و سلاحه البكاء او ابك يا ولدي الحبيب

اشارة

سرشناسه : سيد، كمال، - 1336

عنوان و نام پديدآور : وسلاحه البكاآ او ابك يا ولدي الحبيب: روايه/ كمال السيد

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاريان للطباعه و النشر، 1425ق. = 2004م. = 1383.

مشخصات ظاهري : ص 159

شابك : 964-438-160-2

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : كتاب حاضر با عنوان "و سلاحه البكاآ اوابك يا ولدي الحبيب" نيز منتشر شده است

يادداشت : چاپ چهارم

عنوان ديگر : ابك يا ولدي الحبيب

عنوان ديگر : و سلاحه البكاآ او ابك يا ولدي الحبيب

موضوع : حسين بن علي(ع)، امام سوم، ق 61 - 4

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

رده بندي كنگره : BP41/4/س 9و5 1383

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 83-35342

و سلاحه البكاء (01)

بسم الله الرحمن الرحيم لاحت من بعيد «ثنيات الوداع»، و القافلة المحملة بكنوز كسري تشق طريقها بجلال تحرسها خيول و دروع. كانت الشمس قد بزغت كأنها تستقبل العائدين؛ أو لتري فتاة حملتها الأقدار من أرض النار، كانت تمعن في الفرار ولكن دون جدوي. اقترب صحابي أراد أن يحادثها... أن يقول لها كان سلمان يعيش في المدينة و كان رجلا من أهل البيت، كان يعيش في أرضكم ولكنه جاء يبحث عن النور ففر من النار. تمتم أسفا و ود لو كان سلمان حاضرا، تمني لو أنه قد تعلم منه لغة أهل تلك الديار. هبت نسائم طيبة، فتذكر حادثة قديمة لن ينساها يوم وصل رسول السماء أرض طيبة فصدحت الفتيات يغنين للبدر الذي أشرق في سماء المدينة. حانت منه التفاتة فألفي بنت كسري حزينة لكأن وجهها المضي ء [ صفحه 4] تغمره غيوم و غيوم. تساءل في نفسه؛ تري ماذا سيكون مصيرها انها سبية علي كل حال. هذا هو منطق الحرب. كان

الموكب يقترب من المدينة. تمايلت سعفات النخيل، وهبت نسائم طرية مشبعة برائحة الخضار. تذكرت بنت آخر ملوك ساسان قصورها المنيفة، و تعجبت أن تكون هذه المدينة عاصمة الدولة التي لا تقهر! كيف هزم هؤلاء الحفاة العراة جيوش كسري حتي لم يتركوا ل (يزدجرد الثالث) مكانا في خراسان و لا في نيسابور و لا سرخس و لا طوس، و ها هي الأنباء تطير في الآفاق عن عبورهم «باب الأبواب» في بلاد الخزر تأوهت بحزن: - آه بيروز باد هرمز. المسجد يكتظ بالناس، و قد أشرفت عذاري المدينة يتطلعن الي ابنة الملوك، الي جمال فارسي يختطف القلوب و الأبصار. كانت الفتاة تدرك ما سيحل بها بعد قليل سوف تكون جارية في بيت طيني من بيوت المدينة. تجمعت الدموع في عينيها كغيوم ممطرة، راحت تتصفح الوجوه المحدقة بها... التقت عيناها وجها أفتر عن ابتسامة أراد أن يبدد عنها خوف غامض فقال: - چه نام داري أي كنيزك؟ دهشت لهذا الرجل الذي يتحدث بلغتها.. [ صفحه 5] أجابت باستحياء: - شاه زنان. أراد الرجل الذي يشبه الأسد أن يمنحها اسما جديدا فقال: - شهربانو. ابتستمت الفتاة و شكرت في أعماقها الرجل لهذه الهدية. ما أجمله من لقب... سيدة المدينة. سأل الرجل و قد أراد أن يكتشف ما تعلمته من الزمان: - هل حفظت عن أبيك شيئا؟ أجابت بلوعة: - كان يردد قبل مصرعه: اذا غلب الله علي أمر ذلت المطامع دونه، و اذا انقضت المدة كان الموت في الحيلة. ابتسم الرجل الذي تنفجر الحكمة من جوانبه: - ما أحسن ما قال أبوك، تذل الامور للمقادير حتي يكون الحتف في التدبير. ساد الصمت و وقفت الفتاة تنتظر النهاية مستسلمة، ها

هي الأقدار ترسم الطريق من قمم الجبال الشاهقة الي الهاوية! من المجد و الملك الي السبي و العبودية. كانت علي وشك أن تعرض في الأسواق بعد أن أمر الخليفة بذلك. و قبل أن تخطو باتجاه النهاية ألقت نظرة رجاء علي الرجل لعله يشتريها. [ صفحه 6] هتف الرجل معترضا، رغم غضب الخليفة: - لا يجوز بيع بنات الملوك. تذكر الصحابة كلمات قالها النبي يوم وقعت سفانة ابنة حاتم في الأسر: ارحموا عزيز قوم ذل. لقد نسيها الجميع و ها هو أخو النبي يذكرهم بعد تطاول الأيام. - و ما هو الحل اذن؟! تساءل الخليفة حنقا. - أعرض عليها أن تختار رجلا من المسلمين يتزوجها و يحسب مهرها من عطائه. تصاعدت صيحات الاستحسان من زوايا المسجد كانوا بشوق الي ملكة فارس، تري من ستختار، انها علي كل حال تمثل امة كانت تحكم نصف العالم ذات يوم. و راحت ابنة كسري تبحث عن رجل تلوذ به، تتأمل الوجوه تبحث عن الانسان.. تبحث عمن يهبها رحمة الأب و دف ء الام. و استقرت عيناها علي شاب أقني الأنف كأن عينيه نافذتان تطلان علي عوالم تزخر بالنور و الصفاء و الحرية؛ فأشارت اليه. هتف بعضهم اعجابا: - ما أحسن ما اختارت، و هل هناك من هو أشرف من سبط محمد و ابن سيد العرب. قال سيد العرب لابنه و قد تذكر نبوءة سمعها من رسول السماء: - ليلدن لك منها صبي هو خير أهل الأرض. [ صفحه 7]

و سلاحه البكاء (02)

كانت ترنو الي وليدها بعينين مجهدتين، أضنتها آلام المخاض، ها هو يغفو الي جانبها كقمر صغير، كوردة نسرين تتفتح للربيع. كانت ترنو اليه بحزن. نداء ما يضج في أعماقها كأنه يدعوها

للرحيل. الرحيل الي عوالم بعيدة. فتح الصبي عينيه كأنه يبحث عن أمه؛ هز المهد بقدمه الصغيرة. تجمع خوف بري ء في عينيه، و طافت وجهه المستدير غيمة حزينة و انبعث صراخ طفولي فيه نشيج الميازيب في مواسم المطر. كان الصوت يخترق أذنيها... يدوي في أعماقها يفجر ينبوع الامومة.. ولكن الجسد الخائر لم يقو علي الحراك، و قد أوشكت الروح علي الرحيل و الصبي يصرخ و يصرخ كأنه يتشبث بروح وهبته الروح. تمتمت بأسي: - ابك يا ولدي الحبيب. ثم أغمضت عينيها الواهنتين لتغفو بسلام؛ فيما ظل الصبي يبكي. [ صفحه 8] كانت السماء تسح مطرا ناعما، و كأن الغيوم تبكي بصمت، و امتزج بكاء الصغير مع نشيج الميازيب. لكأن الأقدار رسمت لهذا الصبي طريقا منقوعا بالدموع مضمخا بحزن سماوي ورثه أجداده عن آدم يوم قتل هابيل. و تمر السنون، و التاريخ يشعل الحوادث المدماة هنا و هناك. تدفقت دماء جده في المحراب قانية تلون أفق التاريخ، حتي اذا مضت خمسون سنة علي الهجرة أشعل التاريخ حادثة في منزل عمه سبط النبي و ريحانته. كان الحسن يتلوي من الألم.. آلام رهيبة كخناجر تغوص في قلبه تمزق كبده. وقف علي الي جانب أبيه يراقب عمه بذهول. هتف الحسين بمرارة: - ألا تخبرني بمن دس اليك السم؟ تمتم الحسن و كأنه يحدث نفسه: - لقد سقيت السم مرارا فلم يفعل مثل هذه المرة. شعر بأن نارا مجنونة تشعل الحرائق في أعماقه، ماذا يقول لأخيه؟ أنه يعرف من دس السم، هناك في بلاد الشام رجل من طلقاء جده يخلط السم بالعسل... سلاح جديد يستخدمه منذ سنين بعد أن وضعت الحرب أوزارها. رجل تحوطه سيوف و قلاع؛ و ما «جعدة» الا

ضحية مرض [ صفحه 9] و بيل، عقدة ورثها قابيل ابناءه. و أغمض الحسن عينيه ليفتحهما في عالم آخر... عالم ملي ء بالمسرات الخالدة. و مضي التاريخ يشعل الحوادث، مات «ابن كلدة» طبيب العرب و كان قد أخذ الطب عن أهل فارس، و ماتت عفراء و كانت من أهل البادية يتغنون بقصة حبها العذري لابن حزام؛ و ماتت ميمونة و كانت امرأة و هبت نفسها للنبي. مضي التاريخ يشعل الحوادث، ارتفعت في سماء «الفسطاط» بمصر أول منارة في الاسلام و الجيوش الاسلامية تدق بعنف أبواب القسطنطينية و استشهد أبوأيوب فدفن تحت أسوارها. و مات سعد آخر المهاجرين و ترك بقصره «العقيق» ذهبا و فضة و ابنا سيسل سيفه لمحو التاريخ الهجري. [ صفحه 10]

و سلاحه البكاء (03)

دار الزمن دورته و أطل عام ستين، عام فيه يضام الناس و فيه يعصرون، مات معاوية.. و قد حول المنبر الي عرش فأورثه ليزيد، كان يزيد في «حوران» يقضي وقته في ملاعبة قرده، مستمتعا بكلاب الصيد التي ملأت الجو نباحا كشرطة أغضبها فرار ثائر كانت قد ألقت القبض عليه. دخل قصره و قد بدت عيناه جمرتين متوقدتين. ألقي نفسه علي السرير و أشار الي الحاجب اشارة عرف مغزاها علي الفور. دخلت جارية رومية تحمل ابريقا فيه خمرة معتقة، برقت عيناه شهوة و كادت نظراته تفترس مفاتنها. كان الحاجب يصغي من وراء الأبواب الي ضحكات خليعة. غرقت «حران» في بركة الظلام، توثبت شياطين الجن و الانس و تحفزت النمور المختبئة، حطمت قضبان الصدور، و راحت تعربد. يزيد يتقلب في فراش نسجته ديدان القز، و الي جنبه تمدد قبيس فاغرا بوزه ببلاهة. [ صفحه 11] و في عالم الأشباح رأي أنهارا من دم تتدفق

ما بين «الشامات» و بين «الحيرة» و رأي جماجم و ضحايا؛ اجسادا بلا رؤوس و رؤوسا بلا أجساد، و رأي نفسه يخوض أمواج الدم، يغرق في برك حمراء حمراء. هب من نومه مذعورا، و قد توقدت عيناه فبدت كجمرتين أو كوتين مفتوحتين علي جحيم مستعرة. فجأة دخل أحدهم يحمل معه كتابا فأوجس يزيد خيفة كانت سحنة الرجل بلا لون؛ فقد حار هل يظهر حزنه بموت معاوية أم يتظاهر بفرح من أجل يزيد خليفة للمسلمين جديد. رقص النمر المتوثب في الأعماق... وجد نفسه طليقا حرا. ها هي الدنيا تركع عند قدميه، و الرجال تحني هاماتها له، سيكون الآمر الناهي من شواطي ء بحر الخزر الي عدن. فجأة قفز اسم الحسين الي الذاكرة. هتف متوعدا: - هذا الشجي الذي يعترض حلقي. أصدر يزيد أول أوامر الخلافة: - الي دمشق. [ صفحه 12]

و سلاحه البكاء (04)

كانت أزقة المدينة غارقة في الليل، و بدت النجوم كقلوب واهنة تنبض من بعيد، و قد جنح القمر المثلوم للمغيب فبدا كوجه مكدود أرهقه السهر. كان رجل يمضي قدما يشق طريقه في الظلام، و في رأسه فكرة واحدة؛ ان يبلغ الحسين بدعوة «الوليد» أمير «المدينة» و حاكمها المطاع. أفاق علي علي صوت خبط للباب و أدرك انها قبضة شرطي جاء بأمر ما. قال الحسين و هو ينظر الي النجوم البعيدة: - رأيت في عالم الأطياف منبر معاوية منكوسا و قد شبت النار في قصره... و ما أظنه الا هالكا، فجاءوا يأخذون البيعة ليزيد. أمسك سبط محمد قضيبا لرسول الله، فقال رجل هاشمي: - قد يغتالونك، فالظلام يخفي سيوفا و خناجر. أجاب ابن محمد: [ صفحه 13] - لا تخش شيئا. أنتم ثلاثون رجل. تأهبوا عند الباب،

فاذا سمعتم صوتي قد علا، فاقتحموا. جلس الحسين قبالة الوليد، و كان ابن الزرقاء ينظر بحقد و لؤم... تمتم الوليد و كأنه يلوك الكلمات بصعوبة: - كان معاوية سور العرب... قطع الله به الفتنة و ملكه علي العباد وفتح به البلاد، الا أنه قد مات فخلف يزيد من بعده و هو يريدك أن تبايع. أجاب الحسين: - مثلي لا يبايع سرا.. فاذا دعوت الناس غدا دعوتني معهم. أطرق الوليد و قال: - صدقت أباعبدالله انصرف الي منزلك. انبري مروان بخبث: - احبسه أيها الأمير حتي يبايع أو تضرب عنقه. هتف الحسين بغضب: - يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ و أردف و هو يخاطب «الوليد» معلنا صرخة مكبوتة منذ عشرين سنة: - أيها الأمير: انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة بنا فتح الله و بنا، يختم و يزيد شارب للخمر قاتل للنفس المحرمة، و مثلي لا يبايع مثله. [ صفحه 14] حاول الوليد أن يتفادي العاصفة بمثلها، فالتمعت خناجر في الظلام و اقتحم رجال دار الامارة، ولاذ ابن الزرقاء مرعوبا خلف أميره. غادرت العاصفة مجلس الأمير.. تركته خاويا علي عروشه، و أطل «مروان» كجرذ يخرج رأسه بحذر: - عصيتني و لن تحصل علي مثل هذه الفرصة. - و بخ غيري يا مروان. أتريدني أن اقتل سبط محمد؟! - اذن لن يبايع حتي تتساقط القتلي. هز الوليد رأسه دون أن ينبس ببنت شفة. ربما كان يفكر بالأفق المضمخ بلون الدماء، أنه يعرف يزيد... ذلك النزق المتهور. أو لعله كان يعقد مقارنة بين مروان و أمه الزرقاء، و كان بيتها تخفق فوقه الرايات حيث يعبر الرجال مستمتعين. و بيت الحسين حيث منزل فاطمة مختلف الملائكة

و أثر جبريل. يالسخرية القدر! و عندما أوي الوليد الي فراشه همست زوجته بمرارة: - كيف تسبه؟! - هو بدأني بالسب أول مرة. - أتسبه و تسب أباه ان سبك. أغمض عينيه المحتقنتين و تمتم بندم: - لن أفعل ذلك أبدا. [ صفحه 15]

و سلاحه البكاء (05)

هجعت العيون، و أوت الكائنات الي مضاجعها فالليل أعشاش دافئة، و منازل هادئة، و عالم تطير فيه الأرواح تحلق بعيدا في دنيا شفافة، تتسلل من ثيابها السفلي، تخلع أهابها الجسدي لتحلق في عوالم الذر؛ و لو أصخيت السمع تلك الليلة لسمعت خطي هادئة تتخذ سمتها نحو قبر يضم رسول السماء الي الأرض، و لو دققت النظر لرأيت رجلا أقني الأنف أشمه في عينيه تتألق النجوم أنفاسه كأنفاس الفجر في لحظات الفلق. كان السبط يشق طريقه في أزقة المدينة الغافية، فهي لا تصحو علي صوت خطاه، انها لن تستيقظ الا علي سنابك خيل مجنونة، ها هو يتخذ سبيله نحو جده ينوء بحمل أمانة أبت السماوات حملها و الأرض. أدرك علي ما يموج في أعماق أبيه من هموم، منذ زمن و هو يصغي الي استغاثات تأتي من بعيد... من أرض السواد، من مدينة كانت ذات يوم عاصمة جده، ها هي اليوم تستيقظ... تتأوه من سياط [ صفحه 16] الجلادين، تبحث عن رجل منحها المجد. كان علي في ركن من حجرة طينية متوجه بكليته صوب أول بيت وضع للناس، قلب يخفق كما تخفق النجوم بضوئها الأزرق. تنساب الكلمات من بين شفتيه كنهر هادي ء تترقرق في سمع الكون، لحظات يلتحم فيها الانسان بالعالم الأكبر في لحظة اكتشاف كبري حيث تنحسر الأشياء عن ظاهرها الخادع، تبرز الحقيقة ناصعة أن لا شي ء سوي الله.. الله وحده.

الكلمات الانسانية تتدافع كأمواج متلاحقة باتجاه عوالم لا نهائية.. وحده صوت الانسان يعبر عن الحقيقة في صمت الليل. - اللهم يا ملاذ اللائذين... و يا معاذ العائذين... و يا عاصم البائسين... و يا مجيب المضطرين... و يا جابر المنكسرين... و يا مأوي المنقطعين و يا ناصر المستضعفين... و يا مجير الخائفين... و يا مغيث المكروبين ان لم أعذ بعزتك فبمن أعوذ، و ان لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ؟ ما أجمل أن يلتحم الانسان بمسيرة الكون... و ما أسمي أن يكتشف طريقه الي الله... و ما ألذ لحظات الحب عندما تعرف النفس بارئها فتحلق بين النجوم و تصطف مع الملائكة تسبح بحمد ربها... فاذا الكون محراب عبادة و المجرات محطات رحيل. الرواحل تتخذ طريقها صوب مكة و صوت له نفحة السماء يخترق آذان الليل: [ صفحه 17] - فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. الصحراء مد البصر و الطريق الذي رسمته القوافل منذ عشرات السنين يتألق في ضوء القمر كأنه يشير الي مكة مهوي الأفئدة، عاد الصوت الملائكي يعيد الي الأذهان قصة الشريد الذي اخترق صحراء سيناء وحيدا: - و لما توجه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل. - الي أين يابن محمد؟ - الي مكة. - ألم يهاجر جدك الي يثرب بحثا عن وطن... عن أرض يعبد فيها الله وحده؟ - أجل و يثرب في قبضة الطلقاء.. في أيدي أعداء الأمس. - كيف عبروا الخندق... - لقد ردم الخندق في «السقيفة»... بعد أن أغمض النبي عينيه. [ صفحه 18]

و سلاحه البكاء (06)

يا مكة يا مدينة مترعة بالحزن، لم تطل فرحتك سوي عدد سنين يوم تهاوت الأصنام أنقاضا عند جدران

البيت العتيق، جاءت أصنام اخري.. أصنام من طين.. من صلصال من حمأ مسنون. و ها هو حفيد محمد جاء ليحطم الأوثان الآدمية... ولكن كيف و يزيد عجل له خوار.. و قد عكفت الامة عليه فلا صوت و لا رأس يرتفع.. ليقول: لا.. لماذا يدور الحسين في شوارع المدينة... يطوف حول الكعبة العظيمة... يدور حول البيت. لماذا يسعي بين الصفا و المروة يبحث عن نبع ماء مفقود، فمكة عادت من جديد واد غير ذي زرع... لم يبكي عند «خديجة» فالعام عام حزن و قد غاب أبوطالب و أضحي محمد وحيدا يبحث عن أنصاره ليهاجر. و جاء رجل من أقصي المدينة يسعي: - يا حسين عجل بالخروج فابن العاص قادم و معه أمر [ صفحه 19] باغتيالك. - لا محيص عن يوم خط بالقلم... رضا الله رضانا أهل البيت... ألا من كان موطنا علي لقاء الله نفسه فليرحل معي، فاني راحل. - الي أين يا أباعبدالله؟ - الي صحراء بين النواويس و كربلاء. قال رجل مشفق: - امكث في مكة فأنت سيد الحجاز. - لا أريد أن تستحل حرمة البيت بقتلي؟ - و هل يجسرون علي قتلك. - أجل ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت. و قال أخوه من أبيه: - كيف تثق بأهل الكوفة و قد غدرت بأبيك و أخيك؟ - أخشي أن يغتالني يزيد في الحرم فتستباح حرمة البيت. و عندما استوي الحسين علي ناقته، قال أخوه و قد أخذ بزمامها: - لا تأخذ النسوة معك اذن. قال الحسين و هو ينظر الي الافق المضمخ بحمرة الشفق: - شاء الله أن يراهن سبايا. ثمانية أيام مضين من شهر ذي الحجة، غادرت قافلة عجيبة ديار

مكة... كانت تسير علي هون و بدت الجمال كسفن تبحر في صحراء متموجة تريد أن تحدد للتاريخ وجهة جديدة. [ صفحه 20] النجوم تتألق في سماء بدت كعباءة عربية غارقة في الكحل، أشرق هلال المحرم فبدا في غمرة الظلام و امتداد الرمال ابتسامة مكلوم، أو زورق يودع بحيرة رائقة. سر ما شد القافلة الي هذه البقعة من دنيا الله، لكأنما تسمرت حوافر الخيل و بركت النياق كسفن ألقت مراسيها في مرفأ مهجور. شعر علي بالاعياء يسري في جسده حتي سلبه القدرة علي النهوض، ولكنه جرجر نفسه بعناء الي خيمة جلس فيها الحسين يرسم لأصحابه طريقا عجيبا. تمتم الحسين آسفا: - الناس عبيد الدنيا، والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم. و سكت هنيهة و أردف: - قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون.. و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها و لم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء و خسيس عيش كالمرعي الوبيل... ألا ترون الي الحق لا يعمل به والي الباطل لا يتناهي عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله... فاني لا أري الموت الا سعادة و الحياة مع الظالمين الا برما. هتف زهير و كان قد التقي الحسين علي قدر: - لو كانت الدنيا لنا باقية و كنا خالدين فيها لاخترنا الموت معك. قال برير و كان من قراء الكوفة: [ صفحه 21] - انها نعمة يابن رسول الله أن نقاتل معك و أن تمزق أجسادنا ليكون جدك شفيعنا يوم القيامة. و هتف ابن هلال بحماس من اكتشف ينابيع الخلد: -سر بنا راشدا شرقا شئت أو غربا... انا نحب لقاء ربنا علي نياتنا و بصيرة من أمرنا... نوالي من والاك

و نعادي من عاداك. انبري الرجال لدق أوتاد الخيام كأنهم يحددون معالم مدينة ستولد فيما بعد. ازدحمت في السماء سحب كأكوام من الرماد تتراكم بعضها فوق بعض، و بدا الجو مشحونا بالغضب؛ و اختلطت أصوات الرجال برغاء الجمال و صهيل الخيل وقعقعة الأسلحة. انتشر أربعة آلاف من الذين لا ايمان لهم علي طول شاطئ الفرات و بدت الرماح بانصالها خناجر في خاصرة النهر حيث راحت أمواجه تتدافع باتجاه الجنوب فرارا من نفوس مكتوب عليها الشح و لو بقطرة ماء. مرت سبعة أيام من المحرم، و الحصار يشتد. كان «ابن سعد» يمني نفسه باستسلام القافلة، فالماء يعني الحياة، و منعه يعني الموت و هل هناك من يختار الموت علي الحياة؟ - ولكن فيها أطفالا. - ليكن انها الحرب. - لقد سقانا الحسين قبل أيام... سقي ألف انسان و ألف حصان. [ صفحه 22] - لأنه يجهل لعبة الحرب... - بل لأنه انسان. - و نحن؟! - أنتم لم تعودوا شيئا. لقد مات الانسان في أعماقكم و انتصر الخنزير القابع في نفوسكم. - كفي هراء.. سوف يستسلم الحسين و عندها سأنطلق الي «الري و جرجان»... سأحكم بلادا واسعة. - والحسين؟! - الحسين.. الحسين.. ليتنح عن طريقي و الا سأعبر فوق جسده.. و لتمزقه سنابك خيل مجنونة. [ صفحه 23]

و سلاحه البكاء (07)

كانت مضارب القافلة بين يدي «ذو حسم» و لو قدر لأحد أن يراقب من فوق قمته المكان لرأي خياما متناثرة هنا و هناك حيث يمر الفرات تتدافع أمواجه كأفعي مذعورة. كان الحسين واقفا أمام خيمة تعصف بها الريح من كل مكان. ينظر الي الافق البعيد البعيد كما لو أنه ينظر الي آخر الدنيا. جنحت الشمس للمغيب.. رسمت لوحتها

الحزينة في السماء كجراح الأنبياء، و شيئا فشيئا غادرت حمرة الغروب و امتلأ الافق رمادا و فتحت النجوم عيونها و راحت تنبض في صفحة السماء كقلوب خائفة. في غمرة الظلام المهيمن و قد سكنت الأصوات فلا تسمع الا همسا، هتف ابن سعد متوجسا و هو يتطلع الي «ابن قرظة»: - ماذا تريد؟! - أرسلني الحسين للاجتماع بك بين العسكرين. - و من معه؟ [ صفحه 24] - أخوه العباس و ابنه علي. - التفت ابن سعد الي غلامه و الي ابنه حفص: - انهضا معي. كان ابن سعد يجرجر خطاه مترنحا، و آلاف الأفكار تتراكض في رأسه كأرانب مذعورة، قال في نفسه: - تري ماذا سيفعل الحسين؟! هل يفر في جنح الظلام؟ هل يستسلم؟ هل يقاتل؟ ولكن كيف يفر من كان أبوه علي؟ و كيف يستسلم سبط محمد» للطلقاء»؟. أم تراه سيقاتل بسبعين رجلا!! لاح الحسين من بعيد كنخلة هيفاء. هتفت ابن سعد مأخوذا: - أية روح ينطوي عليها هذا الرجل؟! - أتحاربني يابن سعد... و أنا ابن من تعرف؟! و سكت هنيهة ثم أردف مضيئا له الطريق: - كن معي ودع هؤلاء فهو أقرب الي الله. انتصبت أحلام ابن سعد أمام عينيه.. تجسدت رؤي و خيالات طالما شغلت رأسه و استحوذت علي روحه. رأي فتيات جميلات في القصور يمرحن بغنج، فقال بنفاق: - لسوف يهدمون داري. [ صفحه 25] - أنا أبنيها لك. - و بساتيني... أنهم سوف ينتزعونها مني. - أعطيك «البغيبغة» فيها زروع كثيرة و نخيل. - و عيالي؟! انني أخشي عليهم بطش ابن زياد. أدرك الحسين ان هذا الرجل قد مات منذ أمد بعيد... لم يعد سوي جثة نتنة. نهض السبط و قال بغضب: - مالك؟! ذبحك الله

علي فراشك.. و انكشفت له صفحة الغد فقال: - لن تأكل من قمح العراق الا يسيرا. تمتم «ابن سعد» و ابتسامة ساخرة ترتسم علي شفتيه: - في الشعير كفاية. [ صفحه 26]

و سلاحه البكاء (08)

جثم صمت رهيب فوق المكان و ألقي الحزن كلاكله كغراب اسطوري؛ و القلوب الصغيرة الظامئة تصغي الي أصوات بعيدة تأتي من جهة الفرات كعواء ذئاب جائعة في ليلة شتائية. قالت امرأة اسمها زينب: - لقد اقترب العدو. التفت الحسين الي أخيه. - انهض لتري ماذا يريدون. عوي ذئب من بعيد: - الاستسلام أو الحرب. هتف حبيب مستنكرا: - بئس القوم أنتم غدا عندالله.. أتقتلون سبط النبي... و قوما متهجدين بالأسحار يذكرون الله كثيرا. قال عزرة و قد برقت عيناه بشهوة الغزو: - انك تزكي نفسك ما استطعت. [ صفحه 27] رد زهير. - ان الله قد زكاها يا عزرة. لقد سولت لكم أنفسكم أمرا عظيما. - و متي كنت شيعة للحسين يا زهير؟! - جمع بيني و بينه الطريق... فذكرت به محمد. قال عزرة بصفاقة: - اننا نمتثل لأمر خليفته. - يزيد!! - أجل أميرالمؤمنين يزيد. هتف العباس ليضع حدا للمرارة: - اذن امهلونا هذه العشية الي غد. رد ابن سعد و قد ذهبت به الظنون: - الي غد... ولكن اما الاستسلام أو الحرب. أصدر ابن سعد أمره بالانسحاب، و شيئا فشيئا انحسرت قعقعة السلاح و كفت الخيل عن الصهيل و لم يبق سوي أصوات تشبه عواء الذئاب في ليالي الزمهرير. تسمر التاريخ عند خيمة أضاءها سراج واهن... كان يصغي الي كلمات آخر الأسباط. - أحمدك اللهم علي أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا القرآن وفقهتنا في الدين و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة

و لم تجعلنا من المشركين. كانت نظراته الدافئة تغمر رجالا ينشدون الموت من أجل [ صفحه 28] الحياة، فانسابت كلماته كنهر هادئ: - اني لا أعلم أصحابا أوفي من أصحابي و لا أهل بيت أبر من أهل بيتي... و اني أظن أن يومنا من الأعداء غدا؛ و انهم انما يطلبونني و لو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري، فانطلقوا جميعا و هذا الليل فاتخذوه جملا و ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي و تفرقوا في المدن البعيدة. - و أنت يا سيدي؟ - ما كان للحسين أن يفر. - ما قيمة الدنيا كلها سواك. قال ابن عوسجة: - والله لو لم يكن معي سلاح لقاتلتهم بالحجارة. و قال الحنفي: - لو قتلت سبعين مرة ما تركتك فكيف و هي قتلة واحدة. و قال زهير و هو يتطلع الي وجه مضمخ بعبير النبوات: - لو قتلت ألف مرة فلن أدعك وحيدا. و في تلك اللحظات حيث تلتحم السماء بالأرض أشار الحسين فانكشفت الآفاق عن جنة عرضها كعرض السماوات و الأرض... جنات من نخيل و أعناب و الأنهار الخالدة تتدفق مطردة بدا الفرات ازائها كخيط من الملح و الرماد. [ صفحه 29]

و سلاحه البكاء (09)

يا لها من ليلة عجيبة تمر لحظاتها كسنين متمادية، و ساعاتها كالقرون لا تكاد تنتهي لكأنها تريد أن تستوعب التاريخ البشري بأسره. جلس علي متهالكا و بدا جسمه حطاما حتي لم تعد له قدرة علي النهوض، يتطلع الي النجوم... الي عالم لا نهائي.. عالم مفعم بالصفاء.. عالم بعيد عن ويلات الأرض و ما يجري فيها علي يد الانسان. كانت خيمته الي جوار خيمة أبيه. الحسين وحيد وحيد... يعرف انها النهاية أو البداية.. راح

علي يرهف سمعه لكلمات أبيه و هي تمتزج مع صوت يشبه شحذ السيوف.. فالمعركة و شيكة قاب قوسين أو أدني.. و غدا يوم الفصل. تطلع الي عمته التي دخلت توا ربما لتمرضه.. جاء صوت الحسين هادئا مثل ناي حزين، فيه عتاب للزمن الذي لا يكف عن الغدر: يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيل [ صفحه 30] من طالب بحقه قتيل و كل حي سالك سبيلي ما أقرب الوعد الي الرحيل و الدهر لا يقنع بالبديل شعر علي بالكلمات تغوص في قلبه.. تمزق شرايينه و تذبحه من الوريد الي الوريد، كاد أن يغرق في موجة طاغية من البكاء، و البكاء يكاد يكون سلاحا لمواجهة الزمن الغادر. فهذا الغضب المتفجر في الأعماق يدمر الأشياء.. يحيلها الي حطام اذا لم يجد متنفسا له في الدموع. فالسماء ما تزال مشحونة لا تكف عن البروق، و الرعود لن تهدأ حتي ينهمر المطر مدرارا. و بكي علي بصمت كسماء تمطر علي هون. لم تتمالك زينب.. لم يتحمل صبرها العجيب ما تسمع، فهبت تجر الذيول الي خيمة كالعرين. هتفت بصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر: - ليت الموت أعدمني الحياة.. اليوم ماتت امي فاطمة و أبي علي... يا خليفة الماضين و ثمال الباقين. و رمق الحسين شقيقته التي اختارت طريقه، و قال مصبرا: - يا اختاه تعزي بعزاء الله... ان أهل الأرض يموتون و أهل السماء لا يبقون و كل شي ء الي زوال و يبقي وجه الله وحده. قالت و هي تنتحب: [ صفحه 31] - أفتغصب نفسك اغتصابا.. ان قلبي لا يطيق. كان صمت الليل كفيل أن يجعل من الاذن الآدمية مرهفة تلتقط حتي دبيب

الهوام فكيف بالبكاء في زمن غادره الفرح و بدت مقرفة فيه الأشياء. وجد الحسين نفسه وسط نسوة ينشدن الأمن في زمن الخوف كطيور مذعورة تبحث عن أعشاشها في غمرة الظلام. نظر الحسين الي زينب نظرة طويلة أودعها كل ما يريد. قال بحزن: - يا اختاه و يا فاطمة و يا رباب... اذا قتلت فلا تشققن علي جيبا و لا تخمشن وجها و لا تقلن هجرا. نهض الحسين يواجه الغد القادم بعد ساعات، فلقد اشتدت ظلمة الليل و بدت النجوم أكثر بريقا لكأنها عيون مفتوحة ترقب ما يجري علي شاطئ الفرات بين النواويس و كربلاء. و هناك علي شاطئ النهر قطعان الذئاب تنتظر لحظة الانقضاض علي الانسان. [ صفحه 32]

و سلاحه البكاء (10)

ما تزال النجوم مسمرة في السماء كمسامير في لوح كحلي و قد بدا الجو مشحونا بالخطر؛ فالقافلة التي ألقت مراسيها في هذه البقعة من الأرض تحاصرها قطعان الذئاب. خرج الحسين يتفقد أرضا ستصبح بعد ساعات ميدانا لملحمة عظيمة يتحطم فيها الانسان ولكنه لن يهزم أبدا تتمزق فيها الأجساد الآدمية اما الروح فستبقي متألقة قوية كما خلقها الله و أودع فيها كلمته. هتف «الجملي» و كان قد أقلقه خروج الحسين الي أرض يحدق بها الغدر من كل مكان: - الي أين يا سيدي الحسين. لقد أفزعني خروجك وحيدا. أخشي عليك الغدر. - خرجت أتفقد هذه التلال.. أخشي أن تكون مكمنا لهجوم الخيل يوم تحملون و يحملون. و أردف و هو يشد علي يده بدف ء: [ صفحه 33] - انظر... خيامنا مكشوفة الظهر؛ علينا أن نحفر الخنادق حتي لا تفاجئنا الخيل... و الخيام مبعثرة علينا أن نقارب بينها حتي لا ينفذوا خلالها. هتف الجملي مبهورا برجل لا

يعرف اليأس رغم عنف العاصفة: - سيكون القتال في جبهة واحدة. - نعم في جبهة واحدة... لم تحن لحظة الفلق بعد عندما دبت في معسكر الحسين حركة تشبه دوي النحل... النحل الذي لا يعرف غير العمل. تشابكت أوتاد الخيام في عناق صميمي كأنه يعكس تلاحم القلوب... القلوب التي لا تعرف غير الحب... و انبري رجال يحفرون الخنادق ليملأوها حطبا؛ فاذا اشتعلت المعركة تحول الخندق الي خطوط ملتهبة. شد رجل صحب النبي و شهد معه «احدا» جبينه بعصابة فأضاء مشهد في ذاكرته. كان صوت النبي و هو يخطط للمعركة عند جبل أحد مدويا: - انضحوا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا. انطلق الرماة الي جبل «عينين» و وصايا النبي في آذانهم... احموا لنا ظهورنا... ارشقوهم بالنبل فان الخيل لا تقدم علي النبل... انا لا نزال غالبين ما لبثتم مكانكم. انطفأ المشهد... و بلع الصحابي ريقه بمرارة لأنه تذكر كيف نسي [ صفحه 34] الرماة وصايا النبي فاجتاحت خيول قريش جيش محمد و راحت تفتك به كذئاب في ليلة زمهرير موحشة. راح يحدق بسبط محمد لكأنه ورث عبقرية جده... رجل لا يعرف للهزيمة معني... انه يقتحم الموت اقتحاما، ينهال علي صخرة العطش ليفجر منها ينابيع من سلسبيل. انفلق الفجر و تبين للكائنات الخيط الأبيض من الخيط الأسود. و شيئا فشيئا لاحت من بعيد ذري النخيل تحف الشطآن كعيون حورية شهيدة... و قد نزلت سورة المقاومة. ها هي الذئاب تعوي أسكرتها شهوة القتل، كدوامة راحت القبائل تدور حول قافلة جاء بها القدر. كان علي ينوء بنفسه... بجسده الواهن... و قد أخفقت روحه العظيمة أن تنهض به؛ وفار غضب سماوي في أعماقه و هو ينظر الي والده متقلدا سيف

محمد يقاتل أشباه الرجال انهم لا أيمان لهم. تمتم بغضب: - يا امة السوء بئسما خلفتم محمدا في ذريته. ودمعت عيناه و هو يراقب أباه يستوي علي ناقة. فبدا في عليائه كنبي يعظ قومه و ينذرهم سوء العذاب. راح يصغي الي كلمات الحسين و قد أشرقت شمس أطول يوم في التاريخ. - أيها الناس ان الله تعالي خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال؛ فالمغرور من غرته و الشقي من فتنته، [ صفحه 35] فلا تغرنكم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن اليها و تخيب طمع من طمع فيها و أراكم قد اجتمعتم علي أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم و أعرض بوجهه الكريم عبكم، و أحل بكم نقمته. فنعم الرب ربنا و بئس العبيد أنتم. أقررتم بالطاعة و آمنتم بالرسول محمد ثم انكم زحفتم الي ذريته و عترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم فتبا لكم و لما تريدون. انا لله و انا اليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين. كانت الكلمات تنفذ في قلبه تفجر حزنا و غضبا و دموعا. غامت المرئيات أمام عينيه، و تلاشت زعقات الرجال و صهيل الخيول، و شعر بروحه تحلق بعيدا حتي لم يعد يشعر بكل ما يجري حوله من أهوال. [ صفحه 36]

و سلاحه البكاء (11)

لا يدري كم مضي من الوقت عند أفاق... ولكنه عندما فتح عينيه ألفي ما حوله يدور في دوامة رهيبة و قد تسمرت الشمس في الأفق تتشظي لهيبا و جحيما، و كان أبوه في قلب أصحابه و أهل بيته، و قد هبوا جميعا يكتبون بالدماء واحدة من أعظم الملاحم في تاريخ

الانسان. رمي «ابن سعد» أولي سهام الموت معلنا بداية الحرب و صرخ بغرور: - اشهدوا لي عند الأمير اني أول من رمي. و انطلقت آلاف السهام لكأن السماء تمطر وابلا من نبال. هتف الحسين محطما جدران الزمن: - قوموا الي الموت الذي لابد منه... فان هذه السهام رسل القوم اليكم. حانت لحظة الالتحام. سبعون أو يزيدون يقاومون اعصارا محملا بحقد الشياطين و هي تري الملائكة تسجد للانسان. [ صفحه 37] تبدد غبار الاشتباك، و قد أسفرت المعركة عن خمسين جريحا تناثروا فوق الرمال. و لو قدر لك أن تكون في تلك الساعة فوق قمة «ذو حسم» لرأيت سبط آخر الأنبياء في التاريخ و هو يعيد تنظيم قواته استعدادا لجولة اخري.. و لذهلت لبسالة انسان لا يعرف لليأس سبيلا الي نفسه. قلبه الذي يضاهي الجبل بثباته لا يعرف غير المقاومة. انظر الي الجناح الأيمن في جيش يزيد. لقد بدأ هجوما كاسحا. كان عمرو بن الحجاج يقود ذئابه لحسم المعركة. كان رجال الحسين يقاتلون بعزم حديدي أو أشد بأسا... حتي أجبروا المهاجمين علي التراجع.. و قد سقط «ابن عوسجة» مضمخا بالدماء يتمتم بصلاة هادئة. قال حبيب و كان صديقا له: - عز علي مصرعك يا مسلم! ابشر بالجنة. همس بصوت واهن و قد ارتسمت ابتسامة كشمس تشرق من وراء الغيوم: - بشرك الله بالخير. قال حبيب: - لو لم أعلم اني في الأثر لأحببت أن توصي الي. أجاب مسلم ملقيا وصيته الخالدة للأجيال: - أوصيك بالحسين أن تموت في سبيله. [ صفحه 38] هتف حبيب و قد تفجر في أعماقه غضب سماوي: - أفعل و رب الكعبة. ظهر الشمر كخنزير يقود الجناح الأيسر من جيش يزيد... ها هو يستعد

للغدر و الفتك و قتل أولاد الأنبياء. و استعد رجال الحسين لصد الهجوم، و امتلأ الفضاء غبارا و لهيبا و بدت السيوف في غمرة التراب المتطاير صواعق تحتفل فوق الأرض. صرخ الشمر و هو يمزق خيمة الحسين بالرمح: - علي بالنار لأحرقها علي أهلها. فرت النسوة و الأطفال كطيور هاربة من سفن غرقت في القرار. [ صفحه 39]

و سلاحه البكاء (12)

أشعلت القبائل النار في أطراف الخيام عن اليمين و عن الشمال للاطباق علي معسكر الحسين. هتف السبط بأصحابه: - دعوهم يحرقونها فانهم اذا فعلوا ذلك لم يجوزوا اليكم. حمي الوطيس و قد توسطت الشمس كبد السماء و هي ترسل حممها فوق بقعة من الأرض ملتهبة؛ و الذئاب تعوي منتشبة بثأر قديم. قال «الصائدي» و قد زالت الشمس: - اني لأحب لقاء الله و الصلاة معك. رفع الحسين طرفه الي السماء: - ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين. نعم هذا أول وقتها سلوهم أن يكفوا عنا حتي نصلي. جاء صوت الحصين يقطر نذالة: - انها لا تقبل منكم. [ صفحه 40] هتف حبيب بغضب: - زعمت انها لا تقبل من آل الرسول و تقبل منك يا حمار. و توجه الحسين بأصحابه الي السماء و قد حانت لحظة اللقاء. عندما تصفو النفوس تتحول الي أرواح مجردة تتخلص من اهاب الجسد و تحدث لحظة الانعتاق بين ما هو ملكوتي ينتمي الي السماء و بين ما هو مادي ينتسب الي الأرض. في تلك اللحظات العصيبة و الأجساد تنزف دما لله تفتحت أبواب السماء و هتف الحسين مأخوذا بما يري من عوالم وردية: - يا كرام هذه الجنة قد فتحت أبوابها و اتصلت أنهارها و أينعت ثمارها و هذا رسول

الله و الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم و يتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله و دين نبيه. و تضاءلت الدنيا حتي أصبحت أتفه من جناح ذبابة، و هتف الانسان الذي انتصر الملاك في أعماقه: - نفوسنا لنفسك الفداء و دماؤنا لدمك الوفاء... و الله لا يصل اليك و الي حرمك سوء و فينا عرق يضرب. لقد تحول الحسين الي رمز لكل الفضائل الانسانية فالدفاع عنه دفاع عن انسانية الانسان و قهر الشيطان. كان علي يرقب من خيمته هول ما يجري فوق الرمال. لا أحد يدري كم هي المرات التي كان ينهض فيها ليهوي متهافتا فوق الأرض... يالضعف الجسد الآدمي و يالعذاب الروح التي لا تجد من [ صفحه 41] يحملها ليحقق ارادتها، فلا هي تنعتق لتحلق بعيدا عن ويلات الأرض و لا هي تنهض بهذا الجسد الذي غدا حطاما لا يقدر علي شي ء. ما أصعب تلك اللحظات. السيف المعلق فوق عمود الخيمة ينتظر صاحبه. للمرة الأخيرة نهض حفيد علي، و استند الي عصا و حمل سيفه. بدا له انه يحمل الأرض و من فيها. جرجر نفسه و سيفه الي خارج الخيمة.. كان هدفه أن يلتحق بالحسين بأي ثمن. هتف الحسين باخته و قد وقعت عيناه عليه: - احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل محمد. و وجد علي نفسه مرة اخري في الفراش فشعر ان روحه تكاد تخرج و غامت المرئيات أمام عينيه حتي لم يعد يسمع صوتا أو يشعر بشي ء. [ صفحه 42]

و سلاحه البكاء (13)

الزمان يمر.. يمرق كنهر تتدافع أمواجه.. لا يتوقف لأحد فهو يمضي لغايته... الينابيع تدرك سر النهر لهذا فهي تفور... وحدها المستنقعات و البرك الآسنة لا تعرف سر الفوران؛

لهذا يموت الآدميون... ينطوي ذكرهم و تبقي جراح الأنبياء وحدها تفور... تدرك لغز الزمن. كان نهر الزمن يجري... يتسابق مع الفرات الظامئ و هب علي علي صوت صهيل غاضب يصك سمع الدنيا... لقد هوي الفارس الذي دوخ القبائل و الفرس تدك الأرض بسنابكها تريد أن توقظ في الأرض سر الولادة. اهتزت الأرض... رجفت بأهلها و مادت... لقد قتل هابيل.. دماؤه تلون الأرض... الذعر يغزو القلوب الآدمية. سقط رأس يحيي بين يدي «سالومي». هوي «ابن أبي طالب» في المحراب مضمخا بالدماء. ما يزال غبار المعارك عالقا في الهواء، و بدا الافق مستعرا بحمرة [ صفحه 43] دامية. ألفي عمته تشق طريقها نحو آخر الأسباط في التاريخ. صوتها يشق الفضاء: - ليت السماء أطبقت علي الأرض... و ليت الجبال تدكدكت علي السهل. مثل دوامة ما لها من قرار كانت الذئاب تدور حول رجل من ذرية الأنبياء. السيوف المجنونة تتخطف ابن بنت نبي هو أعظم الأنبياء. كان علي ينوء بروح مثقلة بهموم كالجبال. الأرض تستعيد لحظات قديمة قدم الجبال في الجزيرة. كان «صالح النبي» يعظ قومه و قد تمخض الجبل و ولدت الناقة: - يا قوم هذه ناقة الله لكم آية. كانت ناقة مباركة تدر لبنا سائغا للشاربين. و تساءل الآدميون: - كيف تلد الصخور ناقة بهذا الجمال... بهذا العطاء.. كيف تدر كل هذا اللبن؟! لم تؤمن قبائل صالح.. و القلوب المظلمة لا تلد غير الحقد و الضغينة و المؤامرة... قلوب منحوتة من صخور صماء.. و ان من الحجارة لما تتفجر منها الينابيع. و هكذا تحول الحقد علي «صالح» الي حقد علي «الناقة» و طفلها الصغير. [ صفحه 44] في تلك الليلة العاصفة و الرياح تهب من ناحية الشمال..

و كانت الناقة تحتضن فصيلها الوديع، و الطفل يزداد التصاقا بامه يلتمس الدف ء و المحبة و السلام؛ في تلك الليلة ولدت المؤامرة و جلس «الرهط» يفكرون. كانت كؤوس الخمرة تدور فسول لهم الشيطان أمرا. كما تنسج العنكبوت خيوطها نسج المخمورون مؤامرتهم استلوا خناجرهم و انسلوا في غمرة الظلام. كانت الناقة غافية هي و صغيرها.. كانت الظلمة كثيفة الي حد جعلهم يتعثرون و هم يشقون طريقهم الي حيث ترقد الناقة بسلام. كانوا تسعة أشبه ما يكونون بالذئاب.. الذئاب التي تزداد شراسة و غدرا كلما تكاثف الليل. و نشبت خناجر تسعة في قلبين ينبضان بالدف ء و الحب و العطاء؛ و سالت الدماء حمراء حمراء صبغت الأرض و لونت الصعيد. و استيقظت ثمود و قد حل في الأرض خوف رهيب؛ لم تعد هناك معان لمواعظ الأنبياء؛ لقد حلت اللعنة. كان صالح يتمتم بحزن و هو يري غضب السماء قاب قوسين أو أدني: - تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. و غادر صالح القبيلة الملعونة.. [ صفحه 45] و مضي يوم و أعقبه يوم ثم يوم، ثم انشقت السماء عن صيحة جبارة.. انقضت علي قصور منحوتة في قلب الجبل فجعلتها دكا... و ما هي الا لحظات و قد تحول كل شي ء الي حطام و أنقاض متراكمة بعضها فوق بعض... لم تكن هناك سوي عيون تبحلق برعب و دناءة تحكي قصة الغدر و الخيانة و دسائس الشيطان. الحسين ما يزال ينوء بنفسه... تتدفق جراحه دماء تلون الأرض و تصبغ الصعيد بلون جديد. [ صفحه 46]

و سلاحه البكاء (14)

ما أقسي هذا الزمن المرير، و ما أشد هذه اللحظات هولا، كيف تتحطم الأشياء الجميلة، و تهرب من هذا العالم، ليظهر

الشيطان بقرنيه يعربد و يدمر. ها هو الأبرص يرتقي صدر السبط؛ كغراب اسطوري جاثم. القبائل مأخوذة بما يجري فوق الرمال. كانت أوداج الحسين تشخب دما... تتدفق مثل نافورة أزلية تسقي الأرض تودعها الأسرار. همس الحسين بصوت أضعفته الجراح المتدفقة: - ويلك... لقد ارتقيت مرتقي عظيما.. فمن تكون؟ فتح الجاثم بوزه فبانت أنياب ينز منها صديد: - أنا الشمر الضبابي. - أتعرفني يا شمر؟ - أجل... أعرفك.. فأنت الحسين وجدك رسول الله و امك فاطمة. - فلم تقتلني اذن؟ [ صفحه 47] - اريد بذلك جائزة يزيد. - و شفاعة جدي محمد؟ ألا ترغب في شفاعة رسول الله؟! - شفاعة محمد... ما قيمتها انها لا تساوي لدي دانقا واحدا. و ساد صمت رهيب.. انه السكون الذي يسبق حدوث الكوارث. تمتم الحسين بحزن: - صدق جدي محمد. - تري ماذا قال محمد؟ - قال لأبي: يا علي يقتل الحسين بأرض تدعي كربلاء يقتله رجل أشبه بالكلاب و الخنازير. - محمد يشبهني بالكلاب و الخنازير.. لأذبحنك. انفجر الحقد و راح يعربد في أعماقه ككلاب مسعورة و خنازير. السيف الضبابي يشق طريقه الآثم في شرايين الحسين يقطع الأوردة و العروق.. ندت آهة عظيمة و انطفأت عينان كانتا تضيئان العالم. الدنيا مظلمة... و الكائنات مذعورة. السماء تهطل دما عبيطا... و فرس غاضبة تصهل عاليا تتجه صوب الفرات الظامئ فتغوص في لجة المياه و القرار... و رأس الحسين فوق رمح طويل يدور و يدور و قد زلزلت الأرض زلزالها.. و ارتجفت الكائنات. [ صفحه 48] و في تلك اللحظة بدا كل شي ء مقرفا تافها لا معني له... و تحولت تلك البقعة من الأرض الي مسرح رهيب، تتكاثف فيها مخاوف آدم كلها

و قد حاصرته الشياطين من كل مكان؛ ما يزال يبحث عن كهف يأوي اليه؛ و الشياطين تحمل مشاعل من نار و دخان تريد أن تحرق كل شي ء. القبائل المجنونة تنشب النار في الخيام.. ألسنة الجحيم تلتهم الأعمدة.. و قلوب صغيرة تفر مذعورة هنا و هناك كطيور هاربة من سفن تائهة غرقت في الظلام. الخيول المجنونة تعبر جثة الحسين تستبيح كل ما يصادفها، لم يعد هناك شي ء مقدس. لقد تحطم كل شي ء.. لم يعد هناك شي ء ثابت. كل شي ء يهتز تحت وقع سنابك الخيل و أقدام القبائل و قرون الشياطين. [ صفحه 49]

و سلاحه البكاء (15)

كذئاب مسعورة انشبت أنيابها في الخيام، و قد أيقظ الشيطان شهوة الغزو و النهب في النفوس الآدمية. فر الأطفال علي وجوههم، و قلوبهم تبحث عن رجل كان يحميهم. الأيدي الصغيرة تتشبث بالهواء، و القبائل تطارد نسوة حاسرات، و المخالب البشرية تنتزع أقراطا و أساور. أنشب ذئب مخالبه في قرط لفاطمة و انتزعه بقسوة. سالت الاذن دما. كان الرجل يبكي.. تسيل دموعه.. يعبر عن ذات منفصمة. عن شرخ بين ضميره و ارادته، بين قلب يعرف الحق و أيد ملوثة تريد خنقه. و تعجبت الفتاة المقهورة من دموع التماسيح: - مالك تبكي؟ قال و هو ينتزع القرط الآخر: - كيف لا أبكي و أنا أسلب ابنة محمد. [ صفحه 50] - دعني اذن. صاح السامري المبهور بالذهب: - أخاف أن يأخذه غيري. و اقتحمت الذئاب خيمة فيها علي. جرد الأبرص سيفا ما يزال مضمخا بدماء الحسين، كلمات الأرقط ما تزال تدوي في أعماقه: - لا تدعوا منهم صغيرا و لا كبيرا. انبرت زينب بشجاعة والدها العظيم: - لا يقتل حتي اقتل دونه. هتف ذئب

لم يرتطم بقعر الحضيض بعد: - انما هو صبي مريض. بدا ذو حسم» كناسك حزين أو شيخ أحنت هامته السنون فهو ينظر ساهما الي ما يجري حوله. الفضاء يمتلأ دخانا و ألسنة النار كرؤوس الشياطين تلتهم خياما تعصف بها الريح من كل مكان. و الذئاب تعوي مأخوذة بشهوة النهب. مثل دوامة مالها من قرار، كانت القبائل تدور حول نسوة و أطفال؛ قلوب صغيرة خائفة كحمائم برية وسط ريح شتائية عاتية و دموع كلآلئ انفرطت عن نظمها، تسح من عيون تجمعت فيها غيوم حزينة. يوم للدماء و يوم للدموع حتي تطهر الأرض و يغتسل الانسان. [ صفحه 51] لتتدفق الدموع أنهارا تغسل كل الأدران الآدمية، لتتفجر ينابيع الحزن، ليندم قابيل مدي الحياة.. ليختبئ في الكهوف و المغارات و ليواري سوأته ليطهر يديه من دماء أخيه هابيل. ما يزال هابيل المضمخ بأولي الدماء البشرية يطارده في كل مكان. كمرأة اكتشفت هول جريمتها توا بدت الكوفة في تلك الظهيرة الملتهبة.. نساء و أطفال و نياق و جمال هو كل ما غنمته القبائل من عارها الأبدي. كان منظر علي فوق بعير ضالع و قد غلت يداه الي عنقه و الدماء تشخب من أوداجه يجسد وحشية القبائل المفتونة بالغدر. يا لهذا الأسير الحر انه ينظر الي ما وراء الأيام؛ نظراته تهيمن علي الحشود البشرية المتراصة تريد أن تصغي الي كلمات الانسان عندما يقهر هل يخضع أم يثور. ولكن عليا انتهج طريقا آخر للمقاومة و الصبر. سكنت الأنفاس و هدأت الأجراس، وهيمن صمت مهيب فانسابت كلمات كنبع سماوي: - أيها الناس: من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي، أنا ابن من انتهكت حرمته، و

سلبت نعمته و انتهب ماله، و سبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل و لا ترات، أنا ابن من قتل صبرا و كفي بذلك فخرا. أيها الناس ناشدتكم [ صفحه 52] الله هل تعلمون انكم كتبتم الي أبي و خدعتموه و اعطيتموه من أنفسكم العهود و الميثاق و البيعة؟ كان الصمت ما يزال مهيمنا يضج: نعم.. نعم. و أدرك علي ضجيج الصمت المثقل بالندم: - فتبا لكم لما قدمتم لأنفسكم، و سوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون الي رسول الله اذ يقول لكم: قتلتم عترتي و انتهكتم حرمتي فلستم من امتي. مثلما ينفجر البركان.. مثلما تنهار قشرة الأرض عن كظم الحمم الفائرة، انفجر الحشد المشدوه بالبكاء.. البكاء الذي يحكي قصة التيه و الضياع و اليأس. و انفتحت كوة من أمل: - رحم الله امرءا قبل نصيحتي و حفظ وصيتي في الله و في رسوله و أهل بيته، فان لنا في رسول الله اسوة حسنة. هتفت الحشود البشرية المتراصة، و تدفقت الكلمات كأجساد تتراكض نحو باب الخلاص. - نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك، و لا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله فانا حرب لحربك، و سلم لسلمك، نبرأ ممن ظلمك و ظلمنا. ما تزال الكوفة هي هي لم تتغير بعد. الكلمات المعسولة و الوعود الفارغة، التي تعبر عن ضمير مذعور و ارادة ميتة. [ صفحه 53] التاريخ لا تصنعه الكلمات الجوفاء و الوعود الطنانة.. تصنعه الارادة الفولاذية و القلوب التي لا تعرف غير الحق.. هتف علي بصوت مبحوح من الحزن: - هيهات.. هيهات.. أيها الغدرة المكرة.. حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا الي كما أتيتم

الي أبي من قبل؟ كلا و رب الراقصات، فان الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس و أهل بيته و لم ينس ثكل رسول الله و ثكل أبي و بني أبي، ان وجده والله لبين لهاتي، و مرارته بين حناجري و حلقي، و غصته تجري في فراش صدري. [ صفحه 54]

و سلاحه البكاء (16)

مضي التاريخ يشعل الحوادث هنا و هناك، و رأس الحسين علي رمح طويل يطوف المدن يتحدث بلغة الصمت. جلس الأرقط و كان رجلا لا يعرف جده... ألقي بجسمه فوق سرير مذهب و خيل اليه انه يحكم العالم بأسره.. بين يديه رأس مقطوع، في طست من ذهب. ردد الأرقط في نفسه: - لقد سكت الحسين سكت الي الأبد.. و ها أنا أحكم العراقين. و أردف بنفاق لكي يسمعه الآخرون: - انها ارادة الله.. لأن كل شي ء يمضي بمشيئة الله.. و قد قتل الله الحسين. كان الصمت ما يزال مهيمنا علي المكان. التفت الأرقط الي فتي مكبل بالسلاسل: - ما اسمك؟ - علي بن الحسين. [ صفحه 55] - ألم يقتل الله عليا؟ -.. فح كأفعي: - مالك لا تتكلم؟ - كان لي أخ أكبر مني يدعي عليا و قد قتله الناس. شعر الأرقط بحدة الصفعة فصرخ بغيط: - بل قتله الله. - الله يتوفي الأنفس حين موتها و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله. اتسعت عيناه كحية رقطاء و أشار الي الجلاد. اعترضت زينب بغضب: - حسبك يابن زياد من دمائنا ما سفكت. و هل أبقيت أحدا الا هذا؟ فان أردت قتله فاقتلني معه. سدد الفتي نظرة احتقار: - أما علمت ان القتل لنا عادة و كرامتنا من الله الشهادة. نهض الأرقط و

غادر المكان و لوح بسوطه في الهواء و هتف بغرور: - الي السجن. تراكض الجلاوزة، كانت حركاتهم المرتبكة تنبئ عن ذعر و ذلة لنفوس انطفأت فيها جذوة الرجولة. [ صفحه 56] حشرت النسوة في دار الي جانب المسجد الأعظم حولها الأرقط الي سجن، و اقتيد علي بسلاسله الي الطامورة. فتح شرطي تبدو عليه الفظاظة بابا يفضي الي دهليز صخري تحت الأرض و مضي الحراس يشقون طريقا ملتويا ضيقا تتفرع عنه ممرات. توقفوا عند زنزانة تشبه القبر، أمسك أحدهم بالأسير و حشره بقسوة؛ ثم عادوا أدراجهم، و شيئا فشيئا غاب ضوء المشاعل و خفتت أصداء الخطي و غمر الظلام المكان و لم يعد يسمع سوي صدي أنفاسه. كنبع يتدفق باردا شعر السجين بالسكينة تترقرق في قلبه و تجري في جوانح صدره؛ لا شي ء سوي الله.. الله وحده الحقيقة المطلقة و ما عداه أوهام و خيال. و كل من ينتمي الي الله ستكون من نصيبه الحقيقة. مثل بوصلة في سفينة مبحرة وسط الظلمات كان قلبه يتجه الي الله.. الي الحبيب يهتف باسمه العظيم قائلا: - سبحانك اللهم و حنانيك.. سبحانك اللهم و تعاليت.. سبحانك اللهم و العز ازارك.. سبحانك اللهم و العظمة رداؤك.. سبحانك اللهم و الكبرياء سلطانك.. [ صفحه 57] سبحانك من عظيم ما أعلمك! سبحانك سبحت في الأعلي.. تسمع و تري ما تحت الثري. سبحانك أنت شاهد كل نجوي.. سبحانك موضع كل شكوي.. سبحانك حاضر كل ملأ. سبحانك عظيم الرجاء. سبحانك تري ما في قعر الماء. سبحانك تسمع أنفاس الحيتان في قعور البحار. سبحانك تعلم وزن الأرضين. سبحانك تعلم وزن الشمس و القمر.. سبحانك تعلم وزن الظلمة و النور.. سبحانك تعلم وزن الفي ء و الهواء..

سبحانك تعلم وزن الريح كم هي من مثقال ذرة.. سبحانك قدوس قدوس.. سبحانك عجبا من عرفك كيف لا يخافك.. سبحانك اللهم و بحمدك... سبحان الله العلي العظيم. ما أقوي الروح عندما تحلق في سمائها.. و ما أشد صفاءها و هي تنسل من بين قضبان الجسد.. انها تنتمي الي عالم آخر.. عالم لا يمت الي عناصر التراب بشي ء. [ صفحه 58]

و سلاحه البكاء (17)

ما أكثر الزنزانات في تلك «الطامورة» زنزانات تشبه كهوفا مهجورة.. أو قبورا استيقظ ساكنوها بعد رقاد طويل. كانوا ثلاثة.. تفصلهم عن وجه الأرض أشبار.. قال المختار لصاحبيه و قد امتزج صوته برنين السلاسل: - استعدا للموت.. أشعر بأن يومنا قد دنا. همس عبدالله بن الحارث: أجل ان هذا الطاغية لن يتهيب من قتل الناس جميعا و كيف يهاب أحدا و قد قتل الحسين؟! تمتم المختار بأسي: - الحسين... أيمكن أن يحدث هذا.. أمر فوق التصور.. كيف يجرؤ انسان علي ارتكاب جريمة كهذه؟! قال ميثم و قد كان معتصما بالصمت: - و لم لا..ألم يقتل قابيل هابيل؟ ألم يحاول فرعون البطش بموسي.. و عيسي عندما أرادوا أن يصلبوه فرفعه الله اليه.. و علي.. [ صفحه 59] أنسيتم دمه المراق في المحراب.. كلما اتذكر عليا.. هذا الرجل العظيم.. أزداد احساسا بالحقائق.. و يشتد ايماني بأن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة ما لم يحق الانسان حقا أو يبطل باطلا.. و أردف و كأنه يخترق الجدار الصخري بنظراته: - أبشرا بالنصر. همس ابن الحارث بدهشة: - عن أي نصر تتحدث يا ميثم؟ أفي مثل هذه القيود؟! هز المختار رأسه أسفا: - لقد انتصرنا يوما ما... أما الآن فقد انتهينا و انتهي كل شي ء. أجاب صديق علي و قد تمثلت

أمامه نبوءات سمعها ذات يوم: - كلا يا مختار.. نحن لم ننته و لن ننتهي.. لأننا مع الحق و الحق باق أبد الدهر. و أردف كأنه ينظر الي صفحات المستقبل: - ستخرج يا مختار من السجن و ستنتقم لدماء الحسين و تقتل هذا الذي يريد قتلنا و تطأ بقدميك وجهه. و سادت صمت مهيب لكلمات قالها علي و هو يستشرق آفاق الزمن القادم. مضت لحظات كأنها قرون عندما دوت خطي ثقيلة كانت تقترب شيئا فشيئا و يزداد صداها و هي ترتطم بجدران الصخر حتي [ صفحه 60] باتت كأنها تغرق العالم. أدار الحارس الفظ المفتاح في قفل فانفتح طرف السلسلة و بدا وجهه القاسي في ضوء المشعل كشيطان. شق الحارس طريقه و انتزع سجينا محكوما بالموت بغلظة. هتف المختار و هو يعني ما يقول: - الي أين يا ميثم؟ - أجاب ميثم بهدوء: - الي جذع نخلة ينتظرني منذ عشرين سنة. و أدرك المختار و صاحبه - ان الرجل مصلوب. و في قصر بني علي الظلم.. قال «الأرقط» و هو يصعد النظر بالسجين بازدراء: - أهذا الأعجمي يكون صديقا لعلي. أجاب أحدهم: أجل.. و لقد كان تمارا يبيع التمر في السوق. سأل الأرقط باستخفاف: - أين ربك؟ أجاب السجين: - انه بالمرصاد. - هل أخبرك أبوتراب عن مصيرك؟ [ صفحه 61] - اني لأعرف النخلة التي سأصلب عليها.. - لأكذبنه. - أتكذب وصي محمد؟! صرخ الأرقط بعصبية: - أعيدوه الي السجن: و استدرك و هو يلوح بسوطه: - بل اصلبوه و الحقوه بأصحاب أبي تراب. ابتسم السجين و هو يتطلع الي رجل سيسقط رأسه الفارغ عند أقدام الثائرين. [ صفحه 62]

و سلاحه البكاء (18)

الطريق بين الكوفة و

دمشق مترع بحزن مرير لمن يعرف الصراع بين المدينتين. لاح الفرات من بعيد حية ترقد وسط الصحراء، و قد نهضت علي جانبيها النخيل كرماح مركوزة. أشار الدليل الي بقعة قرب منعطف الفرات و هتف ربما لينبش ذكريات قديمة. - ها هو صفين. بدا السهل المنبسط الممتد علي مدي الشطان مقفرا تماما. لقد اختاره القدر ذات مرة ليكون ميدانا للصراع و مسرحا للاختيار بين علي و معاوية.. بين الروح و الغريزة.. غير ان النفوس التي أخلدت الي الأرض اختارت معاوية، و ظل علي وحيدا مضمخا بالدماء و هو يصلي لله في المحراب. كان الأبرص ينظر برعب الي صفين. ارتجف شاربه الكث.. شعر بأن يزيد يتطلع اليه بغيظ و حقد؛ لأنه كان جنديا يوما ما في جيش [ صفحه 63] علي. تمتم في نفسه: - لقد مضت عشرون سنة.. و هي كافية لتمسح الماضي البعيد و ها أنا أحمل رأس ابن علي هدية الي ابن معاوية. بدا رأس الحسين في ذروة الرمح يتطلع الي الأفق البعيد كأنه ينظر الي آخر الدنيا. أشار الدليل للاستراحة في مكان علي الشاطئ.. ليكون محطة لاستراحة الخيول.. و الأسري.. جحظت عين الأبرص حقدا و نهر الدليل بفظاظة - ألم تجد مكانا غير هذا؟! - أنه مكان كثيف الظلال... و مياه النهر سهلة الورود و الخيل سريعة التعب. صعد الأبرص نظره في الدليل: - لعلك أشفقت علي الأسري؟ أجاب الدليل و هو يتطلع الي الفتي المغلول: - لقد حيرني صمته.. انظر اليه، الي سكينته، الي بريق عينيه. - كفي هراء... أنت لا تكف عن الثرثرة.. مشي الدليل الي الفتي المكبل بالسلاسل. صرخ الأبرص و قد أدرك ما يرمي اليه: - ماذا تفعل أيها الأحمق؟

- أفك عنه الأغلال ليستريح قليلا. [ صفحه 64] - اذن ألهب ظهرك بالسياط. هرعت الخيول الي الشاطئ لترتاد المياه المتدفقة. و بركت النوق في الظلال. كان الدليل يفكر بطريقة لمساعدة الفتي و هو يسير باتجاه الشاطئ. توقف علي عند جذع نخلة و راح يتأمل الأمواج المتدافعة و هي تتألق في ضوء النهار.. تمثلت امامه مشاهد من يوم طويل.. يوم شهد الفرات الزاخر بالمياه ملحمة الظمأ.. و دوت في اذنيه أصداء الأطفال و هم يهتفون: العطش.. العطش. جلس الفتي عند حافة النهر و لا مست المياه قدميه الملتهبتين... تطلع الي نقطة في سماء بعيدة الغور.. و تمتم بكلمات. تساقطت السلاسل من يديه و غاص أحد طرفيها في الماء.. تسمر الدليل في مكانه، و سقط فكه الأسفل دهشة.. و ظل مبهوتا و هو يتطلع بعينين مفتوحتين انبهارا الي المياه و هي تنثال من بين كفيه.. أتم الفتي وضوءه ثم أخذ غرفة ليشرب. أدناها من فمه. و لما هم بالشرب توقف كل شي ء... لكأن شيئا عظيما حال بينه و بين أن يروي كبدا حري.. طوح الفتي بقبضة الماء... ثم أدخل يديه في القيود فعاد مغلولا. هتف الدليل مأخوذا بما يري: [ صفحه 65] - ألست ظامئا يا سيدي؟ أجل. - فلم لا تشرب اذن؟ - تذكرت ظمأ الحسين... و عطش أطفال صغار... و.. تساقطت الدموع من عينيه فولي وجهه شطر نخلة ميساء؛ و انبثق عند جذعها شلال من الصلاة. [ صفحه 66]

و سلاحه البكاء (19)

بدت دمشق ذلك الصباح عجوزا تتصابي لم تترك من دهون الزينة لونا الا طلت وجهها به. تجمهر الدمشقيون عند باب «الساعات». ثلاث مرات أخرجت الحية النحاسية رأسها المثلث اسقطت ثلاث حصاة في الاناء النحاسي،

و كان غراب من نحاس يشير الي الوقت دون اكتراث. و أطلت القافلة أخيرا. كان رأس آخر الاسباط في ذروة رمح طويل يتقدم أعجب موكب في التاريخ. تطلع رجل عجوز الي فتي القافلة الوحيد و هتف ببلاهة المخدوعين: - الحمدلله الذي أهلككم و أمكن أميرالمؤمنين منكم. نظر الفتي اليه و خاطبه باشفاق: - أقرأت القرآن يا شيخ؟ - أجاب العجوز مأخوذا: [ صفحه 67] - أجل. - أوجدت فيه هذه الآية «قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي»؟ - نعم.. ماذا تعني؟ - نحن القربي يا شيخ.. فهل قرأ «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»؟ - نعم قرأتها. - نحن أهل البيت يا شيخ. هتف الشيخ مأخوذا. - بالله عليك أنتم هم؟! - نعم و حق جدنا رسول الله انا لنحن هم. شعر العجوز بالأرض تدور به.. تهتز تحت قدميه. مرت لحظات رهيبة كانت كافية لأن تجتمع في أعماقه آلاف الغيوم الممطرة فانفجرت الدموع من عينيه الكليلتين: - أبرأ الي الله ممن قتلكم. و ما أسرع أن تخطفته الكلاب المسعورة. و تساءلت امرأة دمشقية: - من أي السبايا أنتم؟ تمتمت ابنة للحسين و كان اسمها سكينة: - نحن سبايا آل محمد. [ صفحه 68] و أردفت و هي تتطلع الي رؤوس في ذري الرماح: - هذا رأس أبي و عمومتي و رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. انعقد لسان المرأة دهشة.. و بدا لها ما تسمعه الغاز و طلاسم. كمن يبحث عن ظله في يوم غائم كان «سهل» يحث خطاه الي «باب الساعات». تساءل في نفسه و هو يقلب بصره في مظاهر الزينة التي بدت مفتعلة بعض الشئ:

- أيكون لأهل الشام عيد لا نعرفه؟ و سأل شيخا مرق من أمامه: - هل الناس في عيد يا شيخ؟ تلفت العجوز و قال بصوت هامس: - لعلك غريب؟ - أنا سهل بن سعد الساعدي ممن رأي الرسول و سمع حديثه. دمعت عينا الشيخ و قال بحزن: - ماذا تقول يا صاحب رسول الله؟ الساعة سيأتون برأس الحسين و رؤوس القتلي من أهل بيته. شعر «سهل» بدوي الانهيارات في أعماقه... صرخة تدوي في صدره: يا محمد.. يا رسول الله... بدا سهل مذهولا و هو يتطلع الي موكب لم يخطر في باله أن يراه يوما ما. كان رأس الحسين يتقدم القافلة علي رمح طويل. [ صفحه 69] كما تستيقظ الحمائم في الفجر هبت الذكريات القديمة ملونة جميلة. كان محمد يحتضن حفيده يشبعه قبلا، و الحسين بسنيه الخمس يداعب سوالف جده العظيم و أصابعه الصغيرة تغوص في شعره المتموج تموج الصحاري؛ و انبعثت كلمات تتألق مثل ندي الصباح: حسين مني و أنا من حسين. وجد سهل نفسه يهتف مبهورا كأنه قطع الصحرا: - يا حسين! وضاع صوته بين دوي الطبول و زعقات الأبواق تملأ فضاء المدينة. [ صفحه 70]

و سلاحه البكاء (20)

الطريق الي قصر الخضراء تحفه بيارق ملونة حمراء و صفراء و قد اصطف مسلحون علي جانبي الطريق... و الموكب العجيب يمضي قدما الي قصر أسس بنيانه علي الظلم. و في بوابة القصر توقفت القافلة وجيئ بالحبال فربق بها آل الرسول، وضعوا طرفا منها في رقبة فتي في العشرين ثم في رقبة زينب بنت علي ثم في باقي بنات محمد، و كلما تعثر الأسري في طريقهم انهالت عليهم السياط من كل جانب. كان يزيد جالسا ينظر باستعلاء، و

نشوة الانتصار تطل من عينيه. هيمن صمت رهيب لم يعهده القصر من قبل... صمت الأسري ملأ فضاء القصر بأشياء يحسها المرء في أعماقه. عدل يزيد من جلسته. كان ينتظر كلمات الاستعطاف أو كلمات تذكر بالنصر. أراد الخليفة الجديد أن يجعل من نصره حقيقة فخاطب فتي [ صفحه 71] القافلة الوحيد: - كيف رأيت صنع الله بأبيك الحسين؟ و جاء الجواب صاعقا: - رأيت ما قضاه الله قبل أن يخلق السموات و الأرض. أدرك يزيد ان هذا الفتي فرع من تلك الزيتونة؛ فهمس في آذان مشاوريه. كانت العيون حمراء بلون الدماء تحمل نذر الموت و يطل منها حقد قديم. - اقتله يا أميرالمؤمنين... انه يضم قلب أبيه في جوانح صدره. فهتف الفتي بصلابة الأنبياء: - يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه حين شاورهم في موسي و هارون فانهم قالوا له: أرجه و أخاه... و أردف غير مكترث بالموت الذي يحدق به من كل مكان: - و لا يقتل الأدعياء أبناء الأنبياء. و عاد يزيد مرة اخري يتحدث كخليفة فقال بنفاق: - ما أصابكم ن مصيبة فبما كسبت أيديكم. أجاب الذي عنده علم الكتاب: - ما هذه نزلت فينا؛ انما نزل فينا: ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها ان ذلك علي [ صفحه 72] الله يسير لكي لا تأسوا علي ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم. فنحن لا نأسي علي ما فاتنا و لا نفرح بما آتانا. انتفض يزيد كالملدوغ و قد سقط عنه وقار مصطنع: - مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا.

صر علي أسنانه بحقد و لعن في نفسه ابن زياد ذلك الأحمق لأنه نسي أن يخمد صوت الحسين. أشار يزيد الي رجل باع دينه بدنيا غيره. نهض واعظ السلطان ورقي منبرا مسروقا، و راحت الكلمات المسمومة الملوثة بالصديد تتدفق من فمه يحاول يطفئ الشمس و القمر و النجوم و يجعل من النفايات حدائق بنفسج، ولكن أين الثري من الثريا و أين معاوية من علي. هتف الفتي كبركان غاضب: - لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار. و التفت الي يزيد: - اتأذن لي أن أرقي هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله تعالي رضا و لهؤلاء أجر و ثواب. شعر يزيد بالخوف يحاصر قلبه و هتف مذعورا: - كلا.. كلا. قال«معاوية» و كان فتي لم يبلغ العشرين بعد و في عينيه بريق [ صفحه 73] اكتشاف: - ائذن له يا أبي.. و ما قدر أن يأتي به. همس يزيد محذرا: - ان هؤلاء ورثوا العلم و الفصاحة و زقوا العلم زقا... و لا ينزل من المنبر الا بفضيحة آل أبي سفيان. و علت صيحات من الحضور و قد بهرتهم شخصية الفتي: - ائذن له يا أميرالمؤمنين. سكت يزيد مستسلما... ورقي الأسير المنبر... يتفجر من فوقه نبع من الفصاحة و البلاغة و الحكمة و انسابت الكلمات كنهر هادئ تتدافع أمواجه متألقة في ضوء النهار: - الحمدلله الذي لا بداية له، و الدائم الذي لا نفاد له، و الأول الذي لا أولية له، و الآخر الذي لا آخرية له، و الباقي بعد فناء الخلق، قدر الليالي و الأيام، و قسم فيما بينهم الأقسام، فتبارك الله الملك العلام. أيها الناس أعطينا ستا و فضلنا بسبع أعطينا: العلم و

الحلم و السماحة و الفصاحة و الشجاعة و المحبة في قلوب المؤمنين، و فضلنا: بأن منا النبي و الصديق و الطيار، و أسد الله و أسد رسوله و سبطا هذه الامة. أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي.. انا ابن مكة و مني، أنا ابن زمزم و الصفا. أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا. [ صفحه 74] أنا ابن خير من ائتزر وارتدي و خير من طاف و سعي، و حج و لبي أنا ابن من حمل علي البراق و بلغ به جبريل سدرة المنتهي فكان من ربه قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلي بملائكة السماء، أنا ابن من أوصي اليه الجليل ما أوصي، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر و حنين، و لم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين و وارث النبيين و يعسوب المسلمين و نور المجاهدين و قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين و مفرق الأحزاب، أربطهم جأشا و امضاهم عزيمة.. ذاك أبو السبطين الحسن و الحسين علي بن أبي طالب.. أنا ابن فاطمة الزهراء و سيدة النساء. أنا ابن خديجة الكبري.. من يوقف هذا النبع المتدفق؟ من يخمد هذا البركان المتفجر حمما؟ من يكفن هذه الشمس بأكوام الغيوم؟ و عندما تبكي الغيوم و تسح دموعها الثقال، فانها تذوب لتسطع الشمس.. شمس الحقيقة... و هكذا أراد ذلك الأسير العظيم. كلماته ما تزال تدوي: - أنا ابن المرمل بالدماء، - أنا ابن ذبيح كربلاء، - أنا ابن من بكي عليه الجن في الظلماء، و ناحت الطير في الهواء. كان عرش يزيد يهتز بشدة و قصره يميد... صرخ الخليفة بعصبية أذنوا للصلاة.

[ صفحه 75] حيلة تعلمها من عمرو بن العاص يوم رفعت المصاحف في صفين تفاديا للعاصفة. هتف المؤذن: - الله أكبر. عقب الفتي بخشوع المؤمنين: - الله أكبر و أجل و أعلي و أكرم مما أخاف و أحذر. و انساب الاذان: - اشهد أن لا اله الا الله. تمتم الأسير: - نعم أشهد مع كل شاهد ان لا اله غيره و لا رب سواه. - أشهد ان محمدا رسول الله. التفت ابن محمد مخاطبا يزيد: - هذا الرسول العزيز الكريم جدك أم جدي؟ فان قلت جدك علم الحاضرون و الناس كلهم انك كاذب و ان قلت جدي فلم قتلت أبي ظلما و عدوانا و انتهبت ماله و سبيت نساءه فويل لك يوم القيامة اذا كان جدي خصمك. صرخ يزيد بالمؤذن: - أقم للصلاة. و سرت همهمة و طفحت الأسئلة علي الوجوه، كما تظهر الفقاعات فوق سطح ماء أصابه مس من الغليان. [ صفحه 76]

و سلاحه البكاء (21)

غيوم الخريف تعبر سماء دمشق... تبعثرها الرياح كسفن تائهة؛ و أضحت السماء ميدانا لخيول مجنونة، أو لوحة تتراكم فيها أكوام الغيوم كما تشاء الريح تشكلت بحيرات زرقاء و تلال و خلجان لا حصرلها، و بدت غيمة بيضاء علي شكل حصان ترتاد الشواطئ القطنية، غير أن الريح سرعان ما دفعتها لتذوب في أكوام الرماد، اختفت البحيرات و تراكمت جبال السحب الداكنة بعضها فوق بعض اندثرت الشواطئ الناصعة تحت أكوام الرماد و الرياح الخريفية تبشر بشتاء قارس و صقيع. كان «المنهال» يراقب من بعيد خربة تشبه سجنا قديما أنزل فيها الأسري. جلس يصغي الي أول مناحة لعاشوراء في دمشق... كان اسم الحسين يرتفع يتألق في الفضاء... يتناغم مع نداء الأذان يعانق اسم جده

العظيم محمد. - هو ذا. [ صفحه 77] هتف المنهال و قد لاح من بعيد فتي القافلة الوحيد... وجهه المضيئ كقمر حزين... كأنه يحمل علي كتفيه هموم الدنيا و أحزان العالم كله. هرع اليه لعله يخفف من أحزانه شيئا: - كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ تجمعت الدموع في عينيه كغيوم مشحونة بالمطر: - أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم. سكت هنيهة و أردف: - أمست العرب تفتخر علي العجم بأن محمدا منها، و أمست قريش تفتخر علي سائر العرب بأن محمدا منها، و أمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشردين... فانا لله و انا اليه راجعون. و قال الرجل و هو يحاوره: - أخشي عليك كثرة البكاء. أجاب الفتي و هو يخترق السحب بنظرات متأملة: - انما أشكو بثي و حزني الي الله و أعلم من الله ما لا تعلمون... ان يعقوب كان نبيا فغيب الله عنه واحدا من أولاده و عنده اثنا عشر و هو يعلم انه حي فبكي عليه حتي أبيضت عيناه من الحزن...و اني نظرت الي أبي و اخوتي و عمومتي و صحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني... كلما نظرت الي عماتي و أخواتي تذكرت فرارهن من [ صفحه 78] خيمة الي خيمة. اشتعل المشهد العاشورائي بكل تفاصيله... ياله من يوم عصيب.. النار المجنونة تلتهم كل شي ء الخيام تحترق و الأعمدة تتهاوي حطبا... و قد فر الأطفال.. قلوبهم تدق مثل حمائم مذعورة. و نسوة و فتيات يلذن من خيمة الي خيمة اخري و النار تفتح أفواها شيطانية تريد ابتلاع كل الأشياء الخضراء. فجأة ظهرت امرأة تتجه نحو الستين بخطي واسعة. نادت بصوت بح من البكاء: -

الي أين يا نعم الخلف؟ أسرع الفتي اليها. أدرك المنهال انها زينب... زينب التي وقفت بوجه العاصفة. هل يكون عاشوراء خلاصة لكل تاريخ النبوات في الأرض بكل الجراح، بحجم الصبر، بفورة الدماء.. و تألق حبات الدموع. [ صفحه 79]

و سلاحه البكاء (22)

- الي كربلاء. همس الفتي في اذن الدليل، و قد انفصلت القافلة عن ديار الشام في رحلة العودة الي أرض الحجاز. منذ ذلك التاريخ ستصبح تلك البقعة علي شطآن الفرات مقصدا للقوافل الجديدة و محطة لقوافل اخري. كان علي الدليل أن يسلك طريقا آخر غير طريق التجار و بعيدا أيضا عن طريق البريد، حيث تمرق الخيول سريعة تحمل الأنباء الهامة. و انسابت القافلة مثل ظفيرة من حرير في بطون الأودية متجهة صوب «عين الوردة» أولي محطات الطريق الجديد. بركت النوق في «عين الوردة» ثم في «قرميسيا» و بعدها «الأنبار» ثم يممت وجهها شطر بقعة علي ضفاف الفرات... بقعة ستشهد ميلاد مدينة ما تزال في مخاض الزمن. آن «للرأس» أن يعود بعد رحلة دامت أربعين يوما. [ صفحه 80] آن للرأس الذي طاف المدن فوق ذري الرماح أن يعود بعد أن رتل القرآن ترتيلا. عاد رأس السبط بعد أن أيقظ الانسان في النفوس الآدمية.. و في الأرض البذور. كان الشفق داميا كجراح الأنبياء عندما وصلت القافلة كربلاء. آثار الخيول ما تزال محفورة في الأرض و التاريخ و في ذاكرة الانسان... سهام مغروسة في الرمال... سيوف مهشمة و بقايا رماد. قفزت الحوادث الرهيبة الي الذاكرة... تجسدت في العيون... و تردد صداها في القلوب. هرولت «الرباب» الي كومة رمل صغيرة. ضمت رضيعها الشهيد. احتضنت الرمال الناعمة.. هتفت بقلب كسير: - هلم الي يا صغيري. و تساقطت قطرات من

دمع و من لبن رسمت في الثري نقاطا ندية صغيرة. كان الرضيع غافيا في أحضان الأرض التي لونها بدمه الرائق. و عندما هومت عيناها، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الشهيد.. كان الأطفال يدورون بين القبور كحمائم برية تبحث عن أعشاشها. من بعيد لاح «جابر».. رجل آزر النبي و نصره و جاء اليوم يجدد. [ صفحه 81] العهد مع سبطه. شم جابر رائحة النبي فهوي يقبل قبر الحسين: - يا حسين... يا حسين... أشهد انك قد مضيت علي ما مضي عليه أخوك يحيي بن زكريا. هتف الفتي و قد تجمعت في عينيه الدموع: - يا جابر هاهنا والله قتلت رجالنا... و ذبحت أطفالنا و سبيت نساؤنا و حرقت خيامنا. نهض جابر ينوء بحمل السنين.. أجال بصره الواهن في القبور و هتف كأنه يخاطب التاريخ و الانسان: - السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين و أناخت برحله... أشهد أنكم أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و أمرتم بالمعروف و نهيتم عن المنكر، و جاهدتم الملحدين، و عبدتم الله حتي أتاكم اليقين.. و الذي بعث محمدا بالحق نبيا، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال رجل و قد اتسعت عيناه دهشة: - كيف و لم نهبط واديا و لم نعل جبلا و لم نضرب بسيف؟! و تدفقت كلمات قالها محمد ذات يوم: - سمعت حبيبي رسول الله يقول: من أحب قوما كان معهم و من أحب عمل قوم أشرك في عملهم... و الذي بعث محمدا بالحق نبيا ان نيتي و نية أصحابي علي ما مضي عليه الحسين و أصحابه. كانت الشمس علي وشك المغيب و قد بدت حمراء حمراء كعين [ صفحه 82] تسح دموعا ثقالا. مسح

جابر وجها كان قد تعفر بتراب الحسين.. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة، كان النبي يداعب صبيا في ربيعه الخامس و يقول: حسين مني و أنا من حسين. هتف جابر وسط الصمت و كان الفرات يجري تتدافع أمواجه: - أشهد اني قد سمعت ذلك من حبيبي محمد. غابت الشمس خلف الرمال الممتدة، و نشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض، و انبري رجال يدقون أوتاد خيام صغيرة... فزينب تريد البقاء الي جانب أخيها الحسين. [ صفحه 83]

و سلاحه البكاء (23)

غادر يزيد قصر الخضراء تحوطه كلاب الصيد التي ملأت الفضاء نباحا. ملأ رئتيه من نسمات الصباح الباردة كما لو يريد اطفاء حرقة الخمر التي ما تزال تشتعل في أعماقه، ألقي نظرة استعلاء من فوق حصانه الأسود علي مرافقيه و أدار بصره فيهم متصفحا وجوههم. و في تلك اللحظة مر قطيع هائل من الخيول العربية الأصيلة.. راح يتابع القطيع الممتد في الافق و هو يتجه صوب بلاد الرومان؛ فيما وقف سفير القيصر يشرف علي نقل الأتاوة السنوية المفروضة علي المسلمين الي بلاده. هز يزيد كتفيه دون اكتراث و ألهب ظهر حصانه بالسياط فانطلق موكب الصيد تحفه الكلاب من كل صوب. أمعن يزيد هذه المرة في البادية مقتربا من تخوم العراق حيث تكثر الغزلان. هذه أول رحلة للصيد يقوم بها في خلافته فلتكن لها ابهة الملك [ صفحه 84] و فخامة السلطان العريض، و قد آن له أن يحتفل بنصره الأول. دب المساء كحشرة متلصصة و قد انتهي رجاله من دق أوتاد الخيام. كان يزيد يداعب قرده «قبيس». قرصه من مكان حساس فنز القرد مذعورا، فأطلق يزيد ضحكة ماجنة أودعها شعورا مفرطا بأهميته. ألقي بنفسه

بين الطنافس الحريرية و راح ينظر الي آنية الخمرة المختلفة الألوان و الأشكال. أمسك بعنق ابريق ذهبي صغير و أفرغ ما فيه في جوفه.. شعر بدبيب النمل يتخلل عروق جسده و يداعب رأسه.. احمرت عيناه.. أطلق ضحكة شيطانية جعلت «قبيس» ينظر اليه بخوف. نشر الليل ستائره الكحلية و بدت صفحة السماء تزخر بالنجوم كمصابيح فضية أو لآلئ متناثرة في بحر شديد الظلمات. أخذ الحراس مواقعهم يحرسون خيمة فيها قردة و خنازير؛ كؤوس الخمرة تدور و تدور. و بين الفينة و الاخري يعلو صوت قرد أو ضحكة ماجنة، و الليل ظلمات يتراكم بعضها فوق بعض؛ و النجوم تشتد سطوعا تبشر بفجر قريب. كل شي ء يمضي علي سنة الناموس الا ما يفعله ابن آدم منذ سولت لقابيل نفسه قتل أخيه. [ صفحه 85] استيقظ يزيد بل هب مذعورا. منذ أيام و الكوابيس تلاحقه... فتح عينيه الداميتين و غادر الخيمة مترنحا. كانت الشمس علي وشك أن تشرق بحمرتها القانية، فالشفق مضمخ بلون يشبه الدماء. هتف أحدهم و قد رأي صاحبه يريد اعادة صلاته. - ماذا تفعل؟! - لقد نسيت لعن أبي تراب في القنوت. - أوه.. انها لا تقبل منك. قهقه يزيد و هو ينتبذ مكانا قريبا لقضاء حاجته. أرسلت الشمس أشعتها الخريفية الواهنة، فبدت الفلاة مد البصر شفافة. امتطي يزيد صهوة الحصان و ألقي نظرة افتراس قبل أن يلهب ظهر الجواد بالسوط معلنا بداية الجولة. بدا وجهه المجدور في أشعة الشمس مقيتا كحيوان متنمر. أمعن يزيد في البادية جنوبا و الكلاب خلفه تملأ الفضاء نباحا. و شيئا فشيئا خف صوتها و لم يبق الا صدي سنابك الحصان و هو يطوي المسافات الطويلة. ظهرت شجيرات صغيرة الي جانب ربوة؛

شد زمام الحصان بعنف، و لوي رقبته باتجاهها، راح الحصان يخطر ببطء. ألقي يزيد نظرات مشتعلة تلهب المكان و أرهف أذنيه الي [ صفحه 86] خشخشة الأشواك، فجأة ظهرت ظبية مذعورة و معها صغيرها و قد بدا غير مكترث لما يري. استل يزيد سهما و وضعه في كبد القوس، ضيق احدي عينيه و جعل امتداد النصل فيما بين عيني الظبية؛ ثم عدل عن فكرته. نقل اتجاه النصل الي الصغير و اختار أسفل رقبته الصغيرة، أفلت السهم فانطلق يشق طريقه الثاقب في الهواء الي رقبة الصغير الذي تراخت قدماه الا ماميتان فهوي جانبا فوق الأرض. سدد الصياد سهما آخر صوب الام التي فرت مذعورة خلف الربوة ثم اتخذت طريقها في بطن الوادي ممعنة في الفرار. ألهب الصياد ظهر حصانه مطاردا فريسته خلال الوادي. فجأة كف عن المطاردة و عاد أدراجه الي حيث هوي الصغير يعالج جرحه النازف. كمن الصياد خلف شجيرات الشوك بعد أن ربط حصانه في مكان قرب الربوة و ظل يترقب. كل شي ء كان هادئا ما خلا نسمات رقيقة تداعب الشجيرات الشوكية المتناثرة هنا و هناك. ظهرت الظبية من بعيد تخطو باتجاه الصغير خائفة تترقب؛ حركت أذنيها تمسح المكان و حدت عينيها الحواروين تستكشف الخطر. كان الصغير يدعوها... فراحت تقترب رويدا رويدا... راحت [ صفحه 87] تمسح الجرح برفق. وضع الصياد القاسي سهما في كبد القوس و سدد باتجاه عين حوراء. نبت السهم الغادر في العين فانطفأت و انكفأت الظبية الي الوراء و قد أصابها مس من الجنون يكشف عن حجم الآلام الرهيبة التي تفجرت في رأسها. كان الصياد يراقب منتشيا فريسته التي راحت تدور في الأرض قبل أن تسقط الي جوار صغيرها الذي

ودع الحياة هو الآخر. في المساء تصاعدت رائحة الدخان ممتزجة برائحة الشواء و علت قهقهات رجل ينهش متلذذا اللحم المشوي و يكرع كؤوس الخمر. [ صفحه 88]

و سلاحه البكاء (24)

الصحراء مد البصر بتموجات الرمال و خشخشة الأشواك. و القافلة التي حطت رحلها ثلاثة أيام في كربلاء تنساب في بطون الأودية في طريقها الي المدينة المنورة من أرض الحجاز. قافلة عجيبة أريد لها أن تصحح مسار الانسان... ليس فيها الآن الا نسوة و أطفال و فتي وحيد قد ذرف علي العشرين. انها تشق الطريق صوب وطن فارقته مذعورة و تعود اليه اليوم مقهورة... تترك آثارها في المحطات المتعاقبة و في التاريخ. كان لها موقف في «عذيب الهجانات» و في «الرهيمية»، و في «البيضة» و في «شراف» و في «بطن العقبة» و في «الشقوق» و في «الثعلبية» و في «زرود» و بعدها في «الخزيمية» ثم في «الحاجر» و في «ذات عرق» و في كل المواقف التي مرت بها القافلة يوم رام الحسين تصحيح مسار التاريخ البشري. و لما وصلت القافلة قريبا من «ثنيات الوداع» ألقت برحلها. التفت الفتي الي رجل كان قد التحق بالقافلة في عرض الطريق: [ صفحه 89] - يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر علي شئ منه؟ أجاب ابن حذلم: - بلي يا ابن رسول الله اني لأقول الشعر. - أدخل المدينة اذن وانع أباعبدالله. انطلق الفارس صوب المدينة بشيرا و نذيرا و الي جانب المسجد انطلقت صرخة هزت المدينة و الانسان و التاريخ: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها. قتل الحسين فأدمعي مدرار الجسم منه بكربلاء مضرج و الرأس من فوق القناة يدار ان هي الا صيحة واحدة فاذا هم

من البيوت الي المسجد ينسلون. هتف أحدهم مدهوشا: - ماذا وراءك؟! صاح الفارس كأنه يخاطب العالم بأسره: - هذا علي بن الحسين مع عماته و اخواته قد حلوا بساحتكم و أنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه. طفحت أسئلة متعجبة... خائفة.. قلقة: - و الحسين و الرجال؟! [ صفحه 90] - لقد قتلوا جميعا صرعتهم القبائل و الرماح... و الظمأ.. - أين؟! - علي شطآن الفرات في أرض تدعي كربلاء. خرج أهل يثرب الي عرض الصحراء كأنهم يلبون نداء من وراء ستار الغيب. نهض الفتي ينوء بنفسه تخنقه العبرات و تضبب رؤيته الدموع.. وضع له كرسي خارج الخيمة فتهالك فوقه، يستقبل آلاف الكلمات المعزية. كانت المدينة تبكي، الأرض و الحجارة، و قلب الانسان. آن للمدن أن تغسل اثمها و عارها، آن للأرض أن تطهر ثراها، و آن للانسان أن يقول كلمته. أومأ نجل الحسين الي الناس أن اسكتوا فلما اشرأبت الأعناق قال: - الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم.. مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين. الذي بعد فارتفع في السماوات العلي، و قرب فشهد النجوي. نحمده علي عظائم الامور و فجائع الدهور، و ألم الفجائع و مضاضة اللواذع، و جليل الرزء. ان الله تعالي و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة و ثلمة في الاسلام عظيمة. سكت الفتي هنيهة ليروي روح الملحمة: [ صفحه 91] - قتل أبوعبدالله الحسين و عترته، و سبيت نساؤه وصبيته، و داروا برأسه في البلدان. و أردف معلنا نهاية زمن الفرح و بداية حزن الانسان: - فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله؟! أم أية عين منكم تحبس دمعها و تضن عن انهما لها؟! لقد بكت السماوات الشداد

لقتله و بكت البحار بأمواجها. و الأرض بأرجائها و الأشجار بأغصانها. و الحيتان في لجج البحار و الملائكة و انهمرت الدموع غزيرة كسماء حزينة توشك أن تقول: - و بكاه الانسان. بركت النوق عند مسجد النبي توقظ في الذاكرة يوما بركت فيه «القصواء». هتفت زينب و هي تأخذ بعضادتي المسجد: - يا جداه! اني ناعية اليك أخي الحسين. و صاحت سكينة: - يا جداه اليك المشتكي مما جري علينا.. فوالله ما رأيت أقسي من يزيد و لا رأيت كافرا و مشركا شرا منه و أجفي و لا أغلظ.. كان يقرع ثغر أبي بمخصرته و يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين. تساءل رجل بشماتة: [ صفحه 92] - من الغالب؟ فأجاب فتي الحسين يعلمه سر النصر و معني الانكسار: - اذا دخل وقت الصلاة فأذن و أقم تعرف الغالب. و سكت الرجل الشامت لا يدري ما يقول. [ صفحه 93]

و سلاحه البكاء (25)

عندما ينهار السد يتحول الماء الهادئ الي سيل تفقد الأشياء فيه استقرارها و ثباتها، فالأرض تهتز تحت الأقدام أصابها زلزال و البحر أمواج غاضبة، و السماء مكفهرة مخزونة بالبرق و بالرعود. لم يعد هناك شي ء ثابت، كل الأشياء تهتز بشدة. أصابها مس من الجنون. لم يعد هناك معقول و لا غير معقول، كل شي ء مستباح أمام خيول الغازي يزيد. هتف ابن غسيل الملائكة و قد التف حوله أهل يثرب: - أخشي أن تمطرنا السماء بالحجارة... انه رجل ينكح امهات الأولاد و البنات و الأخوات و يشرب الخمر حتي يدع الصلاة. همس أحدهم متأسفا: - و قتله الحسين سبط محمد و سبي نسائه و عياله من بلد الي بلد. قال ابن حنظلة: - أجل والله لأقاتلن حتي لو

لم يبق معي أحد. كانت السماء تنوء بغيوم شتائية و الرياح تهب من ناحية الشمال؛ [ صفحه 94] و الأرض حبلي بالحوادث، و الأنباء تتري عن جيش قوامه ثلاثون ألف شامي يزحف باتجاه المدينة المنورة يحمل في طواياه الويل و الثبور. الغيوم السوداء تعبر السماء كسفن تعصف بها ريح غاضبة. يثرب تستعد للمواجهة و قد انبري الرجال لحفر الخندق من جديد فالأحزاب قادمون؛ و انطلق رجال من أهل المدينة الي مناهل المياه في طريق الشام يملأونها قطرانا فقد يعرقل ذلك اندفاع القوات الزاحفة. قال أحدهم و هو يفكر في لحظة المواجهة: - و بنو امية في المدينة. انهم خطر يهددنا في كل ساعة، عددهم يربو علي الألف.. فماذا نفعل؟ أجاب آخر: - نجليهم عن ديارنا. - اذن سوف يدلون العدو علي نقاط الضعف في المدينة. - نأخذ عليهم العهد و الميثاق. - و متي كان هؤلاء يعرفون للعهد حرمة و للمواثيق اجلالا؟ - ليس أمامنا الا أن نقتلهم أو الجلاء. - الجلاء أفضل اذن. وصلت الجيوش «وادي القري» و كانت السماء تبكي بصمت. قال قائد الجيش و كان مسرفا لابن عثمان: [ صفحه 95] - ماذا وراءك و أشر علي. - لا أستطيع، قد أخذ علنيا العهد و الميثاق أن لا ندل علي عورة أو نظاهر الغزاة. شعر المري بالحقد يعصر قلبه: - لولا انك ابن عثمان لضربت عنقك... اخرج. و التفت الي ابن مروان و قال بجفاء: - هات ما عندك. أجاب ابن مروان و قد تحفز في أعماقه «الاسخريوطي» - نعم أنا أدلك.. و أردف و هو يشرح له خطة الغزو: - انطلق بالجيش الي «ذي نخلة» لتكون في مكان تحشد فيه جنودك فاذا طلع الفجر

اجعل المدينة علي يسارك ثم در بها حتي تصل «الحرة» في جهة الشرق، ثم ازحف عليهم مع شروق الشمس. نظر المري الي ابن مروان متفحصا و عيناه الكليلتان تسألانه عن جدوي ذلك. قال حفيد الزرقاء مستأنفا: - فاذا أشرقت الشمس فستكون في خلف جيشك و في عيون المدينة و ستؤذيهم فلا تجعلهم يرون سوي بريق السيوف و الرماح تبهر عيونهم و تلقي الوهن في قلوبهم. صفق قائد الجيش متحمسا: [ صفحه 96] - لله أبوك أي امرئ ولد! أشرقت الشمس ذلك اليوم حمراء حمراء كعين حمئة، و قد انقشعت السحب فاذا السماء زرقة صافية كبحر فيروزي اللون. نهضت ثلة من المهاجرين و ثلة من الأنصار، ولكن أني لهؤلاء الوقوف بوجه الطوفان القادم من دمشق. و اشتعلت المعارك و بدت السيوف وسط الغبار. بروق تتقاتل في الأرض، و أضحت «الحرة» معراجا للأرواح التي اختارت الحرية، و كانت أسراب الجراد تفتك في حقل ملئ بسنابل خضر. و قبل الغروب انهار السد البشري و ردم الخندق فاذا مدينة محمد في مهب اعصار فيه نار. [ صفحه 97]

و سلاحه البكاء (26)

أكثر من عشرة آلاف فارس و أكثر من خمسة عشر ألف من المشاة يتدفقون صوب المدينة بعد أن أعلن قائد الغزو: - انها مباحة لكم ثلاثة أيام. برقت في العيون الجائعة آلاف الرغبات و تأججت في النفوس الدنيئة حمي الشهوات؛ يا ليالي السلب و النهب و الرغبات المجنونة في أحضان العذاري، قطعان الذئاب تتدفق صوب يثرب كطوفان مدمر. السيوف الشامية تحصد آلاف الرؤوس؛ كل شي ء مستباح؛ الدماء تلون صعيد الأرض الطيبة، و استغاثات مقهورة ترتفع من حنايا البيوت و المساجد. - يا محمداه... يا نبي الله.. الخيول المجنونة تدور في الأزقة

و السكك بحثا عن الذهب و الفضة و عذاري المدينة. هناك في أعماق النفس البشرية خنزير قابع مغلول بالسلاسل؛ [ صفحه 98] ولكن الشيطان قد يتسلل في غفلة الانسان فيحطم تلك القيود و عندها يقفز الخنزير يعربد و يدمر و ينتهي الانسان.. ربما يقتله الخنزير أو يصرعه أو يوثقه الاكتاف. و هكذا كان.. يوم هوي الحسين فوق الثري و نام، وثب الخنزير المصفد بالسلاسل و الأغلال، وثب مجنونا وراح يرقص رقصة الحرب و الغزو تتأجج في عينيه الشهوات و تبرق في رؤاه الاسلاب، ها هي الخيول الغازية تعبر جثة الحسين و تنطلق لاستباحة العالم.. لم تبق هناك من حرمات فالكل مستباح. كانت صبية تركض.. مبهورة الأنفاس يطاردها ذئب.. تعثرت.. وقعت علي الأرض.. نهضت رغم جراحها هرولت كظبية يطاردها صياد دني ء.. اشتعلت في أعماق الذئب حمي الشهوات. برقت عيناه كأفعي.. طاردها عبر بوابة مسجد النبي لم يطرف له جفن... لاذت الصبية وراء قبر الرجل السماوي.. لاحقها و هو يلهث... لجأت الي المحراب... ولكن الذئب لم يعد يري شيئا، جذبها من ظفيرتها.. افترشها.. انتزع منها أعظم كنز تملكه العذاري... و لم ينس و هو يقوم عنها أن ينتزع أساور من ذهب و فضة.. لم تعد ذات قيمة في نظر الفتاة، فتركته يفعل ما يشاء. جثم صمت مخيف فوق المدينة الحزينة و قد غادر الجنود الي [ صفحه 99] معسكرهم يحملون الأسلاب. كان يسير يهز الأرض بقدميه الغليظتين يكاد يحرق بنظراته المشتعلة الأبواب و الكوي و جدران البيوت الطينية. سمع و هو ينعطف باتجاه الشمال بكاء طفل رضيع. تسمر.. نهض الخنزير علي قوائمه الأبع.. رفس الباب. وجد اما صغيرة.. كانت جالسة وسط الحجرة و قد تبعثرت حولها الأشياء...

المنظر ينم عن مرور الجنود منذ ساعة. صرخ الجندي الغليظ: - هات ما عندك. قالت الام الصغيرة: - ما تركوا لي شيئا... سلبوني كل شي ء. اشتعل الحقد في أعماقه.. و تأججت شهوته و هو يكاد يلتهم ثديها بنظراته.. جذب الرضيع بقسوة و لطشه بالجدار... كانت الام الصغيرة كالعصفور بين يديه... لم يجد معها ذهبا و لا فضة فأخذ منها شيئا آخر و غادر البيت.. و في هذه المرة كان الطفل ساكتا و امه تبكي... تبكي كل الأشياء.. كل الأشياء العزيزة التي فقدتها في لحظة من ليل الذئاب. الرؤوس تتساقط كنجوم منطفئة؛ كان قائد الغزاة يتوعد و يهدد و يشتم بعد أن أمر بالقاء القبض علي «علي بن الحسين» ذلك الفتي الذي أنجاه الله من قبل. [ صفحه 100] و جاءوا بالفتي الذي يحمل في وجهه سيماء النبوات. الصلاة تنساب علي شفتيه.. كان يتمتم بخشوع: - اللهم رب السموات السبع و ما أظللن، و الأرضين السبع و ما أقللن.. رب العرش العظيم.. رب محمد و آله الطاهرين.. أعوذ بك من شره و أدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره و تكفيني شره. الذين حضروا اللقاء كانوا يدركون انها النهاية و لسوف ينقطع نسل الحسين الي الأبد... ولكن ماذا حدث لكي ينقلب الموقف. فاذا الذي كان يتوعد و يهدد، و الرؤوس تتساقط بين يديه دون أن يطرف له جفن، ينهض باجلال للفتي القادم بل يقوده بنفسه ليجلسه علي سريره.. و فغر الذين حضروا اللقاء أفواههم دهشة و قد سمعوا الرجل الذي لا يعرف حرمة للدماء الآدمية يقول للفتي: - سلني حاجتك يا أبامحمد. قال الفتي بحزن: - أسألك أن تكف السيف عن قتل الناس. أطرق القائد

موافقا. قال المري متوددا: - لعل أهلك فزعوا. أجاب ابن الحسين: - أي والله. [ صفحه 101] هتف قائد الجيش: - أسرجوا له دابته.. و أردف مخاطبا الفتي: - لو كان عندنا شي ء لوهبناك. قال الفتي و هو يستوي فوق دابته. - ما أعذرني للأمير. و انطلق الفتي.. بعد أن أوقف مسلسل القتل و طاحونة الموت فتنفس الناس الصعداء. [ صفحه 102]

و سلاحه البكاء (27)

كمن يجمع الثمار المتساقطة من شجرة تعصف بها الريح من كل مكان، كان «ابن الزبير» يراقب ما حوله و يجمع حوله الغاضبين علي «يزيد» بينما شجرة الاسلام تهتز من الجذور. كان «المختار» قد وصل حديثا بعد ما أطلق سراحه في الكوفة؛ رجل دفعته الأقدار لمساندة «ابن الزبير» لا لشي ء سوي الثورة علي الظلم و الانتقام من قتلة أولاد الأنبياء. بدا ابن الزبير سعيدا بتحالفه مع المختار، هتف ابن الزبير بحليفه الجديد: - هيا بنا الي طريق القوافل... لقد بعثت من يأتيني بالأخبار. قال المختار و هو يحدق في الأفق البعيد حيث تلتقي السماء بالأرض: - أري فارسا قادما من بعيد. - أجل انه هو. مرت لحظات يحسبها المنتظرون ساعات طويلة كان صدي [ صفحه 103] سنابك الحصان يرتفع شيئا فشيئا و الغبرة تقترب رويدا حتي اذا أصبح علي خطوات كبح الفارس جماح حصانه و هتف مبهور الأنفاس: - دخل الجيش المدينة و استباحها ثلاثة أيام و قتل أكثر من عشرة آلاف من أهلها.. و عرض النسوة للبيع في الأسواق. عض المختار علي نواجذه غضبا: - اللعنة علي المري.. لم أر أكثر منه جرأة علي الدماء. قال الفارس: - انتقم الله منه... مات بعد مغادرة المدينة و عين علي الجيش «الحصين بن نمير» و أوصاه بالفتك بأهل مكة.

تمتم «ابن الزبير»: - الحصين لا يحتاج الي من يوصيه، انه لا يقل قسوة عن أسياده. التفت المختار الي صاحبه: - ماذا تنوي أن تفعل؟ - نعتصم بالحرم فربما تردعهم حرمة الكعبة. - ولكن هؤلاء لا يقيمون للكعبة وزنا!! - سوف نري.. كما انه ليس بمقدورنا أن نفعل شيئا آخر. و تمر الأيام ثقيلة مريرة، و ليالي مكة تموج بالقلق و الهم و الترقب، و السماء تنوء بسحب سوداء كتلال من الدخان. وصلت الجيوش الغازية، و أخذت مواقعها فوق رؤوس التلال [ صفحه 104] المشرفة و علي سفوح الجبال. الجنود ينقلون المنجنيقات لتأخذ مواقعها في القمم استعدادا لقصف المدينة التي بدت ذلك الصباح القاتم مقفرة تماما. كان «الحصين بن نمير» قائد الغزو يتطلع الي مكة و قد بدت الكعبة في فنائها كشيخ يتعبد وحيدا. نظر الي المنجنيقات الهائلة والي كتل الحجارة المنقوعة بزيت النار.. كل شي ء ينتظر اللحظة الفاصلة. لوح ابن نمير بسوطه في الهواء معلنا بداية المعركة و هتف بحماس: - اقصفوهم بالمجانيق. و انهمرت كتل نارية علي بيوت المدينة و كان خط النار يقترب شيئا فشيئا من أول بيت وضع للناس... بيت بناه ابراهيم و اسماعيل. كانت خطة الاحتلال تقضي بدك المدينة بالمجانيق ثم اقتحامها بسلاح الفرسان تساندهم قوات المشاة. كانت حدة القصف تتصاعد و عينا القائد تشتعلان حقدا. حاول ابن الزبير بث الخلاف في صفوف الغزاة. فأصدر أمرا بالاعتصام بالحرم. كانت كتل النار تهوي في واد غير ذي زرع؛ زعق ابن نمير و هو يري فتور القصف: - اقصفوهم بشدة. هتف جندي: [ صفحه 105] - انهم يعتصمون بالكعبة؟! - اقصفوا الكعبة اذن... أيها الأحمق. و أردف مبررا: - نحن ننفذ أمر الخليفة.. هل تفهم؟ كانت

كتل النار تنفجر في باحة الحرم.. تتشظي.. و شبت النار في جدران الكعبة، و كانت السماء تشهد اصطكاك الغيوم فاشتعلت البروق و ضربت الصواعق منجنيقا فأحرقته مع جنود كانوا حوله. أراد ابن نمير حسم الموقف بدفع فرسانه و أعقبهم بالمشاة. دارت معارك ضارية في الحرم، و قد شوهد المختار يقاتل ببسالة و هو يهتف في جنوده: - دافعوا عن بيت الله. و في ذري التلال كان ابن نمير يتلقي نبأ وصله توا من دمشق: - لدي نبأ هام أيها القائد. - تكلم!! لقد توفي الخليفة. بلع القائد ريقه و حشرج بصوت مكتوم: - ماذا تقول؟!.. اكتم الخبر ما استطعت. غير ان خبرا كهذا لا يمكن اخفاؤه.. لكأن روح الشيطان تتراجع منذ اللحظة التي ذهب فيها يزيد الي مصيره المجهول في رحلة صيد. [ صفحه 106]

و سلاحه البكاء (28)

ما أسهل علي المرء أن يهدم و يدمر، و ما أيسر أن يجتث شجرة معمرة من جذورها، ولكن ما أشق البناء، انه يحتاج الي فكر و تأمل و تدبر فالبناء تحكمه قوانين وزراعة الأشجار تحتاج الي صبر. البناء بصيرة و فكر و تأمل، و العدم قوة عمياء تتخبط كيف تشاء. انها محنة البناة في زمن التداعيات.. في زمن الانهيارات التي لا يوقفها شي ء. لقد اختفت الروح التي كانت تحرك التاريخ و تصنع الانسان و استيقظت الغرائز لا.. بل انطلقت مجنونة في زمن انطفأت فيه الشمس، فاذا ليل الجزيرة ينوء بظلمات بعضها فوق بعض. و بين الفينة و الاخري تتألق حلقات من ضوء تستمد جذوتها من روح مشتعلة في كربلاء. هناك و علي شاطئ الفرات جرح يفور يتحدث بلغة عجيبة. تبث الأرض أسرارها، و النفوس المقهورة تحلم بحياة أفضل. التاريخ يشعل الحوادث

هنا و هناك. [ صفحه 107] فر الأرقط الي الشام تاركا العراقين خلف ظهره؛ تطارده روح الحسين. الثمار تتساقط في قبضة «ابن الزبير» خليفة الحجاز و العراق و مصر و أجزاء من الشام؛ و قد شبت النار في داخل البيت الاموي، و ابن الزرقاء يستولي علي دمشق عاصمة الشام و يسترد مصر، ثم يموت مخنوقا في فراشه، خنقته ام خالد التي تزوجها بعد هلاك يزيد!! كان عبدالملك جالسا يقرأ القرآن عندما بشر بموت أبيه و الخلافة... مرت لحظات صمت ثم أطبق المصحف و تمتم مخاطبا كتاب السماء: - هذا فراق بيني و بينك. و كشر الخليفة الجديد عن أنياب حادة و بدأ حربه من أجل استعادة الملك... فكان الأرقط قائده الأول في حملة لاستعادة الأرض العراقية، و تحرك جيش قوامه ثمانون ألف. و في الكوفة استيقظ الآلاف من خدر قديم و أعلنوا توبتهم من اثم ارتكبوه قبل سنين. و كان «سليمان بن صرد» رجل خزاعة زعيما للتوابين، و اشتعلت الثورة في النفوس و التهبت الضمائر و تحرك أكثر من أربعة آلاف انتحاري صوب كربلاء كعبة الأحرار في العالم؛ لتشهد تلك البقعة من دنيا الله أعظم مناحة في التاريخ، فالثورة دماء و دموع، سيوف و ضمائر ملتهبة، أفكار و نفوس تتأجج بغضب سماوي. و هكذا ولد الحسين من جديد سيفا.. قرآنا.. صهيلا مخزونا [ صفحه 108] من لحظة عاشوراء. المعارك تشتعل في كل مكان و قد غادرت السيوف أغمادها ولكن هناك معركة في ميدان عميق... معركة في داخل النفس البشرية لم يحسم الصراع فيها بعد. منذ هزيمة الروح في شاطئ الفرات بصفين.. منذ ذلك التاريخ و الضمير المثقل بالخدر يعاني حمي الانتفاض، و لقد انبعثت نافورة الدماء بكربلاء

لتطهر النفوس و تبعث الحياة في الرماد. في لحظة تشبه يوم القيامة في لحظات المعاد. و هكذا أراد الحسين... رسم بدمه ملحمة الموت من أجل الحياة، و الفارس الذي حطم جدار الزمن ما يزال يقاتل. أصداء صهيل في عاشوراء تدوي في النفوس.. تنتزع من قلب الشتاء الربيع، و من رحم الموت الحياة؛ و من أجل هذا كان علي لا يفتأ يبكي أباه. الدموع ينبوع يغسل القلوب... يطهر الضمائر من كل أدران الحياة... و عندها ينبعث الحسين. [ صفحه 109]

و سلاحه البكاء (29)

غادر «المختار» الحجاز عائدا الي الكوفة يحمل في أعماقه غضب الثورة. و في الكوفة اجتمع «الأشراف» الي الأمير «عبدالله بن مطيع» حاكم الكوفة من قبل «ابن الزبير». تمتم عمر بن سعد محذرا: - أيها الأمير! ان المختار أشد خطرا من «سليمان بن صرد». ان سليمان قد خرج من الكوفة لقتال أهل الشام أما المختار فانه يستعد للوثوب في الكوفة. و همس «شبث بن ربعي»: - أري أن تودعه السجن أيها الأمير... و أردف و هو يحك ذقنه: - من الأفضل أن نتغدي به قبل أن يتعشي بنا. أجاب الأمير و كان يتهيب اعتقال المختار: - لا تخشوا شيئا.. فرجالي يراقبون كل شي ء. [ صفحه 110] تساءل شبث: - حتي تردد «ابن الأشتر» علي منزل المختار؟!! صوب الأمير نظرات متسائلة: - ماذا تعني؟ - أيها الأمير.. أري أشباحا تتسلل في الظلام.. و أري رجالا يشترون السلاح في ضوء النهار. - و هل في هذا ما يخشي.. ثم ان المختار كان يحارب الي جانب «ابن الزبير» في مكة.. - كل هذا صحيح ولكن المختار يضمر الانتقام ممن شارك في قتل الحسين. تثاءب الأمير و تململ في جلسته. لقد مر شطر

طويل من الليل.. نهض متثاقلا و سأل: - ألا تنصرفون الي بيوتكم؟! تبادل الجلوس نظرات قلقة. قال ابن سعد بلهجة فيها استعطاف: - ان أذن لنا الأمير أمضينا الليلة في القصر. و استدرك: - و الليالي المقبلة أيضا. همس شبث بقلق: - النوم لا يزورني في البيت... و كيف يغمض لي جفن و أنا أسمع [ صفحه 111] خطي تجوس في الظلام. ألقي الأمير نظرة استخفاف و غادر المكان. خيم صمت ثقيل. قال «الأبرص» الذي ظل ساكتا كل ذلك الوقت: - هل سمعتما أخبارا جديدة؟ - جاء رسول من المدينة يحمل كتابا من «محمد ابن الحنفية» الي المختار. - ماذا كان فحواه يا تري؟! - مهما كان فان المطلوب هو رؤوسنا. نظر ابن سعد حواليه بحذر و قال بصوت خافت: - لا تنسوا ان «ابن زياد» قادم علي رأس ثمانين ألفا من جنود الشام. - و هل تعتقد انه سيغفر لنا بيعتنا «لابن الزبير»؟ - انه يعرف - رأينا جيدا و لن يجد أفضل منا أعوانا له. نهض الثلاثة و أخذوا طريقهم الي سلالم تؤدي الي سطح القصر... كانت السماء مرصعة بالنجوم و نسمات باردة تهب برفق.. و صمت ثقيل يغمر الكوفة ما خلا سنابك خيل الدوريات و هي تجوب أزقة المدينة الغارقة في الظلام. [ صفحه 112]

و سلاحه البكاء (30)

مثلما تشب النار في أكوام التبن، اشتعل حريق الثورة في الكوفة مدينة من رماد في طواياها جذوة نار أوقدها رجل هوي علي شاطئ الفرات ككوكب دري. دوت شعارات الثورة في ليلة خريفية عاصفة... و استيقظ النائمون علي صيحات الثائرين: يا لثارات الحسين. و فرت الرؤوس المطلوبة، و تساقط بعضها كما تتساقط الثمار الفاسدة. سقط رأس ابن سعد، فيما فر شبث

الي البصرة الي أحضان ابن الزبير، و فر أثره الأبرص لا يلوي علي شي ء. و انطلقت خيول عربية تبحث عن الذين كفروا انهم لا ايمان لهم. أحاطت الخيول بخيمة في «الكلتانية» و خرج الأبرص مرعوبا بيده رمح. حانت لحظة القصاص؛ و سقطت ثمرة فاسدة، و عادت الخيول تزف البشري الي القلوب المقهورة. [ صفحه 113] طارت الأنباء الي المدن القريبة و البعيدة كفراشات ملونة تبشر بالربيع. كان «قصر الامارة» الذي شهد آلاف الجرائم قد حولته الثورة الي محكمة كبري للاقتصاص من المجرمين. دخل المنهال الذي عاد توا من رحلة الحج قصر الامارة يبلغه تحيات أهل بيت مقهور. كان الجنود يجرون رجلا تكاد حدقتاه تفران رعبا. نظر المختار اليه بغضب: - أنت حرملة بن كاهل؟ - أجل. قال بلهجة ساخرة: - اذن حدثنا عن شجاعتك يوم «الطف». أطرق الرجل الفأر رأسه: - كان الحسين يحمل طفله الرضيع و يطلب من الجيش قطرة ماء.. فلقد جف لبن امه من العطش و الظمأ و الحصار. - و هل سقيتموه. - كلا. - ألم يكن معكم ماء؟ - كان الفرات يموج بالمياه. - ماذا فعلت يا رجس؟ [ صفحه 114] - من بعيد بدت رقبة صغيرة تتألق في الضوء، كانت ناصعة كالقطن. وضعت سهما في كبد القوس. كان السهم حادا نفاذا ذبح الطفل من الوريد الي الوريد.. و هكذا أراد ابن سعد. - ماذا صنع الحسين في تلك اللحظة؟ - نظر الي الطفل ثم ملأكفه من الدماء المتدفقة و رمي بها نحو السماء.. و هتف بصوت سمعه الكثيرون.. - ماذا قال يا وغد؟ - كان ينظر الي السماء و كأنه يخاطب ملكا عظيما. هتف عاليا: اللهم لا يكون أهون عليك من

فصيل ناقة صالح. دمعت كل العيون. كان «المنهال» يبكي بصمت و قد اشتعل غضب مقدس في الأعماق.. حتي نسي كل ما يدور حوله.. انتبه الي نفسه علي صوت غاضب: - الحديد و النار.. اقطعوا يديه و رجليه و القوه في النار. كذلك جزاء المجرمين. فغر المنهال فمه دهشة و هو ينظر الي ما يجري حوله فهتف: - سبحان الله.. سبحان الله. التفت المختار: - التسبيح حسن ولكن لم سبحت؟ - لما ذهبت الي المدينة بعد الحج مررت بمنزل علي بن الحسين.. [ صفحه 115] كانت الدموع تملأ عينيه فسألني: ما فعل حرملة بن كاهل؟ قلت له يا سيدي تركته بالكوفة حيا. فرفع يديه الي السماء و تضرع بصوت شجي قائلا: اللهم أذقه حر الحديد اللهم أذقه حر النار.. و ها أنا أمامي كيف تجاب دعوة عبد صالح.. هتف المختار مأخوذا: - الله.. الله أسمعت علي بن الحسين يقول هذا؟! - الله... الله لقد سمعته يقول هذا.. و الله ان كلماته ما تزال تتردد في اذني. و هوي المختار ساجدا لله.. قال المنهال متوددا: - ألا تتغدي عندي اليوم أيها الأمير. تمتم و قد غمرت وجهه مسحة شفافة من النور: - هذا يوم صوم شكر لله. [ صفحه 116]

و سلاحه البكاء (31)

كما تشير البوصلة الي قطب الشمال. كان هناك شي ء ما يتجه من بعيد يشير الي بقعة علي شطآن الفرات... الي منائر تنبعث من أعماق المياه.. شي ء يشبه الروح تفصح عنه الحوادث كما تفصح الأرض عن سر البذار. مضي التاريخ يشعل الحوادث هنا و هناك. الخيول تهز الأرض و تثير الغبار.. تغير علي المدن، في العراقين و في الحجاز. فقد الانسان العربي طمأنينته.. و رحل زمن السلام،

و هاجرت الروح بعيدا. و عندما تغيب الروح، تنطفئ الجذوة المشتعلة التي تضبئ للانسان طريقه في الحياة. بدت الكعبة ذلك العام كسفينة وسط أمواج بشرية متدافعة. تمتم «زين العابدين» بحزن: - ما أكثر الضجيج و أقل الحجيج.. وقف سعيد بن المسيب وسط حشود القراء ينتظرون رجلا [ صفحه 117] يدعوه الناس بألقاب؛ فاذا قيل «ذو الثفنات» أو «سيد العابدين» أو «زين العابدين» أو «السجاد» أو «الزكي» أو «الأمين» فان الأذهان تنصرف الي شاب في الثلاثين من عمره.. عليه سيماء النبوات و قد رسم الحزن لوحة في عينيه تموج فيها غيوم مخزونة بالمطر. - ها هو قادم. هتف أحد القراء و قد أشار الي جهة تفضي منها قوافل الحجيج. ورنت الأبصار الي نبع الطمأنينة في دنيا كل ما فيها يدور بعنف. تهفو له القلوب الحائرة و هي تبحث عن طريق السماء بعدما تشابهت عليهم السبل. انطلق الركب باتجاه الشمال الي حيث هاجر محمد من قبل؛ سفن الصحراء تطوي المسافات الزاخرة بالرمال. مالت الشمس نحو المغيب، و ألقت السفن مراسيها ليلتقط المسافرون أنفاسهم. ثمة شجيرات تحيط بغدير ماء؛ و مضارب لخيام بعيدة، و نسوة يحملن جرار الماء و يتجهن صوب الخيام. غابت الشمس وراء كثبان الرمال؛ و بدت ذري التلال متقدة بضوء يفور حمرة. شمر «زين العابدين» عن مرفقيه و راحت مياه الوضوء تنثال علي وجه مضيئ فتتساقط حباتها محدثة نغما هادئا. اتجه حفيد النبي بكليته الي البيت المعمور و كبر للصلاة. بدا [ صفحه 118] كتمثال منحوت بخشوع ما خلا نسمات كانت تحرك ثيابه البيضاء برفق. خيم صمت مهيب لكأن روح الانسان و هي تتصل بسبب الي السماء تهيمن علي كل ما حولها و من حولها

من شجر و حجر و آدميين. هوي الكائن الأبيض ساجدا للحقيقة الوحيدة؛ كحمامة تبشر بالسلام. انبعثت كلمات أخاذة لكأنها نهر يتدفق من جنات الفردوس، تنساب هادئة معبرة تمسح علي القلوب فتهبها السكينة و علي الرمال فتغمرها خشوعا و جلالا. النبع المتدفق يسحر الكائنات بتسبيح الانسان: سبحانك اللهم و حنانيك سبحانك اللهم و تعاليت سبحانك اللهم و العز ازارك سبحانك اللهم و العظمة رداؤك سبحانك اللهم و الكبرياء سلطانك سبحانك من عظيم ما أعظمك سبحانك سبحت في الأعلي... تسمع و تري ما تحت الثري. سبحانك أنت شاهد كل نجوي سبحانك موضع كل شكوي سبحانك حاضر كل ملأ [ صفحه 119] سبحانك عظيم الرجاء سبحانك تري ما في قعر الماء سبحانك تسمع أنفاس الحيتان في قعور البحار سبحانك تعلم وزن السموات سبحانك تعلم وزن الأرضين سبحانك تعلم وزن الشمس و القمر سبحانك تعلم وزن الظلمة و النور سبحانك تعلم وزن الفي ء و الهواء سبحانك تعلم وزن الريح كم هي من مثقال ذرة سبحانك قدوس قدوس قدوس سبحانك عجبا من عرفك كيف لا يخافك سبحانك اللهم و بحمدك سبحان الله العلي العظيم أمر عجيب! ماذا حدث؟ ما هذا الدوي الذي تردده الكائنات لكأن صوت الانسان قد فجر في مكنوناتها الأسرار كما تنفجر من الصخر ينابيع الحياة في لحظة تماس مع الغيب. الأشواك و ذرات الرمال و الشجيرات المتناثرة هنا و هناك تردد بصوت يشبه دوي النحل في نخاريبها: سبحان الله.. سبحان الله. مرت لحظات مشحونة سمع فيها أبناء آدم و قد عادوا من الحج الأكبر تسبيح الكائنات. [ صفحه 120] فغرت الأفواه دهشة و انعقدت الألسن في اللحظة التي يلج فيها ابن آدم عالم الملكوت. رفع الذي عنده

علم الكتاب رأسه من الأرض و التفت الي ابن المسيب: - أفزعت يا سعيد؟ أجاب سعيد و قد ثاب الي رشده: - نعم يابن رسول الله... - هذا التسبيح الأعظم.. سكت هنيهة ثم أردف: - حدثني أبي عن جدي رسول الله لا تبقي الذنوب مع هذا التسبيح، و ان الله جل جلاله لما خلق جبريل ألهمه هذا التسبيح و هو اسم الله الأكبر. عادت الأشياء الي طبيعتها و آب الانسان الي عالمه حيث الأشجار صامتة و ذرات الرمال غافية منذ آلاف السنين؛ و بقي الانسان يتذكر لحظة قدسية ولج فيها الملكوت ثم عاد الي طبيعته مرة اخري. [ صفحه 121]

و سلاحه البكاء (32)

الأرض العربية تهتز تحت حوافر آلاف الخيول و هي تغير علي المدن فتشتعل المعارك، و يتصاعد دخان الحرائق ليحرق العيون.. كل العيون. شبت النار في «عين الوردة» و قد قتل صحابة كانوا حول الرسول و امتد الحريق الي «الموصل» هناك علي شطآن «الخابور» قبل أن يرفد «دجلة» ملحمة يسقط فيها رأس «الأرقط»، و تشب النار في بطائح الفرات في ثورة للزنوج ثم تندلع في الحيرة لتحرق الكوفة و يقاتل المختار وحيدا في أزقتها و تتقدم زوجته بشجاعة الي لحظة الاعدام لتكون أول امرأة تقتل صبرا في تاريخ الاسلام. الكوفة تستسلم لعبد الملك، و الحجاج بن يوسف يشدد الحصار علي مكة و يقصف الكعبة بالمنجنيقات. الكعبة تحترق مرة اخري و قد سجر الشيطان نيرانه و الجيوش الغازية تقتحم مكة فيرتفع ابن الزبير علي أعواد الصليب. حتي اذا دخل الخريف و قد مرت سبعة قرون علي ميلاد المسيح [ صفحه 122] كان عبدالملك قد بسط سطوته علي الأرض الاسلامية من خراسان الي «قرطاجة». خيم سلام المقابر فوق الأرض،

بعد أن أخمدت الأنفاس في «دير الجماجم» ليبدأ عهد جديد.. عهد الارهاب، و قد تسلط وحش كاسر يدعي «الحجاج» علي مشارق الوطن المقهور. و استيقظت في الذاكرة أحاديث قديمة... كلمات نقلها الرواة حول رجل يأتي في آخر الزمان يحيل سنوات الرماد الي أعوام خصب، و قد ولد الربيع و استيقظت مواسم البذار؛ و البيادر تموج بحب الحصيد. نظر ابن جبير الي سيماء النبوات تطوف فوق جبين حفيد النبي، تفجر نبع حب في القلب حتي فاضت كلمات: - اني لأحبك في الله حبا عظيما. أطرق ابن النبي ثم رفع رأسه الي السماء و هتف بخشوع: - اللهم اني أعوذ بك أن أحب فيك و أنت لي مبغض.. و التفت الي سعيد و قال: - و اني لأحبك للذي تحبني فيه. خيم صمت حزين و قد اشتعلت مشاهد قانية في ذاكرة الرجل الكوفي: - حدثني يا سيدي عن المهدي. أدرك ما يجول في خاطر رجل مقهور ضاقت عليه الأرض بما [ صفحه 123] رحبت و هو يروم العودة الي الكوفة الي حمامات الدم المراق بلا ذنب. قال سليل النبوات: - في المهدي يا سعيد سنة من سبعة أنبياء من أبينا آدم و من نوح و ابراهيم و موسي و عيسي و أيوب و سنة من محمد... فمن آدم و نوح طول العمر، و من ابراهيم خفاء الميلاد و اعتزال الناس و من موسي الخوف و الغيبة و من عيسي اختلاف الناس فيه و من أيوب الفرج بعد البلاء و من محمد الخروج بالسيف. أطرق ابن جبير يتأمل في ملامح القادم الأخضر... الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا فلقد ضجت ظلما و جورا. غادر سعيد أرض الحجاز متوغلا في الصحراء العراقية.

ودع عوالم السلام في مكة و المدينة و دخل الأرض الحزينة التي ما تزال تبحث عن أبنائها و لما تفقد الأمل بعد. [ صفحه 124]

و سلاحه البكاء (33)

جلس الحجاج في قصره المنيف الي يمينه «تياذوق» و الي شماله «تاودون» تبرق عيونهما حقدا علي الأشياء التي تنبض بالحياة.. علي القلوب التي تخفق بالحب حتي ان المرء ليعجب كيف أصبحا طيبين. رائحة الدم تزكم الأنوف.. صمت مهيب يغمر المكان، و قد بدا القصر مسحورا... العيون جامدة كأحداق زجاجية و القلوب مقدودة من صخور صماء قاسية. كان «الحجاج» ينتظر غريما طالما جد في البحث عنه و ها هم يرسلونه مخفورا من مكة. ارتفعت جلبة في باب القصر. عرف الحجاج انهم قد جاءوا به. ليس جلد الأفعي و صوب نظرات حارقة الي الباب. و دخل رجل لا يخشي أحدا الا الله... كان هادئ القسمات مطمئنا... لا تعلو وجهه تلك الصفرة التي تغشي من في قبضة الجلادين. تمتم الحجاج ساخرا و هو يصعد النظر في غريمه: [ صفحه 125] - أنت شقي بن كسير؟ أجاب بغير اكتراث: - امي أعرف باسمي. - لقد سمعت انك لم تضحك قط. - لم أر شيئا يضحكني.. و كيف يضحك مخلوق من طين. - ولكني أضحك. - كذلك خلقنا الله أطوارا. - هل رأيت شيئا من اللهو. -... صفق الحجاج بيديه.. فوقف المطربون صفا، و ارتفعت أصوات الأبواق، و صدح الناي، و علا الضرب علي الأعواد. و بكي سعيد... انهمرت دموعه كغمامة حزينة. تمتم «الجلاد» حانقا: - مالك تبكي؟ - لقد تذكرت أمرا عظيما. لقد ذكرني البوق بيوم النفخ في الصور.. و هذا العود نبت بحق و قطع للباطل و الفساد. - أنا قاتلك لا

محالة. - الموت مصيرنا جميعا. - أنا أحب الي الله منك. - الله وحده علام الغيوب. [ صفحه 126] - أنا مع خليفة المسلمين و أميرالمؤمنين. -... أشار الذي بقبضتيه السوط و السيف فجاء جلاوزة يحملون الذهب و الفضة... و رمي الجلاوزة سحرهم الذي يخطف بالأبصار.. التفت الحجاج الي الرجل المكبل بالأغلال: - ما رأيك في هذا؟ - هذا حسن ان قمت بشرطه. - ما هو شرطه؟ - أن تشتري به الأمن يوم الفزع الأكبر. - الويل لك. - الويل لمن زحزح عن الجنة فهوي في قعر الجحيم. صرخ الحجاج بعصبية: - اضربوا عنقه. قال المحكوم بالموت: - حتي أصلي ركعتين. اقترب «تاودون» من الأسير. وضع اذنه علي بقعة صغيرة في أعلي اليسار من القفص الصدري. أرهف السمع... كان يتوقع ان القلب المحكوم بالموت سيتحول الي طبل يدق بعنف... يطلق صيحات الاستغاثة و الرعب. القلب [ صفحه 127] المؤمن يخفق بهدوء. - أمر عجيب. تمتم الطبيب و راح يتفرس في وجه الرجل العجيب... كل شي ء يبدو هادئا لكأن هذا الرجل ليس محكوما بالفناء... انه ينظر الي الموت باستخفاف.. لربما يحسبه قنطرة يعبر خلالها الي عالم مفعم بالسلام. و توجه الرجل الذي أوشك علي الرحيل الي عالم لا نهائي. الصلاة تنساب من بين شفتيه كنهر هادئ: - وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض. صرخ الحجاج: احرفوه الي قبلة النصاري: النهر الهادئ يتدفق سلاما: -أينما تولوا فثم وجه الله.. و انطلقت دعوة المظلوم تشق طريقها نحو السماء: - اللهم لا تترك له ظلمي و اطلبه بدمي و اجعلني آخر قتيل يقتله من امة محمد... و ارتفع سيف الجلاد ليهوي و يهوي معه رأس ما انحني لغير

الله... و سمع الحاضرون صوتا مهيبا: - الله أكبر... الله أ ك_ ب_ ر كان الحجاج ينظر متلذذا الي الدماء و هي تتدفق من الأوداج. [ صفحه 128] الدماء تتدفق.. تتدفق. فغر الحجاج فاه! انه لم ير كهذا الدم الذي يشخب كالميزاب. التفت الي «تياذوق» متسائلا يطلب جوابا لهذا الدم الذي يتدفق بلا انقطاع. قال طبيب الجلادين: - ان كل الذين قتلتهم كانوا خائفين... تجمد الدم في عروقهم قبل أن يموتوا.. ماتوا قبل أن يقتلوا.. أما هذا؟! - تكلم! - لم يمت حتي بعد القتل.. صرخ الحجاج كمن أصابه مس من الجنون: - مالي و لسعيد بن جبير! [ صفحه 129]

و سلاحه البكاء (34)

وقف «عبدالملك» في شرفة «قصر الخضراء» ينظر الي المساحات الخضراء الممتدة.. و ينابيع المياه المتدفقة؛ و هي تندفع خلال الأشجار. شعر بضيق في صدره كان يقلب رسالة من الحجاج حاكم المشرق الذي ثبت له أركان الحكم بقوة الحديد و النار. فيها كلمات تكاد تكون انذارا: اذا أردت أن يسلم لك ملكك فاقتل علي بن الحسين... - أمر عجيب.. تمتم عبدالملك و هو يغادر الشرفة و أردف: - انه يبدو بعيدا عن شؤون الدنيا منصرفا عن الحياة منزويا في بيته يدعو... و يبكي ليس غير.. و ها هو الحجاج يقول بأن الخطر يكمن في هذا الرجل!! - لا.. لا.. هتف الخليفة.. بصوت مبحوح و أردف: [ صفحه 130] - لن ألغ في هذا الدم. لقد رأيت بام عيني ماذا فعلت دماء الحسين من قبل.. كيف أحرقت آل أبي سفيان و لم تبق لهم باقية. ولكن سأحصي عليه حركاته و سكناته.. سأخنقه بالجواسيس، اما القتل فلا.. دخل الحاجب يحمل بيده رسالة من وراء الحدود. فض الخليفة

الختم باهتمام فهي من القيصر جوستنيان امبراطور الروم. و حضر المترجم قبل استدعائه. كاد الخليفة أن ينهار علي الأرض و هو يصغي كلمات فيها تهديد و وعيد... و غطرسة: - أكلت لحم البعير الذي هرب عليه أبوك من المدينة.. لأغزونك بجنود مئة ألف و مئة ألف و مئة ألف. هتف الخليفة مذعورا و هو يتصور تدفق آلاف الجنود عبر الحدود لتأتي علي كل ما حققه من انتصارات و يصبح ملكه في خبر كان... ليس الحرب هو مصدر الخطر.. هناك سلاح آخر أكثر فتكا. لسوف يقطع عن دولة الاسلام النقد. و هذا يعني خراب البلاد. تمتم و هو يتهالك علي سرير كبير محلي بالذهب: - أحسبني اشأم مولود ولد في الاسلام. نشر المساء ظلاله و بدا قصر الخضراء في غمرة الظلمة الخفيفة [ صفحه 131] بومة جاثمة تترقب شيئا ما. كان ضوء القناديل يتدفق من نوافذ القصر فبدت مساقط الضوء كدنانير ذهبية.. أو هكذا كان خطر في بال «الخليفة» و هو يتأمل دينارا روميا فيه كلمات عن الأب و الابن و الروح القدس... حضر علية القوم و أخذوا أماكنهم و هم ينظرون من طرف خفي الي حاكم البلاد من شرق خراسان الي أطراف «قرطاجة». طوح الخليفة المهموم بالدينار في الفضاء فسقط علي البلاط المرمري محدثا رنينا ساحرا. هتف بغيظ: - سوف يقطعون عنا النقد.. فغرت بعض الأفواه... و اتسعت بعض العيون دهشة و هم يصغون الي أنباء قادمة من وراء الحدود... القيصر يطلب المزيد... لم تعد تقنعه مئات الخيول العربية التي تدفعها الخلافة الاسلامية منذ عهد معاوية و الي اليوم... لم يعد يرضيه مئات العيسويين الذين يرغبون بالنزوح الي القسطنطينية.. و لا آلاف الدنانير في كل

جمعة. ها هو يريد التنازل عن مزيد من الأراضي التي حررتها خيول الفتح. هتف الخليفة بصوت يشبه الاستغاثة: - ماذا أفعل؟ كان الصمت هو الرد الذي تلقاه.. تمتم «روح بن زنباع» من أقصي المجلس... ترددت كلماته رغم [ صفحه 132] خفوتها و ترددها: - انك لتعلم الرأي و الخلاص من هذا المأزق. هتف عبدالملك كمن يتشبث بعمود من سفينة محطمة وسط المياه: - ويحك من تعني؟ قال الشيخ الذي عركته السنون: - الباقي من أهل بيت النبي. صوت اختلج في أعماق عبدالملك لم يسمعه أحد: - يا لي من أحمق؛ لماذا لم يخطر علي بالي ذلك. [ صفحه 133]

و سلاحه البكاء (35)

خف عبدالملك لاستقبال شاب لم يبلغ العشرين بعد، يحمل معه خطة الخلاص... كان الاستقبال حافلا... وقف علية القوم يتطلعون الي وارث الأنبياء. كان الخليفة علي أحر من الجمر لسماع ما يحمله محمد عن أبيه. نظر الي ضيفه باجلال و في عينيه سؤال كبير. ابتسم محمد و قال: - الرأي أن تبعث له برسالة تستمهله فيها مدة من الزمن... - ثم؟! - ثم اجمع ما استطعت من الذهب و الفضة. - و بعد؟ - و ابدأ بصك الدرهم و الدينار... وليكن فيها شعار الاسلام.. قل هو الله أحد و محمد رسول الله.. - و بعد! [ صفحه 134] - فاذا فرغت من ذلك امنع تداول النقد الرومي و اعرض النقد الاسلامي بدلا عنه.. و سن لذلك العقوبات لمن يخالف ذلك. كان «روح» يصغي باعجاب لما يسمع فتمتم في نفسه: - الله أعلم حيث يجعل رسالته. انطلقت في الصباح الباكر خيول بلق، تنهب المسافات الي المدن و الحواضر، تحمل رسائل متشابهة بالغة السرية. شهدت أسواق الذهب و

الفضة حركة غير عادية... و كانت الحلي الذهبية تختفي شيئا فشيئا... و النسوة يبعن أقراطهن و قلائدهن مقابل مبالغ مغرية. و نشأت معامل لصك الدنانير الذهبية.. و بدأ العمل بانتاج النقد الجديد و ظهر لأول مرة في التاريخ الدينار الاسلامي يتألق يحمل نداء التوحيد و شعار الرسالة المحمدية. ودع محمد مدينة دمشق بعد أن اطمأن الي زوال الخطر... كان يحمل معه نماذج من النقد الجديد، و فيها نقوش تشير الي مرور اربعة و سبعين سنة علي بدء التاريخ الهجري و قيام الدولة الاسلامية. وقف عبدالملك يشيع ضيفه بنظرات متأملة فيها حذر و قلق بدأت تساوره من ابناء علي... فهؤلاء يمثلون القمة في كل شي ء...حتي الشباب منهم. انه لن ينسي جلوسه مع «محمد» جلسة التلميذ في حضرة استاذه... لم تشفع له ابهة الملك أمام هيبة ابن علي... سيبقي علي و ابناؤه هاجس الملوك علي مر الأيام. [ صفحه 135] غاب الضيف عن الأنظار، و انكفأ الخليفة نحو أروقة قصره المنيف و هو يفكر في رسالة الحجاج التي بعثها اليه قبل شهور. كما يطرد المرء ذبابة حطت علي أنفه طرد عبدالملك فكرة قتل «ابن الحسين» و تمتم في نفسه: - لا.. لا.. كفاني ما سفكت من الدماء.. نظر الي أكياس طافحة بالدنانير الاسلامية فشعر بالثقة تملأ نفسه... استدعي كاتبه ليسطر له ردا قويا يليق بدولة الاسلام الي جوستنيان الثاني... ردا يحطم غروره الي الأبد؛ و أرفق مع رسالته نقودا اسلامية. [ صفحه 136]

و سلاحه البكاء (36)

مرت أعوام و أعوام و التاريخ ما انفك يشعل الحوادث. خيول الاسلام تدق أبواب «مرعش» من أرض روم، و توغل في السند في بلاد ماوراءالنهر، و المعارك مع الكاهنة مازالت ضارية. و قد ثار

«الأزارقة» في «كازرون» ثم في «الجزيرة» و ثار «ابن الجارود» علي الحجاج، و ثار الزنج في البصرة بزعامة «شيرزاد». الروم يغيرون علي «قرطاجة» من أرض المغرب. و البادية العربية تردد قصة عشق بدوية «توبة» يهيم بحب «ليلي الأخيلية» و قد رفض أبوها تزويجها و هدد الخليفة العاشق اذا شبب بها. قال لها عبدالملك: - ما رأي منك توبة حتي عشقك؟ فأجابت علي الفور: - ما رأي الناس منك حين جعلوك خليفة؟! و أراد أن يعرض بها فسأل: [ صفحه 137] - هل كان بينك و بينه ريبة؟ - لا والله.. ولكنه قال لي كلمة ظننت انه خضع فيها لبعض الأمر فقلت له: و ذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس اليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه و أنت لأخري صاحب و خليل و لما ماتت ليلي في «ساوة» حلقت في سماء البوادي قصة عاشقين.. و تناقل الناس حكاية حب جديدة بين بثينة و جميل، من بني عذرة، و قد مات الحبيب في مصر بعيدا عن حبيبته. خيول الاسلام تندفع باتجاه أرمينيا، و في جبهة ماوراءالنهر يستمر الفتح حتي «خوارزم» ف_ «شومان» و الي مدينة «ترمذ». و الطاعون يجتاح مصر، ثم الشام و العراق، و يموت عبدالملك، فيتربع علي العرش ابنه «الوليد» و تتصاعد و تيرة «الفتح» لتتخذ لها صبغة الاحتلال و التوسع، و يتدفق سيل الغنائم و سبي عذاري البلدان المفتوحة. و تفتح «طنجة» في أقصي المغرب أبوابها للجيوش الاسلامية حتي سواحل البحر. و يفر «جوستنيان» من منفاه «سينوب» و يعود الي عرشه بمعونة البلغار [ صفحه 138] و الوليد يطرد حاكم المدينة المنورة من منصبه، و يأمر بايقافه للناس للاقتصاص

منه... أشرقت شمس ذلك اليوم لتعلن بدء يوم جديد خرج الناس زرافات زرافات ينظرون الي الزمن كيف يقهر.. ها هو «هشام المخزومي» الذي ما ترك أحدا الا اضطهده و صب حقده علي بقية آل محمد. و مر رجل تقدم من الحراس المحيطين بالحاكم السابق فقال و أشار الي هشام: - ان هذا ضربني سوطين ظلما. - و هل يشهد لك أحد؟ - نعم.. هذان. - اذن تقدم و اقتص منه. و هوي الرجل فلوح بسوطه مرتين. تأوه «هشام» و تمتم: - ما أخاف الا من علي بن الحسين فطالما أسأت اليه. تقدم رجل آخر فقال: - ان هذا بصق في وجهي دون حق. - و الشهود. - هذا و هذا - ابصق في وجهه اذا شئت. [ صفحه 139] وقف الرجل و جمع ما استطاع من لعابه ليقذف به وجه «هشام». رفع كفا ترتجف و مسح وجهه و تمتم بحزن: - كل هذا يهون... تري ماذا سيفعل بي علي بن الحسين اذا حضر.. لاح من بعيد الرجل «السجاد» «ذو النفثات» كان يمشي الهويني في طريقه الي المسجد حيث أوقف المغضوب عليه للاقتصاص. تصاعدت دقات قلب «هشام».. أضحت كطبل أفريقي يرسل صيحات استغاثة. قال علي لابنه عبدالله: - ان هذا الرجل قد عزل و أوقفه «الوليد» للناس فلا يتعرض له أحد بسوء. تعجب الابن: - و لم يا أبت... لطالما أساء الينا.. و هذا ما نبغيه اليوم. التفت الأب الي ابنه و هو يعظه: - يا بني نكله الي الله. و لما أصبح السجاد بمحاذاته و استعد «هشام» للحظة الانتقام اذا به يسمع شيئا لم يخطر علي بااه. قال السجاد: - اذا احتجت الي مال يطلبه

أحد منك فلدينا ما يسعك فلا تقلق.. و طب نفسا منا و من كل من يطيعنا. [ صفحه 140] أحدثت الكلمات دويا في نفسه حتي ان المرء ليمكنه أن يري أصداء الانهيارات و هي تنعكس في عينيه و في قسمات وجهه. هتف «هشام»: - الله أعلم حيث يجعل رسالته. و أخذ «ذو الثفنات» سمته نحو المسجد... و قد التفت حوله جموع المؤمنين. و تدفق شلال الصلاة في مسجد النبي يصلي فيه حفيده. [ صفحه 141]

و سلاحه البكاء (37)

- ألا تذهب الي المسجد يا أبي؟! قالت الصبية لأبيها الشيخ... تمتم و مياه الوضوء تتقاطر من وجهه: - والله يا بنيتي اني لأخجل من نفسي.. - و لم؟ - لقد رأيت في ظهيرة اليوم ما لم أره و لن أراه. - و ما رأيت يا أبه؟ - رأيت الحسن بن الحسن. - السجين الذي انهالوا عليه بالسياط في مسجد النبي قبل شهرين. - أجل... رأيته اليوم يقف علي رأس ابن عمه علي بن الحسين... فشتمه و أسمعه سيئ الكلام... والله لوددت أن أصفعه. - و ماذا حصل؟ - لا شئ، أطرق «السجاد» و لم ينبس ببنت شفة اجلالا لمسجد [ صفحه 142] جده سكت الشيخ هنيهة و استأنف حديثه: - فلما غادر الحسن المسجد، رفع علي رأسه و نظر الينا. كنا جميعا ساكتين... و عرف ما في قلوبنا من رغبة في أن يرد له الصاع صاعين... و فرحنا عندما قال لنا: قد سمعتم ما قال الرجل و أنا أحب أن تنهضوا معي حتي تسمعوا ردي عليه. فنهضنا معه و انطلقنا نحث الخطي الي منزل الحسن و هتف «السجاد» بابن عمه فخرجت جارية تسأل عن الطارق فقال: قولي له

علي بن الحسين فخرج الينا متوثبا عيناه تقدحان شرا مستطيرا. - و ماذا حصل يا أبي؟ - أمر عجيب يا بنيتي. لقد ورثوا مكارم الخلق عن جدهم.. لم يزد علي أن قال له: يا أخي انك قد وقفت علي آنفا و قلت و قلت.. فان كان الذي قلته حقا فأنا استغفر الله منه و ان كان باطلا ما قلت فغفر الله لك.. - يا لهذا الحلم! فماذا قال الحسن؟ - يا بنيتي والله رأيته يرتجف و قد سقطت العصا من يده و تصبب جبينه عرقا.. لكأن الأرض تهتز تحت قدميه... و رأيته يبكي مثلما يبكي الأطفال.. ثم ألقي بنفسه علي ابن عمه و قال: أجل والله قلت فيك ما ليس فيك و أنا أحق به. قال السجاد و هو يقبله: [ صفحه 143] - أعرف انما دفعك الي ذلك الحاجة. و أخرج من جيبه صرة فيها ألف دينار و ناولها اياه. و سمعته لما عدنا الي المسجد يقول: ما تجرعت جرعة أحب الي من جرعة غيظ لا اكافئ بها صاحبها. ظلت الصبية مأخوذة بما تسمع. و تمتمت: - هذه والله مواعظ الأنبياء. راحت الفتاة تراقب والدها و هو يلج عالم الصلاة و يرفع كفين معروقتين الي خالق السموات و الأرضين الله رب العالمين. ارتفعت طرقات علي الباب... و خفت الفتاة لتعرف الزائر.. كانت النجوم قد اجتمعت في السماء؛ هتف الطارق: - أنا علي بن الحسين. صاح الشيخ في حجرته: - واسوآتاه ظنني مريضا فجاء يعودني. و انطلق الشيخ لاستقبال رجل ما علي وجه الأرض شبيه له. ملأت رائحة الطيب فضاء البيت لكأن الربيع قد حل ضيفا عندهم همس السجاد و قد أضاءت ابتسامة وجهه الحزين:

- أقلقني غيابك أباخالد. لم يجد الشيخ ما يقوله فنهض يقبل جبين ضيفه العظيم. ملأ رئتيه من عبير النبوات. و هتف مأخوذا: - الله أعلم حيث يجعل رسالته. [ صفحه 144]

و سلاحه البكاء (38)

دمشق تصطخب بأسواق النخاسة و آلاف العذاري من أجناس بشرية عديدة معروضة للبيع و نظرات جائعة مشتهية تتصفح وجوها جميلة تشوبها ذلة السبي و حزن فراق الأحبة. فتيات من بلاد ماوراءالنهر من «سمرقند» و «بخاري» و بربريات من «طنجة» و «القيروان» و حسناوات من «أرض روم» و «سوسنة» و... و.. و قد عبر طارق البحر تحمله سفن عربية و اخري «سبتية» فيرسو عند شواطئ جبل «كالبي» و يتخذ الجبل اسم الفاتح الجديد... السفن تشق مياه المحيط فتفتح «الجزيرة الخضراء» ثم «قرطاجة» ثم تقتحم البر الاسباني لتسقط «طليطلة» عاصمة الدولة القبطية، و الخيول العربية تغسل اقدامها في شواطئ البوسفور. و دمشق تستقبل قوافل السبي لتنضم الي أسواق النخاسة هنديات لهن عيون المها. قصر الخضراء يتألق في غمرة القناديل المضيئة، فالمجد للسيف [ صفحه 145] و الحصان، و طبول الحرب. كانت أنغام الموسيقي تفتن علية القوم و النفوس نشوي تطير في عالم الخيال... عالم يصنعه عصير شفاف مشوب بحمرة رائقة تدب في الرؤوس كدبيب النمل... فيغفو العقل و تحلق النفوس في عوالم مسحورة زاخرة بالأوهام. ولكن ما باله الخليفة هذه الليلة... يكاد يضيق بما حوله و بمن حوله... ألا يعجبه منظر الجواري يرفلن بالحرير الملون.. و هذه الخمرة الرومية و رائحة الشواء... و تلك الحلوي الفارسية. فغر الحاضرون أفواههم و قد سمعوا الخليفة يطلب مصحفا، توقفت الموسيقي عن ارسال أنغامها، و جمدت الجواري في أماكنها و ساد القصر و جوم غريب. جاء الحاجب يحمل مصحفا

مذهبا مرصعا بالجواهر و وضعه بين يدي «الوليد». فتح الرجل الذي لم تسكره الخمرة بعد المصحف، فوقعت عيناه علي أول آية و صدح القرآن بصوت الحق «و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد». شعر الوليد بأن الكلمات تغوص في أمعائه كسيوف حادة... ريح مجنونة تعصف برأسه. صرخ خليفة المسلمين: - اصلبوه! أمسك الجلاوزة بكتاب السماء.. [ صفحه 146] صلبوه الي اسطوانة في وسط البلاط. ها هو فرعون يسخر من موسي.. يلتفت الي هامان: - «فأوقد لي يا هامان علي الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع الي اله موسي و اني لأظنه كاذبا». و ارتقي فرعون صرحا عاليا. حمل معه قوسه فلما ان بلغ الذري، وضع في كبد القوس سهما و أطلقه باتجاه السماوات!! «الوليد» يضع في كبد القوس سهما و يسدد باتجاه القرآن المصلوب، و تنهال السهام.. و تتناثر آيات القرآن فوق رخام البلاط.. كان الوليد مفتونا بما يفعل و هو ينشد بصوت يشبه فحيح الأفاعي: تهدد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد اذا لاقيت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد في الصباح لبس الوليد ثياب الخلافة، و وقف يودع أخاه «هشاما» أميرا علي الموسم... و ابتعد الموكب عن أسوار دمشق في طريقه الي الحجاز و لم ينس «الوليد» أن يدس معه رجالا في مهمات سرية.. يحملون معهم مركبات مستحضرة في القسطنطينية باهضة الثمن كان معاوية يحرص علي استيرادها دائما. [ صفحه 147]

و سلاحه البكاء (39)

قوافل الحجاج تنساب في بطون الأودية، لكأنها تصغي الي نداء ابراهيم؛ الكتل البشرية تتدفق صوب أول بيت وضع للناس، و موسم هذا العام موسم زحام بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و نسي الناس أو كادوا ذكريات حزينة،

أو دفنوها في أعماق القلوب. و تعلو في الآفاق نداءات الحرية للانسان عندما يعبدالله وحده و تهتف الحناجر الآدمية: لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك لبيك..ان الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك... و تطفو الكعبة في بحر الأمواج البشرية و هي ترفل بثياب الحج البيضاء كحمائم السلام. و هنا يدرك الانسان أن لا اله الا الله... لا رب سواه و ان الناس سواسية لا فضل لعربي علي أعجمي الا بالتقوي... فيصغي المرء الي كلمات الله و هي تتدفق في قلب الانسان: «يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر و انثي و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ان أكرمكم عندالله أتقاكم» فتتهاوي الحواجز و تتلاشي الامتيازات و تتمزق الحجب و اذا المسلم أخو المسلم حقا و اذا القلوب تتطهر من [ صفحه 148] أدران الشرك. كان «هشام بن عبدالملك» يطوف حول الكعبة لا يكترث له أحد و لا يهابه انسان حوله رجاله من أهل الشام... بذل هشام كل ما بوسعه في استلام الحجر الاسود ولكن الأمواج البشرية كانت تصده في كل مرة فيرجع خائبا. بان الحنق في عينه الحولاء. ألقي بنفسه علي كرسي في ناحية من الحرم و جلس ينظر و ينتظر انحسار الأمواج البشرية؛ شعر بأنه ليس شيئا في هذا المكان، و بدا له الحجر الأسود بعيدا.. بعيدا جدا. و أقبل رجل قد اجتاز الخمسين من السنين، و كان وجهه يضيئ كقمر بين الغيوم.. و حدث أمر عجيب . تناثرت أسئلة و ارتسمت علامات استفهام. تساءل شامي و هو يتطلع الي رجل يرفل بحلته البيضاء الناصعة نصاعة الثلوج في جبال الشام. - من هذا الرجل الذي ينفرج له الناس كملك عظيم؟!

و هتف بأصحابه: - انظروا.. انظروا.. انه يشق طريقه بيسر الي الحجر الأسود. قبل الرجل ذي الوجه المضيئ الحجر الأسود و استأنفت الأمواج البشرية تدافعها من جديد. التفت الشامي الي خليفة المستقبل: - من هذا؟! [ صفحه 149] رد الأحول بغيظ: - لا أدري. وحده القدر يفسر مرور الشعراء في لحظات يتوقف عندها التاريخ باجلال. هتف الفرزدق: - ولكني أدري من هو. تساءل الشامي بشوق: - و من هو يا أبافراس؟ فأنشد: هذا الذي تعرف البطحاء و طأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا اذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم و ليس قولك من هذا بضائره [ صفحه 150] العرب تعرف من أنكرت و العجم. استشاط هشام حقدا.. و بدت عينه الحولاء تتراقص في محجرها. و تخطفت الجلاوزة شاعرا نفث روح القدس علي لسانه.. و سيق الشاعر مخفورا الي السجن فهذا زمن مصنوع من خشب و نحاس... زمن لا يعرف للكلمة حرمتها.. زمن غابت فيها الآيات وراء القضبان. [ صفحه 151]

و سلاحه البكاء (40)

كانت الرياح شتائية باردة و الليل يغمر بظلمته المدينة. الأزقة مقفرة و قد أوي الناس الي النوم، ما خلا بيوت متواضعة كان الضوء يرسل أشعته الواهنة من كوي صغيرة فيها؛ و خلف أبوابها كانت آذان تترقب قدوم «صاحب الجراب». تساءل «ابن شهاب» و هو يري رجلا يمرق في الظلام، كان الرجل ملثما ولكنه عرفه؛ ولكن ما دعاه الي الخروج في الساعة من الليل، كان «ابن شهاب» عائدا من قصر

«الوالي». هتف «الزهري»: - يابن رسول الله! ما هذا؟! عدل «حامل الجراب» جرابه و أجاب: - أريد سفرا و هذا زادي. تعجب «ابن شهاب». - دع غلامي يحمله عنك اذن. رفض «السجاد» و حاول «الزهري» أن يأخذ الكيس عنه. - دعني أحمله أنا.. [ صفحه 152] - انه زادي و أنا أحق بحمله... اسألك بحق الله أن تتركني و تمضي. و غاب «صاحب الجراب» في زقاق ملئ بالليل و البرد. عدل من لثامه و طرق بابا صغيرة و وضع شيئا ثم مضي... و توقف أمام بيت يكاد جداره أن ينهار. نقر علي الباب و ترك شيئا علي عتبته ثم استأنف طريقه في الأزقة و البرد و الظلام. و مرت ساعات عاد بعدها «صاحب الجراب» بلا جراب، كانت النجوم تشتد بريقا في السماء و قد انفتحت نوافذ الملكوت. و لج السجاد محرابه... و تدفق نبع من الصلاة فقد آن لقاء الحبيب مع محبوبه.. و انساب نهر من كلمات الانسان و هو يشدو بحب بارئ الخليقة: - الهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا؟ و من ذا الذي أنس بقربك فابتغي عنك حولا؟ الهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك و ولايتك و أخلصته لودك و محبتك و شوقته الي لقائك و رضيته بقضائك و منحته بالنظر الي وجهك و حبوته برضاك و اعذته من هجرك و قلاك و بوأته مقعد الصدق في جوارك... [ صفحه 153] و خصصته بمعرفتك... و أهلته لعبادتك... و هميت قلبه لارادتك... و اجتبيته لمشاهدتك... و أخليت وجهه لك... و فرغت فؤاده لحبك... و رغبته فيما عندك... و ألهمته ذكرك... و أوزعته شكرك... و شغلته بطاعتك! و صيرته من صالحي بريتك... و

اخترته لمناجاتك... و قطعت عنه كل شي ء يقطعه عنك. الهي! اجعلنا ممن دأبهم الارتياح اليك و الحنين... و دهرهم الزفرة و الأنين... جباههم ساجدة لعظمتك... و عيونهم ساهرة في خدمتك... و دموعهم سائلة من خشيتك... و قلوبهم متعلقة بمحبتك و أفئدتهم منخلعة من مهابتك... [ صفحه 154] السماء تكتظ بالنجوم و قد تكاثفت ظلمة الليل فانطلقت استغاثة قلب الانسان عندما تنفتح أبواب الملكوت: - يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة! و سبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة! يا مني قلوب المشتاقين! و يا غاية آمال المحبين! اسألك من حبك و حب من يحبك! و حب كل عمل يوصلني الي قربك و ان تجعلك أحب الي مما سواك و ان تجعل حبي اياك قائدا الي رضوانك و شوقي اليك ذائدا عن عصيانك و امنن بالنظر اليك علي و انظر بعين الود و العطف الي و لا تصرف عني وجهك و اجعلني من أهل الاسعاد و الحظوة عندك يا مجيب. يا أرحم الراحمين. العينان تسحان الدموع.. دموع الحب الالهي المفتون.. كسماء تمطر علي هون.. تغسل الأشجار و الأرض فتهتز و تربو... و الدموع تغسل قلب الانسان فيشرق بنور ربه و ينبض بالحب و الأمل و السلام. [ صفحه 155]

و سلاحه البكاء (41)

- ماذا أري؟ هتف الزهري و قد وقعت عيناه علي «السجاد» بين المحراب و المنبر و أردف و هو يحث الخطي اليه: - ألم يخبرني بأنه علي سفر؟! أومأ مسلما و هتف: - يابن رسول الله لست أري لذلك السفر أثرا؟! تمتم السجاد بخشوع من أوشك علي الرحيل عن الدنيا: - بلي يا زهري... ولكن ليس كما ظننت، انما هو سفر الآخرة. - و المتاع الذي كنت

تحمل لم يكن غير صدقات للفقراء؟ و تمتم متأثرا و هو يبتعد: - نعم السفر سفرة الآخرة و خير الزاد التقوي. انتحي الزهري زاوية من المسجد و كان ما يزال متأثرا، قال صاحب له: - انك لا تفتأ تذكر علي بن الحسين بخير. [ صفحه 156] التفت الزهري و قد شم رائحة تملق. - ويحك يا هذا والله لم أر و لن أري مثل علي بن الحسين ما حييت... لقد رأيته مقيدا بالحديد و قد أحدق الحراس به يريدون ارساله الي دمشق بأمر عبدالملك؛ فاستأذنتهم في وداعه فلم أملك نفسي عن البكاء فبكيت و قلت له: وددت اني مكانك و أنت سالم فرفع بصره الي و قال: - يا زهري أتظن ان ما تري علي و في عنقي يكرثني، أما لو شئت لما كان، و انه ليذكرني عذاب الله. التفت الزهري الي صاحبه و قال: - أتصدقني لو قلت لك لقد رأيته يخرج يديه و قدميه من القيود لكأنها خيوط عنكبوت!! فما مضت أربع ليال حتي عاد الجنود يبحثون عنه في المدينة فسألت أحدهم عما حصل فقال: فقدناه و لم نعثر له علي أثر و وجدنا القيود و الأغلال في مكانه. هتف الرجل: - أمر عجيب. - و أعجب منه هواني لما قدمت بعد ذلك علي عبدالملك و أخبرته بما رأيت قال: لقد جاءني يوم فقده الحراس فدخل علي و قال: ما أنا و أنت؟ فقلت له: أقم عندي في الرحب و السعة. [ صفحه 157] فقال: لا أحب، ثم خرج، فوالله لقد امتلأ قلبي منه رعبا. و حدثني طاووس مرة قال: رأيت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو و يبكي، فجئته حين

فرغ من الصلاة فاذا هو علي بن الحسين فقلت له: يابن رسول الله أتخاف و لك ثلاثة: أنت ابن رسول الله، و شفاعة جدك و رحمة الله؟ فقال: يا طاووس أما النسب فان الله تعالي يقول: فلا أنساب بينهم يومئذ، و أما الشفاعة فان الله تعالي يقول: لا يشفعون الا لمن ارتضي. و أما رحمة الله فان الله عزوجل يقول: انها قريبة من المحسنين. و لا أعلم اني محسن. و أردف الزهري و هو ينهض للصلاة: - و لقد مضت عليه عشرون سنة و هو يبكي أباه و يقول: انما أشكو بثي و حزني الي الله و أعلم من الله ما لا تعلمون. و الله ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين. و تمر الساعات بطيئة: في ليلة تسمرت النجوم في سمائها. و لم تغمض عيون المدينة... الرياح الباردة تجوس الأزقة... تعوي و هي تطرق الأبواب.. و النوافذ. حتي اذا طلع الفجر... سكن كل شي ء و قد انطفأت النجوم و انبعثت صرخة في قلب الغبش الرمادي لقد رحل علي بن الحسين؛ و عندها عرف الناس هوية الرجل [ صفحه 158] الذي كان يجوس أزقة المدينة في الليل و يهب الفقراء الفرحة و الدف ء و الأمل. و لما انثالت عليه المياه.. رأي الناس علي ظهره مثل ركب الابل. سأل رجل مدهوشا: - ما هذا؟ أجاب حفيد له: - لقد كان يحمل علي ظهره جرابا كل ليلة فيطوف منازل الفقراء. بكي الرجال بمرارة. لقد رحل السلام فالمدينة يلفها برد و ظلام... و عامنا عام حزن. كانت المدينة تبكي بصمت.. تبكي رحيل الأشياء الملونة. لم يبق منها سوي طيوف تحلق في سماء الذكريات. و في دمشق تقام

الأفراح... و الوليد الملك السعيد يتلقي أنباء بهيجة... فمملكته تتوسع شرقا و غربا و كنوز المدن المقهورة تتدفق صوب دمشق؛ غير مكترث لما حل بانطاكية و فد دمرتها الزلازل. ولكن هل يتوقف التاريخ عند هذه النهاية؟! - «كلا اذا دكت الأرض دكا دكا.. و جاء ربك و الملك صفا صفا.. وجي ء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان، و أني له الذكري.. يقول: يا ليتني قدمت لحياتي.. [ صفحه 159] فيومئذ لا يعذب عذابه أحد.. و لا يوثق وثاقه أحد.. يا أيتها النفس المطمئنة.. ارجعي الي ربك راضية مرضية.. فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي.. كمال السيد 3 ذو الحجة 1416 ه_

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.