الامام الكاظم (علیه السلام) ضوآ مقهور الشعاع‌

اشارة

سرشناسه : كتاني، سليمان
عنوان و نام پديدآور : الامام الكاظم ضوآ مفهور الشعاع/ تاليف سليمان كتاني
مشخصات نشر : بيروت: دارالثقلين ، م‌۱۹۹۹ = .ق‌۱۴۲۰ = .۱۳۷۸.
مشخصات ظاهري : ص ۲۳۰
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
موضوع : موسي‌بن جعفر (ع)، امام هفتم -- ق‌۱۸۳ - ۱۲۸
رده بندي كنگره : BP۴۶/ك‌۲‌الف‌۸
شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۹۳۶۳

الكلمة الأولي‌

انها تنويه عن تلازم مؤلف هذا الكتاب بتوجيه باقة شكر و تقدير و احترام لفضيلة الشيخ محمدمهدي التسخيري، بصفته - ليس فقط - المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية العظيمة المهتمة بكل القضايا الإنسانية، المرسخة علي الأخلاق و المثل و المزايا الكريمة. بل لإقدامه علي طباعة و نشر هذا الكتاب الناطق بكل الفضائل الرائعة، و التي كان يتحلي بها الإمام موسي الكاظم، و هو الموسوي الأصيل الذي تتكني به إيران العظيمة. سوف يكون... بمشيئة الله القدير... للقراء الأولياء... أن يندهشوا بالفضائل الكاظمية. فشكرا سخيا لفضيلة التسخيري شقيق العلامة آيةالله محمدعلي التسخيري - لقد تكرم بطباعة هذا الكتاب، و غمر القراء الكرام - بأمواج العطور. المؤلف [ صفحه 9]

مقدمة الناشر

منذ برأ الله الخليقة و أسكنها أرضه و سماواته و شرف الله من بينها الإنسان بما أودعه من بديع الصنع روحا و عقلا و مظهرا. اصطفي لها مبشرين و منذرين و هداة و أسوة، فأغدق عليهم من نوره و اصطنعهم لنفسه و ارتضاهم لخلقه و من بينهم الخاتم المصطفي صلي الله عليه و آله و سلم الذي الذي أنار الله به و هدي. و عند انتقاله أودع علمه و حكمه و شرائع دينه عند من اختارهم الله رعاة للأمم بعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم فكانوا نورا من نور فاستضاءت به أبصار هديت، و عشيت عنه عيون جهلا و حنقا. و لئن هام بنورهم أحبة و عشاق فلم يقتصر ذلك علي المسلمين فقط، بل رأي فيه غيرهم ما بهرهم فهاموا عشقا و تلمسوا أن يقتربوا منه، أو ليس هو نور الله الذي لا يخبو و ممن صرفه الوجد عن غير هذا النور (أهل البيت عليهم‌السلام) و تعلق به مهجة و عقلا و روحا. يصابحه و يماسيه، يستشف له فيسير فيه، يتفيي‌ء تلك الظلال فما وني يطمع بمزيد و النور يزداد التماعا. أديب بارع و فنان مرهف الحس وهبه الله يراعا سخره في ساحة أهل البيت عليهم‌السلام إنه الأديب الكبير سليمان كتاني دام علاه، فقد دني من تلك [ صفحه 10] العتبات العالية و ما أحلي درره و غواليه عندما يقول مخاطبا رابع الأنوار الحسن عليه‌السلام «انها خطواتي الصغيرة الصغيرة تنقلت بي إلي الأعتاب الكبيرة الكبيرة وقفت بها - فترات من قبل - علي عتبات ثلاث فإذا خلف كل واحدة منها محراب له عمق و له عطر و له سقف مد فوق السماوات. لقد كانت العتبة الأولي مؤدي الي رحاب أبيك و هي ملفوفة بالرضوان و كانت الثانية مبلولة بالشذا النهلان بالطهر و هي منقوشة لأمك الصديقة تجمعها الي مريم بنت عمران زنانير مقبولة عن المثل و كانت الثالثة لجدك ابن عبدالله ذلك الذي وصل الشطآن بميازيب السحب و أغدق عليها همرات السلام» و واصل سليمان ترصيع عقوده متفيئا ظل الحسين المضمخ بالنجيع القاني ثم الي عتبة زين‌العابدين العنقود المرصع، فباقر العلم نجي الرسول والي صادق الآل ضمير المعادلات ثم ها هو يسترفد من ساحة الكاظم الضوء المقهور الشعاع. و نستمد من الله العمران يهب لسليمان عمرا يصل السلسلة حتي خاتمها و القلادة تكتمل دراريها. و دار الثقلين التي يجمعها بسليمان كتاني حب جارف و شوق مؤجج لأهل البيت عليهم‌السلام تتحف القاري‌ء بدرة ثمينة تقاصرت حمم دون بلوغ شأوها التي دبجتها براعة هذا الفذ المنصف. تأمل أن تواصل عطائها برفد القاري‌ء بكل جديد مستمدة من الله العون و هو الموفق. دار الثقلين للطباعة و النشر بيروت - لبنان [ صفحه 11]

مقدمة

بقلم الدكتور غالب غانم منذ أن كنت في اليافع و الغض و المتوثب عمرا و ذهنا و توقا إلي المعارف في ألوانها و معارجها جميعا، أتاحت لي الحياة، برضي و مباركة من العلي العظيم، فرص الاحتكاك باضمامة من حملة الاقلام المنورين، المتوزعين بين ذوي قربي و ذوي ود، أو المنتمين في آن إلي أسرتي القربي و الود انتماء يزيد العلائق صفاء و رسوخا... و كان صاحب الأثر الذي أقدم له الآن أحد هؤلاء الأعزاء الذين تسني لي، بفعل القربي و التقرب، ان امتع النفس بالتردد إلي مجالسهم، لأشهد كيف يتحدث الحكماء، و يحلم الراؤون، و تنز أقلام الموهوبين الصادقين حبرا لا يخون مصدرين - إذا خانمها كان الكلام باهتا و خاويا - هما القلب و العقل، بما لدي الأول من شهقات، و بما لدي الثاني من إشراقات. و ليس نافلا أن أذكر، في هذا المطاف، أنني و الكاتب الاستاذ سليمان كتاني من تلك الغالية العالية في المركز الطبيعي و الحضاري، المطلقة إلي عوالم الابداع علما بعد علم، المنفتحة علي الدنيا لأن صدرها غير ضيق الأنفاس، المتفاعلة مع كل دعوة أبواقها صوت الحق و آفاقها مروج الخير... إنها مدينتنا الصغيرة الكبيرة بسكنتا، مسقط الرأس و حاضنة تراب السلف و المؤتمنة علي أحلام الخلف، ابنة الجيل اللبناني في موقعها [ صفحه 12] العصي، و ابنة الموجات الحضارية في جنان طبيعتها و مران تجربتها و ليان فكرها و بيان اهلها. من هذه الأرض ذات المناعات، و ذات الغني و الجمال في المتجلي من مشاهدها الخارجية و في المختمر من كنوز العقل و مخابي‌ء العمق بين ظهرانيها، يقبل المرء علي الكتابة منطلقا مما زودته به البيئة، فلا يبدأ من فراغ، و لا يكون عليه إلا اعتصار الموهبة حتي يتظافر الخاص اللصيق بقدرات الفرد و العام الآتي من جهة المجتمع، لتوليد الأعمال الأدبية و الفكرية السوية. و من هذه الأرض ذاتها، أقبل سليمان كتاني علي الكتابة غير مكتف بالعطاء الرباني و بالجهد الفردي توسيعا للثقافة و تفريعا لطرق الوصول إلي مواردها، لأنه أدرك ما للمجتمع من أثر في تكوين الريشة و تلوينها و تحصينها. و المجتمع، بمعيار هذا الكاتب و بمطامحه، لم يعد أرضه الجبلية الجميلة و حسب - و إن لازمها طوال العمر - بل صار كل المباسط و الأمداء التي رحبت و تنوعت و لكنها توحدت و انضمت بعضا إلي بعض تشدها أمراس من حضارات لا تنقطع، و يؤجج نارها، كلما باتت علي مشارف استكانة أو خذلان، فرسان صهواتهم رياح الحقيقة و التقي، و المثابرة الصبر، و الايمان و الوجدان الشفيف، و الكفر و النور المشع من الداخل الصغير إلي الخارج الكبير، كمثل فارس هذا الكتاب، «الإمام المقهور الشعاع». كل ذلك مع تذكير آخر يدعو إلي الغبطة و لو في قلب المآسي، و هو أن الشعاع يظل شعاعا و أن قهر إلي حين، و الإمام يظل «إماما» و إن تعثر مسراه، إلي حين أيضا، بظلامات أسياف تجور، أو ببهلوانيات سيافين حملتهم ألاعيبهم إلي الشرود بعيدا عن حقول الجمال، و شلالات النور. [ صفحه 13] يقع الكتاب، فضلا عما فيه من مداخل و خواتيم، في أطر أربعة متجانسة متماسكة تتدرج من الاصول إلي الفروع، بعد أن ارتسمت معالمها بفضل اليد الخبيرة المتمكنة من علم و فن مغلفين لأغلفة الروح. الإطار الأول منها يعود إلي الجذور، منذ أن كانت الجزيرة العربية، و الأمة، تشهدان «الأمين محمدا» في رحلاته بين يثرب و الشام، «يأتي بما تنتجه الرمول، و يعود بما تنتجه الحقول»... حتي تفتق الرسالة العظيمة و توهجها... مع لمحات عن الطالبيين، و الإمام علي، «و الطوق الإمامي البالغ الاثني عشر»، و بني‌امية، و الامامة علي العموم، و الإمامة المثلثة علي الخصوص (علي بن زين‌العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق).... وصولا إلي خط علمي شقه الأئمة، و إلي جامعة أنشأوها في المسجد حتي «لا تقفل بوابته ابدا»، و حتي يكون المصلي و الموئل الفكري في آن. و الإطار الثاني الموسوم «موسي بن جعفر» يكشف النقاب عن الصفحات الأولي من حياة سابع الأئمة، منذ أن كان جنينا في «عزلته الممتصة كل لواعج ابيه، و كل لواعج أمه». و صاحب الأثر هو من القائلين عن حق «بأن الطفل - و هو في بطن أمه - لابد أنه المصغي - بإذن ذاته الجنينية - إلي كل دفقة يدفق بها لب أبيه، و إلي كل نأمة تنأم بها حشاشة أمه، و هي كلها التي ستنزل مسجلة - كالحفر - في لوحة صدره، و سيثغثغ بها لسانه إذ يجدها أمامه في حقيقتها، بعد أن يهبط إلي الصفحة التي تستدعيه إلي الهبوط!» ثم تكر الأيام، و يسلم الإمام الصادق الأب - قبل رحيل تسبب به السلطان - الأمانة للإمام الابن في خاتمة حوار جال في التاريخ - علي مراراته - جولته في الغد المعقود اللواء لذوي العلم، و النصاعة، و المواثيق الوفية. و للإطار الثالث عنوان هو «الإمام موسي الكاظم»، و مضمون كثرت فيه المعاني الضاربة في عمق أعماق الأمة. [ صفحه 14] أما الامة - يقول «و هي الطينة التي نفخ الله فيها قيمة الإنسان، فهي تلك التي راحت تصغي إلي همس صلاة الإمام الساجد، و تأخذ منها العبرة: بأن الحق هو صلاة المؤمن، و هي رجاء إلي الله في جلوة النور في عدسة العين - و تمتين الصدق في المهجة، و بث الوعي في خلايا السريرة، و زرع الخلق النظيف في النفس، و في كل ما تختلج به الطوية!» و بين الأمة و الرسالة و شائج كان الكاتب قد ألمح إلي بعضها في الإطار الأول، حين قال عن الرسالة: «... و لكن الإلهام لا يريدها أن تكون كالهيولي - مجرد وهم، و مجرد خيال، بل حقيقة تجسيد للفكر في كيان من تراب - يبقي ترابا إن لم تخفق فيه نجاوي الروح فتجعله إنسانا، تحيا به أمة يخلد بها الله الذي هو القيمة المزروعة في مهجة الإنسان». و في هذا الإطار أيضا عرض لوجوه العلاقة بين الإمام المبحر في العلم من نحو، و خلفاء عباسيين من نحو مقابل، آخرهم هارون‌الرشيد الذي، عندما جاهره التقي النقي بالحقيقة، ردها إليه رطبا مسمومة أودت بحياته في الخامسة و الخمسين. و للإطار الرابع المعنون «بعد الغياب» جولة في تراث الإمام الفكري - الروحي - الاجتماعي، و أضواء ملقاة علي رسائله، و تأملاته في العقل، و التوحيد، و الايمان بالله، و العلم، و العمل، و مكارم الأخلاق، و سواها... و جولة أخري في ألقابه و تأثره. و تصوير لأحداث الأيام الثلاثة التي شهدت طرح جثمانه فوق جسر الرصافة في بغداد، حيث كان «دجلة الخصب» - كما جاء في الخاتمة - يمر تحت القناطر، بينما الإمام، «دجلة الحق»، ينهمر علي النفوس العطشي بدفقات المكارم. إن في الكتاب، كما تبدي من عرض خطوطه الكبري، و كما يستبين أكثر و أكثر لدي الغوص علي الدقائق كلها، غني «موضوعيا ينقل القاري‌ء إلي [ صفحه 15] وليمة بسطت فيها طوالع الهدي، و ألوان الفكر، و عبر التاريخ، و سير الصادقين، و آمال التواقين إلي الأنقي، و الأبقي، و الأكثر صلاحا و خيرا. و لا غرابة في ان تتدفق الحقائق و الخواطر، لدي الطارقين بابا كالباب الذي طرقه الاستاذ سليمان كتاني، تدفق الينبوع الذي لا يبخل بذاته ليروي العطاش، و يوسع دائرة الجمال. ذلك أن شجرة الإسلام، هي من العمق، و البعد، و الظل الظليل، - و قل الضوء البهي - ما يجعل الكلام علي أي فرع من فروعها كلاما» كثير الزهر ثم كثير الثمر. فكيف إذا كان هذا الفرع طالبيا، أو خطا بيانيا، يتتبع حلقات الأئمة حلقة حلقة، منذ الأول ذي الحكمة الجلي و قبضة الخير و الكرامة، الفتي / السيف و السيف الناطق نقط الحق... حتي السابع موضوع هذا الكتاب، و هو الصابر علي الظلم، و الكاظم الغيظ في دخيلة نفسه، برهانا علي التقي، و الكبر، و هدوء النفس، و ذو النفس الزكية. و باب الحوائج، علي ما جاء في بعض ألقابه المعالجة في الكتاب... و انتهاء إلي آخر السلسلة الطاهرة، الحاملة أثقال الظالمين، و المعانية من أسي ما بعده أسي، و المصممة علي الوصول إلي منتهي ما ينشده المؤمنون من أشواق، بفعل تحويل حجارة المأساة إلي صخرة تبني عليها قلاع الحقيقة. و في عودة إلي صاحب الأثر، العزيز الاستاذ سليمان، و لأقل «الخال سليمان» كما أناديه في الغالب لأن قرابتنا هي من جهة الأمومة - علما بأن القرابة الأصلية فيما بيننا هي من جهة الانحياز إلي الحقيقة -... في عودة إليه، أنوه بطائفة من الميزات رافقت مراميه الفكرية، و نمطه الاسلوبي، و منهجه الكتابي. من ذلك أنه بات ممن يركن اليهم في مثل هذا اللون من ألوان التأليف [ صفحه 16] الطوافة في التاريخ الاسلامي، و في سير أهل البيت و مسارهم. و ما ذلك إلا لأنه فتح صفحة بهية من صفحات ذلك التاريخ الثر عبر كتابه الأول الذي سماه «الإمام علي بن أبي‌طالب - نبراس و متراس»، فانطلق من القفزة الأولي، ثم كرت السبحة علي المماثل أو المنافس أو المكمل من العطاءات الأخري. و من ذلك أنه لم يكتف باستنطاق الأحداث لإعادة صوغها صوغا «حياديا»، أو باهتا، بل سكب في أعراقها من تطلعاته الفكرية، و حملها قسطا من همومه الاجتماعية و الانسانية تجلي بشكل لافت في نظراته إلي الأمة التي ينبغي أن تدفع «من هيضة سفلي إلي رتبة فضلي»، و البانية ذاتها «ببيكار أبجدي»، و التي هي الإمامة «و الأم الحانية الصدر علي جميع أبنائها»، و الجزيرة العربية «المتفاعلة مع كل امتداداتها إلي كل جوار». و من ذلك أنه واجد لديه عناقا مثاليا بين مقتضي العقل، و مقتضي الوجدان، من سطور البداية حتي سطور النهاية في الكتاب. و إنها بالفعل لميزة لافتة، أن ينقل إليك الكاتب أفكاره فيستهويك منه رجحان عقلي، كما تستهويك اندفاعات وجدان تجعل الوليمة العقلية المبسوطة أشد جاذبية و أطيب مذاقا. و من ذلك، أخيرا، أن له في عالم الاساليب الأدبية نسيجا خاصا، مزهرا بالبيان، معمقا بالتأمل، نبضا بالحركة و الحياة. و ما أكرم هذا الاثر، سواء اشتق النعت من كرامة الإمام الذي زينه باسمه، أو من كرم الكاتب الذي جعل الكلام دفاقا عن عمق و حق، احتفاء و وفاء، و مشاركة في تكريم الخط الموسوي المبارك بين خطوط الإمامة، و في رحاب الأمة. غالب غانم [ صفحه 17]

كلمة صغيرة

إنها إليك الآن أيها القاري‌ء العزيز سيرة الإمام! خذها بعينك، و لبك، و رجاحة أصغريك - سر بها - علي مهل - من يثرب - حيث لفظته أمه الحميدة - حميدة - الي بغداد التي احتضنت جثمانه الشريف معروضا - ثلاثة أيام - فوق جسر الرصافة. ستحمله الجماهير علي أكتافها، و علي رأسهم سيد بغداد - هارون‌الرشيد - حيث يوارونه الثري في مقابر قريش... هنا يكون لك أيها القاري‌ء اللبيب أن تكتشف: أن المسجي هو عظيم آخر ليس له أن يواريه التراب. أكثر من أن تلفه - بكل أوشحة المجد - أفاق السحاب. الدعوة: إنها الموجهة من مؤسسة الإمام الحسين في بيروت إلي مطلق قلم يتسني له تلوين الحروف بسيرة الإمام السابع موسي الكاظم، علي أن يكون [ صفحه 18] القول - في معناه المبيت - تبيانا عن حقيقة الإمامة التي هي - في اثني عشريتها - وحدة تكاملية، ليس لها من غاية سوي رزم الأمة بالتمرس الطويل، و بكل ما هو حق، و علم، و خير عميم. شكرا للمؤسسة الحسينية تنقل إلينا أشواقها - و ها اني واحد من المدعوين إلي غمار الكلمة. أتمني أن يواليني صدق، و عزم، و جلوة رؤيا؛ فالإمام الكاظم - يا لهفتنا عليه - لم يظهره إلا الصدق، و العزم، و جلوة الرؤيا - و كلها ميزاته... يا لسوء حظ الأمة، لو أنها انغمرت بهذي الميزات، لما كان لها أن تترك هارون‌الرشيد يستبد بموساها! و لبقي لها - حتي اليوم - موساها الغامرها بالمسرات!!!. و لتتقبلني المؤسسة الكريمة - عبر الأمة، بمن فيها الإمام - متمنيا لها تحقيق المسرات. سليمان كتاني [ صفحه 19]

كلمة التمهيد: أيها الإمام المقهور الشعاع‌

بادي‌ء ذي بدء أقول: عليك السلام أيها الإمام، ثم ارجوك أن تستمع إلي: لقد أحببت الدخول إليك من دون أن أقرع الباب، لأني لم أرك يوما من أيام عمرك المكدود، أقفلت بوجه الغير لوحة باب؛ من هنا كان لي أن أفهم أن بيتك المقصود، لا يجوز أن تحجبه عنا السدود، و لا أن تحجمه الحدود. و لكني الآن - و بعد لأي من السنين - وجدت نفسي أمام باب بيتك بالذات أيها الإمام، و هاتف من صدي الحق يحفزني للدخول... فقلت في ظني: و هل يجوز الدخول من دون قرعة باب توقظ الإمام من سبات طوله اكثر من ألف عام؟!! عفوك أيها الإمام... و قرعت الباب الذي لم يكن جائزا أن يقرع... و من فرط دهشتي الخالية من نباهة الذات، وجدتني - وجها لوجه - واقفا أمامك، و في عينيك يقظة واسعة - يشير إلي اتساعها - تقول: بأنك حتي الآن لم تذق طعم الوسن! و تأكد لي أيها الإمام - و أنا استرجعك إلي خاطري من خلف طيات [ صفحه 20] السنين - بأن ما نذرت له عمرك، هو الباقي لك في ممرات السنين، و هكذا ربطت ذاتك بالموارد ذاتها التي تعيش بها و تحيا، و بها تستمر و تخلد كل مجتمعات الإنسان. انا لا أظن - ابدا - أن الإنسان يعيش و يحيا بغير انسانية لا تحققها له إلا مجتمعيته؛ و انت - ايها الإمام المندي - ما ضننت بنور شع من ناظريك، إلا و أقمته ضوءا لانارة عتمات الدرب الذي تمشي عليه اقدام الأمة، و هي - بحق - كل المجتمع الذي هو هيكل الأمة. و الأمة؟ انها وحدها التي اشتق منها النبي الكريم مهمة الأمامة، و حددها باثني عشريتها المرهونة بمتانة التأسيس، و التركيز، و الانطلاق؛ و ها أنت الآن أيها الإمام، سابع مضي‌ء فيها... و لا اقصدك «بالسابع» رقما حسابيا قائما بذاته، بل وحدة اجتماعية انضمامية في مخطط واحد يكر، لا يجد وحدويته إلا بالتصاق الأمة بالمجتمع... و الأمة أو المجتمع - رغم الملايين المتنامية من افراده - هو واحد مفرد، لا يعززه إلا الالتصاق النامي بذريرات الطحين، إلي رغيف واحد، ما طيبه خبزا إلا التصاق الخمير بالطحين. ما أسعدني الآن أراك أيها الإمام - و قد استعدتك من غيبوبات السنين - تسكب عمرك كله في خدمة المخطط المرسوم في غار حراء، من اجل التنقل بالأمة، من واقع بدوي جاهلي، كبلها بانحطاطات ما افترق كثيرا - فيها - انسانها عن الحيوان، إلي واقع آخر، سيتدرج رويدا رويدا إلي بحبوحة حضارية، يركزها العلم، و الدين المفسر بالوعي الروحي المنور بالصدق، و الخلق الكريم، و الاستقامات المركزة علي المفاهيم الإنسانية المؤمنة بحقيقة المجتمع، و هو ابن جغرافية، ارضية، واضحة الحدود، ياخذ منها [ صفحه 21] أود عمره، و كينونة وجوده، و ليس له إلا فوقها سبب راحته و معني استمراره و خلوده. تلك هي القيم التي رحت تشتهر بها أيام الإمام، و أنت تتشهي ترسيخها في الأمة، حتي بها تتمكن من متانة البلوغ... و لقد بدا لي انها لم تكن شحيحة في مداميكك، و انها - وحدها - قد وسعت باب بيتك، و جعلته مفسوحا من غير حدود. من هنا - بالذات - رحت اسأل الأيام عنك... و لست أعني بالأيام غير السجلات التي تحفظ في غرابيلها رزمة الأخبار. و لكن الأيام كلها، لم يكذب، و لا واحد منها، أي خبر عنك، فكل واحد من غرابيلها أجمع علي أن المواهب كلها قد نلتها: صدقا، و عمقا، و ألوان نصاعة: فانت الذكي الذكي، آمنت بالرسالة، و ما مشيت إلا بها، و آمنت بالمجتمع، و ما نذرت عمرك إلا لتركيزه علي الأسس السليمة التي ستنهض به إلي عمران، و آمنت بالحق، و شددت باعيك بمطلق بطولة، دفاعا عنه. حتي و لو ابتلعتك بطون السجون... عجبا - رحت أردد في تطوافي المتأمل - و لم أتأخر - حتي في هذه اللحظة الخاشعة - عن أن أطرق بابك حتي تطل علي أيها الإمام، فأطرح عليك سؤالي المبطن بما يشبه آهات الحزن الباكي علي الاطلال، و كنت أوجس في ظني، أن الاطلال ما أضاعها غير البكاء علي الأطلال!!! و طرحت السؤال العالق منذ أكثر من الف سنة في شعاب البال: لماذا أيها الإمام، و أنت في تمام الصدق، و تمام العزم، و تمام التعبير عن توق اصيل يدفع الأمة من هيضة سفلي إلي رتبة فضلي - يبهو بها عنق المثال؟! اجل أيها الإمام، و انت متين القصد، و عزيز المثال... لماذا لم تستجب في تحقيق نجاواك، و كان لك - بدلا عن ضعف المنال - ضعف الانخزال!!! [ صفحه 22] يا للجزاء: تلونه السجون بغياهبها! و تنديه الأفاعي بهذاك الزعاف!!! لم تجبني أيها الإمام الماثل أمامي كما الرمح المصقول و الباقي - وحده - في طرف الميدان... و اكتفيت بان رمقتني بعينين، فيهما من لؤلؤ الدمع رجاء آخر. علي أن أفسره، و أستجلي منه الجواب! فهمت أيها السيد - من صمتك الحزين، و من تلفلفك بلحظات الاصطبار، و من ماهيات تقبلك و طآت الهزيمة، - أن الانتظار - وحده - هو الموصل الأمة إلي اهدافها المهتزة برجاء الانتظار!!! و ما هو الانتظار؟ و لكنه هو ذاته الذي آمن به جداك الإمامان العظيمان: الإمام زين‌العابدين، و الإمام محمد الباقر،... ليكون مع ابيك الإمام جعفر، خطا مفسرا بجامعة علمية؛ تنشر القراءة، و الكتابة، و الثقافة، و ديباجة العلم، و روعة التدوين... سيكون للأمة رويدا رويدا - ما يقيتها، و ينميها، و يلونها: بالوعي و التثقف، و الادراك... و رويدا رويدا - أيضا - ستكون لها يقظات بينات تعلمها كيف تفتح عينيها، و اذنيها، و كيف تسدد قدميها علي الدروب المزدانة بالحق، و النبل، و الكرم المزهي... إنها الامة - ساعتتلك - يوضح لها الوعي المصيب: اهدافها الحياتية، و انها ذاتها - هذه الأهداف - هي التي يكبلها الجهل باغلاله السود، و لن يخففها منه إلا مجال يحمله - رويدا رويدا - الانتظار!!!. و فهمت أيها السيد: أن الأمة كلها - بماضييها البائسين، الأموي و العباسي، و بحاضرها الآن، و هو لا يزال ملقوطا بذاتية التشريد - انما هي لا تزال حتي الآن في الانتظار... اما الانتظار - بحد ذاته - فهو ان نعي نحن [نحن الأمة] ما تعني أنت أيها الإمام من صوابية الانتظار. [ صفحه 25]

مع الجذور

الانتظار

لقد أخذ الإمام موسي عن سيرة الأمين محمد ما ركزه في حقيقة الانتظار - من هنا سنراه صبورا، و متحملا كل أذي رشقه به الحكام، و بصبر قل نظيره. و لست أنت - أيها الإمام الكاظم - من رسم خطوط الانتظار، بل انه - بالتأكيد - جدك الأمين محمد، و بين يديه قافلة مرزومة بالطيب، كانت تشد رحلها الاشواق الغنية باللواعج، في تفتيشها عن كل ما يسمو بالنفس من مجال وضيع و رتيب، إلي فضاء فسيح و قشيب، فيه تنفسح المعاني و تعذوذب، و بها تزهو الأحلام و تستطيب. و ما كانت أشواق الأمين محمد الا من هذا الصنف الذكي الذي استهوته الثرية خديجة، فأرخت عليه أثقال قافلتها المحملة بالمسك و العنبر، و بكل ما تنتجه الرمال اليابسة من بصيلات الحنظل. و لكن الأمين محمد، ما كانت له غدوة إلي الشام تحمل الخفيف الخفيف من اريج العبير، إلا لتكون له - بالمقابل - أوبة تحمل الرائع الرائع من أشواق الضمير. هنالك علي الخط محطة أولي كان يستريح فيها امين القافلة قبل الوصول إلي مفاسح الشام، و ما كان التوقف فيها للراحة و الاستجمام، اكثر [ صفحه 26] مما كان للاستعلام و الاستتمام. أما الراهب بحيرا، فكان كثير الترحيب برجل، ما كان يلقي السلام إلا بعد أن يأخذ السلام، و هكذا كانت عملية الترحيب المستجاب و المستجيب، سلاما يعانق سلاما مفتوحا علي رجاء، كما هو الفضاء علي سماء... أما المحطة الثانية، فكانت تحصل في انحاء المدينة، و في أية زواية ظليلة يتخبأ فيها سجل مطل علي اخبار امة، بها فيها شوق، و أزهرت فيه حضارة... دائما هو التاريخ - بكل احداثه الماضية، و بكل سجلاته الوافية - هو معرض كلام، و بحث، و اشواق ضمير، و لقد اولع كثيرا بالتاريخ الأمين محمد، المتعدد الرحلات علي ظهر القافلة، اما ولوعه بهذا المقدار، فلأن رحلات الاقدمين من اجداده الأبعدين، شديدة الشبه برحلاته هذه، من يثرب إلي الشام: يأتي بما تنتجه الرمول، و يعود بما تنتجه الحقول، و لكن انتاج الرمول - و ان يكن ثمينا، فهو الشحيح، بينما الحقول تدفق منها فيوض الثمر. و رحلاته إلي الشام - و لو كانت تتكرر مرتين او ثلاثا كل عام - أين منها رحلات الجدود، في القصي القصي من ماضيات العصور: لقد حصلت موجات اثر موجات، مع السومريين الأوائل، ثم - من غير حصر و من غير ترقيم - مع الأكاديين، و الكلدانيين، و الامويين، و الاراميين، و الاشوريين، و الكنعانيين - الفينيقيين... من منهم ما ترك الجزيرة الام، بعد ان عبر الصحاري، و اكتشف حولها الأرض الممتدة الحقول، فأقام فيها، و تبنته كأنها الآم... و من ألف إلي الف إلي ألف من حلقات السنين، تحتم الوجود المبري من دفوق الشمس و ميازيب السحب، و انبرت حضارات عبقرية الصبح، و مشرقة الافق... و ها هي الابجديات، و رص المداميك، و نهوض [ صفحه 27] القلاع، و امتداد القصور، و انشداد الالواح في صدور السفن، تمشي بها الرياح في عرض البحر، تذلل الموج العتي فيه خفقة المجذاف... انها كلها انشداد فوق الأرض التي انجذبت اليها قوافل المهاجرين من رمول الجزيرة التي اصبحت تعرف كيف تستخرج الطيب الثمين العطر من الأكمام الحنظلية، و تخزنه في قوارير مختومة باصابع الفلين، لتعبي‌ء بها سيدة في يثرب - اسمها خديجة - قافلة لها أنيقة، سلمت قيادتها لأنيق آخر، ليس له اسم إلا الأمين محمد... انه الآن ينزح من يثرب إلي الشام، و يؤوب و في جعبته احمال اخري، راح يفتق - في خلواته - أختامها، و ألغازها، و مراميها - و راح - أيضا - يشدد في استيعابها، ليجمع منها ما يرده إلي أرض امه الجزيرة، فتبهو بأبنائها النازلين فيها، كما بها من قبل اخوانهم و قد نزحوا عنها - موجة اثر موجة - في أموسهم الأولي، الي حيث تأقلموا و جمعوا من لحمتهم بالأرض، و الماء، و الهواء، مدنيات انسانية باهرة، سكبوا عليها من فضاءات السماء مواهب حافلة بالحب. و الكرم، و الآيات البينات... و لو لم تكن - هكذا - صادقة، لما أزهرت، و أثمرت، و أنجبت حضارات سبقوا بها منجزات الأرض بكل ما تجمع فوقها من مجتمعات. و اختلي الأمين محمد في غار حراء - و كل افاويه الجمال تعبق في أنفاسه - يدرسها، و يحللها، و يفكر في نشرها علي كل الجزيرة التي هي امه اليوم، و امه غدا، و امه - بنوع خاص - مع اخوانه الذين نزحوا، حاملين معهم عطر الأرض التي تركوها، و ما دروا ان رموسهم بالذات لا تزال حتي الآن تتطيب بها... و لقد هال الأمين محمد، و هو مختل في الغار - ان الأمة التي فاضت من صحاريها في القديم من الزمان، و امتدت إلي أفاريز الجوار، فضمها [ صفحه 28] الجوار بأبلغ مما يتشهاه الانضمام، و مما تتمناه جذوة النار، و هي ذاتها التي توصلت إلي انشاء حضارات توجتها الأبجدية بالفخار... فلماذا - هذه الأمة بالذات - تنكبت عن جادتها، و نست أنها كانت الأولي في حبكة الحرف، و في فتلة المغزال، و في برية الازميل في وجنة التمثال... و نست انها كانت الأولي في روعة المضمار... و انها كانت الأولي التي و حدت اقطارها في مجتمع واحد... فإذا هي امة متينة الجدار: مع الأراميين، و الاشوريين، و الكنعانيين الذين زينوا الصفحات بالحرف، و القلاع بالقناطر، و السفن بالمجذاف، و القصور بالمدماك الأنيق، و الإنسان بالجمال المهذب بالصدق و التقوي، و هما ظل الله في مضمر الإنسان... اجل، لقد هال الأمين محمد، كون امته الممتدة من الجزيرة إلي كل ما حولها من جوار، قد انشأت حضارات أنيقات المدار... ثم يلفها البوار، و يفسخها المسار - فتنسي ذاتها، و تنسي ما كان لها من فخار!!! و طال الاختلاء في الغار، و انحصر استنتاج المختلي: بأن كل رحي تدور علي ذاتها، تتفتت إذ ما يخرج بها - مدارها - عن نقطة المدار... و لو أن الله - سبحانه في تركيز مشيئاته - أراد تفتيت كرة الأرض - لأزاحها بوصة واحدة عن نقطة مدارها لتتحول - في نفخة الريح - هباء منثورا!!! و كذلك الأمة - امة الأمين محمد - لقد تمثلها تهجر صحاريها البدوية، لتتجمع في الحقول المؤهلة بحقيقة الانتاج - و لما طاب لها الانتاج، و زادته طيبا فوحات العبير، جمعها الصدق ذاته إلي خوان مطهر، فانشأت حضارة حسدتها عليها أمم الأرض. و ها هي الأمة ذاتها، تجف و ريقاتها الخضراء، و تذبل ثمارها الحمراء، لأنها - من دون شك - قد منعت عن جذورها ماء سلسبيلا، و استبدلته بماء عكر... و معني السلسبيل: صفاء في الجهد، و تركيز في [ صفحه 29] الوعي، و وصول بالفهم إلي الحقيقة الناصعة التي يبتني بها مجتمع الإنسان، و هي - هذه الحقيقة بالذات - لا ينورها، و لا يزكيها، و لا يرونقها، إلا الطهر في المسلك، و الجدية في البناء، و الاستقامة في الأخلاق، و الصدق في الايمان... و كلها ركائز، تملكت فهمها - بعمق - تلك الأمة، فبنت ذاتها ببيكار أبجدي، ما سددته إلا التقوي المنورة بالله - مصدر الفضائل - و ليست تستفيم إلا بها مجتمعية الإنسان. أما معني الماء العكر، فهو - بغير جدال - سلوك آخر، كأنه - من البطر - انحراف عن الجادة العفيفة التي تأبي أن تخالطها شعرة من دنس... و لا شك ان البطر قد دق بالامة منقاره الكاذب، فتحول سلسبيلها الصافي إلي عكر عاهر... و ما أن سقت من جذورها، تي تهرأت تلك الجذور، ثم تلك الجذوع، ثم تلك الثمار، و لم يبق من المثال - مع الوقت الطويل - الا طيف من غبار!!! ما من شك أن الأمين محمد - و هو المختلي الاختلاء الطويل أو الصادق، و البليغ في الغار - قد ألم بكل هذه التحاليل، يجد امام عينيه الغارقتين في لجج الهم - امته - و قد فاضت بها الغنائم. و دلت اليها المياسم، فإذا هي - فقط - لتتذكر الغنائم، و لتتغني بالمياسم!!! اما ان تعود إلي مبادرة الحق، و إعادة المياسم إلي حركية الانباض... فتلك - لعمر المجد - اطروحة لا ترتجف بها إلا عزيمة و مضاء، لا يجعلها تومض إلا المجد الآتي من مجتنيات العقل، و الروح، و مدات البصيرة. و ما من شك -أيضا - أن الأمين محمد تدثر في الغار، بورق الغار، و راح يستنزل المجد من شقوق سقوف الغار، و هي الموصولة بميازيب السحب... سيكون له من المجد المهل من الأبعاد الرهيفة، ما يجدل به آيات بينات، بانتظار ان يزنر بها خصر كل انسان يمشي علي دروب الأمة... [ صفحه 30] و عندما تشتد الخصور بمتانة الزنانير، تعي الأمة انها ماشية علي الدرب الذي سيوصلها - خطوة خطوة - الي استعادة ما ضيعته خطواتها الاثيمة علي جوانب الطريق، فهوي مسيرها في غيهب لن ينجيها من دهاليزه إلا صواب آخر يردها - حتما - إلي ايمانها الخلوق، و به مشت بالأمس حضاراتها الوسيعة، و بالزيغان عنه فقدت قوتها العفيف، و جاعت إلي كل ما يسمي حقا و هدي! و ما طالت خلوة الغار خمسا و عشرين حجة، إلا لأن الجهد المتين قد امتصها مصة مصة، و لما استوفي الجهد مضامينه، خرج من الغار، ليس فقط امينا - بل رسولا - و ما أن استوعبته شغاف الروح حتي صفقت له جوانحها، و آمنت به - نبيا - اما الأمة، فهي التي تململت تحت الدثار، و راحت يلملمها الانتظار، حتي تتم لها اليقظة، و يغشاها وعي يخطو بها إلي انتصار! [ صفحه 31]

الرسول‌

و من اطلاع الإمام موسي علي جني الرسول في غار حراء. طيلة خمس و عشرين سنة بدون انقطاع، تركزت مفاهيمه لكل الأبعاد الفكرية و الرسالية التي لا يحققها إلا التصبر و الانتظار!!! لقد طال الانتظار في هدأة الغار الي خمس و عشرين سنة، و لقد حسبناه طويلا - للوهلة الأولي - من دون أن نقيس، لا طول و لا حجم البعد المنقد من الجهد الطويل في تحليل الأمة، و في كيفية استرجاعها من وضعها الآني الهزيل إلي ردحها الماضي الأصيل - و كانت النتيجة تمعنا بكل الأسباب التي أوقعت الأمة في الخيبة - أما الأسباب فهي المختصرة و المحصورة في انحياد الأمة عن حقيقة الصراط - اما الصراط فهو - أولا و اخرا - ايمان بالله العزيز، في اعتباره احاطة بكل الفضائل، و من أجلها بهاء: الصدق، و روعة الاستقامات... فالعفة ردن منها، و الحق ردفها الوزان - اما العدل، فسحاب منهمر من المقلة العليا، و فيها كل الحب، و كل الاحاطة، و كل المنعة، و كل الوفاء... ان الله - جل شأنه - هو المحسوب مطلا علينا من عمق الأعالي المفسرة بكل نعم السموات... و من دونه - تعبدا و ايمانا - لا ضابط لنا، في مجتمع انساني زاه بالمكرمات، و لا وحدة تجمعنا، و لا صفاء يجلونا و لا أي من صراط. و انكب الرجل المديد الفكر، و المتسع العباب، ينشي‌ء للأمة، بل للأمم كلها فوق الأرض - دستورا مقدودا من سماء تغطي الأمة، - بل الارض كلها - بالرجاء. [ صفحه 32] و كان الدستور ملموما بقرآن مكتوب بحروف الأرض، لا لتقرأه الأمة و تيبس فيه، بل من اجل ان تحيا و تنتظم به، مجموعة من شرودها الجاهلي، إلي وحدتها المرصعة بالوعي، و الفهم، و الإدراك... و عندئذ يكون لها - منه - حبل البقاء مجدولا كحبل الشمس في نشر الضياء... و لم يتأخر الأمين محمد - عندما بلغ به الاختلاء إلي تمام الاستيعاب - لحظة واحدة عن الخروج من الغار، و في عبه رسالة، هي من مجهود عمره في البحث و الغوص، و التنقيب... ما أظن الرسول البهي - و هو الحامل الآن ابهي رسالة - إلا المستعجل النزول إلي الساحة الكبري، في مهمة ابلاغ الأمة - كل البنود الرسالية - القرآنية - الروحية - الحياتية... و من شأنها كلها بناء الإنسان، من أجل أن يكون - و لو بالتدريج - عضوا صالحا في بناء امة يمكنها استعادة ماضيها الذي عبرت به عن جدارة في الحياة التي هي حقيقة غاية الله - عز و شأنه - في زرع الحياة في مهجة الأرض، لينطق بها الإنسان، و يبقي ينطق بها بعيدا عن الزوغان! و ما اظنها - ابدا - قليلة مهمة الرسول، و لقد بقي طويلا في الغار حتي ترتبت له حروفها... اما ان يقرأها للامة، و أن يشرحها لها، ليجعلها تعيها، و تفهمها، و تعيشها... فإن الانتظار الطويل سيلبث أطول من عمره، و حتي أطول بكثير من اعمار الذين سيلقي علي كواهلهم تواصل الرعد الذي لا يجوز ان يصمت... و ان بناء أمة النبي - و هي المتلكئة منذ دهر طويل - انما هو بحاجة قصوي إلي صدق النبي، و إلي ابعاد مراميه... و ما اعز الصبر الذي انتهجه - بنوع مركز - الإمام الكاظم، حتي يتم الوعي المحتاج إلي طويل الانتظار، و حتي يتم فهم الرسول العظيم في كل مبانيه و كل معانيه. [ صفحه 33]

بنوطالب‌

و درس الإمام موسي - مليا - أسباب تعلق الرسول بعلي و رأي أن الصدق و رجاحة المواهب في علي هي التي أغدقت عليه حبا و تقديرا، ما خص الرسول - بهما - أحدا من الناس... و انكب الإمام موسي علي جده علي، ينهل من صدقه، و من معين فضائله، علي غير ارتواء!!! بكل اقتناع أؤكد علي أن النبي العظيم محمد، ما استبدت به - مطلقا - أية عصبية ضيقة الذيل، خص بها أهليه و ذويه... فليكن له أن محض زوجه الأمينة خديجة، حبا مشبوكا باسلاك نجية، و هي - من دون ريب - تستحقها: فهي من أحب الناس إليه، و من أوفاهم صدقا و حدبا، و لأول مرة - إذ وقعت منها عين عليه - حسبته الطيف الوحيد المتجلي علهيا من خلف أغلفة الغمام، فاندغمت به كما يندغم النور بعدسة العين... و كانت، بعينه هو، لا بعينها هي، تري الكون - كله - بهجة نور. و ليكن له - أيضا - أن محض ربيبه الفتي عليا، حبا، و عطفا، و تقديرا، ما استوفي منه مثلها أحد من الناس... لقد كان الفتي علي - في حدس النبي - من أبلغ الناس لبا، و عقلا، و فهما، و احساسا... و من أنبههم عينا، و غوصا، و صدقا، و ادراكا... لقد ربي في كنف البيت، و في كنف الرسالة المشرئبة من سقوف الغار، كانه ظل الشجرة: يخضر إذ تخضر. و يبرعم إذ تبرعم... اما إذا دقت بها منجل غدر - فهو الزند الوحيد الذي يقصف المنجل!!! [ صفحه 34] و بعد ثلاثمئة شهر، خرج النبي من الغار، و في عبه رسالة أطول من الف دهر... فما هي هذي الرسالة؟ و كيف هو مبناها؟ و ما هو معناها؟ و من هو المرسل لها؟ و إلي من هي المرسلة؟ لم يكن في البرج غير واحد يراقب تموجات الأثير كيف كانت تتحومل، و تتهافت نازلة من كوة مشغوفة في سقف الغار، و لم يكن أحد في الغار يتلقفها إلي وسيع جنانه، غير هذا المسمي محمد... انه المتأمل الوحيد الغارق في لجة ذاته: [لقد كان المسافر الوحيد المتنقل، بقافلة خديجة، من يثرب إلي الشام، و من الشام إلي الوكر في يثرب... لقد وزع - وحده - الطيب في الشام، و حمل - وحده - الطيب الآخر الآتي به من الشام، لا ليوزعه - فقط - علي يثرب، بل علي كل الرمول اليابسة التي تعيش فيها الجزيرة العربية، و هي أم مكة، و أم يثرب، و ام الهجرات اليعربية الغارقة في خضم التاريخ، و لكنها الخارجة - أيضا - من الخضم المغبر، إلي تأسيس حضارات شهدت لها أبجدياتها الناصعة الطالعة من صدور بني‌كنعان، ثم طواها الزيغان، فانقلبت حطاما انساها انها كانت، و انها ضيعت كل ما كان]. جميع هذه التأملات كانت تتخايل في بال الأمين محمد، و هو في عب الغار، يسترجعها بالدرس و التحليل، ليستخرج منها كل بند من بنود الرسالة... أما الفتي الصامد في برج المراقبة... فمن يكون غير علي، في تعلقه المتلازم بابن عمه النبي؟ و لا النبي - بالذات - كان يطيق ابتعادا عن علي، و لقد اعتبره طاقة منه، مشقوقة عنه، و لابد من أن تجمعه إليه حقيقة التلازم. [ صفحه 35] و كان التلازم في مدرجه الحاصل باشتراك الفتي بخلوات الغار: مشاهدة و إصغاء لكل خفيف كانت تعتز به جنبات الغار - و هكذا كان للفتي - وحده - ان يري، و ان يسمع، و ان يدرك مبني الرسالة، و معني الرسالة، و من هو المرسل، و من هي - بالتالي - المرسلة اليها... و لم تكن الرسالة في صفحة أو صفحتين، لتقرأ بدقيقة أو بدقيقتين... فليكن لنا أن نفهم أنها من الغار أوسع من الغار، فهي من الفوق... كانها الالهام، و لكن الالهام لا يريدها أن تكون كالهيولي - مجرد وهم، و مجرد خيال، بل حقيقة تجسيد للفكر في كيان من تراب - يبقي ترابا إن لم تخفق فيه نجاوي الروح فتجعله انسانا، تحيا به امة يخلد بها الله الذي هو القيمة المزروعة في مهجة الإنسان. تلك هي الرسالة التي استنزلها التأمل من مصدر الالهام، و سورها بدستور قرآني يقي انسانية الإنسان من أي زوغان - و اراد ان يبلغها - هذي الرسالة - لبني قومه، حتي بها يتيمموا و يتمكنوا من تهذيب شامل واحد، يلمهم إلي خوان - من الصدق - واحد... و هكذا - دون أن يدروا - و مع طول الوقت، و مع طول المران، سيتوصلون إلي تحقيق امة تستعيد اليها مجدا حادقا، كان لها أن تمتعت به في سالف الزمان! لقد كان يعرف الفتي علي، أن كل هذا هو جوهر الرسالة، و هو من مضمون الرسالة، و من معني الرسالة، و أن الرسالة بالذات ليست موجهة - بالتخصيص - إلا إلي الأمة - امة النبي العظيم و هي المشلولة اليوم، و لكنها الناهضة - غدا - من كبواتها، لتكون - يوما بعد يوم - في خطها الصاعد إلي تحقيق الطموح الذي حوشته لها خطوات الثلاثمئة شهر في جوف الغار! نعود إلي النبي العظيم خارجا من غار، مفتشا عمن يسانده في إتمام [ صفحه 36] المسار... و المسار طويل، يتطلب طول المجال، و صدق المجال، و لن تحظي الأمة بأي منال، إن لم تتركز - منذ الخطوة الأولي - علي عزم أكيد، و صبر مديد، و جلد في الانتظار، و لن يكون المنال بعد أن يقرأ القرآن آية آية، كأنه حكاية، بل بعد أن يصغي إليه ينثر، ثم يشعر به ينقش، لا في الآذان، بل في الأذهان، ثم يستمر به التبيان، من فرد إلي فرد، حتي تعم الأمة كلها حقيقة الفهم، و روعات البيان. أما النبي الكريم المولع بامته و لوعا لا حدود له، فانه لم يجد في المضمار إلا عليا - وحده - يلبي النار بجذوة النار؛ فهفا عليه كانه السيف ملقوطا بغمده، لا لأنه طالبي تتنفس فيه رغوة الدم، بل لأنه الندرة الهابطة من شهوة الحق. و ليست إلا له قيمومة علي رسالة تحيي امة، و امة تخلد رسالة... ألا فليكن علي أول إمام، معصوم عن خطأ، و ليتسلم زمام الرسالة المختصة بالأمة، من جيل إلي جيل، حتي و لو دخلت المسافة إلي ألف سنة... و ليكن من صلبه - لهذه المسافة - طوق إمامي يبلغ الاثني عشر. من أجل أن تبقي مسافة متواصلة الربط و الشد - لأن المجال الطويل يمتن المران، و يوسع آفاق الهداية، - و الأمة - و قد ضاق منها المران، و ضاقت عليها آفاق الهداية، انما هي اليوم باشد الحاجة إلي ما يردها إلي ضبط الزمام! اما الطالبية - أردف النبي الجليل يفسر - و ان تكن شعاري في اعتزازي بدوحات الجدود، غير اني أحسبها حجرا من حجارات المداميك المشدودة بها قلعة الأمة، و لن يكون هذا الحجر متينا إلا بمتانة كل الحجارات المتكاملة بها رصفة الأمة... و هكذا كان اهتمام النبي بتشديد أزر علي في تولي الزمام، لا تعزيزا لبني‌طالب، و انتقاصا من بني‌خزاعة، أو بني‌امية، أو بني‌سليم و مخزوم... بل تشديا للأواصر - كل الأواصر - و لم يكن التخصيص [ صفحه 37] برجل معين، إلا لأنه الرجل الموهوب و هو - وحده - الآن يتمكن من ضبط الأواصر، و نقل الرسالة بجميع ابعادها الطالعة من سرية الغار، إلي الأمة الغافية، و التي - بنوع خاص - لابد من أن تكون علي مثل هذا الانتظار! و بعد جولات و جولات في ساحات الصراع و الاصطراع،... آمنت الجزيره حتي في لا وعيها المزعج - بالنبي الحامل اليها كتابا... لقد بهرت به، لأنه ضخم - كما يبدو - و ان لم تعرف كيف تقرأه!!! و لكنها صدقته. لأنه شعرت بأن في عزم حامله صدقا - و شوقا - و جهدا مبلولا بدم. [ صفحه 39]

الإمامة

و أعطي الإمام موسي العمق كله في دراسة الإمامة في كل مضامينها التي ادعتها الخلافة - و اصبحت الدراسة هذه فرعا من معارف الإمام موسي، و لقد ألم بها!!! و الإمامة: و لقد افترضها النبي الجليل و ابتغاها، و أوصي بها قبل ان يمم جنان ربه - انما هي منه و له في كل مبانيها و معانيها، و لقد جعلها تمارس تحت عينيه، و امام مجالات تبصره، من دون أن يزيح عليا من تحت ابطه، مشيرا إليه بانه هو الوحيد الثمين الذي يخلفه و يتولي القيام علي تأدية الرسالة النفيسة من بعده - و ليس القصد في القول [من بعده] ليعني أن عليا - بالذات - لم يكن من وهج الرسالة، و لم تكن - هي - من وهجه. من هنا كان النبي الحريص علي مجتناه الأبدي، حاضر الذهن، و بليغ الاهتمام برسالة تبني الأمة و تحضرها، من ليل له قمر يغيب، إلي يوم لا تغيب الشمس عنه... و من هنا - بالتمام - كان النبي العليم يهفو علي فتاه النجيب، و يلملمه بكل نجم كان يستضي‌ء به أفق الغار، و يكحله بكل ضوء كان يتلقط به خارج الغار. و ابتدأ نهج الرسول بتشديد و تسديد لب الفتي بحقيقة الممارسة، و ها هو تحت عين النبي - يمشي الطريق و في يمناه حسام، و في شوقه كل الضرام: يبشر بالكلمة الحق، و بالعزم الذي هو شعاع من منار... انها الممارسات التي ارادها النبي متحفزة بكل ما فيها من و ثبات. [ صفحه 40] حتي إذا ما غاب، راح إلي ربه مطمئنا، من أن الذي يخلفه قد تقوي بالصواب، و هو الصادق الأمين الذي لا ريب فيه باستمطار السحاب علي الأرض اليباب. و الإمامة - بدورها - لا يجوز ان نمل من اعادة تفسيرها: مبني، و معني، و قصدا مستطابا، حتي يكون لها - في الذهن - فهم مطلق و مرسخ في الألباب... انها امامة مشتقة من أم، و هكذا تكون في التمثيل أبلغ من خلافة، لأنها أم الرسالة التي هي - بكل مبانيها و معانيها - إحاطة بالمجتمع الذي هو، بكل مقدراته الماضية، و الحاضرة، و المستقبلية، الجزيرة العربية المتمددة فوق صحاري الرمال، و المتفاعلة مع كل امتداداتها إلي كل جوار، بحيث تمت للكل - عبر التاريخ السحيق - عمليات الأنصهار، و عمليات التداخل و التبادل و التمازج، من اجل تحقيق المصير، و تصويب المسار... انها الأمة الوسيعة في مجالاتها المتلازمة بفاعليات المدار، رآها النبي الواسع العين، بحاجة إلي ضوابط لابد من الالتزام بها حتي تستقيم امورها في الحد الحياتي، الذي لا يجوز ان يكون غير متين الجدار... و لقد رأيناه - فعلا - كيف راح ينسق تمتين الجدار، و ها هو الآن ينزل إلي الساحة العريضة يمتن الأمة، ليكون لها السهر الطويل علي تمتين الجدار. و لكن الخلافة ما أرادت ان تري ارتزام الجدار إلا بعينها السياسية التي هي - بزعمها الآخر - تتمكن من تمتين الجدر، و فعلا اشتدت الخلافة إلي الساحة، بحوار غير ذياك الحوار، و شطبت الإمامة من خط المدار، و ها هي تنهض في الشام سعيدة الخطوات - و إن زائفة - بينما راحت الامامة في يثرب - و ان خائفة - تركز ذاتها في لطوات مقهورة بالعذاب، و الاضطهاد، و الدم المسفوك، ليبقي لها - فقط - من ايجابية الصراع، تثبيت ما رسمته لها مخططات النبي العظيم في ايلائها - وحدها كامامة - خط ابلاغ الأمة حيثيات [ صفحه 41] الرسالة بكل ما فيها من صدق، و حق، و طهر، و توضيب استقامة، لا لأن تقرأ، بل لأن تشرح، و لأن تعاش في مداها الطويل و لا لأن تحسب رسالة مخطوطة، بل لأن تعتبر امة مضبوطة بكل ما سننتجه من ايجابيات ناتجة منها في مسيراتها الطويلة المتكاملة بالعلم، و الفهم، و الضمير المولع بالفضائل التي هي عين الله في بنية الإنسان، و بنية مجتمع الإنسان. لا يظنن أحد ان الإمامة قد ضاعت عما خطط لها النبي العظيم، بل انها التزمت به التزاما قاسيا و ان لم تتمكن في لطواتها المقهورة من شرح الرسالة بكل ما تتوخاه الرسالة... اما الأمة بدورها، فهي التي خسرت سرعة الوصول إلي فهم و وعي، ارادهما لها نبيها الحكيم - لا لعجز في مداركها، بل لأن القابليات الفكرية و الروحية الكامنة في خزانات الأمة، ما تمكنت من تنشيطها و تفعيلها تلك الخلافة، بل - بالعكس - عملت علي تهميدها بتنشيط الترسبات القبلية البدوية الكامنة في زوايا النفوس، و هكذا استدعتها الخلافة من مكامنها لمؤازرتها في دحر الإمامة التي لا تعرف معني السياسة المحققة المجد و المسرة فوق الأرض. اما القرآن الكريم الذي لا تعرف ان تقرأه و تشرحه إلا الإمامة، فان الخلافة الممثلة الآن بالوليد، راحت هكذا تلحنه و تغنيه: إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد ليس القصد من التلميحات المريبة هذه، تجميع الشنار، و رميه في وجوه بني‌امية، لأنهم ابتدعوا خلافة يخلفون بها النبي في خدمة الأمة، و خدمة مصلحة المسلمين - بينما القصد كله محصور في ابلاغ الأمة كلها بأن كل شنار في سياسة الأمة، و توضيب شئوونها الحياتية المصيرية، لا تعاني منه إلا الأمة ذاتها، بكل ما فيها من فصائل أو انتماءات تردها إلي بطون أو قبائل... و هاهم الزعماء من بني‌امية، يتزعمون خلافة يبتدعونها، أشد [ صفحه 42] غيرة من غيرة النبي ذاته علي ذاته أو علي الإسلام!!! لا، و أيم الحق - ليس ذلك منهم محبة بالاسلام، أو غيره قوية عليه!!! بل تشديدا علي سياسة تملكهم - كامويين - زعامة الأمة، من دون أي حساب لطالبين، أو خزرجيين، أو - مثلا - خزاعيين!!! متغافلين عن كل مرمي من مرامي جامع المسلمين، في توحيد كل قبائل الأمة، و كل اسيادها البارزين، في حزمة واحدة، تنشد بالأمة، و تهتدي بهدي المسلمين! تلك هي خطيئة بني‌امية: في ترفعهم الزعامي إلي السيادة علي كل ما أراد توحيده نبي المسلمين... و لكنهم ما فهموا أن الخلافة لن تكون لهم، و لا لسواهم، في أي حين... بل لعلي، و قد جعله النبي الكريم يمارسها تحت عينيه، و قبل ان يغيب... و لقد مارسها علي - و لقد شاهدته يمارسها كل يثرب، بكل من فيها من امويين... فلماذا لم يدركوا أن الإمامية هي ذاتها الخلافة التي سيدعونها - هم ذواتهم - الأمويون! و لو أن المتلمسين خلافة الرسول، كان لهم ولوج امين إلي ذمة المخلوف، لما كان لهم ان يقرأوا الكلمة، و يفتتوا منها الحروف!!! و الكلمة بكل حروفها، هي الرسالة، و الرسالة، بكل ما فيها من أبعاد، انما هي الأمة التي ارادها النبي العزيز الجهاد: كريمة كالحق الصريح، و ملمومة ينورها السداد - فلا حقد و لا بغض، و لا كذب و جهل وعي و رياء، بل وحدة في المساواة، نظيفة الأبوة، و الأمومة، و عزيزة الاخاء... و هكذا الأمة - من يوم إلي يوم - يطول بها العمر، و يسخو لها الرجاء، و في كل واحة من واحاتها، تتبلل الأرض بانداء السماء! من أوحي إلي الأمويين ان يتلمسوا خلافة و هي خالية من مثل هذا السخاء؟! أم انهم، هم وحدهم، يستنزلون السخاء علي امة لا تجد إلا بهم هذا الرجاء؟!! [ صفحه 43] سامح الله بني‌امية، يشقون الأمة إلي ابعاض، و يعللونها بالرجاء... يرفضون الإمامة لأنها بلا رجاء، و يتلمسون الخلافة لأنها كل النبي، و كل الرجاء... ثم ينتبهون إلي انهم ضلوا ضلالا مبينا إذ آمنوا بكتاب إسمه القرآن، فأوعزوا إلي خليفة منهم، يمثل النبي، و يمثل القران، و هو عليم، و مقتدر، و فهيم... فتناول القرآن بدفتيه - و خرقه تخريقا... لا لأنه وعد وسيع البعد... بل لأنه خسر الأمة كل وحدتها. و كل رجائها في السخاء!!! ألا بئست سياسة بلا عين و لا أذن و لا عهد: لملمت التراب و جردته من السحاب... و حطمت القوس حتي لا تنبض بالنبال، و ادعت انها السهم، و الخيط، في شدة الزنار، و انها الضوء الهابط من قطب المنار... و ساء قصدها، من دون ان تري و مضة القصد في نبي عظيم أمطرته النعمة صفحة الأرض، فراح يوضب أمة مشفوعة بقرآن، سيكون لها - في ردح من الزمان - عين و شفة و لسان، يتمجد بها الله في كينونة الإنسان. و لا بنوأمية... لن تطول بهم سياسات الجفاء و سياسات العياء!!! سيكون لهم - أيضا - يوم الوفاء، و يوم المعاد إلي لقاء، و إلي صفاء... انهم جزء عريض من الأمة... و سيكونون منها في دعم الرجاء... و تحقيق السخاء... و سيكون لهم - ذاته - القرآن الكريم الدفتين، و المتسع الآفاق - في تنوير اللقاء، و تنوير البقاء. [ صفحه 45]

الإمام زين‌العابدين

انها الدراسة التي أنشأها الإمام موسي بجده زين‌العابدين و هي تتناول الامة عند ما يتملكها الوعي بعد انتشار العلم فيها - و ابتدا العلم مع الامام الباقر. إنه علي الأصغر، فلنكن معه و هو في الثالثة و العشرين من عمره لقد كان في قافلة ابيه الحسين، المنسل من يثرب إلي مكة، لاعداد تقرير يقابل به يزيد الذي يطلب - بالحال - مبايعة الحسين له، ثم بعد المبايعة يسحب الدم من وريده. لم يكن الفتي الملقوط باسهال عنيف، ليبتعد لحظة عن أبيه الذي يحبه حتي الوله، و كذلك الحسين، فانه كان يمحض فتاه عناية مخصوصة، لا لأنه مريض حتي يشفي، أو لأنه المعدود الوحيد لتقبل الإمامة، بل لأنه منذ عهد طفولته، حتي هذه الساعات الحرجة من اليوم الحاضر، لا يزال يكتشف فيه نوعية من شفافية و هدوء، و ذكاء، ستجعله - حتما - وليا من الأولياء، و وصيا شبيها بجده علي الذي خصه النبي العظيم بأعز وصية. من يثرب إلي مكة - و من مكة إلي كربلاء - تم للفتي المتين الشوق، و الرهيف البهاء - استيعاب أبيه، بكل ما يرمي اليه من مقاصد و أبعاد... لقد دارت أمامه كل الأبحاث، و كل الدراسات، و كل الاستطلاعات، و كل الشئون المتعلقة بالأمة، و بيزيد، و بكل حكم قد تفيد منه الأمة أو لا تفيد. لقد تبين للفتي - بكل جلاء - أن للأمة وحدها كان المجال في [ صفحه 46] البحث، و الدرس، و أبوه في مكة يبحث، و يدرس كيفية النجاة من يزيد الذي لا يريد - فقط - حذف وجوده من قدر الأمة، بل امتصاص كل حيويات الأمة، و جعلها ترقص في زندقاته، و إباحياته الصبيانية - القبلية - السفيانية، حتي لا نخصها بالأموية.... لقد حاول أبوه الحسين - بالبحث - جذب الأمة كلها إلي صدره... لا ربعها، و لا نصفها، بل كلها، لأنه لا يريدها - أبدا - مفروطة إلي أرباع أو أبعاض!!! و لهذا مشي الطريق الطويل بين مكة و كربلاء - حتي تراه الأمة كلها ماشيا بثورة تنجيها من يزيد، و من أمثال العديد من يزيد... و لكن الأمة لم تمده ببطولة كالبطولة التي بقيت له وحده علي طول الطريق، الا بعض زهيد من أبعاض الأمة... و لأنهم أبعاض لا يؤلفون الكل، المرصوص، الفاهم، و المقتدر - ردهم إلي بيوتهم سالمين من هدر دمائهم، لتبقي بانتظاره - وحدها - كربلاء تمتص وريدا له، يعلم الأمة كيف يكون بذل الدم، رفضا لأي ذل يخسر النفس حقها في مجالات النبل و إشراقات الإباء. و لقد بكي أباه - علي الأصغر - بدمع مرير و سخي - لم تشهد عين - قط - سخاء بمثل نفاسته... و لكنه - و قد تسلم الإمامة ليبذلها سخاء علي الأمة - أوقف الدمع عن جريانه، لتصفو عينه، بالنظر، إلي كل ما تحتاجه أمة ابيه التي بذل لها مهجته، و امة جده علي التي قدم لها نهج‌البلاغة مسقيا بدمه الطاهر المقدس، و امة جده الأعظم، و هو النبي المقدم للأمة سورا و آيات - ستجد فيها - هي الأمة - ما يقيها من مهاوي الذل، و ما يفتق فيها الوعي و الادراك و هما الخبيئتان الكامنتان في خزائن روحها، و لن تستنجد إلا بهما في اليوم الآتي، فتكون لها دوحات الجهاد، في تحقيق البقاء، المرجو لها في صدر الوجود! و لكن الجهاد قد ابتدأ عريضا جدا مع جده الإمام علي! و لم يحقق إلا [ صفحه 47] استشهاد علي!!! و لقد قام وسيعا - أيضا - مع عمه الحسن! و لم يحقق إلا كوبا من عسل، دست فيه زوجة عمه جعدة بنت الأشعث، نقطة سم، فتحت للحسن فوهة اللحد!!! و لقد اشتدت للجهاد عنق ابيه الحسين، لتحقيق البقاء المرجو للأمة! و لكن عنق ابيه كانت المقطوعة من حدود الكتفين!!! فاين هو اليوم الآتي بالرجاء الثمين؟!! كل ذلك كان يدور في خلد الإمام الصغير و هو ساجد يصلي في بستانه العامر بخمسمئة نخلة في يثرب... و لكنه لم يكمل صلاته المبلولة بالدمع!!! بل انتفض به عزم جديد راح يمشي به في البستان، من نخلة إلي نخلة، و هو يردد في ذاته: - و لكن اليوم الآياتي لم يصل بعد!... و لم يبدأ - حتي - بعد... ولو انه قد وصل... لما كان قد قتل - لا جدي علي! و لا عمي الحسن! و لا الحسين البطل البطل!!! لما كان قد وصل إلي الأمامة: لا ابن‌الصديق! و لا ابن‌الخطاب! و لا ابن‌عفان! و لا ابن‌سفيان و لا هذا اليزيد المتربع في كفة الميزان!!! بالله عليك يا حق! الا قل لي: من قتل العلي؟! هل هو ابن‌ملجم؟ و من سمم كوب الحسن؟! هل هي ابنة الأشعث؟! [ صفحه 48] و من حز رأس الحسين؟! هل هو - فعلا - يزيد بن معاوية؟! و من عصي النبي كأنه صدر لا ضلع له؟ هل هم بنوحرب في لفتة العربان؟! و من ترفض الإمامية كانها شوكة الحنظل؟! هل هو بنوسفيان من قبائل الرعيان؟! لا - يا واقع الحق!!! ان الأمة كلها - في واقع حالها - تناولها الذنب... و ليس لأنها واسعة المدار... أو لأنها - بشكل آخر - ترفض اتساع المدار... بل لأنها - بكلمة واحدة الاختصار - جاهلة - لأعني بواضح القول: لا علم يوسعها إلي وعي!!! و لا ثقافة تلملمها إلي ادراك!!! فهي الجاهلة: من دون مدرسة... و من دون قيم.... و من دون كتاب!!! و لن يكون الوعي من عنجهياتها - بل من تسلسل المعارف! و لن يكون الادراك من جاهلياتها - بل في تمرسها بافعال الصواب! و العلم - وحده - هو المسطر الكتاب. و الممارسة الطويلة الاهداب هي التي تمحو الجاهلية من الأذهان. و تستبدلها بالصواب! و ترك الإمام بستانه متجها إلي بواية الدار، و قبل أن يفتحها، وجد فتاه الصغير المدعو بالباقر، و هو في الرابعة من عمره - كانه بالانتظار - فتناوله بكلتا يديه إلي صدره!... و نادي فاطمة ابنة عمه الحسن - و هي زوجه التي [ صفحه 49] انتقاها له أبوه الحسين و زوجه بها منذ خمس سنين... قال لها: لا تفتقدي فتاك بعد الآن، سيكون معي دائما في المسجد. و لن تقفل ابدا بوابة المسجد... - و اني ابشرك يا فاطمة. فالمسجد اليوم - و من هذا اليوم - هو المدرسة. و غدا - انشاء الله - هو الجامعة. و ابنك الباقر هو أول تلميذ. ليكون - في اليوم الآتي - أول استاذ في الجامعة. و اول من أنتدبه لجمع الكتب كلها من اقاصي الأرض. و درسها، و تعليمها في جامعة يثرب... حتي يختفي الجهل من رقعة الأمة... و يعم الوعي و الادراك - في طالع الأيام - كل فرد من أفراد الأمة... و كل حاكم من حكامها. حتي و لو كان اسمه - يزيد! فلا يعود يقتل الحسين! بل يحييه و يعيده من الرميم إلي تسطير الرقيم. و تزيينه: بالعلم، و الفهم و النبل الذي هو: حقيقة الوعي و حقيقة الإدراك [ صفحه 51]

الإمام الباقر

انه خامس الأئمة بالعدد المتسلسل، و لكنه النازل - في حسابي - ثانيا في العقد المختص ببناء الأمة، علي أساس ركين لا تتمكن من زعزعته عوادي الدهر... و الثاني يعني انه الإمام الابن الذي خلف أباه الإمام زين‌العابدين الطالع من حزن كربلائي، ما كاد يفجر دم ابيه الحسين، حتي فجر فيه - هو بالذات - مواهب انبلجت من مداركه، و أكدت له: أن الخنجر، الصدي‌ء الذي حز رأس ابيه، هو ذاته الملفوف به صدر الأمة الهاجعة في أخاديد الليل!!! ان الجريمة الشنعاء - و قد حصلت في كربلاء - تشهد أن الجهل جعلها تحصل!!! و متي كانت الجريمة غير بنت الهزيمة، هزيمة العقل الذي لا ينوره العلم فيمنعه من ارتكاب الجريمة؟!! و الجريمة؟ أليست هي ذاتها الهمجية التي غرق فيها يزيد؟!!! و الجيش الذي جمعه يزيد؟ أليس هو الأمة في قبولها المنحني أمام عنجهيات يزيد، و لم يمكنها إلا أن تخضع لأوامر يزيد، في تمكينه من ارتكاب الجريمة التي هي محض همجية!!! لقد صم الإمام زين‌العابدين - كما فهمنا منذ لحظات - علي محو [ صفحه 52] الجهل من ليل الأمة... اجل، الأمة التي ما كاد يهل في صبحها نجم، ما تلملمت بمثل شعاعه منذ زمن طويل، حتي هبت اليه تطفي‌ء نوره و تخنقه بالعصيان، و تحد من زخم امتداده ضوءا مطلا فوق مشارفها، من يوم يبتدي بعلي، إلي غد لا ينتهي به الزمان!!! فليحذف ابن‌أبي‌طالب، من دوحة المكان - و كذلك فليلحق به الحسنان!!! اما الليل الطويل، فهو الذي تقر - فيه - عين الزمان! أي شي‌ء، من كل هذا، لم يدركه الإمام زين‌العابدين في تأمله الصاحي، و راح يرسم له عزما علي محوه - جهلا - يعرقل الأمة عن أي بلوغ؟!! العلم - وحده - إذ يشمل الأمة، و لو بعد وقت طويل، يحرر الأمة من ارتكاب الجريمة!!! و هكذا رأيناه يفتح بوابة المسجد مدرسة ستصبح جامعة علمية في يومها المقبل... اما ابنه الباقر، فهو المحضر للتفتيش عن كل كتاب و لو كان في طرف الأرض، لا لتتزين به رفوف المكتبة في جامعة يثرب، بل ليدرسه الفتي النجيب، و لينقله علي الطلاب: علما، و نورا، و هديا. فلنتعرف عليه هذا الباقر، و لنصفه الوصفتين: الجسدية و الروحية، حتي نراه في هذا الجسد، بالذات - و هو القصير القامة، و غير البدين، و غير المديد الساعدين، و غير العريض الجبين... حلت به و فيه روح عبقرية، جعلت قامته أطول من رمح، و ساعديه كانهما جدلة قنب، و جبينه واسعا كأفق، و عينه الصغيرة الصغيرة، كانها عدسة مجهر، تلملم الأبعاد من خلف البصائر، و من تحت الوهاد، لتنشرها ضوءا تستضي‌ء بها ألباب العباد. ألا يكفيه فخرا هذا الفتي الخارج من لوعة جده الحسين؟ لقد عاش في حجر جده الحسين اربع سنين، قبل ان يغيب جده المغوار في عب الشهادة! إنه - بالذات - هذا الفتي الضيق العين، ثقب بلاس المخيم في كربلاء، [ صفحه 53] و شاهد، من الثقب الصغير بعينه الصغيرة، جده الأكبر من الجريمة، و الهزيمة، يتمدد قتيلا، ثم مقطوع الرأس، في مرابع كربلاء!!! لم يعتلج بأكثر من رمي ذاته إلي الساحة الممتلئة بنزف الجراح!!! و بقي صامتا منذ ذلك الحين، إلي حين آخر، همزه فيه ابوه زين‌العابدين، إلي التفتيش عن كتاب و قرطاس، يكتب بهما و عليهما اسم جده الحسين، و اسم الأمة التي لم تتعلم كيف تنجي الحسين من فخوخ الجريمة!!! و لن يخفي الجريمة إلا الكتاب و القرطاس، و اثناهما، قد اقتنصهما جهد الباقر إلي الجامعة و ها هو يفتق عنهما كل غلاف مبهم، و ينشرهما تدريسا و تفهيما، حتي يكون للامة في يومها الطالع، نور ساطع، أو حس مرهف، يقززها من طعم و ريح الجريمة!!! و يكفي الفتي فخرا - و هو العاشرة من عمره - يجالس جابرا بن عبدالله الانصاري، علي مدي سنتين طويلتين، و ياخذ منه، عن جده النبي، كل الاستطلاعات، و كل الامكانات بجعل الأمة واعية، و محققة أمجاد ذاتها... و لن يكون كل ذلك لها إلا بتجهيزها بكل علم، و كل فن، و كل احاطة بجمال... و ان العلم نوعان: علم صغير، و علم كبير... و من اختصاص الصغير بناء الشخصية المفردة، و من اختصاص الكبير بناء الشخصية الكبري التي هي الأمة، مجموعة كل الأفراد... من دون الاثنين - لا كيان فردي يزهو بذاته، و لا كيان جماعي يطل بالأمة إلي مجد!!! و هكذان اختزن الفتي في ذاكرته، ما يجعله يلبي: شوق ابيه إلي جامعة تنشر العلم في الأمة، حتي يغدو العلم ثقافة عامة - و يلبي شوق جده النبي إلي جمع العلوم و بقرها علي الأمة حتي يعز بها المصير... و ان الانصاري، بالذات أبلغ جليسه الفتي بان النبي الجليل - بالذات - [ صفحه 54] بخ في اذنه البشري و هو يقول: - سيكون من نسل الحسين عزوم آخر، يجمع العلوم كلها، و يبقرها علي الأمة زادا يوصلها إلي معاد... و قبل ان يغمض الأنصاري عينيه و ينام، كان الفتي محمد، يوشوش أباه في الجامعة، بحقيقة البشري فاحتضنه أبوه متهللا و هو يقول له: بعد غد يا ابني إرحل إلي كل قطر فيه كتاب، و فيه علم، و فيه خبر،... احمله، و جي‌ء به، و خلصه من خواتيمه، و انشره في الجامعة: تفسيرا، و تفجيرا... و لنعم الفتي - أنت الباقر! و يكفي الفتي فخرا، انه عاش في ظل امامة ابيه زين‌العابدين، ثلاثين سنة، و هو يفتش عن مصادر العلوم و يحملها إلي الجامعة في يثرب... و لأول مرة في تاريخها، عرفت الجزيرة علم الجغرافيا الاتي به الباقر من مصر، مترجما من السريانية، بواسطة الجغرافيا البطليموسية... و لقد سمع هذا الشرح عمر بن عبدالعزيز، فابتهج به، و أمر بتوسيع الجامعة أربعين ألف ذراع تكريما لمجهود محمد الباقر! و يكفي الفتي فخرا انه جمع من مصر، عن طريق الاقباط: علوم الفيزياء و الفلسفة الاغريقية، و علم الهيئة، و علم الكيمياء... مع التاريخ، و الهندسة، و الحساب، و الطب، و الاقتصاد، و مطالع النجوم... و كان يشتغل - علي مدي خمسين سنة من عمره - من الفجر حتي النجر - كما يقال... و هو - وحده - يدرس كل هذه المواد العلمية - و لقد ناف عدد تلاميذه علي اربعة آلاف، متوافدين إلي الجامعة في يثرب من كافة انحاء الجزيرة. أما الولاة الذين عاصرهم، و وعدهم مثلما وعدهم من قبله الإمام زين‌العابدين: بانه يترك لهم وحدهم سياسة الحكم، من دون أي تدخل في امور السياسة، طالبا منهم - بدورهم. ان يحترموا الجامعة التي هي: علم، و ثقافة [ صفحه 55] و فهم، و ادراك، و أخلاق... و هكذا لباه، و احترمه شديد الاحترام، عمر بن الحكم بن العاص، و عبدالملك بن مروان - و سليمان بن عبدالملك، و يزيد اخوه، و هشام بن عبدالملك الاخير... اما عمر بن عبدالعزيز، فكان الحاكم الوحيد الذي احترم الجامعة بصدق مجرد، و باخلاص مقتنع: بان العلم الموصوف بالكبير، هو المنجي الأمة من ذل خطير، لا يعلم إلا الله كم هو المجرم! و انتقل الإمام إلي جوار النبي الكريم، ليقرئه السلام، و ليعرض عليه ما تمكن من حصاد متمنيا لابنه الإمام جعفر الصادق بذلا نفيسا آخر، يقذف الأمة إلي بحبوحة أخري متمادية بالطول و العمق، توسع لها الدرب الموصل إلي وعي يندحر به الجهل الشنيع الذي لا تعشش إلا فيه أوقار الجريمة. [ صفحه 57]

الإمام الصادق

انها الدراسة الأخيرة التي قام بها الإمام موسي متهللا بما حققه ابوه الصادق من جهد وسيع يبشر الأمة بانتظار يومها الآتي بانتصار الوعي، و نشر الوية اليقين!!! يا للانتظار كيف يهدهده الكافرون!!! انه الإمام السادس في الدائرة الإمامية الاثنتي عشرية في التخطيط النبوي الشريف، ليكون الثالث في الإمامة الزين عابدينية المركزة علي محو الجهل من الأمة، بواسطة العلم الوسيع الموجه، و هكذا رأينا الإمام زين‌العابدين يفتح بوابة المسجد في يثرب، ليكون المسجد مدرسة - هو الإمام - أول معلم فيها، و بين يديه ابنه الصغير محمد الباقر، كأول تلميذ تربع علي طراريحها - ثم ليكون هذا التلميذ أول بحاثة عن مصادر العلوم، و راح - طوال حياته - يجمع لها الكتب العلمية من كافة المصادر، أكانت في الجوار - كالشام مثلا، أو في سوريا، أو القاهرة في مصر، أو جنديسابور في ايران، ام في الاقطار البعيدة، كايطاليا في أوروبا، أو في الشرق البعيد - كالصين، و الهند و ما أشبه. و صارت المدرسة جامعة في أواخر أيام منشئها، بفضل الكتب المستوردة اليها، و هي الوسيعة في مضامينها: التاريخية، و الجغرافية، و الفيزيائية، و الكيميائية، و الاقتصادية، و العلمية - الطبية - الفكرية، و الفلسفية... و كان - هو ذاته - الجامعها، يدرسها، و يفتق معاليمها، ثم يعمل - وحده - علي تدريسها، و ليس معه من معاون، إلا تلميذ واحد هو [ صفحه 58] ابنه جعفر، ثم، بعد ان بلغ - جعفر - رشده في استيعابه مضامين هذه الكتب، انفتل من تلميذ إلي استاذ مع ابيه، يهتم في معاونته بتلقين الطلاب المتوافيدن إلي الجامعة، و قد أصبح عددهم في حدود الأربعة آلاف طالب. صحيح ان للإمام زين‌العابدين أولية التأسيس لمدرسة ابتدائية، توسعت إلي جامعة علمية مع ابنه الباقر الموفد إلي كل قطر فيه كتاب، لأغناء الجامعة به، و لكن الحفيد جعفر - بدوره - قد اشترك - باكرا - بعملية التأسيس، مرافقا جده لمدة عشر سنوات، ثم أباه لمدة عشر سنوات أخري، بحيث كان له مع الاثنين جهد نفيس ضمه اليهما، بمران و اقتباس، جعلاه يقفز قفزات واسعة و سريعة بنقل الجامعة من مستوي عادي، إلي مرتبة علمية غنية، لم يتمتع الشرق بمثلها منذ زمن بعيد... و لكن الجامعة - علي عهد ابيه الباقر - ما كان لها، في ازدهارها المدهش، إلا استاذ واحد يضطلع بكل المهام فيها: من جمع الكتب النفيسة اليها، و تفتيقها من مضامينها، ثم تلقينها للطلاب بما أمكن من الشرح و التفسير... انه - وحده - الباقر، و ان يكن فتاه جعفر قد بدأ نجمه يظهر، مبشرا باستاذ جديد، ستتوسع - به - ردهات الجامعة! و لكن الباقر - ما كاد يطويه الغياب، و يتسلم مكانه ابنه جعفر، حتي رأينا الجامعة - و هي تقطف ثمار الجهد الباقري - لا يتنقل استاذ واحد فيها، من منبر إلي منبر، حتي يلقي درسا خاصا - مثلا - في مادة الحساب، أو في مادة الجغرافيا، أو التاريخ، أو اللغة، أو الفلسفة، أو الفقه، أو علم الاجتماع... [و المواد العلمية كانت قد وصلت و قتذاك، في الجامعة إلي حدود العشرة] بل اصبح للجامعة في عهد الإمام جعفر، عشرة اساتذة يعتلون عشرة منابر، للشرح و التفسير، و التلقين المتين، و من أجلهم في البيان. الإمام جعفر. [ صفحه 59] لقد أثمرت كل الجهود الباقرية التي ملأت الجامعة باربعة الاف من الطلاب الذين اختارت منهم الجامعة عشرة أساتذة يتمكنون من اعتلاء منابرها في التعليم، و لسانهم واحد في شكر المؤسس العظيم الإمام زين‌العابدين! اتراها الآن - بعد ما يقارب السبعة عقود - قد بدأت تهرول إل اندحار - جحافل الجهل - إلي ليلها المعتم - لتنعم الأمة بصبح جديد يشع عليه نور العلم!!! فليقو التفاؤل مع الإمام... و ها هو إثر غياب ابيه إلي الملأ الأعلي - يوسع الجامعة بفرع ينشئه في حيرة الكوفة في العراق، يضم في جوانبه تسع مئات من الطلاب، ليشتهر من بينهم: هشام بن الحكم، و هشام بن سالم، و مؤمن الطاق، و زرارة بن أعين، و أبان بن تغلب، و النعمان أبوحنيفة، و مالك بن أنس، و سفيان بن عيينة، و سفيان آخر هو الثوري... من دون أن ننسي - أبدا - جابر بن حيان! لقد ملأت رفوف المكتبات - في ذلك الحين الباقر - مؤلفات زرارة بن أعين - و كذلك كل من أبان بن تغلب، و مؤمن الطاق، و النعمان أبوحنيفة، و مالك بن أنس... أما جابر بن حيان فكان مكتبة كيميائية، بحد ذاته: كتاب في علم الكيمياء - خمس مئة رسالة تبحث بالحركة العلمية - كتاب عنوانه [علم الميزان] في معرفة طبائع المعادن، يقول فيه: [النحاس هو فضة تلهت عن ذاتها] و هو - أيضا - يبحث في تحضير حامض الكبريتيك، أو «زيت الزاج» - و في تحضير حامض النتريك، و ماء الذهب، و الصودا الكاوية، و كلورور الفضة - و الراديوم... و لقد تمني عليه الإمام الصادق: أن يجد له قرطاسا لا يحترق. و كان له ما تمني... [ صفحه 60] و مع الإمام جعفر انتهي الشرح الكلامي، و الحفظ في الذاكرة - و شدد علي التسجيل، و التدوين - و هكذا ابتدأ الاعتماد علي الكتابة، و ها هي المكتبات راحت تعج بالكتب... و من ابرزها كلها في هذا العصر - عصر الإمامة المثلثة: [توحيد المفضل] املاء الإمام جعفر علي تلميذه المسمي - أيضا - بالمفضل... كأن المفضلين هما مفضل واحد - و يبدو ذلك صحيحا - و كتاب المفضل، انما هو في البحوث الطبية. و وظائف الاعضاء، و الدورة الدموية، و الجراثيم، و تشريح الإنسان... و هكذا - بنعمة التدوين - خف الاتكال علي الشروحات الكلامية، و راحت تحتل مكانها قراءة الكتب. و لقد أحاط الإمام جعفر بكل العلوم الفيزيائية، و التجربية التشريحية و الكيميائية، و الفلسفية الفقهية، و الاجتماعية الإنسانية... و انه - هكذا - فيلسوف، و فقيه، و مشترع، و طبيب، و فيزيائي، و كيميائي، و مؤرخ، و اديب... و حتي نلم به إلماما كاملا، نقول: ولد الصادق علي عهد الخليفة الظالم، الوليد بن عبدالملك بن مروان - و لما مات الوليد كان عمر جعفر ست عشرة سنة... و بعد الوليد جاءت ولاية عمر بن عبدالعزيز، ثم يزيد بن عبدالملك، ثم هشام بن عبدالملك، ثم الخليفة الوليد بن يزيد الذي خرق القران الكريم و هو يتباهي بالقول: إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد...! و بعد انتقال هذا الوليد بن يزيد إلي مواجهة ربه، جاء دور ابنه يزيد الموصول بأخيه ابراهيم... ثم حذفت الثورة كل الأمويين، بواسطة العباسيين، باسم السفاح، و من خلفه الداهية منصور الدوانيقي! [ صفحه 61] ولد الصادق سنة: 8 ه، و انتقل إلي جوار ربه سنة 148 ه، و لقد عايش الأمويين اثنتين و خميس سنة. و عايش بني‌العباس اثنتي عشرة سنة: أربعا للسفاح، و ثماني للمنصور الدوانيقي الذي اضطهد الهاشميين و زجهم في السجون، و صادر أموال الصادق، ثم قتله بالسم، و لم يرجع الأموال المصادرة، إلا المهدي - بعد وفاة المنصور - الي الإمام موسي الكاظم. ليت المهدي لم يرجع الي الكاظم - فقط - إرثه من مال أبيه الصادق - و هو الزهيد - بل إرثه في إدارة الجامعة - و هو المدير!!! لو أن إرثه هذا قد طال الي هذه الساعة، لكانت الأمة اليوم في أوج مجدها من ثقافة تحقق لها العمر المجيد. [ صفحه 65]

مع موسي بن جعفر

الإرث‌

لقد كان في نهاية الإطار الأول من هذا الكتاب [و الإطار هذا - بكل ما فيه - كان بحثا متسلسلا في كل الجذور المتركزة عليها الإمامة الواصلة حتما الي إمامنا الكاظم] وصول الي منصور الدوانيقي يصادر أموال الإمام الصادق، و لم يرجعها إلا الخليفة المهدي، بعد وفاة أبيه الدوانيقي، إلي ابن الإمام الصادق الإمام موسي الكاظم، و هو وريثه الوحيد في خط الإمامة... و لقد تمت الإشارة الي أن الأموال المعادة، هي الإرث المعاد الي أصحابه الإماميين، و يا ليت المعاد - أيضا - كان في إرجاع إدارة الجامعة الزينعا بدينية إلي إمامة موسي الكاظم، و هي خط إمامي سيتركز عليه - في مداه الطويل - تثقيف و تنوير الأمة، في مجالاتها الطويلة، و إيصالها الي الواحات الأمينة! ذلك هو الإرث، و هو المحصور في الإمامة المشدد عليها في تخطيط الرسول، لتكون امتدادا إثني عشريا، يطول بها الي تحقيق حضاري أكيد. هي بأشد الحاجة اليه متون الأمة! و احتجز الإرث، و هو جامعة علمية منورة بالوعي و الحق، أكثر مما هو أموال مهددة بالعهر و الفسق، و لم يرجعه الي الأمة، لا مروان هشامي، و لا مهدي عباسي، و لا أي من تتري... لتبقي الأمة نهبا لسياسيين يبنون [ صفحه 66] علي كتفيها عروشا من بهتان. يمتصها ضرعا، و عظما، و إنسانا يتردي في ذل و هوان!!! هذا كل ما ورثه الإمام موسي... و صبرا طويلا علي كل المكاره، عل الدهر يطور من مآتيه، و يحول المر إلي لبان، و يرد الحاكم من بهلوان الي إنسان، و الانسان من ذليل، الي عزيز، يأبي الهوان!!! و كثيرا ما حاول الإمام زرع الله في الأذهان، حتي يفيق الحاكم مرتجعا الي وجدانه... و لكن الوجدان ذاته أصبح المهراق، و لا أي من حاكم، أفاق - و بقي الإمام - وحده - السهران - يتحمل الذل، و يتحمل الهوان، و يتحمل الحاكم، و لو كان اسمه هارون‌الرشيد: يدعي أنه الرشيد، و انه البطل الصنديد!!! و راح الإمام يقنعه بأنه - بعين الله - لن يكون صنديدا، بل مستبدا عنيدا!!! و كان الجواب فتح السجون المعتمة، لتكون أطول من دهر، و أمر من قهر... و تحملها الإمام بأناة طويلة، معتبرا أن الصبر الطويل يقصر عمر الدهر، و يحلي مر القهر، و يعلم الحاكم أن الرجوع من عي الي وعي هو المحقق للإنسان قيمة الإنسان؟ تلك هي حقيقة الإمام الكاظم: صبر طويل و انتظار لا يمل من إمكانية تحقيق ما تصبو اليه مجتمعية الإنسان... أما التحقيق، فهو الرجاء الذي لا ينقطع الأمل من الحصول عليه. و ذلك هو أمل الأمة في الإمامة التي زرعها الرسول الكريم في بال الأمة، ليكون بها وصولها الي الرجاء المبتغي! أما موسي الكاظم، فهو الآن في عهدة هذا الكتاب، فلنتناوله مليا من قبل أن يولد من أبوين: هما جعفر الصادق، و حميدة البربرية المشتراة بسبعين دينارا - الي أن يمشي علي أرض الجزيرة إماما صابرا صبرا طويلا علي مكاره الدهر - تحقيقا لأمة لا تزال ضميرا صامتا، لم يفعل بعد فعله الصادق. [ صفحه 67]

تمهيد

فإني أريد أن أبين: أن كل ما جاء الآن في هذا الكتاب - في إطاره الأول - كان سردا تبيانيا عن أجداد الإمام موسي الكاظم، ابتداء بالرسول العظيم، و هو الركيزة الأولي في بنية الإسلام، و انتهاء بالامام جعفر الصادق في أبوته المنتجة الإمام السابع في دوحة الإسلام، و هي الممهورة بموسي الكاظم. إلي كل هؤلاء الأجداد المتسلسلين تباعا من أروقة أبهي ما فيها رسالة و نبوة، ينتهي جنين منها لم يولد بعد، سيكون اسمه موسي الكاظم. ان الانتماء - بحد ذاته - هو ارتباط جذري بحلقات السلسلة التي هي متانة اتصال - وحدة وحدة - و متانة التصاق - نبذة نبذة - لتكون الإمامة - بجوهرها الضمني - هي حقيقة ذاتية، تربط الأغصان بجذعها، و الجذع بالجذور التي هي متانة الشجرة التي ستتفيأ بها دوحة الإسلام. لست أظن الانتماء إلا و تطيبه عملية التوارث. و هي هنا - هذه العمليات النورانية - مشدودة و مرتبطة بكل المتون المرسخة في بال النبي العظيم، لصياغة رسالة تعم شعث أمة، و تأتي بها من ليل شحيح الي يوم له [ صفحه 68] صبح، و له شمس. و له امتداد فضاء... ان الغاية المتسعة بالبعد، و نبيل القصد، تأبي إلا أن تتزين بأنقي الصفات، و من أجلها: الصدق، و الطهر، و كل جمال خلقي إجتماعي،... و تلك صفات لا تنهض إلا بها مجتمعات الإنسان... فلتكن هذي الصفات النبيلة، و هي المتنزلة من سماء، و المرسخة في البال، هي التي يتنعم بها النبي، و يبدو بها مثالا يتوارثه من بعده الخط المرتبطة به الإمامة، من أول إمام الي آخر إمام. و هكذا فإن خط الأجداد هو الموصل الي هذا الحفيد الذي لم يولد بعد، ذات الصفات المرسخة في ضمائرهم، ليأخذها - بالإرث - و هي له في واقع الاستمرار: ان الإمام محمد الباقر، هو الآن في تمام الاستعداد لمباركة ابنه جعفر، و تحضيره لزواج ستكون منه - حتما - ولادة إمام سابع، سيعرفه الواقع الاجتماعي: باسم موسي الكاظم. [ صفحه 69]

مع الامام الكاظم‌

و في هذا الصباح الباكر، استدعي الإمام الباقر - إلي ديوانه - واحدا من أخصائه الأوفياء أظنه باسم حسان، و وشوشه بالقول: - هاك هذا الكيس المربوط بأنشوطة خضراء... لقد عبأته بكل ما في جيبي من دنانير - لم أحصها بالتمام - إخفه تحت عباءتك، و اذهب توا الي سوق النخاسين، و اشتر به أمة - لعل ما في الكيس هذا يكفي ثمنا لها... سأحرر الجارية هذه، و أهديها لا بني‌جعفر، و كأني أراه سيؤخذ بجمال الهدية، فأزوجه بها حلالا ينتظر... أتراني أحلم؟ أم ان الحرية التي سنغمر بها الجارية، هي التي ستكسوها بجمال تبتهج به مهجة جعفر!! و انتشي المكلف حسان بالمهمة، و أخذ الكيس و مشي به كأنه محشو بكل ما في خلد الإمام من جوهر... ألا يكون في تحرير جارية من عبودية الذل، مثال من عز لن يكسيهاه كل ما في الأرض من جوهر!!! و سريعا ما وجد صاحبنا نفسه - و هو المحمول الآن علي محفة من الأحلام - في وسط [ صفحه 70] حانوت النخاس الذي فتح له باب الغرفة المحشورة فيها جاريتان لم تباعا بعد... قال النخاس: - أرجو يا سيدي أن تنعم النظر في هذه الجارية... إنها حيية جدا، و لكن في عينيها المتورمتين بفيض الدمع، ما يبشر بكثير من صفاء، و من بهاء،... و لكن يا سيدي، لا تساومني أبدا - أرجوك - سبعون دينارا ثمنها... و لو يقل دينارا واحدا - لا تؤاخذني - لا شراء يحصل، و لا مجادلة تتم!!! و رأسا مد الرجل يده الي الكيس في عبه، و ناوله التاجر و هو يقول: - صدقني، لم أعد دراهمي، عدها أنت، و الناقص منها أدفعه لك من جيبي الثاني. و عد النخاس دنانير الكيس، و لما انتهي تبسم و هو يقول: - أتراك ساومتني منذ ساعة، و عرفت حدود السعر، فجئتني به مربوطا بكيس، ليس فيه لا زيادة و لا نقصان... هاك حميدة، إنها لك، عسي عيناها - في بيتك - تتهللان بالفرح! و لما عاد حسان وجد الامام الباقر واقفا في الباب و عيناه عالقتان بالجارية الحيية الطرف، و المبتسمة بنوع من الحزن الشفاف، ما كان الإمام يقرأه حتي تهللت أساريره و هو يقول: - قبل أن أرحب بك أقول: أنت محررة حرة، أرجو أن يكون حسان قد أخبرك في الطريق، ان الاسلام لا يشتري العبيد، بل يحررهم من عبودية - و الآن، أدخلي يا بنيتي - [ صفحه 71] كل الدار، بمن فيها - تقول لك: أدخلي، مع كل الفرح المخبأ في عينيك، و هو كل ما تختزنين من جمال هابط عليك من تلك الأظلال المتفيئة بها شغاف روحك. أسمعيني صوتك و أنت تتلفظين باسمك الشفاف. و رأسا تناولت الفتاة يمين الامام و طبعت عليها شفة كأنها كم ورد، ثم قالت بصوت كأنه هزيج مويسقي: - حميدة يا سيدي، بلغة التصغير، و لكني أرفعه الي كبره: أنا حمداء، بلغة الحمد الكبير لله الذي يضمني الي إسلام، يمثله الإمام الباقر، فاقبل خضوعي يا سيدي بفرحي البادي في عيني، ما سكتت حميدة، إلا لتلوي عنقها نحو باب الغرفة التي خرج منها شاب و سيم، لم تتعرف بعد إليه... و لكنه تقدم منها هو يغمرها بنظرات كأنها انشقاق من أفق... حدجها مليا، ثم قال: - لقد سمعتك يا سيدتي، قبل أن رأيتك، و لما رأيتك فهمت ما سمعت... أنت جمال روحي. أبلغ مما أنت فيه من جمال حيي... فما أبهاك تقبلين بي - ليس الآن، بل في مساء الغد، زوجا لك، تسعدينه أكثر مما يتمكن - هو - من إسعادك... انه نداء روحي إليك، يا درة ليست من معدن أرضي، بل من بيكار سموي. لقد أصغت حميدة، و هي في إغماضة عين. و لما سكت جعفر، غمرته بناظريها و هي تقول: - لقد سكبك في بالي سيدي حسان، و نحن في الطريق. [ صفحه 72] و عرفت أن اسمك - يا سيدي - هو جعفر، و اني أسألك: ماذا تقصد بقولك: ليس الآن، بل في مساء الغد؟ و أجاب جعفر: - ليس الآن... يعني أنك لم تختبريني بعد، أما الغد... فيعني: بعد أن يمعنك الاختبار. و أجابت حميدة: - و لكنك الآن يا سيدي غمرتني بالفهم، فلماذا الانتظار الي الغد؟... و لكني، في هذه اللحظة أقول: أنا غصن صغير في دوحتك الكبري... و ما أسعدني - منذ الآن... أمرح في ظلك، يا إماما في ظل إمام. و هكذا تم ارتباط جعفر الصادق، بزواج بحميدة ابنة صالح البربري، و بسرعة ما أجملها سرعة... لقد اشتريت - أمة - بسبعين دينارا، و لكنها انقلبت لؤلؤة تتزين بمثلها نساء المسلمين. صحيح أن الجمال الذي انغمرت به حميدة، هو أصيل في روحها، قبل أن يفيض من أساريرها علي محياها، و لكن جمالا آخر، هو الذي فتقه فيها، و أخرجه من باطن الي عيان، أو من سكون هاجع في الطوية، الي حركة تتموج بها العينان، و الشفتان. و الجبين، و حتي كل تأودات البنان... انه الجمال الآخر، و قد غمرها به الامام الباقر بتحريرها من عبدة تجردها من إنسان، و تدعمها بحيوان، الي سيدة حرة، تتعزز فيها قيمة الانسان. و ها هي حميدة - و قد حررها الإمام - تنفتل من درهم حقير اللمعان، الي لؤلؤة تهزأ بالأثمان! و إن زواجها بإمام قد أنعم عليها بأمومة أخرجت من رحمها إماما لا يعيش الآن إلا باسمه الصغير، موسي!!! [ صفحه 73]

موسي‌

يا له هذا الموسي، كأنه حبة حنطة، بقي الشوك و التبن غلافها في جوف السنبلة، الي أن عركتها الأرجل فوق صفحة البيدر، فعرتها من أغلفة التراب، و أخرجتها صغيرة سمراء،... و بقيت صفيرة سمراء، نائمة في عدل حشروها فيه، و نقلوها به الي رحي في مطحنة راحت تدور بها و هي تسحقها في قصد منها أن تلاشيها الي شي‌ء من غبار، و ما درت انها استحالت بها الي ذريرات من طحين هو الرغيف الثمين الذي هو مجال العوافي في سغب الإنسان! سيكون هذا الموسي الخارج من رحم حميدة صغيرا كحبة القمح، و سيكون له من حبة القبح طباق عليها في الحجم، و اللون، و كل المميزات... فهو صغير مثلها في قد يرغبه الاعتدال، و في سمنة يجملها الاختزال - أما الجسم - في جميع نبضاته - فحيوية تفتش عنها صلابة الأبدان. فعلا، انه كحبة القمح، و هكذا و صفوه في قامة ربعاء، و جسم نحيف، و سمرة كأنها سماط الليل، و لحية كثة يهرب منها المشط النحيل... [ صفحه 74] و لكن الوصف هذا، و ان يكن ليتناوله و هو في تمام الرجولة، فإنني لا أبتغيه إلا بعد أن أكون قد تبسطت قليلا بالإشارة الي الجو البيتي العائلي الذي سيولد فيه طفل اسمه موسي... ان الجو هو الملي‌ء بالتأثيرات، بجميع ما فيها من شحنات متنوعة الأشكال و الألوان، و التي هي الي انطباع سيكون محفورا في سليقة هذا الطفل - و لنقل أيضا بالتمام - هذا الطفل الذي لم يولد بعد، و الذي - بعد أن يولد - سيتكامل عليه الحفر و التنزيل، بالأزاميل ذاتها، و لكن بشكل أو في، يتلألأ سريعا بكل الملامح التي تتجاوب بفعل الشحنات الواصلة إليها من الجو الذي يكون - هو - قد هبط فيه. و قبل أن يولد موسي، كان الجو الذي سيهبط فيه، قد أصبح مليئا بالشحنات الثرية التي ستغمره بذات هذا الثراء... لقد تحسسناه - هذا الجو - تدخل فيه و عليه حميدة... لقد سمعنا الحوار الذي دار بين الأمة المحررة، و المغتبطة بتحررها، الي درجة صبغت روحها، و وجهها بفرح كأنه هبوط من علاء... انه الحوار الذي دار بين الإمام الباقر و حميدة... و هو الحوار الآخر الذي دار بين الوسيم جعفر و حميدة... و سريعا ما انقلب الحديث الصغير الي رباط عاطفي، زواجي. راح يتنعم به الطرفان. هكذا نري أن الجو الذي سيهبط فيه الطفل موسي، قد امتلأ بالجمال الصادق، قبل أن ينزل الطفل نطفة في الرحم،... و بعد أن تم العلوق، و راحت - رويدا رويدا - تنمو به اللحظات السعيدة الي جنين، كان الجو كله يتعبأ بموجات دافئة، تنتعش بها جميع عضلات الجسم في حميدة، و هي التي - بعد عدة أشهر - سينورها حنان الأم!!! أليست كل هذه التدفقات المشتعلة بذاتها، هي المشتغلة بها نطفة عالقة في رحم، تنمو الي جنين، سيهبط طفلا تقر به عين أب. و عين أم؟!.. و كل هذي اللواعج؟ أليست لها التأثيرات في تكوين الجنين، قبل أن يهبط الي الحضن النابض بالحب، [ صفحه 75] و الشوق. و روعات الحنين؟!! فلنكتف من هذي اللواعج، بأنها كانت بساطا دافئا لولادة ميسرة بحقيقة الفرح، و سلامة التكوين، و اندماجية الشوق، و كلها مويجات صادقة، تنعم بها الجنين، و هو في عزلته الممتعة بكل لواعج أبيه، و كل لواعج أمه... و اني لمن القائلين بأن الطفل - و هو في بطن أمه - لابد من أنه المصغي - بإذن ذاته الجنينية - الي كل دفقة يدفق بها لب أبيه، والي كل نأمة تنأم بها حشاشة أمه، و هي كلها التي ستنزل مسجلة - كالحفر - في لوحة صدره، و سيثفثغ بها لسانه إذ يجدها أمامه في حقيقتها، بعد أن يهبط الي الصفحة التي تستدعيه الي الهبوط! و بعد أن هبط الطفل موسي الي القاعة التي يتنفس فيها أبواه - جعفر و حميدة - تلقفه الجو ذاته الملي‌ء بذات اللواعج، و لكنه الآن قد أصبح يري، و قد أصبح يسمع، و لابد من أن المرئي و المسموع، قد أصبح لهما وعي آخر، و سريعا ما راح الوعي البادي، ينحفر انحفارا متينا في لوحات السريرة!!! كل ما راح الطفل يراه و يسمعه. هو حب الصادق، ملي‌ء بذاته، كان يجهر به أب و أم، جمعتهما الحياة الي مأرب واحد، قوامه صدق، و عفاف، و مبتغاه زرع السماء في حقول الأرض، حتي تنبت الأرض رخاء يدغمها بسماء! و كان التوضيح من جعفر: ان الأرض هي أرض الأمة، في مقصد جده النبي الأعظم، سورها بقرآن يرفعها الي جنان، هي أمنيته في جمع أمة علي الخط الموصلها الي جنان!!! و كثيرا ما كان يسمع - موسي - و هو يأخذ بشفتيه ضرع أمه قبل أن ينام، حوارا بين أبويه - و كان يشعر من روح الحوار، ان الكلام يتناول اسمه - موسي - و هي الكلمة التي كان يناديانه بها، و هو ابن‌شهرين، و كان يرد اليهما المناداة، بابتسامة سمراء... و هنا - قد سمع من شفة أبيه - اسمه - و هو آخذ ضرع أمه - توقف عن الرضاع، ليصغي الي شفتي أبيه المتكلمتين [ صفحه 76] عنه - هو موسي - بالذات... و لا أظنه - هذا الموسي - إلا أدرك معني الكلام - فراح يثفثغ، و أبواه يصغيان اليه بفرح صبياني... و بقي يثفثغ متهللا حتي غفا و نام! من هنا أن الجو الذي كان يلف الطفل - في شهوره الأولي - كان جميلا و بهيا. و انعكس الجمال و البهاء، جمالا و بهاء في غريزته التي هي جمال انعكاس، و بهاء انعكاس... و لا غرو - فإن المعكوس هو - دائما - في الصفيحة المنقوشة عليها ذاتية الصوت الناطق بذاتية الصدي!!! لم يكن الجو الذي غلف الطفل موسي، الا عابقا بوشوشات عذبة، كل ما ينضح منها، حب و ولاء، و تبادل آراء، فيها من الروح صفاء الروح، و فيها من الفكر تعليم، و ثقافات، و اهتمامات بالأمة، و بحقيقة الإمامة، و استعدادات حثيثة لمحو الجهل: بالعلم، و بترسيخ الوعي في الأذهان... و كل ذلك، إنما هو المسؤولية الكبري، يضطلع بها خط الإمامة، و لو بصبر طويل يحقق الرجاء بعد تحمل العناء، حتي و لو طال العناء، لا لدهر واحد، بل لعدة دهور يطول بها الانتظار المؤمن بجدوي الانتظار!!! لم يكن حديث البيت - و لا مرة - إلا و كوكبه الإمامة، - و لم تذكر الإمامة، و لا في أية صدفة، إلا و يكون الطفل موسي قد انتشله أبوه جعفر الي ما بين ذراعيه، و راح يداعبه، و يقرأ في عينيه ملامح عبقربة تربعه في دوحة الإمامة... أما الطفل - أكان ابن ثلاث، أو أربع من السنين - فإنه كان المنتشي بوشوشات أبيه، و علي محياه الندي تسرح انعكسات بهية تشير الي فهم باكر جدا، يجعله مدركا كل ما ينتثر حوله من حديث أو حوار... من هنا كان الاقتناع بأن الجو الذي عاش فيه الطفل موسي، كان مشبعا بالحوافز الحافرة في الذهن حفرها المستعجل في تنمية المواهب و ترسيخها في الطوية، و هكذا، و عمر الطفل أربع سنين - كان أبوه يشهد له: بأنه طاقة [ صفحه 77] إدراكية، لا يمكن أن يتمتع بمثلها ابن عشر سنين... و بأنه - بذات الوقت، لا يسأل عن معضلة - لا يفسرها إلا بلاغة و علم، و عمق تفكير - إلا و نراه يفسرها بسرعة، و يجلوها من مخابئها... و ها أن الامام جعفر يصرح أمام بعض من جلسائه، بأن المعارف كلها التي يحوزها ابنه موسي، إنما هي الهامية لدنية، لم يشرحها له أي كتاب، و لم يسبغها عليه أي مدرب... و تناسي الامام جعفر أن ابنه موسي كان في غمر من الإيحاء و هو في رحم أمه حميدة تسعة أشهر، و بقي في غمر آخر، لا وزن له، و لا حجم، بعد هبوطه الي الساحة، فغمرته الساحة بفيوض كأنها انهمار السحاب... أما استيعاب الفتن في زخمه المستجيب!!! فتلك هي الطاقة العبقرية - لا شك ان الفتي موسي يتحلي بها... فليلفلفها الامام جعفر، بالحب و الإعجاب - و ليصفها - بعد ذاك، باللدنية. [ صفحه 79]

في الطريق‌

بعد خمس سنين، ترك الفتي موسي حضن أمه حميدة، و التحق بالجامعة التي أسسها جده الأول الإمام زين‌العابدين، و ملأها بالكتب العزيرة جده الثاني الامام محمد الباقر، و نقلها الي الرحب الفسيح أبوه العلامة الإمام جعفر، و جعلها جامعة تفيض بالمعارف، الكنوز الفكرية و الروحية... و ها هي تغص بأكثر من أربعة آلاف طالب، و بأكثر من عشرة أساتذة يتوسعون بشرح موادها العلمية، و الفلسفية، و الاجتماعية... و ها هي الأمة قد ازدانت موائدها بالمؤلفات النفيسة، و كلها نازلة في كتب تتوسع الأذهان بقراءتها، مع العلم الأكيد، أن جميع الذين ألفوها هم خريجو الجامعة بالذات - الجامعة الزينعابدينية التي يوسعها الآن - بغزارة علمه و جهده - الإمام جعفر الصادق، و لقد اتسع هذا الكتاب، في خاتمة إطاره الأول، بنبذة تلميحية عنه، فلنرجع اليها إذا أحوجنا الأمر. أجل، لقد التحق الفتي موسي بالجامعة التي يعالج أبوه الإمام شؤونها الوسيعة، و تربع فوق طراريحها اللاصقة بأرض المسجد في يثرب، و راح يجيد العب من مناهلها المقروءة و المشروحة، بإصغاءات طويلة [ صفحه 80] و عميقة، و باستقراءات وسيعة في مداها المتجاوب مع مدي أبيه الإمام الذي بقي - خمسة عشر عاما - الي جانب فتاه المصغي الي كل همسة، فيها علم، و فكر، و روح... حتي إذا ما أغمض عينيه اللتين أطفأتهما نقطة سم - تكرم ببخها في حدقتيهما ذلك الهمجي منصور الدوانيقي - كان الفتي موسي قد أضحي عجينة مكتملة الاختمار، تؤهله - بحق بهيج - لأن يكون إماما يلبس عباءة أبيه، في المشوار فوق الطريق الذي لا يزال معميا بالغبار!!! [ صفحه 81]

و في الجامعة

دخل الفتي موسي الجامعة و هو ابن خمس سنين، و لم يكن يرنو اليها أكثر مما كانت - هي - ترنو إليه، لا لتوسع عينيه - فقط - بالعلم، بل لتأخذ منهما بريقا، هي بحاجة اليه كل عين تفتش عن علم، و لا يمكن أن يصير لها فهما، ما لم تتوهج - تلك العين - بمثله بريقا نابعا من فطرة تشح بالصفاء الأصيل... و كأن الصفاء الأصيل هو ذاته الذكاء المطل علي النفس من معدنه الأصيل، ليكون - هو ذاته - العقل و الروح، و الوشاح الذي تغزله الثريا، و تنسجه قميصا تكسو به صدر حبيبها الانسان! و راح الفتي - و قميصه من غزل الثريا - يرافق أباه المرتدي قميصا - هي ذاتها الثريا قد نسجته له... و لقد جني كثيرا من الرفقة التي طالت عشرين سنة: خمسا منها، في البيت و هو طفل، و خمس عشرة في الجامعة! و هنا، في الجامعة، شاهد المعارف كلها تومي إليه بأناملها المشعة من كل كتاب، و كل صفحة، مخطوطة بريشة و فكر... و شاهد الجهد مدفوقا من مهجة أبيه، و من فوق جبينه الآتي من خلف الأفق، و تحسس العلماء جميعهم، من فوق منابرهم الشبيهة بالنواقيس، يشرحون كل الدروس، و المطولات، [ صفحه 82] و المبهمات، و الطلاب - بإصفاء الشوق - يأخذونها كأنها أرغفة خبز و أباريق ماء: يسدون بها سغبا، و يشبعون بها عطشا!!! و استطلع الفتي كل ما في الجامعة المصبوبة فيها كل جهود أبيه، و كل ما جنته الجامعة من إنتاجات فكرية، و علمية، و روحية - و تعرف الي منتجيها، و كلهم - كما علمنا - هو خريجو الجامعة، و قد اتصل بهم الفتي موسي، و غاص في قراءاتهم، فردا فردا: لقد جالس زرارة بن أعين، و قرأ مليا كل ما يجول في عينيه من طيبة و صفاء. و أمعن بإعجاب الي أبان بن تغلب، و الآخر المدعو بمؤمن الطاق... و لم يترك النعمان بن حنيفة إلا و صافحه بيد، و باحثه في كل آرائه المبدئية حول الوجود و إبداعية الإنسان. و لم يقل إعجابه بمالك بن أنس، و هو يتمني له مزيدا من العطاء!!! أما الذي استوقفه بشوق بالغ الأهمية، فهو جابر بن حيان، و قد وجده مكتبة علمية قائمة بذاتها، و من أبهاها كتابه المخصوص بعلم الكيمياء، و قد اتبعه بملحق يحتوي علي خمسمئة رسالة تبحث جميعها بالحركة العلمية: أي ان الكيمياء هي لولب المعارف و المعادلات، في حركاتها الإبداعية - ليكون له - هذا العظيم الحياني - كتاب في موسوعية العلم، عنوانه: علم الميزان، و كل مركزاته علي معرفة طبائع المعادن: كالنحاس - مثلا - انه في نظرية ابن‌حيان، [فضة تلهت عن ذاتها]. و هكذا راح ابن‌حيان يصرف كل اهتماماته في التحضير الكيميائي الذي يتلاعب بجزئيات الفيزياء اليابسة، و يحركها الي حياة... من هنا كان تحضيره للحامض الكبريتيك، أو زيت الزاج، و لحامض النتريك، و ماء الذهب، و الصودا الكاوية، و كلورور الفضة، و الراديوم،... و كان له طموح آخر يرمي الي تحويل الفضة الي ذهب!!! ألم يخترع ابن‌حيان - استجابة للإمام الصادق - قرطاسا لا يحترق - و كان للإمام ما تمناه؟! [ صفحه 83] كل هذه الاستطلاعات التي كان يستطلعها الفتي موسي، و هو علي مقاعد الدرس. كانت جزءا من المعارف التي راحت تتوسع بها معلوماته... و كان أبوه الإمام يوجهه - بقصد الي تلمسها حاصلة كضوء من معارف تستنير بها الأمة المحتاجة الي الضوء المديد، حتي تختفي من حولها عتمات الجهل، و الذل، و السياسات الخاطئة - و لقد أدرك الفتي - بحدسه المصيب - قصد أبيه، و أدرك - بالتالي - أن الجامعة العلمية، إنما هي تمني الإمامة الزينعابدينية، بغاية تثقيف الأمة، و تخليصها - رويدا رويدا - من عتماتها المضنية... و ان عليه أن يستأنف - في غد - كل الجهود الامامية، و يعمم الجامعات في كل بقعة من بقاع الأمة المسترعاة الي دوام الوعي المطلق. علي مدي عشر و خمس سنين، و قبل ان يغيب الي مداه المستريح - كان أبوه الإمام الصادق، مفتاح خزائن - خزانة خزانة يفتحها أمام لبه، لا ليأخذ منها شبعا و ثراء، بل ليعرف كيف يغطيها - بشبع منه - إذا كانت، هي، آتية من شبع كاذب!! أو ليبذل لها الثراء من فيض ثرائه، إذا كان لها الثراء محتاجا الي مصدر صادق!!! إن كل هذه الخزائن التي كان الأب الصادق يفتحها أمام ناظري فتاه النجيب. لم تكن غير أحداث و اجهت الأمة التي جاءها نبي بلسان رسول، يمحضها ولاء تستأثر به، و قرآنا تجد فيه ما يقوم خطواتها فوق الدروب... و لكن الأحداث هذه، إنما كانت محصورة جميعها بالفترة الممتلئة بوجود الرسول، و بالفترة الأخري التي هي - الآن - بعد غياب الرسول. و الآن، يعني الجامعة في يثرب، و فيها فتي أسمر، اسمه موسي، و هو بين يدي أبيه الإمام الذي لم يرحل بعد. صحيح ان الإمام جعفر لم يرحل بعد - فهو بشفتيه يتكلم - و صحيح - أيضا - أن الفتي يصغي و لم يتسلم إمامة بعد... أما الحديث الملقي في الأذن المشتاقة، فهو شامل في معانيه، و موجه في مبانيه، و شديد الوضوح [ صفحه 84] في توضيب المقاصد؛ أما المقاصد، فهي في جعل الفتي موسي في حضور ملم و مشع بواقع الإمامة التي تيسرت له منذ أن كان عمره خمس سنين، و التي سيكون مقودها في يمينه، بعد أن يغمض عينيه من يتولاها! و جعل الفتي في حضور شامل لاستقبال الإمامة، فلأن الإمامة، في معناها الشامل، تعني الأمة، و الاهتمام بها اهتماما ملما بكل شؤونها المادية و الروحية علي السواء؛ و هكذا فهي اطلاع متكامل الغايات، و متين الصفات، و وسيع المدارك؛ لتكون الإمامة - بدورها - علما، و فكرا، و اختبارا ممرسا بالمران، و وقوفا أمام المعضلات، و تحملا لها بصبر و طول أناة!!! و هذا كله ما جعل الإمام الصادق حاضر الذهن أمام فتاه المتنامي - بين يديه - بأعز الصفات و الهبات، لتكون الإمامة - له - واسعة و جليلة، بكل أبعادها، في لملمة أمة، ما أضناها إلا أبناؤها المتلهون عنها بإثارة الحزازات، و المشاحنات... من أجل الوصول الي منبر سياسي، تجني منه كل فئة - أو بالأحري - كل قبيلة من عديد قبائلها - زعامة كاذبة، و ثراء كاذبا أيضا، علي حساب أمة، لا يجوز أن يكون إلا لها صدق النفوذ، و صدق الثراء، و صدق توزيع المغانم، بقسط نبيل و عادل، سطرته في القرآن الكريم منازل الآيات. مجمل الأحاديث التي استوعبتها أذن الفتي موسي، كان يدور حول المشاحنات السياسية المتداولة بين فئة لا ترضي بإمامة عينها الرسول الكريم، و بين الإمامة المدافعة عن صراط ما عينه إلا الرسول... و هكذا ابتدأت الأحداث التي زعزعت الأمة منذ العهد الأول، الي العهد الحاضر... لتكون الإمامة هي المضطهدة، و الخلافة - إذا صح التعبير - هي الباغية، أما الأمة، فهي المنتظرة نعمة الوعي، و نعمة الفكاك!!! لم يكن الحديث الاخباري إلا تثبيتا لواقع حزين، قام بتظهيره خط [ صفحه 85] أموي، فظع تفظيعا جائرا بالخط الإمامي علي مدي طال أكثر من مئة سنة، ثم ولي مدحورا و مخذولا أمام خط عباسي لا يزال ضاربا بنابه و ظفره، مع السفاح و المنصور الدوانيقي، و المهدي، و الهادي، و الآخر المزدهي بذاته - هارون‌الرشيد!!! أما الخط الإمامي - الهاشمي - الطالبي - العلوي، المدافع عن حقوقه المشروعة، و المحسوبة - بنظره - حقوق الأمة، فإنه لم ينل من لمس الأفاعي إلا لدغة لدغ بها الدوانيقي عنق الإمام الصادق، فخر في الساحة قتيلا!!! [ صفحه 87]

و أيضا قبل الرحيل‌

و قبل أن يرحل الإمام الصادق لملاقاة ربه بعد أشهر، استدعي إليه ابنه موسي، و كان يدور بعمره حول العشرين، و قد أضحي يعاونه - كأستاذ - في إدارة شؤون الجامعة، قال له: - لست أظنك الآن إلا المتوسع بجميع ما أنت منتدب اليه في تولي الإمامة، و السير بها، بحكمة، و صبر، و حسن روية - و إني علي ثقة تامة بك، بعد أن أحطتك بكل المعلومات المتعلقة بالأمة و الإمامة... و بكل الأحداث التي واجهت الأمة، و اعترضت الإمامة، منذ أن غاب الرسول الحبيب، الي هذه الساعة!!! و اني الآن أكيد أيضا من أن معارفك الوسيعة هي التي ستبرز بك في الساحات، بعد أن تجللت بوقار آخر، يوفر لك احترام الغير لك، حتي و لو كان هو ذاته منصور الدوانيقي! - و منصور الدوانيقي؟ و ان كان لي أن تحسبت منه بصبر، و حكمة، و احتراز، مما نجاني من كيده، و غدره، حتي [ صفحه 88] هذه الساعة... و لكني أراني - و ان نجوت حتي الآن - لست بناج غدا، أو بعد غد، و لن يكون لنا جميعا - لا نحن الهاشميون، الطالبيون - العلويون - و لا الأمة - و نحن بلسانها المتكلمون - أن ننجو من غدر و لؤم توارثه العباسيون عن أسلافهم المناكيد - الأمويين - إلا بتحمل رزين، و حكمة أرزن، و روية مشبعة بالعقل، و العلم، و التحسب، و انتظار - و لو طال أكثر مما نترقب - حتي يذوب الجهل من الأمة، و يتم لها زجر المتعسفين... و عندئذ، يغير الله أمرا كان مفعولا!!! توقف الإمام قليلا عن البث الحزين، ثم عاد الي توجيه الكلام الي ابنه موسي الذي لا يزال مطرقا يصغي، فهزه - قليلا - بكتفيه، ثم أردف يقول: - اسمعني أيضا يا ابني الإمام؛ إن الأمة التي أرادنا نبي الإسلام أن نكون - بحق - أولياءها، و أمناءها -... تطلبنا دائما الي يقظة حليمة نسير بها الي نجدتها، و تخليصها من الأورام... و لكن - بحكمة: و روية، و اتزان... حتي لا تهدر، لا طاقاتها، و لا دماؤها الثمينة، و لا أحلامها المنسكبة عليها من سور القرآن!!! من هنا سررت بك إحاطة علمية، و فكرية. و خلقية... لتكون - أنت - اليقظة الحكيمة و الفهيمة التي تتطلبها مصلحة الأمة... و من هنا رأيتك مصغيا الي كل شأن من الشؤون الخاصة المرتبطة بالأمة، منذ أن غاب الرسول عنها حتي الآن... لقد أخبرتك مطولا عن عهد بني‌أمية... انك لم تره بعينك... بل سمعت عنه بأذنك. [ صفحه 89] منذ أن كان عمرك أربع سنين، الي أن بلغت الآن السابعة و العشرين... والله أعلم كم ستستمر بك المعاناة في تحمله حينما تعاني منه، أنت، و الأمة، و الجامعة بالذات، و هي التي أنشئت لتخليص الأمة من جهل يرمي الأمة كلها في ذل يحررها فيه تعسف السياسات!!! احفظ هذا الموجز، و وسع به يقظة بإمكانك أن تعالج بها استمرار الملمات!!! [ صفحه 91]

الموجز

و ابتدأ الإمام الصادق بالحديث الموجه الي الإمام موسي الذي لم يبدأ بعد بممارسة إمامته - قال الإمام الأب: - سيكون لك بعد الانتهاء من سرد هذا الموجز أن تحاورني بما تريد، أما الآن فلنبدأ بالثورة علي الأمويين: كيف تململت بها الأمة - و أقصد كيف تململنا بها نحن لمصلحة الأمة حذفا للأمويين من الساحة! لقد كان عمرك يا ابني أربع سنين، عند ابتداء الثورة. أما الأسباب التي حركت الثورة، فلأختصرها - قليلا - هكذا: كان الأمويون - دائما - يفرضون سب أهل البيت و إبعادهم عن مناصب الدولة، و قتل أهل العترة إذا اقتضي الأمر - من علي الي الحسن، الي الحسين... و جريمة كربلاء تشهد ليزيد بفظاعة الجريمة!!! و مروان هشام بن عبدالملك، قد فظع بقتل زيد بن علي بن الحسين. و حز رأسه. و أمر زواره بأن يطأ كل واحد منهم رأسه!!! و أمر بصلب جسمه [ صفحه 92] طويلا في الشمس، ثم أمر بحرقة و ذر رماده في الهواء!!! و كذلك مثل الأمويون بيحيي بن زيد... هذه هي بعض مكنونات الثورة التي أحاطت بحكم الأمويين! و لقد حرك الثورة هذه نزاع بين اليمانية و النزارية، و انضمت اليمانية الي العباسيين، و نشط هذا الانضمام العلويون بواسطة واحد منا، هو عبدالله بن الحسن... و هكذا اهتمت الثورات، أو فلنقل الحركات المحلية بالدعوة لأهل البيت، و كان يتظاهر بذلك منصور الدوانيقي... و اشتدت ضلوع الثورة في خراسان... و عقد مؤتمر الأبواء بواسطة الهاشميين، و حضره كل من إبراهيم الإمام، أو السفاح، و المنصور... و صالح بن علي، و عبدالله بن الحسن، و محمد و إبراهيم اللذين قتلهما المنصور! و في مؤتمر الأبواء، دل المنصور الي عبدالله بن الحسن، بأنه هو الذي ستكون له الإمامة... و عندئذ تمت له البيعة في الأبواء... و لكن العباسيين لم يفوا لا بالوعد، و لا بالعهد! و انتخب إبراهيم الإمام، عميد العباسيين، أبامسلم الخراساني و أوصاه بقتل العصاة، إنجاحا للثورة! و كانت النتيجة ستماية ألف قتيل من رجالات الأمة، و أصلاب العرب!!! و توجه أبومسلم الي خراسان التي رحبت به... و هكذا تكونت الثورة الأولي بجيوش بني‌العباس... و ضعف شأن مروان بن محمد الجعدي، آخر [ صفحه 93] خليفة أموي، ثم قتله السفاح في معركة الزاب في الموصل! كان عمرك يا ابني موسي خمس سنوات، عندما قتل آخر خليفة أموي - مروان بن محمد الجعدي - و ساعتئذ انتهي الحكم الأموي!!! و لكنه، بدل أن ينتقل الي الامام عبدالله بن الحسن، انتقل الي العباسيين الكذابين، باسم إبراهيم الإمام السفاح، سنة 124، و دام حكمه ست سنوات عجاف... و صرت أنت - لما مات - في الحادية عشرة من عمرك... أما الأمويون - علي عهد السفاح - فتشتتوا شذر مذر، بعد أن استلم الحكم المنصور الدوانيقي، أخو السفاح عبدالله بن الحسن... و لا ابنه الأول محمد، ذوالنفس الزكية، و لا ابنه الثاني إبراهيم، و كلهم فظع بهم المنصور المتولي الحكم! و مثلما كان السفاح يموه علي العلويين من دون أن يصدقوه، راح المنصور يتابع التموية عليهم، من دون أن يصدقوه - بتاتا -... و هكذا حرك محمد ذوالنفس الزكية، ثورة علي المنصور، باءت بالفشل. و بقتل محمد ذي‌النفس الزكية!!! و جاء دور الأخ إبراهيم بن عبدالله بن الحسن، في تحريك ثورة انتقامية لأبيه و لأخيه... و لقد تعبأت بالقوة الشعبية الملبية في البصرة، و الأهواز، و فارس، و أصبح الفوز علي قاب قوسين أو أدني... و لكن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن - و هو علي رأس الثائرين في الكوفة - أصيب بسهم [ صفحه 94] في حلقه أراده قتيلا!!! فصفا الجو للمنصور، و أكمل فتكه بالعلويين!!! هنا توقف الامام الصادق قليلا يستريح من عناء السرد، ثم ليستأنفه بنبذة ثانية فيها كثير من الإتزان، أما الإمام الصغير، فانه راح الي اتزان آخر، و الي صفاء آخر - أيضا - يلفلفه ببلاغة التصبر، و بلاغة الانتظار... و استأنف الإمام الصادق حديثه البحث: - و الآن يا ابني، لقد جاء دوري أنا في مقابلة الأحداث، و ها إني أقول: لم أخدع بشي‌ء مما تمثل أمام عيني من أحداث... لقد وعيت تماما سريرة السفاح، و كل سرائر بني‌العباس... لقد كانوا يعدون - فقط - و لا يفون لا بوعد و لا بعهد! أما الثورة التي قام بها قريبنا و نسيبنا عبدالله بن الحسن، و إبناه محمد و إبراهيم... فإني الوحيد الذي كنت مطلعا علي كل مسبباتها، و جميع حيثياتها السلبية و الإيجابية سواء بسواء!!! لقد اتصل بي الإمام عبدالله، مع إبنيه محمد و إبراهيم، طالبين مني المؤازرة، و لكني، بصدق و لوعة أجبتهم: بأن أمور الأمة تحتاج الي كثير من درس، و تعمق، لا الي أي من حماس و تسرع يرميان الأمة في المزالق التي تبعثرها، و تبعدها عن حقيقة المنال... و بكلمة مختصرة، قلت لهم: لم يأت الأمر بعد!!! و ان محمدا و إبراهيم - أثناهما - هما المقتولان إذا استبد بهما مثل هذا التسرع، و مثل هذا الحماس!!! و لكنهم - يا لقلة التبصر! حسبوا قولي حسدا منهم، و ليس عطفا عليهم، و بالتالي ليس غيرة علي الأمة [ صفحه 95] التي لا يجوز - مطلقا - أن تستهين بمصيرها، لا سيما و ان جبروت العباسيين، و بطشهم، هما المالأن الساحات، و أن لا رادع لهم من عقل، و حكمة و اتزان، يوقفهم عن الغدر، و الكيد بكل من يقف في وجههم و منعهم من الطغيان!!! - هذا كل ما رغبت أن أوصله إليك... فهل من حوار تريد أن تسمعنيه، و أنا الآن المصغي إليك؟ [ صفحه 97]

الحوار

و رأسا سجد الإمام الصغير أمام الإمام الكبير متناولا يده يطبع عليها قبلة احترام، و هو يقول: - أنا لا أراني مريدا حوارا أنت بالذات مكنتني به، بل أريد إسماعك صوتي الذي أخذت منك كل نبرة من نبراته - و هي صدق منك، و بعد، و عمق، و اعتماد روية... فاسمح لي أسمعك - بصوتي - حقيقة صوتك، و بشفتي حفيف لسانك في أذن نفسي، و التي هي صدي روحك في نقش وجداني، و ها أني أقول: لقد وعيت قصدك في كل ما رسمت - فأنت تريد أن تفهمني: أن الأمة كلها هي إطارنا في وجودنا فوق الأرض - و هي كذلك... لقد كانت إطار جدنا النبي، و لا نزال - مثله - نعتبرها إطارنا في كل ما نسعي إليه، و لا يجوز إلا أن نرعاها بحماس و روية، و لا بتسرع، من دون تحقيق يقومه الدرس: لقد سطا علي هذه الأمة بنوأمية، لا لأنهم ليسوا منها، بل [ صفحه 98] لأنهم منها في الصميم... و لكنهم قد حجموها بسياسات قبلية تجبي لهم - وحدهم - دون سواهم من القبائل، كل النفوذ، و الثروات، و المغانم... و لأنهم لم يتفهموا أن الأمة مجموعة أفراد و قبائل، و أن مصلحة الكل غير مصلحة البعض - سترتد عليهم كل الأمة، و تحطمهم سياسة خاطئة خلت سبيلها القويم!!! - و لكن الثورة التي قام بها قسم آخر من الأمة - و هم العلويون المستنجدون بالسفاح و المنصور - كان لهم تحقيق مصيب، أوصلهم الي محو الريب الذي وقع فيه بنوأمية! و لكن الأسلوب الذي اتبعه بنوالعباس، و بدلا من أن يكون الأجدي، انقلب الي الأردأ، راحوا به كما مشي به بنوأمية، الي استغلال قبلي ذاتي، سيهزل الأمة، و يفقدها وحدتها الشاملة المرصوصة بكل أفرادها، و قبائلها،... و سيوصلها - حتما - هذا الخطأ السياسي الفادح، الي ثورة أخري لا تنجح، و لم يجمع مقوماتها الفاعلة و عي جديد تنتجه الأمة من حقيقة علمها و معارفها، و خبراتها الضمنية المستيقظة من واقعها الحياتي، التجريبي النابع منها - بالذات - و من أيامها الطاعة من حقيقة معاناتها السلبية، و التي ستصبح إيجابية، رويدا رويدا، تحت تأثير الوعي الآتي اليها من ضفائر العلم الذي سيثقفها، و يهديها الي سواء السبيل! و بدأت الثورة - فعلا - بجميع حيثياتها، مع العم عبدالله بن الحسن و ولديه محمد و إبراهيم... و هنا كان لك - يا أبي‌الإمام - أن تسدي النصح للزعماء الثلاثة: بأن يؤمنوا بثورة [ صفحه 99] تتمكن من محق، لا بني‌أمية بالذات،... و لا - أيضا - من محق بني‌العباس،... بل من محق كل قبلية تدعي أن لها - وحدها - حق سيادة الأمة، و جمع كل ما تنتجه الأمة في صناديقها الخاصة بها، و اعتبار كل القبائل و سواها، عبدانا، يجمعون الولاء، و الخضوع، لها و ليس للأمة جمعاء، و هي كل القبائل، و كل الأفراد - بذات الحرية، و ذات السؤدد، و ذات الكرامة! أجل يا أبي، لقد أسديت النصح للعم عبدالله، بأن يؤمن بثورة فاعلة، و لا بإعلانها غير فاعلة، بحيث يجب - حتي تكون فاعلة - أن تحاط بتحضير واسع الدرس، و علم بجميع الأسباب التي تفشلها، و بالتالي تعيينها أسبابا أكيدة لابد من التغلب عليها، حتي يتم - لمطلق ثورة - نجاح مرتجي! لم ينشي‌ء العم عبدالله درسا ملما بجميع الأسباب التي جعلت بطش العباسيين فاعلا لا يقاوم! و لو أنه - فعلا - أنشأ الدرس هذا، لكان اكتفي بما قدمت له - يا سيدي - من نصح يوسع له جيوب الحكمة، و التصبر، و الإتزان... أو - بمعني آخر - يوفر له وقفة بطولية، يرغب - هو - أن يتحلي بها، تطالب الحاكم بأن يكون صادقا في سياسة الأمة، بحيث لا يكون له إلا أن يفتخر بها، أكثر مما يجعلها - هي - أن تفتخر به... لأنها أنشأته وليا لأمة تفاني في إعزازها نبي الإسلام!!! أليس في القول هذا - يا أبي - موالاة لحاكم بطاش أصبح مفروضا، و نحاول نحن أن نخفف من رعونة بطشه؟!! [ صفحه 100] هنالك أسباب عديدة، لم يكن للعم عبدالله أية مكنة، من الوصول الي درسها، و لكننا، في هذه الخلوة المباركة، لابد من التلميح عنها، و هي لا تزال قائمة في وجه أية ثورة تتطلبها الأمة في عملية إصلاح شؤونها العامة. و هي تعود إلي أجيال عديدة، حرمتها من لم شملها. و تثبيت وجودها... و لقد استلفتت انتباه النبي العظيم، فاختلي خمسا و عشرين سنة في غار حراء، لدرسها أسبابا موجبة لهذيان لا يجوز إلا أن يزول من صفحات غدها!! و استنزل لها سور القرآن الكريم، لتذوب علي مهل موجة الهذيان! و لقد حاول الإمام علي مساندة الآيات، بنهج بلاغي يحاول - مع الأيام - تنوير أذهان الأمة، و تخليص صدغيها من وطأة الأورام!!! و الأسباب العديدة؟ لابد لها من كلمة وحيدة تختصرها، و ننير لها عقول و أذهان الأمة... و علي مهل - قد يطول قرونا - يمحي الجهل في تعتيمه البصائر! و تتحد القبائل كلها في انضمام، هاشمي - أموي - عباسي - خزاعي... لا أثر فيه إلا لموجة عالية واحدة، هي الأمة، بلا زيغان و لا هذيان!!! أما الكلمة التي ستنزل في السمع، و اللب، و الوجدان. فهي [الوعي] الذي قامت تسدد به خطوات الأمة، الإمامة المثلثة و المكتملة: بزين‌العابدين، و محمد الباقر، و جعفر الصادق... انها منذ أكثر من سبعين سنة، تزرع العلم لينمو - رويدا رويدا - و يغطي كل المساجد المنتشرة في [ صفحه 101] مدن الأمة... و ها هو الوعي سيبث ذاته المشعة، من شفة الي شفة، و من مدينة الي مدينة، و من صحراء الي جوار عامر بمنهج الذات... و هكذا، حثيثا حثيثا - و لو كان بين الحثيث و الحثيث - ألف أو ألفان من خطوات الزمان - ينتشر الوعي، و ينهزم الجهل. و تصمد جامعة صادقة بجعفرها، يحاول الآن أن يخرسه خلف جدرانها - فرد هزيل الوعي اسمه: منصور الدوانيقي!!! لم يصمت طويلا الإمام الصغير، و رأسا استأنف البث: - ليس في قولي هذا يا أبي الإمام، إعلان ثورة علي حاكم، - و إن يكن اسمه منصور الدوانيقي - لم يمرسه الوعي بعد، لا بصدق الحكم، و لا باستقامات النفس، في بناء أمة طالعة من غيبوبة الذهن!!! أما الذين استدعوه الي الساحة العتيقة، فهم ذواتهم الذين فاتتهم نعمة الدرس الذي هو وعئ عام، تفتش به الأمة ذاتها عن فتاها المتمكن من قيادتها الي تلك الجنان! أقول ذلك أمامك يا أبي، لأعني أن الحاكم المستدعي الي استلام الزمام، هو الأحوج - من أي سواه - الي ثقاقة عامة واعية، تستنير بها مضامين نفسه، و يسير بها وعيا مسؤولا عن أمة لا يلملمها إلا الحق، و الصدق، و ذلك الإخلاص... و اني أري الجامعة العلمية التي كفكفتها أنت في يثرب، هي المنوط بها - مع طالع الأيام - بث الوعي، عن طريق العلوم كلها، و إيصالها حتي الي الرعيان، أو بالأحري، الي سدرة الحكام!!! [ صفحه 102] لن يكون لي، يا أبي، أن أخبي‌ء نفسي بثورة أتفلها بوجه منصور الدوانيقي، لأنه لم يحترمني كإنسان و لم يحترم الأمة كموئل، و حسن زمام،... و سيكون لي، من ضمن حدودي كإمام، أن أبدي النصح لهذا الحاكم - بالذات - بأن ينور ذاته بوعي لا تستقيم إلا به سريرة الحكام... و بقدر ما يرعوي، يتم فأل الأمة. و لعل الارعواء يكون جزءا من وعي، تنتظره قوافل الأيام! هنالك حكام جاءتهم الطبيعة من مكارم الذات، كأن الوعي فيهم نابت من جذور السليقة، فبارك الله للأمة بأمثالهم، يرثون الطيبة من معدنها الأصيل، و هكذا يا أبي، لا نذكر بالخير إلا عمر بن عبدالعزيز، يدخل المسجد و يصغي الي جدي الإمام زين‌العابدين، و هو يشرح الدرس، فيؤخذ بقيمة الجهد، و يدرك الأبعاد الرامية الي تثقيف الأمة، و تثقيف الحكام، بوعي ينقل الأمة، و ينقل الحكام الي سوية لائقة بقيمة الأمة، و قيمة الإنسان... و ها هو عمر بن عبدالعزيز، يأمر بتوسيع المسجد أربعين ألف ذراعا، لا لتوسيع المسجد للسجود، و للصلاة، بل لتوسيع المدي المستحيل - رويدا رويدا - الي علم، و إلي فكر، والي وعي آخر، تتلون به: لا سريرة الأمة. بل - و أيضا - مدارك الحكام... الي أن يتسع هذا المدي المفتوح أمام البصائر، تكون قد ذابت الثورات الصغيرة، و هي الحقيرة بحد ذاتها، بإحلالها حاكما ملأ الساحة - بجهله - كفرا، و بطشا، [ صفحه 103] و مجونا... ليحل محله ضب آخر، ليس له - من الجهد - إلا ذات القماشة، و عين المسيرة!!! أجل يا أبي، عندما يشمل الأمة وعي نبيه... تنجلي الأهداف. و تتوضع المقاصد، لتكون الثورة الكبيرة الفاهمة من تحقيق الأمة الكبيرة الواعية، في رفضها أيا لا يوجهه الوعي الي إدارة السفينة... و الأمة الكبيرة هي التي يوسعها العلم، و حقيقة الوعي... لا القبلية التي تشرذمها الفتلات الجاهلية الأمية!!! أما حكام اليوم - فإنهم نتاج ثورة صغيرة - و ان يكن بعض منا - نحن - قد اجتهد في تنقيحها الواقع - حتما - في الفشل!!! و ما علينا نحن - أيضا - إلا أن نقابلها بكثير من الصمت... أو فلنقل - بالرضوخ -... أو فلنقل - أيضا - بالنصح، حتي نغير - ما أمكن - من مسارها و مضارها!!! لأن ابدالها بغيرها - لو تم له الوصول - لن يأتي إلا بمثلها [لسوء طالع الأمة التي لم تتمتع بعد بحقيقة وعيها المطلوب]. - أما الحاكم الذي أراد العم عبدالله خذفه، فهو المقتدر - في سبيلة الاقتداء - و هو الذي أصبح متمكنا من حذف نصف الأمة، قبل أن يتمكن النصف الثاني من حذفه!!! أم أن نلاين هذا الحاكم - ما أمكن - و أن نحاول إطلاق، ما أمكن - أيضا - فدم الأمة الذي نريد أن نحقنه، هو الذي يفرض علينا الملاينة هذه، و ذلك الإصلاح المفترض. - علي كل حال يا أبي... لن يكون لنا أن نكيد الحاكم، لأنه يكيدنا، بل أن نقابله بالغفران، و بالنصح - ما أمكن - فهو منا، و من الأمة التي تتحمل - وحدها - الضيم!!! أما [ صفحه 104] التصبر و الانتظار، فهما لنا في المجال الطويل في حقيقة الالتزام، و لقد أبنت يا أبي أن وعي الأمة لن يتم، إلا رويدا رويدا، مع طول التصبر. و طول الإنتظار!!! كأن الإمام الصغير قد اكتفي بتقديم قسط وفير مما عليه أن يقوم به من حضرة أبيه، لإقناعه بأنه سيقفو خطاه عندما يتسلم منه الزمام. أما الإمام جعفر، فإنه المصغي بكثير من الرضي الي حديث ابنه موسي... و قبل أن يوجه إليه كلمة الشكر، مع كلمة المباركة، سمع ضجة أمام البيت، ثم قرعة علي الباب، فهب موسي و فتح المصراع، و وجد أمامه - واقفا كالشبح - عامل المنصور في يثرب، و رأسا دخل بابتسامة عريضة، و هو يقول للإمام جعفر: - أحمل إليك يا سيدي الإمام، من الخليفة المنصور، معضلة، ما تمكن الخليفة من حلها، و هو يرجوك القدوم إليه، ليسمع منك - حلها - بإذنه... أظنك أمانة في عنقي... أحرسك، و أوصلك الي سيدي المنصور، حلال معاضل... و أجاب الإمام، ببسمة عريضة أخري، و هو يقول: - و هل بإمكان جعفر غير تلبية المنصور؟!! فهيا بنا في الحال الي حضرة المنصور. و التفت صوب ابنه موسي و هو - أيضا - يوري: - انتظرني الي غد، أو الي بعد غد... سأعود إليك... و لكن... حلال معاضل!!! أما الإمام الصغير، فإنه بقي في صمت رهيب، و هو غارق في تحليل المعضلة!!! [ صفحه 105]

المعضلة

لقد شد المنصور القافلة من بغداد، و وجهها نحو يثرب، و معها رسالة منه الي عميله في يثرب، يأمره فيها بأن يأتي - توا - الي جعفر الصادق، و يبلغه وجوب حضوره الي بغداد، علي متن القافلة المرسلة خصيصا اليه، من دون أن يسمح له - حتي - بتغيير هندامه... لقد اعتاد الإمام جعفر علي مثل هذه الأوامر المستعجلة التي - غالبا - ما كان يوجهها اليه أميرالمؤمنين منصور الدوانيقي... لهذا نهض الإمام سريعا الي التلبية!!! و كذلك إمامنا الصغير موسي، فإنه لم يفاجأ بسرعة الأوامر التي كان غالبا ما يلجأ اليها أخو السفاح، من دون أن يسمح بأية مماهلة... و كثيرا ما كانت مقابلته تحصل كأنها حوملة تسبق الإعصار، ثم تتلاشي كأنها غمامة صيف ليس فيها قطرة من مطر! و لكنه - هذه المرة - أوجس الإمام الصغير خيفة من شي‌ء و هو يقول في ذاته: أخاف أن تكون البداية هذه سحابة ناشفة، و في ذيلها زوبعة... و قاك الله يا أبي من زوابع الفجار!!! و سكت موسي، و في يقينه صبر الي غد يصلي، و في طول الصلاة آمال يباركها الانتظار! [ صفحه 106] و ما تكون المعضلة؟ راح يحسب الامام... و كيف يراها المصور بلا حل، حتي يأتي الإمام جعفر، و بصدفة يمحوها؟!. و لكنك يا دوانيقي - كما يبدو من هزيز الأمس - لا ترتاح من و ميض المعضلة، إلا بحذف المعضلة من تحت عينيك!!! تلك هي المعضلة، تتمثل تحت عينيك بحذف الصادق يطالبك [بفدك] ليست لك... انه خطأك الطويل يا منصور، بدأ به - قبلك - أبوبكر الصديق... بدأ به صغيرا، و لم يلحظ أنه صار كبيرا عندما وصل اليك... بدأ به عندما حذف قطعة الأرض - فدك - من إرث فاطمة، ليجعلها إرث الجهاد... و رضيت فاطمة، و كل امتطي مثلها حلبات الجهاد، بإرث راحت تتمدد به ساحات الجهاد... لقد اتسعت حدود فدك، عندما يمنوها بالجهاد... لقد كانت عدة شجيرات من نخيل، و بعض تراب من رمل و غبار، و ملكا حقيرا في الحجاز لبعض من يهود، خانوا الأرض، و خانوا الله، و النبي، و كذبوا علي مصداقية الإنسان.. و لكنهم، إذ نقلوها ملكا الي تصرف النبي، صبغها النبي بجهاد الإسلام. و أراد أبوبكر المسلم، أن لا تذوق طعم ثمارها شفة فاطمة بنت نبي الإسلام. بل كل شفة، من شفاه المسلمين!!! و صح عداء أبي‌بكر لفاطمة، و لعلي، أول من قاد الجهاد، و ساند النبي في تركيز الإسلام... و مشي الإسلام، كما مشي به القرآن، و اتسع الإسلام، و اتسع الجهاد، و اتسعت الأرض، و من ضمنها فدك، حتي ذابت فدك خيطا علي المغزل الذي تألفت و توسعت به حبكة النور... و ها نحن اليوم نسأل - بعد مئة و خمسين سنة - أين هي فدك؟ أو إرث فاطمة من فدك؟ و كم هي مساحة أرض فدك؟ و كم هو ثمن فدك؟؟؟ و ها اني أنا المسمي الصغير من بين الأئمة الذين أوصي إليهم نبي الإسلام بإدارة الأمة، كما أوصي لابنته فاطمة بنحلة فدك... أجل، إني أسأل نفسي: ما هي مساحة فدك؟ و كم هو ثمنها - و قد غدت انضمامية الي رقعة [ صفحه 107] الإسلام - و لكن الجواب الذي يرن في حنايا الطوية، ما تمكنت - أنا موسي - إلا أن أصوغه هكذا: - تبدأ حدود فدك، من فدك بالذات، الي عدن، الي سمرقند، الي إفريقيا، الي سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينيا. انها - بالفعل - حدود الأمة التي غطاها الإسلام - و غطي معها مفاسح أخري من رقاع الأرض، أكان في الشرق، أم كان في الغرب - ليكون الاسلام دينا توحيديا، تنادي به المآذن. مثلما تتخشع به نواقيس الكنائس، مثلما تتهامس به جوامع الحكماء. أقول ذلك لأعني، كما أضحت سيدتنا فاطمة تعي: بأن المطالبة كانت بإرث صغير و أضحت بإرث كبير، لا يقدر أن يمتلكه فرد ان لم يكن في رباطه الاجتماعي الموصوف بوحدوية الأمة!!! أجل، أيها المنصور - اننا نطالب، نحن الإماميين، بإرجاع فدك الينا، لا لنأكلها رطبا، و لا لأن نبيعها ترابا... بل لأن نعززها بجهاد مستمر، يدعم إسلامها، و يوسعها فدكا يوازيها ثمن من الأثمان... أما المنادات بإرجاعها إلينا - فلأن نبيا عظيما قد انبلج منا، و نجاها من يهودية، كذابة، و وسعها بالأمة، لتحرير الأمة... و استنزل للأمة كل الضوابط التي تحميها من مطبات الهبوط! تلك هي الأمة التي استرجعها الي صدره نبي الإسلام، و سلمناها إرثا أسميناه فدكا مربوطا بعقد الأمان - و استمطر علينا من السماء عهدا بأن نحافظ علي العقد من غدرات الزمان... و لكن أبابكر الصديق - و لا نزال نتمناه صديقا - سحب العهد من [ صفحه 108] يميننا الي شماله، و سد بأصابع كفه اليمني: عينيه، و أذنيه، و ملعب لسانه... حتي لا يري، و لا يسمع بنود الوصية، و حتي لا يتكلم عن مضمونها... أما النبي الذي غفا غفوته المثلي... فلينم قرير العين - راح يقول الصديق في سره - لأن من يخلفه، سيكون الأوعي في تخليص الإرث من هفوات لا يجوز أن تحصل: أكانت إدارية، أم كانت عقارية... أما الأمة، فستتناولها سياسات الجهاد... أما فدك؟ فلن تبتلعها زوجة علي، بل كل ساحات الجهاد!!! هنالك الإمام الصادق - و ان يكن له حق المطالبة بإرجاع فدك اليه - منك أيها المنصور، و من السفاح، و من كافة ملوك بني‌أمية، و حتي من عثمان بن عفان، و من الخطاب، و بالتخصيص من أبي‌بكر الصديق - فإنه لم يفعل ذلك أسوة بأبيه الباقر، و جده زين‌العابدين... لا لأنكم نحرتم الأمة - بعد النبي - غلية، و غدرا. و اختلاسا... بل لأنكم ارتكبتم الجريمة بجهلكم: ما هو الحق، و العدل، و النبل، في سياسات الحكم، و كيفية إدارة الأمة، و ضبطها في منهجية رسمتها عبقرية، جهادية، رسالية، نبوية... اتصفت بها أمة الإسلام... أجل، أيها المنصور، ان أبي الإمام جعفر الصادق، لم يطالبكم بإرجاع فدك الي نصابها المتسع بها: من جنان عدن، الي سيف البحر... بل راح الي تنوير أذهانكم بوعي مستنير بذاته، يحققه العلم النابع، أيضا - من حقيقة ذاته... و بعد ذلك تدركون: أن فدكا هي الأمة الملبية شوق النبي، و ان العناية الصادقة التي تسوسونها بها، هي التي ترفعكم - بها - الي سماك - لستم الآن بعالمين كم هو مقداره في دنيا الشمم!!! منذ سبعين سنة أيها المنصور، و الجامعة العلمية في يثرب، تقبل جبين عمر بن عبدالعزيز، لأنه احترمها، و وسع مدارجها بأكثر من أربعين [ صفحه 109] ألف ذراع، حتي تزيد مقدرتها العلمية في تثقيف الأمة، و تنوير عين الحكام. و منذ أكثر من عشر سنين - أيضا - و الإمام الصادق، يقبل يمينك أنت أيها المنصور، أو يا أميرالمؤمنين، حتي لا تهدم حجرا واحدا من عتبة البنيان!!! و لكن المعضلة التي تحاول - أنت - حلها... هي التي تعشش في عتمة روحك، بأن تهدم العتبة، و السقف، و الجدران، علي رأس الصادق - تحسبا منك - بأن تحذفه قبل أن يطالبك - بعد غد - بإرجاع فدك إليه... و عندئذ - أي معني لك راعيا قشيب العصا؛ بين الرعيان!!! لقد بقي الإمام الصغير، طيلة شهرين - يتلمظ هذه الأفكار، و يزيدها درسا و تمعينا... و أخيرا جاءه علم بأن القافلة، بقيادة عامل المنصور في يثرب - تصل بعد يومين... و بعد يومين - بالتمام - ترجل الإمام علي عتبة الدار. و قفلت القافلة راجعة الي بغداد... أما الإمام، فما كاد يلملم فتاه الأسمر، الي بين ذراعيه - حتي رجاه بنقله الي فراشه، لأن طول الطريق يهدم حيله - و لأن ألما في أمعائه يقرع خاصرتيه بما لا يطاق!!! لقد قرأ الإمام الصغير في عيني أبيه الكبير، - قبل أن ينام - حروفا مكتوبة بلون فاقع أصفر، و بلون أحمر فاقد اللمعان... و أدرك أن المعضلة قد حلها عامل المنصور، و هو راجع مع أبيه الي يثرب. و أن سما مقشوبا بالطعام، و قد تذوقه الإمام، قبل أن يصل الي فراشه و ينام!!! [ صفحه 111]

الإمام موسي الكاظم‌

الكاظم‌

و لف الإمام موسي جسد أبيه الراقد، بقميص و عمامة كان يرتديهما جده الإمام زين‌العابدين... و حملوه الي البقيع حيث واروه الثري قرب آبائه العظام... و لما رجع الي البيت، كان هول الصدمة يغلفه بصمت رهيب، لا دمع فيه، بل سكون غائر في عينين شبه مغمضتين، ينبجس منهما شجي آخر، لا اسم له غير الخشوع!!! أما زواره الكثر - و قد توافدوا يعودونه للعزاء - فإنهم رهبوا المجال في صمته، و حجزوا الدمع في مآقيهم المرتهنة بمثل هذا الخشوع!!! من جملة الذين زاروه للعزاء - شيخ وقور مخفي تحت جعادات وجهه - دخل علي الإمام - و توا توجه إليه، و قبل يده، و هو يقول: - أكمل مسيرة أبيك - إذا تمكنت. و هذا كل العزاء، و كل الثراء. و طول البقاء!!! [ صفحه 114] ثم انسحب... اما الامام، فانه بدا، كأنه ابتسم، أو كأنه اكتأب... و لكن.... لا ابتسم، و لا اكتأب... بل انه التهب بنحيب ضمني جعله يلحق بالشيخ، ليحتجزه في مخبأ سري من حنوة لبة، فيكاشفه بسريرة نفسه، ساعة تزدحم عليه رزايا الدهر... و ما أشدها الآن وطأة عليه، غيبة أبيه الصادق في نقطة سم: صغيرة صغيرة كأنها حبة سمسم!!! و ابتدأت - منذ هذه اللحظة - مناجاة الكاظم - علي أن لا ينتهي من الارتسام بها حتي اليوم!!! [ صفحه 115]

مناجاة الكاظم‌

أما المناجاة الآن، فإنها هكذا ارتسمت، و هو يرتمي في عب الشيخ، و آهة في صدره تقول: - لقد تركتك يا سيدي تقبل يدي، من دون أن أحنو - أنا - الي جثو يقبل قدميك! لقد عرفتك يا سيدي: من غيمومة الدهر في محجريك، و من إلتفاف الحقب بفوديك... فأنت تمثيل الأمة، عابرة خطوها الطويل و العريض في فيافيها المضرجة بكل مآتيها الخارجة من رمل الي خصب، و من خصب الي غبار أنساها طعم جناها... يا للرجوع اليائس! كيف يرد الشبعانين الي لوعات المجاعة!!! ما لنا و الرجوع كثيرا الي الوراء يا سيدي، و أنت تعرف كيف حققت الأمة - في ذلك الحين الغابر - إقبالها علي انتاج ثمين أشبعها، ثم إدبارها عنه، فأجاعها!!! إن في التاريخ إضبارات لم تغب عنك قراءتها: لا مع الجدود من [ صفحه 116] بني‌آدم، و بني‌آشور، و بني‌كنعان... و لا مع السبي المتدهور - زحفا - الي الوراء، مما أرجع الأمة الي امتصاص الرمل، و الاكتفاء بما يسد البلغة!!! إنه شأننا الحاضر يا سيدي، و قد حدث جديدا تحت أعيننا، تلقط به رجل آخر، أنبتته الأمة - من حرفها الجائع - حتي يؤلف لها مائدة جديدة يملأها خبزا و قديدا... انه القرآن يا سيدي - تنزله من الخير العلوي رسول و نبي، فنادي الأمة بالذات، و راح يعلمها كيف تعيد الي حياضها ما يردها الي خبز، و الي بلغة! و لكني أعرض أمامك الآن يا سيدي - و أنت تمثل الأمة بكل أفراحها، و كل أحزانها - كيف أن الأمة الغرثي، أقبلت علي رسولها، تأخذ من روحه زاد طريقها، شبعا لها، من يوم الي يوم، و من جيل الي جيل... ألم تعتنقه، كأنه ضوء الطريق، و نور الهداية؟! ألم ترها - في غدير خم - كيف ركزت تحت عينيه إسلامها الذي سيغطي - غدا - كل الشرق! و أيضا - في غدير خم - ألم تر، بعينك الصغري، هذا الرسول رافعا باع علي في الهواء، و هو يقول: - إنه ابن أبي‌طالب - نسيبي و حبيبي - و يا ما أحبكم تتقبلونه مدي العمر، وليا علي إسلام، لكم، سيبقي مشرقا بكم أبد الدهر!!! و هتفت الأمة كلها - في ذلك الحين - باسم علي إماما تتبارك به مهجتها؟!! [ صفحه 117] و أغمض الرسول عينيه و نام... و لم تنم عين أخري تلفلفت بالاسلام، و مزقت حرف الذمام!!! يا للعين الأخري!!! من تكون هذه العين الأخري، أيها الشيخ الوقور؟ هل هي عين الأمة التي رأيناها تملأ الساحة كلها في غدير خم؟!! أم انها عين الحقد! تزورت بالاسلام - فقط - إشارة انضمام!!! و راحت الي انفصام يوصلها الي كرسي السيادة!!! تلك هي الأمة يا سيدي الوقور... انها محض براءات بقيت لها من معدنها الأصيل، من دون أن تدري كيف تتخلص من دناءات يرقص بها البهلوانيون... و البراءة يا سيدي، و ان تكن بحد ذاتها جميلة - غير أنها - مع استمرارية الوقت - تغدو سذاجة يتلاعب بها هذا النوع من البهلوانيين الذين هم - بكثير من الوضوح - طغمة الحاكمين المتسيسين علي الأمة. و المتلفظين بسذاجاتها، كمصدر وحيد لمل‌ء صناديقهم بالجاه و الثراء... و قصورهم المليئة بإغراءات المجون، تكذب لها الأبالسة علي بسطاء الروح، من دون أن يروا كيف تكون النجاة من وهم الطلاسم! و عصي البهلوانيون الرسول العظيم، و كلفوا ابن‌ملجم بحذف ابن‌أبي‌طالب من الدوحة الكبري... و حذف ابن‌أبي‌طالب - بحد ذاته - من مجتمع الأمة! أليس هو التجديف علي القيمة المثلي التي تتفرد بها شخصية علي بن أبي‌طالب، و يعز علي غيره من الناس أن يتلقط بمثلها: عمقا، و طيبة، و أصالة جوهر!!! أين هو علي في كفة الميزان؟ يحذفه بهلوان!!! [ صفحه 118] و لا تدري الأمة كم هي خسارتها من الدر، و اللؤلؤ، و المرجان!!! و لقد توالت عليها الخسائر، من دون أن يكون لها رقم حسابي كان لها أن حفظته في سالف الزمان... ونست الآن أن ترقم به حجم خسارتها: بالحسن، أو بالحسين!!! يا ضيم جدي زين‌العابدين... يتحمل وحده ثقل الضيم بالحسين، من دون أن تدري الأمة... انها هدرت - هي - دم الحسين!!! و أدرك جدي الزين، أن لا أحد من الثقلين: لا الإنس، و لا الجن، يتمكن من محو السذاجة من مقلة الأمة، إلا فاعل واحد، هو العلم الكبير، لا العلم الصغير... و هب الي بوابة المسجد، يشرعها لتلقين العلم... و ها هو يحمل ابنه الباقر جهد التفتيش عن كل كتاب، في أي قطر كان، فيجي‌ء به الي الجامعة المفتوحة علي مصراعيها، و يلقنه الأمة علما كبيرا موسوعا: فيه الحساب، و فيه الأدب، و فيه الفلسفة، و الفقه، و التاريخ، و الجغرافيات... و فيه الفيزياء و الجزئيات و الكليات: من الكيمياء أم المعادلات... ثم يأتي ابنه الإمام الصادق، فيتناول المعارف كلها الي الرحب المطل علي مدي العبقريات... انه العبقري الهابط علي الأمة بألف هلال تمحو عتمة ليل الأمة، و تمحو سذاجاتها العالقة في خيوط الذهن!!! اسمعني مليا أيها الشيخ الوقور... أليس عارا - أيضا - أن يبقر بطن جعفر الصادق بنقطة سم؟!! كيف يسمح - لنفسه - حاكم بهلواني الفطرة، و سعداني الرقصات، فيمد كفيه الي عنق عالم، يدير جامعة تهذب أمة و تمحو منها السذاجات... فيخنقه، و يمتص وريده، كأنه دجاجة في قنه - يذبحها متي شاء، و يبقيها إذا شاء!!! و الأمة؟ يا سيد الرجاء... من غيرها يرغم حاكما و يصده عن ارتكاب الموبقات!!! من غيرها يوصله حاكما الي ساحات الرهان، ان لم يكن أمينا علي تسديد الرهان... [ صفحه 119] و لكن الأمة - يا للتعاسات - لم يكتمل وعي لها بعد، تجلو به مغزلها، و المكوك الذي تبسط عليه فتلة الخيط، لتنسج ثوبا جديدا تلبسه في ليلة العيد!!! لقد شد لها جدي الأول، خشبة النول، و قدم لها جدي الثاني فتلة المغزل... و لكن القميص الذي نسجته أنامل الجهد! مرغته بالدم همجية الحقد، و تركت الجسم في عريه المخزي!!! و غاب دهر، و جاء دهر!!! و كان للإمامة المثلثة عزم جديد بإنشاء جامعة تكون منارة تنير الليل من عتماته السود،... ليكون لها - من جاهل دوانيقي، تحطيم المنارة علي رأس من أشعل النار علي رأس المنارة!!! و ها هو الصادق من خلف الستارة يقول للمنصور: أنت وحش، لا تليق بك: لا مهامس النور و لا ملاقط الحضارة!!! لو أنها الأمة، تسمع الآن هدرة الصادق!!! أتراها تهب و تحطم العرش علي رأس أميرالمؤمنين، و تسد منخريه بوسادته الديباج؟!! واها عليها من أميرالمؤمنين - بالذات - يحطم الجامعة علي رأس الصادق، ليبقي الجهل و سادة الأمة، تغفو عليها... و إذ تحاول أن تستفيق، يهمزها بسياطه، حتي لا تستفيق!!! و أنت أيها الشيخ الوقور... أتتمني لي أن أكمل السير علي خط مشاه أبي قبلي؟ و هل يكون لي غير هذا المبتغي؟... و لكن الجلف الذي حطم الجامعة علي رأس أبي، سيحطمها علي رأسي ان أعدت لها البناء!!! فكيف تريدني أفعل؟!! أأستدعي الأمة الي المساندة! و لكنك تري يا سيدي أن اكتمال الوعي لم يستجب بعد! كما و إن استبسار الهمم - من غير حينونتها - يضرج الأمة بالدم، و يعيدها الي نقطة الصفر!!! لا... لن أفعل ذلك،... صونا لعظام الأمة من عملية السحن!!! [ صفحه 120] فالمنصور، و خطه الأعسر - هو المتملك الساحات، بهمجية بطشه، و لا صيانة الأمة، و لا رعايتها - واردتان في انتصاب ميزانه!!! اسمعني أيها الشيخ - اسمعني، بكل ما في عيني من غيظ... و من قهر و كظم!!! سأصبر طويلا، و أنا متحمل ثقل القذي من منصور الدوانيقي... و من جميع من سينتسلون من فقراته! عل الصبر الطويل، و هو الملفلف بالكظم الطويل، يساعدني في توفير الدراية للأمة، حتي تعبر - بنوع من سلام، و من بعض طمأنينة - من حالات تعسفية، الي حالات أخري، ينقشع فيها أمل... و ينفرج فيها رجاء... و إننا [يا سيدي الملي‌ء بالرجاء] نسجد، و نصلي لله - عز شأنه - حتي يصوننا - و الأمة من كل بلاء!!! [ صفحه 121]

خط الكاظم‌

اشارة

باكرا جدا تعين الخط الأساسي العام لنهج الإمام الكاظم في تعهد الإمامة و وقايتها - ما أمكن - من الأخطار المحيقة بها في عهد عباسي، يميزه اللؤم، و الغدر، و اغتلاس الذمام! ان تعهد الإمامة - و هي في مقصده العام، الأمة - لأمر جليل في مثل هذا الظرف الرهيب، و كذلك فإن وقايتها من رهصة الاعصار في تقلبها من شدق سفاح الي بلعوم تمساح، لأمر مخيف أيضا، لا تتمكن منه إلا دراية حكيمة، في ظل من تحمل، و تصبر، و توسيع أناة! ان الحوارات و الدراسات التي كان ينشئها الفتي موسي مع أبيه الصادق، تشير الي انتظام الخط العام الذي سيركز الآن عليه نهجه في إدارة إمامته، و العبور بها - بين النقط - لعل الحكمة، و الدراية، و الاتزان، تخلص الأمة من وابل تهدد به حوملة الإعصار! لقد استمعنا الي كل ذلك في دراسات الأمس، و قد تناولت - كلها - وطأة العصرين: العصر الأموي الذي انقصف، و العصر العباسي الذي اتصف بالقهر و الغدر، و الفتك!!! و جاءت الحكمة تقضي بأن لابد من تصبر و تحمل، و تقشف... و من ملاينة و مداراة، ان لم تمنعا الإنفجار تخففان من جرفه، الي أن يغير الله من أمر كان مفعولا!!! [ صفحه 122] و لكن الملاينة التي انجر بها الصادق الي معاطفة المنصور، لم تحرز أكثر من نقطة سم! وسعت عين ابنه موسي بالدمع المستحيل الي كظم، و الي صبر، و الي ملاينة مبطنة بسجود يحسبه المنصور - سجودا له - و هو في باطنه، كما في ظاهره - علي السواء - سجود لله - عز شأنه - في تخشع المؤمن أمام الإرادة السرمدية التي ستسحق الظالمين المستهينين بالعباد، في تحميلهم وزر أياديهم المعجونة بزفت و كبريت الجحيم الذي فيه سيوأدون!!! لقد تعين خط الإمام الباكي علي أبيه بدمع الرجاء! لقد عينه بالتقوي التي هي سجود، و صلاة - و التي هي، بذات الوقت - دين الأمة، و دين الحق، و العدل، و الآيات، لا دين الظلم، و الفتك. و التعدي علي الحريات و الكرامات!!! أتراه سيرعوي المنصور، و يصمت به الخجل، أو تقريع الضمير!!! و تراه - أيضا - تستفيق به إنسانية لم يبق له منها سوي ظل ذنب من أذناب القرورد!!! أنا لا أظن الإمام موسي الكاظم إلا فنانا موهوبا و مأخوذا برهبة فنه، أكان في سجوده الطويل المستحيل الي خشوع بارع القسمات، أم في صلواته المديدة، كأنها سلالم تعرفه من أرض الي سموات!!! لقد بدا له - بعد انخطاف أبيه من أمام عينيه - أن يعرض ذاته كلها - لا في زاوية بيته و حسب، بل في طول و عرض الساحات - ساجدا طويلا، و مصليا مديدا لله المتقبل السجدات و الصلوات... و ما ذلك إلا لغرضين أساسيين و بهيين: أولا: لتراه الأمة - و هو وليها المؤمن - كيف تكون التقوي، خضوعا صادقا لله، و إيمانا به، و تلبية لدعوة النبي الكريم أمته الي واحة [ صفحه 123] الإسلام الذي هو خلق كريم في تهذيب النفوس و في إبعادها عن الموبقات... و ليكون الإسلام - بحد ذاته - تماديا بالمكرمات... و هل تبني - مطلق أمة - إلا بالمكرمات؟!! و ثانيا: ليراه الحاكم ساجدا، و مصليا، و مستمطرا رحمة الله علي العباد، و غفرانا للمسيئين الخارجين عن ذمة الحق، و روعات السداد!!! هكذا قصد الإمام أن يقوم بدوره القيادي تجاه الأمة، في عملية مباشرة تتداور خلفها توريات تنام فيها تنديدات بالحاكم المنتدب لسياسة الناس، بالحق، و العدل و الصواب... و إن تفتهم هذه المكرمات، فبئس المصير مصير الجاحدين الخائنين!!! لم يكن أسلوب الإمام فرضا يميله الدين، أقل مما كان رأيا يمليه العقل المستجدي نعمة اليقين... و ما كان العقل - و لا مرة في علم الاجتماع - غير متوسل الي الدين بأن يبقي - أبدا - ضابطا مجتمعات الانسان في المحارم التقية الصائنة من الزيغان!!! و صدق القول: لا تبني أمة غير الفضائل!!! و لا تهدمها إلا الرذائل!!! و من أرذلها إطلاقا: الفسق، و الكذب، و الظلم الخارج من رجمة الشيطان!!! و لكن الامام - لسوء طالع الأمة - لم يكن بمقدوره إشعال نار يكب فيها كل هذا الهشيم من العهر، و الظلم و الطغيان، مرجئا ذلك الي تمكن الأمة من وعي يباركها، و ينهض بها من استسلام حزين، الي استجمام متين يعلم الحاكم قراءة حروف الحق، و العدل، و الطهر في الأشواق البانية عظمة الإنسان في مجتمع الإنسان. كل ما كان في مقدور الإمام، في تلك الساعة الهزيلة النبضات، عزم متين صحيح، بقي مستمرا في بنيته الروحية المنتقلة اليه عبر الجذور المتينة [ صفحه 124] و الممتدة من النبي الكريم و فتاه الآخر المعزز الاسم بعلي - الي أبيه جعفر الحامل الصدق، و العلم، و النور... أما أجره الباقي له في مثواه المضي‌ء... فنقطة سم ما قدر أن ينفحه بها في زوادة الخلود، إلا بطل صنديد، لا اسم له في النصر، إلا المنصور! صحيح، لم يتمكن الإمام موسي الكاظم من جمع سلاح ينازل به بني‌العباس إلا رمحا أسيلا من معدن التقوي، له حدان طيبا الرهافة: رهافة الصلاة، و رهافة السجود!!! لا يجوز أن نحسب أن المنصور - بالذات - و هو الخداع، و البطاش، و الكذاب، لم يستهب رمح الإمام موسي الذي نزل به الي ساحات الصراع... انه رمح التقوي، سجد به أمام المنصور، و صلي به أمام الناس... أما المنصور، فإنه تسلي به، علي خشية من ربه، جعلته يحجم عن ضرب عنق ساجد أمام خالق جبار يتمكن - وحده - من خطف الأنفاس و الأبصار... لقد ارعوي هذا الرعديد، أمام مهابة يتجلي بها تقي، أمام حقير يدعي - زورا - أنه جبار و قهار و هو أحقر مجرم علمه الكفر امتهان الله في أشرف طينة زينها الله بحيوية الإنسان!!! أما الأمة، و هي الطينة التي نفخ الله فيها قيمة الانسان، فهي تلك التي راحت تصغي الي همس صلاة الامام الساجد، و تأخذ منها العبرة: بأن الحق هو صلاة المؤمن، و هي رجاء الي الله في جلوة النور في عدسة العين... و تمتين الصدق في المهجة، و بث الوعي في خلايا السريرة، و زرع الخلق النظيف في النفس، و في كل ما تختلج به الطوية!!! لم يسجد عبثا الإمام موسي، و ليس عبثا - أيضا - أن يصلي... فالأمة كلها، بما فيها فاجر اسمه المنصور، بحاجة الي صلاة تستدعيها الي وعي مؤمن، تجلو به طاقاتها الروحية، الإنسانية، الاجتماعية. [ صفحه 125]

مع المنصور

اشاره

ان الفسحة التي قضاها المنصور في الحكم - و هي عشرون سنة في التمام - تقسم الي فاصلين، كل واحد منهما يتألف من عشر سنين: ألا فلنرافقه قليلا فيها - و في كل فاصل - علي حدة - لنري كيف كان هذا الأمير المؤمنين ينهج في حكمه، و كيف كان هذا النهج - بالذات - تعبيرا عن نفسية لا تليق أبدا بحاكم يدعي بأنه خليفة نبي المسلمين.

الفاصل (1)

ليس علينا أن نعيد سرد الأحداث التي حصلت في العشر سنوات الأول في عهد المنصور - فلقد جئنا عليها باللمح المختصر، تاركين للتاريخ التوسع بسردها... و لكننا هنا نقصد ابداء العرض، ليكون موجها الي المنصور هكذا: - إننا نفترض أنك حاكم شرعي، و أن الأمة كلها بين يديك... و أن عليك - وحدك - تدبير أمرها، بالحكمة، و الروية، و العدل، و القسطاس! كما تنص الآيات في قرآنها المنزل عليها و لها... و ها هو المدعو عبدالله بن [ صفحه 126] الحسن، ينهض بوجهك، و لا يقبل بك متوليا شؤون المسلمين!!! و رأسا، بدل أن تحكامه بإمعان و روية، حذفته من الوجود!!! و هكذا صنعت مع ابنيه: محمد ذي‌النفس الزكية، و إبراهيم الثائر الآخر!!! و بدلا من أن تتلقط بهما - بمهارة و دراية، و تحاكمهما بإمعان و روية، و محبة... نكلت بهما، و حذفتهما من الوجود!!! و هكذا مضيت الي ترويع جميع الناس، لا لتأمين الأمة و صيانتها، بل حتي لا يروع الناس حكمك... و ما كان الناس في نظرك، غير العلويين بالتخصيص، من دون أن تمهد لهم: حبا و معروفا، تفيض بهما مهجة الاسلام!!! - فليكن لنا أن نفترض - أن لك الحق المطلق في الدفاع عن عرض يهدده رعاع القوم بالعصيان، و ان العاصين ما نالوا إلا ما جنت لهم أياديهم الآثمة... فليكن لك أن تدعي ما تشاء، و أنت في كرسيك السيد!!! و لكن؟ كيف تغطي تصرفك الأسود، مع رجل فريد من نوعه، لا يجوز أن تمتد اليه يد! و اسمه جعفر الصادق: رهن عمره كله، مع أبيه الباقر، و جده زين‌العابدين - علي طول سبعين من السنين - في خدمة العلم، و خدمة جامعة علمية خاصة، لم تحقق الأمة مثيلا لها في سالف عهدها الطويل!!! و ها هي المعارف كلها تكر أمام ناظريك، بأكثر من أربعة آلاف طالب، هم انتاجها حتي الآن: بالتفكير، و التأليف، و الابداع في الفلسفة، و الفيزياء، و الكيمياء، و الطبابة [ صفحه 127] و الهندسات، و التاريخ، و كل أنواع الجغرافيات!!! كيف تمتد يدك اليه، بنقطة سم!!! و هو الآتي إليك - و إلي الأمة التي تدعي أنت تريوضها بخفق النعال - بدرياق يشفيك من كل السموم!!! أنا لا أظن الآن إلا المنصور قد صمت أمام الافتراض المقدم اليه، و اني أقدم الدليل في تقديم الفاصل الثاني الذي نعرضه الآن:

الفاصل (2)

و انحذف الامام جعفر الصادق ملبيا حكم الاعدام الذي تفله تفلا عليه هذا المنصور الذي لم يدر أنه رفع الصادق الي ما فوق رأسه المزحوم بالكفر و الهرطقة - ليبقي - هو المنصور - في الدائرة المبهمة... بينما انتقل الإمام الصادق الي اللوحة الأخري، و هي المطرزة بأسماء العباقرة الخالدين من أبناء البشر!!! و حمل الامام موسي اللوحة ذاتها، و قد انحدرت اليه من خلف الغمام، و علقها فوق دوحة رأسه - بالتمام - و راح يسجد لها في الساحة الكبري علي مدي عشر سنين، لا لتراها - فقط - و تصغي اليها الأمة كلها - بل ليراها - بالتأكيد - و يصغي اليها، بهمسها الصادح، منصور يدعي بأنه عريض الباع في دوحة المسلمين، و هو العريض التنكيل بأفواج المؤمنين!!! هنالك حقائق، إما أن تسمع منطوقة في العراء، و إما أن تؤخذ مهموسة في الخفاء - و إن أبلغ ما كان يبثه الامام موسي، في سجوده و صلواته، هو الهمس المبطن بتقريع الحاكم الفاسق و الظالم، و كأن هذا التقريع هو تهديد، بأن الله الذي هو - حق، و عدل، و جبرؤوت - لابد من أن يقتص من الفاسقين الظالمين، و ينيلهم جزاء ما فعلت أياديهم السوداء... أما [ صفحه 128] المنصور - و إن يكن خاليا من ضمير يحلل و يزجر، فإن الموبقات - و هي المتماثلة كالقناطر تحت ناظريه المختلجين بالزور و الإثم - فانها هي ذاتها التي كانت تطوقه بالرعب النائم في طوية نفسه!!! يا للمنخر الأفطس، تتعلق به بعوضة فترميه - معضوضا - الي الأرض!!! و ارتعب المنصور من آثامه التتري التي كبها علي العلويين كبا، و ما أبلغها إثما، و زورا، و كفرا، نقطة سم زجها زجا في وريد الإمام جعفر الصادق!!! و ها هي الصلوات و السجدات، يصليها، و يسجد بها الامام موسي بن جعفر، مستجيرا برب الخلق أن يذيق من سم أباه، سما أبديا منقوعا له في قعر الجحيم!!! أجل - كان المنصور يصغي الي التأوهات الدعائية، يصبها الإمام موسي علي رأسه، من دون أن يذكر اسمه أمام الله الذي يعرف كل الأسماء، و كل الطوايا، و كل الذنوب... أما ان لا يخاف المنصور؟ و إن لم يكن له العقل الذي يخاف، فانه خاف من مغبة الإثم، و لم يرتكب إثما مع الإمام موسي، و لم يمد اليه يدا من زور... مع أن الإمام موسي جافي المنصور. و لم يرد أن يراه مارا تحت عينيه، و لم ينقطع عن رشقه بالصلوات المسترحمة الله علي آثام شنعاء، قد لا يرحمها الله!!! و لكن الله - عزوجل - هو أرحم الراحمين!!! بعد شر سنوات - بعد مقتل أبيه بنقطة سم - مات المنصور، و بقي الامام موسي يسجد و يصلي - لأن نسل الظالمين سيمتد الي: المهدي، و الهادي، و هارون‌الرشيد. [ صفحه 129]

مع المهدي‌

لم يجر الامام موسي مع المهدي إلا حوارا واحدا - طيلة عمره - و لو لم تكن لهذا الحوار أهمية تذكر، لما كان لهذا الكتاب تعرف الي أمير من أمراء المجون وصلت اليه عدال من المال، و الجواهر، و الذهب، لا يضبطها رقم من أرقام الحساب، جمعها رجل بطاش اسمه منصور الدوانيقي، لم يصرف منها درهما واحدا، بالنسبة الي بخله، و بطشه، و حرصه، جمعها كلها، من عهد أخيه السفاح، و من عهده في الحكم الظالم، و قد طال أكثر من عشرين سنة، و لم يخص منها أحدا سوي ابنه المهدي، فراح هذا اليها يبذرها يمينا و شمالا، في عمليات من البذخ المسرف بالخلاعة و المجون!!! هنالك أموال مقتورة جمعها الامام جعفر الصادق، ليساعد بها الفقراء و المعوزين من أبناء الأمة الذين هم تحت رعايته الإمامية، و ارتأي المنصور - و هو صاحب العرض و الطول - مصادرة هذه الأموال المقتورة، و ضمها الي عداله التي انتقلت الي ابنه المهدي... و لكن المهدي، و هو الغريق في لحجج الثراء - طاب له استدعاء الامام موسي، ليرد اليه المال الذي صادره أبوه، و لم يرجعه اليه بعد... لقد كان المهدي مزهوا بنفسه، و هو يتكرم [ صفحه 130] بإرجاع مال الي من لم يجسر علي المطالبة به... و لبي الامام موسي دعوة الأمير، و ابتدأ الحوار: المهدي: أهلا بالامام موسي... هل تدري لماذا استدعيتك؟ الإمام: أنا بين يديك يا أميرالمؤمنين - فما هي الحاجة؟ المهدي: ليست الحاجة لي... انها لك... عساها تشرح بالك! قال المهدي ذلك، و قدم له ظرفا مختوما و هو يقول: - أظن المال الذي صادره أبي‌المنصور من أبيك الصادق. هو بكامله، و المضاعف في هذا الظرف... و إذا وجدته لا يكفي، فأنا بين يديك في تسديد ما تطلب. تناول الامام الظرف، و أجاف بنبرة فيها كثير من التهذيب، مع وفير من الاهتمام:- أنت كريم يا سيدي - بحد ذاتك - لأنك ترد ما عليك من دون أن تطالب!... و أجاب المهدي بنوع من تعجب: - و لكن... يبدو انك تطالب... و لن تسوءني المطالبة... فاجعل لها رقما إذا أردت. الإمام: ليس لي الآن أن أطالب... و لما كنت آخذ هذه الظرف... لو أن ما فيه هو لي... انه - يا سيدي - لبعض الفقراء... سأوزعه عليهم... علهم يخففون به بعض حاجة... و تعجب المهدي من رجاحة وزن الامام، و اعتدل في مقعده الي جدية اخري و هو يقول: [ صفحه 131] - يبدو لي - أيضا - أن كل ما يتضمنه هذا الظرف لا يفي بما لك علينا من دين!!! و اعلم أنك لن تبرح هذه القاعة، ان لم تعين لي حقيقة مقصدك! و أرجو أن لا تعذبني بالمداورة... فابدأ إذا شئت... و بعد تفكير مسؤول أجاب الإمام: - أرجو أن تكون رحب الصدر معي، من دون أن تأخذ كلامي الي سوء لا أقصده في كل ما أراه بعيني، من دون أن تتبصر به - أنت بعينك... أتعدني بذلك حتي أبدأ؟ و رأسا أجاب المهدي: - أعدك، فلا تتخوف مني - و ابدأ. رمقه الامام بعين وادعة، و لكنها بعيدة المغزي... و طرح السؤال التمهيدي: - أتسمع يا سيدي بقطعة أرض اسمها فدك؟ و بعد تأمل طال قليلا ايجاب: - انها في الحجاز... أليست هي التي تنازل عنها اليهود، و نحلوها لجدنا الرسول؟... الامام: انها بالذات - ألم تصر ملكا للرسول؟ و اكتفي المهدي باختصار الجواب: - فليكن!!! و أدرك الإمام ان في الجواب المبتور، بعض استفهام، و بعض تبرم، و لكنه بقي في تمادي السؤال: - هل بإمكانك تعيين ثمنها؟ [ صفحه 132] و علي ذات الوتيرة أجاب المهدي: - لك أنت أن تعينه، فأقول لك: قدقت. و أجاب الإمام: - لا أحسبني أضبط قيمة الثمن... و لكني أكتفي الآن بتعيين الحدود... فهل تتمكن أيها السيد من تعيين هذه الحدود؟!! و بتأفف ظاهر أجاب المهدي قائلا: - حددها أنت اذا تعرف!!! و بثقة العارف أجاب الإمام: - و انني أعرف... حد منها... جبل أحد... و حد منها... عريش مصر... و حد منها... سيف البحر... و حد منها... دومة الجندل... و انفتل المهدي نحو الامام... و بجدية صارمة أجاب: و لكنها حدود أمة الإسلام!!! لا حدود تربة في الحجاز!!! ماذا تقصد؟!! و بكل هدوء، و كل روية، أجاب الإمام: - أقصد: أن قرية صغيرة في الحجاز، تحتوي علي خمسماية نخلة، أصبحت ملك جدنا، نبي الإسلام، [ صفحه 133] و رسول أمة الإسلام... و لقد ضمها جهاد الرسول الي أرض الأمة التي هي أمة الاسلام... فأصبحت حدودها حدود الأمة بالذات... و ها أننا نطالب الآن بفدك التي هي إرثنا من جدنا... فردوها إلينا، كما تردون الآن مالا صادره من أبي أبوك المنصور!!! و بقي المهدي علي ذات الوتيرة من التأفف و التعجب و تابع السؤال: - و ماذا تبغي في ردها اليكم - و هي الآن بين أيدينا؟!! أنكون - نحن - قد صادرناها؟!! و هل تكون الأمة المال المصادر؟!! و بكل جدية، و جرأة، و اتزان، أجاب الإمام سريعا، و صريحا: - أجل... لقد أصبت يا سيدي... و ماذا يمنع؟ أن تكون الأمة - إذ تصادر - كالمال المصادر... و المصادرة معناها: من يصادر مالي، يكون قد أبعد عني كل الفوائد العائدة منه إلي... و لو لا الفوائد، لما أجهدت نفسي بجمع المال... و إن من يصادر أمتي، يكون قد أبعدها عن إحراز ما ينحو بها الي حق و جمال!!! و الاحراز هذا هو توق النبي ممزوجا بتوق أمتي التي تبنيني لأبنيها - بدوري - بذات الشوق الذي ترزقه - هي - في تصاميمي!!! ان جدنا العظيم - يا نسيبي - هو الذي خص عليا منا، يمحض الأمة بالرعاية الموجهة بآيات القرآن، و هي الموصلتها الي حقيقتها المبتغاة... فليعد الي خط علي [ صفحه 134] حق الرعاية!!! و لتلتغ المصادرات المبعدة الأمة عن منهجيات الصراط!!! لقد اسمتع المهدي - بإصغاء عميق - الي كل ما تفوه به الامام الذي نسي نفسه انه بين يدي رجل يخلف المنصور... و بقي المهدي - هكذا - صامتا و متأملا، الي أن تلقاه الإمام بهذا الرجاء: - أنا ما قصدت أن أسي‌ء إليك، و لا أن أكذب بين يديك... ولي كلمة أخيرة أحبها تملأ سمعيك: نحن - أبتداء بجدي الامام زين‌العابدين - و جدي الامام الباقر - و أبي الامام جعفر الصادق - وصولا الي أنا الجالس الآن بين يديك... تعهدنا، بتمام عزمنا، و رضانا... تنازلا عن كل ما يمت بصلة الي السياسة، و تركها للخلافة، و أنتم - اليوم - أولياؤها - و اكتفينا بالخط العلمي، لإنارة الأمة، و توسيع مداركها، مع رجاء منا، نقدمه اليكم، و هو الملي‌ء بالحب، و التمني، و نقول: لستم غرباء عن الأمة، فأنتم من صلبها حتي الجذور... حاولوا أن لا تكونوا مصادرين، بل منبثقين من حقيقة الأم... و لن تكونوا حاكمين صالحين، ما لم تكونوا عادلين، و أتقياء بارزين، و طاهرين عفيفين، و صادقين بريئين... و عندئذ فنعم الأمة أمتكم، أن تكونوا - هكذا - مخلصين!!! أتسمح لي الآن بالانصراف يا سيدي؟!! تأمله المهدي مليا، و هو واقف مادا اليه يده، ليقول: - أرجو أن لا يصادرك الغد بأي مكروه!!! [ صفحه 135]

مع الهادي‌

فلنلمخ قليلا الي مزايا الهادي، حتي لا ندخل عليه و نحن سادرون - انه ابن المهدي الذي تعرفنا اليه منذ لحظات... لم يحرز، لا مقدرة أبيه، و لا دهاء جده المنصور، و لكنه فاق الاثنين بذكاء مشلول، جعله ماجنا بلا فن، و صبيانيا بدون أية براءة!!! أما إمامنا موسي، و هو المصلي عميقا، و الساجد بليغا، فانه المستطلع - دائما - أحول الناس، من خلال مراقباته الدقيقة و المتقصية نزعات الحكام، ليكون له علم و كشف عن سرائرهم المتخبئين في طياتها، و التي بها يسوسون الناس، و يرجمونهم بكل ما في نفوسهم من شرور!!! لم تكن مراقبة الامام، بهذا الشكل المعمق و الواصل الي دوحة الوجدان، الا شهادة له في تمتعه بيقظة روحية - فكرية - علمية، تجعله متمكنا من علم النفس في استطلاعاته عن كل ما يدور في فلكها من نزعات، لا ينقيها و لا يرجحها الي الخير، إلا علماء خيرون، يتقنون عمليات التشذيب، و التهذيب، و التوجيه... و تلك هي فنون التربية التي يعتمدها أولياء الأمة في بناء الانسان، إنسان الأمة الواعية الملتفتة الي تجميل الغد. [ صفحه 136] ربما يكون البناء النفسي عند الامام مهتما بدراسة نفسيات الحكام، ليس فقط لاكتشاف نواحي ظنونهم، و معالجتها حتي تستقيم، و لكني أظن انها كانت دراسات - أيضا - لانتساب طرق الوقاية منهم، ما زالوا هم المقتدرون... و هكذا كان للإمام موسي ولوج الي طوية كل ممن زامنه منهم، ابتداء بالمنصور، فالمهدي، فالهادي. المالي‌ء الآن الذهن، و انتهاء بهارون‌الرشيد الذي سيذوق الإمام علي يده من العلقم، و كل عتمات السجون!!! و الهادي، لقد اكتشف الامام كل نزعاته النفسية، فوجدها كلها كفقاقيع الصابون: توهمك بأحجام كروية، إن تصبك تحطم رأسك، و لا تعتم أن تبعثرها نفخة، فتتلاشي و هي من هباء!!! لقد تعمق الامام بدرس الهادي، و تحراه في دوحة بيته: لقد خصه أبوه المهدي بالولاية، و حرصه علي أن يصونها و يوصلها عزيزة و كريمة - من بعده - لأخيه هارون‌الرشيد... و لكن هذا الهادي الضائع من رشده، ما قدر أن يفكر إلا باحتكار الحكم و نقله كاملا لابنه جعفر، و هو حبيب أمه و اسمها رحيم... و اكتشفت أم الهادي - و هي الخيزران الملقبة - باخت الرجال - عزم ابنها الفاقد العزم و صدق الذمام - و جربت ان ترده عن الغي و المنكر... و لكنها لم تلمس منه إلا الغدر المبطن، فتنكرت له، و تفردت بالحب لابنها هارون، و تلمست له الوصول مهما يكن فحش الثمن!!! و رأي الامام - بعينه الحدسية - أن الهادي هو الخاسر الفاشل، و أن دمه سيهرب من وريده الأيمن قبل الأيسر... و لا يستبعد أن تقتله - هي ذاتها - أمه الخيزران... و رأي الامام - أيضا - بعينه الغارقة في دمع الحزن، أن الهادي الذي رقص علي أشلاء الأبطال الذين انتفضوا علي حكمه، و قد قادهم الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن أبي‌طالب - لن يتمكن من [ صفحه 137] الرقص بعد اليوم، علي أي شلو من الأشلاء، لأن أمه الخيزران ستقصم ظهره إن يحاول!!! ان ثورة فخ - و الموصوفة بالكارثة - تفرد بها ثورة تقض مضجع الهادي، بطل اسمه الحسين بن علي، و قد جاء الحسين هذا يستشير الامام موسي في تتميم هذا الأمر... و لكن الامام أنذره بأنه المقتول، من دون الوصول الي المبتغي، بعد تعريض بني‌طالب لرعونة الهادي... و لقد تم كل ما احترز به الامام!!! و ها هو الهادي - بوعيده و تهديده - يستدعي الامام الي فق‌ء الحصرمة في وريده!!! و خاف عليه المخلصون، و نصحوه بالتخفي... فضحك و قال: - اطمئنوا، ليست الحصرمة الآن في يد الهادي، بل في يد أخري، و هي التي ستفقأها في عنقه!!! و حضر الامام الي محاورة الهادي الذي أقنعه الإمام بأنه بري‌ء براءة يعقوب... و لو أنه غير موال للعهد، لما كان قد نجا، لا من المنصور، و لا من أبيه المهدي!!! و لا يجوز للهادي المالي‌ء الآن الحكم، أن تضيع منه لا الحكمة، و لا الفطنة!!! و سريعا ما اقتنع الهادي، و صبر الي الغد... و بدلا من أن ينجح بقتل أمه الخيزران بنقطة سم، دعاها الي أن تأكلها فس صحن من الفالوذج... أطعمت الخيزران الفالوذج كلبا في دارها، و دست لابنها الهادي سما آخر في كوب من أكواب خمرة!!! و عانق الهادي الموت مع الصباح الذي أطل علي عرش راح يجلس فيه هارون‌الرشيد! [ صفحه 139]

مع هارون‌الرشيد

و لكن العرش الذي تربع عليه هارون‌الرشيد، ليست قوائمه لا من ذهب و لا من أخشاب،... بل من عظام الذئاب التي يفتك بعضها ببعضها الآخر... و الأخير المنتصر علي المفتوك بهم، هو المتقوقع فوق العظام، يتربع عليها بتيه، و هو يتلمظها فقاقيع دم - بنصر مبتسم - كأنه آخر ذئب، و لن يولد من بعده أي من وحش يتمكن مثله من تلمظ العظام!!! أنا لا أقول أن هارون‌الرشيد يتملك و مضة من فكر يتحلي بها إنسان، و هو يعتلي عرشا عائما بدم أخيه الهادي، بعد أن سفكته أمه الخيزران، و غسلت قوائمه بدم ابنها البهلوان، و قالت للثاني: هيا اعتل عرشا غسلته لك بالدم، فنم فيه مرتاح البال - و لا تندم، و لا تأثم، و لا تغتم!!! و اعتلي هارون العرش - و هو يبتسم - كأن الدم المغسول به، هو البلسم المصبوغ بالعندم، و نسي أن العندم هو دم الأخوين الخارجين من ذات الرحم!!! أليس خزيا علينا، أن نغسل أيدينا بدم أخينا - و لو أنه يستحق السفك - و رأسا نبتسم، كأننا لا قتلنا، و لا جنينا، و ليس علينا أن نتحمل، لا وزرنا، و لا وزر غيرنا الذي نحن منه و هو منا!!! لقد قتلت أخي، لأنه [ صفحه 140] غادر مجرم - أقول في حدسي - فلأقتله... و بعد حزن و غم... أعود فأبتسم، إذا كان لابد من ابتسام!!! بهذه المقدمة أحببت الدخول في دراسة تلميحية، تتناول هارون‌الرشيد متوصلا الي عرش لا يجوز أن يعتليه لسياسية جماهير الناس، إلا بالعدل، و الحق، و استقامات الوجدان... لا بالظلم، و الغدر، و رجاحة الطغيان!!! لقد صدف ان العرش هذا، قد توصل إليه الرشيد في ظرف كئيب... لقد وعده به أبوه المهدي، بعد أن يتمرس به أخوه الهادي، و هو البكر؛ و إذا يخلو منه، يكون لابنه الثاني - هارون - أن يعتليه، بعد أن يكون قد اكتمل نضجه العقلي، و النفسي، و السياسي!!! و لكن الهادي - لطمع فيه، خال من التروي، و بعد النظر، راح الي محاولة همجية، فكر فيها بحذف هارون من الساحة، ليبقي العرش من نصيب ابنه جعفر، من دون أي مزاحم!!! و انتبهت الخيزران - أم الأخوين - لفداحة الأمر... و لم تنتصر للهادي، و انتصرت لهارون... و لقد علمنا كيف انها أقدمت علي قتل ابنها الهادي بنقطة سم!!! و كيف أن هارون كان الباسم الأول مع صباح ذلك النهار، و هو يعتلي الكرسي الذي انحذف عنه الهاي... و لم تكن قد أجريت بعد مراسيم الدفن!!! فلنترك للتاريخ تسلسل الأحداث المليئة بالعبر، و بكل تهرجات البشر! و لنعتبر العرش المتربع عليه الآن أخو الهادي إرثا موصولا بذيل السفاح، و ذيل المنصور، و ذيل المهدي... من دون أن يكون - منه - للهادي، فتيلة يستضي‌ء بها ابنه جعفر ابن رحيم... هنا مهزلة الهادي، في تمسكه بسلسلة الإرث... و هنا - بالمقابل - صوابية الخيزران في ضبطها حلقات المجد و وصلها بالقناة الملصقة بابنها هارون... أما الحق، [ صفحه 141] و العدل، و ضوابط التركيز... فتلك روافد أخري، و ليس من أحد في أرض الأمة، إلا مقتدر واحد يجمعها كلها في كفة الميزان، و يمتن بها العرش العظيم، و هو المتصف بالرشيد!!! و ابتدأ الحكم بالرشد... و ما عتم ان صار رشيدا بياء «فعيل» التي هي كمال، و تجسيد عظمة... و العظمة فيه تثبيت العرش علي ماهيات مخصوصة به، و من أرهبها ادعاء الرشيد بأنه الولي المطلق علي الأمة، و ليست إلا له كلمة الفصل في كل الأمور المحتاجة الي تصرف خاص، يصون العرش، حتي من أية نية تجول في الصدر، لزعزعته، و الانتقاص من جبروته!!! هكذا حمي هذا العرش - ليبقي بمثل هذا الجبروت - جداه السفاح و المنصور... و هكذا حافظ عليه أبوه المهدي... و هكذا، فإنه هو الرشيد المستعد الآن علي أن يحميه من كل ظنة - مهما تكن ضئيلة - فيحذف عنق من يتلبس بها، من دون أية محاكمة قضائية، قد تبرئه منها هفوات القضاء... مع العلم ان القضاء بالذات - و هو من البوابات الحضارية - لم تعتمده مفتوحا علي شؤونها تلك العروش الهارونية النيرونية... بل تبجحت بإنشاء مجالسه، تمويها علي البسطاء و السذج، و هي تقول لهم: بأن الخروج علي الحق، لا ينظر فيه إلا القضاء الذي هو قمين بإرجاع الصواب الي نصابه!!! تلك ستارات تواري خلفها دهاقين العروش! و من أفتكهم هذا الهارون الآتي الي الحكم بقميص أخيه الهادي!!! انه المتلطي بمجالس القضاء، حفاظا علي الأمة، و علي روحية الإسلام... و لا قضاء بين يديه - هو الرشيد - إلا و هو - الرشيد - سيفه، و رمحه، و نقطة السم في رطبه!!! أما الاسلام، فإنه المدعيه دينا له و للأمة التي هي - بأكملها - حقيقة الاسلام. [ صفحه 142] كأن البحث، لا سار و لا دار، إلا ليوصلنا الي نقطة الدائرة... و الإسلام - بالذات - هو نقطة الدائرة: إسلام الأمة التي هي أمة الإسلام، و إسلام هارون‌الرشيد، يتربع علي عرش هو لأمة الاسلام، تشده اليه خلافة تربطه ربطا متينا بنبي الإسلام، و يا للنعمة المستديرة، فهو الولي العظيم الجامع امة الاسلام في دوحة الإسلام. هنالك إسلام ثان، تراءي للرشيد - في رداءة ظنة - و هو إسلام الإمام موسي بن جعفر - و هو إسلام إمامي، يجابه - منذ أن ابتدا - إسلاما «يخلفيا» من دون أن يقر له - لا بحقيقة الإسلام، و لا بتعديل النهج - ألا بئسه من إسلام متزمت، ما أراده النبي للأمة أداة يابسة، لا ينهض بها الي أي تجدد، و أي تقدم، و أي منهاج!!! أظنها هي ذاتها مقولة الرشيد من بني‌العباس، و هي التي كانت تدور في خلد ذاته، كما و انها هي ذاتها التي دارت في خلد من سبقه من بني‌أمية... و لا فرق بين الخطين: الخط الماضي الذي تقوض، و الخط الحالي الذي يكتسح الآن ساحة الإسلام، و لم يتقوض بعد... و حتي يستمر هذا الخط، من دون أن يناله أحد بالتقوض بعد... و حتي يستمر هذا الخط، من دون أن يناله بالتقوض، كان الرشيد يحاور نفسه في كيفية محو الامام موسي من الساحة العامة التي لا يجوز - مطلقا - أن يبقي فيها إلا ظل واحد، هو ظل العرش الذي تخضع له - بالتمام - أمة الإسلام!!! تلك هي الفكرة الوحيدة التي استحوذت علي جميع مجالات اقتناع الرشيد: بأن حذف الإمام موسي به الساحة، هو مطلب، و لا فرق بين أن يكون إسلاميا، أو عرشيا - أو عباسيا - هارونيا... فالمآل واحد، و هو صيانة العرش، و صيانة الأمة من الزكزكات الإعتراضية التي يقوم لها بنوطالب - بين الحين و الحين - كمعالجات ثورية، محوا للإسلام، و إنهاضا [ صفحه 143] لإسلام آخر، هو - كما يدعون - إسلام النبي، و هو الطالبي - في ظنهم - بدون منازع!!! و كيف يكون حذف الأمام؟ و انتصب السؤال في وجه الرشيد... و لكنه تبسم في دخيلة ذاته و هو يقول: - كيف يكون الحذف؟... و لكن الطرق عديدة... فاستخدم منها أيا تريد... أتريد أن تحاكم؟... فالقضاء لنا في كل مجالسه الفسيحة!!! أتريد أن تسجنه، و تذيبه في الموت البطي‌ء؟ ان السجون كلها بين أيدينا... فلينم فيها قرير العين!!! أتريد أن تقدم له كوبا من عصير الورد؟... فنقطة السم راقدة في الكوب، قل أن تسكب فيه عصير المتعة... قبل أن ينتقي الرشيد قميصا واحدا من القمصان التي سيجلبب بها صدر الإمام... كان الإمام ساجدا يصلي، و هو يستعرض أمام عينيه المغمضتين، كل ما مر به من أحداث، تمكن من اجتيازها بنوع من سلامة - أكان مع المنصور، أم مع المهدي، أم مع الهادي الذي تفل أنفاسه في حضن أمه الخيزران التي قالت، و هو ينام: - نام ابني الهادي نام... و مع الصبح يصحو من أحلام... تكر فيه بسمات المنام!!! و غرق الامام مليا، و هو يستحضر في باله أما تغنج إبنا لها بنقطة سم، و ابنا آخر - هارونيا - بقوائم عرش... و انتصب أمام تصور الإمام عرش بقوائمه السوداء، و فوق ضلوعه رجل أفعي! يا للأفعوان، يبخ العنفوان كأنه [ صفحه 144] الدرياق... و ليس غير الدرياق في عنق الأفعوان!!! و مد الإمام يديه الي العنق الفحاح، و استنزله من علياء كرسيه، و كممه بقبضة من تراب و هو يقول له: - ليس لي إلا مثل هذه الهنيهات الفريدة من نوعها، أصارحك فيها بصمتي الصارم، و هو المخنوق في حفيظتي منذ أن وقعت عيني عليك، و اكتشفت فيك عنصرا من أرادأ العناصر، ندر أن تخبأ بمثله - صدر من صدور البشر... فاسمعني - بلساني المفتوح - أبوح بكل ما علق في ذهني منك... و انها كلها - أنت - و ان كنت تظنها تخفي، فهي التي تتصف بك في العراء... فخذها مني بندا بندا، والله ولي العارفين الصادقين... أولا - أنت لست مسلما كما تدعي - فالاسلام كله وحدة فكر، و وحدة روح، و وحدة إيمان بالله، و بالنبي، و بالأمة التي هي أمة الاسلام، أما إسلامك أنت، و أنت مرغم ذاتك بأن تدعيه، فهو تفتيش عن نفوذ سياسي، يعليك الي عرش تموهه - أنت - بالإسلام، و الإسلام الصحيح لا يرضي بعرش يسجد بمقعد من طين و حجر، تتوزع منه العبادة لإله يوصي بالحق، و العدل و المساواة بين المؤمنين،... و يوصي بالخلق الكريم الذي هو: حب، و صدق. و عفاف بين جميع المسلمين... ثانيا - لم ينتدبك النبي العزيز خليفة له... و انتدب عليه إماما - بعده - يتقشف برعاية المسلمين... و الإمامة - بدورها - هي الخلافة، و لقد عينها النبي الكريم - بذاته - [ صفحه 145] و بلسانه... فلماذا لم تصدقه، و رحت تصدق ذاتك، بخلافة عينتها أنت بذاتك... لا لتخلف نبي المسلمين... بل لتشق وحدة المؤمنين... و انشقاق الوحدة الي اثنتين، معناه - في نظرك - استنبات عرشين... و حذف عرش الإمامة، هو تمتين لوحدة عرش الخلافة... أليست - هكذا - تتركز سياسة عرشك العباسي؟!! كما تركزت سياسة العرش الأموي، و قد دال العرش الأموي، كما سيدول - بعد حين آخر، عرشك العباسي!!! ثالثا - نحن - بني‌طالب - أعرضها الآن بالتخصيص أمام محجريك: قد و اليناكم بابني‌العباس، لتقويض عرش أموي راح يستبد بمقعد طالبي، حسبه بنوسفيان قبليا طالبيا، بينما هو: نبوي إسلامي... و لقد كان تحسب بني‌أمية - قبليا بالذات - لاقتناص النفوذ السياسي لهم بالذات، لا لأية قبيلة سواهم، و بالأخص لو كانت طالبية!!! أجل، يا بني‌العباس... لقد ساعدناكم لتقويض العرش الكذاب، لا لأنه أموي - فالإسلام لكل قبائل الأمة علي الإطلاق - بل لأنه ابتدع من الاسلام إسلاما آخر ليس له من واقع الإسلام غير شق الأمة، من دون أن تعي الأمة أن ذلك ينبذها الي نصفين، و يهزلها الي ضعفين!!! أما الفاعل المجرم، فانه كان القابل الراضي بإهزال الأمة، و جعلها أمة مذللة و مستكينة بين يديه! و تم لكم انتصار يا بني‌العباس!!! و بدلا من أن تبنوا علي [ صفحه 146] الأنقاض مقعدا جديدا من طين و حجر... و تتناولوا الأمة بحكم فيه من الاسلام ما يعزز الأمة، و يوسع لها البصيرة و البصر... رحتم الي عرش تسبكونه سبكا بكل أشكال الدرر! و رحتم تعتلونه ناطقا بالفسق، و الظلم، و الطغيان... و لا صلة لكل ذلك بإسلام يستنزل الله رحمة علي العباد!!! و لقد اعترضنا عليكم يا هارون - لا لأن نسلبكم عرشا، ساعدناكم نحن، - علي غفلة منا - في جلوة خده... بل من أجل أن تغيروا من برزة حده، و تجعلوه لائقا بحرمة الاسلام، و تزينوه بالعدل، و الحق، و ترجيح الوئام!!! و لكنكم ما سورتموه إلا بالظلم، و التعدي، و خفر الذمام... و قاومناكم - لا بسلب - بل بإيجاب... و ها أني أفسر لك - يا هارون - إرادة السلب، و رأي الإيجاب... فافهم: ان المقاومة السلبية لا ترشقك بها الا الامة بوعيها التام، و هذا الوعي - بالذات - يناديك الي ضبط مواعينها، ان تكن عادلا و حكيما... و الا فانها تنحيك إذ تخفر - أنت - الذمام، لتستدعي سواك حاملا اليها تسديد الذمام!!! و لكنك تعلم - أنت يا هارون، كما كان يعلم - قبلك - جدك المنصور - ان الوعي الكامل الفاعل، لم تتمتع - بعد - به الأمة، و هكذا فإنه لم يصلك منه، إلا بعض من رذاذ... أما الرذاذ فهو الذي رشقناك - نحن - الآن به، و ها أنت الآن الراجف منه... فهو الحاصل الفريد الذي [ صفحه 147] أنتجته الإمامة المثلثة بالإمام زين‌العابدين، و الإمام ابنه الباقر، و حفيده الإمام الصادق... و هي الإمامة المقتنعة بأن الجهل هو سبب انهيار الأمة في تلهيها بكل أنواع المماحكات، و الترهات،... و ان العلم الوسيع - وحده - هو الممتعها بكل وعي يوضح لها أهدافها و مراميها! و تم إنشاء الجامعة العلمية - و علي مدي سبعين من زواهي السنين، ضاءت في أجواء الأمة أضواء تبشر بانبثاق الوعي الآتي لمحو العي، و استئصال شأفته من أعماق الجذور!!! ألم تشعر - في قرارة ذاتك - يا صاحب الفخامة، بأن قوائم عرشك، بدأت تهتز ارتجافا، لأن الوعي النامي في أحضان الجامعة، بدأت تضي‌ء مشاعليه؟!! و علم جدك المنصور - بذكائه الفطري، و دهائه المستمر - ان الوعي المطل من نوافذ الجامعة، سيعتم عليه ممرات العبور!!! فحقن وريد أبي‌الصادق بنقطة سم، حذفت الصادق من ممرات العبور!!! و أنت أيها الرشيد الآخذ عن جدك إرث العبور؟ ماذا عساك تفعل، غير أن تدفن الإبن في تربة أبيه! فتصمت الجامعة، و يهدأ الجو من ضجيج الملحدين!!! و تنام المقاومة السلبية تحت قوائم عرش، و هو يرفسها رفسا حتي لا تستفيق!!! أما المقاومة الإيجابية، فهي المتمكنة في أصالة روحنا، نقوم بها كما نقوم الي أودنا المعيشي و الروحي، لنبقي الأمة في علاقاتها الاجتماعية، مستمرة الي أن يتجدد لها [ صفحه 148] عزم ثان، ينهض بها الي وعي يوصلها الي أفق... أما بنود المقاومة هذه، فهي ليست أكثر من مهاميز آنية، نوجهها الي الحاكم الذي لم نتمكن - بعد - من إزاحته الي خلف الستار... لعله يشعر بصدق الزجر، فيعدل - هو - من رداءة حكمه!!! هل سيحصل ذلك؟!! و لكن المحاولة لا تقصد غير الحصول الذي تنتظره الأمة - في سجيتها المنتظرة - أما عدم الاستجابة، فمعناها: تجرير الأمة في استكانتها الحزينة، و تمريغ المحاول بوحول أخري، لابد له من أن يتحملها، و أوحلها السجون المعتمة!!! و أرذلها نقطة سم، فيها من الذل و الغدر، أكثر مما فيها من الموت الذي هو قضاء الله العزيز الحكيم، في ترتيب الخاتمة!!! رابعا - أتظن يا هارون أننا لا نعيك بكامل ما أنت فيه، من قمة رأسك حتي أخمصيك؟!! كما و أننا نعرف - أيضا - أنك تستوعبنا بذات الاتساع، و ذات الاحتواء!!! و لكن الفارق الوحيد ما بيننا هو في أننا مؤمنون بالله العزيز الحكيم، و هو منا و نحن منه، في حتمية الوجود!!! أما أنت، فإنك تدعي الإيمان به، من دون أن تنضوي فيه انضواء الجوهر بالجوهر! من هنا يكون علينا - إزاءك - واجب التوضيح عن إله عظيم: كيف نعيش فيه و يعيش فينا، و نحن نستلهمه في جميع شؤوننا الحياتية - الروحية و الفكرية علي السواء - بينما يفوتك - أنت - هذا الاندماج الرحرح، و يعزلك الي الزوايا المعتمة التي تبني فيها قصورا لك، لا يحميها الحق، و العدل - بل الفسق و الاستبداد!!! [ صفحه 149] ان الله الذي لم تكتشفه - أنت - بعد، هو الوجود المطلق، و هو الأوسع من أن تراه العين، و الأقصي مما تتمكن - أنت - من الوصول اليه - حتي - بالخيال!!! انه الأبعد و الأعمق من أي حد، و أي وصف، و أي رقم، و أي تصور... و هو كل الحق، و كل العدل، و كل الصدق، و كل حقيقة التنظيم، و كل «القبل»، و كل «البعد»، و كل حقائق الجوهر. هذا هو الله - فإذا قلنا لك يا هارون: إننا فيه و هو فينا، و هو منا، و نحن منه... أترانا نكذب عليك؟!! و إلي أين تريد أن ترجعنا؟ أليست اليه حقيقة الرجوع؟ أما إذا خرجنا عن دائرة الحق!!! فعندئذ - فقط - نكون قد ابتعدنا عن حقيقة الدائرة التي نحن فيها في حتمية اللزوم!!! - و اعلم يا هارون: ان الله - عزوجل - في مصداقية ذاته، و براءة وصفه، هو الذكاء المطلق... فإذا أفهمناك أننا نستلهمه - و هو فينا في حقيقة الإلتصاق - فإن استلهامنا إياه، لا يعود علينا إلا بوسع المعرفة المنبثقة من روعة اليقين، و من ذاتية المصدر. - و استلهمنا الله - بإيماننا و ذكائنا المتسعين به - و جاءت معرفتنا بك، و بكل ما يجول في طويتك المنحرفة عن جادتها المفترضة ان تكون سليمة. و هي ليست سليمة: - أنت تكذب علينا، و علي ذاتك في نفس الوقت... - أنت تؤمن بنا صادقين معك، و مع الأمة، و مع [ صفحه 150] الإسلام... و لكنك لا تريد أن تصدق ذاتك... لأنه يفوتك الإيمان الصحيح، و هو الركيزة الصادقة: في الحكم - و ابداء الرأي - و تقديم النهج السليمة!!! - لقد قلنا لك: أنا، و أبي، و جداي العظيمان، الباقر و زين‌العابدين... بأننا نتخلي لكم، عن كل سياسات الحكم... أي: فلتكن لكم يا بني‌العباس، كل السياسة، و اتركوا لنا الجامعة - محوا للجهل من عب الأمة، و نشرا للعلم الذي يستنير به وعي الأمة... و صدقتمونا، و أنتم تنوون أن تحذفونا... لأننا - فقط - صادقون: مع الاسلام، و مع الأمة... و أنتم لا تريدون توعية الأمة... لأن وعي الأمة لا يسهل لكم وصولا الي مجد و ثراء لا تجنونهما إلا من استعباد الأمة!!! لقد حذفتمونا - فعلا - من حقلنا الإيجابي الصادق، صيانة لحقلكم السلبي الكذاب!!! و أي واحد من أبي و أجدادي لم ترشقوه بنقطة سم!!! و أنت، يا هارون المجد؟ أي شي‌ء في مكنون ذاتك؟!! أتظنني لم أكتشفه بعد؟... لقد استلهمنا الله فيك... و لقد احترنا في أمرك، و ما بقي لي إلا أن أقول: إني عرفت - انك أنت بالذات - تعرف أني مكتشف كل طواياك... و من أمرها - إطلاقا - انك لن ترعوي عن تنفيذ الأذية في جسدي الترابي... من دون أن تتمكن من أن تنال من وجدي الروحي الذي هو من امتزاجي الأفقي بالله - جل جلاله!!! سأتحمل كل كيظ ترشقني به، بصبر عزيز [ صفحه 151] و طويل، لا تفيد أنت منه... بل تفيد منه الأمة، فتحفظ منه اصطبارا علي الأذي، يكون سبيلا لها لبلوغ الحق الذي ترجوه عن طريق احتقار الحاكم الظالم، و عدم الانصياع له يجمع ثراءه، و فحشه، و أمجاده... من استعباد الناس، و إذلالهم بتمويه كاذب، و سلطان ليس له غير أنياب الذئاب!!! اسمعني يا هارون... حتي أعين لك، ما أنت - بالذات - تريد أن تصنعه بي؛ و كن أكيدا من أني سأتقبله منك، بصبر المؤمن الذي لا يحيد عن طاعة ربه - ليس إكراما أو رضوخا لك، بل تثبيتا للأمة بأني أتحمله من أجل أن تأخذ - هي - منه العبرة في رفضها الأبي كل ما يعرقل مسيرتها نحو المجد. - سيكون لي - و أنت منذ وقت طويل مصمم علي حذفي من تحت عينيك - أن أنقل عنك - أنت بالذات - كيفية درسك الطرق التي يمكنك أن تحذفني بها من أمامك... ان السبل هذه، لم تتمثل في ذهنك الذكي، بأكثر من ثلاثة: أسرعها: نقطة سم في كوب، و انتهي الأمر! أشرعها: إنشاء مجلس من مجالس القضاء! أطولها: فتح بوابات السجون المعتمة، أو فلنقل: المؤبدة!!! لقد درست يا هارون السبل الثلاثة درسا مطولا، و كنت حائرا في أي واحد منها يصح لك الاعتماد!!! أما حيرتك [ صفحه 152] هذه، فكانت تؤكد عليك، بأنك خفت من التاريخ أن يأخذك - بقتلي - الي تهمة التجني علي الأولياء الصادقين!!! يا للمهزلة يا هارون!!! لقد كنت - فعلا - تعتبرني وليا من الأولياء الصادقين!!! و بذات الوقت، كنت تريد أن تحذفني من صفحاتك، لأني من الأولياء الصادقين!!! و لنتابع يا هارون: لقد رفضت استعمال نقطة السم، و أنت تتذكر أن جدك العظيم المنصور، قد استعملها في كوب أبي الإمام الصادق!!! و سيتهمه التاريخ - من دون شك - بالتجني، لا علي ولي من الأولياء الصادقين... بل علي عبقري - أيضا - من العباقرة النادرين في تكوين الأمة التي أتحفها بالعلم الصادق ولي الصادقين!!! لن يفتح عليه مثل هذه الثغرة سيد العرش هارون‌الرشيد!!! و هكذا سيوفر هارون نقطة السم لحذف مجرم آخر، يخبي‌ء في عبه قنبلة تزعزع عرش هارون!!! و انتقلت يا هارون الي دراسة السبيل الثاني، بإنشاء مجلس قضائي تحاكمني فيه، و تقضي علي بالموت المؤكد!!! و لكن المجلس القضائي هو بحاجة أولي الي انتقاء قضاة يقتنعون بتجريم الإمام، مما يستحق الاعدام!!! سيكون لك يا هارون أن تنشي‌ء مجلسا ينفذ هذه الغاية... و لكن شهرة الإمام بالاستقامة، سيتناولها التاريخ، ليدعم بها شكه الكبير بمجلس قضائي ينشئه الرشيد ليكون فاصلا بالعدل و الحق... و إذا به قضاء كذاب، لا يتعمق، لا [ صفحه 153] بالدرس، و لا بالعدل، و يتهم بريئا كالإمام، و يحكمه بالاعدام!!! لقد توقفت طويلا يا هارون - و أنت تدرس كيفية إنشاء مجلس قضائي... و لكنك لم تقدم علي إنشائه، حتي لا تقع في مثل هذا الريب!!! لم يبق لك غير الالتجاء الي سبيل ثالث - درسته بإمعان، فوجدته في حقيقة التلبية... و ها أني أعرض عليك - لأبرهن لك أني ذكي مثلك، أتمكن من اكتشاف مخططات الأذكياء!!! لقد قلت يا هارون في ذاتك: لماذا ألجأ الي السم، لتنفيذ مآربي؟ أو - بالتالي - لماذا ألجأ إلي مجلس قضاء، لن أحصل منه إلا ما تفرضه عليه إرادتي؟!! أليس عندي - و من ضمن صلاحياتي المطلقة - ما يوصلني الي مرامي، من دون استخدام نقطة سم!!! أو استجداء مجلس قضائي... و الاثنان - ربما - قد يشوهان سمعتي!!! أجل يا هارون... أليست مفاتيح كل السجون في قبضة كفك؟ يفتحها لك - الاحتياط - ساعة تريد، فتزج فيها كل من تشك به ساعيا الي زعزعة العرش؟!! أجل - انه الاحتياط!!! و الاحتياط الكبير... يجعلني أتلقط بتلابيبك يا موسي! و أفتح بوابة السجن الذي أريد، و أزجك فيه، من دون أي محاسب، أو متسائل، أو أي رقيب!!! هكذا تقضي مصلحة العرش: أن ألنك بالصمت، و بالعتمة، و بالخفاء المطبق... لا لشي‌ء سوي ابعادك عن الساحة تجمع فيها عيدان حطبك، [ صفحه 154] لتشعلها، و تحرق بها قوائم العرش!!! و ارتحت كثيرا يا هارون، لانتصار الفكرة فيك، و هي التي ستنجيك من قولة التاريخ الذي سيتلهي - فقط - بأنسوجة التهمة: هل تستحق عتمة السجون؟ أم لا تستحقها؟ و هل هي تهمة؟ أو أنها ابتداع تهمة؟!! و هكذا يبقي التاريخ متلهيا بالبحث الطويل... و الي أن ينتهي السجن الطويل، أكون أنا - يا هارون - قد لفظت أنفاسي!!! و انتهي الأمر!!! انه ذكاؤك يا هارون... و انه ذكائي - أيضا - عددت به درجات ذكائك الذي يربعك علي قوائم العرش! فنم هنيئا فوق مدارجه، الي أن تستفيق الأمة فتجدك مهرجا زيف لها حقيقة المجد!!! أظن الامام قد تناوله نوع من راحة، و هو يحلل نفسية هارون‌الرشيد. و لكنها راحة مقتنعة بأن الغد القريب آت إليه بكرب لابد من تحمله بصبر عجيب... و لقد تفسر اقتناعه، و ها هو يفتح بوابة داره ليجد أمامه رسول الرشيد - مع الصباح الباكر - يستدعيه لمقابلة الملك، و هو بحاجة اليه ليستفسره عن بعض المبهمات... و لبي الإمام العرش، و هو يوجس خيفة من هذه المهمات! و طرح الرشيد علي الإمام سؤالا كأن فيه كل التحرشات: - ما رأيك يا حضرة الإمام بشذرات لا نزال نسمعها في الساحات: بأن الامام موسي غير مرتاح الي حكم يدعي أنه حق، و عدل و صواب، و هو الخالي من الحق، [ صفحه 155] و العدل، و الصواب!!! هل هنالك من «فخ» جديدة يحضرها الكتمان، و قد شملها الغفران و النسيان؟!! أخذ الإمام السؤال و غرق فيه من دون أن ينبس بأي جواب... و لكن الملك هزه من جديد: - أنا لا أعرف الامام إلا صادقا في كل ما يقول... و لطالما رشقتني بمثل هذه التمنيات، و ما كنت آخذها منك إلا بريئة... فهل هي - حتي اليوم - لا تزال بريئة؟!! و التفت إليه الإمام و أجاب: - كنت دائما تأخذها مني بريئة، ثم تردها إلي غير بريئة... لنا الله فيك يا هارون! لماذا لا تأخذها غير بريئة ثم تردها الينا و هوي مسكوة بالبراءة؟!! غير انك تعلم أني ما طرحت تمنياتي في الأمس: - عليك - بل في أذنك - وحدها - كنت أطرحها، حتي تكون أنت محقا، و عادلا، و مصيبا، إعلاء لشأنك، و صونا لمصلحة الأمة التي لا يبنيك، و لا يبنيها، إلا الحق، و العدل، و الصواب!!! فاتهمني بما شئت... فإني لم أعد أبالي إلا بمن أومن به: حقا، و عدلا، و صوابا... لم يكد يصمت الامام، حتي نهض الملك، و تناول الامام و صافحه بيده و قبله بشفتيه و هو يقول: لابد لي من أن أصدقك... فاذهب الآن بأمان، و سنلتقي بعد حين! و قال للحارس الذي ما زال بين يديه، و أظنه حسان السروي: [ صفحه 156] - اذهب بالامام،... أوصله الي البسرية... لقد اشتراها الامام بثلاثين ألف دينار، فهي له... أوصله اليها!!! و قال الحارس: - ان قافلة الرجوع مجهزة يا سيد العرش... و أنت يا سيدي الامام... تفضل معي... أنا بين يديك!!! و مشي الحارس، و تبعه الإمام، و مشت القافلة المنظمة للحراسة المعدودة... و عند المساء وجد الامام نفسه في البصرة، حيث تسلمه عيسي بن أبي‌جعفر، و زجه في بيت من بيوت «المحبس» - و لم يسمح له بالخروج إلا للطهور... غير ان الحارس حسان بلغ قائد المحبس أوامر الرشيد بألا يمطط كثيرا ليالي السجن علي الإمام... و إذا تمكن - مع الصباح - من خطف أنفاسه، خير له من أن يبقيه حتي المساء!!! و لكن عيسي بن جعفر، رفض الانصياع لمثل هذه الأوامر الجهنمية التي تثقل ضميره الانساني... و بعد أيام قليلة تم نقل الإمام من البصرة الي بغداد حيث تسلمه الفضل بن الربيع... و لم يقبل أن يسجنه إلا في داخل بيته، لأنه كان يكن له احتراما مخصوصا... هنا كان للإمام موسي أن يتنفس الصعداء، و يسري عن نفسه أمام الربيع، بكل ما كانت تعتلج به نفسه من هارون‌الرشيد - قال - و الربيع مصغ إليه بصمت بليغ: - أشكرك يا عزيزي الفضل، لا تسجنني - فقط - في بيتك، بل في جنة من جنان الله... فيها العطف و الكوثر... و لكن جنتك يا أنسي الكريم، لن تدوم لي أكثر من بضع ساعات... فلأتذوقها ما زلت الآن معك. ماذا أقول أمامك في الرشيد؟... انه لا يريد أن يسجنني، [ صفحه 157] بل أن يمحوني من أمام ظنونه، و تبكيت ضميره!!! لماذا؟؟؟ لأنني أنصحه بإشاعة الحق، و العدل، و المعروف، فيطول عمره و عمر الأمة، بالخير الصحيح!!! و يتهمني: بأنني أمد يدي لأسحبه عن عرش فاجلس فيه... في حين أرجوه أن يسدد بالحق عرشه، فيبقي له هذا العرش، و أن يدعني أطيل عمر الجامعة التي تنيره و تنير الأمة علي السواء... و لقد اشتري الأخصام يشهدون علي بتجميع الثروات أنفقها في سبيل الوصول الي خلافة تحطم العرش علي رأسه!!! و ها هو الخائن المرذول - علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق، و هو نسيبي، يشهد بين يديه علي!!! بماذا يشهد؟ بأني اشتريت ضيعة البسرية بثلاثين ألف دينار... و سأحطم العرش بها علي رأس الخليفة الملفوف بالشنار!!! و ضيعة البسرية!!! نحلتني بها الأمة، لتعزيز مركزي الإمامي، أرعي به شؤون الأمة... يا للقصور، و الدور، و الحدائق!!! كيف سيتبجح بها الامام موسي، من أموال الأمة، ليجعلها متعة له، لا يدور فيها: إلا القصف، و الرقص، و كل أنواع المتع الدنيا!!! بينما يكون هارون‌الرشيد قابعا في الزوايا المعتمة، لا يجتر غير الفقر و الحرمان!! لم يصل الامام موسي الي مثل هذا الحد من البوح، و التذمر، و الانفعال، حتي كانت كوكبة من فرسان هارون‌الرشيد، تطوق بيت [ صفحه 158] الفضل بن الربيع، و تطوق يدي الامام بالسلاسل، لتنقله الي بغداد حيث سيرمي في سجن يتحكم بأبوابه الفضل بن يحيي... و هذا - بدوره - تلقي أوامر الرشيد، و هي ذاتها التي كانت موجهة الي الفضل بن الربيع!!! و لكن الفضل بن يحيي - بدوره - ما امتثل إلا كما امتثل الفضل بن الربيع... مما أحوج الرشيد، و بسرعة قصوي، الي نقل السجين الي عهدة السندي بن شاهك. و السندي هذا - و هو الآن شيخ مسن - و هو أبوالمنصور، جد هارون‌الرشيد، و ان الجسرين من نهر دجلة في بغداد هما ضمن ولايته، و هو الذي سيتولي حراسة دور البرامكة الذين سيغدر بهم - في الغد القريب - هارون‌الرشيد، و يحذفهم من الوجود!!! ان هذا السندي بن شاهك، سيكون الوغد الأثيم المنفذ أوامر هارون‌الرشيد، متسلما من يديه رطبا مسمومة، ما كاد يطعمها الإمام موسي حتي مات مسموما، عن عمر يناهز الخمسة و الخمسين... بعد أن أمضي في السجون ما يقارب السبعة عشر عاما... لم يقدم - فيها - للرشيد طلب استرحام، و اكتفي بأن يوجه إليه هذه الرسالة في سطرين: - لن ينقضي عني يوم من البلاء. حتي ينقضي عنك يوم من الرخاء! أما عرض جثمانه فكان طيلة ثلاثة أيام علي جسر الرصافة في بغداد و لم يقم بغسله و تجهيزه إلا سليمان بن أبي‌جعفر. [ صفحه 159]

في مقابر قريش‌

و فتحت مقابر قريش، لتقابل المغلول بالسلاسل، و إذا بالسلاسل كلها ضفائر ضفائر، تحيط بالمسجي كالمناديل المزركشة بالمنائر!!! و من أبهاها وجه من لؤلؤ، عيناه من مرامي الأفق، و جبينه فضاء من سماء ترصعها الدراري... انه جد النبي، و علي يمينه وجه مطل بعلي، كأنه انشقاق من مناخات تنام فيها شموس لا تذوي... و علي يساره زند مربوط بألف رمح و ألف حسام... انه الحسين - كأنه لا يزال مشدودا بأرض كربلاء - تشرب منه: الدمع، و الدم، و أعراق الجهاد... و انحني الحسين علي الجسد الآتي من حضيض كربلاء - ليعانقه، و يقول له: - ان رحابنا في فسح السماء، هي التي تناديك اليها، يا أيها الخارج من جهاد كظمك فيه هارون الأرض، يا رافع الأرض الي صفاء السماء!!! و أقفلت مقابر قريش... و نام الامام الكاظم كأنه لم يغب بعد. [ صفحه 163]

بعد الغياب

بعد الغياب‌

لقد مشت الجنازة الكبيرة بجثمان الامام الكبير، من جسر الرصافة الي مقابر قريش، و كل السائرين في الركب الحزين دامعون - و علي رأسهم سيد العرش هارون‌الرشيد - لقد كان ماشيا مطرقا، و هو يلملم - بمنديله الأخضر - دمعات حمراء، ما ارتضي إلا أن يبذلها - آها - علي إمام راح يسميه: قريبي الإمام موسي بن جعفر!!! إني الآن أقول: فعلا - إن الرشيد هو الحزين، و لقد صدق الناس حزنه، و راحوا - ساعة تلك - يلثمون يديه معزين!!! و لقد صدقه التاريخ - ساعة تلك بالتمام - و راح يصف لنا دمعات حزنه: كم كانت رخية حمراء، ما استنزف مثلها - حتي الآن - إلا هذا الولي - الصامت - الكاظم - الصبور، الماثل حيا في الوجدان... انه الإمام موسي بن جعفر... يا له من إمام!!! لماذا لا نقف وقفة جريئة في التحليل النفسي الذي يقدمه لنا الآن هارون‌الرشيد... لماذا لا نقول: - و في هذه اللحظة بالذات - و هو الطامر الإمام موسي بسنوات السجن، و سنوات القهر، و سنوات العذاب المنتهي الآن أمام فوهة القبر... أجل، لماذا لا نقول: ان هارون بالذات، و في هذه [ صفحه 164] اللحظة بالذات، قد تمت له يقظة جديدة، جعلته يبصر انه - وحده - المتجني علي ولي، ما كان يستحق الا محض الولاء!!! ألا فليذرف الآن هارون الدمع، لا علي الولي المسجي بقمصان الطهر - بل علي ذاته الهارونية المغطاة بقمصان العهر!!! و اننا الآن نسأل: هل في دموع صاحب العرش إقرارا بمبرات الامام موسي؟!! و بالتالي ندم عليه ما ارتكبه الرشيد بحق الامام؟!! و لكن استطلاع البحوث الواردة في متن هذا الكتاب، تعود و تقول: ان البنية النفسية في هارون، شبيهة بقوس له طرفان معكوفان، واحد يقول: نعم، ليقول الثاني: لا... و دائما كن يقول هارون في طرفي قوسه: موسي مصيب، و صاحب مبرات... و في اللحظة ذاتها: ليس موسي مصيبا و صاحب مبرات... و سيكون الرشيد - أيضا - في هذه اللحظات الحزينة و الدامعة، نادما علي ما ارتكبه بحق الامام... ثم غير نادم علي ما ارتكبه بحق الامام... و لسوف يقدم التاريخ لنا تصديقا لما نقوله الآن، بأنه يقول مع الصباح كلمة، يتنكر لها عند السماء!!! ألم نره غريقا بحب البرامكة، يمحضهم مع الصباح كل الحب، و مع المساء يغمرهم بالموت الزؤام؟!! ليس هارون‌الرشيد موضوع هذا الكتاب إلا بقدر ما كان فيه متجنيا علي إمام عجل في إذاقته طعم الموت... من دون أن يدري الرشيد، ان الموت - بمعناه الصارم - لا يطال الأولياء الأغنياء بفعل الفكر، و فعل الروح، و فعل المبرات؟ بل برفعهم الي درجات أخري، تطل من فوقها كل نتاجاتهم الفكرية، و الروحية، و المثالية، كأنها النباريس المنيرة، و التي لا تعتمر إلا ها كل المجتمعات الانسانية في استمرار وجودها فوق صفحات الأرض... و ها هو المأتم البارز الآن أمامنا تجاه مقابر قريش، يحدثنا مليا عن ان القيمة الكبيرة المتمتع بها الامام موسي، و هي التي تنحني أمامها [ صفحه 165] جموع الناس في بغداد، و هي التي تحرك الآن مقلتي صاحب العرش هارون‌الرشيد، بتذريف دموع ساخنة، تحمل الاحترام و التخشع - ليس أمام جسد بدأ ينحل الي و حل و حديد... بل أمام قيمة أخري بدأت تشهد لها أقواس المبرات، بأن بغداد، و الأمة كلها خلف بغداد، تحتاجها في التقويم، و التشذيب، و التمتين المحتاج الي أخلاق، و صدق في الحق، و العدل، و الصواب... و كلها كانت في مناداة الامام، قبل أن يغمض عينيه!!! و هي كلها ذات المناداة، لا يتردد غير صداها، في الجو الذي ملأه الإمام بهذي المبرات!!! ليس بعد الغياب إلا رجوع آخر، هو رجوع الفكر الأصيل الي مجراه الذي دفق به الروح الأصيل... إن في الحياة ردحا آخر، تماوجت به الحياة، من أجل الحياة الهادف بها نداء الحياة... أما الامام موسي، فهو الدفقة الخارجة من فوهة الحق... و لن يكون للمجتمع، الا أن يناديها و يتأود بها حتي تستقيم خطواته... أليست - هنا - حقيقة الإمام؟!! و نداءاته؟!! [ صفحه 167]

نداءات الإمام‌

لقد كانت نداءات الإمام عديدة، و حسبنا منها انها كانت شاملة. و الشمول فيها، حصرها في بناء المجتمع، و تركيزه علي حق قوامه الصدق، و التيمن بالتقوي المتولد منها خلق كريم، تنعجن فيه عادات و تقاليد، هي ذاتها المجتمع القائم علي نقاوة الفكر، و نقاوة الروح، و نقاوة المسعي المنقي: من الزور، و الكذب، و البهتان... اما الاطماع الحقيرة التي تقوي الحيوان في مهجة الانسان؛ فانه خصها بوابل من اللعنات، لا لأنها أطماع بحد ذاتها، بل لأنها عامل كذاب، تدعي انها طموح الي تحقيق المغانم، و الثروات، و الأمجاد... بينما هي في سلبية أخري، لا يتحقق فيها إلا الرياء، و الاستذلال، و الاستبداد، لتكون - بالنتيجة - لصا يسرق ما في معجن أخيه من خبز، ليميت أخاه بالمجاعة!!! و إذا بالمجاعة الكبري، هي التي تأخذ الأخوين بالذل الموحد!!! ما كان الامام يستجمع مثل هذه التشاؤمات، إلا و هو متمثل الأمة التي هي أمة جده النبي الذي انسكب فيها بكليته، ليبنيها بالحق الواضع و الناجي من تراكمات الترهات؟ و بدلا من أن تسقيم معابرها الصاعدة بها الي [ صفحه 168] المجد،... راحت تتلوي بها المحاذير النابتة من ذات الترهات التي هي سياسات كاذبات ناطقات بالزور، و البهتان، و الأطماع، و كلها آفات توسلها بنوأمية - في ردح من الوقت - و ها هم الآن بنوالعباس، يتوسلونها، لا لإسعاد الأمة، و ارفاهها، بل لتوسيع الرفاه عليهم، بإشادة قصور البذخ، و مقاصير المجون، و الرقص فوق ظهور العباد!!! كأني توصلت - بهذا التلميح المختصر - الي مبتغاي من القول: بأن نداءات الامام موسي كان لها الشمول الوسيع، بمعني أن حياته كلها علي الأرض، و هي لم تتعد الخمس و الخمسين من السنين المقهورة، جاءت كلها تعبيرا عن هذا الشمول المحصور بعنوان واحد، و هو علم الاجتماع... و اجتماع الامام هو المخصوص بأمته التي محضها كل فكره، و كل انتاجه، و كل شعوره، و كل عافيته، و كل اهتماماته، و كل آلامه و تنفساته... و لم يرد الا أن يجعل نفسه قدوة منزلا فيها - بصدق تام - كل ما قاله، و فكر فيه، و قام به، منذ أن وعي ذاته، الي أن لفظ أنفاسه... سيعيش من أجل الأمة - سيبدي الرأي الذي تنتفع به الأمة - سيغتاظ من أجل الأمة - سيتحمل الغيظ من أجل الأمة - سيصبر، و يعلم الأمة الصبر، من أجل الامة - سيصلي من أجل الأمة - سيموت من أجل الأمة!!! أليس كل ذلك هو الانعجان بمصالح الأمة، و مصير الأمة، لإيصال الأمة الي الدائرة التي رجاها لها نبيها الرسول؟!! انه العالم الاجتماعي المطبق علي ذاته كل ما ورد في نصوص علمه الوسيع الشامل كل ما تحتاجه الأمة - ليس فقط الآن، بل كل ما تحتاجه من روية، و صبر، يوصلانها الي الربح الصامد لها في الغد المنتظر! سيكون لنا - و لو بالتلميح الموجز - استعراض الامام في كل ما أنتج، و أعلن و أضمر... ستبدولنا - في كل ذلك - شخصية الامام البارزة في تراثه [ صفحه 169] الفكري، الروحي الاجتماعي... و في موسويته المتجذوة في إيران و قد زرع فيها وليا من بعده، هو الامام الرضا... و ستبدولنا هذه الشخصية الفذة حتي في ألقابه التي محضه بها المجتمع بأسره، فإذا هي تصفه، و تتكلم به، كما تتكلم بالمعاني روعات البيان. أما جسر الرصافة: فسيعانقه جثمانا ناطقا بالصمت الكاظم الغيظ... و تلك قيمته المثلي - يحيا بها - من دون أن تمحوها نقطة الختام. [ صفحه 171]

تراثه الفكري، الروحي، الاجتماعي‌

اشاره

و تراث الامام موسي؟ و لن يكون فكريا أكثر مما هو روحي... و ليكن فكريا - روحيا... إنما هو - في مآله الواسع و الشامل - اجتماعي بكل ما في الكلمة من أبعاد و مقاصد... كما و ان اجتماعيات الامام، لم تبرزها بكل ماهياتها الجليلة، أقواله المخطوطة في إطار الحروف - و هي فصيحة المبني، و المعني و الإشارات - انما كان لها مدد آخر، مدتها به، كل أفعاله الصادقة التعبير عن حقيقة ذاته، و حقيقة مناهجه في الحياة، و فرادة إيمانه بالأمة التي هي كل ملاذه في الوجود - و بالتالي - كيفية التعبير عن هذا الإيمان الوطيد بسلوك مدرب بالعفاف، و الصدق، و التقوي، و ليس من غيرها ما يبني الفرد - السائس و المسوس - في تجهيز الأمة نحو تحقيق البلوغ!!! سيكون لنا التمعن بتراثه - بقدر ما يفسح لنا بالمجال - علي أن نستعين قليلا بأفعاله، و بتحمله الضيم بصبر فائق المثيل، ليكون ذلك - منه - مساندة فاعلة تثبت صدقه في كل ما قال، أو ما سيقول: صحيح أن ما كتبه الامام، لا يؤلف مجموعة «كتيبة» تغص بها رفوف [ صفحه 172] المكتبات، و لكن الفكر فيها يدل إلي غزارة عنده، تصلح لأن تكون موسوعات علمية، و فلسفية، و اجتماعية، تمتلي‌ء بها كتب الباحثين... أقول ذلك لأعني أن اختلاء الإمام بنفسه، و بقلمه، لم يكن موفورا له، في مثل هذا الجو الرهيب الذي أحاطه به المتجنون عليه من بني‌العباس... يكفي أن نشير الي أن السجون الطويلة التي عاناها في حكم الرشيد، لم يكن له منها فسحة من وقت و طمأنينة، ينكسب فيها علي الانتاج، و التأليف... من هنا، أن اختلاءات الامام، ما كانت لمنادمة القلم و القرطاس، بل لتضميد الجراح التي كانت تصيب بدنه و روحه!!! و مع ذلك كله، فإن ما قدمه لنا الإمام، من جني غزاراته، لا يجعلنا إلا خاشعين أمام صلابة إنتاجه الذي ننوه علنه مع القليل القليل من التفسير:

رسالته في العقل‌

لم أتمكن من تناول رسالة الإمام في العقل، إلا و أنا أتمثله غارقا في معبد من معابد البراهمة الساجدين في حضرة إله عظيم و قدير، خلق الأرض، و الأفلاك، و كل المجرات، بلحظة واحدة، و جلس يتأمل ذاته في كل ما خلق و أبدع... لم يسجد الامام بين يدي إله جالس فوق أريكة، و هو يتأمل في كل ما أبدع... لأن إله الإمام موسي هو اندماج مطلق في كل ما هو كائن في حقيقة المطلق، أما سجوده الآن، فهو حركة من حركات التجريد، لم تجد أمامها إلا العقل المجرد من أنسوجة الإنسان، و هو الوحيد، البصير، المتمكن من الإشارة الي كل ما هو مبثوث في حركية الكون الذي هو في حقيقة المطلق. لقد سجد الامام - فعلا - أمام قوة العقل، و راح يشيد به طاقة استيعابية فريدة، تأخذ العلم و تتفرد به، لاستجلاء المبهمات، و اكتشاف الحقائق المستنيرة بها مجتمعية الإنسان... وحده العقل هو المنبثق من نقطة [ صفحه 173] الجوهر، و هو الوجد ذاته في اندماجية الجوهر... أما الأمة النازلة رحيبا في اهتمام الامام، فليس لها غير العقل تتعهده بالرعاية و التقدير، حتي يتمكن - رويدا رويدا - من تذليل العقبات الكثيرة التي تعرق وصول الأمة الي الاستحقاقات الشهية!!! و لقد بحث الإمام - بكثير من الجدية - عن كل الضفائر الممهدة للعقل نموا، و اتساعا، و تحقيقا اجتماعيا مجديا في فاعلية، و صدق، و حقيقة اندفاع... و هكذا اتسعت أمامه كل المصادر، المحتاجة اليها الأمة في تجهيزها منارا لكل فرد من أبنائها المجموعين باسم الرعية... و أظنه لمح اليها - هذه المصادر - بشكل عام في محتويات الرسالة - و بشكل آخر تطرق اليه مشروحا في أحاديثه العامة و الخاصة مع أبناء الرعية. و لم يتورع عن التلفظ بها أمام أولياء الحكم - أكان بصراحة أم بتوريات - قصد التخفيف من عنجهياتهم الضارة بمصلحة الأمة! سيكون العلم مصدرا أساسا لتغذية العقل الفردي و الجماعي - و لقد رأينا كيف أن الإمامة المثلثة، و المؤلفة من أجداد الإمام، رصدت كل جهودها في اعتماد الجامعة العلمية، تنويرا للعقل، و توسيعا لدوائره في محيط الأمة... و ها هو الامام الذي هو تلميذ من تلاميذها اللامعين، يطلب من الحاكم توسيع الدوائر العلمية في كل أقطار الأمة، تعميما للوعي الذي ترتفع به سوية الأمة... و لكن الحكم لم يستجب للطلب، لغاية في نفس يعقوب! و راح الي زج الامام في السجون المعتمة، حتي لا يدير الجامعة التي توقفت، بعد أن جاهدت سبعين سنة في حقلها المثمر!!! و رأي الإمام ان العلم يبقي مقصرا في تأديته العظيمة، ان لم تسانده كل الفروع المنضوية اليه: كعلم التاريخ، و علم الجغرافيا في جميع فروعها، أو أنواعها: التحديدية، و السياسية، و الاقتصادية... و كذلك علم [ صفحه 174] الحساب، و الفيزياء و الكيمياء... انها كلها دوائر علمية، توسع العقل في تفتيشه عما تحتاجه الأمة في جميع متطلباتها المعيشية... و كذلك رأي الامام ان الأمة بحاجة ماسة الي عنصر خلقي متين التركيز، هو الدين في فلسفته الشاملة كل حيوية من حيويات المجتمع، و لولاه لعم اليباس كل النهج، بعدم تركيزها علي قيم تضبطها من الفكر، و الالحاد، و الزندقة؛ من دون أن تجمعها مثل قويمة من حق، و صدق، و عفة، و إيمان... و كلها ضوابط إجتماعية خيرة؛ تجمعها التقوي في حيز من الخير الصائن المجموع من الانفلات... و لن تكون التقوي إلا نابعة من الإيمان بالله الذي لا تراه العين، و تراه البصيرة... و لا تدل اليه الصفات و تدل اليه مطلق الموصوفات - و لا تحصره الأمكنة، و لا الآجال، و لا الأزمنة... و لا أية من الحركات؛ لأنه قبل الوجود و بعد الوجود، و قبل الافاضة و بعد الافاضة، سواء بسواء... أيكون للشمول تحديد الشمول؟... و يبقي الشمول بغير حد، لأنه ذاته هو الفضاء!!! و التقوي؟ - و ليست غير إيمان بالله - هي الموصوفة بلغة الأرض: بالفضائل الإنسانية التي هي محض صفات اجتماعية، تصون المجتمع من كل آفة يصاب بها المجتمع و ينشل الي خراب!!! و لا ينهض المجتمع الي بناء و عمران، إذا يشيع فيه: الكذب، و الزور، و البهتان... فلا الزني يبنيه، و لا الخلاعات الحمر، و لا شهوات الذئاب، و لا أية شريعة من شرائع الغاب!!! و يبنيه: الطهر، و العفاف، و الصدق، و الحب النبيل، و الحرمات التي تصونها الاستقامات، و العدل في توزيع الحصص، و ضبط الحكام في مسؤولياتهم الإدارية، من دون أن يخونوا الأمانات!!! تلك هي التقوي التي هي حقيقة الدين الذي ما وني يبشر بها الامام، في سره، و في جهره، أمام الناس، و أمام الحكام... لا ليصير صاحب [ صفحه 175] عرش... بل ليبني أمة تخلد بها مآتيها الي أبد الدهر... و هذه التقوي بالذات؟ من يدركها في حقيقتها من الصواب؟ غير العقل الذي يطلب له الامام زيادة نمو، و فاعلية، يساعدان الأمة في إنالتها رجاء يخلصها من كل ما يعبد عنها هذا الرجاء!!! و انها الدوافع ذاتها، كانت تنام في غزارة الامام الكاظم الغيظ في لبه، فراح - في لياليه المليئة بالحزن - يخط علي قرطاسه رسالته في العقل، يقدمها الي الأمة، و الي الحاكم بالذات، علي أمل منه بأن تتحلحل الأمة الي وعي يفيدها - و علي أمل - أيضا - يوقظ الحاكم الي تخفيف من جوره تفيد منه الأمة بعض الرجاء! و أقول: لو كان للإمام تمتع ببعض أمان يبعد عنه عتمات السجون، لجاءت رسالته في العقل في دفتين وسيعتين تضاهيان حجم نهج‌البلاغة! و لا غرو، فان ابن‌جعفر هو الحفيد الموصول القطب بالقطب الذي هو جده الأكبر!!! يا للإمام ابن أبي‌طالب، لا يزال المحيط الهاجعة فيه فرائد الدرر!

رسالته في التوحيد

اشاره

و من جملة ما اشتهر به الامام موسي في حقله الفكري الثمين، إنشاؤه رسالة مخصصة بالتوحيد، أي توحيد الله العظيم في كل قضايانا الفكرية و الروحية و المعتقدية؛ لأن الله - جل جلاله - هو المصدر الأبدي، و الأزلي في وجودنا المطلق، و إن مآلنا اليه هو المآل الأوحد و الأصدق، و لا يجوز للأمة إلا أن تتوحد به ضابطا لها - بصدق - كل شؤونها الحياتية! ان الموضوع - بحد ذاته - جليل و واسع الأهمية، و إن البحث فيه لا تكفيه رسالة في عدة صفحات موجزة، بل كتاب مجهز بمئات الصفحات، تمتنه التحاديد العقلية، الفلسفية، الروحية، و تشرعه الآيات البينات، بلسان الصدق، و لسان المنطق المؤمن بإله واحد و موحد في كل ما لا يحدد من فضاء الكائنات... [ صفحه 176] و الحقيقة التي لا تنتقص أنملة واحدة من القيمة الإدراكية التي يتمتع بها الإمام... ان البحث هذا، ما تمكن الإمام من تقديمه إلا في عدة صفحات موجزة، في حين ان التوحيد [هو دين الإسلام، و قرآن الإسلام، و معتقد الأرض كلها، في خضوعها بين يدي إله خالق واحد، هو إله الإسلام] إنما هو بحاجة الي كتاب وسيع و عريض الحواشي، يكون شبيها بنهج‌البلاغة، يشرع فيه الاسلام الوسيع الحدود، في ظل التوحيد الذي هو جوهر الاسلام... و الامام موسي هو المتمكن الممتاز في إملاء مركزه الإمامي بكتاب من هذا الوزن!!! و لم يتمكن الامام من مثل هذا الإنجاز، لا لسبب إلا لأنه يتطلب تفرغا يلزمه الوقت الطويل للقيام به!!! و يكفينا أن نعلم أن السجون المعتمة - و قد زجه فيها صاحب العرش هارون‌الرشيد، علي مدي مرقوم بسبعة عشر عاما - هي التي و فرت للإمام، ساعتين من الوقت، حبر فيها رسالته الصغيرة في التوحيد، و أرسلها الي من طلبها منه... و أظن اسمه: الفتح بن عبدالله: انه مؤمن محتاج الي توضيح يفسر له حقيقة التوحيد! و رسالة التوحيد - هذه بالذات - جاءت مشروحة علي أوسع و أتم، في رسالة الامام السابقة، و قد تناولناها ببعض الشرح، أنها رسالته في العقل... و هي رسالة - أيضا - وجهتها الأمة الي الإمام، طالبة منه شرحا عن العقل، و تعيين مقدار ما يلزمه منه مجتمع الأمة... و لقد أجاب الإمام الأمة، و خصها برسالته في العقل، و هو يتمثلها باسم «هشام»، و راح يملي عليه - بل علي الأمة - بالذات - كل ما يعينه العقل، و كل ما تحتاجه الأمة من العقل الذي هو وعي الأمة، و حقيقة الأمة... و كذلك راح الإمام يشرح للأمة معني التوحيد الذي تحتاجه الأمة في وحدتها المؤمنة بإله واحد قدير و جبار. يغمرها بكل ما تحتاجه من مواهب و صفات، حتي تحقق وجودها الأمثل فوق صفحة الأرض! [ صفحه 177] هكذا جاءت رسالته في العقل، و هكذا جاءت رسالته في التوحيد: موجزات صغيرة في ظل معاني كبيرة، لا تفي بتوضيحها و شرحها إلا المجلدات... و لقد فهمنا ان الوقت القصير و الحزين، هو الذي جعلها قصيرة، و لم يكن موفورا للإمام إلا الوقت الصغير لإنتاجه الذي اكتفي بالتلميح اليه التلميح الموجز... و الأمة - بدورها - قد اكتفت بالتلميح، تأخذه منه الي دخيلتها الي تمن - علي هذا التلميح - بالتصريح و التوضيح! هنالك حاجات عديدة كانت تفتقر إليها الأمة في مسيرتها فوق هذه الشعاب المليئة الآن بالشوك و الهشيم!!! و كان الإمام ملتاعا: كيف يمكن الأمة من اجتيازها بنوع من أمان... أو كيف يكون لها تحملها بنوع آخر، من تصبر و طول أناة... و ها أني مستعد الي ترقيم بعض منها. و كيف كان الامام يقوم بتقديمها للأمة: بتلميح بليغ الإشارة، و صدق صادق الأداء و بارع الفن. دائما هو التلميح... و لقد كان وحده هو المتاح للإمام اللجوء اليه، بنوع من حكمة و روية، من دون الانصراف الي المعالجات الموسعة و الصريحة التي يتطلبها منه مركزه الإمامي... هنالك - مثلا - ظهور فرق راحت تشيع الفوضي في العقيدة الاسلامية... و كان الحكم بالذات يرضي بانتشارها لتفسيخ الشعب، لا لجمعه في وحدة فكرية و سليمة، تطالب الحكم بأن يرعاها و يتعهدها، من أجل رفع الأمة الي مرحلة ناهضة بها!!! لم يتح وقت للإمام للقيام بشروحات تحقق هذه المماحكات السفسفطائية التي اجتهد بإشاعتها كل من الكيسانية، و الزيدية، و الإمامية الفطحية... من دون أن تتواني عن القيام بمثلها السمطية أو الخطابية، أو الناووسية و الاسماعيلية، أم القرامطة و الواقفية... أجل - لم يتقدم الامام بأي بحث يرد هذه الفرق الي الخط العقائدي الموحد الذي تقوم به، موحدا و مجردا - أطروحة الإسلام - بل راح سريعا - و بقدر ما يسمح له قصر [ صفحه 178] الوقت - الي إنشاء رسالتين متتاليتين، لابد لهما من أن تردا هذه الفرق كلها الي جادة الحق، و جادة الصواب... أما الرسالتان فهما: رسالة في العقل، و رسالة في التوحيد. هذا هو التلميح الذي كان الإمام متمكنا من اعتماده في الفرص التي كانت تتيحها له هنيهات الحاكمين المتعسفين... و لم يكن - هذا التلميح بالذات - يبدر منه، إلا سرا لحاجة ماسة، كانت تتطلبها الأمة في حين ورود هذا التلميح... و ها هي - هذه التلاميح - نستعرضها خارجة من بال الإمام، و لكن بكل إيجاز، لأن الإيجاز بالذات، هو ما كان متاحا لفضيلة الإمام:

البداء

و رأي الإمام: أن البداء فلسفة لابد للحاكم من أن يتلمحها عظمة لا تليق بالحاكم، بل بالخالق - وحده - و هو المالك كل الوجود... و لا تليق بالإنسان الذي يعيش دقيقتين في الوجود، ثم يطويه الأبد الي الأفق الفسيح... و اختصر الإمام البداء بأنه قضاء الله الشامل المطلق... انه البداية بلا نهاية... و به تتعلق كل الخفايا، و هو كل الحق، و كل العدل، و كل الكبرياء... و اكتفي الامام بالتحديد الموجز، بينما البداء لا تكفيه المجلدات المطولات بالتحديد اللائق به... هل نجح الإمام بتقديم الشريحة هذه لهارون‌الرشيد، و هي تقول له: - لا يليق بك التعسف و التجبر - فاعدل، الي أن يحملك العدل الي فسحات الجنان!!!

الإيمان بالله

و انتقل الإمام إلي الإيمان بالله: بكلام شديد الإيجاز... كأنه يقول: و هل يكون الإيمان إلا بالخالق الأكوان؟ و بئس المصير إن لم يكن الإيمان [ صفحه 179] بخالق الإنسان، و هو المكفكفه بالعدل، و الصفات الحسني، و الوعد المنتظر فسحات الجنان... و الأمة؟ أليست هي المحتاجة الي طمأنينة الإيمان؟!! و كذلك الحاكم، و هو الذي سيطويه الظلم، و الكفر، و الفسق... الي جهنم!!!

العلم

و أشار الامام الي العلم و أهمية انتشاره في المجتمع، محوا للجهل، و قضاء علي الأمية، و سبيلا الي تحريك الوعي الآتي من طريق المعرفة... و لقد اتصل بالحاكمين - ابتداء بالمنصور، انتهاء بهارون‌الرشيد، متوسلا اليهم بالمحافظة علي الجامعة، و بتوسيع مدارجها في كل أرجاء الأمة، من أجل تعميم فوائدها التثقيفية - الإجتماعية... و لكن الحكام، ما كانت لهم الاستجابة الي ملتمسات الامام، لغاية أصبحنا ندركها، و كان منهم الجواب الوسيع، بفتح بواباب السجن في وجه الامام... لا بوابات الجامعات التي أصبحت مقفلة!!! و بقي الامام يقول - ساعة يتمكن من القول - و أنت، يا حائز العلم، أكان وسيعا أم ضئيلا... لا تحجزه في سرك، بل انطلق به الي الغير، و انقله اليه، حتي يتم للمجتمع استيعابه... و لم يكن في مثل هذا القول، غير تلميح الي الحكام المجرمين، كيف انهم لا يريدون إلا اطفاء شموع العلم، حتي لا يستنير بها مجموع الشعب البائس، فيحرق بها القوائم التي تقوم فوقها سدانة العرش!!! أما الإمام - فانه بدوره - كان يفتح بوابة داره المحاصرة برقابة السر، و يشرح لزواره الوافدين اليه استفسارا عن معميات و مبهمات... لقد كان السعيد الفاتح لهم داره، و صدره، و كل ذهنه الذي وسعه فيه أبوه الإمام الصادق... لقد كان الامام يحفظ في قلبه كل ما جالت به سقوف و جدران الجامعة، من علم مقروء و مشروح، و من بيان سليم نضحت به كل رفوف الجامعة!!! [ صفحه 180]

العمل

أما العمل - فإن الامام قد أولاه اهتماما ملحوظا، لأنه شأن ارتباطي بحياة الأمة، و خطها النامي بها الي شبع، و اكتفاء، و نوع من استقرار... و لقد ربطه بفاعلية الاقتصاد الذي قصد به الاحتفاظ بمجاني العمل - مهما تغزر هذه المجاني - من دون تهديدها بتبذير غير لائق لها... و لقد عني بالتبذير اندفاعا نحو ميوعة، أو خلاعة تهدمان البيوت و القصور مهما تكن محصنة... و لم يكن يقصد بالقصور غير الاشارة الي العرش الذي يملأه الظلم، و الفجور، و الخلاعات المتلبسة بالعهر، و كلها موائد الحكام المتسلسلين من السفاح، و من أعهرهم و أمكرهم هارون‌الرشيد الطافح باللؤم، و الكذب، و البهتان!!! و لا أظن الامام موسي - الآن - و هو في ظل من ظلال الذكر - إلا و شرذمة من شراذم الكفر، تقتحم بستان النخيل الذي ورثه من أجداده الفقهاء، لتسوقه مخفورا الي السجن الذي هو في إدارة الفضل بن الربيع، و قد عطف عليه - هذا الفضل - و تركه حرا مكرما في دارته التي أنشأ فيها الامام الآن، دراسته التلميحية الأخيرة، و كان عنوانها، مكارم الأخلاق.

مكارم الأخلاق

لن تكون هذه الدراسة الموجزة أكثر من تلميح موجز - أيضا - عن إيمان الإمام المطلق بالأخلاق التي هي تعبير عن ماهية الأمة التي هي المجتمع الإنساني... و الأخلاق - في نظر الإمام - هي التي تبني الانسان - المجتمع: إما الي ازدهار، و إما الي انهيار... أما الازدهار، فالأخلاق الكريمة هي عنوانه... و أما الانهيار؟ فبئس المصير تستبد به منازع السوء؛ من كذب، و زور، و مجامع بهتان!!! [ صفحه 181] أما عناوين الأخلاق الكريمة عند الامام: فإيمان بالله سخي العافية - تتوجه التقوي - و تتفرع منه أنقي الصفات - منها الصدق في القول و الفعل، و منها العدل في الأحكام، و من السخاء، و العفاف، و الحب، و المودة، و السماح، و الغفران... و بالتالي: ابتعاد عن الحقد، و عن الأطماع، و عن التعدي علي الزمام، مع احترام الشرائع التي تحمي الانسان من ضيم الإنسان... أما التكبر و الكبرياء... و الظلم و الاستبداد، و التعسف بشؤون العباد!!! فتلك هي الآثام التي ينشحن بها الحكام الطغاة،... و هي التي ستؤدي بهم الي جحيم النار!!! بهذه التحاديد المبتسرة و الخيرة، عرف الامام الأمة الي الأخلاق الكريمة، و كان القصد من التعريف مل‌ء آذان و أذهان الحاكم، الفرد، و هو الجالس في كرسي العرش حتي يهتم ببناء نفسه البناء الصحيح - ليكون له - بالتالي - بناء الأمة التي هي - رخيصة و عبدة - بين يديه!!! و بهذا الصدد قال: - دع الباطل و ان كان فيه نجاتك -... فإن فيه هلاكك!!! و قال أيضا: - أحسن من الصدق قائله - و خير من الخير فاعله. [ صفحه 183]

موسوية الإمام‌

و كأني بالامام موسي ما تزوج بعدة نساء، تلبية - فقط - لسنة طبيعية تفرضها علينا مقومات الحياة، بل انه اعتمد الزواج وسيلة تمكنه من إكثار النسل، ليكون له - من ذريته بالتخصيص - عدد تعويضي سيملأ به المراكز الشاغرة التي كانت عامرة بالعلويين الطالبيين الذين حذفتهم سياسة الفتك من ساحة الأمة!!! لقد اعتمد هذه السياسة الغادرة كل من بني‌أمية، و بني‌العباس، و كما غيب عن الخط الطالبي جميع أوليائه الطيبين: ابتداء بالإمام علي، مرورا بالحسن، و الحسين، و زين‌العابدين، و الباقر، و الصادق، وصولا - بالذات - إلي الإمام موسي، من دون أن ينقطع - عن الطالبيين جملة و أفرادا - لا الوعيد و لا التهديد، ساعة بالفتك، و ساعة بالإبادة!!! انها أسبهاب جذرية، راح الإمام يتعمق بدرسها، كواقع مؤلم، لا نجاة منه إلا بكثير من الحكمة و الدراية... و كان التلطي في الأزقة، و الهروب من المواجهات الدفاعية عن الذات، وسيلة من الوسائل السلبية الضعيفة التي كان يعتمده الطالبيون، للمحافظة علي أرواحهم من وطأة [ صفحه 184] الاضطهاد... إلا أنها كانت مداورات شحيحة الإفادة... أما الإمام - و هو في المركز المرموق و المستهدف، فإنه كان يعتمد اللباقة الذكية في مقابلة الحاكمين العباسيين المتملكين الساحات كلها، و كان له وعد منهم بالعفو عنه، ما دام له الخضوع لإرادة العرش!!! و لكن الإمام - و هو في حالات التلطي الذليل - كان له منحي آخر، يدرس فيه المخططات الكبيرة التي يجب أن ترسم، لا ليخلص عنقه من الذبح، إن لم يكن في هذا المساء، فمع الصباح هو الحاصل بلا مراء؛ بل يخلص الأمة من عناء و ذل طويلي الأمد، لا يخلصها منهما إلا بناء جديد يكسبها قوة دفاعية، تقف بها في وجه عرش يستبد بها، و يمتصها وريدا وريدا!!! و من يدري، في أي غد تنتهي ساعة القهر!!! و انبثقت في حفيظة الإمام فكرة كأنها نوع من هوس... و لكنه استقبلها بجدية، و راح يدرسها - بإمعان - و استحي من أن يتلفظ بها بشفتيه... حتي لا تسمعها الجدران! ما هي هذه الفكرة التي امتنع الامام عن ذكره حتي أمام الجدران؟... و لكنه لم ينطق بها الا في سره المقدس، و لكنه هب الي تنفيذها بالتمام! و ها أننا نري التنفيذ الذي سجله لنا التاريخ و هو يعد ذرية الإمام موسي بستين فردا، ابتداء بالامام الرضا، و انتهاء بعبدالله... انهم الذكور من أبناء الإمام، و عددهم ثلاثة و عشرون، ما عدا الإناث، و عددهن سبع و ثلاثون... و أقول: لو أن الإمام الذي عاش أربعة و خمسين عاما، و لم يغيبه السجن عن جدران البيت سبعة عشر عاما... لا نجب ستين آخرين، ليكون عدد ذريته مئة و عشرين!!! لقد أراد الإمام - فعلا - إكثار النسل، لهدف لم يرد إعلانه أمام [ صفحه 185] الجدران، و قام به ضمن الجدران... أما الهدف القائم في طوية ذاته، فهو الجليل المؤمن بأن الأمة المنتظرة فكاكا من كل ما يكبلها من ذل و بهتان، لن ينيلها هذا الرجاء، إلا نخبة من أبنائها الموجهين بهذه الأشواق الملتهبة بالصدق و الإباء!!! و اجتهد الامام، بكل ما فيه من صدق، و شوق و إباء - في تحضير أبنائه التحضير المجهز بما تحتاجه الأمة من إغاثة تستعين بها الي وصول مرجي... و هكذا نما أبناؤه بين يديه... و كلما بلغ الواحد منهم أشده، زوده بالرشد، و أبعده من يثرب الي جوار كان يثق بحبه و إخلاصه لأهل البيت... و ها هو يحضر ابنه الرضا، و هو المجهز بالعلم، و الفهم، و الإدراك - و يدفعه الي هذا الجوار - إيران - بعد أن لفلفه بإمامة، ستكون له بعد أن يهجر أبوه الدنيا... و لم يكد يصل الإمام الرضا الي خراسان، حتي تبنته إيران، و أنشأت له جامعا - اسمه - لائقا بمقامه!!! بعد مرور سنوات معدودات، كان العديد ممن خلفهم الإمام موسي، قد تركوا يثرب - هروبا مدروسا ينجيهم من الظلم و الطغيان - و تغلغلوا في كل أنحاء الأرض الإيرانية الحبيبة و الصديقة، حيث تجذروا، و شاركوا في البناء و العمران... أما نموهم الاجتماعي، فقد حققه لهم الانتماء الصادق باسم الموسوية المتسعة في إيران... و ها هو، بعد نيف من مئآت السنين، يظهر في إيران الإمام الخميني العظيم، و هو موسوي الانتماء، ليحرر إيران من طغيان الشاه، لتكون إيران - بعد أكثر من ألف سنة من سنوات الطغيان - حرة و مستقلة باسم الامام الخميني الموسوي الإنتماء... تلك هي الموسوية - بحد ذاتها - انها انتماء الي الاسلام الطالبي الذي حمله الي الأمة قرآن عربي، جمعه - ناطقا بالحق - طالبي هاشمي اسمه - محمد -. [ صفحه 186] و يا للإمام موسي، يعتمر به الاسلام الطالبي، لينشي‌ء من ذريته بالذات، كوكبة من المغاوير، ينزحون من يثرب، الي جوار إيراني كريم الانتساب... فإذا بهم - حيث حلوا - يبنون للغد مواعيد الغد... و ها هي إيران اليوم، لا يصدق بها إلا العهد، في تركيز الاسلام المحمدي - الهاشمي - الطالبي، علي عمد من التقوي، تعمر بها الأخلاق البريئة من الهذيان!!! ان الإمام موسي الكاظم، هو الحي - الآن - في الوجدان، تحت شعار الموسوية. [ صفحه 187]

القاب الإمام

اشاره

و ألقاب الإمام... أنا لا أظنها أقل من أوشحة نسجها المجتمع - بالذات - و غمر بها الامام ليرتديها، و يمشي بها - أمامه - في الساحات... أما خيطان الأنسوجة هذه، فإن الامام المرتديها كأوشحة له، هو ذاته الذي جمعها خيطانا علي معزل له، تناوله المجتمع، و راح ينسج به قدود كل و شاح... أقول ذلك لأعني أن الألقاب التي يتصف بها أي من ملقب، هي صفات تعبيرية، يتلازم بها صاحبها تحت عين المجتمع، لتكون منه، و هو منها في حقيقة الملازمة... أما الصفات هذه - و لا فرق بين أن تكون بهية أو هزيلة - فهي من خبيئة نفسية، لا يلتقط إلا بها ذياك الملقب فما هي هذي الصفات التي لملم المجتمع خيطانها عن معزل الإمام؟ و نسج بها - بالتمام - أوشحة كريمة غمر بها عنق الامام، و هي لا تزال حتي الساعة، عناوين تبني بها الأمم الناهضة حقائق وجودها المرتبط بأعز الصفات، و من أنبلها الصدق مع الذات، و العدل المشفوع بالاستقامات، و الطهر المنسول من الخلق الكريم، و الانسانية المشتقة من الكرم، و التسامح، و الحب العفيف... و كلها مقومات تطهر المجتمع السليم: من الحقد، و البعض، و كل أنواع الزني... و من الكفر الذي يبعد الله عن نعمة الإنسان! [ صفحه 188] أجل - ان الصفات التي وشح المجتمع بها، هي من هذا النوع الجليل الذي نوهت عنه الآن - و انها صفات غريزة تجمعت فيه، لتجعله فريدا بين الانداد... و لو لم تكن هذي المزايا غزيرة و متعددة، لما جعلته في هذه الفرادة المنوعة الصفات... و أعني: أن تلاحمها فيه، و تناسقها، و تلازمها، و تجانسها في شخصيته - هي التي نسجته بهذه الشخصية المتعددة المواهب، و المزايا، و الصفات... و أعني أيضا بالتفصيل: أن كثيرا من الأفراد يتميزون بنعمة الصدق - مثلا - و قد تساندها نعمة أخري من وزنها، من دون أن تجمعهم الي خوانها فرادة الامام المتمتعة بالصفات العديدة، و كل واحدة منها تغنيه بلون جديد من المواهب التي يندر أن يستجمعها - متوافرة فيه - أحد من الأفراد!!! انه لمن الممتع و المستطاب - و نحن نختتم هذه السيرة المستضيئة بذاتها - أن نستعرض بعض الألقاب التي محضه بها المجتمع الذي تفاني الإمام من أجله، و لم يقبل إلا أن يموت و هو يصلي له بيوم جديد، له صبح أبيض، و شمس تنشر البهاء، في الأفق الحزين! هنالك أربعة ألقاب استنسبت الآن عرضها، و تناولها بشي‌ء من الدرس، ليكون لنا منها بعض استجمام، و بعض تحسس - مع العلم أنها تصلح لأن تكون أمهات لكل الألقاب الأخري التي خصها المجتمع بالإمام، و هي تفوق العشرة بعددها - أما هذه الأربعة، فهذه هي عناوينها: الصابر - ذوالنفس الزكية - الكاظم - باب‌الحوائج - أما مجموعة الألقاب، فإنه تتألف من: الزاهر - العبد الصالح - السيد- الصادق - الوفي - الأمين - المستنير!!!

الصابر

و لن يكون الصبر - في تحديده الموجز - أقل من موهبة تتحلي بها [ صفحه 189] النفوس الكريمة في تقبلها، أو تحملها كل ما يعترضها في مجري الحياة. و لن يكون غير العقل في تكييف هذا الصبر، و توسيع مجال النفس به، حتي يتم للذات تحمل ما يفرضه الواقع!!! من هذا النوع كان صبر الإمام في تقبل و تحمل كل ما قابله به العصر من أنواع التعسف، و التعدي، و الاستبداد - و لقد ألمحنا بها كلها مشروحة في سيرته المعروضة أمامنا في هذا الكتاب... أما المهم الذي نشير اليه الآن، فهو ان الصبر الذي اعتمده الآن الإمام هو من تعيين العقل الملم بكل قضايا الأمة التي [لن يبعد عنها الضيم الكبير الزاحف اليها من تعسف الحكام، و بالتالي - من قيام البعض من أفراد الأمة بشي‌ء من العصيان] إلا الصبر علي هذا الضيم... من الآن حتي يتم للأمة كلها وعي يجمعها كلها للقيام بعمليات الرفض!!! ألم نر في مجال هذه السيرة - أن البعض من أبناء الأمة قرر رفض الحاكم، و اعتمد العصيان... و قبل عمليات التنفيذ، جاؤوا يستشيرون الامام، فكان جواب الإمام: - ليس الوقت وقتكم! و لن يسوقكم العصيان غير المستوفي شروطه، إلا الي هلاككم، و تمزيق خواطر الأمة بالضيم و الهوان!!! لم يطع رأي الامام القاضي الآن بالرضوخ الصابر - و حزت رؤوس العصاة - و قاست الأمة و يلات الاضطهاد!!! و تم للإمام تليين المواقف، بصبره الراضي بالرضوخ لهيمنة الحكام،... الي أن يغير الله أمرا كان مفعولا! من هنا كان إدراك الأمة بأن الإمام الواقف علي كل التفاصيل العميقة الجذور، لم ير غير الصبر الطويل مجازا تسلكه الأمة حتي تنجو من المجازر [ صفحه 190] التي تهددها في كل آن... و من هنا - أيضا - أدركت الأمة أن الصبر الذي يتعلق به الامام هو خط من خطوط الفكر، لا يجوز أن تحرم منه النفوس، لا في تحمل الضيم - و حسب - بل في حالات التنعم بفيض الغني... ان التصبر علي الغني يوقي الذات من الوقوع في مجارف الخلاعات، و يوقظ النفوس الي حقيقة المنطق، و الي الميل الي فعل الخير و المبرات،... و بالصبر هذا يتم الجنوح الي كل ما هو صواب و مشروع... لقد طرح الامام كل ذلك أمام الناس... شرح الصبر علي الضيم - و شرح الصبر علي الغني الفائض عن حاجاة الحياة... أما الأمة في مجموعها المتكامل، فإنها رأت أمامها صابرا ممتازا، يفسر الصبر بأجل معانيه... فلقبته بالصابر.

ذوالنفس الزكية

و تفتحت عين المجتمع علي هذا الصابر الماشي أمامها في الساحات، و راحت تشتق له ألقابا أخري كانت تشع منه، و من أبهاما و أزهاها: ذوالنفس الزكية... و لقد لقبته أيضا: [بالزاهر] أو [المستنير] أو [بالمستضي‌ء]... و كلها أضواء منه، شعت عليه، و علي المجتمع، حتي و لو كان الآن قائده جعفر المنصور!!! ان المنصور - ذاته - قد تحسس بأضواء الإمام، و انتدبه ليمثله في عيد النيروز، و هو عيد أول السنة الشميسة عند الفرس - و هو عيد النور، و عيد البهاء، و عيد الضوء الذي يمثله الآن الامام موسي، بما اشتهر به من أنس زاهر بالوداعة، و الصبر، و جلال التقوي!!! بكل هذا الصفاء في النفس - و هو المتجلي في كل أعمال و أقوال الامام - تأثرت عين المجتمع و وشحته بهذا اللقب: [ذوالنفس الزكية]. [ صفحه 191]

الكاظم

انه اللقب الكبير الخافت النبضات، و النابض الأكمات... يأخذك اليه، و يأسرك في ظله - و أنت واقف - كالمشدوه - تسأل: عمن تعرف «أل» التعريف، و أي شي‌ء يخبي‌ء في عبه، هذا الكاظم؟ و علي مهل مشبع بالتأمل، يأتي الجواب بتفسير الفعل: كظم، تفسيرا قاموسيا: يعني: كظم الغيظ، أي أخفي الغيظ - أي خبأه - أي صمت عليه و لم يذكره - أي طواه في دخيلة نفسه و تحمله - أي صبر عليه و لم يطلب تخفيفا منه!!!، اما الذي كظم الغيظ، و تحمل أثقاله النازلة عليه كأنها القناطير، فهو الامام موسي: تحمله منذ أن ولد، إلي أن طواه الوجود - تحمله اضطهادا، و إبعادا عن دائرته الإمامية - تحمله ذائدا عن الأمة، و عن الطالبيين - بالتخصيص - حتي لا يشتتهم التنكيل و التشفي - تحمله مع المنصور يقبله قبلة يوضاس الضائعة بين الحب و البغض - تحمله مع المهدي و الهادي، و هو قابع في الزواريب حتي ينجو من سخافاتهما الظالمة - و أخيرا، تحمله وسيعا بلا حدود: مع هارون‌الرشيد - يزجه في السجون المعتمة، طيلة سبعة عشر عاما، و لم تنته إلا بإطعامه ثلاث حبات من العنب، محشوة، بماذا؟!!! بنقطة سم!!! لقد تحمل الامام موسي كل هذا الغيظ الجسيم و المتفرع اللقطات، و هو الصابر و المعلم الأمة كلها صبرا شبيها بصبره، حتي لا ينالها، لا التشفي، و لا الاضطهاد... تحمله بصبر عجيب، و بإيمان بالله المنيل الصابرين حسن الجزاء... تحمله بأناة كريمة الصفاء، من دون أن يتذمر منه، و من دون أن يخسر من عزة نفسه، و لا مقدار حبة سمسم... تحمله بكل إباء، و لم يلتمس تخفيفه عنه، و لا مقدار شعرة - تحمله بكبرياء [ صفحه 192] النفس: قصدا منه أن يجعل الضيم المتعدي علي الحق، شهادة علي الجائر بجبروته المتوحش، و وساما يتسم به المتحمل وطأة الهمجية... و تحمله - أخيرا - كأنه قرص الفداء، يعلم الأمة التحمل الي أن يأتيها يوم الظفر. كل ذلك هو معني الكاظم - أسوقه إليه أيها المتسائل المشدوه... اما الأمة... و اما الرأي العام الاجتماعي... فهو الذي يصف اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة «الكاظم»، «بأل» التعريف... و لقب الامام موسي: - بالكاظم -

باب‌الحوائج

و أحست الأمة، بأن الإمام - بكل ما اتصف به - هو حاجة الأمة في مبتغاها الذي لا ينتهي من سلمها الصاعد بها درجة درجة، نحو التحقيق - حتي و لو أتي هذا التحقيق بطيئا فوق الخطوط المعمية بالغبار و الهشيم!!! و الحقيقة التي لا تقبل الشك، أو انها ترفضه ملصوقا بشخصية الامام المزدهي بأشرف الألقاب، هي في أن الامام - بالذات - كان باب‌الحوائج كلها التي يجوع اليها مآل الأمة... فالأمة تحتاج الي فضيلة الصبر... و لقد علمها الامام حروف الصبر، و جسده ماثلا و بارزا في كل أقواله و أعماله... و الأمة تحتاج الي الوعي - و لقد بثها الامام كل مضامينه المنبثقة من التقوي، و الأخلاق الملتزمة: بالحق، و العفاف، و الاحسان، و المعروف، و التسامح، و التغاضي عن السيئات التي لا يقوم بها إلا الجهل، و الكفر المتلبس بالزندقات!!! و الأمة تحتاج الي عمل ينتج لها الخير الآتي اليها من بحبوحة الاقتصاد، و هكذا راح يعمل أمامها في بستانه النخيل - ساعة يسمح له تغاضي الحكام!! كما و انه راح الي كل ما يساعده به مال الأغنياء في الرعية - [ صفحه 193] يجمعه في صرر و أكياس - يحملها في الليل، و يوزعها علي المحتاجين، سدا لعوز كان يضنيهم، و هم الفقراء!!! أنا ما أظن الامام - و لو تلطي بعتمات الليل - إلا و الأمة كانت تتحسسه و تكتشف انه باب‌الحوائج، و انه أصبح مثالا لكرم نابع من طوية نفسه الزكية - و هكذا لقبته بباب‌الحوائج... و حتي بعد غيابه الذي عجلت به نقطة السم!!! أصبح قبره مزارا لكل محتاج يجي‌ء فيقرع بابه، فينيله الإيمان بفضائل الإمام موسي، ما يطلبه ذلك الطارق. [ صفحه 195]

جسر الرصافة

و جثمان الامام؟! انه المطروح الآن فوق جسر الرصافة في بغداد - و جسر الرصافة مؤلف من دعامتين عريضتين، تجعلان الجسر في خطين وسيعين لمرور الجماهير الوافدين الي بغداد عاصمة هارون‌الرشيد، و الخارجين منها - ليل نهار - ان مياه دجلة العظيم، هي التي تزين الجسر المزدوج و المقسوم، بمرورها المرتفع العباب، من تحت قناطره العالية و المتينة المداميك، و من فوق الجسر تمر جماهير الناس الوافدين و الخارجيين، مع توقف ملحوظ علي أسواره المطلة، للتمتع ببهجة تدفق المياة المنسابة تحت القناطر التي زينها - بالرصف الجميل الأملس - هذا التموج المائي المرغي، كأنه مرور الغمام الدائم، تحت مسارب الجسر، حاملا معه هزيجا موسيقيا، لا تهتز إلا به ألباب المشاعر! يا للأمة العظيمة، لا يستهويها، في حقول الجمال، الا غزير دجلتها الهادر بأمواج الجمال، من تحت جسر الرصافة، و قد بنته الأمة - مرصفا بكل أناقات الجمال!!! و يا لهارون‌الرشيد، يملك الآن بغداد، و ينشي‌ء فوق مرابعها عرشا [ صفحه 196] كأنه جسر الرصافة - هنيئا له جسر الرصافة، يعرض من فوق قناطره المرتاحة، أنموذجا من نماذج الصدق، مات، و لم يصدق الناس أنه مات... فجاء سيد العرش يعرض جثمانه علي الملأ الغفير الوافد - يوميا - الي بغداد، و الخارج - يوميا - من بغداد، مثبتا لهم حقيقة، لم يؤمن بها أولئك الناس؛ و هي أن صادقهم هذا - قد فارق الحياة و مات... و ها هو جثمانه يثبت: انه - فعلا - قد مات!!! و هكذا تم عرض جثمان الامام موسي الذي خطفته المنون الي حضنها الأسود، بعد سبعة عشر عاما من السجن المؤبد، بواسطة ثلاث حبات من العنب المحشو بالسم!!! لقد بقي العرض ثلاثة أيام - بأكملها - فوق قناطر جسر الرصافة... و من بعدها حفر للجثمان جدث صغير في الضاحية من بغداد، حيث هي محفورة جدثان بني‌قريش. لم يطلب لي إلا أن أوقف مركبة الزمان في زحفها نحو الأمام، و جعلها تدور بي الي الوارء أكثر من ألف سنة، الي حيث رحت أشاهد العرض المدهش الذي حشره الآن هارون‌الرشيد فوق قناطر جسر الرصافة... و يا للتوق الخارج من جيوب الخيال، ينقلني كأنه الخطاف، و إذا بي في فجوة صغيرة محفورة في مدماك السور القائم فوق الجسر البديع، أشاهد من فوق صفحته الفسيحة كل الجماهير المتزاحمين للتبرك من الجثمان المسجي فوق القناطر - و كانت هكذا تتم تحت عيني فصول المشاهدة: من الصباح الباكر، حتي المساء الزاهر، و من المساء هذا، الي الصباح الوافد و علي مدة ثلاثة أيام كانت المشاهدة: - في وسط باحة الجسر دكة تعلو عن الأرض عدة أمتار، يجلس فيها سيد العرش، و معه السندي بن شاهك، [ صفحه 197] و حولهما حشد من الحراس كأنهم للمشاهدة و المراقبة، و للتسجيل الملم بكل حركة يقوم بها جماهير الناس... أما الناس فكانوا المسرعين بمرورهم من تحت الدكة، حتي يقفوا مليا أمام الجثمان المسجي، و هو مغمض العينين علي صمت رهيب، و مشرق الوجه بأسارير ينام فيها عبق العطور. - لقد غصت باحات الجسر الفسيح بازدحام ندر أن تلمست مثله هذي القناطر... إلا أن تدخل الشرطة - بين الحين و الحين - كان يسهل عبورا بعد عبور! غير ان الاصغاء الي همسات بعض العابرين، كان يترك بهجة خاصة تغمر الجماهير المتزاحمين حول الجثمان، قبل أن يتركوا المكان للآخرين... حتي أن القابعين في دكة العرش، كانت تتناولهم هذه البهجة، يتناولونها بالسر، و هم يتفاعلون بها - أيضا - بالسر... - و لم يتوان رجال الشرطة المندسون بين الجماهير، عن طرح بعض الحوارات المتعلقة بوفاة الامام، و كيف ان وفاته هذه جاءت طبيعية و بريئة من اتهام الآخرين... لم يقابل الجمهور - بأكثريته - مثل هذه الحوارات الا بامتعاض صامت، يودعون به الجثمان، ثم ينسحبون!!! هذا معظم ما شاهدت، و أنا في لطوة المراقبة... اما ما سمعته بأذني المصغية، و ما استنتجته بحدسي الماثل في يقظة الظن - فهو الذي رجعت به الي ذاتي المصغية الي حفيف الأحداث التي حصلت حول الجثمان المعروض فوق جسر الرصافة، قبل أن يحمله سليمان بن أبي‌جعفر [ صفحه 198] المنصور، و يسلمه الي الامام الرضا بن موسي الكاظم: فيغسله، و يحنطه، و يلفه بحبرة بيضاء اشتراها له - سليمان - بألفين و خمسماية دينار، و بها أنزلوه في جدثه الأخير في مقابر قريش القائمة في ضاحية من ضواحي بغداد! [ صفحه 199]

حوار فوق جسر الرصافة

مما لا ريب فيه، أن كل المتوافدين الآن الي جسر الرصافة لإلقاء النظرة الأخيرة علي الراحل، كانوا يكنون للإمام احتراما بليغا لا يستحق مثله الا القليل من الرجال... حتي ان هارون‌الرشيد - بالذات - و هو القائم الآن بتهريج سياسي يخسره المهابة و الاتزان - كان مأخوذا بمثل هذا الاحترام، تفرضه عليه مسلكية الامام... و لكن هناك - بين المتوافدين الكثيرين - فئة خاصة من المولعين بالامام، أصبحوا متهمين - بولوعهم الشديد - بالمغالات الفاقدة الحد!!! انهم فرقة الواقفية، أو الرافضة... و الرافضة - في معناها المبيت، بقصدون رفض الامتناع بأن الموت - بالذات - و هو الملفلف كل حي بالغياب القاسي الإهاب - لن يصيب الامام موسي الذي سيبقي حيا، رغم أنف الموت الفارض سلطانه علي العباد!!! يدعي هارون‌الرشيد - و التهريج أبهة التاج عنده كأنه لؤلؤة - بأن عرض جثمان الامام موسي علي جسر الرصافة - لمدة ثلاثة أيام - سيقع الفئة الرافضة بأن موساهم المسجي، ما أغمض عينيه، و لا أسبل يديه، إلا الموت!!! [ صفحه 200] و جاء واحد من فئة الرافضة، و هو عميق الفكر، و سليم الروح - وقف خاشعا أمام الجثمان - ثم جثا و قبل العينين المغمضتين... و راح يقبل القدمين المسبلتين، و هو يقول في تورية كأنها بنان تشير الي مجرم قاتل: - من أغمض عينيك أيها الحي المبصر؟!! و من أسبل قدميك أيها المشاء بجبروت الحق؟!! و تقدم قائد الشرطة المدسوس بين الجماهير، و هو يبتسم ابتسامة مكفوفة... هز الجاثي أمام الجثمان و هو يقول له: - انه الموت - يا هذا - أغمض العينين... و أسبل القدمين!!! ألم تتأكد بعد؟ أن الموت - وحده - يغمض العين... و يسد الأذن... و يشل القدمين!!! و رفع الرافضي رأسه نحو قائد الشرطة - و بكل اتزان أجاب: - و هل أغمض الموت عيني محمد؟!! و هل شل الصليب قدمي عيسي؟!! و هل أيبست شفتي أرسطو نقطة السم؟!! ألا سل أميرالمؤمنين... انه فوقنا في الدكة... ألا تراه - بدلا عني - يأتيك بالخبر اليقين؟!! ما حسم الحوار هذا الا سليمان بن أبي‌جعفر المنصور: و هو عم الخليفة هارون، و هو -أيضا - تقي مشهور، و من أنسباء الإمم المسجي، و يكن له احتراما بليغا... لقد تمني علي قائد الشرطة عدم التورط في شؤون لا تعنيه، و لا سيما القضايا الفكرية البعيدة الغور!!! و تمني علي الرجل أن ينصرف دائما الي معانقة الروح التي هي القيمة الخالدة في مجتمع الإنسان، من دون أن يمسها الموت... و إذا مسها الموت... فعلي الدنيا السلام!!! [ صفحه 201]

همس فوق جسر الرصافة

و التجمهر؟ انه - عادة - يؤلف اللغط، ثم الهمس الذي تتلهي به الآذان... غير ان اللغط - في هذه المرة - لم يتخبط به جسر الرصافة... و ساد الهمس أرجاء المكان! لقد أحسست بذلك و أنا في لطوتي أحصي خطوات الحاضرين في الساحة... لقد كان جميع المودعي جثمان الامام، لا يتركون المكان إلا بعد أن يؤلفوا خلايا خلايا، يتهامسون فيها، بعض الوقت، ثم يتصافحون و ينسحبون - و كنت أتساءل في عمق ذاتي: بماذا تراهم - جميعهم - يهمسون؟ مع أن الموضوع هو واحد موحد: و عنوانه جثمان الراحل... أما السؤال الماثل: كيف يقيمون الأمام؟ و ما هي الصفات التي يلفلفونه بها، و هي منه في الصميم؟!! ما طالت علي موجات التساؤل، و إذا بي - و أنا قابع في لطوتي - أفاجا برجل جليل المهابة، و معه ثلاثة من أبنائه - كما يبدو - يتمشون بانفعال، و ها هم يتوقفون قربي، ثم يجلسون علي رصيف الجسر، من دون أن يلمحوا ترحيبي بهم، و قد فتحت أذني الغارقتين في تلافيف الذات، لأتلقي منهم همسا خافتا بكل ما في أسارير وجوههم من انفعال!!! و رحت أصغي، [ صفحه 202] و رأسي بين يدي ملفوف بالرجاء... قال الشيخ - و في همسه الخافت ما يشير الي زوبعة لا تزال هادرة في نفسه - و هو يحاول أن يلجمها: بالتأني، و التجلد، و التمسك بحبال الصبر: - ماذا أقول يا أبنائي الأعزاء - و أنتم أملي في امتداد يومي الي مجالات الغد!... ماذا أقول لكم، و قد لبيتكم، و جئت معكم لتشييع جثمان من عاش، و مات، من أجل أن يبني لنا - جميعا - مآتي الغد!!! ماذا أقول لكم؟ و ها هو الجثمان معروضا في هذا العراء البائس الممدود فوق جسر الرصافة!!! و ما هو جسر الرصافة؟ أليس حضانة كريمة لدجلة العظيم، الخالد الآتي الي بغداد محملا بالخير. و الخصب، و كل أطياب العافية؟!! و ها هو الرشيد الذي شاد له جسر الرصافة عرشا موشي القوائم بالدر و المرجان. و كل أنواع اللآلي!!! يحول جسر الرصافة الي باحة بهلوانية التهريج، يعرض فيها جثمانا، ما بقي منه إلا الجلد و العظم!!! أخرجه من سجن مؤبد، لم يكن طوله سبعة عشر عاما، بل سبعة عشر ألفا من الفراسخ المحشوة بالذل و الهمجية، و الكفر!!!.. أي جثمان عرضه علينا هارون‌الرشيد، و هو يدعونا الي التشييع، من دون أن نذرف أية دمعة ساخنة؟!! أجل - أي جثمان عرض علينا أميرالمؤمنين؟!! أجثمان الامام موسي بن جعفر؟ أم جثمان السجين الذي واراه الثري - صاحب العرش المزهي بالأرجوان - منذ أكثر من سبعة عشر عاما... كأنها سبعة عشر قرنا، من قرون [ صفحه 203] همجية الانسان، في حيوانياته الجاهلية البائدة!!! ماذا يريد هارون‌الرشيد من عرض الجثمان في العراء؟!! أيريد أن يثبت لنا ان الامام موسي قد مات؟... ألا ترون معي أن الرافضي الذي سمعتموه يتكلم منذ ساعات، هو الذي أفحم قائد الشرطة، و ثبت له: ان الذي مات ليس الامام بالذات، بل أن الذي مات هو هارون‌الرشيد بالذات... ألا بئس عين تري مجدها باديا في العراء، و لا تراه مغمورا بالغباء!!! و بالخجل: نبكي، في حين يجب أن نضحك، و نضحك في حين يجب أن ننتحب علي كل ما فقدناه من جمال و عزاء!!! و ها هو هارون‌الرشيد - هارون المخامل و البرفير - يجمعنا فوق جسر الرصافة، لنضحك، لا لنبكي... بينما هو - لو يدري - يبكي و هو يضحك!!! و يا للبهلوانية! تبدي لك عكس ما تقصد!!! أليس قصد البهلوان أن يهزأ منك؟ فإذا هو - بالذات - يعلمك أنت كيف تهزأ به!!! أجل، يا أبنائي الأعزاء! ماذا تريدون بعد مني أن أقول؟!! و ها اني أختصر القول: لو أنه كان لهارون‌الرشيد إصغاء رشيد للإمام موسي، لتنزه عرشه من ألوان الغدير!!! لم يكن للإمام موسي إلا أن يرزم نفسه في عمليات النصح و الإرشاد: لا للرشيد المتبوء العرش في بغداد، بل الأمة [ صفحه 204] كلها الخاضعة أمام العرش، و هي الجامعة دجلة تحت الجسر، تسقي بها الحقول الممدودة حول بغداد... لقد قال لهم، بلسانه: زين العرش يا هارون: بالحق، و العدل، و كل أنواع الاستقامات، حتي يبقي لك العرش، و للأمة التي لا تبنيها، و تنميها إلا الاستقامات... أما الاستقامات، فقد شرحها بالتفصيل، و عاشها بالأقوال و الأفعال... شرحها: بتقواه، و بخلقه الكريم، و بأفعاله الخالية من غبار، و بكرمه النفسي الصافي، و بصبره الطويل علي الأذية و المكاره... و إلا... لما لقبناه، نحن الأمة، بالصابر، و الزاهد، و ذي‌النفس الزكية، و الكاظم، و باب الحاجات!!! و لكن الرشيد لم يصغ الي النصح - و بدلا من أن يفسح الساحات أمام من سدد الآيات - فتح السجون كلها، و دفن فيها الناطق بالآيات!!! و بدلا من أن يشرع أبواب قصره لاستقبال المشيعين المدعوين للتبريك بالجثمان - أنشأ دكة و اعتلاها فوق جسر الرصافة، لا لمشاهدة المؤمنين، بل لمشاهدة المهرجين الذين راح قائد الشرطة يعلمهم إتقان التهريج!!! ما كاد يصمت الشيخ، حتي هببت - أنا - من ملجأي الصغير، و جوانحي تصفق لمقالة الحق!!! و لكني بوغت بضجة واسعة آتية من تحت الدكة الجالس فيها صاحب العرش! [ صفحه 205]

همس في أذن الرشيد

جل ما حصل: أن الشيخ الوقور سليمان بن أبي‌جعفر المنصور - و قد عرفنا قليلا عنه منذ هنيهات، و تبيناه في حواره مع قائد الشرطة، و الرافضي، كم هو حر و شريف، لا يماري في قوله الحق... و لقد فهمنا انه عم هارون‌الرشيد، و تربطه - في ذات الوقت - بالامام موسي، قرابة وشيجة، و احترام - أيضا - صادق الوشيجة... لقد كان الشيخ سليمان هذا، من جملة الحاضرين في عملية التشييع المزعومة، و الملعوب بها فوق جسر الرصافة... لقد كان يتمشي بين الجماهير، و هو يحلل اللعبة اتي قام بها هارون‌الرشيد، بعرضه الجثمان المكشوف فوق جسر الرصافة... و لكن التحليل ما جاء عليه إلا بنفور بالغ الخطورة، جعله يجمع رجاله الأشداء و يأمرهم بخطف الجثمان من الساحة، الي حيث أجري غسله، و تحنيطه، و تعطيره، و لفه بالحبرة البيضاء التي كفنوه بها....و ها هو الجثمان في الأهبة اللائقة به... انه محمول علي الأكف، بعد أن استدعي هارون‌الرشيد للنزول من دكته العالية، ليرأس الجنازة، و يسير بها، من جسر الرصافة الي محارم مقابر بني‌قريش!!! [ صفحه 206] أما أنا - ذلك اللاطي في شق صغير قائم في مدماك رصيف الجسر - فإني انسحبت لأندس خلف الصف المؤلف من السندي بن شاهك، علي يمين صاحب الجلالة، و من سليمان بن أبي‌جعفر المنصور، علي يسار صاحب العرش... و مشي ركب الجنازة - و أنا أعلل أذني الموسعتين، بسماع الهمس... و لم يسمع - يا للحق - إلا الهمس!!! و سار الركب، و كان السير ثقيل الوطء... أما الشيخ سليمان الشديد الانفعال... فكان يغالب انفعاله، حتي لا يجرح به شعور أميرالمؤمنين! و لكن همسه - بالذات - لم يبرأ من الوطأة الملجومة... و بعد بضع دقائق بدأ و ميض الشرارة... و بصوت، ظنه الشيخ سليمان، خافتا، و لم يكن بالخافت، قال في أذن الرشيد: - لم أدر حتي الآن يا ابن‌العم: ماذا قصدت بعرض الجثمان في عراء جسر الرصافة؟!! تبسم الملك قليلا و أجاب: - حتي يتأكد الناس أن الامام قد نام نومته الأخيرة، و لن يقوم منها حتي في يوم القيامة!!! و حدج الشيخ الملك بعين مقعرة و أجاب: - و كيف تقنع الرافضي بأن الامام قد مات، و هو لا يراه إلا حيا؟!! و بابتسامة منه أكثر جدية من الأولي، أجاب الملك: - هذا شأن الرافضي... فليقم الرافضي مولاه... و ليتمش معه مع المتمشين فوق عرض و طول جسر [ صفحه 207] الرصافة!!! و لكن إقناع الرافضي بأن الإمام قد مات... هو كل مبتغانا... أقنعه - أنت بالذات، يا عم... بأن الامام قد مات... أتدري لماذا؟... لأجل أن يرتاح بال العرش من كل من ينام تحت الرتاج... و هو يحلم بأنه يسترد العرش اليه مع هلهلة الصباح!!! قال الملك ما قال... وصمت - كأنه قال كل ما يجب أن يقال!!! أما الشيخ سليمان، فإنه راح الي تأمل آخر، جعله يهز رأسه علي مدي دقيقتين طويلتين... ثم لوي عنقه نحو الرشيد، و قال: - لا أريد أن أطيل حديثا و نحن ماشون في جنازة!!! و لكنني أو من بك تتفهمني، في قليل من بحث، و قليل - أيضا - من جدل... فأنت ذكي يا هارون، و لن يمنعك عن التمادي في الذكاء، أو عن الاستجابة لكل مفاعيله، إلا عرش و سلطان، يضغطان عليك بالبقاء فيهما، مهما يطل بهما غرور الزمان!!! هذا هو حظك الآن من الملك - فاسمعني: كل ما فهمت من جوابك المختصر: انك تسي‌ء الظن بالامام، و تحسبه متآمرا علي العرش، لاسترداده اليه،، و هو وليه منذ أن فقدنا الرسول، عليه‌السلام... ما لنا و الحقوق المشروعة، انها تستدعي غوصا آخر، قصر عن أدائه الجدود، و نحن نقصر عن أدائه الآن... و لكن الامام موسي، لم يشأ مطلقا زج ذاته، و زج العرش، و زج الأمة كلها، في مماحكات و مراهنات، ترمي الجميع في قهر، و خيبة، و امتهان!!! كل ما رآه الامام، و من قبله ثلاثة من [ صفحه 208] آبائه الكرام: ان الأمة - كلها - و من ضمنها الآن عرشك الباهر اللمعان - لا يفسخها، و لا يذلها، و لا يشل فيها المآتي... إلا جهل عقيم و مقيم، قذف بني‌أمية الي ماهية السلطان ثم قذف - أيضا - بني‌العباس الي بهجة السطان!!! لقد عقدت أنا بالذات... عدة جلسات بحثية مع الامام.. و أنا مؤمن بصدقه، و غيرته، علي الأمة التي هي مأخوذة بروعة الإسلام... و أقسم لي الإمام بأنه لا يقدس إلا العرش في ضبط أمور الأمة التي هي حقيقة الإسلام - شرط أن يكون العرش مشعا بنور الحق، و روعة العدل، و شرف الخلق السميج بالتقوي، و كل الاستقامات!!! هذا هو كل ما يبتغيه الامام، و كل ما ينهجه الامام، في القول، و الفعل، و حقيقة المسري... و لم يتأخر في مجابهتك بالنصح، و صراحة الوعظ... فظننت أنت، أنه يلهيك بالقول، و يذهب بالفعل الي تدبير المؤامرات لتقويض العرش، و استرداده اليه... كأنه - هو - به الأولي!!! و الحق يقال - لقد استشير الامام كثيرا - و حتي أنه استدعي - من قبل الطالبيين العصبيين، لقيادة انتفاضة حسبتها أنت ثورة تنحي العباسيين عن العرش مع انها أقل من عصيان، علي الحاكم أن يعالجه برفق، و عطف، و اتزان... و كان الامام موسي، مع أبيه جعفر ضد أية انتفاضة - حتي و لو قدر لها أن تنجح، لأنهما كانا لا يريان [ صفحه 209] العصيان، إلا و يهدم الأمة التي لم يشملها - بعد - وعي يسير بها لإتمام مسيرتها فوق الأرض... هكذا ارتأي الامام موسي أن إصلاح العرش، بمضامين الفهم، و الحق، و العدالة، هو أقرب من القيام بثورات غير واعية و مدروسة... و لن يكون منها - في النتيجة القاسية - غير تهديم الجماعة!!! صدقني يا هارون: إني أشرح لك - باختصار - حقيقة الامام موسي - رحمة الله عليه - فافهمه مثلي، و احترمه مثلي - و اذكره بالخير مثلي - و واره الآن الثري، و أنت ذراف عليه دمعة ستحييه مع الرافضي الذي يأبي رؤيته ميتا، بل حيا بكل القيم التي بشر بها قبل أن يصمت... انها - هذه القيم بالذات - لا يطول عمر العرش إلا بها - و كذلك الأمة - فإنها - بها - تنمو - حتي تتمتع بالخلود!!! ما انتهي همس الشيخ سليمان، إلا و الجنازة قد وصلت الي حي المقابر، فحفروا الجدث الذي واروا فيه الجثمان الذي بقي معروضا ثلاثة؟ أيام فوق جسر الرصافة!!! و تقبل هارون‌الرشيد تعازي المحتشدين، و دمعتان سخيتان تتلألآن علي خديه، ما فرح - إلا بهما تتلألآن - الشيخ سليمان!!! لقد تأكد له أن الدمع هذا، هو الآن دمع الندامة. [ صفحه 211]

همس الهمس‌

ما انصرف المشيعون إلا و أنا أبحث عن الرافضي - و عن قائد الشرطة - و عن الأربعة الذين أتحفوني بحديثهم علي رصيف الجسر... و لكني لم أر واحدا منهم... لقد اختفوا كما يختفي الظل بعد هبوط المساء. و قلت في صمتي الآخر: أيمكنني استدعاء الشيخ سليمان، لأغمره، و أقول له: أنت ظلي في التعبير عن أشواق لا تموت، بل تبقي حية في وجدان كل إنسان لا تخلصه من الكبوات الحيوانية إلا القيم الروحية المثلي، و هي التي لا يزال يحيا بها الامام الكاظم، من جيل الي جيل من أجيال الإنسان!!! بعد عشرين ثانية... وجدت نفسي في يقظة أخري، يطل منها وجه مشرق... عرفته... انه وجه الشيخ سليمان بن أبي‌جعفر المنصور... تبسم و هو يقول لي: - هل أنت ظلي؟!! أم أنني لا أزال - أنا - ظلك؟!! [ صفحه 212] خذ مني السلام و اذكرني الي أبد الدهر!!! [ صفحه 215]

الخاتمة

خواطر

أيها الامام الجزيل الوقار لقد مررنا بك - في هذه الصفحات الصغيرة - و نحن نتلمسك بشوق ما شفي منا الغليل... و اني الآن بين يديك، أقر - أيها السيد المهيب - بأن الإحاطة بك الإحاطة الوسيعة، هي التي لا تزال أمامنا في الغد الوسيع... و بقدر ما نتوسع - نحن - في محارمها، يكون لنا قدر مماثل، يشفي منا ذياك الغليل! كأني لا أقول ذلك بلساني، بل بلسان الأمة جمعاء - و قد نذرت - أنت - لها كل جهودك المبلولة بفداحة العناء، من أجل أن تحقق لها طول الصفاء، و طول الرجاء! و ها اني أقول بلسانها: لو أنها تفهمتك - بتمام الفهم - لما كان لها مثل هذا العياء! و الآن أيها السيد، و نحن نكبس - أمامك - بالقلم الصغير، نقطة الختام، لا يبدو أمامنا إلا مثل هذه الخواطر، نعرضها تحت مقلتيك، لا لنرضيك، و أنت فوق الرضي، و فوق التصبر الآتي من خلف بهجات [ صفحه 216] الانتظار، بل لنرضي قصورنا في الارتفاع اليك، يا من علوت فوق كل المهانات، و قد رشقك بها العصر،... من دون أن تبالي - أنت - بكل أشكال المهانات!!! أما الخواطر التي نقدمها بين يديك، فهي ملامح تفيض منك عليك، نقدمها علها، تؤنس فيك - يا سيد - هذه الغربة التي تطل منها الآن في إشراف وسيع علي الأمة التي هيأت لها المطلات الفسيحة، و ما عليها إلا أن تمشي اليها - هي - حين تشتد لها الأقدام الي ضبط المسير! [ صفحه 217]

فوق القناطر

هنيئا لك أيها الإمام - ما رضيت النوم إلا فوق القناطر!!! و أي معني للقناطر؟ إلم تتقاطر اليها ميازيب السحب، في حوملات المجادل... كأن المجرات كلها، هي المتهافتة الي صحفة الأرض، تجدل لها الري جدائل جدائل، لتكون باحات الرمال - في نشفتها المحروقة - واحات جديدة، يسوق اليها العظيم دجلة، روفدا الخير، و منابت الخصب، و مضوعات الزهر، و أضاميم الثمر... انه دجلة في اختزانه دموع السحب، و توزيعها مرافق مرافق علي المساكب المتموجة بسيقان القصب، و علي الجذوع النامية بكل أنواع الرطب... انه دجلة الخصب يمر تحت القناطر... و أنت - أيها السيد - دجلة الحق، جئت تسقي النفوس بأعذب ما تنمو بها هاتيك المكارم، و هي - وحدها - تشتد بها أواصر الأمة... و رحت تحميها بدفقات المكارم... و دفقات المكارم؟ أنت الذي حزمتها رزما رزما، من فوق القناطر، [ صفحه 218] و جئت توزعها - تحت القناطر - ضمائر ضمائر، ترفخ بها أكواب الطحين، و تغمر بها فسحات الموائد... كأن الخبز هو المرقوق، لجعل القوت من أطيب منا تتشبع به أفواه الجياع!!! و انساقت اليك دفقات المكارم، لا لتختزنها في عب الذات، بل لتدفقها حيث تمر ليربوبها، حتي الأجنة، في بطون الأمهات... انها الأمة في تحضير اليوم، و تحضير الغد: تجبي لها من الضيم المكظوم، ما يسقيها من الضيم، إذا تحملته، و أغدقت عليه صبرا يعلمها - بواسطة المران - كيف تطبخه في الأفران التقية، و تفتله من سم الي درياق... و كانت التقوي درياقك، ما حملته في غرة نفسك، إلا لتجلو به صدور الآخرين، و تكشح عنها حوملات الزغل! [ صفحه 219]

هارون‌الرشيد

و هارون‌الرشيد! ليس لنا - أيها السيد - غير أن نلقي ستارا علي ما نواه الرشيد من إنامتك فوق القناطر... صحيح ان القصد كان في امتهانك في العراء، تحت عيون الجماهير، و لكن العكس - بالتمام - جاء مصداقا علي أفك هارون‌الرشيد، و انه ما أضمر مرة خيرا، إلا و كان الشر مبيتا في نفسه... أما أنت، فلم تكن بحاجة الي قنطرة تعليك فوق المداميك، بل كنت المدماك العالي فوق القناطر الموصولة بكل الرموز... و لكن في الأمر سؤالا آخر، و ها اني أقول: لم يكن الرشيد نكرة من النكرات: فهو ذكي يشهد بالذكاء له الشيخ سليمان بن أبي‌جعفر المنصور... فلماذا لم يفهم، لا نصائح، و لا مواعظ الامام، و كلها ينقل الرشيد - و هو أميرالمؤمنين - الي حاكم عادل راشد، تعتز به الأمة، و تخلد له الأجيال في اتصافها به؟!! ألم يفهم هارون، ان المجد كل المجد، هو مما يحوزه الحاكم من نزاهة الحكم، بحيث ينقل الأمة من فراغ الي امتلاء، و الرعية، من تنكر الي سعادة و وفاء؟!! كأني مصغ إليك أيها الإمام، و أنت الماثل رفيعا فوق القناطر - تثبت [ صفحه 220] لي ان الرشيد ذكي، و لم يفته ضلع من أضلاع الفهم... لا الفلسفة فاتته و لا تلك الفطنة اللمامة،... و لا النصائح و لا المواعظ، و لكنه لم يرد أن يفهم، و ذلك هو كل البلاء!!! و فهمت أيها الامام... و بدأت أشرح للناس، ما لا يزال يؤخر الناس عن التدرجج فوق السلالم... و قلت بشفتي الملعثمتين: ليس هارون‌الرشيد الفاهم الوحيد بين الرجال... حتي ان البسطاء السادجين يتملكون الفهم الذي ينطق به العلم، و الرشد، و كل شروحات المنطق... و لكن الفهم الذي يجب أن يفعل، فلن يكون إلا بتدرج نسبي، يمشي به، علي الأرض، و علي الدروب، و فوق مدارج الساحات - كل المشاة، بتحسس و تلمس، ينقلبان - يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل - الي مران و ترسيخ و اتزان... لم يذق هارون‌الرشيد، و لا أي حاكم قبله، لا من بني‌أمية، و لا من بني‌العباس - مثل هذا الفهم المتدرج به، بواسطة التحسس، و المراس، و المران المرسخ في الأذهان، و المنقلب الي جلاء الوعي، و حقيقة الاتزان، و نقاوة الوجدان!!! المراس الطويل هو الناقل الفهم الي حقيقة الفهم، لتكون له حقيقة الترسيخ، لا في الأبدان، و حسب، بل في ظنون النفس، و في خلايا الوجدان... ان من ذلك كله يتألف هارون‌الرشيد: يأخذ الكرسي زهوة سلطان، و زهوة مجد و عز، و غني مفتوح علي كل ما في الرغوات من شهوات!!! أين هي الكوابح؟ و من أين يجي‌ء فترده الي صواب؟! ان الأمة بالذات، عندما يمتلكها الفهم الآتي اليها من سلالم المران، و طول المران، هي التي يهب بها الوعي الأصيل الخارج - أيضا - من عب الممارسات الموصولة بحلقات المران، و في التو الجاهز، يرتجع الحاكم عن زيعانه... أو - بالأحري - ان الحاكم المتهم بالزيغان، لن يكون موجودا في تلك اللحظة الحاملة مثل هذا المراس، و مثل هذا الاتزان! [ صفحه 221] ليت هارون‌الرشيد - أيها الإمام - كان مؤهلا بالفهم المرسخ في الأذهان، و في الوجدان... لكان لك - به - التقاء آخر، يزيد جلوته الي مستوي مرقوق، و يطيل عمره الي طمأنينة غنية بالسعادة... و يطيل عمرك - أنت - أيها الإمام، بلا سجون تكظم فيها الغيط الذي تحملته بالتصبر، من دون أن تتمكن من إيصال الأمة الي فهم تناله مقرونا بوصلات المراس، و المران، و الترسيخ المركز في جيوب الوجدان! [ صفحه 223]

والأمة

و الأمة؟ كل ما لنا من تحاديدها الطبيعية، و التاريخية، و الجغرافية، ان ندرك انها عظيمة، و واسعة، و شاسعة، بكل ما فيها، من خصب، و أقاليم، و ماهيات بشرية متعددة النزعات و المفاهيم، لقد كان يجمعها الاسلام، من دون أن توحدها المفاهيم، أن تنظمها المناهج... غير ان الامام موسي، و هو طالع من اختلاءات نفسه، حاول جمعها بالفضائل، و بالصبر، و بالتأني، من أجل العبور بها الي ظروف موالية، تحقق فيها ما ينجيها من الكوابيس التي مرت بها من عصر أموي ضاغط، الي عهد عباسي آخر تكاد تنحصر فيه كل البلية!!! لقد تبينا كل ذلك في سياق هذا الكتاب، أما التوقف الآن عند طرح استفهامين متعلقين بالعرش، و بالتالي بالأمة، فلكي يكون لنا تفسير تستفيد قليلا فيه الأمة، في معالجة الأمور التي يحملها اليها الغد! لقد كان الاستفهام قائما في استكشافات الاسباب التي حالت دون إفهام الحاكم هارون‌الرشيد، بأن العدل و الحق يحققان له مجد السيادة، و فهمنا ان الفهم لا يكفي في عملية الاصلاح، ما لم يقترن بسلسلة اخري من الممارسات الدائمة التي تجعل الفهم أصيلا في النفس، و فاعلا في حقول [ صفحه 224] الإرادة... و لكن الجواب كان بحاجة الي تفسير أوفي، و لهذا جاء الاستفهام التالي، من أجل بعض التوسعة! أما الاستفهام عن الأمة، فكان بهذا المعني: لماذا لم تفهم الأمة؟ أو لماذا لم ينقلها الفهم الي الوقوف بوجه الحاكم المستهتر بأمورها الحياتية أو العمرانية، و المتعلقة بكل شؤونها الإصلاحية... و الانمائية، و الحضارية!!! و ليس غير الأمة - من فاعل لا يغلب - يتمكن من عملية الزجر؟!! لقد كان الجواب علي الاستفهامين من مورد واحد، أما التوسعة هذه، فهي التي تزيدهما شرحا و إيضاحا... و الحق يقال: لم يكن الذكاء محصورا بالرشيد، فهنالك، بين طبقات الشعب، أذكياء منتشرون، و كان الإمام موسي يشرح لهم كل آرائه الفلسفية، و الفكرية، و الاجتماعية... و كانوا يصغون، و يفهمون... و لقد سمعنا الرافضي يحاور قائد الشرطة بفهم خارق الإدراك، و سمعنا كذلك الشيخ سليمان يملي علي الرشيد أميرالمؤمنين، موعظة فيها كثير من بعد، أليس هذا الفهم المتبادل بين الرجال الثلاثة، و قد ذكرنا أسماءهم، و الذين يوجدون بين ظهراني الأمة بعدد وفير؟... فلماذا لا يفعل الفهم لا مع القلة الممثلة بالرشيد، و لا مع الكثيرة المنتشرة في الأمة... و لقد قدمنا انموذجين منهم، و هما الشيخ سليمان، و الشيخ الرافضي... و لكني لا أري الجواب إلا سهلا يسيرا، و أكرر القول: ليس الفهم وحده هو المجترح الاعجوبة... سيبقي هذا الفهم كلاما أسير الحروف، قبل أن يكون فعلا حاضر الحركة... و الحركة فيه انه فعل جامد، و لن يحرره من الجمود إلا تفاعل ضمني لا يهزهزه إلا التحسس النائم في الشعور، فيلملمه الي ما يشبه التقمص، ثم ينقله الي الممارسة التي تحييه فيه جيوب النفس، و يمتد به التمادي الي الاعصاب المستفيقة بفعل الارادة... [ صفحه 225] و مع الوقت الذي يطول، تصبح الممارسة في عمق الأصالة... و الإصالة في حالة الفعل، و الفعل في خضوع آخر، يتصرف به المنطق و يدخله الي حيثية التنفيذ الذي تعينه الأمة من حقيقة الواقع. ذلك هو الفهم في طرحه الأول... و لن تهتز به الي حركة و فعل الا الممارسة المتمادية، كأنها المران الطويل، و لن يكون الفهم الذي تشاؤه الأمة فاعلا فيها فعله الأكمل، إن لم يشمل الأمة كلها، و هي كما وصفناها وصفها التام: كل ما تحتويه الأمة: من أرض، و خصب، و انتاج، و بشر... و من تاريخ، و زمان مضي، و زمان تتملي‌ء به مآتي الغد... و من تصاميم، و مناهج، و علوم، و جامعات، و عقول تولد الابتكارات التي تونع بها الانتاجات الذهنية المعبرة عن الحق، و العدل، و كل الاستقامات... و هي التي - وحدها - تبني المجتمع الأمثل الذي يشتاقه طموح الإنسان في فهمه الأكمل!!! من توجه الي الأمة الوسيعة هذه، و راح يشرح لها هذا الفهم الموسع؟ لا معاوية ذهب حاملا سلال الفهم، و لا السفاح، و لا المنصور، و لا هارون هذا جاءها حاملا اليها شراع الفهم!!! أما الامام، فقد زج مناشير الفضائل، و العلم، و الغيظ المكظوم... و حمل الضيم، و القهر، و الصبر، و مشي يبشر الأمة بالفهم... و لكن صوته لم يبتعد الي أكثر من يثرب النائمة علي جلد و حصير!!! و لم يتمكن من الوصول الي بغداد إلا مبحوحا و مقهورا... وصل اليها ليعلمها كيف تلون السجون المعتمة، بالصلاة و السجود! و كيف ننام في القبر، الي أن يرفعنا القبر الي متون القناطر! أجل - من حمل الي الأمة الوعي و الفهم؟ و أي منهج من المناهج، أو أية إرسالية من الإرساليات - أو أيه إدارة من الإدارات - أو أي هدف من الأهداف - راح يجوب الأقاليم، في طول البلاد و عرضها، حاملا إليها [ صفحه 226] الجامعات العلمية، و الفكرية، و الثقافية... و هو يشرح سبل الفهم، و سبل العلم، و سبل الحق، و سبل اليقظات الناطقة بكل الحقائق!!! لم يحصل شي‌ء من هذا، شمل الأمة كلها المحدودة فوق مفاسحها المتباعدة الأطراف،... فكيف نطالب الأمة بفهم فاعل لم يصل اليها منه شي‌ء بعد... لم تكفنا يثرب، ننشي‌ء فيها جامعة، و ننشر فيها علما، و وعيا، و فهما... و لم تكفنا بغداد، نرفع فيها قصورا، و نعتم فيها سجونا تطفي‌ء فينا البصائر... و لو فرضنا - أن الفهم كله قد حصل، من سيف البحر حتي الطلول من فدك... و لكن الفهم - و إن يكن وسيعا وسيعا - يبقي في حيز مفرد، و لا يجديه نفعا غير الممارسات، و أقول الممارسات الطويلة و المستمرة... فهي التي تجلوه، و تحييه، و تصقله، و تتفاعل فيه الي ما لا يحد... أليس هذا هو الفهم الآتي من بحور العلم؟ ليبقي بلا موج، حتي تتناوله الممارسات، فيعلو الموج، و تتلاطم به الريح، و تتناقله العواصف دررا من ذريرات الزبد!!! ألا فلنتغن بالممارسات، و بفعلها المحتك بالفهم الصامت، و لنستشهد: - هل نفهم الصدق؟ ان لم نمارسه؟ - و القراءة؟ فلنمارسها، حتي نعرف كيف نقرأ. و الحب؟ فلنمارسه، حتي تغتبط منا المهج. و المشاعر النبيلة؟ فلنغص فيها - بالممارسة - حتي تسمو بنا العواطف. و المواطنة؟ فلنمارسها حتي نبني بها تكاتفنا في الحياة السعيدة و المجيدة. [ صفحه 227] و الحق؟ ألا يموت الحق ان لم نمارسه بلا انقطاع؟ و العدل؟ ألا يضيع العدل ان لم نتعشقه و نمارسه؟ و الطهر و العفاف؟ كيف يبقيان لعيالنا في الستر و الصيانة، و حقيقة الجمال؟ ان لم نمارسها في السر و في العلن. و الإيمان بالله؟ كيف نبني به مجتمعياتنا الطاهرة؟ ان لم نمارسه بالصلوات، و المبرات، و الخشوع المطلق... و الوطن الذي هو الأمة؟ كيف نعتبره إطارنا الخالد في الحياة، إن لم نمارسه بالصدق الكبير، و الفهم الكبير، و الإخلاص العميم؟ و الآن؟ ماذا يبقي لنا غير أن نمارسك - أنت - أيها الإمام... [ صفحه 229]

و أنت أيها الامام‌

لقد بقيت لنا أيها الإمام - كأنك الإرث - تتلقط به الأمة هابطا اليها من بين طيات الغمام... فعلا - انك الإرث أيها الإمام - ضممت فيه كل ذاتك: و هي فهم عميق الحواشي، ما جمله إلا إطار من خشب الصبر الشديد الصلابة، كأنه خشب الأرز المتشبثة به متون القمم! و الإرث الباقي للأمة... لقد بقي لها مصمدا - من جيل الي جيل - لأنها لم تنله منك إلا قيراطا صغيرا مذ احتجزته السجون، فمنعته من الامتداد الي كل نظر، و كل دسكرة، و كل خلية نمت فيها نطفة إنسان! و الأمة أيها الإمام - ما امتد اليها - بعد - هذا الفهم الذي كنت تريده - أنت - لها في المنال - و بقي لك ممهورا بالوشم... و كان الفهم عندك تبليغا وفيا قائما: بالعلم، و الوعي، و الحس النامي بالمكارم، و بالأخلاق المتينة بالصدق، و الحق، و العدل، و كل الفضائل الانسانية - المجتمعية - المزينة بالعفة، و الحب، و الإخلاص المنزة من أي غبار! انها صفاتك في الحقيقة الممتازة... عشتها - و جسدتها فيك - قدوة - و مثالا - و قولا - و فعلا... و اعتبرتها فهما تنقله الي الأمة نقلا حيا، فاعلا [ صفحه 230] فعله في النفوس، فعلا مستمرا، و متحركا، و ناميا، يا للممارسة!!! ان العظمة فيك أيها الإمام - و هي الباقية في إطارك - إنك تناولت الفهم، و رحت تحييه بالممارسة... أما الصبر الطويل الذي اتشحت به - اهابا - فهو الذي مارسته، و غدا و شما لك، لا يزال باقيا لنا في الإرث الذي سيتعز به بقاء الأمة في انتظارها: تحقيق الغد [ صفحه 231]

و بعد الغد

و بعد الغد؟ لقد أفهمنا الإمام موسي مضامين الغد. و أفهمنا - أيضا - كيف أن الصبر يحل العقد. و بعد الغد؟ يكون قد انتهي السجن المؤبد. - و تأتي الممارسات. و ها هي الأمة - تحلو لها - ولاية العهد.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.