سيرة الائمة الاثني عشر (الامام السجاد علیه السلام)

اشارة

عنوان و نام پديدآور : سيرة الائمة الاثني عشر/هاشم معروف الحسني

مشخصات نشر : [بي جا]: مكتبة الحيدريه، 1428ق.=1386ش.

مشخصات ظاهري : ج.

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي

يادداشت : الطبعة السادسة

شماره كتابشناسي ملي : 1161373

الامام علي بن الحسين زين العابدين

المعروف بين المحدثين بابن الخيرتين فأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب، و أمه من بنات ملوك الفرس، و جاء في ربيع الأبرار للزمخشري: ان لله من عباده خيرتين فخيرته من العرب بنوهاشم و من العجم فارس و فيه يقول ابوالأسود الدؤلي: و ان وليدا بين كسري و هاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم و قد اتفقت الروايات علي أن أمه من أشراف الفرس، ولكنها اختلفت في تاريخ استيلاء المسلمين عليها و زواجها من الحسين (ع) وفي اسمها، ففي البحار عن جعفر بن بابويه أن اسمها شهربانويه بنت يزدجرد بن شهريار، وفي الكامل لابن الأثير أن اسمها سلافة وخولة و برة. و جاء في رواية الكافي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: لما قدمت بنت يزدجرد علي عمر بن الخطاب غطت وجهها و قالت باللغة الفارسية ما معناه: اسود يوم هرمز و أساء الدهر اليه والزمان عليه حيث صار أولاده اساري تحت حكم رجل كهذا و أشارت الي عمر بن الخطاب، فظن عمر و هي تتكلم انها تشتمه، فأوضح له أميرالمؤمنين مرادها. وفي رواية المفيد، ان عمر بن الخطاب اراد بيعها، فقال له أميرالمؤمنين: [ صفحه 112] ان بنات الملوك لاتباع و لو كن كفارا، ولكن اعرض عليها ان تختار أحدا لنفسها فمن اختارته فزوجها منه و احسب ذلك من عطائه فخيرها فاختارت الحسين؛ فتزوجها و أمره أميرالمؤمنين بحفظها والاحسان اليها، و قال له كما يدعي الراوي: يا اباعبدالله لتلدن لك خير أهل

الأرض، فأولدها عليا زين العابدين (ع) و كان يقول له الحسين: انت ابن الخيرتين، فخيرته من العرب قريش و من قريش بنوهاشم و من العجم فارس. و أيد مضمون هذه الرواية أحمد بن علي بن مهنا في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، و أضاف الي ذلك: و قيل انها اسرت في خلافة علي بن أبي طالب (ع) و كان الحارث بن جابر الحنفي قد بعث اليه ببنتي يزدجرد فأعطي واحدة منهما لابنه الحسين فأولدها الامام علي بن الحسين، و أعطي الثانية لمحمد بن أبي بكر فأولدها القاسم بن محد الفقيه المعروف في عهد التابعين، و أيد هذه الرواية ابن الكلبي كما نقل عنه علي جلال الدين الحسيني في كتابه الحسين بن علي، كما أيد الرواية الأولي الشبلنجي في نور الأبصار و الزمخشري في ربيع الأبرار، و أضافا الي ذلك أنه لما أتي عمر بن الخطاب بسبي فارس كان في السبي ثلاث بنات ليزدجرد فباع السبي، و لما اراد ان يبيع بنات يزدجرد قال له اميرالمؤمنين: ان بنات الملوك لايعاملن كغيرهن، بل يقومن و مهما بلغ ثمنهن اداه من يختارهن من المسلمين فقومهن جماعة ممن كانوا في المجلس و أخذهن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب و أعطي واحدة منهن للحسين فأولدها الامام زين العابدين و واحدة لعبدالله بن عمر فأولدها سالم بن عبدالله، و واحدة لمحمد بن أبي بكر فأولدها القاسم بن محمد فكان هؤلاء الثلاثة أبناء خالة. و جاء في رواية ابن بابويه ان عبدالله بن عامر لما فتح خراسان في خلافة عثمان بن عفان أخذ بنتين لكسري و أرسلهما لعثمان فأعطي واحدة للحسن و واحدة للحسن و واحدة للحسين و ماتتا في النفاس، و أيد مضمون هذه الرواية بعض الرواة

في [ صفحه 113] رواية رواها عن الامام الرضا (ع) جاء فيها أنه قال لمحمد بن سهل بن قاسم النوشجاني: ان بيننا و بينكم نسبا، قال و ما هو؟ قال ان عبدالله بن عامر بن كرز أصاب بنتين ليزدجرد بن شهريار فبعث بهما الي عثمان فوهب احداهما للحسن و الأخري للحسين فماتتا في النفاس و صاحبة الحسين قد نفست بعلي بن الحسين. و يبدو أنه لاخلاف بين الرواة و المؤرخين في أن أم السجاد من بنات ملوك فارس و انها وصلت الي الحسين (ع) هي و أختاها أو أختها بالأسر، و أبرز نقاط الخلاف في أنها سبيت في عهد عمربن الخطاب أو في عهد عثمان، أو في عهد أميرالمؤمنين (ع) بواسطة عامله علي بعض بلاد المشرق الحارث بن جابر الحنفي، والذي يرجح احدي الروايتين الأخيرتين ان الامام زين العابدين كان حين وفاة أبيه بين الحادية و العشرين و الخامسة و العشرين من عمره، و بين معركة الطف و وفاة عمر بن الخطاب قرابة أربعين عاما أو أقل من ذلك بقليل. و جاء في بعض المرويات أن أم السجاد توفيت بعد أو ولدته بأيام قليلة، و لما قتل محمد بن أبي بكر في مصر تزوج الحسين (ع) اختها فتولت هي تربيته، و قال بعض الرواة انها بقيت مع الحسين و أدركت معركة الطف و ألقت بنفسها في الفرات من شدة مادخلها من الحزن علي الحسين (ع) و قيل غير ذلك و لايهمنا تحقيق هذه الناحية، و يدعي الرواة أنه لم يكن أحد من أهل المدينة يرغب في نكاح الجواري حتي ولد علي بن الحسين فصاروا يرغبون في الزواج منهن. و مهما كان الحال فلقد ذهب اكثر الرواة الي

أن ولادته كانت بين الخامس والعاشر من شهر شعبان سنة ثمان و ثلاثين أو سبع و ثلاثين من الهجرة، و قيل في النصف من جمادي الثانية، و كان له من العمر حينما قام بأعباء الامامة بعد مقتل ابيه بناء علي ذلك اثنان و عشرون عاما أو ثلاثة و عشرون و بناء علي أن [ صفحه 114] ولادته كانت سنة ثلاثين كما قيل يكون في الثلاثين من عمره حين وفاة أبيه، واستمرت امامته أربعة و ثلاثين سنة عاصر فيها ملك يزيد بن معاوية و مروان بن الحكم و عبدالملك بن مروان، و توفي مسموما كما جاء في أكثر الروايات الشيعية في عهد الوليد بن عبدالملك بن مروان و كانت وفاته في النصف الأول من شهر المحرم سنة خمس و تسعين هجرية و قيل غير ذلك. و من أشهر ألقابه زين العابدين والسجاد و ذوالثفنات و البكاء و العابد، و من أشهرها زين العابدين و به كان يعرف كما يعرف باسمه، و جاء في المرويات عن محمد بن شهاب الزهري أنه كان يقول: ينادي مناد يوم القيامة ليقم سيدالعابدين في زمانه فيقوم علي بن الحسين (ع)، كما جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي ان رسول الله (ص) سماه بهذا الاسم. و جاء في تسميته بذي الثفنات كما في حلية الأولياء والكافي للكليني ان الامام الباقر (ع) قال: كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة يقطعها في كل سنة من طول سجوده و كثرته، و في رواية الصدوق انه كان يقطعها و يجمعها و أوصي أن تدفن معه في قبره، فلما مات دفنت معه. و يروي الرواة عن سبب تسميته بالبكاء عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال:

بكي علي بن الحسين علي أبيه عشرين سنة ما وضع خلالها بين يديه طعام الا بكي، و قال له بعض مواليه: جعلت فداك يابن رسول الله، اني أخاف ان تكون من الهالكين، فقال: انما اشكو بثي و حزني الي الله و أعلم من الله مالا تعلمون، اني لم أذكر مصرع أبي و اخوتي و بني عمومتي الا خنقتني العبرة. و في رواية ثانية أن أحد مواليه قال له: اما آن لحزنك أن ينقضي و لبكائك أن يقل، فقال له: ويحك، ان يعقوب النبي كان له اثنا عشر ولدا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة البكاء واحدودب ظهره وابنه حي في دارالدنيا، و أنا نظرت الي أبي و اخوتي و عمومتي و سبعة عشر [ صفحه 115] شابا من بني عمومتي مجزرين كالأضاحي، و نظرت الي عماتي و أخواتي و قد احاط بهم أهل الكوفة و هن يستغثن و يندبن قتلاهن، والله ما ذكرت ذلك اليوم الا و خنقتني العبرة. و جاء عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: البكاؤون خمسة: آدم و يعقوب و يوسف و فاطمة بنت محمد (ص) و علي بن الحسين، أما آدم فلقد بكي واشتد حزنه لما أخرجه الله من الجنة، و أما يعقوب فلقد بكي علي ولده يوسف حتي ابيضت عيناه من الحزن و قيل له (تالله تفتأ تذكر يوسف حتي تكون حرضا أو تكون من الهالكين) و أما يوسف فانه بكي علي أبيه حتي تأذي من كان معه في السجن، و أما فاطمة فقد بكت علي أبيها حتي لحقت به وقد تأذي أهل المدينة من بكائها و قالوا لها: لقد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج الي مقابر

الشهداء تبكي يومها فاذا جاء الليل رجعت الي بيتها، و أما علي بن الحسين (ع) فلقد بكي علي أبيه اكثر من ثلاثين سنة و لم يقدم له طعام و شراب الا و قال: كيف آكل و قد قتل أبوعبدالله جائعا و كيف أشرب و قد قتل أبوعبدالله عطشان، الي غير ذلك مما رواه الرواة عن حزنه و بكائه عند كل مناسبة تذكره بما جري الأهل بيته من المآسي و المصائب التي تحمل مرارتها طيلة حياته و كان كلما اجتمع اليه جماعة أو وفد من وفود الأقطار يردد عليهم تلك المأساة و يقص عليهم من أخبارها و يخرج الي السوق أحيانا فاذا رأي جزارا يريد أن يذبح شاة او غيرها يدنو منه و يقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا ابن رسول الله، انا لانذبح حيوانا حتي نسقيه ولو قليلا من الماء، فيبكي عند ذلك و يقول: لقد ذبح ابوعبدالله عطشان. و جاء عنه انه دخل يوما فرأي غريبا فسلم عليه و دعاه الي بيته لضيافته، و قال له بحضور جمع من الناس: أتري لو اصابك الموت و أنت غريب عن أهلك هل تجد من يغسلك و يدفنك؟ فقال الناس: يا ابن رسول الله كلنا يقوم بهذا الواجب، فبكي و قال: لقد قتل أبوعبدالله غريبا و بقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلاغسل و لاكفن. [ صفحه 116] و كان في اكثر مواقفه هذه يحاول أن يشحن النفوس و يهيئها للثورة علي الظلم و الظالمين الذين يستبيحون المحارم و يستهترون بالقيم و الاديان في سبيل عروشهم وأطماعهم و قد اعطت هذه المواقف ثمارها و هيأت الجماهير الاسلامية في الحجاز و العراق و غيرهما للثورة فأعلنت الكوفة

عصيانها و أظهر أهلها الندم لموقفهم المتخاذل من الحسين، و أحس أهل المدينة بأن تلك الصدمة قد أصابت الاسلام في الصميم فأنكروا علي يزيد طغيانه و طردوا ولاته و كانت تلك المعركة التي استباح فيها قائده مسلم بن عقبة مدينة الرسول و قتل من أهلها اكثر من عشرة آلاف من علماء المسلمين و خيارهم. [ صفحه 117]

صفته و لباسه

لقد جاء في صفته عن الفرزدق الشاعر أنه كان وسيما جميلا من أحسن الناس وجها و أطيبهم رائحة بين عينيه سجادة، يعني بذلك أن أثر السجود كان بارزا بين عينيه و لذلك لقب بذي الثفنات و قال في وصفه كما جاء في قصيدته الميمية المشهورة: ينشق ثوب الدجي عن نور غرته كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم الله شرفه قدما و عظمه جري بذاك له في لوحه القلم و كان مع ذلك أفضل أهل زمانه في أخلاقه و صدقاته و عطفه علي الفقراء و أنصحهم للمسلمين معظما مهابا عند القريب و البعيد يشتري كساء الخز بخمسين دينارا، ثم يبيعه بعد فصل الشتاء و يتصدق بثمنه علي الفقراء، و في الصيف يلبس أفخر الثياب و يقول: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق) كما نص علي ذلك ابن سعد في طبقاته. و جاء عن الامام الباقر (ع) أنه قال: كان أبي علي بن الحسين (ع) اذا انقضي الشتاء يتصدق بكسوته علي الفقراء، و اذا انقضي الصيف يتصدق بها أيضا، والخز هو الغالب عليها، و قيل له: انك تعطي ثيابك من لا [ صفحه 118] يعرف قيمتها و لايليق به لبسها، فلو بعتها و تصدقت بثمنها، فقال: اني أكره ان ابيع ثوبا صليت فيه، و تواتر

عنه أنه كان يلبس أفخر أنواع الثياب، و اذا وقف بين يدي الله اغتسل و تطيب، و هكذا كان أكثر الأئمة (ع) في لباسهم و مظهرهم. و من ذلك يظهر ان الزهد في الدنيا الذي كان شعارهم لايعني ترك الطيبات و لا التقشف في العيش، بل يعني العمل بما اراد الله واجتناب ما حرمه و نهي عنه و عدم التطلع الي ما في أيدي الناس من متاع الدنيا و طيباتها، و قد جاء في الحديث: اعلي درجات الزهد ادني درجات الورع. و يروي الرواة ان ابن عيينة قال لأبي عبدالله الصادق (ع) ان جدك علي بن أبي طالب (ع) كان يلبس الخشن وأنت تلبس القهوي المروي، فقال: ويحك يا ابن عيينة ان عليا كان في زمن ضيق فاذا اتسع الزمان فأبرار الزمان أولي به. و قال الامام الصادق في وصفه لجده علي بن الحسين (ع): كان جدي اذا مشي كأن الطير علي رأسه لايسبق يمينه شماله و لايخطر بيده و عليه السكينة والوقار. و في رواية عبدالله بن سليمان أنه قال: كنت مع أبي في المسجد فدخل علي بن الحسين ولست أثبته و عليه عمامة سوداء و قد أرسل طرفيها بين كتفيه فقلت لرجل قريب مني: من هذا الرجل الذي أري؟ فقال لي: مالك لم تسألني عن أحد دخل هذا المسجد غير هذا الشيخ؟ فقلت له: اني لم أر احدا دخل المسجد احسن منه هيئة فلذلك سألتك عنه، فقال: انه علي بن الحسين (ع). [ صفحه 119]

الامام علي بن الحسين في الكوفة والشام

لقد نشأ علي بن الحسين في بيت النبوة و مهبط الوحي في البيت الذي تحمل أقسي ما يتصور من الألم و المحن والمصائب في سبيل الله، واستقبل في طفولته الطرية

محنة جده الأعظم و هو يتخبط بدمه في بيت الله، و بعدها و هو مقبل علي الشباب محنة عمه الحسن و هو يلفظ كبده من السم الذي دسه اليه معاوية بن هند آكلة الأكباد، و شاهد في شبابه و هو طريح الفراش من المرض الذي كان يفتك بجسمه مصرع أبيه و اخوته و بني عمومته وسبي عماته و أخواته من كربلاء الي الكوفة و منها الي الشام و رؤوس الأهل و الأصحاب علي الرماح يتقدمها رأس أبيه، و شاهد عبيدالله بن زياد و يزيد بن معاوية ينكثان ثنايا أبيه تشفيا و انتقاما و قد عرضاه علي السيف أكثر من مرة ولكن مشيئة الله كانت تحول بينهم وبين ما يريدون. و جاء في طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين اكبر ولد ابيه و كان مع أبيه بطف كربلاء و قد انهكته العلة و المرض، وروي عنه ابومخنف أنه قال: اني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها و عندي عمتي زينب تمرضني اذ اعتزل أبي في خباء له و عنده جون مولي أبي ذر الغفاري يعالج له سيفه و يصلحه و أبي يقول: [ صفحه 120] يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيل من صاحب و طالب قتيل والدهر لايقنع بالبديل و كل حي سالك سبيل ما اقرب الوعد من الرحيل فخنقتني العبرة فرددتها و لزمت السكوت و علمت ان البلاء قد وقع و أما عمتي زينب فانها لما سمعت ما سمعت لم تملك نفسها أن و ثبت تجر ذيلها حتي انتهت اليه و نادت واثكلاه ليت الموت اعدمني الحياة اليوم ماتت امي فاطمة و أبي علي و أخي الحسن يا

خليفة الماضين و ثمال الباقين. فنظر اليها أبي و قال: يا أخية لايذهبن بحلمك الشيطان و أوصاها بالصبر وحفظ العيال. و قد روي الامام علي بن الحسين الكثير من أخبار الطف و ما جري فيه من المعارك و خطبة أبيه في أهل الكوفة قبيل وفاته، و في اللحظات الأخيرة من حياة أبيه دخل عليه و أوصاه بوصاياه و سلمه مواريث النبوة و كانت آخر وصية اوصاه بها: يا بني أوصيك بما اوصي به جدك رسول الله عليا حين وفاته و بما اوصي به جدك علي عمك الحسن و بما اوصاني به عمك، اياك و ظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله، ثم ودعه و مضي الي المعركة الأخيرة التي قتل فيها. و هو الذي دفن أباه الحسين والقتلي من أهله و أنصاره كما في أكثر الروايات الشيعية و أخبر بني أسد بقبور الشهداء و أسمائهم و كانوا قد حضروا لدفنهم في اليوم الثالث أو الثاني عشر من المحرم، و اذا صح أنه هو الذي تولي دفنهم فخروجه بالطريقة التي يرويها الرواة لا تفسير لها الا بمشيئة الله. و لما دخل هو و عماته الكوفة اجتمع عليهم الناس فهالهم ذلك المشهد و جعلوا يبكون و ينوحون، فأومأ الي الناس أن اسكتوا، و وقف و هو عليل قد أنهكه المرض فحمدالله و أثني عليه و ذكر النبي و صلي عليه، ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا اعرفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهك حريمه و سلب نعيمه وانتهب ماله و سبي عياله، انا ابن المذبوح بشط الفرات، انا ابن من قتل جرا و

كفي بذلك [ صفحه 121] فخرا، و مضي يذكر أهل الكوفة بكتبهم و مواعيدهم و بما ارتكبوه من الفظائع حتي ضج الناس بالبكاء و العويل كما يدعي الراوي، و ان كنت اشك في كل ما قيل حول خطبه و خطب عماته، لأن ابن زياد لايمكنهم من مثل هذه المواقف التي تهيج عليه الرأي العام و تلهب المشاعر و قد اتخذ كل الاحتياطات عند دخولهم الكوفة حتي لا يترك مجالا لمتنفس. و لما أدخل مع عماته علي ابن زياد لعنه الله و أخزاه قال له كما يروي الرواة: من أنت؟ قال: انا علي بن الحسين، فرد عليه بقوله: أليس قد قتل الله علي بن الحسين، فأجابه الامام: كان لي أخ يسمي عليا قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الامام: الله يتوفي الأنفس حين موتها، فغضب ابن زياد و قال: أبك جرأة علي رد جوابي؟ و أمر جلاوزته بقتله فتعلقت به عمته زينب واعتنقته و قالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت والله لا افارقه فان اردت قتله فاقتلني معه، فرق لها و تركه. و لما كتب يزيد بن معاوية الي عبيدالله يأمره بارسال رأس الحسين و رؤوس القتلي مع السبايا الي الشام، أرسلهم اليه مع مخفر بن ثعلبة العائدي و شمر بن ذي الجوشن و جماعة من جنده، و كان كما يصفه الرواة مقيدا بالحديد، و لما بلغوا بهم الشام خرج أهلها الي استقبالهم بأبهي مظاهر الزينة و الفرح. و جاء في كامل البهائي و البحار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: خرجت الي بيت المقدس، فلما توسطت الشام فاذا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الاشجار و قد علق أهلها الستور و الحجب و الديباج و هم

فرحون مستبشرون، والنساء تلعب بالدفوف و الطبول، فقلت في نفسي: لا أري لأهل الشام عيدا لانعرفه، فأقبلت علي قوم يتحدثون و قلت لهم: يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟ فقالوا: يا شيخ نظنك غريبا، فقلت لهم: انا صاحب رسول الله (ص) سهل بن سعد الساعدي و قد رأيت رسول الله و سمعت حديثه، [ صفحه 122] فقالوا: يا سهل ما اعجبك ان السماء لتمطر دما والأرض لتنخسف بأهلها، فقلت لهم و لم ذاك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين بن علي يهدي من أرض العراق الي يزيد بن معاوية، فقلت واعجباه رأس الحسين والناس يفرحون كما أري، من أي باب يدخل؟ فأشاروا الي باب يقال له باب الساعات، فبينما نحن في الحديث و اذا بالرايات يتلو بعضها بعضا، و فارس بيده رمح منزوع السنان عليه رأس الحسين (ع) من أشبه الناس وجها برسول الله (ص) و وراءه نسوة علي جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن و قلت: يا جارية من أنت، قالت: أنا سكينة بنت الحسين، فقلت لها: ألك حاجة الي أنا سهل بن سعد ممن رأي جدك رسول الله قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس يتقدم بالرأس امامنا حتي يشتغل الناس بالنظر اليه عن النظر الي حرم رسول الله، قال سهل بن سعد: فدنوت من صاحب الرأس و قلت له: هل لك ان تقضي حاجتي و تأخذ مني أربعمائة دينار، قال: و ما هي؟ قلت: تقدم الرأس امام الحرم، ففعل ذلك و دفعت اليه المبلغ، و في رواية ثانية أن الذي طلب من سهل ان يدفع شيئا الي حامل الرؤوس هو الامام زين العابدين (ع) ثم دعا يزيد بن معاوية أشراف الشام و وجوهها و

أجلسهم حوله و أمر بادخال علي بن الحسين و الرؤوس و السبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال، فقال له علي بن الحسين: انشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا علي مثل هذه الحالة فلم يبق أحدا ممن كان حاضرا الا بكي كما جاء في بعض المرويات، فأمر يزيد بالحبال فقطعت، و أنشد حينما وضعت الرؤوس بين يديه: نفلق هاما من رجل اعزة علينا و قد كانوا أعق و أظلما و كان يحيي بن الحكم شقيق مروان بن الحكم في المجلس فأنشد حينما رأي يزيد يترنح فرحا و سرورا: [ صفحه 123] لهام بأدني الطف أدني قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل سمية اضحي نسلها عدد الحصي و بنت رسول الله اضحت بلانسل فضربه يزيد في صدره و قال: اسكت، والتفت الي علي بن الحسين و قال: أبوك قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت، فقال علي بن الحسين: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك علي الله يسير لكيلا تأسوا علي مافاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور) فقال يزيد لابنه خالد: رد عليه فلم يدر خالد ما يقول، فقال له يزيد قل له: (ما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير) فقال له الامام زين العابدين: يا ابن معاوية و هند و صخر لم تنزل النبوة و الأمرة الا لآبائي و أجدادي من قبل أن تولد، و لقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر و أحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) و أبوك و جدك

في ايديهما راية الكفار ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت و ما الذي ارتكبت من أبي و أهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد و دعوت بالويل و الثبور فابشر بالخزي والندامة اذا اجتمع الناس ليوم الحساب. و قد روي الرواة ان يزيد بن معاوية أمر أحد أنصاره أن يصعد المنبر و ينال من علي والحسن و الحسين و يثني علي معاوية، فصعد الخطيب المنبر و أفاض في ذلك علي معاوية و اطرائه و نال من علي والحسن والحسين، فقال له الامام السجاد: ويلك أيها المتكلم لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار، ثم التفت الي يزيد و قال: أتسمح لي أن أصعد هذه الأعواد و أتكلم بكلمات فيها لله رضا و لهؤلاء الجلوس اجر و ثواب، فلم يأذن له يزيد بذلك، فقال له من في المجلس: ائذن له يا أمير لنسمع ما يقول، فرد عليهم يزيد بن معاوية بقوله: اذا صعد المنبر لاينزل الا بفضيحتي و فضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: و ما قدر ما يحسن هذا [ صفحه 124] الغلام، فقال كما يزعم الرواة: انه من أهل بيت زقوا العلم زقا، فلم يزالوا به حتي أذن له فصعد المنبر و حمد الله و أثني عليه و قال: أيها الناس لقد اعطينا ستا و فضلنا بسبع، اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، و فضلنا بأن منا النبي المختار (ص) و منا الصديق و منا الطيار و منا أسدالله و أسد رسوله و منا سيدة النساء و منا سبطا هذه الأمة ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي أنا ابن مكة

و مني أنا ابن زمزم والصفا انا ابن من حمل الزكاة بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر و ارتدي أنا ابن خير من انتعل واحتفي، انا ابن خير من طاف وسعي أنا ابن خير من حج البيت الحرام ولبي، أنا ابن من حمل علي البراق في الهوا، أنا ابن من اسري به من المسجد الحرام الي المسجد الأقصي، أنا ابن من بلغ به جبرائيل الي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلي فكان قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلي بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي اليه الجليل ما أوحي، أنا ابن محمد المصطفي و ابن علي المرتضي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا لا اله الا الله، انا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين و بايع البيعتين و طعن برمحين و هاجر الهجرتين و قاتل ببدر و حنين و لم يكفر بالله طرفة عين و لم يزل يقول انا انا و يعدد علي الحضور مآثر جديه رسول الله و أميرالمؤمنين و أبيه أبي عبدالله و يذكر ما جري في طف كربلاء حتي ضج الناس بالبكاء و النحيب و خشي يزيد ان ينتقض أهل الشام عليه كما تدعي الرواية فأمر المؤذن أن يؤذن ليقطع حديثه فلما قال المؤذن: الله أكبر قال (ع): لاشي ء اكبر من الله، و لما قال: أشهد أن لا اله الا الله قال الامام (ع): شهد بها لحمي و دمي و بشري و شعري، و لما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، التفت علي بن الحسين الي يزيد بن معاوية و قال: محمد هذا جدي أم جدك، فان زعمت أنه جدك فقد كذبت و كفرت، و ان زعمت

أنه جدي فلم قتلت عترته. [ صفحه 125] وانتهي الراوي عند هذا الحد من الحوار بين الامام زين العابدين و يزيد ابن معاوية، و أضاف أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال ليزيد: من هذا الغلام؟ فقال: هو علي بن الحسين، و سأله اليهودي عن جده و أبيه و أمه فأخبره بنسبه حتي انتهي الي رسول الله (ص) فقال اليهودي: يا سبحان الله لقد قتلتم ابن بنت نبيكم بهذه السرعة بئسما خلفتموه في ذريته والله لو ترك فينا موسي بن عمران سبطا من صلبه لظننا انا كنا نعبده من دون الله، و أنتم قد فارقتم نبيكم بالأمس و وثبتم علي ابنه فقتلتموه فسوءة لكم من أمة. و مضي الراوي يقول: ان الامام زين العابدين خرج في بعض الأيام من المكان الذي اعده يزيد للأسري، فبينما كان يسير في بعض الأسواق و اذا بالمنهال بن عمرو يستقبله و يسأله عن حاله، فقال له الامام (ع): أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون يذبحون ابناءهم و يستحيون نساءهم ثم قال له الامام: يا منهال، أمست العرب تفتخر علي العجم بأن محمدا منها و أمست قريش تفتخر علي سائر العرب بأن محمدا منها، و أمسينا معشر أهل بيته و نحن مغصوبون مقتولون مشردون هكذا امسينا و أصبحنا يا منهال. و في رواية ثانية ان الامام (ع) قال له: كيف يصبح من كان اسيرا ليزيد بن معاوية بالاضافة ما ذكرنا. و كان يزيد بن معاوية قد وعد علي بن الحسين أن يقضي له ثلاث حاجات كما جاء في الملهوف، فقال له يوما: اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهن، فقال له: الأولي ان تريني وجه أبي لأتزود من النظر اليه، والثانية أن

ترد علينا ما أخذ منا، والثالثة ان كنت عزمت علي قتلي أن ترسل مع هؤلاء النسوة من يردهن الي حرم جدهن رسول الله، فقال له يزيد كما يزعم الراوي: أما رأس أبيك فلن تراه أبدا، و أما النساء فلايردهن غيرك الي المدينة، و أما ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته، فقال [ صفحه 126] له الامام (ع): أما مالك فلا نريده و هو موفور عليك، و انما طلبت منك ما أخذ منا لأن فيه مغزل جدتي فاطمة و مقنعتها و قلادتها و قميصها فأمر يزيد برد ذلك عليه و أضاف اليه مائتي دينار فأخذها و فرقها علي الفقراء. و يروي بعض الرواة ان يزيد بن معاوية خيرالامام زين العابدين بين البقاء بالشام والرجوع الي المدينة فاختار الرجوع اليها فجهزهم يزيد بن معاوية و أرسل معهم من يتولي ادارة شؤونهم و رعايتهم خلال طريقهم و طلبوا من الدليل أن يعرج بهم علي كربلاء فأجابهم لذلك و كان جابربن عبدالله الأنصاري و جماعة من بني هاشم قد شدوا الرحال لزيارة الحسين (ع) فوردوا كربلاء قبل وصول السبايا اليها بيوم واحد و فيما كان جابربن عبدالله و من معه يجولون بين القبور و اذا بموكب الامام قد أطل عليهم من ناحية الشام، فقال له قائده و كان جابر: اذهب و أتنا بخبره مسرعا فان كان من أتباع ابن زياد لعلنا نأوي الي ملجأ، و ان كان لعلي ابن الحسين و عماته و أخواته فأنت حر لوجه الله، فمضي و ما لبث ان رجع مسرعا و هو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله هذا زين العابدين قد جاء بعماته و أخواته، فقام جابر يمشي حافي الأقدام مسرعا حتي دنا

من الامام زين العابدين، فوقع عليه يقبله و يبكي فارتج المكان من كثرة البكاء، و قال له الامام (ع): يا جابر ها هنا والله قتلت رجالنا و ذبحت اطفالنا و سبيت نساؤنا و حرقت خيامنا. و قال ابن طاوس في كتابه الملهوف انهم لما وصلوا الي كربلاء وجدوا جابر بن عبدالله و جماعة من بني هاشم و رجالا من آل الرسول (ص) قد اقبلوا لزيارة قبورالحسين فتلاقوا بالبكاء و العويل و أقاموا المأتم واجتمع اليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة علي الفرات، و بعد أيام قلائل مضي الموكب في طريقه الي المدينة كما جاء في المرويات التي وصفت رحلة السبايا من العراق الي الشام و منها الي الحجاز علي طريق كربلاء. و روي الرواة مواقف للامام زين العابدين (ع) في طريقه الي الشام [ صفحه 127] و في دمشق ايضا و نسبوا له و للرأس الشريف من الكرامات في الطريق و مجلس يزيد بن معاوية بأسانيد لاتثبت في مقام النقد و التمحيص و ليس ذلك بغريب عليهم و لا ببعيد علي الله سبحانه أن يستجيب لأوليائه بعد ان استجابوا له و بذلوا أعز ما يملكون مع انفسهم في سبيله. و مما لاشك فيه ان يزيد بن معاوية و أعوانه الطغاة قد مثلوا مع الحسين في كربلاء و مع السبايا في الكوفة و في الشام أقبح الفصول و الادوار بنحو لم يعرف له تاريخ العرب نظيرا من قبل و ليس ذلك بغريب علي يزيد المستهتر الخليع الذي كان شاذا حتي بالقياس الي طغاة اسرته، اما التفاصيل التي رواها المؤلفون في مقتل الحسين و ما تلاه من الأحداث فأكثر المرويات التي تعرضت لها من نوع المراسيل و القليل

المسند منها علي ما في بعضه من العيوب لايغطي جميع تلك التفاصيل و لانصفها، كما و اني لا اشك في ان للمحبين و القصاصين دورا فيما يرويه الرواة من تلك الأحداث التي امتلأت بها المؤلفات في معركة الطف. [ صفحه 128]

الامام علي بن الحسين في المدينة

يدعي بعض الرواة ان الامام زين العابدين (ع) لما اصبح قريبا من المدينة حط رحله و ضرب فسطاطه و أنزل النساء فيه و كان معه بشر بن جذيم، فقال له: يا بشر رحم الله اباك لقد كان شاعرا فهل تقدر علي شي ء منه؟ قال بلي يا ابن رسول الله، قال: فادخل المدينة وانع اباعبدالله، قال بشر: فركبت فرسي و مضيت حتي دخلتها فلما بلغت مسجد النبي (ص) رفعت صوتي بالبكاء و أنشأت اقول: يا أهل يثرب لامقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرار الجسم منه بكربلاء مضرج والرأس منه علي القناة يدار ثم قلت: يا أهل المدينة هذا علي بن الحسين مع عماته و أخواته قد حلوا بساحتكم و نزلوا بفنائكم و أنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه، و أضاف الي ذلك الراوي أنه لم تبق في المدينة مخدرة الا و برزت من خدرها، و لم يبق في المدينة أحد الا و خرج و هم يبكون و يندبون. قال بشر بن جذيم: و بعد أن نعيته لأهل المدينة و لم يبق أحد الا و خرج ضربت فرسي و رجعت فوجدت الناس قد أخذوا الطرق و المواضع، [ صفحه 129] فنزلت عن فرسي و جعلت اتخطي الرقاب حتي دنوت من الفسطاط الذي فيه الامام علي بن الحسين فخرج بعد أن ازدحم الناس حول فسطاطه خرج و معه خرقة يمسح بها دموعه و أخرج الخادم له كرسيا

وضعه له فجلس عليه و هو لا يتمالك من العبرة و ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله يعزونه بأبيه فأومأ بيده الي الناس أن اسكتوا و قال: الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين باري ء الخلق اجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلي و قرب فشهد النجوي نحمده علي عظائم الأمور و فجائع الدهور و ألم الفجائع و مضاضة اللواذع و جليل الرزء و عظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم قال: ايها القوم ان الله و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة و ثلمة في الاسلام عظيمة قتل ابوعبدالله و عترته و سبي نساؤه و صبيته و داروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، و هذه الرزية التي لامثلها رزية. أيها الناس فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لايحزن من أجله، ام أي عين منكم تحبس دمعها و تضن عن انهمالها و أي قلب لا يتصدع لقتله، و أي فؤاد لايحن اليه، و أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام و لايصم. أيها الناس اصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار من غير جرم اجترمناه و لا مكروه ارتكبناه و لاثلمة في الاسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ان هذا الا اختلاق، والله لو ان النبي (ص) تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا فانا لله و انا اليه راجعون من مصيبة ما اعظمها و أوجعها و أكظها و أفظعها و أمرها و أفدحها فعند الله نحتسب ما اصابنا و ما بلغ منا انه عزيز ذوانتقام. فأثار خطابه الأسي و الحزن في نفوس تلك الجماهير التي احتشدت

من حوله و ارتج المكان بالبكاء و العويل و أحس المسلمون بمرارة تلك الصدمة [ صفحه 130] العنيفة التي اصابت الاسلام في الصميم و مشت في أوصالهم الهامدة جذوة جديدة و في ضمائرهم المشلولة روح النضال و الدفاع عن كرامتهم التي باتت تهددها الأخطار من كل الجهات، ودب الشعور بالاثم في ضمير كل مسلم استطاع نصره فلم ينصره و سمع دعواته فلم يجبها، و بدأ المجتمع الاسلامي يشهد من حين لآخر تلك الانتفاضات التي كان يقوم بها أولئك الذين دب فيهم الشعور بالاثم و التقصير و أحسوا بأن كرامة كل مسلم قد اصبحت تحت اقدام يزيد بن معاوية والامويين بعد ان اقدم علي قتل الحسين ريحانة الرسول و سبي نسائه فكانت ثورة التوابين و المختار بن عبيد الثقفي والمسلمين في المدينة و ما حولها علي يزيد بن معاوية خلال سنوات ثلاث مضت علي مقتل الحسين و كان مقتله يلهب القائمين بها و يدفعهم علي الاستماتة للتكفير عن تخاذلهم عن نصرته و الخضوع للظالمين و أعوانهم و توالي الثائرون بعد ذلك علي دولة الأمويين بدون انقطاع تقودهم معركة كربلاء بمعانيها السامية الخيرة للتضحية و البذل بسخاء في سبيل ما يرونه حقا حتي تحطمت دولة الأمويين و قامت دولة العباسيين علي حساب كربلاء و ما جري فيها للحسين و صحبه الكرام، و استمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضد الظلم و الطغيان والفساد عشرات السنين بل و مئات السنين. و دخل الامام زين العابدين المدينة بعد أن أتم خطابه و هو يكفكف دموعه فرآها موحشة قد خيم علي اهلها الحزن و الأسي و وجد ديار أهله خالية تنعي سكانها وانصرف عن شؤون الناس و لم يكن

يعنيه شي ء من الدنيا و أهلها و ظل في السنين الأولي من اقامته يبكي علي أبيه و من استشهد معه من اخوته و بني عمومته حي عده المحدثون مع البكائين و قالوا: بأنه بكي علي أبيه عشرين عاما أو أكثر من ذلك. و جاء في حلية الأولياء بسند ينتهي الي أبي حمزة الثمالي عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال: سئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه [ صفحه 131] فقال: لاتلوموني فان يعقوب النبي (ص) فقد سبطا من ولده فبكي حتي ابيضت عيناه، و قد نظرت الي أربعة عشر رجلا من أهل بيتي قتلي علي رمال كربلاء أفترون حزنهم يذهب من قلبي. وروي ابن شهر اشوب عن الامام الصادق (ع) أنه ما وضع بين يديه طعام الا بكي فقال له مولي من مواليه: جعلت فداك يا ابن رسول الله اني أخاف أن تكون من الهالكين، فقال: انما أشكو بثي و حزني الي الله و أعلم من الله مالا تعلمون، اني لم أذكر مصارع بني فاطمة الا و خنقتني العبرة. و روي الصدوق في الخصال أنه بكي علي أبيه عشرين سنة و قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي، فقال له: ويحك، ان يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه و شاب رأسه واحدودب ظهره من الحزن و ابنه حي في دارالدنيا و أنا نظرت الي أبي و أخي و عمي و سبعة عشر رجلا من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني، و قد اشتهر عنه ذلك بين الرواة و بين كل من تعرض لسيرته و تاريخه، و كان مع ذلك لايترك

مناسبة الا و يذكر فيها ما جري لأبيه و أسرته في كربلاء، و أحيانا كان يطلب المناسبة و يبحث عنها ليحدث بما جري علي أهل بيته، فيذهب الي سوق الجزارين في المدينة و يقف معهم يسألهم عما اذا كانوا يسقون الشاة ماء قبل ذبحها، و عندما يسمعهم يقولون: انا لا نذبح حيوانا قبل ان نسقيه ولو قليلا من الماء يبكي و يقول: لقد ذبح ابوعبدالله غريبا عطشان فيبكون لبكائه حتي ترتفع الأصوات بالنحيب و يجتمع الناس عليه. و كان اذا رأي غريبا في الطريق دعاه الي ضيافته و طعامه، ثم يبكي و يقول: لقد قتل أبوعبدالله غريبا جائعا عطشان في طف كربلاء الي غير ذلك من المواقف التي كان يقفها في السنين الأولي بعد مقتل أبيه ليشحن النفوس بالحقد علي الظالمين و الكراهية ليزيد و دولته و يهيئها للثورة عندما يحين وقتها، و قد ساهمت عمته زينب الكبري في هذا النوع من التحرك السياسي المغلف بهذا اللون من الحزن المثير لعواطف الجماهير و غضبها و نقمتها علي [ صفحه 132] يزيد و حكومته، وخيم علي المدينة جو من القلق ينذر بتفخير الموقف بين حين و آخر، مما دعا عمروبن سعيد الأشدق بصفته المسؤول الأول في المدينة ليزيد بن معاوية أن يكتب اليه كتابا يكشف له فيه ما سينجم عن مواقف العقيلة زينب بنت علي (ع) من أخطار تحيط به و بعرشه. و ما جاء فيه: ان وجودها بين أهل المدينة يهيج الخواطر و هي فصيحة عاقلة لبيبة و قد عزمت هي و من معها علي الثورة لتأخذ بثأر أخيها الحسين، فكتب اليه في جوابه يأمره بأن يضع حدا لنشاطها و يفرق بينها و بين الناس [1]

. و من المعلوم ان النشاط الذي كانت تقوم به السيدة زينب (ع) لم يكن يعدو ترديد تلك المأساة والنوح والبكاء المتواصل الذي ألهب النفوس و هيأها للثورة علي يزيد و حكومته الجائرة التي لم تعد تهاب أحدا بعد قتل الحسين (ع) و استطاع الامام زين العابدين (ع) و عمته العقيلة تعبئة النفوس للثورة، ولكنها كانت تبحث عن مبرر للانفجار. [ صفحه 133]

لمحات عن الانتفاضات التي اعقبت مقتل الحسين

لقد روي بعض الرواة ان عثمان بن محمد بن أبي سفيان والي المدينة أرسل وفدا من أهل المدينة ليزيد بن معاوية فيهم عبدالله بن حنظلة الأنصاري المعروف بغسيل الملائكة و عبدالله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، و المنذر بن الزبير و رجال من أشراف المدينة، فلما قدموا علي يزيد بن معاوية أكرمهم و أحسن اليهم و أعظم جوائزهم. و قد رأوا استهتاره بالدين و الاخلاق و جميع القيم و المقدسات، فلما رجعوا الي المدينة اظهروا شتم يزيد و عيبه، و أعلنوا علي أهل المدينة ما شاهدوه من استهتاره و فسقه و مجونه و خلعوا طاعته و كان قتل الحسين من أبرز أسباب النقمة عليه كما يبدو ذلك من المؤرخين كالمسعودي و غيره واستغله حتي اعداء العلويين لصالحهم حيث وجدوا النفوس مشحونة بالنقمة و الكراهية ليزيد و أسرته، فقد قال الطبري في تاريخه و ابن الأثير في الكامل و ابن كثير في البداية و النهاية: انه لما قتل الحسين (ع) في سنة احدي و ستين قام عبدالله بن الزبير في أهل مكة و عظم مقتله و عاب علي أهل الكوفة خاصة و لام أهل العراق عامة و لعن من قتله، و قال: ان أهل العراق أهل غدر و فجور، و ان أهل الكوفة

شرار أهل العراق، لقد دعوا حسينا لينصروه و يولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا عليه و قالوا له: اما ان تضع يدك في أيدينا فنبعث بك الي ابن ياد فيمضي فيك حكمه، [ صفحه 134] و اما أن تحارب، فرأي والله أنه هو و أصحابه قليل في كثير، و ان كان الله عزوجل لم يطلع علي الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة علي الحياة الذميمة، فرحم الله حسينا و أخزي قاتل حسين لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا بالنهار صيامه ما كان يستبدل بالقرآن الغناء و لا بالصيام شرب الخمور، يعرض في ذلك بيزيد بن معاوية لعنه الله، الي كثير من المواقف التي كان يتظاهر فيها بالحسرة و الألم لقتل الحسين و يحرض فيها علي من أمر بقتله. و مجمل القول ان اهل المدينة بعد أن أوغر صدورهم قتل الحسين (ع) و عبأتهم مواقف الامام السجاد و عمته العقيلة و وفد علي يزيد جماعة منهم، و بالرغم من أنه أكرمهم و أغدق في عطائهم والاحسان اليهم خلعوا بيعته بعد رجوعهم و قال عبدالله بن حنظلة: لقد جئتكم من عند رجل لو لم أجد الا بني هؤلاء لقاتلته بهم و قد اعطاني و أكرمني و ما قبلت عطاءه الا لأتقوي به. و قال المنذر بن الزبير و كان أحد الوافدين علي يزيد بن معاوية: انه قد أجازني بمائة ألف و ما يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره و أصدقكم عنه، والله انه ليشرب الخمر، والله انه ليسكر حتي يدع الصلاة، و انه ليفعل جميع المنكرات و يستحل المحارم، و تكلم اعضاء الوفد بكلام يشبه بعضه بعضا. و جاء في المجلد الثاني من تاريخ الخميس

أن أكابر أهل المدينة نقضوا بيعة يزيد و أبغضوه لما جري من قتل الحسين و سوء سيرته و ولوا عليهم عبدالله بن حنظلة و عبدالله بن مطيع العدوي كما في رواية المسعودي و طردوا عامله عليها عثمان بن محمد بن أبي سفيان و حصروا بني أمية في دار مروان، ثم أخرجوهم من المدينة و كان ذلك سنة ثلاث و ستين، و جاء في ص 103 من كتاب الفخري لمحمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي ان أهل المدينة خرجوا علي يزيد بعد مقتل الحسين سنة اثنتين و ستين أي بعد مقتله بسنة واحدة. [ صفحه 135] و فيها كانت وقعة الحرة وهي موضع خارج المدينة، و لما خرج مروان و بنوأمية الي الشام تركوا عيالهم في المدينة، فكلم مروان بن الحكم عبدالله بن عمر بأن يترك عياله و حرمه عنده فأبي عليه، فكلم الامام علي بن الحسين فوافق علي ذلك و بقيت عائلة مروان في رعايته الي أن انتهت المعركة و لما بلغ يزيد ما فعله أهل المدينة أرسل اليهم جيشا بقيادة مسلم بن عقبة المري، و حينما انتهي جيشه الي الحرة خرج أهل المدينة لقتاله بقيادة عبدالله بن حنظلة فاقتتل الطرفان قتالا شديدا كانت الغلبة فيه لجيش الشام فقدم عبدالله اولاده الثمانية و قتل معهم. و قال المسعودي في مروج الذهب: انه قتل في تلك المعركة خلق كثير من الناس من بني هاشم و قريش والأنصار و غيرهم من سائر الناس، و مضي يقول: فممن قتل من آل أبي طالب اثنان عبدالله بن جعفر بن أبي طالب و جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، و من بني هاشم من غير آل أبي طالب الفضل بن العباس بن ربيعة بن

الحرث بن عبدالمطلب و حمزة بن عبدالله بن نوفل بن الحرث بن عبدالمطلب و العباس بن عتبة بن ابي لهب و بضع و تسعون رجلا من قريش و مثلهم من الأنصار و أربعة آلاف من سائر الناس ممن ادركهم الاحصاء دون من لم يعرف، و بايع الناس علي أنهم عبيد ليزيد و من أبي ذلك امرهم مسلم بن عقبة علي السيف غير علي بن الحسين و علي بن عبدالله بن العباس. و أضاف الي ذلك أن الناس نظروا الي علي بن الحسين السجاد قد لاذ بقبر النبي (ص) و هو يدعو فأتي به الي مسلم بن عقبة و هو مغتاظ فتبرأ منه و من آبائه، فلما رآه و قد اشرف عليه ارتعد و قام له و أقعده الي جانبه، ثم قال له: سلني حوائجك فلم يسأله في أحد ممن قدم الي السيف الا شفعه فيه، ثم انصرف عنه، و في رواية ثانية أنه قال له: لعل اهلك فزعوا، فقال له الامام علي بن الحسين: أي والله فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله ورده عليها. و قال المسعودي: انه لما انصرف علي بن الحسين (ع) قيل له رايناك [ صفحه 136] تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال: كنت أقول اللهم رب السموات السبع و ما اظللن والأرضين السبع و ما اقللن رب العرش العظيم رب محمد و آله الطاهرين اعوذ بك من شره و ادرأ بك في نحره اسألك ان تؤتيني خيره و تكفيني شره. و قيل لمسلم بن عقبة: رأيناك تسب هذا الغلام و سلفه فلما أتي به اليك رفعت منزلته، فقال: ما كان لرأي مني لقد ملي ء قلبي منه رعبا. و قيل كما في رواية الطبري:

ان يزيد بن معاويد اوصاه بعلي بن الحسين و أنه جاءه مع مروان و ابنه عبدالملك، و لما رآه معهما قال: لقد جئتني بين هذين، والله لو كان الأمر اليهما لقتلتك ولكن أميرالمؤمنين يزيد قد أوصاني بك فذلك نافعك عندي لا مجيئك معهما. و ليس ببعيد علي يزيد ان يوصي به و بالعلويين خيرا لا لأنه يفعل الخير أو يتمناه لأحد و لا لأنه يتمني الحياة أو يريدها لأحد من آل علي و من ذرية محمد بن عبدالله (ص) بالذات و حتي لجميع الناس، بل لأنه أحسن بوطأة جريمته التي ارتكبها في كربلاء مع الحسين و آل الحسين و أدرك أن الأخطار قد أصبحت تهدد عرشه من جميع الجهات و الأصوات التي تنادي يا لثارات الحسين يدوي صداها في جميع انحاء الدولة و تجد ترحيبا و تجاوبا من الجميع، ولم تكن ثورة أهل المدينة الا من أجل الحسين و آله الذين سقطوا علي رمال كربلاء و ستليها ثورات و انتفاضات ضد الحكم الأموي الظالم تستمد شرعيتها فيما تستمده من مصرع الحسين و المبادي ء التي من أجلها كان مصرع الحسين، و أظن أن يزيد بن معاوية بعد أحداث كربلاء أصبح يدرك كل ذلك، و لعله بعد نتائجها المريرة قد أدرك سر وصية أبيه بالحسين قبيل وفاته يوم قال له: ان اهل الكوفة لايدعونه حتي يخرجوه اليهم، فاذا ظفرت به فلا تمسه بسوء فان له رحما ماسة. ان معاوية لم يكن اكرم نفسا من ولده يزيد و لا أطيب قلبا منه، و لم [ صفحه 137] يكن هو و أبوه و أسرته يحسبون للرحم حسابا في يوم من أيام الاسلام منذ أن بزغ فجره خلال معاركهم مع

النبي و علي بن أبي طالب، و ما يوم هند و أبي سفيان من الحمزة بن عبدالمطلب في معركة أحد ببعيد عن الأذهان، ولكنه كان أبعد نظرا و أكثر احساسا بنتائج الأحداث و مضاعفاتها من ولده، و كان مع ذلك حريصا علي بلوغ أهدافه بأقرب الوسائل و أيسرها اذا وجد سبيلا لذلك. فمن غيرالبعيد أن يوصي يزيد بن معاوية قائده مسلم بن عقبة بعلي بن الحسين (ع) بعد أن كان لمعركة كربلاء ذلك الصدي الواسع في جميع الأوساط و بعد أن ارتفعت الأصوات هنا و هناك يالثارات الحسين، و أصبح حتي من كان الحسين (ع) اثقل عليهم من يزيد بن معاوية يتباكون عليه و يحرضون علي يزيد و غيره من طغاة الأمويين. و مهما كان الحال فلقد سلم علي بن الحسين و اهل بيته من شر مسلم بن عقبة و سلم كل من التجأ الي بيته من أهل المدينة، و قد اشتهر بين الرواة و المؤرخين أن الذين انضموا الي علي بن الحسين (ع) يزيدون علي اربعمائة عائلة. و جاء في ربيع الأبرار للزمخشري انه لما ارسل يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة و استباحتها كفل الامام زين العابدين اربعمائة امرأة مع اولادهن وحشمهن وضمهن الي عياله و قام بنفقتهن و اطعامهن الي أن خرج جيش بن عقبة من المدينة، و قد أقسمت واحدة منهن أنها ما رأت في دار أبيها و أمها من الراحة والعيش الهني ء ما رأته في دار علي بن الحسين. و يروي ابن قتيبة ان عدد من قتل من أبناء الأنصار والمهاجرين و الوجوه بلغ ألفا و سبعمائة و من سائر الناس عشرة آلاف سوي النساء والأطفال، و مضي يقول: لقد دخل رجل

من جند مسلم بن عقبة علي امرأة نفساء من الأنصار و معها صبي لها فقال: هل من مال؟ فقالت: لا والله ما تركوا لنا شيئا، فقال: والله لتخرجن الي شيئا أو لأقتلنك وصبيك هذا، فقالت له: [ صفحه 138] و يحك انه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله، فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها و ضرب به الحائط فانتثر دماغه علي الأرض. و لم يسلم احد من أهل المدينة نساء و رجالا من جيش أهل الشام خلال المعركة و الأيام الثلاثة التي اباحها مسلم بن عقبة سوي من خرج منها هاربا و من التجأ الي الامام علي بن الحسين (ع). و فيما كان يزيد بن معاوية يتعقب الثائرين في المدينة كان التوابون في الكوفة منذ سنة احدي و ستين يعدون العدة للثورة علي يزيد و أعوانه و قد بدأوا يحسون بمرارة تلك الفاجعة منذ اللحظة الأولي التي وقف فيها الامام زين العابدين موقفه الأليم في جموعهم التي احتشدت في شوارع الكوفة و مداخلها تستقبل الرؤوس و الأسري و كان مما خاطب به أهل الكوفة: أيها الناس انشدكم الله هل تعلمون انكم كتبتم الي أبي و خدعتموه و أعطيتموه من انفسكم العهد و الميثاق و البيعة و قاتلتموه، فتبا لما قدمتم لأنفسكم و سوءة لرأيكم بأية عين تنظرون الي رسول الله (ص) اذ يقول لكم: قتلتم عترتي و انتهكتم حرمتي فلستم من أمتي. قال الرواة: فارتفعت اصوات الناس بالبكاء من كل ناحية و قال بعضهم لبعض: هلكتم و ماتعلمون. و قد رأتهم العقيلة زينب بنت علي (ع) يبكون و يعولون فقالت: أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فلقد ذهبتم بعارها و شنارها فلن

ترحضوها بغسل أبدا، و كيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة و سيد شباب أهل الجنة. و يروي الرواة ان الشيعة في الكوفة بعد هذه المواقف تلاقوا بالتلاوم و الندم و خلقت في نفوسهم شعورا بالاثم و تأنيبا للنفس و رغبة عارمة في التكفير و قال قائلهم: دعونا ابن بنت نبينا و قد قتل بيننا فبخلنا عنه بأنفسنا فلا نحن [ صفحه 139] نصرناه بأيدينا و لاجادلنا عنه بألسنتنا و لا قويناه بأموالنا فما عذرنا عند ربنا و عند لقاء نبينا؟ لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتليه و المؤلبين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك عسي أن يتوب الله علينا. و قال سليمان بن صرد الخزاعي: كنا نمد اعناقنا الي قدوم آل نبينا و نمنيهم النصر و نحثهم علي القدوم، فلما قدموا و نينا و عجزنا وانتظرنا ما يكون حتي قتل فينا ولد نبينا و سلالته و بضعة من لحمه و دمه، الا انهضوا فقد سخط ربكم و لاترجعوا الي الحلائل و الابناء حتي يرضي الله و ما أظنه راضيا حتي تناجزوا من قتله أو تبيدوا، و مضي يقول: ألا لاتهابوا الموت، فوالله ما هابه امرؤ قط الا ذل. و كتب سليمان بن صرد الي سعد بن حذيفة بن اليمان و من معه من الشيعة في المدائن كما كتب الي المثني بن محربة العبدي في البصرة يدعوه الي الأخذ بثأر الحسين و مضي سليمان بن صرد هو و من معه في الكوفة منذ قتل الحسين يستعدون و يجمعون الأموال و الرجال حتي اجتمع لهم جيش عرف في التاريخ بجيش التوابين و لم يكتموا امرهم عن أحد، بل خرجوا يشترون السلاح و لوازم الحرب و

هم ينادون من كل جانب: اللهم انا لا نريد الدنيا و لا لها نعمل و نريد أن نخرج و انما نريد ان نطلب بدم الحسين، و كانت دعوتهم تتسع يوما بعد يوم حتي دخلت كل بيت في الكوفة والبصرة و المدائن و وجدت تجاوبا و اقبالا و بخاصة بعد ان هلك يزيد بن معاوية و بلغ عدد المبايعين لسليمان بن صرد و رفاقه اكثر من ستة عشر ألفا. و ما أن دخلت سنة 65 حتي كانت صيحتهم يا لثارات الحسين تزلزل الأرض تحت بني امية و أعوانهم و شهدتهم الكوفة بأسلحتهم و عتادهم ساعين في أحيائها و شوارعها يدعون الناس للتوبة الي الله مما صنعوه مع الحسين (ع) والخروج معهم لحرب الظالمين. وفي ليلة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر، سنة خمس و ستين [ صفحه 140] خرجوا من الكوفة الي قبر الحسين (ع) و هم يتلون الآية: (فتوبوا الي ربكم فاقتلوا انفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم). فلما بلغوا القبر الشريف صاحوا صيحة واحدة باكين نادبين و أقاموا عنده يوما و ليلة و هم يقولون: ربنا انا خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا و تب علينا انك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينا و أصحابه الشهداء الصديقين، و انا نشهدك انا علي مثل ما قتلوا عليه فان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين. و غادروا القبر متجهين الي الشام تاركين الكثيرين ممن باشروا القتال في كربلاء وراءهم في الكوفة، و كان مروان بن الحكم بعد أن استولي علي السلطة قد أرسل جيشا من الشام لقمع الثورة في الكوفة بقيادة عبيدالله بن زياد فالتقي الفريقان في مكان يدعي (عين الوردة) واندفع الثوار كالموج مستبسلين يقابلون

تلك الألوف التي زحفت من الشام بقيادة ابن زياد ودارت بينهما معارك طاحنة كادت تقضي علي ابن زياد وجيشه لولا المدد الذي كان يصلهم بين الحين والآخر، و ظلوا يقاتلون اياما حتي ابيدوا عن آخرهم وفي ذلك يقول اعشي همدان في رثائهم من قصيدة طويلة: فجاءهم جمع من الشام بعده جموع كموج البحر من كل جانب فما برحوا حتي ابيدت سراتهم فلم ينج منهم ثم غير عصائب و غودر اهل الصبر صرعي فاصبحوا تعاودهم ريح الصبا و الجنائب لقد مضي التوابون شهداء الندم والتوبة، و تركوا وراءهم الندم ميراثا للابناء من بعدهم و الاحفاد يصلي بناره الجيل بعد الجيل. [ صفحه 140]

ثورة المختار

و دخلت سنة ست و ستين للهجرة و فيها خرج المختار بالكوفة و دعا الناس للطلب بثأر الحسين و أظهر الحزن و الجزع و جعل يردد في المجتمعات و المحافل حديث كربلاء و ما ارتكبه أهل الكوفة فيها من الجرائم فمال اليه الشيعة و استولي علي بيت المال ففرق ما فيه من الأموال علي أهلها فانحاز الي جانبه أكثرهم و استتب له الأمر و أراد أن يدعم مكانه في الكوفة و بخاصة عند شيعتها باظهار الدعوة الي علي بن الحسين (ع) فأرسل اليه كتابا و مالا كثيرا و عرض عليه ان يأخذ له البيعة في الكوفة و يدعو الناس اليه، و هنا يدعي جماعة من المؤرخين أن الامام (ع) قد رفض الأموال و لم يجب علي كتابه و سبه علي رؤوس الملأ في مسجد رسول الله (ص)، و لما يئس منه المختار كتب الي عمه محمد بن الحنفية يعرض عليه البيعة، فاستشار ابن الحنفية الامام زين العابدين فأشار عليه أن يرفض بيعته و لايجيبه الي شي ء

مما عرضه عليه، و ان يظهر للناس عيبه والبراءة منه، و رجح له ابن عباس ان لايقف منه هذا الموقف و يبقي علي صلة به تحسبا مما ينتظره من ابن الزبير لأنه استقل بالحجاز واشتد امره فيها، فأطاع ابن عباس وسكت عن عيب المختار، كما يدعي المسعودي و غيره. و سواء صح ذلك أم لم يصح فلقد تتبع المختار قتلة الحسين (ع) [ صفحه 142] والمشتركين في حربه و لم ينج منهم الا من فر من الكوفة والتحق بالشام أو بابن الزبير، و نادي منادي المختار في الكوفة و أنحائها من أغلق عليه بابه فهو آمن الا من اشترك في قتال آل محمد (ص) و كان يوصي اصحابه بأسرهم ليأتوه بهم أحياء فاذا اوقفوهم بين يديه يصنع بهم مثل ما صنعوه مع الحسين و أصحاب الحسين (ع). و كان عمر بن سعد خائفا يترقب دوره ساعة بعد ساعة فأرسل اليه المختار من قتله و جاءه برأسه فوضعه بين يديه فنظر اليه ولده حفص و كان في مجلس المختار، فقال له اتعرفه؟ قال: نعم و لا خير في العيش من بعده، فقال له المختار: و من أنبأك انك تعيش من بعده؟ ثم أمر بقتله و وضع رأسه الي جانب رأس أبيه، و قال هذا بحسين و هذا بعلي بن الحسين و لا سواء و بكي، و مضي يقول: والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا بانملة من انامله و أرسل برأسيهما الي علي بن الحسين (ع) و قيل ارسلهما الي محمد بن الحنفية. و طلب المختار فيمن طلبهم من قتلة الحسين والمشتركين في معركة كربلاء محمد بن الأشعث و كان في قرية له خارج الكوفة، فلما

احس بالطلب خرج من قصره متخفيا والتحق بمصعب بن الزبير كغيره ممن فروا من الكوفة، فهدم المختار داره و بني بأحجارها وطينها دار حجر بن عدي الكندي و كان قد هدمها عبيدالله بن زياد فيما هدمه من دور الشيعة في الكوفة يوم كان فيها واليا لمعاوية. و ظل المختار يتحين الفرصة التي تمكنه من عبيدالله بن زياد، و لما بلغه أنه قد سار من الشام في جيش عظيم الي العراق و بلغ الموصل و استولي عليها ارسل ابراهيم بن الأشتر في جيش من فرسان الكوفة و أهل البصائر و التجربة لحرب ابن زياد و ذلك لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست و ستين فالتقيا بمكان يقال له الخازر بالقرب من الموصل ودارت بين الطرفين معارك لم يعرف [ صفحه 143] التاريخ اشد ضراوة منها و استمرت الي ظلام الليل و ثبت عبيدالله لابراهيم بن الأشتر و هو لايعرفه فقتله ابراهيم وانهزم من بقي من أهل الشام تاركين آلاف القتلي علي شواطي ء نهر الخازر و كانت المعركة الحاسمة يوم العاشر من المحرم سنة سبع و ستين و ظن ابراهيم بن الأشتر أنه قد قتل عبيدالله بن زياد بيده، فقال لأصحابه: التمسوا في القتلي رجلا ضربته بالسيف فنفحني منه ريح المسك شرقت يداه و غربت رجلاه علي شاطي ء النهر، فالتمسوه فاذا هو عبيدالله بن زياد و قد قطعته ضربة ابن الأشتهر نصفين فقطعوا رأسه و أرسلوه الي المختار فأرسله المختار الي علي بن الحسين في المدينة فأدخل الرأس عليه و هو يتغدي، فقال: يا سبحان الله لقد أدخل رأس ابي علي صاحب هذا الرأس و هو يتغدي كما جاء في رواية ابن سعد في الطبقات و رواية ابن

عبدالبر في الاستيعاب. و روي الكشي في كتابه اخبار الرجال عن عمر بن علي بن الحسين (ع) أنه لما أرسل المختار رأس عبيدالله بن زياد و رأس عمر بن سعد الي علي بن الحسين خر ساجدا و قال: الحمدلله الذي أدرك لي ثاري من اعدائي و جزي الله المختار خيرا. و جاء عن الامام الصادق (ع) أنه قال: ما اكتحلت هاشمية و لا اختضبت و لا رؤي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتي قتل عبيدالله بن زياد. و جاء عن فاطمة بنت علي أميرالمؤمنين (ع) انها قالت: ما تحنأت امرأة منا و لا اجالت في عينها مرودا و لا امتشطت حتي بعث المختار برأس عبيدالله بن زياد الي المدينة. و روي ابن الأثير ان ابن الزبير قال لابن عباس: ألم يبلغك قتل الكذاب؟ قال: و من الكذاب؟ قال: ابن ابي عبيد، قال: لقد بلغني قتل المختار، قال: كأنك انكرت تسميته كذابا، قال: ذاك رجل قتل قتلتنا [ صفحه 144] و طلب ثأرنا و شفي غليل صدورنا و ليس جزاؤه الشتم و الشماتة. و قد وردت اخبار كثيرة عن الأئمة (ع) في مدحه والترحم عليه و استقامته كما ورد في مقابلها ما يشير الي انحرافه و نسب اليه المؤرخون والباحثون في احوال الفرق الاسلامية من الأباطيل و الآراء مالايتفق مع الاسلام و أصوله. و زكاه جماعة من أعلام الشيعة و نزهوه مما نسب اليه كالعلامة الحلي و ابن طاوس والمحقق الاردبيلي و غيرهم من اعيان العلماء كما ذكر ذلك السيد عبدالرزاق المكرم في كتابه تنزيه المختار. لقد كان المختار خصما عنيدا للأمويين و الزبيريين و كلاهما كانا يتزاحمان علي العراق و قد انتزعه منهما علي حساب العلويين و

أظهر الولاء و التشيع لأهل البيت بلا شك في ذلك و لم يترك احدا ممن اشترك في معركة كربلاء الا و نكل به، في حين ان عبدالله بن الزبير المفتون في الحكم والأمويين كانا علي خلاف في كل شي ء الا في كره العلويين و الهاشميين فأولئك كانوا يلعنون عليا علي منابرهم و قتلوا عترة النبي بالاضافة الي مواقفهم من محمد و دعوته منذ بعثه الله، وابن الزبير حينما حكم في الحجاز لولا المختار لمثل دور الأمويين معهم و زاد علي ذلك ان ترك ذكر النبي (ص) في خطبة الجمعة معتذرا عن ذلك بأن له أهيل سوء اذا ذكره يرفعون رؤوسهم فخرا و اعتزازا فليس ببعيد عليهم والحال هذه أن ينسبوا الي المختار ما ليس فيه ما دام يناصر عدوهم المشترك، و يضعوه في صفوف المشعوذين و المضللين. والذين كتبوا التاريخ كانوا مسيرين لنزعاتهم و للحكام لا للحق و الواقع كما هو ثابت لكل من اخذ الظروف التي كانت تحيط بالمؤرخين القدامي بعين الاعتبار. و مهما كان حاله فلقد وقف موقفا من الطغاة و الظالمين و من قتلة الحسين و آله و أصحابه الكرام لاينساه له التاريخ و لا الرسول الأعظم و أبناؤه أئمة الهدي (ع) و خفف عن أهل البيت (ع) من آلام تلك الفاجعة التي حلت بهم في كربلاء و بكي لها [ صفحه 145] النبي (ص) قبل وقوعها بعشرات السنين و بقيت مرارتها في قلوب الأئمة من أهل البيت و شيعتهم طيلة حياتهم و ستبقي مثلا كريما يستمد من فصولها و معانيها كل ثائر علي الظلم و الطغيان فرحمه الله و جزاه جزاء المحسنين و المجاهدين في سبيله بأموالهم و أنفسهم انه بعباده

رؤوف رحيم. [ صفحه 146]

لمحات عن أخلاق الامام زين العابدين و صفاته

لقد كانت فاجعة مقتل أبيه و اخوته و بني عمومته التي شاهدها ببصره و تجرع مرارتها و هو مريض يعاني من وطأة المرض خلال تلك الأحداث، لقد كانت تلك الفاجعة أقسي من أن تتركه يطلب بعد ذلك شيئا من السلطة او يثق بالناس، أو يشارك في شي ء من شؤون السياسة، واتجه الي القيام بشؤون الامامة الروحية كالعبادة و نشر الأحكام و الأخلاق و تفقد الفقراء و المساكين و ما الي ذلك من المهمات التي اتجه اليها و تفاني في سبيلها مبتعدا عن السياسة و السياسيين و أسس مدرسة الفقه و الحديث التي كانت تضم الكثير من الموالي و التابعين و قد أحصي الشيخ الطوسي في رجاله و غيره من المؤلفين في الرجال أكثر من مائة و ستين من التابعين و الموالي كانوا ينهلون من معينه و يروون عنه في مختلف المواضيع و عدوا منهم سعيد بن المسيب وابن جبير، و جبيربن مطعم و القاسم بن محمد بن أبي بكر و جابربن عبدالله الأنصاري و يحيي بن ام الطويل و أمثال هذه الطبقة من أعلام التابعين. و جاء في طبقات ابن سعد ان علي بن الحسين (ع) كان ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا، و قال المبرد في الكامل: ان رجلا من قريش قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، فقال لي يوما: من أخوالك؟ فقلت أمي فتاة و كأني نقصت من عينه فأمهلته حتي جاء علي بن الحسين (ع) فسلم عليه [ صفحه 147] ثم نهض فقلت: يا عم من هذا؟ قال: هذا الذي لايسع مسلما أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت من أمه؟ قال فتاة، قلت

يا عم رأيتني نقصت من عينك لما علمت اني لأم ولد. و في محاضرات الراغب الأصفهاني و مناقب ابن الجوزي، ان عمربن عبدالعزيز و قد قام من مجلسه علي بن الحسين (ع) قال لمن حوله: من أشرف الناس؟ فقال من في مجلسه من المتزلفين و النفعيين: أنتم يا أميرالمؤمنين، فقال: كلا أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا، من أحب الناس أن يكونوا منه، و لم يحب أن يكون من أحد. و روي الشيخ الصدوق في كفاية العلل بسنده الي سفيان بن عيينة أنه قال: قلت لمحمد بن شهاب الزهري: لقيت علي بن الحسين؟ قال: نعم لقيته و ما لقيت احدا أفضل منه، والله ما علمت له صديقا في السر و لا عدوا في العلانية، فقيل له: و كيف ذلك، فقال: لأني لم ار أحدا و ان كان يحبه الا و هو لشدة معرفته بفضله يحسده، و لارأيت احدا و ان كان يبغضه الا و هو لشدة مداراته له يداريه. و قال المفيد في ارشاده: لقد روي عنه الفقهاء من العلوم ما لايحصي كثرة و حفظ عنه من المواعظ و الادعية و فضائل القرآن والحلال والحرام ما هو مشهور بين العلماء، و مضي يقول: ان عبدالله بن الحسن بن الحسن السبط (ع) قال: كانت امي فاطمة بنت الحسين (ع) فما جلست اليه قط الا قمت بخير قد أفدته اما خشية لله تحدث في قلبي لما أري من خشيته لله أو علم قد استفدته منه. و قد أجمع المؤرخون علي أنه قد انصرف الي العبادة والعلم والدراسة لأنه وجد في ذلك غذاء لقلبه و سلوة لنفسه، و كان يقدر العالم سواء أكان رفيعا في أعين الناس

أم كان غير رفيع ما دام عنده علم ينتفع به الناس، و اذا دخل المسجد يتخطي الناس حتي يجلس الي جانب زيد بن أسلم، فقال له نافع بن [ صفحه 148] جبير عاتبا: غفرالله لك أنت سيد الناس تتخطي خلق الله و أهل العلم و قريشا حتي تجلس مع هذا العبد الأسود، فقال له الامام (ع): العلم يقصد حيث كان، كما كان يقصد سعيد بن جبير حيث وجد و هو من الموالي و يقول أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها و لا منقصة أنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء. و كان الي جانب انصرافه الي نشر العلم والفقه رحيما بالناس جوادا سخيا حليما لم يحدث التاريخ عن أحد بمثل ما حدث عنه، فقد روي عنه الكليني في الكافي أنه قال: ما تجرعت جرعة أحب الي من جرعة غيظ لا أكافي ء بها صاحبها، و وقف عليه رجل من بني عمومته فأسمعه كلاما مرا وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، و أنا أحب أن تبلغوا معي حتي تسمعوا ردي عليه، فمضوا معه و هو يقول: (والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس والله يحب المحسنين). فخرج الرجل متوثبا للشر و هو لا يشك انه انما جاءه مكافيا له علي بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (ع): يا اخي انك قد وقفت علي آنفا و قلت ما قلت فان كنت قد قلت ما في فأنا أستغفرالله منه، و ان كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك، فأقبل عليه الرجل معتذرا و قال: لقد قلت ما ليس فيك و أنا أحق به. و يروي الرواة عن

حلمه و سماحته أن جارية كانت تحمل ابريقا و تسكب منه الماء لوضوئه فسقط من يدها علي وجهه فشجه و سال دمه فرفع رأسه اليها لائما، فقالت له الجارية: ان الله يقول: (والكاظمين الغيظ)، فقال: قد كظمت غيظي، فقالت: (والعافين عن الناس)، فقال: عفا الله عنك، فقالت: (والله يحب المحسنين)، فقال: أنت حرة لوجه الله. و جاء في مناقب ابن شهر اشوب و كشف الغمة ان ضيوفا طرقوا الامام (ع) فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور فأقبل به الخادم مسرعا فسقط [ صفحه 149] السفود منه علي رأس طفل له، فقتله فتحير الخادم واضطرب، فلما نظر اليه الامام و هو بتلك الحالة قال له: انك لم تتعمده اذهب فأنت حر لوجه الله. و أضاف الرواة الي ذلك، أنه كان له مولي يعمل في ضيعة له فأفسد فيها كثيرا فاغتاظ منه الامام و ضربه بسوط كان في يده، فلما رجع الي منزله أرسل في طلب المولي فجاءه خائفا و وجد الامام عاريا والسوط بين يديه فظن أنه يريد عقوبته، فقال له: قد كان مني اليك ما لم يتقدم مني مثله و كانت هفوة و زلة فدونك السوط واقتص لنفسك مني، فقال: يا مولاي والله لقد ظننت انك تريد عقوبتي و أنا مستحق للعقوبة، فكيف اقتص منك، قال: ويحك اقتص، فقال: معاذ الله، أنت في حل وسعة، فلما امتنع المولي، قال له الامام (ع): أما اذا أبيت فالضيعة صدقة عليك. و جاء في رواية الواقدي ان هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان واليا علي المدينة لعبدالملك بن مروان و قد أساء جوار الامام و لحقه منه اذي شديد علي حد تعبير الراوي، فلما

توفي عبدالملك عزله الوليد بن عبدالملك و أوقفه للناس لكي يقتصوا منه، فقال والله اني لا أخاف الا من علي بن الحسين، فمر عليه الامام و سلم عليه و أمر خاصته أن لا يتعرض له احد بسوء، و أرسل له: ان كان اعجزك مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك و يسد حاجتك فطب نفسا منا و من كل من يطيعنا، فقال له هشام بن اسماعيل: الله اعلم حيث يجعل رسالته. و في رواية الطبقات الكبري لابن سعد أن عبدالله بن علي بن الحسين (ع) قال: لما عزل الوليد بن عبدالملك هشام بن اسماعيل عن ولاية المدينة و أوقفه الوليد الي الناس ليقتصوا منه، و كان يسي ء الي أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين و قال: ان هذا الرجل قد عزل و قد اوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له احد منكم بسوء، فقلت يا أبت، و لم والله ان اثره عندنا لسي ء و ما كنا نطلب الا مثل هذا اليوم، قال: يا بني نكله الي الله، فوالله ما تعرض له [ صفحه 150] احد من آل الحسين بسوء حتي تصرم امره. و لم يكتف السجاد بذلك بل أرسل اليه كما ذكرنا يعرض عليه من الأموال ما يسعه و يسد حاجته مع انه كما تنص المرويات كان لايخاف الا منه لكثرة ما كان يسي ء اليه و يؤذيه، و قد صنع قبل ذلك مع الد اعداء أهل البيت و أنكد خصومهم مروان بن الحكم الذي أشار علي يزيد بقتل الحسين و ظهر بمظهر الشامت يوم بلغه قتل الحسين وانضم الي الناكثين و القاسطين في البصرة و صفين و ظل الي جانب معاوية يتتبع أهل البيت بالأذي و الاساءة و

يحاول التنكيل بهم و بشيعتهم بكل ما لديه من الوسائل، و مع ذلك فقد صنع معه علي بن الحسين مثلما صنعه مع هشام و بالغ بالاحسان اليه كما بالغ هو بالاساءة اليه و الي أبيه و عمه و جده و ذلك يوم ثار أهل المدينة علي الأمويين وضيقوا عليهم و لم يعد لهم ملجأ بها، فقد ضاقت الأمور بمروان بن الحكم يوم ذاك فراح يستعطف ابناء المهاجرين والأنصار فلم يجد من يحمي له عيال الأمويين و نساءهم و يمنع عنهم الثائرين غير علي بن الحسين فضمهم الي عياله و عاملهم بما كان يعامل به أسرته و عياله و نساءه و أقسمت احدي بنات مروان أو احدي نساء الأمويين أنها ما رأت في دار أبيها و أمها من الراحة و العيش الهني ء ما رأته في دار علي بن الحسين زين العابدين يوم ذاك. و اذا كان ذلك غريبا و بعيدا عن أخلاق الناس و طبائعهم، فليس بغريب علي من اجتباهم الله و خصهم بالكرامة و العصمة و جعلهم فوق مستوي الناس في مواهبهم و أخلاقهم و جميع صفاتهم، ان اخلاق الامام زين العابدين من أخلاق جديه محمد بن عبدالله و علي أميرالمؤمنين و مواهبه من مواهبهما، لقد عفا رسول الله عن أبي سفيان رأس الشرك و النفاق و أحسن اليه بعد أن ظفر به، كما عفا عن زوجته هند بنت عتبة و أحسن اليها بعد أن شقت بطن الحمزة و استخرجت كبده منها و نهشتها بأسنانها و حملتها الي مكة تتشفي بالنظر اليها، و عفا عن الحكم والد مروان يوم ظفر به في مكة و قد كان يؤذيه و يقصده بكل أنواع الاساءة، و بعد أن أظهر الاسلام بعد

فتح مكة كان [ صفحه 151] يستهزي ء به و يفتري عليه فلم يزد النبي (ص) علي أن نفاه و ولده الي الطائف كما عفا عن جميع مشركي مكة و جبابرتهم و عن كل من كان يسي ء اليه و قال كلمته المشهورة: اذهبوا فأنتم الطلقاء. و قد عفا جده أميرالمؤمنين عن مروان و قد قاد الجيوش لحربه في البصرة بعد أن ظفر به و وقع أسيرا في قبضته و تركه مع علمه بأنه سينضم الي معاوية و يحاربه في صفين و غيرها. و بعد ان استتب الأمر لمعاوية واختاره واليا علي المدينة كان يؤذي الامام الحسن و يجرعه الغيظ و كانت مجزرة كربلاء من أعز أمانيه و أحبها اليه، و كان أميرالمؤمنين (ع) يقول: اذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلي الظفرين، فلا غرابة اذا أحسن الامام زين العابدين لمن أساء اليه. و قد روي الرواة عشرات الحوادث عن عفوه و سماحته، كما رووا عن كرمه و معروفه، فما علم أن علي أحد دينا و قصده مستعينا به الا أداه عنه، و ما قصده معسر الا و وسع عليه، و لا سائل الا و أعطاه ما يغنيه عن سؤال غيره، و دخل يوما علي محمد بن أسامة بن زيد يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: دين علي خمسة عشر ألف دينار، فقال الامام: هي علي بكاملها و وفاها عنه من ساعته. و كان اذا جاءه سائل يقول: مرحبا بمن يحمل زادي ليوم القيامة، و لا يأكل طعاما حتي يتصدق بمثله، و يعول مع ذلك بمائة بيت في المدينة كما في رواية أحمد بن حنبل والصدوق عن الامام الباقر (ع). و قال أبونعيم في حلية الأولياء: كانت بيوت

في المدينة تعيش من صدقات علي بن الحسين (ع) ولا تدري من أين تعيش فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم، و قالوا ما فقدنا صدقة السر حتي فقدنا علي بن الحسين زين العابدين. و جاء في رواية الصدوق عن سفيان بن عيينة أن محمد بن شهاب [ صفحه 152] الزهري رأي علي بن الحسين (ع) في ليلة باردة و علي ظهره دقيق و هو يمشي فقال: يا ابن رسول الله ما هذا؟ قال: أريد سفرا اعددت له زادا احمله الي موضع حريز، قال: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبي عليه الامام (ع)، فقال: دعني أحمله عنك فاني أرفعك عن حمله، فقال: لكني لا ارفع نفسي عما ينجيني من سفري و يحسن ورودي علي ما أرد عليه أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك و تركتني، فلما كان بعد أيام لقيه ابن شهاب و قال: يا ابن رسول الله لست أري لذلك السفر الذي ذكرته أثرا، قال: بلي يا زهري، ليس هو كما ظننت ولكنه الموت وله استعد، انما الاستعداد للموت تجنب الحرام و بذل الندي في الخير. و كان يطرق بيوت الفقراء و هو متلثم و أكثرهم كانوا يقفون علي أبواب بيوتهم ينتظرونه فاذا رأوه تباشروا به و قالوا: جاءنا صاحب الجراب. و روي ابن طاوس في الاقبال بسند ينتهي الي الامام الصادق (ع) ان علي بن الحسين اذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له و لا امة و اذا اذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم و جمعهم حوله، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها، فيقول لهم: قولوا يا علي

بن الحسين ان ربك قد احصي عليك كل ما عملت كما احصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا احصاها، و تجد كل ما عملت لديه حاضرا كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا فاعف واصفح يعف عنك المليك و يصفح و هو واقف بينهم يبكي و يقول: ربنا انك امرتنا ان نعفو عمن ظلمنا و قد عفونا كما أمرت فاعف عنا فانك أولي بذلك منا و من المأمورين، ثم يقبل عليهم و يقول: لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني اليكم اذهبوا فقد اعتقت رقابكم طمعا في عفو الله و عتق رقبتي من النار، فاذا كان يوم العيد اجازهم بجوائز تصونهم و تغنيهم عما في أيدي الناس. و كان يقول: ان لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف [ صفحه 153] عتيق من النار، فاذا كان آخر ليلة منه اعتق الله فيها مثلما اعتق في جميعه، و اني لأحب أن يراني الله و قد اعتقت رقابا في ملكي في دارالدنيا رجاء ان يعتق رقبتي من النار. و روي الرواة انه كان اذا توضأ للصلاة اصفر لونه فيقال له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف، و اذا قام الي الصلاة اخذته رعدة فيقال له: مالك يا ابن رسول الله؟ فيقول: ما تدرون لمن اريد ان اناجي. و وقع حريق في داره و هو ساجد، فاجتمع الناس و قالوا: النار النار يا ابن رسول الله، فلم يكترث و لم يرفع رأسه حتي اطفئت فقيل له: ما الذي الهاك عنها؟ فقال: الهتني النار الكبري. الي غير

ذلك من المرويات الكثيرة التي تحدثت عن بره و معروفه و سماحته و عبادته و سخائه. و مما يؤكد مضمون تلك الروايات ما شاع بين القريب و البعيد و العدو و الصديق من المؤرخين و المحدثين من أنه كان أفضل الناس و أورع الناس و أكرم أهل زمانه. و كان مع كل ذلك مهابا معظما فقد دخل علي عبدالملك بن مروان و كان حاقدا عليه فلما نظر اليه مقبلا عليه قام اليه و أجلسه الي جنبه و أكرمه، فقيل له في ذلك فقال: لما رأيته امتلأ قلبي رعبا. و لما دخل علي مسلم بن عقبة في المدينة قال: لقد ملي ء قلبي منه خيفة. و جاء في رواية السبكي في طبقات الشافعية ان هشام بن عبدالملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت و حاول ان يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلا من كثرة الزحام فوضع له من كان معه كرسيا في ناحية من نواحي الحرم و جلس عليه ينتظر أن يخف الزحام عن الحجر ليلمسه و وقف حوله أهل الشام، و فيما هو ينظر الي الناس اذ أقبل الامام زين العابدين و كان من أحسن الناس وجها و أطيبهم أرجا علي حد تعبير الراوي فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر انفرج له الناس عنه و وقفوا له اجلالا و تعظيما حتي اذا استلم [ صفحه 154] الحجر و قبله والناس وقوف ينظرون اليه و كأنما علي رؤوسهم الطير فلما مضي عنه عادوا الي طوافهم، هذا و هشام بن عبدالملك و من معه من أهل الشام يرون كل ذلك و نفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد، اما من كان معه من وجوه الشام فكانوا لايعرفون الرجل الذي

هابه الناس و أفرجوا له عن الحجر، والخليفة حاول هو و جنده أن يجدوا ممرا الي الحجر فلم تجدهم المحاولة، فالتفت أحدهم الي هشام بن عبدالملك و سأله: من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة فقال لا اعرفه مخافة ان يرغب فيه أهل الشام و كان الفرزدق الشاعر حاضرا فقال انا اعرفه فقال الشامي: و من هو يا ابافراس؟ فقال الفرزدق: هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول الله (ص)، و مضي علي البديهة في وسط تلك الجموع المحتشدة يقول: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عبادالله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم اذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا و ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت و العجم يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم ينمي الي ذروة العز التي قصرت عنها الأكف و عن ادراكها القدم من جده دان فضل الأنبياء له و فضل امته دانت له الامم ينشق نور الهدي عن صبح غرته كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم الله شرفه قدما و فضله جري بذاك له في لوحه القلم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان و لايعروهما العدم الي آخر القصيدة الي تبلغ نحوا من ثلاثين بيتا تقريبا كما في رواية ابن الجوزي والسبكي في طبقات الشافعية. [ صفحه 155] و قد روي هذا الموقف للفرزدق مع هشام بن عبدالملك أكثر المؤرخين والمحدثين بتفاوت يسير في الشكل الذي وقع عليه الحادث و

في عدد الأبيات التي أنشدها أبوفراس في ذلك الموقف متحديا بها سلطان اولئك الحكام الجبابرة المعتزين بملكهم وجندهم فلم يغن عنهم الجند والملك شيئا في ذلك الموقف الذي تتدافع فيه الجماهير و تتسابق لاستلام الحجر، حتي اذا اقبل الامام (ع) المعتز بالله وحده انفرجت له الحشود المتدفقة كالسيل وانكشفت له عن ركن البيت و وقف الناس كلهم و كأن الأرض تشدهم الي اعماقها حتي اذا قضي الامام حاجته و ترك المكان عاد الناس يتسابقون و يتدافعون كحالتهم الأولي، هذا و أهل الشام ينظرون الي هذا المشهد الغريب و ينتظرون من يعرفهم بالشاب الذي هابه الناس و عظموه بعد أن تجاهله خليفتهم و قال لا أعرفه. لقد كان يتمني ان لا يعرفه أهل الشام لأنه كان هو و أسلافه من بني أمية يزعمون لأهل الشام بأنهم آل الرسول الذي أمر الله بمودتهم، و لم يكن يحسب ان ابافراس سيصفعه بتلك الصفعة التي كانت عليه اشد من الصاعقة و هو يقول: و ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت و العجم هذا علي رسول الله والده امست بنور هداه تهتدي الامم هذا ابن فاطمة ان كنت تجهله بجده انبياء الله قد ختموا و يدعي الرواة ان هشام بن عبدالملك قد غضب علي الفرزدق، و أمر بحبسه بعسفان و هو مكان بين مكة و المدينة و أوصي بالتضييق عليه و أضاف الرواة الي ذلك أن الامام علي بن الحسين (ع) أرسل له ألف دينار فردها الفرزدق و قال للرسول: اني لم أقل ما قلت الا غضبا لله و لرسوله و لا آخذ علي طاعة الله اجرا، فأعادها الامام (ع) و أرسل اليه: نحن أهل بيت لا يعود الينا ما

أعطينا فقبلها الفرزدق و بقي في حبس هشام مدة من الزمن [ صفحه 156] و أخيرا هجاه بقوله: أيحبسني بين المدينة والتي اليها قلوب الناس يهوي منيبها يقلب رأسا لم يكن رأس سيد و عينا له حولاء باد عيوبها و يدعي الرواة أنه لما بلغه هجاؤه أمر باخراجه من السجن فرحم الله الفرزدق و أجزل ثوابه، فلقد كان في موقفه الذي وقفه مع هشام بن عبدالملك من أفضل المجاهدين في سبيل الله بمقتضي ما جاء عن النبي (ص) أنه قال: أفضل المجاهدين في سبيل الله الحمزة بن عبدالمطلب و رجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر. و يروي بعض الرواة أنه بلغ عبدالملك بن مروان ان سيف رسول الله (ص) موجود عند الامام علي بن الحسين (ع) فبعث اليه يستوهبه اياه و ألح عليه في الطلب فأبي عليه فكتب اليه عبدالملك يهدده و يتوعده بقطع رزقه من بيت المال، و في رواية ثانية أنه أرسل الي الحجاز من يأتيه به مقيدا الي الشام، فأجابه الامام (ع) بكتاب جاء فيه: أما بعد فان الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون والرزق من حيث لايحتسبون، و قال تعالي في كتابه: (ان الله لايحب كل خوان كفور) فانظر اينا أولي بهذه الآية. والرواية التي تنص علي أنه أرسل من يحمله اليه مقيدا ذكرها ابن الجوزي في تذكرته عن ابن حمدون في كتابه التذكرة عن الزهري. و جاء فيها ان عبدالملك حمل علي بن الحسين مقيدا من المدينة و وكل به حفظة قال الزهري: فاستأذنتهم في وداعه فأذنوا لي فدخلت عليه والقيد في رجليه و الغل في يديه فبكيت و قلت وددت أني مكانك و أنت سالم، فقال: يا زهري أتظن

أن ما تري علي وفي عنقي يكرثني، أما لو شئت لما كان، و انه [ صفحه 157] ليذكرني عذاب الله، و مضي محمد بن شهاب يقول: ثم انه أخرج يديه و رجليه من القيد و ما مضت الا أربع ليال و اذا بالموكلين به قد رجعوا الي المدينة يطلبونه فلم يجدوه فسألت بعضهم فقال لقد فقدناه فلم نجده و وجدنا الحديد الذي كان في يديه و رجليه، و أضاف الي ذلك الزهري: اني قدمت بعد ذلك علي عبدالملك بن مروان فسألني عنه فأخبرته بخبره، فقال: لقد جاءني يوم فقده الاعوان فدخل علي و قال: ما أنا و أنت، فقلت له: اقم عندي، قال: لاأحب، ثم خرج فوالله لقد امتلأ قلبي منه خيفة. وروي له بعض الرواة غير هذه من الكرامات بأسانيد لاتثبت في مقام النقد و التمحيص، و حسبما أظن أن بعض الكرامات المنسوبة اليه و الي غيره من صنع القصاصين الذي اتخذوا القصص مهنة يستدرون بها عطف عوام الناس و ضعفائهم، والتاريخ ملي ء بالشواهد علي ذلك، في حين أني اعتقد بأنهم لو سألوا الله سبحانه لأعطاهم ما يريدون ولكنهم كانوا يصبرون علي الشدائد و النكبات رغبة بما اعده الله سبحانه للصابرين الراضين بقضائه. كما يؤكد ذلك تاريخهم المجيد الناصع الغني بالفضائل والبر والاحسان و التضحيات في سبيله. و جاء عن الامام محمد الباقر ان علي بن الحسين (ع) قال: مرضت يوما، فقال لي ابي ما تشتهي يا بني؟ فقلت له اشتهي ان اكون ممن لا اقترح علي الله ربي ما يدبر لي، فقال لي: احسنت يا بني: لقد ضاهيت ابراهيم الخليل حيث قال له جبرائيل: هل من حاجة؟ فقال: لا اقترح علي ربي حسبي

الله و نعم الوكيل. و كان يتمني علي محبيه و شيعته أن لا يبالغوا في الحديث عنهم و أن يكونوا معتدلين في تعظيمهم، فقد روي ابن سعد في طبقاته أن الامام زين العابدين كان يقول: ايها الناس احبونا حب الاسلام، فوالله ما برح حبكم لنا حتي اصبح علينا عارا و بغضتمونا الي الناس. [ صفحه 158] و في رواية ثانية أنه كان يقول لشيعته: لنا ذكر في كتاب الله و نسب من رسول الله و ولادة طيبة، و كأنه يتمني أن يقفوا عند هذه المزايا و كفي بها شرفا و فخرا و لايحدثوا الناس بما لا تتحمله عقول العامة. و جاء في مناقب ابن شهر اشوب أنه قيل له: مالك يابن رسول الله اذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة، فقال: اني اكره ان آخذ برسول الله (ص) ما لا اعطي مثله. و في رواية ثانية انه قال: سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله (ص) مالا استحق فصار كتمان امري احب الي. [ صفحه 159]

الصحيفة السجادية

لقد وجد الامام علي بن الحسين في عصر قد استسلم الناس فيه لشهواتهم و طغت عليهم سيرة حكامهم فابتعدوا عن مفاهيم الرسالة و أخلاق الاسلام و آدابه، و لم يتسن له ان يرتقي المنابر و يقف في المجتمعات لارشاد الناس الي ما يصلحهم من أخلاق الاسلام و آدابه و أحكامه و انقاذهم من أئمة الجور الذين شوهوا وجه الاسلام بسلوكهم و طغيانهم و تمادوا في استهتارهم بالقيم و انتهاك الحريات و الحرمات، فجعل ينشر رسالة الاسلام و يدعو الناس الي الرجوع الي دينهم و كتابهم و أخلاقهم و سيرة نبيهم و يدعو الحكام الي احقاق الحق و اقامة العدل و

انصاف المحرومين و المعذبين و يلفت الأنظار الي ما يجب أن يتوفر في الحكام و ما لهم علي الرعية من حقوق و واجبات في مقابل قيامهم بحفظ الأمن و نشر العدل و حفظ الثغور و ما الي ذلك مما يضمن للدولة حقها ولكل انسان كرامته و حقه في الحياة. لقد كان الامام علي بن الحسين (ع) يحرص علي أن يضع الناس علي اختلاف طبقاتهم و منازلهم تجاه مسؤولياتهم و مايجب عليهم لله و للناس ولكن بأسلوب يختلف عن أساليب الوعاظ و المرشدين و القصاصين، لقد استعمل اسلوب الحوار مع الله و مناجاته و استعطافه و تمجيده في ستين دعاء عرفت بالصحيفة السجادية رواها عنه الامام الباقر (ع) و ولده زيد بن علي و ثقات [ صفحه 160] اصحاب الأئمة و تداولها الشيعة من بعده و لا تزال من المقدسات عند خيار الشيعة يواظبون علي ادعيتها في الليل والنهار و الغدوات والاسمار و طلب الحوائج و غير ذلك. و مما جاء في بعض ادعيتها في ليالي رمضان: الهي ما اردت بمعصيتي مخالفتك، و ما عصيتك اذ عصيتك و أنا بك شاك و لا بنكالك مستخف، و لا لعقوبتك معترض ولكن سولت لي نفسي، و أعانني علي ذلك سترك علي، فأنا الآن من عذابك من ينقذني، و بحبل من أعتصم ان انت قطعت حبلك عني، فواسوأتاه غدا اذا قيل للمخفين جوزوا و للمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين أحط، وفي هذا الدعاء يقول: اللهم ارحمني اذا انقطعت حجتي و كل عن جوابك لساني، و طاش عند سؤالك اياي لبي، الهي ان عفوت فمن أولي منك بالعفو و ان عذبت فمن أعدل منك في الحكم ارحم

في هذه الدنيا غربتي و عند الموت كربتي و في القبر وحدتي و في اللحد وحشتي و ارحمني صريعا علي فراشي تقلبني أيدي احبتي، و تفضل علي ممدودا علي المغتسل يغسلني صالح جيرتي، و تحنن علي محمولا قد تناول الاقرباء اطراف جنازتي، وارحم في ذلك البيت الجديد و في اللحد غربتي و وحشتي. و يمضي الامام (ع) في الدعاء لنفسه و أهله و اخوانه و جيرانه و جميع المسلمين ثم يقول: الهي و سيدي و عزتك و جلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك و لئن طالبتني بجرمي لأطالبنك بكرمك و لئن ادخلتني النار لأخبرن أهل النار بحبي لك، الهي ان كنت لا تغفر الا لأوليائك و أهل طاعتك فالي من يفزع المذنبون، و ان كنت لا تكرم الا أهل الوفاء بك فبمن يستغيث المسيئون؟ الهي ان أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوك و ان ادخلتني الجنة ففي ذلك سرور نبيك، و أنا والله اعلم ان سرور نبيك أحب اليك من سرور عدوك [ صفحه 161] اللهم اعطني بصيرة في دينك وفهما في حكمك وفقها في علمك و ورعا يحجزني عن معصيتك، اللهم اني أعوذ بك من الكسل و الجبن و البخل و الغفلة و القسوة و الذلة و المسكنة والفقر والفاقة و أعوذ بك من نفس لاتقنع و بطن لا يشبع و قلب لا يخشع و دعاء لايسمع وعمل لاينفع، اللهم انك انزلت في كتابك العفو و أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا و قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا فانك أولي بذلك منا. [ صفحه 162]

من دعائه في الآداب و الأخلاق

اللهم أوسع علي من رزقك و لا تفتني بالبطر و أعزني و لاتبتلني بالكبر، و عبدني لك ولاتفسد عبادتي

بالعجب، و أجر للناس علي يدي الخير و لا تمحقه بالمن، اللهم لا ترفعني عند الناس درجة الا حطمتني عند نفسي مثلها، و لا تحدث لي عزا ظاهرا الا احدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها، اللهم لا تدع خصلة تعاب مني الا اصلحتها، و لا عائبة أؤنب بها الا احسنتها، و لا اكرومة في ناقصة الا اتممتها، و وفقني لطاعة من سددني و متابعة من أرشدني، و سددني لأن اعارض من غشني بالنصح و أجزي من هجرني بالبر و أثيب من حرمني بالبذل و أكافي ء من قطعني بالصلة و أخالف من اغتابني الي حسن الذكر، و أن أشكر الحسنة و أغضي عن السيئه. و في هذه المناجاة يقول: اللهم اجعلني احول بك عند الضرورة و أسألك عند الحاجة و أتضرع اليك عند المسكنة و لاتفتني بالاستعانة بغيرك اذا اضطررت و لا بالخضوع لسؤال غيرك اذا افتقرت فأستحق بذلك خذلانك و منعك و اعراضك يا أرحم الراحمين. [ صفحه 163]

مما كان يدعو فيه لمن ظلمه و أساء اليه

و لم يكتف هو بالاحسان الي من كان يسي ء اليه، بل كان يطلب لهم العفو والمغفرة من الله سبحانه و يقول: اللهم و أيما عبد نال مني ما حظرت عليه فاغفر له ما ألم به مني واجعل ما سمحت به من العفو عنهم و تبرعت به من الصدقة عليهم في أزكي صدقات المتصدقين و أعلي صلات المتقربين، و عوضني من عفوي عنهم عفوك حتي يسعد كل واحد منا بفضلك و ينجو كل منا بمنك. و كان مع كل ذلك يري نفسه مقصرا في حقوق الناس و يعتذر الي الله من ذلك و يقول في بعض ادعيته: اللهم اني أعتذر اليك من مظلوم ظلم بحضرتي

فلم أنصره و من معروف أسدي الي فلم أشكره و من مسي ء اعتذر الي فلم أعذره و من ذي فاقة سألني فلم أوفره و من عيب مسلم ظهر لي فلم استره و من كل اثم عرض لي فلم اهجره، واجعل ندامتي علي ما وقعت فيه من الزلات و عزمي علي ترك ما يعرض لي من السيئات توبة توجب لي محبتك يا محب التوابين. و كان يدعو في خلواته مع الله سبحانه للمحاربين و المرابطين علي حدود البلاد التي تفصل بين بلاد المسلمين و بلاد المشركين و الكفار و يسأله سبحانه لهم الصبر و التأييد و النصر علي أعداء الاسلام. [ صفحه 164]

من دعائه للمرابطين و المحاربين في الثغور

اللهم صلي علي محمد و آل محمد و حصن ثغور المسلمين بعزتك و أيد حماتها بقوتك و اسبغ عطاياهم من جدتك و كثر عدتهم واشحذ أسلحتهم و احرس حوزتهم وامنع حومتهم و ألف جمعهم و دبر أمرهم و اعضدهم بالصبر و أعنهم بالنصر و أنسهم عند لقاء العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون واجعل الجنة نصب أعينهم حتي لا يهم أحد منهم بالادبار و لا يحدث نفسه عن قرنه بفرار، اللهم و أيما غاز غزاهم من أهل ملتك أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك ليكون دينك الأعلي و حزبك الأقوي و حظك الأوفي فلقه اليسر وهي ء له الأمر و توله بالنجح و افرغ عليه الصبر و سهل له النصر و تخير له الأصحاب واسبغ عليه في النفقة و متعه بالنشاط و أنسه ذكر الأهل و الولد و توله بالعافية واصحبه السلامة واعفه عن الجبن و ألهمه الجرأة وارزقه الشدة و أيده بالنصرة واجعل فكره و ذكره و

ظعنه و اقامته فيك و منك يا أرحم الراحمين. و مضي في دعائه للمرابطين و المجاهدين فقال: اللهم اشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين و خذهم بالنقص عن تنقصهم و ثبطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم، اللهم أخل قلوبهم من الامنة و أبدانهم من القوة، و أذهل قلوبهم عن الاحتيال و أوهن [ صفحه 165] أركانهم عن منازلة الرجال و جبنهم عن مقارعة الأبطال واقطع عنهم المدد و املأ افئدتهم بالرعب واقبض أيديهم عن البسط. اللهم و أيما مسلم خلف غازيا او مرابطا في داره، أو تعهد خالفيه في غيبته، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمده بعتاد أو شحذه علي جهاد، أو أتبعه في وجهه دعوة أو رعي له من ورائه حرمة فأجز له مثل أجره وزنا بوزن و مثلا بمثل و عوضه من فعله عوضا حاضرا يتعجل به نفع ما قدم و سرور ما أتي به الي أن ينتهي به الوقت الي ما اجريت له من فضلك و أعددت له من كرامتك. اللهم و أيما مسلم أهمه أمر الاسلام واحزنه تحزب أهل الشرك عليهم فنوي غزوا بجهاد فقعد به ضعف أو أبطأت به فاقة أو أخره عنه حادث أو عرض له دون ارادته مانع فاكتب اسمه في العابدين و أوجب له ثواب المجاهدين واجعله في نظام الشهداء والصالحين. و مما كان يدعو به لوالديه: اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف و أبرهما بر الأم الرؤوف واجعل طاعتي لوالدي و بري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان و أثلج لصدري من شربة الظمآن حتي أؤثر علي هواي هواهما و أقدم علي رضاي رضاهما واستكثر برهما بي و ان قل واستقل بري بهما و ان

كثر. اللهم اشكر لهما تربيتي و أثبهما علي تكرمتي واخفض لهما ما حفظاه مني في صغري، اللهم و ما مسهما مني من اذي أو خلص اليهما عني من مكروه او ضاع قبلي لهما من حق فاجعله حطة لذنوبهما و علوا في درجاتهما و زيادة في حسناتهما يا أرحم الراحمين. و تشتمل الصحيفة السجادية بالاضافة الي هذه المقتطفات من بعض الادعية علي عشرات الأدعية في طلب الرزق و قضاء الدين و طلب الحوائج والعفو والمغفرة و دفع كيد الاعداء و لصحابة النبي والتابعين ينبغي للانسان ان يدعو به لوالديه و لاولاده و جيرانه و عند الصباح والمساء من كل يوم و عند ذكر [ صفحه 166] الموت و أيام شهر رمضان ولياليه و غير ذلك من محتويات تلك الصحيفة التي جمعت الكثير من الأحكام و الآداب و الأخلاق و كل ما يرفع من مستوي الانسان و يقربه من الله سبحانه. [ صفحه 167]

رسالة الحقوق

لقد روي المحدثون في مجاميعهم ان الامام زين العابدين بعد أن عاصر الأحداث التي مرت علي آبائه و رأي ما تعانيه الأمة في ظل العهد الأموي من جور و اضطهاد و ما يحاوله اولئك الحكام من تحوير و تحريف لمفاهيم الرسالة وضع رسالة لأصحابه و شيعة آبائه تتضمن ما يجب عليهم و ما يجب لهم تشتمل علي خمسين مادة و قد عرفت برسالة الحقوق علي لسان المحدثين رواها عنه الامام (ع) الصدوق في الخصال بسند معتبر كما يصفه اكثر المؤلفين في أحوال الامام زين العابدين كما رواها علي بن شعبة الحلبي في كتابه تحف العقول بسند ينتهي الي أبي حمزة الثمالي و قد افتتحها الامام (ع) بقوله: اعلم رحمك الله ان لله عليك حقوقا محيطة

بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها و أكبر حقوق الله عليك ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك الي قدمك علي اختلاف جوارحك فجعل لبصرك عليك حقا و لسمعك عليك حقا و للسانك عليك حقا و ليدك عليك حقا و لرجلك عليك حقا و لفرجك عليك حقا، ثم ينتقل الامام من حقوق الجوارح الي حقوق الافعال، و منها ينتقل الي ما علي الانسان من حقوق لمجتمعه و اخوانه و جيرانه و سلطانه و أعوانه و جلسائه و أصحابه و شركائه و خدمه و زوجاته و غير ذلك، و مما جاء فيها عن حقوق السلطان. [ صفحه 168] و تلطف لأعطائه من الرضا ما يكفه عنك و لا يضر بدينك و تستعين عليه في ذلك بالله، و لا تعانده فانك ان فعلت ذلك عققته و عققت نفسك فعرضتها لمكروهه و عرضته للهلكة فيك، و كنت خليقا ان تكون معينا له علي نفسك و شريكا له فيما اتي اليك و لا قوة الا بالله. و قال و هو يتحدث عن حق المعلم: و من حقه عليك التعظيم له و التوقير لمجلسه و حسن الاستماع اليه والاقبال عليه و المعونة له علي نفسك فيما لا غني بك عنه من العلم، بأن تفرغ له عقلك و تحضره فهمك و تذكي له قلبك و تجلي له بصرك بترك الملذات و نقص الشهوات، و لاترفع في وجهه صوتك، ولاتجيب أحدا حتي يكون هو الذي يجيب و لاتحدث في مجلسه احدا و ان تدافع عنه اذا ذكر عندك بسوء و تستر عيوبه و تظهر مناقبه و لاتجالس له عدوا و تعادي

له وليا. و قال (ع) فيما يجب للأمهات علي الأولاد: فحق امك ان تعلم انها حملتك حيث لا يحمل أحد احدا و أطعمتك من ثمرة قلبها مالا يطعم أحد احدا و وقتك بسمعها و بصرها و يدها و رجلها و شعرها و بشرها و جميع جوارحها مستبشرة فرحة محتملة لما فيه مكروهها و ألمها و ثقلها و غمها حتي دفعتها عنك يد القدرة و اخرجتك الي الأرض، فرضيت أن تشبعك و تجوع و تكسوك و تعري و ترويك و تظمي و تظللك و تضحي و تنعمك ببؤسها و تلذذك بالنوم بأرقها فانك لا تطيق شكرها و لاتقدر عليه الا بعون الله و توفيقه. و قال فيما يجب للأخ علي أخيه: انه يدك التي تبسطها و ظهرك الذي تلتجي اليه و عزك الذي تعتمد عليه و قوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحا علي معصية الله و لا عدة لظلم خلق الله و لا تدع نصرته علي نفسه و معونته علي عدوه و الحؤول بينه و بين شياطينه و تأدية النصيحة له و الاقبال عليه في الله فان انقاد لربه و أحسن الاجابة له و الا فليكن الله آثر عندك و ألزم عليه منه. و قال (ع) في حقوق الجيران: و من حق الجار عليك حفظه غائبا [ صفحه 169] و كرامته شاهدا و نصرته و معونته في الحالين، لاتتبع له عورة و لا تبحث له عن سوءة لتعرفها فان عرفتها منه عن غير ارادة منك و لا تكلف كنت لما علمت حصنا حصينا و سترا ستيرا لو بحثت الأسنة عنه ضميرا لم تتصل اليه لانطوائه عليه، و لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، و

لاتسلمه عند الشدائد، و لا تحسده عند نعمة، و ان تقيل عثرته و تغفر زلته، و لا تدخر حلمك عنه اذا جهل عليك. و قال (ع) فيما يجب للصاحب: ان له عليك ان تصحبه بالفضل ما وجدت اليه سبيلا، و الا فلا أقل من الانصاف، و أن تكرمه كما يكرمك ولا يسبقك الي مكرمة فان سبقك كافأته، و تلزم نفسك علي نصيحته و حياطته و معاضدته علي طاعة ربه و معونته علي نفسه فيما يهم به من معصية ربه. و قال في تحديد موقف الانسان مما في يده من الأموال: ان عليك ان لا تأخذه الا من حله و لا تنفقه الا في حله و لاتحرفه عن مواضعه، ولاتجعله اذا كان من الله الا اليه و سببا الي الله، و لاتؤثر به علي نفسك من لعله لا يحمدك و لايعمل فيه بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة و تبوء بالاثم والحسرة والندامة مع التبعة. و قال (ع) فيما يجب علي الانسان لمن نصحه: و عليك ان تلين له جناحك و تشرئب له قلبك، و تفتح له سمعك حتي تفهم منه نصيحته و تنظر فيها فان كان وفق لها، و الا رحمته و لم تتهمه و علمت أنه لم يألك نصحا، الا أن يكون عندك مستحقا للتهمة فلا تعبأ بشي ء من أمره علي كل حال و لا قوة الا بالله. و قال (ع) و هو يتحدث عن حق من أدخل السرور علي غيره: فان كان تعمد المسرة لك حمدت الله اولا ثم شكرته علي ذلك و كافأته علي فضل الابتداء و أرصدت له المكافأة، و ان لم يكن تعمدها حمدت الله أولا ثم شكرته اذ كان سببا من

أسباب نعم الله عليك و رجوت له بعد ذلك خيرا فان أسباب [ صفحه 170] النعم بركة حيثما كانت و ان كان لم يتعمد. و قال (ع) فيما يجب لأهل الذمة: فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله وكفي بما جعل الله لهم من ذمته و عهده، و تحكم فيهم بما حكم به علي نفسك فيما جري بينك و بينهم من معاملة، وليكن بينك و بين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده و عهد رسوله حائل، فلقد قال رسول الله: من ظلم معاهدا كنت خصمه فاتق الله فيهم و لا حول و لا قوة الا بالله. و قد اشتملت رسالة الامام علي خمسين حقا كما ذكرنا في مختلف المواضيع واقتصرنا منها علي هذه النماذج تهربا من ملل القراء. [ صفحه 171]

من كلماته القصار

لقد جاء عنه أنه قال لبعض بنيه: يا بني ان الله رضيني لك و لم يرضك لي فأوصاك بي و لم يوصني بك عليك بالبر فانه تحفة كبيرة. و قال: طلب الحوائج الي الناس مذلة للحياة و مذهبة للحياء و استخفاف بالوقار و هو الفقر الحاضر، و قلة طلب الحوائج هو الغني الحاضر. و قال: ان أحبكم الي الله أحسنكم عملا، و ان أعظمكم عندالله عملا أعظمكم فيما عندالله رغبة، و ان انجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، و ان أقربكم من الله أوسعكم خلقا، و ان أرضاكم عندالله أسعاكم علي عياله، و ان اكرمكم علي الله أتقاكم لله. و قال (ع) لبعض بنيه: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم و لا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، فقال: من هم يا أبتاه؟ فقال: اياك و مصاحبة الكذاب فانه بمنزلة السراب

يقرب لك البعيد و يبعد لك القريب، و اياك و مصاحبة الفاسق فانه يبيعك بأكلة و ما دونها، فقال له ولده: و ما دونها؟ قال: يطمع فيها و لا ينالها، و اياك و مصاحبة البخيل فانه يخذلك فيما أنت أحوج ما تكون اليه، و اياك و مصاحبة الأحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك، و اياك و مصاحبة القاطع لرحمه فاني وجدته ملعونا في كتاب الله. [ صفحه 172] و قال (ع) ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله و أظله يوم القيامة في ظل عرشه و أمنه من فزع اليوم الأكبر، من أعطي الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، و رجل لم يقدم يدا و لا رجلا حتي يعلم أنه قدمها في طاعة الله أو في معصيته، و رجل لم يعب اخاه بعيب حتي يترك ذلك العيب من نفسه، و كفي بالرجل شغلا بعيب نفسه عن عيوب الناس. و قال لابنه الباقر (ع): افعل الخير الي كل من طلبه منك، فان كان من أهله فقد أصبت موضعه، و ان لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، و ان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الي يسارك و اعتذر اليك فاقبل عذره. و قال طاوس اليماني: رأيت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو و يبكي في دعائه فجئته حين فرغ من صلاته فاذا هو زين العابدين علي بن الحسين (ع) فقلت له: يا ابن رسول الله رأيتك علي تلك الحالة، ولك ثلاث أرجو ان تؤمنك من الخوف، احدها انك ابن رسول الله، والثانية شفاعة جدك و الثالثة رحمة الله عزوجل. فقال: يا طاوس، أما اني ابن رسول الله فذاك لايؤمني

و قد سمعت الله يقول (فلا أنساب بينهم يومئذ) و أما شفاعة جدي، فلاتؤمنني لأن الله يقول: (لايشفعون الا لمن ارتضي) و أما رحمة الله تعالي، فان الله يقول: (انها قريبة من المحسنين) و لا أري أني من المحسنين. وفي رواية ثانية عن طاوس اليماني أنه قال: سمعت علي بن الحسين (ع) يقول في دعائه: سبحانك تعصي كأنك لاتري و تحلم كأنك لم تعص، تتودد الي خلقك بحسن الصنيع كأن بك اليهم حاجة و أنت سيدي الغني عنهم، ثم خر ساجدا، قال طاوس: فدنوت منه و أخذت برأسه و وضعته علي ركبتي و بكيت حتي جرت دموعي علي خده فاستوي جالسا و قال: من الذي شغلني عن ذكر ربي، فقلت: انا يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع و نحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا و نحن عاصون حافون سيدي أبوك [ صفحه 173] الحسين بن علي و أمك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله، قال طاوس: فالتفت الي و قال: هيهات هيهات يا طاوس دع عني حديث أبي و أمي و جدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه و أحسن ولو كان عبدا حبشيا و خلق النار لمن عصاه و أساء ولو كان سيدا قرشيا، أما سمعت قوله تعالي: (فاذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) والله لا ينفعك غدا الا ما تقدمه من عمل صالح. و جاء في الكافي بسنده الي أبي حمزة الثمالي ان علي بن الحسين (ع) كان يقول في مناجاته و يبكي: سيدي تعذبني و حبك في قلبي، اما و عزتك لئن فعلت لتجمعن بيني و بين قوم طالما عاديتهم فيك. و كان عليه السلام يوصي أصحابه بأداء الأمانة و

يقول: فوالذي بعث محمدا بالحق لو أن قاتل أبي الحسين (ع) ائتمنني علي السيف الذي قتله به لأديته اليه. و يوصي بشكر المحسن و يقول: ان الله يوم القيامة يقول لعبده اشكرت من أحسن اليك فيقول له بلي شكرتك يا الهي فيقول لم تشكرني اذا لم تشكره. و جاء عنه انه قال لولده الامام ابي جعفر الباقر (ع) حين حضرته الوفاة: يا بني اياك و ظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله، و أنه كان يقول: من استجار بأحد اخوانه و لم يجره فقد قطع ولاية الله عنه. و يقول: ان لله عبادا يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة و من أدخل علي مؤمن سرورا فرج الله قلبه يوم القيامة. و يقول أيضا ان لسان ابن آدم يشرف في كل يوم علي جوارحه كل صباح فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير ان تركتنا و انما يثاب المرء و يعاقب [ صفحه 174] بلسانه. و يروي الرواة ان جماعة من أهل العراق دخلوا علي الامام علي بن الحسين (ع) و ذكروا أبابكر و عمر و عثمان بسوء و نالوا منهم، فقال لهم: ألا تخبروني من أنتم، أنتم من المهاجرين الأولين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله اولئك هم الصادقون قالوا: لا، قال: أفأنتم من الذين تبوأوا الدار و الايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة،ح فقالوا: لا، فقال: أما أنتم فقد تبرأتم من أن تكونوا من هذين الفريقين و أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله في حقهم،

(والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان و لاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا)، اخرجوا عني فلا بارك الله فيكم. [ صفحه 175]

اولاده

قال المفيد في ارشاده وابن الصباغ في الفصول المهمة ان اولاده كانوا بين ذكر و انثي خمسة عشر احد عشر ذكرا و أربع بنات، اكبرهم سنا و قدرا الامام محمد بن علي الملقب بالباقر و أمه فاطمة بنت الحسن السبط. و جاء في طبقات ابن سعد ان فاطمة بنت الحسن (ع) قد اولدت له اربعة الحسن و الحسين الأكبر و محمد الباقر و عبدالله و به كانت تكني، والظاهر ان محمد الباقر (ع) اكبر اولاده فقد ولد له سنة سبع و خمسين هجرية و كان له من العمر عندما قتل جده الحسين (ع) في كربلاء ثلاث سنوات، و له من الذكور زيد بن علي و علي بن علي و أمهما ام ولد كما في تذكرة الخواص. و قال ابن الخشاب في كتابه مواليد أهل البيت: ان اولاده كانوا ثمانية و لم يكن له انثي و قيل غير ذلك، و كان أشهرهم و أجلهم الامام الباقر و سنتحدث عنه في فصل خاص من هذا الكتاب، و أما زيد بن علي الشهيد فقد نشأ في بيت الامام زين العابدين حفيد علي بن أبي طالب باب مدينة العلم، في هذا البيت الذي يعد مهد العلم و الحكمة نشأ زيد بن علي و تكونت ميوله و منازعه و اتجاهاته، و بلا شك في انه حفظ القرآن الكريم في المراحل الأولي من دراسته واتجه من بعد القرآن الي الحديث يتلقاه عن أبيه و أصبح بعد فترة من الزمن فقيها واسع العلم و المعرفة

يأخذ بكتاب الله و سنة [ صفحه 176] رسوله و يروي الحديث لغيره، و اذا كان أبوه قد تركه يافعا في حدود الرابعة عشرة من عمره فان أخاه الامام محمد الباقر خليفة أبيه في الامامة و الفقه و الحديث كان يتعاهده و يزوده بكل ما يحتاج اليه فأخذ عنه الكثير من الفقه و الحديث و التفسيرحتي أصبح من مشاهير علماء عصره و مرجعا لرواد العلم و الحديث في المدينة و غيرها، و يدعي بعض الرواة أنه سافر الي البصرة والتقي بعلمائها و ناظر واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة يوم ذاك ناظره في أصول العقائد، فلقد كانت البصرة موطن الفرق المختلفة في العقائد الاسلامية و اليها كان يذهب أبوحنيفة في صدر حياته يوم كان متجها الي علم الكلام، حتي لقد روي أنه ذهب اليها اثنتين و عشرين مرة للمناظرة في الكلام مع المعتزلة و الفورية و الجهمية و المتكلمين في الصفات و غيرهم، ولم يكن خروج زيد الي البصرة ليتتلمذ علي واصل بن عطاء كما يدعي الشهرستاني في الملل و النحل، و لا ليأخذ من غيره لأنه كان في مثل سنه بل للحوار و المناقشة بعد أن ظهرت بين علمائها بعض النزعات الغريبة عن الاسلام و أصوله. و لم يكن زيد بن علي علي ما يبدو من تاريخه متجها للسياسة أو يعمل للاستيلاء علي السلطة بل اضطروه اليها و ظلوا يلاحقونه حتي لم يجد وسيلة ولا ملاذا غير قتالهم بتلك الفئة القليلة بعد ان غدر به أهل العراق كما غدروا بآبائه من قبل. لقد بدأوا يتحرشون بزيد بن علي بسبب تردده علي الكوفة و فيها اكبر عدد من شيعة أهل البيت، و لم يكن خالد

القسري الوالي علي العراق متعصبا ضدهم، بل كان يحسن اليهم و يحسن وفادتهم، و أتيح لهم أن يتصلوا خلال عهده بزيد بن علي و غيره من العلويين فلم يرض يوسف بن عمر الثقفي عن هذه السياسة و رأي ان فيها خطرا علي الحكم الأموي فكتب الي هشام بن عبدالملك، أن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا حتي كان همة احدهم قوت عياله، فلما ولي خالد العراق اعطاهم الأموال فقووا بها حتي تطلعوا الي طلب الخلافة، و كانت معاملة خالد القسري للشيعة من العوامل [ صفحه 177] التي دفعت هشام بن عبدالملك الي عزله و تولية يوسف بن عمر الثقفي الذي بذل كل جهد في اضطهادهم، و كتب في محاولة منه للوقيعة بزيد حيث كان يتردد علي الكوفة كتب الي هشام بأن خالد القسري قد أودع ستمائة الف درهم عند زيد بن علي بن الحسين و ان زيدا ينكر هذه الوديعة، فبعث هشام الي زيد بن علي (ع) يستدعيه اليه، فقدم زيد من المدينة الي دمشق و أكد لهشام بن عبدالملك ان لا علم له بما يدعيه يوسف بن عمر الثقفي، فعرض عليه هشام بن عبدالملك ان يذهب بنفسه الي يوسف بن عمر الثقفي ليواجهه بما يدعيه، ولكن زيدا أبي أشد الاباء و أدرك أنه المقصود بكل هذه المحاولات و أن يوسف بن عمر اذا قبض عليه سوف ينفذ فيه رغبة الأمويين، و استحلف هشاما ألا يبعث به الي يوسف بن عمر غير أن هشاما أصر علي رحيله الي العراق وامتنع زيد بن علي من ذلك، و لما وجد ان محاولته باءت بالفشل اراد ان يتحداه و يحط من شأنه و كان مجلسه

حافلا بأعيان أهل الشام و خاصته، فقال له: بلغني انك تؤهل نفسك للخلافة و أنت ابن امة، فقال له زيد بن علي: ويلك يا هشام أمكان أمي يضعني؟ والله لقد كان اسحاق بن حرة و اسماعيل بن أمة فلم يمنعه ذلك من أن بعثه الله نبيا و جعل من نسله سيد العرب و العجم محمد بن عبدالله، ان الأمهات لايقعدن بالرجال عن الغايات اتق الله يا أميرالمؤمنين في ذرية نبيك، فغضب هشام و قال: و مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوي الله؟ فرد عليه زيد بقوله: انه لايكبر أحد فوق ان يوصي بتقوي الله و لا يصغر دون ان يوصي بتقوي الله. و في رواية ثانية ان هشام بن عبدالملك قال لزيد و هو يحاوره بعد ان افحمه زيد: ما فعل اخوك البقرة، يعني بذلك الامام محمد الباقر (ع)، فقال له زيد: لقد سماه رسول الله باقرالعلم و أنت تسميه البقرة لشد ما اختلفتما فسترد النار و يرد الجنة، فقال له هشام اخرج يا ابن الزانية فخرج زيد بن علي من مجلسه و هو يقول: شرده الخوف و أزري به كذاك من يكره حر الجلاد [ صفحه 178] منخرق الكفين يشكو الجوي تنكثه اطراف مرد حداد قد كان في الموت له راحة والموت حتم في رقاب العباد ان يحدث الله له دولة يترك آثار العدي كالرماد و مضي في طريقه الي الكوفة و قال ما احب امرؤ الحياة الا ذل و بايعه اهلها علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن المستضعفين و انصاف المظلومين، و أشار عليه جماعة من العلويين و الهاشميين بعدم الركون الي أهل العراق والاطمئنان اليهم و ذكروه بما جري لهم

مع جده أميرالمؤمنين و عمه الحسن و جده الحسين، ولكنه أصر علي المضي في طريقه و لقي تأييدا واسعا من الفقهاء و خيارالمسلمين. و جاء عن أبي حنيفة أنه قال: ان خروجه يضاهي خروج جده رسول الله يوم بدر و أرسل اليه مبلغا من المال يستعين به علي قتال الظالمين، و يروي بعض المؤرخين أنه خرج بنفسه الي البصرة و دعاهم الي نصرته علي بني أمية و أرسل رسله الي المدائن و الموصل و غيرهما، وانتشرت دعوته في سواد العراق و مدنه وامتدت الي ما وراء العراق. و لما بلغ أمره هشام بن عبدالملك أرسل الي واليه علي العراق يوسف بن عمر يأمره بالتضييق عليه و مطاردته، فاتخذ يوسف بن عمر جميع الاحتياطات لتخذيل الناس عنه، و أدرك زيد خطورة الموقف فتعجل الخروج، فدس اليه يوسف بن عمر من يسأله عن رأيه في أبي بكر و عمر، فقال زيد: رحمهما الله ما سمعت احدا من آبائي يتبرأ منهما فتفرق عنه عدد كبير من أصحابه، و لهذه المناسبة لحقهم اسم الرافضة لأنهم رفضوا القتال مع زيد بن علي، و لما احتدمت المعركة بينه و بين يوسف بن عمر لم يثبت معه سوي مائتين و ثمانية عشر رجلا فأصابه سهم اودي بحياته فدفنه اصحابه في مجري ماء حتي لايصلب او يحرق ولكنهم عرفوا به بعد ذلك فأخرجوه و مثلوا به و أرسلوا رأسه الي الشام و منها الي المدينة، و أما جسده فبقي مصلوبا خمسين شهرا كما جاء ذلك في مروج الذهب و غيره، و لما جاء عهد الوليد بن يزيد كتب الوليد الي عامله علي الكوفة ان يحرقه بخشبته ففعل [ صفحه 179] به ذلك. و أحدث قتله استياء

عاما في اكثر المناطق الاسلامية وجدد احزان أهل البيت و بكاه الامام الصادق و ترحم عليه و جلس للعزاء وروي فضيل بن يسار انه دخل علي الامام الصادق (ع) بعد ما قتل زيد بن علي، فقال لي: يا فضيل قتل عمي زيد بن علي، قلت: نعم يابن رسول الله، قال: رحمه الله، أما انه كان مؤمنا و كان عارفا عالما و كان صدوقا، اما انه لو ملك لعرف كيف يضعها. و قال الامام الرضا (ع) ان زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق و انه كان اتقي لله من ذلك انه قال: أدعوكم الي الرضا من آل محمد. و جاء في رواية ثالثة أن الامام الصادق (ع) قال: رحم الله زيدا انه دعا الي الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفي بما دعا اليه، ولقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم ان رضيت ان تكون المصلوب بالكناسة فشأنك، فلما ولي قال الامام (ع) ويل لمن سمع داعيته ولم يجبه. و جاء في رواية ابي حمزة الثمالي انه قال: دخلت علي سيدي و مولاي علي بن الحسين فوجدته جالسا و علي فخذه صبي و هو مشغوف به يقبله و يحنو عليه فقام الصبي يمشي فعثر في عتبة الدار فقام الامام مهر ولا فأخذه و جعل يمسح دمه بخرقة و يقول: يا بني اني اعيذك بالله ان تكون المصلوب في الكناسة، فقلت له و أي كناسة هذه فقال (ع): يصلب ابني هذا في موضع يقال له الكناسة من اعمال الكوفة، و مضي يقول: والذي بعث محمدا بالحق لئن عشت بعدي لترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة و هو مقتول مسحوب ثم يدفن و ينبش

و يصلب في الكناسة، ثم يحرق بعد ذلك و يذري في الهواء، قلت: جعلت فداك ما اسم هذا الغلام؟ فقال: هو ابني زيد، و كان يحدث و يبكي علي حد تعبير الراوي. و أضاف الي ذلك أبوحمزة الثمالي ان الامام قال لي: أتحب ان احدثك [ صفحه 180] بحديث ابني هذا؟ قلت: بلي، قال: بينما أنا ساجد في محرابي في بعض الليالي اذ ذهب بي النوم فرأيت كأني في الجنة و كان رسول الله (ص) و علي والحسن والحسين و فاطمة كلهم مجتمعون و قد زوجوني فواقعتها واغتسلت عند سدرة المنتهي واذا بهاتف يقول: اتحب أن أبشرك بولد اسمه زيد، فاستيقظت من نومي و قمت و صليت صلاة الفجر و اذا انا بطارق يطرق الباب فخرجت اليه و اذا معه جارية وهي مخمرة بخمار، فقلت له: ما حاجتك فقال أريد علي بن الحسين (ع) فقلت: انا هو، فقال: انا رسول المختار اليك و هو يقرئك السلام و يقول قد وقعت هذه الجارية بأيدينا فاشتريناها بستمائة دينار و قد وهبتها لك، و هذه أيضا ستمائة دينار أخري استعن بها علي زمانك، فدفع لي المال و سلمني الكتاب الذي حمله من المختار و الجارية، فقلت لها: ما اسمك؟ قالت: حورية، فقلت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، و قد علقت مني بهذا الغلام فلما وضعته سميته زيدا وستري ما قلت لك. قال أبوحمزة الثمالي: فوالله لقد رأيت زيدا مقتولا ثم دفن و أخرج من قبره و صلب و لم يزل مصلوبا حتي عشعشت الفاختة في جوفه، ثم احرق و ذري في الهواء. و مهما كان الحال فلقد كان زيد بن علي من أبرز اخوته

بعد أخيه الامام محمد الباقر و أعظمهم قدرا و أوسعهم آفاقا في فقه أهل البيت و أصول العقائد الاسلامية التي سلك فيها مذهب آبائه الأئمة الكرام و ناظر فيها المعتزلة والقدرية و غيرهما من المنحرفين عن المنهج السليم، و لم يكن يفكر في الثورة علي حكام عصره لولا انهم اضطروه الي ذلك و طاردوه و فرضوا عليه القتال فرضا و كان يدعو الي الرضا من أهل البيت (ع) ولو ظفر لوفي كما وصفه الامام الصادق (ع) و لم يدع الامامة و لا ادعاها له احد في حياته و قد ظهر القول بامامته بعد مقتله بمدة من الزمن يوم كان العباسيون يعملون علي تشتيت التشيع لائمة الشيعة و خلق الاضداد و المعارضين لهم و تطور بعد ذلك حتي أصبح مذهبا مستقلا يستمد قوته و بقاءه من انتسابه لأحد عظماء أهل [ صفحه 181] البيت و يلتقي مع فقه الامامية و أصولهم في أكثر المسائل و المباحث كما يبدو ذلك من فقه الزيدية الذين اعتمدوا آراء زيد بن علي (ع) أساسا لفقههم، و من المجموعة الفقهية التي رواها عنه تلاميذه و ألصقهم به أبوخالد عمرو بن خالد الواسطي. فرحم الله زيد بن علي الذي حمل رسالة آبائه فناضل و جاهد حتي قتل علي منهاج المجاهدين في سبيل الله و أصبح من الخالدين. [ صفحه 182]

عبدالله و عمر و الحسين أبناء علي

و ممن تحدثت عنهم كتب الأنساب من أولاد الامام علي بن الحسين (ع) عبدالله بن علي الملقب بالباهر و كان فاضلا فقيها روي عن آبائه عن رسول الله أحاديث كثيرة علي حد تعبيرهم، و جاء في بعض المرويات أنه قيل لأبي جعفر الباقر: أي اخوانك أحب اليك و أفضل فقال: أما عبدالله

فيدي التي ابطش بها، و أما عمر فبصري الذي أبصر به، و أما زيد فلساني الذي أنطق به، و أما الحسين فحليم يمشي علي الأرض هونا و اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، و كان عبدالله يلي صدقات رسول الله و صدقات أميرالمؤمنين كما جاء في الارشاد للمفيد و غيره. و أما عمربن علي فقد جاء في وصفه انه كان فاضلا جليلا ورعا سخيا تولي صدقات النبي و صدقات جده اميرالمؤمنين (ع) و كان يشترط علي من يبتاع ثمارها ان يثلم في الحائط ثلمة لكي تأكل منها المارة و لا يرد احدا عنها، و يروي عنه انه قال: المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا انزلونا بالمنزل الذي انزلنا الله به و لا تقولوا فينا ما ليس بنا ان يعذبنا الله فبذنوبنا و ان يرحمنا فبرحمته و فضله علينا. و أما الحسين بن علي بن الحسين (ع) فقد قال المفيد عنه في ارشاده انه كان فاضلا ورعا روي حديثا كثيرا عن أبيه علي بن الحسين و عمته فاطمة بنت [ صفحه 183] الحسين (ع) التي أودعها الحسين عند خروجه من المدينة الي كربلاء وصيته، وروي عن أخيه أبي جعفر الباقر وعده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر و الصادق عليهماالسلام. و كانت وفاة الامام علي بن الحسين خلال شهر المحرم من سنة خمس و تسعين مسموما بأمر الوليد بن عبدالملك بن مروان كما يري ذلك أكثر المحدثين و الرواة، و جاء في بعض الروايات عن محمد بن شهاب الزهري أنه قال لي الوليد بن عبدالملك يوما: لا راحة لي و علي بن الحسين موجود في دار الدنيا و قبيل وفاته جمع أولاده و أوصاهم بتقوي الله و

طاعة أخيهم الامام محمد الباقر كما أخبر أعيان شيعته بامامته من بعده. و خرج من هذه الدنيا بعد جهاد شاق طويل و مرير لانقاذ البشرية مما كانت تعانيه، و ظل طيلة حياته بعد أبيه يذكر الناس بمأساة كربلاء و يبكي لها لتبقي حية خالدة تدفعهم للثورة علي الظلم و التضحية في سبيل الله، و واظب علي العبادة في ليله و نهاره حتي سمي بالسجاد و لقب به زين العابدين و انتسب الي النبي (ص) و الي كسري ملك الفرس فعرف بابن الخيرتين.

پاورقي

[1] زينب الكبري لجعفر نقدي ص 120 و 122، و بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطي ء.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.