الامام موسي الكاظم (عليه السلام) الق الفكر واصاله الانتما

اشارة

‏سرشناسه : صالح، نبيل علي
‏عنوان و نام پديدآور : الامام موسي الكاظم الق الفكر واصاله الانتما/ نبيل علي صالح
‏مشخصات نشر : بيروت : الغدير ، ۱۹۹۹م. = ۱۴۱۹ق. = ۱۳۷۸.
‏مشخصات ظاهري : ص ۱۸۲
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : كتابنامه: ص. ۱۷۹ - ۱۷۳؛ همچنين بصورت زيرنويس
‏موضوع : موسي بن جعفر (ع)، امام هفتم، ۱۸۳ - ۱۲۸ق. -- سرگذشتنامه
‏رده بندي كنگره : BP۴۶/ص‌۲‌الف‌۸
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۳۶۱۴

كلمة المركز

كان الامام موسي بن جعفر، الكاظم عليه‌السلام، في الخامسة من عمره عندما انتقل الحكم من السلطان الأموي الي السلطان العباسي، و كان المسلمون يأملون في أن يتولي أمورهم «الرضا من آل محمد»، فيمضي بهم وفق النهج الاسلامي القويم، و هذا ما كانت الدعوة للتغيير ترفعه شعارا، غير أن الأمل خاب، و سمع المسلمون، في يوم غرفة، أباجعفر المنصور، الدوانيقي، يخطب فيهم، و يحدد نهجه السياسي فيقول: «أيها الناس، ان بكم داء هذا دواؤه [مشيرا الي السيف] و أنا زعيم لكم بشفائه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به». و لم يطل الأمر بالسلطان، الحامل سيف النقمة دواء، أن نفذ وعيده، و سلم مفاتيح «كنزه» الي خليفته، و أمره بتغذيته، و كان في هذا الكنز ما يزيد علي مئة قتيل من العلويين. في هذه الآونة، كان الامام الكاظم عليه‌السلام فتي في العاشرة من عمره، يعاني ما يعانيه آله من هذا الطغيان من نحو أول، و ينهل من علوم والده الامام جعفر الصادق عليه‌السلام من نحو ثان، و قد غدت دارته مدرسة عامرة يؤمها طالبو المعرفة، من مختلف البلدان الاسلامية، يتزودون علوما تجيب عن الأسئلة الكثيرة التي طرحت في تلك المرحلة التي كانت مرحلة تأسيس الثقافة الاسلامية و تكون المذاهب الفقهية الكلامية. كان الامام الصادق عليه‌السلام يسعي، و قد بلغ طغيان السلطان ما بلغه، الي تكوين الأمة المؤمنة الواعية، و وجد في نجله الامام موسي عليه‌السلام الصفات التي تؤهله لأن يكون القائم بالأمر من بعده، فقال فيه ما معناه: عنده المعرفة بما يحتاج اليه الناس و الحكمة و الفهم و السخاء. [ صفحه 6] عاش الامام الكاظم عليه‌السلام عشرين سنة في كنف أبيه و رعايته. و لما تولي الأمر من بعده، مضي علي نهجه، في تكوين «الكتلة البشرية المؤمنة، صادقة الايمان»، من دون أن يفرط في حق، فعندما خاطب هارون الرشيد رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، أما الناس بقوله: السلام عليك يا ابن‌العم، بادر الامام الكاظم الي مخاطبته صلي الله عليه و آله و سلم بقوله: السلام عليك، يا أبت. فثارت ثائرة السلطان، الحاكم باسم الاسلام، و بسبب قرابته من رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و زج بحفيد رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم في السجن... و بقي الامام عليه‌السلام فيه يتنقل من سجان الي آخر، و كان السجانون يتباركون به، الي أن انتقل الي رحمة الله سبحانه و تعالي. يمثل الامام موسي الكاظم، في شخصيته و سيرته و مواقفه...، رمزا من رموز مقاومة الانحراف الذي آل الي الطغيان، و اتخذت مقاومته سبلا شتي، و في مختلف ميادين الحياة. و المؤلف، اذ يعي هذا، و يدرك دور التاريخ و دور قادته الكبار في تكون شخصية الانسان، يقدم علي تأليف هذا الكتاب لعله يسهم في تأسيس مستقبل مشرق للأمة...، فيبحث في قضيتين مركزيتين: أولاهما: الامام الكاظم امتداد للنبوة، و يتمثل هذا الامتداد في حياته، و المهمات العلمية و التربوية التي نهض بأدائها، و ثانيتهما: الامام الكاظم نبراس حضاري، و يتمثل هذا النبراس في نظام القيم السياسية - الاجتماعية - الأخلاقية... الذي انتهجه الامام الكاظم... يهدف هذا الكتاب الي تقديم معرفة تسهم في تأسيس هوية الأمة، و يقتدي مؤلفه، في سعيه، بنهج الأئمة الأطهار، فعسي أن يكون قد وفق، و الله الموفق في كل حال. مركز الغدير للدراسات الاسلامية [ صفحه 7]

مقدمة المؤلف

التعريف بالمنهج العلمي في البحث التاريخي‌

بسم الله الرحمن الرحيم يمثل المنهج الأسلوب أو الطريقة المنظمة التي يبني عليها الباحث، في مجال فكري و ابداعي، دراساته و أفكاره، و ينظم علي أساسها استنتاجاته و نظرياته. و من الضروري لأي بحث أو دراسة علمية أن تستهدي بمنهجية معينة تبعد الباحث عن متاهات الفوضي و الاضطراب و الاهتزاز في النتائج و الآراء، كذلك من الضروري أن يحدد الباحث، لكل موضوع من موضوعات العلم و المعرفة البشرية، نهجه الخاص و أسلوبه المميز و طريقته البنائية التي تناسب وضعه، و حجمه، و حالته الخاصة و العامة، فيكون للعلوم الطبيعية منهجها المناسب لها، و لكل من الفقه و العقائد و الفلسفة و العرفان، منهجه الخاص. أما علي الصعيد التاريخي فاننا نجد أن البحث في هذا الحقل يعتمد علي أن للتاريخ طريقته، و منهجيته، و أساليبه، و أدواته الخاصة في فهم حركة الأحداث، و المواقف، و الأدوار، و العوالم الماضية. فالتاريخ ذاكرة الأفراد و الأمم، تتكون به شخصيتها و معالم هويتها، و اليه تعود في منعطفاتها، و تقلباتها الخطيرة، و به يتقوي وجودها و يتزايد نشاطها و فعاليتها في مواجهة متغيرات الواقع و صراعات الحياة داخل الأمة و خارجها، [ صفحه 8] لذلك لم يكن غريبا، و الحال هذه، أن تعرف الأمة بأنها جماعة من الناس تكونت تاريخيا، أي أصبح لأفرادها و مختلف فئاتهم و شرائحهم و طبقاتهم، ذاكرة جماعية مشتركة، أو تاريخ جماعي مشترك ساهم في صهر تلوناتهم و تنوعاتهم، و ولد لديهم نوعا من التشابه النسبي في النظر الي أمور الحاضر و في الحكم عليه و الانفعال بها و الاستجابة لها [1] . من هنا يكون تعاطي الأمة مع ماضيها التاريخي الذي تختزنه ذاكرتها الجماعية كتعاطي الفرد مع مخزون ذاكرته الذي كونه عبر مسيرته في الحياة، كلاهما يريد أن يتعامل مع البعد التاريخي له - علي اختلاف الظروف و المسببات و النتائج - من موقع اهتمامه بواقع الحال الراهن، أي بوحي من متطلبات الحاضر و همومه و شؤونه و شجونه و أحواله المختلفة، فينتقي منه ما يساعد علي فهم و وعي ما يواجهه من مستجدات طارئة أو مستديمة، و يعين علي اجتراح الحول له و الاستقطاب لانجاز هذه الحلول، لذلك فكلاهما لا يستعيد من الماضي الا ما تكون له هذه الصفة أو القدرة، أما الباقي فانه لا يمحي و لا يزال بل يظل مخزونا احتياطيا، يغترف منه متي دعت حاجات راهنة أخري. اننا نعيش في ظل ظروف ضاغطة و قاهرة، أحوج ما نكون فيها الي هذه الاستعادة و ذاك الاغتراف الواعي و المدروس في أحداث التاريخ و قضاياه، لا علي أساس أن يكون ذلك عاطفية من اللوعة و الحنين (بالمعني السلبي) لأحداث و ذكريات تاريخية مرت، نريد سحبها و تطبيقها في زماننا الحالي، ولكن علي أساس أن تكون استعادتنا تلك، استجابة واعية لمهمة راهنة أو مستقبلية بعد خضوعها لمتغيرات و تحولات تجعلها صالحة للنمو، و الامتداد، و التعملق في ساحات الحياة الراهنة و المنظورة. بهذا المعني نحن نريد للتاريخ العربي و الاسلامي النهوض و الارتقاء باتجاه المسؤوليات الجسام في خضم الحياة المعاصرة، في حاضر الأمة، من أجل التفاعل مع الصعوبات التي تعترضها، و التحديات التي تواجهها، [ صفحه 9] و الطموحات التي تسعي جاهدة لنيلها أو تحقيق بعض مطالبها الأولية.

الزمر بين التقديس و الروح العلمية المجردة

نعلم جميعا أنه يوجد في تاريخ كل شعب من الشعوب أشخاص يحيطهم بهالة من التقديس، و الاجلال، و الاحترام، و الهيبة، و يجعلهم نماذج راقية يتطلع نحوها باستمرار، و ينسج حولهم الكثير من القصص و الروايات و الحكايا تختلط فيها أساطير الخيال بوقائع الأرض. أما في تاريخنا الاسلامي فاننا نجد أن هناك كثيرا من تلك الشخصيات و الرموز المقدسة التي اختلطت وقائع حياتهم بما نسجته مخيلة الناس عنهم و حولهم من أساطير و خرافات، يصعب علي المرء أن يميز فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود (الواقع من الخيال) [2] ، كما و نجد، في الوقت ذاته، أشخاصا و رموزا مقدسة معروفة بوقائع حياتها، و بأفكارها، و مآثرها، و ابداعاتها. و الباحث في مجال تاريخنا الاسلامي يلاحظ أن التقديس و التبجيل الذي تكنه الأمة لبعض رموزها و عناوينها الكبيرة يرتكز علي أحداث و وقائع تاريخية ملموسة، مارس فيها الشخص المقدس أدوارا معروفة، و التزم بمواقف حاسمة ساهمت في انتاج، و بلورة، و صياغة قيم الاسلام و مبادئه و أنساقه الحضارية، و حققت للأمة الكثير من نجاحاتها و انتصاراتها، و عملت علي انهاضها من كبواتها و سكناتها السياسية و الفكرية، و الامام موسي بن جعفر الكاظم عليه‌السلام أحد هؤلاء الأعلام و الرموز العظيمة التي جاءت قيمتها و قدسيتها و عظمتها انطلاقا من الدور التاريخي الحيوي و الهام الذي قام و مثلته الأحداث، و النصوص، و المواقف في تكوين عناصر شخصيته و بلورة معالم صورته. ان اعتقاد بعض المسلمين بقدسية الامام عليه‌السلام ليس مانعا من انجاز [ صفحه 10] الدراسة العلمية و الموضوعية للتاريخ الذي مارسه و المواقف التي التزمها، لأنه عليه‌السلام كان يريد للناس أن يفهموا أنه انسان مثلهم يخضع، كما يخضعون، للسنن التاريخية الالهية في كل تصرفاته و أحواله، بما فيها تصرفاته و أفعاله المعرفية الاستدلالية. ان احترامنا لشخصية الكاظم عليه‌السلام ينبني علي الحقيقة الموضوعية العميقة و الدقيقة و المجردة عن النزعات و الأهواء الذاتية، مع ضرورة الأخذ بمبدأي السببية و الحتمية [3] ، لفهم وقائعها و أحداثها و أعمالها التي قامت بها، و التوجه الي العقل و المنطق، بعيدا عن العاطفة و الخيال، و هذه الطريقة [4] في و عي الشخصية المقدسة، تستهدف أساسا المعرفة و التأسيس العقلاني لمستقبل الأمة في سعيها الحثيث لبناء حاضر أفضل و غد واعد مشرق من خلال تنقية أجوائها التاريخية و تأسيس هويتها العقائدية و الحضارية و الدفاع عنها و الحفاظ عليها. [ صفحه 11]

تاريخ الرمز و مسؤولية المثقف الاسلامي‌

تحرك امامنا الكاظم علي طريق بناء الفكر الحي المنفتح القادر علي اثارة النفوس و تحريك العقول نحو الحق و العدالة، لم ينفصل عن محيطه الزماني و المكاني بعيدا عن التأثير أو التفاعل مع حركة الأحداث التي عايشها، بل علي العكس من ذلك، كان يتحرك في عمق الأصالة و الانتماء للفكر و الحياة و الانسان في وعي التجربة الواقعية للوجود الانساني الحي، مرتبطا بحركية الهدف الاسلامي الكبير بكل قوة و ايمان و تخطيط علي التحرك في خط الله و رسوله، من أجل السير بالأمة نحو مواقع العطاء و التطور و الكمال الحضاري سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا. من هنا نقول: ان وعي تجربته التاريخية عليه‌السلام و استلهام دوره و فكره في حجم الحياة كلها هي من أولي واجبات و مهام المثقف الملتزم في ممارسته للنقد التاريخي البناء الهادف الي توليد مجتمع اسلامي حضاري و رسالي قادر علي مواكبة التطور و الاستجابة لتحديات الواقع و الحياة لأن نقد التاريخ بأشخاصه، و رموزه، و معطياته المختلفة، يعني أن يبقي الانسان في حالة انفتاح فكري متحرك ليؤكد علي مسؤولية كل جيل، في التاريخ، تجاه مكتسباته و أعماله الفكرية و العملية، و هذه المسؤولية الكبيرة مارسها القرآن الكريم في نقده لكل أفكار و تجارب الماضين و خاصة التاريخ الماضي الذي كانت تعيشه الأمة التي نزل فيها القرآن، (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم و لا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة: 134] لذلك ان بناء الحضارة الانسانية ليس رهنا بتراث و تاريخ الماضي فقط - علي علات و سلبيات ذلك التاريخ - و انما بمختارات مدروسة و محسوبة حسابا دقيقا من التراث، تنسجم و طبيعة العصر و روحه، من حيث امكانها أن تكون حجرا أساسا، أو منارا هاديا للدخول الي المستقبل بقوة، و وعي، و تخطيط ان المهمة ثقيلة و الواجب كبير في اخراج تاريخنا الماضي في الدهاليز المظلمة و المجاهيل البعيدة بطريقة مركزة و هادفة، و اطلاقه الي ساحة النقد التاريخي العلمي و الموضوعي. [ صفحه 12] اننا سنحاول، في الصفحات القادمة، التحرك علي هذا المسار العلمي في فهم تاريخ و فكر و حياة الامام الكاظم عليه‌السلام، و كيفية الارتباط به [5] ، و الاستفادة من خبراته و استلهام تجاربه في واقع الحياة المعاصرة بما يخدم قضايانا و مشاكلنا التي نعيشها حاليا، و ينسجم مع توجهاتنا و تطلعاتنا نحو انجاز مشروعنا الحضاري الاسلامي في دائرة الصراع الحضاري الراهن الذي يجب أن يثير في نفوسنا بواعث الحركة الفاعلة و الطاقة المنتجة من أجل الاسلام المتحرك في الفكر و القلب و الحياة. و الحمد لله رب العالمين نبيل علي صالح 1418 ه - 1997 م [ صفحه 15]

امتداد النبوة و عطر الرسالة

محطات تاريخية هامة من حياته

لمحة موجزة عن سيرته المباركة

ولادته، عصره، وفاته

ولد الامام موسي بن جعفر عليه‌السلام الملقب بالكاظم في الأبواء [6] في السابع من شهر صفر سنة 128 للهجرة [7] . و قد حفلت تلك المرحلة التاريخية من حياة أمتنا - التي عاصرها امامنا عليه‌السلام - بالعديد من الأحداث السياسية و التحولات الاجتماعية الخطيرة علي صعيدها الذاتي الداخلي المتصل بحركية المضمون الواقعي لرسالة الاسلام، و علي صعيدها الموضوعي الخارجي فيما مثلته (و تمثله) حركة الدعوة الاسلامية بامتداداتها الانسانية العالمية في مسيرتها الحضارية [ صفحه 16] المتصاعدة نحو مواقع أرقي في السلوك، و العمل، و الممارسة الواعية و المنظمة. و الواضح، بالنسبة للباحث في مجال المعارف التاريخية، أن هناك تشابها ملحوظا في النسق العام للظروف التاريخية التي عايشها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في طبيعة الحدث المستجد و الظرف القائم. علي اختلاف مظاهره و أنماطه و خصائصه الذاتية، فالمضمون - كما يبدو - واحد لا يختلف. انه المضمون الرسالي الهادف الي بناء أمة مقتدرة لها كيانها و وجودها الحضاري و فعلها الابداعي في حركة الحياة في سبيل تحقيق غاية التكامل الممكن و الوصول الي السعادة و الهناء. و في مقابل ذلك، هناك المضمون الانحرافي الآخر الذي ينزع بقوة نحو الشخصانية و الذاتية علي حساب مصلحة الأمة حيث نجد - في هذا الاتجاه - كيف عاشت هذه الأمة أجواء الضلال و الانحراف في ممارسة الحكم و السلطة السياسية و الاجتماعية منذ أن نجحت بعض المشاريع التفتيتية [8] في تحقيق أهدافها و مراميها التي قضت بايصال مشروع الهيمنة و الطغيان النفسي و السلوكي الي سدة الحكم باعتباره مشروعا، طموحا غرائزيا شخصيا، لم يتجاوز، في حده الأعلي، أهواء و نزعات واضعيه و القائلين به. ان المتابعة التحليلية الدقيقة لذلك العهد تفيدنا بأنه لم يمض ربع قرن [ صفحه 17] حتي بدأت الخلافة الراشدة و التجربة الاسلامية - التي تولي جيل المهاجرين و الأنصار قيادتها - تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجهها أعداء الاسلام الجدد (أحفاد أعداء الاسلام القدامي) ولكن من صميم و من داخل التجربة الاسلامية لا من خارجها، اذ استطاعوا أن يتسللوا الي مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج، و يستغلوا القيادة و يجبروا الأمة و جيلها الطليعي الرائد الواعي و الواعد علي التنازل عن شخصيته و قيادته، و تحولت الزعامة الي ملك موروث «ملك عضوض» يستهتر بالكرامات، و يعطل الحدود، و يمجد الأحكام، و أصبحت الخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني‌أمية [9] ، و فريسة سهلة يفتك بها طواغيت بني‌العباس. اذا شهدت تلك المرحلة العصيبة اضطرابات و نزاعات اجتماعية، و سياسية اندفعت آثارها المفجعة الي السطح بسرعة من خلال ظهور الأزمات و النكبات العاتية [10] التي خطط لها و نظم حركتها زعماء النهج الجاهلي في تاريخنا العربي و الاسلامي، و ذلك بقصد حرف الأمة عن مسيرتها الارتقائية الحضارية في التكامل الروحي و المفاهيمي، و النيل من العمق الواعي للاسلام الرسالي المنفتح المتجذر في وعي أهل البيت عليهم‌السلام حيث أدت تلك الأفعال المشبوهة، ذات المنطق العائلي الضيق المخالف لروح و قيم الاسلام الأصيل، الي ابتعاد المسلمين عموما عن ممارسة التجربة الصحيحة و الواعية للاسلام، و ادخالهم في متاهات الحفر الطائفية البغيضة، المعبرة عن ميل انحداري شديد نحو كرسي الحكم و عرش السلطنة، حتي لو كلف ذلك الأمة خسارة نهجها المشرق، و طموحات رسالتها الانسانية و منظومتها الفكرية و القيمية. لقد استنزفت تلك الأحداث الكارثية الشي‌ء الكثير من طاقات و مواهب [ صفحه 18] الأمة، كما و أهدرت مقدراتها و امكانياتها التي كان من المفترض أن تشكل الأساس المتين لبناء قاعدة اسلامية صلبة في العمل الدعوتي الرسالي علي مستوي تبليغ و نشر الاسلام الي كافة الأرجاء و الأنحاء، و بالعودة الي المراجع التاريخية المعتمدة كمصادر دراسية أساسية في الحقل التاريخي الاسلامي، نجد أن الامام الكاظم عليه‌السلام عاصر في حياته عدة خلفاء من العصرين الأموي و العباسي [11] ، ممن اتسم حكمهم - كأسلافهم - بالاستبداد، و الفردية، و التسلط، و الظلم، و شدة الضغوطات الأمنية، و وطأة الخطط السياسية التي كانوا يضعونها، حيث كان امامنا عليه‌السلام واعيا لها، و مدركا لحجم و أبعاد خطورتها، علي المدي القريب و البعيد لقد قضت تلك الخطط بالسيطرة علي مقدرات الأمة، و نهب خيراتها من خلال اتباع سياسة الترغيب و الترهيب و التأكيد علي مبدأ القوة الحديدية و القمعية الذي طبع كل تاريخهم، و ذلك من خلال ما يلي [12] . [ صفحه 19] 1- قتل الناس الأبرياء. 2- تبذير الأموال العامة في أماكن اللهو و الطغيان. 3- هدر ثروات العباد علي مظاهر الترف و البذخ الزائل و الزائف. 4- ملاحقة المؤمنين و الصلحاء و الأتقياء. 5- الضرب علي أوتار العشائرية و القبلية عبر اذكاء و اشاعة الصراع القبلي. 6- ممارسة التصفية الجسدية، و الاغتيال السياسي المنظم لأعلام المسلمين الشيعة، و هدم دورهم، و اسقاط جميع حقوقهم المدنية. 7- تغذية الناس ببغض الامام علي و ذريته الطاهرة عليهم‌السلام. 8- اتباع سياسة كم الأفواه، و شراء الذمم و الضمائر و تأجير العقول. و بالتالي ادخال الأمة، بكل مواقعها، في غياهب المجهول الغارق بالضبابية و الصراعات الفئوية و الذاتية الضيقة [13] .

سؤال و جواب (استنتاج عام)

في سياق الاستعراض التاريخي السابق لجملة الظروف الصعبة التي هزت الواقع العام الذي نشأ فيه الامام الكاظم عليه‌السلام، ما هي ردود الأفعال التي أنتجتها حالة السخط و الغليان و عدم الرضا عن الواقع المعاش، لدي الامام عليه‌السلام و عامة الناس؟!. بمعني آخر: ما هو حجم المبادرات و آليات العمل الفاعلة التي كرستها، كنتيجة منطقية، تلك الحالة الضاغطة علي واقع المجتمع و الأمة؟!. في الواقع، بعد أن انتهي عصر الخلافة الأموية الذي طبع الحالة العامة [ صفحه 20] للدولة بطابع المركزية، و القهر و الاستعباد، و الظلم في السياق الفكري و العملي، آلت مقاليد الأمور لبني العباس الذين مارسوا نفس الدور الذي لعبته سابقا «الأموية» [14] و طلبوا الغايات نفسه الاستئثارية الخاصة ذاتها لكن هؤلاء رفعوا شعارا اسلاميا حماسيا عاطفيا علي درجة من الزيف و البهتان و الظلم و هو «مناصرة آل محمد، و الانتقام من أعدائهم» [15] لك الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، اذ سرعان ما سقطت أقنعة المودة و الموالاة [16] . و انكشفت تحتها تلك السياسة الماكرة للعباسيين، و اتضحت حقيقة الشعارات المرفوعة، حيث لم تكن الدولة العباسية، في سلوكها و أساليب عملها، الا امتدادا جديدا لظاهرة الفرعنة الأموية بسلوكها و عقيدتها و التزامها، هنا بالذات انطلقت آليات عمل فكرية حركية من قبل المخلصين و المدافعين عن [ صفحه 21] الوجود الحضاري للأمة يمكن ملاحظتها من خلال هذا الالتفاف و التحول النوعي الحار في نطاق الممارسة الامامية من حالة ردة الفعل و الاستجابة الآنية علي مستوي الطرح العاطفي الساذج، الي حالة الفعل الايجابي المؤثر و المنتج لنمط واع من العمل الرسالي المقترن بشرائط و ضوابط قانونية متحركة في اطار ظروفها الواقعية و الموضوعية. و هذا ما نجده واضحا تماما من خلال ملاحقتنا للثورات التي أعقبت (راهنا) استشهاد الامام الحسين عليه‌السلام. و امتدت (لاحقا) حتي سقوط الحكم الأموي و من ثم انقضاض العباسيين علي السلطة. لقد حاول امامنا - ضمن هذا الجو المحموم و بعد ادراكه و وعيه الكامل لجملة التغيرات المطردة في حياة الناس و فهمه لحاجاتهم الآنية - حاول اختيار أقرب الطرق و أسهل الأساليب العملية الموصلة الي نفوس الناس و أذهانهم كالارشاد و التبليغ و الوعظ. ضمن هذه الأجواء المتشنجة و المشحونة بالعصبوية الذاتية و النزعة الفردية الطغيانية برزت الي العلن شخصية الامام موسي الكاظم عليه‌السلام كأحد رموز مقاومة واقع الانحراف و قيم الجاهلية، و كقائد رسالي يحمل للأمة أطروحة فكرية اسلامية نيرة، يريد نشر تعاليمها السامية كاستمرار فعال لقيادة و خط الرسول صلي الله عليه وآله و سلم و الأئمة عليهم‌السلام من قبله في محاولة منه لسد النقص الحاصل في جسم الأمة ثقافيا و اجتماعيا و سياسيا. استمر الكاظم عليه‌السلام يعمل - بكل تخطيط و وعي - علي الخطوط و المحاور نفسها التي سبقه اليها الامام الصادق عليه‌السلام في مواجهته للواقع الاجتماعي المأزوم الذي انحسرت عنه، و في جانب كبير منه، قيم الاسلام و مضامين رسالته و أفكارها و تصوراتها العامة، مما أدي الي حدوث فراغ تشريعي و فقهي و أخلاقي حاد، اضطر ذلك مدرسة الخلفاء الي استحداث مصادر تشريعية جديدة بديلة يمكن أن تلبي، علي حد زعمهم، حاجات الواقع التشريعي المتجددة [17] . [ صفحه 22] لقد بقي امامنا عليه‌السلام يمارس دوره الريادي، فكريا و اجتماعيا، في دعوته الي التمسك المبدئي الراسخ بثوابت الاسلام و هدي القرآن، حتي آخر حياته الشريفة التي عاني فيها (بخاصة في أواخرها) ما عاناه من عذاب السجن و التضييق و التنكيل و التكبيل بالقيود، لقد مكث الامام عليه‌السلام - كما سنفصل لاحقا - زمنا طويلا في سجن هارون، و قد هد السجن صحته و أذاب جسمه حتي أصبح، حين يسجد لربه، كالثوب المطروح علي الأرض، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول: ان الخليفة يعتذر اليك و يأمر باطلاق سراحك علي أن تزوره و تعتذر اليه، أو تطلب رضاه، فيشمخ الامام عليه‌السلام و هو يجيب بالنفي بكل صراحة، لا لشي‌ء الا لكي لا يحقق للزعامة المنحرفة هدفها في أن يبارك الامام عليه‌السلام خطها، فتنعكس معالم التشويه [18] و هذا ما يبدو واضحا من خلال كلمات الرسالة التي أرسلها عليه‌السلام لهارون و هو لا يزال في السجن معربا له فيها عن بالغ سخطه عليه، جاء فيها «انه لن ينقضي عنك يوم من الرخاء حتي نفني جميعا الي يوم ليس له انقضاء، و هناك يخسر المبطلون» [19] . بعد ذلك، و بفترة قصيرة، كانت وفاته في حبسه بواسطة السندي بن شاهك (أمير السجن العباسي) خلال شهر رجب من سنة 183 للهجرة [20] . [ صفحه 23]

فعاليته التاريخية و نشاطاته الفكرية و العملية

حركيته العلمية و أبرز تلاميذه و أصحابة

اشاره

اتهجت جهود الامام الكاظم، في هذا المجال، الي التخطيط الواعي لبناء كتلة ايمانية شعبية ملتزمة و مرتبطة بخط أهل البيت عليهم‌السلام نهجا و سلوكا، و ذلك بتنمية وعيها، و عقلنة عواطفها الجياشة، و رص صفوف قواعدها الشعبية المنتشرة هنا و هناك باعطاء محددات و ضوابط عامة لمعالمها الفكرية و الاجتماعية في بعض مواقع العالم الاسلامي. لقد كان من الطبيعي، بعد أن تسلط الأشرار علي واقع الأمة، أن ينطلق الكاظم باتجاه ممارسة دوره الهام، المحقق لرسالة الاسلام، في انشاء القواعد و الركائز الخاصة اللازمة للوقوف في وجه تلك المتغيرات الانحرافية الذاتية التي أفضت الي انهيار معنوي كبير بين صفوف مختلف شرائح المجتمع. لقد تمثلت تلك الخطوة بداية، في سعي الامام عليه‌السلام الي بناء هيكلية معرفية عامة تستطيع القيام بمهمة الدفاع عن حصن العقيدة، و ايقاف تلك الاندفاعات الفكرية القشرية الناهضة التي كانت تشكل خطرا كبيرا علي الرسالة، و العمل الفاعل علي تفكيك أبنيتها و اسقاط مفاعيلها في بداية تشكلها و نشوئها، لا سيما و أنها قد أثرت بشكل سلبي ملحوظ علي وعي الناس، لذلك وجد الامام الكاظم أن الحل الجذري الحاسم لعلاج ضعف العقيدة في النفوس، و تحكم النزعات الغرائزية بالناس - كنتيجة للمقدمة السابقة التي أنتجت مجتمعا [ صفحه 24] ظالما بكل معني الكلمة - وجد عليه‌السلام أن الحل يكمن في نشر الدين، و تعميم معارفه و قيمه، و الدعوة العاقلة الي التمسك بأحكامه و أهدابه، و تطبيق مبادئه و معاييره. و هنا بدأ امامنا عليه‌السلام بحركة علمية نشيطة و واسعة كانت، في مضمونها، استمرارا ايجابيا مؤثرا لنهج أبيه الصادق عليه‌السلام الذي عاش الكاظم معه نحوا من عشرين عاما، أدرك فيه عهد الأمويين في سن الطفولة، كما و شاهد، في هذ السن و بعده، تقاطر وفود علماء و طلاب العلم و المعرفة من جميع الأقطار تغص بهم المدينة. و قد ازدحموا علي أبيه عليه‌السلام شبابا و شيوخا و هم بين مستمع يأخذ منه العلم الحديث، و بين من يناظر في التوحيد و التشبيه و القدر و الامامة، و غير ذلك من المواضيع التي شاعت في ذلك العصر و تشعبت فيها الآراء [21] اذا، قضي الامام موسي أعوامه العشرين كاملة في كنف و رعاية أبيه الصادق عليه‌السلام، و مضت تلك العشرون و هو الي جانبه يلقنه من فنون العلم و طرائف الحكمة ما يؤهله الي القيادة و الامامة التي كانت تنتظر قدومه. من خلال هذا المنظور يمكننا الدخول الي أهم نشاط فكري و فاعلية عملية عمل عليها الكاظم عليه‌السلام من أجل ايقاف هذا المد الهائل من حالة الانهيار و الذوبان والمسخ، و هي فاعلية التخطيط المركز و الاشراف المباشر انطلق الامام في هذا المحور معلنا ضرورة ايجاد توعية عقائدية بين صفوف أبناء المجتمع، و الاسراع في معالجة أسباب الانحراف و ظهور اتجاهات عقائدية باطلة، و بالتالي مكافحتها و الوقوف في وجه تلك النزعات و التيارات التي نتجت عنها كالشعوبية و العنصرية و النحل الدينية. و كانت الدعوة الي الأفكار الالحادية [22] من أخطر الدعوات المحمومة [ صفحه 25] التي أخذت تنشط، و تبث سمومها في نفوس الناشئة الاسلامية، و كان موقف الامام موسي عليه‌السلام من هذه الدعوة موقف المتصدي و الناقد لها بالأدلة العلمية الرصينة، و المظهر لتهافتها و بعدها عن منطق الواقع، حتي اعترف قسم كبير من حملة تلك المبادي‌ء بأخطائهم و فساد اتجاههم. في مواجهة هذه المقدرة العلمية في اسقاط تلك الدعوات الباطلة التي أثقل، تصدي الامام و أصحابه لها، كاهل المسؤولين و المنتفعين هنا و هناك - وقف هؤلاء الأعيان و كبار رجالات الدولة في وجه هذه الحركة العلمية الدعوتية التي لمعت و ذاع صيتها في الآفاق، و تصدوا لها بالتنكيل و الاضطهاد، و منعوا قادتها من الكلام في مجالات العقيدة، الأمر الذي اضطر الامام عليه‌السلام أن يبعث الي هشام (و هو أحد أصحابه) ليكف عن الكلام و المناظرة نظرا الي خطورة الموقف، فكف هشام عن ذلك حتي مات الخليفة المهدي [23] . لقد كان لتوجه الامام الكاظم عليه‌السلام نحو بناء و تشييد القواعد الأساسية للكتلة الايمانية الواعية و اعطائها طابعها المميز، أثر ايجابي كبير في التفاف كوكبة من العلماء و رواة الحديث حوله ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبري، و زودوا الفقه الاسلامي بطاقات و مواهب كبيرة من آرائه الحصيفة [24] ، و قد تولي هؤلاء، مع الامام عليه‌السلام، مهمة الاشراف المباشر علي الموالين و القواعد الشعبية و التنسيق معها في كل المجريات الحياتية [25] و بخاصة في ما يتعلق منها [ صفحه 26] بطبيعة الموقف تجاه الحكم السياسي و المشاركة أو عدم المشاركة فيه [26] . لقد أجمع الرواة علي وجود شخصيات فكرية روائية عديدة اشتهرت بفقهها و علمها و نقلها الروايات عن الامام الكاظم عليه‌السلام، كان من أبرزها:

علي بن يقطين بن موسي البغدادي

لم يكن هذا الرجل فقيها بارعا و محدثا بارزا بالمعني العميق للكلمة، و انما كان من أقرب المقربين (اجتماعيا) للامام الكاظم، لذلك و ضعنا لمحة عامة سريعة عن حياته في سياق حديثنا عن أهم الشخصيات الفكرية و الفقهية التي نهلت من علم و فكر امامنا الكاظم (ع). كان ثقة، جليل القدر، له منزلة عظيمة عند أبي‌الحسن الكاظم عليه‌السلام، عظيم المكانة في هذه الطائفة، روي أنه عليه‌السلام ضمن له الجنة و أن لا تمسه النار أبدا، و كان وزيرا لهارون، فاستأذن الامام عليه‌السلام بترك العمل فلم يأذن له، و قال له: «عسي أن يجبر الله بك كسرا، و يكسر بك نائرة المخالفين من أوليائه، يا علي كفارة أعمالكم الاحسان الي اخوانكم» و روي أنه لما قدم أبوابراهيم موسي بن جعفر عليه‌السلام العراق، قال علي بن يقطين مخاطبا الامام عليه‌السلام: أما تري حالي و ما أنا فيه؟ فقال عليه‌السلام: «يا علي، ان لله تعالي أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه و أنت منهم يا علي» و روي عنه عليه‌السلام أنه قال له (لعلي بن يقطين): «اضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثا» فقال علي: جعلت فداك و ما الخصلة التي أضمنها لك؟ و ما الثلاث اللواتي تضمنها لي؟ فقال أبوالحسن عليه‌السلام: «الثلاث اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبدا بقتل، و لا فاقة، و لا سجن» فقال علي: فما الخصلة التي أضمنها لك؟ فقال عليه‌السلام: «يا علي و أما الخصلة التي تضمن لي أن لا يأتيك ولي أبدا الا أكرمته»، فضمن له علي الخصلة و ضمن له أبوالحسن الثلاث. و روي أنه عليه‌السلام قال: «اني استوهبت علي بن يقطين من ربي عزوجل [ صفحه 27] البارحة فوهبه لي. ان علي بن يقطين بذل ماله و مودته فكان لذلك منا مستوجبا» [27] .

يونس بن عبدالرحمن

جاء في ترجمته أنه أخذ (العلم) من الامام موسي بن جعفر، و كان من خلص أصحابه و صفوتهم، و أدرك شطرا من حياة الامام الرضا عليه‌السلام و قال فيه عليه‌السلام: «يونس بن عبدالرحمن في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه» و قال عنه الشيخ الطوسي في كتابه الفهرست: ان له ثلاثين كتابا في مختلف المواضيع و كان، كما جاء في ترجمته، يزور كل يوم أربعين رجلا من اخوانه المؤمنين، ثم يرجع الي بيته لا يترك التأليف الا للصلاة و الطعام و قضاء الحاجة، و له مؤلفات في علم الكلام و آراء تدل علي سعة علمه و قوة تفكيره [28] .

محمد بن عمير

كان من أصحاب الامامين موسي بن جعفر و ولده الرضا عليه‌السلام، و قد أخذ عنهما الحديث و الفقه، و ألف فيما أخذه عنهما في الفقه و غيره [29] .

صفوان بن يحيي بياع السابري

كان من تلامذة الامام الكاظم عليه‌السلام و لازم بعد وفاته، الامامين الرضا و الجواد عليهماالسلام، و روي، كما جاء في ترجمته، عن أربعين من تلامذة الصادق، و ألف من آثار الأئمة أكثر من ثلاثين كتابا كما نص علي ذلك الكشي و الطوسي و ابن‌النديم و غيرهم من المؤلفين في أحوال الرواة و التراجم و السير. [ صفحه 28]

عبدالله بن المغيرة البجلي

أكد الرواة وثاقته في الرواية و الحديث، و أضافوا الي ذلك أنه ممن أجمع الأصحاب علي صحة مروياته عن الامام أبي‌الحسن موسي بن جعفر عليه‌السلام و غيره، و ترك مجموعة من المؤلفات في مختلف المواضيع، و يضاف الي هؤلاء الأعلام جماعة أخري من العلماء [30] ممن لم يبلغوا مرتبة أولئك، و منهم، صفوان بن مهران الجمال الذي روي عن الصادق عليه‌السلام و لازم، من بعده، ولده الكاظم عليه‌السلام و أخذ عنه الحديث و الفقه و ألف فيها كما نسب اليه ذلك الكشي و ابن‌النديم و الطوسي و غيرهم. و منهم أيضا: عبدالرحمن البجلي الكوفي الذي بشره الكاظم عليه‌السلام بالجنة كما روي الكشي في رجاله، و كان واسع الأفق، قوي الحجة و البرهان، و محيطا بعلوم عصره، قال له الامام واضعا ثقته فيه: «كلم أهل المدينة فاني أحب أن يري الناس في رجال الشيعة مثلك».

الطريقة الموضوعية الفعالة في كيفية دراسة تاريخ الأئمة و طريقة و عي فكرهم و استلهام دورهم في القضايا المعاصرة

اشاره

يشكل التاريخ أحد المنابع الرئيسية التي تزود الانسان - في المعطي الايجابي - بطاقة الحركة والفاعلية في الحياة. اضافة الي دوره الحيوي الهام في نمو الأمة و تقدمها و ازدهارها في مسيرتها الحضارية الصاعدة، نظرا الي أنه قد يجنبها كثيرا من الأهوال و المصاعب و المزالق التي يمكن أن تتعثر بها في مراحل انبعاثها و نموها الأولي، علي ضوء تلك الفكرة نحاول الانطلاق الي تاريخنا الاسلامي الخاص بأمتنا لندرسه بوعي فننفتح علي الواقع و الحياة، من خلال أهمية و عينا لطبيعة وجودنا الاسلامي في العصر الماضي و الحاضر كأمة هادية [ صفحه 29] أنشأت، لنفسها و لغيرها، حضارة عظيمة أغنت شخصية الانسان المسلم و غير المسلم. اننا نحاول الانطلاق الي هذا التاريخ، بخاصة تاريخ أئمتنا عليهم‌السلام الذي نعتبر أن فيه الكثير من الاشكالات و المواضع التي تحتاج الي تحليل و تفكيك و استظهار ايجابي جديد، كي نقرأه علي هدي من وعي و عمق و معرفة و نقدمه لأجيالنا الحاضرة التي تبحث عن انتماء أصيل، يعيد اليها وجودها و حيويتها و نضارتها و وعيها المسلوب، نقدمه في اطاره الاسلامي الحقيقي بعيدا عن كل التأويلات و التصورات و المفاهيم الغريبة القلقة، لتعيش هذه الأجيال في جو نقي تتنفس فيه الصفاء في هوائها و النقاء في وجودها، كسبيل عملي من سبل المحافظة علي شخصيتنا الاسلامية الكيانية المستقلة فكيف يمكن أن نتوفر علي تلك الدراسة الواعية للتاريخ التي نحاول، عبرها، وعي جذوره الخصبة المعطاءة؟ ان القضية الأساسية التي تواجهنا، راهنا، في طريقنا نحو العمل في بناء الحاضر الاسلامي، و تلح علينا بقوة و اصرار كونها تتصل بالمرحلة الأولية من مراحل العمل و البناء، هي قضية (مرحلة) الاعداد و التكوين، اعداد الخطط التي يسير عليها العمل، و تكوين الأسس و المبادي‌ء العامة التي يرتكز عليها البناء. أما كيف تمثل هذه القضية مرحلة البداية للعمل، و كيف تساعد علي اعداد الخطط و تكوين الأسس، فهذا ما نتعرفه اذا وعينا طبيعة المعرفة التاريخية التي تقدمها لنا دراسة التاريخ، و علاقتها بالواقع الحياتي الذي نعايشه. من هنا نجد أهمية قصوي ملقاة علي عاتق الباحث في وعيه و فهمه العميق لطبيعة المشكلات الحاضرة بيننا، و التي تسبب لنا أزمات و نكبات متعددة، تجعل واقعنا العربي و الاسلامي يتخبط فيها ليلا و نهارا. اننا لا نرمي من خلال محاولتنا تلك «اختراع» تاريخ جديد، و انما نريد فهم هذا التاريخ علي ضوء الواقع المعاصر، و بما يخدم قضايانا المصيرية الملحة التي تضغط علينا في موقع هنا و في موقع آخر هناك، و بالتالي تكوين [ صفحه 30] وعي تاريخي كشرط أساسي من شرائط و أسباب النهوض الحضاري، من خلال حفظ تاريخنا من التزويرالفكري و العقائدي و المنهج الخاطي‌ء في التحليل و التركيب، و الابتعاد عن طبيعة «السرد القصصي الحرفي» لأحداث ماضية الي الطريقة التي تجعل منه أداة فاعلة تسهم في عملية بناء الحاضر و صنع المستقبل، الي الطريقة التي تجعل منه معني يتحرك في داخل وجودنا الحي ليحرك الحياة من حولنا. ضمن هذا الخط المنهجي و العملي المشرق فاننا لا نري استخداما نوعيا فعالا - اذا صح التعبير - و وعيا تاريخيا راقيا لقضايا التراث [31] و التاريخ و العقيدة الاسلامية، أقوي و أنصع و أطهر و أشرق مما نشاهده و نلمسه يوميا من بطولات و ملاحم المقاومين و المجاهدين الأبطال في جنوب لبنان في مواجهاتهم المشرفة ضد المشروع التلمودي للكيان الصهيوني و عملائه في المنطقة. فجاءت المقاومة الاسلامية - التي نأمل دراسة تجربتها و نشرها و تعميمها ثقافيا و حضاريا و اعلاميا - ردا قاسيا علي أولئك المتخاذلين و القانعين بواقع الذل و العار لتجعلنا نشعر بأننا نمتلك قوة استنهاض تاريخية لا مثيل لقوتها و لمخزونها و تراثها التاريخي القيمي الهادف قوة ممانعة و مواجهة اعتراضية اتخذت من ثقافة و حضارة القيم الاسلامية شعارا و مشروعا لها في حجم الأمة و الحياة كلها. [ صفحه 31]

مقدمات أساسية في وعي التاريخ الاسلامي

لا شك بأننا أمة تمتلك مخزونا تاريخيا عريقا، أصبحت مسألة وعيه من الداخل مسألة ملحة و ضرورية، لأن هذا الوعي أصبح جزءا لا يتجزأ من الوعي للعقيدة، و أصبح تصحيح الكم التاريخي المتراكم شرطا لازما في مسيرة تصحيح و تركيز الاعتقاد، و من خلال هذا العنوان العريض يمكن أن نضع هنا بعض المقدمات الأساسية في مسألة و عينا التاريخي: المقدمة الأولي: أن تكون دراسة التاريخ واجبا حيويا، و ضرورة حتمية تستهدف تفكيك البني الذاتية الداخلية لجملة الحوادث و المواضع التاريخية، لا أن تكون مجرد ترف ذهني ساكن، مجردا عن محيطه الزماني و المكاني. المقدمة الثانية: أن نتخلي عن الهالة القدسية التي تؤطر هذا التاريخ، و نحاول دائما أن نحيطه بها بكل ما فيه من أخطاء و عثرات و انحرافات و اندفاعات [32] لأن هذا التقديس يدفعنا - لا شعوريا- الي الانزلاق في تفاسير و تأويلات خارجة عن مفهومي الزمان و المكان الضروريين في عملية التأسيس و البناء التاريخي، مما يجعلنا ننحرف بالتاريخ عن الغاية التي نسعي اليها فيه، و الهدف الذي نتطلع اليه. [ صفحه 32] ان تاريخنا - ككل تاريخ - كان حصيلة أدوار مختلفة من حياة الأمة بين ارتفاع و انخفاض، فهو الصورة التي تنعكس عليها الحياة بما فيها من ارتباكات، فاذا أردنا أن نفهمه علي أساس واقعي، فيجب علينا تعريته عن كل لون من ألوان الخيال و الدعاية و الزهو، و ملاحظته كمادة خام لدراسة واقعية عميقة. المقدمة الثالثة: تتمثل في حقيقة نعيشها جميعا، و هي أن تاريخ الأمة الحاضر هو جزء هام أساسي من تاريخها الماضي، انه عملية بناء و نتاج نمو تاريخي طويل، فحاضرنا الذي نعيشه و نراه هو ثمرة ماضينا، لذلك لا بد من معرفة و دراسة الأحداث الممتدة في عمق التاريخ، و نقدها و متابعتها و تحليلها، في اطار قراءة واعية لمجاهل و معالم التاريخ، تكشف قوانين نموه و عناصر الضعف و القوة فيه. المقدمة الرابعة: أن يبني النقد التاريخي علي الحقيقة الموضوعية و ان قوضت شيئا من رؤانا و اعتقاداتنا مما قد نظنه من المسلمات القطعية التي لا كلام و لا جدال فيها، و بالتالي ضرورة الابتعاد عن المواقف المسبقة و الرؤي المذهبية الخاصة التي قد تجعل التاريخ مادة مائعة للاستهلاك الفارغ، و مرتعا خصبا لنشوء الانحرافات والأوهام و الأباطيل و البدع. المقدمة الخامسة: التعريف بالحدث التاريخي الاسلامي باعتباره تاريخا عاما لكل الفئات و الشرائع الاجتماعية و ليس تاريخا خاصا بالنخبة السياسية الحاكمة. المقدمة السادسة: تنصب علي دراسة قوانين و قواعد التاريخ الاسلامي و (مراجع التاريخ) التي حملت الكثير، و الكثير جدا، من حقائق التاريخ، أو تكاد - في مجموعها - أن تكون قد حفظت جميع حقائقه، فهي بلا شك قد حملت، الي جانب ذلك، أباطيل كثيرة [33] . 1- منها ما هو اسرائيلي الصنع. [ صفحه 33] 2- منها ما هو صنع الزنادقة الذين تستروا بالاسلام فكادوا له شرا، و هؤلاء كانوا أقدر علي تزيين أساطيرهم و ترويجها، اذ كانوا يضعون أساطيرهم دائما في أهواء أصحاب الفرق الدينية أو السياسية المتناحرة. 3- منها أكاذيب االقصاصين و الرواة و تحسيناتهم، كذلك منها ما اختصت به المصادر الحديثة، من كتب في التاريخ أو دراسات تاريخية، مما ترشح عن مدارس الاستشراق، أو التفاسير المادية أو القومية للتاريخ الاسلامي.

نموذج تاريخي امامي للاستخدام الفعال للتاريخ

استخدم الامام الكاظم عليه‌السلام عنصر التاريخ و المادة التاريخية السابقة لعهده في مجال السياسة و الفكر، و مجال الوعظ و الارشاد (التبليغ)، ولكن قبل أن ندخل الي طبيعة هذا الاستخدام نتساءل: لماذا أدخل الأئمة عليه‌السلام، بشكل عام، عنصر التاريخ في أحاديثهم الوعظية و خطبهم أو كتبهم السياسة و الفكرية؟ في الحقيقة. لقد حاول الأئمة عليهم‌السلام النفاذ الي أعماق التجارب التاريخية التي مرت بها أمتنا لا سيما علي صعيد الحكم و السياسة و الوعي الثقافي التغييري، و وضعوا عليهم‌السلام علامات استفهام عميقة أمام كل المراحل التاريخية السابقة لهم من حيث مدي علاقتها أو عدم علاقتها بالانتماء الاسلامي الأصيل من الجو الذي نشأت و نمت في أرضه، و عن نوعية النتائج التي حصلت من جراء حدوث هذه الواقعة أو انطلاقة تلك الحركة من حيث اتصالها بالمفاهيم و القيم الاسلامية أو ابتعادها عنها، كل ذلك يندرج تحت عنوان واحد هو وعي التاريخ الذي عاشته التجربة الاسلامية في طريق التعرف علي مشاكل و تحديات الاسلام الحاضرة بهدف تأسيس الواقع علي أطروحة قيادية عقلانية تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الاسلامية العليا فقط، و ربما يمكن أن نفهم ذلك بشكل أكبر من خلال استعراضنا - في سياق بحثنا و متابعتنا لطبيعة الوعي التاريخي عند امامنا الكاظم عليه‌السلام للمثالين التاليين: المثال الأول: في دعوته عليه‌السلام الي ترسيخ الثورة في وعي الأمة [ صفحه 34] الاسلامية و في وجدانها و ذهنيتها العامة من خلال استحباب زيارة الامام الحسين عليه‌السلام يقول الكاظم عليه‌السلام: «أدني ما يصاب به زائر الحسين بشط الفرات، اذا عرف حقه و حرمته و ولايته، أن يغفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر» [34] . يؤكد الامام الكاظم عليه‌السلام، في هذا الحديث، علي ضرورة زيارة الامام الحسين عليه‌السلام الذي عاش و استشهد قبله بعدة عقود، و ذلك من أجل ترسيخ الحالة التفاعلية و التواصلية الايجابية مع الثورة الحسينية ليكون لها حضور تاريخي مكثف بأهدافها و تطلعاتها الانسانية العادلة في كل المواقع الفكرية و النفسية للأمة المؤمنة بخط الثورة و أهدافها المشروعة. ان حض الكاظم عليه‌السلام الناس علي زيارة الحسين عليه‌السلام، كبعد تاريخي فعال، يراد - من خلاله - تأصيل الوعي الثوري للتاريخ، و تعميق الروح الاستشهادي الجهادية في نفوس الكتلة المؤمنة. المثال الثاني [35] : حينما سأل هارون [36] الامام الكاظم عليه‌السلام عن فدك و حدودها لكي يرجعها اليه، فأبي عليه‌السلام أن يأخذها الا بحدودها، فقال هارون: ما حدودها؟ فقال عليه‌السلام: «ان حددتها لم تردها»، فأصر هارون عليه أن يبينها له، و لم يجد الامام عليه‌السلام بدا من اجابته، فقال له: «أما الحد الأول فعدن» فلما سمع هارون ذلك تغير وجهه، و استمر الامام عليه‌السلام في بيانه قائلا: «و الحد الثاني سمرقند» فأربد وجه هارون، و استولت عليه موجة من الغضب الهائل، ولكن الامام عليه‌السلام استمر قائلا: «و الحد الثالث أفريقيا» فاسود هارون و قال بنبرات تقطر غيظا «هيه» و انطلق الامام يبني الحد الأخير قائلا «و الحد الرابع فسيف البحر ما يلي الجزر و أرمينية»، فثار الرشيد، و لم يملك أعصابه [ صفحه 35] قائلا: و لم يبق لنا شي‌ء، فأجابه الامام: «قد علمت أنك لا تردها» [37] . اننا نلاحظ - من خلال هذا النص - أن الامام الكاظم استعان بعنصر التاريخ لا كمؤرخ لأحداث و انما باعتباره صاحب رسالة و عقيدة و فكر، و لم يكن يستخدم التاريخ كمادة و عظية فقط، و انما كان يستهدف منه النقد السياسي و التربية السياسية لمجتمعه و التوجيه الحضاري لأمته، ليعطي لقضية الاسلام الفكرية حرارة و حياة، و ليجعل لأطروحة أهل البيت عليهم‌السلام حركة و معني فاعلا في مدي الزمان و في عمق الانسان نفسه، و من خلال رفضه اغتصاب حق التاريخ و الفكر و الرسالة لصالح نزعات و أهواء و مصالح شخصية. لقد اعتبر الامام عليه‌السلام، من خلال وعيه لحركة التاريخ، أن هارون و أسلافه غاصبون للخلافة و مختلسون للسلطة و الحكم، الأمر الذي أثار غضب هارون عليه و أغلظ في كلامه علي الامام عليه‌السلام بعد أن سمعه يتحداه بموقف لا لين فيه، و هو عليه‌السلام يريدنا، نحن، أن ننفتح بوعي علي كل تلك المواقف و الأدوار و الحوادث التي انطلقت في ذلك العهد، لندرسها و نأخذ منها العبرة اللازمة و نستلهم، من خلالها، المعايير و الضوابط التي تساعدنا قي حل بعض تعقيداتنا المعاصرة. انها أسئلة و مواقف في التاريخ قد نطالع، في كثير من تفاصيل أجوبتها و أبعادها، الوجه الآخر الحقيقي لطبيعة مشاكلنا المثارة حاليا. علي ضوء هذا الفهم الشمولي و الاستيعابي لحقيقة الجوهر و المضمون التاريخي المنتج و الفاعل، نتساءل: ما هي الأمور التي استطاع هذا الوعي أن يحققها علي صعيد الدور التاريخي الهام الذي لعبه امامنا الكاظم عليه‌السلام في عملية التغيير الاجتماعي علي مستوي وعي الأمة؟!. يمكننا ايجاز الاجابة في النقاط التالية: 1- أعاد هذا الفهم للأمة حقها في ممارسة النقد الايجابي. [ صفحه 36] 2- وعت الأمة حقيقة السلطة و الحكم في الاسلام من خلال معرفتها لحدود الدائرة الواسعة أو الضيقة التي يمكن للخليفة التحرك ضمنها. 3- تعميق الشعور و الاحساس بالمسؤولية لدي الأمة تجاه قيم و مبادي‌ء الاسلام. 4- محاولة (اعادة) تصحيح المفاهيم الخاطئة و الظالمة التي كانت تلف طبيعة الحكم و السلطة السياسية و توزيع الثروات و الأموال لتشمل أبوابا واسعة أخري. 5- احباط محاولات السيطرة علي عقل الأمة و تزييف وعيها و ارادتها، و تبيان حقائق الأمور في اطار رسالة الاسلام. 6- توضيح مبدأ أساسي و هو أن قيمة الخليفة في الاسلام مرهونة بمدي خدمته للناس و تمسكه بمبادي‌ء الاسلام الصحيحة. [ صفحه 37]

الجانب العملي و التربوي في حياة الامام الكاظم

مقدمة عامة عن الأجواء التي عاصرها (المتغيرات التاريخية الذاتية في مسيرة الدعوة الاسلامية)

اشاره

ان الاحاطة ببعض معالم و ميزات الجانب العلمي و التربوي في حياة الامام الكاظم عليه‌السلام تتطلب استيعاب الظروف و المتغيرات التاريخية التي عاصرها عليه‌السلام و استوعب تمثلاتها الواقعية، و بالتالي استطاع أن يمتلك رؤية علمية و منهجا موضوعيا لمواجهتها و معالجتها علي ضوء و عيه العميق لرسالة الاسلام. و باستعراض هذه التغيرات و الأجواء التي اتسم بها عصر الامام نجد أمامنا ظواهر بارزة و واضحة لا تحتاج الي جهد كبير للاستدلال علي وجودها، نشير اليها في ما يلي:

مظاهر التنابذ و الخلل السياسي و صراع الأهواء

حفلت حياة الأمة في عصر الكاظم عليه‌السلام بمظاهر التفرقة السياسية و التشتت الفكري في الابتعاد العقائدي عن أصول التفكير و الحياة السياسية [ صفحه 38] الاسلامية، و الانحراف عن واقع التجربة الاسلامية الصحيحة في الحكم و الممارسة السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية. فقد عايش امامنا عليه‌السلام الفترة الحرجة في انتقال الحكم السياسي من العهد الأموي الي العهد العباسي و ما رافقه من نزاعات سياسية جاهلية أهدرت امكانات الأمة و مواهب أبنائها في اطار صراعات ذاتية جانبية ضيقة و محدودة. و رغم ما حمله هذا الخلل البنيوي السياسي العميق و ذلك الصراع الذاتي من مصائب و أهوال علي واقع الأمة و حياة المجتمع، فانه أعطي الامام عليه‌السلام الفرصة المناسبة لاظهار علمه الغزير، و وفر السبل الكفيلة في أن ينزل (هذا العلم) علي أرض الواقع الاجتماعي ليمارس دوره العلمي و التربوي كأروع ما يكون.

تشكل المذاهب الفقهية الكلامية

اشارة

شهدت تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ أمتنا محاولات تمييع واضحة لخطوط الفكر و العقيدة الاسلامية تولي مهام الدعوة اليها رموز و دعاة (العباسية) الجديدة، و وعاظ السلاطين الذين أخذوا علي كاهلهم (مهمة) تزوير الفقه و الحديث و اللعب بالتشريع الاسلامي و الفتيا بالرأي و ذلك باعتمادهم علي ركائز و مقاييس غريبة عن أساليب و أدوات التشريع الاسلامي، و قد كان لاقصاء الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام عن مواقع العمل القيادي الفكري و الاجتماعي و السياسي، دره الأكبر في تفشي ظواهر التفسخ المعرفي و السياسي في طبيعة المتغيرات الخطيرة التي حدثت في حركة الدعوة و مسيرة الأمة، و قد تمثل ذلك، عمليا، من خلال انكشاف الواقع أمام فراغ فقهي و تشريعي كبير خصوصا بعد أن احتكت الأمة مع حضارات مجاورة لها، ما أدي الي دخول مفاهيم و تصورات و سبل حياة فكرية و عملية جديدة الي واقع الحياة الاسلامية سببت تغيرات كبيرة حادة في بنية المجمتع الاسلامي، و يبدو أن السلطة القائمة، المستلمة لادارة شؤون الأمة، ساهمت في وصول المجتمع الي هذا المستوي المتدني و المنحط من التفاعل السلبي غير المتوازن مع ثقافات الحضارات المجاورة بحيث أصبح [ صفحه 39] هذا المجتمع جاهزا للاستعمار من الداخل و الخارج، و بخاصة عندما قام هذا الحكم السياسي بتسخير الدين لمصالحه و أهوائه و دعم مواقفه و تثبيت مواقعه و أركان حكمه السياسية، فتغير هذا المجتمع (الرسالي!) و بات يميل، أكثر فأكثر، نحو الكسل و الدعة و الترف و الاستهلاك الفارغ [38] . ان الفراغ الفقهي و العقائدي الذي ظهر نتيجة المتطلبات و الحاجات الحياتية الجديدة، كان يحتاج الي من يسده بشكل أو بآخر، و يعمل علي ايجاد قواعد و أنظمة فقهية و أبنية تشريعية حديثة تتناسب مع الأوضاع الجديدة [39] . في هذه الفترة بالذات (و ربما قبلها بقليل) بدأت المذاهب الفقهية المعروفة بالنشوء و التشكل و الظهور الي العلن، مستفيدة من حالة الخلل السياسي العام، و اتساع الحركة العلمية و الفقهية، و في أغلب الأحيان كان ظهور تلك المذاهب ناتجا عن عمل السلطة السياسية نفسها في ابعادها لا تجاه فقهي معين لا ينسجم مع مصالحها، و بالمقابل ترجيح آراء فقهاء آخرين عليه. طبعا لا نستطيع أن ننسي الدور الذي تلعبه الشخصية العلمية لأئمة المذاهب في جلب الأتباع و التلامذة و التأثير القوي علي تصوراتهم و اتجاهاتهم الفقهية، و لا ننسي أيضا أثر و دور العامل الجغرافي في تعداد الاتجاهات و الانتماءات. كل هذا و غيره من العوامل أثر و ساهم في ايجاد نواة لنشوء مذاهب كثيرة و متنوعة فقهيا و كلاميا، قبل أن تنحصر بعد ذلك، بزمن طويل تقريبا، بمذاهب معينة، و ذلك لعوامل أخري رافقت عملية غلق باب الاجتهاد. [ صفحه 40]

شيوع الانحرافات الفكرية و مظاهر التحريف الخطيرة في مضامين الرسالة الاسلامية

اشاره

قلنا: ان الخلل السياسي القائم في طبيعة التعاطي مع الأفكار و المبادي‌ء الجديدة الوافدة علي حياة الأمة قد أفضي الي نتائج مأساوية علي صعيد المجتمع الاسلامي، ظهرت ملامحه الأولي في تلك الأنماط الخطيرة من الانحرافات الفكرية و العقائدية الطارئة علي حياة المسلمين التي شاعت من خلالها الأفكار المعادية للاسلام، و فسح المجال لذوي الأهواء و الغرائز الفردية ليدلوا بدلوهم و لينضجوا أكلهم و يحصدوا ما يشاؤون.

الانحرافات في الواقع الفكري العقيدي

تمظهرت من خلال الأمور التالية: - مسألة انتشار الزندقة و التشكيك في المعتقدات الاسلامية. (و الغريب أن ذلك كان يتم أحيانا في البيت الحرام و المسجد النبوي الشريف - كما تحدثنا الروايات - مما شكل ظاهرة واسعة خطيرة) [40] . - و منها موضوع الغلو و تأليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام. - فكرة التجسيم و التشبيه. - الجبر و التفويض. - انتشار عقيدة التناسخ. - كما أن منها ظاهرة التحلل من الواجبات بحجج واهية ككفاية حب أهل البيت عليهم‌السلام عن العمل الصالح و أمثال ذلك. [ صفحه 41]

الانحرافات في طبيعة فهم النص القرآني

- توظيف النص القرآني لخدمة الأهداف السياسية الآنية و النزعات الخاصة، أو لتأييد الاتجاهات المذهبية و الكلامية، و ذلك باخضاع النص المقدس لأفكار جاهزة مسبقة الصنع بدلا من أن تكون طبيعة الرؤي و الأفكار و التصورات ناتجة من خلال حركية النصوص نفسها، علي ضوء المعطيات التي يحملها النص في دلالاته اللغوية و العرفية و العقلية. - التأويلات الباطنية الفاسدة. - اعتماد الروايات الاسرائيلية في تفسير القرآن.

في مجال التاريخ السلامي

ظهر الانحراف هنا من خلال محاولة تشويش الصورة النقية و المشرقة للرسول صلي الله عليه وآله و سلم [41] و الأئمة عليهم‌السلام، و اختلاق شخصيات [42] و وقائع تاريخية لا وجود لها في تاريخ الأمة، و العمل علي طمس معالم تاريخية و وقائع مشهورة و ثابتة علميا و تاريخيا.

اتساع ظاهرة الوضع في الأحاديث الشريفة

برزت، في ذلك العصر، ظاهرة الوضع و الدس في الأحاديث و ذلك لأسباب سياسية مكشوفة، و دوافع طائفية بغيضة قامت بتغذيتها و تنميتها اتجاهات مشبوهة في الواقع لم تكن هذه الظاهرة (ظاهرة الوضع) جديدة علي المجتمع الاسلامي، و ذلك بعد أن لعبت يد الأهواء، منذ عصر الرسول صلي الله عليه وآله و سلم، فأوجدت فئة من الوضاعين المستأكلين بالحديث، ارضاء لميولهم الغرائزية [ صفحه 42] و اتجاهاتهم السلطوية السياسية. و من الغريب أن العلامة الكبير الأميني صاحب (الغدير) أحصي (408 674) حديثا [43] مكذوبا ملفقا أو مقلوبا لجمع قليل من الوضاعين الذين قاربوا هذا العصر - تقريبا - و الغريب أن نشهد تعبيرات [44] من قبيل ما قيل في أحمد بن عمرو أبي‌بشر الكندي: أنه (أحد الوضاعين الكذابين مع كونه محدثا اماما في السنة و الرد علي المبتدعة) [45] . و في أحمد بن غالب الباهلي أنه كان (من كبار الزهاد ببغداد كذاب وضاع) [46] . و في أحمد بن موسي الجرجاني الفرضي أنه (أحد الحفاظ: كذاب) [47] !!! حتي لتجد يحيي بن سعيد القطان يقول: (ما رأيت الصالحين في شي‌ء أكذب منهم في الحديث) [48] و هنا يعلق المرحوم الأميني بعد درج قائمة من وضاعي الحديث قائلا: «فمن هنا تري كثيرا من الوضاعين المذكورين بين امام مقتدي، و حافظ شهير، و فقيه حجة، و شيخ في الرواية، و خطيب بارع، و كان فريق منهم يتعمدون الكذب خدمة لمبدأ أو تعظيما لامام أو تأييدا لمذهب، و لذلك كثر الافتعال و وقع التضارب في المثالب و المناقب بين رجال المذاهب، و كان من تقصر يده عن الفرية عن رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم بالحديث عنه فانه يبهت الناس باختلاق أطياف حول المذاهب و رجالاتها». [ صفحه 43]

الامام الكاظم في مواجهة الواقع المنحرف‌

اشاره

في مواجهة هذا التيار الهادر من المتغيرات الذاتية. كان لا بد من خلق و ابداع حركية فكرية و معرفية و علمية قوية متماسكة يمكن أن توقف - ضمن حدود معينة - هذا السيل الجارف من الانهيارات و التراجعات الروحية و الثقافية و السياسية. لقد كانت سلوكية الامام الكاظم عليه‌السلام و تصريحاته و مواقفه كلها تنبي‌ء عن شعوره المسؤول بالمهام القيادية الملقاة علي عاتقه باعتباره أحد أئمة أهل البيت و عترة الرسول صلي الله عليه وآله و سلم التي جعلت أمانا للأمة و سفينة للنجاة و متمسكا يعصمها من الضلال [49] . لقد كانت هذه الأهلية القيادية الواعية و الرشيدة موضع عناية و اهتمام الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام واحدا بعد الآخر، يوصي كل منهم الي من يليه و يعلم أصحابه بخصائصه. و كمثال علي ذلك نلاحظ النص التالي: دخل يزيد بن سليط - و هو من أهل الورع و العلم - علي أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام فبادره يسأله عن الحجة من بعده قائلا: بأبي أنت و أمي، أنتم الأئمة المطهرون و الموت لا يعري منه أحد، فمن القائم من بعدك؟ فأشار الي ولده موسي و راح يصفه «فعنده علم الحكمة و الفهم و السخاء، و المعرفة بما يحتاج الناس اليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، و فيه حسن الخلق، و حسن الجوار، و هو باب من أبواب الله، و فيه أخري هي خير من هذا كله». فيسأل الراوي قائلا: بأبي أنت [ صفحه 44] و أمي ما هي؟ فيرد الصادق: «يخرج الله من غوث هذه الأمة و غياثها و علمها و نورها و فهمها و حكيمها، خير مولود و خير ناشي‌ء، قوله حكم، و صمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه» [50] . و هي كلها صفات قيادية كان يتمتع بها الامام الكاظم، و يعمل علي تمثلها و تحقيقها و تجسيدها، فما هي الخطة التي سار عليها الكاظم عليه‌السلام لمواجهة واقع الانحراف و الضلال و بالتالي القيام بالواجب القيادي العام؟، من خلال متابعتنا لحركية فكر وثقافة و سلوك الامام عليه‌السلام، وجدناه يعمل علي خطين أساسيين: فهو من جهة - و بشكل عام - يؤكد، بل و يعمل جاهدا، علي بناء الأمة الاسلامية و تقوية أواصرها، و حفظ كيانها و صيانة تراثها، و تنمية و عيها العام، و بالتالي امتلاكها للخصائص التي ذكرها القرآن الكريم و السنة الشريفة عن الأمة، و هو من جهة أخري يعمل، بشكل خاص، علي تربية الفئة الواعية المتفاعلة تماما مع خطته، و المتحملة بكل جدارة للمهام الصعبة التي يلقيها عليها، مما يجعلها تشكل شعاعا من نوره و نماذج لسيرته و مظاهر لقيادته [51] .

مظاهر الخط العلمي و التربوي العام

اشاره

يمكننا أن نستعرض أهم مظاهر هذا الخط عبر النقاط التالية:

العمل علي ايجاد حركة علمية وثقافية واسعة و نشيطة جدا

اشارة

انطلقت هذه الحركة في الواقع الاسلامي آنذاك استكمالا للجهود العلمية الجبارة التي أرسي قواعدها الامام الصادق عليه‌السلام [52] فبدأت العلوم و الحقائق [ صفحه 45] تنتشر بين الناس، و تنمي معلوماتهم، و توسع مداركهم، و تفتح عقولهم علي مواقع جديدة، و تدفعهم نحو الكمال العلمي المنشود. و قد رد الامام الكاظم عليه‌السلام، في أجوبته و مناظراته، علي الشبهات و المزاعم التي أثارتها مختلف التيارات الفكرية و السياسية، و شجع تلامذته و أصحابه - من ذوي الكفاءة و المقدرة العلمية العالية - علي خوض المعارك الحوارية الفكرية، و مواجهة تلك القوي الفاسدة التي عملت بأقصي جهدها علي هدم مقومات و ركائز الكيان العقيدي و الفكري الاسلامي. و قد استجاب تلامذته لذلك، و ألفوا و صنفوا مئات الكتب و الرسائل العلمية، سجلها التاريخ كنقطة اشعاع مضيئة في سماء الفكر الاسلامي [53] . و هكذا استطاع الكاظم عليه‌السلام أن يكمل دور أبيه الصادق عليه‌السلام في توسيع و تدعيم أركان تلك الحركة العلمية الواسعة الأبعاد، التي تمكن روادها و في مقدمتهم، الامام الكاظم، من نشر الوعي الديني و الفكري و تنمية حس المثاقفة و الحوار علي أوسع نطاق.

تحصين الفكر الاسلامي و حمايته من التيارات المنحرفة الفاسدة و لو ثات الأفكار الجاهلية المشبوهة

اشاره

لقد سعت تلك القوي الضالة بكل قوتها الي زعزعة الروح الايمانية و الحرارة الرسالية المتبقية لدي الجماهير المؤمنة، من خلال تشكيكها بأصول المعرفة الاسلامية، و محاولة اسقاط ما تبقي من آثار تجربتها الصحيحة الأولي. في مقابل ذلك انطلق الكاظم عليه‌السلام و تلامذته لمواجهة تلك المحاولات الخطيرة، و التصدي للنتائج السلبية التي بدأت تظهر علي صعيد الواقع [ صفحه 46] الاجتماعي للأمة و ذلك من خلال العناوين التالية:

العنوان العقائدي: التصدي لتيار الزندقة و الالحاد

1- عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي‌ابراهيم موسي بن جعفر عليه‌السلام قال: ذكر عنده قوم زعموا أن الله تبارك و تعالي ينزل الي السماء الدنيا، فقال: «ان الله لا ينزل و لا يحتاج أن ينزل انما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد عنه بعيد، و لا يقرب منه قريب، و لم يحتج الي شي‌ء، و هو ذو الطول لا اله الا هو العزيز الحكيم، أما قول الواصفين أنه ينزل، تبارك و تعالي عن ذلك علوا كبيرا، فانما يقول ذلك من ينسبه الي نقص أو زيادة، و كل متحرك يحتاج الي من يحركه به أو يتحرك به [54] فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له علي حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فان الله عزوجل عن صفة الواصفين، و نعت الناعتين و توهم المتوهمين» [55] . 2- عن داوود بن قبيصة، قال: سمعت الرضا عليه‌السلام يقول: سئل أبي‌الكاظم عليه‌السلام: هل منع الله عما أمر به و هل نهي عما أراد له، و هل أعان علي ما لم يرد؟! فقال عليه‌السلام: «أما ما سألت: هل منع الله عما أمر به؟ فلا يجوز ذلك، و لو جاز ذلك لكان قد منع ابليس من السجود لآدم، و لو منع ابليس لعذره و لم يلعنه. و أما ما سألت: هل نهي عما أراد؟ فلا يجوز ذلك، و لو جاز ذلك لكان حيث ينهي آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها، و لو أراد منه أكلها لما نادي عليه صبيان الكتاتيب (و عصي آدم ربه فغوي) و الله تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشي‌ء و يريد غيره. و أما ما سألت عنه من قولك: هل أعان علي ما لم يرد؟! لا يجوز ذلك و جل الله عن أن يعين علي قتل الأنبياء و تكذيبهم، و قتل الحسين بن علي عليه‌السلام و الفضلاء من ولده، و كيف يعين علي ما لم يرد و قد أعد جهنم لمخالفيه، و لعنهم علي تكذيبهم لطاعته، و ارتكابهم لمخالفته؟! و لو جاز أن [ صفحه 47] يعين علي ما لم يرد لكان أعان فرعون علي كفره و ادعائه أنه رب العالمين، أفتري أراد الله من فرعون أن يدعي الربوبية؟، يستتاب قائل هذا القول، فان تاب من كذبه علي الله، و الا ضربت عنقه» [56] .

العنوان التشريعي

تحرك الامام الكاظم عليه‌السلام علي هذا الصعيد، بعد ظهور صيغ استنباطية طارئة و دخيلة علي البنية الفقهية و التشريعية الاسلامية، لا تنسجم مع الأصول الاسلامية الأصيلة كالقياس و الاستصحاب و تفسير القرآن بالرأي و غير ذلك، و قد شكل هذا الخط تهديدا حقيقيا لحركة الدين حتي قال عليه‌السلام: «ما لكم و القياس انما هلك من قبلكم بالقياس» [57] ان هذا التشدد الذي يظهره الامام كما يبدو في حديثه - يعبر عن ادراكه التام لخطورة ذلك المنحي المنحرف في فهم أحكام الاسلام و تعاليمه و قيمه، و الذي يتضمن مصادر مرفوضة اسلاميا، و لا تشكل أدوات تحليلية صالحة للنمو في البيئة الاسلامية، أو ناجحة لفهم أحكام الشريعة.

العنوان الروحي و المعنوي

اشاره

عاشت أمتنا الاسلامية - كما أسلفنا - جو الاسترخاء و السكون، و قامت أنظمتها القيادية الحاكمة برفع راية الدعوة الي هذه السياسة (سياسة التعب و الترف) عبر أجهزتها الاعلامية الرسمية، ضمن خطة منظمة و عمل مدروس أرادت، من خلاله، تغيير المعالم الباقية من الصورة النقية و الناصعة للواقع الرسالي الاسلامي [58] ، و تركيز مفاهيم و مضامين اعتقادية و فكرية جديدة علي مقاس و حجم أهواء و مصالح السلطات القائمة. [ صفحه 48] و قد ظهرت أبعاد و نتائج تلك الممارسات علي المستوي الروحي و المعنوي، في انشداد الناس، نفسيا و ذهنيا، الي الأثقال الأرضية و الملذات الدنيوية علي حساب انطفاء الشعور الملتهب بالقيم و الأصول الأخلاقية الرفيعة، و الاحساس العميق بالارتباط بيوم المعاد كمبدأ توازني دقيق - اذا صح التعبير - بين الأولي و الآخرة. و قد كان للامام موسي عليه‌السلام دور أساسي في تنمية مشاعر الناس و احساسهم العالي بوجودهم المسؤول علي المستوي الروحي، من خلال توعيتهم بضرورة رفع درجة احساسهم بالله تعالي الي مستوي العمل و السلوك و الممارسة اليومية الواعية، و تركيزه العميق علي دور الدعاء و العبادة في انماء شخصية الانسان المسلم، في تحقيق التوازن العملي بين دنياه و أخراه.

اهتمامه بالحكم و المواعظ و الارشادات العامة

قدم لنا الكاظم عليه‌السلام تراثا ثريا و غنيا من الحكم و المواعظ الأخلاقية العملية حاول، من خلالها، التأثير الايجابي علي الناس في تنمية مداركهم المعنوية، و رفع مستوي ايمانهم العملي، و تحصينه من حالات الذوبان و التمييع و الاهتزاز و الانفلات الأخلاقي التي كانت سائدة بكثرة في ذلك العصر. لقد انطلقت تلك الجمل الوعظية في صيغ لغوية جميلة هادفة، لها دلالتها اللفظية و أبعادها الحركية المنفتحة علي أكثر من صعيد في الواقع الاجتماعي الرسالي الاسلامي. يقول عليه‌السلام في وصيته لبعض ولده: «يا بني عليك بالجد، لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله عزوجل و طاعته، فان الله لا يعبد حق عبادته» [59] ، و يقول عليه‌السلام: «ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره» [60] . [ صفحه 49] ان الميزة الأساسية لهذه المواعظ أنها كانت صادقة قولا و فعلا، و لم تكن حالة تخديرية، تجمد العقل، و توقف الفكر عن الحركة و العمل و الامتداد، أو تشده الي آخرته في اطار سلبي، أو تلقي به في مهلكات الدنيا الملحة بملذاتها و شهواتها [61] ، بل كانت تعبر - في العمق الفكري و الديني - عن بناء و تأسيس ايماني منفتح، و ترشيد روحي واع و مؤثر تتوازن فيه المسيرة الحياتية في المسار و الهدف، من خلال طموحات الدنيا و التشويق الي التفاعل مع حركة الآخرة، فتتواصل و تتلاقح في مستوي الانجاز الأرضي و الأفق الأخروي. يقول عليه‌السلام في وصيته لهشام [62] : «يا هشام من سلط ثلاثا علي ثلاث فكأنما أعان علي هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، و محا طرائف حكمته بفضول كلامه، و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه علي هدم عقله، و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه».

تزكيزه علي الأدعية

اهتم الامام الكاظم بالدعاء كعمل تربوي عبادي هادف، و كمنهج تثقيفي فاعل يستطيع رفع المستوي الروحي للانسان المؤمن الي أعلي درجات اليقين و الايمان. لذلك دعا عليه‌السلام الناس الي ممارسة الدعاء، و حضهم علي التزام معانيه العالية، يقول عليه‌السلام: «عليكم بالدعاء فان الدعاء لله و الطلب الي الله يرد البلاء و قد قدر و قضي و لم يبق الا امضاؤه، فاذا دعي الله عزوجل و سئل صرف البلاء صرفه» [63] و يقول أيضا: «ما من بلاء ينزل علي عبد مؤمن فيلهمه الله عزوجل الدعاء الا كان كشف ذلك البلاء و شيكا، و ما من بلاء ينزل علي عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء الا كان ذلك البلاء طويلا، فاذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء و التفرغ الي الله عزوجل» [64] . [ صفحه 50] يركز الامام الكاظم في كلماته السابقة علي ضرورة القيام بعبادة الدعاء كحاجة ثابتة يعبر الانسان، من خلالها، عن آلامه و معاناته، و يبث فيها شكواه، من هموم الحياة، في مناجاة خالقه العظيم، فهناك ظروف ضاغطة و معقدة يمكن أن يواجه فيها (هذا الانسان) قسوة الواقع و عذاب الحياة و ضغط المشاكل و هموم المجتمع و الأمة، مما قد يحوله الي كتلة مادية جامدة لا قيمة لها، اذا لم يتمكن من ايجاد اطلالة نفسية و روحية للتعبير عن مكنونات ذاته المليئة بتلك المشاكل و الهموم. و هنا يأتي دور الدعاء ليفتح نافذة في جدار القلق و الاضطراب النفسي يطل عبرها الانسان علي مواقع العزة و الرحمة، و آفاق المحبة و جو الوئام و المودة من خلال انفتاح الانسان علي خالقه تعالي بقلب مطمئن و روح خفاقة، ليس انفتاح الضعيف الذليل، بل انفتاح القوي العزيز الذي يستمد قوته و عظمته و قيمته من قوة و عظمة الله المطلقة، ليكون الانسان المؤمن الحر الذي لا يمكن أن تحوله التحديات و المصائب و الهموم، الي مجرد انسان قلق (بالمعني السلبي) و معقد و منهار لأن وعي الانسان العميق لقيم الله - في كدحه وارتقائه (و حتي بدعائه) نحو الله - يعطي الانسان الملتزم مؤونة التحدي و طاقة المواجهة مع كل صعوبات الحياة، فالله تعالي هو الممون الحقيقي لطاقة الوجود و العمل و المواجهة المستمرة مع مصاعب و تعقيدات الحياة، يقول عليه‌السلام: «بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم اعطني الهدي و ثبتني عليه، و احشرني عليه آمنا أمن من لا خوف عليه و لا خوف و لا جزع، انك أهل التقوي و أهل المغفرة» [65] . ليكون الدعاء، من خلال ذلك، أحد الوسائل الأساسية و الضرورية الموصلة الي تحقيق الكمال الانساني الذي لا يمكن أن يتجسد علي أرض الواقع الا بانتاج و صنع أفراد يشعرون بعمق مسؤولياتهم في حركة الحياة بانفتاحهم علي الحياة من خلال انفتاحهم علي الله في عملية نقد ذاتي موضوعي لأوضاعهم المختلفة، ليحاكم الفرد منهم نفسه، من خلال حركة الدعاء الواعي، بين يدي [ صفحه 51] ربه، و ليبتعد عن تضخيم شخصيته و ليحاسبها هو أمام الله، ليكون ذلك انكشافا حقيقيا للذات أمام الخالق، و ليس انكشافا أو افتضاحا لنفسه و شخصيته و أسراره الخاصة أمام المخلوقين. يقول عليه‌السلام في أحد أدعية: «اللهم بك أساور، و بك أجادل، و بك أنتصر، و بك أموت، و بك أحيا، أسلمت نفسي اليك، و فوضت أمري اليك، لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم، اللهم انك خلقتني و رزقتني و سررتني و سترتني من بين العباد بلطفك و خولتني، و اذا هربت رددتني، و اذا عثرت أقلتني، و اذا مرضت شفيتني، و اذا دعوتك أجبتني، سيدي ارض عني فقد أرضيتني» [66] . لأن الله تعالي يحفظ سرك و نجواك و يدعوك الي عبادة الدعاء (كرسي الاعتراف) لتعترف بذنوبك أمامه، يقول عليه‌السلام: «عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك» [67] ، لتصل الي النتيجة الصحيحة و تفتح بعدها، صفحة جديدة و عهدا جديدا مع ربك و مع نفسك و الآخرين، لا لتتجمد، بل لكي تتحول الي طاقة مبدعة و متفجرة في الواقع العملي من خلال ممارستك لدورك و نشاطك الفعال و المنتج في حركة المجتمع البشري، تعمل و تتحرك و تندمج بالحياة الانسانية بكل قوة و وعي و ثبات و عزم ايماني، لأن الاسلام يريد من الانسان المسلم الملتزم بآدابه و قيمه في العبادة و الدعاة و ما الي ذلك، يريد منه أن يكون نموذجا حيا للانسان الالهي بوعيه و حركيته، أن يدخل، بل و ينخرط، في عمق الواقع الاجتماعي و يمارس فيه واجباته و مسؤولياته الروحية و العملية مجسدا لارادة الله و كل تعاليمه التي تغدو الأرض معها جنة مصغرة، فنتعلم فيها كيف نمارس نعم الله في الدنيا قبل أن نعيش معه في الآخرة، و بذلك نفهم أن يكون الدعاء عملا و توكلا لا سكونا و تواكلا، يقول عليه‌السلام: «توكلت علي الحي الذي لا يموت، و تحصنت بذي العزة و الجبروت، و استعنت بذي الكبرياء و الملكوت، مولاي استسلمت اليك فلا تسلمني، و توكلت عليك فلا تخذلني، [ صفحه 52] و لجأت الي ظلك البسيط فلا تطرحني، أنت المطلب، و اليك المهرب، تعلم ما أخفي و ما أعلن، و تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، فأمسك عني الهم و أيدي الظالمين من الجن و الانس أجمعين، و اشفني يا أرحم الراحمين» [68] .

التأسيس لنموذج القدوة

تعتبر شخصية الامام موسي بن جعفر عليه‌السلام من أرفع و أعمق و أثري الشخصيات الانسانية وعيا و نضجا و علما و مكانة، حيث استطاعت أن تساهم مساهمة فعالة - من خلال نموذج القدوة و الأسوة الحسنة كوسيلة ترشيدية متحركة - في التأسيس الأولي و البناء القاعدي للحضارة الانسانية، و تطوير الحياة العامة، و تغذية الفكر البشري بأسباب نهوضه، من خلال نشر ثقافة و مكونات الوعي الفكري الاسلامي في كل الأنحاء، لقد كانت صفاته الذاتية الرفيعة، و عناصر نفسه النبيلة و المعطاءة - التي نمت و ترعرعت في ظل محبة الله و الخوف منه و الايمان اليقيني به - من أهم الأسباب التي جعلت من الكاظم عليه‌السلام أنموذجا خلاقا في الفكر و الأخلاق و السلوك و العمل و الالتزام. لقد كان عليه‌السلام يبكي من خشية الله في جوف الليل، و يرتجف و يرتعد في الحضور أمامه حتي لقب بحليف السجدة الطويلة و الدموع الغزيرة [69] (و ما لم ينقلب الداخل نارا لا يبكي الانسان). و لعلنا جميعا سمعنا بقصة بشر الحافي التي ننقلها هنا للدلالة علي مصداقية الأسوة الحسنة للامام الكاظم عليه‌السلام. - يروي أنه عليه‌السلام مر يوما في أحد أزقة بغداد و كانت أصوات العربدة و الآلات الموسيقية و الطنبور و العزف و الرقص تسمع من أحد البيوت، و صادف أن خرج، من المنزل، خادم يريد رمي النفايات قيل أنه كان يريد وضعها في الخارج كي يأتي مسؤول التنظيفات و يأخذها، فسأله الامام عليه‌السلام عن صاحب [ صفحه 53] هذا البيت أحر أم هو عبد، و تعجب الخادم من السؤال، و قال: ألا تعرف من صاحب هذا البيت مع ما هو عليه من الجلالة؟ هذا بيت بشر أحد الرجال الأشراف، أحد الأعيان،ن واضح أنه حر، فقال عليه‌السلام: نعم حر، و لو كان عبدا [70] لم تكن لترتفع هذه الأصوات من داره. التفت بشر الي خادمه الذي خرج ليرمي النفايات و يعود فان خروجه لا يستدعي منه أن يبقي أكثر من دقيقة مثلا، لكنه غاب عدة دقائق. فجاء اليه و سأله: لم هذا التأخير؟ قال: قد أوقفني رجل للكلام، فسأله: ماذا قال، سألني سؤالا عجيبا، فقال: ما السؤال؟. قال: سألني: صاحب هذا البيت حر أم عبد؟ فقلت له: طبعا حر، فقال لي: نعم لو كان عبدا لم تكن لترتفع هذه الأصوات من داره، فسأله عن أوصافه فوصفه له، فعلم أنه موسي بن جعفر، فسأله: أية جهة ذهب، فأشار له الي الجهة التي ذهب منها، فلم يمهل نفسه كي يلبس حذاءه خوفا من أن لا يدرك الامام عليه‌السلام فعدا حافيا (فقد أحدثت تلك الجملة في نفسه تغييرا) حتي وصل الي الامام عليه‌السلام فسأله عن قوله ماذا قال، فأجابه قلت: كذا، ففهم المقصود، و قال: سيدي أريد من الآن أن أكون عبدا لله، و صدق في قوله فغدا من تلك الساعة عبدا لله [71] .

ممارسة الاصلاح الاجتماعي و محاولة رفع المعاناة و غائلة الظلم عن الناس

اتفق المؤرخون علي أن الامام الكاظم عليه‌السلام كان من أكرم و أجود أهل زمانه [72] ، و قد نذر حياته للدين و خدمة المجتمع و تربية الناس علي قيم و مبادي‌ء [ صفحه 54] الاسلام الخيرة، و بالنظر الي الحركة الاقتصادية في عصر الامام عليه‌السلام، فاننا نجد أنها كانت مضطربة و شبه مشلولة بالرغم من مظاهر الترف و الغني التي كانت مقتصرة، علي حد ما يروي المؤرخون، علي أفراد السلطة الحاكمة و أعوانهم و حاشيتهم. لقد تفردت الفئة الحاكمة ليس بالسلطة السياسية فحسب، بل و استأثرت أيضا بالانفاق السخي من خزينة الدولة علي مظاهر البذخ و الترف، الأمر الذي قسم المجتمع الي مستويات طبقية متعددة بعضها غني يملك كل شي‌ء، و الآخر فقير لا يملك أي شي‌ء. كما و دخل المجتمع، علي أثر ذلك، في دهاليز مظلمة جديدة من القهر و المعاناة و البؤس و الحرمان. و في سياق مواجهة هذا الواقع الاقتصادي الظالم و المنحرف؛ عمل الكاظم علي زرع روح التربية الاسلامية الصحيحة بين النفوس التي أضناها القلق و التعب و الارهاق النفسي الناتج عن التفكير المتواصل بسد رمق الحياة و العيش البسيط. ان ممارسة الامام عليه‌السلام لهذا النمط من الحراك الاجتماعي يعكس وعيه العميق لأهمية الجانب الاقتصادي و الاجتماعي من مواقع الدعوة و العمل الرسالي، كما و يؤكد - في الوقت ذاته - مدي حرصه عليه‌السلام علي المسلمين كأمة لها وجودها و مشروعها الذي لا تهزه العواصف و لا تسقطه التحديات، لذلك كان عليه‌السلام يعمل باستمرار علي بث عوامل الاستقرار في المجتمع، من أجل تحصين الأمة من عناصر الاهتزاز الداخلي و الخارجي في ظل هذه الأجواء النفسية الضاغطة علي الفرد و الأمة، و ننقل هنا بعض الروايات التي تظهر الحرص الشديد للامام عليه‌السلام علي رفع غائلة الظلم الاقتصادي و الاجتماعي عن [ صفحه 55] الناس بحسب الامكانيات التي توافرت آنذاك. - روي البغدادي في تاريخه [73] عن محمد بن عبدالله البكري، قال: قدمت المدينة أطلب بها دينا فأعياني، فقلت: لو ذهبت الي أبي‌الحسن موسي بن جعفر و شكوت اليه ذلك، فأتيته في ضيعته، فابتدأني بالسؤال عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل الي بيته و خرج منه مسرعا، و قال لغلامه: اذهب، فلما ذهب الغلام مد يده و دفع لي صرة فيها ثلاثمائة دينار فركبت دابتي و انصرفت. اننا نلاحظ - في تحليلنا لحركية الامام الكاظم علي هذا المستوي - وجود اتجاه انساني عميق ممزوج بنفحات عرفانية متألقة [74] ، في معالجته لبعض الظواهر الاقتصادية يحاول، من خلاله توعيتنا بضرورة الانفتاح علي مبادي‌ء الاسلام، ليكون عندنا جيل اسلامي واع و مؤمن برسالته و دورها الحضاري الرائد في بناء حياة الانسان، في تعزيز قيمه المعنوية والأخلاقية في ممارسات و أفعال المسلمين [75] . - قال عيسي بن محمد بن مغيث القرطبي: زرعت بطيخا و قثاء في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير و استوي الزرع بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله، و كنت غرمت علي الزرع في ثمن جملين مائة و عشرين دينارا، فبينما أنا جالس اذ طلع موسي بن جعفر بن محمد فسلم ثم قال: «أي شي‌ء حالك؟» فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي، قال: «و كم غرمت فيه»؟ فقلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين، فقال: «يا عرفة زن لأبي المغيث مائة و خمسين دينارا، فربحك ثلاثون دينارا و الجملان»، فقلت: يا مبارك ادخل و ادع لي فيها بالبركة، فدخل و دعا و حدثني [ صفحه 56] عن رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم أنه قال: تمسكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين و سقيت، فجعل الله فيها البركة و زكت، فبعت منها بعشرة آلاف [76] . في الواقع، انني لا أجد مانعا من أن أقول: ان تلك المواساة للناس و المشاركة في مصائبهم، هي دأب الامام الكاظم عليه‌السلام و أخلاقه نهلها من جده اميرالمؤمنين علي عليه‌السلام عندما قال: «أأقنع من نفسي بأن يقال اميرالمؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش» [77] .

مظاهر الخط العلمي التربوي الخاص

يمكن أن نلحظ، في هذا الاتجاه، حركة منظمة واسعة الأبعاد لتربية الطليعة الواعية و المثقفة التي تبث العافية و السلامة في أوصال الأمة، نشير، في ما يلي، الي بعضها:

الشد و الجذب العاطفي العملي

الشيخ: محمد علي التسخيري، مؤتمر الامام الصادق (ع)، (ص: 287) مصدر سابق. ركزت تعاليم الاسلام علي مسألة الحرارة الرسالية و الشد (الانجذاب) العاطفي بالقائد، بدء من التذكير بالعلاقة الراسخة التي يملكها القائد بالله، منبع الحب و الحنان و الفيض علي الأرض، في قوة يقينه و التزامه بنهجه المتين، و مرورا بالآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة المركزة علي حب أهل البيت عليهم‌السلام و مودتهم، و انتهاء بالعطاء الفعلي الذي يلمسه الملتزم و المحب لهذه الشخصيات، و ذلك كأسلوب تربوي فعال يهدف أساسا، الي استلهام الدروس الرسالية في ساحات الحياة و آفاقها الواسعة [78] . [ صفحه 57]

تعميق الاحساس بوجود الله و مراقبته و اليقين به

في سلوكنا الذاتي و الاجتماعي، بحيث نبقي منضبطين و سائرين علي خط الاستقامة و ملتزمين بقيم الله و الاسلام يقول عليه‌السلام: «اياك أن تمنع في طاعة الله، فتنفق مثليه في معصية الله» [79] ، و يقول عليه‌السلام لبعض شيعته: أي فلان، اتق الله و ان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك؛ أي فلان اتق الله ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك، فان فيه هلاكك» [80] ، و قوله عليه‌السلام في سؤال وجهه اليه أحدهم عن اليقين: «يتوكل علي الله و يسلم لله و يرضي بقضاء الله و يفوض أمره الي الله» [81] .

التركيز علي تحلي الأصحاب بالخصال الأخلاقية الرفيعة

رفضه للكبر و المتكبرين

جاء في وصيته عليه‌السلام لهشام: «يا هشام اياك و الكبر علي أوليائي و الاستطالة بعلمك فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك و لا آخرتك، و كن في الدنيا كساكن دار ليست له، انما ينتظر الرحيل» [82] .

مجالسة أهل الدين و الأخلاق و مشاورة العقلاء

يقول عليه‌السلام: «مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة، و مشاورة العاقل الناصح يمن و بركة و رشد و توفيق من الله، فاذا أشار عليك العاقل الناصح فاياك و الخلاف فان في ذلك العطب» [83] . [ صفحه 58]

الصمت الايجابي

يعني ذلك: توخي الحذر و الدقة و المسؤولية في اختيار كلمة الدعوة و أسلوبها.. (تخير الكلمة المناسبة للموقف المناسب). يقول عليه‌السلام: «يا هشام، قلة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فانه دعة حسنة و قلة وزر و خفة من الذنوب، فحصنوا باب الحلم، فان بابه الصبر، و ان الله عزوجل يبغض الضحاك من غير عجب و المشاء الي غير أرب» [84] . و يقول عليه‌السلام: «يا هشام قال رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم: اذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه، فانه يلقي الحكمة، و المؤمن قليل الكلام كثير العمل، و المنافق كثير الكلام قليل العمل» [85] .

ضرورة محاسبة النفس بشكل يومي

يقول عليه‌السلام: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنا استزاد منه، و ان عمل سيئا استغفر الله منه و تاب اليه» [86] .

التربية علي الصمود و الصبر و الثبات

الصبر علي الحكم الجائر

يقول عليه‌السلام: «اذا كان الامام عادلا كان له الأجر و عليك الشكر، و اذا كان جائرا كان عليه الوزر و عليك الصبر» [87] ، [88] . [ صفحه 59]

الصبر علي الطاعات

جاء في وصيته عليه‌السلام لهشام: «يا هشام اصبر علي طاعة الله واصبر عن معاصي الله فانما الدنيا ساعة، فما مضي منها فليس تجد له سرورا و حزنا، و ما لم يأت منها فليس تعرفه، فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت» [89] .

التفقه في الدين

يقول عليه‌السلام: «تفقهوا في دين الله فان الفقه مفتاح البصيرة، و تمام العبادة و السبب الي المنازل الرفيعة و الرتب الجليلة في الدنيا و الدين، و فضل الفقيه علي العابد كفضل الشمس علي الكواكب، و من لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا» [90] . [ صفحه 60]

تأملات حول الواقع الحضاري الاسلامي الراهن (تحديات الواقع و آفاق المستقبل)

اشاره

تعرضنا في بداية هذا الكتاب، و بشي‌ء من التفصيل، لجملة الظروف و التغيرات السياسية و الاجتماعية و الحضارية العامة التي عاصرها الامام موسي الكاظم عليه‌السلام، و تمكن في خلالها، مع شيعته و تلامذته و أصحابه، من ممارسة دور حضاري نموذجي في مواجهتها و التصدي لها، و بالتالي الدفاع عن منظومة القيم و التشريعات الحضارية الاسلامية. و يبدو لنا أن تلك الظروف و الأوضاع لا تزال تفعل فعلها في تمزيق و تشتيت الأمة روحيا و مفاهيميا، متلبسة قوالب و اطارات جديدة في ذات الاتجاه و ضمن الجوهر و المحتوي نفسه. فنحن نواجه، في لحظتنا الراهنة، حضارة عملاقة غالبة و قاهرة هي الحضارة الغربية بكل ما فيها من منظومات تفكيرية و أنساق معرفية، تريد اظهار جدارتها (استعلائيتها) علي النماذج الحضارية المستضعفة الأخري. في هذا السياق نتساءل: كيف يمكن لمجتمعاتنا العربية و الاسلامية أن تستنهض ذاتها في ظل الخلافات السياسية و الأزمات الاجتماعية و الثقافية القهرية السائدة التي تحكم العالم من خلال ما اصطلح علي تسميته «بالنظام العالمي الجديد»؟!. [ صفحه 61] ما هو الدور الهام الذي يجب أن تضطلع به ثقافتنا الاسلامية في مواجهة أزمة القيم الحادة التي بدأت تنشر روائحها عبر أنظمة الاعلام و شبكات الاتصالات الحديثة التي تحاول - و قد نجحت الي حد ما في محاولتها هذه - تعميم نظام قيم غربي (عصري) يتخذ من غرائز الانسان و شهواته الدنيئة هدفا له في حجم الحياة كلها؟!. في الواقع قدم الغرب [91] ، في هيئته الجديدة، الي البشرية رؤية و نظرة كونية جديدة للعالم، و نمطا للحياة حديثا، و لقد ظهر ذلك علي هيئة مذاهب و تيارات فلسفية و اجتماعية و اقتصادية كالليبرالية و الاشتراكية. لقد حفلت ظروف الغرب و أحواله خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر حتي الثامن عشر [92] بالكثير من الصور و التغيرات و المشاهد التي تستحق الوقوف عندها و التأمل بها و دراسة بعض مواقعها التاريخية: 1- تم التخلص من قيود الكنيسة الدينية و تسلطها الأرعن علي حياة الناس الاجتماعية، و بنتيجة ذلك بويع العقل الانساني كمصدر وحيد لتشخيص المعرفة و القيمة و الحقيقة. 2- حل العلم التجريبي محل الدين في أذهان الناس، و بات هو الأساس في تفكيرهم و حل مشاكلهم المادية و حتي النفسية، فأصبحت اللذة و الترف المادي مصدر السعادة و المني للانسان و هدفه الأساسي في هذه الحياة. 3- و كنتيجة طبيعية لذلك، أصبح الله تعالي فكرة مجردة و خالية من أي معني في أذهان الناس و حياتهم، و أصبح التمتع بالملذات الحسية و الثروات [ صفحه 62] المادية، من أقصاها الي أقصاها، أهم حافز و باعث للنشاط البشري. لقد وصل الانسان الي درجة من الاعتقاد هي أنه، و بفضل جهده و اعتماده المطلق علي علقه، يستطيع أن يبني جنة أرضية فيها ما لذ طاب من الرفاه و المتع و اللذات، و من الطبيعي أن تقدم، في مثل هذه الأجواء النفسية و المادية، الاحتياجات المادية علي غيرها، و أن تكون هي الأصل و غيرها الفرع، و بتعبير أدق: أن تصبح رغبات الانسان أساس الأفكار و الأخلاق و القيم في الغرب الحديث. في مثل هذا المناخ نشأت فكرة الليبرالية الغربية حيث أتاحت الظروف المادية الجديدة بروز علاقات اجتماعية حديثة كان من أمرها - علي حد تعبير أحد الباحثين الغربيين - انتاج فلسفة جديدة أخذت علي نفسها مهمة تحسين الدنيا الجديدة، و كانت الليبرالية هي تلك الفلسفة [93] ، التي تحاول الآن - جاهدة - أن يكون لها واقع حضاري فكري و سياسي عالمي يفرض نفسه بقوة علي المجتمعات الاسلامية في سياستها و ثقافتها و اقتصادها و اعلامها، بما يتعارض - كليا و جوهريا - مع الأصول و المباني الاعتقادية و الفكرية و القيمية الاسلامية. ان هذا التعارض و التضاد القائم ليس مشكلة بحد ذاته، لكن هناك مجموعة عناصر و عوامل جانبية تعمل علي اذكاء الصراع، و تصعيد التضاد، نشير اليها كما يلي: العامل الأول: يتمتع العالم الغربي بنظام فكري و سياسي عريق و مستحكم البني و العلائق - كما ذكرنا سابقا - اكتسبها عبر ممارسة تجريبية دقيقة امتدت قرونا طويلة، و تم عرضها و نقدها و اظهارها و اختبارها - بجوانبها المختلفة - من قبل مئات العلماء و المفكرين. العامل الثاني: يعرض النظام الفكري و القيمي السياسي الغربي بطريقة يساير، من خلالها، الرغبات الأولية للبشر، أي الميول التي تجعل الانسان [ صفحه 63] يدافع عنها و يسعي الي تحقيقها بكل قوة و عزيمة، و بخاصة ميل الانسان بطبعه الذاتي نحو «الحرية» التي يزعم الغرب أنها أساس نظامه السياسي و الفكري، و ما لها من هالة و سحر مقدسين عند أي انسان. و بمقابل ذلك نجد أن الفكر الاسلامي يدعو الناس الي اقامة نظام أساسه الأخلاق و الفضائل التي يحصلها الانسان بالمجاهدة و المثابرة و الكدح الارتقائي نحو الله. بناء علي ذلك، فان ما يقترحه الغرب - صاحب القوة الاقتصادية و السياسية و العسكرية و الاعلامية الطاغية - يماشي رغبات و أماني و طموحات البشر الأولي، و هنا تكمن الأزمة حيث اننا ندعو الي قيمنا و نظامنا الأخلاقي العام - الذي يقوم علي الزهد و ضبط النفس و تقوية الملكات الروحية و الأخلاقية عن طريق الجهاد الأكبر (جهاد النفس) - في ظل أجواء التحلل من الأخلاق و المبادي‌ء و الأصول العامة، يمتلك فيها (في تلك الأجواء) عدونا القدرة علي السيطرة و التحكم بميزان القوي في كل الأحوال [94] ، الأمر الذي جعلنا نعيش، حضاريا و انسانيا، علي هامش الحضارة الغربية التي تريد تعميم ذاتها الحضارية علي الشعوب المقهورة و المستضعفة كلها لتمارس، من خلال ذلك، غريزتها «القديمة - الجديدة و هي غريزة السيطرة و الاستحواذ التي تمظهرت منذ عصر الاكتشافات الكبري في عهد البرتغال و الاسبان، و الآن تتمظهر مرة أخري، بلباس جديد، في الامبريالية العالمية بشعاراتها الخادعة و المزيفة (رسالة الرجل الأبيض) التي دمرت [95] كل الانجازات الثمينة للفكر الانساني و للروح الانسانية و للذوق الانساني، و حتي للبيئة و الطبيعة الأرضية [96] من خلال [ صفحه 64] حروبها [97] و جرائمها البشعة التي كشفت عن حقيقة تلك الشعارات و تلك القاعدة التي ترتكز عليها مصالح الغرب و شعاراتها الحضارية و الأخلاقية النفعية. نعم، ان الغرب استعماري و حاقد [98] و لا يفهم بغير لغة المصلحة و المنفعة المادية، و لا مكان للأخلاق و القيم في قاموسه السياسي و الفكري، لكن المشكلة، بالدرجة الأولي، ليست في الغرب، بل عندنا نحن، لماذا؟! لأننا نحن الذين سمحنا، من خلال عقدة النقص في داخل ذاتنا و نسيجنا الحضاري الراهن، أن يمتد الغرب في كل أوضاعنا و مواقفنا. صحيح أنه (الغرب) يمتلك امكانات و طاقات هائلة، لكنني لا أفهم أن نسمح لهم و نمضي علي أوراقهم (في سياستنا و اقتصادنا) في أن يفرضوا ارادتهم علي ارادتنا، أن يقهروا وجودنا و يستغلوا ثرواتنا و ينهبوا خيراتنا. [ صفحه 65] نحن قد نفهم أن مصالح الغرب تقضي ببناء و تشييد استثمارات اعمارية و انشائية مختلفة في بلداننا (فنادق خمس نجوم) لكنني لا يمكن أن أفهم، و لا أوافق أبدا، أن يتحمل المجتمع كل المظاهر السلبية التي تترتب علي هذا العمل، لأنهم يريدون أن يجعلوا، من تلك الفنادق و الاستراحات، محطات لهو و ترف لهم. الغرب يلغي لهونا الخاص الذي يعبر عن فكرنا، يلغي موسيقانا الخاصة و أناشيدنا و شعرنا و حتي ألعاب أطفالنا، و يريد تقديم نموذجه لنا، و ليس ذلك أن نكون مثل الغربيين و انما من أجل أن نكون أداة لاستمتاعهم أو لاستثمارهم [99] ، انهم يعممون نموذجهم الذي يلغي الآخر و لا يسمحون للآخر أن ينمو و يمتد من خلال ايجابيات نموذجهم بنفسه، بمقدار ما يدفعون الآخر الي الضمور من خلال سلبيات نموذجهم، و الآن يقوم هذا الغرب، مع بعض (ممثليه؟!) [100] في منطقتنا العربية و الاسلامية، بالتسويق لنغمة «قديمة - جديدة» تقول بأنه لايمكن اللحاق بركب التقدم الغربي الا بالمحاكاة و التماهي، سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية،. و نحن نري أن اصرار الغرب علي ضرورة محاكاته (دون التماثل معه و عدم الانسياق خلفه في كل شي‌ء) يعني أن نقلده و نبقي في حاجة ماسة له، لأنه لا يريدنا أن نحقق استقلالنا طالما أن التماثل يعني الاستقلالية، و المحاكاة تفرض التبعية و الاستلحاق، و السؤال المطروح، في ظل نمو مشاريع السيطرة الاقتصادية و السياسية [مشروع التسوية (السلام المنتظر) و سوق الشرق الأوسط و المتوسط، و ما الي ذلك] [101] . [ صفحه 66] هو، كيف نحتفظ بذاتنا الحضارية و نستعيد و نطور حقيقتنا الخاصة التي تجعلنا متماثلين و نديين - اذا صح التعبير - في سلوكنا و وعينا للآخر، في علاقات المجتمع في أنظمته السياسية و علاقاته الاقتصادية؟!. انه سؤال اشكالي مركب و ليس بسيطا، نواجهه جميعا كمثقفين و نخبة واعية و ملتزمة، تحتاج، فيما تحتاج، الي مراجعة ذاتها، و تغيير كثير من حساباتها الفكرية و العملية، خاصة و أننا نعيش حالة ضياع و غربة كاملة لأننا خسرنا المشروع التحديثي برمته و بكل مواقعه و تفاصيله، و أفلسنا فيه بالكامل [102] ، في الحقيقة نريد أن نؤكد، بداية علي أننا كمسلمين، أصحاب مشروع و أطروحة ربانية، نتطلع الي ممارسة دور حضاري فاعل في الحياة الانسانية المعاصرة، في أن نكون منفتحين علي الآخر لا لافتراسه أو لاستغلاله و انما للتكامل به و معه، أن نحافظ علي هذا و في الوقت نفسه نعمل علي تطوير نموذجنا الخاص في الاجتماع و الاقتصاد و السياسة في ذاتنا و في العلاقة مع الآخرين، حتي مع هؤلاء الذين يحملون هذه النزعة أو الطبيعة الافتراسية الفاوستية. نحن لم (و لن) نسعي - حسب و عينا لحركة الاسلام الروحي و المفاهيمي - الي الاستحواذ علي الآخر و الغائه، بل الي الانفتاح عليه و التعاون معه و احترام خصوصيته الحضارية، و الشاهد الحي علي ذلك هو بقاء اليهودية و كذلك المسيحية و ازدهارها في ديارنا الاسلامية، في مقابل أن الغرب التاريخي [ صفحه 67] المعاصر ينظر الي الاسلام نظرة الشك و الريبة و العداء، و يمارس ضده حربا سياسية و اعلامية لا هوادة فيها، ينزع فيها الي ارادة الاستحواذ و غريزة السيطرة و ليس الي ارادة المشاركة و المساهمة و التعاون. اننا و من خلال مراقبتنا و ملاحظتنا لواقع الحال العربي و الاسلامي و العالمي، نقترح - في اطار حركية الصراع و اللقاء بين الاسلام و الغرب كواقع قائم و أفق يستشرف بعض معالم مستقبل الحوار لا الصراع - نقترح بعض المبادي‌ء العامة لاجراء أي حوار لا حق بين الاسلام و الغرب، مع تشكيكنا - مسبقا - حدوث أي حوار صادق معه [103] .

في المجال السياسي و الاقتصادي

عدم استخدام القوة لفرض الارادة و الرأي السياسي أو الاقتصادي، و السعي باتجاه ايجاد حلول جذرية لقضية فلسطين و القدس، و الغاء الخطاب العدائي و الاستعدائي [104] - اذا صح التعبير - الذي يمارسه الغرب اعلاميا و نفسيا [ صفحه 68] ضد الاسلام و المسلمين [105] ، و بناء شراكة عملية في المجال الاقتصادي و الاستثماري تقوم علي أساس التكافؤ و العدل و الندية و تلغي التبعية و التماهي و الاستلحاق.

في المجال الحضاري و الثقافي

من المعروف أن الغرب يلتزم ثقافته و نمطه السلوكي الحضاري كمعيار حقيقي في أي مجال من مجالات العمل و الابداع، و بذلك فهو يلغي دور الثقافات الأخري و منها الثقافة الاسلامية و لا يفسح لها المجال للانفتاح و التفاعل و التواصل مع الآخر [106] بثقافته و نظامه المعرفي علي قاعدة التماثل، [ صفحه 69] و وفقا لقوانين التكامل الخاصة بحضارة وثقافة الاسلام؛ الأمر الذي يمكن أن يفتح سبلا للتعاون مختلفة - اذا ما أثمرت جهود التفاعل و التلاقح الفكري - في مجال تصحيح الوضع الانساني و الأخلاقي، خاصة و أن الحضارة الغربية تنطلق من جذور مادية في ثقافتها و ليس من جذور مسيحية، و ذلك بالعودة الي الفطرة الانسانية النقية و الطاهرة في مسألة الايمان الديني، في اعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية في مجال الأسرة و المجتمع و الاقتصاد و العلاقة مع الذات و مع الطبيعة. و لا شك أن هناك صعوبات كبيرة تقف عائقا أمام البدء بحركة حوار حضاري مع الغرب خاصة علي الصعيدين التاريخي و الواقعي (العصري). فعلي الصعيد الأول (التاريخي): نلاحظ أن هناك تاريخا تصادميا مروعا بيننا و بين العالم المسيحي لا سيما في أعقاب الحروب الصليبية. حيث نشأت، بعدها، و نمت حالة من الشك و عدم الثقة بين المسيحيين و المسلمين، تحولت عبر الزمن الي ترسبات و كتل جامدة سادت الأذهان في كلا العالمين (الاسلامي و المسيحي)، ساهم حشد كبير من المستشرقين في تعميقها و ترسيخها في حركة الواقع آنذاك. أما المعوق الثاني (العصري الراهن): فيتمثل - كما ذكرنا - بالاستعمار الجديد نفسه، الذي انطلقت جحافله لتغزو العالم كله، تحقيقا لمصالحها الاقتصادية و السياسية، و لبلوغ ذلك الهدف أباحوا لأنفسهم استخدام كل السبل و الوسائل و الأدوات، و منها اثارة تعقيدات التاريخ في الأذهان، ليس فقط للابقاء علي الخلافات و الأحقاد بين المسلمين، بل أيضا لاثارة هذه الخلافات من زوايا عدة علي نطاق واسع ليتمكن المستعمرون، في ظل الخلافات و النزاعات، من الوصول الي مصالحهم غير المشروعة [107] ، و لا ننسي، و نحن نتحدث عن معوقات حوار الحضارات، أن نمر علي الحرب العالمية التي تقودها دول الاستكبار العالمي - و في مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية [ صفحه 70] و دول أوروبا الغربية - ضد الاسلام الحركي التحرري، حيث تعمل (تلك الدول) علي محاصرة معتنقيه في مواقعهم و مواقفهم بشتي السبل، المباشرة و غير المباشرة، من أجل اضعافهم و تقييد حركتهم و اسقاط مصداقيتهم، و مصادرة حرياتهم و تشويه معالم صورتهم [108] بمختلف الأساليب الاعلامية و الأمنية و الثقافية و الدينية. ازاء هذه التحولات السريعة و المتلاحقة في واقع الحياة المعاصرة، نتساءل: كيف يجب أن يتعامل الفكر العربي و الاسلامي الراهن مع هذا الواقع الموضوعي؟ و ما هي آليات تطويره كي يصبح قادرا علي مواكبة و مسايرة قضايا العصر؟! مما لا شك فيه أن العالم يشهد تحولات جذرية بدأت تأخذ، منذ قترة، أبعادها السياسية الواقعية، علي صعيد الأسس التي تتحرك من خلالها القضايا و الأمور في مختلف الدول و خصوصا دول العالم الثالث، و منها بلداننا العربية و الاسلامية. يجب أن نعترف أول الأمر أن واقعنا الحالي هو واقع الهزيمة، و أن آخر تجليات هذه الهزيمة يتجسد في ما يفرض علي الأمة من مسارات تفاوضية استسلامية مع عدوها التاريخي اللدود ضمن موازين قوي ذاتية و اقليمية و دولية تميل لصالح العدو، و ستنتهي حكما الي الاستسلام، و الاذعان لهذا العدو، لا علي النحو الذي تكون حصيلته خسارة معركة واحدة مع العدو، ثم ينتهي الأمر «و كفي الله المؤمنين القتال»، بل علي النحو الذي يفتح مسارا جديدا و لا يتوقف في تقديم التنازلات و التراجعات التي ستمكن هذا العدو من التحكم، مستقبلا، بكل موازين القوي الضامنة لاستمرار الخلل في مشروعه، و بما يضع عقبات و عراقيل حقيقية في مواجهة أي مشروع نهوض للأمة [109] قد ينطلق لمواجهة هذا [ صفحه 71] المشروع و غيره من مشاريع التفتيت و الهيمنة المؤطرة بزخارف الانسانية و حقوق الانسان و الحداثة و التحضر و العصرنة و الكوننة و العولمة الخ، و طالما أننا نقر جميعا، كتيارات و نخب فكرية و سياسية متعددة المشارب و الانتماءات، بوقوع تلك الخسارة، و أننا نعيش الآن في قلب الهزيمة الفعلية، فالسؤال المطروح هو: هل يمثل هذا الواقع الانهزامي القضاء و القدر الذي يجب أن نسلم بنتائجه و انتهي الأمر؟ أي: هل ما يجري علي الصعيد الاقليمي و الدولي من حقائق و متغيرات، و ما انتهت اليه موازين القوي السياسية الراهنة، قد أغلق علينا باب التغيير التاريخي بعد أن توزعت الأقدار علي الشعوب و الأمم؟! و هل، حقا، أن هذه المصائر التي آلت اليها أمورنا و أوضاعنا قد جاءت كلها من الخارج و من دون ارادة منا، و لا يد أو مسؤولية لنا في مآلها؟!. نؤكد في سياق اجابتنا، أن ما يحصل ليس قضاء و قدرا مفروضا علي أمتنا، اننا نتفق علي ذلك مع الجميع. و نتفق أكثر علي أن الهزيمة واقع مفروض، لكن هذا الاتفاق لا يكفي وحده لأنه، و من أجل الخروج من وادي الهزيمة، لابد أن يكون لدينا قدر مشترك و ارادة واعية من الاتفاق علي عناوين رئيسية تقع في صلب الأسباب التي أدت الي الحاق الهزيمة بنا، سنختلف، منذ البداية، في توزيع الاتهامات و القاء مسؤوليات الهزيمة علي هذا الطرف أو ذاك، أكثرنا قد يحمل الأنظمة السياسية غير الشرعية القائمة و التابعة للغرب، المسؤولية عن كل هذا التفسخ السياسي و الاقتصادي و التاريخي، و بعضنا الآخر قد يلقي أسباب الخسارة أو الهزيمة علي الأمة نفسها في بنية تفكيرها و ارادة شعوبها. اننا نتحمل جميعا المسؤولية التاريخية عن واقعنا المفكك، و حتي نستطيع امتلاك الارادة القوية الواعية التي تمنحنا الفرصة الأكبر للسير في عملية التغيير النوعي و النهوض بواقع الأمة، علينا أن نعي الحقائق الثلاث التالية: الحقيقة الأولي: يشكل الاسلام ببعديه الروحي و المفاهيمي منظومة عقائدية تشريعية، تلزم المؤمنين بها العمل في اطار الضوابط و الموازين الشرعية الربانية، لذلك يجب فهم طبيعة المشاعر الحية للانسان المسلم، و نفسيته [ صفحه 72] العامة، و نسيجه العقائدي الاسلامي و تركيبته التاريخية و المعرفية، لأن المقاصد و الغايات الاصلاحية للتنوير و النهوض قائمة، أساسا، في عقيدة الأمة، و التأسيس (البناء) العملي علي هذه العقيدة أكثر انسجاما مع الفطرة البشرية عموما و الهوية الحضارية و الفكرية للأمة خصوصا، و أكثر ضمانا لتشكيل الشرط الضروري لحشد طاقات مثقفي الأمة و جماهيرها من أجل المساهمة في تحمل مسؤولية العمل الاستنهاضي، و كسر حلقة التبعية التي لا نزال ندور حولها، و لا تزال تحول دون انجاز الأولويات الضرورية للتحرر و التقدم و البناء و اطلاق مواهب الابداع الأصيل و المنفتح لدي الأمة [110] و التجربة الاسلامية في ايران خير دليل علي ذلك علي الرغم مما تواجهه من تحديات و مخاطر ممثلة في الاستكبار الأمريكي الذي يعمل علي فرض الحرب عليها، و آخرها الحرب مع العراق التي دمرت منشآتها الحيوية و كثيرا من مشاريعها التنموية، كذلك محاولات فرض الحصار الاقتصادي و السياسي عليها في ظروف بالغة القسوة، استفردت فها أمريكا بزعامة العالم، و باتت القطب الأوحد المتربع علي رأس السلطة العالمية - اذا صح التعبير - لكن ايران لا تزال صامدة، و هي تحاول - و نحن نعتقد أنها ستنجح في ذلك - كسر حلقات التبعية و الاستلاب لانجاز مشروعها الاسلامي الطموح، ليس فقط لأنها تتمتع بخيرات اقتصادية وافرة، و لا لما يمتاز و يتمتع به قادتها من حنكة و دراية و مهارات سياسية فحسب، ولكن لأن النظرة العقائدية و القيمية متجذرة في العمق الواعي للانسان المسلم هناك، و لأنها تختلف جذريا عن نظرة الخصوم ما يسمح لها ألا تدخل في الصراع معهم علي المضمار الذي يتفوقون فيه. هذا شرط لازم يحتاج الي شرط كاف ليكتمل البنيان، ربما تكون توجهات الحكومة الايرانية القادمة [111] قد وعته تماما في ظل [ صفحه 73] أجواء التحدي ورد التحدي. اذا لا يمكن للأمة الاسلامية أن تحول مخزونها الحضاري و الثقافي المتراكم الي فعل و تأثير في واقعها المضطرب، و واقع العصر القلق الذي تعيش فيه [112] ، بعيدا عن التوازن النفسي و المادي الذي لا يتوفر الا ثمرة لتحقيق الحد الأدني من هذا الكيان، أي بأن يكون كيان الأمة السياسي و التنظيمي انعكاسا و تجليا لعقيدة التوحيد التي تشكل أساس البنيان العقيدي للمسلمين [113] . صحيح أن صلة الأمة عموما و المؤمنين بتلك العقيدة خصوصا قد تراخت نسبيا مع الانفتاح علي الغرب و مع سيادة أنماط حياته السياسية و التربوية و التنظيمية و الادارية و الحقوقية، الا أن هذه الصلة عادت من جديد التقوي بعدما لمست جماهير الأمة كلها نتائج مسيرتهم الطويلة نسبيا في هذا المجال، و التي أحالتهم الي مزيد من الخوف و البؤس و الشعور بالضعف و الحرمان في الحاضر و الاحساس المتزايد بالخوف من المستقبل. الحقيقة الثانية: استكمالا لما ورود في الحقيقة الأولي، و في ظل الانشطار الكامل في البني المختلفة لمجتمعاتنا العربية و الاسلامية بين ما هو سياسي و ثقافي و مؤسسات قائمة تحكم، و بين ما هي عليه هذه المجتمعات من هوية و معايير مغايرة لواقع الحال السائد. تداعت الأزمات وراء الأزمات، و ضعفت [ صفحه 74] روح المبادرة و المقاومة [114] و الابداع، و خاضت شعوب المنطقة حروبا متعددة، حيث دفعت، تلك النتائج، الأمة باتجاه المفصل الخطير الراهن المتمثل - كما تحدثنا سابقا - في مسيرة التسوية المزعومة بهدف ادخال ذلك الكيان في هيكلية المنطقة، و اعطائه المزيد من الفرص في الهيمنة و التوسع و النفوذ عبر مشاريع اقتصادية و ثقافية و أمنية في مقابل الغاء شبه كامل للمنطقة، و تجاهل حتي لهويتها القومية و ما تنشئه هذه الهوية من حقوق فضلا عن هويتها الاسلامية الأصيلة. في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء، يجب أن يتحمل المثقف العربي مسؤوليته، و يراجع تعبيراته و مشاريعه و التزاماته، في أن لا ينهمك في السجال و الميدان السياسي اليومي للحدث فقط، في ما تكمن الأزمة - جوهريا - في كيان الأمة الثقافي، اذا علي المثقف أن يحول عمله و انتاجه الي قرار و سلوك و عمل و أخلاقيات تعامل، في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل و السجال الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة، يبرز - أكثر من أي وقت مضي - محتوي و مضمون الهوية الاسلامية للمنطقة بصورة أكثر فاعلية و أصالة و واقعية، و هل الهوية الاسلامية لمجتمعاتنا، في جوهرها، سوي التطلع الدائم للبناء المستمر و المتواصل للشخصية الثقافية الاسلامية؟!. الحقيقة الثالثة: علينا أن نفهم - في اطار علاقتنا مع الآخر - أن الغرب بالنسبة الينا هو جزء من العالم، و طرف من أطراف البشرية الأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية و الاقتصادية، و حتي الثقافية و العلمية (في طبيعة التنظيم و النظام القائم و ليس في البنية و المحتوي و المخزون) و هو الطرف الذي يسيطر - الي حد كبير - علي مصير البشرية، ولكن هذا لا يعني سيطرة أبدية، كما لا يعني أن هناك فوارق و قطيعة مطلقة بين الغرب و البلدان الأخري، فنحن جزء من عالم انساني كبير يشهد تحولات جذرية، و الصراع القائم بين الشرق و الغرب [ صفحه 75] علي شي‌ء واحد هو الرأسمال الحضاري أي الثروة و التراث الحضاري المعنوي و المادي، و التحدي الحقيقي الذي يواجهنا: هو كيف يمكن لنا أن نسيطر علي وسائل هذه الحضارة، و نستوعبها، حتي يكون لنا مكان الي جانب الغرب، لا خاضعين له و لا مسيطرين عليه، و انما نعيش الي جانبه، و أن ننجح بالسيطرة علي التكنولوجيا، و أن نكون فاعلين و مبدعين و مساهمين أيضا في انتاج و صنع هذه الحضارة. كشركاء غير متساوين في اطار أو بعد أو دائرة حضارية واحدة. [ صفحه 76]

الحياة السياسية للامام الكاظم

اشاره

تعد دراسة الجانب السياسي من حياة أية شخصية تاريخية، لها و زنها و ثقلها الروحي و المفاهيمي، من أهم المداخل و المقدمات اللازمة لفهم و عيها و أصول تفكيرها و تحليلها للواقع الذي عايشته بكل أبعاده و امتدادته، خصوصا اذا اتسم ذلك الواقع بالتنوع و التلون في أدوار و مواقف أحداثه و معطياته الفكرية و السياسية، و هذه هي الصفة العامة التي غلبت علي المرحلة التي عاصرها الامام موسي بن جعفر الذي حفلت حياته عليه‌السلام بمواقف و رؤي سياسية و فكرية هامة أعطتنا صورة عملية واقعية عن الطرق و السبل السياسية التي سار عليها في اطار حركته الدعوتية السياسية و العملية التي كانت تريد اعادة الأمة علي طريق التوازن و الاعتدال علي مستوي ممارستها لدورها الحضاري الطبيعي في الحياة الانسانية. و لعلنا لا نغالي اذا ما قلنا بأن هناك تأثيرا سياسيا واضحا لامامنا الكاظم عليه‌السلام في مسيرة عصره في مشاركته الفاعلة في ضبط معايير التحرك السياسي (الخاص و العام)، و أبرز دليل يساق في هذا المضمار - علي صعيد وجود مهام و ممارسات سياسية هادفة و واعية في شخصية الكاظم عليه‌السلام - هو في انزعاج السلاطين و الحكام الذين عاصروه حتي من مجرد وجود حركة علمية و تبليغية دينية مارسها امامنا عليه‌السلام، و اندفاع هؤلاء الحكام في اتجاه تهديده [ صفحه 77] بالقتل و توعده بالتعذيب [115] في البداية، ثم تنفيذ ذلك المخطط- بعد تلك الفترة - حتي قضي عليه‌السلام معظم حياته الشريفة متنقلا من سجن الي آخر. ان القلق و التوتر النفسي و السلوكي الذي عاشته الدولة العباسية علي اختلاف زعمائها و ملوكها و جسدته عمليا، من خلال ملاحقة الامام عليه‌السلام و سجنه و تعذيبه و ايذائه حتي مات شهيدا في أحد سجونها، لا يصلح أن يفسر في اطار وعيها لخطورة حركة الكاظم عليه‌السلام و جاذبيته الفكرية و النفسية و السلوكية الحركية التي شخصها، أولئك الحكام، علي أنها ثورة سياسية، روحية و عقائدية، علي الرغم من أن الامام الكاظم لم يكن، أصلا، في صدد القيام بثورة سياسية، لكنهم شعروا بالخطر المحدق بهم، الذي يهدد مصالحهم و استئثارهم بالسلطة، فلاحقوه و اعتقلوه و سجنوه و من ثم قتلوه. [ صفحه 78]

معاصرته لنهاية الدولة الأموية

أدرك الامام موسي عليه‌السلام من حياة أبيه عشرين عاما، شاهد فيها (خاصة في سن طفولته) ما لحق بآله من ظلم و اضطهاد و قتل و تشريد. لقد قضي عليه‌السلام السنوات الأولي من حياته الشريفة تحت ظل الحكم الأموي فكان شاهدا، و هو طفل، علي المآسي و الظلم و الدمار الذي ألحقه بنوأمية بواقع المجتمع الاسلامي، و ذلك عبر اشاعتهم للفوضي الفكرية و الاجتماعية و بث روح العبث و اللامبالاة بين الناس بتغذية الصراع العرقي القبلي كأسلوب دني‌ء يصرف النظر عن مواقع الخلل، و يشغل الناس عما يعانونه من الظلم و الويلات، من خلال وسائل عديدة أهمها: 1- استخدام وعاظ السلاطين من المتقدسين المزيفين المتجلببين بعباءة الدين و لباس التقوي و عمامة المهنة لا الرسالة [116] ، و تسليط ولاة الجور من المجرمين و الارهابيين المشهورين في تاريخنا الاسلامي علي رقاب الناس كالحجاج بن يوسف الثقفي [117] ، المشهور بقساوته و الحاده و كفره و ضلاله و كثرة الدماء البشرية البريئة التي سالت بين يديه و أيدي جلاوزته و أعوانه. 2- حمل الناس علي مناهضة أهل البيت و اعلان بغضهم و عداواتهم و سبهم علي المنابر الرسمية و الدينية. [ صفحه 79] 3- نهب ثروات و خيرات البلاد و السيطرة علي مقدرات الأمة و بالتالي اشاعة الفقر و الحرمان بين الناس [118] . 4- تحكم المزاجية الذاتية في ممارسة طقوس السلطة و ادارة الحكم [119] ، و الاستهتار بالقيم و المبادي‌ء العليا. اذا، عاين الامام الكاظم عليه‌السلام - و هو لا يزال في مراحل نشأته و تكون شخصيته الأولي مع أبيه الصادق عليه‌السلام - صنوفا من الجور و الظلم و الضغط و القسر النفسي و السلوكي، ساهمت في تكوين موقفه العملي الرافض لسلطة الظلم و الاستعباد التي اتبعها حكام «الأمويون» [120] و من بعدهم فراعنة العباسيين. [ صفحه 80]

الكاظم و عهد العباسيين

اشارة

ذكرنا في المبحث السابق، أن الكاظم عليه‌السلام قضي عقدين من الزمن بصحبة والده الامام الصادق عليه‌السلام [121] ، و قد حدث - خلال هذه الفترة الزمنية غير القصيرة - انتقال غير سلمي للسلطة السياسية و زعامة الدولة من الأمويين الي العباسيين، و هنا نسأل: كيف كانت حالة الأمة و المجتمع الاسلامي تحت ظل الدولة العباسية، و في أي اتجاه سارت أمور العباد و أحوال البلاد ابان هذا العهد؟. اتجهت أنظار المسلمين، بعد سقوط الدولة الأموية، الي مخلص جديد، فوقفت الأبصار و العقول علي الأشراف العلويين [122] الذين لم يطيقوا الصبر علي الظلم و الطغيان (حيث كانوا يخرجون بين الحين و الآخر فرارا بدمائهم و دفاعا عن المعذبين و المستضعفين) و تجرع مرارة تلك الأحداث القاسية التي قضت علي الكثيرين منهم [123] و منها مصادرة أموالهم و التنكيل [ صفحه 81] بهم [124] وقطع رؤوسهم [125] و وضعها في اسطوانات مجوفة [126] . لقد جهد الخلفاء العباسيون في تدعيم سلطانهم [127] بأي شكل كان و مهما كانت الوسيلة الي ذلك، فقاموا بنهب ثروات المجتمع و مقدرات الأمة، الأمر الذي أدي الي ركود الحالة العامة في المجتمع، و اغلاق المنافذ أمام احداث أي [ صفحه 82] تطور أو تقدم في الحالة الاجتماعية و الاقتصادية [128] ، و عدم تحقيق و نشر الراحة و السعة و الرخاء بين الناس علي الرغم من تكدس الأموال في بيت المال، بل عمت المجاعة و انتشرت الفاقة و العوز [129] في جميع الأرجاء، و قويت شوكة النزعة الاستبدادية و التسلطية لدي حكام ذلك العصر [130] و مالوا الي الغدر و الخيانة و عدم الخضوع للقانون [131] . في ظل هذه الأجواء الضاغطة نفسيا و سياسيا، تحرك الامام الكاظم بكل وعي و حذر، حيث استقبل عليه‌السلام امامته - التي استمرت خمسة و ثلاثين عاما - في هذا الجو المشحون بالحقد و الكراهية لأهل البيت، ولزم جانب الحيطة و الحذر، و اعتصم بالكتمان الا عن الخاصة الذين كانوا يقدرون حراجة الموقف ودقته، و يعرفون كيف يدعون اليه، لكن كانت هناك بعض الأحداث التي احتاجت الي مواقف حاسمة كان لا بد فيها من الافصاح عن حقائق الأمور و اظهارها للملأ، و بخاصة في ما يتعلق برفض اعطاء الحكم العباسي شرعية الانتماء، و ذلك علي صعيد قضية الخلافة و قيادة الأمة. و هذا ما نلاحظه في عدم قبول الامام الكاظم عليه‌السلام لشرعية الوضع السياسي الخاص و العام (لزعماء؟) عصره و منهم هارون (الرشيد؟)، و ننقل هنا احتجاجه عليه‌السلام مع هارون و هو في مرقد النبي صلي الله عليه وآله و سلم أمام حشد غفير من الأشراف و قادة الجيش و كبار الموظفين في الدولة، لنبين، من خلاله، موقفه الفكري و السياسي العلني و الصريح من السلطان الجائر، و احتجاجه عليه بأنه أحق بالخلافة من غيره و أولي بها من جميع المسلمين. [ صفحه 83] اذ أقبل هارون بوجهه علي الضريح المقدس و سلم بقوله: «السالم عليك يا ابن‌العم» معتزا و مفتخرا علي غيره بصلته من النبي صلي الله عليه وآله و سلم و أنه انما نال الخلافة لقربه من الرسول صلي الله عليه وآله و سلم، و كان الامام - آنذاك - حاضرا فسلم علي النبي صلي الله عليه وآله و سلم قائلا: «السلام عليك يا أبت». ففقد الرشيد صوابه، و استولت عليه موجات من الاستياء، حيث قد سبقه الامام الي ذلك المجد و الفخر، فقال له بنبرات تقطر غضبا و حقدا: «لم قلت انك أقرب الي رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم منا؟» أجاب عليه‌السلام برد مفحم قائلا: «لم بعث رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم حيا و خطب منك كريمتك هل كنت تجيبه الي ذلك؟» فقال هارون: سبحان الله و كنت أفتخر بذلك علي العرب و العجم، فانبري الامام عليه‌السلام قائلا: «لكنه لا يخطب مني و لا أزوجه لأنه و الدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب اليه منكم» [132] و اضطر هارون بعدما أعياه الدليل الي منطق العجز، فأمر باعتقال الامام عليه‌السلام وزجه في السجن [133] . [ صفحه 84]

موقفه المبدئي من حكام الجور و زعماء (الملك العضوض)

اشاره

عاصر الامام موسي بن جعفر عدة خلفاء عباسيين، فقد عايش عليه‌السلام أربع سنوات و نصف السنة من عهد عبدالله بن محمد بن علي الملقب بالسفاح، و بقي تسع سنوات و أشهرا في عهد المنصور الدوانيقي حيث كانت وفاة الامام الصادق عليه‌السلام، و عاش بعد أبيه خمسة و ثلاثين عاما مدة امامته قضي منها مع المنصور، بعد أبيه، نحوا من عشر سنوات، و مع ولده محمد الملقب بالمهدي عشر سنين، و مع ولده موسي الهادي سنة واحدة، و مع أخيه هارون نحوا من خمسة عشر عاما. و سنستعرض هنا، بشي‌ء من التفصيل، بعض مواقفه الثابتة من أولئك الحكام، و رؤيته الفكرية و السياسية للنهج السياسي و الاجتماعي الذي اتبعوه و ساروا عليه في ادارتهم لشؤون الدولة و المجتمع.

في عهد المنصور الدوانيقي

تؤكد المرويات الكثيرة [134] أن الامام موسي عليه‌السلام تعرض، هو و أصحابه و شيعته، خلال الفترة التي أعقبت وفاة أبيه الصادق عليه‌السلام الي رقابة شديدة من قبل الحكام [135] ، لكن يبدو، من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مر بها في [ صفحه 85] عهد المنصور، أنه لم يلتق معه و لم يطلب حضوره اليه في بغداد كما كان يستدعي والده، ويتهدده بالنفي و القتل، و لم يتعرض عليه‌السلام في عهده (عهد المنصور) للحبس أو القمع بالدرجة التي تعرض لها في عهود أولاده و أحفاده، في حين أنه كان (المنصور) أشد ايذاء و تعذيبا و فتكا بالعلويين و شيعة أهل اليت عليهم‌السلام في عهد الصادق عليه‌السلام، و لعل من أكثر الحوادث دلالة علي سوء سريرته و خبث نواياه و حقده علي البيت العلوي و كل من يتصل به بالولاء و الانتماء، حديث الخزانة المشهور [136] التي سلم مفاتيحها الي (ريطة) زوجة ابنه (المهدي) و أوصاها بأن لا تفتحها الا بعد وفاته و بحضور خليفته، و في الخزانة أكثر من مائة قتيل من العلويين و الي جانب كل قتيل رقعة باسمه و نسبه، و لم تكن تعلم بذلك لا هي و لا زوجها و لا أحد من الناس، و ظنت و هو يوصيها و يؤكد عليها بالكتمان و عدم فتحها الا بعد وفاته، أن فيها من الأموال و المجوهرات و التحف ما لا يمكن تقديره بثمن [137] ، و المنصور هذا هو الذي كان يضع العلويين في الاسطوانات و يسمرهم في الحيطان - كما نص علي ذلك اليعقوبي و غيره - و يتركهم يموتون في المطبق جوعا، و تقتلهم الروائح الكريهة، حتي لم يكن لهم مكان يخرجون اليه لازالة الضرورة، و كان يموت أحدهم، فيترك معهم حتي يبلي من غير دفن، ثم يهدم المطبق علي من تبقي منهم حيا و هم في أغلالهم [138] . [ صفحه 86] ازاء هذا الوضع المعقد و الظرف الدقيق، كيف تصرف الامام الكاظم؟ و ما هو موقفه و فعله؟ و من ثم ما هو الدور السياسي العام الذي لعبه في المجتمع الاسلامي علي صعيد ضرورة تحصينه و توعيته و صيانته من العبث و الانحراف خاصة بعد سقوط التجربة الصحيحة؟!. في الواقع، كان الامام واعيا و مقدرا للظروف السياسية القاسية التي كانت تحيط به، و تضغط علي وجوده و وجود أصحابه و المقربين منه في ذلك العهد، لذلك اعتصم في بيته وانكمش حتي عن شيعته و لم يظهر الا للخواص منهم، ضمن حدود معينة، و كانوا اذا اطمأنوا الي شخص و أدخلوه عليه يوصيه بالكتمان الشديد و يخدره من العواقب الوخيمة التي قد تنجم جراء الاعلان عنه [139] ، مما يوحي بأن المنصور كان، في تلك الفترة، يتحري بكل وسائله، و من الجائز أنه كان لا يستطيع الاهتداء اليه أو معرفة مكانه بتلك السهولة، و حتي لو عرفه و أيقن بأنه الخليفة الشرعي لأبيه [140] ، فما دام معتزلا الناس و منقطعا عنهم فلا يضره ذلك و لا يراه خطيرا علي عرشه [141] ، اذا كان الامام موسي عليه‌السلام، كما يتضح من تاريخ عهده الأول، منكمشا حتي عن أصحابه، و قد اكتفي المنصور بمحاربته - من خلال اعتماده أساليب و وسائل عديدة [142] . [ صفحه 87] من حبسه و التنكيل به، لقد كان عليه‌السلام يريد من انكماشه و ابتعاده عن الواقع، نسبيا، أن يحافظ علي فكر و نهج أهل البيت عليهم‌السلام من الاغتيال الثقافي و السياسي، خصوصا و أن المنصور (و غيره من فراعنة العباسيين) كانوا جادين تماما في محق آثار و معارف آل البيت عليهم‌السلام و اجتثاث جذورهم الفكرية و الحضارية القابعة في ذهنية الأمة و في وعي و روحية أبنائها [143] ، لذلك كان الأمر الأولي بالنسبة اليه هو في الحفاظ الكامل علي تراث و أطروحة أهل البيت عليهم‌السلام، من خلال السعي باتجاه مواقع أكثر سلامة للأفراد و الأشخاص الحاملين لتلك المعارف و الثقافة، لأن الواقع ملبد بالغيوم السوداء و لا يحتمل أية دعوة فكرية أو سياسية، بل المطلوب أولا حماية المفردات الرئيسية للدعوة و التجربة الحقيقية. و لعلنا نستوحي من هذا الموقف الذي اتخذه الامام الكاظم في السنين الأولي من امامته - التي كانت فيها مساحة العمل و الحركة ضيقة و حتي مسدودة في كثير من الحالات - نستوحي منه ضرورة دراسة الواقع الذي يعيشه العمل الاسلامي السياسي فيما هي الحركة، و فيما هو الرد، و فيما هي المرحلة، و ذلك للتعرف علي المساحة الحرة، التي يملك فيها الخط الاسلامي حرية الحركة فيها، فقد تكون المساحة - كما ذكرنا - ضيقة المستوي بحيث لا يكون هناك أي مجال فيها الا للثقافة و العبادة و التربية، و في هذه الحال، لا بد من توفير كل الوسائل الثقافية والروحية و التربوية، و الاستغراق فيها من أجل تكوين قاعدة اسلامية قوية من حيث الوعي الفكري و الصفاء الروحي و التوازن التربوي، للبدء بعد ذلك بمرحلة جديدة، للانطلاق في العمل السياسي، بعد استكمال شروطه الموضوعية، فيما يمكن أن يكون حقيقة في توسيع القاعدة، و تحرير الساحة في حدودها الضيقة. [ صفحه 88]

في عهد المهدي

بقي الامام الكاظم طيلة حكم الخليفة المهدي تحت الرقابة الصارمة، من قبل أجهزة النظام الحاكم، و قد قام باستدعائه عليه‌السلام الي بغداد أكثر من مرة [144] و هو حاقد عليه، فحبسه و أساء معاملته ثم قام باطلاق سراحه لرؤية رآها [145] ، جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي: أن أهل الشعر قالوا: لقد كان مقام موسي بن جعفر بالمدينة فاستدعاه المهدي الي بغداد و حبسه بها ثم رده الي المدينة لطيف رآه. و مضي يقول: و روي الخطيب في تاريخ بغداد عن الفضل بن الربيع عن أبيه أنه قال: لما حبس المهدي موسي بن جعفر رأي، في بعض الليالي، علي بن أبي‌طالب عليه‌السلام في نومه، فقال له: يا محمد (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم)، [محمد: 22] قال الربيع: فأرسل الي المهدي ليلا فراعني ذلك مجيئه، و اذا هو يقرأ الآية، و كان أحسن الناس صوتا، فقال لي: علي بموسي بن جعفر، فلما جئته به قام اليه و عانقه و أجلسه الي جانبه و قال: يا أباالحسن رأيت الساعة اميرالمؤمنين و هو يقرأ علي هذه الآية، أفتؤمنني أن لا تخرج علي و لا علي أحد من ولدي، فقال: و الله ما فعلت ذلك أبدا و لا هو من شيمتي، فقال: صدقت، ثم قال: يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده الي أهله، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا فما أصبح الا و هو في الطريق الي المدينة مخافة العوائق. [ صفحه 89]

في عهد الهادي

لم يمارس هذا الخليفة - علي حسب ما وقع بين أيدينا من مصادر تاريخية - أي نوع من الضغوط أو الاساءة الي الامام الكاظم عليه‌السلام، و لم يحدثنا التاريخ أنه قد استدعاه الي بغداد علي الرغم من اتصافه بالقسوة و الشدة [146] ، و لعل المدة الزمنية القصيرة التي قضاها الهادي علي كرسي الخلافة العباسية لم تسمح له بممارسة أساليب جده و أبيه مع الامام عليه‌السلام.

في عهد هارون (الملقب بالرشيد؟)

اشاره

لقد كانت السنوات التي مرت علي الامام الكاظم عليه‌السلام، و علي شيعته [147] ، تحت ظل حكم هارون الرشيد من أسوأ و أفظع المراحل التاريخية التي قضاها في حياته، فقد كانت المهمة الأولي لجهاز الحكم (الرشيدي) تكمن في المراقبة المستمرة للامام، خوفا منه و من مجرد وجوده في الحياة، و هذا ما صرح به هارون - بشكل غير مباشر - عندما كان يعتقل الامام و يحضره الي مجلسه، حتي أن الامام قد سأله، أكثر من مرة، عن سبب اعتقاله و سجنه، و هو لما يفعل شيئا [ صفحه 90] يسي‌ء الي الدولة و لم يهدد أمن المجتمع و استقراره، فلماذا الحبس و الاعتقال؟. أما جواب هارون فكان السكوت، لأنه لا يملك أي دليل ضده. نحن لا نستغرب هذا الأمر اطلاقا عندما نقرأ عن هارون الرشيد [148] أنه كان مستعدا لقتل نجله من أجل الملك و الخلافة، جاء في رواية [149] : أن المأمون (ولد هارون) استغرب تكرار عمليات استدعاء الامام الي بغداد و حبسه ثم اطلاق سراحه فسأل والده الرشيد، بعد أن انفرد به، عن سبب تقديره و اجلاله للكاظم عليه‌السلام، علي الرغم من حبسه له أكثر من مرة، فقال له هارون: يا بني أنه صاحب الحق. فقال له المأمون: اذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه، فقال: «انه الملك، و الله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك» [150] . [ صفحه 91] تنقل الامام الكاظم في السجون العباسية واحدا تلو الآخر، و لم يبق في سجن واحد، لقد كان الحاكم يأمر بنقله من سجن لآخر، و ذلك لأنهم عندما كانوا يضعونه في أحد السجون يرون، بعد مضي فترة زمنية قصيرة، أن السجانين و عمال السجن قد أصبحوا من عشاقه و محبيه عليه‌السلام، يقبلون عليه و يتباركون به. و روي في هذا المجال الشي‌ء الكثير، نذكر من ذلك أنه أخذ عليه‌السلام ذات مرة الي سجن و كان و الي البصرة عيسي بن جعفر بن أبي‌جعفر المنصور (حفيد المنصور الدوانيقي)، و كان معروفا بحبه للشراب و الرقص و الغناء، أي أنه كان من أهل الفسق و الفجور، حول امامنا الكاظم اليه، و علي حد قول أحدهم: جاؤوا برجل عابد يعرف الله و يخشاه الي مكان يسمع فيه أشياء لم يسمعها في حياته، جاؤوا بالامام الي سجن البصرة في (7) ذي الحجة من سنة (178) للهجرة، و كان عيد الأضحي علي الأبواب فكانت أيام احتفالات و سرور، أخذ عليه‌السلام بشكل مهين (معنويا) و بقي مدة في السجن، و رويدا رويدا بدأ عيسي بن جعفر (الرجل العابث و اللاهي) يتعلق بالامام عليه‌السلام و صار يقبل عليه، كان عيسي يظن أن موسي بن جعفر عليه‌السلام هو واقعا - كما بلغ جهاز الحكم ضده - رجل متمرد و خارج علي القانون، لا شغل له الا ادعاء الخلافة أي أن حب الرئاسة ملأ رأسه، فرأي عكس ذلك، رآه رجل الروحانية و التقوي [ صفحه 92] و العبادة، و ان كان يطرح مسألة الخلافة فلجهتها المعنوية لا لأجل أنه رجل طالب دنيا، هنا تغيرت أوضاع الامام حيث أمر عيسي أن يجعل تحت تصرف الامام عليه‌السلام غرفة ممتازة و أعلن رسميا عن ضيافة الامام عليه‌السلام، فأرسل هارون رسالة سرية أن حطم مكر هذا السجين، فأرسل اليه: أنني لن أفعل، و أخيرا كتب للخليفة أن أعط أمرا بنقله من عندي، و الا فانني سأحرره بنفسي فانني لا أستطيع حفظ هذا الرجل عندي كسجين، و حيث انه كان ابن عم الخليفة و حفيد المنصور فكلامه مسموع [151] . يتضح - من سياق تلك الرواية، و مثيلاتها من الروايات حول الموضوع نفسه [152] - خوف و فزع الحاكم من جاذبية الكاظم عليه‌السلام، و قوة تأثيره، و انشداد الناس اليه، حتي أصبح عليه‌السلام، خلال ذلك العهد، حديث العدو و الصديق الأمر الذي رأي فيه الحاكم وضعا مقلقا و خطيرا يهدد ملكه و زعامة بيته. انها، و لا شك، الهيمنة المعنوية الارادية، و النفوذ النفسي الكبير الذي تمتع به الامام الكاظم و غيره من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام، لقد كان ذلك سلاحهم الوحيد، في وقت لم يمتلكوا فيه سلاحا و لا اعلاما و لا مركز قوة لكنهم ملكوا القلوب و العقول حتي كان، من بين أقرب الناس الي هارون، شيعة [153] ، لقد كان هارون يخشي الي درجة الفزع و الرعب [154] ، جاذبية دعوة الحق و الحقيقة [ صفحه 93] الموجودة بوجود الامام الكاظم عليه‌السلام، دعوة العمل و السلوك، فالتبليغ الرسالي لا يتحرك دائما بالكلام و الأقوال و التصريحات فقط،. بل أيضا بالعمل المنظم و المدروس و الهادف. لقد كان كل من يلتقي الامام موسي بن جعفر عليه‌السلام أو أحد آبائه أو أبنائه الكرام الطاهرين و يبقي معهم مدة فانه تتجلي له الحقيقة في وجودهم عليهم‌السلام و يري أنهم يعرفون الله معرفة واقعية و يخشونه خشية واقعية، و أنهم، في الواقع، محبو الله، و ما يعملونه فانما هو لأجل الله و الحقيقة [155] . في اطار مواجهة هذا الوضع المضطرب الملي‌ء بالفوضي و المواقف الضاغطة و الوقائع القسرية و الاكراهية، اتخذ امامنا الكاظم عليه‌السلام موقفا سلبيا تجاه الحكم القائم، ظهر جليا في بعض أخباره و أحاديثه، فقد دخل الامام عليه‌السلام علي هارون في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد و لا في غيرها، فانبري اليه هارون و قد أسكرته نشوة الحكم قائلا [156] : ما هذه الدار؟ فأجابه الامام غير مكترث بسلطانه و جبروته قائلا له: «هذه دار الفاسقين»، قال الله تعالي: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها و ان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا)، [الأعراف: 146] و مشت الرعدة في جسم هارون و استولت عليه موجة من الاستياء فقال للامام: دار من هي؟. - «هي لشيعتنا فترة و لغيرهم فتنة». - ما بال صاحب الدار لا يأخذها. - «أخذت منه عامرة و لا يأخذها الا معمورة». [ صفحه 94] - أين شيعتك؟. - فتلا الامام عليه‌السلام قوله تعالي: (ألم تر الي الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار) [ابراهيم: 28]. و هكذا فقد كان الامام يري هارون غاصبا لمنصب الخلافة و الحكم و السلطة، و مختلسا للأموال، و معتديا علي ثروة الناس، مما أثار غضب هارون عليه و أغلظ في كلامه علي الامام عليه‌السلام، بعد أن سمعه يتحداه بموقف لا هوادة فيه.

السبب الرئيسي لاعتقال الامام

عندما خطط هارون لجعل ولاية العهد و خلافة الدولة وراثية لولده الأمين و من ثم المأمون، و من بعدهما للمؤتمن، كان يفكر، بينه و بين أعوانه، عن أهم العقبات التي يمكن أن تظهر في وجه تحقيق هذه الرغبة، و تساءل عن المانع من تنفيذ تلك الخطة، و يبدو أنه لم يطل في تفكيره طويلا حتي قادته شهوة السيطرة و الملك الي اعتبار [157] الامام موسي بن جعفر عليه‌السلام هو المانع، فأعطي أمرا باعتقاله فور وصوله الي المدينة، و قد كان يحيي البرمكي قال لبعضهم: أعتقد أن الخليفة سيأمر، خلال اليوم و الغد، باعتقال موسي بن جعفر، قال: كيف؟ قال: كنت في رفقته عندما ذهبنا لزيارة الرسول في مسجد النبي، و عندما سلم [ صفحه 95] علي النبي بقوله: السلام عليك يا ابن العم يا رسول الله، قال: «أعتذر اليك [158] فأنا مضطر لتوقيف ابنك موسي بن جعفر، فان المصالح تقتضي ذلك، و ان لم أفعل تكن فتنة في بلادي، فلمنع هذه الفتنة، و لأجل مصالح البلاد العليا [159] ، اضطر للقيام بهذا العمل، يا رسول الله أعتذر اليك» [160] .

من معالم و اتجاهات الفكر السياسي الاسلامي عند الامام الكاظم

اشاره

نجد من خلال استقرائنا لمسار الحركة التاريخية في ذلك العهد، أن هناك ظروفا موضوعية، ذات ثوابت كمية و كيفية، حكمت التوجه السياسي العام عند امامنا الكاظم عليه‌السلام، و أثرت علي مجمل تحركه السياسي (علي الرغم من أنه لم يتحرك سياسيا بالمفهوم الذاتي للكلمة، كمدلول سياسي ثوري بالمعني الواقعي) في خط الدعوة الي بناء الوعي الاسلامي المتيقظ و الملتزم. فهو عليه‌السلام لم يدخل اطلاقا الي مستنقع الخلافات و الخصومات و النزاعات الذاتية في دائرة المعترك السياسي و الأمني مع أولئك المجرمين، بالرغم من أن السلطات الحاكمة كانت تعتبره الخطر الأكبر علي مصالحها و منافعها، طبعا عدم دخوله الي ذلك الواقع لا يعني، بحال من الأحوال، أنه كان ضد ممارسة السياسة و الحكم، أو أنه عليه‌السلام قد اعتزل النشاط السياسي بوعي و تسليم و خضوع لسلطة (الحكم) الآخر، بل كان يقف، ضد ذلك، آنيا [ صفحه 96] و وقتيا، أي تحت ظل ذلك العهد البائد الظالم فقط، فالظروف الضاغطة العامة، كما أسلفنا، اقتضيت التوقف عن الدعوة سياسيا بالمعني الواقعي للكلمة، لذلك كان عليه‌السلام يري ضرورة ملحة في البدء بعملية دعوة تبليغية صامتة «التقية السياسية» [161] ذات بعد داخلي و خارجي، لأنها تشكل أقرب الطرق و أيسرها للوصول الي عملية تغيير الواقع القائم، و قربها من استلام زمام الحكم و ممارسة العمل السياسي و لو بعد فترة طويلة، انها مرحلة التخطيط لبناء التصورات الأولي للكتلة الملتزمة، و لتربية سلوكها و تنمية وعيها و حماية وجودها و توسيع قاعدتها الشعبية، و بالتالي اعطائها اطارها العام و معالمها و خصائصها الفكرية و الاجتماعية في كل الواقع الاسلامي، و هذا ما حدث فعلا، فالبرغم من حالة التضييق و الحصار و فرض الاقامة الجبرية، بدأ الكاظم - كما يؤكد الرواة - حملة علمية واسعة [162] ، و اتسعت شهرته في الحجاز و العراق و جميع المناطق، و قصده العلماء و طلاب العلم، و رجع الي القول بامامته أولئك الذين أنحرفوا عنه بالأمس، و التف حوله الشيعة يجبون خمس أموالهم و زكاتهم، كل ذلك من أجل السعي - كما ذكرنا - لبناء المعالم الفكرية و الاجتماعية للقاعدة الشيعية المنتمية الي أهل البيت عليهم‌السلام. [ صفحه 97]

نموذج من أسلوب و عمل الكاظم في الخط الاصلاحي والتغييري‌

اشاره

نقصد به التصورات و المفاهيم الموضوعية لمجموعة النشاطات و مجالات العمل الروحية و الفكرية التي باشر بتنفيذها امامنا الكاظم في اطار الحياة الاسلامية، في الاتجاه الذي ينقل الناس من مستوي المتغيرات الذاتية المتحركة في الخط المضاد للاسلام، الي مستوي الثوابت الموضوعية المتحركة في خط تغيير مفاهيم الناس و أفكارهم تغييرا جذريا في ضوء معايير و قيم الاسلام و مفاهيمه العامة. في هذا النسق، كان عمل الامام عليه‌السلام يتحرك في مسارين أحدهما سري و الآخري علني:

العمل السري

في اطار العمل السري [163] المنظم و المحدد بدقة من قبل الامام نفسه، سلكت مقاومته عليه‌السلام، للأوضاع القائمة، الطريقة السلبية التي تمحورت حول تحريم التعاون مع السلطة القائمة، و ضرورة مقاطعة الحاكم الظالم و التبرم منه و تجنب أية معاملة معه علي أي صعيد أو مستوي، و قد ظهر هذا الموقف جليا [ صفحه 98] في حواره [164] عليه‌السلام مع أحد أصحابه (صفوان)، عندما قال له الامام عليه‌السلام: «يا صفوان، كل شي‌ء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا». - جعلت فداك أي شي‌ء؟. - كراؤك جمالك من هذه الطاغية - يعني هارون -. - و الله ما أكريته أشرا، و لا بطرا، و لا للصيد و لا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - و لا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. - فقال له الامام عليه‌السلام: يا صفوان، أيقع كراك عليهم؟. - نعم جعلت فداك. أتحب بقاءهم حتي يخرج كراك؟. - نعم فقال عليه‌السلام: «من أحب بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان واردا للنار» بعد ذلك قام صفوان ببيع جماله دفعة واحدة، و تخلي عن هذا العمل ثم ذهب الي الذي عقد معه عقد الاجارة علي الجمال لهارون، و قال له: اني أفسخ العقد لأنني لا أريد أن أقوم بهذا العمل بعد الآن، و حاول أن يأتي بأعذار شتي، وصل الخبر الي هارون فطلبه، و عندما حضر سأله: ما الأمر، قال: قد عجزت و لم يعد هذا العمل ملائما لي فرأيت أن أختار عملا غيره، طبعا هارون كان قد علم بحقيقة الخبر مسبقا، فقال له: أصدقني الخبر لماذا بعت؟ قال: ما قلته هو الصدق، قال: لا، أنا أعلم ما القضية، علم موسي بن جعفر أنك أجرتني و قال لك: هذا خلاف الشائع - لا تنكر - و أقسم بالله لو لا ما لدينا من سوابق كثيرة خلال هذه السنين الطويلة مع عائلتك لأمرت أن تعدم ها هنا. نستنتج من خلال الحديث الذي دار بين الامام عليه‌السلام و صفوان الجمال أنه عليه‌السلام كان يؤكد حقه في الحكم، و يعمل علي صيانة و رعاية أصحابه و قواعده من الاندماج في الوضع الظالم و الفاسد، و الاشراف عليهم مباشرة، [ صفحه 99] و التخطيط لسلوكهم و انضاج و عيهم و امدادهم بكل أساليب الصمود، و الارتفاع بهم الي مستوي الطليعة الواعية المتفهمة لدورها و رسالتها [165] ، و بذلك نفهم أن المعارضة السلبية التي قام بها امامنا الكاظم عليه‌السلام كانت تختزن، في جوهرها، قيمة ايجابية اذ أنها عكست الوجه المشرق و النقي للرسالة، في الوقت الذي كانت الممارسات المنحرفة لحكام ذلك العصر تعكس الوجه المشوه لها، لذلك استطاعت المعارضة أن تخرج الاسلام سليما و معافي علي الصعيد النظري - علي الأقل - و ان تشوهت و انحرفت معالم تطبيقه علي أرض الواقع، طبعا لم تكن تلك المعارضة السلبية مطلقة، بل كانت هناك حالات استثنائية سمح من خلالها الامام الكاظم، لبعض شيعته أن يعملوا داخل جهاز سلطة هارون لتوفير الحماية للعناصر المؤمنة، و انجاز بعض المهام التي تخدم أهداف الخط الأصيل، و هذا ما حدث - كما ذكرنا في حديث سابق - مع علي بن يقطين [166] الذي تسلم مسؤولية الوزارة الأولي في عهد هارون، و قد استطاع تقديم خدمات كثيرة للامام و شيعته، و قد حدث ذلك مع غيره أيضا، ممن خدموا الامام و أحبوه حبا شديدا و كانوا منشدين اليه بقلوبهم و عقولهم، لكنهم لم يكونوا يجرأون علي الاتصال به، و هنا ننقل الحادثة [167] التالية للدلالة علي الموضوع اياه. عن بعضهم أنه قال: ولي علينا بعض كتاب يحيي بن خالد، و كان علي بقايا يطالبني بها، و خفت من الزامي اياها خروجا عن نعمتي، و قيل لي: انه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي اليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب، فاجتمع رأيي علي أني هربت الي الله تعالي و حججت و لقيت مولاي الصابر - يعني موسي بن جعفر عليه‌السلام - فشكوت حالي اليه فأصحبني مكتوبا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الا من أسدي الي أخيه معروفا أو نفس عنه كربة، أو أدخل علي قلبه سرورا، و هذا أخوك والسلام. [ صفحه 100] قال: فعدت من الحج الي بلدي، و مضيت الي الرجل ليلا، و استأذنت عليه و قلت: رسول الصابر عليه‌السلام فخرج الي حافيا ماشيا، ففتح لي بابه، و قبلني و ضمني اليه، و جعل يقبل بين عيني، و يكرر ذلك كلما سألني عن رؤيته عليه‌السلام و كلما أخبرته بسلامته، و صلاح أحواله، استبشر، و شكر الله، ثم أدخلني داره و صدرني في مجلسه و جلس بين يدي، فأخرجت اليه كتابه عليه‌السلام فقبله قائما و قرأه ثم استدعي بماله و ثيابه، فقاسمني دينارا دينارا، و درهما درهما، و ثوبا ثوبا، و أعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، و في كل شي‌ء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟ فأقول: اي والله، وزدت علي السرور، ثم استدعي العمل فأسقط ما كان باسمي و أعطاني براءة مما يتوجه علي منه، وودعته، و انصرفت عنه. فقلت: لا أقدر علي مكافاة هذا الرجل الا بأن أحج في قابل و أدعو له و ألقي الصابر عليه‌السلام و أعرفه فعله، ففعلت و لقيت مولاي الصابر عليه‌السلام و جعلت أحدثه و وجهه يتهلل فرحا، فقلت: يا مولاي هل سرك ذلك؟ فقال: اي و الله لقد سرني و سر اميرالمؤمنين، و الله لقد سر جدي رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم، و لقد سر الله تعالي. اننا نستلهم من هذه المسألة - و نحن نعيش في واقع متنوع و متعدد الاختلافات، ضرورة المرونة و الحكمة في التعامل مع الشعارات المطروحة (مقاومة الظلم و الاستعباد و غيرها)، فقد يفرض الموقف المرحلي الضاغط أن يدخل الانسان في تحالف خارجي متغير و يقيم علاقة جيدة مع هؤلاء الظالمين المنحرفين من أجل الحفاظ علي بعض مواقع التقدم علي طريق تحقيق الهدف الأعلي، من جهة، و كذلك تغطية هذا الموقف العملي المتقدم من جهة أخري. اذا اننا نؤكد هنا علي النظرة الواقعية [168] للساحة و للقوي و للظروف من [ صفحه 101] أجل اتخاذ القرارات و المواقف المدروسة و الواعية، علي أساس مصالح الاسلام و المسلمين، لكي نميز، من خلال ذلك، بين ما نستطيع التخلص منه، و بين ما لا نستطيع في الحاضر أو في المستقبل المنظور، لأن فقدان النظرة الموضوعية و المتوازنة للأمور قد يوقع التحرك في مهاوي الضياع و التهور، و يسقطه في بدايته مانعا اياه من التقدم خطوة واحدة الي الأمام في عملية الاصلاح و التغيير، و بالتالي تضيع الفرص المتاحة أمامه في ظرف معين. كيف تمثلت الطريقة السرية في عمل الكاظم عليه‌السلام؟. لقد تمثلت الممارسة السرية عند الامام عليه‌السلام من خلال جانبين اثنين: الجانب الأول: اسناده و تأييده للثورات المخلصة التي قادها رجال مخلصون في انتمائهم للامام عليه‌السلام، كما رأينا في عدة تصريحات صدرت عنه عليه‌السلام تؤيد و تدعم حركة الحسين بن علي بن الحسن - صاحب فخ - الذي ثار في المدينة المنورة ضد الخليفة موسي الهادي، و توجه الي مكة المكرمة سنة 269 ه، و استشهد في «فخ» بالقرب من مكة، و من تلك التصريحات: أ - قوله عليه‌السلام للحسين لما عزم الخروج و الثورة «انك مقتول فأحد الضراب، فان القوم في العراق يظهرون ايمانا و يضمرون نفاقا و شركا، فانا لله و انا اليه راجعون و عند الله احتسبكم من عصبته» [169] . ب - و لما سمع الامام الكاظم عليه‌السلام بمقتل الحسين (رض) بكاه و أبنه بهذه الكلمات: «انا لله و انا اليه راجعون، مضي و الله مسلما صالحا، صواما [ صفحه 102] قواما، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله» [170] ، ان دعم الامام لأمثال تلك يؤكد حرصه علي الاحتفاظ بالضمير الاسلامي الواعي و الارادة الاسلامية، بدرجة من القوة و الصلابة تحصن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها و كرامتها لأولئك الحكام المنحرفين، كما و يبقي ذلك الرفض الايجابي حيا في نفوس أصحابه و شيعته تجاه الحكومات الجائرة و الظالمة عبر التاريخ. الجانب الثاني: ممارسة الدور التوجيهي [171] و الاشرافي المباشر - اذا صح التعبير - علي شؤون قاعدته الشعبية و الاضطلاع بمهمة قيادتها عقائديا و فكريا و سلوكيا، و ذلك بهدف ترشيد الأمة في تعاطيها الحي المسؤول مع جملة الأفكار و المفاهيم الاسلامية لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام، و تجنب اللجوء الي الأجهزة الادارية و القضائية الخاضعة لسلطة النظام الحاكم و المعتمدة من قبل أعوانه و جلاوزته؛ الأمر الذي سيدفع الامام، اذا ما دخلت كتلته المميزة في أجهزة النظام الظالم، الي الايفاء بالتزامات و قيود معينة، تجاه هذا النطام، لا تنسجم مع رسالته و خطه، خاصة و أن المجال هنا غير مفتوح لممارسة النقد و الاحتجاج و التوجيه و الكشف عن مواقع الخلل و النقص في ظل أجواء القمع و الارهاب النفسي و العملي [172] ، طبعا هذا الأمر لا يعني - كما سلف و حللنا - [ صفحه 103] السلبية المطلقة في عدم المشاركة في الحكم، لكن مع وجود ضوابط و ضمانات معينة كان يحددها هو عليه‌السلام في هذا المضمار.

العمل العلني

دافع الامام الكاظم عليه‌السلام عن الاسلام الصحيح و باشر في ايجاد علاج فوري لحالة جهل الأمة باسلامها و عقيدتها، ورد - في أجوبته و محاججاته و مناظراته العلمية العلنية - علي الشبهات التي كانت تثيرها التيارات الدهرية و الالحادية المنتشرة بكثرة في ذلك الوقت، و التي أنتجتها حالة الاتصال غير المتوازن مع حضارات و ثقافات أجنبية غريبة، نتيجة حركة الفتوحات الاسلامية. لقد أتاح العمل العلني لامامنا الكاظم عليه‌السلام فرصة المباشرة بحركة علمية [173] واسعة النطاق، و القيام بمناظرات احتجاجية مع أئمة المذاهب الاسلامية الأخري للتدليل علي أطروحة و نهج و خط أهل البيت عليهم‌السلام، و قد كانت، تلك الحلقات العلمية، تعقد في أجواء علنية (في الأماكن العامة) و كان يقوم بها كل من هشام بن الحكم، و هشام بن سالم، و مؤمن الطاق، مما أدي الي انتشار الفكر الاسلامي الشيعي، و ذيوع أفكاره و قيمه بين المسلمين بفضل تلك الحجج القوية و البراهين الواضحة التي كان يسوقها أولئك العلماء الأعلام، و التي كانت تقوم علي المنطق العقلي و البحث العلمي المجرد [174] ، حتي [ صفحه 104] نعتهم (كرادي فوا) [175] بأنهم أصحاب الفكر الحر [176] . - روي [177] أنه دخل أبوحنيفة المدينة و معه عبدالله بن مسلم فقال له: يا أباحنيفة أن ها هنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد فاذهب بنا اليه نقتبس منه علما، فلما أتيا، اذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، بينما هو كذلك اذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له، فالتفت أبوحنيفة فقال: يا بن مسلم من هذا؟. قال: موسي ابنه. قال: و الله لأخجلنه بين يدي شيعته، قال له: لن تقدر علي ذلك. قال: و الله لأفعلنه، ثم التفت الي موسي فقال: يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه. قال: «يتواري خلف الجدار، و يتوقي أعين الجار، و شطوط الأنهار و مسقط الثمار، و لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها. فحينئذ يضع حيث يشاء». ثم قال: يا غلام ممن المعصية؟ قال: «يا شيخ لا تخلو من ثلاث: اما أن تكون من الله و ليس من العبد شي‌ء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله، و اما أن تكون من العبد و من الله، و الله أقوي الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه، و اما أن تكون من العبد و ليس من الله شي‌ء، فان شاء عاقب». قال: فأصابت أباحنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر. قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم و في ذلك يقول الشاعر: لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها احدي ثلاث معان حين نأتيها [ صفحه 105] اما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا اللوم من لائم فيها أو لم يكن لالهي في جنايتها ذنب فما الذنب الا ذنب جانيها

الحفاظ علي المفهوم النقي للقيادة السياسية و تثقيف الأمة به‌

حاول الامام الكاظم - بعد أن تم تجميد، أطروحة أهل البيت عليه‌السلام، بل و حتي تغييبها بشكل مقصود عن ساحة الواقع التاريخي الاسلامي - حاول هو و الأئمة عليهم‌السلام من بعده، اعادة الاعتبار لتلك الصيغة و ابقاءها حية في ذهنية الأمة و لو علي المستوي النظري، لأن غيابها أو تغييبها من ذاكرة الأمة، يعني الغاء و مصادرة كل القيم و المفاهيم و التصورات التي ترتبط معها في داخل منظومة الأفكار المتحركة في واقع الصيغة الاسلامية. لقد كان الحكم القائم جادا في مسح مفهوم الولاية و الامامة من وعي الأمة، و تأكيد المفاهيم الأخري التي تشكل النقيض المطروح علي صعيد المنظور القيادي في حركة الأمة، و رغم أن دور الامام الكاظم (و الأئمة بشكل عام) كانت تواجهه تعقيدات حادة، و مخاطرات صعبة، و ظروف خانقة و شاقة بفعل الواقع الفكري و السياسي المضاد، الا أنهم عليهم‌السلام مارسوا دورا كبيرا فاعلا في الحفاظ علي هذا المبدأ، باعتباره يعبر عن الصيغة الأساسية لمفهوم القيادة السياسية في الاسلام [178] ، و يمكن أن نعطي هنا شاهدا فكريا تاريخيا، يعبر عن دور الامام الكاظم في الحفاظ علي المفهوم النقي للقيادة السياسية. - سأل هارون الرشيد الامام الكاظم عليه‌السلام عن فدك وحدودها لكي يرجعها اليه، فأبي الامام أن يأخذها الا بحدودها، فقال الرشيد: ما حدودها؟ فقال الامام: ان حددتها لم تردها، فأصر الرشيد عليه أن يبينها له، فقال له الامام: [ صفحه 106] أما الحد الأول: فعدن. و الحد الثاني: سمرقند. و الحد الثالث: أفريقيا. و الحد الرابع: فسيف البحر مما يلي الجزر و أرمينية. فثار الرشيد قائلا: لم يبق لنا شي‌ء. فقال الامام: قد علمت أنك لا تردها [179] . نلاحظ من خلال هذا الحوار، أن الامام عليه‌السلام يحاول أن يؤكد الرؤية السياسية التي تتبناها مدرسة أهل البيت حول «مفهوم الولاية و الخلافة»، و قد استثمر الامام عليه‌السلام فرصة وجدها ملائمة ليطرح هذه الرؤية التي حرص الأئمة باستمرار علي تأصيلها في وعي الأمة و تثبيتها في ذاكرة الأجيال، و ان كانت هذه المواقف قد كلفت الأئمة عليهم‌السلام ثمنا باهظا، حيث واجهت أنظمة الحكم المتسلطة هذه الرؤي والمواقف بأساليب شرسة و وسائل قاسية [180] .

العمل علي اعادة الصيغة السياسية الأصيلة الي واقع الحياة الاسلامية

وقفت الظروف السياسية و الأمنية، التي انطلقت في حياة المسلمين الأولي، في وجه الامام الكاظم عليه‌السلام و منعته من القيام بعملية التحريك الايجابي الفعال لصيغة أهل البيت عليهم‌السلام، و ايصالها الي مواقع الحكم والقيادة داخل الهيكلية التنظيمية للأمة، لأن ذلك كان يتطلب وجود ظروف موضوعية أكثر راحة و برودا - اذا صح التعبير - علي عكس ما كان عليه الحال، اضافة الي أن استلام زمام الحكم و ادارة البلاد يفترض، من حيث المبدأ، وجود قيادات سياسية واعية و مؤهلة لقيادة الأمة، و هذا ما لم يكن متوافرا آنذاك أيضا، لذلك [ صفحه 107] عمل الكاظم عليه‌السلام - في هذا الاتجاه - علي اعداد و تأهيل هذا النمط الحي الواعي من القياديين القادرين علي استلام مراكز المسؤولية و الحكم، في تقديم أطروحة أهل البيت كصيغة اجتماعية و سياسية ذات بني و خصائص نوعية فريدة، و كبناء اعتقادي متين بديل عن الحكم القائم الظالم و المنحرف، و يمكننا فهم هذا المعطي من خلال الأمور التالية: 1- كان امامنا الكاظم عليه‌السلام يري أن القيادة العامة، بكل مظاهرها و أشكالها، تمثل حقا مشروعا و طبيعيا للامام المعصوم المنصوص عليه في القرآن و السنة، و هذا ما لاحظناه في حديث أوردناه سابقا حول فدك و رؤية الكاظم الموضوعية لهذه القضية، اذا اعتبر عليه‌السلام أن فدك تمثل، في وعي أهل البيت جميعا، رمزا و عنوانا للولاية المغتصبة، لا مجرد بقعة جغرافية محدودة. 2- اعتبر الامام الكاظم أن الانحراف الموجود في البنية النفسية الداخلية للطبقة السياسية الحاكمة، في أسلوب ممارستها لقضايا السلطة و الحكم، يعبر عن صيغة ذاتية جاهلية و سلطوية جامدة، لم تكن تمارس دورها الطبيعي في الجانب القيادي الجماهيري الواسع بدلالاته الحضارية و الانسانية، الأمر الذي قاد الصيغة الي طريق الجمود و التغييب و التعتيم نتيجة الاجراءات المضادة التي قام بها الجهاز الحاكم و أعوانه، و هذا ما يمكن أن نستوحيه من خلال الموقف الحاسم الذي اتخذه الكاظم عليه‌السلام في رفضه الدخول [181] الي الواقع الذاتي و الموضوعي لبنية السلطات الحاكمة، باعتبار أن ذلك يعطيها شرعية الوجود و الامتداد، كما و يقدم لها - من موقع قيادي و زعامة [182] جماهيرية هي زعامة و امامة أهل البيت - صك غفران لممارساتها و أفعالها اللاانسانية بحق الناس و المجتمع. [ صفحه 108] 3- عمل الامام الكاظم علي تأهيل عناصر القيادة علي المستوي العقائدي و الفقهي و السياسي، كي يكونوا جاهزين لسد الثغرات الحاصلة في الواقع الاسلامي عموما، و بالتالي السعي الدؤوب باتجاه ايجاد كيان سياسي [183] له قاعدته الجماهيرية المؤمنة و المتماسكة، و يكون قادرا علي تجسيد الصيغة الاسلامية الواعية لأهل البيت عليه‌السلام بمقوماتها و عناصرها الاساسية المعروفة. طبعا كان الامام الكاظم مدركا و مستوعبا للظروف و الأحداث التي عاصرها في اطار تحركاته و فعالياته، خصوصا علي صعيد اعتقاده باستحالة اقامة و ايجاد «كيان سياسي» للأمة الاسلامية، ينفتح بوعي علي أطروحة و قيادة و مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام في الفكر و الفقه و العقيدة و السياسة، في تلك الظروف الضاغطة أمنيا و سياسيا و حتي علميا و ثقافيا. ولكن هذا لا يعني عدم ممارسة أساليب مختلفة في العمل الدعوتي الحضاري تحافظ علي الطرح السياسي الاسلامي المتقدم لأهل البيت عليهم‌السلام و لو علي الصعيد النظري، مع ايمان كامل بوجود امكانيات و ظروف أفضل في مستقبل الدعوة قد تنفتح أمامها، بحيث تمكن القواعد الشعبية و كتلتها المميزة - التي كان الامام عليه‌السلام، كما ذكرنا، يعمل علي تثقيفها و توجيهها و توعيتها برسالة و قيم الاسلام المحمدي الأصيل - من تسلم زمام الحكم و ممارسة العمل السياسي، في المستقبل، بأقصي أبعاد الوعي و روح المبادرة الفعالة العالية في مستواها الفكري و العقيدي. و في هذا المجال، أود أن أؤكد علي نقطة هامة يمكن استلهامها من سيرة و حياة الكاظم عليه‌السلام في الجانب السياسي، و هي: أننا نحن أبناء الجيل الحالي، الذين ننتمي الي الدائرة الاسلامية الكبري نحتاج، في ظروف [ صفحه 109] و تعقيدات عصرنا الحالي، الي عمل فكري ابداعي دؤوب و صادق من أجل اعداد و صياغة مشروع حضاري متكامل، اسلامي الطرح و الهوية و الانتماء، انساني الوجود و الهدف و الامتداد، يكون قادرا علي انتاج و صياغة برنامج عمل اسلامي لعموم المجتمع و الأمة، و ذلك باظهار تشريعات الاسلام الانسانية و تقديم أحكامه الحضارية، و تبيان طرحه كبديل حقيقي فاعل لفلسفات الوجود الوضعية القائمة، يصون الأمة و يمدها بوقود النهوض و الحركة علي المستوي السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي لأننا نستطيع، من خلال هذا العمل، أن ننجز و نحقق واقعية الطرح الاسلامي المعاصر [184] ، و شموليته و عقلانيته و انسانيته علي صعيد التطبيق العملي الحي و الواعي لمضامين و معايير الرسالة بمستوياتها العقائدية و الروحية و الاجتماعية و السياسية و الحقوقية، و لا نريد لهذا الفعل التجديدي أن يكون ردة فعل سلبية علي تحديات الواقع المعاش لمجرد الرغبة النفسية الجامحة في جدة الجديد، بل أن تكون حركة التجديد مدروسة و متوازنة و من صلب النواة الفكرية و العقيدية للرسالة الاسلامية، أي أن يكون هذا الفعل دعما و استجابة للاسلام نفسه، قبل أن يكون استجابة محدودة لمتغيرات الحياة المستجدة.

مخططات الحركة التغييرية و أسس صياغة برامجها الشاملة

بناء و تأسيس الوعي الثوري بالاسلام من خلال الحدث الكربلائي

اشاره

اتجهت بعض جهود الامام الكاظم عليه‌السلام الي تبني صيغة واقعية للعمل التغييري، اتسمت بالحكمة و الهدوء و الصبر في الدعوة و العمل تبعا لضرورات تفرضها طبيعة الدعوة الثورية في مواقعها و مراحلها المختلفة، و قد [ صفحه 110] استفاد عليه‌السلام من الثورة الحسينية الكربلائية لتأصيل المخزون الثوري لأهل البيت عليه‌السلام في ذهنية الأمة عاطفيا و وجدانيا، و ترشيد دعوته الجهادية في اطار رعاية بواعثها و منطلقاتها، لذلك دعا عليه‌السلام الي زيارة الامام الحسين، و القيام بكل مراسيم و شعائر كربلاء من أجل ترسيخ الحالة التواصلية - اذا صح التعبير - مع ثورة الحسين عليه‌السلام ضمن خطة واعية و صيغة متوازنة هدفت الي استمرار الحضور النوعي الغني لقيم و مبادي‌ء كربلاء في عمق الواقع النفسي و الفكري للأمة المؤمنة بخط الثورة الحسينية و أهدافها السامية [185] . قال عليه‌السلام: «أدني ما يثاب به زائر الحسين عليه‌السلام بشط الفرات اذا عرف حقه و حرمته و ولايته أن يغفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر» [186] . يؤكد الكاظم عليه‌السلام في هذا الحديث علي النقاط التالية: 1- ضرورة معرفة حق و حرمة و ولاية الامام الحسين عليه‌السلام، أي دراسة تاريخه و تحليل واقعه الذي عاش فيه، و اظهار الهدف من تحركه. 2- الارتباط الروحي و العاطفي بقضيته عليه‌السلام، التي هي قضية الأئمة جميعا، و وعي أهدافهم و نهجهم، و اشاعة الثقافة و الوعي العلمي و الاسلامي بهذه المسألة في مختلف البلدان الاسلامية، و بث مفاهيم التربية الأخلاقية الفاضلة بين الناس، و الدعوة الي ترسيخ علاقات التعاون و التكامل الاسلامي بين المؤمنين (الترابط الوجداني و العاطفي). 3- وعي ولايته و فهم دلالاتها و أبعادها الحركية، من خلال اظهار الرؤية السياسية و الدينية الشرعية الصحيحة لقضايا الحكم و جملة الأحداث السياسية الواقعة التي يمكن أن تعترض حركة الأمة السياسية و الانسانية في قضايا العدل و الظلم و الحرية و ما شاكل ذلك، و هذا العمل يمثل أطروحة الهية لتوعية الأمة الاسلامية، و ابقاء الحدث الحسيني فاعلا و مؤثرا في وجدانها و فكرها، لأن أحد [ صفحه 111] الأهداف الرئيسية لهذه الثورة هو هز هذا الضمير- ضمير الانسان المسلم - و احياؤه و تحريكه عندما يتعرض الي الموت أو الخدر الحضاري، أو يقع تحت تأثير الضغوط النفسية أو أساليب الارهاب، بحيث ينتهي الانسان الي فقدان الارادة مع ادراكه للحقيقة [187] . لكن يبدو أن هذه الأوضاع لم تعجب السلطات الحاكمة و أنظمة الجور علي مر التاريخ - و ليس فقط في عهد العباسيين - فعمدت الي اجراءات حاولت، من خلالها، تطويق و تجميد ممارسة الأئمة و شيعتهم لهذا النوع من الاحياء العاشورائي، و ذلك من خلال فرض حركة اعلامية مضادة تشوش صورة المناسبة، و تشكك في أهدافها حتي وصل الأمر، بالظلمة و أعوانهم، الي حد القيام بأعمال قمعية ضد كل حالات التعامل و التواصل مع المناسبة الكربلائية بشخوصها و رموزها و عناوينها، الأمر الذي يدل علي الدور الفعال لتلك الطقوس و المراسيم، و ما ينتج عنها من مواقف و أفعال في توعية و تعريف الأمة - من خلال كربلاء - بالأحداث التي كانت تمر بها، و اظهار المواقف الصحيحة منها و من طبيعة النظم السياسية القائمة علي صعيد تعميق القدرة لدي الناس «خاصة الكتلة المؤمنة» علي التمييز بين الصحيح و الخطأ، أي بين الممارسة الشرعية و غير الشرعية لهذا الحاكم أو ذاك السلطان [188] ، و القدرة علي تمييز الخطوط الحمراء من الخضراء التي تعطي سلبية أو ايجابية التعامل مع الأوضاع المستجدة رعاية للمصلحة الاسلامية العليا.

مناسبة كربلاء بين الاستغراق في التاريخ و تحريك قيم التاريخ في الواقع

تنطلق شعائر الحدث الكربلائي سنويا في مختلف البقاع و الأمصار الاسلامية لتحيي ذكري استشهاد الامام الحسين و كوكبة من أهل بيته و أنصاره، [ صفحه 112] فكيف يتم التعامل مع ثورة بهذا الحجم و المستوي؟. و هل تمارس الشعائر الاسلامية، خلال هذه الذكري، بطريقة حضارية تنسجم مع مهمة الاحياء الاسلامي؟. ثم ما هي الآفاق التي يمكن أن تفتحها أمامنا هذه الحادثة و نحن نعيش علي أبواب القرن الحادي و العشرين؟. هل استطعنا توظيف مناسبة عاشوراء في البعد الاعلامي الدولي في خط الدعوة و الاعلام؟ و هل أعطينا كربلاء احساس الواقع و نبض الحياة؟ و هل استثمرنا الطاقة الاحيائية الكامنة في الذات الكربلائية كما ينبغي؟. اننا نعلم جميعا أهمية هذه المناسبة العظيمة، التي يمكن أن تقدم لنا دروسا مختلفة لا تنتهي في الواقع الانساني المعاصر، يمكن عرضها كما يلي: 1- نجد - بداية - أن الامام الحسين عليه‌السلام حمل مشروع وحدة و رسالة توحيد عادلة لكل المسلمين، كانسان يمثل القيمة الروحية الانسانية الرائعة التي انفتحت علي الله، و عاشت عمق الاسلام و في المقابل الذين قاتلوا الحسين حملوا لواء الدعوة الي الفتنة و مشروع الدولة الفئوية الظالمة المستكبرة التي مثلها يزيد في صورته التاريخية كرجل فاسق فاجر لا يملك أي التزام في المحرمات الشرعية، و لا يملك أي قيمة روحية و أخلاقية و لا حتي سياسية، و بهذا فاننا نستطيع أن نستوحي، في واقعنا المعاصر، شخصية الامام الحسين مقارنة بشخصية يزيد في كل النماذج التي تلتقي بهاتين الشخصيتين في الواقع، كما أننا نستطيع أن نجري مقارنة بين المجتمع الاسلامي في انحرافاته التصورية هناك، و بين مجتمعاتنا هنا للاستفادة منها في مواجهة المرحلة. و لننطلق في الخط القيادي الذي يفكر به المسلمون في «كيف يكون القائد؟» و في الخط الحركي في مسألة الثورة علي القائد الظالم المنحل و المنحرف، كما أن امتزاج هذه العناوين بدماء أهل البيت عليهم‌السلام، يعطي [ صفحه 113] القضية بعدا مأساويا، بحيث تشكل، لدي اثارتها سنويا، ثورة ضد كل صانعي المأساة في الحاضر [189] ، و في المستقبل. 2- خطاب عاشوراء و الحسين عليه‌السلام كان خطاب المقاومة و الممانعة لثقافة الكسل و الاسترخاء التي روج لها حكام بني‌أمية، و هي نفسها أيضا ممانعة شعبنا العربي المسلم في لبنان لمشروع التفتيت الصهيوني، هذه المقاومة التي اتخذت من ثقافة و رسالة كربلاء الاسلام عنوانا أساسيا لها في كل وجودها و حركيتها و امتدادها، و جسدته في تضحياتها و بطولاتها و ملاحمها التي لا تزال تسطر علي أرض الجنوب اللبناني الشريف و الطاهر، حيث نسمع و نشاهد جميعا أقصي درجات البطولة و الفداء و التضحية في مواجهة أشرس و أخطر عدو عرفته الانسانية في تاريخها، و أعني به العدو الصهيوني المجرم الذي استطاعت المقاومة الباسلة في لبنان أن تهز كيانه و تربك خططه و معادلاته و تحقق الانتصارات تلو الأخري عليه، كما انتصرت عاشوراء الدم علي سيف الظلم و البغي. 3- كذلك نقرأ في عاشوراء موقف الرفض و الممانعة لاغراءات المال و الترف و الانحلال الخلقي و البغضاء و العرقية و الابتذال. ان المساهمة في تكوين نظام و قناعات صلبة لدي الناشئة و الشبيبة، كان في أساس وظيفة المجلس الحسيني السياسية و الأخلاقية أن ينصب أمام الناس، جيلا بعد جيل، لونا و مستوي من الأخلاق التي تجسدت في أنصار الحسين في كربلاء، رجالا و نساء، فكربلاء مظهر للممارسة الأخلاقية العالية في مواجهة الاغراءات و الانحطاط الأخلاقي و النفعية، و أسلوب الاغراء لايجاد جيل منحل يهتم فقط بالساعة (الحاضرة) [190] ، جيل مفسد بالمال و المنافع، جيل خائف من القمع و الملاحقة، هذا الأسلوب كان علي الدوام وسيلة الاستعمار و الطغيان الداخلي و الخارجي، و مشاريع الاستحواذ و التسلط، و من هنا فان أخطر ما يواجه الأجيال الصاعدة هو التزييف الأخلاقي في المجتمع المترف الاستهلاكي، [ صفحه 114] الخاضع لقيم الحضارة الغربية، و ظهور ملامح أولية لتفكيك البني الأسرية و الروابط الانسانية بين الناس، و ايجاد أخلاق مجتمع مترف و ثقافة قشور تجعل من الهوي واللذة و الكسب الرخيص المبتذل هدفا أسمي لها. و هذا ما نلاحظه حاليا من الميل و الانحدار الشديد، في كل وسائل اعلامنا المقروءة و المسموعة و المرئية، باتجاه ايجاد بيئة و مناخ ثقافي يعمل علي اسقاط القيم و المعايير في نفوس الجيل الجديد، و هدم المناعة الأخلاقية لديه، و من ثم تدمير الارادة السياسية و الوعي السياسي للأدوار و الأهداف و الأحداث للشعب و الأمة. لذلك اننا نعتقد أنه بامكاننا الاستفادة من عاشوراء، في هذا المجال، في تعبئة الأجيال الناشئة بمختلف الوسائل و السبل التي تنسجم مع ثقافة القيم الاسلامية، و جعلهم ينفتحون علي خط الممانعة و المقاومة لسلطة المال و الترف و مواجهة المشروع الصهيوني الخبيث في المنطق، الذي ندعو كل القوي الحية في المجتمعات العربية و الاسلامية الي بلورة مشروع مواجهته و الوقوف في وجهه. الآن و بعد أن وقفنا علي أهم الدروس المعاصرة التي حاولنا قراءتها في مناسبة كربلاء، سنحاول الاجابة علي التساؤلات التي طرحناها في بداية هذا الحديث، و التي تتمحور، في مجملها، حول أهمية توظيف و استثمار الحدث الحسيني الكربلائي في الواقع الحاضر و في المستقبل؟. اننا نجد - من خلال استقرائنا لحركة الواقع النخبوي و الشعبي في طريقة تعاطيها مع الشعائر الحسينية و قضية كربلاء - أن هناك سلوكية غير متوازنة لا تزال تتحكم بمسارات و توجهات كثير من معالم و خصائص الحدث الحسيني، و هنا نقول - انصافا للحق و العدالة -: انه توجد مواقع مضيئة و نيرة، و ومضات مشرقة تتحرك في هذا السياق، لا نريد أن نبخسها حقها، تحاول أن تقدم كربلاء بأبهي حلة و أنصع عنوان، لنأخذ منها أفضل العبر و الدورس [191] ، لكن التوجه [ صفحه 115] الغالب علي فهم قضية و ثورة عاشوراء ينحصر في اطار ممارسة طقوس و تقاليد تعطي صورة سلبية عن واقع و حقيقة كربلاء، في الوقت الذي يحتاج فيه الاسلام الي حشد كل طاقات أبنائه و قدراته و امكانياته في خط العمل علي بناء مشروع يقدم (هذا الاسلام)، من خلاله، كطرح حضاري انساني قادر علي حمل لواء و مشروع العالمية الجديدة بعد فشل المشروع الغربي [192] . اذا نحن نريد تجريد الممارسات العاشورائية [193] من بعض أساليب الاحياء القديمة غير المناسبة علي الصعيد التاريخي و التعبوي و التمثيلي، و الاستفادة القصوي من حجم الامكانات التقنية الهائلة التي توفرها وسائل الاعلام و الاتصالات الحديثة [194] في حقل الدعاية و التبليغ الاسلامي من أجل تقديم صورة كربلاء الحية الي العالم غير المسلم، فضلا عن العالم غير الشيعي طبعا، [ صفحه 116] علي أساس أنها ثورة اسلامية الهوية و الطرح و الانتماء و لا تخص الشيعة وحدهم [195] ، و بالتالي مواجهة الدعاية الغربية - و غير الغربية - المضادة التي تؤكد علي أن الممارسات الشعائرية الاسلامية الشيعية، بخصوص كربلاء، و هي لون من ألوان و ممارسات العصور المظلمة. اننا نريد أن نؤكد - أخيرا- علي أن الامام الحسين عليه‌السلام رمز و ثورة من أجل الانسان المستضعف في كل زمان و مكان مع كونه اماما معصوما مفترض الطاعة، لذلك من الضروري العمل علي تقديمه للعالم، و كما هو في واقعه الأصلي، بأروع صورة و أنصع بيان كأعلي الرموز الثورية التحررية الاسلامية في التاريخ، و في عقيدتي أن هذا الأمر لن ينال حظا حقيقيا في الواقع الا اذا بادرنا الي نفض الغبار عن عاداتنا في هذا المجال، و انطلقنا الي تحديد مستويات ايجابية و مناهج دقيقة تبرز لنا محددات و آليات عمل في واقع الفعل و الممارسة المنظمة و الهادفة.

عمل الامام الكاظم في مجال التوعية السياسية و العقائدية

يمكن دراسة هذه النقطة من خلال منحيين اثنين: المنحي الأول: مدي وعي حالة الانتماء السياسي. المنحي الثاني: الفعالية الفكرية في خط تركيز التثقيف العقائدي و السياسي. المنحي الأول: ركز الامام الكاظم عليه‌السلام، من خلال مواقفه و بعض تصريحاته السرية، علي أهمية تعميق مبدأ «الانتماء السياسي» الي الخط القيادي الشرعي لأهل البيت عليهم‌السلام، و هذا ما لا حظناه من خلال امامته و تمثيله الشرعي [196] لقيادة [ صفحه 117] متأصلة في الاسلام لها جذورها و شرعيتها في جسم الأمة، و ذلك في مساهمته و مشاركته في حل بعض تحديات و أزمات الواقع الخطيرة، و رجوع الأمة اليه في أكثر من محطة تاريخية هامة في حياتها و علي أكثر من صعيد، و قد ظهرت معالم هذا التوجه في حياة بقية الأئمة عليهم‌السلام الذين مارسوا هذا الجانب السياسي بدقة و تنظيم كبيرين في طبيعة الاشراف علي الحالة الانتمائية التي أوجدوها في داخل الساحة و من معالم هذا الاسلوب التنظيمي [197] : أ- السرية في العمل «مبدأ التقية». ب - نظام الوكلاء الذي اعتمده الأئمة عليهم‌السلام في تنسيق و ادارة و توجيه الحالة الانتمائية. ج - تصنيف الفعاليات و الاختصاصات في عهد الكاظم عليه‌السلام. - فعاليات السياسة: كعلي بن يقطين الذي كان وزيرا لهارون بامضاء و موافقة الامام الكاظم عليه‌السلام ليمارس دوره في خدمة الحالة الانتمائية. - فعاليات الفقه و الحديث: يونس بن عبدالرحمن. - فعاليات الكلام و المناظرة: هشام بن سالم. لقد ساهمت هذه الحالة الانتمائية الواعية في ايجاد مواقف سياسية بارزة من قضية الفصل في الكيانات و الأنظمة الطاغونية القائمة، من خلال تحريم الامام الكاظم اللجوء الي هذه السلطات، و تحريم التعامل معها من أجل تأكيد حالة الرفض المعنوي و النفسي للكيانات الجائرة اللاشرعية، لأن ذلك يصب في خدمة هذا الكيان و يعطيه - كما ذكرنا - شرعية الوجود في اغتصابه للحكم و ظلمه للعباد و هدره لثروات و مقدرات البلاد، و بالتالي هو سلب لكل عمل اصلاحي من الامام نفسه. [ صفحه 118] لقد كان هذا العمل الترشيدي و التوعوي - اذا صح التعبير - يهدف الي لفت نظر الناس الي المفاهيم و التصورات البنائية الأساسية لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام، و تجنب اللجوء الي الأجهزة الادارية و القضائية الخاضعة لسلطة النظام و المعتمدة من قبل أعوانه و جلاوزته [198] . - قال الامام الكاظم عليه‌السلام لزياد بن أبي‌سلمة: «يا زياد انك لتعمل عمل السلطة»؟. قال زياد: أنا رجل لي مروة و علي عيال و ليس وراء ظهري شي‌ء. فقال الامام: «يا زياد لئن أسقط من شاهق [199] فأتقطع قطعة قطعة أحب الي من أن أتولي لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم الا، لماذا»؟ فقال زياد: لا أدري جعلت فداك، قال عليه‌السلام: «الا لتفريج كربة مؤمن أو فك أسره، أو قضاء دينه، يا زياد ان أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفرغ الله من حساب الخلائق، يا زياد فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك فواحدة بواحدة و الله من وراء ذلك» [200] . المنحي الثاني: مارس الامام الكاظم عليه‌السلام علي هذا المسار دورا تثقيفيا هاما في المجال السياسي العام و الخاص، فعلي الخط السياسي العام عمل عليه‌السلام علي تحريك ضمير الأمة، بعناوينه الكبيرة في الدائرة الاسلامية الواسعة، نحو أهدافها الكبيرة في خط الترشيد العام في حركة الأمة و مساراتها الرسالية العالية، فيما [ صفحه 119] لاحظناه من التعريف الشامل بالثورة الحسينية، و الحث علي زيارة الحضرة المقدسة لصاحبها الامام الحسين عليه‌السلام، و الدفاع عن أصالة أهدافها و قيمها الرفيعة، و التفاعل مع معطياتها الحضارية و الانسانية و دعوة الناس الي تعميق صلتهم الروحية و الفكرية مع نهج و خط هذه الثورة [201] ، و قد ركز امامنا عليه‌السلام، في هذا السياق، علي ضرورة الانفتاح علي الله في كل مواقع الحياة لأنه أساس أي عمل تغييري يقوم به الانسان، انها التقوي (الجهاد الأكبر) [202] . يقول عليه‌السلام في وصيته لبعض ولده [203] : «يا بني اياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها و اياك أن يفقدك عند طاعة أمرك بها و لا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله و طاعته فان الله لا يعبد حق عبادته». أما علي صعيد «المجال السياسي الخاص» فقد انطلق الامام عليه‌السلام في حملة توجيهية داخل الدائرة الانتمائية الخاصة بكتلته الشيعية المؤمنة، بما تتمايز، عن غيرها، ببعض الخصائص و السمات الموضوعية في طبيعة انتمائها و وعيها في البعد الحركي، في تركيزه عليه‌السلام المكثف علي البعد الفكري السياسي الذي يجب أن يكون واضحا في الرؤي و المفاهيم لمرحلة ما بعد التغيير، و هذا ما نقرأه في توجيهاته و وصاياه و حكمه التي كان عليه‌السلام يصدرها و يطلقها تباعا علي شيعته و أصحابه، جاء في وصيته لهشام بن الحكم: «يا هشام عليك بالرفق فان الرفق يمن و الخرق شؤم، و ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر [ صفحه 120] الديار و يزيد في الرزق، من صنع اليك المعروف فعليك أن تكافئه» [204] و قال عليه‌السلام لعلي بن يقطين محذرا اياه من سلبيات العمل عند السلطان الجائر، و ما هي كفارة هذا النوع من الأعمال؟: «كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان، و كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث الله لهم في البلاء ما لم يكونوا يعدون» [205] . و في اطار حديثنا عن دور الامام الكاظم في توجيه و توعية و تثقيف المجتمع الاسلامي في الدائرة الاسلامية الشيعية الخاصة و الاسلامية العامة، و تركيزه عليه‌السلام علي أهمية البناء الداخلي للانسانية في عملية انتقال المجتمع من مستوي الي آخر، نتساءل: ما هو دور الانسان في حركة التاريخ؟ هل دوره سلبي أم ايجابي؟ و هل هناك علاقة بين فكر الانسان و ارادته و وعيه و أساسه (و محتواه) الداخلي و بين عملية التغيير الاجتماعي؟ تتميز حركة التاريخ - عن كل الحركات الأخري - بأنها ذات غاية و هدف، أي حركة غائية تتطلع الي المستقبل الذي يقوم بعملية جذب و شد و تحرك أي نشاط تاريخي من خلال الوجود الذهني الذي يحتويه و يتمثل فيه هذا المستقبل، و بذلك تكون أسباب الحركة التاريخية مرهونة للوجود الذهني [206] أي لفكره و ارادته. ان هذين الأمرين (الفكر والارادة) هما في الحقيقة المحتوي الشعوري للانسان، اذا المحتوي الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات، و يجسد هذه الأهداف من خلال مزجه [207] بين فكرة ما و ارادة معينة [208] ، و بذلك صح [ صفحه 121] القول بأن المحتوي الداخلي للانسان هو أساس حركة التاريخ، و هذا ما تشير اليه، صراحة، الآية الكريمة: (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 1] لذلك عندما انطلقت جهود امامنا الكاظم عليه‌السلام، في اطار دعوته أصحابه و شيعته الي بناء النفس و تقوية الروح و تغذيتها بالقيم الالهية، أي التركيز و الاهتمام بالمحتوي الداخلي لهم، فان ذلك يعني أنه كان مدركا، تماما، لأهمية دور ارادة الانسان في عملية احداث التغيير و الثورة في مجتمع الفراعنة و الطواغيت، لذلك انطلق عليه‌السلام - من خلال وعيه العميق لتلك المعطيات - موجها و ناصحا و مشرفا علي أصحابه و شيعته، يدعوهم الي الالتزام العميق بقيم و مبادي‌ء الاسلام، كما يظهر ذلك في كل وصاياه و ارشاداته الخالصة و العامة التي تتصل بالتربية الاسلامية الصحيحة في العقيدة و التشريع و الأخلاق و المنهج العملي في حركة العلاقات العامة و الخاصة، و في النظرة الي الواقع و الي الناس من حوله لأن بناء و تنمية الداخل الانساني (الجهاد الأكبر) [209] هو الأساس في عملية التغيير الخارجي (الجهاد الأصغر) [210] ، يقول عليه‌السلام: «و جاهد نفسك لتردها عن هواها، فانه واجب عليه كجهاد عدوك» [211] ، و بالتالي اذا فصل الجهاد الأصغر عن الجهاد الأكبر فقد الانسان مضمونه و جوهره الداخلي، و شلت ارادته، و فقد قدرته علي التغيير الحقيقي علي الساحة التاريخية و الاجتماعية. من هنا يتطلب التغيير الاجتماعي الحقيقي توازنا مدروسا بين الجهادين الأكبر و الأصغر، و عدم الفصل أو التفريق بينهما، و الواضح أن الحركة الاسلامية المعاصرة (و بعض نخبها وقادتها ممن اصطلح علي تسميتهم خطأ، بالمعتدلين) قد وقعت في شرك الفصل بين هذين الجهادين، اذا اعتبرت بعضها أن الأولوية، في عملية التغيير، يجب أن تعطي و تمنح للجهاد الأكبر - فرديا و اجتماعيا - و ذلك بالعمل علي تصعيد الحركة و تركيزها فقط علي الجانب الثقافي و التربوي [ صفحه 122] في المجتمع مع اهمال الجوانب الأخري التي تتصل بحركة الجهاد الأكبر في اعتقاد منهم أن تكثيف الدعوة التربوية و التوجيهية هو عمل فعال قد يتيح المجال للاسلام في استلامه الحكم بطريقة طبيعية هادئة، لكن من الواضح أن هذا النمط التفكيري يعبر عن وعي ساذج بطبيعة الواقع الفكري و السياسي و الاجتماعي المعقد الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية و الاسلامية بشكل عام، اذ تتغافل (هذه الشخصيات المثقفة صاحبة تلك الدعوة) عن عنصر الاجراء المضاد الذي يمكن أن تلعبه و تتخذه السلطات الحاكمة في قمع و ارهاب تلك الدعوة السلمية، و ذلك من خلال محاصرتها بمختلف الأساليب الاعلامية و السياسية و الأمنية و بالتالي عزل نخبتها السياسية، و ابعادها عن ساحة التأثير في الحياة أو علي الأقل تحجيم دورها الاجتماعي. أما بالنسبة للاتجاه الثاني الذي يدعو الي اعطاء الجهاد الأصغر الأولوية في عملية التغيير (ممن أسمتهم وسائل الاعلام و الاستخبارات الغربية بالمتطرفين) فقد أثبتت التجربة أنه مارس أساليب قمعية و اكراهية وحشية في عمله الدعوتي بعيدة كل البعد عن المواقف الشرعية الاسلامية، كان سببها عدم الالتزام بجهاد النفس و ممارسة التقوي و الوعي للقيم الاسلامية، لذلك وضع (هؤلاء) أنفسهم في طريق الانحراف السياسي و العقائدي، و شوهوا صورة الاسلام في الخارج العالمي (الذي يعمل جاهدا علي تشويه و مسخ صورة الاسلام حتي من دون أدلة و اثباتات). ان هؤلاء قد غفلوا عن قاعدة اسلامية هامة و هي أن الركيزة الأساسية في عملية التغيير السياسي و الاجتماعي يجب أن تنطلق من الالتزام النفسي و السلوكي و الفكري بالاسلام كقاعدة للفكر و الحياة، و أن أي قفز فوق هذه القاعدة قد يؤدي الي تخريب جزئي أو كلي لقيم و مبادي‌ء الاسلام. ان الدعوة الاسلامية الحقيقية الصادقة، في ممارسة عملية التغيير، يجب أن ينطلق فيها الجهاد الأكبر جنبا الي جنب مع الجهاد الأصغر، و هذا هو الموقف الاسلامي الدقيق الذي يجمع بين الجهادين و لا يفرق بينهما و لا يفضل أحدهما علي الآخر، من أجل المساهمة في صنع شخصية اسلامية هادئة، و واسعة الصدر، و منفتحة علي الآخرين، و عقلانية في تفكيرها، و موضوعية في [ صفحه 123] نظرتها الي الأشياء، و حليمة في مواجهتها للتحديات الاجتماعية [212] . استنتاج هام: دلالات و أبعاد حركة المقاطعة أو المشاركة في الحكم السياسي: ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بني الحاكم، الذي يمثل وجودا غير شرعي، و المحكومين المستضعفين في أجواء الضغط و القهر السياسي و الأمني؟ هل تنعزل عن أي ارتباط أو أية مساعدة له؟ و هل يساعد ذلك علي تقوية الحق و اضعاف الباطل؟ ثم ما هي المكاسب التي يمكن تحقيقها عند التعاون مع الأنظمة الجائرة؟ في الواقع، تتداول الأوساط الثقافية و السياسية، بشكل عام، فكرة لا تزال موجودة، حتي الآن في الأجواء الثقافية لأتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام، و متجذرة في وجدانهم الفكري، مفادها ضرورة الامتناع المطلق (أي الرفض المطلق) عن مساعدة أي حكم ما دام غير شرعي، و لا يستند في وجوده و امتداده الي بعد قانوني اسلامي، و قد انطلقت هذه الذهنية في حركة الواقع السياسي الاسلامي لتعزل كل هذا الواقع التاريخي عن أي نشاط أو عمل فاعل في هذا الموقع أو ذاك، مما أدي الي اضعاف الحركة الرسالية المنطلقة في أجواء الحق من جهة، و ساعد علي تقوية حركة الباطل من جهة ثانية، لأن واقع الحق - في حالة العزل - سيضعف علي حساب اهتزاز الارتباط، و بالتالي ستعمل مصالح أهل الباطل علي أضعاف أهل الحق لأن مصالحهم سوف تسقط و لأن واقعهم [ صفحه 124] سوف يضعف، و لأن الآخرين سوف يطبقون و يضغطون عليهم و ربما يؤدي بهم الأمر الي أن يحركوهم في أجواء الانحراف من خلال الضغط الذي يتحرك هنا و هناك. في ظل هذا الفهم نطرح السؤال التالي: كيف يمكن توعية الأمة علي ما يمكن تسميته «بثقافة التعاون مع الحاكم»؟. نفرق هنا بين مسألتين، الأولي: الجانب الثقافي في الرفض، و الثانية: الجانب الواقعي في التعاون. أقصد بالأولي، وجود ثقافة سياسية كاملة تقوم بتنمية روح الرفض النفسي، في ذهنية الانسان المستضعف، تجاه ظلم السلطة القائمة في عدم التعاون أو التحالف معها. بمعني آخر: تثقيف الناس كما ثقف الكاظم عليه‌السلام (صفوان الجمال) عندما قال له: «من أحب بقاءهم فهو منهم»، أي أن ينزع المرء من قلبه، عند التعاون معهم، كل عاطفة أو احساس تجاههم. و يبقي في داخله كل التصورات و الانطباعات السلبية عنهم، أي أن تعتمد الطريقة الكاظمية، في الجانب الثقافي من هذه المسألة، علي أن ينزع الانسان المؤمن من قلبه كل فكر و عاطفة يمكن أن تتحول الي شرعية لهذا الظالم أو ذاك. و أقصد بالمسألة الثانية (الجانب الواقعي في التعاون): الدخول في جهاز الحكم القائم من أجل حماية الحركة الفكرية و السياسية و الحفاظ علي القضايا و المصالح العامة للمستضعفين الذين قد لا يكون لهم صوت أو موقع، فيكون التعاون مع النظام الجائر و الدخول في صلب نظام الفكر و الطغيان، في هذه الحالة، ضرورة ملحة من أجل حماية الواقع الاسلامي، لكن يجب أن يكون هذا الدخول مدروسا و محسوبا بدقة، و حتي اذا أردنا أن نمارس الرفض الايجابي، فيجب أن يكون رفضا واعيا، يحقق مصلحة اسلامية عليا لا مجرد مصالح فردية متناثرة هنا و هناك. و في هذا المجال نؤكد علي أهمية التجربة الرائدة للحركة الاسلامية في لبنان في دخولها المنظم و المدروس الي واقع النظام القائم هناك - في اطار [ صفحه 125] عمليها «السياسي - العسكري» - بالحوار و اقامة العلاقات، و الانفتاح علي الآخرين و المشاركة في الحياة السياسية من موقع المعارضة الفاعلة التي تحكمها عناوين اسلامية دقيقة (أعني بها المصالح [213] و المفاسد و الاضطرار) تعطيها شرعية الحركة في هذا المضمار أو ذاك مما قد يحقق للاسلام و المسلمين قفزة نوعية علي صعيدها الثقافي و السياسي. ان التجربة الاسلامية في لبنان و مشاركة أفرادها في صلب الواقع السياسي و الثقافي و الاجتماعي تنطلق من فكرة أساسية هي أنه عند عدم القدرة علي احداث تغيير شامل. ان ذلك لا يلغي قطعا مسؤولية الفرد و الجماعة في مرحلة الحركة باتجاه التغيير لأن الظروف الضاغطة قد تكون آنية و مؤقته، و يمكن تفكيك عناصرها بشكل علمي مدروس و حكيم، و ذلك بالاستفادة من طبيعة اللعبة الديمقراطية [214] كموقع متقدم من مواقع الاعلام و التحرك لمصلحة الاسلام في مواقعه التشريعية و السياسية علي أكثر من صعيد. اذا، طالما أن هناك أهدافا سياسية و اجتماعية و فكرية تغييرية عامة تسعي الحركة الاسلامية (و حتي أي حركة باحثة عن موقع قوي لها في ساحة الحياة) [ صفحه 126] الي تجسيدها و تحقيقها و غرسها في اطار الواقع الذي نمت فيه، فان توفير امكانات الوصول الي تلك الأهداف العالية و الطموحة لا يتحقق بالانغلاق علي الذات و الركون في زوايا الحياة المهملة كعنصر من عناصر الاختناق و السقوط و الموت، بل يحتاج ذلك الي عملية انفتاح واعية علي الآفاق الواسعة التي تطل بها علي ساحات الآخرين لتستفيد من تجاربهم و خبراتهم في مواقع قوة الحركة لا ضعفها. اننا نلاحظ - في هذا السياق - أن هناك مشكلة أساسية تسيطر حاليا علي ذهنية كثير من الدعاة و النخب الاسلامية، و تتحكم في مسيرة بعض الحركات الاسلامية، و هي التفكير بالطريقة الحدية، اما نعم بالمطلق، أو لا بالمطلق، علي طريقة (السامري) الذي كان يرفع شعار (لا مساس). اننا نقول لهؤلاء و لغيرهم: اذهبوا و ادرسوا تجربة اليهود، طالما أن الكثيرين منكم غير قادرين و لا يمتلكون الارادة الكافية لدراسة تجارب الواقع الاسلامي في الماضي و الحاضر. نعم، اليهود و لا نري عيبا في ذلك، فالانسان يستفيد و يأخذ الدروس و العبر حتي من ألد أعدائه، اذا كان ذلك يحقق له امتدادا و تجذرا في ساحة الحياة الانسانية، و ينجز له كثيرا من تطلعاته و أهدافه، و يعطيه الأسلحة الضرورية لمواجهة عدوه. أقول: ان هؤلاء اليهود الذين لا يشكلون أكثر من ثلاثين مليون نسمة، تجاه أكثر من مليار انسان مسلم، باتوا يسيطرون اليوم علي مفاصل السياسة و الاقتصاد في العالم، فاليهود الموجودون في عمق الادارة السياسية الأمريكية يبلغون حوالي 80 بالمئة، أما ال20 بالمئة الباقية فهي غير اليهود الذين يعيشون تحت تأثير الضغط الاعلامي و الابتزاز السياسي اليهودي، أما علي الصعيد الاعلامي فلا مجال للشك في الاستحواذ العالمي لليهود علي أكثر و أهم وسائل الاعلام و محطات التلفزة العالمية، حتي شكلوا اخطبوطا اعلاميا بات يسيطر علي معظم وكالات الاعلام المسموعة و المقروءة في شتي بقاع المعمورة، يدعون الي قيمهم و مشروعهم العنصري التلمودي، و يضخون في [ صفحه 127] وسائل اعلامهم كما هائلا من المعلومات و الأخبار التي تنسجم مع تطلعات و أهداف، ذلك المشروع، في السيطرة و التحكم و الاستحواذ. هؤلاء اليهود لم ينعزلوا عن الواقع بالرغم من الرفض النفسي و العملي الذي كان يمارسه ضدهم الأمريكان قبل غيرهم، حيث كانت المطاعم الأمريكية تضع لافتة مكتوب عليها ممنوع دخول الكلاب و اليهودي، لكنهم دخلوا الي الواقع بكل قوة، و واجهوا ظروف الرفض حتي أصبح الأمريكان (و غير الأمريكان) عبيدا عنهم، و نتسائل (لنستفيد و نعتبر): كيف حصل ذلك؟ و نجيب بالقول: لقد حدث ذلك بأساليب و طرق شتي غير انسانية و لا علاقة لها بالقيم و المبادي‌ء و الأصول الأخلاقية العامة. و أنا هنا، بالمناسبة، لا أدعو أن نسلك هذه السبل نفسها، هذه السبل لكن أن نفهم الخطوط العريضة العامة. اذا خطط اليهود للدخول و النفوذ الي جسم العالم. و هم، في طبيعة الصراع الوجودي الذي نعيشه ضدهم راهنا و مستقبلا، فكروا و يفكرون للدخول الي مفاصل الاقتصاد الاسلامي و العربي، لذلك تراهم يسعون في كل حدب وصوب، بقوة و من دون كلل أو ملل، لعقد المؤتمرات الاقتصادية هنا و هناك، كما حصل في قمم (القاهرة و الدار البيضاء و عمان و الدوحة) الاقتصادية، مع أنهم لم يقدموا شيئا في عملية «التسوية!»، كل ذلك يندرج تحت هدف واحد هو السيطرة و التحكم بمفاصل اقتصاد العرب و المسلمين لممارسة الضغط علي الواقع السياسي و الأمني للمنطقة تحقيقا لهدفهم التوراتي الخبيث «حدودك يا اسرائيل من الفرات الي النيل». نستنتج - من خلال التحليل السابق الذي وجدت أن هناك ضرورة ملحة في عرضه، في سياق حديثي عن امامنا الكاظم عليه‌السلام الذي عاش حياته من موقع التخطيط و الهدفية و المرحلية من أجل الوصول الي أهداف الاسلام و تحقيق قيمه الرسالية الأصيلة [215] - نستنتج أنه بات واجبا علينا، في خضم [ صفحه 128] تحدياتنا و أزماتنا و انكساراتنا و هزائمنا، أن نبدأ العمل و الحركة باتجاه الأفق المطلوب بكل امتدادته في الواقع المعاصر، لأن قيمة الفكرة أو المبدأ الذي نلتزمه، نظريا، هي في أن يتحول الي كائن حي يتحرك في الخط العملي الانساني و ذلك في وعيه و الايمان به، و من ثم التزام مفرداته التي ترتبط، في الأساس، بحركية الهدف الكبير و الطموح، في امتداد الوجود و رحابة الحياة. لذلك و طالما أن الهدف هو تحقيق مشروعنا و فكرنا في العمل و الدعوة و الهداية، فلا بد أن نعمل - بوعي و ضمن خطة مرحلية حكيمة - علي أن ندخل الي عقول و أفئدة الناس، و أن نعيش جميعا «كدعاة رساليين» تجربة و حس الواقع العملي، و نبض عصرنا و أسلوبه، أي أن يفهم الداعية لغة عصره و ثقافة زمنه الراهن [216] ، أن يفهم لغته و لغة الآخرين، لا أن يسقط تحت تأثير قيم عصره و يتحجم (و يتحجر) في ممارسته لقيمه، ولكن أن يفهم عصره جيدا، أن يفهم حساسيته و ذهنيته و نقاط ضعفه و نقاط قوته، حتي يكلم الناس بلغتهم بعيدا عن التصنع و المغالاة و التكلف، فالذهنية لغة و الجو لغة، لذلك نقول: نحن مسلمون، خطابنا اسلامي، و مشروعنا حضاري منفتح، ولكن علينا أن نطور هذا الخطاب (المشروع) بحيث نبقي له مضمونه الاسلامي الذي يطل علي القضايا المعاصرة من دون اسقاط أو تشويه لمعالمه و خصائصه. و بالمقابل، و من دون أن نبتعد عن لغة العصر و عن أسلوب العصر، نحاور الانسان، نعيش في قلب الساحة و الصراع و نطلق خطابنا و مشروعنا الثقافي و السياسي التغييري العام في كل قضايا الصراع من دون أن نفقد أي شي‌ء من اسلامنا و من طهارتنا و من نقائنا بشرط أن نكون المسلمين الواعين الذين يعيشون - في واقع التحدي ورد التحدي المعاصر - حالة طواري‌ء في فكرهم و في أسلوبهم و في وعيهم للواقع، و في حركتهم من أجل الواقع. [ صفحه 131]

الامام كاظم نبراس حضاري و رؤية معاصرة

اضواء علي شخصية الامام الكاظم و صفاته الأخلاقية الرفيعة

خصاله النفسية العالية

اشاره

درس الباحثون و كتاب التاريخ و التراجم سيرة و حياة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام و أوسعوها شرحا و تحليلا و استعراضا لخصائصهم النفسية و قيمهم الخلقية العالية، ولكنها قلة تلك البحوث التي تناولت درس حياة الامام الكاظم و عرض خصاله و فضائله الأخلاقية الرفيعة، من علم و أدب و كرم و تضحية و ايثار و مروءة و شجاعة و محبة، شكلت تراثا نفسيا و سلوكيا عاما تميزت بها شخصية الكاظم عليه‌السلام كانسان عاش و استشهد مدافعا عن القيم الاسلامية النقية و الطاهرة التي عاشها في عمق وعيه و عاطفته و سلوكه المتميز. لذلك سنحاول، خلال هذا البحث، اعطاء لمحات من العناصر النفسية الخاصة بامامنا عليه‌السلام في مجال الممارسة الاجتماعية الراقية. اتفق الباحثون [217] في مجال التاريخ الاسلامي أنه عليه‌السلام كان أعبد أهل [ صفحه 132] زمانه و أزهدهم في الدنيا حيث شهدت له ألقابه بعبادته، فمن زين المجتهدين الي العبد الصالح و النفس الزكية، و الصابر، و الكاظم [218] ، الي غير ذلك من الألقاب المشيرة الي صفاته المقدسة، و عبادته المتواصلة حتي أنه كان يصلي نوافل الليل اذا دخل ثلثه الأخير، و يستمر في الصلاة الي طلوع الفجر، فاذا جاء وقت صلاة الصبح صلاها ثم يشرع في الدعاء و البكاء من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع و يغشي عليه أحيانا لخشوعه و بكائه [219] . و ننقل هنا بعض مناقبه و فضائله الكثيرة:

سمو أخلاقه وسعة صدره

يروي الرواة عنه أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه، و يشتم عليا عليه‌السلام فقال له بعض حاشيته: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي و زجرهم أشد الزجر، و سأل عن العمري في بعض الأيام فقيل له: انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب اليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا تطأ زرعنا فاستمر في طريقه حتي انتهي اليه فنزل و جلس عنده و جعل يضاحكه، ثم قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب منه؟ قال: انا لا نعلم الغيب، فقال له الامام: انما قلت لك كم ترجو أن يجيئك منه، قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه ثلاثمائة دينار، و قال: هذا زرعك علي حاله، فقام العمري و قبل رأسه و انصرف، فذهب الامام الي المسجد فوجد العمري جالسا فلما نظر اليه قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، فوثب أصحابه و قالو له: ما قصتك لقد [ صفحه 133] كنت تقول خلاف هذا، فخاصمهم و شاتمهم و جعل يدعو لأبي الحسن موسي بن جعفر عليه‌السلام كلما دخل و خرج، و قال أبوالحسن لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري:أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار [220] .

كرمه و سخاؤه و زهده في الدنيا و مغرياتها

جاء في كتاب تاريخ بغداد في رواية بسنده الي ادريس بن أبي رافع عن محمد بن موسي أنه قال: خرجت مع أبي الي ضياعه «بساية» فأصبحنا في غداة باردة و قد وفدنا منها و أصبحنا علي عين من عيون «ساية» فخرج الينا من تلك الضياع عبد «زنجي فصيح مستزنر بخرقة، علي رأسه قدر فخار يفور، فوقف علي الغلمان و قال: أين سيدكم؟ فقالوا: هو ذاك، فقال: أبو من؟ فقالوا له: أبوالحسن، فوقف عليه و قال: يا سيدي يا أباالحسن هذه عصيدة أهديتها اليك، فقال له: ضعها عند الغلمان، فأكلوا منها، ثم ذهب و رجع و علي رأسه حزمة حطب، فقال له: يا سيدي هذا حطب أهديته اليك قال: ضعه عند الغلمان و هب لنا نارا، فذهب و جاء بالنار، و كتب أبوالحسن اسمه و اسم مولاه و دفعه الي و قال: يا بني احتفظ بهذه الرقعة حتي أسألك عنها، فوردنا الي ضياعه و أقام بها ما طاب له، ثم قال: امضوا بنا الي زيارة البيت فخرجنا حتي وردنا مكة، فلما قضي أبوالحسن عمرته دعا صاعدا و قال: اذهب و اطلب لي هذا الرجل فاذا علمت بموضعه فأعلمني حتي أمشي اليه فاني أكره أن أدعوه و الحاجة لي، قال صاعد: فذهبت حتي وقفت علي الرجل، فلما رآني عرفني و كنت أعرفه و كان تشيع فسلم علي و قال: أبوالحسن قدم، قلت: لا، قال: فأي شي‌ء أقدامك؟ قلت: حوائج، و قد كان علم مكانه بساية، فتبعني و جعلت أتقصي منه و يلحقني، فلما رأيت أني لا أتفلت منه مضيت الي مولاي و مضي معي حتي أتيته فقال لي: ألم أقل لك لا تعلمه، فقلت: جعلت فداك، لم أعلمه. [ صفحه 134] ثم قال له الامام عليه‌السلام: أتبيعني غلامك فلان؟ فقال له: جعلت فداك الغلام و الضيعة و جميع ما أملك أقدمه لك، فقال: أما الضيعة فلا أجد أن أسلبكها، و قد حدثني أبي عن جدي أن بائع الضيعة ممحوق و مشتريها مرزوق، و أصر الرجل علي تقديمها له، و أخيرا اشتري منه الضيعة و الغلام بألف دينار، ثم أعتق العبد و ووهب له الضيعة. - و جاء في مقاتل الطالبيين بسنده عن يحيي بن الحسن أنه قال: كان موسي بن جعفر اذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث اليه بصرة دنانير و كانت صراره ما بين ثلاثمائة الي المائتين و يضرب بها المثل.

عبادته و تقواه

كان الامام الكاظم عليه‌السلام كثير الصلاة و التهجد و المواظبة علي الطاعات و العبادات [221] يبيت الليل ساجدا و قائما، و يقطع النهار متصدقا و صائما، حتي أن كثيرا من حوادث اعتقاله تمت و هو يؤدي طاعة أو عبادة. مرة أصدر هارون أمره باعتقال الكاظم عليه‌السلام فذهب جلادوه الي الامام عليه‌السلام فصادف أن الامام عليه‌السلام لم يكن في المنزل، أين كان؟ كان في مسجد النبي صلي الله عليه وآله و سلم، حيث كان عليه‌السلام مشتغلا بالصلاة فلم يمهلوه حتي يتم صلاته بل أخذوه و هو في الصلاة، و جروه جرا من مسجد النبي صلي الله عليه وآله و سلم، فنظر عليه‌السلام الي قبر الرسول صلي الله عليه وآله و سلم و قال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا جداه انظر الي أمتك ماذا تفعل بأبنائك؟» [222] . - قالت أخت السندي: و قد سجن الامام عليه‌السلام في بيت أخيها - كان اذا صلي العتمة حمد الله و مجده و دعاه، فلم يزل كذلك حتي يزول الليل، فاذا زال اليل قام يصلي حتي الصبح، ثم يذكر قليلا حتي تطلع الشمس، ثم يقعد [ صفحه 135] الي ارتفاع الضحي، ثم يتهيا و يستاك و يأكل، ثم يرقد الي قبل الزوال، ثم يتوضأ و يصلي العصر، ثم يذكر في القبلة حتي يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب و العتمة فكان هذا دأبه. و كانت أخت السندي اذا نظرت اليه قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل [223] . [ صفحه 136]

نماذج منتقاة من جوامع كلمه و درر حكمه

اشاره

عاش الامام موسي بن جعفر الكاظم عليه‌السلام في دائرة الرسالة و مهبط الوحي و تربي علي نهج القرآن الكريم و آداب و خلق الرسول صلي الله عليه وآله و سلم و الأئمة عليهم‌السلام، لذلك كان من الطبيعي أن يتميز بأخلاق رفيعة و قيم نبيلة سامية تمظهرت، ليس فقط في أقواله و حكمه و وصاياه، بل أيضا في سلوكه و أفعاله. و قد أراد عليه‌السلام من خلال هذا التراث الارشادي و الوعظي أن ينتصر لقيم و مبادي‌ء المجتمع الاسلامي الفاضل، و يهذب نفوس الناس من دنس الخطايا و الرذائل، و يحملهم علي التزام الفضائل و الخصال الحميدة العليا [224] . و في ما يلي يمكن أن نعطي لمحة عامة و سريعة عن بعض كلمه الطيب عليه‌السلام في مجال الممارسة الاجتماعية الواعية و ندرس - علي ضوء ذلك، و في جانب معين - فلسفة القيم في الاسلام: 1- التقوي و العمل الصالح. 2- محاسبة النفس (النقد الذاتي). 3- العلم و المعرفة. 4- الرفق و اللين.

التقوي و العمل الصالح

اشاره

يقول الامام الكاظم عليه‌السلام في تعريفه للتقوي: «يا بني اياك أن يراك الله [ صفحه 137] في معصية نهاك عنها، و اياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها، و عليك بالجد، و لا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله و طاعته، فان الله لا يعبد حق عبادته» [225] . تمثل التقوي روح الانضباط و الالتزام أمام الله، لأن علاقة المؤمن بربه ليست علاقة مجردة أو مفصولة عن أصل وجود الانسان في الحياة في حاضره و في مستقبله، بل هي علاقة أصيلة تتصل بكل وجود و امتداد هذا الانسان، الذي خلق بارادة الله تعالي و تحرك في الحياة في كل ما أودعه في جسمه من شروط الحياة و ما أعطاه من النعم المحيطة بكل حياته من كل عناصر الحياة، بحيث يعيش في نفسه حالة الهيبة و الاجلال لربه، و تلك هي التقوي في جوانبها الثلاثة [226] .

تقوي الفكر (الخط الفكري)

أن يكون فكرك تقيا يعني أن تلتزم المبدأ و القيمة التي تقودك الي الخير، و أن تبتعد عن الطرق و الأساليب التي يمكن أن تحرك فكرك و موقفك نحو الشر و الظلم.

تقوي القلب (الخط العاطفي)

و هي أن تجعل قلبك خالصا لوجه الله، كله لله فلا تحب أحدا الا من خلال الله و لا تبغض أحدا الا من خلال الله، أي أن تكون عاطفتك و وجدانك و احساسك تحت امرة الله (و الذين آمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165]، ان حركة التقوي القلبية يجب أن تختزن في عمقها الانساني معني التولي: في الالتزام بالله و التزام أوليائه، و معني التبري: في الابتعاد عن الشيطان و عن أوليائه، أي أن لا ندخل أحدا الي حرم القلب الا من خلال الله سبحانه و تعالي. [ صفحه 138]

تقوي الحركة (الخط الحركي)

و هي تعني أن لا تقدم رجلا في أي طريق تريد أن تتحرك عليها و لا تؤخر أخري حتي تعلم أن ذلك لله رضا، و بهذا المعني نفهم أن علي الانسان المسلم أن يتعلم دينه و يعيش ثقافة اسلامه، و أن يعرف ربه، ماذا أراد منه؟ و ما صنع به؟ لأنه اذا تغاضي عن ذلك السبيل، و أحجم عن معرفة ربه، و كان جاهلا لنعمه و فضله و كل ما يتصل بحركته في الحياة، فانه لن يتمكن أبدا من الوصول الي الطريق المستقيم ليسير عليها، بل سيكون كما قال ذلك الشاعر: اذا الريح مالت مال حيث تميل و لا بد، في هذا المجال، للانسان الملتزم من أن يعمل علي رعاية و حفظ امتداد تقواه في الحياة بأن يحمي اسلامه من كل ما يمكن أن يضعفه، و من كل ما يمكن أن ينحرف به عن الخط و الصراط المستقيم، بحيث يكون واعيا لكل مفردات اسلامه و واعيا لحركة هذه المفردات في الواقع و في مواقفه عندما يؤيد و يرفض، و يثني و يهجو، في قوله و فعله. و في ضوء هذه الرؤيا العامة يريدنا الامام الكاظم عليه‌السلام أن نعيش حاله طواري‌ء تقوائية - اذا صح التعبير - في الفكر التقي، و العاطفة التقية، و الحركة التقية، و العلاقات التقية و الأوضاع التقية، (و تزودوا فان خير الزاد التقوي) [البقرة: 197] بخاصة و نحن نعيش في واقع مضطرب في كل مواقعه و أوضاعه، لأن التقوي - كمفردة نفسية و سلوكية تنطلق من ذات الانسان، من ارادته و وعيه و التزامه الأولي بميثاق الفطرة و خط الله تعالي في الحياة - تدفعك، و أنت الانسان الملتزم، الي أن تواظب دائما علي مراجعة و مراقبة نفسك و قلبك و سلوكك و فكرك حتي تصنع من نفسك نموذجا متكاملا للانسان الالهي المسؤول و الواعي (انسان قيم الله المثقف دينيا) المنفتح علي الله و الذائب في قيمه و صفاته العالية، و الفاهم للغة زمانه، و معارف عصره، و أوضاع مجتمعه، و المواكب لتحولات حياته المعاصرة، متعهدا بقضايا و مصائر اخوته في [ صفحه 139] الانسانية علي مستوي عقله و حريته و شعوره بالمسؤولية الكبيرة تجاه انجازاته الحضارية الطموحة [227] .

محاسبة النفس (النقد الذاتي)

اشاره

يقول عليه‌السلام في وصيته لهشام: «يا هشام ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنا استزاد منه، و ان عمل سيئا استغفر الله منه و تاب اليه» [228] ، و يقول عليه‌السلام: «يا هشام، أصلح أيامك، الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو و أعد له الجواب، فانك موقوف و مسؤول، و خذ موعظتك من الدهر و أهله، فان الدهر طويلة قصيرة» [229] تعتبر قضية النقد الذاتي - نقد الانسان لنفسه أو نقد الانسان لغيره - من القضايا الأساسية التي يؤكدها الاسلام علي مستوي حياة الانسان الفردية و الاجتماعية ضمن مسؤوليته في صعيد خط الدنيا و خط الآخرة، لأنه اذا كان هدف التشريع الاسلامي بناء الانسان المسلم السوي الغني، اسلاميا، في وعيه و سلوكه، فان مسيرة الانسان و كدحه الارتقائي نحو تلك الأهداف، تخالطها سلبيات و أخطأ كثيرة بعضها محسوبة و بعضها الآخر غير محسوب، لذلك يكون النقد الذاتي محطة مراجعة للنفس لدراسة المواقع السلبية و العمل علي معالجتها و محاولة تلافيها في المستقبل و يكون، في الوقت نفسه، أيضا محطة لتأصيل الممارسة الايجابية في الواقع اليومي، لأن قضية الانسان هي قضية فكره و عاطفته و حركته، و قد يخطي‌ء الانسان فيها و قد يصيب، و قد يخطي‌ء الناس و قد يصيبون، و لعل من مميزات الاسلام أن لا يحمل الانسان مسؤولية نفسه فقط، ولكنه يحمله مسؤولية كل السلبيات الاجتماعية بالمستوي الذي يستطيع فه أن يخفف منها أو يزيلها، أي أن الاسلام يعطي الانسان فرصة لممارسة النقد و الحساب الذاتي لسلوكه و فكره و انتمائه و حركته. [ صفحه 140] و في ضوء هذا الخط العام يجب علي الانسان أن يكون معنيا بنقد نفسه و من ثم بنقد الناس من حوله، و هذا ما اختصره القرآن الكريم في الجانب المتصل بحياة الانسان الفردية سواء منها ما يتصل بالدنيا أو بالآخرة، و ذلك في قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله ان الله خبير بما تعملون) [الحشر: 18]. من هنا يكون النقد للنفس بحثا موضوعيا عن المناطق الخفية السلبية في داخل الذات، من أجل تعزيز بنيانها و ارادتها بتقوي الله، في الفكر و العاطفة و الوجدان و الحركة، لأن مسألة «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا» هي مسألة تعني أن نجاهد أنفسنا، أن نحاكمها، و الخطر الأكبر يأتي من: 1- تزكية المرء لنفسه، و رضاه عنها، و تضخيمه لها، و جعلها في منأي من النقد و المصارحة، و القرآن يقول: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقي) [النجم: 32]. و الكاظم عليه‌السلام يقول: «من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء و ملائكة الأرض» [230] ، كذلك يأتي الخطر، في المجال نفسه، من تضخيم الآخرين لك، يقول الكاظم عليه‌السلام لتلميذه هشام بن الحكم: «لو كان في يدك لؤلؤة و قال الناس انها جوزة و أنت تعلم أنها لؤلؤة ما ضرك، و لو كان في يدك جوزة و قال الناس انها لؤلؤة ما نفعك» [231] أي لو أتي الناس اليك مجتمعين، و ضخموا لك شخصيتك و رفعوا من شأنك ذاتيا، و قالوا: أنت العظيم الذي ليس أحد مثله، و أنت تعرف بواطن الأمور و خفايا الكلام، في أن علمك مثلا أو موقعك يمثل عشرة أو عشرين بالمئة، فلا تنخدع بكلام الناس و لا تؤخذ بأقوالهم لأنك اذا خدعت ستسقط لا محالة، من هنا يدعونا الكاظم عليه‌السلام - في وعينا لمسألة النقد - أن نفهم أنفسنا، و نعرف مواهبها و قدراتها كما هي بعيدا عن كلام [ صفحه 141] الآخرين، فاذا فهم الانسان نفسه و رأي فيها خيرا و صدقا، و أنها ترضخ لعملية الحساب و النقد، و رأي الناس غير ذلك، فان هذا لا يضره و لا يسقطه و لو شتموه أو سبوه، لأنه يعلم حقيقة ذاته في شعوره بأصالته و قوته و صلابته، و اذا رأي في نفسه غير ذلك و مدحه الناس و هو ليس بمستوي المدح فانه لا يعظم شخصيته أبدا. 2- نقد الآخرين و تجريحهم قبل نقد الذات، و هذه هي مشكلتنا في كل ما نعيشه من مواقع و مسؤوليات، أننا نعرف الناس أكثر من معرفتنا لأنفسنا، بحيث اننا نستطيع أن نحصي، بدقة، سلبيات و أخطاء الآخرين، و نقدم بذلك تقارير و بيانات مفصلة عن عيوب الناس و ثغراتهم ولكننا نعجز أو، بالأحري، لا نملك الارادة و العزيمة التي يمكن أن تمنحنا فرصة في أن نجلس مع أنفسنا جلسة مصارحة و صدق لنسأل: ما هي عيوبنا نحن؟ و ما هي أفكارنا؟! و ما هو خطنا السياسي؟ و ما هو خطنا الاجتماعي؟، فهل نستطيع أن نجيب الا بطريقة مبهمة و ضبابية و بلغة غير مفهومة؟ لذلك نقول دائما: ان فهمك لنفسك و محاسبتك لها هو مدعاة لفهم الآخرين لك، كما يعبر الامام علي عليه‌السلام عن ذلك في قوله المشهور: «احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك» أي أن تنفتح علي الآخرين من موقع و عيك لمعالم ذاتك و خصائصها، أن تقمع أصل الشرور في داخلها، ثم تطل علي الآخرين من موقع الوعي و المحاورة الايجابية قبل أن توجه اتهاماتك اليهم بأنهم هم المسؤولون عن الشرور و الأخطاء. اذا علينا جميعا أن نبدأ بحركة نحو داخلنا في أن نفهم أنفسنا و واقعنا، ذاتيا و موضوعيا «من عرف نفسه عرف ربه» أن نعرف خطوطنا الفكرية، و خطوطنا العاطفية و أيضا الحركية، حتي نعرف أن نمشي علي الدرب الطويل، فكيف يمكن لك أن تستقيم علي الطريق قبل أن تعرف هذه الطريق؟. في الواقع نحن نعتبر أنفسنا، للأسف، فوق ميزان النقد، بل قد نصل الي مرحلة نفكر فيها بأن نكون نحن المقياس في أية عملية نقدية هذه، حقيقة، درجة خطيرة من الشعور بالأنانية و التضخم الذاتي، وصلنا اليها في كثير من [ صفحه 142] مواقع حياتنا، و يبدو أن هذا الجيل (جيل السرعة و الفضاء و الخيال) بدأ يتحرك منذ فترة علي الطريقة نفسها، لكننا نقول بأنه مهما كانت ظروف العمل و الدعوة صعبة، يجب علينا جميعا، كمثقفين و دعاة، ألا نيأس من ممارسة سبل الدعوة و النقد الموضوعي المتوازن، حتي لو رفضت ساحة المجتمع خطابنا و دعوتنا الفكرية، صحيح أن خطابنا الديني يعاني، بشكل عام، كثيرا من الخلل و الارتباك، حيث لا يزال يعيش، في مفرداته و أسلوبه، المفردات القديمة التاريخية، لكن الأمر الذي يلقي علينا مسؤوليات جديدة هو في أن نطور صيغ ذلك الخطاب، خاصة الخطاب الديني الموجه للشباب، بحيث يري فيه الشباب تطلعاتهم و آمالهم و يري فيه الانسان، كل انسان، الخطاب الذي يلامس عقله و روحه و قلبه و حياته، طبعا أنا لا أقول: أن نسقط تحت تأثير مفاهيم و صيغ العصر الراهن المنحرفة و المبتذلة، لكن لا بد أن نعمل علي أن نصوغ الخطاب الاسلامي بأساليبه و مفرداته في اطار الواقع الذي يعيشه الناس من أجل أن يستجيب لتطلعات المرحلة و الواقع. لأن المسألة هي أن نمتلك الارادة و الاصرار و المثابرة و الصبر علي الدعوة في خطها لايجابي و السلبي، في أن نلاحق الناس لنثير اهتماماتهم بالدين من خلال من يمكن أن نقدمه من المفاهيم المضيئة و المشرقة للدين حتي يحاوروا فيه و يقتنعوا به في نهاية المطاف، و علينا أن لا نتعقد من وجود مجتمع لا ينفتح علي النقد الايجابي في وعيه لمسألة الدين، و لا يتحرك نحو الدين و المسجد، و لا يستمع الي موعظة الواعظين و نقد الناقدين لأن الله أمرنا أن نقول الحق من ربنا في كل ساحاته (و من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر). ان نقد المجتمع لبعضه علي المستوي الفردي، و نقد المجتمع لبعضه علي المستوي الجماعي، أي القيام بمسؤولية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، هو واجب و ضمانة حقيقية لسلامة المجتمع بكل آفاقه و مواقعه. انه النقد الذي يمكن أن يتحرك بالنظرة أو بالكلمة، من هنا يجعلنا النقد الواعي و البناء - في هذا المجال - نكتشف واقعنا و واقع الآخرين، و ذلك بالوسائل [ صفحه 143] الحضارية التي أشار اليها الله تعالي في قوله: (و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم) [فصلت: 34]. و هنا نتساءل: كيف نمارس النقد؟! و ما هو النقد المرفوض و النقد المقبول؟.

النقد الذاتي المرفوض

اشارة

ينطلق النقد للآخرين من خلال الشعور العالي بالمسؤولية عن هذا الآخر، لا لنتصيد عيوبه، و نلتقط نقاط ضعفه لنستغلها و نبتزه من خلالها فيما بعد، ولكن نقوم بذلك النقد بقصد الاصلاح و البناء و التغيير نحو الأفضل، ان الاسلام يرفض هذا النمط من النقد في العلاقة بين المؤمن و المؤمن، أي النقد من أجل أن تعير أو من أجل أن تعنف أو من أجل أن تسقط أخاك، لأنه نقد غيابي قائم علي أساس اطلاع الآخرين علي عيوب أخيك و حديثك عنها أمام الملأ، حيث أن الغيبة هي ذكرك أخاك بعيب مستور لا يرضي بكشفه و لا يقبل باظهاره، و العيوب الخفية هي المنطقة المحرمة التي لا يريد الاسلام لك أن تكشفها للآخرين (و لا يغتب بعضكم بعضا) [الحجرات: 12].

النقد الذاتي الموضوعي المقبول

اشاره

و هو النقد الذي يبني علي التقوي في طبيعة الاطلاع علي خطأ معين في فكر الآخر (المؤمن مثلا) أو اكتشاف عيب في خلقه أو سلبية في حركته، هنا يكون من الواجب عليك - كانسان رسالي تعيش عمق التقوي لله - أن تقبل علي أخيك بالكلمة الطيبة و الحلوة وفق المبدأ القرآني المعروف: (و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) [الاسراء: 53] فلا تضغط عليه و لا ترهقه بالكلمة الثقيلة الحادة، قلها خفيفة علي قلبه، قوية في عقله، مؤثرة في سلوكه و فعله، قلها سرا و لا تقلها علانية «من وعظ أخاه سرا فقد زانه من وعظه علانية أمام [ صفحه 144] الناس فقد شانه» [232] عليك، اذا، أن تنقد أخاك من أجل أن تصلح أمره، و تحسن وضعه و حاله، لتنقله من مستوي الضيق الي مستوي الانفتاح و السعة. و هذا هو الخط الذي يريدنا الامام الكاظم عليه‌السلام أن نتحرك عليه، و هو أن الذي يهدي اليك عيبك الذي تعيش معه، فانه يفتح لك الطريق من خلال اكتشاف عيبك الذي لم تكتشفه أنت لتصلح نفسك و تقوم مسارك و حركتك، فتبقي بلا عيب من خلال ذلك. علي هذا الصعيد يجب أن يمتاز الانسان الناقد بميزة هامة كما يعبر عن ذلك الامام الكاظم عليه‌السلام في قوله: «أبلغ خيرا و قل خيرا و لا تكن أمعة، قلت: و ما الأمعة قال: لا تقل أنا مع الناس و أنا كواحد من الناس، ان رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم قال: يا أيها الناس انما هما نجدان: نجد خير و نجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير» [233] أي أنه لا داعي للانسان الناضج و الواثق بفكره أن يستعير ثقته من الآخرين، بل عليه أن يدرس نفسه، و يعرف رصيده، في علمه و فقهه و وعيه و مواقفه، و بمعني مماثل يجب علي الانسان الذي يعيش في مجتمع الأسرة أو القرية أو المدينة- عندما ينطلق في عملية الابلاغ و النقد - عليه ألا يسقط تحت تأثير مفاهيم و قيم المجتمع، من دون دراستها و عرضها علي محكمة العقل و التفكير السليم. هل هي مفاهيم خيرة بذاتها أم شريرة؟ هل تنسجم مع الخط الاسلامي أم لا؟. فالكثير من الناس يحبون دائما أن يعيشوا تحت ظل تراثهم المحيط بهم، و يلازموا مفاهيم عوائلهم و عشائرهم و قراهم و الناس من حولهم، من هنا جاءت كلمة الكاظم عليه‌السلام: «أبلغ خيرا»، عندما تريد أن تتحدث، أو تبلغ أو تنقد، تحدث بالخير «و قل خيرا» ليكن كلامك و ابلاغك في الخير «و لا تكن أمعة» و الأمعة هو الذي يسأل عن رأيه في أية قضية من القضايا، فيقول: أنا مع الناس، و الامام عليه‌السلام ينهي هنا عن أن يكون الانسان من دون شخصية و موقف، لأنه لايريد للانسان المسلم أن يسقط مواقفه، فكما للناس الآخرين عقل، فله عقل، و كما لهم موازينهم فله موازينه، و كما أن لديهم طرقهم في ممارسة النقد و محاسبة [ صفحه 145] النفس، فهو أيضا له طرقه و أساليبه في هذا المجال لأنه يتحمل مسؤولية كلمته و موقفه و نقده في الدنيا و الآخرة، و قد قال رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم: «انما هما نجدان، نجد خير و نجد شر فلا يكن نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير». فالحياة طريقان: اما خير أو شر، و لذا يخاطب رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم الانسان المسلم بأن يفكر في الخير - حتي في تحمله لمسؤولية النقد - في الموقف العقيدي و الشرعي و السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الأمني - و فكر، أيها المسلم، بالخير فاتبعه حتي و لو وقف الناس كلهم ضدك لأنك عندما تتحمل مسؤولية وجودك و انتمائك، فانك تتحمل مسؤولية مواقفك و قراراتك و خياراتك التي سيحاسبك عنها الله تعالي في يوم القيامة في كل كلمة نقدية قلتها، و كل موقف ناقد اتخذته، (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) [النحل: 11].

تساؤل و استنتاج نقدي

كيف يمكن أن تمارس الحركة الاسلامية المعاصرة عملية النقد الذاتي الحضاري؟!. دخلت الحركة الاسلامية المعاصرة - في بداية عقد التسعينات - في مرحلة جديدة علي صعيد مكوناتها الذاتية و الموضوعية، و ممارساتها الحركية في ميدان الواقع في عصر شهد تحولات و تغيرات سياسية و فكرية ذات تعابير و خصوصيات دقيقة و متنوعة. شكلت، بمجملها، مفصلا هاما في واقع العالم الحديث الذي يعبر، حاليا منعطفا تارخيا جديدا في مسيرة حركة التقدم البشري [234] . [ صفحه 146] و كانت فترة الثمانيات قد شهدت تحقيق بعض المكاسب و الانتصارات لمسيرة العمل الاسلامي و في مقدمة تلك التحولات و المكاسب وصول الحركة الاسلامية الي الحكم السياسي في ايران، و دخول الحركة الاسلامية في لبنان في حرب مواجهة عسكرية و أمنية حقيقية ضد الكيان الصهيوني، و تقدم [235] الجهاد الاسلامي في أفغانستان، و تطور مستوي الكفاح و النضال عند الاسلاميين في بعض مواقع العمل في الوطن العربي و الاسلامي، و تنامي الصحوة الاسلامية التي كانت علامة فارقة علي تسييس الشارع الاسلامي، و يجب ألا ننسي، في هذا المجال، الحدث الانتفاضي الكبير - اذا صح التعبير - الذي تمثل بالانتفاضة الشعبية العارمة في الضفة و القطاع في الأرض المحتلة و التي كان لها أعمق الأثر علي طبيعة موازين حركة الواقع العربي و الاسلامي. ازاء كل هذه التحولات السريعة علي مستوي العمل الحركي الاسلامي العالمي يمكن أن نتساءل: الي أي مدي نجحت الحركة الاسلامية في وعي الواقع و استيعاب الأحداث و مراجعة الخيارات و الحسابات المطروحة أمامها؟ و الي أين وصلت تنظيراتها الفكرية و السياسية، و كيف تخطط للعقد القادم الملي‌ء بالأحداث و المفاجآت؟ بمعني آخر: كيف تنظر هذه الحركة، من خلال سياساتها و استراتيجياتها، الي مواقع العمل و الدعوة العالمية الراهنة؟ هل [ صفحه 147] عملت، تلك الحركة، علي دراسة تجربتها و تجارب الحركات الأخري السابقة؟ أين هي الايجابيات و مواقع الاشراق؟ و بالمقابل أين هي السلبيات و مواقع الظلمة؟ و لعل السؤال الأخطر بين كل تلك الأسئلة هو: ما هو موقع النقد و النقد الذاتي و محاسبة النفس و الذات الاسلامية - اذا صح التعبير - من أفكار و مبادي‌ء الحركة الاسلامية المعاصرة؟!. خلال الفترة الماضية، تفاعلت الحركة الاسلامية بصورة مباشرة، مع الواقع اليومي و مارست فيه نشاطات و فعاليات مختلفة و انخرطت، بشكل أو بآخر، في اطار تطورات الواقع السياسية و الاجتماعية حتي باتت طرفا فاعلا و مؤثرا في بنيته و مكوناته و مجرياته و أحداثه؛ الأمر الذي جعل أفكار و نظريات الاسلاميين أكثر احتكاكا و تواصلا و قربا من مجريات التطبيق الواقعي، و بالتالي أصبح بالامكان انضاج «و تشذيب» تلك المبادي‌ء و الطروحات، خاصة بعد أن تعاظمت تحديات و متغيرات العصر الراهن. اننا نستطيع أن نقول - بعد النظر الي مسيرة الاسلامية المستنيرة حاليا -: ان عقلها الاسلامي قد أصبح أكثر وعيا و انفتاحا واتساعا، حتي أنه قد أنضج مفهوم النقد و النقد الذاتي، و ان كان ذلك الأمر لايزال، علي مستوي السلوك و الممارسة، بحاجة ماسة الي ترشيد موضوعي سياسي و اجتماعي و أخلاقي. اننا نعتقد أن المرحلة الحاضرة هي في أشد الحاجة الي بناء عملية النقد و النقد الذاتي بطريقة حضارية تتسع للجميع، و في الوقت نفسه هي بحاجة أيضا - و كما ذكرنا - الي توعية و ترشيد سلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعلة و قادرة علي الاستجابة لتحديات الحضارة الحديثة. فالأولي الآن نقد الذات، أي نقد الفكر و نقد النقد، كرهان ايجابي للخروج من المأزق الذي نعيشه راهنا، و لا حاجة بنا الي التكرار بأن النقد ليس مجرد دحض للمقولات القائمة، أو اضفاء لبعض المفاهيم السائدة، أو تفكيك الآليات المعرفية الاسلامية القائمة أو اضفاء و نقد محدداتها العامة، و لا هو اقصاء للرموز و الأسماء و الشخصيات بالعكس: ان النقد هو البحث و التقصي الدائب عن امكانات و فضاءات عامة [ صفحه 148] للتغيير و الحركة، انه محاولة توليد امكانات جديدة للقول و الممارسة و العمل. بالدخول الي كل ما يخرج عن نطاق التفكير من المناطق المجهولة المستبعدة أو المطموسة في ذاكرتنا و وعينا و حتي في حضارتنا اننا نحتاج، من خلال النقد، الي اعادة صياغة حضارية لعلاقتنا مع الوجود و العالم عبر قراءة الواقع و تشخيصه و خلق لغة فعالة تنتج تصورات و مفاهيم عملية جديدة يمكن أن تساهم في تشخيص الواقع و اجتراح القدرات أو ابتكار الحول و فتح الآفاق المسدودة، من هنا تكون احدي أهم وظائف و مهام المثقف الناقد و المراجع انخراطه النوعي الفعال في الزمن الحاضر [236] ، بحثا و استقصاء عن مواقع جديدة للتأثير في طبيعة الأحداث الراهنة في تغيير بعض معالم الفكر السائد، و ذلك لاعادة تنظيم و رسم خارطة القوة و علاقات السيطرة الموجودة، و المشكلة الكبري التي تقف أمام تقدم هذا العمل هو عدم الجمع بين الأصول العقيدية الاسلامية و العلوم الاجتماعية، أي ربط العقيدة بواقع المجتمع و الحياة المعاصرة من أجل احداث تلك التغييرات الكمية و الكيفية التي تتوقف علي وجود رؤية فكرية واضحة المعالم لتحقيق المثل الأعلي، فمثلا التوحيد - كأصل عقيدي - ينطوي علي الايمان بالله تعالي كهدف أعلي و نموذج أرقي للمسيرة الحضارية و التكاملية البشرية، أما الرؤية الاجتماعية للعبد التوحيدي فانها توحد و تماهي بين العقيدة التوحيدية، و دافع الحياة الفردي و الاجتماعي، بين المثل و الطموح و الهدف، و بين التطلعات البشرية، و تجعلها تحت ظل هذا [ صفحه 149] المثل الأعلي الذي هو علم و قدرة كله، عدل و رحمة كله، و انتقام من الجبارين كلهم. ان عقيدة التوحيد تقدم لنا المثل الأعلي (الله تعالي) الذي تتوحد فيه كل الغايات و الطموحات، بينما الرؤية أو النظرة التطبيقية الاجتماعية لعقيدة التوحيد تعلمنا أن نتعامل مع صفات الله، و أخلاق الله، لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا، كما تعامل معها فلاسفة الاغريق [237] ، و انما نتعامل مع هذه الصفات و الأخلاق بوصفها رائدا عمليا و هدفا لمسيرتنا العملية، و بوصفها مؤشرات علي الطريق الطويل للانسان نحو الله سبحانه و تعالي: (يا أيها الانسان انك كادح الي ربك كدحا فملاقيه) [الانشقاق: 6]. و هكذا بالنسبة لبقية الأصول العقائدية الاسلامية التي يجب أن نقيم، من خلال فهمنا لها و للأصول الاجتماعية الأخري، ارتباطا عمليا بين عقائد التوحيد من جهة و بين ما يترتب عليها من التزامات و تعهدات و اجراءات عملية علي أرض الواقع، علي هيئة استعدادات و تهيئات مسبقة من جهة أخري، بناء علي ذلك نجد ضرورة قصوي في أن ينصب النقد [238] حاليا علي الجوانب الحضارية في الحركة الاسلامية المعاصرة خاصة الجوانب التي ذكرناها آنفا، و هو - في الواقع - تحد كبير يهدف، أساسا، الي ايضاح و ابراز - و من ثم نقد - معالم المشروع و المركب الحضاري الاسلامي الذي يعبر عن مضمون حضارة الاسلام و رؤيتها الكونية في الحياة و الوجود و الانسان و الواقع الراهن كتجل لروح الاسلام و عقيدته التوحيدية بصورة قانونية و تشريعية فعالة في كافة أوصال و أبعاد و اتجاهات الحياة و المجتع السياسية و الفكرية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية و التربوية، و يبقي السؤال المطروح في ظل الوقائع و الظروف العامة الحافلة [ صفحه 150] بالكثير من المتناقضات هل ننجح أم نفشل؟! نقول في اجابتنا كخلاصة عامة لما تقدم: ان الحركة الاسلامية التي تمر اليوم بهذه التحولات و التقلبات الكثيرة ذات المعالم و السمات الكونية، هي بأمس الحاجة الي صياغة ذاتها و تحسين و ضعها الحضاري بين الأمم و الحضارات الأخري، و ذلك علي أسس و خصائص جديدة تطور من مشروعها و من وعيها لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها و مع الآخر في الاتجاه الواقعي الحضاري، و لعل من أهم وسائل تحقيق ذلك: التزام النقد و المحاسبة الحضارية المنتجة و الفاعلة التي لها دور حاسم في تغيير طريقة تفكير البشر و الارتفاع بنوعية ممارساتهم العقلية، أي بوعيهم، و بالتالي في تحسين قدرتهم (تنمية ارادتهم) علي المبادرة التاريخية و الارتفاع بمستوي سلوكهم العملي الفردي و الجماعي، و أي مسعي للخروج من الأزمة الحالية (بما فيها أزمة عدم وجود نقد موضوعي هادف) لا بد و أن يبدأ باصلاح واقعنا السياسي، و نظرتنا الي السياسة بحد ذاتها، أي بتطوير الممارسة الجماعية و توفير فرص المبادرة و المساهمة المشتركة لجميع الناس في المشروع الكبير لاعادة اكتشاف الانسان في ثقافتنا الدينية و الدنيوية الحضارية و من ورائه اعادة انتاج و اختراع الحداثة. حداثة الانسان و الحداثة المؤنسنة، و جوهر الجهد في اصلاح السياسة لا يكمن في الغاء أي عقيدة أو الدعوة الي تأويل أي نص ديني مقدس أو مدني (بالمعطي السلبي) ولكن في تغيير و تجديد قواعد التعامل بين مختلف الأطراف و السلطات الفردية و الجمعية الدينية و المدينة، أي في تغيير شروط الممارسة الفكرية و العملية داخل النظام الاجتماعي، فهو الذي يسمح بتغيير التوازنات بين القوي و العناصر و التيارات و الرؤي المختلفة، و يساعد علي نمو الأفكار و القيم و السلوكيات الجديدة، (خاصة النقدية منها).

العلم و المعرفة

يقول الامام الكاظم عليه‌السلام: «يا هشام، تعلم من العلم ما جهلت، و علم الجاهل مما علمت، عظم العالم لعلمه و دع منازعته، و صغر الجاهل لجهله و لا [ صفحه 151] تطرده ولكن قربه و علمه» [239] ، و يقول عليه‌السلام: «وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: أن تعرف ربك، و أن تعرف ما صنع بك في آياته (سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم)، [فصلت: 53]، و أن تعرف دينك، و أن تعرف ما يخرجك من دينك» [240] لا شك بأن العلم من المقومات الحضارية الرفيعة المستوي، و هو لا يقل في أهميته وجوهريته، بالنسبة الي الحضارة الانسانية، عن القيم الدينية و الأخلاقية. خاصة و أننا نعيش في عصر لا يملك فيه الانسان - عندما يريد أن يفتح آفاقا واسعة الي فكره و التزاماته العملية - الا أن يكون عالما بلغة عصره في السياسة و الثقافة و الاجتماع و الاقتصاد و الأمن و ما الي ذلك، بمعني أنه لا بد للانسان أن يسعي لنيل درجات العلم و المعرفة في شتي مجالات الحياة، و أن يطلع علي حركة الفكر في عصره و علي اتجاهات الواقع في كل شؤونه و شجونه السياسية و العملية لأن فهم لغة العصر هو شرط أساسي للدخول اليه و محاورة أهله، فعندما يكون علمك و فكرك علم و فكر الناس الذين كانوا يعيشون قبل مئات السنين فأنت من جيل مضي و رحل لا تستطيع أن تحاوره الآن، لأنه مات و انقضي، أما الجيل الذي يعيش معك و يعاصر قضايا الحياة في تنوعاتها و امتدادتها المختلفة، و أنت لم تعش فكره و لا تطلعاته و لا اتجاهات العلم فيه، فكيف يمكن أن تتفاهم معه و تدعوه الي فكرك و قناعاتك؟! لذلك عليك أن تتعلم و تعرف - و أنت ابن العصر الحاضر - كل القوي و الاتجاهات التي تحاول أن تتحدي دينك فكرا و شريعة و منهجا و حركة. علي ضوء ذلك يؤكد الدين الاسلامي علي المعرفة و العلم كقيمة أساسية في الحياة [241] تدفع الانسان اليها و تحمل الانسان المسؤولية من خلالها، و تجعل الانسان يعيش في نفسه الشعور بأن الجهل لا يمثل عذرا للجاهل عندما يدفعه الجهل الي السير في المواقع التي تنحرف به عن خط المسؤولية الا اذا كان [ صفحه 152] الجهل مشكلة واقعية تنطلق من خلال العناصر التي تطوقه من كل جانب فتمنعه من أن يجد أية نافذة تطل به علي العلم [242] ، و بذلك يعتبر الاسلام العلم مسؤولية الانسان الجاهل الذي عليه أن يتعلم في كل ما أوكل اليه من المسؤوليات في المستوي الخاص و في المستوي العام، و هذا ما يشير اليه حديث الامام الكاظم الذي أوردناه في بداية حديثنا عن مسألة العلم، في قوله عليه‌السلام: «تعلم من العلم ما جهلت و علم الجاهل مما علمت». و هكذا نجد - كما يؤكد الكاظم عليه‌السلام - أن العلم مسؤولية العالم في أن يعلم الآخرين، تماما كما هي مسؤولية الجاهل في أن يتعلم لأن الجميع مسؤول عن التخطيط و العمل الدؤوب لبناء واقع الحياة الحضارية وفق مفاهيم و تصورات الاسلام، لذلك يجب أن ننطلق من موقع العلم في نظرتنا الي أي مجال من مجالات الحياة و الوجود في حركة مسؤوليتنا تجاه هذه الحياة، و من أجل أن نبني حضارتنا علي أساس العلم من حيث ما يمثله العلم من مسؤولية شاملة تنطلق بالانسان من معرفته لنفسه و معرفته لما حوله و معرفته لربه و معرفته لمسؤوليته عن كل مواقع الحياة، مما يجعل العلم يتحرك في كل جانب من جوانب الحياة التي يطل عليها الاسلام بحيث لا يرضي (الاسلام) لأي جانب من جوانب الحياة - ذاتيا علي صعيد الفرد و موضوعيا علي صعيد المجتمع و الأمة - أن يبقي غامضا في نطاق الجهل فمسؤولية الانسان هي أن يفتح كل النوافذ علي حضارة المعرفة و أن يستنفر كل طاقاته و قدراته من أجل المعرفة و العلم لتكون المعادلة: ان معني أن تكون انسانا، أن تكون عالما، و معني أن تكون مؤمنا أن تكون متحركا في آفاق العلم، و معني أن تكون مسؤولا أن تكون الانسان الذي يفتش عن المعرفة في كل موقع من مواقع المسؤولية في اطار بحثه للمنهج العلمي الرصين الذي يحكم حركته، و يخطط لكيفية الاستفادة من مساحات العمل و الابداع فيه، و الاسلام يؤكد - في مقابل المنهج العلمي في حركة التفكير [ صفحه 153] و العلم [243] - علي ضرورة اعتماد المنهج العقلي أيضا كأساس أولي للمعرفة، الذي يمكن أن يفتح أمام العلم و التجربة الكثير من الآفاق التي تطلق التجربة المحدودة في نطاق الحس الي نظرية شاملة عامة تتجاوز مواقعها لتحرك الفكرة من الخاص الي العام. لقد فتح المنهج العلمي و العقلي في الاسلام طرقا و سبلا لا حصر لها أمام الحضارة الاسلامية فاستطاعت، من خلال ذلك، أن تشارك في صنع العلم و ابداع النظريات العلمية و تطبيقاتها التقانية منذ بداية نشوئها، حيث تعهدت الدولة الاسلامية و أجهزتها الرسمية آنذاك - و بتشجيع من المجتمع ودعم من هيئاته كافة - العلماء بالرعاية و أنشأت لهم دور العلم الكبري. الي ذلك، فاننا نتساءل - في هذا المجال -: اذا كان هذا هو حال العلم و العلماء في عصر الحضارة الاسلامية الكبري، فما هي الأسباب التي أدت الي توقف هذا الابداع العلمي؟ من الطبيعي أن نقول - في اجابتنا - بأن هناك أسبابا سياسية و اقتصادية و اجتماعية [244] و كذلك [ صفحه 154] فكرية [245] ، لكننا نجد أن السبب الأساسي - فيما يبدو و يظهر من خلال متابعتنا و استقرائنا لحركة الواقع العلمي التاريخي عند العرب و المسلمين - لكل هذا التخلف العلمي الذي نعيشه حاليا، قد ارتبط منذ ذلك العهد بابتعادنا عن الاجتهاد في فهم حركة الدين الذي يشكل أحد القوي الدافعة و المحركة للابداع في عالمنا الاسلامي، حيث أدي اغلاق باب الاجتهاد الي ضعف و انحطاط علمي و فكري كبيرين ما جعل العلماء، في بقية التخصصات، تتخاذل عن البحث و العمل، اذ أن ازدهار علوم العقل كل لا يتجزأ، فالتخلف عن ركب التقدم العلمي في أي علم من العلوم دينية كانت أو رياضية أو طبيعية أو اجتماعية أو انسانية يشير الي اختلال منظومة التقدم الحضاري ككل، و ليس أدل علي صحة ما نقول الا النظر في تاريخ الحضارات قديمها و حديثها، فسنجد أن مظاهر التقدم تتكامل كلها حينما تتوافر لها البيئة و المناخ الملائمان [246] لعل من أهمها - كما ذكرنا - ضرورة توفير المناخ السياسي الملائم للابداع و الحداثة العلمية و الاقتصادية، باطلاق حريات الأفراد و توفير امكانيات المشاركة الفعلية أمامهم، سواء كانوا من العلماء النظريين أو من الفنيين، أو من العمال، أو من [ صفحه 155] المتلقين و عامة الشعب، فملاحم التقدم في تاريخ البشرية ترتبط حلقاتها و تتسع لجهود الجميع، حكاما و محكومين، في مناخ من المساواة و الحرية و الأمان الجماعي و الحس الوطني الواعي [247] و لعلنا نجد أن تخلفنا و اعاقة تقدمنا و تطورنا في ابداع و صنع حداثتنا، يعود - بالدرجة الأولي - الي و هن استراتيجيات التحديث، و عدم فاعليتها، و عدم اتساقها، لأن الأصل في التطور و الحداثة بناء استراتيجية حقيقية لتعظيم الاستثمارات العلمية و العملية الجدية في كل ميدان: تكوين رأس المال الاقتصادي و العلمي و التقني و الفكري و الروحي، و تحرير الشعوب و الجماعات و الأمة من الخوف و الاستلاب و الجمود و الضعة و الأمعية و الاقتداء و الاستزلام و المحسوبية و الشعور بالصغار و الدونية. و من أجل ذلك، و في سبيله، توسيع دائرة فعل هذا الاستثمار و ضمان استمراره و نجاعته، و كل ذلك يتناقض مع ما شهدناه من ممارسات و سياسات مطبقة من قبل النخب الضعيفة التي سيطرت علي مقاليد الأمور و حولت الاستثمار (العلمي و الاقتصادي) الي مراكمة للثروة الشخصية، و بناء الجماعة الحية الي تجديد لعلاقات العبودية و السخرة، و تكوين رأس المال العلمي و التقني الي دعايات فظة لعقائد و شعارات هزيلة جوهرها تقديس الذات و عبادة الحاكم، و تحقيق الاندماج الاقليمي العربي الضروري الي استهلاك ممجوج لعقيدة قومية مخشبة توظف لترسيخ القطيعة بين البلدان بدل تشجيعها علي الانفتاح علي بعضها [248] .

الرفق و اللين

اشاره

يقول الكاظم عليه‌السلام: «عليك بالرفق، فان الرفق يمن و الخرق شؤم، ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر الديار و يزيد في الرزق» [249] و يقول عليه‌السلام لبعض أصحابه و قد دار بين أحد الرجال و بين أشخاص آخرين نزاع عنف فيه هذا [ صفحه 156] الرجل، فقال عليه‌السلام: (فارفق بهم، فان كفر أحدهم في غضبه، و لا خير فيمن كان كفره في غضبه) [250] ، و قال عليه‌السلام «الرفق نصف العيش» [251] . يعتبر مفهوم الرفق من المفاهيم الأخلاقية الحركية التي تنفتح علي الجانبين الايجابي و السلبي، و لأكثر من موقع و رؤية في حياة الانسان و المجتمع في خط الدعوة بأسلوبها العملي و في مواجهة المشاكل و التعقيدات التي تحدث بين الناس، و نلاحظ أن الكاظم عليه‌السلام يحدثنا عن الرفق كقيمة اسلامية رائعة يمكن أن تجعل الانسان قريبا الي الله و الي الناس من خلال وعيه و التزامه بالمبادي‌ء التي توصله الي الكمال الممكن له، لأن الرفق اذا كان ملكة راسخة في عقلك و قلبك، و حركة واعية في حياتك و أسلوبك مع الآخرين، فانه يعطيك الخير كله و السعادة كلها في الدنيا و الآخرة و علي ضوء ذلك، نجد أن مسألة الرفق و العنف لدي الامام الكاظم عليه‌السلام من المسائل التي تتسع لطريقة الانسان في تكامله الاجتماعي مع الناس الآخرين في توعيته لهم ثقافيا و اجتماعيا، كما نلحظ ذلك في قوله «فارفق بهم»، أي أن تعمل علي أساس أن تدرس عقليتهم و وعيهم فتعطيهم من عقلك بما يتناسب مع وعي عقلهم، و أن تدرك ثقافتهم فتعطيهم من ثقافتك الأسلوب الذي يمكنه أن يستوعب هذه الثقافة، فلا تفقد نفسك أمامهم، و لا تفقد مستواك معهم، ولكن حاول أن تتعامل معهم تعامل الانسان الذي يريد أن يصعد بالانسان الآخر الي مستواه برفق و أناة و عطف و حنان. فكلمه «الرفق» هنا تختزن في داخلها معني هذا العطف الذي ينفتح فيه انسان علي انسان ليفهمه ويعيه و يؤصل معه علاقات الانسانية في التعامل و الصحبة و المعيشة. و طالما أننا نتحدث عن الرفق بمعناه الاجتماعي، فاننا نجد ضرورة في التطرق الي قضية الرفق و العنف بالمعني السياسي و الحركي في اطار الواقع العالمي الراهن، الذي يعمل فيه الاستكبار العالمي علي محاصرة الاسلام و الحركات الاسلامية و تشويه صورتها، بأنها مجرد حركات دموية تستخدم [ صفحه 157] العنف و القوة من أجل الوصول الي مصالحها و تحقيق غاياتها الخاصة، كذلك الايحاء بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة في حركيتها السياسية، كخصوصية مميزة لنشاط الاسلاميين. و كان العنوان الجديد الذي حاول الاعلام الاستكباري الداخلي و الخارجي تحريكه ضد الاسلاميين هو عنوان «الأصولية»، كمفهوم يختزن في مضمونه الداخلي فكرة العنف و الغاء الآخر، و ذلك من خلال التجربة السياسية و الفكرية و التاريخية الغربية التي عاش فيها بعض الناس هذا الاتجاه، و من هنا انطلقت كلمات «التعصب» و «التطرف» و «الارهاب» في أجواء العنوان الأصولي لتلتصق به، و هو يوحي بذلك بأسلوب أو بآخر، لستهلكها الجو السياسي و الاعلامي الداخلي و الخارجي كمصطلحات سياسية يؤكدها (و يغذيها) الصراع بين الأنظمة و الاسلاميين. و تنسب [252] اليهم الكثير من الأعمال البعيدة عن التوازن الأخلاقي، كما لو كانوا وحوشا تتحرك ضد الثقافة و العلم و المجتمع في عملية حقد دفين ثائر علي كل عناصر التقدم و الرقي و الابداع و النظام المدني الانساني العام، و يتم ذلك في غياب الامكانات الاعلامية الواسعة لدي حركة الاسلاميين بالمستوي الذي تتولي فيه الدفاع عن الواقع الذي تعيش فيه دائرة الصراع، الأمر الذي جعل الأنظمة و حلفاءها الأوليين يمارسون القمع الأمني و الاعلامي و السياسي ضد الحركة الاسلامية هنا و هناك في نعتها بالارهاب [253] و قتل الأبرياء و الاعتداء علي [ صفحه 158] الناس، و هذه هي مشكلة الغربيين في ادارتهم السياسية أنهم يعتبرون طالب الحرية ارهابيا فيعتبرون مثلا، المجاهدين في جنوب لبنان الذين يقاتلون جيش الاحتلال الاسرائيلي، ارهابيين (مخربين) كما و يعتبرون الذين يدافعون عن أنفسهم ضد عنف المستكبرين و الظالمين ارهابيين اننا نؤكد - في اطار تحليلنا لمفهوم الرفق و العنف في المعيار القيمي الاسلامي - أن اللين و الرفق هو القيمة الاسلامية الأعلي من العنف لأنه هو الأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحل، اضافة الي كونه الأسلوب العملي الناجح في المجال السياسي في تحويل الأعداء الي أصدقاء، و ذلك من خلال الآية الشريفة: (و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و ما يلقاها الا الذين صبروا و ما يلقاها الا ذو حظ عظيم) [فصلت/ 35 -34]، و كما جاء الحديث الشريف: «ان الله رفيق يحب الرفق و يعطي علي الرفق ما لا يعطي علي العنف» لكن العنف - حسب ما نعتقد - أسلوب اضطراري و استثنائي، و قد يتحول في ظروف معينة الي أسلوب طبيعي، تفرضه طبيعة الحياة في صراعاتها و مشاكلها و تحدياتها، التي تلقي عليك بثقلها بالمستوي الذي يلغي وجودك أو يسقط قضيتك، أو يصادر حريتك بالكامل من دون أن يفسح لك المجال في التماسك لتفكر، أو لتتوازن، لتناقش أو لتحاور، فلا يبقي أمامك الا أن تقوم بعملية وقائية لتربك وضعه، و لتهز مواقعه، و تسقط خططه، أو عملية دفاعية تحفظ بها موقعك و موقفك، و تملك بها قرارك، و هذا أمر لا يختص بالاسلاميين فقط، بل يؤمن به كل الناس الذين يملكون بعض مواقع القوة في الحياة. ان العنف مرفوض، كقيمة طبيعية، لكنه مقبول بل [ صفحه 159] و مطلوب كمبدأ استثنائي. من هنا نجد أهمية أن تعي الحركة السياسية الاسلامية - في سلوكها الاسلامي - و سائل تركيز و تأصيل المنطق الحضاري الاسلامي في أساليبه و أهدافه و مناهجه و علاقاته، فيلين حيث تحتاج الوقائع الي لين، و يعنف حين تقتضي الحالة العنف، و يقيم علاقاته - سلبا أو ايجابا - علي أساس المصلحة الاسلامية العليا في حركة الانسان في الواقع، من خلال الدراسة الدقيقة التي تفرض علي السلوك الاسلامي أن يقطع أو يصل، علي ضوء الحدود التي ينبغي الوقوف عندها أو تجاوزها، و يثير المسألة ما بين الحسم و المراوحة و المرونة و الرفق و الحدة تبعا للظروف الموضوعية التي تحيط به فيما هي طبيعة الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة. و الملاحظ، ضمن هذا النسق، أن الحديث عن مسألة السلام، و مسألة القوة و العنف كشي‌ء لا ينسجم مع الحياة و لا يلتقي بوجودنا فيها قد زاد في الآونة الأخيرة خاصة بعد أن دخلنا أو أدخلنا في جو التعب و السكون و الاسترخاء، حيث ظهرت علي السطح الاعلامي هنا و هناك مفردات و صيغ كلامية من قبيل اللين أو التسامح و التساهل و المحبة و الرفق أطلقوها في دائرة المطلق من فكرهم و واقعهم، اننا نقول لهؤلاء و لغيرهم - ممن حرك تلك المفردات أو تحرك في هذا الجو بوحي ذاتي أو خارجي -: ان العنف و القوة أو اللين و الرفق هي قيم و أشياء ذاتية لا تلون الحياة بلونها الخاص و لا تصبغها بصبغتها المطلقة، لذلك عندما يكون العنف هو الوسيلة الوحيدة لحماية الحياة و القيم، فهل يكون العنف شيئا ضد الحياة و ضد القيم؟! و بمقابل ذلك عندما يكون الرفق في حركة الحياة سقوطا للحياة و رهنا للقيمة، هل نوافق علي سقوط الحياة و القيمة معا؟!. و لمزيد من الايضاح نطرح الأسئلة التالية: تري ما الذي يفعله الانسان الفرد، أو الجماعة، أو المجتمع السياسي (و الدولة) اذا هوجم من قبل قوة مسلحة معتدية من قبل دولة أو جماعة أخري انتهكت حرمة أراضيه و عرضت حياته أو حريته أو أمواله أو كرامته للعدوان و السيطرة؟ ما الذي يفعله المجتمع [ صفحه 160] السياسي و الدولة (مثل دولنا العربية الاسلامية) أمام دولة أخري معتدية علي أراضيه، مدججة بالسلاح، تدعي التفوق العنصري و تريد أن تفرض ارادتها و سلطتها و وصايتها و تهيمن علي شعوب المنطقة بأكملها من خلال مشاريعها العسكرية الأمنية و السياسية و الاقتصادية، هل يدافع هذا الانسان أو الجماعة أو المجتمع أو الدولة عن نفسها ضد المعتدي الغازي، أو تستسلم و تخضع و ترهن وعيها و ارادتها، و تسلم اليه مقاليد أمورها معترفة بدعواه تحت شعار «حب السلام و الرفق و رفض و الحرب و استخدام القوة» فهل يكون هذا الموقف حكيما و نبيلا و أخلاقيا؟ أو ما هي هذه القيمة الأخلاقية لهكذا سلام ان صحت تسميته سلاما؟ و اذا ما انطلقت الأمة أو المجتمع للدفاع عن نفسه و محاربة المعتدين عليه و الغازين لوجوده، فهل يكون قد قام بعمل غير أخلاقي؟ هل يكون دفاعه عن نفسه - من الناحية الأخلاقية - عملا شريرا و رذيلة ينبغي أن ينزه الانسان نفسه عنها؟ ما هي القيمة الأخلاقية لوضعية تلغي الكرامة الانسانية و تحول الانسان الي عبد ذليل، و تحول الأمة الي مجرد أمة مستعبدة و مهانة؟!. لقد أردنا، من خلال كل تلك التساؤلات، أن نعمل علي فتح آفاق و معالم جديدة لمسألة العنف و اللين أو الحرب و السلم، و نحاول اضاءتها من جميع جوانبها في الوقت الذي يعمل فيه اعلامنا العربي و الاسلامي - المنفعل بالاعلام الغربي و الصهيوني - علي استخدام مصطلحات سياسية و أمنية و ترويجها في أخباره و برامجه المختلفة تعكس، من خلالها، حركية القيم الأخلاقية في مسألة العنف و القوة ورد العدوان بطريقة سلبية توسس لمفاهيم و تصورات جديدة في حركة الواقع ليكون الاستسلام هو القيمة الأخلاقية المطلوبة و المرغوبة، و الحرب و العنف هو القيمة غير الأخلاقية المرفوضة، لذلك علينا ألا ننفعل بالاعلام، و أن ننهزم أمام الضراوة الشديدة للماكينة الاعلامية الغربية، التي تحاول أن تركز في واقعنا بعض المصطلحات من أجل أن تحاربنا بها و لتمنع الناس، من خلالها، أن يكون لهم حريتهم، من أجل أن يكون لهم استقلالهم و ليحركوا طاقاتهم و ثرواتهم في خدمة مستقبلهم و رخائهم و حياتهم. طبعا لا نريد القول بأن علينا أن نغيب في الفراغ و نضيع في التجريد [ صفحه 161] و نستغرق في الخيال و الأحلام، لنعيش بعيدا عن الواقع، ولكنني أريد أن أقول: بأنه علينا في كل شعار من الشعارات - أن نكون الواعين جيدا و المتيقظين جيدا، و المتابعين جيدا، لأن المسألة هي أننا اذا لم نفهم جيدا عمق قضايانا، و لم نفهم جيدا طبيعة المستقبل الذي نفكر فيه و نحلم به، فاننا قد نواجه مشكلة أننا نتحرك نحو الهزيمة بارادتنا و اختيارنا، من حيث انه يخيل الينا و كأننا نتحرك نحو النصر الحتمي، من هنا نؤكد و نصر علي أن القوة و العنف الذي نستخدمه في حركية المواجهة المتصاعدة مع أعدائنا - خاصة الكيان الصهيوني - هو خيار استراتيجي، لا بديل له، ضد المحتل الغازي المستبد حتي يزول احتلاله للأرض و اغتياله للشعب. ان رد العدوان ليس حقا للمعتدي عليه، و انما هو واجب مقدس، يتمتع بأعلي المميزات الأخلاقية، و التخلي عنه هو انحطاط في القيمة الانسانية و هو عمل غير أخلاقي، من هنا نحن نعتبر أن استخدام القوة و العنف و بالتالي شن الحروب (التي هي بذاتها ظاهرة شريرة و أليمة و مفجعة) هو عمل أخلاقي و قيمة أخلاقية، (بل و ضرورة أخلاقية) عليا، عندما يستهدف بلوغ غايات نبيلة و خيرة و سامية في الدفاع عن الأرض و الوجود و الهوية و الثروة و الكرامات و الحريات، و دحر كيد المعتدين و الغازين. ان الاسلام يوجب علي المسلم العنف الدفاعي (الحرب الدفاعية)، و يعتبر أن التخلي عن الدفاع خيانة و معصية كبري، و يحرم عليه الاستسلام و الخضوع للطغيان و العدوان بحجة ضرورة المحافظة علي الأمن و السلام و اللين، لأن الأمر في هذه الحالة ليس سلاما (فالسلام - كما قلنا - ليس مجرد عدم الحرب) و انما هو استسلام و خضوع للطغيان، و هو مناقض لأبسط مقتضيات الانسانية و ليس له أي مبرر عقلي أو أخلاقي عند أحد من البشر. ان مجرد عدم الحرب كنتيجة للاستسلام للمعتدي، و نتيجة للخضوع للطاغوت، ليس سلاما أو لينا أنه حرب و حركة عنف مستمرة من طرف واحد طاغ و شرير ضد طرف مستسلم «غير مسالم». ان الأمر الأخلاقي المشروع الوحيد، في هذه الحالة، هو الدفاع ضد المعتدي و ضد طغيانه ما دامت هناك [ صفحه 162] امكانية للانتصار، أو لرد العدوان بأية درجة ممكنة، فهذا الموقف موافق لحقيقة السلام و الرفق دون الاستسلام و في هذا المجال، و طالما أننا نتحدت عن موضوع السلام و الحرب أو اللين و العنف فانه يمكننا أن نمر سريعا علي واقع السلام المزعوم بين العرب و اسرائيل [254] الذي تعمل دوائر الغرب و أمريكا و مواقعهما المتقدمة (الطابور الخامس) في بلداننا العربية و الاسلامية علي تصويره و كأنه سلام العدل و الحرية و المساواة، في الوقت الذي تناسي فيه الجميع تقريبا ان الكيان الصهيوني «شرطي الغرب في منطقتنا» كيان غاصب للأرض و المقدسات، لا يزال يعمل ليلا و نهارا دون كلل أو ملل - بدعم و سند أميركي و غربي واضح، و بمساعدة مباشرة من بعض الأنظمة العربية - علي تركيز كيانه اليهودي في قلب الأمة العربية بعد الغاء كامل لهوية المنطقة العربية و الاسلامية، و السيطرة التامة علي ثرواتها و مقدراتها لكي تصبح، فيما بعد، (و البعيد عند الصهاينة قريب جدا بالعمل و المتابعة و الجهد) عصب منطقة «الشرق الأوسط» [255] و دماغها المفكر و حكومتها المركزية في النظام الشرق [ صفحه 163] - الأوسطي الجديد. لقد قدمت الأنظمة العربية - باستسلامها و خضوعها للعدو الصهيوني - استقالتها من واجباتها و مهماتها الوطنية و القومية و الاسلامية، و أضحي من الواجب المقدس علي الشعوب العربية و الاسلامية - بجماهيرها الواسعة و نخبها المفكرة و الملتزمة - أن تبادر، و هي عملت ذلك، من لحظتها الي تسلم عملية ادارة الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني و مشروعه التلمودي التفتيتي، و سيكون من نتائج هذا العمل - علي المدي البعيد طبعا - اصطدام الشعوب و التيارات الشعبية، المناهضة و الرافضة لعملية التسوية، مع أنظمتها الحاكمة المفلسة التي لم تتوان. بالرغم من هزائمها و انكساراتها المتلاحقة - عن ضرب التيارات بعضها بالبعض الآخر و تفتيتها و كسرها، لذلك يجب أن تعمل تلك القوي و الاتجاهات و الحركات النضالية و الجهادية. أولا - و قبل كل شي‌ء علي تفريغ تلك الاتفاقات من مضمونها أي تجويفها و جعلها «خاوية علي عروشها». و هذا الأمر لن يتحقق الا بالانتقال - في ادارة الصراع الداخلي و الخارجي - من سياسة الدفاع ورد الفعل الي سياسة الفعل و التأثير، و من سياسة التلقي و الخضوع و الارتهان الي سياسة المبادرة ضمن عمل منهجي مدروس و مخطط بوعي و حكمة، و عدم اصغاء (انصات) السمع كثيرا الي ما تحفل به ادارات الغرب السياسية من مصطلحات و مفاهيم سياسية [256] مختلفة تروج لها عالميا بهدف اسقاط روح المقاومة و الممانعة ضد مشاريع القهر و الاستلاب و الاغتصاب. [ صفحه 164]

ملاحظة حول واقعية الأخلاق و القيم الاسلامية

تتميز القيم الأخلاقية في الاسلام بكونها واقعية ترتبط ارتباطا مباشرا بالممارسة العملية للانسان، تخاطب مشاعره و أحاسيسه في أوضاعه الطبيعية المختلفة في الحياة ثم تحاول، بعد تنمية وعيه و ارادته، الارتفاع به الي المثل الأعلي من حركة القيمة و المبدأ، ذلك المثل الذي لا يقترب من خلاله الانسان الي ذروة الحتميات التي تعزله عن واقعه، ولكن من خلال دفعه الي تقصير المسافة الفاصلة بين القيمة كنظرية و القيمة كتطبيق، لأن القيم لم تصنع ليبلغها الانسان ولكن ليقترب منها، و لتكون له قواعد تحميه من الانحراف، و تحدد له خط السير الواقعي. ان المسألة التي يريد لنا الاسلام أن نحركها في كل التزاماتنا و مواقفنا العملية في الحياة هي أن نكون واقعيين [257] فيما نطلقه من أحكام و فيما نحركه من قضايا، لا بمعني أن تسقط الواقعية قيمة أخلاقية هنا و قيمة أخلاقية هناك، ولكن أن تكون هناك حدود و ضوابط لحركة القيم الاسلامية تنطلق من الوعي بحاجات الناس الطبيعية في الأرض، و التفكير بحجم طاقاتهم و قدراتهم و مواهبهم الذاتية، لأن القيمة عندما تكون مثالية (غير واقعية) فانها قد تشل حركة الانسان و تمنحه شيئا من الاسترخاء و السكون في فكره و سلوكه، ولكنها لم تستطع أن تنزل الي الواقع. علي هذا الأساس القيمة الأخلاقية نسبية حتي في الأديان، و لهذا يقول الأصوليون: «ما من عام الا و قد خص» لذلك لا يقل أحد اننا عندما نفتح المجال للكذب - في بعض مجالات عملنا -: أننا نحاول أن نهدم الصدق، بل اننا بذلك نحاول أن نحمي الصدق من الذين يستغلونه ليتحرك الصدق بعد ذلك، عندما تزول كل النقاط الطارئة، ليكون هو القاعدة، لذلك علينا ألا نثير القيمة الأخلاقية بطريقة مطلقة لنقف جامدين أمام التحديات التي [ صفحه 165] تقف أمامنا (و ما أكثرها حاليا) و لهذا قلت: ان قيمنا لا تقيدنا بل تمنحنا مساحة نستطيع فيها أن نملك حرية الحفاظ علي قضايانا الكبري من دون اسقاط القيم، ليكون الانسان، من خلال واقعية قيمه، صلبا أمام كل المتغيرات و الظروف الصعبة التي تحاول ارباكه و هزيمته. ان طبيعة التحديات الخطيرة التي تواجه حركة الاسلام المعاصر في وجوده و قيمه و انتمائه تفرض علي العاملين، في داخل الخط الاسلامي، التعامل مع الواقع في ظروفه و أدواته و أساليبه من أجل اتخاذ المواقف الواعية و المدروسة علي أساس مصالح الاسلام و المسلمين، و هذا هو الشي‌ء الذي يحقق للأمة تقدما نوعيا في طريقها نحو أهدافها العالية و الطموحة لأن الواقعية تمثل - في عقيدتنا - المنهج العملي الذي يعتمد علي العناصر و الوسائل العلمية المتحركة في ظرفها الطاري‌ء أو الدائم التي تجد لها مجالا في الحركة نحو الغاية علي صعيد الواقع، و علي مستوي الحاضر في المشاريع الحاضرة و علي مستوي المستقبل في المشاريع المستقبلية، بحيث تربط النتيجة بالمقدمات، و تتحرك الغايات من خلال الوسائل، فلا تكون الأهداف (أهداف الأمة) - في تصور المؤمنين به و الساعين اليها - قفزة في المجهول و حركة في المطلق، كما يفكر المثاليون الذين يطرحون الأفكار كما لو كانت في عالم آخر غير عالم الحس و الحياة، من هنا تكون واقعية الحركة في تنمية قوتها و تجديد امكاناتها و وسائلها العملية، و مراقبة الواقع من حولها لاكتشاف ثغراتها و نقاط ضغفه، و الانحناء مؤقتا، أمام العاصفة المجنونة ريثما تمر ليواصل، العاملون فيها (في تلك الحركة)، السير من جديد في الاتجاه السليم انه التفكير الواقعي الذي يعمل ضد الاستسلام للأمر الواقع المحكوم بجملة متغيرات طارئة لا تملك القدرة علي الثبات في عمق الحياة، و هو التفكير الذي ينطلق في تخطيط هادف دقيق متحرك علي أساس أنه يضع، في حساباته، الهزائم المرحلية كما يضع في حساباته الانتصارات، و هذا ما يمكن وعيه و دراسته في تجربة الأئمة عليهم‌السلام في طبيعة علاقتهم بخلفاء زمانهم الذين كانوا لا يملكون شرعية الحكم و السلطة، و تجربة الكاظم عليه‌السلام مع حكام عصره تمثل، في تصورنا، معلما بارزا علي طريق التفكير الواقعي المنسجم مع تطلعات و أهداف الاسلام الكبري التي حاول [ صفحه 166] الامام عليه‌السلام أن يثبتها في بعض المواقع لتنطلق المسيرة، فيما بعد، نحو العزة و الثبات بطريقة واقعية متوازنة. اننا نري، حاليا، و في خطوات كثير من العاملين للاسلام، ما يخالف تلك التوجهات و التجارب التي قدمها لنا الكاظم عليه‌السلام و غيره من أئمة أهل البيت عليه‌السلام من خلال أنهم (الاسلاميون)، و كما أكد الامام أكثر من مرة، يواجهون الساحة العامة بالأفكار غير الواقعية، و ذلك من قاعدة ايمانية عامة، تطرح الفكرة و القيمة الكبيرة بعيدا عن وسائلها الطبيعية في اطار ظروفها و ملابساتها الحقيقية، مما يجعل المسيرة ظنية تخمينية خيالية، تتجه الي الهدف (الذي لم تبلغه) فيما يشبه القفز في الهواء، و هذا ما يجعل القضية باقية في موقع التنظير، بعيدا عن حركة التطبيق، كما و يساهم - في أكثر من مجال - في تعبئة الأفكار بالمفاهيم و التصورات الضبابية المستغرقة في أحلامها الوردية التي تقدم الصورة في اطار من الغموض و الابهام، الأمر الذي يفقد الساحة حيويتها و مرونتها و فاعليتها في وضوح الرؤية و واقعية الحركة. [ صفحه 167]

القواعد الأساسية لنظام القيم الأخلاقية و العلاقات الاجتماعية الاسلامية علي ضوء معطيات الفكر الاسلامي عند الامام الكاظم

يختزن معني العلاقة الاجتماعية، في داخله و ضمن نطاق حركة المسؤؤلية الفردية و الاجتماعية، مسألتي الحق و الواجب للفرد و المجتمع، لذلك يكون تعريف العلاقة الاجتماعية من خلال: أنها جملة الحقوق و الواجبات التي يترتب عليها بناء المجتمع الانساني في اطار الأخلاق و القيم الاسلامية باعتبارها مجموعة واجبات و سنن و آداب و حقوق و التزامات نوعية تنظيم حركة المسؤولية العامة بين الفرد و الجماعة الانسانية، مع تحديد مسبق لشكل و نوعية الارتباط و السلوك الانساني للجماعة بعضها مع البعض الآخر، من خلال الموازين و الضوابط و الحدود التي يعبر المجتمع بها عن فهمه و رؤيته للحياة الاجتماعية في علاقته مع نفسه و مع الآخر، كما و يعبر في الوقت ذاته، عن نظرة أخلاقية عامة للسلوك الاجتماعي تنطلق من خلال وجود رؤية كونية و فهم عقائدي للكون و الوجود و الحياة. أما بالنسبة الي القواعد و الأسس التي لا بد أن تقوم عليها هذه العلاقات و اتجاهاتها، فهي تمثل الخطوط الفكرية العامة التي توجه مسيرة العلاقات الاجتماعية باتجاه التكامل الذاتي لحركة الفرد و سلوكه، و التكامكل الاجتماعي لحركة الجماعة و مختلف نشاطاتها و فعاليتها ان اعتبار [ صفحه 168] التكامل الفردي و الاجتماعي من أهم الأهداف المركزية لمسيرة الانسان و ارتقائه نحو الله؛ يعطي الأخلاق و القيم الاسلامية دورا فعالا في هذه المسيرة، لأنه و في حالة عدم وجود ضوابط أخلاقية (قوانين الغرائز) تتحول العلاقات الاجتماعية الي قضية شكلية و آلية (ميكانيكية) شبيهة بالأعراف و التقاليد، حيث تصبح في معرض الانهيار و خطر التفكك عندما تتعرض البنية الاجتماعية الي الاهتزاز أو التغيير، كما يحصل ذلك فعلا في بعض حالات الهجرة و الانتقال من مجتمع الي مجتمع آخر، أو في حالات تعرض المجتمع الي الغزو الثقافي و الاجتماعي، أو تبدل الأنظمة السياسية، أو كما نلاحظ في المجتمعات الغربية التي تحولت فيها الأخلاق الي مجرد قوانين و أعرف دون أن يكون لها مضمون فكري أو معنوي يرتبط بالنفس و الروح و الوجدان [258] ، و دون أن يكون لها أساس فكري أو معنوي يربط مقدمات العمل الانساني بحركة نتائجه و أهدافه في امتداد الحياة. أما في الاسلام، فان تلك العلاقات الاجتماعية و النظم الأخلاقية تستند، بالدرجة الأولي، علي وجود المثل الأعلي (الله تعالي مطلق الكون و الوجود و الحياة) الذي يسعي الانسان للوصول الي بعض قيمه و خصاله بكل مسؤولية و انفتاح، من أجل أن تكون علاقاتنا الاجتماعية التي نمارسها في الحياة منطلقة من مسؤوليتنا أمام الله تعالي، كعلاقة لا نمارس فيها تقليدا من تقاليد انتمائنا الديني لنعبر عن حالة وظيفية تقليدية معينة نرتبط من خلالها، به سبحانه. و هذه هي مشكلتنا في التدين البارد و الجامد الذي يدفع الانسان ليتحرك من موقع التقليد في كل مفاصل و أركان حياته المادية و المعنوية. ان وعينا العميق لمسألة أن يكون الله تعالي هو مثلنا الأعلي المطلق في الحياة - كركيزة أساسية في البناء الاجتماعي و الأخلاقي الاسلامي تعطي كياننا الوجودي قيمة كبري في الحياة - هي مسألة تعني أن نفكر في سر وجودنا و أساس حركتنا، و نعتصم بحبله المتين. [ صفحه 169] يقول الكاظم عليه‌السلام: «و عليك الاعتصام بربك و التوكل عليه» [259] و يقول عليه‌السلام أيضا: «و لا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله و طاعته» [260] و هذا يجعلك، كانسان عابد، تشعر بالثبات في وجودك، و عندها ترفض أن تعيش عبثية الحياة، كما يعيشها الكثيرون، في سلوكهم و أنماط معيشتهم ممن استهلكوا العبث و الضياع و الحيرة و القلق، لأنك أحسست بمعني وجودك، و بارتباط هذا الوجود بالله. فأنت مسؤول عن عقلك بأن تغنيه بالخير و بالقيم الأخلاقية ليتفجر من داخل الفكر، و أنت مسؤول عن قلبك بأن تنتج منه عاطفة المحبة في تعاملك مع الآخرين، و أنت مسؤول عن طاقاتك و امكاناتك بأن تعطي الحياة طاقة جديدة، تفجرها في مواضع نيل رضا الله تعالي، في كل مشروع تقوم به و في كل موقف تقف فيه، و في كل موقع يكون فيه للمسؤولية معني بعظمة الله، في ساحة الحياة. و بالاستفادة من ذلك، لا بد و أن تعمل علي عقلنة عواطفك و توجيه انفعالاتك التي تطرأ علي ساحة الاحساس و الشعور لديك، بسبب تفاعلك مع الأحداث و مشاهدتها، و تفاعلات آثارها و نتائجها، التي قد تقودك الي الانحراف و الزيغ و اتباع الهوي اذا لم تحكم عقلك، و تركز و عيك، يقول الامام الكاظم عليه‌السلام: «يا هشام ان الله جل و عز حكي عن قوم صالحين أنهم قالوا (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب) [آل عمران: 7] حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود الي عماها ورداها [261] ، انه لم يخف الله من لم يعقل عن الله و من لم يعقد قلبه علي معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك الا من كان قوله لفعله مصدقا و سره لعلانيته موافقا، لأن الله لم يدل علي الباطل الخفي من العقل الا بظاهر منه و ناطق عنه» [262] . ان الغاية الأساسية، من ضبط العاطفة و تربيتها في جو اسلامي قائم علي أساس أن يجاهد الانسان نفسه و يسيطر عليها و يوجهها الوجهة الصحيحة و بما [ صفحه 170] ينسجم مع الحكم الشرعي و الأهداف الالهية المقدسة، هي تربية الارادة الانسانية و تنميتها و تقويتها بشكل يجعلها منسجمة، في فاعليتها و اختيارها، دائما مع العقل و حكم الشرع لأن الله تعالي جعل للعقل دورا أساسيا في حركة الانسان و توجيه ارادته نحو الصلاح و الرشاد. في تحقيق المصلحة النهائية للانسان. و قد ورد في حديث عن الكاظم عليه‌السلام أن الله قد خلق العقل ثم قال له: «أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله جل و علا: خلقتك خلقا [عظيما] و كرمتك علي جميع خلقي» [263] ، ان تركيز الاسلام علي ضرورة الالتزام بالنهج العقلي الحكيم و المتوازن - في سياق السلوك العملي لكل مفردات الواقع الاجتماعية و السياسية و الثقافية و الاقتصادية، في محاولة منه لضبط نزعات و عواطف و انفعالات الانسان - يقدم لنا منهجا علميا و موضوعيا في دراسة و تحليل حالات العصبية و الانفعال و التشنج التي تضج بها ساحتنا العربية و الاسلامية، و التي تطبع شخصية الكثير من العاملين للاسلام في هذه الظروف، مما أدي الي أن يأخذ العمل نفسه هذا الطابع (الطابع الانفعالي). و من الطبيعي أن تؤثر هذه الظاهرة علي مبادرات العمل و الانتاج و علي نوعية الرؤيا للواقع و الأشياء و الأشخاص، فيفقد العاملون وضوح الرؤية، و تختلط الصورة الحقيقية في العيون، و ترتبك الخطوات في الطريق، لأن الانفعال يغرق الشخصية في أجواء ضبابية، غارقة في السحر و الاغراء في جانب آخر، لأنه يتعامل مع الاحساس و الشعور و العاطفة، و لا يتعامل - غالبا - مع الفكر و العقل، مما يجعل للسرعة دورها الكبير فيما يصدره من حكم، و فيما يخلقه من انطباع، و فيما يتجه اليه من غايات، و بذلك يفقد الحكم حيثياته الهادئة المتزنة. و يغيب التركيز عن الانطباع في غمار الضباب. من هنا نجد ضرورة أن يتحرك الاسلاميون في الخط الثقافي و السياسي ليقدموا الاسلام الي الانسان المعاصر كخط فكري عاقل و مستنير يملك مذهبا واسعا في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع، بحيث تكون له رؤية منهجية واسعة عقلانية و دقيقة لكل الواقع الاجتماعي و السياسي الذي يتخبط فيه الانسان. [ صفحه 171] و لا يعود الاسلام مجرد فتاوي ضبابية متناثرة هنا و هناك، أو مجرد قيم حماسية انفعالية ليس لها أدني ارتباط ببعضها البعض أو بالواقع، مع العلم أن الثقافة الاسلامية قادرة علي أن تستجيب لتحديات العصر الراهن، و أن تخطط و ترسم للمنهج العملي، و أن تصنع كل المعالم و العناوين القدرة علي حل مشاكل الانسان علي كافة الصعد و المستويات. انها ليست مشكلة الفكر و المعرفة الاسلامية، ولكنها مشكلة العاملين و الدعاة الي هذا الفكر في وعيهم و في أسلوبهم و في ارادتهم.

پاورقي

[1] علي يوسف، التاريخ بين الواقعية و التوظيف و التقديس، (مجلة البلاد: 224 ص: 44).
[2] يمارس هذا الاتجاه، المتفشي بكثرة في واقعنا، أساليب و طقوس التقديس للنبي (ص) و للأئمة (ع) دون أي احترام للرسالة و قيمها و مبادئها... أي أنهم يقدسون الشخصية الي حد الغلو و التطرف، و بالمقابل يغيبون منهجها و دورها و رسالتها.
[3] نحن لا نريد، من خلال ذلك، أن نلغي الاحترام و التقديس للشخصيات التاريخية و ما له من فاعلية و تأثير في شحن النفوس و الهمم و اثارة العزائم و الارادات لدي الجماعات المختلفة في صناعة الحدث و المرغوب في حدوثه و انجازه، و هذا ما تأسست عليه المقاومة الاسلامية المباركة في لبنان التي استعادت بعض مقدسات التاريخ (بأحداثه و رموزه: كربلاء مثلا) لا للتعويض عن امكانات و اجتراح البطولة في مجتمع ساكن و خال من البطولات، ولكن لتهيئة التربة المناسبة لاحترام البطولة الفذة بالفعل في الظرف الصعب و القاهر و اتمام الحركة الفاعلة في خط البناء و التغيير، و قد نجحت هذه المقاومة الجهادية و الفكرية بجدارة حتي الآن، و أثبتت أنها أمل الأمة و رقمها الصعب المستصعب في زمن الاذعان و الهيمنة و الاستسلام.
[4] و هي طريقة «الثابت الموضوعي» التي تقوم علي أساس تحويل لغة التاريخ و أحواله العامة الي لغة حية متحركة، تستنبط من خلالها القواعد و السنن التاريخية المهيمنة علي مجريات الواقع و أحداث الحياة المتنوعة، علي صعيد ملاحظتها، و دراستها، و تحليلها، و تركيبها، و اكتشاف ضوابطها العلية و المعلولية كمرحلة من مراحل المسيرة الانسانية نحو أهدافها الكبيرة في الحياة. انها باختصار طريقة علمية معرفية تدرس التاريخ، برموزه و أفكاره و شخصياته، دراسة استقرائية غائية من خلال ايمانها بضرورة تنقية أجوائنا التاريخية من التراكمات الذاتية و الشعاراتية في أطار التعامل معها بلغة المنطق و العقل (لكل ظاهرة سببها الطبيعي).
[5] و ذلك من خلال ارتباطنا برسالته كطريق للارتباط بشخصيته الرسالية لتظل الرسالة قاعدة رئيسية للانتماء، و للمشاعر، و تحديد العلاقات في بدايتها و نهايتها....
[6] الأبواء: منطقة في الحجاز تقع بين مكة و المدينة، و فيها قبر آمنة بنت وهب أم النبي الكريم (ص).
[7] نحيل القاري‌ء الي مصادر أخري لزيادة الاطلاع و المعرفة مثل: سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني، و حياة الامام موسي بن جعفر لباقر القرشي، و مناقب آل أبي‌طالب لابن شهر آشوب، بالاضافة الي مراجع أخري مذكورة في نهاية الكتاب.
[8] نشير هنا الي أحد أبرز تلك المشاريع الخاصة، و لعله أخطرها، أعني به (مشروع السقيفة) الذي استطاع تثبيت زعامات قبلية تقليدية علي صعيد رئاسة الدولة، و قيادة الأمة في طبيعة القيادة السياسية، و علي مستوي واقع الناس و المجتمع في طبيعة العلاقة الناظمة بين الفرد و السلطة، و قد رأينا، من خلال ذلك، كيف عممت و سادت الروح القبلية التي حاربها الاسلام من دون هوادة، و تحكمت بمنطق و سلوك المتنافسين الأوائل علي زعامة الدولة الفتية و النزوع المقصود، لهم، نحو تقرير مبدأ انحصار السلطة و الملك بكل واحد منهم (من ينازعنا سلطان محمد، كما عبر عن ذلك أحد الخلفاء) و عدم السماح للآخرين بالتعاطي الايجابي مع الواقع من خلال حرية ابداء الرأي و المشاركة السياسية - و لو بالحد الأدني - في قيادة التجربة، و التأكيد علي المبررات الوراثية العائلية تدعيما لذلك التوجه غير المسؤول.
[9] الشهيد السيد: محمد باقر الصدر (رض)، بحث في الولاية، نقلا عن: الأئمة الاثنا عشر لعادل الأديب (ص: 8) بتصرف. [
[10] اشتعلت خلال تلك الفترة ثورات و انتفاضات شعبية عارمة معلنة التمرد و العصيان دخلت الدولة (دولة الخلافة و امارة المؤمنين) علي أثرها في أتون صراعات مسلحة ضد مركزية الدولة الظالمة.. (راجع: مقاتل الطالبيين للأصفهاني، تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي... الخ)....
[11] بقي الامام الكاظم (ع) مع أبيه عشرين عاما... منها خمس سنوات تقريبا في عهد الأمويين و أربع سنوات و نصف السنة في عهد السفاح العباسي، و تسع سنوات و نيف في عهد المنصور.
[12] قد يحتج علي هذا التوصيف الذي عاينا من خلاله (بحسب مصادر التاريخ الأساسية) تلك المرحلة الزمنية، موضوع دراستنا، علي أساس أنها لم تكن علي هذا المستوي من الاسوداد أو الخطورة المبالغ فيها في تصوير واقع حالهم... في تركيزي علي السلبيات دون الايجابيات... في الاجابة نؤكد لهؤلاء جميعا: أنه يكفي القاري‌ء العودة الي بعض المظان التاريخية الهامة ككتاب الأغاني، و كتاب مقاتل الطالبيين للأصفهاني، و غيرها كثير ليتضح له الحال، حال الأمة و حالة طاقاتها و ذخائرها و مقدراتها، أين ذهبت؟ و علي أي طريق سارت؟... و لماذا وصلنا، حاليا، الي هذا المستوي الخطير الذي ينذر بالكارثة علي كافة الصعد السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية، و من هو المسؤول عن حجم خسائرنا المادية و المعنوية؟ و متي يتوقف مسلسل الانهيارات و التراجعات و الانكسارات في جسم الأمة؟.. طبعا أنا لا أحمل الماضي بأشخاصه و رموزه كل المسؤولية، كما و لا أهرب الي الأمام لألقي و أوزع الاتهامات علي الآخرين... لكننا مسؤولون جميعا، في الماضي و الحاضر، رؤساء و مرؤوسين عن حيز كبير من هذا الفراغ و الانقسام السياسي، و التفسخ التاريخي الذي نشهده حاليا.
[13] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص 16) مخطوط.. (راجع بهذا الخصوص: مروج الذهب للمسعودي، تاريخ الطبري ج: 4، و الكامل في التاريخ).
[14] الأموية: ظاهرة سياسية جاهلة و منحرفة مقنعة بالزي الديني، و قانون قسري متسلط علي مفاصل الحكم الاسلامي، أقامت بنيانها علي أساس الغلبة و القهر و القوة و العدوان، و اتسمت بالتدين السلبي، أي استغلال الواجهة الدينية النقية و الطاهرة كستار و شعار للحفاظ علي مصالحها، و الوصول الي غاياتها و تكريس مواقعها الطغيانية الخاصة.
[15].
[16] نشير هنا الي أن البيت العباسي لم يضع أصول الدعوة و لم يبذر بذورها، و انما الظروف وحدها هي التي ساقت اليه قيادة نظام سري محكم له أجهزته و دعاته و أتباعه، فجنوا ثمارا زرعها بنو عمهم العلويون و ركبوا موجة المد الثوري، بعد طرحهم شعارا ذكيا، و قلبوا ظهر المجن للرواد الذين امتحنوا أشد المحن من أجل ارساء هذا النظام السري المحكم... (راجع الحركات السرية، ص: 66).
[17] سنتحدث لاحقا عن هذه النقطة بالتفصيل.
[18] دائرة المعارف الشيعية، دور الأئمة للشهيد السيد: محمد باقر الصدر، (ص: 96).
[19] البداية و النهاية (ج: 10 ص: 183) و تاريخ بغداد.
[20] دفن (ع) في مقابر قريش في الجانب الغربي من بغداد «مدينة الكاظمية» و عمره الشريف 55 سنة.
[21] هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الاثني‌عشر، (ج: 2)، (ص: 297)، بيروت 1986.
[22] عادل الأديب، الأئمة الاثنا عشر، دراسة تحليلية، (ص: 185)، الدار الاسلامية، 1985.
[23] راجع رجال الكشي (ص: 172).
[24] روي السيد ابن‌طاووس: أن أصحاب الامام موسي (ع) و خواصه كانوا يحضرون مجلسه و معهم في أكمامهم ألواح آبنوس و أمبال فاذا نطق بكلمة أو أفتي في نازلة بادروا الي تسجيل ذلك، و الاستفادة من العطاء العلمي الرصين للامام (ع). (راجع الأنوار البهية ص 91).
[25] جاء في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري «باب الولاية من الجائر» أن الامام الكاظم (ع) قال لصاحبه زياد بن أبي‌سلمي محذرا اياه من مغبة الدخول في سلك حكومة هارون: «يا زياد، لئن أسقط من شاهق فأتقطع قطعا أحب الي من أن أتولي لهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم».
[26] سيدرس هذا الموضوع لا حقا في الجانب السياسي من حياة الامام (ع).
[27] رجال الكشي، (ص: 367)، سفينة البحار (2 / 252).
[28] نحيل القاري‌ء الي بعض المصادر التاريخية التي نصت علي ذلك مثل: رجال الكشي و اتقان المقال للمرزا محمد، و الكني و الألقاب للقمي.
[29] هاشم معروف الحسني، سيرة الائمة الاثني عشر. م. س.
[30] يمكن متابعة توثيق أقوال و أخبار هؤلاء العلماء و الرواة في مظان و تصانيف اسلامية مشهورة كفهرست ابن‌النديم، و أعلام الزركلي، و رجال الكشي... الخ.
[31] أميز هنا بين لفظتين لكل منهما دلالة لغوية و حضارية الأولي كلمة «التراث» و أعني بها - في المفهوم الحضاري - مجموعة الآثار الثقافية و المعارف النظرية لشعب معين، كانت له مساحة عملية في التأثير و الفاعلية في ما مضي، فهو شي‌ء من بقايا الآباء و الأجداد لا يصلح للحياة في تطلعاتها الحاضرة و طموحاتها المستقبلية، أما الثانية فهي لفظة «الفكر» التي تعبر، في الوعي الحضاري، عن مجموعة المعارف و المناهج و المعايير و القيم التي تتقوم بها شخصية الأمة ثقافيا و حضاريا، و تدخل في صلب عقيدتها و عقلها و روحها و ضميرها الجماعي، و تعطيها دورها و حركتها في رحابة التاريخ و أنا أستعمل كلمة «التراث» هنا للدلالة علي الفكر الاسلامي دون أن أقصد بها موقفا فكريا معينا من المعرفة الاسلامية أي أنني أستخدم كلمة التراث لمجرد الدلالة اللغوية ليس الا.
[32] نحن لا نقصد، من خلال هذا التحليل، أن نحكم علي كل تاريخنا بأنه مجموعة أخطاء متراكمة لا تصلح أن تعيش في الحاضر و المستقبل... بل نريد أن نقول بأن هناك مواقع مضيئة الي جانب وجود مواقع مظلمة في تاريخنا الاسلامي... فهناك الكثير الكثير من التجارب الماضية المليئة بالصور الحكيمة و المشرقة و الناصعة التي تكبدت مجتمعاتنا من أجلها أنواعا شتي من الآلام و المصاعب، و تحملت كثيرا من الأهوال في سبيل الوصول اليها و الاهتداء الي بعض معالمها هنا و هناك، و بالمقابل فاننا نتصور أن حركة التاريخ الانساني ليس دائما علي صواب - كما يعتقد أصحاب الموقف التقديسي للتاريخ - لأن الايمان بصحة و قدسية التاريخ يلغي جميع العوامل المؤثرة فيه و يبقي الانسان، تبعا لذلك، خاضعا لمنطق الضرورة و الحتم كتاريخ الجماد و النبات و الحيوان.
[33] صائب عبدالحميد، اعادة كتابة التاريخ الاسلامي، مجلة التوحيد (86 / 176).
[34] كامل الزيارات (ص: 50 باب: 43).. ثورة الحسين في الوجدان الشعبي للعلامة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين (ص: 66 - 65).
[35] المناقب، ج: 2، (ص: 381).
[36] جاء في بعض المرويات أنه المهدي العباسي. و لا فرق - في نظرنا - بينهما لأن هذا العمل يمكن أن يصدر عن كليهما.
[37] نفهم من كلمة الكاظم عليه‌السلام في هذا المجال أن السيدة الزهراء (ع) عليهاالسلام عندما طالبت باعادة فدك، فلأنها كانت (و لا تزال) تمثل رمز و عنوان المطالبة بحق علي (ع) في الولاية، و لم تكن تمثل بالنسبة اليه قطعة أرض فقط.
[38] هذا الي جانب انتشار اتجاهات مختلفة من الزهد الكاذب و الرهبنة الخادعة.
[39] في هذا المجال يركز بعض الفقهاء و الوعاظ علي أهمية الرأي و القياس و الاستحسان و اتباع المصلحة الي حد قد يتجاوز كل نص، و يؤدي - أحيانا - الي دخول الفكر. الانساني الي ساحة التشريع الالهي، و هو خطر كبير، في حين يركز بعضهم الآخر - احتياطا علي دينه - علي حدود النص و الحديث الي حد أدي الي جمود خطير في حركة الفكر.
[40] الشيخ: محمد علي التسخيري، مؤتمر الامام الصادق (ع). (ص: 282).
[41] من قبيل أن للرسول شيطانا يعتريه... الخ.
[42] راجع الكتب التالية: خمسون و مائة صحابي مختلق، و عبدالله بن سبأ، و معالم المدرستين للمحقق العلامة السيد: مرتضي العسكري.
[43] الغدير، (ج: 5، ص: 290).
[44] الشيخ: محمد علي التسخيري، مؤتمر الصادق (ع)، (ص: 282). م. س.
[45] الغدير، 5 / 216.
[46] الغدير، 5 / 216.
[47] م. س، 5 / 216.
[48] م. س. 5 / 217.
[49] مؤتمر الصادق (ع)، م. س (ص: 283).
[50] بحارالأنوار (ج: 11، ص: 234).
[51] م. س (ص: 284).
[52] يقول عن ذلك الشيخ القرشي: «و فجر الامام الصادق (ع) ينابيع العلم و الحكمة في الأرض، و فتح للناس أبوابا من العلوم لم يعهدوها من قبل، و ملأ الدنيا بعلمه - كما قال الجاحظ - و نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان و انتشر صيته في جميع البلدان، كما أدلي بذلك ابن‌حجر» (راجع حياة الامام موسي بن جعفر (ع)، (ج: 1، ص: 76) نقلا عن رسائل الجاحظ للسندوبي (ص: 101)، و الصواعق المحرقة (ص: 120).
[53] سبق أن أشرنا في الفصل الأول الي أهم و أبرز تلامذة و أصحاب و رواة أحاديث و فكر الامام الكاظم عليه‌السلام، (راجع كتاب: الذريعة الي تصانيف الشيعة للشيخ آغا بزرگ الطهراني (ج: 6)، فهرست ابن‌النديم، الفهرست للشيخ الطوسي).
[54] تستلزم كل حركة أربعة أمور: المحرك، و المتحرك، و ما منه حركة، و ما اليه حركة.
[55] الطبرسي، الاحتجاج، (ج: 2 ص: 386).
[56] م. س، (ص: 387).
[57] الوسائل (ج: 18 ص: 23).
[58] وجع الحرية، (ص: 93) م. س، مخطوط.
[59] الكافي للكليني، (ج: 2 ص: 72)، (ط: 3)، دار الكتب الاسلامية، 1388 ه.
[60] م. س، (ج: 1، ص: 16).
[61] نبيل علي صالح، نورالولاية. مخطوط.
[62] الكافي (ص: 17) م. س.
[63] الكافي 2 / 470 م. س.
[64] م. س (ص: 471).
[65] علي محمد علي الدخيل، أئمتنا (ج: 2، ص: 57) (ط: 12)، دار المرتضي، بيروت: 1995، نقلا عن مهج الدعوات: 33.
[66] م. س (ص: 57) نقلا عن «المجتني من الدعاء المجتبي».
[67] الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء (ج: 4، ص: 267).
[68] أئمتنا، مصدر سابق، (ص: 56)، نقلا عن مهج الدعوات، ص 300.
[69] منتهي الآمال، (ج: 2، ص: 222).
[70] يريد (ع) العبودية لله.
[71] راجع المصادر السابقة، و سيرة الأئمة الأطهار للشهيد مطهري، (ص: 151).
[72].
[73] تاريخ بغداد: 13 / 28، كشف الغمة: 247، أعيان الشيعة: 4 ق 3 / 42.
[74] و هذا النمط السلوكي الروحي الراقي ليس ببعيد عنه عليه‌السلام باعتباره معلما فريدا و أنموذجا حيا للزاهد و العارف و العابد.
[75] وجع الحرية، م. س. (ص: 37).
[76] أعيان الشيعة 4 ق / 2 / 44، كشف الغمة: 243، تاريخ بغداد: 13 / 29.
[77] نهج‌البلاغة 3 / 81.
[78] سنتعرض لهذه النقطة بشكل تفصيلي عند حديثنا عن الحياة السياسية للامام الكاظم عليه‌السلام.
[79] أبومحمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، (ص: 301) مؤسسة الأعلمي، بيروت: 1974.
[80] م. س (ص: 301).
[81] م. س (ص: 301).
[82] م. س (ص: 293).
[83] م. س (293).
[84] تحف العقول، (ص: 290).
[85] م. س (ص: 293).
[86] م. س (ص: 292).
[87] انه الصبر الايجابي العملي الذي يتحرك فيه الفرد في خط العمل و الاصلاح و التغيير، (الصبر المتقدم و المتوثب).
[88] تحف العقول... (ص: 303).
[89] م. س (ص: 292).
[90] م. س (ص: 303).
[91] الغرب: مفهوم يشير الي فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية تستند الي التراث الاغريقي الروماني المسيحي ثم تراث النهضة الأوروبية و مختلف مكتسبات الحضارة التي تولدت في قلب الحضارة الأوروبية منذ عدة قرون، ثم شملت بعد ذلك قارات أخري تغربت بفعل تاريخ قسري اكراهي، تمثل في الهيمنة الامبرايالية بمختلف النتائج التي ترتبت عليه.
[92] أي من عصر النهضة حتي الثورة الفرنسية.
[93] Harold J.Lski, The Rise Of European Liberalism, (P:13 - 14).
[94] خصوصا و أن واقع الاتصالات العالمي الراهن (و المستقبلي)، الذي يمسكه الغرب بقوة، يزيل كل الحدود و يلغي كافة الحواجز، بحيث أنك اذا استطعت - من حيث المبدأ - أن تراقب الانسان و تمنعه من التعامل مع وسائل الاعلام حاليا (من تحفظنا الشديد علي سياسة المنع هذه) فان ذلك لن يحصل في المستقبل القريب أبدا.
[95] أي التدمير الشامل لحضارات الأنكا و الأزتيك، و قد حصل الشي‌ء عينه بالنسبة الينا نحن في العالم الاسلامي، و بالنسبة الي شبه القارة الهندية.
[96] أصبحت قضية التلوث البيئي من أخطر الكوارث التي تتهدد وجود الانسان و الحياة علي الأرض، و عند الفحص و التدقيق نجد أن المسؤولية الكبري عن هذا الوضع البيئي الخطير و المأساوي تقع علي عاتق العالم الصناعي الغربي، و علي هؤلاء الذين يمثلون الحضارة الغربية، لقد أنتج هؤلاء حضارة كبيرة من الدبوس الي الأقمار الاصطناعية و المركبات الفضائية المسافرة الي المشتري و المريخ و غيرهما، حضارة غالية الثمن وضعت تحت تصرف الذين يتمكنون من الاستمتاع بها فقط و شراء منتجاتها، فكانت المحصلة أن 5 / 4 البشرية يدفعون ثمن انجاز حضاري مادي لا يستطيعون شراءه أو التمتع به،. بينما خمس البشرية علي الأكثر يستمتعون بكل المنتجات لمجرد أنهم يستطيعون شراءها.
[97] نعطي مثلا قريبا جدا عن عقلية هذه الحضارة و هي تشن الحروب و تنشر الدمار و الخراب و الخوف و الرعب حفاظا علي مصالحها، أعني به حرب الخليج الثانية، التي شنها الغرب للسيطرة علي منابع الطاقة النفطية و الغازية في الخليج، في الوقت الذي نلاحظ أن شعوبا بكاملها تفتقر الي أبسط كمية من الطاقة لتشغيل معمل أو تسيير باخرة، بينما نجد بعض الدول الغربية تنفق مقادير ضخمة من النفط لتدفئة أحواض السباحة في بلاد باردة لمجرد الاستمتاع بالسباحة في أحواض دافئة، في حين أن ملايين البشر يموتون بردا لأنهم لا يجدون ما يتدفأون به أو يموتون جوعا لأنهم لا يجدون وسيلة نقل تنقل الطعام من مكان الوفرة الي مكان الحاجة، هذه هي بعض ملامح هذه الحضارة التي تزعم أنها عالمية، أو تريد أن تجعل نفسها أساسا لنظام العالم.
[98] أعني به الادارات السياسية الغربية.
[99] العلامة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين، مقدمة كتاب: «الحضارة و النظام العالمي، أصول العالمية في حضارتي الاسلام و الغرب»، للدكتور: علي الشامي، صحيفة السفير: 20 / 1 / 1994. [
[100] أقصد به ذلك الحشد الهائل من الشخصيات السياسية و الاقتصادية و الأمنية التابعة لأنظمتنا العربية و الاسلامية ممن تربوا في أحضان أصحاب المؤامرات و الدسائس الدولية، و عاشوا أجواء المخابرات المركزية الأمريكية و تربوا سياسيا من خلال تربية الغرب لهم و رعايته لهم و تحمله مسؤولية و صولهم الي هذا الموقع أو ذاك، أي هناك أنظمة تسيطر علي شعوبنا تمارس دور الحرس الاحتياطي للسياسات الغربية و الأمريكية بالذات.
[101] تهدف هذه المشاريع كاملة الي تكريس واقع الهزيمة و الهيمنة و الانكسار في عالمنا الثالث،. في أن يستورد و يستهلك حضارة و منجزات الآخر، و باختصار شديد: دفن أي أمل بامكانية نشوء مشروع نهضة عربية و اسلامية.
[102] حيث اننا نجحنا، خاصة علي صعيد أنظمتنا الحاكمة، في شكل و اطار التحديث، أي ربما نجح السياسيون، بهيئاتهم المختلفة، في أن ينقلوا لنا فنادق خمس نجوم، و شوارع معبدة، و أبنية جامعية و مدرسية حديثه، و مختبرات و منشآت و اعمارات مختلفة - اذا صح التعبير - ولكنهم فشلوا ذريعا في تكييف روحنا و ثقافتنا مع ما يلائمنا،. بل علي العكس لقد حاربوها و لا حقوها و صادروا كلمتها و موقفها، كما و حاولوا المجي‌ء بنسخة و جعلنا صورة سيئة (مشوهة) عنها، و قد فشلنا و الفشل يمتد الي كل مواقع المسلمين.
[103] لأن الغرب يقود ضد العالم الاسلامي حرب مصالح و مكاسب مادية لا حوار حضارات، أي مسألة المصالح الغربية التي تعيش الصراع مع مصالح العالم الثالث، انها حرب مصالح حقيقية. ان العالم الثالث، بما فيه العالم الاسلامي، يعمل علي أن يملك حريته السياسية و امكانات تطوير موارده الاقتصادية، و الحصول علي استقلاله الاقتصادي و الأمني، لكن الغرب لا يوافق علي ذلك. انه يريد أن يبقي أمن العالم الثالث علي هامش أمنه، و سياسته علي هامش سياسته، و اقتصاده علي هامش اقتصاده.
[104] لا يستطيع الغرب أن يحتفظ بمصالحه الا اذا استطاع أن يستشير الرأي العالم في داخله الي درجة متقدمة حادة من التوتر بحيث يملأ ذهنية مجتمعه و رأيه العام بالاحساس بخطر عدو قادم لكي يملك حرية الحركة في سياسته و اقتصاده و أمنه كما لو كان يدافع عن شعبه، و هذا ما لا حظناه قبل و أثناء حرب الخليج الثانية عندما أثارت أمريكا الرأي العام الأمريكي و الأوروبي ضد العراق، بينما نجد أن الكويت لا تمثل أي موقع يثير الاهتمام لدي الشعوب الغربية، ولكن المسألة أنه استطاع أن يثير مسألة آبار النفط و سيطرة صدام عليها و ما الي ذلك،. بحيث أصبح يفكر كل الأمريكيين و كل الأوروبيين بأنهم سوف يفقدون لقمة عيشهم، من هنان و بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لم يبق للغرب أي عدو، و هو بحاجة دائمة و ماسة الي عدو حتي يستطيع أن يبرر، لشعوبه، سياسته ضد العالم الثالث حتي يستطيع أن يحتفظ بمواقعه داخل هذا العالم، لذلك بات الاسلام حاليا عدو الغرب (بشهادة كبار سياسييه و مفكريه و نخبه) و هو يحاول تضخيم الحركة الاسلامية كما لو كانت تستطيع، الآن و في امكاناتها الحالية، اسقاط الحضارة الغربية.
[105] بدأت نظرية العدو البديل (و العدو الأخضر في اشارة الي الاسلام، كما قال ليفي كلاسي أمين عام حلف شمال الأطلسي) في الغرب، حيث بدأ برنار لوسي يتحدث عما أطلق عليه «صراع الثقافات، المسيحيون و المسلمون و اليهود في عصر الاكتشاف»، و هو كتاب صادر عن جامعة اكسفورد، ثم نشر صموئيل هنتغتون اطروحته «صدام الحضارات» Clash Of Civilzation في دورية Foriegn Affairs، ثم طور هذه الأطروحة في كتاب صدر مؤخرا، و يذهب هنتغتون الي أن «الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط لمعارك في المستقبل»، و يشير الي أن خطوط التقسيم الحضاري تحل محل الحدود السياسية و الأيديولوجية للحرب الباردة و يتحدث عن احتمال تحالف «كونفوشيوسي - اسلامي» في مواجهة الحضارة الغربية.
[106] لا نقصد من مصطلح الآخر هنا - الذي بات له استخدام واسع في بعض خطابات التطبيع الراهنة مع الكيان الصهيوني - اسرائيل و حركتها الصهيونية العنصرية، لأنها لا تمثل واقعا حضاريا متميزا يمتلك خصائص و محددات ثقافية و تاريخية متراكمة كميا و كيفيا، كما أنني لا أقصد من هذا المصطلح الأيدلوجية الصهيونية، لأننا نعلم جميعا أنها أيديولوجية القهر و الاحتلال و الاغتصاب و القتل و الطرد و الترحيل و التفوق العنصري و التوسع المستمر و الاستيطان و الاستعمار الاقتلاعي و حقن الأطفال بالايدز.
[107] السيد: محمد خاتمي، حوار الحضارات و صعوباته، صحيفة الحياة اللندنية: 11 / 7 / 1997.
[108] ساهمت ممارسات كثير من تلك الرحكات المسماة (اسلامية؟!) في مسخ و تشويه صورة الاسلام في المحافل الدولية.
[109] العلامة السيد: محمد حسن الأمين، أزمة الآخر في الانشطار بين المجتمع و مؤسساته الحاكمة، مجلة البلاد (عدد: 58) (ص: 46).
[110] لا أريد أن أتحرك مع أولئك الذين يفكرون ببساطة و سذاجة بأنه يكفي الأمة أن تنطلق من عقيدتها و مخزنها التراثي كحل و مفتاح سحري لتبني طموحها و مشروعها التنموي المتقدم، بل أؤكد - في هذا السياق - أن الأمور ليست بهذه البساطة بل هي علي درجة من التعقيد، لذلك و صفت و قلت بأن هذا الانطلاق نحو مواقع البناء و التحرر شرط ضروري لازم لكنه ليس كافيا.
[111] أعني بها حكومة السيد: محمد خاتمي.
[112] السيد: محمد حسن الأمين، م. س.
[113] لا يمكن لعملية النهوض و التغيير أن تنجح في مجتمعاتنا العربية و الاسلامية من دون أن تكتسب اطارا و مضمونا يعبر عن طموحات و آمال الأمة كلها في أن تركز طاقاتها و تحشد امكاناتها و قدراتها وفقا لمناهجها الأصيلة و متطلباتها النفسية و السلوكية و سياقاتها التعبيرية الحيوية لأن مواجهة الواقع الحالي المتخلف بكل مواقعه و امتداداته، و التخطيط للمستقبل الواعد لا يمكن أن يتم باطاره العام الهادف و المثمر الا اذا شاركت الجماهير، كل الجماهير، و الأمة، كل الأمة، في عملية صنع حقيقية عميقة و بنيوية للمستقبل، و استنفرت كل مواهبها في هذا الاتجاه، من خلال شعورها المتحرك بضرورة التغيير ضمن المركب الواعي الذي تؤمن به و تلتزمه في حركة الحياة.
[114] باستثناء بعض المواقع المضيئة و النيرة، و في مقدمتها المقاومة الاسلامية الجهادية و الفكرية و السياسية في لبنان، التي أراني مضطرا أن أعرج عليها، مثنيا و مادحا، بشكل متواصل.
[115] راجع: حياة الامام موسي بن جعفر (ع) لباقر شريف القرشي، مقاتل الطالبيين و كتاب الأغاني للأصفهاني، تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، و مناقب ابن‌شهر آشوب.
[116] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص: 25)، م. س. مخطوط.
[117] يقول عنه الفرزدق الشاعر في ديوانه (جزء: 2 ص: 137)، مصورا الجو المختنق الذي أحدثه الحجاج و أشعل نيرانه بين الناس: اذا ما بدا الحجاج للناس أطرقوا و أسكت منهم كل من كان ينطق ما هو الا بائل من مخافة و آخر منهم ظل بالريق يشرق و طارت قلوب الناس شرقا و مغربا فما الناس الا مهجس أو ملقلق.
[118] راجع: تاريخ الأدب العربي 2 / 10، و ديوان أبي‌الأسود (ص: 243)، و كتاب الأغاني للأصفهاني 21 / 33.
[119].
[120] جاء في كتاب شرح نهج‌البلاغة لابن أبي‌الحديد (ج: 3، ص: 15) نقلا عن الامام الباقر عليه‌السلام في وصف العهد الأموي: «ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني أهل البيت و شيعتهم - كل قتلة و أخذهم بكل ظنة و تهمة، حتي أن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحب اليه من أن يقال له أنه من شيعة علي عليه‌السلام».
[121].
[122] كان الامام الصادق يحذر العلويين دائما من التصدي لطلب الحكم و ادارة البلاد في ظل أجواء القمع و الفتنة التي كانت سائدة في الساحة الاسلامية، التي لم تصل فيها الظروف بعد الي مستوي اعادة الحق الي أصحابه «فالأمر لم يأت بعد» علي حد تعبيره عليه‌السلام.
[123] سيرة الأئمة الاثني عشر، لهاشم معروف الحسني 2 / 321.
[124] بحارالأنوار للمجلسي، 49 / 210، و تاريخ الخلفاء (ص: 102).
[125] راجع تاريخ الطبري 6 / 320.
[126].
[127].
[128] وجدنا - بعد الرجوع الي المصادر التاريخية المعتبرة - أن الحاكم المنصور كان يجوب كل أرجاء البلاد (بقراها و مدنها)، و ينشد مدحا بأميرالمؤمنين عليه‌السلام و ذكرا لمناقبه، و فضائله و مآثره، و كان الناس يوصلونه بالمال، و يمدونه بأسباب القوة و الدعم المادي؟!.
[129] راجع: كتاب عصر المأمون (ج، 1، ص: 93).
[130] راجع: تاريخ اليعقوبي 3 / 121، و تاريخ الطبري 319/9.
[131] راجع: تاريخ ابن‌الأثير 4 / 355، و تاريخ اليعقوبي 2 / 392.
[132] راجع أخبار الدول (ص: 113) نقلا عن (الأئمة الاثنا عشر) لعادل الأديب (ص: 189).
[133] تذكرة الخواص (ص: 359).
[134] راجع تاريخ الخلفاء، و تاريخ السيوطي، و أخبار الدول، و تاريخ ابن‌الأثير.
[135].
[136] راجع تاريخ الطبري، 10، ص 146)، و النزاع و التخاصم للمقريزي (ص: 52).
[137] يبدو أن الدافع الحقيقي وراء هذا التصرف الاجرامي من قبل المنصور، هو رغبته في أن ينهج الخلفاء من بعده نهجه و أسلوبه العنيف و القاسي تجاه العلويين و كل من يشكل خطرا علي عروشهم و وجودهم.
[138] راجع الحياة السياسية للامام الرضا للسيد: جعفر مرتضي (ص: 88).
[139].
[140].
[141] الحسني، سيرة الأئمة، (ج: 2، ص: 325)، م. س.
[142].
[143] راجع: الأغاني، مقاتل الطالبيين للأصفهاني.
[144] راجع كتاب الكافي للكيني، و سيرة الأئمة الاثني عشر (ج: 2، ص: 329)، م. س.
[145] لاحظ الخوف و الرعب النفسي من وهج الحق الذي كان يضي‌ء حياة أئمتنا (ع)، الخوف و الخشية الفطرية - اذا صح التعبير - الموجودة في كينونة أي انسان، انها نقطة الضعف التي تترصد الفرصة السانحة لتظهر، لأن الحاكم كان يدرك أنه علي باطل و أن الامام علي حق، فخاف من مجرد رؤيا رآها في نومه، فحاول من بعدها أن يثبت حسن نواياه تجاه الامام عليه‌السلام باطلاق سراحه.
[146].
[147].
[148].
[149] كتاب المأمون (مجلد: 1).
[150]، و هنا أنقل من تلك المصادر الرواية التالية عن لهو و عبث الرشيد و أعوانه من ولاة و وعاظ السلاطين: وقعت ذات مرة في نفس هارون جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، ان أباك قد طاف بي، لكنه شغف بها فأرسل الي أبي‌يوسف قاضية الشهير و الملقب «بفقيه الأرض و قاضيها!» فسأله هارون: أعندك في هذا شي‌ء؟ و جاءه الجواب: «أهتك حرمة أبيك، و اقض شهوتك، و صيره في رقبتي»، (لاحظ استعداد الفقيه السلطاني لاصدار أي فتوي ارضاء لشهوات الحاكم)، و قال الرشيد لأبي يوسف: اني اشتريت جارية، و أريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟! قال: «نعم! تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها!». (راجع تاريخ الخلفاء، ص: 286 - 284).
[151] راجع تذكرة الخواص لابن الجوزي، تاريخ المسعودي (ج: 2) سيرة الأئمة للشهيد مطهري، (ص: 143).
[152] انظر: سيرة الأئمة للشهيد مطهري، و سيرة الأئمة الاثني عشر: 2 / 150.
[153].
[154] كان هارون يحسد الامام موسي علي موقعه الاجتماعي و يشعر بالخطر منه، في كل لحظة، مع أنه عليه‌السلام لم يكن في مراده القيام بثورة أو بأي تحرك سياسي - كما قلنا سابقا - لكنهم هم (أنفسهم) شخصوا (كونهم علي باطل و الذي يكون علي باطل يشعر، بشكل دائم، بأن الواقع يهتز من تحته) بأن الامام قد أعلن ثورة عقائدية ضدهم.
[155] الشهيد: مرتضي مطهري، سيرة الأئمة (ص: 149).
[156] المناقب، ج 381،2.
[157].
[158] نلاحظ هنا أن هارون يعتذر، و كأنه يستطيع أن يكذب علي الله تعالي و النبي (ص)؟!.
[159] لا تزال هذه النغمة (الذريعة) سائدة حتي أيامنا الحالية في أوساط الحكام و القيادات في بلادنا العربية و الاسلامية، التي تتذرع دائما بالمصلحة العليا للبلد من أجل تحقيق مصالحها الخاصة في الرئاسة و الحكم و البقاء علي رأس السلطة و الوقوف في وجه كل من تسول له نفسه حتي في مجرد التفكير برفض الواقع القائم بوعيه و قلبه.
[160] راجع: ارشاد الشيخ المفيد، و تاريخ المسعودي (ج: 2)، و سيرة الأئمة، للشهيد مطهري (ص: 145).
[161].
[162] راجع المناقب (ج: 2)، و ارشاد الشيخ المفيد.
[163].
[164] المكاسب للشيخ الأنصاري (باب الولاية من الجائر)، و معجم رجال الحديث 9 / 122.
[165] عادل الأديب (ص: 193).
[166] راجع سيرة الأئمة الاثني عشر للحسني (ص: 322)، حيث أورد الكاتب هناك، نقلا عن مرويات مشهورة، حديثا عن هذه النقطة بالذات.
[167] رجع المناقب، و تاريخ ابن‌الأثير، و سيرة الأئمة للشهيد مطهري (ص: 149).
[168] الواقعية التي لا تعني السكون و الاسترخاء و الانهزام أمام الأمر الواقع كما هو، بل التي تعني تغيير الواقع بأدوات الواقع. الواقعية تعني أيضا أن تركز عناصر القوة في نفسك و أمتك، في سياستك و فكرك و اعلامك لتحمي نفسك و ترعي أهدافك و لتفرض، علي الذي يريد أن يضطهدك و يضطهد وجودك و يفترس أهدافك، أن يعود انسانا من خلال ضغطك عليه كوسيلة لحماية انسانيتك.
[169] المناقب (ص: 453).
[170] المناقب (ص: 453).
[171].
[172].
[173] تحدثنا عن هذه المسألة بالتفصيل عند مناقشتنا لدور الكاظم (ع) في حقل العقيدة الاسلامية و الدفاع عن القيم الاسلامية الأصيلة.
[174] عادل الأديب، الأئمة الاثنا عشر (ص: 194).
[175] أحد العاملين في حقل الاستشراق.
[176] راجع الحضارة الاسلامية (ج: 1، ص: 127).
[177] م. س، ص: 387.
[178] السيد عبدالله الغريفي، التشيع: نشوءه - مراحله - مقوماته (ص: 244) دار الموسم للأعلام - بيروت، ط: 2، عام 1991.
[179] المناقب، (ج: 2، ص: 381)، نقلنا هذا الحديث في موقع آخر من الكتاب.
[180] التشيع، م. س (ص: 268).
[181] قلنا سابقا: ان ذلك قد حدث مع علي بن يقطين فقط من خلال سماح الامام له بالدخول الي الجهاز الاداري لنظام هارون، و هو يلحظ بذلك مصلحة عليا للاسلام و المسلمين.
[182] قد يتحفظ بعضهم علي استخدامنا لهذه المفردة، لكننا نقول: انها زعامة فكرية و عقائدية و شرعية تتأصل بالاسلام و تنمو بنموه و امتداده في ساحة الحياة، و هي، من خلال ذلك، ليست زعامة تقليدية بالمعني السائد و المتداول هنا و هناك.
[183] ليس في الظروف المعقدة التي عاشها الامام الكاظم و انما في مستقبل الدعوة علي مستوي التكامل النوعي بين الأدوار و المواقف و الرؤي و الأهداف التي سعي أهل البيت الي تجسيدها و تنفيذها.
[184] طبعا هناك مشاكل و عقبات و تحديات و متغيرات ذاتية و موضوعية مختلفة تقف في وجه هذا الطرح المشروع علي الصعيد الذاتي و الموضوعي، درسنا بعضها في مباحث سابقة و سنقوم بدراسة و تحليل بعضها الآخر، لاحقا، في الباب الثاني من هذا الكتاب ان شاء الله، و ذلك علي ضوء و عينا و استلهامنا لتجربة الكاظم عليه‌السلام في حقل الفكر و التاريخ و العقيدة.
[185] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص: 105)، م. س. مخطوط.
[186] كامل الزيارات باب 50،43 و ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، (ص: 66،65). لسماحة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين (نقلنا هذا الحديث في مبحث سابق).
[187] السيد: عبدالله الغريفي، التشيع (ص: 245).
[188] نبيل علي صالح، وجع الحرية (ص: 106).
[189] العلامة السيد: محمد حسين فضل الله، صحيفة السفير اللبنانية، 27 / 5 / 1997.
[190] العلامة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين، صحيفة السفير، 27 / 5 / 1997.
[191] قوله تعالي: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، و هذا هو دور القصة أو الواقعة التاريخية - دور العبرة أو الدرس - الذي يمكن أن يستوحيه العاملون من التاريخ الماضي لمصلحة التاريخ الحاضر و المستقبل.
[192] يبدو أنه من الممكن أن نفشل و فق ما نشاهد و نقرأ و نحلل، طبعا ليس بسبب النظرية الانسانية الاسلامية، بل بسبب سلوك المسلمين و غياب (تغييب) ارادتهم وضعفها و ارتهانها للخارج.
[193] من قبيل ضرب الرؤوس و الأجساد بالسلاسل و الحديد، التي انطلقت من مبادرات شعبية استثارت عواطف الناس فقلدوها و تأصلت في واقعهم فأصبحت من المقدسات، حيث لا تزال قطاعات شعبية (و حتي نخبوية) كثيرة من الشيعة علي ممارستها بالرغم من صدور بيانات و فتاوي علمائية من أرفع مراجع المسلمين في العالم بتحريمها و ضرورة الابتعاد عن ممارستها لكن بعضهم يظن، واهما، أن تنقية و تهذيب الاحياء العاشورائي هو مس في المضمون الداخلي و العاطفي لعاشوراء، مع العلم أن تلك الأفعال و الممارسات لا علاقة لها بالشريعة و الاسلام لا من قريب و لا من بعيد، لأن الشريعة لا تقول لك: اضرب رأسك و اهدر دمك علي التراب، لكنها تقول لك، بمعني من المعاني، اذهب و تبرع بدمك للمحتاجين، و بذلك تقدم للناس صورة مضيئة عن الامام الحسين (ع) و تشاركهم، انسانيا، مشاركة حسينية واعية و ملتزمة.
[194] لأن الاعلام بات يشكل قوة أساسية في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم كقرية صغيرة.
[195] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص: 108).
[196] الذي ظهر من خلال ريادته الفكرية و الاجتماعية، و مواقفه و أفكاره المتحركة في مناظراته و أحاديثه التي تحدثنا عنها في موقع آخر من هذا الكتاب.
[197] السيد الغريفي، التشيع، (ص: 266). م. س.
[198] نبيل صالح، نور الولاية، (ص: 175).
[199] المكان الشاهق.
[200] الكافي ج: 1 (ص 110 - 109) نقلنا هذا الحديث سابقا.
[201] قمنا في موقع سابق من هذا الكتاب بدراسة و تحليل هذه الثورة و كيفية و عيها و استلهامها علي ضوء قضايانا المعاصرة.
[202] في اشارة الي حديث أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنه قال: ان رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، و بقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله و ما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس. و قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام: ان أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه، (وسائل الشيعة للحر العاملي، ط: دار احياء التراث العربي: 11 / 124).
[203] تحف العقول، (ص: 302).
[204] تحف العقول: (ص: 291).
[205] م. س (ص: 303).
[206] يعبر الوجود الذهني في داخل الانسان عن شيئين: الأول: الفكر، أي الذي يمثل جملة التصورات و المفاهيم المختزنة عن الهدف و الغاية. و الثاني: الارادة أي الطاقة الكامنة في ذات الانسان التي تحفز (الانسان) للحركة باتجاه الغاية في المستقبل.
[207] ان التفاعل و الامتزاج الوجودي بين الفكر و الارادة يحقق فاعلية المستقبل في تحريك النشاط التاريخي الانساني علي الساحة الاجتماعية و السياسية.
[208] الامام الشهيد السيد: محمد باقر الصدر (رض)، التفسير الموضوعي و الفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية (ص: 115).
[209] أي جهاد النفس و البدن.
[210] جهاد العدو الداخلي و الخارجي.
[211] تحف العقول...(ص: 294).
[212] يبدو أن تلك الصفات و الخصائص النفسية و السلوكية الخاصة، التي من الضروري أن تتسم بها شخصية الانسان المسلم، لا تزال غريبة و بعيدة المنال عن كثير من الاسلاميين المعاصرين الذين قد يكونون من الناس الذين ينظرون لهذه الأخلاق ولكنهم لا يعيشونها بعمق و وعي لأنهم لم يتربوا عليها؛ الأمر الذي يجعلهم يمتلكون مزاجا حادا و انفعاليا قد تتزايد حدته و وتيرته بفقدان هؤلاء للنضوج الحركي الناشي‌ء من التجارب التي تهي‌ء، للانسان المسلم الملتزم، الكثير من الأوضاع النفسية و الشعورية في ساحات الصراع و المعاناة.
[213] يجب ألا تمس المصلحة الثوابت المبدئية و الطروحات الأساسية (من قيم و مبادي‌ء و ضوابط معيارية و مركزية) لأنه يمكن اقامة نسيج من علاقات سياسية و من تحرير و عدالة و حرية و مقاومة العدو و مواجهة السياسات الخارجية التي تريد فرض هيمنتها علي الواقع العربي و الاسلامي، من هنا تعطي القيمة - التي تفهم في اطارها الواقعي المتزن - قوة للموقف العملي المتحرك علي أرض الواقع كونها جاءت لتخدم الانسان و لتساهم في تركيز و تثبيت انسانيته في الحياة البشرية و تعمل علي حمايته من نقاط ضعفه؛ الأمر الذي يجعل (القيمة) تعطي الانسان حرية الحفاظ علي قضاياه المصيرية الكبري من دون اسقاط المبادي‌ء و القيم نفسها.
[214] و ذلك من خلال العمل الدؤوب علي الدخول الي الهياكل المتنوعة للمؤسسات الديمقراطية من أجل الوصول الي مواقع متقدمة هناك ليسهل، من خلال ذلك، العمل علي تحريك قواعد النظام و الاتجاه السياسي فيه الي اتجاهات جديدة منفتحة تلتقي بالتطلعات الاسلامية للانسان، فيما تتحرك نحوه من تغيير لبعض آفاق و محاور الواقع المحلي و الاقليمي في افساح المجال للأجيال الطالعة أن تنمو في الاتجاه السليم، و مواجهة القوي التي تعمل علي اضعافها و تحجيم مواقعها.
[215] اننا عندما ندرس الكاظم عليه‌السلام في مرحلتنا الراهنة، التي نعايش مفاهيمها و تلوناتها و اختلافاتها، فاننا نريد أن ندرس طبيعة الخطوط الفكرية التي أرادنا عليه‌السلام أن ننطلق باتجاهها، و نستهدي بها علي خط الله تعالي و رسوله صلي الله عليه وآله و سلم و الأئمة عليهم‌السلام لأن دورنا كأمة و أفراد و مجتمع في علاقتنا مع فكرنا و مع أئمتنا، هو دور الأمة التي تعيش مع أهل البيت عليهم‌السلام في امتداد حركتها في الحياة، و في تصوراتها الفكرية و المفاهيمية، و في علاقاتها بكل المسؤوليات التي تتحملها، و في معرفتها العميقة بالقيم الاسلامية.
[216] نبيل علي صالح، وجع الحرية (ص: 114) م. س.
[217] يراجع بهذا المضمون: المحجة البيضاء للفيض الكاشاني (ج: 4، ص: 266) و ما بعدها، و الفصول المهمة، و مناقب آل أبي‌طالب لابن شهر آشوب، و كشف الغمة، و بحارالأنوار (ج: 6، ص: 66) و ما بعدها، الخ.
[218] سمي كذلك لأنه كظم الغيظ و صبر علي ما أحيط به من البلاء، و في رواية ابن‌الجوزي في تذكرته أنه سمي الكاظم لأنه كان اذا بلغه عن أحد سوء بعث اليه بمال يغنيه.
[219] الارشاد للشيخ المفيد (ص: 277).
[220] الارشاد للشيخ المفيد، (ص: 278).
[221] ابن‌طلحة، مطالب السؤول (ص: 83)، نقلا عن المحجة البيضاء للفيض الكاشاني (ج: 4، ص: 266).
[222] تاريخ بغداد 13 / 31.
[223] م. س.
[224] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص: 49) مصدر سابق.
[225] تحف العقول، (ص: 302)، م. س.
[226] العلامة السيد: محمد حسين فضل الله، فكر وثقافة (9 / 11 / 1996،)20 م.
[227] وجع الحرية (ص: 4،(، م. س.
[228] تحف العقول، (ص: 292).
[229] م. س. (ص: 288).
[230] تحف العقول (ص: 292).
[231] المصدر نفسه (ص: 285).
[232] أي عابه.
[233] تحف العقول: (ص: 34)، م. س.
[234] فعلي الصعيد العالمي: اتصفت هذه المرحلة بتحولات علي أكثر من صعيد، و ضمن عدة محاور لعل أبرزها اكتشاف «التقنية الحيوية» و الهندسة الوارثية» أو ما اصطلح علي تسميته «بالبيوتكنولوجيا» الذي أثار جدلا واسع النطاق في أوساط علماء القانون و الأخلاق و الاجتماع. أما علي صعيد الفكر و الفلسفة: فقد شهدنا سقوط و انهيار أكبر أيديولوجية وضعية في العصر الحديث و هي الماركسية و الاشتراكية العلمية. أما علي الصعيد العسكري و الأمني: فقد كانت حرب الخليج الثانية عام (1990 م) مسرحا حقيقيا لصراع التكنولوجيا المتطورة و الالكترونيات الحديثة و التقنية الاعلامية «فائقة السرعة» بالاضافة الي صراع المصالح و النزاعات السياسية و الاقتصادية و الثقافية، الأمر الذي خلق تحولات في نظم و قيم المجتمع الثقافية و القانونية و الاقتصادية، و أحدث تداعيات وانهيارات عربية و اسلامية تمظهرت، في أعلي تجلياتها، بمسيرة التسوية المزعومة بين العرب والكيان الصهيوني، و فتح المجال لشرعنة وجود اسرائيل في قلب المجتمع العربي و ما يمليه ذلك من تحولات سلبية ضد مصالح العرب و المسلمين.
[235] أقصد بكلمة «التقدم» هنا، استمرارية الجهاد الأفغاني ضد الوجود الشيوعي في أفغانستان حتي انتصاره عليه في مطلع التسعينات، و لا أعني بها مطلقا تقدم الفكر أو المعرفة عند أولئك، بل علي لعكس من ذلك فقد دخل هؤلاء الأفغان «المسلمون!؟» في صراعات قبلية و عرقية و عشائرية دموية طاحنة ضد بعضهم البعض بعد اخراجهم للسوفييت من بلادهم.
[236] هذا لا يعني، اطلاقا، انخراط المثقف في ثقافة التسوية التي أصبحت جزء من ثقافة الغرب المعاصر، بل يعني وعي و دراسة الشروط و المقومات الذاتية و الاحضارية لهذا الانخراط، عبر تحديدنا للأطر أو البني أو النواة الفكرية أو الحضارية أو السلوكية التي تشكل جوهر الثقافة و جوهر الشخصية الحية في تمايزها عن الآخرين، و هذا التحديد هو الذي يسمح، دون قلق، بالانفتاح و الانخراط في الواقع و العصر، حيث أنه كلما كانت شروط و نظام المناعة في داخلنا قويا تصبح قدرتنا علي استيعاب الأشياء الخارجية، ثقافية كانت أم غير ثقافية، أكثر حيوية و دينامية، و يصبح انخراطنا في الواقع العصري هادفا و مدروسا.
[237] الشهيد السعيد السيد: محمد باقر الصدر (رض)، التفسير الموضوعي و الفلسفة الاجتماعية (ص: 152)، م. س.
[238] النقد الذي ينطلق - كما ذكرنا سابقا - من خلال وعي الحركة الاسلامية لنقاط ضعفها في داخلها، لا من خلال أن تنتظر المتغيرات السياسية و الدولية و الاقليمية لتراجع حساباتها و تفكر في أوضاعها الصعبة التي تتحداها من الخارج.
[239] تحف العقول (ص: 290).
[240] م. س (ص: 290).
[241] بحيث يجب أن يعمل الانسان علي الأخذ بأسباب العلم و المعرفة و بكافة صورهما.
[242] يمثل العلم - في نظر الاسلام - القيمة التي تقسم الناس الي قسمين: في الجانب الايجابي و في الجانب السلبي، فالقيمة الايجابية هي قيمة العلم، و القيمة السلبية هي قيمة الجهل، (قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون).
[243] يتحدث القرآن الكريم عن الذين يملكون أعينا لا يبصرون بها و يملكون آذانا لا يسمعون بها و يملكون قلوبا لا يفقهون بها، و يبدو أن تركيز القرآن علي السمع و البصر، باعتبارهما عنصرين من عناصر حركة التجربة الحسية، يعني أنه يقدمهما كنموذج للعنصر التفكيري الحسي، الي جانب تركيزه علي العقل كأداة فكرية عملية، مما يفيد بأن المنهج الاسلامي السليم في الوصول الي المعرفة هو هذا المزيج بين الحس و العقل، بين تجربة تنفتح علي عقل و عقل يتغذي من خلال تجربة.
[244].
[245].
[246] مجلة المستقبل العربي (ص: 136) م. س.
[247] مجلة المستقبل العربي (ص: 136).
[248] د. برهان غليون: حقيقة الحداثة و اعاقتها، و الغدر بوعودها، (صحيفة الحياة، ص: 17) تاريخ 29 / 8 / 1997.
[249] تحف العقول (ص: 291).
[250] م.س.
[251] الكافي (ج: 2، ص: 120).
[252] عن السبب الحقيقي للأزمة الواقعة هناك؟ و من هو المسؤول عن تلك المجاز الرهيبة التي تحدث؟ و هل صحيح - كما تقول بعض وسائل الاعلام - أن الاسلاميين و الجماعات المسلحة هناك هي المسؤولة الأولي و الأخيرة عن ذلك الوضع المأساوي الفظيع؟.
[253] الارهاب مفهوم نسبي، يعني - حضاريا (بالمعني السلبي الكلمة) - أن تندفع لتقتل انسانا أو لتنهب ماله أو لتخطفه من خلال حالات ذاتية فردية تتصل بمنافعك و مصالحك الخاصة أو تحقيق مشاريعك القائمة علي أساس العنصرية و القهر و الاستعباد، و ما يحدث في العالم الغربي من تزايد حالات الجريمة و العنف و الارهاب (ارهاب أفراد المافيا و عصابات الاجرام و المخدرات) هو دليل ساطع علي أن العالم الغربي، و أمريكا خصوصا، هو بؤرة الارهاب، حتي أنها شرعت لنفسها قانونا يخولها أن تخطف أي شخص في العالم مطلوبا للقضاء الأمريكي بعيدا عن رضا هذه الدولة أو تلك. ان الدليل الأبرز و الأوضح علي تورط الادارات السياسية الغربية في قضايا الارهاب هو أن أغلب حلفاء الغرب - و لا سيما حلفاء أمريكا - في العالم الثالث هم أكثر الحكام و الأنظمة انغلاقا و ارهابا و مصادرة للحريات.
[254] قد يتبادر لأذهان بعض القراء أننا نخرج - بهذا النوع من التحليلات السياسية من واقع حياتنا المعاصرة - عن سياقات بحثنا حول حياة و فكر و شخصية الامام الكاظم عليه‌السلام، لكننا نحب أن نذكر الجميع بأننا قد أكدنا - في بداية هذا الكتاب (تحديدا في مقدمته) - أننا سنعمل علي استلهام تجربة الكاظم عليه‌السلام و دراسة فكره و مواقفه في مواجهته لواقعه المنحرف و الفاسد بكل السبل و الوسائل الفكرية و العلمية التي أتيحت أمامه، و نحن هنا نعيش في واقع منحرف و ظالم و متغير نجد أنفسنا أمام الأهداف نفسها التي سعي امامنا عليه‌السلام الي تحقيقها في مواجهة الظروف و المشاريع التفتيتية و الاذلالية - ان صح التعبير - لذلك من الطبيعي أن نعمل علي تحليل واقع حياتنا المعاصرة، بمتغيراته و مستجداته، حتي نمتلك أسس مواجهتها و اسقاطها في المستقبل القريب أو البعيد.
[255] مصطلح «جغرافي -سياسي» اقترن بالدراسات الأمريكية عن المنطقة العربية و الاسلامية، يجمع بين «الجغرافيا - السياسة»، و قد تم طرحه في سياق مفاوضات التسوية بين العرب و اسرائيل التي انطلقت في مدريد 30 / 10 / 1991، و هو يعني جغرافيا وجود اقليم يتوسط دائرة تضم قارات آسيا و أفريقية و أوربا، تغيرت دلالتها الجغرافية ما بين اتساع و ضيق بحسب تطور المفهوم نحو الغرب، أما سياسيا فهو يعني وجود نظام سياسي اقليمي جديد في المنطقة يعطي الكيان الصهيوني امكانية الدخول و الاندماج في الجسم الاجتماعي و السياسي للمنطقة في اقامة مشروعات اقتصادية و سياسية و أمنية تجعل اسرائيل علي رأس المستفيدين منها. اذا يعتبر هذا المصطلح عن دلالة سياسية دقيقة الصلة بالسياسة الاستعمارية الغربية التي أوجدته و اعتمدته.
[256] من قبيل التطرف و التعصب و الأصولية و الارهاب.
[257] ليس معني أن تكون واقعيا في تفكيرك و في سلوكك و في التزامك للقيمة، أن تنحني أمام الأمر الواقع و تخضع له و تسلم لقدره المحتوم لكن ان معني واقعية القيمة و الفكر، أن تحاول اكتشاف وسائل و أساليب و خيارات عملية واضحة المعالم و الخطوط لحركة القيمة في الواقع، أن تتحرك عمليا من أجل تغيير الواقع بأدوات الواقع التي تحتاج الي من يصنعها و يحركها و يصبر عليها و علي ثمنها الباهظ.
[258] العلامة السيد: محمد باقر الحكيم، نظام العلاقات الاجتماعية، مجلة رسالة الثقلين، (عدد: 16، ص: 32).
[259] تحف العقول (ص: 294) م. س.
[260] تحف العقول (ص: 302).
[261] يعني الهلاك.
[262] تحف العقول، (ص: 286).
[263] م. س، (ص: 295).

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.