصفات المهزوزة، و كان حريا بالتأريخ أن يكشف سود صحائفه، و لكن التأريخ يجري في ميدان الحكم سواء رضي الناس أم سخطوا. و كان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد قضي أكثر من عشرين عاما في خلافة المنصور التي امتدت بين عام 136 ه حتي عام 158 ه، و هي فترة ليست بالقصيرة، اذ أفني زهرة شبابه في حياة هذا الحاكم، و هو يسفك الدماء بغير الحق، و يستبيح الذمام ابتداء من القضاء علي الحسنيين و انتهاء بسم الامام الصادق (عليه‌السلام). و ما رافق ذلك من المظالم الهائلة و الارهاب الجماعي، مما ذهب ضحيته آلاف المسلمين الرساليين، مضافا الي القضاء علي شباب الهاشميين و شيوخهم قتلا و تشريدا و اعتقالا. كما حدث بذلك التأريخ [278] . و كان الاضطهاد السياسي يتراوح في تلك الحقبة بين قطع الأعناق و قطع الأرزاق و مصادرة الحرية، فكان علي الناس و هي ترافق هذه الانتهاكات أن تحيا شاهد الخوف و الهلع و الفقر. [ صفحه 144] و الامام ينظر الي هذا كله، و لا يستطيع تغيير ذلك جذريا، و ان استطاع أن يفضحه علي رؤوس الأشهاد سلبا أو ايجابا، غاب عنه الأولياء الا صفوة تعد بأطراف الأصابع، ادخرهم لتبليغ الرسالة، و استتر عنه الزعماء فقد ملئت غرائرهم بالأموال و الرشاوي، و بقي في ضعفاء من الناس لا حول لهم و لا طول، و الأمر يتنقل بالفوضي من سيي‌ء الي أسوأ، و الآفاق داكنة بين سحاب و ضباب، و الحياة مضطربة بين السيف و الحيف، و قلق المسلمون علي الامام حينما كتب المنصور الي واليه علي المدينة عند وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام): «ان كان الامام قد أوصي الي رجل بعينه، فقدمه و اضرب عنقه». فكتب الوالي الي المنصور أن الامام الصادق قد أوصي الي خمسة: أبي‌جعفر المنصور نفسه، و محمد بن سليمان والي المدينة، و ولده عبدالله الأفطح، و ولده موسي، و زوجته حميدة. فقال المنصور: ما الي قتل هؤلاء من سبيل [279] . و كانت جرائم المنصور تتجاوز الحدود في الانتقام و التشفي، و أكتفي بحديث «الخزانة» التي احتجزها لنفسه، و لم يطلع عليها أحدا، و هي محاطة بالسرية و الكتمان، حتي ظهر أمرها بعد وفاته بما تحدث عنه محمد بن جرير الطبري بقوله: «لما عزم المنصور علي الحج دعا (ريطة بنت أبي‌العباس السفاح) امرأة المهدي، و كان المهدي بالري قبل شخوص أبي‌جعفر، فأوصاها بما أراد، و عهد اليها، و دفع اليها مفاتيح الخزائن، و تقدم اليها و أحلفها، و وكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، و لا تطلع عليها أحدا الا المهدي، و لا هي الا أن [ صفحه 145] يصح عندها موته، فاذا صح ذلك اجتمعت هي و المهدي و ليس معهما أحد حتي يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت اليه المفاتيح و أخبرته ألا تفتحه، و لا يطلع عليه أحد حتي يصح عندها موته، فلما انتهي الي المهدي موت المنصور، و ولي الخلافة فتح الباب و معه ريطة، فاذا أزج كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين، و في آذانهم رقاع فيها أنسابهم، و اذا فيهم أطفال، و رجال شباب، و مشايخ عدة كثيرة، فلما رأي المهدي ذلك ارتاع لما رأي، و أمر فحفرت لهم حفيرة، فدفنوا فيها، و عمل فوقها دكانا» [280] . و هكذا نجد شأن الطغاة الكبار في الانتقام اللاانساني بأقرب الناس صلة و نسبا، و لا غرابة في ذلك و وصيته لولده المهدي تقول: «اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف: فقيرا لا يرجو الا غناك، و خائفا لا يرجو الا أمنك، و مسجونا لا يرجو الفرج الا منك» [281] . و يعقب علي الرواية الأستاذ باقر شريف القرشي بقوله: «انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة أصناف، و انما ترك الناس جميعا كذلك، فقد روعهم بخوفه، و سلبهم الأمن و الدعة، و نشر الفقر و المجاعة بينهم، و ملأ السجون بالأحرار و المصلحين» [282] . و كيف تري حياة الامام، و هو يعايش كل المآسي التي اجترحها المنصور في حقده؟ بلي مات المنصور و عمر الامام ثلاثون عاما أبقت في قلبه ذكريات اللوعة و المرارة و الأسي، فكان بذلك يحيا الألم الكبير في كل ظواهره المروعة. [ صفحه 146]

في عهد المهدي العباسي

و استقبل المهدي بن المنصور خلافة أبيه عام 158 ه بموجة عارمة من اللهو و العبث و المجون، فقد استولي علي مخزون الثراء الفاحش الذي تركه أبوه نتيجة بخله و تقتيره مما احتجز من مال المسلمين، فأرخي لنفسه الزمام في التحلل و الاستهتار و الاسراف، و ولع بالغناء و موائد الفجور، فأصاب منها ما شاء، و أباح للمغنيين ما شاؤوا من الحرية و الرخاء، و أصبح شعر بشار في الغزل الاباحي ينشد جهارا، و بمجونه ينتشر سرا و خفاء، حتي عيب علي المهدي ذلك، فضيق علي بشار، ثم أطلق له العنان. و قد فصل القول بذلك الدكتور أحمد أمين من مصادره [283] . و كان قد بلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه، فقربه اليه، و أعلي من شأنه [284] . و كان المهدي مولعا بشرب الخمر، و معروفا به، حتي أثار ذلك وزيره يعقوب بن داود فنهاه عن ذلك فلم ينته، و قال له: «أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا»؟ فما استمع له، و شجعه علي الخمرة بعض شعرائه، فقال: فدع عنك يعقوب بن داود جانبا و أقبل علي صهباء طيبة النشر [285] . و كان المهدي أول من فتح باب الخلاعة و المجون في بني العباس، و أول من استجاب لشهواته و نزواته علنا، فنشأ جيل من الشباب في ميعة [ صفحه 147] و ضياع، و تجرأ علي الحرمات ذوو الفسق و الفجور، و كانت نقلة نوعية في حياة الترف و السرف أشرفت فيها الدولة علي التدهور، و صاحب ذلك البذخ الطائل الذي تجلي في مراسم تزويجه لولده هارون الرشيد من زبيدة فيما استضاف به الناس في قصر الخلد علي دجلة، فكان مجمل ما أنفق علي ذلك من بيت مال المسلمين خمسين ألف ألف درهم، و ألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار، و ثوبا كله من الذهب [286] . بل ذهب الشابشتي الي أكثر من هذا، فقال: «ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه، استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة و صناديق الجوهر، و الحلي، و التيجان، و الأكاليل، و قباب الفضة و الذهب، و الطيب، و أعطاها بدلة هشام (بن عبدالملك) و لم ير في الاسلام مثلها، و مثل الحب الذي كان فيها، و كان في ظهرها و صدرها خط من ياقوت أحمر، و باقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله» [287] . أما الهبات الضخمة التي منحها لأبنائه و قواده و ولاته فحدث عن ذلك و لا حرج، فقد اشتري فصا من ياقوت أحمر بثلاثمائة ألف دينار، و وهبه لولده الهادي مما أوجد حالة من الذهر و الهلع لدي سواد المسلمين الجياع. و في هذا المناخ الساخن نشأ ولده ابراهيم فكان شيخ المغنين، و شبت ابنته علية بنت المهدي، فكانت زعيمة الغناء النسائي في العصر العباسي، و تفرعنت زوجته الخيزران فكان لها الباع الأطول في شؤون السياسة و ادارة السلطان. و بذر أموال الدولة علي الشعراء، فحينما أنشده مروان بن أبي‌حفصة: [ صفحه 148] هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها أو تدفعون مقالة من ربكم جبريل بلغها النبي فقالها شهدت من الأنفال آخر آية بثرائهم فأردتم ابطالها و سمع المهدي ذلك، زحف من مصلاه حتي صار علي البساط، و هو يقول: كم بيت هي؟ قال: مائة بيت. فأمر له بمائة ألف درهم، و قال له: «انها لأول مرة أعطيها شاعرا في خلافة بني العباس» [288] . بهذا و أمثاله كانت تساس الدولة في عهد المهدي، و تبذر الأموال بين أتباعه و شهواته، أضف اليها تشجيعه الوضاعين الذين يخترعون الأخبار و الروايات في ثلب العلويين، و ضمهم اليه بما افتروا من الكذب الصراح علي النبي (صلي الله عليه و آله) [289] . و لم يكن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في منأي عن شرور الحكم و جرائره، فقد كابد الكثير في عهد المهدي بما تحدث عنه الرواة، لا لشي‌ء، الا العداء السافر لآل بيت النبي (صلي الله عليه و آله) و الا الخوف المستطير من مكانة الامام و التفاف المسلمين حول زعامته الدينية، بما عرف عنه من الورع و التقوي، و ما اشتهر من الأثر العلمي العظيم. و يبدو أن المهدي قد استدعي الامام عدة مرات، و استقدمه الي بغداد. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و قد نجح ذوو النفوس الخبيثة في سعيهم لتأزيم الموقف بين الامام و السلطان، فاستدعي الامام الي بغداد، و حبس هناك باتفاق المؤرخين مدة [ صفحه 149] من الزمن.. و ان استدعاء الامام و حبسه في عهد المهدي قد تكرر أكثر من مرة... و ذكر (القدمة الأولي علي المهدي) دليل علي تعدد القدمات و تكرارها، و ان لم نعرف عددها و ملابساتها بالتفصيل» [290] . و قد أشار الرواة الي حادثتين في هذا السياق: فقد كتب المهدي الي عامله علي المدينة بارسال الامام الي بغداد، فتجهز الامام للسفر، و التقي أباخالد (الزبالي أو الرماني) و كان منقبضا، فقال له الامام: مالي أراك منقبضا؟ قال: كيف لا أنقبض، و أنت سائر الي هذا الطاغية، و لا آمن عليك. فهدأ الامام من روعه، و أخبره أن لا ضير عليه في سفره هذا، و يبدو أن الامام سجن في هذا الاستدعاء، قال الخطيب: و لما حبس المهدي موسي بن جعفر، رأي المهدي في النوم علي بن أبي‌طالب، و هو يقول: (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم) [291] . قال الربيع: فأرسل (المهدي) الي ليلا، فراعني ذلك، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية - و كان أحسن الناس صوتا - و قال علي بموسي بن جعفر، فجئته به، فعانقه، و أجلسه الي جنبه، و قال: يا أباالحسن، اني رأيت أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن لا تخرج علي أو علي أحد من ولدي؟ فقال: الله، لا فعلت ذاك، و لا هو من شأني. قال: صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده الي أهله. [ صفحه 150] قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا، فما أصبح الا و هو في الطريق خوف العوائق [292] و قد روي هذا الخبر في أكثر من خمسة عشر مصدرا بالتفصيل [293] . و سار الامام (عليه‌السلام)، فالتقي أباخالد في «زبالة» أيضا، و كان السرور ظاهرا عليه، فقال له الامام: «ان لهم الي عودة لا أتخلص منها» [294] . و هناك حادثة تروي في المناقب و البحار بالشكل الآتي: «لما بويع محمد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل، و قال: ان اخلاص أبيك و أخيك فينا أظهر من الشمس، و حالك عندي موقوف!! قال: أفديك بالروح و المال و الأهل و الولد. فلم يجبه المهدي؛ فقال: أفديك بالمال و النفس و الأهل و الولد و الدين. فقال: لله درك؛ فعاهده علي ذلك، و أمره أن يقتل الامام الكاظم (عليه‌السلام) في السحر بغتة. فنام فرأي عليا (عليه‌السلام)، يشير اليه، و يقرأ الآية السابقة...، فانتبه مذعورا، و نهي حميدا عما أمره، و أكرم الكاظم و وصله» [295] . ولدي المقارنة في ضوء الروايتين نلحظ أن الامام كان سجينا عند الربيع أولا، و عند حميد بن قحطبة ثانيا، و علي هذا فان اعتقال الامام قد حدث مرتين في عهد المهدي بن المنصور، كما نلحظ أن الامام قد استقدم مرتين عليه من المدينة الي بغداد، فاذا علمنا مدي حقد المهدي علي العلويين و شدة بطشه بهم، كان ما استنتجناه مقاربا للواقع الذي حدث. و هكذا كان شأنه مع أبناء علي بن أبي‌طالب سجنا و تشريدا و قتلا، فقد روي الطبري عن يعقوب بن داود وزير المهدي أن المهدي قال له: [ صفحه 151] هذا فلان بن فلان من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته و تريحني منه، و تعجل ذلك... قال: قلت أفعل، قال: فخذه اليك... و أهدي له جارية حسناء. قال يعقوب: و بعثت الي العلوي، فأدخلته و سألته عن حاله... و اذا هو ألب الناس و أحسنهم ابانة... قال لي: ويحك؛ يا يعقوب؛ تلقي الله بدمي، و أنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قلت: لا و الله، فهل فيك خير؟ قال ان فعلت خيرا شكرت لك. فقلت له: أي الطرق أحب اليك؟ قال: طريق كذا، قلت: فمن هناك من تأنس به و تثق بموضعه؟ قال: فلان و فلان. قلت: فابعث اليهما، و خذ هذا المال، و امض معهما. و اذا الجارية (التي أهديت له) قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها الي المهدي... و بعث المهدي من وقته ذاك فشحن تلك الطرق... فلم يلبثوا أن جاؤوه بالعلوي بعينه و صاحبيه و المال. قال يعقوب: و أصبحت من غد ذلك اليوم، فاذا رسول المهدي يستحضرني... فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أميرالمؤمنين قد أراحك الله منه. قال: مات؟ قلت: نعم، قال: و الله؟ ثم قال: قم فضع يدك علي رأسي، قال: فوضعت يدي علي رأسه و حلفت له به. قال: يا غلام؛ اخرج الينا ما في هذا البيت. قال: ففتح بابه عن العلوي و صاحبيه و المال بعينه. قال: فبقيت متحيرا و سقط في يدي. فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت اراقته، و لكن احبسوه [296] . [ صفحه 152] و هذا نموذج فرد من نماذج كثيرة تمثل جور المهدي، و ما صاحب أيام حكمه من المظالم طيلة أحد عشر عاما من خلافته السوداء؛ و لقد عاش الامام الكاظم (عليه‌السلام) أحداثها المأساوية و اجتراحها الدموي. و ربما انتبه المهدي لنفسه، فرأي ما أحدثه من ثغرات عريضة في كيان الدولة، فحاول ائتلاف القلوب بأسلوب من الدجل و التضليل يظهر فيه بصورة المنصف في مروءة مزعومة. فقد عرض علي الامام موسي بن جعفر فيما يروي، أن يرد عليه فدكا، فرفض الامام ذلك، و لما ألح عليه المهدي، قال: لا أقبلها الا بحدودها. قال المهدي: و ما حدودها؟ قال الامام: الحد الأول عدن. فتغير وجه المهدي. و الحد الثاني: سمرقند. فأربد وجهه. و الحد الثالث: افريقية. فقال له المهدي: و الحد الرابع؟ قال الامام: سيف البحر مما يلي الخزر و أرمينية. فقال له: لم يبق لنا شي‌ء، فتحول الي مجلسي!! قال الامام: لقد أعلمتك بأني ان حددتها لم تردها [297] . و المهدي أراد تطييب بعض الخواطر الناطقة باغتصاب أرض الزهراء، و الامام أكد الأمر باغتصاب الخلافة و الدولة لا الأرض وحدها. و مهما يكن من أمر، فقد انتهت أيام المهدي بموته في المحرم 169 ه [298] . [ صفحه 153]

في أيام موسي الهادي

و كانت أيام الهادي بن المهدي العباسي من أسوأ ما مر في حياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) علي قصر المدة و اخترام الأجل، اذ تملك عام 169 ه، و هلك لليال بقيت من ربيع الأول عام 170 ه [299] و كان شابا نزقا تولي الخلافة العباسية و عمره خمس و عشرون سنة [300] . «و كان سادرا في الطيش و الغرور، و متماديا في الاثم و الفجور، و قد أراح الله منه العباد في بداية ملكه، فلم تطل أيامه، و لو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل و أقساها، فقد كان طاغيا جبارا لا يتحرج من سفك الدماء و اراقتها بغير حق، و قد أسرف في سفك دماء العلويين، فأنزل بهم العقاب الصارم، و قد أجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي (عليه‌السلام)، الا أن الله قصم ظهره قبل أن يقوم بذلك» [301] . و كان شديد الوطأة علي العلويين، و قد امتلأ عليهم حقدا نتيجة العقد النفسية المتأصلة لديه، و قد ورث هذا الحقد لا عن كلالة، فقد رأيت جده و أباه و أخاه من ذي قبل، فاذا أضفت الي هذا أنه «قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام» [302] . كانت الحصيلة المترقبة الدماء اثر الدماء تراق فيها الأخلاق و القيم، و تحصد فيها النفوس البريئة من آل أبي‌طالب في قسوة من الاجراءات لا مثيل لها، فهو يتعقبهم في الآفاق، و يطلب شبابهم و كهولهم في الأقاليم، فلم [ صفحه 154] يفلت الا القليل من قبضته، حتي قال اليعقوبي أنه: «ألح في طلب الطالبين، و أخافهم خوفا شديدا... و كتب الي الآفاق في طلبهم» [303] . و قد تابعهم تحت كل حجر و مدر بعد «مأساة فخ» الشهيرة التي سنأتي علي ذكرها في موقعها من البحث. و كانت هذه الثورة التي قادها الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي‌طالب (عليهم‌السلام) قد استهدفت النظام العباسي، و ذلك بسبب من مظالمه و سوء الادارة، و اضطهاد أهل البيت (عليهم‌السلام) و من يمت اليهم بصلة ما، و اذلال المسلمين و مصادرة الحرية و اختلاس الأموال، و هي من أعنف الثورات في التأريخ الاسلامي - مأساة - بعد ثورة الطف، فقد استؤصل قادتها، و أبيد معسكرها، و قتل مفجرها في «فخ» علي ستة أميال من مكة المكرمة، و بقي القتلي ثلاثة أيام علي وجه الأرض بلا دفن [304] . و قد احتزن رؤوسهم، فكانوا مائة رأس و نيفا [305] . و قد اكتوي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بلهيب هذه الثورة، فتوجه اليه اصبع الاتهام جزافا، حتي أن موسي الهادي قد هم بقتل الامام، ثم أعرض عنه، لعدم ثبوت تأييده لها [306] . و ذكر ابن‌حجر «أن موسي الهادي حبسه أولا، ثم أطلقه» [307] . يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و عندما نريد البحث و التعمق في معرفة دوافع الخليفة الهادي الي حبس الامام، أو ايصال الأذي اليه، أو العزم علي قتله، فقد يرجح في الظن أن [ صفحه 155] ذلك مرتبط بقضية ثورة الحسين بن علي في سنة 169 ه، كما يرجح أيضا أن، يكون تراجعه عن تنفيذ ما عزم عليه بسبب ما علمه بعد ذلك من جلاوزته و مخبريه من عدم مشاركة الامام في تلك الثورة، و رفضه دعوة ابن عمه للخروج معه» [308] . و مع هذا فقد عاش الامام مأساتها بكل أبعادها كما ستري. و لم يكن موسي الهادي رجل دولة، و لا صاحب قيادة، و قد شغل نفسه بالملذات الآثمة و الشهوات الموبقة، فهو رجل خمر و غناء و خدين نديم و مجون، فقد «كان يتناول المسكر» [309] بل كان من المتهالكين علي شرب الخمر، فكان أول خليفة عباسي أغري بالخمر [310] و تبعه علي ذلك هارون الرشيد [311] . و كان الهادي خليعا ماجنا، أقبل علي اللهو و الدعارة، فبذل المال العظيم علي شهواته و طربه و محافل الغناء حتي قال اسحاق الموصلي: «لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب» [312] و قد غناه ابراهيم الموصلي بصوت فأطربه فوهب له ثلاثين ألف دينار [313] . و هكذا تكون الشقة بين الشعب البائس اليائس و بين حكامه و سلاطينه العابثين، الشعب يتطلع الي رغيف الخبز، و السلطان يسرف بامعان تحقيقا للذائذ الآثمة. و يتجرع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ضروب المآسي في أيام هذا الطاغية المشهور، فيصبر علي الأذي، يكظم غيظه، حتي اذا توعده بالقتل جازما، [ صفحه 156] و أنهي اليه الخبر، و عنده جماعة من بني‌هاشم و أهل بيته، قال لأهل بيته: ما تشيرون؟ قالوا: نري أن تتباعد عنه، و أن تغيب شخصك منه، فانه لا يؤمن شره، فتبسم الامام، و قال مستشهدا: زعمت سخينة أن ستغلب ربها و ليغلبن مغالب العلاب ثم رفع يده الي السماء، فقال: «اللهم كم من عدو شحذ لي ظبة مدينه، و أرهف لي شبا حده، و داف لي قواتل سموحه، و لم تنم عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، و عجزي عن ملمات الجوايح، صرفت ذلك بحولك و قوتك. لا بحولي و قوتي، فألفيته في الحفير الذي احتفره خائبا مما أمله في دنياه، متباعدا مما رجاه في آخرته، فلك الحمد علي ذلك قدر استحقاقك سيدي، اللهم فخذه بعزتك، و أفلل حده عني بقدرتك، و أجعل له شغلا فيما يليه، و عجزا عمن يناويه. اللهم و أعدني عليه عدوي حاضرة، تكون من غيظي شفاء، و من حقي عليه وفاء، و صل اللهم دعائي بالاجابة، و أنظم شكايتي بالتغيير، و عرفه عما قليل ما وعدت الظالمين، و عزمني ما وعدت في اجابة المضطرين، انك ذو الفضل العظيم و المن القدم». (ثم تفرق القوم، فما اجتمعوا الا لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت موسي بن المهدي) [314] . و كان دعاء الامام مستجابا و علي الفور، حيث ورد البريد بهلاك موسي الهادي، و في ذلك يقول بعض من حضر عند موسي بن جعفر من أهل بيته: [ صفحه 157] و سارية لم تسر في الأرض تبتغي محلا.. و لم يقطع بها البعد قاطع سرت حيث لم تحد الركاب و لم تنخ لورد.. و لم يقصر لها البعد مانع تمر وراء الليل.. و الليل ضارب بجثمانه.. فيه سمير و هاجع تفتح أبواب السماء.. و دونها اذا قرع الأبواب منهن قارع اذا وردت لم يردد الله وفدها علي أهلها.. و الله راء و سامع و اني لأرجو الله حتي كأنما أري بجميل الظن ما الله صانع [315] . و الأبيات اشارة تفصيلية الي دعوة الامام في رد كيد الهادي، و هكذا كان، فقد انتهت حياة الهادي بدعاء الامام، دون الدخول بتفصيلات مؤامرة القضاء علي الهادي.

في مملكة هارون الرشيد

ولي هارون الرشيد الملك في ربيع الامام سنة 170 ه، و مات لليال خلت من جمادي الآخرة سنة 193 ه، و قد امتدت خلافته ثلاثة و عشرين عاما [316] . و قد اتسعت رقعة الدولة الاسلامية في عصره اتساعا عريضا، فضربت بأطنابها غربا و شرقا و جنوبا و شمالا، فمن حدود البحر الأبيض المتوسط و مشارف البحر الأحمر حتي افريقيا، و من مضايق البسفور و بحر قزوين حتي أزبكستان و بخاري و سمرقند، و من شواطي‌ء الخليج و مضارب الهند و السند حتي تخوم الصين. يضاف الي هذا كله الجزيرة العربية من أقصاها الي أدناها، و هي مساحات واسعة اشتملت علي نصف العالم تقريبا، حتي أثر عنه مخاطبا السحابة «حيثما تمطرين ففي ملكي..». [ صفحه 158] و قد صدق بتعبيره عن سلطانه بأنه ملك، فهو من أعتي الملوك و ان تظاهر برقة القلب، و هو من أقسي الجبابرة و ان بدا بطيبة البري‌ء، و هو من أترف الحاكمين و ان تجلبب برداء الزهد و اظهار الورع، و هو من المخططين البارزين لاقامة السلطة بقوة الحرب، و حماية الملك بسفك الدماء. و قد كان القلقشندي مهذب التعبير في رواية خطابه للسحب: «اذهبي الي حيث شئت بأنني خراجك» [317] . و قد حكي هذا التعبير ما في قلب الرشيد من الاعتداد بالمال و الخراج، لا بالاسلام و دولته، فأحتجان الأموال، و تكدس الأرصدة هو الذي يوفر له حياة البذخ و العبث، و هو الذي يحقق له موائد الفسق و اللهو و الطرب، و السيطرة علي المال من المهمات الأساسية في ملكه، يستعين به في شراء الضمائر، و القضاء علي المعارضين، و الترفيه عن ولاته و بطانته و حواشيه و جواريه، و الاغداق علي المغنين و المخنثين و القيان. يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «وجبي له الخراج من جميع الأقاليم الاسلامية، و صارت عاصمته بغداد عروس الدنيا، و مستودع أضخم بيت للمال في العالم... و انتشر فيها الثراء الفاحش و التضخم النقدي عند التجار و الموظفين و الندماء و المطربين و المجان، و تناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت علي طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي و الفارسي، و صارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق، و أعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ» [318] . و لا تحسبن هذه الامبراطورية جاءت لتطبيق مبادي‌ء الاسلام أو تحكيم شريعة السماء، و انما استغلت استغلالا فظيعا للاستعلاء في الأرض، [ صفحه 159] و افترضت لتلبية رغبات المجون العابث، فالشعب المسلم علي قارعة الطريق يتشكي البؤس و الحرمان و فقد الحياة الكريمة، و قصور الخلفاء تعج بالقيان و الجواري و الغلمان، و أنفقت واردات الدولة في تشيد القصور الفارهة، و بددت الميزانية العامة في اغراق أتباع النظام بالأعطيات الضخمة، و اتخام وعاظ السلاطين بالهبات الطائلة، و كان لسوق المجان و الفسوق نصيب مما قرره السلطان، و كانت الثروات اثرة بين هؤلاء و هؤلاء. و قد قدر الدكتور عبدالجبار الجومرد واردات الدولة ب «مليارين و مائتين و عشرين مليون دينارا، و تسعمائة و ستين ألف دينار» [319] . و هذا القدر العظيم في الميزانية يجعلها أضخم ميزانية في العالم آنذاك بالنسبة للقيمة النقدية المتداولة و قيمة الأسعار، فقد ذكر الدكتور أحمد أمين الأسعار في الأسواق، فذهب أن الكبش يباع بدرهم، و الجمل بأربعة دنانير، و التمر ستون رطلا بدرهم، و الزيت ستة عشر رطلا بدرهم، و السمن ثمانية أرطال بدرهم، و أجرة البناء الأستاذ بخمس حبات، و الحبة ثلث الدرهم، و الدانق سدس الدرهم [320] . و في هذا الضوء كان ما أبداه الجهشياري دقيقا حينما اعتبر واردات الدولة عبارة عن: خمسمائة مليون درهم و مائتين و أربعين ألف درهم [321] . و ذلك بالدرهم الفضي المتعارف عليه في ذلك العصر. فأين تري مصرف هذه الايرادات الضخمة من قبل السلطان؟ ان هذه الايرادات الكبري لم تكن لتصرف في وجوه البر و الاحسان، و لا لنشر تعاليم الاسلام، و لا لاعمار البلاد، و لا لتلبية احتياج البائس [ صفحه 160] الفقير، و لا في وجوهها المشروعة الا لماما، و انما كانت تبذر في سبيل الرغبات الخاصة، و المسلمون بين جائع و عريان، و شريد و طريد، و العلماء في فقر وفاقة و اذلال، وقادة الفكر و المعرفة في بؤس و شقاء، و عامة الناس كالعبيد في ذل و اضطهاد، يفترشون الأرض و يلتحفون السماء، الا تلك الطبقة الأرستقراطية من الولاة و أبناء السلاطين و فقهاء البلاط، فانها في نعيم من العيش الرغيد!! و هذا المال الذي هو مال المسلمين زكاة و خراجا، يتقاسمه المغنون و الجواري و الغلمان في هبات جزيلة متتابعة، فقد غني دحمان الأشقر الرشيد فطرب لذلك و قال له: تمن علي، فتمني علي الرشيد ضيعتين واردهما أربعون ألف دينار فأعطاه اياهما [322] . و أنشده أبوالعتاهية أبياتا، غناها للرشيد ابراهيم الموصلي، فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم، و مائة ثوب [323] و غناه يحيي المكي فأطربه، فقال الرشيد: أعطوه ما في ذلك البيت، فكان فيه ما قيمته خمسون ألف درهم [324] و غناه يحيي المكي أيضا بيت من الشعر، فسكر عليه حتي أمسي، و أمر له بعشرة آلاف درهم [325] . و غني اسحاق الموصلي للرشيد بأبيات وصف فيها بستانا بظهر الحيرة قيمته أربعة عشر ألف دينارا، فأمر له الرشيد بأربعة عشر ألف دينار، فاشتراها [326] . و غناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختاراته، فطرب له الرشيد طربا شديدا، و استعاده عامة ليله... فأمر له بمائتي ألف درهم [327] . [ صفحه 161] و غناه ابراهيم الموصلي بعد أن أطلقه من الحبس بهذا البيت: تضوع مسكا بطن نعمان اذ مشت به زينب في نسوة خفرات فأمر له بثلاثين ألف درهم [328] . و هذا غيض من فيض سقناه علي سبيل المثال لتبذير أموال المسلمين علي الغناء و مجالسه فحسب، فما بالك في اعداد تلك المجالس و تهيئة مرافقها و متطلباتها و ما يقتضي لها من الأشربة و الأنبذة و آلات الطرب و الفرش الوثير و الوسائد و الستائر، و ما يتبع ذلك من الانفاق لدي اصطفاف الموائد؟؟ أما الجواري و شراؤها، فقد بلغ حد الاسراف في الأسعار، و المغالاة في استزادة منها، و أسوق اليك هذا النموذج في عدد ما في القصر لنوع خاص من الجواري تشرف عليه زوجته أم‌جعفر، و قد أقبلت في زهاء ألفي جارية من جواريها!! و سائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، و كان قد استقل بجارية عنها في غاية الجمال و الكمال!! فأقبلت جواري أم‌جعفر في قبال جواريه الأخريات، و هن في لحن واحد: منفصل عني... و ما قلبي عنه منفصل يا قاطعي اليوم لمن نويت بعدي أن تصل فطرب الرشيد، و قام علي رجليه حتي استقبل أم‌جعفر قائلا: لم أر كاليوم قط. ثم نادي مسرورا الخادم قائلا: يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته، فكان مبلغ ما نثره يومئذ: ستة آلاف ألف درهم [329] . و اذا لم يكن هذا عبثا بأموال الدولة فكيف يكون العبث؟ [ صفحه 162] و مع هذا كله، و فوق هذا كله، فان الرشيد يسمي أميرالمؤمنين!! فيا لله و للمسلمين، فأي أمير هذا الذي يعيش بين خابية وزق، و يحيا بين قينة و مغنية، و يحظي بجارية و جارية، و يشتمل قصره الملكي العامر علي آلاف الجواري من مختلف الجنسيات!! و لك أن تعجب من بخله علي طبقات الشعب، و لك أن تعجب من سخائه علي المجان و المخنثين و مرتزقة الشعراء، فقد كان يجيز بعض الشعراء في قصائدهم عن كل بيت بألف دينار [330] و أعطي لأعرابي من باهلة أنشده بيتين ذكر فيهما ولديه الأمين و المأمون مائة ألف درهم [331] . و كان أشجع السلمي ثقيلا علي الرشيد، فأنشده قصيدتين طرب لهما الرشيد، فقال له: يا أشجع؛ لقد دخلت الي و أنت أثقل الناس علي قلبي، و انك لتخرج و أنت أحب الناس الي. قال أشجع: ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟ قال الرشيد: الغني؟ فأسأل ما بدا لك. قال: ألف ألف درهم، قال الرشيد: ادفعوا له [332] . هذه الهبات الضخمة لشعراء مغمورين؛ فما بالك في شعراء الطبقة الأولي؟ أما تبذير الرشيد و اسرافه في شراء الجواهر و الأحجار الكريمة، و القلائد الثمينة فما لا رأت عين و لا سمعت اذن، فكان خاتمه بمائة ألف دينار [333] . [ صفحه 163] و قد اشتري جواهر معدودة بمائتي ألف دينار، فوهبها لدنانير البرمكية [334] . و كان عند الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع، و علي رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته، و قد قوم الطائر وحده بمائة ألف دينار [335] . و قد شاركته السيدة زبيدة بملحظ الاسراف في الجواهر و سواها... فأمرت أن يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب، ثم اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها، و اتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبندق، اشترتها بخمسين ألف دينار [336] و اشترت غلاما يضرب علي العود بثلاثمائة ألف درهم [337] و غناها ابن جامع هي و الرشيد بثلاثة أبيات، فأمرت زبيدة أن يدفع لابن جامع المغني عن كل بيت مائة ألف درهم [338] . و وهبت زبيدة لمنصور النمري جوهرة لوصفه مدينة السلام، اغراءا بالرشيد للرجوع اليها، اذ كان يستطيب المقام بالرقة، فأرادت عودته لبغداد، فعمل النمري بيتين استحسنهما الرشيد، فوهبت له جوهرة، ثم دست من يشتريها منه بثلاثمائة ألف درهم [339] . و صنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس، و صورة كل طائر من الذهب، و أعينها من يواقيت و جواهر، أنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار [340] . [ صفحه 164] يضاف الي هذا العبث بذخ البرامكة المستطير، و اسرافهم في العطاء للشعراء و الزعماء و الأتباع و وعاظ السلاطين، حتي عرف عنهم أنهم من الأجواد، فبذروا واردات الدولة في مآربهم و أغراضهم و شهواتهم و ملذاتهم، و ما يكسبهم شهرة وصيتا، عدا موائدهم العامرة بأنواع الأشربة و الأطعمة، يضاف اليها أندية الخمرة و الطرب. و اذا عدنا الي الرشيد رأيناه مولعا بالخمر، و يدعو خواص جواريه اذا أراد أن يشرب، و ربما تولي السقاية بنفسه [341] . و قد ذكر السيوطي عن الذهبي أن الرشيد كان صاحب أخبار و حكايات في اللهو و اللذات المحظورة و الغناء [342] . و للتأريخ و الحقيقة المرة، فان الرشيد لم يكن ذا حراجة في دين، و لا أثر من تقوي لديه، و انما هو الرياء المقنع بالدجل السياسي، فقد أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك، قال: «لما أفضت الخلافة الي الرشيد، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي. فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك؛ ان أباك قد طاف بي. فشغف بها، فأرسل الي أبي‌يوسف فسأله: أعندك في هذا شي‌ء؟ فقال: يا أميرالمؤمنين؛ أو كلما ادعت أمه شيئا ينبغي أن تصدق؛ لا تصدقها فانها ليست بمأمونة». قال ابن المبارك: «فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين و أموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟ أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أميرالمؤمنين!! [ صفحه 165] أو من هذا فقيه الأرض و قاضيها، قال: اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، و صيره في رقبتي» [343] . هذه صورة اجمالية عجلي من صور هارون الرشيد في البذخ و الاسراف، و سأثبتك صوره في القتل و الارهاب، و صوره في الغدر و الفتك، فما يغني عنه دفاع ابن‌خلدون و عده له من أئمة المسملين، و ما يغني مناصرة الدكتور عبدالجبار الجومرد له، فنفي عنه شرب الخمر، و لعب النرد، و ما الي ذلك مما هو مستهتر به [344] . بينما لم نجد عصرا بلغ به العبث و التهتك الذروة كعصر الرشيد، و قد ساد به اللهو و المجون فغمر البلاد و أفسد العباد، و عمت المحرمات الشرعية ديار الاسلام و أقاليمه بستار رقيق من الادعاء الديني. يقول العلامة الدكتور مصطفي جواد (رحمه الله): «و لو قدر لهارون الرشيد أن يبقي علي أريكة الخلافة أكثر مما بقي لانحطت الدولة الاسلامية الي مستوي سحيق أقبح الانحطاط» [345] . و مهما يكن من أمر، فقد بدأ هارون الرشيد خلافته «باخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين الي مدينة الرسول (صلي الله عليه و آله)». و كان هذا الاجراء دقيقا في نظرته السياسية، فحكم الرشيد ببغداد بحاجة الي الاستقرار السياسي، و لابد أن يصفو الجو من المعارضة، و أن تخلو الساحة من الرافضين لمظالم الحكم، و هذا التفكير لم يكن بعيدا عن ذهنية الرشيد الأمنية، و لابد له من تحقيق ذلك، فبث الرصد و العيون لتتبع أخبار الطالبيين، و تعقب تحركهم النضالي ضد النظام، بما أذكي شرارة البغضاء [ صفحه 166] و الضغينة بين الحيين، حتي استطال الظلم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و هو غير طامح في سلطان، و لا طامع في عرش، و لامتهالك علي حكم، و كل ما يهمه هو احياء السنة و اطفاء البدعة. و مع الاعراض الواضح للامام عن مظاهر الأبهة و الملك، الا أن الرشيد قد تحين الفرص و افتعل الحجج لاعتقال الامام مرة بعد مرة، و عرضه علي السجون تارة بعد أخري. و مما يحز في النفس أن الرشيد قد يستوقف الامام للاستجواب و المساءلة الغليظة الجافة دون مسوغ شرعي أو عرفي، حتي استقر رأيه علي القضاء عليه. و ربما قيل ان الرشيد بادي‌ء ذي بدء «أكرم الامام و عظمه» [346] و لكن ذلك ان حصل فهو نوع من الدجل السياسي المفضوح، علي أننا لم نجد شاهدا واحدا يؤكد اكرام الامام و اعظامه من قبل الرشيد، بلي قد تقهره الحقيقة فيعترف بما للامام من فضل و علم و قيادة. و من الوضوح بمكان أن الرشيد كان حاقدا علي الطالبيين بعامة، و علي الامام بخاصة، كما تحدثنا بذلك النصوص المتواترة في أكثر من موقع و موضع حتي لا يدري البحث من أن يبدأ. كان الامام طيلة أيام الرشيد شديد الحذر، و كانت الرقابة الصارمة من حوله تقضي بابتعاده عن أوليائه و أصحابه، حتي أن تلامذته و رواة حديثة حينما يروون احاديثه و أفكاره، قد يتجنبون التصريح باسمه الشريف، فيقول أحدهم: حدثني الرجل، و كتبت الي الرجل، و أجاب الرجل، و قد يذكر بكناه فيقال: قال أبوالحسن، و تحدث أبوابراهيم، و قد يعبر عنه بما اشتهر من ألقابه عند خاصته، فيقال: سمعت العبد الصالح، و قال السيد، و تحدث [ صفحه 167] العالم، و روي الكاظم، و أمثال هذا، و يدل بوضوح علي مدي الرصد الذي يعاني منه الامام و شيعته، و لعل ذلك كان بوصية منه (عليه‌السلام) حفظا لأوليائه من الخطر و تجنبا لمواطن التهم باستعمال الرموز الدالة عليه دون التصريح بالاسم الرفيع درءا لمكائد هؤلاء الطغاة. و كان الطالبيون قد استتروا عن الرشيد حذر القتل و غياهب السجون، و ذلك عقب العنف الثوري الذي صارع الحكم، و كانت رده فعل الرشيد قاسية في اجراءات نفذت فيها الأحكام العرفية بأبشع صورها، و كنموذج عليها ما رواه عبيدالله البزاز النيسابوري، قال: «كان بيني و بين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت اليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت... و ذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه... أحضرت المائدة، و ذهب عني أني صائم و أني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان و لست بمريض، و لا بي علة توجب الافطار، و لعل الأمير له عذر في ذلك... فقال: ما بي علة توجب الافطار، و اني لصحيح البدن ثم دمعت عيناه و بكي!! فقلت له: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: «أنفذ الي هارون الرشيد... أن خذ هذا السيف و امتثل ما يأمرك به الخادم!! فتناول الخادم السيف و ناولنيه، و جاء بي الي بيت بابه مغلق ففتحه، فاذا فيه بئر في وسطه و ثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها، فاذا فيه عشرون عليهم الشعور و الذوائب، شيوخ و كهول و شبان مقيدون. فقال لي: ان أميرالمؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، و كانوا كلهم من العلوية من ولد علي و فاطمة، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه حتي أتيت علي آخرهم، ثم رمي أجسادهم و رؤوسهم في تلك البئر. [ صفحه 168] ثم فتح باب بيت آخر، فاذا فيه عشرون نفسا من العلوية من ولد علي و فاطمة مقيدون. فقال لي: ان أميرالمؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، و يرمي به في تلك البئر حتي أتيت علي آخرهم. ثم فتح باب البيت الثالث، فاذا به مثلهم عشرون نفسا من ولد علي و فاطمة مقيدون عليهم الشعور و الذوائب. فقال لي: ان أميرالمؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمي به في تلك البئر، حتي أتيت علي تسعة عشر نفسا منهم، و بقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا مشوم!! أي عذر لك يوم القيامة اذا قدمت علي جدنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي و فاطمة؟؟ فارتعشت يدي و ارتعدت فرائصي، فنظر الي الخادم مغصبا و زبرني، فأتيت علي ذلك الشيخ أيضا فتقلته، و رمي به في تلك البئر. فاذا كان فعلي هذا، و قد قتلت ستين نفسا من ولد رسول الله (صلي الله عليه و آله) فما ينفعني صومي و صلاتي، و أنا لا أشك أني مخلد في النار» [347] . ان أمثال هذه المظالم الكبري هي التي استنت للطغاة و الجبابرة اللاحقين حتي القرن الحادي و العشرين: أساليب البطش و الفتك و معالم الارهاب الدموي و القتل الجماعي، فاذا كان من يسمي بأميرالمؤمنين!! هذا صنعه و وكده، فما بال هؤلاء الطواغيت الصغار، و هم لا يوصفون بأكثر من كونهم حكاما دكتاتوريين ليس غير، علي أن بعضهم قد زاد علي الرشيد أضعافا مضاعفة بوسيلة و أخري حماية للحكم الهزيل. أما تعقب هارون الرشيد للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فهو من أبشع مظاهر الأجرام في تأريخ الانسانية نظرا لمكانة الامام الدينية و القيادية و اتصاله [ صفحه 169] برسول الله (صلي الله عليه و آله) نسبا و سببا، و كونه الرافد الذي لا ينضب لموارد الشريعة الغراء. لقد عزل الرشيد الامام عن شيعته، و منعه من ممارسة طقوسة الايجابية، و رصد عليه حياته و أنفاسه، و استطال عليه بالسلطان، و غيبه في ظلمات السجون، و الامام صامد صابر، و الرشيد يتحين به الفرص، و يسد عليه المنافذ و المسالك، في معاناة رهيبة عبر عنها الامام في رسالة بليغة للرشيد قال فيها: «انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتي نفضي جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» [348] . و لم يكن هذا جزعا من الامام، و لكنه احتجاج صارخ عن مدي ظلامته، و تعبير ناطق عما يقاسيه دون جريرة، الا تلك المنزلة العليا التي ينعم بها في نفوس الأبرار، و الا فالمعروف عن الامام أنه كان يردد في سجنه العبارة الآتية: «اللهم انك لتعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم؛ و قد فعلت؛ فلك الحمد» [349] . ان تعرض الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) للأزمات الخانقة، و مظاهر الارهاب السياسي، و حياة السجون المريرة من قبل الرشيد، كفيل وحده أن يخرج الرشيد من منصب الخلافة المدعاة التي لم يمثل منها جزءا ضئيلا من الشرعية علي الاطلاق، و لم تكن تصلح له الولاية العامة علي المسلمين بحال من الأحوال، لأن ما حكم به عبارة عن أحكام عرفية طائشة صححها له فقهاء البلاط العباسي، و حياة فاجرة داعرة غض عنها الطرف القضاة [ صفحه 170] و المعدلون، و موائد خمور و ملاه و سهر ليال أحياها له المغنون المخنثون، و كل أولئك مشاهد حمراء أباحها حكم السيف القاطع و الجور المستديم، و كان النظام مفقودا و حياة العيارين و الشطار عامرة، و ان ضبطوا السيطرة علي الرقاب بالقسر و الاكراه. و فوق هذا كله فطالما روع الحكم الآمنين، و طالما سفكت الدماء المحرمة بغير الحق، و كان الاستهتار بالقيم و التجاوز علي المبادي‌ء المقدسة أمرا متعارفا حتي عاد المعروف منكرا و المنكر معروفا!! كيف لا.. و قصور الخلفاء تعج بالفسق و معاقرة الخمرة، و البغاء العلني و السري يستشري و لا مانع و لا رادع و لا وازع، و قد تقدم فيها سبق نهب الأموال و اغتصاب الثروات و التلاعب بمقدرات الأمة، بلي كانت هناك شعارات يتشدق بها الحاكمون مجاراة للناس من جهة، و تثبيتا لدعائم الحكم من جهة أخري، و هدف ذلك واضح للناقد البصير، و هو يتمثل باضفاء شي‌ء من الشرعية جزافا علي ذلك الكيان المدعي، و ما عدا هذا الملحظ علي ضالته، فاننا لا نري صيغة حقيقية لادعاء الولاية في الدين لأولئك الذين لا يمثلون الدين لا من قريب و لا من بعيد في نظامهم السياسي القائم علي الانحلال الخلقي و التخلي عن القيم الاسلامية علي كل الأصعدة. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و كذلك اتضحت بما لا مجال فيه بشك أو تردد أيضا حقيقة أولئك المدعين للولاية الشرعية، فراغا من مواصفات التأهيل، و خلوا مما يجب أن يكونوا عليه من كفايات الاستحقاق. فلم يكن لديهم فقه بالشريعة و أحكامها، و لا علم بمعاني القرآن و الحديث، و لا ورع يردعهم عن محارم الله، و لا التزام يصدهم عن متابعة الهوي و اطاعة شهوات النفس الأمارة بالسوء» [350] . [ صفحه 171] و هنا تتجلي الفروق المميزة بين هذا الفراغ العقائدي الهائل، و بين تلك القدرات العلمية الرائدة، و ظواهر الانابة و الخشوع عند الامام موي بن جعفر (عليه‌السلام) بما يحقق ولايته الشرعية دون أولئك المتلاعبين بمثل القرآن، و قيم الاسلام، و رسالة السماء. و لم يكن الرشيد نفسه ليجهل هذه الحقيقة الصارخة و ان تجاهلها، و لم يكن له أن يجحدها و ان ألقي بستار كثيف علي نصاعتها، فالملك عقيم كما يقول الرشيد، و لا أدل علي ذلك من اعترافه و اقراره لولده المأمون بالمنزلة العليا للامام، و أنه حجة الله علي خلقه، و خليفته الشرعي علي عباده!! فقد حدث المأمون أن الرشيد هو الذي علمه التشيع!! و ذلك أن الرشيد جلس لاستقبال الناس، و منع أن يدخل عليه أحد الا انتسب، فدخل الفضل بن الربيع عليه و قال: علي الباب رجل زعم أنه موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام). فقال له الرشيد: ائذن له، و لا ينزل الا علي بساطي... هذا و الأمين و المأمون و المؤتمن و القواد شهود... فاستقبله الرشيد، و قبل وجهه و عينيه، و أخذ بيده حتي صيره في صدر المجلس، و أجلسه معه فيه، و جعل يحدثه، و يقبل بوجهه عليه، و يسأله عن أحواله... «و بعد استقصاء السؤال» قال الامام موجها و ناصحا للرشيد: «ان الله قد فرض علي ولاة عهده أن ينعشوا فقراء هذه الأمة، و يقضوا عن الغارمين، و يؤدوا عن المثقل، و يكسوا العاري، و يحسنوا الي العاني، و أنت أولي من يفعل ذلك». فقال الرشيد: أفعل يا أباالحسن. ثم قام الامام، فقام الرشيد لقيامه، و قبل عينيه و وجهه، ثم أقبل علي و علي الأمين و المؤتمن، فقال... بين يدي عمكم و سيدكم، خذوا بركابه، [ صفحه 172] و سووا عليه ثيابه، و شيعوه الي منزله، فأقبل أبوالحسن موسي بن جعفر (عليهماالسلام) سرا بيني و بينه فبشرني بالخلافة، و قال لي: اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الي ولدي، ثم انصرفنا. يقول المأمون: و كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس؛ قلت: يا أميرالمؤمنين؛ من هذا الرجل الذي قد عظمته و أجللته؟ و قمت من مجلسك اليه فاستقبلته؟ و أقعدته في صدر المجلس، و جلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال: هذا امام الناس، و حجة الله علي خلقه، و خليفته علي عباده. فقلت: يا أميرالمؤمنين؛ أو ليست هذه الصفات كلها لك و فيك؟ فقال: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة و القهر، و موسي بن جعفر امام حق، و الله يا بني انه لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه و آله) مني، و من الخلق جميعا، و و الله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم» [351] . و مع معرفة الرشيد بهذا المقام الأسمي للامام، فان اصبع الاتهام يومي‌ء به للامام، مما يعتبره الرشيد منافسة في سلطان، و هو مما يلفق و يكذب به علي الامام، فقد حدث الامام نفسه قائلا: «لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت عليه فسلمت فلم يرد علي السلام، و رأيته مغضبا، فرمي الي بطومار، فقال: اقرأه. فاذا فيه كلام، قد علم الله عزوجل براءتي منه، و فيه أن موسي بن جعفر يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقول بامامته، يدينون الله بذلك، و يزعمون أنه فرض عليهم، الي أن يرث الله الأرض و من عليها، و يزعمون أنه من لم يذهب اليه بالعشر، و لم يصل بامامتهم، و لم يحج باذنهم، و يجاهد بأمرهم، و يحمل الغنيمة اليهم، و يفضل الأئمة علي جميع [ صفحه 173] الخلق، و يفرض طاعتهم مثل طاعة الله و رسوله، فهو كافر حلال ماله و دمه... و الكتاب طويل، و أنا قائم أقرأ و هو ساكت، فرفع رأسه و قال: اكتفيت بما قرأت، فكلم بحجتك بما قرأته. قلت... و الذي بعث محمدا (صلي الله عليه و آله) بالنبوة ما حمل الي أحد درهما و لا دينارا من طريق الخراج، لكنا معاشر آل أبي‌طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه (صلي الله عليه و آله) في قوله: «لو أهدي لي كراع لقبلت ذ، و لو دعيت الي ذراع لأجبت.» و قد علم أميرالمؤمنين ضيق ما نحن فيه، و كثرة عدونا، و ما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، و حرمت علينا الصدقة، و عوضنا الله عزوجل الخمس، و اضطررنا الي قبول الهدية، و كل ذلك مما علمه أميرالمؤمنين...» [352] . و لم يكتف الرشيد بهذا، و انما استدعي الامام تارة أخري، و أدخل عليه، فقال له الرشيد: يا موسي بن جعفر، خليفتين يجبي لهما الخراج؟ قال الامام: أعيذك بالله أن تبوء باثمي و اثمك، و تقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) بما علم ذلك عندك [353] . و مع براءة الامام مما نسب اليه، فهو يجتمع به، و يتظاهر ببره، و يسأله عن مدي حاجته، ثم يبعث اليه بصرة فيها مائتا دينار، فيعترض عليه المأمون، فيقول له: أسكت لا أم لك، فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه [354] . [ صفحه 174] و تارة أخري يعلل الرشيد منعه العطاء للامام بقوله: «ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته و مواليه، و فقر هذا و أهل بيته أسلم لي و لكم من بسط أيديهم و أعينهم» [355] . و منع أهل البيت حق الطبيعي من بيت المال أسوة ببقية المسلمين علي الأقل كان من الأهداف المركزية للبلاط العباسي، بل كان من أهدافه أيضا منع أوليائهم و أصحابهم و من يمت اليهم بصلة من أي نوع من العطاء، و اذا كان هذا صنيعهم مع شيعتهم، فما بالك بهم؟ و ليت الرشيد اكتفي بما صنعه مع الامام من الاستدعاء و الاستنطاق الذي لا مبرر له، و لكنه أغري به الفجرة من أولياء بني العباس، و جلاوزة النظام الحاكم. ذكر السيد المرتضي علم الهدي (ت 436 ه): «انه حضر بباب الرشيد نفيع الأنصاري، و حضر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) علي حمار له، فتلقاه الحاجب بالاكرام، و عجل له بالاذن. فسأل نفيع عبدالعزيز بن عمرو من هذا الشيخ؟ قال: شيخ آل أبي‌طالب، شيخ آل محمد، هذا موسي بن جعفر. قال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير، أما ان خرج لأسوء نه، قال له عبدالعزيز: لا تفعل فان هؤلاء أهل بيت ما تعرض لهم أحد بالخطاب الا و سموه في الجواب سمة يبقي عارها مدي الدهر. و خرج الامام، و أخذ نفيع بلجام حماره و قال: من أنت يا هذا؟ [ صفحه 175] فقال الامام، يا هذا ان كنت تريد النسب؟ أنا ابن محمد حبيب الله، ابن اسماعيل ذبيح الله، ابن‌ابراهيم خليل الله. و ان كنت تريد البلد؟ فهو الذي فرض الله علي المسلمين و عليك - ان كنت منهم - الحج اليه. و ان كنت تريد المفاخرة؟ فوالله ما (رضي) مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء، حتي قالوا: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش. و انت كنت تريد الصيت و الاسم؟ فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة تقول: «اللهم صل علي محمد و آل محمد» فنحن آل محمد، خل الحمار، فخلي عنه و يده ترعد، و انصرف مخزيا، فقال له عبدالعزيز: ألم أقل لك؟» [356] . و هكذا كان الامام يتجرع الغيظ من خلفاء الجور، و ولاة السوء، و بطانة السلطان، و هو صابر محتسب، و كان أشدهم عليه - كما رأيت - هارون الرشيد في مجالات شتي، و ستري ما جري عليه يديه من استشهاد الامام مسموما في موقعه من الكتاب. [ صفحه 177]

المناخ الثوري و اجراءات الارهاب السياسي

قمع التحرك الثوري

و كان سوء الادارة العباسية سياسيا و اجتماعيا و دينيا، و حياة البذخ و السرف و التبذير، و اجراءات القمع الدموي، و العمل بسنن الجبارين، كل ذلك قد أثار مشاعر الأحرار و الأخيار ضد النظام العباسي في عصر الامام (عليه‌السلام). فأني تلفت رأيت مظاهر الابتعاد عن الاسلام، و طمس آثار شريعة الرسول الأعظم، و اعادة الخلافة ملكا عقيما، و مسخ المبادي‌ء الأخلاقية، و تفجر المناخ الاجتماعي بثورة عارمة من العبث و المجون و اباحة الخمور، و منع الناس حقوقهم في بيت المال، و استباحة ذمم الأولياء، و استطالة وعاظ السلاطين، و كبت الحريات العامة، و اشغال الناس بالبعوث في [ صفحه 178] جبهات القتال، و تعطيل القرآن و اطفاء السنن، و جعل الخراج دولا بين الظلمة و أعوان الظلمة، و تسخير الناس خدما و وخولا في مرافق الدولة و مصالح الطغاة، كل أولئك الفقرات الضخمة كانت عوامل استياء منتشر لطبقات شعبية و دينية من المجتمع، و كان الجيل الواعي لمشكلات هذه التداعيات ممن يريدون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و اقامة الفروض، و ممن يحاولون استنقاذ الحقوق الانسانية قد أنكروا تلك البدع و الأضاليل، و حاولوا التغيير قدر المستطاع، و لكن السجون كانت بانتظارهم، و معتقل «المطبق» الرهيب الذي لا يعرف فيه الليل من النهار يزج بالمئات من الشباب المتحفز، و لم يطل الأمر علي هذا الضيم المتوالي، فتوالت الانتفاضات، و بدأ التحرك الثوري المسلح و هو يقدم الشهداء قوافل، و الضحايا زرافات و وحدانا، حتي طفح الكأس بما فيه. و كان ردة فعل العباسيين كأعتي ما يتصوره الفكر الانساني قمعا و ابادة و تقتيلا، و أسرا و تغريبا و تشريدا، كما سنشاهد هذا من خلال الأحداث الثورية و انعكاساتها السلبية علي الحاكمين.

ثورة الحسين صاحب فخ

و الحسين هذا هو: الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي‌طالب صلوات الله عليه. خرج بالمدينة المنورة ثائرا مناضلا في ذي‌القعدة سنة تسع و ستين و مائة بعد موت المهدي، و في خلافة ولده الطاغوت موسي الهادي في جماعة كثيرة من العلويين، فأبيدوا جميعا شر ابادة [357] . [ صفحه 179] و لم يكن خروجه علي سلطان العباسيين اعتباطا، و لا تحركه المسلح عنتا، و لكن السياسة العباسية الخرقاء هي التي ألجأته الي اعلان ثورته، و ما جرت اليه من الفجائع و الفظائع. فقد روي أبوالفرج الأصبهاني بأسانيد عدة، قال: كان سبب خروج الحسين أن الهادي ولي المدينة اسحاق بن عيسي بن علي، فاستخلف عليها رجلا من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبدالعزيز، فحمل علي الطالبيين و أساء اليهم، و طالبهم بالعرض كل يوم في المقصورة. و وافي أوائل الحاج، و قدم من الشيعة نحو من سبعين رجلا، و لقوا حسينا و غيره، فبلغ ذلك العمري، و أغلظ أمر العرض، و ألجأهم الي الخروج؛ فجمع الحسين: يحيي صاحب الديلم، و سليمان، و ادريس صاحب افريقيا، و كلهم أبناء عبدالله بن الحسن، و عبدالله بن الحسن الأفطس، و ابراهيم بن اسماعيل طباطبا، و عمر بن الحسن بن علي بن الحسن المثلث، و عبدالله بن اسحاق بن ابراهيم بن الحسن المثني، و عبدالله بن جعفر الصادق (عليه‌السلام) و وجهوا الي فتيان من فتيانهم و مواليهم، فاجتمعوا ستة و عشرين رجلا من ولد علي (عليه‌السلام) و عشرة من الحاج، و جماعة من الموالي. فلما أذن المؤذن الصبح، نادوا: أجد أجد، و صعد الأفطس المنارة، و جبر المؤذن علي قول «حي علي خير العمل» فلما سمعه العمري أحس بالشر و دهش، و مضي هاربا علي وجهه. و صلي الحسين بالناس الفجر، و لم يتخلف عنه أحد من الطالبيين، الا الحسن بن جعفر بن الحسن، و الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و سيأتي موقفه من هذه الثورة. و خطب الحسين بعد الصلاة، و قال بعد الحمد لله و الثناء عليه: «أنا ابن رسول الله، علي منبر رسول الله، و في حرم رسول الله، أدعوكم الي سنة [ صفحه 180] رسول الله (صلي الله عليه و آله). أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله في الحجر و المدر تمسحون بذلك، و تضيعون بضعة منه.» [358] . فلما انتهي من هذا الخطاب أقبل عليه الناس يبايعونه علي كتاب الله و سنة نبيه، و الدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه و آله) [359] . و هذا يعني استجابة الناس الفورية، فالناس تطمع بالخلاص و لا تجد الي ذلك سبيلا، حتي اذا أعلن الحسين ثورته هذه و هو من آل علي (عليه‌السلام)، كان الاقبال علي البيعة تلقائيا. و روي أنه قال لمن بايعه: «أبايعكم علي كتاب الله، و سنة نبيه رسول الله، و علي أن يطاع الله و لا يعطي، و أدعوكم الي الرضا من آل محمد، و علي أن نعمل فيكم بكتاب الله و سنة نبيه (صلي الله عليه و آله) و العدل في الرعية، و القسم بالسوية. و علي أن تقيموا معنا، و تجاهدوا عدونا، فان نحن و فينا لكن وفيتم لنا، و ان نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم» [360] . و أنت تري الحسين في هذه البيعة قد أعطي النصف من نفسه، و قد احتاط بذلك لدينه و أمته، فالبيعة علي كتاب الله و سنة رسول الله (صلي الله عليه و آله) و التأكيد علي طاعة الله و عدم معصيته، و الدعوة الي الرضا من آل محمد لا لنفسه، و العمل بكتاب الله و السنة، و العدل بين الرعية، و الاقامة معه و عدم التفرق عنه، و جهاد الأعداء اذا وفي لهم بالتزامه، و الا فلا بيعة له عليهم. و يبدو أن عنصر المفاجأة كان متوافرا في الثورة، فقد اضطر الحكم الحسين الي استعجالها، فما التحق به أحد من القصبات و الأقاليم، و لم يتهيأ لها [ صفحه 181] مناخ اعلامي أو دعائي، بل و لم يلتف أهل المدينة حولها بالشكل المطلوب، و لم يسبق لها تمهيد سري تجتمع حوله الرجال و أعداء الحكم، و يبدو أن الرصد الأمني لأجهزة النظام كان مسؤولا عن كثير من هذه التداعيات، و كان احضار الطالبيين أمام المقصورة كل يوم يعني فرض الرقابة الصارمة من كل الوجوه. و مهما يكن من شي‌ء، فحينما أعلنت الثورة، أقبل حماد البربري و كان مسلحة للسلطان في المدينة بالسلاح، و معه أصحابه حتي وافوا باب المسجد، فقصده يحيي بن عبدالله و في يده السيف، فأراد حماد أن ينزل فبدره يحيي فضربه علي جبينه، و عليه البيضة و المغفر و القلنسوة فقطع ذلك كله، و أطار قحف رأسه، و سقط عن دابته، و حمل علي أصحابه فتفرقوا و انهزموا. و بايعه الناس و احتفل به أهل بيته و أصحابه احتفالا عظيما. و حج في تلك السنة مبارك التركي، فبلغه خبر الحسين - و يبدو أن الرجل كان ذا عقل و دين - فبعث الي الحسين من الليل: اني و الله ما أحب أن تبتلي بي و لا أبتلي بك، فابعث الليلة الي نفرا من أصحابك و لو عشرة يبيتون عسكري حتي أنهزم، و أعتل بالبيات. ففعل ذلك الحسين، و وجه عشرة من أصحابه فجعجعوا بمبارك، و صبحوا في نواحي عسكره، فهرب و ذهب الي مكة. و حج في تلك السنة العباس بن محمد، و سليمان بن أبي‌جعفر، و موسي بن عيسي، فصار مبارك معهم، و اعتل عليهم بالبيات. و خرج الحسين قاصدا الي مكة، و معه من تبعه من أهله و مواليه و أصحابه، و هم زهاء ثلاثمائة رجل، و استخلف علي المدينة «دينار الخزاعي»، فلما انتهي الركب الي «فخ» و هو موضع علي ستة أميال من مكة [ صفحه 182] المكرمة [361] هنالك تلقتهم الجيوش العباسية بقيادة العباس بن محمد، فعرض العباس علي الحسين الأمان و العفو و الصلة، فأبي ذلك أشد الاباء. و كان قادة الجيش متكونا من العباس، و موسي بن عيسي، و جعفر و محمد ابني سليمان، و مبارك التركي، و الحسن الحاجب، و حسين بن يقطين. و تقررت الحرب، و كان الالتقاء يوم التروية وقت صلاة الصبح، فكان موسي بن عيسي أول من حمل علي القوم، فاستطرد لهم شيئا حتي انحدروا في الوادي، و حمل عليهم محمد بن سليمان، و بعد معركة رهيبة طحنهم الجيش العباسي طحنة واحدة، حتي قتل أكثر أصحاب الحسين، و جعلت المسودة تصيح: يا حسين لك الأمان، فيقول: لا أمان أريد، و هو يحمل عليهم حتي فأجاه سهم غادر رماه حماد التركي فقتله، و قتل معه سليمان بن عبدالله بن الحسن، و عبدالله بن اسحاق بن ابراهيم بن الحسن، و أصابت الحسن بن محمد نشابة في عينه فتركها و جعل يقاتل أشد القتال، حتي آضوه ثم قتلوه، و جاء الجند بالرؤوس و قد احتزوها فكان عددها مائة ونيفا [362] . و أبرد بالرؤوس الي موسي و العباس و عندهما جماعة من العلويين و في طليعتهم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، فلم يسألا أحدا الاه، فقالا: هذا رأس الحسين؟ قال الامام: «نعم؛ ان لله و انا اليه راجعون، مضي و الله مسلما، صالحا، صواما، و قواما، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله». فلم يجيبوه بشي‌ء [363] . [ صفحه 183] و دفن العباسيون قتلاهم جميعا، و تركوا الحسين و أهل بيته و أصحابه بلا دفن ثلاثة أيام تصهرهم حرارة الشمس [364] . و قد روي عن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أنه قال: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» [365] . و جي‌ء بالأسري من الحسنيين و أصحابهم، مقيدين بالأغلال، و قد جمعت أيديهم الي أرجلهم بالحديدة، و هم في حالة يرثي لها جهدا و عناء و بلاء، و قدموا بين يدي موسي الهادي، فأمر بقتلهم جميعا، فقتلوا صبرا، و صلبوا علي باب الحبس» [366] . قال المجلسي: و حملت الأسري الي الهادي فأمر بقتلهم، و مات في ذلك اليوم [367] . و كان في الأسري رجل قد أنهكته العلة، فقال للهادي يستعطفه: أنا مولاك يا أميرالمؤمنين. فصاح به الهادي: مولاي يخرج علي؟ و كان مع الهادي سكين، فقال: و الله لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا، و مكث الرجل ساعة، فغلبت عليه العلة، فمات حتف أنفه [368] . و بعد أن قتل الهادي أسري «فخ» وضعت رؤوس القتلي من العلويين بين يديه، و التي أبرد بها اليه، فجعل ينشد هذه الأبيات: [369] . بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعدما دفنتم بصحراء الغميم القوافيا فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله فيقبل ضيما... أو يحكم قاضيا و لكن حكم السيف فيكم مسلط فنرضي اذا ما أصبح السيف راضيا فان قلتم انا ظلمنا... فلم نكن ظلمنا... و لكنا أسأنا التقاضيا [ صفحه 184] و هكذا ذهبت هذه الدماء الزواكي جبارا، و قتل الأسري جهارا، و لم تكن هناك أدني رحمة انسانية بالرأفة و العفو المحمود. و قد اكتوي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بلهيب هذه الثورة، فمدت نحوه أصابع الاتهام بتدبيرها، و الامام براء منها كما سيأتي. و كان اتهام الامام صادرا من أعلي سلطة في الدولة العباسية من الهادي نفسه، فحينما قضي علي شهداء «فخ» و قتل الأسري بمجزرة رهيبة دامية، أخذ يتعقب العلويين و يتوعدهم، و يشير الي موسي بن جعفر بالقول: «و الله ما خرج حسين الا عن أمره، و لا اتبع الا محبته، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني الله ان أبقيت عليه». فقال له قاضي القضاة العباسيين أبويوسف يعقوب بن ابراهيم و كان جريئا عليه: يا أميرالمؤمنين أقول أم أسكت؟ فقال الهادي: «قتلني الله ان عفوت عن موسي بن جعفر، و لولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور بما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه و علمه و فضله - يعني الامام الصادق - و ما بلغني عن السفاح من تقريظه و تفضيله لنبشت قبره، و أحرقته بالنار احراقا». فقال أبويوسف القاضي: «نساؤه طوالق، و عتق جميع ما يملك من الرقيق، و تصدق بجميع ما يملك من المال، و حبس دوابه، و عليه المشي الي بيت الله الحرام، اذ كان مذهب موسي بن جعفر الخروج، لا يذهب اليه، و لا مذهب أحد من ولده.. و لم يزل يرفق به حتي سكن غضبه» [370] . و كانت هذه اللفتة من أبي‌يوسف كلمة حق عند سلطان جائر، و هي دليل حصافة رأيه، و متانة عقلة، و صدق مروءته. [ صفحه 185] و قد عاجل الموت الهادي بدعاء الامام كما سبق بيانه في الفصل الماضي، فما استطاع تنفيذ وعيده، و لله الأمر من قبل و من بعد.

انتفاضة يحيي بن عبدالله المحض

و كان يحيي هذا من أنصار الحسين (صاحب فخ) فلما قتل الحسين و أهل بيته و أصحابه، فر بنفسه، و استتر عن سلاطين بني العباس حقبة من الزمن، و أخذ يجول البلدان بحثا عن ملجأ يلتجأ اليه ليظهر أمره فيه. و استقر المكان بيحيي في بلاد الديلم، و هو المراد بقول المؤرخين: «صاحب الديلم» فقد ظهر هناك، و اجتمع عليه الناس، و بايعه أهل تلك الأعمال، و عظم أمره، و خاف الرشيد لذلك و أهمه، و انزعج منه غاية الانزعاج، فكتب الي الفضل بن يحيي البرمكي: «ان يحيي بن عبدالله قذاة في عيني، فأعطه ما شاء، و اكفني أمره» [371] . و يري أبوالفرج الأصبهاني: ان الفضل بن يحيي علم بمكان يحيي بن عبدالله في بعض النواحي، فأمره بالانتقال عنه، و قصد الديلم، و كتب له منشورا لا يعرض له أحد، فمضي متنكرا حتي ورد الديلم، و بلغ خبره الرشيد، و هو في بعض الطريق، فولي الفضل بن يحيي نواحي المشرق، و أمره بالخروج الي يحيي. فكتب الفضل الي يحيي: اني أريد أن أحدث بك عهدا، و أخشي أن تبتلي بي و أبتلي بك، فكاتب صاحب الديلم، فاني قد كاتبته لك لتدخل الي بلاده فتمتنع به. ففعل ذلك يحيي، و كان صحبه جماعة من أهل الكوفة... كانوا يخالفون يحيي في أمره، و حينما ولي الرشيد الفضل جمع كور المشرق [ صفحه 186] و خراسان، أمره بقصد يحيي و الجد به، و بذل الأمان و الصلة له، ان قبل ذلك. فمضي الفضل فيمن ندب معه، و راسل يحيي فأجابه الي قبوله، لما رأي من تفرق أصحابه و سوء رأيهم فيه، و كثرة خلافهم عليه، الا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له، و لا الشهود الذين شهدوا له، و بعث بالكتاب الي الفضل، فبعث به الي الرشيد. فكتب له الرشيد بما أراد، و شهد له من التمس. فلما ورد كتاب الرشيد علي الفضل، و قد كتب له الأمان علي ما رسم يحيي، و أشهد الشهود الذين التمسهم، و جعل الأمان علي نسختين: احداهما مع يحيي، و الأخري معه. و شخص يحيي بن عبدالله - بناء علي الأمان الموثق - حتي وافي بغداد، و دخلها معادلة في عمارية علي بغل، فلما قدم يحيي أجازه الرشيد بجوائز سنية. يقال: ان مبلغها مائتا ألف دينار، و غير ذلك من الخلع و الحملان، فأقام علي ذلك مدة، و في نفس الرشيد الحيلة علي يحيي، و التتبع له، و طلب العلل عليه و علي أصحابه. ثم ان نفرا من أهل الحجاز تحالفوا علي السعاية بيحيي، و هم: عبدالله بن مصعب الزبيري، و أبوالبختري وهب بن وهب، و رجل من بني‌زهرة، و رجل من بني‌مخروم، فوافوا الرشيد لذلك، و احتالوا الي أن أمكنهم ذكره له، فأشخصه الرشيد اليه، و حبسه عند مسرور الكبير في سرداب، فكان في أكثر الأيام يدعوه و يناظره، الي أن مات في حبسه، و اختلف في كيفية موته، و كيف كانت وفاته؟ فقيل: ان الرشيد دعاه يوما، و جمع بينه و بين ابن‌مصعب ليناظره، فيما رفع اليه، فجبهه ابن‌مصعب بحضرة الرشيد قائلا: ان هذا دعاني الي بيعته. [ صفحه 187] فقال يحيي: يا أميرالمؤمنين أتصدق هذا علي و تستنصحه؟ و هو ابن عبدالله بن الزبير الذي أدخل أباك و ولده الشعب، و أضرم عليهم النار، حتي تخلصهم أبوعبدالله الجدلي صاحب علي (عليه‌السلام)، و هو الذي بقي أربعين يوما لا يصلي علي النبي (صلي الله عليه و آله) في خطبته حتي التاث الناس عليه، فقال: ان أهل بيت سوء اذا ذكرته أشرأبت نفوسهم اليه، و فرحوا بذلك، فلا أحب أن أقرأ عينهم بذلك، و هو الذي فعل بعبدالله بن العباس مالا خفاء به عليك، و طال الكلم بينهما حتي قال يحيي: و مع ذلك هو الخارج مع أخي علي أبيك، و قال في ذلك أبياتا منها: قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا ان الخلافة فيكم يا بني حسن و قرأ القصيدة، فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات، فحلف ابن‌مصعب بالله الذي لا اله الا هو، و بايمان البيعة: أن هذا الشعر ليس له، فقال يحيي: و الله يا أميرالمؤمنين ما قاله غيره، و ما حلفت بالله كاذبا و لا صادقا قبل هذا، و ان الله اذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا الا عوجل. قال الرشيد: حلفه، قال: قل: برئت من حول الله و قوته، و اعتصمت بحولي و قوتي، و تقلدت الحول و القوة من دون الله استكبارا علي الله و استغناء عنه، و استعلاء عليه، ان كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبدالله منه، فغضب الرشيد، و قال للفضل بن الربيع: هنا شي‌ء، ما له لا يحلف ان كان صادقا، فرفس الفضل عبدالله برجله، و صاح به: احلف ويحك، و كان له فيه هوي، فحلف باليمين، و وجهه متغير و هو يرعد، فضرب يحيي بين كتفيه ثم قال: يا ابن‌مصعب قطعت و الله عمرك، و الله لا تفلح بعدها، فما برح من موضعه حتي أصابه الجذام و مات في اليوم الثالث. قال أبوفراس الحمداني يذكر ذلك: [ صفحه 188] ذاق الزبيري غب الحنث و انكشفت عن ابن‌فاطمة الأقوال و التهم فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل بن يحيي: «رأيت يا عباسي؛ ما أسرع ما أديل يحيي من ابن‌مصعب». ثم جمع الرشيد الفقهاء، و فيهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي‌يوسف، و الحسن بن زياد اللؤلؤي، و أبوالبختري: وهب بن وهب القرشي المدني، فجمعوا في مجلس، فخرج اليهم مسرور الكبير بالأمان الذي أعطاه الرشيد ليحيي. فبدأ بمحمد بن الحسن الشيباني، فنظر فيه، فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه، فصاح عليه مسرور: هاته فدفعه الي الحسن بن زياد، فقال بصوت ضعيف: هو أمان. فاستلبه أبوالبختري و قال: هذا باطل منتقض، قد شق العصا، و سفك الدم، فاقتله و دمه في عنقي. فدخل مسرور علي الرشيد و أخبره، فقال: اذهب له و قل له: فرقه ان كان باطلا بيدك!!! فجاء مسرور، و قال له ذلك، فقال: شقه أباهاشم!! قال مسرور: بل شقه أنت ان كان منتقضا، فأخذ سكينا و جعل يشقه و يده ترتعد، حتي صيره سيورا، فأخله مسرور علي الرشيد، فوثب، فأخذه من يده و هو فرح، و وهب لأبي‌البختري (ألف ألف و ستمائة ألف) و ولاه قضاء القضاة، و صرف الآخرين، و منع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة. و أجمع الرشيد علي انفاذ ما أراد بيحيي، و كان محبوسا في المطبق الذي لا يعرف به الليل من النهار، فروي من كان مع يحيي، قال كنت قريبا منه، فكان في أضيق البيوت و أظلمها، فبينا نحن ذات ليلة كذلك، اذ سمعنا صوت الأقفال، و قد مضي من الليل هجعة، فاذا هارون قد أقبل علي بر ذون له، فوقف ثم قال: أين هذا؟ يعني يحيي، قالوا في فهذا البيت، قال: علي به، فأدني اليه، فأخذ، [ صفحه 189] فضربه مائة عصا، و يحيي يناشده الله و الرحم و القرابة من رسول الله (صلي الله عليه و آله) و يقول: بقرابتي منك، فيقول: ما بيني و بينك قرابة. ثم حمل فرد الي موضعه، فقال: كم أجريتم عليه؟ قالوا: أربعة أرغفة و ثمانية أرطال ماء، قال: اجعلوها علي النصف، ثم خرج، و مكث ليالي ثم سمعنا وقعا، و اذا نحن به، فدخل و قال: علي به، فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك، و ضربه مائة عصا أخري، و قال: كم أجريتم عليه؟ قالوا رغيفين و أربعة أرطال ماء، قال: اجعلوها علي النصف. ثم خرج و عاد الثالثة، و قد مرض يحيي و ثقل، قال: علي به، قالوا: هو عليل مدنف لما به، قال: كم أجريتم عليه؟ قالوا: رغيفا و رطلين ماء، قال: اجعلوه علي النصف، ثم خرج. فلم يلبث يحيي أن مات، فأخرج الي الناس فدفن. عن ابراهيم بن رياح: أنه بني عليه أسطوانة بالرافقة (بلدة في الرقة) و هو حي. و عن علي بن محمد بن سليمان أنه دس اليه في الليل من حنقه حتي تلف، قال: و بلغني أنه سقاه سما. و عن محمد بن أبي‌الحسناء، أن الرشيد أجاع السباع، ثم ألقاه اليها فأكلته. و عن عبدالله بن عمر العلوي، قال: دعينا الي مناظرة يحيي بن عبدالله بحضرة الرشيد و هو يقول له: يحيي اتق الله و عرفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك!! و أقبل علينا فقال: ان هذا لم يسم أصحابه، فكلما أردت أخذ انسان يبلغني عنه شي‌ء أكرهه، ذكر أنه ممن أمنت. فقال يحيي: يا أميرالمؤمنين أنا رجل من السبعين فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع اليك قوما تقتلهم معي؟ لا يحل لي هذا، قال: ثم خرجنا ذلك اليوم، و دعانا له يوما آخر، فرأيته أصفر اللون متغيرا، فجعل [ صفحه 190] الرشيد يكلمه فلا يجيبه، فقال: ألا ترون اليه لا يجيبني؟ فأخرج يحيي الينا لسانه قد صار أسود مثل الفحمة، يرينا أنه لا يقدر علي الكلام، فاستشاط الرشيد غضبا و قال: انه يريكم أني سقيته السم، و الله لو رأيت قتله لضربت عنقه صبرا، ثم خرجنا من عنده، فما صرنا في وسط الدار حتي سقط يحيي علي وجهه لآخر ما به. و عن ادريس بن محمد بن يحيي كان يقول: قتل جدي بالجوع و العطش في الحبس. و عن الزبير بن بكار عن عمه: أن يحيي لما أخذ من الرشيد المائتي الألف الدينار، قضي بها دين الحسين صاحب فخ، و كان الحسين خلف مائتي ألف دينار دينا [372] . هذا مجمل ما حصل ليحيي بن عبدالله المحض في حركته و أمانه و تسييره الي بغداد، و سجنه، حتي استشهاده، و بالامكان القاء الضوء الكاشف علي تداعيات هذه المأساة. 1 - ان يحيي كان قذاة في حلق الرشيد كما صرح بذلك لأنه قام بتحرك علي نطاق واسع في بلاد الديلم، و لأنه أخ الثائرين في عهد المنصور: محمد النفس الزكية، و ابراهيم أحمر العينين اللذين تحدثنا عن تورتيهما في كتابنا عن الامام الصادق (عليه‌السلام). و ظهر أن الرجل كان من الثائرين مع الحسين بن علي (صاحب فخ) و قد اختفي عن السلطة العباسية، حتي أثر اختفاؤه في الحياة السياسية، و انتابت الحاكمين منه هواجس و تحسبات عدة، و أنه في اختفائه قد تنقل متنكرا بين عدة كور و قصبات و بلدان حتي استقر به المطاف في بلاد الديلم في عهد [ صفحه 191] الرشيد مع سبعين من أصحابه، و لعل اختفاءه في احدي خانات (حلوان) شمال العراق من مظاهر هذا التواري عن أنظار السلطة. ذكر الأستاذ باقر شريف القرشي عن أحد عيون الرشيد، قوله: «كنت في خان من خانات حلوان، فاذا بيحيي بن عبدالله في دراعة صوف غليظة، و كساء صوف أحمر غليظ، و معه جماعة ينزلون اذا نزل، و يرتحلون اذا رحل، و يكونون معه ناحية، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه، و هم أعوانه» [373] . و يبدو أنه في هذا المنزل كان في سبيله الي بلاد الديلم عن طريق شمال العراق الشرقي. 2 - ان الرشيد قد علم بالتحرك السري ليحيي، و قد عرف استجابة بعض العراقيين له، و جملة من العلويين، و كان ذلك مما يقلق الرشيد، فرماه بالفضل بن يحيي البرمكي بجيش مكثف مدرب علي القتال، قيل أنه بلغ خمسين ألف رجل، و أن أصحاب يحيي قد فزعوا من أنباء هذا الجيش، فتفرقوا عنه، و خالفوه كثيرا، و أخيرا يبدو أنهم قد أسلموه عند الوثبة، حتي اضطر الي التفاوض مع الفضل ضمن شروط معينة، فيها الأمان له و لأصحابه، و قد أمضي الرشيد تلك الشروط، و أشهد عليها يحيي، و دعمت بالايمان الغليظة المؤكدة. 3 - ان الرشيد قد استقبله بادي‌ء ذي بدء بالأكرام ظاهريا، و بالعفو أمام الآخرين، و قد رحب به و دفع له مائتي ألف دينار فأخذها، و وفي بها دينا للحسين صاحب فخ، و لكن الرشيد كان يدبر له المكيدة و يحكم الخطة لقتله أو اغتياله، فبدأ بسجنه، و عاوده مرارا بالاستجواب، و ساءله عن أسماء [ صفحه 192] أصحابه و أعيانهم، فأبي عليه يحيي ذلك، لأنه علم يقينا أنه سيقتلهم، فلا أمان لأهل الغدر و البهتان. 4 - يبدو أن طبقة من أهل المكر و الخيانة، و ممن يتقرب الي السلطان بالدماء، قد ائتمروا فيها بينهم للسعاية بيحيي، فغادروا الحجاز، و وصلوا بغداد، و احتالوا بالوصول الي الرشيد فنالوا من يحيي، فأمر الرشيد بحبسه عند مسرور الكبير في سجن المطبق. 5 - و كان الذي تولي كبر الافتراء عليه هو عبدالله بن مصعب الزبيري، فاتهمه بأنه دعاه الي الخروج معه علي الرشيد، فأنكر يحيي ذلك، و جرت بينهما أيمان قاتلة، انتهت بالانتقام من الزبيري عاجلا. 6 - و قد استدعي الرشيد جمهرة من الفقهاء الرسميين و عرض عليهم الأمان، فأبي اثنان منهم الطعن فيه، و تجرأ أبوالبختري القرشي علي الطعن و لم يعده أمانا، فخرق الأمان، و قطعه بسكين سيورا، فأجازه الرشيد علي ذلك بأعطية ضخمة، و حرم محمد بن الحسين الشيباني من القضاء و الافتاء مدة طويلة، مما يؤكد أن الرشيد كان يسخر الفقهاء لارادته و رغبته، فمن أبي عليه ذلك أبعده فورا. 7 - و في خاتمة المطاف رأينا الرشيد عازما علي التخلص من يحيي، فيضربه ضربا مبرحا، و يحيي يناشده الله و الرحم و القرابة من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلا يستجيب الرشيد لشي‌ء، حتي أجهز عليه جوعا و عطشا، و قيل سما، و لم تكن لديه رأفة أو شفقة أو حمية، حتي انتهت حياته بالشكل الذي ألمحنا اليه باختصار، و رحم الله أبافراس الحمداني و هو يذكر ذلك: يا قاصدا لمساويهم يكتمها غدر الرشيد بيحيي كيف ينكتم لا بيعة ردعتهم عن دمائهم و لا يمين، و لا قربي، و لا رحم [ صفحه 193]

التصفية الجسدية للعلويين

تعقب الرشيد العلويين، و تتبع آثارهم، و رصد أعيانهم و زعماءهم، و شدد الرقابة علي من اتصل بعناصر التحرك الثوري. فقبض علي قبض منهم، و هرب من هرب، و أكتفي بالرشيد وحده نموذجا لبني العباس. قال الرشيد للفضل بن يحيي: هل سمعت بخراسان ذكرا لأحد من العلويين؟ فقال: لا و الله؛ لقد جهدت فما ذكر أحد لي منهم، الا أني سمعت رجلا يذكر أن موضعا ينزله عبدالله بن الحسن بن علي بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام). سمع الرشيد ذلك فاستشاط غضبا لأن عبدالله هذا هو الذي عهد اليه من بعده الحسين (صاحب فخ). و بعث الرشيد بأعوانه و جلاوزته يتعقبون عبدالله هذا، فجاؤوا به، قال له: بلغني أنك تجمع الزيدية، و تدعوهم الي الخروج معك؟ فأنكر عبدالله ذلك قائلا: «يا أميرالمؤمنين، ناشدتك الله في دمي، فوالله ما أنا من هذه الطبقة، و لا لي ذكر فيهم، و ان أصحاب هذا الشأن بخلافي، أنا غلام نشأت بالمدينة، و في صحاراها أسعي علي قدمي، و أتصيد بالبواشق؛ ما هممت بغير ذلك.» و عبدالله في هذا نفي عن نفسه أية تهمة بالخلاف تنسب اليه، و برأ من فكر القائلين بالخروج، و أنه نشأ في المدينة علي الاصطياد، الا أن الحديث هذا لم يرق للرشيد، و لم يقتنع به، فأمر به الي السجن، فلم يزل محبوسا حتي ضاق صدره، فبعث برسالة للرشيد ضمنها شتمه و سبابه، فلما قرأها الرشيد، دعا جعفر بن يحيي البرمكي، فأمره أن يجعله عنده، و في اليوم الثاني كان «النوروز» فقدمه جعفر و ضرب عنقه، و غسل رأسه، و جعله في [ صفحه 194] منديل، و أهداه الي الرشيد، فلما نظر الرأس قال لجعفر: ويحك لم فعلت هذا؟ قال: ما علمت أبلغ في سرورك من حمل رأس عدوك اليك...» [374] . و هكذا كانت الدماء تسفك سفها، و الأرواح تزهق قسرا، و قتل الأبرياء يقع موقع الرضا من السلطان، و لم يكن هذا بأعجب من شأن ادريس بن عبدالله بن الحسن بن الامام الحسن بن أميرالمؤمنين (عليهماالسلام)، فقد أفلت ادريس من وقعة «فخ» و هرب مع مولي له يقال له «راشد» فخرج به في جملة حاج افريقيا و مصر حتي أقدمه مصر، و بقي مختفيا بهامدة و جيزة، ثم سلكا طريقا انتهيا معه الي فاس و طنجة، و بث ادريس هناك دعوته، و عظم أمره، و التف حوله البربر، فدعاهم الي الدين فملكوه عليهم، و بلغ الرشيد ذلك فغمه الأمر حتي امتنع عليه النوم، فدعا سليمان بن جرير الرقي فأعطاه سما، و سيره نحو ادريس، فورد سليمان علي ادريس متوسما بالمذهب فسر به، ثم جعل سليمان يطلب غرته حتي وجد خلوة من مولاه راشد، فسقاه السم و هرب، بعد أن حكم خمس سنين و ستة أشهر، فقد بويع له في رمضان 172 ه و قضي في ربيع الثاني 177 ه [375] . و قد يتفنن الرشيد بالتصفية الجسدية، فيقتل من يشاء صبرا، كما حصل هذا للعباس بن محمد بن عبدالله بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام)، اذ قبض عليه، و أدخل علي الرشيد، و جري بينهما كلام طويل، فاستهان به الرشيد قائلا: يا ابن الفاعلة، فرده العباس ردا عنيفا: «تلك أمك التي تواردها النخاسون»!! فغضب الرشيد غضبا شديدا، و ما أكثر غضبه في هذه المجالات، و أمر بأن يدني منه، فقام اليه بنفسه و ضربه بعمود من حديد حتي قتله [376] . [ صفحه 195] و كان هذا وكد الرشيد في ابادة أعيان الطالبيين، و تحري رجالهم و القضاء عليهم بالقتل تارة و بالسجن أخري ثم التعذيب و السم و الابادة أخيرا. و قد جري له أمثال ذلك في كل من: 1 - اسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام). 2 - محمد بن يحيي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام). 3 - الحسين بن عبدالله بن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب. فقد قبض علي هؤلاء جميعا، و أودعهم السجون الرهيبة، و أذاقهم صنوف العذاب و التنكيل، حتي قضوا فيها صابرين محتسبين [377] . و قد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي جملة من تفصيلات هذه المآسي التي مر بها العلويون في عهد الرشيد بخاصة [378] . و قد استظل كثير من الطالبيين بالهرب، و لاذوا بالاستتار و التخفي من جور الرشيد و بطشه، فقد كان يجد لذة لا تعدلها لذة في قتلهم، و يستشعر متاعا أي متاع بالقضاء عليهم، و كان في طليعة الهاربين: أحمد بن عيسي بن زيد بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) و كان عالما فقيها كبيرا زاهدا [379] . و قد هرب من الارهاب الدموي العنيف الي البصرة، و التف حوله الناس، و دعا الي نفسه سرا، و استجاب له جملة من الأولياء، فساء ذلك الرشيد، و جد في طلبه، فما استطاع القبض عليه، الا أن جلاوزته قبضوا علي صاحبه «حاضر» و حملوه الي الرشيد، فلما صار بباب الكرخ رفع صوته قائلا: أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسي بن زيد العلوي و قد أخذني السلطان» فمنعته الشرطة من الكلام [380] . [ صفحه 196] و جي‌ء به الي الرشيد مقيدا، فسأله عن أحمد و أنصاره متوعدا، فقال حاضر: و الله، لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتهما عنه، و أنا شيخ قد جاوز التسعين، أفأختم عملي بأن أدل علي ابن رسول الله حتي يقتل؟ فغضب الرشيد، و أمر بضربه ضربا مبرحا فمات تحت السياط، و أمر بصلبه، فصلب ببغداد [381] . فاذا كان هذا الضيم من صنع الرشيد وحده، فما بالك بأسلافه الهادي و المهدي و المنصور فيما ابتكروه من تصفية العلويين؟؟

موقف الامام من العنف الثوري

و في ضوء ما رأيت من ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) و حركة يحيي بن عبدالله المحض (صاحب الديلم) و انتفاضات جملة من الطالبيين، ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، لم يستجب لهؤلاء جميعا بالخروج معهم، أو الانضمام الي تحركهم الثوري. و بغض النظر أن عليهم أن يستجيبوا له، و ليس عليه الاستجابة لهم، لأنه الامام المفترض الطاعة، فان الامام بتجربته السياسية النافذة كان قد علم مسبقا بما تؤول اليه هذه الانتفاضات الدموية من الفشل و الخذلان، و أنها لا تستطيع أن تغير بحركاتها الانتحاري شيئا من الواقع السياسي لا فعليا و لا مستقبليا، و انما هي الدماء و قوافل الشهداء، و ان جلبت النقمة عاطفيا شيئا ما، لذلك كان موقف الامام منها موقف الحذر المتيقظ، كما كان موقفه من الثائرين موقف الناصح و الموجه. فقد أورد الكليني عن مولي عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب، قال: لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ، و احتوي علي المدينة، دعا موسي بن جعفر (عليه‌السلام) الي البيعة، فأتاه الامام، و قال له: يا ابن عم؛ لا تكلفني [ صفحه 197] ما كلف ابن عمك عمك أباعبدالله (عليه‌السلام)، فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي‌عبدالله (عليه‌السلام) ما لم يكن يريد [382] . فقال له الحسين: انما عرضت عليك أمرا فان أردته دخلت فيه، و ان كرهته لم أحملك عليه، و الله المستعان، ثم ودعه و انصرف. فقال له أبوالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حين ودعه: «يا ابن عم؛ انك مقتول فأجد الضراب، فان القوم فساق، يظهرون ايمانا، و يسرون شركا، و انا لله و انا اليه راجعون، أحتسبكم عند الله من عصبة» [383] . و أنت تري الامام يدعي الي البيعة و التأييد رفيقا بالثائرين، مشفقا عليهم، لا يريد أن يصطدم معهم في شي‌ء، و بالوقت نفسه لم يثبط من العزم، و لم يقدح بالقضية، و كان صاحب فخ مرنا فيما استقبله به الامام، فلم يرد اكراهه علي شي‌ء، و انما عرض عليه أمرا لو شاء أن يدخل فيه لرحب به، و لو كره ذلك لم يحمل عليه، و قد لمس الامام تصميم صاحب فخ، فأشعره مصرحا بالحقيقة التي تلقاها من فيض ذلك العلم المخزون، بأنه مقتول، و عليه أن يجد في القتال، فالحاكمون فسقة يظهرون الايمان و يسرون الشرك، فاستقبل صاحب فخ ذلك برحابة صدر و صدق عزيمة، فهو يعلم أن الامام يعني ما يقول. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: «و لم يكن امتناع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عن تأييد ابن عمه بالخروج معه، أو حث الناس علي بيعته، أو اعلان وجوب الانخراط في صفوف [ صفحه 198] الثائرين، ناشئا من خوف من بطش السلطة، أو ايثار للحياة علي الموت، أو حب الدنيا و زبارجها الخداعة، و أين منه كل ذلك؟ و هو يعيش بطش السلطة و أذاها في كل يوم، و يتمني لقاء الله و قدومه عليه في كل دعاء و ابتهال. «ان هؤلاء القادة - أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) - ليسوا من حيث المنطلق و المبدأ هواة حكم أو عشاق سلطان، و لم يكن من أهدافهم في الدنيا كرسي الملك أو عرض الخلافة، و انما يتمثل همهم الأكبر و شغلهم الشاغل في العمل علي تطبيق أحكام الدين، و تجسيد ما جاء في كتاب الله و سنة رسوله (صلي الله عليه و آله) علي صعيد الواقع المعاش للمسلمين، فان علموا بتحقيق الثورة لذلك - و لو بالقوة لا بالفعل كما ثورة الحسين (عليه‌السلام) - قاموا بها، و لم يأبهوا بفداحة الخسائر و عظم التضحيات. و ان لم يضمنوا هذه النتيجة لا في الحال و لا في المستقبل المنظور، امتنعوا عن اراقة الدماء، و تأجيج نيران الحروب و الفتن، لأنها بلا جدوي و لا مردود» [384] . و ثمة ملحظ آخر جدير بالأهمية، أن الشعب المسلم و هو يعاني المحن و الشدائد في حكم الارهاب و الجبروت، قد ضربت أغلب فصائله صفحا عن السياسة و مشكلاتها، و اتجه شبابها نحو الاغتراف من نمير أهل البيت العلمي، فكانت قوافل العلماء تؤم ساحة أهل البيت الرعيل اثر الرعيل، للاستضاءة بنور العلم، و كانت عائدية التمتع بهذا البرنامج المعرفي تعود بما هو أجدي نفعا للمسلمين، و بما هو أكثر تحريرا للعقول، و هي ترفض الاعتساف السياسي، و تأبي التضحية بالنفس دون جدوي متوافرة. ان ما قام به الحسين بن علي (صاحب فخ) عبارة عن انكار للمفهوم السلطوي العام، و كان هذا الانكار في أقصي درجاته و أعظم عطائه، و هذه الطريق مسنونة في انكار المنكر و الأمر بالمعروف، فقد يري بعضهم ذلك لازما [ صفحه 199] له أني اتفق حتي مع عدم أمن الضرر فيعتبره جهادا، و هذا اجتهاد قد يخطي‌ء فيه المجتهد و قد يصيب، أما الامام (عليه‌السلام) فله حكمه الخاص الذي ينطلق من موازين أخري يحددها تكليفه الشرعي ليس غير. و لم يكن الامام لينجذب للأحاسيس و هي شلاء، و لم يكن ليتأثر بالعواطف الصارخة و هي موقتة، و كان عمله الفعلي الهادف يستوعب الأجيال المتعاقبة لا الأيام القليلة الزائلة، و لم يكن همه لينحصر بالتغيير السياسي و العدة غير متكاملة لدرئه، و النصرة غير متيسرة لردعه، و للامام أن يري، و لأتباعه و أوليائه أن يمتثلوا، فالآراء لا تفرض علي الامام مهما كان مصدرها البشري الا اذا اقترنت بقناعته المنطقية، لهذا نجد أن دأب الأئمة (عليهم‌السلام) و منهم الامام موسي بن جعفر استثمار توجه الناس اليهم بالاتجاه العلمي، فأذكوا شرارته، و ألقحوا جذوته، فكانت ثماره بناء الأمة عقليا و فكريا، و ذلك هو الهدف المركزي الذي تقصر عن تحقيقه عروش الظالمين، بل و تتضاءل أمام زحفه صولة السلاطين، فقد ذهبت جبروتهم أدراج الرياح كأمس الدابر، و خلد علم أهل البيت في مدرجة التأريخ الانساني المتحضر، و كان هذا الاتجاه امتدادا طبيعيا لمسيرة الأئمة في حياتهم العملية في ضوء تعليمات القرآن الكريم و السنة النبوية لا يحيدون عنهما قيد شعرة قط. و لك هنا أن تعرف موقف الامام من حركة يحيي بن عبدالله المحض كما عرفت من ثورة الحسين (صاحب فخ) فكلاهما يصدران عن رافد العنف الثوري، و لم يكونا أحرص علي الثورة من الامام لو أن ظروفها كانت مواتية، و لما لم يكن الأمر بهذه السهولة و اليسر، فالامام لم يجد شرعية تتبع، و لا مشروعية تستهدف في زج نفسه أو أوليائه في دوامة محكوم عليها بالفشل و النهاية المحزنة دون حصيلة مرجوة في التغيير و الانقلاب الجذري سياسيا و عقائديا. [ صفحه 200] فقد روي أن يحيي حينما عزم عن حركته كتب للامام: «أما بعد: فاني أوصي نفسي بتقوي الله، و بها أوصيك، فانها وصية الله في الأولين، و وصيته في الآخرين. خبرني من ورد علي من أعوان الله علي دينه و نشر طاعته؛ و بما كان من تحننك مع خذلانك، و قد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه و آله) و قد احتجبتها و احتجبها أبوك من قبلك، و قديما ادعيتم ما ليس لكم!! و بسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم الله!! فاستهويتم و أضللتم!! و أنا محذرك ما حذرك الله من نفسه». تقول الرواية فكتب اليه الامام موسي بن جعفر في الجواب: «... أما بعد؛ فاني أحذرك الله و نفسي، و أعلمك أليم عذابه و شديد عقابه و تكامل نقماته،و أوصيك و نفسي بتقوي الله فانها زين الكلام و تثبيت النعم، أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع و أبي من قبل، و ما سمعت ذلك مني... و ذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، و ما منعني من مدخلك الذي أنت فيه - لو كنت راغبا - ضعف عن سنة، و لا قلة بصيرة بحجة... و أنا متقدم اليك أحذرك معصية الخليفة، و أحثك علي بره و طاعته، و أن تطلب لنفسك أمانا قبل أن، تأخذك الأظفار....» [385] . و أنت تري رسالة يحيي في التهجم علي الامام، و هي بعيدة الصدور عنه، فانه أدري بمنزلة الامام و منزلة أبيه من ذي قبل، و اذا كان يدعو للرضا من آل محمد، فالامام هو الرضا من آل محمد. و أنت تري الرد فيما نسب للامام، و اذ شككنا في الأصل ثم لنا الشك فيما يتفرع عنه. [ صفحه 201] و قد تولي تفنيد هذه الرسالة و رواياتها الأستاذ باقر شريف القرشي: «و الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها مرسلة أولا. و قد جاء في سندها روي بعض أصحابنا، بالاضافة الي أن الكثيرين من رجال السند مجهولون... فلا مجال للاعتماد عليها و التشكيك في حال يحيي» [386] . و مهما يكن من أمر، فان الامام كان قاطعا بفشل حركة يحيي في الأساس، و لا يستطيع تأييدها في حال من الأحوال، و هو علي رصد تام، و لكنه كان يري ضرورة الثورة المضادة للحكم العباسي سلبيا لا عن طريق العنف، فلا هدنة معه و لا تأييد له، و لا انخراط في صفوفه، فهو في مجابهة معه غير دموية. و لكنها مجابهة تجرد الحكم عن صفة الشرعية، و هي أرقي درجات المجابهة سياسيا في مقاومة الانحراف العباسي كما ستري هذا في الفصل الآتي من الكتاب. [ صفحه 203]

البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي

الامام و سياسة النضال العباسي

في المناخ السياسي العام يبرز عاملان مهمان في مهمة الاصلاح الديني و التغيير السياسي، و هما: 1 - النضال الايجابي، و يعني بمقومات الاندماج الكلي في العالم السياسي و استيحاء ايجابياته الايدولوجية، و الافادة بالقوة و غير القوة، و في كل المفردات المتفرعة عليهما، في سبيل الكسب السياسي و الانعاش الاقتصادي و الاستيلاء علي السلطة، فالهدف هو السلطان، فما يؤخذ بالقوة يسترجع بالقوة، و الحق يؤخذ و لا يعطي. و قد يستعين هذا المبدأ بنظرية الغاية التي تبرر الواسطة، و بالوسائل الأخري التي تحقق هذا المبدأ، و لا نريد أن نناقش هذا المبدأ في التسمية و لا في المكاسب المترتبة عليه، فهو نفسه له ايجابيته و له سلبيته بوقت واحد. [ صفحه 204] و قد يتوج النضال الايجابي بالأسلوب الدبلوماسي، و قد يعتمد المناورة و الدوران في التماس ما يراد، سواء أكان ذلك حقا أم باطلا!! اذ المهم العائدية بالنفع المرتقب، و قد يغلف هذا المناخ بستار من الضبابية القاتمة، و المجاملة الكاذبة ازاء الغاية المتوخاة بهذا المنهج أو ذاك. 2 - النضال السلبي: و يعني بمفارقة النظام السياسي قولا و عملا و موضوعية، و ذلك يقتضي الاعراض حينا، و الانكار حينا آخر، و قد يدعو الي المقاطعة للحكم في كل شي‌ء فيجعل حركته مشلولة متعثرة، و بهذا تكون المعارضة الرافضة شعارا و دثارا، و يد يعني بالمطالبة لتحقيق العدل و استنقاذ الحقوق المهدورة، و قد يدعو الي الحياة الحرة الكريمة في ضمن ذلك، و قد يكون مقتصرا علي رفض التعاون و التعامل مع الجهات الحاكمة في مؤسساتها و مرافقها و دواوينها بشكل عام. و أئمة أهل البيت بالتزامهم منهج التقية لدي تفجر حياة القسر و الارهاب الدموي، قد يلتزمون النضال السلبي خطا في عدة طرق، فينطلقون من مبدأ اضعاف الأنظمة و رفضها، و احكام عزلتها السياسية من قبلهم، و اشعار الشعب المسلم بانكارهم لأعمال السلطان و أعوان السلطان. و قد يستقبل الأئمة الوجه المشرق للنضال الايجابي لاقامة دولة العدل، كما مثل ذلك أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) في قتاله للناكثين و القاسطين و المارقين. و قد يكون النضال الايجابي انكارا عمليا لبسط حكام الجور و ولاة السوء فيلتجأ الي الكفاح المسلح، كما مثل ذلك سيدالشهداء الامام الحسين بن علي (عليهماالسلام) في ثورة الطف. و الامام المعصوم هو صاحب القرار وحدة في هذا الاتجاه أو ذاك بما تمليه عليه ضرورة الوظيفة الرسالية الملقاة علي عاتقه، دون النظر للعواطف [ صفحه 205] و الأحاسيس و الانفعالات الذاتية، فهي بعيد منها و منزه عنها، فهو حينما يتصرف فبوحي من التكليف الشرعي، و بعناية من التسديد الالهي، ناظرا المصلحة العليا وحدها دون التأثر بالأهواء أو الانصياع للضغوط مهما كان، و كلا المنهجين الذين يسلكهما الامام لهما منطلق واحد هو الحفاظ علي بيضة الاسلام من وجه، و قيادة الأمة بأمانة و اخلاص من وجه آخر. فالامام اذن مصدر القرار في الجو السياسي المحموم، و له البصيرة النافذة بكيفية تنفيذ القرار سلبا أو ايجابا، فهو قد يتوسط عند السلطان لقضاء حوائج أوليائه، و استنقاذ حقوق المسلمين، و لكنه في الوقت نفسه يمانع ممانعة شديدة من الانضواء تحت راية السلطان، أو الانخراط في ديوانه و حاشيته و بطانته، فذلك شي‌ء و هذا شي‌ء آخر. و الامام الصامد موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد تبني الأمرين، و سلك النهج بأناة و روية و تطلع سليم. كان لرجل من أهل الري بقايا أموال يطالبه بها بعض الولاة، فطلب للامام أن يسعفه بمفاتحة الوالي في أمره، فاستجاب الامام ملبيا طلبه. و كتب الي الوالي بالنص الآتي: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ اعلم أن لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الا من أسدي الي أخيه معروفا، أو نفس عنه كربة، أو أدخل عليه سرورا، و هذا أخوك و السلام». فذهب الرجل برسالة الامام الي الوالي فلبي حاجته، و ما اكتفي بذلك بل قاسمه دينارا بدينار، و درهما بدرهم، و ثوبا بثوب، و أعطاه قيمة ما لم يمكن قسمته، و هو يقول له: يا أخي هل سررتك؟ فيقول: أي و الله... [387] . [ صفحه 206] و لما حمل الامام موسي بن جعفر الي هارون الرشيد، جاء اليه هشام بن ابراهيم العباسي، فقال للامام: يا سيدي قد كتب لي صك الي الفضل بن يونس، تسأله أن يروج أمري!! قال: فركب اليه أبوالحسن (عليه‌السلام)، فدخل عليه حاجبه، فقال: يا سيد أبوالحسن موسي بن جعفر بالباب. قال: ان كنت صادقا فأنت حر... فدخل الامام، فخرج اليه الفضل بن يونس حافيا، و وقع علي قدميه يقبلهما، فقال له الامام: اقض حاجة هشام بن ابراهيم فقضاها [388] . هذه الايجابية بهذه الحدود، كانت بتقدير الامام وساطة ناجحة لاستباق الخيرات و المسارعة بانجازها، و قضاء حق من حقوق الأخوة في الله، و فيها تنفيس كرب و اغاثة ملهوف. و لكن الامام يقف الموقف الصارم و الحازم تجاه الانضمام لعمل السلطان، و الانضواء في رف معيته و سطوته. فقد حدث زياد بن أبي‌سلمة، قال: «دخلت علي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام)، فقال: يا زياد انك لتعمل عمل السلطان؟ قلت: أجل؛ قال لي: و لم؟ قلت: أنا رجل لي مروة و علي عيال، و ليس وراء ظهري شي‌ء. فقال لي: يا زياد لئن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة؛ أحب الي من أتولي لأحد منهم عملا، أو أطأ بساط رجل منهم، الا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: الا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسرة، أو قضاء دينه. [ صفحه 207] يا زياد: ان أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفزع الله من حساب الخلائق. يا زياد: فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك، فواحدة بواحدة، و الله من وراء ذلك. يا زياد: أيما رجل منكم تولي لأحد منهم عملا ثم ساوي بينكم و بينهم فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد: اذا ذكرت مقدرتك علي الناس فاذكر مقدرة الله عليك غدا، و نفاد ما أتيت اليهم عنهم، و بقاء ما أتيت اليهم عليك» [389] . ان هذا التحدير المخيف الصادر عن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تجاه مغبة العمل عند السلاطين، و الانخراط في صفوف الظلمة، لحري بكل مسلم أن يجعله نصب عينيه و هو يتولي المسؤولية في الحكم، أية مسؤولية أصغيرة كانت أم كبيرة، لأنه قد ينحرف و تأخذه العزة بالاثم، أو قد يتيه بولايته علي الآخرين فيضل عن الطريق السوي، و ما أكثر من تورطوا في هذا الانهيار السحيق فتجاهلوا الخدمة العامة، و حدبوا علي المصالح الذاتية، و لم يعيروا أذنا صاغية لظلامات الناس و مشكلات الأمة، فصاروا من جبابرة الأرض، متجاهلين أن المسؤولية عبارة عن نيابة فعلية عن الشعب يفترض فيها الاحسان الي الاخوان، و تفريج كروب الانسان، و درء أحداث الزمن عن الأسري و ذوي الاحتياج، و ما يجري هذا المجري في ضوء توجيه الامام. و لو استعرضت مصادر حياة الامام في هذا الملحظ الخاص لرأيت عجبا كبيرا فيما يستفز الامام من تولية أبسط الأمور لدي الحاكمين، و قد لا نري فيها بأسا كثيرا، و لكنه ينكرها و يشجبها و يستحسن تركها و الاعراض عنها. [ صفحه 208] فهذا صفوان الجمال، و منزلته لدي من عاصر من الأئمة غير مجهولة، و هو علي قدر عظيم، و مع هذا فان الامام يتجه نحوه بالقول: «يا صفوان؛ كل شي‌ء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا!! قال صفوان: جعلت فداك؛ أي شي‌ء؟ قال الامام: كراؤك جمالك من هذا الطاغية (الرشيد). قال صفوان: و الله ما أكريته أشرا، و لا بطرا، و لا للصيد، و لا للهو، و لكن أكريته لهذا الطريق - يعني طريق الحج - و لا أتولاه بنفسي، و لكن أبعث معه غلماني. فقال له الامام: أيقع كراك عليهم؟ قال صفوان: نعم جعلت فداك. قال الامام: أتحب بقاءهم حتي يخرج كراك؟ فقال الامام: من أحب بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان واردا للنار» [390] . فما كان من صفوان الا أن باع جماله و ترك المهنة، و كان هذا النكير من الامام و التشديد فيه لئلا ينتظم أولياؤه في عداد أولياء الظلمة و أعوانهم، و هو ما تحرمه الشريعة الغراء. و لئن حقق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عزل النظام في نضاله السلبي هذا، فانه قد اخترق هذا النظام من الداخل بما لم يسبق اليه تأريخ الامامية السياسي، و كان ذلك باقرار من الامام، حيث استطاع اولياءه المقربون أن يصلوا الي أعالي مراكز السلطة، و أن يكافحوا أمن النظام العباسي ضدهم بالأمن المضاد الذي ستراه في المبحث الآتي. [ صفحه 209]

الامام و اختراق النظام العباسي

و اخترق النظام العباسي من الداخل علي يد أولياء الامام و يعلم من الامام، و كان ذلك يحظي باهتمامه و رعايته و مباركته فيما توصلنا اليه. فهذا علي بن يقطين ذو الشرف الأصيل و الولاء العريق لأهل البيت، و كان أبوه من دعاة الدولة العباسية، و نشأ ولده بالقرب منهم، فكانت ثقة العباسيين به متناهية، و اخلاصه - في الظاهر - لهم متواترا، فكان من رجال الدولة أيام المهدي و الهادي، و تقلد منصب الوزير الأول في عهد الرشيد، و الامم يسدد خطاه، و يخترق بوجوده النظام، و يدعو له، و يعضد سيرته في اغاثة الملهوفين، و الدفع عن الضعفاء، و قد طلب الاذن من الامام أن يتخلي عن منصبه هذا، فنهاه الامام عن ذلك نهيا شديدا، معللا ذلك، و مبرمجا له، بقوله (عليه‌السلام): «لا تفعل، فان لنا بك أنسا، و لاخوانك بك عزا، و عسي أن يجبر الله بك كسيرا، و يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه، يا علي: كفارة أعمالكم الاحسان الي اخوانكم، اضمن لي واحدة و أضمن لك ثلاثا، اضمن لي أن لا تلقي أحدا من أوليائنا الا قضيت حاجته و أكرمته، و أضمن أن لا يظلك سقف سجن أبدا، و لا ينالك حد سيف أبدا، و لا يدخل الفقر بيتك أبدا، يا علي من سر مؤمنا فبالله بدأ، و بالنبي (صلي الله عليه و آله) ثني، و بنا ثلث» [391] . و الامام بهذا النحو من التوجيه، يبدي تفهمه الدقيق لمهمة علي بن يقطين من خلال موقعه الخطير، و هو يشجعه علي البقاء فيه، و هو ينهاه عن الاستقالة منه، و هو يتوسم فيه جبر الكسير و اطفاء نائرة المخالفين عليه، و الامام يلمس منه ايجابية مطلقة، فيبين له ما يكفر به عن عمل السلطان في [ صفحه 210] الاحسان الي الاخوان، و قضاء احتياج المؤمن، و يحدد له بعض الآثار الوضعية في اكرامه لأولياء الله، و يلخصها له في ثلاث: الاعتصام من السجن، و الاحتزاز من السيف، و الاستعاذة من الفقر، فليت أولياء الامام التزموا بذلك لدي تسلمهم لبعض المناصب في الدولة، و نظروا ببصائرهم لهذه المكاسب الكبري التي يحققها من عمل بنصح الامام و توجيهه الكريم. اننا نلمس في سيرة علي بن يقطين ألقا من هدي أهل البيت و وهجا من عمق تطلعهم لحقائق الأشياء، فهو القدوة في هذا المجال الرفيع، و مع ذلك نراه يضيق ذرعا بعمل السلطان لئلا يقصر بالتزامه الانساني، و يكتب للامام: «ان قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان، فان، أذنت لي جعلني الله فداك، هربت منه؟» و يرد عليه جواب الامام بالنص: «لا آذن لك بالخروج عن عملهم، و اتق الله...» [392] . لقد تراءي للامام بلمح بعيد يعسر رصده علي الكثيرين، أن بقاء علي بن يقطين في موقعه هو الأصلح لأمور الدنيا و الدين، فهو لا يأذن له في الخروج منه، و مع ذلك فهو يأمره بتقوي الله، تأكيدا علي مراقبة النفس من الاصطدام بالأهواء. و لما قدم الامام (عليه‌السلام) الي العراق في احدي استدعاءاته من قبل الرشيد، زاره علي بن يقطين، فشكا الي الامام حاله، و طلب منه الاذن في التخلي عن منصبه فنهاه الامام، و قال له: «يا علي، ان لله أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه، و أنت منهم يا علي» [393] . [ صفحه 211] ان هذا الاعتداد بعلي بن يقطين يعني أن الامام قد أخلصه لمهمة رسالية يتعاهدها، و يؤديها علي الوجه الأمثل، فهو يعتمده في اختراق النظام لا لارادة الحكم بل لانعاش حياة المضطهدين، - و ما أكثرهم - و انقاذهم من جور السلطان، و للنظر في شأن أولياء الله من وراء ستار حديدي من السرية التامة من خلال هذا الجندي المجهول، فهو في الظاهر من رجال النظام، و هو في الواقع من أولياء الامام، و أي ولي هذا و الامام يشهد له بالجنة، و يدعو له أن يكون في أعلي عليين. أورد الأستاذ باقر شريف القرشي: ان ابن يقطين أقبل علي الامام ذات مرة، فقال الامام: من أراد أن يري رجلا من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلينظر الي هذا المقبل، و أشار الي علي، فقال بعض من حضر: أو في الجنة؟ قال الامام: أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة. و قال الامام في مورد آخر: ضمنت لعلي بن يقطين أن لا تمسه النار أبدا. بل و أكثر من هذا، فقد دعا له الامام، و هو علي الصفا بقوله: «الهي؛ في أعلي عليين، اغفر لعلي بن يقطين» [394] . ان هذه الرعاية التامة لهذا الرجل تعبر عن مدي ما قدمه من خدمات للأمة، و ما وفي به من التزامات للامام، و ما أسداه من أعمال جباره تجاه الشعب الضائع في عواصف النظام، مما استحق معه هذا الثناء العاطر و الدعاء العظيم. و هذا يلزمنا جميعا أن نتوجه هذا التوجه في رعاية شؤون الناس، و متابعة احتياج الآخرين، كل بحسب موقعه من المنصب و المكانة و الجاه، و الا فهي الأيام القصيرة مهما طالت، و من وراثها المساءلة و المحاسة فيما قدم الانسان و ما ترك. [ صفحه 212] و لسنا ندري بالضبط حجم هذه المكرمات التي انتهجها ابن‌يقطين في خلال منصبه، و لسنا نعلم مدي اتساع عطائه الانساني و هو علي رأس السلطة، لأن أعماله محاطة بكثير من الكتمان لئلا يفتضح أمره لدي السلطان، الا أننا نستشعر أهميتها القصوي من خلال اعتداد الامام به، و متابعته من قبله في تصرفاته، و تسديده له في كثير من شؤونه التي يقصر ادراكها الا بعد حين، ناظرين بذلك ما ذكره الشيخ المفيد (ت 413 ه) و هو أقرب الي عهد الامام، و ما يرويه لنا نعتبره من أصول الروايات. أولا: روي عبدالله بن ادريس عن ابن منان، قال: حمل الرشيد في بعض الأيام الي علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها، و كان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك. فأنفذ ابن‌يقطين بالدراعة و بعض الثياب الي الامام الكاظم (عليه‌السلام) و معها خمس ماله، فلما وصلت، قبل الامام الثياب و المال، ورد الدراعة... و كتب اليه: أن احتفظ بها... فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين علي غلام فصرفه... فسعي به الي الرشيد، و قال: انه يقول بامامة موسي بن جعفر، و يحمل اليه خمس ماله في كل سنة، و قد حمل اليه الدراعة... فأنفذ الرشيد الي ابن‌يقطين من يحضره... فحضر... قال له: ما فعلت بالدراعة؟.. قال هي عندي في سفط مختوم... قال الرشيد: أحضرها الساعة، فاستدعي بعض خدمه و قال له:... افتح الصندوق الفلاني، و جئني بالسفط الذي فيه بختمه، فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوما، فوضع بين يدي الرشيد... ففتح و نظر الي الدراعة فيه بحالها... فقال لعلي بن يقطين: أرددها الي مكانها، و انصرف راشدا، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا، و أمر أن يتبع بجائزة [ صفحه 213] سنية، و تقدم بضرب الساعي ألف سوط، فضرب نحوا من خمسمائة سوط، فمات في ذلك [395] . و لك أن تسأل: أني توافر هذا العلم بهذه الحال في الاستدعاء و السؤال عن الدراعة من قبل الامام؟ و كيف احتاط الامام لذلك بهذه الصورة التي حكمت ببراءة ابن‌يقطين يمثل هذا الموقف الحرج؟ و لنا أن نجيب: ان هذا العلم لدي الامام قد فتح عليه كما تقدم في موارد علم الامام - من ذلك الباب الذي فتح لجده أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) «علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب» [396] . و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فقد انتفي الاستغراب و العجب و الاستبعاد، و ليس هو بأعجب مما ترويه الحادثة الأخري في الموضوع نفسه. ثانيا: روي محمد بن اسماعيل عن محمد بن الفضل، قال: اختلفت الرواية بين أصحابنا في الوضوء، فكتب علي بن يقطين بذلك للامام، فكتب اليه الامام: فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، و الذي أمرك به في ذلك:.... أن تغسل وجهك ثلاثا، و تخلل شعر لحيتك، و تغسل يدك من أصابعك الي المرفقين، و تمسح رأسك كله... و تغسل أصابعك الي المرفقين. فلما وصل الكتاب عجب بما رسمه له... ثم قال: مولاي أعلم بما قال، و أنا ممتثل أمره... و سعي بعلي بن يقطين لدي الرشيد، فقيل له: اختبره بالوضوء... فلما دخل وقت الصلاة، وقف الرشيد وراء حجاب ينظر وضوءه، فتوضأ علي الصورة التي رسمها له الامام. [ صفحه 214] فقال الرشيد: كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة. و ورد علي ابن‌يقطين كتاب الامام (عليه‌السلام): «ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله، اغسل وجهك مرة فريضة، و أخري اسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك، و امسح مقدم رأسك، و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك، و السلام» [397] . و مع كل هذه المنزلة لعلي بن يقطين عند الامام، فقد يجابهه بما يصحح سيرته، و يخفف من غلوائه، رائده في ذلك ايقافه عند المنهج السوي الذي لا يحاد عنه، فقد حجبه، و امتنع عن مقابلته، لأنه حجب ابراهيم الجمال، و هو من أولياء الامام. فقال علي بن يقطين للامام موسي بن جعفر: يا سيدي ما ذنبي؟ فقال (عليه‌السلام): حجبتك لأنك حجبت أخاك ابراهيم الجمال. و قد أبي الله أن يشكر سعيك، أو يغفر لك ابراهيم الجمال. فدخل علي بن يقطين علي ابراهيم داره، و قال له: ان المولي أبي أن يقبلني أو يغفر لي. فقال ابراهيم: يغفر الله لك، فألح علي بن يقطين عليه أن يطأ خده، ففعل ذلك بعد ممانعة، فقبله الامام بعد هذا [398] . و من هنا نستشعر أن رعاية الامام لعلي بن يقطين لم تكن لذاته، و انما كانت لأسباب موضوعية أهمها أن يكون عند حسن ظن القاصدين من ذوي المشكلات، و أن يكون في تواضع المؤمن لدي استقبال ذوي الدين، و أن يكون لاخوانه حصنا منيعا ترد به عادية الزمن. [ صفحه 215] و بتوافر هذه الشروط و أمثالها، يكون العمل عند السلطان مبررا، و يكون الاندماج كليا بهذه الشروط ضروريا لتنفيذ ذلك، فبهذا و ذاك دفع الظلامة و اقرار العدالة و تلبية الاحتياج، و هذا كله هو الذي يسوغ اختراق النظام من الداخل لهدف أسمي. و هكذا تمكن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و بشكل ايجابي بناء، أن يتجاوز كثيرا من العقبات التي اعترضت مسيرته النضالية و العملية من خلال أوليائه الأمناء.

الامام و مجابهة الانحراف و التضليل الديني

و مع الصورة الناصعة لأدب المجاملة الفاعل لدي الامام، و حفاظه المتكامل علي شعيرة التقية الواجبة، الا أننا نجده و باصرار قد يجابه المركز الأول في السلطة مجابهة صريحة صارمة، اذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك، و اذا كان لابد من الاصحار بالرأي الخارق للأباطيل. نلمس هذا الاتجاه عند الامام متجاوب الأصداء اذا حاذر من التضليل الديني و خداع المسلمين، ليصد بذلك الانحراف المتعمد، و يصون الحقيقة الكبري من الابتذال و الضياع. و مبدأ المجابهة لاعلاء كلمة الحق لدي الامام من خصائصه الثابتة التي أذهلت الكثيرين في عصره، لأنها - عادة ما - تكون بأشد اللحظات حراجة، و عند أصعب المجالات محاججة، و هي قد تستلزم التضحية، و تتطلب الجرأة العالية، و تعني قطع خطوط العلاقات القائمة. و سجل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حافل بهذا التوجه الفريد اذ كان لابد منه لتمييز الواقع عن الدجل، و تخليص الحق من الشوائب، و كشف الأقنعة دون محاباة. [ صفحه 216] فحينما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي (صلي الله عليه و آله) و معه الناس، فتقدم الرشيد نحو القبر و قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم - مفتخرا بذلك علي غيره - فتقدم الامام موسي بن جعفر الي القبر، و قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه. فتغير وجه الرشيد، و تبين الغيظ فيه [399] . ان الملحظ الدقيق لهذه الحادثة يشير الي أن الرشيد أراد اضفاء صيغة الشرعية علي خلافته، لأنه ابن عم رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأراد الامام ابطال ذلك، و احتج علي الرشيد بلغته نفسها، فسلم علي النبي (صلي الله عليه و آله) باعتباره أباه، فهو أولي بالشرعية - اذن - من الرشيد. و كان الرشيد كثيرا ما يفتح الحوار مع الامام، بيد أنه يتحري مواطن الاحراج في ذلك، و كان الامام بين خيارين: اما أن يغضب السلطان، و اما أن تشوه الحقائق، فكان الامام (عليه‌السلام) يختار الخيار الأول، و كان هذا قدره عند الحاكمين. قال الرشيد للامام: لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) منا، و أنتم بنو علي... و النبي جدكم من قبل أمكم؟ فقال الامام: لو أن النبي (صلي الله عليه و آله) نشر فخطب اليك كريمك هل كنت تجيبه؟ فقال الرشيد: سبحان الله! و لم لا أجيبه؟ بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك. فقال الامام: لكنه (عليه‌السلام) لا يخطب الي، و لا أزوجه. فقال: لم؟ فقال الامام: لأنه ولدني و لم يلدكم [400] . [ صفحه 217] و في رواية: ان الامام قال للرشيد في هذه المسألة أو سواها: هل يجوز أن يدخل علي حرمك - يعني النبي - و هن منكشفات؟ فقال لا، قال الامام: لكنه يدخل علي حرمي كذلك، و كان يجوز له [401] . و يبدو أن مسألة النسب كانت الذريعة الوحيدة لبني العباس، لاثبات أنهم أولي بالنبي من أهل بيته، لكثرة ما سألوا الامام عن ذلك عسي أن يفحم، و لكنهم كانوا في وهم، فمتي كل الأئمة عن الاجابة في شي‌ء؟ سأل الرشيد الامام: كيف قلتم أنا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و انما العقب للذكر لا للأنثي، فائتني بحجة من كتاب الله... فقال الامام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين - و زكريا و يحيي و عيسي...) [402] . من أبوعيسي؟ فقال: ليس لعيسي أب. فقال الامام: «انما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم‌السلام) من طريق مريم و كذلك ألحقنا بذراري النبي (صلي الله عليه و آله) من قبل أمنا فاطمة. و زاده الامام قوله (تعالي): (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [403] . و لم يدع أحد أن النبي أدخل تحت الكساء الا علي بن أبي‌طالب، و فاطمة، و الحسن و الحسين، و كان تأويل قوله عزوجل «أبناءنا» الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة، و أنفسنا علي بن أبي‌طالب، ان العلماء قد [ صفحه 218] أجمعوا علي أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف الا ذوالفقار و لا فتي الا علي...» [404] . و كان الرشيد قد جند لقضية البنات و وراثة الأعمام شعراء البلاط العباسي و فقهاء السلاطين، لاثبات أن قرابتهم للنبي أولي من قرابة أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و قد تولي كبر ذلك مروان بن أبي‌حفصة قائلا: أني يكون و ليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام فرده جعفر بن عفان الطائي، و كان يلعن مروان و يقبح قوله، و أجابه: لم لا يكون و ان ذاك لكائن لبني البنات وراثة الأعمام للبنت نصف كامل من ماله و العم متروك بغير سهام ما للطليق... و للتراث... و انما صلي الطليق مخافة الصمصام [405] . و هي قضية باءت بالفشل، و لم تكن لتنطلي علي الشعب المسلم. و كان الأسلوب الاستفزازي للرشيد الذي يجابه به الامام، يدعو الامام أن يجيب بصراحة متناهية، و ذلك بسبب من الاحراج الكبير الذي تثيره هذه الأسئلة، فتجعل الامام مضطرا لبيان الأمر الواقع علي حقيقته المجردة، و لكنه يسنده الي القرآن العظيم الذي هو عدله. قال الرشيد للامام موسي بن جعفر: أسألك عن العباس و علي، بم صار علي أولي بميراث رسول الله (صلي الله عليه و آله) من العباس، و العباس عم رسول الله، و صنو أبيه؟ قال الامام: «ان النبي (صلي الله عليه و آله) لم يورث من قدر علي الهجرة فلم يهاجر، و ان عليا (عليه‌السلام) آمن و هاجر، و قال الله: [ صفحه 219] (و الذين آمنوا و لم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‌ء حتي يهاجروا)» [406] «فالتمع وجه الرشيد و تغير» [407] . و أضاف في البحار، فسأله الرشيد: أسألك يا موسي، هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا؟ أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشي‌ء؟ فقال الامام: «اللهم لا....» [408] . و تارة أخري يحرج الرشيد الامام بتنطعه في السؤال، و قد يستعفيه الامام من ذلك، و لكن الرشيد يصر اصرارا كبيرا، و يعطي الامام الأمان، فكان لابد للامام من الجواب. قال الرشيد: لم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلي الله عليه و آله) و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قد توفي أبوطالب قبله و العباس حي؟... قال الامام: ان في قول علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام): اذ ليس مع ولد الصلب - ذكرا كان أو أنثي - لأحد سهم الا للأبوين و الزوج و الزوجة، و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، و لم ينطق به الكتاب [409] . و بمثل هذا العنت، و بمثل هذه الأسئلة، و بمثل هذه الاجابة، كان قلب الرشيد يمتلي‌ء حقدا علي الامام، و الامام يعلم ذلك، و لا يستطيع الا قول الحق، اذ ليس مما ليس منه بد، و هكذا يشكل الامام موقفا حاسما لا تردد فيه و لا اضطراب. و لم تكن مجابهة الامام (عليه‌السلام) لفقهاء البلاط العباسي بأقل شأوا من مجابهته للسلاطين، فقد أورد الشيخ المفيد: ان محمد بن الحسن الشيباني [ صفحه 220] سأل الامام موسي بن جعفر بمحضر من الرشيد و هم بمكة؛ قال له: أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟ فقال الامام (عليه‌السلام): لا يجوز له ذلك مع الاختيار. فقال محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟ فقال له الامام: نعم، فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك. فقال له الامام الكاظم (عليه‌السلام): أفتعجب من سنة النبي (صلي الله عليه و آله) و تستهزي‌ء بها؟ ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كشف ظلاله في احرامه، و مشي تحت الظلال و هو محرم، و ان أحكام الله يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها علي بعض فقد ضل سواء السبيل. فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا [410] . و قد يفجأ الامام هؤلاء بنوع من علمه لا تصل اليه أحلامهم، و لا ترقي الي ادراكه عقولهم، فقد ورد في عدة مصادر: أن أبايوسف القاضي و محمد بن الحسن الشيباني زار الامام في السجن، و قال أحدهما للآخر: نحن علي أحد أمرين؛ اما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلا بالامام من قبل السندي، فقل: ان نوبتي قد انقضت و أنا علي الانصراف، فان كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؛ فقال: مالي حاجة. فلما أن خرج، قال الامام لأبي‌يوسف و صاحبه: ما أعجب هذا؟ يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع، و هو ميت في هذه الليلة!! فقاما، و قال أحدهما للآخر: انا جئنا لنسأله عن الفرض و السنة؛ و هو الآن جاء بشي‌ء آخر كأنه من علم الغيب!! [ صفحه 221] ثم بعثا برجل مع الرجل، فقالا: اذهب حتي تلزمه، و تنظر من أمره في هذه الليلة... فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الناعية و رأي الناس يدخلون داره، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات فلان في هذه الليلة... فانصرف الرجل الي أبي‌يوسف و محمد و أخبرهما الخبر، فأتيا أباالحسن (عليه‌السلام)، فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال و الحرام، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت الليلة؟ قال الامام (عليه‌السلام): من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام). فلما رد عليهما هذا، بقيا لا يحيران جوابا [411] . و هذا باب ملتئب لدي الامام فيه عشرات الأحداث شواهد علي الاخبار بعلم المنايا و آجال الناس، و كأنها مرهونة بكلامه، و لا تخطي‌ء و لا مرة واحدة، و دلائلها منتشرة في أمهات المصادر، و قد تقدم قسم كبير منها علم الامام الموهبي، و منها: عن اسحاق بن عمار، قال: سمعت العبد الصالح أباالحسن (عليه‌السلام) ينعي الي رجل نفسه، فقلت في نفسي: و انه ليعلم متي يموت الرجل من شيعته؟ فقال الامام شبه المغضب: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا و البلايا، فالامام أولي بذلك [412] . و في رواية أخري عن اسحاق أيضا قال: كنت عند أبي‌الحسن (عليه‌السلام)، و دخل عليه رجل فقال له أبوالحسن: يا فلان انك تموت الي شهر. [ صفحه 222] قال: فأضمرت في نفسي كأنه يعلم آجال شيعته؟ فقال الامام: «يا اسحاق، و ما تنكرون من ذلك؟ و قد كان رشيد الهجري مستضعفا، و كان يعلم علم المنايا و البلايا، فالامام أولي بذلك، ثم قال، يا اسحاق تموت الي سنتين، و يتشتت أهلك و ولدك و عيالك، و أهل بيتك...» [413] . و لا نريد الاسترسال في هذا الشأن لئلا نخرج عن صلب الموضوع. و في ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الامام في اللحظات الحاسمة؛ لا يتردد مطلقا في ابداء الحقائق مجردة حذر التضليل. [ صفحه 223]

الامام في غياهب السجون

رؤية مجهرية لأسباب سجن الامام

رأيت فيما سبق بيانه في الفصول المتقدمة، ما كان عليه الامام من عظيم المنزلة و سمو الذات، و ما احتل من شعبية عند الجماهير، و ما هو عليه من كيان رفيع لدي العلماء وقادة الفكر و حملة القرآن و رجال الحديث، و ما امتاز به من الخلق العظيم و كريم الشمائل، و ما جبل عليه نفسه من كظم الغيظ و ضبط النفس و سخاء اليد، و ما عرف به من الحلم و الصبر الجميل. و فوق هذا كله توجه النظر العقلي الي قيادته الدينية و امامته الشرعية، يضاف الي ذلك اندماجه الكلي في ذات الله، و نفاذ بصيرته بأمر الله، و تمتعه بتلك القابليات الفذة من العلم الفياض بشقيه الكسبي و اللدني، و كونه الامام الماثل الذي تشخص نحوه الأبصار عند الأزمات و الملمات. [ صفحه 224] و قد رأيت فيما مضي آراء الأساطين و الفحول و هي تقوم فضله و تشيد بمكارم أخلاقه و تنص علي خصائصه و مميزاته. كل أولئك مؤشرات بارزة السمات في حياة الامام، و قيادة الامام، و مكونات شخصية الامام. و الرشيد في تركيبه النفسي المعقد، و في طبيعة ما جبلت عليه ذاته من الأنانية، و ما اشتملت عليه تصرفاته الدالة علي حقده الدفين لأهل البيت (عليهم‌السلام)، و هو في قرارة نفسه يعلم من هو الامام، و يقر بما للامام من مثل و قيم لا تتوفر في سواه، و هو يري تدافع الفقهاء و المحدثين و أهل العلم علي جامعة الامام، و هو يري مدرسة الامام تشق طريقها في التشريع و الحياة و الاجتماع، و هو يري شطر المسلمين يقولون بامامة موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، حتي عاد الامام حديث المجالس و الأندية، و شغل المحافل و الدواوين. و هذا كله من أبرز العوامل المساعدة علي استفزاز الرشيد. و الرشيد أحرص الناس علي الحياة، و أحب الناس للسلطان، و أشد الناس طلبا للملك، فقد تسلمه بعد هن و هن، فهو لهذا لا يتورع عن اقتراف أية جريمة مهما كان نوعها، للابقاء - فيما زعم - علي الحكم، و قد هاله هذا الزخم الهائل من فضائل الامام، و قد روعه ذلك الرصيد الشعبي للامام، فهو يحمي ملكه، و يبقي علي نفسه، فيما يعتقده عندما يقدم علي اعتقال الامام. يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «لقد كان هارون يقظا، فكان يخرج بغير زيه متنكرا ليسمع أحاديث العامة، و يقف علي اتجاهاتهم و رغباتهم، فكان لا يسمع الا الذكر العاطر للامام و الثناء عليه، و حب الناس له، و رغبتهم في أن يتولي شؤونهم، فلذلك أقدم علي ارتكاب الموبقة» [414] . [ صفحه 225] و كانت البنية الخلفية للرشيد تتكي‌ء علي تركيب متدهور مريض، يفيض لؤما و حساسية من أهل هذا البيت الكريم، و هذا موسي بن جعفر زعيم العلويين و كبير الطالبيين، و هذا هو موقعه من الأمة و تلك مآثره في الآفاق، و أولاء شيعته في الحياة، فلماذا يبقي طليقا؟ و هو مصدر قلق و هلع، و لماذا لا يسجن؟ عسي أن تتفرق الجموع، و تتلاشي المخاوف، و يثبت السلطان. علي حين رأينا الامام في سيرته و مسيرته: صاحب دين لا صاحب دنيا، و رائد ايمان لا رائد سلطان، و رجل رسالة لا رجل سلطة. و لم تكن هذه الحقائق لتثني الرشيد عن عزمه في القضاء علي الامام. و كان للسعاية و الوشاية أثرهما في حنق الرشيد علي الامام، فبعض الأخبار تعزو سبب ذلك ليحيي بن خالد البرمكي، فقد سعي بالامام لدي الرشيد، لأن الرشيد جعل ابنه الأمين في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث و هو امامي، فساء ذلك يحيي، و اعتقد أن دولته و دولة أبنائه ستنتهي لدي تولي الأمين الخلافة، فهو سيستوزر ابن الأشعث باعتباره أستاذه، فسعي به الي الرشيد بحجة: أنه لا يصل اليه مال الا أخرج خمسه و وجه به الي موسي بن جعفر... فبعث الرشيد من يكتشف له أمر هبة أعطاها لابن الاشعث و هي عشرون ألف دينار، فأدخل عليه بعد الترويع ليلا... قال له: انك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير اليك بخمسه، و انك قد فعلت ذلك في العشرين ألفا، فأمر باحضارها علي حالها. و جعل يحيي يحتال في اسقاط جعفر، فأرسل الي علي بن اسماعيل بن جعفر (و قيل محمد بن جعفر) و قال له: أخبرني عن عمك، و عن شيعته، و عن المال الذي يحمل اليه... فقال: ان من كثرة ماله أنه اشتري ضيعة بثلاثين ألف دينار، فقال البائع: لا أريد هذا المال، و أريد نقدا آخر، فأمر بها الامام فصبت ببيت ماله، و أعطاه ذلك النقد الآخر... فلما أراد الرشيد [ صفحه 226] الرحلة الي العراق، بلغ الامام أن عليا ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان، فأرسل اليه: مالك و الخروج مع السلطان؟ قال: لأن علي دينا. قال الامام: دينك علي. قال: و تدبير العيال؟ قال: أنا أكفيهم. فأبي الا الخروج، فأرسل اليه الامام بيد أخيه محمد بن جعفر بثلاثمائة دينار، و أربعة آلاف درهم، فقال: اجعل هذا في جهازك و لا توتم ولدي [415] . و في رواية أخري أن محمد بن جعفر دخل علي الرشيد ثم قال له: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتي رأيت أخي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة. و كان ممن سعي بالامام يعقوب بن داود و كان يري رأي الزيدية [416] . و قيل: ان الواشي بالامام عند الرشيد: محمد بن اسماعيل بن جعفر [417] . و قد تعتبر هذه الوشاية أو تلك بداية المبررات لسجن الامام من قبل الرشيد، أو في الأقل من المشجعات عليه. بينما يري الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين أن سبب سجن الامام كان مرتبطا بحج الرشيد أول مرة بعد استخلافه، و زيارته قبر النبي، و قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم. فتقدم الامام الي القبر، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه. فتغير وجه الرشيد، و تبين الغيظ فيه فكتمه، و قال: هذا هو الفخر يا أباالحسن. [ صفحه 227] و المستنبط من مجموع روايات هذه الحادثة، و قد وردت في عدد غير قليل من المصادر المعتمدة [418] أن الرشيد قد صدمته هذه المفاخرة الصريحة أو المباهلة الجريئة، فأفسدت عليه مشاعر التعالي و لذة المباهلة، و حرمته من توهم قدرته علي خداع السامعين و المشاهدين بأنه أقرب الناس الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و يكون الأحق بالخلافة بحكم هذه القربي المتصلة الوشائج. و يبدو أن الامام قد أحس بهدف الرشيد من هذا الاعلان، فبادر الي اعلام جماهير الحاضرين: بأنه الأقرب رحما و نسبا، و الألصق لحمة و سببا، و أنه ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله) حقا علي رغم زيف المزيفين، و تضبيب المضببين. و تدلنا الأخبار المعنية بهذا الموضوع أن الرشيد بعد أن كتم غضبه و غيظه، لم يستطع نسيان ذلك أو اغفال أمره، بل يظهر بجلاء أن تلك المجابهة العنيفة المؤدبة من الامام موسي بن جعفر، قد هيمنت علي نفس الخليفة و أفكاره فأصبحت شغله الذهني الشاغل [419] . و مهما يكن من أمر، فقد يكون هذا هو السبب الرئيسي في اعتقال الامام، و يضاف اليه: أن لشخصية الامام القيادية أثرا كبيرا في اعتقاله، لأنه صاحب الكيان المتميز في الشعب المسلم. و لحقد الرشيد أثره الفاعل في اعتقال الامام، و للسعايات أثرها في التعجيل باعتقال الامام، و لحاشية السوء و بطانة الشر الأثر الكبير في تهييج الأحاسيس المضادة للامام، كما أن للأطماع سبيلها الي ذلك كله، فقد أجيز علي بن اسماعيل بمائتي ألف درهم، فجي‌ء بها اليه و هو في النزع الأخير، اذ زحر زحرة خرجت بها حشوته و أمعاؤه، فقال: ما أصنع بالمال و أنا في الموت [420] . [ صفحه 228] و قد اعتبر الأستاذ باقر شريف القرشي أن أهم أسباب اعتقال الرشيد للامام: سمو شخصية الامام - حقد هارون علي الامام - حرص الرشيد علي الملك - بغضه للعلويين - الوشاية بالامام - احتجاج الامام علي الرشيد - تعيين الامام لحدود فدك - صلابة موقف الامام موسي بن جعفر [421] . و أخيرا أقدم الرشيد علي فعلته النكراء فكان سفيها حقا، فحج البيت مبتدئا بقبر النبي (صلي الله عليه و آله) مخاطبا له: «يا رسول الله؛ اني أعتذر اليك من شي‌ء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسي بن جعفر، فانه يريد التشتت بين أمتك و سفك دمائها» [422] . و لست أدري كيف يقبل عذره؟ أو يقبل رسول الله عذره؟ و هو يريد اعتقال بضعة منه، و من ذا الذي يصدق هذا السفه اللا مسؤول الذي أطلقه الرشيد علي عواهنه؟ و متي أراد الامام تشتيت الأمة و هو الداعي الي وحدتها، و متي أراد سفك دمائها؟ و الحل و العقد بيد أبناء الطلقاء من العباسيين. ان هذا الاعتداء السافر علي حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان علي مسمع و مشهد من المسلمين، و هم يستمعون ذلك و يسخرون منه، و الرشيد ينتهك الحرمة و مقاييس الأدب بحضرة الرسول الأعظم، و الامام تقطع عليه صلاته و لا يمهل لاتمامها، و يؤخذ مكبلا بالحديد من مسجد جده، و هناك قبتان ضربت من دونهما الأشعار، لا يعلم الامام بأيهما هو، و تؤخذ واحدة بطريقها الي البصرة، و الأخري نحو الكوفة، ليعمي علي الناس خبره، و كان الامام في التي مضت الي البصرة [423] . [ صفحه 229] و هكذا ينتزع الامام جهارا من مدينة جده، و يتولي شؤونه في مسيرة هذا زمرة من الغلاظ الشداد، حيث تنتظره معتقلات الطاغية. و كان الامام قد استدعي الي بغداد في عهد المهدي و سجن في بغداد، فليس السجن علي الامام بجديد [424] .

ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون

كان الهدف الاستراتيجي من عملية سجن الامام - فيما يحسب الرشيد - هو تضييع خبر الامام، و ايقاف زحفه الهادر، عسي أن يتناساه الناس، و تمحي صورته عن الذاكرة، و من ثم يتم تنفيذ المخطط اللا انساني باغتياله مع سبق الاصرار، دون أدني ريب. و لم يكن الامام بالشخص الذي يتجاهل تأثيره الحكام و لا الطغاة، و لا هو بالرجل الاعتيادي الذي ان حضر لا يعد، و ان غاب لا يفتقد، فالصورة علي العكس تماما، فهو في ضمير الناس أمثولة تقتدي، و هو في حياة الناس الامام البر التقي النقي، و هو في الميدان العام سيد الموقف و رائد الحق الصريح، و السجن في مثل هذا الواقع الشاخص لا يغير شيئا من منزلة الامام، و لا يطوي صفحة لذكر الامام، و لا يحقق غاية يسعي لها النظام، فآثار الامام في حياة المجتمع المسلم لا تختفي بحال من الأحوال. و لم يكن الاستعجال بقتل الامام يمثل خطة سليمة في نظر الرشيد، فكان السجن هو الاختيار الأمثل عنده، عسي أن يكون السجن بديلا يستطيع فيه القضاء علي ذيوع شهرته، و عسي أن يقال: مرض، و اعتل، أو مات حتف أنفه، ليتخلص من أية مسؤولية. [ صفحه 230] هكذا أراد الرشيد، و هكذا خطط الرشيد. و ذهبت مصادر دراسة حياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) الي أن سجونه قد تعددت و تكررت، و أن مواضعها قد تنوعت و توزعت، و أنه سجن في البصرة مرة، و سجن في بغداد مرات. و كان في البصرة في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور الدوانيقي، و هو والي البصرة من قبل الرشيد، و قد نظر في شأن الامام و أمره، فذهل الرجل بعبادته و انابته، و أعجب بصبره و خلقه الرفيع، و استمع الي الامام في دعائه، و اذا به يقول: «اللهم، انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم و قد فعلت، فلك الحمد» [425] . و كان عيسي بن جعفر - فيما يبدو - عاقلا متأنيا، فما أراد أن يتورط في شي‌ء من أمر الامام، و يبدو أن الامام كان عنده موسعا عليه في سجنه، و قد أتيحت له فيه الحرية بعض الشي‌ء، اذ تمكن جملة من رواة الحديث من الاتصال بالامام و الاستماع اليه، و كان منهم ياسين الزياتي، فقد روي عن الامام بعض الأحكام و هو في سجن البصرة. و مكث الامام في سجن البصرة سنة، فتململ عيسي بن جعفر بذلك، ثم كتب الي الرشيد: أن خذه مني، و سلمه الي من شئت، و الا خليت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما أقدر علي ذلك، حتي اني لأتسمع عليه اذا دعا، لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو الا لنفسه، يسأل الرحمة و المغفرة. فوجه الرشيد من تسلمه منه [426] . و يبدو أن هذه الرسالة من عيسي الي الرشيد قد كتبت بعد أن اضطرب الوضع بالبصرة احتجاجا علي سجن الامام، و قد بلغ الرشيد ذلك، فبادر [ صفحه 231] بالطلب الي عيسي أن يقوم باغتيال الامام (عليه‌السلام) فجمع عيسي مستشاريه و عرض عليهم أمر الرشيد، فحذروه من قتل الامام فاستجاب لهم، و قد كان كارها لذلك، و كتب الي الرشيد يستعفيه من هذه المهمة، و يدل علي هذا الرسالة المفصلة التي بعث بها عيسي الي الرشيد، يقول فيها: يا أميرالمؤمنين، كتبت الي في هذا المجال، و قد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه، لينظروا حيلته و أمره و طويته ممن له المعرفة و الدراية، و يجري من الانسان مجري الدم، فلم يكن منه سوء قط، و لم يذكر أميرالمؤمنين الا بخير، و لم يكن عنده تطلع الي ولاية، و لا خروج، و لا شي‌ء من أمر الدنيا، و لا دعا قط علي أميرالمؤمنين، و لا علي أحد من الناس، و لا يدعو الا بالمغفرة و الرحمة له و لجميع المسلمين، مع ملازمته للصيام و الصلاة و العبادة، فان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني، و الا سرحت سبيله، فاني منه في غاية الحرج [427] . و يبدو من عرض هذه الرسالة و أسلوبها الرقيق أن عيسي بن جعفر أراد أن يخفف ما في نفس الرشيد عن الامام، فأنبأه بأنه في ظل رقابة صارمة، و أن عينا عليه في السجن يلحظه بدقة متناهية، ينظر في أمره و يوافيه بأخباره، و أنه لم يذكر الرشيد الا بخير، و أنه اختبره فوجده عازفا عن السلطان، لا يتطلع الي ولاية، و ليس من رأيه الخروج علي الرشيد، و طلب اليه تخلية سبيله، و اطلاقه من سجنه، و الا أطلق سراحه. و كان الامام قد قضي سنة كاملة في سجن عيسي، و استجاب الرشيد لطلب عيسي فنقله الي الفضل بن الربيع في بغداد [428] . [ صفحه 232] و لكن الذي يبدو من الأخبار، و يظهر للبحث أن الرشيد أودع الامام معه في قصره لدي جلبه الي بغداد، و من ثم سلمه لمدير شرطته عبدالله بن مالك الخزاعي، و هو ما رواه المسعودي، و أكده ابن‌طاووس، و نقله ابن‌خلكان، و ذكر عند القندوزي، و ابن‌حجر، و أورده المجلسي، و في هذا السجن لدي مدير الشرطة تم اطلاق سراح الامام، و يبدو أنه الاطلاق، ثم قبض عليه، و أودع سجن الفضل بن الربيع. هذا ما توصل اليه البحث، فقد حدث عبدالله الخزاعي بسند صحيح قال: دعاني هارون... فقال امض الي تلك الحجرة و خذ من فيها، و احتفظ به الي أن أسألك عنه، فدخلت و اذا هو موسي بن جعفر، فحملته و أدخلته داري، و كنت أتولي خدمته بنفسي، و مضت الأيام فلم أشعر الا برسول الرشيد يقول: أجب أميرالمؤمنين، فذهبت الي الرشيد، و أذن لي بالدخول، فوجدته قاعدا علي فراشه، فسلمت، فسكت ساعة، ثم قال لي: يا عبدالله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ اني رأيت الساعة حبشيا قد أتاني و معه حربة، فقال: ان لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة، نحرتك بهذه الحربة. فاذهب فخل سبيله. فقلت: أطلق موسي بن جعفر؟ ثلاثا، قال: نعم؛ امض الساعة حتي تطلق موسي بن جعفر، و أعطه ثلاثين ألف درهم، و قل له: ان أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب. و ان أحببت المضي الي المدينة فالأذن في ذلك اليك. قال: فمضيت الي الحبس... و خليت سبيله [429] . و اذا صحت هذه الرواية باطلاق سراح الامام فانه قد أبقي في بغداد في ظل اقامة جبرية، حتي استثني الرشيد من قراره فاعتقله عند الفضل بن [ صفحه 233] الربيع أحد وزرائه، فصيره في داره، و يبدو أن الفضل كان متحرجا من سجن الامام، أو في الأقل كان مرفها عليه في سجنه، فقد أعجب الفضل بعبادة الامام، و أطلع علي ذلك عبدالله الشزويني (القروي) و هو علي سطح داره، و حدثه عنه بقوله: «اني أتفقده الليل و النهار، فلم أجده الا علي الحال التي أخبرك بها: انه يصلي الفجر، و يعقب ساعة، و يسجد سجدة لا يزال بها حتي تزول الشمس... ثم يثب لصلاة الظهر... الي أن يفرغ من صلاة العصر... فاذا غابت الشمس و ثب فصلي المغرب... و لا يزال في صلاته و تعقيبه الي صلاة العتمة، ثم يفطر علي شوي... ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر... فاذا طلع وثب لصلاة الفجر [430] و أراده الرشيد علي قتل الامام فأبي ذلك [431] . و قال القروي للفضل: «اتق الله و لا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة... فقال الفضل: قد أرسلوا الي غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم لذلك، و أعلمتهم أني لا أفعل ذلك، و لو قتلوني ما أجبتهم الي ما سألوني» [432] . و يبدو أن الفضل بن الربيع أراد من الرشيد اطلاق الامام، و عاتبه علي التضييق عليه في الحبس، فأجابه هارون: هيهات لابد من ذلك. و يبدو أن هارون قد أطلق الامام بما رواه حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل نفسه، اذ دخل عليه مسرور الكبير، قائلا: أجب الأمير... فخرج معه الي الرشيد فقال له: تداخلك رعب؟ قلت: نعم، قال: صر الي حبسنا، فأخرج موسي بن جعفر بن محمد... و خيره بين المقام أو [ صفحه 234] الرحيل، فقلت: تأمر باطلاق موسي بن جعفر، قال: نعم؛ ويلك تريد أن أنكث بالعهد [433] . و أطلق سراح الامام موقنا، و قبض عليه، فسجن عند الفضل بن يحيي. فوسع علي الامام و أكرمه - في رواية - فاتصل ذلك بالرشيد و هو في الرقة، فكتب اليه الرشيد ينكر عليه توسيعه علي الامام، و أمره بقتله، فتوقف الفضل، و لم يقدم علي ذلك [434] . فأنفذ الرشيد مسرورا الخادم الي بغداد علي البريد، و أمره من فوره أن يدخل الي موسي بن جعفر فيعرف خبره، فان كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتابا منه الي العباس بن محمد و أمره باعتقاله، و أوصل كتابا آخر الي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس. فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيي، و لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل علي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فوجده علي ما بلغ الرشيد من السعة و الرفاهية، فأوصل لهما الكتابين، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض الي الفضل بن يحيي فركب معه، و خرج مشدوها دهشا حتي دخل علي العباس، فدعا بسياط و عقابين، فوجه ذلك الي السندي بالفضل فجرد، ثم ضربه مائة سوط، فخرج الفضل متغير اللون خلاف ما دخل، فأذهبت نخوته، فجعل يسلم علي الناس يمينا و شمالا. و كتب مسرور بالخبر الي الرشيد فأمر بتسليم الامام الي السندي بن شاهك، و جلس مجلسا حافلا سب به الفضل بن يحيي و أمر بلعنه، حتي تدارك ذلك أبويحيي بن خالد، فساوي الأمر [435] . [ صفحه 235] و هذه المرويات تشير أن الفضل بن يحيي قد وسع علي الامام لما رآه من حسن سمته، و رفيع عبادته، و انقطاعه الي الله تعالي، و عزوفه عن الدنيا و الجاه و السلطان. بينما تقول بعض الروايات: ان البرامكة بما فيهم الفضل و أبوه كانوا من أعداء الامام، حتي روي أن الفضل قدم للامام مائدة فيها السم، و استدعي له الطبيب، فأراه الامام راحته و كانت خضرة، تدل علي أنه قد سم، فانصرف الطبيب قائلا: و الله لهو أعلم بما فعلتم به منكم [436] . و قد ورد عن الامام علي بن موسي الرضا تصديق ذلك، فقد قال لأحمد بن محمد بن أبي‌نصر من حديث: «ان الله يدافع عن أوليائه، و ينتقم لأوليائه من أعدائه، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك، و ما انتقم لأبي‌الحسن (عليه‌السلام)» [437] . هذا ملخص تأريخي اجمالي بسجون الامام في عهد الرشيد، و قد تناوب عليها: في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور في البصرة، و نقل الي بغداد فسجن فيها عدة مرات، فكان من سجونه قصر الرشيد، ثم سلمه الي مدير شرطته و الموكل بقصره: عبدالله بن مالك الخزاعي، ثم أطلق، و أبقي في بغداد، و قبض عليه و سجن عند الفضل بن الربيع مرفها عليه، ثم أطلق لكرامة له، و قبض عليه أخيرا، فسجن عند الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي، فوسع علي الامام، و عاقبه الرشيد علي ذلك، و قيل علي العكس من هذا، ثم أمر به الي سجن السندي بن شاهك، و كان سجنه من أضيق السجون معاملة مع الامام، و من أشد المعتقلات عليه. [ صفحه 236] و كان موقع هذا السجن في دار المسيب قرب باب الكوفة، و باب الكوفة يقع اليوم - كما في خارطة بغداد - في منطقة «الوشاش» و هي احدي أحياء محلة الكرخ ببغداد. يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «و سمعت من الأفواه أن المحل الذي سجن به الامام معروف لدي الأوساط البغدادية، و هو أحد قصور آل الباججي» [438] . و قيل: ان الامام سجن في دار السندي بن شاهك نفسه، و قد يدل علي ذلك أن أخت السندي سألت أخاها أن تتولي أمر هذا العبد الصالح في حبسه - و كانت من المتدينات - فوافق علي ذلك فكانت علي خدمته، و حكي أنها قالت: «كان اذا صلي العتمة حمد الله و مجده و دعاه، فلم يزل كذلك حتي يزول الليل، فاذا زال الليل قام يصلي حتي يصلي الصبح، ثم يذكر حتي تطلع الشمس، ثم يقصد الي ارتفاع الضحي، ثم يتهيأ و يستاك، و يأكل، و يرقد الي الزوال، ثم يتوضأ و يصلي، ثم يذكر في القبلة حتي يصلي للمغرب، ثم يصلي ما بين المغرب الي العتمة، فكانت تقول: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» [439] . و قد ضيق السندي علي الامام أشد التضييق بأمر مباشر من هارون الرشيد، و أوعز اليه أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد، و يقفل الباب في وجهه، و لا يدعه يخرج الا للوضوء، فامتثل السندي ذلك، و نفذ ما أراد الرشيد [440] . [ صفحه 237] و كان القبض علي الامام قد تم من قبل الرشيد لأول مرة لعشر ليال بقين من شهر شوال عام 179 ه، و ما انفك كما رأيت، ينقل بين السجون، حتي توفي مسموما في سجن السندي بن شاهك لخمس بقين من شهر رجب عام 183 ه علي المشهور [441] . و علي هذا فقد قضي الامام في غياهب السجون خمس سنوات الا شهرين و نصف الشهر بالضبط. و كانت هذه المدة حقبة انقطاع للامام عن شيعته الا لماما، و كانت حياته في السجن حياة ابتهال و تهجد و صلوات و دعاء، و لم تكن تقتصر علي ذلك من النشاط الروحي، فهناك أنشطة ذات بال ستراها في المبحث الآتي.

حياة الامام في طوامير السجون

أرأيت طهر السماء، و نقاء الأفق، و صفاء البحر؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر في ضميره الزكي النابض، و اذا به يمني بعصف الرياح، و تلبد الأجواء، و مرارة الارهاب. أرأيت عزة الخليل، و مهابة الكليم، و قداسة المسيح؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر، و هو يعايش سلاطين الجور، و جلاوزة الطغيان، و أجهزة القمع. أرأيت محمدا في قيادته، و عليا في شجاعته، و الزهراء في عفتها، و الحسن في صبره، و الحسين بنضاله، و زين‌العابدين في دعائه، و محمدا الباقر في أصالته، و جعفر الصادق في علمه؟ ذلك هو الامام موسي بن [ صفحه 238] جعفر، وارثهم جميعا؛ مغيبا بين جدران السجون، و مكبلا بأثقال الحديد، يتجرع الغصص و الاغتراب. هكذا أراد الرشيد، و هو القائل عن الامام: «أما ان هذا من رهبان بني‌هاشم». فقيل له: فما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟. قال: هيهات، لابد من ذلك [442] أجل، لقد ضيق الرشيد علي الامام، و في سجن السندي بالذات، فما بدا من الامام اعتراض، و لا حاول اطلاق سراحة بوسيلة، بل ترفع عن التنازل لهارون، و أبي‌وساطة أي انسان في شأنه، و امتنع عن تلبية الراغبين بذلك، و قال لهم: «حدثني أبي عن آبائه، أن الله عزوجل أوحي الي داود: يا داود ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني، و عرفت ذلك منه، الا قطعت عنه أسباب السماء، و أسخت الأرض من تحته» [443] . و كان منهجه في السجن المواظبة المثلي علي العبادة الخالصة، و الانابة و الخشوع و التسليم، قال الشيخ المفيد، و هو يتحدث عن حال الامام في السجن: «و كان (عليه‌السلام) مشغولا بالعبادة، يحيي الليل كله صلاة، و قراءة قرآن، و دعاء، و اجتهادا، و يصوم النهار أكثر الأيام، و لا يصرف وجهه عن المحراب» [444] . و في قبال هذا التوجه العبادي، كان الامام محاطا بزمر أهل المعاصي و مرتكبي الكبائر، و لا حول و لا طول لديه علي التغيير. فقد حدث كاتب [ صفحه 239] عيسي بن جعفر، و الامام سجين لديه، قال: «لقد سمع هذا الرجل الصالح - يعني الامام - في أيامه هذه؛ في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش و المناكير ما أعلم و لا أشك أنه لم يخطر بباله» [445] . و كانت الحياة العلمية و هو سجين تنام و تستيقظ، فقد يسمح السندي بلقاء الامام من قبل العلماء، و قد يسمح بتبليغه الرسائل من أوليائه، و قد يوصل الأجوبة من قبل الامام الي السائلين. و يعتبر الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين: أن هذه الأساليب التي سلكها السندي من جملة طرائقه في التغطية و التمهيد لقتل الامام [446] . و قد يكون ذلك من بواعث التعتيم علي معاناة الامام لجملة الضغوط و المضايقات، فيشاع أنه يتمتع بحرية و استقلالية، بحيث تصله رسائل شيعته، و حيث يجيب عليها بمحض ارادته و اختياره. فقد روي عن علي بن سويد الطائي، قال: كتب الي أبوالحسن الأول (عليه‌السلام) في كتاب: «ان أول ما أنعي اليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع، و لا نادم، و لا شاك فيما هو كائن، مما قضي الله و حتم، فاستمسك بعروة آل محمد، و العروة الوثقي الوصي بعد الوصي، و المسالمة و الرضا بما قالوا» [447] . و كما في رواية الحسين بن المختار، قال: «خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي، و هو في الحبس...» [448] . [ صفحه 240] و قد تتأخر اجابة السؤال من قبل الامام لأسباب أمنية فرضت عليه، أو لأسباب تتعلق بالامام، فعن علي بن سويد، قال: كتبت الي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) و هو في الحبس كتابا، أسأله عن حاله، و عن مسائل كثيرة، فاحتبس الجواب علي أشهرا!! ثم أجابني بجواب مفصل، ورد فيه بعد حمد الله و الثناء عليه، قوله: «أما بعد؛ فانك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، و حفظ ما استرعاك من دينه، و ما ألهمك من رشده، و بصرك من أمر دينك...» ثم نعي الامام نفسه لابن سويد، و أجابه عن عدة مسائل مسائل فقهية في الغصب و الشهادات، و مسألة كلامية في مدي علم أهل البيت [449] . و كانت مدرسة الامام قد انتشر روادها في الآفاق و هو في السجن، فكانت اجابات الامام يذاع خبرها بانتظام رغم الرصد و العيون، و سبب ذلك أن التشيع قد استطار في الأقاليم الاسلامية و شاع، و كان العلماء و الوكلاء يقومون بالمهمات في التبليغ و الدعوة، و يتعاونون علي تسلم الحقوق المالية و يصرفونها في مواقعها الشرعية، كما أشار لمواليه بالامام من بعده، و نص علي ولده علي الرضا قائلا: «ان ابني «علي» أكبر ولدي، و آثرهم عندي، و أحبهم الي، و هو ينظر معي في الجفر، و لم ينظر فيه الا نبي أو وصي نبي» [450] . و كما عن الحسين بن المختار، قال: خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) و هو في الحبس: عهدي الي أكبر ولدي [451] . و بذلك لم يترك الامام الأمة سدي بل نص علي حجة الله في خلقه. و أدي الأمانة التي استحفظ عليها، كما أوصي و أوقف و حرر كما سنري. [ صفحه 241]

الامام يوصي بأمواله و يوقف أراضيه

و شعر الامام (عليه‌السلام) بدنو أجله و نهاية أيامه و اخترام عمره الشريف ف «لكل أجل كتاب» و لكل بداية نهاية، و لأنه يتعايش مع الخطر المحدق به ليل نهار، يصبح الوحدة القاتلة في سجنه، و يمسي الغربة الموحشة في ليله. و كان هذا الشعور من الامام يمثل انقداحا روحيا في لمح الغيب القريب، فأعد لذلك عدته في وصية كثبية، أشهد عليها الأعيان من أهل بيته و أصحابه، و كانت هذه الوصية نموذجا فريدا لما ينبغي علي المسلم لدي احساسه بالموت. أشهد الامام الشهود، و أشهد نفسه: «أنه يشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله، و أن الساعة آيتة لا ريب فيها، و أن الله يبعث من في القبور، و أن البعث بعد الموت حق، و أن الحساب و القصاص حق، و أن الوقوف بين يدي الله عزوجل حق، و أن ما جاء به محمد (صلي الله عليه و آله) حق، و أن ما نزل به الروح الأمين حق، علي ذلك أحيا، و عليه أموت، و عليه أبعث ان شاء الله، أشهدهم أن هذه وصيتي بخطي... و أوصيت بها الي «علي» ابني، و بني بعده ان شاء و أنس منهم رشدا، و أحب اقرارهم فذلك له، و ان كرههم و أحب أن يخرجهم فذلك له، و لا أمر لهم معه. و أوصيت اليه بصدقاتي و أموالي و صبياني الذين خلفت و ولدي... و الي علي أمر نسائي دونهم، و ثلث صدقة أبي و أهل بيتي يضعه حيث يري، و يجعل منه ما يجعل ذو المال في ماله... و ان أحب أن يبيع، أو يهب، أو ينحل، أو يتصدق علي غير ما وصيته فذاك اليه، و هو أنا في وصيتي في مالي، و في أهلي و ولدي. [ صفحه 242] و ان رأي أن يقر اخوته الذين سميتهم في صدر كتابي هذا أقرهم، و ان كره أن يخرجهم غير مردود عليه، و ان أراد رجل أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها الا باذنه و أمره. و أي سلطان كشفه عن شي‌ء، أو حال بينه و بين شي‌ء مما ذكرت في كتابي، فقد بري‌ء من الله تعالي و من رسوله... ولي عنده مال، و هو مصدق فيما ذكر من مبلغه ان أقل أو أكثر، فهو الصادق... و ليس لأحد أن يكشف وصيتي، و لا ينشرها و هي علي ما ذكرت و سميت... و من أساء فعليه، و من أحسن فلنفسه، و ما ربك بظلام للعبيد» [452] . و أنت تري ما في هذه الوصية - و قد اختزلتها لك اختزالا - من التأكيد علي عقيدة التوحيد، و النبوة، و المعاد يوم القيامة، و ما يستلزم ذلك من بعث و نشور و حساب و وقوف بين يدي الله تعالي، و أن ما نزل به روح الأمين من القرآن و الشريعة حق، و أنه يحيا و يموت و يبعث علي هذا. و الملفت في الوصية حقا تأكيده الشامل علي ولده الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام)، في تمييزه علي ولده، و رعايته لشؤونه، و عنايته بادارته، و اقراره علي ادارة أمواله و صدقاته و القصر من أبنائه، بل علي جميع ولده، كما جعل له أمر نسائه و أخواته دونهم، و بصرف ثلث صدقة أبيه أني يري، و حيث يشاء، كما خوله تخويلا مطلقا بأمواله، و ما يصنع فيها من هبة أو نحلة أو بيع أو صدقة و نحو ذلك فيما لم تشتمل عليه الوصية. ثم اعتره نفسه في الوصية و المال و الأهل و الولد، و له اقرار أبناء الامام الذين ذكرهم في وصيته، و له أيضا اخراجهم. و جعل أمر بناته بيده، و لا يزوج أحد احداهن الا باذن الرضا و أمره، و لا سلطان لأحد عليه في جميع وصيته، و أي سلطان [ صفحه 243] حال بينه و بين تنفيذها فقد بري‌ء من الله و رسوله، و أبان الامام في ختام الوصية أن له مالا عند ولده الرضا، و هو مصدق فيما ذكره عنه قل أو كثر، و شهد بحقه بأنه الصادق. و يبدو بكل وضوح من لوازم هذه الوصية و نصوصها و فقراتها، أنها نص لا يقبل الشك علي امامة ولده الرضا، و هو كذلك، و يأتي هذا بعد أن نص عليه أمام جماعات كثيرة و أشهدهم علي ذلك. و يبدو أن للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) صدقات جارية، و أراضي زراعية عامرة، نص علي جعلها وقفا ذريا في وصيته قال فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تصدق به موسي بن جعفر، تصدق بأرضه مكان كذا و كذا... كلها، نخلها، و مائها، و أرجائها، و حقوقها، و شربها من الماء، و كل حق هو لها، في مرفع، أو مظهر، أو عنصر، أو مرفق، أو ساحة، أو مسيل، أو عامر، أو غامر، تصدق بجميع حقه من ذلك علي ولده من صلبه الرجال و النساء، يقسم ما أخرج الله عزوجل من غلتها - بعد الذي يكفيها في عمارتها و مرافقها، و بعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين أهل القرية - بين ولد موسي بن جعفر، للذكر مثل حظ الأنثيين، فان تزوجت امرأة من ولد موسي بن جعفر، فلا حق لها في هذه الصدقة حتي ترجع اليها بغير زوج، فان رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسي، و من توفي من ولد موسي و له ولد، فولده علي سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين علي مثل ما شرط موسي بين ولده من صلبه، و من توفي من ولد موسي و لم يترك ولدا رد حقه علي أهل الصدقة. و ليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق، الا أن يكون آباؤهم من ولدي. و ليس لأحد في صدقتي حق من ولدي و ولد ولدي و أعقابهم ما بقي منهم أحد، فان انقرضوا و لم يبق منهم أحد، فصدقتي علي ولد أبي [ صفحه 244] من أمي - ما بقي منهم أحد - ما شرطت بين ولدي و عقبي، فان انقرض ولد أبي، و أعقابهم ما بقي منهم أحد، فان لم يبق منهم أحد، فصدقتي علي الأولي فالأولي حتي يرث الله الذي ورثها و هو خير الوارثين. تصدق موسي بن جعفر بصدقته هذه، و هو صحيح صدقة حبيسا بثا بثلا، لا مثنوية فيها و لا رد أبدا، ابتغاء وجه الله تعالي و الدار الآخرة، و لا يحل لمؤمن يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يبيعها، أو يبتاعها، أو يهبها، أو يغير شيئا مما وضعتها عليه، حتي يرث الله الأرض و من عليها» [453] . و يخلص لنا من هذه الوقفية أن الامام (عليه‌السلام) بضبطها و احكامها، و تفصيلها و جزئياتها، و ادخال من أراد ادخاله، و اخراج من أراد اخراجه، انما يريد أن يوجهنا في أعمالنا و وصايانا و أموالنا و صدقاتنا الوجه الصحيح المحكم، بحيث يكون ما يريده صاحب المال هو الأصل فيما يعمل به، و أن تكون الوصية جامعة مانعة فلا يدخل فيها ما يراد اخراجه، و لا يخرج منها ما يراد ادخاله، و أن ذلك جميعا ابتغاء وجه الله تعالي و اليوم الآخر. و من هنا نعرف أن موارد سخاء الامام و عطاياه و هباته و صراره و منحه، انما كانت من خالص ماله و طيب حلاله. [ صفحه 245]

الامام في مدارج الشهادة

فزع الرشيد من منزلة الامام

انتشر ذكر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الأقاليم الاسلامية انتشار النار في الحطب الجزل، فقد تناقل الناس أخباره في العلم و الحلم و الورع و التقوي و الانابة و الاخبات لله تعالي. و كان الرشيد أعرف الناس بهذه الحقائق، و أجرأ الناس علي تغافلها، و كان الترف السياسي قد طفح الكأس بأنبائه بين صفوف الشعب، و بلغ الاستياء حده من الأثر و الطغيان اللذين طبع عليهما النظام العباسي، و انكمش الناس من الجور و الاستعباد، و سئم المجتمع العراقي بخاصة من حياة اللهو و العبث و المجون. هذا و أمثاله كاد أن يطوي بساط الشرعية من تحت هارون و ولاته و عماله في الميدان السياسي، أما في الميدان الديني فلا شرعية للحكم من قبل أبناء [ صفحه 246] الطلقاء تجاه أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا. و كان لابد للرشيد من اشغال الناس عن النظر في شأن الحكم، فأعلن الأحكام العرفية ليقمع كل تفكير - فضلا عن التحرك ضد النظام في مآسي الحكم و شؤون الدولة حتي قال الناس: انج سعد فقد هلك سعيد، هذا من جهة، و من جهة أخري عمد الرشيد الي سياسة التبعيد و التشريد مضافا الي سياسة كبت الحرية، فقد قذف بالشباب المسلم في لهوات الحروب، و أشغل الفكر العام بالبعوث و ارسال الكتل البشرية نحو الثغور، و هو لا يهمه بذلك أمر الاسلام في شي‌ء، و انما همه الوحيد هو تثبيت دعائم الملك. و كانت شعبية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تخترق كل الحواجز التي وضعها الرشيد في سبيله، لا بقوة عسكرية، و انما بذلك التغلغل العقائدي الذي تتنطوي عليه قلوب المسلمين ولاء و ايمانا و حبا بقيادة أهل البيت (عليهم‌السلام)، و هنا مصدر الخطر علي السلطة حيث أن هذا التغلغل في الفكر و الضمير انما يكتسب نفوذه العام من خلال قناعات ثابتة، تجعل القوة الي جنب الكتاب في استيحاء الأسس الفكرية للاسلام، و هذا ما يخيف الحاكمين و يجعلهم في فزع و هلع شديدين، لأن هذا المنظور الخارق انما ينطلق من صميم المشاعر الانسانية دون تأثير خارجي، أو دعم سلطوي، أو اجراء سياسي، فهو انطلاق داخلي يجري في الانسان مجري الدم في الأوردة و الشرايين. و كان الرشيد يعرف هذا جيدا بالنسبة للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، فهو و ريث هذه الأطروحة الضخمة التي تجعل مصير السلطان في مهب الريح، و تجعل أتباعه و أولياءه في قلق مستمر، اذن الدولة في نظره في معرض الخطر من هذه الأحاسيس التي يمتلك أمرها الامام. و مع علم الرشيد أن ليس من وكد الامام و لا من شأوه نشدان الحكم و لا تطلب السلطان، الا أن هواجس الخوف و الذعر من مكانة الامام تجعله [ صفحه 247] يفكر جديا في التخلص منه بشتي الوسائل، دون أن يثير حفيظة المتسائلين أو الاهتمام الجماهيري. و كان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من أدري الناس بهذه الارهاصارت لدي الرشيد، فقد يجامله مرة، و قد يتقيه أخري، و قد يتقرب منه ثالثة، و قد يذكره الرحم فيمسه سوي ذلك، و قد يروي له في ذلك «أن الرحم اذا مست الرحم تحركت و اضطربت» [454] كما قد يجابهه في مرارة و اصرار اذا اقتضت المصلحة العليا ذلك [455] . و قد رأيت فيما سبق أن الرشيد كان مصمما علي سجن الامام فسجنه حتي انتهي به المطاف الي سجن السندي بن شاهك، فكانت كرامات الامام يتصل بعضها ببعض، و فضائله تسير مسير الشمس، فاستنجد الرشيد بيحيي بن خالد البرمكي، و قال له: «يا أباعلي؛ أما تري ما نحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا يريحنا من غمه؟ فقال يحيي بن خالد: الذي أراه لك أن تمن عليه، و تصل رحمه، فقد و الله أفسد علينا قلوب شيعتنا. فقبل ذلك منه، و أمره بفك القيود عنه و اطلاقه بشرط الاعتراف بالاساءة. فامتنع الامام (عليه‌السلام)، و قال ليحيي: يا أباعلي؛ أنا ميت، و انما بقي من أجلي أسبوع... يا أباعلي؛ أبلغه عني، يقول لك موسي بن جعفر: رسولي يأتيك يوم الجمعة، فيخبرك بما تري، و ستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم و المعتدي علي صاحبه؟ و السلام. [ صفحه 248] فأخبر يحيي الرشيد بذلك، فقال الرشيد: «ان لم يدع النبوة بعد أيام، فما أحسن حالنا». فلما كان يوم الجمعة توفي الامام [456] . و مهما يكن من أمر، فان الامام قضي في سجن السندي أضيق أيام حياته، و لم يمكث بعدها في السجن، اذا قضي عليه الرشيد بالسم. و هذا ما يحتاج الي شي‌ء من العرض الدقيق.

اغتيال الامام بالسم

ذهب أغلب المؤرخين الي أن الامام مات مسموما في سجن السندي بن شاهك، و انفرد أبوالفرج الأصبهاني بأن الامام لف في بساط و هو حي، فجلس عليه السجانون حتي توفي [457] . و وافقه ابن‌عنبة بالقول: بأنه لف في بساط و غمز حتي مات [458] . الا أن الروايات الأكثر شيوعا: أن الامام دس له السم في سجن السندي بأمر الرشيد فمات مسموما، و هذه الروايات يمكن تصنيفها كالآتي: 1 - ان السندي بن شاهك حضر، بعدما كان بين يدي الامام السم في عشر رطبات، و أنه (عليه‌السلام) أكلها. فقال له السندي: تزداد؟ فقال (عليه‌السلام) له: حسبك فقد بلغت ما يحتاج اليه في ما أمرت به. ثم ان السندي أحضر القضاة و العدول قبل وفاته بأيام، و أخرجه اليهم، و قال: ان الناس يقولون: ان أباالحسن موسي في ضنك و ضر، و ها هو ذا لا علة به و لا مرض، و لا ضر. [ صفحه 249] فالتفت الامام (عليه‌السلام)، فقال لهم: اشهدوا علي أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم، و سأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، و أصفر غدا صفرة شديدة منكرة، و أبيض بعد غد، و أمضي الي رحمة الله و رضوانه، فمضي (عليه‌السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث [459] . 2 - ان يحيي بن خالد البرمكي خرج علي البريد حتي وافي بغداد، فماج الناس و أرجفوا بكل شي‌ء، و أظهر أنه ورد لتعديل السواد، و النظر في أمور العمال، و تشاغل ببعض ذلك أياما، ثم دعا السندي بن شاهك، فأمره بأمره فامتثل، و كان الذي تولي به السندي قتله (عليه‌السلام)، سما جعله في طعام قدمه اليه. و يقال: انه جعله في رطب أكل منه، فأحس بالسم، و لبث بعده ثلاثا موعوكا منه، ثم مات في اليوم الثالث [460] . 3 - ان يحيي بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام بأمر الرشيد مباشرة: فعن عبدالله بن طاووس، قال: قلت للرضا (عليه‌السلام): ان يحيي بن خالد سم أباك موسي بن جعفر صلوات الله عليهما؟ قال: نعم، سمه في ثلاثين رطبة [461] . 4 - و في عيون الأخبار جاء النص الآتي: «ثم حبس - يعني الامام موسي بن جعفر - و سلم الي السندي بن شاهك، فحبس، و ضيق عليه، ثم بعث اليه الرشيد بسم في رطب، و أمره أن يقدمه اليه، و يحتم عليه في تناوله منه، ففعل، فمات صلوات الله عليه» [462] . [ صفحه 250] و كانت هنالك محاولة سابقة لسم الامام في الرطب في رواية عمر بن واقد، قال: ان هارون الرشيد لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، و ما كان يبلغه من قول الشيعة بامامته، و اختلافهم في السر اليه بالليل و النهار خشية علي نفسه و ملكه، ففكر في قتله بالسم، فدعا برطب فأكل منه، ثم أخذ صينية فوضع فيها عشرين رطبة، و أخذ سلكا فعركه في السم، أدخله في سم الخياط، و أخذ رطبة من ذلك الرطب، فأقبل يردد اليها ذلك السم بذلك الخيط، حتي علم أنه قد حصل السم فيها، فاستكثر منه، ثم ردها في ذلك الرطب، و قال لخادم: احمل هذه الصينية الي موسي بن جعفر، و قل له: ان أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب، و تنغص لك به، و هو يقسم عليك بحقه لما أكلتها عن آخر رطبة... فتحاشي الامام هذه الرطبة في حديث طويل، فباءت المحاولة بالفشل [463] . و لئن باءت هذه المحاولة بالفشل فما باءت المحاولات الأخري. و مهما يكن من أمر فان الوثائق التأريخية المعتمدة تشير أن الامام (عليه‌السلام) مات مسموما علي يد السندي بأمر الرشيد [464] . و مما يؤكد هذا الرأي ما رواه الشيخ المفيد: ان الامام لما حضرته الوفاة سأل السندي بن شاهك أن يحضر مولي له مدنيا ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولي غسله و تكفينه ففعل ذلك. [ صفحه 251] قال السندي: فكنت أسأله في الاذن أن أكفنه فأبي، و قال: «انا أهل بيت مهور نسائنا، و حج صرورتنا، و أكفان موتانا، من طاهر أموالنا، و عندي كفني، و أريد أن يتولي غسلي و جهازي مولاي فلان، فتولي ذلك منه» [465] . و هكذا تنطوي حياة الامام في ظل الارهاب السياسي.

الاشهاد علي وفاة الامام

و حينما وقعت الجريمة النكراء باغتيال الامام مسموما، قام الرشيد و السندي كلا علي سبيله، و في طريقته الخاصة، بحملة اعلانية لغرض التعتيم علي الحدث، و التستر علي الجريمة، و ذلك باستدعاء الشهود، و ايقافهم علي جثمان الامام ليشهدوا أنه مات حتف أنفه. أورد الصدوق عن محمد بن صدقة العنبري، قال: «لما توفي أبوابراهيم موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبية، و بني العباس، و سائر أهل المملكة، و الحكام؛ و أحضر أباابراهيم موسي بن جعفر فقال: هذا موسي بن جعفر قد مات حتف أنفه، و ما كان بيني و بينه ما أستغفر الله منه في أمره، يعني في قتله، فدخل عليه سبعون رجلا من شيعته، فنظروا الي موسي بن جعفر و ليس به أثر جراحة أو خنق» [466] . و قام السندي بدوره عندما أخذ السم يسري في بدن الامام، و هو في سبيله الي الشهادة، فقد روي أن السندي جمع ثمانين رجلا من الوجوه ممن ينسب الي الخير، فأدخلهم علي الامام موسي بن جعفر، و قال: يا هؤلاء انظروا الي هذا الرجل هل حدث به حدث؟ [ صفحه 252] فان الناس يزعمون أنه قد فعل مكروه به، و يكثرون في ذلك، و هذا منزله و فرشه موسع عليه غير مضيق، و لم يرد به أميرالمؤمنين سوءا، و انما ينتظره أن يقدم فيناظره أميرالمؤمنين، و ها هو ذا صحيح موسع عليه في جميع أمره فاسألوه. قال الراوي: و نحن ليس لنا هم الا النظر الي الامام، و الي فضله و سمته، فقال الامام: أما ما ذكر من التوسعة و ما أشبه ذلك فهو علي ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر: «أني قد سقيت السم في تسع تمرات، و اني أخضر غدا، و بعد غد أموت». قال الراوي: فنظرت الي السندي بن شاهك يرتعد و يضطرب مثل السعفة [467] . و في رواية عمر بن واقد، قال: أرسل الي السندي في الليل يستحضرني... فحضرت، فقال: أتعرف موسي بن جعفر؟ فقلت: أي و الله اني لأعرفه. و بيني و بينه صداقة منذ دهر. فقال: من ههنا ببغداد يعرفه ممن يقبل قوله؟ فسميت أقواما... فبعث و جاء بهم، و قال: هل تعرفون أقواما يعرفون موسي بن جعفر؟ فسموا له قوما فجاء بهم، فأصبحنا و نحن في الدار (نيف و خمسون) [468] رجلا ممن يعرف موسي بن جعفر (عليه‌السلام) و قد صحبه... فأدخلنا، فقال لي: يا أباحفص؛ اكشف الثوب عن وجه موسي بن جعفر، فكشفته فرأيته ميتا فبكيت و استرجعت. ثم قال للقوم؛ انظروا اليه؛ فدنا واحد بعد واحد فنظروا اليه؛ ثم قال: تشهدون كلكم أن هذا موسي بن جعفر؟ فقلنا نعم نشهد... فقال: أترون [ صفحه 253] به أثرا تنكرونه؟ فقلنا: ما نري به شيئا و لا نراه الا ميتا [469] و في ذلك أورد اليعقوبي: أن السندي أحضر القواد و الهاشميين و القضاة، و من حضر ببغداد من الطالبيين» [470] لغرض الشهادة أن الامام مات حتف أنفه. و في رواية أن السندي أدخل علي الامام الفقهاء و وجوه بغداد، و فيهم الهيثم بن عدي و غيره، فنظروا اليه لا أثر به من جراح و لا خنق، و أشهدهم أنه مات حتف أنفه، فشهدوا علي ذلك [471] . و حينما أخرج جثمان الامام، وضع علي الجسر ببغداد، و نودي عليه: هذا موسي بن جعفر قد مات، فانظروا اليه، فجعل الناس يتفرسون في وجهه و هو ميت؛ و قد كان قوم زعموا في أيام موسي (عليه‌السلام) أنه القائم المنتظر، و جعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم، فأمر يحيي بن خالد أن ينادي عليه عند موته: «هذا موسي بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه هو القائم الذي لا يموت، فانظروا اليه، فنظر الناس اليه ميتا» [472] و استمر هذا التضليل الاعلامي بالتمويه، أن الامام مات حتف أنفه حتي نقله الي مثواه الأخير، و وضعه علي شفير القبر، فقد أمر السندي بن شاهك خليفته و كان مع الجنازة، و قد وضعت علي شفير القبر، أن اكشف وجهه للناس، قبل أن تدفنه حتي يروه صحيحا لم يحدث به حدث قال: فكشفت عن وجه مولاي حتي رأيته و عرفته، ثم غطي وجهه...» [473] . و هكذا تمر هذه المأساة الارهابية في ظل اجراءات ارهابية، فالشهود ان لم يشهدوا فمصيرهم القتل أو السجن أو التشريد، و النظام ممعن بالتغطية خوف [ صفحه 254] الفتنة فيما يزعمون، و الامام تنتهك حرمته دون أن، يهتز لذلك الضمير العباسي، و الناس لا حول لهم و لا طول، فالارهاب أفظع ما يدركه التصور قسوة و شدة. و الأعظم مصابا، و الأبلغ وقعا، أن الامام بقي مسجي في جثمانه الشريف ثلاثة أيام لم يدفن [474] . و كان هذا الاجراء للتحقيق في وفاته، و استدعاء الشهود، و وضعه علي الجسر ببغداد، و المنادي ينادي عليه بذلك النداء الفظيع [475] بغية اطفاء نور الله تعالي: (و يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون) [476] صدق الله العلي العظيم

تجهيز الامام و تشييعه الي مقره الأخير

و انتخي سليمان بن أبي‌جعفر المنصور، و هو عم الرشيد، فتولي بنفسه الاشراف علي تجهيز الامام و تشييعه، بعد أن استمع الي شرطة الرشيد تنادي علي جثمان الامام بما لا نستطيع ذكره. سمع سليمان - اذن - الضوضاء في النداء، و رأي تجمعا غير معهود علي الجسر، فقال لولده و غلمانه: ما هذا؟ قالوا: السندي بن شاهك ينادي علي موسي بن جعفر علي نعش. فقال لولده و غلمانه: يوشك أن يفعل هذه به في الجانب الغربي، فاذا عبر به، فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فان مانعوكم فاضربوهم، و خرقوا ما عليهم من السواد... [ صفحه 255] فامتثل الغلمان ذلك... و وضعوا الجثمان في مفترق أربعة طرق، و نادوا: ألا من أراد أن يحضر الطيب ابن الطيب موسي بن جعفر فليخرج، و حضر الخلق، فكان التشييع الجماهيري. و كان هذا الموقف المشرف من سليمان؛ اما بدافع الغيرة و الحمية، و اما بدافع الرحم الماسة، و اما بدافع سياسي، أو بشعور انساني، أو بذلك بعضه أو كله. و مهما يكن من أمر، فقد كان ذلك بتقدير من الله عزوجل لرفع الظلامة عن الامام في حرمة جثمانه الطاهر، فأتاح لذلك سليمان، فقام بما قام. و جهز الامام علي خير ما يكون غسلا و تحنيطا و كفنه سليمان بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين و خمسمائة دينار، عليها القرآن كله، و مشي في جنازته مستلبا مشقوق الجيب الي مقابر قريش [477] . و تناهي الاعلام بوفاة الامام الي الناس فتنادوا بذلك، و سارت المواكب الكبري تشق طريقها في بغداد الي مثواه الأخير في مقابر قريش حيث ضريحه المقدس اليوم في الكاظمية زادها الله شرفا ببركته و بركة حفيده الامام محمد الجواد بن الرضا (عليهماالسلام). و كانت وفاة الامام (عليه‌السلام) في يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر رجب عام 183 ه كما هو المشهور عند الامامية، و عليه العمل، و عند أغلب المؤرخين [478] . و قيل كان ذلك عام 186 ه، و قيل كان ذلك عام 181 ه [479] . [ صفحه 256] و دفن الامام في «مقابر قريش» غربي بغداد، بما يسمي اليوم ب «الكاظمية» المقدسة، و ضريحه و ضريح حفيده محمد الجواد من المشاهد المنورة في تلك الروضة البهية التي ضمت الجثمانين الطاهرين، و يعتمر فيه يوميا عشرات الآلاف من الزائرين و الوفاد من مختلف الأقاليم، و عليه قبتان ذهبيتان، الي جانبهما أربع منائر ذهبية تطلان علي بهوين عظيمين، يشرفان عليهما و علي الصحن الشريف، و داخل الحرم مزين بالكاشاني المعرق، و الفسيفساء و الأحجار الكريمة، و استنارته تتمثل بمئات الشموع و المصابيح الكهربائية، و أرضه ذات بلاط مرمري جذاب يرتفع تدريجيا الي الحيطان من كل جوانب الحرم الشريف بما يقارب ثلاثة أذرع، حيث تتبع ذلك الزخارف و المرايا و قطع الزجاج الملون حتي يتصل بسقف الحرم الشريف، فاذا أنير بالكهرباء و قناديل الانارة، التمست الشعاع يصطدم بالشعاع، و النور يقترن بالنور، بما يسر الناظر، و تدخل روعته في الضمائر، و هذا الحرم الشامخ يحتضن في وسطه مشبكا فضيا دقيق الصنع، ينتهي في أعلاه الي زخارف فضية و ذهبية بأشكال متنوعة، و في داخله صندوقان ثمينان صنعا من الخشب الثمين الموصل بالعاج علي شكل مثلثات و مربعات و مخمسات، هذان الصندوقان وضعا علي قبري الامامين (عليهماالسلام) و قد وصف هذا المشهد قبل ثمانية قرون ابن‌خلكان فقال: «و عليه مشهد عظيم فيه من قناديل الذهب و الفضة، و أنواع الآلات و الفرش ما لا يحد» [480] . و قد فرش الحرم الشريف بأنواع السجاد الايراني المعروف بنفاسته و دقته، و تحوط بالحرم أربعة أروقة من الجهات الأربع، تتصل بالشمال بالمسجد الصفوي، و علي يمين الداخل لها من الشرق ضريح صغير عليه مشبك فضي للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري اشتمل علي [ صفحه 257] قبره و قبر أستاذه أبي‌جعفر بن قولويه. و علي يسار الداخل مما يلي الرأس الشريف ضريح في الرواق الغربي لنصيرالدين الطوسي، و هنالك في الأروقة حجر صغيرة في بناء هندسي جميل ضمت أضرحة العلماء و الأولياء و الأسر الكاظمية العريقة. و المشهد يتوسط الصحن الكاظمي في سعته و روعته و فضائه الرحب، و تحيط به الغرف و الحجر من جوانبه الأربعة، و هي تتقلص من الجانب الشمالي بحسب هندسة البناء، و هذه الغرف كانت قد أعدت للزائرين، و من ثم كانت لطلاب العلم من الوافدين، و هي اليوم مقر لقبور العلماء و مشاهير الناس. و للصحن الشريف أبواب متعددة، أهمها: ثلاثة أبواب من جهة القبلة، و بابان من الجهة الشرقية، و بابان من الغرب. أما الجانب الشمالي فقد التصق بعمارة الحرم الطاهر. و حسبك في مشهد الكاظمين (عليهماالسلام)، أنه ملاذ الأمة، و كعبة الوفاد، و مجتمع المبتهلين و أهل الدعاء، حتي قال شيخ الحنابلة: أبوعلي الحسن الخلال. «ما همني أمر فقصدت موسي بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالي لي ما أحب» [481] و قال الامام الشافعي: «قبر موسي الكاظم الترياق المجرب» [482] . و قال عبدالباقي العمري: لذ و استجر متوسلا ان ضاق أمرك أو تعسر بأبي الرضا... جد الجوا د محمد... موسي بن جعفر [483] . [ صفحه 258] و قد وصف كاتب هذه السطور ضريح الامام وقبته الذهبية، كما أبان منزلة الامام و عظمته بقصيدة ستجدها بعد هذا البحث. و عادة الاستجارة بمشهد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حقيقة روحية لدي المسلمين بعامة، لا يختلف بعائديتها اثنان مع تعدد المذاهب و المشارب حتي قال القائل في مدح يحيي بن جعفر [484] . و في الجانب الشرقي يحيي بن جعفر و في الجانب الغربي موسي بن جعفر فذاك الي الله الكريم شفيعنا و هذا الي المولي الامام المطهر و ما هذا الا لتمكن حب الامام من قلوب العباد، و لتلك الكرامة الباهرة بقضاء حاجة من استجار به في الشدائد و الملمات. و الحمد لله أولا و آخرا علي حسن توفيقه في اكمال هذا السفر، ذاكرا شاكرا مصليا علي النبي المصطفي و آله الطيبين الطاهرين. [ صفحه 259]

قصيدتان للمؤلف في الامام

اشاره

نظم المؤلف قصيدتين في الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، كانت الأولي بتأريخ نيسان عام 1975 م، و كانت الثانية في شوال 1422 ه. القصيدة الأولي، و عنوانها:

الامام موسي الكاظم

الشعرعي... و العواطف ضلع و أمامك الفكر المحلف يخشع و تمر السنة البيان بليغة فاذا أتتك ثني الزمام المطلع ماذا أحدث عنك يابن محمد و لأنت أسمي... و المكانة أرفع شرف علي شرف يضمك مجده و حقيقة تبقي... و ذكر أروع يستقبل التأريخ منك مواهبا بالعبقرية تستفيض فيكرع العالم العلوي فيها ناطق و الكوكب الأرضي فيها يصدع فكأن (عيسي) في تراثك عائد و الشمس قد ردت... و ذاتك (يوشع) و عصا (ابن‌عمران) الكليم بكفه فكأن (موسي) جنب (موسي) يرفع ما نار (ابراهيم) الا جذوة خمدت لنور من جبينك يسطع و عليك من نور النبي صباحة في المشرقين سناؤها يتشعشع و من (الامام المرتضي) آثاره و بنوه تثري... و الأئمة تتبع سر الشهادة من (حسين) رمزه ألق بسجنك يستطيل فيلمع و عصارة (للمجتبي) من سمه أحشاؤه كحشاك اذ تتقطع ذرية من بعضها... قد أنجبت بعضا فمن (كسري) هناك و (تبع) [ صفحه 260] يابن النبي المصطفي... و وصيه حقا... و من في حبه نتذرع... لله من كيد الزمان و غدره و من الحساب... و ما به نتوقع باب الحوائج و الامام المرتجي في النائبات... و من به نستشفع موسي بن جعفر... و هي أعظم نسبة نفحاتها بطيوبه تتضوع ما مر ذكرك في الرؤي الا هفا مني الفؤاد... و سال هذا المدمع فرحا بحبك... فالضمير يشدني حبلا... و يدفعني الولاء فأدفع لله أمر باصطفائك انه رمز الوجود... و سره المستودع ما سعرت منك الكفاح جوانح الا و طيفك للطغاة المفزع حتي انطوي ذاك الضلال، و ما انطوي الا و قبرك للهداة المفزع تتعفر الجبهات في أعتابه وقعا... و تلثمه القلوب فتخشع و يزين سدته (الجواد) طلاقة فيهش مكلوم... و يوسر مدقع نور علي نور... و تلك مشيئة لله.. أن طاب الجناب الممرع فكأنه النجم المحلق في السما يعنو له طرف... و يومي‌ء اصبع يتموج الضوء البهي بأفقه و يفوح مجمره الذكي و يفرع و تؤمه غر الملائك سجدا و تحل ساحته الملوك فتركع يا أيها البطل الموحد أمة و الليل داج... و الطريق مروع عاصرت جمهرة الطغاة.. فما وني عزم.. و لا وهن الجهاد الأروع تحيا من المحن الصعاب.. و ترتمي غضبا علي المتجبرين يوزع و تقيتك الأزمات صلب عقيدة عصماء.. لا تلوي و لا تتزعزع [ صفحه 261] حتي دعاك السجن تعرك قيده و تعيش وحدته.. و نهجك مهيع متلفعا بضراوة من بأسه صلت الجبين... و رب تاو يهطع قضيت عمرك بالسجون... و انه مجد بكل كريمة يتلفع حتي سقيت السم تجرع كأسه غصصا... و ترتقب الخلاص فتكرع صبرا علي مضض الحتوف... و انما طبع الزمان بكل حر مولع ما قيمة الدنيا اذا هي زينت بالأمنيات.. و طال دهر ممتع ابمثل (موسي) تستخف عصابة و هو الهزبر المستميت المصقع رجل العقيدة و الهدي بنهاره و بليله قديسها المتورع ما مر في خلد... و لا في مسمع مثل له... و الوتر أني يشفع يتدفق القرآن في نبراته و هو الامام العبقري الأورع دنياه تزخر بالعطاء... و عمره خصب.. و عمر ذوي الدخائل بلقع ما مرت (الخمسون) الا توجت بالطيبات.. و فاض ذاك المنبع بعلوم آل محمد... و تراثه و بما يلذ السامعين و يمتع فكأن روح (محمد) في جنبه و هدي (علي) في يديه مجمع [ صفحه 263]

في رحاب الامام موسي بن جعفر

أما القصيدة الثانية للمؤلف في الامام، فعنوانها: بضريحه أنخ الركابا و افتح من البركات بابا (موسي بن جعفر) من أشا د بكل مكرمة قبابا هو باب (حطة) للذنو ب فعنده ازدلفوا اقترابا من عنده فصل الخطا ب.. فليس يبلغه خطابا و به حمي الله (العرا ق) من المكاره أن يصابا [485] . و بتلكم الأعتاب فال تمسوا دعاء مستجابا و بظلها ادرئوا العقا ب.. و عندها اطلبوا الثوابا فبها نجاة اللائذين حمي، و قربي، و انتجابا أنزل بساحته المني و اظفر بأفضلها طلابا و أقم بحضرته الزكية مستجيرا أو متابا هي بقعة قدسية بالمجد عامرة جنابا روح الجنان يفوح من جنباتها أرجا مذابا و شذا الامامة بالكرا مة.. ينضح الطيب انسيابا سبحان ربك... ما أعز شموخه... صقرا... عقابا يجتاح كل طريدة و يبز ناطحة سحابا [ صفحه 264] (باب الحوائج) ما أتا ه - قاصدا - أحد فخابا رجل الصلابة و الأصا لة ما استلان و لا استجابا يتجرع الغصص العظا م و يصطلي المحن الصعابا المستميت بحيث كل الناس تضطرب اضطرابا حتي اذا ضاق (الرشيد) به مقاما... و استرابا أحصي له الأنفاس لو مر النسيم بها لآبا و رماه بالحكم الرهي ب يعيش نفيا... و اغترابا متنقلا بين السجو ن كأن فيهن الرغابا يحيا حياة الشامخي ن تعض بالقيد الرقابا و تكبل الأصفاد و ال أغلال أطرافا غضابا و يطالها بالعسف و الار هاب أعصابا صلابا حتي اذا انقلب الزما ن... و لا حق الدهر الذئابا قلبت موازين الحيا ة و مست الشمس الضبابا فاذا الطغاة بمأزق يحتر بالذل العذابا و لو ارعويت مصيرهم أثرا... و عودا... و اختطابا لعلمت أن الله بال مرصاد... أعجزهم غلابا حتي تعود ديارهم قفراء موحشة... يبابا و ينزل النقمات بالل عنات تنصب انصبابا من كان يؤخذ بالحنا ن.. غدا سيأخذه اغتصابا حتي يعود كيانه ظفرا لمنتقم و نابا و يصب فوق الرأس من غصص الحميم لظي مذابا [ صفحه 265] كالمهل يغلي في البطو ن.. و حسبه منه شرابا و المتقون بجنة فيحاء.. ظلا و انجذابا تجري بها الأنهار بال ألبان تنساب انسيابا و الخمر و العسل المصفي راق مصطحبا و طابا و «الحور» في جنباتهم أدني من القوسين قابا من «قاصرات الطرف عين» لا اكتحالا أو خضابا [486] . و أجل منها... قطفهم رضوان ربك و الثوابا هذا هو الحرم الذي من حوله طوفوا احتسابا و القبة الزهراء فوق ضراحه التبر التهابا و منائر ذهبية غمرت أشعتها الهضابا تهدي المضلين السبيل .. و تستبيح الارتيابا ما الشمس اذ تبدي السنا الا كضاربة نقابا و اذا بدت شهب السما ء رأيت بينهما حجابا و تساقط الأمطار يبعث من لآليها الرطابا يجلو ملامح ضوئها كالفجر لطفا و انسكابا و كأن مثقلة الغيوم.. بجنبها.. خل تصابي يتعانقان اذا بدا شبح الأصيل لها اقترابا فاضرب بطرفك حيث شئت تري به الصور العذابا نور (الجواد) و نار «موسي) حققا العجب العجابا [ صفحه 266] و كذاك «أهل البيت» منزلة.. و مجدا... و انتسابا في كل قلب منهم جذوات حب لن تشابا و بكل بيت قبلة بنت المحاريب الرحابا و لئن حججنا شطرها فزنا بأوفرها نصابا أنا لا أغالي... انما أزجي علي الدهر العتابا ألمثل هذين الامامين الزمان نضا الحرابا؟ (و الكاظمية) روضة غناء... تحتضن الشعابا أما النسيم.. فانه أرج بماء الورد ذابا و صباحها و مساؤها يتسابقان بها عرابا و شبابها و شيوخها يتباريان بها غلابا ب «المرتضي» علما، و بالشيخ «المفيد» لها شهابا و طلائع الأبرار ممن شيدو الشم الصلابا أمناء دين الله هديا و احتسابا و اكتسابا الحاملين رسالة الاسلام و العلم اللبابا و الاجتهاد علي الجمود يقود ثورته انقلابا و الفكر يبرز كالسنا سيفا... و ينزعه قرابا أولاء أسرار الحياة .. و كنز معدنها عيابا قد توجوا التأريخ اكليلا و غارا و اعتصابا و «بآل ياسين» زها علما و حلما و انتجابا [487] . [ صفحه 267] ما فيهم الا النقي لوجه بارئه أنابا أخلاقهم زهر الربيع تكاد ترشفه رضابا و العلم في نداوتهم كالبحر تمخره عبابا و هداة «آل الصدر» تحتضن العقيدة و الصوابا [488] . كانوا مع الاسلام آسادا تحصن منه غابا و يريك «آل الحيدري» لكل مسألة جوابا [489] . عازوا الي الدين الشباب .. و أفعموا منه الوطابا و (الخالصي) و ما اصطفت كفاه.. سيفا أو كتابا [490] . رجل العراق... و نجله علم الشريعة و المهابا و شبيبة رأد الضحي من دون روعتها انجذابا و كذلك المجد المؤثل يبعث الدنيا شبابا النجف الأشرف محمدحسين علي الصغير [ صفحه 269]

خاتمة المطاف و النتائج

كانت هذه الرحلة المباركة قد اصطحبت الامام الكاظم موسي بن جعفر (عليه‌السلام)، في حياته الخاصة و حياته العامة، فوجدت الامام (عليه‌السلام) باختصار: ملك قيادته و أمته لا ملك نفسه، و خلصت الي نتائج موضوعية في رؤية معاصرة لتأريخ الامام العلمي و العقلي و السياسي و النضالي بما أوضح صورة الامام دون تزيد أو اضافة، و انما هو الحقيقة القائمة علي أساس المنهج التحليلي للوقائع و الأحداث و القيم، في أسلوب جديد، و عرض جديد في ثمانية فصول رئيسية: 1 - كان الفصل الأول متحدثا عن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في سماته و مميزاته الأساسية منذ الولادة الطاهرة، فالنشأة المباركة، و تسليط الضوء علي تلك المكانة المرموقة، مرورا بحكم التأريخ في مرآته الكاشفة عن رؤية الامام لدي أصحاب الرأي و القرار الثابت النزيه في أبعاد شخصية الامام، و من ثم ابراز الخصائص المميزة للامام في الورع و التقوي و الحلم و الزهد و كظم الغيظ و سخاء النفس، بما يعتبر المشترك الأعظم في خصائص الأئمة. 2 - و كان الفصل الثاني قد تناول المسيرة العلمية الرائدة للامام في ايجاز و تكثيف ملحوظين اقتصر فيهما البحث علي مدرسة أهل البيت الأولي في ريادتها التراثية: سننا و تشريعا و معارف، و موقع الامام البارز البصمات علي المدرسة، متعقبا مصادر علم الامام الكسبية و الموهبية في أدلتها و شواهدها البرهانية؛ ناظرة الي سيرورة علم الامام في الآفاق و ذيوعه في الأقاليم رغم الرقابة الصارمة و التضبيب الاعلامي، مؤكدة الدور البارز الذي نهض به [ صفحه 270] تلامذة الامام في التأليف و التصنيف، و نشر تراث أهل البيت، و ختم الفصل بشذرات من تعليمات الامام و هو يقود الأمة تهذبا و تنظيما و هداية. 3 - و كان الفصل الثالث حافلا بظواهر الحياة العقلية المتطورة، بما تلمس به من لذة فكرية و متاع عقلي رصين، فقد كشف عن اهتمام الامام بالعقل الانساني و استقلاليته بالادراك، و حرص علي تتبع الاضطراب في المناخ العقلي في عصر الامام، و اتجاهات التعددية في المذاهب الكلامية و الاحتجاجية و الفلسفية، و الاشارة الي الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة مما أوجد حالة جديدة من العب‌ء و المسؤولية اضطلع بها الامام بقيادته الفذة، و هو يخوض خضم التيار الكلامي المتقلب، ألق الجبين، أصيل الرأي، قوي الحجة، بما يعبر تعبيرا رساليا عن رأي الاسلام المشرق في هذا المناخ. 4 - و كان الفصل الرابع حاشدا بمفارقات عصر الامام في ظل الطواغيت من السلاطين و الملوك، و هم يسنمون مناصب الدولة العليا، و يدعون الخلافة الشرعية دون حق، و الجور و الطغيان يملأ الأرض و يتعالي الي عنان السماء، في أرقام طويلة من الاستئثار بكل شي‌ء دون الشعب المضطهد، و باستعلاء لا مثيل له الا في تأريخ الفراعنة و الأباطرة و القياصرة، و استخفاف بالقيم و المثل لا نظير له الا في العهد الجاهلي، و الامام يعاني بصبر تارة، و بكفاح تارة أخري، و بمعتقلات سواهما، من تلك الافرازات البغيضة الثقيلة التي مثلث الارهاب و الظلم المقيت من خلال أبي‌جعفر المنصور، و المهدي العباسي، و موسي الهادي، و هارون الرشيد، بما يخرق أسطورة العصر الذهبي المزعوم. 5 - و كان الفصل الخامس ملتهبا بحريق المناخ الثوري ضد النظام العباسي الجائر، و ما قوبل به هذا المناخ من اجراءات الارهاب الدموي، [ صفحه 271] و قمع التحرك السياسي بأعنف الأساليب، و أقسي صنوف القتل و التعذيب، و مجابهة ذلك التوجه الثوري لصاحب فخ و صاحب الديلم و أنصارهما بالحرب الضروس و الابادة الشاملة، و قطع رؤوس القتلي، و تسيير الأسري مكبلين بالحديد، و هدم البيوت، و مصادرة الممتلكات، و قتل الأسري جميعا دون استثناء. و أعقب هذا و ذاك التصفية الجسدية المنظمة لأقطاب المعارضين من العلويين، حتي استطال المهدي و الرشيد الي سجن الامام، بعد الاتهام بتأييد الثائرين، و هو براء من ذلك، فالامام لا يتحرك بدافع من العواطف، و لا يؤيد العنف الثوري، و هو يهدر دون أية عائدية. و كان موقف الامام جليا في الترقب و الانتظار، و آراؤه مبرمجة بالنصح الكريم و تحاشي الاثارة الدموية، حفاظا علي أرواح الشعب البري‌ء الأعزل من الازهاق. 6 - و كان الفصل السادس كفيلا باستيحاء البعد الاستراتيجي الدقيق، و التخطيط المنهجي الرائد لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي، و اتخاذه سياسة النضال السلبي طريقا لمقاطعة النظام و القول بعدم شرعية الحكم، و الابتعاد عن معالم السلطان و الولاة و القضاة و وعاظ السلاطين، في حين يخترق الامام النظام العباسي من الداخل بأعيان من أصحابه لهم الأثر البارز في تحقيق الحد الأدني من دفع الظلم الاجتماعي عن الناس، و قضاء مهمات أولياء الله و أنصاره و المستضعفين في الأرض، هذا في الوقت الذي نجد فيه الامام يشمر عن ساعديه في الموقف الحاسم الذي تدعو له الضرورة الشرعية، فيجابه التضليل الديني ببيان الحقائق، و يقاوم الانحراف السياسي بابداء الرأي الجري‌ء. [ صفحه 272] 7 - و كان الفصل السابع حافلا بمعاناة الامام في غياهب السجون، و هو يقاسي العزلة و الاغتراب في تلك الأقبية، فبحث باستيضاح الرؤية المجهرية لدوافع سجن الامام، و كشف الأسباب الكامنة وراء تنقل الامام في عدة سجون، و من ثم الرصد الاستقرائي لحياة الامام في السجن، و هو يرفع راية العبادة المجردة، و يعطف بالعلم النافع علي مريديه، و يوصي بأمواله و صدقاته، و قد لاحت امارات انتقاله الي الرفيق الأعلي. 8 - و كان الفصل الثامن مقتصرا علي تسنم الامام لمدارج الشهادة بصبر و ثبات، بعد أن أذهلت الرشيد جماهيرية الامام و تأثيره في الأمة، فدأب مخططا لاغتيال الامام مرة بعد مرة، حتي أقدم علي قتله بالسم، و أساغ لجلاوزته أسلوب الدجل السياسي المفضوح بالاشهاد علي وفاة الامام بأنه مات حتف أنفه، و من ثم كان الحديث عن مراسم تجهيز الامام و تشييعه الي مثواه الأخير في مقابر قريش حيث ضريحه المقدس مع وصف ميداني للمشهد و الروضة و الصحن الكاظمي و القبتين و المنائر الأربع. و ارتأي البحث أن يكمل هذه المسيرة الحافلة للامام باثبات قصيدتين للمؤلف قالهما في حق الامام و شموخه و نضاله و احتسابه حتي كتب له الخلود السرمدي، و عاد بحق شهيد عظمته، و قتيل منزلته الكبري. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. النجف الأشرف محمدحسين علي الصغير

پاورقي

[1] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 307، الطوسي / التهذيب / 6 / 81، الكنجي الشافعي / كفاية الطالب / 309، الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 270.، الاربلي / كشف الغمة 3 / 2، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437، البحار 48 / 7.
[2] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 48 / 4.
[3] أبوالفرج / مقاتل الطالبيين / 499، الطوسي / التهذيب / 6 / 81، المفيد / الارشاد / 307، الكليني / الكافي / 1 / 477، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437.
[4] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437.
[5] ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / 214.
[6] الطبرسي / الاحتجاج / 215.
[7] ابن عنبة / عمدة الطالب / 185.
[8] الشيخ المفيد / الارشاد / 319، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437.
[9] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب / 3 / 437 و بقية المصادر. [
[10] ظ: محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 16.
[11] سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / 357.
[12] الاربلي / كشف الغمة 3 / 2.
[13] الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 م 127، المجلسي / البحار 48 / 24.
[14] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 432.
[15] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 429.
[16] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 411.
[17] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 20.
[18] الشبراوي الشافعي / الاتحاف بحب الأشراف / 54.
[19] الشيخ المفيد / الارشاد / 325.
[20] المجلسي / بحارالأنوار 48 /.
[21] المفيد / الارشاد / 326.
[22] المجلسي / البحار / 48 / 21.
[23] الاربلي / كشف الغمة / 3 / 11.
[24] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 436.
[25] ظ: الكليني / الكافي 1 / 309، المجلسي / البحار / 48 / 12 - 28.
[26] ظ: المجلسي / البحار 48 / 12 - 28.
[27] المصدر نفسه 48 / 24 و انظر مصادره.
[28] الاربلي / كشف الغمة 3 / 14.
[29] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 29 - 30 / بتصرف جزئي.
[30] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 12 و انظر مصدره.
[31] القندوزي / ينابيع المودة / 441 - 443.
[32] أبونعيم / حلية الأولياء 1 / 86.
[33] ظ: المؤلف / موسوعة اهل البيت الحضارية / المجلد الخامس، الفكر الامامي من النص حتي المرجعية.
[34] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 419.
[35] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437.
[36] ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة / 213.
[37] المصدر نفسه / 214.
[38] الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 270.
[39] ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة 2 / 112.
[40] ابن‌تيمية / منهاج السنة 2 / 124.
[41] الشيخ المفيد / الارشاد / 332.
[42] ابن‌طلحة / مطالب السؤول 2 / 61.
[43] الذهبي / سير اعلام النبلاء 6 / 270.
[44] الذهبي / ميزان الاعتدال 3 / 209.
[45] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 165 - 176.
[46] القندوزي / ينابيع المودة 3 / 32.
[47] زكي مبارك / شرح زهر الآداب 1 / 132.
[48] خيرالدين الزركلي / الأعلام 3 / 108.
[49] عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد 1 / 177.
[50] السويدي / سبائك الذهب / 73.
[51] السيد الخوئي / معجم رجال الحديث 19 / 44.
[52] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 37.
[53] هاشم معروف / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 323.
[54] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 28.
[55] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 18 - 19.
[56] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 332.
[57] ابن‌طلحة الشافعي / مطالب السؤول 2 / 61.
[58] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 100 و انظر مصدره.
[59] ابن أبي‌الحديد / شرح نهج‌البلاغة 5 / 291.
[60] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 39.
[61] الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 499.
[62] المفيد / الارشاد / 333، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 28.
[63] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 /.
[64] الكليني / الكافي 2 / 108.
[65] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 48 عن شرح النهج 18 / 46.
[66] ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / 220، و قريب منه في كشف الغمة للاربلي 3 / 9.
[67] سورة الأعراف / 199.
[68] سورة فصلت / 34.
[69] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 41.
[70] الشيخ المفيد / الارشاد / 333.
[71] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 154 و انظر مصدره.
[72] ظ: الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / 13 / 29 - 30، محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51.
[73] الكليني / الكافي 5 / 75، المجلسي / البحار 48 / 115.
[74] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 28، ياقوت / معجم البلدان 5 / 23.
[75] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51.
[76] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 48 / 104 و 108.
[77] الاربلي / كشف الغمة 3 / 21.
[78] المصدر نفسه 3 / 20.
[79] الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 13 / 29، الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 272.
[80] ظ: محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51 - 52.
[81] الشيخ المفيد / الاختصاص / 252 - 253.
[82] ظ: المؤلف / الامام محمد الباقر / مجدد الحضارة الاسلامية / مؤسسة العارف / بيروت / 2002 م.
[83] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 33.
[84] ظ: المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة اهل البيت / الباب الثاني الفصل الأول / موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام).
[85] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 431 - 432.
[86] الكليني / الكافي 3 / 92، البحار 48 / 113.
[87] الشيخ المفيد / الأمالي / 13.
[88] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 160 يرويه عن / الحميري / قرب الاسناد / 178.
[89] الكليني / الكافي 1 / 62.
[90] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 426.
[91] الشيخ المفيد / الاختصاص / 281.
[92] المصدر نفسه / 282.
[93] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 103 - 104.
[94] الكليني / الكافي 1 / 242.
[95] سورة الكهف / 65.
[96] الكليني / الكافي 1 / 264.
[97] سورة الجن / 26 - 27.
[98] الشيخ المفيد / الاختصاص / 286.
[99] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 409. [
[100] ظ: المجلسي / البحار 48 / 68.
[101] المصدر نفسه 48 / 72.
[102] المصدر نفسه 48 / 72.
[103] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 36.
[104] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 36.
[105] ظ: الكشي / الرجال / 280.
[106] الحميري / قرب الاسناد 1 / 194.
[107] الكليني / الكافي 1 / 484.
[108] ظ: المجلسي / البحار 48 / 74 و انظر مصدره.
[109] الكليني / الكافي 1 / 253، 1 / 256.
[110] الكليني / الكافي 1 / 253، 1 / 256.
[111] سورة لقمان / 34.
[112] محمد عبده / شرح نهج‌البلاغة / 239 / طبعة دار الأندلس / بيروت.
[113] الاربلي / كشف الغمة 2 / 416.
[114] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 131 و انظر مصدره.
[115] الدينوري / الأخبار الطوال / 389.
[116] ابن‌شعبة / تحف العقول / 294.
[117] المصدر نفسه / 293.
[118] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 328.
[119] الاربلي / كشف الغمة 3 / 48.
[120] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 107 عن الاحتجاج / 215.
[121] الكليني / الكافي 1 / 17.
[122] المصدر نفسه 1 / 39.
[123] المصدر نفسه 1 / 65.
[124] الكليني / الكافي 1 / 57.
[125] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 108.
[126] سورة البقرة / 81.
[127] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 403.
[128] سورة البقرة / 81.
[129] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 403.
[130] سورة آل‌عمران / 53.
[131] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 403.
[132] سورة النحل / 24.
[133] ابن شهر آشوب 3 / 403.
[134] سورة البقرة / 57.
[135] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 404.
[136] سورة المطففين / 7.
[137] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 404.
[138] سورة الأنعام / 84 - 85.
[139] سورة آل‌عمران / 61.
[140] الشيخ المفيد / الاختصاص / 56.
[141] سورة الاسراء / 26.
[142] سورة الاسراء / 26.
[143] ظ: الكليني / الكافي 1 / 543، المجلسي / البحار: 48 / 157.
[144] سورة الأعراف / 146.
[145] سورة البينة / 1.
[146] سورة ابراهيم / 28.
[147] الشيخ المفيد / الاختصاص / 262.
[148] سورة ياسين / 39.
[149] ظ: المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 74 و انظر مصدره.
[150] سورة التوبة / 25.
[151] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب: 3 / 410 - 411.
[152] ظ: المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 75 و انظر مصدره.
[153] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 411.
[154] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 112.
[155] الطبرسي / الاحتجاج / 214.
[156] سورة الأعراف / 33 /.
[157] الكليني / الكافي 6 / 406، الحر العاملي / الوسائل 17 / 241.
[158] الطبرسي / مجمع البيان: 2 / 414.
[159] ظ: المؤلف / نظرات المعاصرة في القرآن الكريم / تحريم الخمر في القرآن / 93.
[160] المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 101 عن قرب الأسناد / 194.
[161] سورة الأنعام / 75.
[162] سورة الصافات / 88 - 89.
[163] سورة الواقعة / 76.
[164] سورة النازعات / 1 - 5.
[165] سورة النحل / 16.
[166] المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 145 - 146 و انظر مصدره.
[167] الكليني / الكافي 1 / 227.
[168] المصدر نفسه: 2 / 453.
[169] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 248.
[170] الكليني / الكافي 2 / 457 - 458.
[171] المصدر نفسه 2 / 336.
[172] الاربلي / كشف الغمة 3 / 46.
[173] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة: 4 / أول / 59.
[174] الكافي / الكليني: 2 / 197.
[175] الشيخ المفيد / الاختصاص / 250.
[176] الكليني / الكافي 2 / 366.
[177] الشيخ المفيد / الاختصاص / 343.
[178] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 307.
[179] ظ: علي سبيل المثال: الكليني / الكافي 3 / 18 - 155 - 197 - 315 - 326 - 328 - 330 - 332 - 340 - 346 - 380 - 510 - 539... الخ، المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 137 - 138، المفيد / الارشاد / 330 - 331 - 332، المناقب 3 / 408، الفصول المهمة / 218 - 219، كشف الغمة 3 / 16 - 17 - 18 و سواها.
[180] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 120.
[181] ظ: تحف العقول / 305، الارشاد للمفيد / 329، البحار 48 / 137 - 138.
[182] ظ: علي سبيل المثال: رجال الكشي / رجال الطوسي / رجال النجاشي / مجمع الرجال / رجال بحرالعلوم / رجال المامقاني / خلاصة العلامة / معجم رجال الحديث / فهرست ابن‌النديم.
[183] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر: 1 / 33.
[184] أورده القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر: 1 / 101 عن الأنوار البهية / 91.
[185] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 438.
[186] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 144.
[187] المرجع نفسه / 134.
[188] ظ: هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 325.
[189] ابن النديم / الفهرست / 276.
[190] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 325.
[191] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 438.
[192] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر: 2 / 223 - 374.
[193] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 122.
[194] ظ: محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 123 - 147.
[195] ظ: النجاشي / الرجال / 250 - 251.
[196] ظ: الكشي / الرجال / 364.
[197] المصدر نفسه / 364.
[198] ابن‌النديم / الفهرست / 264، النجاشي / الرجال / 338.
[199] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر / 3 / 343.
[200] ظ: محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 142 - 143.
[201] ظ: المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 202 و انظر مصدره.
[202] الكشي / الرجال / 304.
[203] الجهشياري / الوزراء و الكتاب / 97.
[204] ظ: المامقاني / تنقيح المقال 3 / 217.
[205] ظ: النجاشي / الرجال / 319.
[206] ابن‌شعبة / تحف العقول / 296.
[207] الكليني / الكافي 1 / 16.
[208] الكليني / الكافي 1 / 18، ابن‌شعبة / تحف العقول / 289.
[209] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 106.
[210] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر: 1 / 183 - 223.
[211] ظ: نص رسالة الامام / الكليني / الكافي 1 / 13 - 20، ابن‌شعبة / تحف العقل 390 - 400، و فيها زيادة علي ما ذكره الكليني.
[212] سورة العنكبوت / 43.
[213] سورة الحشر / 13.
[214] سورة سبأ / 13.
[215] سورة ص / 24.
[216] سورة هود / 40.
[217] سورة البقرة / 268.
[218] سورة آل‌عمران / 8.
[219] ظ: يوسف عبدالقادر خليف / حياة الشعر في الكوفة / 309.
[220] المرجع نفسه / 309.
[221] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الباقر 2 / 90 و انظر مصدره.
[222] ابن‌سعد / الطبقات الكبري 1 / 191.
[223] ظ: شوقي ضيف / التطور و التجديد في الشعر الأموي / 52.
[224] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 109.
[225] ظ: المؤلف / الامام محمد الباقر مجدد الحضارة الاسلامية / 88 - 106.
[226] ظ: المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت / الباب الأول / الفصل الثالث / الحياة العقلية و ظواهرها الاجتماعية.
[227] ظ: هذه المحاورة كاملة / البحار للمجلسي: 4 / 198 - 202.
[228] الكليني / روضة الكافي / 264.
[229] ظ: النوبختي / فرق الشيعة / 75.
[230] ظ: الأشعري / مقالات الاسلاميين / 98.
[231] الشيخ المفيد / الارشاد / 319 - 320.
[232] ظ: المصدر نفسه / 320.
[233] ظ: الأشعري / مقالات الاسلاميين.
[234] ظ: الشهرستاني / مقالات الاسلاميين.
[235] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 204.
[236] الشيخ الطوسي / الغيبة / 20.
[237] ظ: الصدوق / علل الشرائع / 236 طبع النجف، الطوسي / الغيبة / 46 - 47، الصدوق / عيون أخبار الرضا: 112 / 1، الكشي / الرجال / 307، المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 252.
[238] الشيخ الطوسي / الغيبة / 49، المجلس / البحار: 48 / 255.
[239] الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا: 1 / 112.
[240] ظ: الشيخ الطوسي / الغيبة / 49، المجلسي / البحار: 48 / 256.
[241] سورة التوبة / 32.
[242] الشيخ الطوسي / الغيبة / 50، المجلسي / البحار: 48 / 257.
[243] ظ: الشيخ الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 216، البحار 48 / 260.
[244] ظ: الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا 2 / 216، البحار 48 / 260.
[245] سورة الأنعام / 98.
[246] الكشي / الرجال / 278، المجلسي / البحار 48 / 261.
[247] الكليني / أصول الكافي 1 / 139 - 140.
[248] سورة ياسين / 82.
[249] الكليني / أصول الكافي 1 / 125.
[250] الكليني / الكافي 1 / 125.
[251] الكليني / الكافي 1 / 125.
[252] المصدر نفسه 1 / 104.
[253] المصدر نفسه 1 / 106.
[254] سورة ياسين / 82.
[255] الكليني / أصول الكافي 1 / 127.
[256] الكليني / أصول الكافي 1 / 151.
[257] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 153.
[258] سورة الملك / 2.
[259] الطبرسي / الاحتجاج / 210.
[260] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 329.
[261] المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 175 و انظر مصدره.
[262] سورة آل‌عمران / 34.
[263] ظ: السيد المرتضي / أمالي المرتضي: 1 / 151، ابن شهر آشوب / المناقب: 3 / 429، المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 109.
[264] الشيخ المفيد / الاختصاص / 58.
[265] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 426.
[266] سورة الفرقان / 45.
[267] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 427.
[268] أمير علي الهندي / مختصر تاريخ العرب / 184.
[269] الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 7 / 546.
[270] المصدر نفسه 7 / 540.
[271] اليعقوبي / التأريخ 3 / 106.
[272] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 172.
[273] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 14.
[274] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 172.
[275] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 178.
[276] المصدر نفسه / 179.
[277] اليعقوبي / التأريخ 3 / 121.
[278] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 350.
[279] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 47 / 3.
[280] الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 6 / 320.
[281] اليعقوبي / التأريخ 3 / 349.
[282] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 431.
[283] ظ: أحمد أمين / ضحي الاسلام 1 / 112 - 114.
[284] ظ: الأصبهاني / الأغاني 5 / 5.
[285] ظ: ابن الطقطقي / الفخري / 167.
[286] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 439.
[287] الشابشتي / الديارات / 100.
[288] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 3 / 144.
[289] ظ: المصدر نفسه 2 / 193، 6 / 346، الطبري / تاريخ الأمم و الملوك 6 / 397، الطبرسي / الاحتجاج / 214.
[290] ظ: محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 58 و انظر مصادره.
[291] سورة محمد / 22.
[292] الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 3 / 30 - 31.
[293] ظ: محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 59.
[294] الشبلنجي / نور الأبصار / 36.
[295] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 417، المجلسي / البحار 48 / 140.
[296] الطبري / تاريخ الأمم و الملوك 8 / 158 - 159.
[297] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 340.
[298] المسعودي / مروج الذهب 3 / 233.
[299] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 139، الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 205.
[300] ظ: ابن عبد ربه / العقد الفريد 5 / 116.
[301] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 457.
[302] المسعودي / مروج الذهب 3 / 246.
[303] اليعقوبي / التأريخ 3 / 137.
[304] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 137، المسعودي / مروج الذهب 3 / 248.
[305] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 192، 8 / 197.
[306] الأبي / نثر الدر 1 / 358 / طبعة القاهرة / 1980 م.
[307] ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / 122.
[308] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 60.
[309] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 222، السيوطي / تأريخ الخلفاء / 186.
[310] الجهشياري / الوزراء و الكتاب / 144.
[311] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 6 / 489، الأصبهاني / الأغاني 5 / 216.
[312] ظ: الأصبهاني / الأغاني 5 / 216.
[313] المصدر نفسه 5 / 241.
[314] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 217.
[315] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 79.
[316] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 139، الطبري 8 / 230.
[317] القلقشندي / صبح الأعشي 3 / 270.
[318] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 21.
[319] عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد / 2 / 362.
[320] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 29 و انظر مصدره.
[321] ظ: الجهشياري / الوزراء و الكتاب / 288.
[322] ظ: السيوطي / تأريخ الخلفاء / 116.
[323] الأصبهاني / الأغاني 4 / 74.
[324] الأصبهاني / الأغاني 6 / 187.
[325] المصدر نفسه 6 / 185.
[326] المصدر نفسه 175 - 5 / 174.
[327] كتاب التاج / 41.
[328] الأصبهاني / الأغاني 6 / 205.
[329] الأصبهاني / الأغاني 10 / 172.
[330] ظ: المسعودي / مروج الذهب 2 / 382.
[331] ظ: الطبري / تاريخ الأمم و الملوك 3 / 261.
[332] ظ: طبقات الشعراء / 252.
[333] ظ: ابن الأثير / الكامل في التاريخ 6 / 44.
[334] البيهقي / المحاسن و المساوي / 544.
[335] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 46 و انظر مصدره.
[336] غي لسترانج / بين الخلفاء و الخلفاء / 54 - 55.
[337] مصطفي جواد / سيدات البلاط العباسي / 48.
[338] الأصبهاني / الأغاني 6 / 77.
[339] طبقات الشعراء / 246.
[340] الأبشيهي / المستطرف في كل فن مستظرف 1 / 98.
[341] الأصبهاني / الأغاني 5 / 126.
[342] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 189 - 190.
[343] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 193.
[344] ظ: عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد 1 / 267.
[345] مصطفي جواد / سيدات البلاط العباسي / 48.
[346] ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 185.
[347] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 108، البحار 48 / 176 - 178.
[348] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ البغداد 13 / 32، ابن‌الأثير / الكامل 5 / 108، ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / 223، المجلسي / البحار 48 / 148.
[349] الشيخ المفيد / الارشاد / 337.
[350] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 54.
[351] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 129 - 131 باختصار.
[352] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 121 - 122 و انظر مصدره.
[353] المصدر نفسه 48 / 125 و انظر مصدره.
[354] المصدر نفسه 48 / 131 و انظر مصدره.
[355] ظ: المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 132.
[356] ظ: المرتضي / الأمالي 1 / 275، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 431، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 143 - 144.
[357] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 161.
[358] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 484.
[359] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 10 / 25.
[360] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 447، البحار 48 / 169.
[361] ظ: المسعودي / مروج الذهب 3 / 248.
[362] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 10 / 28.
[363] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 48 / 161 - 165 و انظر مصادره.
[364] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 137.
[365] ابن عنبة / عمدة الطالب / 172.
[366] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 10 / 29.
[367] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 165 و انظر مصدره.
[368] الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 453.
[369] ياقوت / معجم البلدان 6 / 308.
[370] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 151 و انظر مصدره.
[371] ظ: ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 139، البحار 48 / 180.
[372] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 465 - 485 بتصرف و اختصار، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 182 - 187.
[373] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 92 و انظر مصدره.
[374] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 493، المسعودي / مروج الذهب 2 / 234 به تصرف.
[375] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين 487، الطبري / التأريخ 10 / 29.
[376] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 498.
[377] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 495 - 496.
[378] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 86 - 103.
[379] ظ: ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 259.
[380] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 104.
[381] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 154.
[382] كان محمد النفس الزكية قد دعا الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الانضمام لحركته الثورية ضد المنصور، فأبي عليه الامام الصادق ذلك، و أخبره بفشل ثورته، كما أخبر بقتله و قتل أخيه من قبل المنصور، و كان الاخبار بالواسطة عن طريق أبيه و سواه، و الامام الكاظم يشير الي هذا.
[383] الكليني / الكافي 3 / 366، المجلسي / البحار 48 / 161.
[384] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 61 - 62.
[385] ظ: الكليني / الكافي 1 / 366، المجلسي / البحار 48 / 166.
[386] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 99.
[387] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 174 عن الاختصاص.
[388] ظ: الكشي / الرجال / 311، البحار 109 / 48.
[389] الكليني / الكافي 5 / 109، المجلسي / البحار 48 / 172 - 173.
[390] ظ: الكشي / الرجال / 276.
[391] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 139 و انظر مصدره.
[392] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 158 يرويه عن قرب الاسناد / 170.
[393] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 287.
[394] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 287.
[395] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 329 - 330.
[396] ظ: الشيخ المفيد / الاختصاص 282 - 283 في طرق و أسانيد هذا الحديث، و بما روي فيه عن الأئمة (عليهم‌السلام) بعبارات متقاربة.
[397] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 330 - 331.
[398] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 85.
[399] الطبرسي / الاحتجاج / 214، البحار 48 / 103.
[400] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127 - 128.
[401] ظ: الآبي / نثر الدر 1 / 359.
[402] سورة الأنعام / 84 - 85.
[403] سورة آل‌عمران / 61.
[404] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 81، البحار 48 / 128.
[405] ظ: الأصبهاني / الأغاني 10 / 94 و ما بعدها.
[406] سورة الأنفال / 72.
[407] ابن شعبة / تحف العقول / 302.
[408] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127.
[409] المصدر نفسه 48 / 126.
[410] الشيخ المفيد / الارشاد / 334 - 335.
[411] ظ: الراوندي / الخرائج و الجرائح / 202، البحار 48 / 64 - 65.
[412] الصفار / بصائر الدرجات 6 / 73.
[413] المجلسي / البحار 48 / 54 عن المصدر السابق 6 / 73.
[414] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 450.
[415] ظ: الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 69 باختصار.
[416] المصدر نفسه 1 / 72.
[417] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 436.
[418] رويت هذه الحادثة في أكثر من عشرين مصدرا معتمدا.
[419] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 70 - 71.
[420] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 232.
[421] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 443 - 460.
[422] المجلسي / البحار 48 / 232.
[423] ظ: تفصيلات ذلك؛ المجلسي / بحارالأنوار 48 / 232.
[424] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 27، ابن كثير / البداية و النهاية 10 / 153، القندوزي / ينابيع المودة / 382.
[425] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 432، البحار 48 / 107.
[426] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 233.
[427] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 502، الشيخ المفيد / الارشاد / 337، الاربلي / كشف الغمة 3 / 25.
[428] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 233.
[429] ظ: المسعودي / مروج الذهب 3 / 265 - 266، ابن‌طاووس / مهج الدعوات / 245، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان 4 / 934، القندوزي / ينابيع المودة / 363، ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / 122.
[430] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 211.
[431] ظ: الاربلي / كشف الغمة 3 / 25.
[432] الصدوق / الأمالي / 146، البحار 48 / 211.
[433] ظ: المسعودي / مروج الذهب 3 / 265.
[434] ظ: الاربلي / كشف الغمة 3 / 26.
[435] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 503، الطوسي / الغيبة / 22.
[436] ظ: المجلسي / البحار 48 / 212 عن الصدوق / الأمالي / 146.
[437] ظ: المجلسي / البحار 48 / 249.
[438] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 487.
[439] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 31، ابن‌الأثير / الكامل 5 / 108، أبوالفداء / التأريخ 2 / 15، الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 273.
[440] ظ: القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 487.
[441] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 1 / 70، ابن‌الأثير / الكامل 6 / 54، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 32، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان 2 / 73، الكليني 1 / 476، المجلسي / البحار 48 / 206.
[442] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 95.
[443] اليعقوبي / التأريخ 3 / 125.
[444] المفيد / الارشاد / 338.
[445] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 221 و انظر مصدره.
[446] محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / 88.
[447] الحميري / قرب الأسناد / 192، البحار 48 / 229.
[448] الكليني / الكافي 1 / 312.
[449] الكليني / الكافي 8 / 124 - 126، البحار 48 / 242 - 244.
[450] المفيد / الارشاد / 343.
[451] المصدر نفسه / 343.
[452] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 276 - 280.
[453] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 281 - 282.
[454] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 126.
[455] ظ: علي سبيل المثال: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 128 - 129 - 145 - 146 - 147 - 148... الخ.
[456] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 408 - 409، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 230 - 231.
[457] الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 504.
[458] ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 185.
[459] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 247 - 248 عن عيون المعجزات / 95.
[460] المفيد / الارشاد / 339، الأربلي / كشف الغمة 3 / 27.
[461] النجاشي / الرجال / 371، المجلس / البحار 48 / 242.
[462] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 85، البحار 48 / 222.
[463] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 223 و انظر مصدره.
[464] ظ: المفيد / الارشاد / 339، المسعودي / مروج الذهب 3 / 273، ابن الطقطقي / الفخري / 172، الطوسي / التهذيب 6 / 81، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان 4 / 395، ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / 122، ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / 222، القندوزي / ينابيع المودة / 363، المجلسي / البحار 48 / 207.
[465] الشيخ المفيد / الارشاد / 339.
[466] ظ: الصدوق / كمال‌الدين و اتمام النعمة 1 / 119، عيون أخبار الرضا 1 / 15.
[467] ظ: الكافي 1 / 258، المناقب 3 / 441، البحار 48 / 212.
[468] كذا في الأصل.
[469] ظ: الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 97، المجلسي / البحار 48 / 226.
[470] اليعقوبي / التأريخ 3 / 145.
[471] ظ: ابن‌الطقطقي / الفخري / 172، الشبلنجي / نور الأبصار / 139.
[472] الشيخ المفيد / الارشاد / 339.
[473] الطوسي / الغيبة / 20، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 229.
[474] ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 185.
[475] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 227.
[476] سورة التوبة / 32.
[477] الشيخ الصدوق / كمال‌الدين 1 / 118، عيون أخبار الرضا 1 / 99.
[478] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 145، الطبري / التاريخ 8 / 271، الكليني / الكافي 1 / 186، المفيد / الارشاد / 339، الطوسي / التهذيب 6 / 81، الخطيب البغدادي / التأريخ 13 / 35، ابن‌خلكان / الوفيات 4 / 395.
[479] ظ: الكليني / الكافي 1 / 476، المفيد / الارشاد / 307، المناقب 3 / 437.
[480] ابن‌خلكان / وفيات الأعيان 4 / 395.
[481] الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 1 / 120.
[482] بحرالعلوم / تحفة السالم 2 / 20.
[483] عبدالباقي العمري / الديوان / 133.
[484] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 534.
[485] قال زكريا بن آدم، و هو من وجود أصحاب الأئمة للامام الرضا: اني أريد الخروج عن أهل بيتي، فقد كثر السفهاء فيهم، فقال الامام الرضا: لا تفعل، فان أهل (قم) يدفع عنهم بك، كما يدفع عن أهل بغداد بأبي‌الحسن (عليه‌السلام)، يعني الامام موسي بن جعفر.
[486] قال تعالي: (و عندهم قاصرات الطرف عين) الصافات / 48.
[487] آل‌ياسين: الأسرة العلمية الشهيرة في الكاظمية، برز منها العلماء الأعلام و المراجع العظام، كان أشهرهم المرجع الأعلي الآية الكبري الشيخ محمدرضا آل‌ياسين (قدس سره).
[488] أل الصدر: الأسرة الموسوية العريقة في الكاظمية برز منها السيد حسن الصدر صاحب (تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام) و السيد اسماعيل الصدر و السيد محمدباقر الصدر صاحب (فلسفتنا) و (اقتصادنا) و سواهم.
[489] أل الحيدري: من أعرق الأسر العريقة في الكاظمية، برز منهم السيد مهدي الحيدري من قواد الثورة العراقية، و السيد علي نقي و السيد محمد طاهر و السيد محمد الشهير بالخلاني.
[490] الامام الشيخ مهدي الخالصي الكبير قائد الثورة العراقية، و ولده الأكبر الشيخ محمد الخالصي (قدس سره).

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.