حياة الامام علي بن الحسين (عليهما السلام )

هوية الکتاب

حياة الامام علي بن الحسين (عليهما السلام )

المؤلف: السید جعفر الشهيدي

ترجمة: احمد الحلبوني الطبعة: الاولي

طبع في سنة: 1421 ق / 2001 م

كلمة المترجم

حين عرضت دار الهادي للطباعة و النشر أن أترجم (حياة علي بن الحسين) و هو كتاب سنة 1986 في جمهورية ايران الاسلامية و أحد الآثار الباقية للأستاذ العلامة الدكتور المؤرخ السيد جعفر شهيدي ابتهجت بهذه الثقة السامية، و شكرت لهذه الدار الكريمة تمكينها اياي من تقديم جوهرة من عقد فريد نظمه هذا العالم البصير في حياة أهل البيت عليهم السلام و زين به جيد الحقيقة بعد ما نفض عن جبينها غبار الوهم الذي ران عليه منذ قرون. و لن أحدث القارئ الكريم بفضل المؤلف الكبير الذي كرمته الجمهورية الاسلامية في احتفال ثقافي كبير خاص به اعتزاز بمكانته العالية في التحقيق العلمي الواسع العميق، لأن هذا الحديث ليس من شأن هذه المقدمة. و لا أحدثه بهذا المؤلف الكاشف عن براعتهن في البحث الدقيق الذي لا يعرف غير الصدق، و لا يتوخي الا الحق مهما كلفه من أذي، و هذا ما تشهد به صفحاته المشرقة نفسها. ولكني أضع بين يديه أمثلة مما امتاز به هذا الأثر من نوادر الكشف العلمي: أولها: أنه أثبت بطلان الاعتقاد بأن أم زين العابدين هي شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر الأكاسرة الساسانيين. و هي دعوي مازال الايرانيون يفخرون بها أيما فخر. و ثانيا: أنه فند زعم المؤرخين أنه ولد قبل الثامنة و الأربعين للهجرة تفنيدا تضافرت

ص: 1

الوقائع التي استند اليها علي تأييده تأييدا قاطعا بأنه الصواب. و ثالثها: أنه بحث عن صحة مدح الفرزدق لزين العابدين عليه السلام و ما قيل في عدد الأبيات و القائلين و الممدوحين الذين تداخلت أسماؤهم و أبياتهم و حوادثهم بعضها في بعض من القرن الثالث الي القرن العاشر بحثا علميا رائع الدقة و الاحاطة و التأني دالا علي ايثاره الحق علي كل ما عداه عن وعي و بصيرة تامين. و اذ باشرت ترجمة هذا الكتاب الزاخر بالنصوص التاريخية المترجمة من العربية الي الفارسية تكاد أني عبئان: أحدهما استقاء المحقق من منابع لا تبلغها يدي لنفادها أو عدمها في بلاد لا تنطق بلسانتن هذه المنابع، و لا تلتفت اليها. و الآخر عدم درايتي أتصرف المؤلف في ترجمة ما استقاه من تلك المنابع أم لا؟ و هذا ما أخذ علي يدي في انجاز ما طلب الي انجازه اضافة الي شواغلي الشاغلة عن أدائه كما أريد و كما أحب و لم يتح لي الا ابتداع العناوين، فقد جاء الكتاب خاليا منها تماما. و لذا أعتذر مما لا بد منه لمثلي من زلات القاصرين و عثرات المقصرين، و الله ولي التوفيق عليه توكلت، و اليه أنيب.

ص: 2

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم «يحرفون الكلم عن مواضعه» (1) لم يوفق الكاتب (2) للدراسة في المدارس العصرية. لم و ما موجب ذلك؟ هذه المقدمة لا مجال فيها لمثل هذا البحث و لا مورد للأسف علي ما حدث أو السرور به أيضا، فمهما كان، فقد مضي و في النتيجة لا يدري أكان في المدارس الابتدائيه المرسمية قبل خمسين أو ستين عاما حصة لتعليم أصول العقائد و الدين و معرفة أئمته أم لا؟. فان كانت، فكيف كانت تعرض؟ نحن طلاب الكتاب ثلاثون الي خمسين نسمة من السنة الخامسة الي الثامنة عشرة كنا نجتمع تحت سقف هو ثمانية أذرع في ثلاثة الي أربعة، أو الأحسن أن نقول: نقضي اليوم. كنا نتعلم أصول الدين و المذهب أيضا ضمن قراءة سور من القرآن و كتب من قبيل عاق الوالدين، و الذئب و الثعلب، و النحات، و ذهاب الامام الحسن و الحسين الي الكتاب، و قصة اللعين، و حرب الامام علي عليه السلام للجن في بئر العلم. و كان يجب أن نعرف أئمتنا أيضا. أما كيف كنا نتعلم تلك الدروس و الي أي حد؟.

ص: 3


1- المائدة / 13:5.
2- يعني المولف نفسه.

فتلك قصة ممتعة تستحق القراءة لو حظيت بفرصة و كتبتها. هنا بمناسبة مقدمة الكتاب الحاضر أكتب مثالا صغيرا أو غيضا من فيض. كان درس أصول الدين بيدأ علي هذا النحو: - علي كم قسم يقسم التوحيد؟ - علي قسمين: التوحيد الذاتي، و التوحيد الصفاتي. و لو كان أحد يسأل: ما الذات و الصفات، و ما فرقها؟ ما كنا نعرف أيا منها. و بعد مضي أكثر من نصف قرن علي ذلك العهد يجب أن أقول: لم يكن عمق معلومات المتعلم أقل من المعلم. و ما كان المعلم يعلمه هو ما كان يعطيناه، و ما كنا نحفظه هو ما كان يعلمه. كنا نمتحن في الأسبوع مرة في الأقل، فكان المعلم أو من يحل محله الذي كنا ندعوه الخليفة يسألنا واحدا واحدا عن الدروس، و نحن نجيب بما كنا نحفظه من جمل مكتوبة أو مقولة، أو باصطلاح عصر الكتاب: كنا نعيد درسنا. - كم اله يوجد؟ - واحد. لماذا واحد؟ لأنه لو كان اثنان، لاحتربا (1) ، و لقتل الاله القوي الاله الضعيف. و لو سأل أحد: لم يقتتل هذان الالاهان، لما أجاب تلميذ و لا معلم!. و بعد انتهاء بحث الألوهية تأتي نوبة النبي و الأئمة. - من الامام الأول؟

ص: 4


1- أي تقاتلا.

- المرتضي علي عليه السلام - من الامام الثاني؟ - الامام الحسن عليه السلام. - من الامام الثالث؟ - الامام الحسين عليه السلام. - من الامام الرابع؟ - الامام زين العابدين «العليل» عليه السلام. - كأن قوله كلمة «العليل» بعد اسم الامام الرابع كان واجبا. و اذ كنت أقول كلمة «العليل» أو أسمعها من زملائي كان ذهني يتجه لقاعدة تداعي المعاني الي حالة خاصة هي أن هذا الاصطلاح ذو معني. كانت القصة من هذا الأمر، فمنذ صغري حتي مراهقتي و أنا مريض واقع في فراش المرض قسما من السنة، و كأس العلاج و أدوية أطباء ذاك الزمان غير مفارقتي. بناء علي هذا كان مرأي الامام العليل زين العابدين يتجلي لي عند عد الأئمة، فأراه بذهني المحدود الذي ليس بينه الآن و بين انقضاء الستين متسع مغتما ذا بلاء يئن من شدة الألم، و يتململ من حرقة الحمي، و يتجرع أقداح قاتل الكلب (1) و العناب و أطباء الكلبة (2) و ضفائر الجن (3) و مغلي طرفاء المن و الاكليل و حمص الأمير. و كبرت شيئا فشيئا، و اتخذت سبيلي الي مجالس العزاء، هذه المجالس هي الوحيدة التي لم تكن ذات حاجب و بواب، و كان الناس من كل طبقة يستطيعون المشاركة فيها بلا كلفة. و حين يمضي المتحدث أو النائح الي صحراء كربلاء، و كان اسم الامام زين العابدين العليل يأتي كنت أجسم تلك الميادين. و اختلاف هذا الدرس مع درس الكتاب هو:

ص: 5


1- نباتات يتداوي بها (المترجم).
2- نباتات يتداوي بها (المترجم).
3- نباتات يتداوي بها (المترجم).

أولا: أن السامعين كانوا لايمتحنون. ثانيا: أنه كان يضاف الي صفات الامام العليل وضع الجامعة في العنق و الأسر علي ظهر جمل و أمثال ذلك. كان هذا تصويرا للامام زين العابدين الذي كانت تعليمات الكتاب و تلقينات النائحين في ذهني و ذهن طلاب أمثالي. و شيئا فشيئا كبرت مع كتب التاريخ، و صرت عارفا بالتراجم. كتب مثل جلاء العيون للمجلسي، و طوفان البكاء و مشكاة الأدب للمرحوم سپهر و القمقام للمرحوم الحاج فرهاد ميرزا... ثم نصوص قديمة و جديدة غربية، و في النهاية قراءة و ثائق أساسية فتحقيقها. كنت في هذه السنوات قد علمت أن هذا النوع من الدروس الذي أودع في أذهاننا، و نال حكم النقش في الحجر، لا يمحي حتي بجهد جهيد، و لا تتاح مثل هذه الفرصة لجميع أندادي. معرفة الصحيفة السجادية، و الدقة في تأمل معاني دعاء «أبي حمزة» العالية، و تحقيق كتب مثل صفة الصفوة لابن الجوزي و حليلة الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني؛ و كشف الغمة للاربلي و المناقب لابن شهراشوب أرتني صورة قريبة لواقع هذا الرجل العظيم، و قبل ثلاثين عاما كتب رسالة عنوانها «السراج المنير في الدنيا المظلمة» و انتشرت. الآن بعد مضي خمسين عاما علي عهد الكتاب، و مجالس العزاء في تلك السنين يجب أن أقول: يمكن أن يخلف التعليم بهذا الأسلوب أثرا غير مطلوب في ذهن السامع العديم البضاعة مثلي، ثم لا يتسني له مجال ليصحح الأخطاء المخزونة في ذهنه؛ و تكون نتيجة ذلك - لاسمح الله - أن ينال هذا الرجل العظيم - بقطع النظر الي مقام الامامة و العصمة الشامخ الذي يعتقد الشيعة به - لقب العليل من شيعته و محبيه مقابل ثلاثين عاما من تعليم القضايا الفقهية و الارشاد العملي و الأخذ بيد المساكين بلا منة و الرأفة بالمستحقين و المغلوبين، و حطم أفواه الظالمين، و الخضوع و الخشوع لرب العالمين و ابقاء أثر في غاية البلاغة و حديث

ص: 6

في أوج الفصاحة. و اذ مد التوفيق يده الآن لأعد هذا الكتاب تواصل سعي عظيم لأتكئ علي المنطق و الدليل لا علي العاطفة و الاحساس. في الكتب التي كتبتها اتخذت الشي ءتن الذي قبله المؤرخون و الاجتماعيون الاسلاميون و غير الاسلاميين. كتبت شيئا لا يسهل ادراك واقعه علي أهل زماننا، و لا تترتب عليه نتيجة علمية من أخري. انتخبت من كل الكتابات ما رآه التاريخ صحيحا أو قريبا من الصحة. و علي هذا الترتيب سعيت أن أعرض صورة لظاهر هذا الامام العظيم بعرض ما في الوثائق. لكن يجب أن أقول: ليس لمثلي أن يدرك مقامه حقا و واقعا - و علي ما كتبت في مقدمة كتاب آخر - لا أقول: ما كتبته هو الحقيقة المحضة فالحقيقة المحضة لا يعلمها الا الله. السيد جعفر شهيدي تيرماه 1364 (هجري شمسي)

ص: 7

اشرف الخلق

لا يقاس بآل محمد صلي الله عليه و آله من هذه الآمة أحد (1) . ان الله خير من خلقه صنفين: من العرب قريشا، و من العجم فارسا. (2) . ألقابه: زين العابدين (3) و ذوالثفنات (4) و سيد العابدين (5) و قدوة الزاهدين (6) و سيد المتقين (7) و امام المؤمنين (8) والأمين (9) و السجاد (10) ، و الزكي (11) ، و زين الصالحين (12) و منار القانتين (13) و لقبوه ألقابا أخري غير ما ذكرنا، مثل: العدل، و امام الأمة، و البكاء. و أشهر هذه الألقاب السجاد، و زين العابدين، و ذو الثفنات، ورد في تائية دعبل: ديار علي و الحسين و جعفر و حمزة و السجاد ذي الثفنات (14) .

ص: 8


1- نهج البلاغة: 1 / 39.
2- حديث موضوع علي الظاهر.
3- الارشاد: 2 / 128؛ و كشف الغمة: 2 / 73 - 74؛ و مناقب آل أبي طالب: 4 / 129 - 170؛ و حلية الأولياء: 3 / 133. [
4- المناقب: 4 / ص 175؛ و كشف الغمة: 2 / 74؛ و علل الشرائع: ص 233؛ و شرح النهج: 10 / 79.
5- المناقب: 4 / 170؛ و الكشف: 2 / 74.
6- الكشف: 2 / 72.
7- الكشف: 2 / 73.
8- الكشف: 2 / 73؛ و المناقب: 4 / 175.
9- الكشف: 2 / 74.
10- المناقب: 4 / 175؛ و علل الشرائع: 232.
11- الكشف: 2 / 74.
12- الناقب: 4 / 175.
13- حلية الأولياء: 2 / 133؛ و المناقب: 4 / 175.
14- الديوان: 131.

و ليست هذه الألقاب التي لقبوا بها الامام علي بن الحسين كالألقاب التي يلقب بها العرب الطفل عند ولادته أو في طفولته، و لا كالألقاب التي راجت في القرن الثالث الهجري في ظل الحكومة الاسلامية، أو الألقاب التي ألفت في بلادنا في القرن الثالث عشر و الرابع عشر، و فهرسها أحد النقاد الاجتماعيين في كتابه (1) . هذه الألقاب لقبها الناس هذا الامام عليه السلام - الناس لا بالمعني اللغوي لهذه الكلمة، بل بمعناها الاصطلاحي - أي: الصيارفة الخبراء بالجوهر و العرفاء الباحثون عن الانسان، أولئك الذين كانوا قد ملوا العفريت و الغول في ذاك العصر المظلم، و وجدوا برؤية الامام عالما كاملا و مصداقا تاما ل «عباد الرحمن». (2) . و أكثر من لقبوه هذه الألقاب ما كانوا شيعة، و ما كانوا يرونه اماما معينا من الله، لكنهم لم يكونوا قادرين علي تجاهل ما يرونه فيه. و كل من هذه الألقاب دال علي مرتبة من كمال النفس و درجة من الايمان و مرحلة من التقوي و منزلة من الاخلاص و مبين لها. و ثقة الناس و اعتقادهم بصاحب هذه الألقاب: سيد العابدين و امام الزاهدين، و سيد المتقين، و امام المؤمنين، و زين الصالحين و مصباح المتهجدين و شثني الجباه. و هو في الحقيقة مظهر لهذه الصفات علي ما ستقرءون (3) و هذا ما عليه الجميع من القول. كنيته أبومحمد (4) و أبوالحسن (5) ، و أبوبكر (6) و أبوالحسين (7) .

ص: 9


1- سفرنامه ابراهيم بگ: ص 61.
2- الفرقان / 63: 25.
3- كتابة الهمزة بهذا الشكل هي الموافقة لتوصيات مجامع اللغة العربية (م).
4- أنساب الأشراف: 2 / 146؛ و صفة الصفوة: 2 / 52؛ و كشف الغمة: 2 / 105.
5- طبقات ابن سعد: 5 / 157؛ و صفة الصفوة: 2 / 52.
6- المناقب: 4 / 175؛ و الكشف: 2 / 105.
7- نسب قريش: 58؛ و الارشاد: 2 / 138.

أبوه الامام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام سبط رسول الاسلام صلي الله عليه و آله و سلم ثالث أئمة الشيعة. و أمه علي ما عرفت هي «شهربانو» بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك ايران من سلسلة الساسانيين. تمتد شهرة «شهربانو» الي ألف و مئة سنة، و هي من القوة حتي ان أحد كتاب التراجم المعاصرين (1) كتب: أنه كانت مشيئة الرب أن تربي هذه السيدة بين ناس مشركين، و تبقي بمعزل عن الكفر و الالحاد مثلما حفظت الارادة الالهية محمدا من الشرك و الكفر» (2) . و كون «شهربانو» بنت يزدجرد أم الامام الرابع مسلم به تسليما، بل بديهي في نظر العامة، حتي لو أن أحدا شك فيه عد منكرا لأصل ثابت و ضروري من الضروريات، و جديران باللعن في هذا العالم، و بجهنم في العالم الخالد. أما اذا تغافل محقق هذه الشهرة الضاربة في القدم، و اطرح حسن الثقة و الاطمئنان المحض، و لم يقبل ما كتبه المحدثون و مؤرخر القرن الثالث بلا تلكؤ، و مضي الي زمن أسانيدهم، و عرض لتحقيقها بأسلوب علمي، فوزن مضامينها بالقرائن الخارجية، فانه سيتضح له أن قصة «شهربانو» مصداق صحيح للمثل العربي: «رب مشهور لا أصل له». أجل، قصة شهربانو جاءبها الأوهام و الأساطير في البدء، ثم استتر الواقع الخارجي عن الأنظار بلباس الخيال، و عندئذ قبل كتاب التراجم و المؤرخون أقاويل المتقدمين دونما تحقيق، و لعلهم لهذه العلة لم يروان القصة عرضة للنقد العلمي. و كثير ممن يريدون أن يكتبوا في شأن الامام علي بن الحسين عليهماالسلام أو يحققوا في حوادث

ص: 10


1- السيد عبدالرزاق المقرم في كتابه (الامام زين العابدين).
2- الامام زين العابدين: 10.

عصره لا يرون اليوم ضرورة للتحقيق في هذا الأمر. و لا يجوزون أيضا ألا يقبل أحد هذه الشهرة الضاربة في القدم. يظنون أن منقصة ستأخذ بأذيال أسرة الامامة اذا لم تصح قصة شهربانو، أو أن تعديا كدرا سيلم بعظمتها. كتب المؤلف قبل ثلاثين عاما اذ فتح مثل هذا البحث: أنا لا أصدق قصة شهربانو، لأن الأدلة الواردة فيها غير صحيحة. و الآن أيضا أقول: اذا كان أساس مثل هذه الشهرة الضاربة في القدم قائما علي هذه الأدلة المنظورة، فليس له قيمة علمية. و ان يجد محقق دليلا قاطعا لا يقبل الشك، فعليه أن يجعله في معرض قضاء المحققين. و ما يؤسف عليه أن كل ما كتب في شأن شهربانو حتي الآن أصالة أو تضمينا قائم علي هذه الشهرة ما عدا شيئا مما كتبه المتشرقون. و من يريدون الاطلاع علي حياة الامام الرابع فقط يقولون: علي بن الحسين عبد اصطفاه الله مثالا أعلي للتربية الاسلامية، و هو أفضل الهاشميين في زمانه و هو امام أوجب الله طاعته سواء كانت أمه شهربانو أو غزالة أو سلافة أو حرار، و سواء كانت ملكة أو أمة، ايرانية أو سبية كابلية. و كل هذا لا أثر له فيما نريد من حياة هذا الامام. و مثل هذا النظر سليم لدي هذه الفئة من قارئي الكتاب، لكن لا يمكن انهاء البحث من الوجهة التاريخية بهذا الايجاز، بل تجب مقابلة الأدلة و تحقيقها لعل الحقيقة تتضح، أو لعل بابا ينفتح لتحقيق الآتين في الأقل (1) .

ص: 11


1- قبل ثلاثين عاما تقريبا نشر الكاتب بحثا عنوانه «بحث عن شهربانو» و غدا البحث محط اهتمام العلماء الايرانيين و المستشرقين الأجانب، فنشرت سيدة من علماء الانجليز مقالة في مجلة مدرسة الألسنة الشرقية بلندن سنة 1967 م العدد 30 / 30 - 44 ترجمها الدكتور حسن جوادي الأستاذ بحامعة طهران في مجلة الأبحاث التاريخية العدد 3 و 4 السنة الثانية. و أساس مقالة هذه السيدة في شأن شهربانو هو كتابتي عنها. و قبل سنة أو ستين انتشرت سلسلة مقالات في شأن شهربانو هي تقريبا ما جاء في مقالة «بحث عن شهربانو» مع أدلة أخري، و من الجملة ترجمة السيد ذبيح الله منصوري لقصة «كورت فريشلر» التخيلية!.

و اذا كان لمثل هذا البحث ضرورة، فيجب القول: يظهر أن اسم أم الامام الرابع في الوثائق المتقدمة و القريبة من العصر الأول هو: شهربانو (1) ، و شهربانويه (2) ، و «شاه زنان» (3) و جهان شاه (4) و شهرناز (5) و جهان بانويه (6) و خولة (7) و برة (8) و سلافة (9) و غزالة (10) و سلامة (11) و حرارة (12) و مريم (13) و فاطمة (14) . شهربانونت هو أشهر الاسماء الأربعة عشر التي ذكرت. شهرة شهربانو بلغت أن أقيم لها مزار باسم السيدة شهربانو قرب مدينة الري في قلب الجبل. يقول بناة هذا المزار و زائروه: هذه السيدة ركبت جواد الحسين ذا الجناح بعد حادثة

ص: 12


1- كشف الغمة: 2 / 105.
2- الارشاد 2 / 138؛ و المناقب 4 / 176؛ و اعلام الوري 256.
3- الأرشاد: 2 / 138؛ و الكشف: 2 / 74؛ و المناقب: 4 / 176؛ و الاعلام: 257؛ و عرف المجلسي في رواية من دروسه «شاه زنان أنها بنت شيرويه (البحار: 14 / 46).
4- أصول الكافي: 1 / 467؛ الخرائج بنقل البحار: 46 / 11.
5- مجمل التواريخ و القصص: 456.
6- المناقب: 4 / 176.
7- كشف الغمة: 2 / 205؛ المناقب: 4 / 176.
8- المناقب: 4 / 176؛ الكشف: 2 / 105.
9- المعارف: 214؛ عيون الأخبار: 4 / 8؛ المناقب: 4 / 176؛ أنساب الأشراف: 146، 102؛ وفيات الأعيان: 2 / 429؛ مرآة الجنان: 1 / 190.
10- طبقات ابن سعد: 5 / 156؛ الكشف: 2 / 72؛ صفة الصفوة: 2 / 52؛ المعارف: 214؛ تاريخ اليعقوبي: 1 / 219.
11- أصول الكافي: 1 / 466؛ الكشف: 2 / 101.
12- تاريخ اليعقوبي: 1 / 219؛ و كتب أن أن الحسين - عليه السلام - غير أسمها الي غزالة.
13- المناقب: 4 / 176 و كتب أن أميرالمؤمنين - - سماها هذا الاسم.
14- نفسه.

كربلاء و شهادته، و انطلقت به الي ايران، فوصلت هذا الجبل، قرب الري و كان العدو في عقبها. أرادت شهربانو أن تقول: يا هو خذني، فقالت: يا كوه (1) خذني. فانشق الجبل، و ضمها في قلبه. أبوها يزدجرد آخر الملوك الساسانيين. كتبوا أنه نوشجان من أهل خراسان (2) و شيرويه (3) بن پرويز و أشهر أسمائه يزدجرد. لكن لماذا جاءت شهربانو التي قالوا: كانت حاضرة في كربلاء الي ايران؟ و اذا كانت ذهبت من العراق الي الحجاز، فلماذا هاجرت من هناك الي ايران؟ و من أجل ماذا طوت هذه الطرق الطوال حتي تصل هذه الأرض و العدو يتعقبها؟ و تطلب العون من «هو» فيجزي علي لسانها «جبل» خطأ، و ينفرج الجبل، و يخفيها في بطنه. قصه يجب أن يجيب عنها صناع الأسطورة، أو أن يوضحوها في الأقل. و ان يرد متتبع ذو علاقة أن يطلع علي هذه القصة و حقيقتها، يحسن به الرجوع الي ذاك العدد من مجلة الأبحاث التاريخية. الا أن اسم شهربانو بنت يزدجرد الساساني لم يرد الا في كتب الزيارات و القصص التي يكتبونها لاجتذاب القارئين. و هذا الاسم - علي ما كتبنا - له شهرة ألف و مئة عام، لا بين الناس وحدهم، بل في كتب التراجم و الرجال و التاريخ، و كتابات عظماء و مشهورين في عالم التشيع. و الآن يجب - و الحال هذه - النظر علي وفق هذه المصادر كيف ذهبت بنت يزدجرد آخر

ص: 13


1- كوه معناها الجبل.
2- المناقب: 2 / 176؛ كشف الغمة: 4 / 105.
3- المناقب: 4 / 176.

ملوك ايران قبل الاسلام من ايران الي الحجاز و المدينة، و تزوجت سيد الشهداء الحسين بن علي - عليهماالسلام -؟ و هل المصادر التي وردت فيها هذه القصة جديرة بالاعتماد عليها، أولا؟ و هل اذا كتبها محدث ثقة يجب أن نقبلها كاملة؟ أو تجب رعاية أسلوب محققي العصر في نقد القصص العلمي؟ و يقينا أن الصورة الثانية هي التي ستكون مورد قبل الجميع، لأن ما يبحث فيها هو حادثة تاريخية لا حكم الزامي. أقدم مصدر - علي حد بحث الكاتب - هو الذي يقول: أسرت شهربانو في حرب المسلمين و الايرانيين، و أخذوها الي عمر بالمدينة. قال في كتاب «بصائر الدرجات» تأليف محمد بن حسن الصفار القمي المتوفي سنة 290 ه: أخذوا بنت يزدجرد أسيرة الي عمر (1) ، و لأن طريقه في نقل الرواية طريق الكليني و نقل عن عمرو بن شمر، و روايته هو و الكليني واحدة لا تذكر عبارة «بصائر الدرجات». و بعده كتاب «أصول الكافي» تأليف ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني (2) الذي روي عن طريق عمر بن شمر عن جابر بن عبدالله: عندما أتوا عمر بابنة يزدجرد اجتمعت أوانس المدينة للنظر اليها، و اذ وردت المسجد أضاء بها، و حينما نظر اليها عمر سترت نفسها، و قالت: «اف بيروچ باد هرمز مساوي است با اف بيروچ باد هرمز». (3) . فقال عمر: تشتمني. و أراد قتلها: فقال له أميرالمؤمنين: «لا حق لك بمثل هذا، دعها لتختار الزواج بمسلم، و اجعلها سهم ذاك المسلم من الفي ء» (4) .

ص: 14


1- نقلا عن البحار: 46 / 9، و أن شاكر لحضرة السيد الشبيري - مد ظله -.
2- جاء اسم شهربانو بنت يزدجرد في كتاب «الفرق و المقالات» للنوبختي، و «فرق الشيعة» لسعد بن عبدالله الأشعري. لكن ليس بالتفصيل الذي في الكافي.
3- تعني: لماذا يجب أن يلعن هرمز.
4- الفي ء: هو الفائدة التي يقبضها المسلمون من الغنام، ثم أعطوه معني آخر في طول التاريخ.

فترك عمر الفتاة حرة، فجاءت و وضعت يدها علي رأس الحسين عليه السلام، فسألها أميرالمؤمنين: ما اسمك؟ قالت: جهان شاه. (1) . قال الامام: لا، شهربانو. ثم قال للحسين: يا أباعبدالله، ستلد لك خير من علي الأرض. (2) . لكن هذا الحديث بهذا السند و المتن غير جدير بالقبول، أو يمكن التردد في قبوله في الأقل، أو أن القرائن الخارجية - علي ما سنكتب - لا توافقه. لننظر أولا في سند الحديث، فراويه هو عمر بن شمر الذي عده النجاشي و ابن الغضائري ضعيفا، و صرح صاحب مرآة العقول و الوجيزة بضعفه (3) . و الحديث من ناحية المتن محط نظر أيضا. فلننظر في هذه العبارة: «و اذ وردت المسجد أضاء بها». فيجب السؤال: لم أضاء المسجد؟ أو أشعلوا فيه مشعلا؟ أو شمس أو قمر؟ و ليس المقام مقام استعمال المجاز لنقول: هذه العبارة كذلك، فيقولوا: أنرت مجلسنا بجمالك. هذا النوع من التعابير خاص بالعبارت المصنوعة لا الرواية. و لا يقصد الامام الصادق عليه السلام ابتداع العبارة و انشاء المدح. لهذا فسر المجلسي العبارة عندما واجه مثل هذه الغرابة في لفظ الحديث: اضاءة المجلس

ص: 15


1- السيد عبدالرزاق المقرم في كتابه (علي بن الحسين) ذكر أنه ربما حول أميرالمؤمنين (شاه زنان) الي شهربانو لئلا تشارك هذه المرأة فاطمة الزهراء اللقب، ص 14. و جاء في دائرة معارف المرحوم مصاحب: «قيل أن سلمان الفارسي كان مترجم الطرفين» و لا يعلم ما هو مستند هذا الرأي!.
2- اصول الكافي: 1 / 467.
3- تنقيح المقال: 2 / 232.

بها تعني سرورهم برؤيتها. (1) . لكن هذا التفسير مخالف لظاهر الكلمة. فضلا عن رواية الكافي و بصائر الدرجات جاءت الجملة في رواية الخرائج عن جابر بهذه الصورة: «أشرق المجلس بضوء وجهها». (2) . و في ذيل هذه الرواية بنقل جابر نري أن عمر وضعها في المزايدة، فقال علي عليه السلام: بنات الملوك مهما كفرن لا يمكن بيعهن، دعها مختارة، لتختار أحدا. هكذا فعل عمر، و مضت الفتاة الي الحسين بن علي عليه السلام و وضعت يدها علي كتفه. و هذا الحديث - طبعا بالفارسية الدرية - جري بينهم: ما اسمك يا جويرية؟ - جهان شاه. (3) . - لا، شهربانو. - تلك كانت أختي. - صدقت. (4) . فقرة أخري من الحديث جديرة بالتأمل أيضا، هي «بنات الملوك مهما كفرن لايمكن بيعهن». من أين نالبت بنات الملوك هذا الامتياز؟ هل شرع مثل هذا الحكم في زمن رسول الله؟ أو يدل عليه عموم رواية عن الرسول أو ظاهر لفظي من القرآن؟ و الجمله الأخري التي تبين أن الحديث مصنوع هي أن شهربانو قالت: «ابيروج باد هرمز» أي لماذا يجب أن يلعن هرمز؟ (5) .

ص: 16


1- البحار: 46 / 9.
2- نفسه: 46 / 10.
3- أي: ملكة العالم (المترجم).
4- البحار: 46 / 11.
5- 59.هو (اهرمن) بدلا عن هرمز. و أظن أن كلمة هرمز حورت الي (اهرمن). و علي آية حال لما كانت واقعية اصل القصة غير صحيحة من جهات عديدة أخري فان وجود (اهرمن) بدلا عن هرمز لايحل المشكلة.

فهو الذي أهان كتاب الرسول اليه[ بتمزيقه اياه ]. و ان تكن القصة علي هذه الصورة التي كتبوها، و هي أن خسرو پرويز بن هرمز. و اذا كانت فتاة وردت المسجد، و كانت تلك الفتاة شهربانو بنت يزدجرد، فهذا القدر مسلم أنها تعرف أباها وجدها، و أنها كانت مطلعة علي سيرتهما جيدا. في ذيل الرواية نقرأ أيضا أنهم كانوا يدعون علي بن الحسن ابن الخيرتين، لأنه مختار الله من عرب هاشم و عجم فارس. هذه الفقرة تري منوعة في الحديث، فهو: «لله - تعالي - من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش، و من العجم فارس». و هو أيضا: «ان لله من عباده خيرتين، فخيرته من العرب قريش، و من العجم فارس». و جاء كذلك: ان الله خير من خلقه صنفين: من العرب قريشا، و من العجم فارسا. و جاء في بعض الروايات قريش بدلا من هاشم، و الظاهر أن تحويل كلمة قريش الي بني هاشم كان بعد سقوط الأمويين و مجي ء العباسيين الي الحكم. هذه الرواية بأي مضمون كان مخالفة لظاهر القرآن الكريم و روح الشريعة الاسلامية، فمعيار الكرامة التقوي لا الأصل. و علي ما سوف تقرءون في موضع آخر من هذا الكتاب يلوم عبدالملك بن مروان الامام علي بن الحسين أن تزوج خادما، فيكتب في جوابه: ان الله رفع بالاسلام الخسيسة، و أتم به النقيصة». (1) .

ص: 17


1- العقد الفريد: 6 / 128. م.

كيف يمكن القول في مثل هذه الشريعة: قريش عموما أفضل من القبائل الأخري؟ و كيف يكون أبوسفيان و معاوية و يزيد و سهيل بن عمرو أكرم عندالله من قيس بن سعد بن عبادة و أبي أيوب الأنصاري و سلمان الفارسي و مئات آخرين من المسلمين الحقيقيين؟ بل كيف يمكن القول: كل بني هاشم بن عبدمناف أعز عندالله من الناس الآخرين؟ و كيف تكون منزلة أبي لهب عبدالعزي و أولاده والعباس بن عبدالمطلب و زيدالنار و جعفر الكذاب أعلي من منزلة محمد بن يعقوب الكليني و محمد بن الحسن الطوسي و المفيد و الشيخ الأنصاري و الآخرين؟ تلك الرواية التي نقلت عن أحمد بن اسحاق الأشعري القمي و أن الامام العسكري لامه علي عدم احترامه الحسين بن الحسن و مخالفته لحق الهاشميين علي غير الهاشميين ليس معناها أنه مهما فعل الحسين، فهو عزيز عندالله، و الله لا يؤاخذه، لأنه من سلالة هاشم. نري في البحار رواية أخري بنقل محمد بن جرير بن رستم الطبري، و اتخذت القصة في هذه الرواية لونا آخر بتعظيم و تفخيم زائدين: يريد عمر أن يبيع النساء، فيمنعه أميرالمؤمنين عليه السلام و يقول له: سمعت من الرسول أن أكرموا أعزة القوم مهما كانوا مخالفين لكم. و القصة - علي ما نري هنا - ليست قصة شهربانو وحدها، و انما قصة كل النساء الايرانيات الأسيرات. ثم قال الامام علي عليه السلام: جدت بسهمي من هؤلاء الأسري. فقال بنوهاشم: و نحن أيضا جدنا بسهمنا. و قال المهاجرون و الأنصار: و نحن أيضا جدنا بسهمنا. و يصرخ عمر في وجه علي أن لماذا تخالفني من أجل العجم؟ (1) . مضمون الروايات مع كل امتداد اليد اليه مدهش و غير مقبول حتي أن المحدثين و النسابين قدحوه و أنكروه.

ص: 18


1- البحار: 46 / 15.

للسيد أحمد بن علي الداوودي مؤلف كتاب «عمدة الطالب في أنساب أبي طالب» نظر جذاب في هذا الشأن ليس عديم الجدودي لاكمال هذا القسم من البحث و معرفة اسلوب المباحث القديمة، فهو يقول: لقد أغني الله علي بن الحسين ببنوته للنبي عن بنوته للملوك المجوس، و لا سيما عن بنت لم تولد علي سنة الاسلام. و لو أن الملوكية كانت سببا ببفخر و الشرف لكان العجم أفضل من العرب و لكان القحطانيون (1) أفضل من العدنانيين. جماعة من العوام و فئة من الحسينيين فخروا بأن الحسينيين قد جمعوا النبوة و الملك في أنفسهم. و هذا كلام لا أساس له، ففاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام أم أولاد الحسن المثني ابن الامام الحسن أيضا، و علي ما يقولون أمها أم علي بن الحسين (2) . فاذا كانت الولادة من كسري فضيلة، فبنو الحسن أولو فضيلة أيضا، و للحسن بن علي علي أخيه الامام الحسين وجوب الطاعة أيضا، و هذه فضيلة يستطيع أبناء الحسن أن يعلوا بها علي الحسينيين. (3) . المشكلة الأخري التي سنواجهها في حال قبول هذه الرواية هي أي سنة أسرت شهربانو و أين؟ اذا كانت من أسري خراسان، فخراسان فتحت في عهد عثمان لا في خلافة عمر. ففي النتيجة سيكون جلب شهربانو الي مسجد المدينة و محادثتها لعمر غير صحيحين. و اذا كانت في خلافة عمر، فأسرها في واحدة من معارك القادسية أو المدائن أو نهاوند،

ص: 19


1- القحطانيون هم العرب الذين سكنوا جنوب شبه الجزيرة العربية حيث كانت ممالك المعينين و سبأن و الحميريين، في حين أن العرب العدنانيين (الشماليين) كانوا بداة.
2- هذا القول لا أساس له، فأم فاطمة هي أم اسحاق بنت طلحة بن عبيدالله علي ما كتب أصحاب السير و النسابون عامة.
3- عمدة الطالب: 160 - 159.

و القصة في هذه الحال غير مقبولة من ناحيتين. أولا: أن المؤرخين فصلوا قصة حركة يزدجرد و انسحابه من نقطة الي نقطة أخري عند شرح حروب العرب و ايران، و علي وفق تقاريرهم لم يكن يزدجرد و أسرته في ميدان القتال في وقت ما. عندما بدأت حرب القادسية كان يزدجرد في المدائن، و ذهب الي حلوان قبل أن يصل المسلمون الي المدائن، ثم من حلوان الي قم و كاشان، و من هناك الي أصفهان و كرمان و مرو. و لم يستصحب يزدجرد نساءه و ذويه و خزانته فقط في هذا الانسحاب، بل طهاته و مؤنسيه و لكابيه (1) ، فمتي وقعت أبنته في أسر المسلمين و أين و كيف؟ ثانيا: ولد الامام علي بن الحسين - بناء علي المشهور - في سنة سبع و ثلاثين للهجرة، و رأيي أن ولادته في سنة ست و أربعين، أو سبع و أربعين للهجرة. عمر - علي ما نعلم - قتل في سنة ثلاث و عشرين للهجرة. لنقل فرضا: انهم جلبوا شهربانو الي عمر في أخريات أيامه، فمن تلك السنة الثالثة و العشرين حتي السابعة و الثلاثين التي هي سنة ولادة الامام علي بن الحسين عليه السلام مضي أربعة عشر عاما. كيف بقيت شهربانو غير والدة طوال هذه المدة؟ و مع أن هذه الحال ليست مستحيلة، الا أنها تبدو بعيدة. استبعد المجلسي هذين الاثنين، و أشار اليهما. (2) . و علي أول سند عن شهربانو و مشكلتها ترد مثل هذه المآخذ، و يقبل النقاش علي ما نري لا من جهة، بل من عدة جهات. فيمكن القول: مثل هذا الحديث غير مقبول.

ص: 20


1- فتوح البلدان: 322، و انظر تجارب الامم المصور: 1 / 388.
2- البحار: 46 / 10.

صحيح أن هذا الحديث روي عن محدث كبير مثل الكيني، و كتب في كتاب معروف مثل الكافي، لكن تعلمون أنه جمع أحاديث في الكتاب الشريف (الكافي) ليست كلها في درجة واحدة من الكمال و الصحة. و من تلك الحادثة الي عصر الكليني مضي خمسون و مئتا عام أو أكثر منها، و الله يعلم كم وضع فيها أتباع النحل المختلفة من أحاديث مصنوعة، و كم بدلوا من الروايات! جمع الكليني كثيرا من تلك الأحاديث التي كان يعرفها، و يعلم أن رواتها صادقون و جديرون بالاعتماد عليهم، و لأن معيار قبول الحديث عند اولئك كان اعتبار الرواي أو و ثاقته لم يرعوا جهات أخري. لكن لا يحب البعد عن الالتفات الي أن من يصنع حديثا، و يضعه علي الألسنة يسعي أن يعرف قائله فرد أو جماعة لئلا يشار اليهم. قصة تلك الأحاديث كلها التي أدخلها المخالفون و المعاندون في دفاتر أصحاب الائمة عليهم السلام و صنع الأحاديث صار موجبا لتنبه الأصحاب و دقتهم في ضبط الحديث. سمعتم و تعلمون أن الامام عليه السلام لعن المغيرة بن سعيد الذي دس في كتب أصحاب أبيه الروايات التي لم يقلها (1) . هذه الروايات دليل علي الجعل و التخليط، فاذا نقل حديث فلي كتاب الكافي لانقبله، أو نتردد في قبوله، فلن يحط غبار علي وثاقة الكليني و عظمة كتابه، لأن ذلك العظيم بذل الجهد المستطاع في عصره. و الظاهر أنه بسبب عدم التناسب الزماني و المكاني هذا ذهبت عدة أخري من المؤرخين الي أن أسر بنت يزدجرد في عهد عثمان بن عفان، فالشيخ الصدوق نقل في عيون أخبار الرضا عن سهل بن قاسم النوشجاني ما صورته: نحن و أنتم أقارب.

ص: 21


1- سفينة البحار: 2 / 228.

قلت أيها الأمير، من أين هذه القرابة؟ قال: عندما فتح عبدالله بن عامر بن كريز خراسان أصاب أبنتي يزدجرد، و أرسلهماه الي عثمان بن عفان، فوهب عثمان احدهما للحسين عليه السلام و الأخري للحسن عليه السلام، و كلتاهما ماتتا في الوضع. و تعهدت تربية علي بن الحسين احدي جواري أبيه، لكن علي بن الحسين كان يراها أمه، و لما علم أنها ليست أمه، و أنها خادمه زوجها، و ظن الناس أن علي بن الحسين روج أمه. يقول سهل بن قاسم ما بقي أحد من آل أبي طالب الا و كتب هذا الحديث من لساني (1) . يظن أن قصة شهربانو ظهرت علي أساس هذا النقل و ذهاب ابن عامر الي خراسان. كتب الطبري في حوادث سنة اثنتين و ثلاثين: صالح عبدالله بن عامر بن كريز أهل أبرشهر - لم يحارب - و أعطوه اثنتين من أسرة كسري اسماهما بابونج و طهمينج - بابونه و تهمينه -. و في رواية أخري عن الصلت بن دينار كتب: أرسل ابن عامر عبدالله بن حازم الي سرخس، فنال فتاتين من أسرة كسري احداهما أعطاها نوشجان، و الأخري التي اسمها بابونه ماتت (2) . علي ما نري جاء في قصة سهل بن قاسم أن عثمان أعطي احدي ابنتي يزدجرد الحسن عليه السلام، و يظهر أن منافسة الحسنيين للحسينيين هي الباعث علي ظهور مثل هذه الرواية. و يجب النظر لم لم ينقل مؤلف عمدة الطالب هذا الحديث؟ فيعلم أنه لا مجال للشكوي

ص: 22


1- عيون أخبار الرضا: 2 / 126 - 127؛ و عبارة المناقب: 4 / 162 «تزوج بأمه».
2- تاريخ الطبري: 5 / 2887؛ و راجع مروج الذهب: 1 / 177؛ و «ايران در زمان ساسانيان (ايران في عهد الساسانيين)»: 362. و يجب الانتباه الي أن الاسماء التي ذكرها المؤرخون لبنات يزدجرد هي: ادرك، و شاهين (شهين)، و مرداوند، و ليس هناك أي ذكر في هذه الوثائق التاريخية لأسرهن.

و الحسرة فالحسنيون و الحسينيون كلهم أولي مفاخرة بمصاهرة أسرة يزدجرد! القسم الأخير من رواية سهل بن قاسم الذي هو «كان علي بن الحسين يري مربيته أمه، و لما علم أنها ليست أمه زوجها» جدير بالنظر و الدقة. متخيل آخر ما كان يزيد أن يكون الافتخار بمصاهرة أسرة ملك ايران نصيب أبناء علي وحدهم حور القصة، و جاء بها علي هذا النحو: لا تعبأ قريش بمن تلدهم الجواري حتي ولد ثلاثة نفر هم خير أهل زمانهم، و هم علي بن الحسين، و قاسم بن محمد بن أبي بكر، و سالم بن عبدالله بن عمر، و قصتهم أن بنات يزدجرد الثلاث أسرن في خلافة عمر، و أراد عمر بيعهن، فقال علي عليه السلام: بنات الملوك لا يبعن. ثم دفع ثمنهن، و قسمهن بين الحسين بن علي و محمد بن أبي بكر و عبدالله بن عمر، فولدن أولئك الثلاثة نفر. (1) . كتبنا في شأن يزدجرد، و عدم حضور أسرته في ميادين القتال، و عدم امكان أسر ابنته في عهد عمر، و اتضح أن هذا الكلام لا أساس له، و لا يحتاج بطانه الي مزيد توضيح. لكن نري في الارشاد رواية هذا مضمونها: أن عليا عليه السلام أرسل حريث بن جابر الي حكومة قسم من الشرق؛ فأسر حريث ابنتي يزدجرد، بهما الي علي عليه السلام، فأعطي علي عليه السلام الحسين احداهما التي اسمها «شاه زنان»، فولد له منها زين العابدين. و أعطي محمد بن أبي بكر الأخري، فولد له القاسم. (2) . بهذه الرواية زالت مشكلة الزمان التي في رواية الكافي، و زال استبعاد فاصل الزواج و ولادة الامام عليه السلام الا أن هذه الرواية لا تبدو صحيحة أيضا، لأن اسم حريث بن جابر لا يري في عداد العاملين لعلي عليه السلام، و اليعقوبي ذكر أن عليا بعث بعد فراغه من حرب الجمل

ص: 23


1- ربيع الأبرار: مخطوطة المكتبة الوطنية في طهران: 113 - 112.
2- الارشاد: 2 / 138؛ اعلام الوري: 256؛ و انظر: كشف الغمة:2 / 91 - 92؛ روضة الواعظين: 201.

جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي لحكم خراسان، فذهب اليه ماهويه حاكم مرو، و كتب له جعدة رسالة، و أنجز شروطه، و قال له: أن يبعث ما بعهدته من خراج، فبعث اليه ماهويه مالا مساويا لما في عهدته. و علي ما نري في كتابة اليعقوبي لا علامة لأسر أحد، فكيف بابنة يزدجرد؟ لكن الطبري و ابن الأثير كتبا: لما وصل جعدة الي أبرشهر، و كان أهلها كافرين، فلم يقبلوا جعدة، فعاد الي علي عليه السلام فأرسل خليد بن قرة اليربوعي بدلا منه، فحاصر خليد أهل نيسابور، حتي صالحوه. كتب البلاذري: جاء ماهوية حاكم مرو في خلافة علي بن أبي طالب اليه في الكوفة. كتب علي له أمرا أن يدفع اليه الفلاحون و الفرسان و الأمراء العشرة الجزية، لكن الخراسانيين لم يقبوا، فبعث علي جعدة بن هبيرة المخزومي الي هناك، لكنه لم يفعل شيئا، و بقيت خراسان مضطربة، حتي قتل علي عليه السلام. يقول أبوعبيدة: أول عامل علي خراسان عبدالرحمن بن ابزي مولي خزاعة، ثم كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب. و لم يعرض جعدة لأولئك الذين أعرضوا عن الطاعة، و أخذ خراج من كانوا في المصالحة، و كان في خراسان سنة أو قريب السنة. (1) . و ليس في هذا السند - علي ما نري - اشارة الي أسر بنت يزدجرد بيد جعدة، و لا يعلم أيضا هل وصل جعدة الي مرو، أو أتم مأموريته في نيسابور؟. أما الطبري، فيكتب في حوادث سند سبع و ثلاثين: بعد ما رجع علي بن أبي طالب عليه السلام من صفين بعث جعدة بن هبيرة الي خراسان، و اذ وصل الي مدينة أبرشهر، و كان أهلها قد كفروا، فلم يقبلوه، فعاد الي علي عليه السلام فبعث خليد بن مرة اليربوعي الي هناك، فحاصر نيسابور مدة، حتي كتبوا اليه رسالة مصالحة.

ص: 24


1- فتوح البلدان: 505.

و صالحه أهل مرو أيضا، و أصاب جاريتين من بنات الملوك نزلتا بأمان، فبعث بهما الي علي، فعرض عليهما الاسلام، و أن يزوجهما، فقالتا: زوجنا ابنيك. فأبي، فقال أحد الدهاقين: ادفعها الي، فانه كرامة كترمني بها. فدفعهما اليه، فكانتا عنده يفرش لهما الديباج، و يطعمهما في آنية الذهب، ثم رجعتا الي خراسان. أما حريث بن جابر الحنفي، فالظاهر أنه لم ينصب يوما لحكم خراسان من قبل علي عليه السلام. و كان مع علي عليه السلام في حرب صفين، و يقولون: هو الذي قتل عبيدالله بن عمر. و بعد شهادة علي عليه السلام حكم همدان لزياد. و كتب معاوية الي زياد: اعزل حريث بن جابر عن عمله، فما ذكرت مواقفه في صفين، الا كانت حزازة في صدري (1) . اذن لم يذهب حريث لحكم خراسان، و اذا اختير لذلك، فانه لم يجد مجالا للذهاب الي تلك الولاية. و يبدو أن وضاعي هذه الرواية واجهوا قصة أسر بنات يزدجرد بيد عبدالله بن عامر بن كريز، فعوضوه بحريث بن جابر، فما كانوا يريدون أن تؤسر ابنة ملك ايراني بيد أمير عربي و عامل أموي، فجعلوا أسرها بيد عامل أميرالمؤمنين علي عليه السلام - حفظا لكرامتها. و الوارد في المصادر أن من لهم صلة بالأسرة المالكة في ايران هم بنوهاشم و قبيلتا تيم و عدي، أي: أبناء أبي بكر و عمر. و لم تنحصر صلة العرب بملوك ايران بأسرة النبي صلي الله عليه و آله - و أبي بكر و عمر، فالقصاص اختلق بمرور الزمان رواية أخري عرضها ابن خلكان في ترجمة علي بن الحسين بهذه الصورة:

ص: 25


1- نهج البلاغة: 5 / 241، و 16 / 197؛ و قاموس الرجال: 3 / 107.

و أمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس، و هي عمة أم يزيد بن الوليد الأموي المعروف بالناقص. و كان قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان لما تتبع دولة الفرس، و قتل فيروز بن يزدجرد المذكور بعث بابنتيه الي الحجاج بن يوسف الثقفي، و كان يؤمئذ أميرالمؤمنين العراق و خراسان، ت وقتيبة نائبه بخراسان. فأمسلك الحجاج احدي البنتين لنفسه، و أرسل الأخري الي الوليد بن عبدالملك، فأولدها يزيد الناقص، و اسماها «شاه فريد»». تشاهدون كيف تؤلف قصة علي أساس قصة أخري. و علي ما حظيت روايات زواج شهربانو بالحسين بن علي - عليهماالسلام - لم يرد محبو القبيلتين البارزتين تيم وعدي انفراد بني هاشم بفخر الزواج بالأسرة الملكية الايرانية، فزوجوا بنتا ليزدجرد بابن أبي بكر، و زوجوا بنتا أخري له بابن عمر. و عندما وصل الحكم الي الأمويين لم يشأ محبوهم أن يروهم بلا نصيب من هذه الهبة الالاهية، و من هنا اخترعوا بنتا أخري ليزدجرد، و بعثوها الي منزل ابن الخليفة الأموي. و غير خاف أن المؤلف لا يريد أن ينتقص حرمة الأسرة الايرانية أو الهاشمية أو القرشية، و يزيد القطيعة. لا، ليس له هذه النية، و ما أعطوه مثل هذا الحق أو هذه الصلاحية. و كان الأحسن ألا أطيل الحديث الي هذا الحد، لكنني لم أستطع أن أقبل ما كتبه المتقدمون دونما تحقيق. و آمل أن يقدم المحققون الذين يقرءون هذه الكتابة ما يتسني لهم من دليل يخالف هذه الشهرة أو يوافقها، لتستنير زاوية من التاريخ للباحثين عن الحقيقة. و يجب أن نعلم أنه لا يكفي أن نقول: من هي أم علي بن الحسين اذا كانت قصة شهربانو بلا أساس؟ و حيث لم يعرف و لم يشتهر أحد غيرها فلا بد من الذهاب الي أنها شهربانو! ولكن الذهاب الي أنها شهربانو اعتمادا علي شهرتها و عدم معرفة غيرها لا قيمة له

ص: 26

علميا. فضلا عن هذه الاستنتاجات التاريخية، لدينا سند آخر يبين أنه حتي بداية القرن الثاني الهجري لم تعرف شهربانو أو أميرة ايرانية في الأسرة الهاشمية. هذا السند هو أن أباجعفر المنصور الدوانيقي كتب في جوابه لمحمد بن عبدالله بن الحسن النفس الزكية. محمد الذي دعا نفسه مهدي هذه الأمة، و ادعي الامامة و الخلافة كتب رسالة الي المنصور عد فيها فضائل اسرته، و ختمها بدعوة المنصور الي طاعته. فكتب المنصور في جوابه رسالة طويلة متوعدة يقول ضمنها: «و ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أفضل من علي بن الحسين، و هو لأم ولد». (1) . كتابة (ام ولد) تحقير وجهه المنصور لمحمد بن عبدالله. هذه الرسالة التي جاء بها الطبري في حوادث سنة خمس و أربعين و مئة كتبت بعد نصف قرن علي رحلة الامام علي بن الحسين عليه السلام. كان كثير من الهاشميين الذين هم في الطبقة الثانية بعد رسول الله أحياء. و لو كانت قصة أسر شهربانو و جلبها الي مسجد المدينة صحيحة، و لو كانت أم علي بن الحسين بنت يزدجرد ملك ايران، لما كتب المنصور مثل هذه العبارة. و لو كتب المنصور كذبا، لقمع كلامه في فمه، و لأجابه أم علي بن الحسين أميرة لا أمة. هذه الرسالة سند رسمي كتبت قبل قرون من كتابة المصادر التي هي محط بحث. مثلما كتبنا - علي كل حال - قصص شهربانو علي أساس مثل هذه الروايات المشبوهة: و ليس بعيدا أن المسلمين أسروا جواريا في فتح المدائن و نهاوند علي ما روي مجالد بن سعيد عن الشعبي: في يوم المدائن أسر المسلمون عدة من جواري يزدجرد، و منهن

ص: 27


1- الطبري: 6 / 198.

أمي (1) . هذه القصة أيضا جديرة بالالتفات اليها نظرا لتاريخ ولادة الشعبي و وفاته. و ليس بعيدا أيضا أسر نساء في فتوح خراسان و شرق ايران، و غير بعيد أن تدعي احدي هؤلاء الجواري - علي العادة المألوفة - نبيلة أو أميرة، و غير بعيد أن يتزوج الامام الحسين بن علي احدي هؤلاء الجواري، و ولد له منها الامام علي بن الحسين. لكن اذا كانت هذه الحادثة قد حدثت، ففي خلافة عثمان بن عفان لا في خلافة عمر بن خطاب، و تلك المرأة نبيلة ايرانية لا بنت يزدجرد ملك ايران، فعدد بنات يزدجرد معلوم، و ظاهر عبارة المسعودي يدل أنهن عشن في مرو سنين و بقي لهن فيها ذرية (2) . في نهاية هذا البحث يلزم ذكر نكتة أخري، و هي أنه جاء في الكتاب الشريف «أصول الكافي» بعد كتابة المذكورة «فخيرة الله من العرب هاشم» (3) رووا أن أباالأسود الدوؤلي قال في هذا الشان: و ان غلاما بين كسري و هاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم (4) . من هو أبوالأسود؟ أهو شخصية حقيقية أم لا؟ لا علاقة لنا بهذا. و الاستشهاد نفسه بهذا البيت، و كون المقصود بالغلام الذي بين كسري و هاشم علي بن الحسين عليه السلام غير كاف، فضلا عن أن البيت لا يشاهد في ديوان الفرزدق. و مثلما ذكر المحقق الفاضل المصحح الجليل للجزء السادس و الأربعين من البحار في حاشية ص 4 من الكتاب: ينسب هذا البيت لأبي الأسود في بعض الكتب، و الظاهر أن أقدم مصادر النسبة هو كتاب أصول الكافي.

ص: 28


1- فتوح البلدان: 323.
2- مروج الذهب: 1 / 177.
3- لم تشاهد أرقام الصفحات و الكتاب أيضا.
4- أصول الكافي: 1 / 467.

و مبني البيت و معناه لا يناسب وليد أسرة الامامة، فالتعبير عن التعويذ أكثر مناسبة لمولود أسرة متمسكة بالتقاليد الموروثه، لا لابن الامام الثالث، و الله أعلم. في نهاية هذا البحث نصل الي أنه كيف انتهي مصير أم الامام علي بن الحسين علي كل حال؟ و أيا كانت أمه «شهربانو»، أو «شاه زنان»، أو «غزالة»، أو «سلافة»، أو «حرار»؛ في أية سنة توفيت؟ نعرف في القصص و التعازي - يقولون - كانت حاضرة في كربلاء، و بعد شهادة الحسين بن علي عليهماالسلام امتطت جواده المسمي «ذاالجناح»، و جاءت الي ايران، و غابت في هذا الجبل. في عصرنا اصطنعوا أسطورة اتجاه «شهربانو» من جانب الحسين الي ايران في العام الستين للهجرة، لتهيئ جيشا، و تسقط حكومة معاوية، و انتقلت هذه الأسطورة من المجلات الفكاهية الي الكتب و المجلات العلمية، و ليس بعيدا أن تحتسب في المستقبل من أسناد المحققين. و لو تجاوزنا هذه الأسطورة، و أقبلنا علي التحقيق في الكتب المعتبرة نسبيا، لوصلنا الي موضوع أوضح، فابن سعد كتب أنه بعد شهادة الحسين عليه السلام تزوج زييد مولاه أم علي بن الحسين و ولدت له عبدالله، و عبدالله أخو علي بن الحسين لأمه. (1) . و كتب الصدوق أن أم علي بن الحسين توفيت في وضعه و تعهدت تربيته جارية من جواري أبيه، و كان علي يراها أمه، و عندما علم أنها جارية، و ليست أمه زوجها، فكان الناس يقولون: زوج علي بن الحسين أمه. (2) . و العجيب أنه في صدر هذه الرواية التي يصل سندها الي سهل بن القاسم النوشجاني أن ابنتي يزدجرد سباهما عبدالله بن عامر بن كريز، و أرسلهما الي عثمان، فوهب احداهما

ص: 29


1- الطبقات: 5 / 163.
2- عيون أخبار الرضا: 2 / 127؛ البحار: 140 - 129، 46 / 8.

للحسن عليه السلام و الأخري للحسين عليه السلام. و كلتا البنتين ماتتا عند وضعهما الأول. و تصور جماعة أخري أن «شهربانو» بعد حادثة العاشر من المحرم ألقت نفسها في الماء، و غرقت. و كتب المرحوم القزويني في ذيل عنوان الأساطير التاريخية: و مزار «شهربانو» حوالي طهران، و الحال أنها علي ما كتب الأخبار و التواريخ أغرقت نفسها في الماء بعد قتل الحسين (1) في حال لا يشاهد فيها مثل هذا الشئ في كتب الأخبار و التواريخ المعتمد عليها. و مثل هذه الحادثة تبدو بعيدة، بل غير صحيحة.

ص: 30


1- مذكرات القزويني (يادداشتهاي قزويني) بتحقيق ايرج أفشار: 1 / 85.

افضل بني هاشم

«ما ولد فيكم بعد رسول الله صلي الله عليه و آله أفضل من علي بن الحسين» (1) . عامة المؤرخين و المحدثين القدامي مثل الكليني (2) و المفيد (3) و ابن شهرآشوب (4) و علي بن عيسي الاربلي (5) و صاحب مواليد أهل البيت (6) من الشيعة. و مصعب الزبيري (7) و ابن سعد (8) و البلاذري (9) و سبط ابن الجوزي (10) و ابن خلكان (11) و كذلك ابن حجر العسقلاني (12) من أهل السنةو الجماعة. يرون ولادة الامام علي بن الحسين في المدينه سنة ثمان و ثلاثين، أو سبع و ثلاثين للهجرة. و علي حد ما تتبع الكاتب قبل المتقدمون و المتأخرون هذه الشهرة ما عدا حفنة منهم. و ذهبوا الي أن الامام الباقر ابن الامام علي بن الحسين كان حاضرا في واقعة كربلاء سنة احدي و ستين للهجرة و عمره أربع سنوات.

ص: 31


1- من رسالة أبي جعفر المنصور الي محمد بن عبدالله بن الحسن ذي النفس الزكية في حوادث سنة 145 ه الطبري: 6 / 198.
2- أصول الكافي: 1 / 466.
3- الارشاد: 2 / 138.
4- المناقب: 4 / 175.
5- كشف الغمة: 2 / 73.
6- البحار: 46 / 8.
7- نسب قريش: 85.
8- الطبقات: 5 / 158.
9- أنساب الأشراف: 146.
10- صفة الصفوة: 2 / 52.
11- وفيات الأعيان: 2 / 431.
12- الصواعق المحرقة: 201.

لكن صاحب المناقب نقل في نهاية الفصل المتعلق بحياة الامام الباقر عليه السلام عن كتاب البدع و شرح الأخبار أن علي بن الحسين كان في حادثة كربلاء في الثلاثين، و ابنه محمد الباقر في الخامسة عشرة (1) . و علي طبق هذا السند تكون ولادة الامام علي بن الحسين سنة ثلاثين، أو احدي و ثلاثين للهجرة. بيد أن القرائن الخارجية التي يجب ألا تستبعد عن النظر تجعلنا مرغمين علي الشك في قبول هذه الشهرة. فما تلك القرائن؟ 1 - الأولي محل ولادة الامام، فالمفيد قال: «و كان مولد علي بن الحسين بالمدينة سنة ثمان و ثلاثين للهجرة فبقي مع جده أميرالمؤمنين سنتين». (2) . و قال ابن الخشاب: «أقام مع أميرالمؤمنين سنتين» (3) . و كتب الآخرون نظير هاتين العبارتين أيضا. و معني «أقام مع جده» و «بقي مع جده» أنه عاش السنتين الأولي من عمره في كنف جده أميرالمؤمنين عليه السلام في المدينة. هذه الجملة غير موافقة للواقع التاريخي، فنحن نعلم أن أميرالمؤمنين خرج من المدينة الي العراق سنة ست و ثلاثين في طلب الناكثين، و بقي في الكوفة حتي سنة أربعين للهجرة التي هي سنة شهادته. سيد الشهداء عليه السلام رافق أباه أميرالمؤمنين عليه السلام من المدينة الي العراق منذ بداية حركته، أو التحق به بعد مديدة (4) ، و بقي في الكوفة من سنة سبع و ثلاثين حتي أربعين.

ص: 32


1- المناقب، 4 / 174.
2- الارشاد: 2 / 138.
3- البحار: 46 / 1.
4- تصغير مدة.

فاذا كانت ولادة علي بن الحيسن في المدينة سنة ثمان و ثلاثين، أو سبع و ثلاثين للهجرة، فجملة «أقام مع جده» أو «بقي مع جده» لا تبدو صحيحة. و ان كان المقصود من الجملة مطلق العيش و المعاصرة علي ما سوف نكتب، فانه غير مؤتلف مع جملة «و كان مولده بالمدينة». و لا ريب في أن الامام الحسين بن علي (عليه السلام) كان في الكوفة من سنة سبع و ثلاثين حتي أربعين للهجرة. كتب الطبري في حوادث سنة سبع و ثلاثين في وصف احدي معارك صفين من قول أبي مخنف باسناده عن زيد بن وهب أنه قال: «مر علي معه بنوه نحو الميسرة، و اني لأري النبل يمر بين عاتقه و منكبه، و ما من بنيه أحد الا يقيه بنفسه، فيتقدم، فيحول بين أهل الشام و بينه، فيأخذه بيده اذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه، أو من ورائه، فبصر به أحمر مولي أبي سفيان أو عثمان أو بعض بني امية فقال: و رب الكعبة قتلني الله ان لم أقتلك أو تقتلني، فخرج اليه كيسان مولي علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولي بني امية. و ينتهزه علي، فيقع بيده في جيب درعه، فيجبذه، ثم حمله علي عاتقه فكأني أنظر الي رجيلتيه تختلفان علي عنق علي، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه و عضديه، و شد ابنا علي عليه (حسين و محمد)، فضرباه بأسيافهما» (1) . هذا الاشتباك علي ما تبدي كتابة الطبري حدث في صفر سنة سبع و ثلاثين. اذن، فالحسين كان مع أبيه في الكوفة منذ بداية هذه السنة. و في حوادث سنة سبع و ثلاثين أيضا ورد في كلام علي (عليه السلام) لصالح بن سليم: «فنظرت الي هذين قد ابتدراني - يعني الحسن و الحسين (2) ». و هذه الاشارة علامة علي أن ولديه الحسن و الحسين كانا معه. و حضور الحسين (عليه السلام) في الكوفة عند شهادة أبيه مسلم به، و يشاهد في الوثائق.

ص: 33


1- تاريخ الطبري: 4 / 13.
2- المصدر نفسه: 4 / 44. [

و الآن كيف يقبل أن يكون الامام في الكوفة، و امرأته في المدينة كل هذه المدة؟ و لعل بعضم جعل ولادة السجاد (عليه السلام) سنة ست و ثلاثين (1) بهذا الاستبعاد (2) . في حين لو جعلنا ولادته سنة ثمان و أربعين - علي ما يؤيده قرائن - لأمكن القول بولادته في المدينة دونما اشكال. 2 - القرينة لأخري التي ترغم المحقق أن يتردد في قبول سنة ولادة الامام عليه السلام علي ما هو شائع، و يري قبول سنة ثمان و ثلاثين للهجرة غير ممكن، أو بعيدا في الاقل، فجيش ابن سعد عامل أسرة بنت النبي معاملته للكفار الحربيين فقتلوا البالغين، و سبوا النساء، و أسروا الأطفال، و قالوا: صغر علي بن الحسين عليهماالسلام هو الذي حال دون قتله (3) . كتب الطبري في تصوير لمجلس ابن زياد و هو يتهكم و الامام يجيبه بما يغضبه، فقال: «أنت و الله منهم، أنظروا هل أدرك؟ و الله اني لأحسبه رجلا. فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فقال: نعم، قد أدرك. فقال: اقتله. فقال علي بن الحسين: من توكل بهؤلاء النساء؟ يا ابن زياد: ان كان بينك و بينهن قرابة، فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الاسلام. فقال ابن زياد (و كأنه قد خجل و استحي): انطلق مع نسائك» (4) . و كتب من كلام حميد بن مسلم قوله: «انتهيت الي علي بن الحسين الأصغر و هو منبسط علي فراش له و هو مريض. و اذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون: ألا نقتل هذا المريض؟

ص: 34


1- البحار: 46 / 13.
2- أي لأجل الاستبعاد المذكور. م.
3- منتخب التاريخ: ط ليدن: 208 - 204.
4- تاريخ الطبري: 4 / 350.

فقلت: سبحان الله أنقتل الصبيان؟ انما هذا صبي. فمازال هذا دأبي أدفع عنه كل من جاء حتي جاء عمر بن سعد، فقال: ألا لايدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد، و لا يعرضن لهذا الغلام المريض» (1) . و كتب أن علي بن الحسين عد صبيا، فلم يقتل. و كتب البلاذري: «و لمات جاؤوا بعيال الحسين الي ابن زياد نظر الي علي بن الحسين، و قال: انظروا هل أدرك؟ قالوا: نعم. قال: اضربوا عنقه» (2) . و كتب الدينوري مؤلف الأخبار الطوال: لم ينج من أنصار الحسين و أبنائه و أبناء اخوته، الا ابنه علي الأصغر الذي كان قريب البلوغ و عمر الذي كان في الرابعة (3) . و كتب مؤلف العقد الفريد: «عن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: أتي بنا يزيد بن معاوية بعد ما قتل الحسين و نحن اثناعشر غلاما، و كان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين» (4) . و كتب مؤلف (فرق الشيعة) الذي هو من كبار علماء الشيعة، و كتابه ألف في نهاية القرن الثالث الهجري أنه لما توجه الحسين بن علي الي الكوفة أودع أم سلمة زوج الرسول (صلي الله عليه و آله) كتبه و سلاحه و أشياء أخري، و أوصاها أن تدفعها الي علي بن الحسين (عليه السلام) اذا عاد الي المدينة، و كان غلاما. (5) . و ذكر المفيد في الارشاد أن حميد بن مسلم قال: دخل شمر في رجالة علي علي بن الحسين

ص: 35


1- نفسه: 4 / 347.
2- أنساب الأشراف: 3 / 208.
3- الأخبار الطوال: 256، ط السعادة 1330 ه.
4- العقد الفريد: 5 / 124.
5- فرق الشيعة (المترجم): 60، الفرق و لمقالات: تح د. مشكور: 112 و الرواية فيه علي بن الحسين الأصغر.

و هو طريح علي فراش المرض، فقالوا له: ألا نقتل هذا المريض؟ فقلت: سبحان الله، أو يقتلون الأطفال؟ هذا طفل سيقضي عليه مرضه، دأبت علي ذلك، حتي حبستهم عن قتله. (1) . و قال الخوارزمي المتوفي سنة 568 في صفه دخول أهل البيت علي عبيدالله: نظر ابن زياد الي علي بن الحسين، و قال له: من أنت؟ - أنا علي بن الحسين. - أما قتل الله علي بن الحسين؟ ما لك لا تتكلم؟ - قد كان لي أخ يقال له أيضا علي، فقتله الناس - أو قال: أنت قتلته - و سيسألكم يوم القيامة. - الله قتله. - قال علي بن الحسين: «الله يتوفي الأنفس حين موتها» (2) «و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله» (3) . - أنت و الله منهم. انظروا هل أدرك، أولا؟ فقال مروان بن معاذ الأحمري: نعم» (4) . و كتب الدميري: كان زين العابدين مع أبيه في كربلاء، و لم يقتلوه لأنه كان صبيا، فالجند كانوا يقتلون كل من نبت له شعر، و يدعون من لم ينبت له شعر، كما يفعلون بأبناء الكافرين. (5) . و علي ما شاهدنا في هذه الأسناد كانوا يعدعون الامام علي بن الحسين «الأصغر» و نحوه

ص: 36


1- الارشاد: 2 / 117؛ مقتل الخوارزمي: 2 / 38؛ الطبري: 7 / 367.
2- الزمر / 43: 39.
3- آل عمران/ 145:3.
4- مقتل الخوارزمي: 2 / 42 - 43.
5- حياة الحيوان: 1 / 247، ط السعادة 1330 ه.

من الألقاب. و لو كان مولودا سنة سبع و ثلاثين أو ثمان و ثلاثين، لكان عمره في تلك الواقعة أربعا و عشرين أو ثلاثا و عشرين سنة، و لما دعوه صبيا، و لا شكوا ببلوغه في مجلس ابن زياد. فكيف نعتقد أن ولادته - علي ما ذكر صاحب المناقب - سنة احدي و ثلاثين، و نعلم أنه في هذا التاريخ أي: السنة 61 ه - في سن الثلاثين؟ هذه القرآئن تبين أن سنة ولادة الامام علي بن الحسين (عليه السلام) هي الثامنة و الأربعون أو التاسعة و الأربعون، و أنه كان في حادثة كربلاء في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. صحيح أن الامام علي بن الحسين (عليه السلام) كان يوم عاشوراء و أياما بعدها مريضا محطوما، و الحزن و المرض لا يحطان شابا في الثلاثين أو العشرين و نيف حتي يشتبه بفتي غير بالغ. من ناحية أخري لا يمكن التغاضي عن الشهرة التي أظهر كتابة المؤرخين و سيرة الكتاب. فما الحقيقة؟ ما يمكن أنهم جعلوا ولادة الامام علي بن الحسين عليهماالسلام ولادة علي بن الحسين الأكبر الذي استشهد في كربلاء؟. الله اعلم. قلنا: ذهب أميرالمؤمنين (عليه السلام) الي العراق سنة ست و ثلاثين، و بقي في الكوفة الي نهاية عمره. ممكن أن يتصور ناس بظاهر عبارة المبرد أن أميرالمؤمنين عاد من العراق الي الحجاز في سنة خلافته الثانية، و بهذا الترتيب يريدون أن يلائموا بين عبارة الشيخ المفيدو الواقع التاريخي، لأن عبارة المبرد أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان في المدينة سنتين بعد الخلافة. رووا أن عليا أوصي الحسن (عليهماالسلام) بشأن وقف أمواله، و فيها ثلاثة من غلمانه، و من جملتها عين «أبي نيزر» و «بغيبغة». و هذا خطأ، لأن هذا وقف هذين الموضعين في سنة

ص: 37

خلافته الثانية. ذكر أبومحلم محمد بن هشام في اسناده أن أبانيزر من أبناء بعض ملوك العجم. و الصحيح عندي أنه من أبناء النجاشي، رغب في الاسلام صغيرا، و وفد علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أسلم، و بقي في بيوته. و عند وفاة رسول الله صار فلي كنف فاطمة و أولادها. قال أبونيزر: جاءني علي بن أبي طالب، و كنت في العين و بغيبغة، و سأل: أعندك طعام؟ - ليس عندي ما يناسب أميرالمؤمنين. قرع من قرع هذه المزرعة صنعته باهالة سنخة. - جئني به. فذهب الي الماء، و غسل يديه، و اغترف من الماء و قال: اليدخير اناء يا أبانيزر. و مسح بقية الرطوبة ببطنه، و قال: من أدخله بطنه النار، فأبعده الله، ثم أخذ المعول، و انحدر في العين، و جعل يضرب، و أبطأ عليه الماء. فخرج و قد تفضح جبينه عرقا، فانتكف العرق عن جبينه، ثم أخذ المعول و عاد الي العين، فأقبل يضرب فيها، و جعل يهمهم، فانثالث كأنها عنق جزور. فخرج مسرعا، فقال: أشهد الله أنها صدقة. الي نهاية القصة. (1) . نقل هذا الشرح من هذا المصدر في معجم البلدان ذيل كلمة عين أبي نيزر، و ذيل بغيبغة، و في وفاء الوفا (2) مختصرا، و دون ذكر لسنة حفر العين. و في الاصابة ترجمة أبي نيزر. و في الكني و الألقاب نقلا عن مستدرك الحاج حسين النوري. و يشاهد في قاموس الرجال. و الجملة التي تستلفت النظر في الكامل و معجم البلدان ظاهرا هي وقف هذه العين في السنة الثانية من خلافته. و جاء في هذين المصدرين و قاموس الرجال أيضا أن عليا عليه السلام حين سأل أبانيزر طعاما فأجابه؛ ليس عندي ما يناسب أميرالمؤمنين.

ص: 38


1- الكامل: 2 / 172 - 173.
2- ص 1271.

فمسلم اذن أن أميرالمؤمنين وقف هذه العين في خلافته، مع أننا نعلم أن عليا عليه السلام ذهب الي العراق في السنة السادسة و الثلاثين، ت و من المسلم به أن شهادته عليه السلام كانت في الكوفة سنة أربعين. فكيف نقبل هذه الرواية؟ أكان علي عليه السلام يتنقل بين الحجاز و العراق مرة بعد مرة و في السنة الثانية من خلافته وقف أمواله هذه و هو في المدينة؟ مثل هذا الفرض غير مقبول. فان صحت كتابة المبرد، فانه يجب القول بأن أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقف العين في خلافته، لكن لا في السنة الثانية منها، لأن تقارير المؤرخين التفصيلية من السادسة و الثلاثين الي الأربعين تظهر أنه - عليه السلام - كان في العراق طوال هذه المدة منهمكا بحل المشكلات. و ما يقرب من الواقع هو أن عبارة «لشهرين من خلافته» تصحف علي الناسخ الي «لسنتين من خلافته». ان كان الأمر كذلك، فسوف تصح القصة، لأن بيعة أميرالمؤمنين تمت لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين، و عزم علي السفر الي العراق في آخر ربيع الأول سنة ست و ثلاثين للهجرة. فاذن كان في المدينة المحرم و صفرا و ربيعا الأول، و من المحتمل ذهابه الي أبي نيزر في شهر صفر، و وقف تلكما العينيين.

ص: 39

انقلاب الناس

«انقلبتم علي أعقابكم من ينقلب علي عقبيه، فلن يضر الله شيئا» (1) . ولادة الامام علي بن الحسين (عليه السلام) علي المشهور هي في السنة السابعة و الأربعين أو الثامنة و الأربعين. (2) فاما أن نقبل القرائن الواردة، و نفرض أن ولادته سند سبع و ثلاثين أو ثمان و ثلاثين فطفولته و صباه و فتوته كانت مع حكومة معاوية الضاجة بالاضطراب و قمع العراق و أزمات الحجاز و اختلاط السنة بالبدعة. نعلم أن أميرالمؤمنين عليا عليه السلام استشهد في شهر رمضان سنة أربعين للهجرة عندما كان يعد لتجديد الحرب علي معاوية. و بعد وفاته بايع شيعته و من كانوا يظهرون أنفسهم شيعة له ابنه الامام الحسن باخلافة، لكن قلب أكثر المبايعين و لسانهم لم يكن واحدا. أولئك المتظاهرون بالتشيع في الكوفة و هم في جيش علي (عليه السلام) و آذوه ايما ايذاء، حتي انه تمني الموت للخلاص منهم ما كان ممكنا لهم أن يعاملوا الولد خيرا من معاملتهم للأب. كانت الكوفة أواخر عمر علي مرآة لانعكاس الأهواء المتنوعة. قادته كل يحدث نفسه بحكومة أو رئاسة. طلاب جاه كانوا يريدون أن ينالوا منصبا من الخليفة الجديد. و المسلمون حديثا الذين حملتهم الآمال و الأماني الكثار علي أن يتركوا مدنهم كانوا قد أوصلوا أنفسهم الي مركز الخلافة لينالوا ما يرومون.

ص: 40


1- آل عمران / 144:3.
2- للهجرة.

الانتهازيون الموالي (1) الذين تحالفوا مع احدي قبائل العرب و استخفوا وراءها اذ ما كانوا يرون في أنفسهم القدرة علي الانقلاب. كان أولائك فئات يتألف منها عمود الجماعة الفقري في ذلك العهد. و من اليوم الذي بايع قيس بن سعد بن عبادة الامام الحسن (عليه السلام) بشرط العمل مع الشاميين أوردت تلك الفئات المشكلات في عمل امامها حتي أجبر علي مصالحة معاوية، فليس معلوما كم من الجيش سيسير لمواجهة جيش معاوية لو أمر الحسن (عليه السلام) بذلك، و لو أن الجيش كان علي أهبة السير لنشر فيه الخونة بذور التفرقة، فقد كانوا يقفون حتي يسلم الامام و قائده. و نتيجة الصلح هي: 1 - الأنصار - و الأحري أن نقول - القحطانيون الذين لم يبلغوا مرادهم طوال سنوات الانتظار تحت سلطة العدنانيين. 2 - ساسة العراق الذين كانوا يريدون نقل مركز الخلافة من دمشق الي الكوفة خنعوا للشام. 3 - المسلمون الطاهرون المتدينون الذين كانت أمنيتهم الوحيدة انتصار الحق علي الباطل غدوا أكثر الناس هما و غما. فما العدة التي كانت تعرف حقيقة العمل و علة الصلح و الهزائم السابقة في ذلك العهد؟ الله أعلم. و لو كانوا عدة أيضا، فمن ذا الذي يصغي لصرختهم؟ يجب القول: لا أحد.

ص: 41


1- 118..

لماذا؟ لأنه لو كان مثل هؤلاء، لما كان أميرالمؤمنين يخوف الناس شر معاوية. أجل لو كانوا لأصغوا لقائدهم، و التزموا الواقع خلف قائدهم بدلا من الجلبة و رفع الشعار. كان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية زعيم قريش طالب جاه من العدنانية. و من تأمل حياة هذا الرجل و النهج الذي سلكه هو و أبوه رآهما، بل كل بني امية قد التخذوا الاسلام وسيلة لبلوغ الرئاسة و القدرة، لا الشريعة السماوية التي يجب أن يخضعوا لها، و يتمسكوا بأحكامها. قبل ابوسفيان الاسلام لسانا عندما أحاطت جيوش المدينة بمكة، و رأي سيف عمر فوق رأسه. أسرة أبي سفيان مثل بني محزوم و بعض قبيلة قريش ما تكيفوا مع زعامة هاشم لهم - أو قبلوها ولكن بصعوبة - و لا ساغوا أن يرأسهم أبناء عمهم الذين لا مال لهم و لا ثروة. مثال هذا الحسد هو ما جاء علي لسان أبي جهل في تاريخ الاسلام و مثال الاعتراض ما جاء في شعر الوليد بن عقبة أخي عثمان بن عفان لامه خاطب به بني هاشم بعد قتله، و كتبته في موضع آخر. (1) . و اذ أصبح معاوية واليا لعمر علي قسم من الجزيرة نضجت في ذهنه فكرة حكومة واسعة مستقلة، و قد أوصاه أبوه أبوسفيان و أمه هند أن هند أن يعرف قدر المنصب الذي حظي به، و ألا يعمل ما يغيظ الخليفة عليه. (2) . و مهما كان يبدو مطيعا للخليفة في الظاهر لم يفقد غريزة البحث عن الأفضل، فصنع

ص: 42


1- تاريخ الاسلام التحليلي (للمؤلف) بالفارسية: 40، و ترجمته العربية تحت الطباعة في دارالهادي للطباعة و النشر، لبنان - بيروت.
2- أنظر حياة فاطمة الزهراء للمؤلف (بالفارسية)، صص 178 - 177. و ترجمته العربية في آخر مراحلها في دار الهادي للطباعة و النشر، لبنان - بيروت.

لنفسه جهازا مهيبا في حكومة دمشق، و ذكروا أن عمر في سفره لهذه المدينة سلك فيها ما يسلكه في أيامه بالمدينة، فمر معاوية يوما بموكبه، فرآه عمر، و ما عرفه هو و اجتازه. و لما قيل له: كان الخليفة، و قد اجتزته دون اهتمام، عاد و بحث عنه، و بعد ما سار راجلا قليلا خلف عمر سأل معاوية، سمعت أنك تعطل الناس خلف منزلك؟ - نعم يا أميرالمؤمنين هو كذلك. - لم تفعل هذا؟ - لأننا نعيش في أرض يترقبنا فيها جواسيس العدو، فلا بد أن يكون هذا سلوكنا، ليرهبنا العدو. ضحك عمر في نفسه من هذا الجواب، لكنه صدقه بلسانه قائلا: ان صدقت، فهذا جواب عاقل، و ان كذبت، فهو خدعة أديب (1) . مع هذا كله كان معاوية يحاسب حسابا عسيرا لدي عمر، و كان يزين عمله ما استطاع لئلا يعترض عليه. بعد مقتل عمر و انتخاب الشوري عثمان للخلافة اقترب سادة قريش و رهط أبي سفيان من أمنيتهم القديمة. في خلافة عثمان تسلم مروان بن الحكم بن أبي العاص أعمال الخليفة، و انبسطت أيدي كبراء قريش في الأمور التنفيذية و المالية. و طوال اثني عشر عاما هي خلافة عثمان كان معاوية حاكما مطلقا في الشام، ما كان يخشي أحدا، و ما من أحد يستجوبه. فاذا وقف في وجهه مسلم زكت يده في الأموال و الدماء و التزم سنة رسول الله، مثل أبي ذر، أبعده و آذاه بيد من هم مثل مروان الذي هو مع الخليفة يفعل ما يريد. قتل عثمان بيد الهائجين عليه سند خمس و ثلاثين، و انتخاب علي عليه السلام للخلافة من جانب

ص: 43


1- العقد الفريد: 5 / 107.

هؤلاء و غيرهم من المهاجرين و الأنصار أتاحا لمعاوية أن يهيي ء المقدمات لحكومته علي العالم الاسلامي كله. فأيد أولا الانفصاليين طلحة و الزبير في حرب الجمل سرا، ثم أقام حرب صفين. و ذريعة معاوية أن عثمان خليفة المسلمين قتل مظلوما، ولوليه أن يقتص من قاتليه، و هذا الحق لي بقرابتي منه. و قد انتهت الحرب مؤقتا - كما تعلمون - ليقعد حكمان من جيش العراق و الشام، و ينظرا في كتاب الله و سنة الرسول: أحقا يقول معاوية أم لا؟ (1) . و بعد ما خدع حكم العراق أبوموسي الأشعري بحكم الشام عمرو بن العاص في دومة الجندل، و عرف عمرو معاوية خليفة للمسلمين، فاز معاوية بأمنيته في الحكم المطلق، لكنه بوجود علي عليه السلام في الكوفة ما كان يستطيع بسط يده علي العراق، فكان يوحش تلك الديار بشن الغارات علي المدن الحدودية. ثم رفعت شهادة علي عليه السلام العقبة الأخيرة من أمام معاوية، فدعا نفسه خليفة رسميا للمسلمين في سنة احدي و أربعين للهجرة و ضم العراق و الشرق الاسلامي الي حكمه. و في هذه السنة صعد المنبر في النخلية (2) و ذكر ما كتمه في قلبه سنين: ما قاتلتكم لتصلوا و تصوموا، أو تحجوا، أو تزكوا، فأنتم تفعلون ذلك. حاربتكم لأتأمر عليكم، و الله أعطاني هذه الحكومة، و أنتم لا تستطيبونها. و من أجل أن يرسخ معاوية دعائم حكمه، و يرعب الناس بسياسته العنيقة عين ولاة طلاب جاه و قساة و لا ايمان لهم لادارة الولايات الكبري كالحجاز و العراق و مصر. أهم أمر تلقاه هؤلاء الولاة من دمشق هو التشديد علي شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام. كانت الكوفة في تلك الأيام عاصمة اليمانيين، و الأحسن أن نقول: القحطانيين،

ص: 44


1- للاطلاع علي مقدمات الحكمين يراجع: تاريخ الاسلام التحليلي (للمؤلف) أصله بالفارسية، و ترجمته العربية تحت الطباعة في دار الهادي للطباعة و النشر، لبنان - بيروت.
2- موضع قرب الكوفة.

و أكثرهم كانوا شيعة علي عليه السلام. و العثمانيون المستقرون خلف القدرة في الشام يحمونها كانوا ناعمي البال في البصرة و الحجاز و دمشق. بهذا التقرير تتجلي نتيجة المواجهة بين العراق و الشام، فضلا عن عداوة أسرة معاوية لبني هاشم، و الحقد العثماني علي العلويين هناك عامل آخر يؤجج الحقد الشامي و العراقي، فالعراق و الشام منذ مئات السنين قبل الاسلام و هما في عراك: في تلك السنين أسست الحكومة الغسانية في شمال شبه الجزيرة العربية، و كانت تابعة لأباطرة الروم. و حكومة اللخميين التابعة لأكاسرة ايران كانت في الشرق. و باتساع الاسلام في الشرق و الشمال و العراق و الشام شغل سكان المنطقتين بحرب جديدة، و نسي كل منهما حقده علي الآخر، و الأحسن أن نقول: تغاضي كل عن حقده، و هبوا للحرب في البلاد غير الاسلامية و محاربة عناصر غير العرب. لكن عندما صار مركز الخلافة بقيادة الامام علي في الكوفة جدد ساسة المنطقة تاريخ العراقية الشامية، أو اللخمية الغسانية. في خلافة علي عليه السلام بسطت تقواه و عدالته الاسلامية ظلهما، حتي أن أولئك لم يستطيعوا أن يفتحوا علنا حسابا باس العراق و الشام، فوقفوا خلف شيعة علي عليه السلام راغمين، و قاتلو آل أبي سفيان باسم آل محمد. و وقف الشاميون في الجهة الأخري أيضا يقاتلون لمعاوية باسم المطالبة بدم الخليفة المظلوم. و نري هذا التنافس الشامي العراقي في طيات أناشيدهم: أري الشام تكره ملك العراق و أهل العراق لهم كارهونا و قالوا: «علي امام (1) (لنا) علينا» فقلنا رضينا ابن هند رضينا (2) .

ص: 45


1- ورد في الأصل بعد هذه الكلمة كلمة (لنا) خطأ و حصر المؤلف (علينا) بقوسين مستنكرا.
2- كعب بن جعيل من بني تغلب، تاريخ الأدب العربي، شوقي ضيف، العصر الاسلامي: 337.

و أجابه شاعر عراقي: أتاكم علي بأهل العراق و أهل الحجاز فما تصنعونا فان يكره القوم ملك العراق فقدما رضينا الذي تكرهونا القحطانيون (الأنصار) الذين هم عرب الجنوب الذين دعوا الرسول من مكه الي مدينتهم، و بايعوه، و وقفوا معه، و بجهودهم و جهود عدة من المهاجرين فتحت مكة قاعدة العدنانيين، و خصعت قريش راضية أم آبية. بعد مقتل عثمان و حركة أميرالمؤمنين علي عليه السلام من الحجاز الي العراق أحاط الأنصار به في الكوفة، و وقفوا الي جانبه، و أنهوا حرب الجمل لمصلحته. و كانوا معه في حرب صفين، و قالوا للشاميين و قريش: لقد قاتلنا قريشا أمس علي تنزيله، و اليوم نقاتلهم علي تأويله. و معني هذا الكلام هو أننا كنا أمس مع رسول الله، و ها نحن اليوم مع أبن عمه. و في الجهة الأخري كانت الشام تعرف معاوية حاكمها سنين عددا، و رأته اليوم يحارب العراق منافسها القديم، فهبت لنصرته، و انضوت في طاعته. و في الحقيقة يجب أن تعرف السنوات من الحادية و الأربعين حتي الستين بسنوات ضغط العراق و حطمه. و من استقبال معاوية لأعيان هذه المنطقة الذين كانوا يذهبون لرؤيته أحيانا يتجلي عدم رضاه عنها. في حكم معاوية باء ساسة العراق الذين خدعوا في حرب صفين بالخسران، و عادوا أسري الشام، و قبعوا في بيوتهم عشرين عاما، و تراموا خلف الباب، و انطووا علي أنفسهم، و بقوا ينتظرون متي تسنح لهم فرصة جديدة؟ و المسلمون الذين ربوا تربية اسلامية و هم أولو عقيدة صحيحة و نية خالصة و ما كانوا ينظرون لقوم أو قبيلة - و اذا كانوا ينظرون، فالي الحد الذي لا ينتاب دينهم خلل عنده، و كانوا يألمون - ما كان ألمهم أقل من ألم أولئك، لأنهم كانوا يرون سند الرسول تفني طوال

ص: 46

عشرين عاما من حكم معاوية. فظهرت البدعة، و بدل الخلافة الي ملكية وراثية، و بلغت الحكومة من الظلم أنها استطاعت أن تجارب الاسلام و المسلمين. و دعي نغل من آل ثقيف أخا معاوية بشهادة شيخ خمار. (1) . و انتشر الجواسيس بين الناس علي خلاف القرآن الصريح بتحريم التجسس، ليعدوا أنفاسهم. و نسخ الوفاء بالعهد و القسم، و قتلوا حجر بن عدي الذي كانوا قد طمانوه طمأنة كاملة. و سمت جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجها الامام الحسن عليه السلام بمؤامرة معاوية، و حدثت عشرات الأعمال الأخري و مئاتها علي خلاف صريح كتاب الله و سنة النبي. النتيجة هي أنه لم يبق أثر للحكومة الاسلامية في الشام و العراق اللذين كانا مركز صنع المستقبل، و انتهي الفقه الاسلامي الي مراسم من قبيل الصلاة و الصوم و الحج و دفع الزكاة أحيانا. و كانت هذه البدع فادحة للمتدينين الحقيقيين الذين كانوا يعدون الأيام، لينالوا فرصة يستطيعون بها تطهير الاسلام مما أظهره معاوية فيه. و يوم مات معاوية رأت الفئتان القويتان في العراق الفرصة التي كانتا تنتظران قد لاحت: 1 - الفئة المؤمنة التي حملت هم الاسلام حقا، و كانت تتألم لضياع سنة الرسول، و تريد أن يزول الأسلوب الملكي، و تعود الحكومة الاسلامية الي بساطة عصر الخلفاء الراشدين. 2- الساسة القدماء الذين تشغلهم هموم الرئاسة، و يريدون ألا يكون العراق تحت يد الشام، و أن يحكموا الشام اذا تيسر لهم. في تلك الأيام التي كان العراق يزخر فيها بالحوادث المفجعة كان للحياة لون آخر في الشام.

ص: 47


1- تاريخ الاسلام التحليلي (بالفارسية): 155.

عاد يزيد الذي كان في «حوارين» الي دمشق عند موت أبيه بسعي الضحاك بن قيس عمدة (1) الشام، و دعا نفسه خليفة. استعجل فراغ باله من أولئك الذين كان يخشاهم، و لذا كتب الي والي المدينة أن يأخذ البيعة له من الحسين بن علي و عبدالله بن الزبير، و عبدالله بن عمر. كان واضحا منذ البدء أن الحسين لن يبايعه، و ابن الزبير كان مدعيا للخلافة، غير أن الناس كانوا لا يعبئون به و ابن عمر لا يأتي بالحسبان، فبيعته و عدمها بلا نفع و لا ضرر. و الوحيد الذي كان يزيد يخشاه، و يريد أن يعرف موقفه واضحا منه هو الحسين بن علي عليهماالسلام. من ناحية أخري كان العراق الذي - علي ما كتبنا - يبحث عن فرصة علي دارية بما في الشام و الحجاز و بما يجب فعله و هو أن يطلب الي ابن بنت رسول الله أن ينهض بقيادته. و بحسن هذا الانتخاب شع الأمل في قلوب المؤمنين، فقد كانوا يعلمون أن الرجل الوحيد القادر علي محو البدع الظاهرة سنين و احياء سنة الرسول صلي الله عليه و آله هو الحسين بن علي عليهماالسلام. و كان الساسة القدماء مطمئنين الي أنهم لا يستطيعون استقاب قلوب الناس، الا به، فالحسين عليه السلام لا نظير له في جلالة القدر و كرامة النفس و التقوي، فضلا عن عظمة النسب و شرف الأسرة، و هو مستعد لمجابهة الظالمين، و لذا لم يبايع يزيد. و بدأ التكتل و تنظيم المجالس سريعا في الكوفة، و كانت نتيجة تلك الجهود دعوة ابن بنت الرسول من الحجاز الي العراق و اعداد الكوفة لمحاربة الشام. و علي ما نعلم كان الحسين قد بعث ابن عمه مسلم بن عقيل الي العراق قبل أن يتوجه هو اليه بجوابه عن رسائل أهله. و أحاط أهل الكوفة بمسلم، استبشروا به، و تظاهروا بالاستعداد الفائق للتضحية

ص: 48


1- رئيس الشرطة.

بالنفس و النفيس، حتي كتب في رسالته الي الامام عليه السلام هنا مئة ألف رجال ضارب بالسيف مستعدون لنصرتك، فأسرع القدوم الي العراق. لكن في هذه الأيام أيضا أرسلت رسائل من الكوفة الي الشام، و من يدري؟ و لعل فريقا أيضا ممن بايع مسلما كانوا في عداد من أمضي هذه الرسائل. هؤلاء كتبوا ليزيد أنه ان كنت تريد الكوفة، فأسرع في ارسال حاكم قوي اليها، فالنعمان بن بشير الحاكم الحالي عاجز، أو متظاهر بالعجز. رأي يزيد صلاح نظر مستشاره الرومي «سرجون»، و أرسل عبيدالله بن زياد و بوصول عبيدالله الي هذه المدينة تخلي الناس عن مسلم في مدة قصيرة، و بسطوا يد ابن زياد في قتله و قتل مضيفه هاني بن عروة. من ناحية أخري سار الحسين و رهطه و عدة من محبيه الي العراق و معهم في هذا السفر الفتي الذي هو مورد بحثنا الامام علي بن الحسين عليهماالسلام.

ص: 49

الشهداء

«كتب الله عليهم القتل فبرزوا الي مضاجعهم» بعد خروج القافلة من مكة حطت في منازل (1) تنعيم (2) ، والصفاح (3) ، و ذات عرق (4) و حاجز بطن الرمة (5) و زرود (6) ، و ثعلبية (7) و زبالة (8) ، و بطن عقبه (9) ، و شراف (10) ، و ذي حسم (11) ، و عذيب الهجانات (12) ، و قصر بني مقاتل (13) ، و ألقت رحلها في نينوي (14) . في هذه المسافة الطويلة كلم الامام عدة من أقاربه و أنصاره في وصول الأخبار من الكوفة و لقاءات الطريق، لكن اسم علي بن الحسين - عليهما السلام - لم يذكر قط. بعد اجتياز قصر بني مقاتل في طي الطريق أخذت الامام سنة، فاستيقظ مسترجعا

ص: 50


1- كل تفاسير المواضع هنا مأخوذة من معجم البلدان.
2- موضع من نهاية طريق المدينة الي مكة في بداية أراضي الحرم، و فيه مسجد.
3- موضع بين حنين و أنصاب الحرم علي يسرة الداخل الي مكة من مشاش، و هناك لقي الفرزدق الحسين بن علي - عليهماالسلام - لما عزم علي قصد العراق، قال: لقيت الحسين بأرض الصفاح عليه اليلامق و الدرق.
4- حد بين نجد و تهامة.
5- الحاجز: هو ما يمسك الماء من ضفة الوادي، و بطن الرمة: واد معروف بعالية نجد.
6- رمال بين الثعلبية و الخزيمية بطريق الحاج من الكوفة.
7- من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق، و قبل الخزيمية.
8- قرية بين واقصة و الثعلبية، و هي القاع من الكوفة، و قبل الشقوق.
9- منزل في زريق بعد واقصة.
10- موضع بين واقصة و قرعاء فيه ثلاثة آبار كبيرة.
11- 138.، و في مصادر: ذو خشب.
12- ماء بين القادسية و المغيثة.
13- قصر منسوب لمقاتل بن حسان، و المسير المذكور علي ما ضبطه الطبري و أبومخنف.
14- ناحية بسواد الكوفة، و منها كربلاء (المترجم).

فسأله ابنه علي الأكبر عن السبب. قال الامام: «يا بني، اني خفقت خفقة، فعن لي فارس علي فرس و هو يقول: «القوم يسيرون و المنايا تسير اليهم»، فعلمت أنها أنفسنا نعيت الينا» (1) . أليس هذا أيضا قرينة أخري علي أن الامام السجاد كان في هذا السفر في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة؟ و الآن في أي منزل من هذه المنازل اعتل الامام السجاد؟ ليس لنا الا خبر عن هذا حصل ليلة العاشر من المحرم علي هذا النحو: «قال علي بن الحسين عليهماالسلام: اني لجالس في تل العشية التي قتل أبي في صبيحتها و عندي عمتي زينب تمرضني اذ اعتزل أبي في خباء له عنده مولي أبي ذر الغفاري، و هو يعالج سيفه و يصلحه، و أبي يقول: يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيل من صاحب و طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل و انما الأمر الي الجليل و كل حي سالك سبيلي فأعادها مرتين أو ثلاثا، حتي فهمتها، و عرفت ما أراد، فخنقتني العبرة، فرددتها، و لزمت السكوت، و علمت أن البلاء قد نزل. و أما عمتي، فانها سمعت و هي امرأة، و من شأن النساء الرقة و الجزع، فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ثوبها، و انها لحاسرة، حتي انتهت اليه، و قالت: و اثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة...» (2) . و في مصدر آخر أن الامام أنشد هذه الأبيات في اليوم الثاني من وروده الي كربلاء (3) . ذاك ما مضي علي آل رسول الله و محبيهم في تلك الأيام المؤلمة.

ص: 51


1- الارشاد: 2 / 82.
2- الأرشاد: 2 / 92.
3- حالات سيد الشهداء، 2 / 169.

و ستقرءون في كتاب «ثورة الحسين» (1) و هو جزء من هذه السلسلة (2) ، أن مجانين الكوفة غاروا علي النساء و الأطفال مساء العاشر من المحرم عندما لم يروا مقاومة لهم، و امتدت أيديهم بالنهب. قال حميد بن مسلم أحد مصوري الحادثة و شهود عيانها: هجم الجند علي علي بن الحسين و كان عليلا، فأراد شمر أن يقتله، فقلت له: سبحان الله، أتقتلون حتي الأطفال؟ و عندئذ وصل عمر بن سعد، و قال: لا يذهبن أحد الي الخيم، و لا يؤذين هذا الطفل. و كل من نهب شيئا من مال هؤلاء، فليعده (3) . و معلوم انه لم يعبأ أحد بالقسم الأخير من كلامه. قال حميد بن مسلم: قال لي علي بن الحسين: جزيت من رجل خيرا، فو الله لقد دفع الله بمقالتك عني شرا (4) . قال الطبري:

ص: 52


1- طبع الكتاب بالفارسية تحت عنوان «پس از پنجاه سال»، و الطبعة العربية تحت عنوان: شهيدي، جعفر؛ «ثورة الحسين نظرة جديدة»، بيروت: دار الهادي، 1420 ه - 1999 م.
2- مراد المؤلف هو السلسلة القيمة من الكتب التي ألفها حول حياة المعصومين و لاقت اقبالا منقطع النظير في الوسط الثقافي الفارسي علي تعدد مشاربه الحوزوية و الأكاديمية و الشعبية بحيث وصل عدد النسخ المطبوعة من هذه السلسلة الي عشرات الآلاف من النسخ و بعضها تجاوز المائة ألف نسخة، و قد صدر من هذه السلسلة الكتب التالية: - «زندگاني امام صادق» و ترجم الي العربية تحت عنوان «حياة الامام الصادق» ترجمه عائد الزين. - «پس از پنجاه سال (قيام حسين)» و ترجم الي العربية تحت عنوان «ثورة الحسين... نظرة جديدة» ترجمه رياض الأخرس. - «علي از زبان علي» و ترجمته العربية تحت الطبع و تصدر قريبا ان شاء الله تعالي. - «زندگاني فاطمه زهرا (س)» و شارفت ترجمته العربية علي النهاية. و يجدر بالذكر أن كتابا آخرين قاموا بكتابة بقية حلقات السلسلة. كما يجدر أن نذكر أن المؤلف قد منح بعقد قانوني جميع حقوق ترجمة و طبع و توزيع هذه الكتب و غيرها الي دار الهادي للطباعة و النشر و التوزيع في بيروت - لبنان.
3- الكامل في التاريخ: 4 / 79.
4- تاريخ الطبري: 7 / 267.

أخذ عمر بن سعد علي بن الحسين الذي كان مريضا مع الأسري الي الكوفة (1) . و لم يدون المؤرخون و كتاب السير و حفظة الوثائق الأولي مما جري في العاشر من المحرم الحرام، الا فقرات يسيرة. لكن تشاهد تقارير كثيرة في كتابات المحدثين و كتاب التراجم الشيعة. و ستقرءون قسما من هذه التقارير في كتاب (ثورة الحسين). و ما يناسب هذا الكتاب هو ما ورد في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه عن علي بن الحسين: ضاق صدري، لأني شهدت مصيبة يوم عاشوراء من قتل أبي و أقربائي الي أسري أنا و أسرتي. سألتني عمتي زينب: ما بك يا ابن أخي؟ - لم لا أئن و قتلانا مترامون هكذا في الصحراء؟ و روت عمتي زينب حديثا عن أم أيمن أنه يأتي سريعا قوم لا يخشون حكومتهم، و يضعون علامة علي مزار أبيك لا تزول بمرور الزمان (2) . و حمل الأسري الي الكوفة. كتبوا أنهم و ضعوا الجامعة (3) في عنق علي بن الحسين عليهماالسلام عند جلب الأسري من كربلاء الي الكوفة (4) . و لأنه كان مريضا، و ما كمان يستطيع الثبات علي ظهر البعير شدوا رجليه الي بطن البعير (5) . و ورد هذا في قول دعبل الخزاعي الشاعر المشهور الآتي: يا جد ذا نجل الحسين معلل و مغلل في قيده و مصفد

ص: 53


1- المصدر نفسه، 7 / 269.
2- نفسه 7 / 269.
3- الجامعة ما يشبه الطوق تشد به الأيدي الي العنق.
4- أمالي الطوسي: 1 / 90؛ و مقتل الخوارزمي: 2 / 40.
5- ناسخ التواريخ: 2 / 20.

يرنو لوالده و يرونو لحاله و بنوأمية في العمي لم يهتدوا (1) . كتب الخوارزمي أيضا: حين رأي علي بن الحسين الذي أنهكه المرض و جلبه الي الكوفة مغلولا بالحديد أهل الكوفة يبكون، قال: ان كان هؤلاء يبكون لنا، فمن قتلنا اذن؟ (2) . أما البلاذري، فقد كتب في احدي رواياته أن ابن زياد كان قد عين جائزة لجلب علي بن الحسين، و لما وجدوه، و جاؤوا به اليه سأله: ما اسمك؟ قال علي بن الحسين. فقال: أما قتل الله علي بن الحسين؟ قال: كان لي أخ يدعونه عليا قتله الناس. فقال: كلا، بل الله قتله. اقتلوا هذا. و حينذاك صرخت زينب أن يكفيك ما أرقت من دمائنا. و ان أردت قتله، فاقتلني معه. كف عنه يا ابن زياد (3) . و كتب الخوارزمي أن ابن زياد نظر الي علي بن الحسين، و قال: من أنت؟ قال: علي بن الحسين. فقال: أما قتل الله علي بن الحسين؟ فبقي علي ساكتا. فقال له: لم لا تجيب؟ قال: كان لي أخ يدعونه عليا قتله الناس. أو قال له: قتلتموه أنتم، و سيسألكم يوم القيامة.

ص: 54


1- ديوان دعبل، تحقيق الدكتور الأشتر: ص 229.
2- مقتل الخوازمي.
3- أنساب الاشراف: 3 / 207.

قال: الله قتله. فقرأ علي: «الله يتوفي الأنفس حين موتها». (1) . «و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله كتابا مؤجلا» (2) . قال ابن زياد: و أنت من هؤلاء أيضا؟ انظروا أبالغ هو؟ فقال مروان بن معاذ الحمري: نعم. قال ابن زياد: اقتلوه. في هذا الوقت قال علي بن الحسين: و من يرعي هؤلاء النساء؟ و تعلقت به زينب، و قالت: حسبك يا ابن زياد ما أرقت من دمائنا، أما ارتويت من دمنا؟ أسألك الله يا ابن زياد ان قتلته أن تقتلني معه. فقال علي بن الحسين: اسكتي لأكمله أنا. ثم قال له: أتخيفني بالموت؟ ألا تعلم أن القتل شعارنا و الشهادة كرامتنا؟ قال ابن زياد: دعوه مع نسائه (3) . و ذكر ابن الأثير أن علي بن الحسين بقي ساكتا، فقال له ابن زياد: لم أنت ساكت؟ قال: «الله يتوفي الأنفس حين موتها» (4) ، «و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله» (5) . فقال ابن زياد: و الله انك لمن هؤلاء. أنظروا أبالغ هذا الفتي، أم لا؟ أظن أنه صار رجلا. فقال مروان بن معاذ الأحمري: نعم هو بالغ.

ص: 55


1- الزمر / 42: 39.
2- آل عمران / 145:3.
3- مقتل الخوارزمي: 2 / 42 - 43.
4- الزمر / 42:39.
5- آل عمران / 145:3.

فقال ابن زياد: اقتلوه. قال علي بن الحسين: و من يرعي هؤلاء النساء؟ و تعلقت زينب بابن أخيها، و قالت لابن زياد: ان كنت تؤمن بالله، فاقتلني معه. قال علي: ان كان بينك و بين هؤلاء النساء قرابة، فابعث معهن رجلا تقيا، يصحبهن بصحبة الاسلام. نظر ابن زياد قليلا، و قال: «عجبا للرحم، و الله اني لأظنها ودت لو أني قتلتها معه دعوا الغلام ينطلق مع نسائه» (1) . أما الزبيري الذي كتابته أقدم سند ذكر، فقد روي القصة علي هذا النحو: قال علي بن الحسين: بعد ما قال عمر بن سعد: لا يتعرضن أحد لهذا المريض، سترني رجل من أولئك، و أكرمني، و كلما جاءني أو خرج بكي. فأقول: ان يكن عند رجل من أهل الكوفة خير، فعند هذا، فبينا أنا ذات يوم عنده اذا نادي منادي ابن زياد: من كان عنده علي بن الحسين فليأت به، و له ثلاث مائة درهم، فدخل و هو يبكي و يقول: أخاف منهم، فربط يدي الي عنقي و سلمني اليهم، و أخذ الدراهم» (2) . و لشمس الدين محمد الذهبي رواية في هذا الشأن جديرة بالقراءة هي أن علي بن الحسين قال: حين خرجت الي الكوفة رآنا رجل، و أخذنا الي داره، و دثرني بلحاف، فنمت حتي أيقظتني ضجة الفرسان، ثم أخذونا الي يزيد، و اذا رآنا بكي، ثم أعطانا كل ما كنا نريد. و قال لي: سيفعل أهل مدينتك فعلا، فلا تكن معهم. جئت بهذه الكتابات مكررة، ليعلم القارئون أنواع ما عرضه الرواة للحادثة، و ليعلموا كيف سويت الأدلة لمصلحة الأسرة الأموية. قال علي بن الحسين: حين خرجنا الي الكوفة رآنا رجل، و أخذنا الي داره، و دثرني بلحاف.

ص: 56


1- الكامل في التاريخ: 3 / 297؛ اللهوف: 68.
2- تذكرة الخواص: 258؛ نسب قريش: 58.

كاتب هذه السيرة لم يفكر كيف يستطيع أسير رجلاه في السلاسل و رقبته في الأغلال أن يذهب الي دار أحد، و ينام هناك ملتحفا؟ لو فرضنا أنه لم يقيد بالسلاسل، كيف سمح له آسروه الذين جلبوه من كربلاء الي الكوفة أن يذهب حيث يريد؟ فضلا عن هذا كيف أخذ هؤلاء الأسري من منزل هذا الرجل الي يزيد دفعة واحدة؟ و أشد من هذا اضحاكا اخبار يزيد بالغيب: «سيفعل أهل مدينتك قريبا فعلا، فلا تكن معهم». ما كان يزيد يعقل سياسة بلاده اليومية، و لو كان يعقلها لما مارس تلك الأفعال غير المثمرة. كاتب السيرة هذا يراه سياسيا بصيرا حتي انه يتوقع حادثة السنة اللاحقة!. من هذه التقارير المتنوعة المشار اليها قصة استخفاء علي بن الحسين عليهماالسلام في بيت رجل بالكوفة و هي غير مقبولة كيفما كانت، لأن ابن سعد و جنوده فعلوا بأسرة الحسين عليه السلام ما قرره الاسلام في شأن الكافر المحارب! فيجب قتل من لم يبلغوا و أسر النساء و الأطفال!!. أولئك نقلوا الأسري من كربلاء مغلولين مقيدين، و أمروا عليهم الجند، لئلا يفر أحد منهم، و جلبوهم الي قصر ابن زياد. اننا يجب ألا نتوقع منهم غير هذا، فقد كانوا يرون هذه الحوادث جزئية و غير لائقة بالكتابة اضافة الي أن التواريخ الأولي دونت في عهد الحكومة العباسية و شدتها علي آل علي عليهم السلام و هذا نفسه موجب ألا يكتب كثير من المناقشات، الا ما وافق ارادة الحكومة. و طبيعي أيضا أن ينسي كثير من الحوادث المكنونة في ذاكرة الرواة بمرور السنين الطوال. و في اللهوف الذي هو من تأليف السيد ابن طاووس يشاهد تقرير مفصل، اذ يكتب: عندما بلغ الأسري الكوفة خطبت زينب، ففاطمة الصغري ثم أم كلثوم - عليهن السلام - في تأنيب أهل الكوفة و تعنيفهم.

ص: 57

و لما أخذ الحاضرون بالعويل و البكاء، و نثر النساء شعورهن أشار علي بن الحسين الي الناس أن يسكتوا، و حين سكتوا قال: أيها الناس! من عرفني، فقد عرفني، و من لم يعرفني أعرفه نفسي. أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أنا ابن من هتكت حرمته، و سلبت نعمته، و انتهب ماله و سبي عياله، أنا ابن من المذبوح بشط الفرات من غير ذحل و لا تراث. أنا ابن من قتل صبرا و كفي بذلك فخرا. أيها الناس! هل تعلمون أنكم كتبتم الي أبي و خدعتموه و أعطيتموه من أنفسكم العهد و الميثاق و البيعة فقاتلتموه؟ فتبا لكم، و سوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون الي رسول الله اذ يقول لكم: قتلتم عترتي، و انتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي. فعلا الصياح فجأة، و تلاوم الناس. فقال علي بن الحسين: رحم الله امرءا قبل نصيحتي، و حفظ وصيتي في الله و في رسوله، فان لنا برسول الله أسوة حسنة. فصاحوا: نحن سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، و لا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فانا حرب لحربك، و سلم لسلمك، نبرأ ممن ظلمك و ظلمنا. فقال - عليه السلام - أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم و بين ما تشتهون. أتريدون أن تأتوا الي كما أتيتم الي أبي من قبل؟ كلا و رب الرقصات فان الجرح لما يندمل. قتل أبي بالأمس و أهل بيته، و لم ينس ثكل رسول الله و ثكل أبي و بني أبي، فان وجده و الله لبين لهاتي، و مرارته بين حناجري و حلقي، و غصته تجري في فراش صدري. فلا تكونوا لنا، و لا علينا. و أنشد هذه الأبيات:

ص: 58

و لا غرو في قتل الحسين فشيخه لقد كان خيرا منه و أكرما فلا تفرحوا يا أهل كوفة فالذي أصبنا به من قتله كان أعظما قتيل لشط النهر روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جهنما (1) . و علي ما كتبنا ما كان وضع الزمان و المكان يسمح بهذه الخطب في طلوع القافلة علي الكوفة و وصولها الي قصر الامارة. كما أن شدة مأموري الحكومة و انعدام رحمتهم، و خوف الكوفيين منهم و ما كان فيهم من الضعة تجعل قبول هذا التقرير صعبا نظير ما كتبه صاحب اللهوف. و لا يستبعد أن يكون الرواة قد خلطوا الحوادث بمرور الزمان. علي كل حال، ان حدث بين الامام و أهل الكوفة حديث، فالقاعدة أن يكون قصيرا منذ مجي ء الأسري الي المدينة حتي ورودهم علي قصر أمير الكوفة، لأن مأموري ابن سعد المرافقين للقافلة ما كانوا يعطونه هو و الأسري الآخرون مقدارا من الحرية ليكون له حديث طويل الي الناس. و ممكن أن تكون كثرة الناس التي أثقلت طريق الأسري قد أتاحت لابنة أميرالمؤمنين الحديث الي النا س. كتبنا مرات في تحليل نفسية الناس في هذه المدينة أنهم متلونون و المؤرخون الاجتماعيون القدماء متفقون علي أن أولئك يهيجون سريعا و يخبون سريعا، يغضبون بسماع حديث، و يرقون برؤية حال. أولئك استقبلوا سفير الحسين بمثل هذا الهيجان، و سلموه الي ابن زياد بمثل هذا الخنوع، و أقفلوا منازلهم عليهم بلا مروءة، و قعدوا مطمئنين حتي قتل ابن سعد و جنوده الحسين و أصحابه، و الآن جاؤوا بنسائه و أطفاله الي المدن أسري. عرفت الكوفة بنات علي عليه السلام فما مضي الي الآن أكثر من عشرين عاما علي شهادة أمير

ص: 59


1- اللهوف: 67 - 66.

المؤمنين، فمن كن في الثلاثين و أكثر منها كن قد رأين بأم أعينهن مكانة زينب في نظر المسلمين و محبة أبيها لها. و طبيعي أيضا أن تؤثر ذكريات الحوادث الماضية و سوء معاملة ابن زياد لأسرة الرسول و علي التي هي الآن أسيرة ازاء أعينهم، و لا يستبعد أن تكون كتابة كتاب المقتل صحيحة، و هي أن بكاء الناس علا حين كلمهم الامام السجاد كلاما موجزا، و شكا ظلم أهل الكوفة لأبيه و أعمامه و أصحابه. و لا يستبعد أيضا أن يكون عدة من هؤلاء الناس المتلونين قد قالوا له: نحن بأمرك، نفعل ما تأمر، و نحارب من تريد. و لا يبعد أن يكون علي بن الحسين الذي رأي كذب هؤلاء الناس و جبنهم، و علم علم اليقين أن هؤلاء الجنود الذين يرافقون القافلة لو صاح بهم صيحة، لهربوا جميعا، و لوا الي ديارهم، قد قال: هيهات أيها المكارون، فالجرح لما يندمل، لا تكونوا لنا، و لا علينا. نظر ابن زياد الي الأسري في السجن مرة، و كتب الي الشام يسأل عما يفعل بالأسري و بعث برسالة الي عمرو بن سعيد بن العاص حاكم المدينة يطلعه فيها علي ما جري في كربلاء. و أجاب يزيد عبيدالله أن سرح الي بالأسري و الرءوس. فغل عبيدالله علي بن الحسين و سرح به هو و الأسري مع مخفز بن ثعلبة الي دمشق (1) .

ص: 60


1- الطبري: 4 / 251.

مسير السبايا

فياليت أمي لم تلدني و لم يكن يزيد يراني في البلاد أسير (1) . في حين تتبع المؤرخون القدماء مسير القافلة من مكة الي كربلاء من منزل لمنزل، و دونوا أكثر الحوادث التي حدثت لها في أثناء الطريق لانجد في المصادر الأولي خبرا دقيقا عن مسيرها الي دمشق. و في بحثي عن ذلك وجدت أبامخنف وحده قد فصل ذلك. و ما جاء في «أسرار الشهادة» و «ناسخ التواريخ» و السير المتأخرة مأخوذ من هذا المصدر. لكن يجب القول: ان النسخة الباقية من مقتل أبي مخنف تناولتها أيدي الزيادة و الحذف مرارا، و غير معلوم أيها النسخة الأصلية. و في شأن المؤلف مجال للحديث أيضا. و علي وفق هذا المصدر أخذوا القافلة الي دمشق (2) من طريق شرقي حصاصة (3) و تكريت أعمي، و دير عروة وصليتا و وادي نخلة و ارميناء لبا (4) و كحيل (5) و جهينة (6) و تل أعفر (7) و سنجار (8) و نصيبين (9) و عين الورد (10) و دعوات و قنسرين (11) و معرة

ص: 61


1- قول منسوب للامام علي بن الحسين عليه السلام.
2- كل التفاسير الواردة في الحاشية مأخوذة من معجم البلدان.
3- من قري السواد و توابع الكوفة قرب قصرا ابن هبيرة.
4- بين بلد و عقر من أرض الموصل.
5- مدينة كبيرة علي دجلة بين الزابين أعلي من تكريت من الجانب الغربي.
6- قرية كبيرة من نواحي الموصل.
7- قلعة و أرض بين سنجار و الموصل.
8- مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة بينها و بين الموصل ثلاثة أيام.
9- مدينة عامرة من بلاد الجزيرة علي طريق القوافل من الموصل الي الشام.
10- موضع بين حران و نصيبين.
11- مدينة كان بينها و بين حلب من جانب حمص مسافة منزل، و خربت في حملة الروم.

النعمان (1) و شيزر (2) و كفرطاب (3) و سيبور و حماة (4) و حمص (5) و بعلبك (6) و حران (7) . فماذا جري لهؤلاء المصاحبين فلي هذا الطريق الطويل في ظل حراسة من لا يعرفون الله و شدتهم؟ و خط السير هذا علي أساس رواية في كتاب المقتل المنسوب لأبي مخنف، و جاء بها كتاب المقتل في كتبهم علي ما قلنا. لكن لا يمكن أن نقطع بصحة ترتيب المنازل، فالقافلة التي كانت تذهب من تل أعفر الي نصيبين لا يلزمها أن تعود الي سنجار. و بالعكس يجب علي قافلة كانت تذهب من حران الي دمشق أن تطوي منازل، حتي تصل الي حماة و حمص. هل هذا التخليط ثمرة الاهمال أو عدم المعرفة بالوضع الجغرافي و طريق القافلة في ذلك العصر؟. غير معلوم. و ما يظهر أنه الصحيح أن القافلة طوت المنازل علي الترتيب الآتي: تكريت، الموصل، لبا، كحيل، تل اعفر، نصيبين، حران، معرة النعمان، شيزر، كفرطاب، حماة، حمص. و طبعا كانت مضطرة للتوقف في القلاع و الواحات بين المنازل.

ص: 62


1- مدينة كبيرة من أعمال حمص بين حلب و حماة.
2- قلعة مشتملة علي مدينة في الشام قرب معرة النعمان.
3- مدينة بين المعرة و حلب.
4- مدينة كبيرة كثيرة الخيرات عامرة الأسواق.
5- مدينة مشهورة بين دمشق و حلب.
6- مدينة قديمة ذات آثار عظيمة و عجيبة.
7- مدينة قديمة جدا و مشهورة.

و النزول في بعلبك أغرب شي ء في مسير هذه القافلة. قصة سمعتموها و قرأتموها مرارا. تشاهد في كتب المقتل أبيات نظمت في منازل الطريق، و نسبوها الي الامام علي بن الحسين - عليهماالسلام-: ساد العلوج فما ترضي بذا العرب و صار يقدم رأس الأمة الذنب يا للرجال لما يأتي الزمان به من العجيب الذي ما مثله عجب آل الرسول علي الأقتاب عارية و آل مروان يسري تحتهم نحب و في منزل عند دير لراهب (1) أنشد هذه الأبيات: هوي الزمان فما تفني عجائبه عن الكرام و لا تفني مصائبه فليت شعري الي كم ذا تجاذبنا صروفه و الي كم لا نجاذبه يسيرونا علي الأقتاب عارية و سائق العيس يحمي عنه غاربه كأننا من أساري الروم بينهم أو كلما قاله المختار كاذبه كفرتم برسول الله ويلكم يا أمة السوء قد ضاقت مذاهبه لكن سبك هذه الأشعار و معانيها تجعلنا نتردد في قبول نسبتها الي الامام علي بن الحسين - عليهماالسلام - و ليس بعيدا أن يكون أحد الشعراء المحبين لآل رسول الله - صلي الله عليه و آله - المعادين لآل أبي سفيان قد نظمها. فجملة «فما ترضي به العرب» في القطعة الأولي واضحة أن الشعر قائم علي المفاخرة القومية و العنصرية لا علي أساس امتيازات معنوية و دينية. فضلا عن هذا الاستبعاد، فانهم كتبوا أن الامام علي بن الحسين - عليهماالسلام - لم يكلم أحدا طوال الطريق من الكوفة الي الشام.

ص: 63


1- يظهر أن هذا المنزل هو حران، و قد كتب المجلسي في بعض الكتب أن علي بن الحسين أنشد هذه الأبيات قرب بعلبك. البحار: 4 / 126 - 128.

ندم الظالمين

«و يوم يعض الظالم علي يديه» (1) . مذ دخلت الشام الاسلام حكمها أمثال خالد بن الوليد و معاوية بن أبي سفيان. فأهلها لم يصحبوا رسول الله، و لا كانوا يعرفون سيرة أصحابه. و أصحاب رسول الله الذين ذهبوا الي تلك البلاد، و سكنوها كانوا متناثرين فيها و لا نفوذ لهم في العامة. في النتيجة كان أهل الشام يحسبون سيرة معاوية بن أبي سفيان و أمرائه سنة اسلامية. و لأن نظام الأباطرة الروم كان حاكما عليهم مئات السنين، و رأوا معاملة الحكومات الاسلامية أعدل من معاملته لذلك كانوا يرون صحة أعمالهم. جاء غرس النعمة (2) بقصة في كتابه أشبه بالفكاهة منها بالواقع التاريخي، و هي كاشف عن عقلية أهل الشام في ذلك العصر، و أنا أجي ء بهذه القصة، لأنها مبينة لطرف من الاجتماع الغافل في احدي الولايات الاسلامية المهمة في ذلك العصر: بعث عبدالله بن علي جماعة من مشايخ الشام الي السفاح علي أنهم أعقل و أعلم أهل هذه البلاد، و كلهم يقسمون أنهم لا يعرفون أن لرسول الله ذوي قربي غير بني أمية مذ ورثوه حتي أصبحت أميرا (3) . و بناء علي هذا ليس عجيبا أن نقرأ في المقاتل أن شيخا وقف علي علي بن الحسين عليهماالسلام

ص: 64


1- الفرقان / 27: 35.
2- هو محمد بن هلال الصابي ء مؤلف الهفوات النادرة الذي حققه الدكتور صالح الأشتر، و طبعة سنة 1378 ه المترجم.
3- الهفوات النادرة: 271؛ و مروج الذهب: 2 / 72.

عند وصول الأسري الي دمشق، و قال: الحمد لله الذي قتلكم، و أفناكم، و أراح الناس منكم، و نصر أميرالمؤمنين عليكم. و سكت علي بن الحسين، حتي أفرغ الشامي ما في قلبه، ثم سأله: هل قرأت القرآن؟ - نعم. - هل قرأت هذه الأية: «قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي» (1) . - و هذه الآية: «وآت ذا القربي حقه»؟ (2) . -و هذه الآية «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا» (3) . - يا شيخ! هذه الآيات نزلت في حقنا. نحن ذوو القربي، نحن أهل البيت المطهرون من كل سوء. عرف الشيخ أن ما سمعه في شأن هؤلاء الأسري ليس صحيحا، فهم ليسوا بخوارج و انما أبناء الرسول. و ندم علي ما تفوه به، و قال: اللهم! اني أتوب اليك من بغض هؤلاء الذي كان في قلبي (4) . كتبوا أن ابراهيم بن طلحة بن عبيدالله الذي كان في الشام في ذلك الحين ذهب لاستقبال القافلة، و اذ رأي علي بن الحسين سأله: من المنتصر الآن؟ و في هذا لكلام اشارة الي حرب الجمل التي دارت بين جيش علي عليه السلام و جيش طلحة و الزبير، و قتل فيها طلحة أبوابراهيم. قال علي بن الحسين عليهماالسلام: «اذا أردت أن تعرف من المنتصر، فردد عند الصلاة الآذان و الاقامة (5) .

ص: 65


1- الشوري / 22:42.
2- الاسراء / 26:17.
3- الأحزاب / 33:33.
4- مقتل الخوارزمي: - 2 / 61 - 62؛ و اللهوف: 74.
5- أمالي الطوسي: 2 / 290.

أتعلمون أن طلحة أباابراهيم كان أحد السابقين الي الاسلام و أحد المهاجرين الأوائل و أحد العشرة المبشرة بالجنة علي ما يقولون؟. طلحة هو الذي حمل الرسول، علي رغم جرحه في معركة أحد ليعلم المقاتلون أنه حي!. لكنه بعد قرن من رحلة الرسول شهر سيفه في وجه الامام الذي بايعه، و قال ابنه ما مر لحفيد علي. و بكلام ابن طلحة تتضح نقطة هي أن أبناء كبار المهاجرين و أشراف قريش ما كانوا يعرفون قط ما يجب أن يكون المسلم. و اذا أظهر آباء أولئك تضحية في حروب عهد النبي، لربما كان ذلك لأجل انفتاح باب جديد لهؤلاء لبلوغ المال و المقام. ولو صدق أولئك في السعي الي الله، لما انحدر ايمان هولاء الي هذه الدرجة. و الا كيف يمكن عد حرب الجمل أو فتح مكة و حادثة كربلاء نصرا لبني هاشم أو بني أمية. و كيف فرح ابن المهاجر هذا - و هو ليس من الأمويين - بانتصار الأمويين في معركة مقابل معركة بدر، هي معركة الطف علي الهاشميين الذين قتل أبوه في مواجهتهم. و علي بن الحسين عليهماالسلام أجابه بأن الصراع هو من أجل التكبير و الأذان و التوحيد، لا من أجل رئاسة بني هاشم أو بني أمية.

ص: 66

املاء الله للكافرين

«و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم» (1) . جاؤوا بالأسري الي قصر ابن معاوية. كتب الذهبي أنهم أتوا بعلي بن الحسين الي مجلس يزيد مغلولا (2) . و كتب ابن عبد ربه باسناده الي محمد بن الحسين (3) أنه قال: أتي بنا الي يزيد بن معاوية بعد ما قتل الحسين، و نحن اثناعشر غلاما، و كان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين، فأدخلنا عليه، و كان كل واحد منا يده مغلولة الي عنقة (4) و اذ وضعوا رأس سيد الشهداء بين يديه تمثل بقول حصين بن الحمام المري: يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلما فقال له علي بن الحسين: كتاب الله أولي بك من الشعر، يقول الله: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب أن نبرأها أن ذلك علي الله يسير لكي لا تأسوا علي ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور» (5) . لغضب يزيد، و جعل يعبث بلحيته، ثم قال: غير هذا من كتاب الله أولي بك و بأبيك، قال الله: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير» (6) .

ص: 67


1- آل عمران / 178:3.
2- سير أعلام النبلاء: 2 / 216.
3- الظاهر أنه محمد بن الحسن.
4- الي هنا انتهي الاسناد الي محمد المذكور آنفا في العقد، و قد جمع المؤلف بينه و بين ما بعده، و هو ليس منه سهوا. (المترجم).
5- الحديد / 22 - 22، 57.
6- الشوري/ 30: 42.

ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟ فقال له أحد المتملقين كلاما غير مؤدب لا يليق ذكره، و مضمونه: لا تدع أبناء من قتلتهم[ أحياءا ]. و قال له النعمان بن بشير الأنصاري: انظر ما كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يصنعه بهم لو رآهم في هذا الحال، فاصنعه بهم» (1) . و كتب الطبري القصة بنحو آخر، فقال: فقال يزيد لعلي: يا علي أبوك الذي قطع رحمي و جهل حقي، و نازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقرأ علي قوله - تعالي -: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها» (2) . فقال يزيد لابنه: اردد عليه. فما دري خالد ما يرد عليه. فقال هل يزيد: قل: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير» (3) . و كتب الخوارزمي أن علي بن الحسين تقدم حتي وقف بين يدي يزيد، و قال: لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم و أن نكف الأذي عنكم و تؤذونا فالله يعلم أنا لا نحبكم و لا نلومنكم ان لم تحبونا قال يزيد: صدقت، لكن أباك وجدك أرادا أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي قتلهما، و أراق دمهما. ثم قال: يا علي أبوك الذي قطع رحمي، و جهل حقي، و نازعني سلطاني: فصنع الله به ما قد رأيت.

ص: 68


1- العقد الفريد: 5 / 121.
2- الحديد / 22: 57.
3- الشوري/ 30: 42.

فقرأ علي بن الحسين عليهماالسلام قوله تعالي: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها» (1) . فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه. فما دري خالد ما يرد عليه. فقال له يزيد: «قل: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير» (2) . قال علي بن الحسين: كانت النبوة و الحكم لأبي و أجدادي - قبل أن تأتي أنت الي الدنيا يا ابن معاوية و هند و صخر. كان لواء رسول الله في بدر و أحد و الأحراب في يد أبي، و لواء الكافرين في يد أبيك وجدك. ثم أنشد: ماذا تقولون اذ قال النبي لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي منهم أساري و منهم ضرجوا بدم ثم قال: لو علمت يا يزيد ما فعلت و ما أنزلت بأبي و أخي و بني عمي، و رهطي، لهربت الي الجبال، و افترشت الرمال، و رحت تصرخ فيها. رأس أبي الحسين بن علي و فاطمة الذي هو وديعة رسول الله مرفوع علي باب مدينتكم!؟. لن يكون لك يوم القيامة الذي تأتي فيه الخلائق غير الذل و الندم. لكن ما كتبه الخوارزمي من تقرير لهذا المجلس، و شوهد في تاريخ ابن الأعثم أيضا (3) غير صحيح، لأن الامام علي بن الحسين عليهماالسلام لم يكن في موقع يسمح له أن يتمثل بالشعر. و هذا الشعر لفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أنشده بعد سنوات من هذه الواقعة

ص: 69


1- الحديد / 22: 57.
2- الشوري / 30: 42.
3- الكال لابن الأثير: 4 / 86.

في مدح عبدالملك و لوم الهاشميين. و لم ير أن من شأنه مفاخرة يزيد. و ذلكما البيتان منسوبان لزينب عليهاالسلام و عدة نفر غيرها و القسم الآخر من الكلام مقتطف من خطبة زينب في مجلس يزيد. كتب ابن الأثير أن فاطمة بنت الحسين التي هي أصغر من سكينة، قالت: - يا يزيد! بنات رسول الله سبايا؟ - قال يزيد: لا يا ابنة أخي. - قالت: لم يدعوا لنا قرطا. - قال: سأعطيكن أكثر مما أخذوا منكن (1) . كتب الزبيري أن رجلا شاميا نهض و قال: هؤلاء النساء حل لنا. فقال علي بن الحسين: كذبت، لا يكون لك ذلك، الا أن تخرج من ملتنا. فطأطأ يزيد رأسه، ثم قال لعلي بن الحسين: ان أحببت أقمت معنا، و الا أرسلناك الي المدينة (2) . و كتابة ابن الأثير اقرب الي الحقيقة، فقد قال بعد كلام فاطمة: نهض رجل شامي، و قال ليزيد: هب لي هذه. فأخذت بثياب زينب التي قالت له: كذبت و لؤمت، و الله ما ذلك لك الا أن تخرج من ملتنا، و تدين بدين غيرنا. فغضب يزيد و استطار غضبا، ثم قال: اياي تستقبلين بهذا، انما خرج من الدين أبوك و أخوك. فقالت زينب: بدين الله و دين أبي و دين أخي و جدي اهتديت أنت و أبوك و جدك. قال: كذبت يا عدوة الله. قالت: أنت أمير مسلط تشتم ظالما، و تقهر بسلطانك.

ص: 70


1- نفسه 4 / 86.
2- نسب قريش: 85.

و كأنه استحيا و سكت (1) . كما ترون قسم من الكلام المنسوب ليزيد و ابن زياد متشابه من ناحية. و ما ذكره المؤرخون مما جري في ذلك المجلس ليس موحد العبارات من ناحية. و ما يجب انتظار توحدها طبعا، فالحديث الذي قيل في مثل هذا المجلس و سمعه عدد من الحاضرين لم يكن تعبيرهم عنه واحدا عند اعادته للآخرين. فضلا عن أن أحدهم يقول للآخر من خوف أو رجاء علي ما يري مصلحته فيه، لا أنه يقول ما حدث. فضلا عما مضي، فان كل كاتب يغير و يبدل فيما سمع أو ما وصل اليه في تمادي السنين الطوال بحسب الملل و النحل. و يمكن أن نحدس حدسا لعله قريب من الواقع، و هو أن النقاشات التي جرت في قصر دمشق بين يزيد و الأسري أكثر ملاءمة من تلك التي كانت في قصر ابن زياد بينه و بين الأسري، لأن عبيدالله لم يكن يرع الأسري و حاضري مجلسه تعاظما و تفاخرا بخدمته، في حين أن يزيد لم يخش أحدا، حتي أن محفز بن ثعلبة حين بلغ مدخل قصره بالأسري عبر تعبيرا قبيحا أزعج الحاضرين قطعا و نفرهم، و شعر يزيد بأنه ارتكب خطأ كبيرا، فرد عليه قوله، قائلا: ما ولدت أم محفز شر و ألأم (2) . و الظاهر أنه أراد أن يخفف عدم ارتياح الحاضرين، و الظاهر أيضا أنه سعي أن يتحدث بفظاظة أقل مما هو عليه. و في هذه الأيام دعا يزيد خطيب دمشق، و قال له: اعل المنبر، و اذكر الحسين و أباه بسوء. و فعل الخطيب ما طلب منه، فصرخ علي بن الحسين عليهماالسلام به قائلا: ويل لك أيها الخطيب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار. و لعله في هذا اليوم أو يوم آخر طلب من يزيد أن يعلو المنبر، ليقول ما يرضي الله، و مع

ص: 71


1- الكامل: 4 / 86.
2- اللهوف: 78.

أن يزيد ما كان يريد ذلك سمح له به. فاعتلي الامام المنبر، و قال: يا معشر الناس: من عرفني، فقد عرفني، و من لم يعرفني، فأنا أعرفه نفسي. أنا ابن مكة و مني، أنا ابن مروة و الصفا، أنا ابن محمد المصطفي، أنا ابن من لايخفي، أنا ابن من علا فاستعلي، فجاز سدرة المنتهي، و كان من ربه كقاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلي بملائكة السماء مثني مثني، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الي المسجد الأقصي، أنا ابن علي المرتضي، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبري، أنا ابن المقتول ظلما، أنا ابن المحزوز الرأس من القفاء، أنا ابن العطشان حتي قضي، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة و الرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض و الطير في الهواء، أنا ابن من رأسه علي السنان يهدي، أنا ابن من حرمه من العراق الي الشام تسبي. أيها الناس ان الله - تعالي و له الحمد - ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن، حيث جعل راية الهدي و العدل و التقي فينا، و جعل راية الضلالة و الردي في غيرنا. فضلنا أهل البيت بست خصال: فضلنا بالعلم و الحلم و الشجاعة و السماحة و المحبة و المحلة في قلوب المؤمنين، و آتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا. فينا مختلف الملائكة و تنزيل الكتب. قال: فلم يفرغ حتي قال المؤذن: الله أكبر. فقال علي: الله أكبر كبيرا. فقال المؤذن: أشهد أن لا اله الا الله. فقال علي بن الحسين: أشهد بما تشهد به. فلما قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله.

ص: 72

قال علي: يا يزيد هذا جدي أم جدك؟ فان قلت: جدك، فقد كذبت. و ان قلت: جدي، فلم قتلت أبي، و سبيت حرمه، و سبيتني؟ ثم قال: معاشر الناس، هل فيكم من أبوه و جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ فعلت الأصوات بالبكاء. (1) . كتب أبوالفرج الاصفهاني أن يزيد «أمره أن يصعد المنبر، فيعتذر الي الناس مما كان من أبيه. فصعد المنبر، فحمد الله و أثني عليه، و قال: أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني، فأنا أعرفه بنفسي. أنا علي بن الحسين، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن الداعي الي الله باذنه، أنا ابن السراج المنير. و هي خطبة طويلة تجنبت الاطالة بذكرها و ذكر نظائرها». (2) . و لم يذكر المؤرخون المرتبطون بجهاز الحكم هذه الخطبة طبعا، لكن المسلم به هو أن علي بن الحسين خطب هذه الخطبة في مسجد الشام، و عرف نفسه و أباه وجده، و قال لأولئك: ليس ما جري علي لسان يزيد و أعوانه صحيحا. فأبوه ليس بخارجي، و ما كان يريد شق عصا المسلمين، و لا اثارة الفتنة في بلاد الاسلام. لقد نهض ابتغاء الحق، و بدعوة المسلمين اياه، لتنقي الدين من البدع التي ظهرت فيه، و يعيده الي يسره و نزاهته اللذين كانا في عصر جده. و الحق أن يزيد ظن بغطر سته و طيشه و عدم نضجه منذ بداية حكمه أن عمل العراقيين

ص: 73


1- مناقب آل أبي طالب: 4 / 168 - 169.
2- مقاتل الطالبيين: 121.

و ثورة الحسين أمر سهل لا أهمية له، فالرسالة التي كتبها في أيام حكمه الأولي الي حاكم المدينة، و طلب منه أن يأخذ البيعة من الحسين، و أن يبعث برأسه الي دمشق اذا امتنع عنها دليل علي هذا الرأي. و من ذلك الجهل ارادته جلب عترة الرسول الي الشام بذلك الوضع الرقيق، فنقل الأسري الي الكوفة نفسه خطأ، و جلبهم من العراق الي الشام خطأ أكبر. قليلا قليلا فكر العراقيون بما ارتكبوا، و أدراك الشاميون أن من قتلوا في العراق قتلا مفجعلا لم يكونوا مشاغبين، و انما هم عترة من حكم يزيد المسلمين باسمه. و كتبوا تقربوا أو تقريرين لمواقف عدة من غير المسلمين ازاء يزيد في مجلسه لم تكن بلا أثر في زيادة قلقه و خوفه. كل هذه الحوادث كانت سببا لمداراة يزيد لبقية السيف من أسرة الحسين عليه السلام، و عدم استبقائهم في دمشق أكثر مما كان. و نكتة أخري جديرة بالاضافة لهذه الجملة، و هي العصبية القبيلية الناشئة عن البداوة، فيزيد استشهد ببيت عمران بن حصين عند دخول الأسري الي قصره، و هو: يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلما و هذا مثال لهذا الاحساس، فما كان يريد أن يري الحسين عليه السلام حيا، لأنه كان يراه ندا له، و ساعيا للاطاحة بحكومته، فسعي للقضاء عليه. الآن و قد قتله، و سبي عياله، و شفي بظنه حقد أبيه و قتلاه ارتفع ما يدعوه للتضييق علي عياله، و لذا دعا علي بن الحسين، و قاله له: «لعن الله ابن مرجانة. أما و الله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا، الا أعطيتها أياه، و لدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، و لو بهلاك

ص: 74

بعض ولدي، ولكن الله قضي ما رأيت. كاتبني ولك ما تريد». (1) . و منذ ذلك الحين فصاعدا «كان يزيد لا يتغدي و لا يتعشي، الا دعا علي بن الحسين اليه». (2) . كتب البلاذري أن يزيد قال لعلي بن الحسين: ان تحب أن تبقي عندنا، نعطك كل ما تريد. لكنه اختار المدينة، فبعثه يزيد اليها. (3) . في أحد أيام توقفه في الشام لقيه المنهال بن عمرو في سوق دمشق، و سأله: ما حالك يا ابن رسول الله؟ - نحن كبني اسرائيل بين الفراعنة، يقتلون رجالنا، و يسبون نساءنا. يا منهال! ان العرب تفخر علي غير العرب بأن محمدا صلي الله عليه و آله و سلم منها. و قريش تفخر علي سائر العرب بأن محمدا صلي الله عليه و آله و سلم من قريش، و نحن عترة النبي رهن القتل و النهب. (4) . كتب ابن سعد هذه القصة بسنده، لكن ظاهر كتابته أن هذا الحوار دار بين الامام السجاد و المنهال في المدينة. (5) .

ص: 75


1- تاريخ الطبري: 4 / 353 - 354.
2- نفسه: 4 / 353.
3- أنساب الأشراف: 30 / 217.
4- اللهوف: 81.
5- الطبقات: 5 / 162.

ظهور الفساد

«ظفر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس» (1) . كما رأينا، ظهر أول رد فعل لحادثة كربلاء عند مجي ء الأسري الي الكوفة. و مع شدة ابن زياد في حكمه و ترهيب الناس من مخالفة يزيد شوهد من أولئك الناس نصف الموتي الراضون بالظلم بعض الاعتراضات. فيوما خطب ابن زياد في المسجد، و مدح يزيد و أصله، و ذم الحسين و آباءه عليهم السلام، فوثب اليه عبدالله بن عفيف الأزدي- و هو رجل تقي لكنه كفيف البصر - ورد عليه افتراءه، ورد عليه و علي من اختاره للحكم ما ذم به عترة النبي، و أراد جلاوزته اسكات عبدالله و اعتقاله، فنهض لحمايته فتية من الأزد، و حصل اشتباك و اقتتال. (2) . و علي الرغم من انتهاء النزاع لمصلحة عبيدالله، فانها غدت - علي كل حال - مقدمة لاعتراضات أخري. و ظهرت في الشام آثار عدم الرضا، حتي أن يزيد نفسه تظاهر بعدم الرضا عن قتل ابن بنت الرسول، و ألقي الذنب علي عاتق ابن زياد. و كان رد فعل الحادثة في الحجاز أوسع منه في العراق، فعبد الله بن الزبير الذي أوصل نفسه الي مكة في بداية حكم يزيد جعل هذه المدينة قاعدة له، و دعا الناس الي بيعته، و رأي فاجعة المحرم سببا قويا لذم يزيد، فوصف العراقيينن في خطبة له بنقض

ص: 76


1- الروم / 41:30.
2- تاريخ الطبري: 4 / 351.

العهد و عدم المروءة، و أثني علي عظمة الحسين و تقواه. و لم تبق المدينة التي كانت في هذه السنة تحت ادارة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان خامدة، و ما كتب الطبري في شأن عدم الهدوء فيها علي وفق أسلوبه، لكن تغيير ثلاثة من حاكميها خلال سنتين يكشف عن وضع غير مألوف. كتب الطبري أن ابن الزبير شكا الي يزيد غلظة و الي المدينة الوليد بن عتبة، و طلب اليه أن يبعث اليها و اليا لينا، فبعث اليها عثمان بن محمد بن أبي سفيان. (1) . لكن يستعبد أن يكون ابن الزبير في مكانة يراسل يزيد فيها، و في تغيير و الي المدينة. و الأقرب الي الحقيقة أن يزيد كان علي طبع الملوك الشبان لا يريد أن يضع الرجال المجربين علي رأس الأعمال، و لذا يرسل الشبان الأغرار للحكم، لأنهم لا يعرفون الناس علي ما يجب، فيعجزون عن ادارة الأمور، و عثمان - علي ما كتب الطبري - شاب، و لم يكن مقدم الحاكم الجديد مباركا له، و لا لأهل المدينة علي كل حال، و مهما كان السبب، فعلي ظن عثمان أنه أراد أن يظهر كفاية، فأرسل و فدا من أكابر المدينة من أبناء المهاجرين و الأنصار الي دمشق، ليروا الخليفة الشاب عن قرب، و يحظوا بشئ من هباته و عطفه. و لم يكن ليزيد - علي ما كتبنا - تربية دينية، بل يمكن القول: انه لم يرب اصلا، فأبوه بعثه هو و أمه الي الصحراء غضبا علي أمه، فكبر يزيد في القبيلة داخل خيمة. و ما تعلمه هناك هو ما يتعلمه الأعراب في الصحراء: سلاطة اللسان و انشاد الشعر و الذهاب للصيد. و حين وصل الي جهاز الحكم، و مارس ترف معاوية شغل عن طلب المعارف بتربية الكلاب و القردة و الشراب و القمار و الملاهي الأخري. و فضلا عن هذه المعايب تقتضي طبيعة مثل هذه الحكومات اقصاء الشيوخ المجربين و تقريب جماعة شابه متملقة.

ص: 77


1- نفسه: 4 / 368.

ورد في المصادر أنه اتخذ «سرجون الرومي» المشهور مستشار له. فهل كان هذا الرجل المسيحي يريد في الخفاء حرف حكومة يزيد الذي كان مسلم الاسم فيعلمه سيئات الأمور؟. الله يعلم. و ما يمكن قوله باطمئنان هو أن يزيد ما كان يفقه شيئا من ادارة البلاد الاسلامية الواسعة، فذلك التسرع و التشدد في أخذ البيعة من ابن بنت الرسول، و تلك الفاجعة التي تهز القلب في المحرم سنة احدي و ستين، و الأقبح سبي أسرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و جلبها الي الكوفة و اخراجها الي الشام. كل هذه الممارسات تكشف عن عدم نضج يزيد و عدم عقله. و أسوأ من ذلك أنه عندما بعث اليه حاكم المدينة أبناء المهاجرين و الأنصار، احضروا اليه جمعا من أنداده و ملاعبيه في الصبا. و لو كان لهن أدني عقل، أو كان له مستشارون مجربون، لكان له معاملة موزونة لهؤلاء ماداموا في قصره و ضيافته، فلا يفعل ما هو خلاف الدين الاسلامي، بل يتظاهر بتمسكه بالدين، لكنه ما عرف الدين و لا الناس. غدت المدينة بعد هجرة رسول الاسلام اليها مركز الحكومة الاسلامية، كانت بعد الرسول قاعدة الخلافة حتي سنة خمس و ثلاثين هجرية، و عاش فيها ثلاثة خلفاء. و اذ جعل علي عليه السلام الكوفة مقر حكومته لم تفقد المدينة رونقها العلمي و الديني. عاش فيها جمع من أكابر المهاجرين و الأنصار، و ماتوا فيها ثم حل محلهم أبناؤهم. عمتها موجة تقوي[ و تقدس ]منذ بداية الهجرة و كانت مستقرة قليلا أو كثيرا. (1) . كان لا بد ليزيد أن يعرف هؤلاء الناس و يتمالك نفسه يوما، لكنه لم يفعل. لا أدري أكان الباس القرد و اركابه الحمار و ارساله في سباق الخيل في هذه الأيام، أم

ص: 78


1- بعد وقعة الحرة، و خلافة عبدالملك أخذت هذه القداسة نزول تدريجيا.

لا؟ علي كل حال هذه قصة تبين خفة الرجل، كما أن المسعودي كتب أنه كان ليزيد قرد خبيث يحضر مجلس شرابه، و يتكئ علي وسادة، و لهذا القرد حمار وحشي دجنوه له، و أركبوا القرد الحمار يوما، و أرسلوه في سباق الخيل، و سبق حمار القرد خيل يزيد، فقال واحد من شعراء الشام في ذلك: تمسك أباقيس بفضل عنانها فليس عليها ان سقطت ضمان ألا من رأي القرد الذي سبقت به جياد أميرالمؤمنين أتان كتبوا أن يزيد نفسه أنشد هذه الأشعار، و يجب أن يكون كذلك، فغرس النعمة كتب في آخر حوار ابن هبيرة و زياد بن عبيد الحارثي: قال زياد: حين ذهبت الي مروان سألني فيم كانت مناقشتي لابن هبيرة؟ قلت: في كنية القرد أهو أبوقيس أم أبويمن؟ فضحك مروان و قال: حقا! ألم يقل أميرالمؤمنين: تمسك أباقيس بفضل عنانها... (1) . قدر يزيد ممثلي المدينة، و أكرمهم كثيرا، و أعطي أحدهم و هو المنذر بن الزبير مئة ألف درهم، غير أن تربيته السيئة و سلوكه القبيح لم يبقيا مستورين عن نظر الضيوف. و عندما عاد أولئك الي مدينتهم صاحوا في مسجد النبي، و ذكروا يزيد بسوء، و قالوا: جئنا من عند رجل لا دين له، يشرب الخمر، و يضرب الطنبور، و يلعب بالكلاب، و يسهر الليل بين الخلعاء و المغنيات، و نحن نشهدكم أننا خلعناه من الخلافة. بايع الناس عبدالله بن حنظلة غسيطل الملائكة، و حاصروا بني أمية الذين يبلغ

ص: 79


1- 220.؛ و حياة الزهراء (بالفارسية) 182 - 181 و كلاهما للمؤلف.

عددهم ألفا في دار مروان بن الحكم، ثم طردوهم من المدينة. في تلك الأيام المليئة بالشغب و الفتنة ذهب مروان الي عبدالله بن عمر، و طلب اليه أن يحفظ أسرته عنده، فلم يقبل عبدالله. و اذ يئس مروان منه لجأ الي علي بن الحسين عليه السلام، و قال له: أنا قريبك، و أريد أن تكون أسرتي مع أسرتك، فقبل علي بن الحسين رجاءه بكرمه، و أرسل رهطه مع نسائه و بنيه الي ينبع، و كان مروان شاكرا له هذه المكرمة دائما، و هذا ما كتبه الطبري: كان لعلي بن الحسين صداقة قديمة مع مروان (1) . و لا أساس لهذا، فما أري مروان وجها طيبا لبني هاشم يوما ما، و بناء علي هذا لا مكان لصداقته لعلي بن الحسين. و الطبري يريد الغض من مروءة بني هاشم السامية، و وضعها في نطاق الصداقة الشخصية. و صل خبر اضطراب المدينة الي دمشق مرة و أغضب يزيد غضبا بالغا، و أراد أن يعهد أمر هذه المدينة و أمر مكة و قمع ابن الزبير الي عبيدالله بن زياد، لكن عبيد الله لم يقبل، و قال: لا أستطيع أن أبوء بقتل الحسين و النيل من حرمة الكعبة من أجل هذا الفاسق. (2) . اذا لم يكن هذا القول من صنع القصاصين، و جاء به عبيدالله علي لسانه حقا، فيجب القول: كان ابن زياد يعلم أن نهاية حكم السفيانيين قريبة، لأنه أبعد نظرا من يزيد. و الا، فعبيد الله ليس من يخشي ذنبا مهما كان عظيما. طلب يزيد الي عمرو بن سعيد حاكم المدينة السابق أداء الأمر، فلم يقبل، و قال: لا

ص: 80


1- الطبري: 7 / 409.
2- الطبري: 3 / 408.

أخضب يدي بدم قريش، دع غريبا يتعهد بهذا العمل. اضطر يزيد لبعث مسلم بن عقبة الذي كان شيخا عاجزا مريضا علي رأس جيش الي المدينة، فحاصرها، فوقف علي أهلها من ناحية حرة و اقمم (1) ، و قال: أمهلكم ثلاثة أيام، اذا سلمتم تركت المدينة، و ذهبت الي ابن الزبير في مكة من ساعتي و اذا لم تفعلوا، فسأعذر. فوقف أهل المدينة في وجهه، لكنهم هزموا أخيرا، و سلموا. أباح مسلم المدينة لجنوده السفاحين ثلاثة أيام يفعلون ما يشاءون، ثم جعل الناس بين خيارين: 1 - أن يقروا أنهم عبيد ليزيد يفعل بهم ما يشاء. 2 - أن يقتلوا. فلم تقبل جماعة شرطه، فقتلت، و قبله كثير أيضا. و الاثنان اللذان بقيا خارج شرطه علي بن الحسين عليه السلام و علي بن عبدالله بن عباس. فلماذا لم يقتل مسلم علي بن الحسين، أو لم يأخذ منه البيعة بالنحو الذي قاله؟ لا تتفق المصادر في هذا الشأن أيضا. كتب الطبري أن يزيد حين بعث مسلم بن عقبة الي المدينة قال له: لا دخل لعلي بن الحسين في عمل المشاغبين، فكف يدك عنه، و عامله باحسان. و كتب أنه عندما ذهب علي بن الحسين الي مسلم، قال له مسلم: أهلا و مرحبا، و أقعده علي السرير، و جعل له مسندا، و قال له: هؤلاء الخبثاء - أهل المدينة! - لم يدعوني أنهض بحقك، فأميرالمؤمنين أوصاني بك. و بعد هنيهة، قال: ربما أخافك أحد. فقال علي بن الحسين: نعم.

ص: 81


1- تقع في الجانب الشرقي من المدينة.

أمر مسلم أن يحضروا دابته، فأركبه، و أعاده الي داره. (1) . كتب مؤلف كشف الغمة أيضا أن مسلما أكرم علي بن الحسين، و قرب دابته، و قال له، خاف أهلك[ عليك ]؟ فشكره علي بن الحسين، و حين خرج من داره، قال مسلم: هذا الرجل اضافة الي قرابته من رسول الله: هو خير لا شر فيه (2) . كتب ابن أبي الحديد أن مسلما أخذ البيعة من أهل المدينة علي أنهم عبيد ليزيد ما عدا علي بن الحسين الذي احترمه، و أجلسه علي السرير، و أخذ منه البيعة علي أنه أخ لأميرالمؤمنين. (3) . و هكذا عبارة الشيخ المفيد مضافا اليها أن مسلما قال: أمرني أميرالمؤمنين أن لا أعاملك معاملة الآخرين. و كتب أيضا قال له: لو كان بأيدينا شي ء لوصلناك بما أنت جدير به. (4) . و أورد الطبري في رواية أخري أن علي بن الحسين أراد أن يذهب الي مسلم، فجعل عبدالملك و أباه مروان الي جنبه، و ذهب اليه، و حين طلع علي مسلم أراد مروان ماءا، و شرب قليلا، ثم ناوله علي بن الحسين، و اذا أخذ علي الاناء بيده، قال مسلم: لا تشرب من شرابنا. أخفي علي بن الحسين اهتزاز القدح، فقال مسلم: أجئت مع هذين الاثنين؟ و الله لو كان هذان شفيعيك، لقتلتك، لكن أميرالمؤمنين أوصاني بك، و قال لي: انك

ص: 82


1- الطبري: 7 / 421.
2- كشف الغمة: 2 / 89.
3- شرح نهج البلاغة: 3 / 259.
4- الارشاد: 2 / 152.

كتبت اليه رسالة؛ و ان ترد الآن، فاشرب (1) . و نقل ابن الأثير هذه الرواية من هذا المصدر أو مصدر آخر. و كتب اليعقوبي أن علي بن الحسين قال لمسلم بأي شرط أراد يزيد أن أبايعك؟ - بيعة أخ و ابن عم. - ان ترد أن أبايع أنني عبد له، فسوف أبايع. - لا أكلفك مثل هذا. و عندما رأي الناس علي بن الحسين قال هكذا، قالوا: هو ابن رسول الله يقول هكذا فلماذا لا نبايع نحن بمثل هذا الشرط (2) ؟ هذا التقرير و التقارير الأخري التي كتبناها نقلا عن الطبري كاذبة قطعا، و محتمل أن عدة من أبناء أعيان المدينة الذين بايع آباؤهم مسلما خوفا علي أنفسهم قاموا بوضعه كذبا لكي يبرروا علي أسلافهم أمام الناس. لماذا نقول أنه كذب و افتراء؟ لأن سلوك علي بن الحسين و تعامله الحسن مع أسرة مروان لم يكن خافيا علي بني أمية و لا علي يزيد نفسه فضلا عن قائده مسلم. كتب المسعودي أن مسلما أخذ البيعة من أهل المدينة علي أنهم عبيد ليزيد، و كل من لم يقبل قتل، ما عدا علي بن الحسين و علي بن عبدالله بن عباس. (3) . و كتب أبن الأثير أنه عندما وصلت النوبة لبيعة علي بن عبدالله بن عباس، قال حصين بن نمير: يجب أن يبايع ابن أختنا مثل علي بن الحسين. (4) .

ص: 83


1- الطبري: 4 / 419.
2- تاريخ اليعقوبي: 2 / 223.
3- مروج الذهب: 2 / 96.
4- الكامل: 4 / 120.

و كتب المسعودي أيضا أن علي بن الحسين عليه السلام لجأ الي مرقد الرسول، و دعا عنده، و أخذوه الي مسلم علي تلك الحال، و كان غاضبا عليه، و يضيق به و بآبائه ذرعا. و لما طلع علي عليه، و وقعت عين مسلم عليه أهتز، و نهض اليه، و أقعده عنده، و قال له، اطلب حاجتك. و كل من تشفع به علي بن الحسين لم يقتله. هذا القول يبدو غير صحيح أيضا (1) ، فبعيد من مسلم السفاح أن يغمض عينه عن قتل أحد بشفاعة علي بن الحسين. و المسلم أن مسلما بأمر يزيد لم يكلف الامام من أمره عسرا و ليس هذا و فقط، بل أكرمه. أما حصين بن نمير، فكان يسير مع الجيش علي ما أمر يزيد، حتي اذا لم يتعاف مسلم من المرض صار هو قائد الجيش - و هذا ما حدث أخيرا - و بناء علي هذا غير بعيد أن يكون هو شفيع علي بن عبدالله بن عباس. كتبوا أن علي بن الحسين تكلف أربع مئة أسرة من آل عبدمناف، و كان ينفق عليهم ما كان جيش مسلم في المدينة. (2) .

ص: 84


1- مروج الذهب: 2 / 96.
2- كشف الغمة: 2 / 107.

انقلاب الناس

«و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا» (1) . يجب النظر الي واقعة الحرة علي أنها من أعجب الحوادث في تاريخ الاسلام و أبعثها علي الأسف، و أنها صفحة سوداء أضافها الأمويون الي دفترهم. الرجل الذي يري نفسه خليفة الرسول يجيز أن تكون مدينة الرسول و مدفنه و مركز الحكومة الاسلامية و مسكن المتقين و محيي الليل تحت تصرف الجنود ثلاثة أيام يأخذون منها ما يريدون، و يفعلون فيها ما يشاؤون. يا للأتقياء الذين قتلوا في تلك الأيام! يا للحرمات التي ذهبت مع الريح! يا للانتهاك الذي ارتكبه أولئك المفترسون! ان القلم ليستحيي من كتابة ذلك، من انعدام دين الأمير و مأموره. حقا كيف رأت الجماعة المسلمة في ذلك العهد ذلك اللامسلم بل اللا انسان، و بقيت ساكتة؟ يزيد علي ما كتبنا ما كان يعرف شيئا من الاسلام، و يجب عدم الارتياب في هذا القول. فجنوده ساعة سمعوا أن قائدهم المبعوث فتح أيديهم رأوا المدينة و كل ما فيها

ص: 85


1- آل عمران / 144:3.

حقا لهم. لكن لماذا بقي مسلمو الأطراف خامدين؟ فما اهتزوا بعد حادثة المدينة لا في الشام، و لا في مصر و العراق، و ما أظهروا رد فعل غير اللعن، و هذا في الزوايا و الجوانب الخفية عن أنظار جلاوزة الحكم و جند الشام. كان في مكة جمع غفير من التابعين - الطبقة اللاحقة للصحابة - أبناء المهاجرين و الأنصار. فلم لم ينهض هؤلاء، و لم يستنهضوا الناس علي يزيد؟ لم لم يأتوا لنجدة المسلمين في المدينة؟ لنفرض أن أهل المدينة ما كان لهم النهوض علي الحكومة و لنفرض أن للحكومة الاسلامية علي وفق اختياراتها أن تقمع المشاغبين، لكن علي أي باب من أبواب الفقه الاسلامي جاز قتل المدينة قتلا عاما؟ ما كان قد علي وفاة الرسول أكثر من خمسين عاما، وعدة من أولي السبعين عاما في المدن الاسلامية رأوه و تجلت سيرته لأنظارهم. حتي الآن لم تزل حرمة مدينة الرسول من أعين القادة بعده، و لم تفارق خاطر أولي الخمسين عاما، و لا نسي أولو الثلاثين عاما فصاعدا زهد علي و تقواه. لم رأي هؤلاء حادثة كربلاء قبل سنة، و قتل المدينة العام و أطبقوا أفواههم التزاما بالصمت؟ لم تحدث تلك الحوادث الباعثة علي الغم واحدة بعد أخري؟ قتل أبناء الرسول، و سبي نسائه و أطفاله، و تخريب المدينة و هتك أعراض المسلمين هذه حوادث مدهشة غير ممكنة التصور. و لعل ناسا يقولون: ان المؤرخين في العصر العباسي أرادوا أن يدعوا صورة حكم ابن أبي سفيان أقبح ما تكون! لكن الحقيقة هي أن الجماعة الاسلامية قد فقدت في هذه الخمسين عاما صبغتها الاسلامية، و اتخذت طبع الجماعة العربية قبل الاسلام. لم صار مثل هذا؟

ص: 86

ذكرت علة هذا أو علله في كتاب بعد خمسين عاما (1) ، كما أنني قلت في كتاب آخر (2) : أثرت هذه الدوافع طوال خمسين عاما في مجتمع الحجاز و العراق و الشام أثرا أو آثارا حتي أن ظهور مثل هذه الحوادث يبدو الناس طبيعيا. في هذا التجييش لا الأمير و لا المأمور لديه اطلاع علي فقه الاسلام، و ان كان لديهم منه، فانهم لا يرون أنفسهم ملزمين برعايته، و الاسلام لهؤلاء الناس كان وسيلة قدرة لا قونونا لاقامة أحكام الله، و هم اذا تظاهروا بالاسلام، فذلك كان لخداع المسلمين؛ و أعجب من ذلك كتابتهم أن مسلما قال بعد انتهاء حادثة المدينة: الهي، لا أحب أيا من أعمالي التي أنجزتها بعد توحيدك و ايماني بنبوة محمد بمقدار قتل أهل المدينة، و لا أنظر لثواب عمل مثلما أنظر لثواب هذا العمل!. كان لمسلم في هذه المأمورية بضع و تسعون سنة و رجله علي شفا القبر - علي ما يقال - كما أن عمله لم يبلغ غايته، فقد مات قبل وصوله مكة. و هو من الذين يعجبهم من الاسلام اسمه فقط، و يلوون ظاهر القرآن و الحديث لمصلحتهم، ليكون مسوغا لعملهم القبيح، و كان من المخلصين لمعاوية، و كانت قيادة معسكره في صفين بعهدته. (3) . و محتمل أنه كان قد سمع هذا الحديث: «اللهم من ظلم أهل المدينة و أخافهم، فأخفه، و عليه لعنة الله و الملائكة و الناس

ص: 87


1- 235.
2- تاريخ تحليلي اسلام: 63.
3- الاصابة: 3 / 493 - 494.

أجمعين» (1) . و هذا الحديث أيضا في شأن المدينة: «من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» (2) . و قال أيضا ما معناه: لا يقتل أحد أحدا في المدينة، و لا يكن له سلاح للقتال. (3) . و قال: «اللهم ان ابراهيم حرم مكة، فجعلها حراما، و اني جعلت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم، و لا يحمل فيها سلاح لقتال، و لا يخبط فيها شجرة الا لعلف». (4) . أجل كان قد سمع، ولكن عند ما كان يري من يري نفسه خليفة الرسول يقتل ابنه عليه السلام و يدور ببناته في المدن، و لا يعترض عليه أحد، فلماذا يعطي الخوف سبيلا الي نفسه من تخريب مدينة النبي. بعد ما قمع مسلم أهل المدينة، و خمد الشغب اتجه الي مكة، لينهي عمل ابن الزبير، لكنه مات في الطريق، و علي ما أمر يزيد أخذ حصين بن نمير قيادة الجيش علي عاتقه، و حاصر مكة، و نصبوا المجانيق، و أمطرو المدينة بالصخر، و في هذا المعمعة سقطت النار في الكعبة، و كتبوا أن علة ذلك متنوعة. و في وقت كانت مكة فيه في حصار و صل أهلها و المحاصرين لهم خبر موت يزيد. و لم يعلم قائد جيش الشام لمن يجب أن يحارب، ففاوض ابن الزبير مظهرا أنه مستعد لمبايعته بشرط أن يذهب معه الي الشام، و حين لم يقبل عبدالله شرطه عاد حصين و جيشه الي الشام.

ص: 88


1- كنز العمال: كتاب فضائل الحديث: 34884.
2- نفسه: 34839.
3- نفسه: 34811.
4- وفاء الوفا: 90؛ و سفينة البحار: 2 / 530.

من المناسب في نهاية هذا الفصل أن نكتب حديثا جاء به المجلسي من روضة الكافي و هذا الحديث عن طريق ابن محبوب عن أبي أيوب عن يزيد بن معاوية عن الامامام الصادق أنه قال: «ان يزيد بن معاوية دخل المدينة و هو يريد الحج، فبعث الي رجل من قريش، فأتاه، فقال له يزيد: أتقر أنك عبد لي ان شئت بعتك، و ان شئت استرققتك؟ فقال له الرجل: و الله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسبا، و لا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والاسلام، و ما أنت بأفضل مني في الدين و لا بخير مني، فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: ان لم تقر لي و الله قتلتك. فقال الرجل: ليس قتلك اياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأمر به، فقتل. ثم أرسل الي علي بن الحسين، فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسين: «أرأيت ان لم أقر لك، أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس». فقال له يزيد: بلي. فقال له علي بن الحسين: قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فان شئت، فأمسك، و ان شئت، فبع. فقال له يزيد: أولي لك حقنت دمك، و لم ينقصك ذلك من شرفك». (1) . اذا لم نشك في نسبة الروضة الي الكليني، فالشك في هذا الحديث في موضعه، بل ان هذا الحديث كذب بلا ريب، و المجلسي قد التفت أيضا الي نقطة ضعفه، فيزيد حكم ثلاث سنوات لم يخرج فيها من الشام، فكيف حج و ذهب الي المدينة و حادث علي بن الحسين عليه السلام؟

ص: 89


1- البحار: 46 / 137 - 138.

وجود هذا الحديث و بقاؤه في كتب علماء الطبقة الأولي من المحدثين يبين أنهم اعتنوا برواية الحديث في النقد لا بداريته. و يبدو أن هذا الحديث وضعه أبناء من بايعوا ابن عقبة خوفا علي أنفسهم، لكن أحد الرواة استعاض من مسلم بن عقبة بيزيد عمدا أو سهوا. مات يزيد في حوارين في شهر ربيع الأول سنة أربع و ستين هجرية عمن ثمان و ثلاثين أو تسع و ثلاثين سنة، و صحيفة أعماله تضم قتل ابن بنت الرسول و سبي عترته، و القتل العام لمدينته، و تخريب الكعبة!. و بعد يزيد بايع أهل الشام ابنه معاوية، لكن حكومته لم تدم. و بموت معاوية هاج الشغب من جديد، و لم تكن الشام هذه المرة بمعزل عن الاضطراب. بعد هلاك يزيد ابتليت الشام بالصراع القبيلي و تنافس القيسية و اليمانية، فأم يزيد ميسون بنت بحدل بن أنيف من قبيلة كلب. و الضحاك بن قيس عمدة الشام (قائد الشرطة) الذي وضع الأساس لحكومة يزيد في حياة معاوية و بقي وفيا له بعد مماته هو من قبيله قيس، و من العرب الشماليين. في خلافة يزيد القصيرة، و خلافة ابنه معاوية القصري، وصل الكلبيون الي السلطة قليلا قليلا، و شدوا علي القيسيين. و كان هذا العمل فادحا للضحاك بن قيس، فأخذ جانب حكومة ابن الزبير بعد موت يزيد. و عبدالله بن الزبير من العرب العدنانيين. و في معركة الكلبيين و القيسيين في مرج راهط و انتصار القيسيين فيها، و خلافة مروان، خف الاضطراب، و ساد تلك البلاد هدوء. و أجج عبدالله بن الزبير الذي رأي نفسه خليفة بعد موت معاوية نار الحجاز. و فضلا عن الحجاز بدأت الحركة و النشاط من جديد، فأولئك الذين تابعوا الرسائل

ص: 90

الي الحسين بن علي عليه السلام يدعونه الي مدينتهم، و استقبلوا رسوله اليهم استقبالا حارا، ثم خذلوه هو و الحسين في مواجهة العدو عادوا الي أنفسهم. هل ندموا علي كل أفعالهم القبيحة؟ الجواب عن هذا السؤال في شأن عدة منهم مثبت و ايجابي، فليس كل من تحركوا بعد موت يزيد كان همهم الدين. فجماعة كانوا يريدون أن يزول ضعف العراق المتوالي للشام، و يعود مركز الحكم الي العراق. علي كل حال انتفض المتدينون و الساسة، و جابهوا الحكومة، لكنهم لم يفعلوا شيئا، فقائد الشيعة سليمان بن صرد قتل، و تشتت الجيش الذي اجتمع، و الرجل تقدم في هذه المعمعة، و فتح لنفسه مكانة في تاريخ التشيع الي الأبد هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي. و في شأن المختار و غايتته من هذه الثورة أحكام متنوعة، حتي أن بعض علماء الطبقة الأولي و الثانية من الشيعة ليس ليدهم نظرة حسنة اليه، الا أن المتأخرين مدحوه بالحسن. فبعد ثورة سليمان بن صرد رئيس الشيعة غير الموفقة جمع المختار الشيعة، و كان يعلم أنه اذا أريد لحركة الشيعة أن تنجح، فيجب أن يقودها رجل من عترة النبي، أو أن تبدأ باسمه في الأقل. فمن الجدير بهذا الأمر؟ علي بن الحسين نجل شهيد آل محمد، و اذا لم يقبل، فمحمد بن علي بن أبي طالب عم علي بن الحسين. و كتب المختار الي الاثنين بذلك. و الامام علي بن الحسين الذي كان قدر رأي عدم وفاء العراقيين و تلونهم، و علم أنهم كما قال أبوه العظيم:

ص: 91

«الناس عبيدالدنيا و الدين لعق علي ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون». لم يجب (الامام علي بن الحسين) المختار جوابا مساعدا، و العمل الوحيد الذي صوبه له معاقبته قتلة أبيه، فعندما بعث اليه المختار برأس عبيدالله بن زياد، و عمر بن سعد، سجد، و قال: «الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، و جزي الله المختار خيرا» (1) . كتب اليعقوبي أن المختار بعث برأس عبيدالله بن زياد الي علي بن الحسين عليه السلام في المدينة، و قال لمبعوثه: اجلس علي بابه، فاذا رأيته انفتح، و دخل الناس، فاعلم أن ذلك وقت طعامه، و ادخل أيضا. و فعل المبعوث ذلك، و حين دخل الدار صاح: يا أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مهبط الملائكة، و منزل الوحي، أنا مبعوث المختار بن أبي عبيدة الثقفي، و هذا رأس عبيدالله بن زياد جئت به اليكم. و بسماع صحيحته علا صراخ نساء بني هاشم، و حين رأي الامام رأس عبيدالله، قال: الي جهنم. قال ناس: لم ير علي بن الحسين ضاحكا منذ وفاة أبيه، الا ذلك اليوم. (2) . و كتب ابن عبد ربه أن رأس عبيدالله عندما وصل علي بن الحسين انتصاف النهار كان يتعذي، و لما رأي الرأس قال: «سبحان الله ما اغتر بالدنيا، الا من ليس لله في عنقه نعمة، لقد أدخل رأس أبي عبدالله علي ابن زياد و هو يتغدي». أما المسعودي، فقد كتب أن المختار أرسل الي علي بن الحسين السجاد رسالة قبله فيها اماما، و أراد أن يبايعه، و استأذنه أن يجعل دعوته له علنا، و بعث بمال غزير مع

ص: 92


1- رجال الكشي: 84؛ و المختار الثقفي: 124.
2- تاريخ اليعقوبي: 2 / 6.

الرسالة. فما قبل علي بن الحسين المال، و لا أجاب عن الرسالة، و عابه في المسجد. و يمكن أن يكون غير الراضين عن المختار قد أضافوا المقطع الأخير، ولكن المسلم به أن الامام لم يلتفت اليه في شأن الدعوة الي قيادته الشيعة. في رواية أن المنهال بن عمر قال: حججت عاما و رأيت علي بن الحسين عليه السلام، فسأل: كيف يعيش حرملة بن كاهل؟ - رأيته حيا في الكوفة. و رفع الامام يديه الي الأعلي، و قال: «الهي أذقه حر الحديد، الهي أذقه حرارة النار». و عندما ذهبت الي الكوفة جلبوا حرملة الي المختار، فأمر بقطع يديه و رجليه، ثم أحرقه بالنار. و لما يئس المختار من التفات الامام اليه، استأذن محمد بن الحنفية ابن أميرالمؤمنين أن يدعو الناس له، فقبل محمد، و دعاه المختار «مهدي الأمة»، و في هذا الزمان ظهرت الفرقة المعروفة في الاسلام ب «الكيسانية». و ذكر ابن سعد أن المختار أرسل الي علي بن الحسين مئة ألف درهم، فحفظ المال عنده، و بعد مقتل المختار كتب الي عبدالملك ما جري، فأجابه بأني أعطيتك هذا المال. كانت السنوات من 66 الي 75 للهجرة سنوات محنة و رعب للحجاز و العراق و الشام، فلم تر هذه الولايات وجه الهدوء طوال هذه السنوات العشر. فالشام - علي ما كتبنا - غدت ساحة لصراع الكلبيين و القيسيين الجنوبيين و الشماليين. و شهدت الحجاز هجوم جيش عبدالملك علي مكة، و مقتل عبدالملك بن الزبير. و ذاق العراق جزاء عدم مروءته أكثر من هاتين الولايتين. و الحق أنه يجب القول: ان أهل هذه الأرض ابتلوا بلعنة ابن بنت النبي صلي الله عليه و آله و سلم، فقد قال الحسين في شأن أولئك:

ص: 93

اللهم! أمسك عنهم قطر السماء، و امنعهم بركات الأرض. اللهم! فان معتهم الي حين ففرقهم فرقا، و اجعلهم طرائق قددا، و لا ترض الولاة عنهم أبدا». (1) . في المحرم من سنة احدي ستين هجرية رأي ابن زياد رأس الحسين بين يديه، و فرح. و لم تمر خمس سنوات حتي كان رأس ابن زياد بين يدي المختار. و ما مرت سنة حتي وضع رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير. و لم تمر خمس سنوات حتي استقر رأس مصعب بين يدي عبدالملك بن مروان. و نظم هذا الانتقام الالهي شاعر باللغة الفارسية (بما ترجمته): نصح شيخ كبير عبدالملك بن مروان قائلا له: لقد رأيت في نفس هذا المكان و نفس هذا القصر و تحت نفس هذا السقف و أمام نفس هذا العرش أعمالا من ابن زياد أرجو أن لا تراها عين أحد: لقد رأيت رأس الحسين المشع بالنور - فدته آلاف الرؤوس - الرأس الذي عليه عمامة رسول الله و هو يتقاطر دما و قد وضع علي طبق لامع و أحضر الي ابن زياد. لم تمض مدة طويلة حتي ظهر المختار و أحضر اليه رأس ذلك المفسد مرفوعا علي السنان. بعد مدة مصعب بن الزبير و قتل المختار و أحضر الرأس منه اليه. و لم يسلم رأس مصعب من نفس المصير المحتوم فقتل و أحضر رأسه الي الذي تلاه. يا للحسرة! الناس لا يعتبرون و لا يتعظون بما يرون و يشاهدون. و تستمر مسيرة الحياة دون أن يتوقف الفلك منها أو أن ينهد سقف السماء.

ص: 94


1- الطبري: ج، صص 245 - 244.

و أنا حائر من هذا السحر و الطلسم الذي لا يقبل البطلان. أخيرا امتدت يد الانتقام الالهي من كم رجل عديم الرحمة و لوغ في الدماء، و أنزل بعديمي المروءة من أهل العراق ما هو جزاؤهم، و قال لهم ما تستطيبه أسماعهم: «تعرفونني معرفة حسنة أنني لا أخشي شيئا، و اذا باشرت عملا ستعرفون ما عملي. يا أهل الكوفة! أري عيونا كفيفة، و أعناقا مديدة، و رؤوسا أينعت و حان قطافها، و دماء خضبت اللحي من أعلي الهام. يا أهل الشقاق و النفاق و فساد الأخلاق، ما أنا بريشة تذروها الرياح، و لا أنا من تتلاعبون به. أبان هذا الحديث ما علي الكوفة و العراق من تكليف. فقد عرفوا أنهم بازاء رجل جاءهم في أوانه، يتحدت بالمنطق الذي يفقهونه، اذ رعب الحجاج أولئك الناس المتلونين رعب الماهر في القمع الذي هدأ به الشغب و الفتنة عشرين عاما في العراق و المنطقة الشرقية و خوزستان التي كانت قاعدة الخوارج. لكن لازمة مثل هذا الحكم هي - علي ما نعلم - الظلم و الحبس و القتل الذريع و شيوع الرعب. في حكم الحجاج مثلما في حكم ابن زياد كانوا يعتقلون الناس بأدني تهمة و يقتلون و يزجون في السجن، بل ان الالقاء في السجن ما كان مستلزما ذنبا أو سوء ظن أو معصية. انظروا الي هذه القصة الكاشفة عن زاوية من اجتماع ظلمة ذاك الزمان و تصوير لحياة تحت حكومات مستبدة: كان الحجاج يقرأ سورة هود، و اذ وصل هذه الآية: «قال يا نوح انه ليس من أهلك، انه عمل غير صالح» لم يعرف كيف يعرب «عمل»، فقال لأحد الحرس: آتني بمن يحسن قراءة القرآن.

ص: 95

و اذ أحضر الحرسي قاري ء القرآن كان الحجاج قد نهض من مكانه و ذهب، فألقاه في السجن، و نسيه. و بعد ستة أشهر فتش الحجاج السجن، و اذ وصل الي ذلك الرجل، سأله: لم وقعت في السجن؟ - من أجل ابن نوح. عرف الحجاج قصته، فأمر باطلاقه. (1) . و كلما امتدت سنوات حكمه أزداد اعراضا عن فقه الاسلام، و جرأة علي الدين، حتي انه خاطب زائري مرقد الرسول في احدي خطبه، قائلا: «تبا لهم، انما يطوفون بأعواد رمة بالية. هلا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله؟ و لمعرفة الحاكمين الآخرين بمكانته عند الخليفة كانوان يتملقونه و يتزلفون اليه، لكن عندما رأوا خليفة الزمان أو أقرباءه لا يهتمون به، غيروا مواقفهم منه. في أحد أيام الجمعة رقي خالد بن عبدالله القسري حاكم مكة المنبر، و أثني علي الحجاج، و بعد أيام علي تلك الخطبة وصلته رسالة من سليمان بن عبدالملك أنه سب الحجاج. فرقي خالد المنبر في الجمعة الأخري، و قال: كان ابليس في زمرة الملائكة، و لأنه كان يظهر طاعته، كان الملائكة يرونه خيرا منهم، لكن الله كان يعلم خبث باطنه، و عندما أراد أن يفضحه، أمره أن يسجد لآدم. و بهذا الأمر تجلي ابليس الذي كان خافيا علي الملائكة. (2) .

ص: 96


1- العقد الفريد: 5 / 272.
2- شرح نهج البلاغة: 15 / 242؛ العقد الفريد: 5 / 284؛ مروج الذهب: 2 / 44.

الحجاج أيضا كان يظهر طاعة أميرالمؤمنين و لهذا كنا نري له فضلا، ولكن الله أطلع أميرالمؤمنين علي باطنه القبيح، و فضحه علي يديه. أيها الناس! العنوا الحجاج ألا لعنة الله عليه. (1) . و بهذا الكلام رفع نفسه الي مقام الملائكة و وضع الحجاج في رتبة ابليس. و ما نستنتجه من هذا الكلام و أشباهه هو أن الحكومات في هذا العصر مثلها في أغلب العصور كانت تسعي لقول ما يرضي الخليفة دون خالق الخليفة. اذا كان وصول الكتاب صحيحا فلا بد أن يكون تاريخه بين سنوات 95 - 93 ه لأن خالدا تولي حكومة مكة مرتين: الأولي: بين عامي 86 - 81 ه و فيها كان الحجاج محل اهتمام عبدالملك. و الثانية: بين عامي 96 - 93 ه منذ سنة 62 ه و هي السنة التي يحتمل فيها رجوع الامام زين العابدين مع بقية آل النبي صلي الله عليه و آله و سلم الي المدينة حتي سنة 95 ه سنة ارتحاله عليه السلام (بحسب المشهور) حكم فضلا عن يزيد الذي دام حكمه لسنتين أربعة حكام آخرون هم: مروان به الحكم بن أبي العاص، و عبدالملك بن مروان، و الوليد بن عبدالملك، و سليمان بن عبدالملك، و كانوا بين طالب للجاه و الدعة و المللذات. و علي ما ذكرت في مكان آخر (2) فان مقدمات موت السنة و اندثارها و احياء البدع بدأت مع وصول القرشيين و الأمويين الي المناصب الحكومية الحساسة و سوء استفادتهم من خزانة بيت مال المسلمين في سنة 30 ه فصاعدا. و ظهرت تغييرات أساسية في الأحكام و النظام الاسلاميين منذ تولي معاوية للحكم و السلطة.

ص: 97


1- العقد الفريد: 5 / 267.
2- زندگاني فاطمه عليهاالسلام: 185 - 168؛ و تاريخ تحليلي اسلام: 204.

ولكن في عهد معاوية و بسبب وجود عدد مهم من أصحاب النبي أحياءا في مختلف بقاع الدولة و الولايات الاسلامية، و كانوا بين الحين و الآخر يقفون في وجه البدع التي يحدثها. بذل الفقهاء الدينيون و سعهم في ذم البدع التي كانت تظهر بين الحين و الآخر رغم أن كلامهم لم يكن يؤثر في حكام زمانهم. كان معاوية لبعد نظره و حذقه من مداراة الناس كثيرا ما يلتزم الصمت أمام اعتراضات الصحابة. و يمكن القول أن اغلاق الطريق أمام أي نوع من الاعتراض علي الحكومة بدأ منذ عهد عبدالملك. ذهب عبدالملك بعد قتل ابن الزبير الي مكة (سنة 75 ه) ثم الي ا لمدينة و خطب فيها: «أما بعد: فلست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) و لا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) و لا الخليفة المأفون (يعني يزيد) ألا و ان من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون و يطعنون من هذه الأموال. ألا و اني لا أداوي أدواء هذه الأمة الا بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم. تكلفوننا أعمال المهاجرين و لا تعملون مثل أعمالهم،... و الله لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه». (1) . و الجملة الأخيرة من كلامه رد علي خطباء الجمعة الذين كانوا يبدءون خطبهم ب اتق الله. ذكروا أن عبدالملك يقرأ القرآن لما وصلته البشارة بوصوله للخلافة فأطبقه و قال له هذا آخر العهد بك، و الفراق بيني و بينك.

ص: 98


1- تاريخ التمدن السلامي: 4 / 78؛ الكامل: 1 / 391؛ البيان و التبيين: 2 / 244 - 245.

عندما يعرف أحد نفسه أنه خليفة الرسول، و يتحدث في مدينة الرسول، و عند ضريحه هكذا، و يجرؤ علي سنته، فطبيعي كل ما سيقول عماله في الولايات النائية و ما سيفعلون. هشام بن اسماعيل المخزومي الذي كان حاكم المدينة من سنة 82 الي 86 أخذ الناس بالشدة، و آذاهم حتي ان عبدالملك علي قسوته اضطر لعزله. و الحجاج بن يوسف حين ترك المدينة قاصدا العراق صعد المنبر، و قال: «أحمد الله الذي أخرجني من هذه الأرض، فهذه المدينة أخبث المدن، و أهلها أفسد الناس و أحقدهم علي أميرالمؤمنين». و كذلك قال في احدي خطبه: «ما قامت السماوات و الأرض الا بالخلافة. و ان الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين، لأن الله خلق آدم بيده، و أسجد له الملائكة، و أسكنه جنته ثم أهبطه الي الأرض، و جعله خليفة، و جعل الملائكة رسلا» (1) . و خطب خالد بن عبدالله القسري في مكة، فقال: «أيها الناس! أيهما أعظم أخليفة الرجل علي أهله أم رسوله اليهم؟ و الله لم تعلموا فضل الخليفة! ألا ان ابراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحا أجاجا و استسقي الخليفة فسقاه عذبا فراتا» (2) . أراد بالخليفة الوليد بن عبدالملك الذي حفر بئرا في الحجون كان ماؤهان عذبا. و دون التاريخ هذه الكلمات، لأن قائليها كانوا مشهورين، فهم و كل اليهم مصير الحجاز و العراق و ايران و الشرق الاسلامي

ص: 99


1- تاريخ أبي الفداء: 205؛ و تاريخ التمدن السلامي: 4 / 92.
2- الكامل: 4 / 536.

و لحسن الحظ لم تدون كلمات الحاكمين الصغار و ذوي المناصب الدنيا، و الا لقرأنا أن حاكم واسط أو الأهواز أو نيسابور قد مدح عبدالملك أو الوليد بالربوبيه و ما فوقها! و لعلكم تسألون: ما فعلت الأمة الاسلامية ازاء أقوال الخلفاء و الحكام الخانعين لهم القبيحة و أفعالهم التي هي أقبح من تلك الأقوال؟ سؤال في محله. و ليس جوابه بطويل و لا ثقيل، انه قصير و واضح، انه ذلك الفعل الذي تتخذه كل حين. و كان عبدالملك قد عرف الناس جيدا، فقال لهم مستنكرا دعوة الخطباء اياه الي التقوي: «تدعوننا الي التقوي و أنتم غير متقين». (1) . و منذ ذلك تبين واجب الناس: ففئة منهم كانت متمسكة بالدين، لكنها قليلة. كانت الحكومات في البدء تقطع أعطيات الناس من بيت المال، بل تقطع أعطيات مدينة بمخالفة أحد منها، مثلما قطع هشام عطاء مكة و المدينة عند قيام زيد. (2) . فان لم يرتدعوا بهذه القطع عن الخلاف زجوا في السجن أو قتلوا. و فئة أخري اعتزلت و سكنت. في ذلك العهد دارت الدنيا لرجال الساعة الذين كانوا يحتفظون بأوار المعارك مشبوبا. نعلم أنه في نهاية النصف الاول من القرن الأول الهجري ظهرت فئة ملمة بأصول العقائد الاسلامية ذهبت الي أن الايمان هو الاقرار باللسان وحده، أي: شهادة الشهادتين، و أن مرتكب الكبائر ليس من الخالدين في جهنم، و أن الله يعفو عنه،

ص: 100


1- تاريخ أبي الفداء: 1 / 205؛ و تاريخ الخلفاء للسيوطي: 217.
2- الأغاني: 7 / 22.

و يظهر أنهم كانوا يتخذون من بعض الآيات برهانا علي ما يدعون، كقوله - تعالي -: و آخرون مرجون لامر الله اما يعذبهم و اما يتوب عليهم» (1) . هؤلاء هم من عرفوا في علم الكلام الاسلامي بالمرجئة، و قد انتفع الأمويون بهذه الفئة من المتكلمين، فكان هؤلاء علموا أم لم يعلموا يصححون أفعال الحاكمين و يخففون من قبحها في نظر المسلمين. و فئة مادحة عابدة لبطنها منحطة ألقت نفسها في الوسط تمدح الحاكمين بما ليس فيهم، و تمحو عنهم ما بهم. شعراء مثل الأخطل و كعب بن جعيل و الليثي و عبدالله به همام السلولي، و أبي العباس الأعمي و مسكين الدارمي و عدي بن الرقاع و يزيد بن مفرغ. و هذه أمثلة من أناشيد هؤلاء المادحين لمحترفين: قال يزيد بن مفرغ في مدح مروان: و أقمتم سوق الثناء و لم تكن سوق الثناء تقام في الأسواق فكانما جعل الاله اليكم فيض النفوس و قسمة لأرزاق و أنشد أبوالعباس الأعمي الشاعر الايراني الأصل الآذري في الأسرة الأموية قبل أن تطرد من المدينة: و لم أر حيا مثل حي تحملوا الي الشام مظلومين منذ بريت أعز و أمضي حتي تشتجر القنا و أعلم بالمسكين حيث يبيت اذا مات منهم سيد قام سيد بصير بعورات الكلام زميت (2) . و أنشد أبوالعباس الأعمي في ذم شيعة علي: لعمرك انني و أبا طفيل لمختلفان و الله الشهيد

ص: 101


1- التوبة 106:9.
2- تاريخ الأدب العربي، العصر الاسلامي، شوقي ضيف: 2 / 228 - 229.

لقد ضلوا بحب أبي تراب كما ضلت عن الحق اليهود (1) . و أنشد الفرزدق قصيدة طويلة في موت الحجاج منها: ليبك علي الحجاج من كان باكيا علي الدين أو شار علي الثغر واقف و ما ذرفت عينان بعد محمد علي مثله الا نفوس الخلائف (2) . و قال الأخطل قصيدة في مدح الحجاج جاء فيها: أحيا الاله لنا الامام فانه خير البرية للذنوب غفور نور أضاء لنا البلاد و قد دجت ظلم تكاد بها الهداة تجور فعليك بالحجاج لا تعدل به أحدا اذ نزلت عليك أمور (3) . و مدح عدي بن الرقاع الوليد بن عبدالملك بقوله: و لقد أراد الله اذ ولاكها من أمة اصلاحها و رشادها أعمرت أرض السلمين فأقبلت و نفيت عنها من يروم فسادها (4) . و قال الأحوص في شأن الوليد بن عبدالملك: تخيره رب العباد لخلقه وليا و كان الله بالناس أعلما (5) . و مدح الأخطل بشير بن مروان و بني أمية بقوله: بكم أدرك الله البرية بعدما سعي لصها فيها وهب غشومها و انك للمأمول و المتقي به اذا حيف من تلك الأمور عظيمها (6) .

ص: 102


1- نفسه: 2 / 229.
2- الديوان: 2 / 5.
3- الديوان: 74.
4- تاريخ الأدب العربي - السابق: 2 / 244.
5- نفسه: 2 / 241.
6- الديوان: 122.

و مدح عبدالله بن الزبير بن أشيم عبدالملك، فقال: هو القائد الميمون و العصمة التي أتي حقها فينا علي كل باطل أقام لنا الدين القويم لحلمه و رأي له فضل علي كل قائل (1) . و أنشد الفرزدق في مدح هشام بن عبدالملك قائلا: هاشم بن خير الناس الا محمدا و أصحابه اني لكم لم أقارب من الغش شيئا و الذي نحرت له قريش هدايا كل ورقاء شارف الي آل مروان انتهت كل عزة و كل حصي ذي حومة للخنادف هم الأكرمون الأكثرون و لم يزل لهم منكر النكراء للحق عارف (2) . و لا يخفي أنه كان بازاء معسكر المداحين باعة الدين و طلاب الدنيا شعراء لم يقصروا في مدح آل الرسول و ذم آل أبي سفيان و المروانيين ابتغاء رضوان الله و بيان الحقيقة. و اذا أراد ممدوحو أولئك وصلهم بصلة يسيرة أو كبيرة ما كانوا يقبلون، و علي رأس هؤلاء الكميت بن زياد الأسدي صاحب سلسلة القصائد المعروفة ب «الهاشميات» (3) . لكن صرخة أولئك الشعراء في تلك الضجة الصاخبة، كانت كنسيم بارد يهب في جهنم لاهبة، أو علي ما يعبر بالفارسية: «مقابلة اللحن الحجازي لدوي طبل الغازي». وصف أبو الامام الرابع[ أي الامام الحسين عليه السلام ]ذاك الزمان بقوله: «الناس عبيد الدنيا و الدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم،

ص: 103


1- ناسخ التواريخ: 5 / 296.
2- ناسخ التواريخ: 5 / 396.
3- الديوان: 2 / 9.

فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون». (1) . كان الوضع الاجتماعي في البلاد الاسلامية كافة هو علي هذه الشاكلة، و يجب أن نضيف هذه الجملة أن المدينة ابتليت بالفساد الأخلاقي و الفساد العام منذ عام خمسة و ستين للهجرة، و بدأت مقدمات ذلك في السنين السابقة طبعا، فمنذ عام ثلاثين للهجرة و أسر الأشراف من قريش تحظي بدخل كبير من خزانة الدولة، و تنتفع بهبات الخلفاء الوفيرة في تنمية ثرواتها. و ارتفاع مستوي الثراء و شراء العقارات و الضياع جذب أولئك الي الحياة المترفة الزاخرة بوسائل الراحة. و هنا أخذت هذه الأسر في المباهاة، فاشترت الاماء و الغلمان و الجواري اللواتي يجدن الموسيقي و الغناء. و قليلا قليلا اقتدي الناس بأولئك في هذا الشأن. القتل العام للرجل و المرأة في «وقعة الحرة» و الاعتداء علي حرمات المسلمين اللذان لا سابقة لهما في العالم الاسلامي بدلا أهل المدينة. فالأثرياء المترفون العالون علي الأحكام الدينية و الأخلاق الاسلامية انغمسوا في معاقرة الخمر و الاستماع لغناء المغنين. و يمكن القول: ان اقبال أولئك علي هذه المنكرات حدث ليخرجوا من العذاب أو لكي لا يطلعوا علي ما يدور حولهم. لا مبالغة في كتابة شوقي ضيف: كأن المدينتين الكبيرتين مكة و المدينة أقيمتا للمغنين، حتي أن فقهاء و زهادا كانوا يذهبون اليهم في بعض الأوقات. (2) . و اذا كان حال الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هكذا، فبسهولة يمكن معرفة

ص: 104


1- تحف العقول: 245، باب و عنه في قصار هذه المعاني. م.
2- تاريخ الأدب العربي: 2 / 347.

كيف كان حال غيرهم؟ ذكر أبوالفرج الاصفهاني قصة في نهاية ترجمة جميلة - احدي مغنيات ذلك العصر - تبين جانبا من الاجتماع الفاسد لتلك المدينة، و هي أنه لما خرجت جميلة للحج من منزلها في «سنج» القريبة من المدينة - و كان لأبي بكر بن أبي قحافة بيت فيها - و دعها كبار المغنين «هيت، و طويس، و دلال، و برد الفؤاد، و نومة الضحي، و فند، و رحمة، و هبةالله، و معبد، و مالك، و ابن عائشة، و نافع بن طنبورة، و بديح المليح، و نافع الخير» من الرجال. و من النساء «فرهة، و عزة الميلاد، و حبابة، و سلامة، و خليدة، و عصيلة، و شماسية، و فرعة، و بلبلة، و لذة العيش، و سعيدة، و الزرقاء.» (1) . هؤلاء الذين ذكرهم أبوالفرج من أكابر مغني عصرهم الذين طبقت شهرتهم آفاق ذلك الزمان. و لو نظرنا الي أن كلا من هؤلاء كان له عدد من المتعلمين و المساعدين و اذا وضعنا في خاطرنا أن عددا من الموسيقيين المشهورين الذين بقوا في المدينة، و لم يذهبوا لتوديع جميلة، سيكون بأيدينا رقم صعب التصديق. و اذا كان هذا وضع قبلة المسلمين الاجتماعي، و وضع مركز تأسيس الحكومة الاسلامية، فيجب تصور وضع دمشق و البصرة و المدن الكبيرة الأخري. طبعا كان عدد من الزهاد و مقيمي الليل و العباد متعزلين عن الناس. يقضون يومهم في الطاعة وليلهم في حرم الله أو عند ضريح الرسول متعبدين، و كانوا مشمئزين مما كان الناس يفعلون، لاجئين عائذين الي الله. و الكثرة الكاثرة كانت مشغولة بحياتها اليومية لا علاقة لها بالفئتين. في مثل هذا المحيط عاش الامام علي بن الحسين النصف الثاني من حياته و قد ذكرنا

ص: 105


1- الأغاني 8 / 209؛ و أعلام النساء: 1 / 212.

طرفا من وصفه. و هو محيط تحكمه رقابة مأموري الشام أن يذكر اسم لآل علي بخير، و كانوا يتشددون في ذلك، حتي أن الناس كانوا يسعون أن يكونوا بعيدين عن مدي النظر، لئلا يتهموا، حتي أن علي بن الحسين يقول: «لا يحبنا في مكة و المدينة عشرون رجلا». (1) . و من ناحية أخري كانت المدن الاسلامية - علي ما كتبت - تغرق في الانحطاط الأخلاقي و الفساد الاجتماعي كل يوم و كأن عامة الناس قد صموا آذانهم، فلا يدخلها حديث الحق. يمكن القول: ان أدعية الامام علي بن الحسين التي انضمت في مجموعة من الدعاء باسم «الصحيفة السجادية» هي مرآة تنعكس عليها صورة الاجتماع في المدينة خاصة في ذلك الزمان. فالأذي من فعل الناس و قولهم القبيحين في ذاك العهد، و اللجوء الي الله - تعالي - مما يري و مما يسمع، و بيان الطريق الصحيح في كنف الدين و القرآن و تطهير الأرواح من السوء كلها تتجلي فيها. فالامام علي بن الحسين يريد علي قدر الامكان أن يخرج الناس بلسان الدعاء من قبضة الشيطان، و يصلهم بالله - تعالي. ذم الظلم اللهم اني أعتذر اليك من مظلوم ظلم بحضرتي، فلم أنصره، و من معروف أسدي الي، فلم أشكره، و من مسي ء اعتذر الي فلم أعذره، و من ذي فاقة سألني، فلم أوثره، و من حق ذي لزمني لمؤمن، فلم أوقره، و من عيب مؤمن ظهرلي، فلم أستره (2) .

ص: 106


1- شرح نهج البلاغة، 4 / 104؛ و البحار: 46 / 143؛ و الغارات: 573.
2- من الدعاء الثامن و الثلاثين.

القرآن كتابك الذي أنزلته نورا، و جعلته مهيمنا علي كل كتاب أنزلته، و فضلته علي كل حديث قصصته، و فرقانا فرقت به بين حلالك و حرامك، و قرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك، و كتابا فصلته لعبادك تفصيلا. و جعلته نورا نهتدي من ظلم الضلالة و الجهالة باتباعه، و شفاء لمن أنصت بفهم التصديق الي استماعه (1) . النبي اللهم فصل علي محمد أمينك علي وحيك، و نجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، امام الرحمة و قائد الخير، و مفتاح البركة كما نصب لأمرك نفسه، و عرض للمكروه بدنه، و كاشف في الدعاء اليك خامته، و حارب في رضاك أسرته، و قطع في احياء دينك رحمه... و والي فيك الأبعدين (2) . تهذيب النفس اللهم اني أعوذ بك من هيجان الحرص، و سورة الغضب، و غلبة الحسد، و ضعف الصبر، و قلة القناعة و شكاسة الخلق، و الحاج الشهوة، و ملكة الحمية، و متابعة الهوي، و مخالفة الهدي، و سنة الغفلة، و تعاطي الكلفة، و ايثار الباطل علي الحق، و الاصرار علي المآثم، و استصغار المصعية، و استكبار الطاعة (3) .

ص: 107


1- من الدعاء الثاني و الأربعين.
2- من الدعاء الثاني.
3- من الدعاء الثامن.

تواضع علي بن الحسين

«و عباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا و اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما و الذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما انها ساءت مستقرا و مقاما و الذين اذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما... و الذين لا يشهدون الزور و اذا مروا باللغو مروا كراما» (1) . الآيات التي كتبناها أعلاه في آخر سورة الفرقان عد الله فيها صفات المؤمنين المصطفين، و فيما ستقرءون من الفصول القادمة ترون كل الصفات المعينة هنا لعباد الرحمن جلية في علي بن الحسين (عليه السلام) الذي كان في تلك الحقبة المظلمة مصباحا منيرا للباحثين عن الكمال: بقوله و فعله، محييا سيرة جده و أبيه و بيت الرسالة المنسية. و رأي الناس الذين كانت السنون فاصلا بينهم و بين عصر النبوة مثال التربية الاسلامية بأم أعينهم: من عبادة الله، و دماثة الطبع، و محاسبة النفس، و الانكسار للحق، والأخذ بيد المستحقين، و السخاء، و التقوي... قال الجاحظ عنه في الرسالة التي كتبها في فضائل بني هاشم: «رأيت الخارجي فيه كالشيعي، و الشيعي كالمعتزلي، و المعتزلي كالعامي، و العامي

ص: 108


1- الفرقان 25: 73 - 63.

كالخاص، و ما رأيت أحدا يشك في فضله أو في تقدمه». (1) . ما كان يعامل ذوي قرباه و أصدقاءه و معارفه وحدهم باحسان، فحنانه، كان يشمل حتي أعداءه العاجزين، و يتفيأ ظله الحيوان، و قد كتبنا لجوء مروان بن الحكم اليه و قبوله رجاءه في فصل سابق. كتب الطبري أنه عندما بلغ خبر موت يزيد الي الحصين بن نمير عاد الي الشام، و كان في طريقه الي المدينة تعبا مهدودا قلقا، فرسه تعب و فارسه أتعب منه، و في المدينة استقبله علي بن الحسين. (2) . أورد المجلسي عن السيد ابن طاووس باسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه كان علي بن الحسين (عليه السلام) اذا دخل شهر رمضان يكتب ذنوب غلمانه وفتيانه: أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا. فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم و جمعهم حوله، ثم أضهر الكتاب، و قال: «يا فلان! فعلت كذا و كذا و لم أؤدبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلي يا ابن رسول الله. و يقررهم جميعا، ثم يقوم و سطهم، و يقول: ارفعوا أصواتكم، و قولوا: يا علي بن الحسين! ان ربك قد أحصي عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا لديك حاضرا. فاعف و اصفح! يعف عنك الليلة و يصفح، فانه يقول: «و ليعفوا و ليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم» (3) . و هو ينادي بذلك علي نفسه، و يلقنهم، و ينادون معه و هو واقف بينهم يبكي و يقول: «ربنا انك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا و قد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت، فاعف عنا،

ص: 109


1- عدة الطالب: 160.
2- تاريخ الطبري: 2 / 73.
3- النور / 22: 24.

فانك أولي بذلك منا و المأمورين. الهي كرمت فأكرمني اذ كنت من سؤالك (1) ، و جدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. ثم يقبل عليهم، فيقول: «قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عني ما كان مني اليكم من سوء ملكة فاني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل». فيقول لهم: «قولوا: اللهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنا، و أعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق». فيقولون ذلك، فيقول: «اللهم آمين رب العالمين؛ اذهبوا، فقد عفوت عنكم، و أعتقت رقابكم رجاء للعفو عني و عتق رقبتي». فاذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم و تغنيهم عما في أيدي الناس. و ما من سنة الا و كان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رقبة الي أقل أو أكثر. و ما استخدم خادما فوق حول (2) . كان اذا ملك عبدا في أول السنة أو في وسط السنة و كانت ليلة الفطر أعتقهم و استبدل سواهم في الحول الثاني. (3) . و أورد المجلسي باسناده أن علي بن الحسين قرع مولي له سوطا، فدخل منزله، و خلع لباسه، و أحضر سوطا، و طلب الي المولي أن يقتص منه، فأبي المولي أن يفعل، فوهب له الضيعة التي ضربه لما رآه من فساده و تضييعه فيها. (4) .

ص: 110


1- جمع سائل.
2- أي سنة.
3- البحار: 46 / 102 - 105.
4- نفسه: 64 / 92.

كان في مجلسه يوما جماعة، و ترامي اليهم نحيب من الخارج، فخرج الامام، و عاد فجلس في مكانه هادئا، فسأله الحاضرون: أكانت مصيبة؟ قال: نعم. فغزوه، و تجبوا من صبره. قال الامام: «نحن أهل بيت نطيع الله فيما نحب، و نشكره فيما نكره». (1) . توفي طفل له، و لم يروا منه جزعا، فسألوه: كيف لا تجزع من موت ابنك؟! قال الامام: كان شيئا ننتظره، و اذ وصل لم نجزع منه (2) . و كما كتبنا كان في تلك السنوات عدة من عظماء التابعين المشهورين بالفقه و الزهد يعيشون في المدينة مثل ابن شهاب (3) ، و سعيد بن المسيب (4) ، و أبي حازم (5) . كل هؤلاء كانوا يحدثون الناس بفضل علي بن الحسين و عظمته. و كان الزهري يقول: لم أر هاشميا أفضل من علي بن الحسين. (6) . و نقلوا هذا الاعتراف عن عبدالعزيز بن حازم أيضا. (7) . - كان الامام يوما في مجلس عمر بن عبدالعزيز الذي كان في تلك السنوات حاكم المدينة، و لما قام من عنده سأل عمر الحاضرين: من أشرف الناس؟ فقالوا: أنتم. فقال: لا، أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا. من أحب الناس أن يكونوا منه،

ص: 111


1- حلية الأولياء: 2 / 128؛ المناقب: 4 / 196، كشف الغمة: 2 / 102.
2- كشف الغمة: 2 / 102 - 103.
3- محمد بن مسلم الزهري المتوفي سنة 124.
4- المتوفي سنة 94 ه.
5- من التابعين.
6- أنساب الأشراف: 2 / 146؛ نسب قريش: 80 عن يحيي بن سعيد؛ علل الشرائع: 2 / 222.
7- الارشاد: 2 / 142، حلية الأولياء: 2 / 141.

و لم يحب أن يكون من أحد (1) . هذه أحاديث من كانوا يرون فضله الظاهر، و هم محرومون معرفة عظمته المعنوية و مقام ولايته، و لذا مدحوا أظهر ما فيه، اذ لم يروه اماما، و مع ذلك نراهم خاضعين لملكاته السامية. - أعتق علي بن الحسين فتاة له، و تزوجها، و علم عبدالملك بن مروان بذلك، و رأي ذلك نقصا، فكتب اليه أن لماذا فعلت هكذا؟ فأجابه بأن الله رفع بالاسلام كل منزلة، و أكمل به كل نقص، و أكرم به كل لئيم، و قد تزوج رسول الله أمة. و اذ قرأ عبدالملك هذه الرسالة قال: ما يوجب للآخرين خفض المنزلة هو رفعة لعلي بن الحسين (2) . - و دعا مملوكه يوما مرتين، فلم يحبه، و اذا أجابه في الثالثة قال له: يا بني أما سمعت صوتي؟ قال: بلي. قال: فما لك لم تجبني؟ قال: أمنتك. قال: الحمدلله الذي جعل مملوكي يأمنني. (3) . - قيل له: مالك اذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة؟ فقال: أكره أن آخذ برسول الله ما لا أعطي مثله. (4) .

ص: 112


1- المناقب: 4 / 167.
2- العقد الفريد: 7 / 121؛ المناقب: 4 / 162؛ عيون الأخبار: 4 / 8؛ المعارف: 215.
3- الارشاد: 2 / 147؛ المناقب: 4 / 157؛ كشف الغمة: 2 / 87؛ أعلام الوري: 261 - 262.
4- كشف الغمة: 2 / 108؛ و المناقب: 4 / 161.

- و مر بمجذومين، فسلم عليهم و هم يأكلون، فقالوا له: هلم تغد معنا. فقال: أما اني لولا أني صائم لفعلت. فلما صار الي منزله أمر بطعام فصنع، ثم دعاهم فتغدوا عنده و تغدي معهم (1) . - قال له نافع بن جبير: أنت سيد هذا الناس و أفضلهم، و تذهب الي هذا العبد، (يعني زيد بن أسلم) فتجلس معه؟ فقال: انه ينبغي للعلم أن يتبع حيثما كان (2) . و في رواية المجلسي عن المناقب أنه قال: أجلس الي من في جلوسي اليه نفع لديني. (3) . و لأنه يعامل عبادالله هكذا لله و طلبا لرضاه يزيد الله عظمته و هيبته في عيون الناس و قلوبهم. - قيل له: انك من أبر الناس بأمك، و لسنا نراك تأكل معها في قصعة و هي تريد ذلك (4) . فقال: أخاف أن تسبق يدي الي ما سبقت اليه عينها. (5) . انه ليعامل خلق الله بهذا التواضع لله و استحصال رضاه، فيزيد الله حرمته و كرامته في نظر العباد. كان أعداؤه - ان كان له أعداء - يريدون أن يخفوا قدره، و ألا يعرفه الناس، لكن شهرته كانت تتسع برغم أولئك، فالشمس لا تطلي بالطين، و المسك مهما حفظوه في و عاء، فان رائحته الطيبة تأخذ بالمشام.

ص: 113


1- أصول الكافي: 2 / 123؛ الامام علي بن الحسين: 345.
2- حلية الأولياء: 3 / 137 - 138.
3- البحار: 46 / 31؛ المناقب: 4 / 161.
4- من آنية الطعام.
5- المناقب: 4 / 162.

مدح الفرزدق لعلي بن الحسين

قصة مجيئه الي المسجد الحرام و افراج الناس عن طريقه قرب الحجر الأسود معلومة لكل الملمين بالتاريخ الاسلامي. هذه القصة من الحوادث التي اتفق عليها أكثر المؤرخين و كتاب السير منذ القدم، و لو أنهم متباينون في الجزئيات، و علي الرغم من الخلاف في عدة الأبيات علي ما سأكتبه. و خلاصتها: أن هشام بن عبدالملك كان قد ذهب للحج يرافقه كبار أهل الشام. و في أحد الأيام بينما كان يؤدي مناسك الطواف أراد أن يلمس الحجر الأسود فتعذر عليه ذلك بسبب الزحام الشديد، و بينما هو علي ذلك الحال جاء علي بن الحسين عليه السلام ليلمس الحجر و عندما اقترب من الركن انفرج الناس و فسحوا له المجال ليتمكن من لمس الركن بيده، فأثار هذا المشهد استغراب الشاميين، و حملهم علي أن يسألوا هشاما: - من يكون هذا الرجل حتي يحترمه الناس كل هذا الاحترام؟ - أجاب هشام: لا أدري! - فقال الشاعر الفرزدق الذي كان في ذلك الجمع قائلا: ولكن أنا أعرفه. و أنشد أبياتا في التعريف بشخصية الامام عليه السلام و الثناء عليه. و الأبيات طبقا لما جاء في طبعة دار صادر كالتالي: 1- هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم 2- هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا النقي الطاهر العلم 3- هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا 4 - و ليس قولك: من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت و العجم

ص: 114

5- كلتا يديه غياث عم نفعهما تستوكفان و لا يعروهما عدم 6- سهل الخليقة لا تخشي بوادره يزينه اثنان حسن الخلق و الشيم 7- حمال أثقال أقوام اذا افتدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم 8- ما قال لا قط الا في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم 9- عم البرية بالاحسان فانقشعت عنها الغياهب و الاملاق و العدم 10- اذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم 11- يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم 12- بكفه خيزران ريحها عبق من كف أروع في عرنينه شمم 13- يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم 14- الله شرفه قدما و عظمه جري بذاك له في لوحه القلم 15- أي الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نعم 16- من يشكر الله يشكر أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم 17- يمني الي ذروة الدين التي قصرت عنها الأكف و عن ادراكها القدم 18- من جده دان فضل الأنبياء له و فضل أمته دانت له الأمم 19- مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه و الخيم و الشيم 20- ينشق ثوب الدجي عن نور غرته كالشمس تنجاب عن غرتها الظلم 21- من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجي و معتصم 22- مقدم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بدء و مختوم به الكلم 23- ان عد أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل: هم 24- لا يستطيع جواد بعد جودهم و لا يدانيهم قوم و ان كرموا 25- هم الغيوث اذا ما أزمة أزمت و الأسد أسد الشري و اليأس محتدم 26- لا ينقص العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك ان أثروا و ان عدموا 27- يستدفع الشر و البلوي بحبهم و يسترب به الاحسان و النعم

ص: 115

و مثلما سنكتب أورد المؤرخون منذ القرن الرابع فصاعدا هذه القصة الباعثة علي انشاد هذه القصيدة أو أبيات منها، و ما من أحد منهم أنكر أصل القصة صراحة، لكنهم ليسوا يدا واحدة في شأن الشاعر و عدة الأبيات و من قيلت فيه القصيدة أو شي ء منها. و أقدم مصدر تري فيه أبيات من هذه القصيدة هو «ديوان الحماسة» الذي هو اختيار أبي تمام حبيب بن أوس الطائي المتوفي سنة اثنتين و ثلاثين و مئتين للهجرة، و هي مسجلة بهذا الترتيب: 11، 12، 15، 13، 10، 1 و في طبعة بيروت، مطبعة قوزما، عنوان الأبيات هو: أنشد الحزين الليثي في مدح علي بن الحسين، و قالوا: الأبيات للفرزدق (1) . و في طبعة بيروت: دارالقلم، التي جعلت بشرح الخطيب التبريزي عنوان الأبيات هو: و قال الحزين الكناني. و كتب الخطيب التبريزي: و هذا الشعر يقوله الحزين في عبدالله بن عبدالملك بن مروان، و كان عبدالله من فتيان بني أمية و ظرفائهم، و كان حسن المذهب (2) . و الناس يروون هذه الأبيات للفرزدق يمدح بها علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، و هو غلط ممن رواها فيه، لأن هذا ليس مما يمدح به مثل علي بن الحسين، و له من الفضل الباهر ما ليس لأحد في وقته. (3) .

ص: 116


1- ص 212.
2- قال المؤلف: «هذه العبارة أخذت من كتابة الزبيري، أو راوي الاثنتين واحد».
3- ص 284.

و بعد الحماسة، كتبها أبوعبدالله مصعب الزبيري الذي عاش ما بين 106 و 226 للهجرة في كتابه «نسب قريش». قال عند عده أبناء عبدالملك بن مروان: و عبدالله بن عبدالملك أمه أم ولد، مدحوه بحسن الوجه و المذهب، و فيه يقول الحزين الكناني أحد بني بكر بن الدئل بن بكير: في كفه خيزران ريحها عبق من نشر أبيض في غرنينه شمم يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم (1) . و بعده كتبها أبوعثمان عمرو بن بحرالملقب الجاحظ المتوفي سنة 225 للهجرة. فقد قال في فصل عنوانه (شعر في تعظيم الأشراف) (2) : أنشد أحد الشعراء في أحد المروانيين (3) : في كفه خيزران ريحه عبق في كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم (4) . ان قال قال بما يهوي جميعهم و ان تكلم يوما ساخت الكلم كم هاتف بك من داع و هاتفة يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم و أضاف عبدالسلام هارون محقق الكتاب (5) في الحاشية: أنشد الفرزدق هذه الأبيات في هشام بن عبداللملك كما في أمالي المرتضي و زهر الآداب.

ص: 117


1- نسب قريش: 164.
2- لم يرد هذا العنوان في «البيان و التبيين».
3- الوارد في «البيان و التبيين» / ص 41، هو: في أحد الخلفاء.
4- هذان البيتان فقط وردا في الصحفة التي أشار اليها المؤلف.
5- البيان و التبيين: 3 / 41 - 42.

أو الحزين الكناني في مدح عبدالملك بن مروان، كما جاء في الحماسة. أو اللعين المنقري في مدح علي بن الحسين. أو كثير بن كثير السهمي في محمد بن علي بن الحسين (1) . أو داوود بن مسلم في حق فثم بن عباس (2) . و كتب الجاحظ في موضع آخر أيضا: «و السبب في أنهم كانوا يتخذون المخاصر في مجالسهم كما يتخذون القنا و القسي في المحافل قول الشاعر في بعض الخلفاء: في كفه خيزران ريحه عبق من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء و يغضي من جلالته فما يكلم الا حين يبتسم» (3) . و في فصل. عنوانه (ما قيل في المخاصر و العصي و غيرها) كتب أيضا أنه: «كانت العرب تخطب بالعصي و القنا. نعم حتي كانت المخاصر لا تفارق أيدي الملوك في مجالسها، و لذلك قال الشاعر: في كفه خيزران ريحه عبق بكف أروع في عرنينه شممم يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم ان قال قال بما يهوي جميعهم و ان تكلم يوما ساخت الكلم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم» (4) .

ص: 118


1- أي الامام الباقر (ع). م.
2- الحيوان: 3 / 133.
3- البيان و التبيين: 2 / 41 - 42.
4- نفسه: 1 / 270.

بعد كتابة الجاحظ رواية الزبير بن بكار المتوفي سنة 256 للهجرة، و سوف يأتي رأيه في الشاعر و ممدوحه في ذبل كتابة جلال الدين السيوطي. ابن قتيبة المتوفي سنة 270 للهجرة: ما قال أحد في الهيبة أحسن من هذا الشعر ثم جاء بالبيتين 11، 12 (1) ، و جلب ابن عبد ربه من قوله: و أبدع من هذه الأبيات ما أنشده الشاعر في الثناء علي بعض الخلفاء: يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم الا حين يبتسم (2) . كتب أبوالفرج الاصفهاني المتوفي سنة 358 ه القصة بهذا النحو: ذهب الفرزدق الي الحج سنة و عمره يقرب في هذا السفر من سبعين عاما. و كان عبدالملك بن مروان قد جاء الي الحج أيضا، و رأي علي بن الحسين بين عدد غفير من الناس، فسأل: من هذا الشاب الذي يتلألأ وجهه كمرآة صينية تستطيع بنات القبيلة رؤية وجوههن فيها؟ - قالوا: هو علي بن الحسين. و أنشد الفرزدق في مدحه. و اختلاف ما أثبته أبوالفرج و ما يشاهد في الديوان هو أنه ليس لديه الأبيات: 26، 25، 9، 8، 7، 6، 5، و ذكر في رواية أخري أنه حين رأي هشام الناس يفسحون الطريق لعلي بن الحسين سأل: من هذ؟ فقال الأبرش الكلبي الذي كان حاضرا: لا أعرفه. و قال الفرزدق: لكنني أعرفه.

ص: 119


1- الشعر و الشعراء: 9.
2- العقد الفريد: 1 / 27.

- من؟ - فأنشد الفرزدق شعره (1) . كتب الحسن بن بشر الآمدي المتوفي 384 ه في المؤتلف و المختلف (2) في ذيل ترجمة كثير بن كثير السهمي: أورد دعبل بن علي في كتابه في ترجمة محمد بن علي بن الحسين بن علي لكثير: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم اذا رأته قريش قال قائلها: الي مكارم هذا ينتهي الكرم و كاد يمسلكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم لكن هذا المؤلف أثبت في ترجمة الحزين الكناني البيتين: في كفه خيزران ريحه عبق في كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم الا حين يبتسم مع بيتين آخرين لهذا الشاعر في مدح عبدالله بن عبدالملك بن مروان. (3) . أبواسحاق الحصيري القيرواني المتوفي سنة 413 ه كتب أن هشام بن عبدالملك أو أخاه الوليد ذهب للحج، و عند طوافه بالبيت أراد أن يستلم الحجر الأسود، لكنه لم يستطع من كثرة الناس، فنصبوا له منبرا جلس عليه. و في هذه الأثناء مر علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و عليه رداء و ازار و هو أحسن الناس وجها، و أطيبهم ريحا، و أعمقهم خشوعا، و بين ناظريه أثر السجود

ص: 120


1- الأغاني: 21 / 276 - 277.
2- المؤتلف و المختلف: 169، ط القدسي بالقاهرة 1254 ه.
3- المؤتلف و المختلف: 89 - 88.

ظاهرا، و لما أراد أن يستلم الحجر الأسود انفرج الناس لهيبته و اجلالا له، فغضب هشام، و سأله رجل شامي: من هذا الذي هابه الناس و أعظموه؟ قال هشام (لئلا يعلم الشاميون عظمته): لا أعرف. فأنشد الفرزدق الذي كان حاضرا الأبيات التي دونها الحصيري في كتابه، و هي تسعة و عشرون بيتا. ثم كتب: «يقولون: و فد الحزين الكناني علي عبدالله بن عبدالملك بن مروان الذي كان أمير مصر، و أنشده: لما وقفت عليه في الجموع ضحي و قد تعرضت الحجاب والظلم حييته بسلام و هو مرتفق و ضجة القوم عند الباب تزدحم في كفة خيزران ريحه عبق في كف أروع في عرنينة شمم يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم الا حين يبتسم و قالوا: ان هذا البيت لداوود بن سلم في مدح قثم بن عباس. و قالوا: في علي بن الحسين و القائل هو الشنفري (1) اللعين، و قيل له اللعين، لأنه كان ينشد الشعر و الناس يصلون، فسأل عمر: من هذا اللعين؟ (2) . الشيخ المفيد المتوفي 413 لم يتكلم في علة انشاد هذه القصيدة و مجيي ء هشام الي المسجد، لكنه قال: حج علي بن الحسين، فعجبوا لجماله و عظمته، فسألوا: من هذا؟ و كان الفرزدق هناك، فأنشد هذه القصيدة. و الأبيات التي ذكرها الشيخ هي: 10، 16، 15، 11، 12، 2، 1 مع اختلاف طفيف في الكلمات. (3) .

ص: 121


1- كذا، و الصحيح المنقري.
2- زهر الآداب: 1 / 59 - 62.
3- الارشاد: 2 / 150.

أبونعيم الاصفهاني المتوفي سنة 430 ه أورد الأبيات علي هذا النحو: 11، 4، 3، 23، 10، 14، 1، 2 و أثبت علة انشاده علي ما ذكره أبواسحاق القيرواني (1) . السيد المرتضي المتوفي سنة 436 ه جعل علة انشاد الأبيات مثل ما قاله الشيخ المفيد، ثم ذكر الأبيات علي هذا النحو: 16، 15، 11، 13، 10، 1، 2 مع اختلاف قليل في الكلمات. و في رواية أخري كتب قصة هشام، و أضاف في النهاية أن أبيات الفرزدق أكثر من هذا الذي كتبناه، لكنني لم آت بها، لأنها معروفة (2) . كتب محمد بن الفتال النيسابوري المقتول سنة 508 ه أنه لما أراد هشام أن يستلم الحجر الأسود، و عجز نصبوا له منبرا أحاط به أهل الشام. في هذه الأثناء ظهر علي بن الحسين و عليه ازار ورداء و هو أجمل الناس و أطيبهم، و في جبينه أثر السجود، و عند الحجر انفرج له الناس، فغضب هشام، و حينئذ سأله رجل شامي: من هذا؟ و لئلا يميل الشاميون اليه قام هشام: لا أعرفه. فقال الفرزدق: أنا أعرفه. سأل هشام: من هو؟ فأنشد الفرزدق الأبيات. (3) . و ما جاء به ابن الفتال في روضة الواعظين هو أبيات القصيدة ما عدا الرابع، و أضاف عوضا منه هذه الأبيات الثلاثة:

ص: 122


1- حلية الأولياء: 3 / 139.
2- أمالي المرتضي: 1 / 67 - 69.
3- ما كتبه ابن الفتال من شرح لعلة الانشاد مشابه لما جاء في زهر الآداب.

هذا علي رسول الله والده أمست بنور هداه تهتدي الظلم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أديب حين يعتزم يأبي لهم أن يحل الذم ساحتهم خيم كريم و أيد بالندي هضم (1) . وعد ابن شهراشوب المتوفي سنة 588 للهجرة القصيدة واحدا و أربعين (2) و هذا تمامها: يا سائلي أين حل الجود و الكرم عندي بيان اذا طلابه قدموا هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عبادالله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا الذي أحمد المختار والده صلي عليه الهي ما جري القلم لو يعلم الركن من جاء يلثمه لخر يلثم منه ما و طئ القدم هذا علي رسول الله والده أمست بنور هداه تهتدي الأمم هذا الذي عمه الطيار جعفر و ال مقتول حمزة ليث حبه قسم هذا ابن سيدة النسوان فاطمة و ابن الوصي الذي في سيفه نقم اذا رأته قريش قال قائلها: الي مكارم هذا ينتهي الكرم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم و ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت و العجم ينمي الي ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الاسلام و العجم يغضي حياء و يغضي من مهابته فما يكلم الا حين يبتسم ينجاب نور الدجي عن نور غرته كالشمس ينجاب عن اشراقها الظلم بكفه خيزران ريحه عبق من كف أروع عن عرنينه شمم

ص: 123


1- روضة الفتال: 201 - 200.
2- المناقب 4 / 169 - 172.

ما قال «لا» قط الا في تشهده لو لا التشهد كانت لاءه نعم مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصره و الخيم و الشيم حمال أثقال أقوام اذا قدحوا حلوا الشمائل تحلو عنده نعم ان قال قال بما يهوي جميعهم و ان تكلم يوما زانه الكلم هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا الله فضله قدما و شرفه جري بذاك له في لوحه القلم من جده دان فضل الأنبياء له و فضل أمته دانت له الأمم عم البرية بالاحسان و انقشعت عنها العماية و الاملاق و الظلم كلتا يديه غياث عم نفعهما تستوكفان و لا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشي بوادره يزينه خصلتان «الحلم» و «الكرم» لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته رحب الفناء أريب حين يعتزم من معشر حبهم دين و بعضهم كفر و قربهم منجي و معتصم يستدفع السوء و البلوي بحبهم و يستزاد به الاحسان و النعم مقدم بعد ذكر الله ذكرهم في كل فرض و مختوم به الكلم ان عد أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم و لا يدانيهم قوم و ان كرموا هم الغيوث اذا ما أزمة أزمت و الأسد أسد الشري و البأس محتدم يأبي لهم أن يل الذم ساحتهم خيم كريم و أيد بالندي هضم لا يقبض العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك ان أثروا و ان عدموا أي القبائل ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم بيوتهم في قريش يستضاء بها في النائبات و عند الحلم ان حلموا فجده من قريش في أزمتها «محمد» و «علي» بعده علم

ص: 124

بدر له شاهد و الشعب من أحد و الخندقان و يوم الفتح قد علموا و «خيبر» و «حنين» يشهدان له و في «قريظة» يوم صيلم قتم مواطن قد علت في كل نائبة علي الصحابة لم أكتم كما كتموا كتب ابن الجوزي المتوفي سنة 597 للهجرة عن طريق ابن عائشة قصة حج هشام و عدم حصوله علي الطريق الي الحجر الأسود و مجي ء علي بن الحسين باختصار شديد. و ما أثبته من الأبيات هو ما يشاهد في حليلة الأولياء. (1) . و أورد علي بن عيسي الاربلي المتوفي سنة 693 للهجرة القصيدة في عشرين بيتا باختلاف يسير في الأبيات. (2) . غير أنه كتب في فصل فتحه لحياة الامام الحسين بن علي عليهماالسلام أن الفرزدق الشاعر لقي الحسين في منزل الشقوق (3) فسأله عليه السلام: من أين مجيؤك يا أبافراس؟ - من الكوفة. - كيف رأيت أهل الكوفة؟ - قلوبهم معك، و سيوفهم عليك، قل الديانون، ينزل القضاء من السماء و ما يريد الله يكون. ثم ودعه، و سار الي مكة. و سأله ابن عمه من مجاشع: أبافراس، أهذا الحسين بن علي؟ - نعم الحسين بن علي، و ابن فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفي. هو و الله ابن خير الناس، و أفضل من يمشي علي الأرض. و كنت قلت في مدحه أبياتا غير ناظر فيها لعطاء، و انما أردت بها رضا الله و الجنة

ص: 125


1- صفة الصفوة: 2 / 57.
2- كشف الغمة: 2 / 92 - 93.
3- اسم هذا المنزل علي ما كتبنا في الشعر المنسوب للفرزدق هو «الصفاح».

و اذا أردت أن تسمعها، فبامكانك. - قل: حتي نسمع. - قلت فيه و في أمه و أبيه وجده: هذا حسين رسول الله والده أمست بنور هداه تهتدي الأمم هذا ابن فاطمة الزهراء عترتها في جنة الخلد مجريا به القلم بيوتهم في قريش يستضاء بها في النائبات و عند الحكم ان حكموا فجده في قريش في أرومتها محمد، و علي بعده علم و خيبر و حنين يشهدان له و في قريظة يوم صيلم قتم مواطن قد علت أقدارها و نمت آثارها لم تملها العرب و العجم و لا تصم القصيدة الأبيات: 26، 25، 22، 18، 16، 15، 14، 9، 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2، و يتبين من الأبيات المضافة في الآخر أن عددها في زمان الاربلي كان أكثر مما ذكر، و يمكن أن تكون الأبيات التي لم يذكرها هي هذه الأبيات. (1) . كتب اليافعي المتوفي سنة 768 للهجرة: ذكروا للفرزدق مكرمة تكون له أمل رحمة في الآخرة، و هي أنه لما حج هشام بن عبدالملك زمان والده سعي لا ستلام الحجرالأسود، فما استطاع لشدة الزحام، فنصبوا له منبرا قعد عليه، و راح ينظر الي الناس، و كان معه عدد من كبراء الشام. في هذه الأثناء أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين - وجهه أحسن الوجوه، و ريحه أطيب الرياح. بل أقول: أطهر الناس و أشرفهم حسبا و نسبا، و أصلا و فرعا. فلما بلغ الطواف، و وصل الحجر الأسود انفرج الناس له ليستلمه، فقال رجل من الشام: من هذا الذي يكرمه الناس هكذا؟

ص: 126


1- كشف الغمة: 2 / 43 - 44.

فقال هشام من خوفه أن يرغب فيه الشاميون: لا أعرف. فقال الفرزدق الذي كان حاضرا: أنا أعرفه. سأل الشامي: من هو يا أبافراس؟ قال الفرزدق الأبيات. و الأبيات التي سجلها اليافعي هي تلك الأبيات التي تشاهد في ديوان الفرزدق، ما عدا الأبيات: 27، 26، 18، 15، و بازاء ذلك أضاف هذين البيتين: لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أريب حين يعتزم يأبي لهم يحل الذم ساحتهم خيم كريم و أيد بالندي هضم و لما سمع هشام هذه القصيدة غضب، و حبس الفرزدق، فبعث اليه زين العابدن اثني عشر ألف درهم، فأعادها الفرزدق، و قال: مدحته لله. فقال زين العابدين: نحن أهل بيت لا نأخذ ما و هبنا. فقبل الفرزدق الهدية (1) . سجل ابن خلكان المتوفي سنة 806 أو 808 القصيدة ضمن ترجمة الفرزدق، و عدد الأبيات في كتابه (وفيات الأعيان) سبعة و عشرون بيتا، لكنها مخالفة لترتيبها في ديوان الفرزدق تقدما و تأخرا. و البيتان 18 و 27 لا يشاهدان، و حل محلهما بيتان آخران. (2) . ترجم نورالدين عبدالرحمن الجامي (898 - 817 ه) قصيدة الفرزدق في الدفتر الأول من سلسلة الذهب. و ترجمة مطابقة للأبيات: 25، 23، 21، 11، 10، 3، 1. و ذكر ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة 974 ه أن سبب انشاد القصيدة هو سؤال هشام، و أثبت الأبيات: 24، 21، 4، 3، 10، 2، 1، و كتب أن القصيدة مشهورة. ذكر جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911 ه قصة حج هشام علي ما هي

ص: 127


1- مرآة الجنان: 1 / 229 - 241، ط الأعلمي، بيروت.
2- وفيات الأعيان: 5 / 145 - 146.

مشهورة عن طريق ابن عساكر المتوفي سنة 571 عن ابن عائشة، و أثبت ثلاثة و عشرين بيتا منها باسم الفرزدق في شرح شواهد المغني ذيل البيت: «يغني حياء و يغضي من مهابته...» (1) . لكنه كتب في ذيلها عن الزبير بن بكار المتوفي سنة 256 ه عن كتاب الموقفيات ذهب ابن عبدالملك بن مروان الي الحج، و قاله له أبوه: سوف يجيؤك الحزين الشاعر في المدينة، و لسانه لاذع، فاحذر أن تستخفي عنه، و سره. جاء هشام الي المدينة، و ذهب اليه الفرزدق، و اذ رأي جماله و في يده خيزران، فوقف صامتا. و أمهله عبدالله ليستريح، ثم قال: السلام رحمك الله. قال: عليكم السلام، أري محيا الأمير - أصلحك الله - و قد قلت في مدحك شعرا، لكني اذ دخلت عليك، و رأيت جمالك نسيت ما كنت قلته فاسألني عن بيتين قلتهما. - أي بيتين؟ فأنشد الحزين: في كفه خيزران ريحها عبق من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم الا حين يبتسم (2) . علي طبق ما كتب بقطع النظر عن عدد الأبيات في مصادر القرن الثالث الي القرن العاشر عدوا الشعراء و الممدوحين علي هذا النحو: الفرزدق (3) في مدح علي بن الحسين عليهماالسلام. الفرزدق في مدح الحسين بن علي عليهماالسلام.

ص: 128


1- شرح شواهد المغني: 2 / 732.
2- نفسه: 2 / 734؛ الأخبار الموفقيات: 634.
3- همام بن غالب، المتوفي سنة 110، علي ما في معجم الأدباء.

الحزين الكناني (1) في مدح عبدالملك بن مروان. اللعين المنقري (2) في مدح علي بن الحسين عليه السلام. كثير بن كثير السهمي في مدح محمد بن علي بن الحسين. داوود بن سلم (3) في مدح قثم بن عباس. الحزين الكناني في مدح عبدالله بن عبدالملك. الاختلاف في عدد الأبيات مثل الاختلاف في القائلين و الممدوحين. و عدوا الأبيات ما بين بيتين (4) و واحد و أربعين (5) بيتا علي ما رأينا. ممكن أن يوجد في المصادر المتأخرة عدد أكثر مما ذكرنا. هل الفرزدق أنشد كل هذه الأبيات؟ و اذا كانت هذه الأبيات كلها له، فهل قال هذه القصيدة الطويلة في جوار الحجرالأسود خطابا لهشام بن عبدالملك أو خطابا للناس الذين كانوا يريدون أن يعرفوا علي بن الحسين، أو أنشد أبياتا منها، ثم أنشدها كاملة؟ هل محبو أهل البيت صنعوا أبياتا و أضافوها الي أبيات الفرزدق طوال التاريخ من نصف القرن الأولي الي نصف القرن السادس الهجري الثاني، عصر صاحب المناقب؟ ألم يكن للشعراء الآخرين شعر علي هذا الوزن و القافية؟ أما نسبها جمعة الشعر و كتاب التذاكر للفرزدق؟

ص: 129


1- أبوالحكم سليمان الديلمي، المتوفي حدود سنة 90 للهجرة.
2- منازل بن ربيعة.
3- مولي بني تميم بن مرة، من شعراء العصر الأموي، توفي حدود سنة 120 ه علي ما في معجم الأدباء.
4- البيان و التبيين: 3 / 41 - 42.
5- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 169 - 172.

ماذا يجب اذا أردنا أن نزن هذا الموضوع بالنقد العلمي، و لا نكون كمن ينكرون كل ما كتب في فضل أهل البيت، و لا نكون أيضا مثل المرحوم السيد عبدالرزاق الموسوي المقرم (1) مرددين نسبة الأبيات للفرزدق؟ الخلاصة هي أنه اذا لم نرد أن نكون مقلدين تقليدا تاما من نسبة كل الأبيات أو بعضها الي الفرزدق، أو في رؤيتها كلها له، و انما نريد أن نحكم بدليل مطمئن، ألدينا برهان مقنع أم لا؟ الحق أن الحكم الصحيحي غير القابل للجرح في هذا لشأن عويص جدا بعد أكثر من ثلاثةعشر قرنا. من اليوم الذي أنشدت فيه هذه الأبيات أو عدة منها في الأقل الي اليوم الذي نسب فيه كل الواحد و الأربعين بيتا الي الفرزدق في مدح الامام علي بن الحسين عليه السلام مضي ست مئة عام. في حالة عدم وجود الداعي لقلب الحقيقة فان مرور نصف قرن علي نقل القصة من الممكن أن يؤثر فيها، فكيف بهذه السنين الطوال؟ من الواضح أننا لا نصل الي ما نريد بتحري المصادر و تتبع سلسلة السند و الرويات. و نحن مضطرون للاستعانة بالقرائن الخارجية: زمان المدح و مكانه، و القرائن المقامية: نفسية الشاعر و أخلاقه. و الأهم هم أسلوب الشعر: المبني و المعني، فانه يستطيع أن يهدينا. لننظر أولا الي الأحوال الزمانية و المكانية: علي ما رأينا مكان انشاد هذه القصيدة هو المسجد الحرام، و زمانه مجي ء هشام و متعلقيه الي المسجد للطواف و مجي ء الامام السجاد وحده.

ص: 130


1- مؤلف كتاب الامام زين العابدين.

و قيل: ان سببها سعي هشام الي اخفاء مقام الامام علي بن الحسين الشامخ علي أهل الشام. سأل هشام (أو آخر): من هذا الذي أعظمه الحاضرون في المسجد؟ فأنشد الفرزدق: «هذا الذي تعرف...» جوابا عن ذلك. في مثل هذا الموقع أراد الشاعر أن يعرف رجلا من آل الرسول ناسا لا يعرفونه، أو يعرفونه و يتظاهرون أنهم لا يعرفونه. السؤال جلي و المجيب معروف، الزمان قصير، و المكان محدود، و الأبيات: 25، 23، 21، 13، 3، 2، 1 في غاية البلاغة و مناسبة للمقام. جمع الشاعر ما يجب أن يقوله في قالب العبارة بأجمل معني و أكمل مبني في هذه الأبيات السبعة. فلا الزمان يسع أكثر منها، و لا البلاغة تسمح بالاطالة. و الأبيات التي أنشدها الفرزدق في ذاك المجمع كانت هي هذه العدة باحتمال قوي. و لأن ما قاله انبعث من القلب و استقر في القلب، جري هذا الشعر علي الألسنة، و أنشد الشعراء الآخرون - بحسب التقليد - في ممدوحيهم أبياتا علي هذا الوزن و القافية، و بمرور الزمان نسبت هذه الأبيات للفرزدق. قلنا: هذا من رسم الشعراء، و أذكر جيدا أن محمد مهدي الجواهري شاعر العراق المعروف أنشد قصيدته في تكريم أبي العلاء المعري: «قف بالمعرة و امسح خدها التربا». فحظي بمدح الحاضرين و منهم الدكتور طه حسين. و بقي شعراء العرق مدة يبدؤون قصائدهم بكلمة «قف»، و أحد شعراء النجف أنشد قصيدة في رثاء المرحوم آية الله الحاج حسين الطباطبائي القمي مطلعها: «قف بالشريعة أبن شيخها العلما» قصدي هي أنه اذا الحق بهذه القصيدة أبيات لشعراء آخرين في ممدوحيهم، فذاك تقليد للفرزدق. طبعا يمكن القول: ان الفرزدق أنشد في ذاك الجمع أبياتا، ثم أضاف اليها أبياتا

ص: 131

أخري، و بلغت القصيدة سبعة و عشرين بيتا علي ما يشاهد في ديوانه، أو واحدا و أربعين بيتا علي ما في المناقب و البحار. لكن التدقيق في مضمون الأبيات و تحري الأسلوب يحملاننا علي الشك في نسبة كل الأبيات للفرزدق. و خلاصة ما يبعث علي التردد هو: 1- كانت الحادثة التي هي منشأ الانشاد - علي ما رأينا - هي أنهم سألوا هشاما: من هذا الرجل الذي يعظمه الناس هكذا؟ فقال: لا أعرف. السائل الناس، و المجيب هشام. فأراد الفرزدق أن يريهما أن عدم معرفته لا يضير الامام، فبدأ الحديث. و بالالتفات لهذه القرينة نستطيع القول: مطلع القصيدة الذي يشاهد في المناقب و البحار هو: يا سائلي أين حل الجود و الكرم عندي بيان اذا طلابه قدموا و هو ليس للفرزدق. ما أنشده عند الحجرالأسود، و لا أضافه لقوله فيما بعد. لماذا؟ لأنه لم يسأله أحد عن الجود و الكرم: أين حلا؟ هذا البيت صنع بعد، و وضع مطلعا لقصيدة الفرزدق، حتي لا تكون علي ظنهم بلا مطلع، في حال بلبلت اضافة هذا البيت معني القصيدة، فهو يقول بعده: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم سؤال عن الجود، و جواب عن معرفة. 2- ينشد الشاعر بيتا بهذه الروعة من صلابة اللفظ و رقة المعني: عم البرية بالاحسان فانقشعت عنها الغياهب و الاملاق و العدم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان و لا يعروهما عدم (1) .

ص: 132


1- البيتان: 9، 5.

كيف يضع بيتا بهذه الركاكة مطلعا لكلامه، و هو فضلا عن ركة اللفظ ليس جوابا عن السؤال الأصلي؟ أنظروا الي البيت العاشر مرة أخري: اذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم يريد هنا كبراء قريش و أعيانها، و هؤلاء - علي ما نعلم - لا تربطهم ببني هاشم آصرة طيبة، فهم لم يقبلوا الاسلام قلبا، فكيف يشار الي انتهاء المكارم الي علي بن الحسين في حكومة عبدالملك و انتصار آل مروان؟ مهما كان انتهاء الكرم الي علي بن الحسين عليه السلام حقا، فان قريشا لن تجيي ء بهذا الحق علي لسانها. الظاهر أن أحد المتملقين أنشد هذا البيت في مدح واحد من آل مروان، ثم أضافوه لهذه القصيدة. 3- البيت الثاني عشر جدير بالتأمل: «أخذ الخيزران باليد، و عبق الريح» من خصائص الجبارين، يعني الخلفاء الأمويين، ثم العباسيين الذين يقلدون ملوك البلدان المجاورة في هذا العمل. أين الامام السجاد الذي «شثنت» يداه من طول السجود، و لقب «ذاالثفنات» من الخيزران المعطر بالمسك حتي لا يدعه عن يده؟ و كلمة الخطيب التبريزي فيه: «مقام أعبد أهل الزمان و أفضلهم أسمي من أن يمدح بمثل هذا البيت». 4- أسلوب القصيدة من ناحية ضعة و رفعة المعني جدير بالنظر فيه، فشاعر يمدح بهذا النحو: يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

ص: 133

كيف ينشد بعد عدة أبيات بيتا ركيكا معيبا، ينقض قوله: لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخر يلثم منه ما وطي ء العدم 5- شاعر في هذا البيت: هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم يعرف ممدوحه بأنه ابن خير الوري لا يحتاج بعد أن يعرفه بعمه و يقول: هذا الذي عمه الطيار جعفر و المقتول حمزة... بعض الأبيات التي في المناقب و البحار، و لا تري في الديوان هي أضعف لفظا و معني مما في الديوان. و منها مناسب لما أورده علي بن عيسي الاربلي في ذيل سيرة الامام الحسين بن علي عليه السلام. نقل مؤلف كشف الغمة عن الفرزدق مهم و جاذب جدا، لكن المصادر التقدمة عليه لا تؤيده. هل يمكن القول: كان للفرزدق قصيدة علي هذا الوزن و القافية في مدح سيد الشهداء عليه السلام، ثم أنشد عدة أبيات في مدح علي بن الحسين في المسجد الحرام جوابا لهشام علي ذلكما الوزن و القافية، ثم التأمت تلك القطعة و القصيدة بمرور الزمان؟ و اذ أدي الفرزدق بانشاد هذه الأبيات في فضل علي بن الحسين قليلا من دينه، و خفف شيئا مما في عاتقه من ذنوبه الثقال، فديوان هذا الشاعر، فديوانه مشحون بمدح معاوية و عبدالملك بن مروان و ابنه الوليد و يزيد بن عبدالملك و عمالهم مثل الحجاج بن يوسف، و لا سيما هشام و ابنه اللذان له في مدحهما أكثر من عشر قصائد. تظهر كتابة اليافعي بليغة جدا و هي أنهم نسبوا للفرزدق مكرمة تكون له أمل رحمة في الآخرة اذا صدقت. و مسلم علي كل حال أنه اذا شك محقق في نسبة بعض هذه الأبيات الي الفرزدق علي

ص: 134

أساس الشواهد التاريخية و القرائن اللفظية و المقامية، فلن يكون محولا للحق عن مركزه و لا منكرا فضيلة من فضائل الامام السجاد. و مدهش عد المتأخرين الفرزدق في كتبهم شاعرا مادحا لأهل البيت (1) أو شاعر الامام علي بن الحسين (2) . معاصر و الامام مثل الزهري و سعيد بن المسيب و أبي حازم الذين كان كل منهم من فقهاء عصره أو زهاده مدحوه بعبارات فصيحة بليغة، أو الأحسن أن نقول: قالوا الحق فيه، فلا مجال بعد للفرزدق مداح عبدالملك و الحجاج و أعداء آل الرسول الآخرين.

ص: 135


1- مقدمة ديوان الفرزدق لكرم البستاني: ط دار صادر، بيروت.
2- في رحاب أئمة أهل البيت: 3 / 190.

حلم علي بن الحسين

«و اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» (1) . هكذا هم المؤمنون، و هذا هو أدب القرآن، و أمر الرسول؛ و أسرته ورثت عنه «و انك لعلي خلق عظيم» (2) . - مر يوما بقوم يسوءونه بكلامهم، فقال لهم: ان تقولوا حقا يعف الله عني، و ان تكذبوا يعف الله عنكم (3) . - و رآه رجل يوما خارج داره، فشتمه، فقصده غلمانه، فقال علي بن الحسين: دعوه، فان ما خفي عليه منا أكثر مما قال. - ألك حاجة؟ - فخجل الرجل، فأعطاه ثوبه، و أمر له بألف درهم. - فانصرف الرجل صارخا: أشهد أنك ابن رسول الله (4) . سئل الزهري: لقيت علي بن الحسين؟ - قال: نعم! لقيته، و ما لقيت أحدا أفضل منه، و الله ما علمت له صديقا في السر، و لا عدوا في العلانية.

ص: 136


1- القلم / 5: 68.
2- الفرقان / 62: 25.
3- المناقب: 4 / 158.
4- كشف الغمة: 2 / 81؛ صفة الصفوة: 2 / 56.

- فقيل له: و كيف ذلك؟ - قال: لأني لم أر أحدا و ان كان يحبه، الا و هو لشدة معرفته بفضله يحسده، و لا رأيت أحدا و ان كان يبغضه، الا و هو لشدة مداراته له يداريه (1) . - كان هشام بن اسماعيل و الي المدينة لعبد الملك، و ظلم أهل المدينة كثيرا، فلما عزل أمر أن يوقف للناس ليقول له كل من أراد ما أراد. فكان هشام يقول: ما أخشي الا علي بن الحسين! و هشام من قبيلة بني محزوم، و هذه القبيلة عدو لبني هاشم من قديم الزمان، و كان هذا الرجل مدة حكومته علي المدينة قد آذي علي بن الحسين كثيرا، و قال لآل الرسول سوءا. و يوم عزله قال[ الامام ]لخاصته: معاذ الله أن تقولوا لهشام كلاما مرا. و اذ مر هو به سلم عليه، فقال هشام: «الله أعلم حيث يجعل رسالته». (2) . - سبه رجل يوما، فتغافل عنه، و لم ينظر اليه، فقال له الرجل: اياك أعني. فقال: و عنك أعرض. (3) . - وقف عليه رجل من أهل بيته، فأسمعه و شتمه، فلم يكلمه. فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، و أنا أحب أن تبلغوا معي اليه، حتي تسمعوا مني ردي عليه. فقالوا: نفعل، و لقد كنا نحب أن نقول له و نقول. فأخذ نعليه، و مشي و هو يقول: «و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب

ص: 137


1- علل الشرائع: 230.
2- الأنعام / 124: 6. تاريخ اليعقوبي: 3 / 28؛ الطبقات: 5 / 162؛ المناقب 4 / 163؛ كشف الغمة: 2 / 100؛ الطبري 8 / 1184.
3- المناقب: 1 / 157؛ كشف الغمة: 1 / 101؛ الصواعق المحرقة: 201.

المحسنين». (1) . فعلم مرافقو الامام أنه لن يقول شيئا. فخرج الرجل متوثبا للشر و هو لا يشك أنه انما جاءه مكافيا له علي بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين: يا أخي انك كنت قد وقفت علي آنفا، و قلت و قلت. فان كنت قد قلت ما في فأنا أستغفر الله منه. و ان كنت قلت ما ليس في، فغفر الله لك. فقبل الرجل ما بين عينيه، و قال: بل قلت فيك ما ليس فيك، و أنا أحق به. (2) . قال راوي الحديث: كان ذلك الرجل الحسن بن الحسن، و كان يقول: ما رأيت غضبا أهنأ من غضب يكون معه صبر، و ما أعدله بحمر النعم. (3) . - كان رجل ضحكة يأخذ من الناس شيئا باضحاكهم، قال لجماعة: أعجزني علي بن الحسين لا أستطيع أن أضحكه مهما أفعل، و يجب أن أضحكه. و كان الامام يسير مع اثنين من فتيانه يوما، فتقدم الضحكة، و اختطف رداء الامام عن كتفه، فوقف الامام مكانه و لم يرفع بصره عن الأرض، فجري الفتيان و أخذا الرداء، و أعاداه، فقال الامام من كان هذا الرجل؟ قالا: رجل يضحك الناس، و يأخذ منهم شيئا. قال: قولوا له: لله يوم يندم فيه الساخرون. (4) . - استدان من أحد مواليه، فطلب الرجل رهنا، فاقتطع علي بن الحسين قطعة من ردائه و أعطاه اياه، و قال له: هذه رهنك.

ص: 138


1- آل عمران / 134: 3.
2- الارشاد: 3 / 146؛ اعلام الوري: 261؛ المناقب: 4 / 157؛ صفة الصفوة: 2 / 54.
3- البحار: 46 / 74.
4- نفسه: 46 / 68.

فقطب الرجل وجهه، فقال علي بن الحسين: أنا عند كلامي أم حاجب بن زرارة؟ - قال الرجل: أنت. - قال الامام: كيف يعطي كافر مثل حاجب بن زرارة (1) قوسه و هو قطعة من خشب رهنا، و يفي بوعده، و أنا لا أفي بوعدي؟ فقبل الرجل، و أعطي الامام القرض؛ و بعد مدة انفتح للامام في رزقه، فأعاد القرض الذي بذمته الي الرجل و قال: هذا دينك، أعطني رهني. - فقال الرجل: فدي لك أضعته. - قال الامام: في هذه الحال لا حق لك علي، أتري ذمة مثلي هينة؟ - أخرج الرجل تلك القطعة من حقه، و أعطاها الامام، فأخذها علي بن الحسين و أعطي الرجل ماله. (2) .

ص: 139


1- قصة قوس حاجب بن زرارة و رهنها لدي أنوشروان كسري الفرس صارت مثلا لدي العرب، و خلاصتها أن أنوشروان منع بني تميم بن الدخول الي مراعي العراق خوفا من الافساد فيها، فضمن حاجب قومه بأن جعل قوسه رهنا لدي كسري. لمزيد من المعلومات يرجع الي ترجمة حاجب في كتب التذكرة و المعاجم.
2- المناقب: 4 / 131.

عبادته

«و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما» (1) . تبعت عترة النبي سيدها و هاديها في ايلاء العبادة اهتماما خاصا بها. أمر القرآن نبي الاسلام أن يقوم الليل، ليبعثه الله مقاما محمودا. (2) . و أقبل هو علي العبادة، حتي أن القرآن يواسيه بالآية: «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي» (3) . و بعده سار أئمة الدين في حفظ سيرة جدهم، و مضت بينهم، و كان لعلي بن أبي طالب و علي بن الحسين عليه السلام امتياز خاص في كثرة العبادة، حتي أن الأخير لقب سيد الساجدين، و زين العابدين، و ذاالثفتات. أمضي أكثر ليالي عمره بالصلاة و طاعة الله، نقل ابن شهراشوب باسناده الي طاووس الفقيه: رأيته عند العشاء الي السحر يطوف و يعبد، و اذ رأي أطرافه خالية نظر الي السماء و قال: الهي غارت نجوم سماواتك، و هجعت عيون أنامك، و أبوابك مفتحات للسائلين. جئتك لتغفر لي و ترحمني و تريني وجه جدي محمد صلي الله عليه و آله و سلم في عرصات القيامة. ثم بكي و قال: و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، و ما عصيتك اذ عصيتك و أنا بك شاك و لا بنكالك جاهل، و لا لعقوبتك متعرض، ولكن سولت لي نفسي، و أعانني

ص: 140


1- الفرقان / 64:25.
2- الاسراء / 79: 17.
3- طه 20: 2 - 1.

علي ذلك سترك المرخي علي. فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ و بحبل من أعتصم ان قطعت حبلك عني؟ فواسوأتاه غدا من الوقوف بين يديك اذا قيل للمخفين جوزوا، و للمثقلين حطوا! أمع المخففين أجوز، أم مع المثقلين أحط؟ و يلي كلما طال عمري كثرت خطاياي و لم أتب. أما آن لي أن أستحي من ربي؟ ثم بكي ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المني فأين رجائي ثم أين محبتي أتيت بأعمال قباح ردية و ما في الوري خلق جني كجنايتي ثم بكي، و قال: سبحانك تعصي كأنك لا تري، و تحلم كأنك لم تعصي. تتودد الي خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة اليهم، و أنت يا سيدي الغني عنهم. ثم خر الي الأرض ساجدا، فدنوت منه، و شلت رأسه، و وضعته علي ركبتي، و بكيت حتي جرت دموعي علي خده، فاستوي جالسا، و قال: من ذا الذي شغلني عن ذكر ربي؟ فقلت: أنا طاووس، يا ابن رسول الله. ما هذا الجزع و الفزع؟ نحن يلزمنا أن نفعل مثله و نحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن علي، و أمك فاطمة الزهراء، و جدك رسول الله. فالتفت الي، و قال: هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي و أمي و جدي. خلق الله الجنة لمن أطاعه و أحسن، و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لم عصاه، و لو كان قرشيا. أما سمعت قوله - تعالي-: «فاذا نفخ في الصور، فلا أنساب بينهم يومئذ و لا

ص: 141

يتساءلون». (1) . و الله لا ينفعك غدا، الا تقدمة تقدمها من عمل صالح. (2) . - و روي المفيد عن عبدالله بن محمد القرشي، قال: «كان علي بن الحسين - عليهماالسلام - اذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يغشاك؟ فيقول: أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه» (3) . - و كان يقضي ما فاته من صلاة نافلة النهار في الليل، و يقول: يا بني ليس هذا عليكم بواجب، ولكن لمن عود منكم نفسه عادة من الخير أن يدوم عليها». (4) . - كان الزهري يقول: «ينادي مناد في القيامة: ليقم سيد العابدين في زمانه، فيقوم علي بن الحسين (ع)» (5) . - قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان. قال: هل رأيت علي بن الحسين؟. قال: لا. قال: لو رأيته لقلت: ما رأيت أحدا أورع منه». (6) . - «و كان الزهري اذا ذكر علي بن الحسين يبكي، و يقول: زين العابدين». (7) .

ص: 142


1- المؤمنون / 101:23.
2- المناقب: 4 / 151 - 152.
3- الارشاد: 2 / 142 - 143.
4- كشف الغمة: 2 / 286؛ و البحار: 46 / 61، 73 - 74؛ و مختصر تاريخ دمشق: 17 / 236؛ و الحلية: 3 / 133.
5- كشف الغمة: 2 / 318.
6- حلية الأولياء: 3 / 141.
7- الحلية: 2 / 125؛ و كشف الغمة: 2 / 288.

- و كان يوما ساجدا في داره، فوقع فيها حريق، فقالوا له: يا ابن رسول الله النار النار. فما رفع رأسه، حتي أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ «قال: ألهتني عنها النار الكبري» (1) . - و سقط له ابن في بئر فتفرغ أهل المدينة، لذلك حتي أخرجوه، و كان قائما يصلي، فما زال عن محرابه، و اذ فرغ من صلاته قيل له في ذلك، فقال: «ما شعرت، اني كنت أناجي ربا عظيما (2) . و كتب اليعقوبي أن المشهور أنهم سألوا الامام الباقر: لم لم يكن لأبيك كثير أبناء. فقال: أنا أعجب كيف ولدت، و أبي يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة. (3) . - و سئلت مولاة له أن تصفه، فقالت: «ما أتيته بطعام نهارا قط، و لا فرشت له فراشا بليل قط». (4) . - نقل المفيد عن طاووس قوله: رأيت علي بن الحسين - عليهماالسلام - ساجدان في الحجر، فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول؛ فأصغيت اليه، فسمعته يقول: «عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» فوالله ما دعوت بهن في كرب الا كشف عني. (5) .

ص: 143


1- مناقب آل أبي طالب: 4 / 150؛ و الكشف: 287 - 286 و آخره «نار الآخر».
2- الكشف: 2 / 318 - 319.
3- 2 / 219 - 220؛ العقد الفريد: 3 / 103 و 5 / 125.
4- البحار: 46 / 67.
5- المناقب: 4 / 148؛ و الارشاد: 2 / 143 - 144؛ و الكشف: 2 / 292.

- قال الأصمعي: «كنت أطوف حول الكعبة ليلة، فاذا شاب ظريف الشمائل، و عليه ذؤابتان، و هو متعلق بأستار الكعبة، و يقول: «نامت العيون، و علت النجوم، و أنت الملك الحي القيوم، غلقت الملوك أبوابها، و أقامت عليها حراسها، و بابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر الي برحمتك يا أرحم الراحمين؛ ثم أنشأ يقول: يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر و البلوي مع السقم قد نام و فدك حول البيت فاطبة و أنت وحدك يا قيوم لم تنم أدعوك ربي دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت و الحرم ان كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود علي العاصين بالنعم فاقتفيته، فاذا هو زين العابدين». (1) . و لقد دخل أبوجعفر - عليهماالسلام - عليه، فاذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر، و رمصت عيناه من البكاء، و دبرت جبهته، و انخرم أنفه من السجود، و ورمت ساقاه، و قدماه من الوقوف في الصلاة. فقال أبوجعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، و اذا هو يفكر فالتفت الي بعد هنيهة من دخولي، فقال: «يا بني أعطني تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام»، فأعطيته: فقرأ فيها شيئا يسيرا، ثم تركها من يده تضجرا، و قال: «من يقوي علي عبادة علي عليه السلام (2) . و ذهب اليه جابر بن عبدالله الأنصاري يوما، و قال له: «يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالي انما خلق الجنة لكم و لمن أحبكم، و خلق النار لمن أبغضكم و عاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟

ص: 144


1- المناقب: 4 / 150 - 151.
2- الارشاد: / 142؛ و الكشف: 2 / 297.

فقال له علي بن الحسين - عليهماالسلام -: «يا صاحب رسول الله أما علمت أن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، و تعبد - بأبي هو و أمي - حتي أنتفخ الساق، و ورم القدم، و قيل له: أتفعل هذا و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» فلما نظر جابر الي علي بن الحسين عليه السلام و ليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد و التعب الي القصد، قال له: يا ابن رسول الله البقيا علي نفسك، فانك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء، و تستكشف اللأواء، و بهم تستمطر السماء. فقال: «يا جابر! لا أزال علي منهاج أبوي مؤتسيا بهما صلوات الله عليهما - حتي ألقاهما». (1) . - روي علي بن عيسي الاربلي عن يوسف بن أسباط عن أبيه، قال: دخلت مسجد الكوفة، فاذا شاب يناجي ربه و هو يقول في سجوده: «سجد وجهي متعفرا في التراب لخالقي و حق له». فقمت اليه، فاذا هو علي بن الحسين، فلما انفجر الفجر، نهضت اليه، فقلت له: يا ابن رسول الله، تعذب نفسك و قد فضلك الله بما فضلك؟ فبكي، ثم قال: «حدثني عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: كل عين باكية يوم القيامة الا أربعة أعين: عين بكت من خشية الله، و عين فقئت في سبيل الله، و عين غضت من محارم الله، و عين باتت ساهرة ساجدة يباهي بها الله الملائكة، و يقول: انظرو الي عبدي روحي عندي، و جسمه في طاعتي، قد جافي بدنه عن المضاجع يدعوني خوفا من عذابي، و طمعا في رحمتي» (2) . و كتب الاربلي في ذيل هذا الحديث: «قلت أورده الحافظ في مسجد الكوفة،

ص: 145


1- أمالي الطوسي: 2 / 250 - 251.
2- الكشف: 2 / 311 - 312؛ و البحار: 46 / 100.

و علي بن الحسين فيما أظنه لم يصل الي العراق الا مع أبيه عليه السلام حين قتل. و لما وصل هو الي الكوفة لم يكن باختياره، و لامتصرفا في نفسه، فيمشي الي الجامع، و يصلي فيه». (1) . في كتب الدعاء و منها فرحة الغري تأليف السيد طاووس و مصباح المتهجد للشيخ الطوسي أدعية و زيارات رويت عن الامام السجاد عن طريق أبي حمزة الثمالي أشهر هذه الأدعية الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الذي تستحب قراءته في أسحار شهر رمضان. أبوحمزة من التابعين و الزاهدين المقيمين في الكوفة، لكن علي ما كتب مؤلف كشف الغمة (2) لا يظن الامام علي بن الحسين آتيا الكوفة بعد سنة احدي و ستين و مقيما فيها. في روضة الكافي حديث نقل عن طريق أبي حمزة هو أن أول معرفتي بالامام علي بن الحسين كانت عندما رأيت رجلا خرج من باب الفيل - أحد أبواب مسجد الكوفة - و صلي أربع ركعات، و تبعته حتي بئر الركوة عند دار صالح بن علي، و هناك بعير معقول و غلام أسود، فسألت: من هذا؟ - علي بن الحسين. اقتربت منه: و حييته، و سألت: لم جئت الي مدينة قتل فيها أبوك و جدك؟ - زرت أبي، وصليت في هذا المسجد، و أنا الآن عازم الي المدينة. و الظاهر أن هذا الحديث هو ذاك الذي نقل في مفاتيح الجنان في سند الزيارة المطلقة لأميرالمؤمنين عليه السلام بتفصيل أكثر مما في فرحة الغري.

ص: 146


1- الكشف: 2 / 312.
2- 2 / 100.

و في فرحة الغري أول الباب الرابع عشر رواية عن طريق جابر الجعفي عن الامام محمد الباقر عليه السلام: ذهب أبي علي بن الحسين الي المجاز في ناحية الكوفة لزيارة قبر أميرالمؤمنين. و هناك وقف و بكي و قال: السلام عليك يا أمين الله في أرضه. و في عقب هذه الرواية نقل السيد عن مزار ابن قره أن الامام الباقر قال: نصب أبي علي بن الحسين بيت شعر في البادية بعد شهادة أبيه، و من هناك كان يذهب الي العراق لزيارة أبيه وجده، و لا أحد يعلم، و كنت معه في أحد أسفاره. (1) . و هذا الرواية هي سند زيارة أمين الله، و هي من الزيارات المعروفة. اذا لم نتردد في نسبة الروضة الي الكليني، اذا رأينا روايات السيد[ ابن طاووس ]صحيحة من ناحية السند يجب أن نفرض مجي ء الامام علي بن الحسين عليه السلام الي الكوفة بين سنة 67 و 74 التي هي سنوات حكم الحارث بن ربيعة و بشر بن مروان و عبدالله بن خالد علي هذه المدينة و هي دورة اضطراب حكومات العراق و عدم تسلط دمشق الكامل علي الولايات، لأن: 1- الامام علي بن الحسين عاش في المدينة مذ عاد من الشام الي انقضاء حكم يزيد. كان شاهد الحرة علي ما رأينا، و كان ملجأ لأسر من أهل المدينة. 2- الكوفة بعد هلاك يزيد غدت مسرحا للشغب و الثورة من 64 الي 67، و أن الامام كان في المدينة في هذه المدة لأن المختار - كما كتبنا - كتب بعد تسلطه علي الكوفة الي الامام، و استجازه أن يدعو الناس اليه. 3- في حكومة الحجاج الكوفة عشرين عاما من سنة 95 - 75 لم يأت الامام علي بن الحسين هذه المدينة، لأن عداوة الحجاج له و لأسرته ظاهرة من ناحية، و لأن مراقبته علي المدينة و السياسة العسكرية دقيقة (2) .

ص: 147


1- من رسالة الشيخ التستري.
2- تاريخ تحليلي اسلام (بالفارسية): 182 و ما بعدها.

فغير ممكن أن يجي ء علي بن الحسين، و يستخفي عن جواسيس الحجاج، و لو رأوه لسلموه اليه. و احتمال مجيئه الي الكوفة في ما بين سنة 74 - 67 فقط ميسر. لكن الفرض الأحسن و الأدق هو أن نقول: نال أبوحمزة في أسفاره المتكرره الي المدينة شرف ملاقاة الامام، و تعلم أدعية و أحاديث عنه فيها، و العلم عند الله.

ص: 148

ابداء الصدقات و اخفاؤها

«ان تبدوا الصدقات فنعما هي و ان تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم» (1) . و كد القرآن الكريم اكرام الفقراء مرارا، و علم المسلمين أن يكون هذا الاكرام لله، و ألايمنوا علي المتصدق عليهم، فالمنة عليهم و ايذاؤهم يبطلان الصدقة (2) . في ظلال الآية المذكورة عنوانا لهذا الفصل روي علي بن عيسي بن ابن عائشة قوله: سمعت أهل المدينة يقولون: فقدنا صدقة السر حين توفي علي بن الحسين. (3) . روي المفيد عن ابن اسحاق أنه كان في المدينة أسر يأتيه معاشها، و لا تعلم من أين، فلما مضي علي بن الحسين الي جوار ربه انقطعت المساعدة عنهم (4) . كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز علي ظهره بالليل، فيتصدق به، و يقول: «ان صدقة السر تطفي ء غضب الرب - عزوجل -». و أثر حمل الجراب في ظهره آثارا رأوها عند تغسيله و هو ذاهب الي جوار ربه. (5) .

ص: 149


1- البقرة / 271:2.
2- البقرة / 264:2.
3- كشف الغمة: 101، 2 / 78؛ المناقب: 4 / 152؛ صفة الصفوة: 2 / 54.
4- الارشاد: 2 / 148، و انظر: كشف الغمة: 2 / 77، 92؛ المناقب: 4 / 152؛ الخصال: 616؛ اعلام الوري: 262.
5- حلية الأولياء: 2 / 126؛ كشف الغمة: 2 / 77؛ المناقب: 4 / 154؛ صفة الصفوة: 2 / 154؛ الخصال: 616؛ علل الشرائع: 221؛ البحار: 90.

كتب ابن سعد أنه كان عندما يأتيه فقير ينهض اليه، و يقضي حاجته، و كان يقول: «الصدقة تصلي الي يد الله قبل أن تصلي الي يد الطالب». (1) . و أراد الحج سنة، فاتخذت له أخته سكينة بنت الحسين سفرة أنفقت عليها ألف درهم، و أرسلت بها اليه، فأمربها، ففرقت في الفقراء و المساكين (2) . و كان له ابن عم فقير كان يذهب اليه ليلا، لئلا يعرفه، و يعطيه دنانير، فقال له الرجل: علي بن الحسين لايرعي قريبا جزاه الله. و كان الامام يسمع هذا الكلام، و يصبر و يتحمل، و ما كان يعرفه نفسه. و اذ مصي للقاء ربه انقطع ذلك الاحسان عن ذلك الرجل، و عرف أن ذلك المحسن كان علي بن الحسين، فذهب الي مزاره و بكي. (3) . كتب أبونعيم: قسم ماله في الفقراء مرتين، و قال: ان الله - تعالي - يحب المؤمن المذنب التائب (4) . و كتب أن الناس كانوا يحسبونه بخيلا، و لما مات عرفوا أنه كان يعيل مئة أهل بيت (5) . و كان اذا جاءه سائل يقول: «مرحبا بمن يحمل زادي الي الآخرة». (6) . و عاد محمد بن أسامة و هو علي فراش الموت، فبكي، فسأله الامام: لم تبكي؟ قال: علي ألف دينار دين لا أستطيع دفعها.

ص: 150


1- الطبقات: 5 / 160.
2- كشف الغمة: 2 / 78؛ صفة الصفوة: 2 / 54.
3- كشف الغمة: 2 / 107؛ حلية الأولياء: 2 / 140.
4- الكتاب نفسه: 126؛ الطبري: القسم 2 / 248؛ الطبقات: 2 / 162.
5- صفة الصفوة: 2 / 54؛ حلية الأولياء: 2 / 126؛ الطبقات: 5 / 164.
6- صفة الصفوة: 2 / 54؛ حلية الألياء: 2 / 136؛ الطبقات: 5 / 164.

قال: لا تبك! فدينك علي، و لن يكون في ذمتك منه شي ء. (1) . و كان يوما صائما، و ذبح كبشا، و وقف علي القدر عصرا، و قال: هذا الاناء لدار فلان، و هذا الدار فلان، و هذا الدار فلان (2) . ثم أفطر هو علي خبز و تمر. (3) . روي سفيان بن عيينة عن الزهري أنه رأي علي بن الحسين في ليلة باردة مطيرة و علي ظهره دقيق و حطب و هو يمشي، فقال له: يا ابن رسول الله، ما هذا؟ قال: أريد سفرا أعد له زادا أحمله الي موضع حريز. قال: فهذا غلامي يحمله عنك. فأبي. قال: فأنا أحمله عنك، فاني أرفعك عن حمله. قال: لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، و يحسن و رودي علي من أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك و تركتني. فلما كان بعد أيام قال له: يا ابن رسول الله! لست أري لذلك السفر الذي ذكرته أثرا. قال: يا زهري، ليس هو كما ظننت، ولكنه الموت، و له أستعد. انما الاستعداد للموت تجنب الحرام، و بذل الندي في الخير. (4) .

ص: 151


1- الارشاد: 2 / 149؛ كشف الغمة: 2 / 81، 87؛ المناقب: 4 / 162؛ حلية الأولياء: 2 / 141؛ صغة الصفوة: 2 / 56.
2- أي ملأ تلك الآنية بالطعام و أمر بها لتوزع. م.
3- البحار: 46 / 137.
4- علل الشرائع: 231؛ المناقب: 4 / 153.

كظم الغيظ

«و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين» (1) . كان كظم الغيظ عن المذنبين و الشفقة علي العاجزين من خصال رسول الله المعروفة، حتي ان القرآن الكريم أشاد بطبعه الحسن بقوله: «و انك لعلي خلق عظيم» (2) و كل أبنائه الذين هم أئمة هذه الأمة متمتعون بهذه السجية، و علي بن الحسين عليهماالسلام هو الوجه المشرق لهذه الصفة الانسانية العالية. - كانت خادمه يوما تصب الماء علي يده، فسقط الابريق من يدها علي يده، و جرحه فقالت: «و الكاظمين الغيظ». قال: كظمت غيظي. قالت: «و العافين عن الناس». قال: عفوت عنك. قالت: «و الله يحب المحسنين». قال: أنت حرة لوجه الله. (3) . - و كان عنده قوم أضياف، فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور، فأقبل الخادم به مسرعا، فسقط السفود منه علي رأس بني لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه،

ص: 152


1- آل عمران / 124:3.
2- القلم / 4:68.
3- الارشاد: 2 / 146 - 147؛ كشف الغمة: 2 / 87؛ المناقب: 4 / 157؛ اعلام الوري: 262.

فقتله، فقال علي بن الحسين للغلام و قد تحير و اضطرب: أنت حر فانك لم تعتمده. و أخذ في جهاز ابنه و دفنه. (1) . - و كان له مولي يتولي ضيعة له، فأصاب فيها فسادا و تضييعا كثيرا، فغاظه ما رأي من ذلك و غمه، فقرع المولي بسوط كان في يده، فندم علي ذلك. فلما انصرف الي منزله طلب المولي، فجاء فوجده عاريا و السوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته، فاشتد خوفه، فقال له علي بن الحسين: «قد كان مني اليك ما لم يتقدم مني مثله، و كانت هفوة و زلة، فهاك السوط، و اقتص مني». فقال: يا مولاي، و الله ظننت أنك تريد عقوبتي و أنا مستحق للعقوبة فكيف أقتص منك؟ قال: ويحك، اقتص. قال: معاذ الله، أنت في حل وسعة. فكرر عليه ذلك مرارا و المولي يتعاظم قوله و يجلله. فلما رءاه لا يقتص، قال له: أما اذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك. (2) . - قال الامام الباقر: أرسل أبي يوما غلاما في عمل، فعاد متأخرا، فضربه أبي سوطا، فبكي الغرام، و قال: خف الله يا علي بن الحسين، تبعثني في عمل، ثم تضربني؟! فبكي أبي، و قال: يا بني اذهب الي قبر رسول الله، و صل عنده ركعتين، و قل يا الهي اغفر ذنب علي بن الحسين. ثم قال للغلام: أنت حر لوجه الله. (3) . و لم يكن رحيما بالناس فقط، بل بالحيوان أيضا.

ص: 153


1- صفة الصفوة: 2 / 56؛ كشف الغمة: 2 / 81.
2- المناقب: 4 / 158.
3- البحار: 46 / 92.

كان له ناقة يحج عليها، و ما ضربها في أثناء الطريق. (1) . كتب الكليني أنه حج علي تلك الناقة اثنتين و عشرين حجة، و لم يؤذها قط. (2) . روي المجلسي عن ابراهيم عن علي بن أبيه أنه قال: حججت مع علي بن الحسينن فتخلفت ناقته في عرض الطريق يوما، فرفع العصا، ليضربها، ثم قال: آه لو ما كان القصاص. (3) .

ص: 154


1- حلية الأولياء: 3 / 133؛ الطبقات: 5 / 160.
2- أصول الكافي: 1 / 467، المناقب: 4 / 155.
3- البحار: 46؛ المناقب: 4 / 155.

الاعراض عن اللغو

«و الذين هم عن اللغو معرضون» (1) . يقول الحسن بن الحسن: قالت لي أمي فاطمة بنت الحسين بن علي أن أجلس مع خالي علي بن الحسين، فلم يكن لي معه مجلس ما دون فائدة تصلني، فاما استقر خوف الله في قلبي لخوفه من الله، و اما انتفعت بعلمه. (2) . يقول محمد بن حاطب: و فد عليه نفر من أهل العراق، و ذكروا بعض الصحابة بسوء و عند انتهاء كلامهم قال الامام: أخبروني أمن المهاجرين الأولين الذين أعرضوا عن ديارهم و أموالهم حبا لله و نصرة لرسوله و دينه أنتم؟ - لا - أمن الذين يقول فيهم الله: «و الذين تبوؤوا الدار و الايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتواه و يؤثرون علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة»؟ (3) . - لا. - فما دمتم لستم من الفريقين، و لا من الذين قال الله فيهم: «و الذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لاخواننان الذين سبقونا بالايمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين

ص: 155


1- المؤمنون / 3:23.
2- الارشاد: 2 / 141؛ كشف الغمة: 2 / 84.
3- الارشاد: 2 / 141؛ كشف الغمة: 2 / 84.

آمنوا» (1) ، فاخرجوا عني جزاكم الله (2) .

ص: 156


1- الحشر / 10:59.
2- كشف الغمة: 2 / 78؛ صفة الصفوة: 2 / 55؛ حلية الأولياء: 2 / 127.

رفع الله الذين أوتوا العلم درجات

«يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات» (1) . مع أن العلم كان في أسرته، و ورثه عن آبائه كان يذهب الي من عندهم علم، و يجالسهم، و يعظمهم، حتي قال له نافع بن جبير يوما: أنت سيد الناس و أفضلهم فلم تقعد عند هذا العبد (زيد بن أسلم)؟ - انه ينبغي للعلم أن يتبع حيثما كان. (2) . يقول الشيخ المفيد: روي فقهاء العامة عن علمه قصصا و روايات لا تحصي. يقول الشافعي في رسالة اثبات خبر الواحد: كان علي بن الحسين الذي هو أفقه أهل المدينة يعمل بخبر الواحد. و نقلوا عنه مواعظ و أدعية مشهورة بين العلماء (3) ، و كان له مقام الامامة الشامخ. نشأ في أسرة الوحي و الرسالة، و ورث العلم من خزانة الرب، و البلاغة من جده حيدر الكرار. نظرة الي الصحيفة السجادية، و تأمل لمضمون فقرات الدعاء المعروف ب دعاء أبي حمزة تجعل كل متتبع غير محتاج لمزيد بحث. كان رأيه الثاقب حلال عقد العاجزين في المسائل الفقهية.

ص: 157


1- المجادلة / 11: 58.
2- كشف الغمة: 2 / 79؛ الطبقات: 5 / 160؛ حلية الأولياء: 3 / 138؛ صفة الصفوة: 2 / 57.
3- شرح نهج البلاغة: 15 / 274.

يقول الزهري: بعدما أمضيت مدة عند عبدالملك بن مروان قصدت المدينة، و كان لي غلام، و مال و فير كنت وضعته في كيس، فضاع ذلك الكيس، فاتهمت الغلام، فرجوت الوعيد و التهديد، و أخفت الغلام دوي جدوي، فطرحته أرضا، و جثوت علي صدره، و وضعت مرفقي في صدره و ضغطته، و لم أكن أريد قتله، لكنه مات من أثر الضغط. فخفت، لأني حين و صلت المدينة سألت سعيد بن المسيب و أباعبدالرحمن و عروة بن الزبير و القاسم بن محمد و سالم بن عبدالله (1) عما يجب علي فعله؟ فقالوا كلهم: لا تقبل توبتك. و اذ بلغ الخبر علي بن الحسين قال: «آتوني به». فذهبت اليه، و أخبرته بقصتي، فقال: «ذنبك له توبة: صم شهرين متتاليين، و أعتق رقبة مؤمنة، و أطعم ستين فقيرا» (2) . و في رواية ابن سعد قال: ابعث بديته الي أوليائه (3) . يقول ابن أبي حازم: رأيت سليمان بن يسار مع علي بن الحسين قاعدين بين قبر النبي و منبره يتذاكران، و لما أرادا أن ينهضا قرأ عبدالله بن أبي سلمة سورة، و بعد السورة دعوا. و كان عدة مثل جابر بن عبدالله، و عامر بن واثلة، و سعيد بن المسيب، من الصحابة، و سعيد بن جبير، و أبي خالد الكابلي، و القاسم بن عون من التابعين تلاميذه. (4) .

ص: 158


1- العقد الفريد: 5 / 127 - 128.
2- الطبقات: 5 / 158؛ المناقب: 4 / 159.
3- الطبقات: 5 / 160.
4- في رحاب أئمة أهل البيت: 3 / 213.

وصاياه و كلماته الخالدة

«ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة» (1) . بقي من الامام علي بن الحسين حديث قصير سوي الصحيفة السجادية المشهورة و رسالة الحقوق التي ستكتب. و هذا الحديث مثل حديث الأئمة الآخر بليغ و فائض المعني و معلم، و أكثره في الموضوعات الأخلاقية و التربوية. و كتابة كل ذلك ليست لازمة في هذا المختصر، و في هذا الفصل جئنا بعدة أحاديث من أهم المصادر: - «لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة و جملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم. و لوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة الي كل حال سوي حالهم. علي أن درك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة و الفكرة القصيرة المدة. ولكنهم من بين مغمور بالجهل و مفتون بالعجب و مدول بالهوي عن باب التثبت و مصروف بسوء العادة عن فضل التعلم» (2) . - «من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا» (3) .

ص: 159


1- ابراهيم / 24:14.
2- البيان و التبيين: 1 / 84.
3- تحف العقول: 218.

- «ان أحبكم الي الله أحسنكم عملا، و ان أعظمكم عندالله عملا أعظمكم فيما عندالله رغبة، و ان أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية، و ان أقربكم من الله أوسعكم خلقا، و ان أرضاكم عندالله أسبغكم علي عياله، و ان أكرمكم علي الله أتقاكم». (1) . - «يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال، فان أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم، و الحلم أعز ناصرا و أكثر عددا» (2) . يا بني اصبر علي النائبة، و لا تتعرض الحقوق، و لا تجب أخاك الي الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له (3) . - عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أو صاني أبي، فقال: يا بني لا تصحبن خمسة، و لا تحادثهم، و لا ترافقهم في طريق. فقلت: جعلت فداك يا أبت من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبن فاسقا، فانه يبيعك بأكلة، فما دونها. فقلت: يا أبت، فما دونها؟ قال: يطمع فيها، ثم لا ينالها. قلت: يا أبت من الثاني؟ قال: لا تصحبن كذابا، فانه بمنزلة السراب يبعد منك القريب، و يقرب منك البعيد. فقلت: و من الثالث؟ قال: البخيل فانه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت اليه. فقلت: و من الرابع؟ قال: لا تصبحن أحمق، فانه يريد أن ينفعك فيضرك.

ص: 160


1- ن. م: 319.
2- شرح نهج البلاغه: 16 / 108.
3- البيان و التبين: 2 / 76؛ و العقد الفريد: 2 / 88؛ و حلية الأولياء: 3 / 88.

قلت: يا أبت من الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع الرحم، فاني وجدته ملعونا في كتاب الله. (1) . - ان المنافق ينهي و لا ينتهي، و يأمر و لا يأتي، اذا قام الي الصلاة اعترض، و اذا ركع ربض، و اذا سجد نقر. يمسي و همه العشاء و لم يصم، و يصبح و همه النوم و لم يسهر و المؤمن خلط عمله بحلمه، يجلس ليعلم، و ينصب ليسلم. لا يحدث بالأمانة الأصدقاء، و لا يكتم الشهادة للبعداء و لا يعمل شيئا من الحق رياء، و لايتركه حياء. اذا زكي خاف مما يقولون، و يستغفر الله لما لا يعلمون. و لا يضره جهل من جهله (2) . - من قنع بما قسم الله له، فهو من أغني الناس (3) . - رأي يوما سائلا كان يبكي، فقال: لو أن الدنيا كانت في كف هذا، ثم سقطت منه ما كان ينبغي أن يبكي (4) . - و قيل له: من أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم ير الدنيا خطرا لنفسه (5) .

ص: 161


1- صفة لصفوة: 2 / 57؛ و الكشف: 2 / 81 - 82؛ و أمالي الطوسي: 2 / 226؛ و التحف: 319.
2- التحف: 321 - 320.
3- الكشف: 2 / 102؛ و حلية الأولياء: 3 / 135؛ و التحف: 318.
4- الكشف: 2 / 106.
5- عيون أخبار الرضا: 2 / 33؛ و التحف: 318؛ و شرح نهج البلاغة: 6 / 233.

- اذا كان يوم القيامة نادي مناد: ليقم أهل الفضل. فيقوم ناس من الناس، فيقال: انطلقوا الي الجنة. فتلقاهم الملائكة، فيقولون: الي أين؟ فيقولون: الي الجنة. - قبل الحساب؟ - نعم. - من أنتم؟ - أهل الفضل. - و ما من فضلكم؟ - كنا اذا جهل علينا حلمنا، و اذا ظلمنا صبرنا، و اذا أسي ء علينا غفرنا. قالوا: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم يقول مناد ينادي: ليقم أهل الصبر. فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا الي الجنة. فتلقاهم الملائكة، فيقال لهم مثل ذلك. فيقولون: نحن أهل الصبر. قالوا: و ما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا علي طاعة الله، و صبرناها عن معصية الله - عزوجل. قالوا: ادخلوا، فنعم أجر العاملين (1) .

ص: 162


1- حلية الأولياء: 2 / 129 - 140؛ و كشف الغمة: 2 / 102.

- من كتم علما أو أخذ عليه صفدا، فلا نفعه أبدا (1) . - ان الجسد اذا لم يمرض أشر، و لا خير في جسد يأشر (2) . - و قال لابنه محمد عليهماالسلام: افعل الخير الي كل من طلبه منك، فان كان أهله، فقد أصبت موضعه، و ان لم يكن بأهله، كنت أنت أهله. و ان شتمك رجل عن يمينك، ثم تحول الي بسارك، و اعتذر اليك، فاقبل عذره (3) . - مجالس الصالحين داعية الي الصلاح، و آداب العلماء زيادة في العقل. وطاعة ولاة الأمر تمام العزة، و استنماء المال تمام العروة، و ارشاد المستشير قضاء لحق النعمة. و كف الأذي من كمال العقل، و فيه راحة للبدن عاجلا و آجلا (4) . - فقد الأحبة غربة (5) . - و قال لرجل: «اياك و الغيبة، فانها ادام الكلاب» (6) .

ص: 163


1- كشف الغمة: 2 / 102؛ و حلية الأولياء: 2 / 140.
2- كشف الغمة: 2 / 102؛ و حلية الأولياء: 2 / 124.
3- تحف العقول: 324.
4- نفسه: 224.
5- كشف الغمة: 2 / 102، و حلية الأولياء: 2 / 124، و صفة الصفوة: 2 / 52.
6- كشف الغمة: 2 / 108، و شرح نهج البلاغة: 9 / 22.

- هلك من ليس له حكيم يرشده، و ذل من ليس له سفيه يعضده (1) . - الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين (2) . - قال: التارك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كنابذ كتاب الله و راء ظهره، الا أن يتقي تقاة. قيل: و ما تقاته؟ قال: يخاف جبارا عنيدا أن يفرط عليه، أو أن يطغي (3) . - عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرته، و لا يحتمي من الذنب لمعرته (4) . - انما التوبة العمل و الرجوع عن الأمر، و ليست التوبة بالكلام (5) . - اياك و الابتهاج بالذنب، فان الابتهاج به أعظم من ركوبه (6) . - ان قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، و آخرين عبدوه رغبة، فتلك عبادة التجار، و ان قوما عبدوا الله شكرا، فتلك عبادة الأحرار (7) .

ص: 164


1- كشف الغمة: 2 / 112.
2- عيون الأخبار: 2 / 112.
3- طبقات ابن سعد: 5 / 148، و حلية الأولياء: 2 / 140.
4- كشف الأسرار: 2 / 107.
5- كشف الغمة: 2 / 101.
6- نفسه 108 2.
7- كشف الغمة: 2 / 75؛ و حلية الأولياء: 2 / 124؛ و صفة الصفوة: 2 / 52.

- يا بني ان الله لم يرضك لي، فأوصاك بي، و رضيني لك، فحذرني منك (1) . - ان خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودة الي التفريط، و خير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير الي العقوق له (2) . - اللهم اني أعوذ بك أن تحسن في مرأي العيون علانيتي، و تقبح في خفيات القلوب سريرتي. اللهم كما أسأت و أحسنت الي، فاذا عدت فعد علي، و ارزقني مواساة من قترت عليه بما وسعت علي (3) . - اللهم من أنا حتي تغضب علي؟! فوعزتك ما يزين ملكك احساني، و لا تقبحه اساءتي، و لا ينقص من خزائنك غنائي و لا يزيد فيها فقري (4) . - نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة و المحبة له عبادة؟ (5) .

ص: 165


1- العقد الفريد: 2 / 89؛ و تحف العقول: 218.
2- العقد الفريد: 2 / 89.
3- كشف الغمة: 2 / 75؛ و العقد: 2 / 100؛ و الحلية: 2 / 124؛ و الصفة: 2 / 102.
4- كشف الغمة: 2 / 102.
5- تحف العقول: 222.

- ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله، و أظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، و آمنه من فزع اليوم الأكبر: من أعطي الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه. و رجل لم يقدم يدا و لا رجلا حتي يعلم أنه في طاعة الله قدمها، أو في معصيته. و رجل لم يعب أخاه بعيب حتي يترك ذلك العيب من نفسه، و كفي بالمرء شغلا بعيبه عن عيوب الناس. (1) . - عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة، و هو غدا جيفة! و عجبت كل العجب لمن شك في الله و هو يري خلقه! و عجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأخري و هو يري النشأة الأولي! و عجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء، و ترك العمل لدار البقاء. (2) . و قال له رجل: اني لأحبك في الله حبا شديدا. فنكس رأسه، ثم قال: اللهم اني أعوذ بك أن أحب فيك و أنت لي مبغض. ثم قال: أحبك للذي تحبني فيه (3) . - ثلاث منجيات للمؤمن: كف لسانه عن الناس و اغتيابهم، و شغله نفسه بما ينفعه لآخرته و دنياه، و طول البكاء علي خطيئته (4) .

ص: 166


1- تحف العقول: 323.
2- كشف الغمة: 2 / 67؛ و انظر صفة الصفوة: 2 / 52.
3- تحف العقول: 222.
4- نفسه 222.

- قيل له يوما: «ان الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، و انما العجب ممن نجا كيف نجا!» فقال: أنا أقول: ليس العجب ممن نجا، و انما العجب ممن هلك مع سعة رحمة الله (1) . - لا يقول الرجل في رجل من الخير ما لا يعلم، الا أو شك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم (2) . - من ضحك ضحكة مج من عقله مجة (3) . - لما سمع توجه مسلم بن عقبة الي المدينة دعا هذا الدعاء: «رب كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك عندها شكري! و كم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري فيا من قل عند نعمته شكري، فلم يحرمني، و يا من قل عند بلائة صبري فلم يخذلني. يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا، و يا ذا النعماء التي لا تحصي عددا، صل علي محمد و آل محمد، و ادفع عني شره، فاني أدرأ بك في نحره، و أستعيذ بك من شره» (4) . (فقدم ذلك المسرف المدينة، و كان يقال: «انه لا يريد غير علي بن الحسين»، فسلم منه، و أكرمه، و حباه و وصله) (5) . - و قال له رجل: «ما أشد بغض قريش لأبيك!» فقال: «لأنه أورد أولهم النار، و ألزم آخرهم العار (6) .

ص: 167


1- اعلام الوري: 261؛ و أمالي المرتضي: 1 / 162.
2- عيون الأخبار: 1 / 275.
3- كشف الغمة: 2 / 102؛ و حلية الأولياء: 2 / 124.
4- كشف الغمة 2 / 89.
5- زيادة من المترجم جاء بها من «الارشاد: 2 / 152» اتماما للخبر.
6- كشف الغمة: 2 / 107.

رسالة الحقوق

الرسالة التي تدعي بهذا الاسم هي أحد الآثار المنسوبة للامام السجاد علي بن الحسين عليهماالسلام و أقدم المصادر التي ورد فيها اسم هذه الرسالة علي ما تتبعته هو: 1- تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة الحراني المتوفي سنة 381 ه 2- الخصال لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفي سنة 382 ه 3- من لا يحضره الفقيه للمؤلف السابق أيضا. بعد هذه المصادر الثلاثة كتابة أحمد بن علي بن أحمد النجاشي الأسدي الكوفي المتوفي سنة 450 ه أورد مؤلف تحف العقول هذه الرسالة دون سند. أما الصدوق في الخصال، فقد ذكر سنده علي هذا النحو: علي بن أحمد بن موسي، عن محمد بن علي بن عبدالله الكوفي، عن جعفر بن مالك الفرازي، عن خيران بن داهر، عن أحمد بن علي سليمان الجبلي عن أبيه، عن محمد بن علي، عن محمد بن فضيل، عن أبي حمزة الثمالي (1) . و في من لا يحضره الفقيه حديث مرسل. و كتب: اسماعيل بن فضل، عن ثابت بن دينار، عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب - عليهم السلام (2) .

ص: 168


1- الخصال: 2 / 674.
2- ن. م: 2 / 376.

في من لا يحضره الفقيه تبدأ الرسالة بعبارة (و حق الله الأكبر عليك)، و ليس فيها المقدمة التي وردت فيها الحقوق مجملة. و تلك المقدمة في تحف العقول. و بين الرسالة و ما في الخصال اختلاف كبير، اذ يشاهد بسط كثير في العبارة، و كلمات مبهمة في مواضع غامضة أو غير مفهومة علتها تصرف الناسخين. و عدد الحقوق التي ذكرت في كلا الموردين باجمال و تفصيل هو في تحف العقول خمسون حقا. و في الخصال و من لا يحضره الفقيه عدد الحقوق واحد و خمسون حقا، و يشاهد حق باسم الحج بين الصلاة و الصوم، لكن لا ذكر للحق في مقدمة الخصال التي عدت فيها الحقوق باجمال. علي كل حال لأن الصدوق كتب رواية الرسالة مسندة في الخصال، و لأن قدم العبارة واضح فيها أيضا اخترت نص الخصال للترجمة (1) و لله العلم. رسالة الحقوق طبعت مرارا منفردة أيضا، و كتبوا عليها شروحا و تعليقات من جملتها: 1- رسالة الحقوق لجامعها المرحوم السيد سبط الحسن اللكنهوي مع تعليقات. النسحة المخطوطة معدة للطبع. هذه الرسالة رأيتها عند المؤلف قبل خمسة و ثلاثين عاما تقريبا. 2- رسالة الحقوق لجامعها عبدالهادي مختار التي طبعت بمقدمة المؤلف ضمن سلسلة كتاب الشهر رقم 6 من قبل عبد الأمير السبيتي مؤسس هذه السلسة في الكاظمية مع مقدمة للسيد صادق الصدر. 3- رسالة الحقوق: تأليف الفاضل الجليل المحامي توفيق الفكيكي المقيم في النجف

ص: 169


1- هذا بالنسبة لأصل الكتاب الفارسي. م.

الأشرف، و كان مشغولا بتأليفها عند زيارتي للنجف. 4- فقرات من هذه الرسالة طبعت و نشرت في طهران سنة 1362 ه ضمن رسالة للدكتور صاحب الزماني. 5- الترجمة الكاملة لرسالة الحقوق - (1) الواردة في الخصال بقلم الفاضل المحترم الحاج الشيخ محمد باقر الكحرئي. 6- رسالة الحقوق للمرحوم ناصري من فضلاء طهران. 7- رسالة الحقوق للسيد «علي گل زاده غفوري». 8- ترجمة رسالة الحقوق للعالم الجليل آية الله الجنتي التي طبعت مع تحف العقول في مؤسسة النشر العلمي الاسلامي سنة 1354 ه 9- ترجمة رسالة الحقوق للفاضل المحترم الحاج السيد أحمد الفهري الزنجاني التي طبعت مع الخصال في مؤسسة النشر العلمي الاسلامي. 10- رسالة الحقوق بمقدمة قصيرة لدار التوحيد للنشر في طهران سنة 1402 ه و يقينا أن هناك شروحا و ترجمات أخري لا اطلاع للمؤلف عليها. رسالة الحقوق علي ضبط الصدوق في الخصال اعلم أن لله - عزوجل - عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها أو حال حلتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت فيها. فأكبر حقوق الله - تبارك و تعالي - عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق. ثم ما أوجب الله - عزوجل - عليك لنفسك من قرنك الي قدمك علي اختلاف

ص: 170


1- كل الترجمات المذكورة هنا هي من العربية الي الفارسية (المترجم).

جوارحك، فجعل - عزوجل - للسانك عليك حقا، و لسمعك عليك حقا، و لبصرك عليك حقا و لفرجك عليك حقا. فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال. ثم جعل - عزوجل - لأفعالك عليك حقوقا. ثم يخرج الحقوق منك الي غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، فأوجبها عليك حقوق أئمتك. ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك. قهذه حقوق تتشعب منها حقوق. فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، و كل سائس امام. و حقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فان الجاهل رعية العالم، و حق رعيتك بالملك من الأزواج و ما ملكت الأيمان. و حقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، و أوجبها عليك حق أمك ثم حق أبيك، ثم ولدك، ثم أخيك، ثم الأقرب فالأقرب، و الأولي فالأولي. ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجارية نعمتك عليه، ثم حق ذوي المعروف لديك. ثم حق مؤذنك لصلاتك، ثم حق امامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك. ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك.

ص: 171

ثم شششحق مستنصحك، ثم حق الناصح لك. ثم حق من هو أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك. ثم حق سائلك، ثم حق من سألته. ثم حق من جري لك علي يديه مساءة بقول أو فعل، عن تعمد منه، أو غير تعمد. ثم حق أهل ملتك عامة، ثم حق أهل ذمتك. ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال و تصرف الأسباب. فطوبي لمن أعانه الله علي قضاء ما أوجب عليه من حقوقه و وفقه و سدده. 1- فأما حق الله الأكبر عليك، فأن تعبده و لا تشرك به شيئا. فاذا فعلت بالاخلاص جلع لك علي نفسه أن يكفيك أمر الدنيا و الآخرة. 2- و حق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله - عزوجل. 3- و حق اللسان اكرامه عن الخني، و تعويده الخير و ترك الفضول التي لا فائدة لها، و البر بالناس و حسن القول فيهم. 4- و حق السمع تنزيهه عن سماع الغيبة، و سماع ما لا يحل سماعه. 5- و حق البصر أن تغضه عما لا يحل لك، و تعتبر بالنظرية. 6- و حق يدك أن لا تبسطها الي ما لا يحل لك. 7- و حق رجليك ألا تمشي بهما الي ما لا يحل لك، فبهما تقف علي الصراط. فانظر ألا تزل بك، فتردي في النار. 8- و حق بطنك ألا تجعله و عاء للحرام، و لا تزيد علي الشبع. 9- و حق فرجك أن تحصنه من أن ينظر اليه. 10- و حق الصلاة أن تعلم أنها وفادة الي الله - عزوجل - و أنت فيها قائم بين يدي الله - عزوجل - فاذا علمت ذلك قمت مقام العبد الذليل، الحقير الراغب، الراهب الراجي، الخائف المستكين، المعظم لمن كان بين يديه بالسكون و الوقار، و تقبل عليها بقلبك، و تقيمها بحدودها و حقوقها.

ص: 172

11- و حق الحج أنه وفادة الي ربك، و فرار اليك من ذنوبك، و به قبول توبتك، و قضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك. 12- و حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله علي لسانك و سمعك و بصرك، و بطنك، و فرجك. 13- و حق الصدقة أن تعلم أنها ذخرك عند ربك - عزوجل - و وديعتك التي لا تحتاج الي الاشهاد عليها، فاذا علمت ذلك كنت بما تستودعه سرا أوثق منك بما تستودعه علانية، و تعلم أنها تدفع البلايا و الأقسام عنك في الدنيا، و تدفع عنك النار في الآخرة. 14- و حق الهدي أن تريد به وجه الله - عزوجل - و لا تريد به خلقه، و لا تريد به الا التعرض لرحمة الله و نجاة روحك يوم تلقاه. 15- و حق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة، و أنه مبتلي بك بما جعله الله - عزوجل - له عليك من السلطان، و أن عليك ألا تعرض لسخطه، فتلقي بيدك الي التهلكة، و تكون شريكا له فيما يأتي اليك من سوء. 16- و حق سائسك بالعلم التعظيم له، و التوقير لمجلسه، و حسن الاستماع اليه، و الاقبال عليه، و ألا ترفع عليه صوتك، و ألا تجيب أحدا يسأله عن شي ء، حتي يكون هو الذي يجيب، و لا تحدث في مجلسه أحدا، و لا تغتاب عنده أحدا، و أن تدفع عنه اذا ذكر عندك بسوء، و أن تستر عيوبه، و تظهر مناقبه، و لا تجالس له عدوا.

ص: 173

فاذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته، و تعلمت علمه لله - عزوجل اسمه - لا للناس. 17- و أما سائسك بالملك، فأن تطيعه و لا تعصيه الا فيما يسخط الله - عزوجل - فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 18- و أما حق رعيتك بالسلطان، فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم و قوتك، فيجب أن تعدل فيهم، و تكون لهم كالوالد الرحيم، و تغفر لهم جهلهم و لا تعاجلهم بالعقوبة، و تشكر الله - عزوجل - علي ما آتاك من القوة عليهم. 19- و أما حق رعيتك بالعلم، فأن تعلم أن الله - عزوجل - انما جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم و فتح لك من خزائنه. فان أحسنت في تعليم الناس، و لم تخرق بهم، و لم تضجر عليهم، زادك الله من فضله. و ان أنت منعت الناس علمك، أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا علي الله - عزوجل - أن يسلبك العلم و بهاءه، و يسقط من القلوب محلك. 20- و أما حق الزوجة، فأن تعلم أن الله - عزوجل - جعلها لك سكنا و أنسا، فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها و ترفق بها. و ان كان حقك عليها أوجب، فان لها عليك أن ترحمها، لأنها أسيرك، و تطعمها و تكسوها؛ فاذا جهلت عفوت عنها. 21- و أما حق مملوكك، فأن تعلم أنه خلق ربك، و ابن أبيك و أمك، و لحمك و دمك. لم تملكه لأنك صنعته دون الله، و لا خلقت شيئا من جوارحه، و لا أخرجت له رزقا. ولكن الله - عزوجل - كفاك ذلك، ثم سخره لك و ائتمنك عليه، و استودعك اياه،

ص: 174

ليحفظ لك ما تأتيه من خير اليه، فأحسن اليه كما أحسن الله اليك. و ان كرهته استبدلت به و لم تعذب خلق الله - عزوجل - و لا قوة الا بالله. 22- حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا، و أعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا، و وقتك بجميع جوارحها؛ لم تبال أن تجوع و تطعمك، و تعطش و ترويك، و تعري و تكسوك، و تضحي و تظلك، و تهجر النوم لأجلك، و وقتك الحر و البرد، لتكون لها؛ فانك لا تطيق شكرها، الا بعون الله - تعالي - و توفيقه. 23- و أما حق أبيك، فأن تعلم أنه أصلك، و أنك لولاه لم تكن. فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، و احمد الله و اشكره علي قدر ذلك، و لا قوة الا بالله. 24- و أما حق ولدك، فأن تعلم أنه منك و مضاف اليه في عاجل الدنيا بخيره و شره، و أنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب و الدلالة علي ربه - عزوجل - و المعونة له علي طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب علي الاحسان اليه، معاقب علي الاساءة اليه. 25 - و أما حق أخيك، فأن تعلم أنه يدك و عزك و قوتك، فلا تتخذه سلاحا علي معصية الله، و لا عدة للظلم لخلق الله، و لا تدع نصرته علي عدوه و النصيحة له؛ فان أطاع الله، و الا فليكن الله أكرم عليك منه، و لا قوة الا بالله.

ص: 175

26- و أما حق مولاك (1) المنعم عليك، فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله، و أخرجك من ذل الرق و وحشيه الي عز الحرية و أنسها؛ فأطلقك من أسر الملكة، وفك عنك قيد العبودية، و أخرجك من السجن، و ملك نفسك و فرغك لعبادة ربك. و تعلم أنه أولي الخلق بك في حياتك و موتك، و أن نصرته عليك واجبة بنفسك و ما احتاج اليه منك، و لا قوة الا بالله. 27 - و أما حق مولاك الذي أنعمت عليه، فأن تعلم أن الله - عزوجل - جعل عتقك له وسيلة اليه، و حجابا لك من النار، و أن ثوابك في العاجل (2) ميراثه اذا لم يكن له رحم مكافئة، بما أنفقت من مالك، و في الآجل (3) الجنة. 28- و أما حق ذي المعروف عليك، فأن تشكره، و تذكر معروفه، و تكسبه المقالة الحسنة، و تخلص له الدعاء فيما و بين الله - عزوجل - فاذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا و علانية، ثم ان قدرت علي مكافأته يوما كافأته. 29- و أما حق المؤذن، فأن تعلم أنه مذكر لك ربك - عزوجل - و داع لك الي حظك، وعونك علي قضاء فرض الله عليك، فاشكره علي ذلك شكرك للمحسن اليك. 30- و أما حق امامك في صلاتك، فأن تعلم أنه قد تقلد السفارة فيما بينك و بين ربك - عزوجل - و تكلم عنك، و لم تتكلم عنه، دعا لك، و لم تدع له، و كفاك هول المقام

ص: 176


1- أي المعتق.
2- الدنيا.
3- الآخرة. م.

بين يدي الله - عزوجل - فان كان به نقص كان به دونك. و ان كان تماما كنت شريكه، و لم يكن له عليك فضل، فوقي نفسك بنفسه، و صلاتك بصلاته، فتشكر له علي قدر ذلك. 31- و أما حق الجليس، فأن تلين له جانبك، و تنصفه في مجاراة اللفظ، و لا تقوم من مجلسك، الا باذنه. و من يجلس اليك يجوز له القيام عنك بغير اذنك. و تنسي زلالته، و تحفظ خيراته و لا تسمعه الا خيرا. 32- و أما حق جارك، فحفظه غائبا، و اكرامه شاهدا، و نصرته اذا كان مظلوما، و لا تتبع له عورة، فان علمت عليه سوءا سترته عليه، و ان علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك و بينه. و لا تسلمه عند شديدة، و تقيل عثرته، و تغفر ذنبه، و تعاشره معاشرة كريمة، و لا قوة الا بالله. 33- و أما حق الصاحب، فأن تصحبه بالتفضل و الانصاف، و تكرمه كما يكرمك، و كن عليه رحمة و لا تكن عليه عذابا، و لا قوة الا بالله. 34- و أما حق الشريك، فان غاب كفيته، و ان حضر رعيته، و لا تحكم دون حكمه، و لا تعمل برأيك دون مناظرته. تحفظ عليه ماله، و لا تخونه فيما عز أو هان من أمره، فان يد الله - تبارك و تعالي - علي الشريكين ما لم يتخاونا، و لا قوة الا بالله. 35- و أما حق مالك، فأن لا تأخذه، الا من حله، و لا تنفقه الا في وجهه، و لا تؤثر به علي نفسك من لا يحمدك.

ص: 177

فاعمل فيه بطاعة ربك، و لا تبخل به، فتبوء بالحسرة و الندامة مع السعة، و لا قوة الا بالله. 36- و أما حق غريمك الذي يطالبك، فان كنت موسرا أعطيته، و ان كنت معسرا أرضيته بحسن القول، ورددته عن نفسك ردا جميلا. 37- و حق الخليط أن لا تغره، و لا تغشه، و لا تخدعه، و تتقي الله - تبارك و تعالي - في أمره. 38- و أما حق الخصم المدعي عليك، فان كان ما يدعي حقا كنت شاهده علي نفسك و لم تظلمه، و أو فيته حقه. و ان كان ما يدعي باطلا، رفقت به، و لم تأت في أمره غير الرفق، و لم تسخط ربك في أمره، و لا قوة الا بالله. 39- و حق خصمك الذي تدعي عليه ان كنت محقا في دعوتك أجملت مقاولته، و لم تجحد حقه. و ان كنت مبطلا في دعوتك، اتقيت الله - عزوجل - و تبت اليه، و تركت الدعوي. 40- و حق المستشير ان علمت أن له رأيا أشرت عليه، و ان لم تعلم أرشدته الي من يعلم. 41- و حق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه، فان وافقك حمدت الله - عزوجل.

ص: 178

42- و حق المستنصح أن تؤدي اليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة و الرفق به. 43- و حق الناصح أن تلين له جناحك، و تصغي اليه بسمعك. فان أتي الصواب، حمدت الله - عزوجل - و ان لم يوافق، رحمته و لم تتهمه، و علمت أنه أخطأ، و لم تؤاخذه بذلك، الا أن يكون مستحقا للتهمة، فلا تعبأ بشي ء من أمره علي حال، و لا قوة الا بالله. 44- و حق الكبير توقيره لسنه، و اجلاله لتقدمه في الاسلام قبلك، و ترك مقابلته عند الخصام. و لا تسبقه الي طريق، و لا تقدمه، و لا تستجهله. و ان جهل عليك احتملته و أكرمته لحق الاسلام و حرمته. 45- و حق الصغير رحمته في تعليمه، و العفو عنه، و الستر عليه، و الرفق به، و المعونة له. 46- و حق السائل اعطاؤه علي قدر حاجته. 47- و حق المسؤول ان أعطي، فاقبل منه بالشكر و المعرفة بفضله، و ان منع، فاقبل عذره. 48- و حق من سرك الله - تعالي - به أن تحمد الله - عزوجل - أولا، ثم شكره. 49- و حق من ساءك أن تعفو عنه، و ان علمت أن العفو يضر، انتصرت، قال الله

ص: 179

- تبارك و تعالي -: «و لمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل». (1) . 50- و حق أهل ملتك اضمار السلامة و الرحمة لهم، و الرفق بمسيئهم، و تألفهم و استصلاحهم و شكر محسنهم، و كف الأذي عنهم، و تحب لهم ما تحب لنفسك، و تكره لهم ما تكره لنفسك، و أن يكون شيوخهم بمنزلة أبيك، و شبابهم بمنزلة اخوانك، و عجائزهم بمنزلة أمك، و الصغار بمنزلة أولادك. 51- و حق أهل الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله - عزوجل - و لا تظلمهم ما وفوا الله - عزوجل - بعهده.

ص: 180


1- الشوري / 41:42.

«و قال ربكم ادعوني أستجب لكم» (1) .

الصحيفة السجادية

الأثر الآخر الذي لدينا من آثار الامام السجاد مجموعة من أدعيته عرفت باسم الصحيفة السجادية. و شهرة هذا الأثر تغني عن كل توضيح له. الصحيفة السجادية التي لقبت زبور آل محمد صلي الله عليه و آله و انجيل أهل البيت شاملة لأربعة و خمسين دعاء. و شرحت ما يزيد علي ستين شرحا، و تزجمت مرارا الي الفارسية. و لابد من القول: ان علماء الشيعة استدركوا علي الصحيفة المتداولة استدراكات، و جمعوا الصحيحفة الثانية و الثالثة الي الثامنة. (2) . مع أن سند لصحيفة التي بأيدينا اليوم يرجع الي بهاء الشرف الذي كان يعيش في القرن السادس الهجري، فان اسمها في كتب عظماء الشيعة التي ألفت قبله بسنين. جاء في فهرست كتب المرحوم السيد المشكاة المهداة الي جامعة طهران أن هذه القصة (قصة عمير بن المتوكل بن هارون و ملاقاته ليحيي بن زيد الشهيد) نقلها كثيرون عن قول عمير الوارد فيها، نقله مثل الشيخ المفيد في الارشاد و علي بن محمد

ص: 181


1- غافر (المؤمن) / 60:40.
2- الذريعة: ذيل كلمة شرح، و ذيل الصحيفة السجادية.

الخزاز في كفاية الأثر و النجاشي في الرجال، و الشيخ الطوسي في الفهرست. (1) . و الظاهر أن هذه الكتابة لا أساس لها، ففي الارشاد لم يرد اسم للصحيفة فضلا عن قصة عمير بن المتوكل بن هارون. و يبدو أن كاتب الفهرس كان لديه مقدمة الصحيفة السجادية التي كتبها السيد المشكاة، و أخطأ في نقل العبارة اتفاقا. و ترجمة ما جاء في مقدمة الصحيفة بقلم المرحوم المشكاة جاءت بهذه الصورة: هذه (الصحيفة السجادية) ثاني كتاب في عالم الاسلام لم يظهر قبلها غير القرآن الكريم... كانت الصحيفة مرجع أكابر العلماء و المصنفين. أشار الي ذلك الشيخ المفيد محمد بن النعمان في نهاية شرحه حال الامام السجاد، و صرح معاصره علي بن محمد الخزاز القمي باسم الصحيفة و ملاقاة المتوكل بن هارون ليحيي بن زيد. و عبارة المرحوم المشكاة في شأن المفيد - علي ما أري - اشارة لا تصريح. و ليس في الارشاد في ذيل ترجمة الامام علي بن الحسين اسم للصحيفة و عبارة المفيد هي: «و قد روي عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يحصي كثرة، و حفظ عنه من المواعظ و الأدعية و فضائل القرآن و الحلال و الحرام و المغازي و الأيام ما هو مشهور بين العلماء» (2) . يمكن القول: ان كلمة أدعية هي نوع من الاشارة الي الصحيفة. علي ما أعلم اشتهرت الصحيفة السجادية ب «الصحيفة الكاملة». فما معني كلمة الكاملة؟ و أين الصحيفة الأخري التي كانت ناقصة؟

ص: 182


1- الفهرست: جع علي نقي منزوي: 1 / 153.
2- الارشاد: 2 / 154.

يكتب أيةالله النجفي المرعشي في المقدمة التي وضعها للصحيفة السجادية (طبعة الشيخ محمد الآخوندي) استدراكا علي مقدمة المرحوم المشكاة ما صورته: سبب نعت هذه الصحيفة بالكاملة علي وفق ما سمعته من السيد جمال الدين الكوكباني اليماني هو أن نسخة من هذه الصحيفة في يد الزيدية تساوي نصف هذه الصحيفة، و من أجل هذا اشتهرت هذه الصحيفة بالكاملة». (1) . لكن هذا التعليل ليس غير كاف فقط، بل لا يمكن عده صحيحا فلفظ الكاملة يشاهد في سند الصحيفة من قول المتوكل بن هارون الذي رأي يحيي بن زيد، و فيه: «أخبره أنه من دعاء أبيه علي بن الحسين من دعاء الصحيفة الكاملة». (2) . و يقول المتوكل أيضا كان يحيي بن زيد يقول: «أما لأخرجن اليك صحيفة من الدعاء الكامل» (3) . و مسلم أنه لا وجود في ذلك الوقت للصحيفة المشهورة اليوم باسم الصحيفة الزيدية علي وفق قول الكوكباني. و علي فرض وجودها لا شك في أن المتوكل كان ضمن الرواية: بعدما ذهبت الي المدينة، و رأيت الامام الصادق عليه السلام وحدثته بملاقاتي ليحيي، و استجزته أن أقابل نسخته بنسخة يحيي التي كان بعثها الي أبناء عمه، فلم أر فيهما حرفا يخالف آخر. و بناء علي هذا يحتمل أن يكون لفظ «الكاملة» لا مورد له ازاء صحيفة الزيدية الناقصة. الا أن نقول: لم يكن لفظ «الكاملة» في سند الصحيفة عن المتوكل بن هارون، و بهاء

ص: 183


1- مقدمة الصحيفة السجادية.
2- مقدمة الصحيفة السجادية.
3- الموضع نفسه.

الشرف الذي كان حيا في القرن السادس لقب صحيفته به مقابل صحيفة الزيدية و هذا الاحتمال أيضا مردود بتقواه و نزاهته. صحيفة الامام الصادق التي بأيدينا كانت 75 بابا - علي قول المتوكل - ذهب منها أحد عشر بابا من ذاكرة الراوي، و يقول: انه يحفظ منها نيفا و ستين بابا في حال أن مجموع أدعية الصحيفة 54 دعاء، فعلي هذا التقريب لا معني لنعت الصحيفة بالكاملة. لفظ «الكاملة» في نسخة من الصحيفة كتبت من شوال سنة ست عشرة و أربع مئة للهجرة، و هي في مكتبة الروضة الرضوية موجود في ظهر المجلد - علي ما أذكر - و سبب ذلك كمال هذه المجموعة من جهة الدعاء. و ما يمكن أن نقوله حدسا - و لا يمكن اتخاذ الحدس دليلا - هو أنهم دعوا هذه المجموعة «الكاملة» من جهة أنها دستور كامل لطلب العبد حاجاته من الله - تعالي - في أكثر الموارد و في شأن أغلب الحاجات لم يصدر مثل هذه الأدعية عن الأئمة المعصومين بهذا الترتيب، فلقبت الصحيفة مقابل أدعية بقية الأئمة ب «الكاملة»، و الله أعلم. (1) .

ص: 184


1- هذا ما ذهب اليه المؤلف قبل ما يزيد علي ثلاثين عاما، و هو ما سطر في ظهر النسخة الموجودة بالروضة الرضوية، و أخيرا حصل ما يؤيد هذا الاحتمال.

القرآن بخط الامام علي بن الحسين

كان و مازال في عدة من مكتبات ايران نسخ أو أوراق من القرآن يقولون: ان الامام علي بن الحسين كتبها، لكن نسبة بعضها اليه تبدو بعيدة الصحة، و نسبة البعض الآخر لا حقيقة لها. و النسخ التي لنا اطلاع عليها هي: 1- قرآن شيراز. 2- قرآن سلطانية قزوين. 3- قرآن اصفهان. 4- قرآن مكتبة الامام الرضا عليه السلام. و اطلاعنا في شأن قرآن شيراز منحصر بما سطره معين الدين أبوالقاسم جنيد الشيرازي في كتابه شد الازار في حط الأوزار عن زوار المزار الذي يتعلق بمزارات شيراز قائلا: «في شيراز نسخ قرآن بخط أميرالمؤمنين علي، و الحسن و الحسين عليهم السلام». (1) . أما فيما يتعلق بقرآن سلطانية قزوين فقد حكي لي المرحوم «صادق وحدت» و هو رجل فاضل كان له اهتمام بالكتب و لا سيما النسخ الخطية القديمة منها، أنه رأي في سلطانية قزوين أوراقا من القرآن بالخط الكوفي مكتوبة علي جلد غزال في بيت سيد كان يؤم الجمعة هناك و يعتقد هو و جمع آخر أنها بخط الامام علي بن الحسين عليهماالسلام. أما نسخة اصفهان، فقد عرضت في متحفة ايران القديمة سنة 1328 للهجرة

ص: 185


1- 288 تصحيح المرحوم القزويني.

الشمسية، و خصائص هذه النسخة علي ما في فهرس خزانة القرآن للمرحوم الدكتور بياني هي: مجموعة متحفة اصفهان، و هي دون رقم أصيل و لا تاريخ تحرير في حدود القرن الثالث، كتبت في جلد غزال مجدول و الحاشية كاغذ اصفهاني حمصي، و عدد الصفحات 288 في كل منها 17 سطرا. في الصفحة الأخيرة رقم ملحق فيه، كتبه علي بن الحسين الامام زين العابدين عليه السلام (1) . أما خصائص قرآن مكتبة الامام الرضا عليه السلام فهي: 1- أنه كتب علي جلد غزال، و يبدأ من صدر الآية 180 من سورة البقرة، و ينتهي بهذه الجملة: قوله الحق، و له الملك، ان الله لا يخلف الميعاد، كتبه المنتظر بوعده علي بن الحسين بن أبي طالب. 2- أنهم جعلوا له حواشيا و رقية، و ضربوا علي النص جدولا ذهبيا و لا زرديا و ذهبوه. واقف هذه النسخة و نسخ أخري من القرآن هو الشاه عباس الكبير علي وفق ما جاء في رسالة وصلت من المكتبة الرضوية. و زالت عين الوقف المتعلق بهذه النسخة بالتجليد أو علل أخري، لكنها موجودة في نسخ أخري. 3 - أنه لا يعلم بم اسودت صفحات القرآن الاولي، حتي انها لا تسهل قراءتها. 4- يضم هذا القرآن 369 ورقة، و طول الصفحة 32 و عرضها 25 «بهر» (2) و خمس شعرات.

ص: 186


1- فهرس خزانة القرآن: 11 - 10.
2- واحدة قياس كل 32 منها مساوي است با ذراع واحد. طبقا لما ذكره صاحب فرهنگ عميد. م.

5- أنه لا فواصل و لا تذهيب بين الآيات مثل سائر النسخ القرآنية، لكن في كل مكان آية في آخرها نقاط تؤلف دائرة بفاصل صفحة أو اثنتين أو ثلاث. و تشاهد هذه النقاط و لونها أحمر و أسود في السطر الخامس من الصفحة 186. 6- أن آية بسم الله الرحمن الرحيم تأتي في كل سورة أول السطر، و الفاصلة بين آخر السورة و أول السورة الأخري ضئيلة. كان هذا اطلاعنا في شأن هذه النسخ من القرآن، و نضيف في النهاية: 1- أنه لا اطلاع علي وجود نسخة شيراز أو عدمها في هذا التاريخ، و بحثنا عنها دونما نتيجة حتي الآن. و بناء علي هذا لا يعلم مدي صحة نسبتها الي الامام علي بن الحسين. 2- أن القرآن الذي شاهده المرحوم «صادق وحدت» في سلطانية قزوين، و لم يكن بخاطره، أعليه امضاء أم لا مشمول بالحكم السابق. 3- أن الجملة الأخيرة في نسخة اصفهان تثبت عدم نسبة هذا القرآن. فما كان الامام يلقب نفسه زين العابدين، و لا يأتي لها بجملة عليه السلام. الا أن يقال: ان الناسخ أضاف هذه الجملة الي آخر القرآن من عنده تعريفا للمؤلف الأصلي، و مهما زالت غرابة الموضوع بهذا الاحتمال، فانه لا يكون دليلا علي صحة النسبة. 4- في شأن قرآن مكتبة الامام الرضا عليه السلام الذي تري جماعة نسبته الي الامام علي بن الحسين عليهماالسلام قطعية يجب أن يوضح أكثر و يعلم كيف كان شكل الخطوط و علام كانوا يكتبون في الحجاز موطن الامام في القرن الأول للهجرة؟. و تستنتج صحة هذه النسبة أو عدمها من هذه المقدمات. و هذا المطلب في بحثين: ألف - الورق: قبل ظهور نبي الاسلام صلي الله عليه و آله و في زمانه كانوا يستعملون الجلود

ص: 187

للكتابة، و المقصود من الجلد هنا هو الجلد العادي و ليس الجلد الذي يقال له: «رق» (1) . كما حدث ابن سعد عن اسماعيل بن ابراهيم الأسدي و هو باسناده عن أبي العلا أنه كنت مع مطرف في سوق الابل فجاءنا أعرابي و معه قطعة جلد و قال لنا أيكم يعرف القراءة؟ قلت: أنا، قال: اقرأ لي هذا الكتاب، أرسله لي النبي (2) و كان سميكا بحيث رقع به الدلو. يقول المؤرخون: كتب النبي (صلي الله عليه و آله) رسالة الي سمعان بن عمر من بني حارثة، و بعث بها عبدالله بن عوسجة فرقع سمعان بها دلوه، فدعي عقبه بني الراقع. (3) . يقول ابن النديم: في خزانة المأمون كتابة علي جلد بخط عبدالمطلب هي طلبه من أهل مكة. (4) . في دائرة المعارف الاسلامية الفرنسية: في مكتبة خديوي مصر سندان لهذا النموذج علي الجلد، تاريخ كتابتهما 233 ه و 239 ه (5) . بعد الجلد استعمل العسب (6) و ساق البعير و فكه و كتفه. و كتبوا قطعا صغيرة علي الخزف، ثم استعملوا البردي المصري حتي أوائل دولة بني العباس. وراج الورق المعتاد الذي كان يدعي «الورق» و «الكاغذ» و «القرطاس» في البلدان الاسلامية في أواخر القرن الثاني الهجري تقريبا.

ص: 188


1- Parchemin.
2- الطبقات الكبري: 2 / 44.
3- الطبقات: 2 / 45؛ و المعارف: 146.
4- الفهرست: 8.
5- 1 / 390.
6- هو جريد النخل المستقيم المكشوط الخوص.

و أقدم كتاب موجود كتب علي الورق تاريخه 256 ه، و يحتمل أن يكون محل كتابته في بغداد. و تاريخ النسخة المرقمة «6546» بدار الكتب بالقاهرة هو 265 ه، لكن هذا التاريخ غير مسلم به علي ما يظهر، و ليس بعيدا أن يكون تاريخها القطعي هو 300 ه و في دمشق. (1) . استعمل جلد الغزال الذي يعبرون عنه ب «الرق» و «الجلد» (2) لكتابة القرآن و الوثائق، و كان استعماله قليل جدا. لكن متي استعملت هذه المادة للكتابة؟ ليس معلوما، و القدر المسلم به أنه استفيد منه لكتابة القرآن في القرن الثالث الهجري. يقول بعض المحققين: كانت هذه المادة معروفة بين العرب حتي قبل الاسلام. و يذهبون الي أن بيت طرفة بن العبد: و خد كقرطاس الشامي و مشفر كسبت اليماني قده لم يجرد دليل علي هذا القول، و يقولون: وجه المشابهة بين الخد و قرطاس الشامي هنا هو نعومته و لمعانه. و هذا الادعاه لا يستبعد، لأن الرق كان مألوفا في هذه النقطة. في لاروس الفرنسي الكبير يقول في ذيل كلمة nimohcraP: يقول nilP القديم: ظهر الرق من أجل enemuE ملك emagreP، لأن بطائسة مصر باللغات الأوربية هي nimohcruP و مأخوذ من emagreP و هو ما كانوا يصنعونه من جلد الضأن و الماغر و العجل و الخنزير و الوعل و غيرها.

ص: 189


1- دائرة المعارف الاسلامية (بالفرنسية): 1 / 390.
2- لاروس الفرنسي الكبير: 5 / 272.

استعملت هذه المادة أولا لكتابة المؤلفات، و بعدها يعني في القرن السابع الميلادي استعملت لتحرير الأوامر[ الملكية ]. أقدم أمر ملكي مكتوب علي جلد هو من yrreihT الثالث في 677 م. (1) . لكن معرفة العرب لهذه المادة ليست دليلا أن استعمالها كان شائعا شيوعا كاملا في الحجاز و مسلم أن هذا النوع من «الكاغذ» نادر و غال جدا، و ليس بمقدور كل امري ء الحصول عليه. ب - الخطوط المعروفة في القرن الهجري الأول: يعد ابن النديم الخطوط العربية بهذا الترتيب: الخط المكي، و الخط المدني و الخط البصري، و الخط الكوفي (2) . تبين نماذج الخط العربي في القرن الهجري الأول أنه مخالف للخط الكوفي و مشابه لخط النسخ العصري و هذه الخطوط مكتوبة علي «البردي المصري». لكن المسلم به أن الخط الكوفي وجد قبل تمدين الكوفة، و لعل علة اشتهاره بهذا الاسم هي رواجه في مدينة الكوفة. استعمل الخط الكوفي موازيا لخط النسخ خمسة قرون، و من غير المعلوم متي استعمل لكتابة القرآن خاصة. واضح أنهم كانوا يكتبون القرآن في القرن الثالث بالخط الكوفي، و جميع النسخ الباقية من هذا التاريخ باستثناء واحدة منها مكتوبة بالخط الكوفي. (3) . فالقرآن الذي في پاريس برقم «346» عائد لسنة «229 ه»، و قطع من القرآن الذي في القاهرة برقم «33910» عائدة لسنة «277 ه».

ص: 190


1- لاروس الكبير: 5 / 272.
2- الفهرست: 8.
3- دائرة المعارف الاسلامية بالفرنسية: 1 / 393 - 394.

و هذا القرآن أهداه «أناجور» حاكم دمشق الي مسجد عمر بالقاهرة. و القرآن الوحيد المتعلق بالقرن الثاني الهجري هو القرآن الكامل بالقاهرة، و رقمه «387» و تاريخ وقفه «186 ه». خط هذا القرآن غير متكلف، و لا زوائد فيه، و الحرف (ق) فيه بصورة (ف) و الحرف (ف) بهذه الصورة، لكن نقطته في الأسفل و وسط الحرف. (1) . نستنتج من هاتين المقدمتين أن نسبة هذه النسخة من الصحيفة الي الامام علي بن الحسين غير مسلم بها للأدلة الآتية أدناه: 1- هذه النسخة - علي ما قلنا - مكتوبة علي جلد غزال، و لندرة هذه المادة و غلائها يستعبد أن تكون هذه الأوراق من القرن الهجري الأول و مرتبطة بالامام. 2- بمقايسة هذا الخط و خط قطعتين كتبتا سنة «24 ه» و «90 ه» نشاهد عدم مشابهته لخطهما و علي العكس من ذلك نجد فيه شبها زائدا الخط قرآن «اناجور» الذي كتب في القرن الثالث بيد أنه لايمكن انكار نسبته انكارا قاطعا، و يلزم للاطمئنان الكامل بتاريخ الكتابة القطعي أن نتوسل بوسائل العصر العلمية لمعرفة الحبر و الورق معرفة دقيقة.

ص: 191


1- ن. م: 1 / 94.

نعم أجر العاملين

«نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين» (1) . المؤرخون مختلفون في سنة رحلة الامام السجاد أيضا، بل ان اختلافهم في سنة وفاته أكثر من اختلافهم في سنة ولادته. فهي من أربع و سبعين الي مائة و عشر. و عبارة أربع و سبعين في «تاريخ گزيده» (2) هي من سهو الناسخ، و يجب أن تكون أربعا و تسعين. أكثر المحدثين و المورخين كتبوا أن سنة رحلته هي أربع و تسعون للهجرة، و منهم الزبيري في نسب قريش (3) و ابن قتيبة في المعارف (4) و البلاذري في أنساب الأشراف (5) و ابن الجوزي في صفة الصفوة (6) و علي بن عيسي الاربلي في كشف الغمة (7) . و عوا سنة أربع و تسعين للهجرة سنة الفقهاء، لأن جماعة كثيرة من فقهاء المدينة غادرو هذا العالم في هذه السنة.

ص: 192


1- الزمر / 74: 39.
2- 1 / 204.
3- 58.
4- 215.
5- 146.
6- 2 / 57.
7- 2 / 101 و 105.

في مقابل هذا القول قول المفيد في الارشاد (1) و الكليني في الكافي (2) و الاربلي في أحد أقواله (3) و الطبري في تاريخه (4) : ان وفاته سنة خمس و تسعين. و ذهب البلاذري في أحدي رواياته (5) و كذلك علي بن عيسي الأربلي (6) الي أنه توفي سنة اثنتين و تسعين. و المشهور من الأقوال أن وفاته في سنة أربع و تسعين، و خمس و تسعين. و أقوي الأقوال أنها في سنة أربع و تسعين. و كتب الكفعمي في المصباح أنه سم بأمر هشام بن عبدالملك بدس السم له في طعامين يوم السبت الثاني و العشرين من المحرم سنة خمس و تسعين. (7) . و مدفنه في مقبرة البقيع الي جانب عمه الحسن بن علي عليهم السلام. (8) . و في الليلة التي ذهب في صباحها الي جوار ربه قال لابنه محمد الباقر: آتني بماء للوضوء. و عندما جاءه بالماء، قال: لا أريد، في هذا الماء ميت. و بعد البحث و جدوا في الماء فأرا ميتا (9) . و عند موته أغمي عليه، و اذ فتح عينيه قرأ سورة الواقعة، و سورة الفتح، ثم قال: «الحمد لله الذي صدقنا وعده، و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر

ص: 193


1- 2 / 139.
2- 1 / 466 و 468.
3- كشف الغمة: 2 / 105.
4- القسم 2 / 1266.
5- 146.
6- كشف الغمة: 2 / 101.
7- البحار: 46 / صص 102 - 102.
8- الارشاد: 2 / 129.
9- أصول الكافي: 1 / 468.

العاملين» (1) ، و عندئذ فاض (2) . و روي ابن سعد بسنده عن أبي جعفر عليه السلام أن الامام السجاد أوصي ألا يخبروا أحدا بموته، و أن يدفنوه سريعا، و يلفوه بكفن من قطن، و لا يمزجوا حنوطه بالمسك (3) . لكن جمعا غفيرا من الناس التأم عند تشييع ذلك العظيم و دفنه، حتي أن المدينة قل أن رأت مثله.

ص: 194


1- الزمر / 74: 39.
2- أصول الكافي: 1 / 468.
3- الطبقات: 1 / 162.

ذريته

«ذرية بعضها من بعض» (1) . بين المؤرخين و كتاب التراجم اختلاف في عدة أبناء الامام علي بن الحسين عليه السلام، فالزبيري الذي له كتاب نسب قريش، أقدم مصدر موجود، يعد أبناء الامام علي بن الحسين: حسين الأكبر، و محمد، و عبدالله (و أمهم أم عبدالله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب)؛ و زيد (من أم ولد)؛ و داوود، و عمر، و علي، و عبدالرحمن (ماتوا أطفالا) و حسين الأصغر، و سليمان، و قاسم. و بتاته: خديجة، عبدة، و أم كلثوم، و فاطمة، و علية، و أم الحسين. (2) . و ابن سعد ذكر أن له عشرة أبناء أسماؤهم: حسن و حسين، و أكبر، و محمد، و عبدالله، و عمر، و زيد، و علي، و حسين الأصغر، و سليمان، و قاسم. و ذكر أن له سبع بنات أسماؤهن: خديجة، علية، و كلثوم، و مليكة، و فاطمة، و أم الحسين و أم الحسن (حسنة) (3) . و سمي ابن قتيبة أبناءه: حسنا، و محمدا، و عليا، و عبدالله (من أم عبدالله) و عمر، و زيد (من أم ولد اسمها حيدان).

ص: 195


1- آل عمران / 34:3.
2- نسب قريش: 62 - 62.
3- طبقات ابن سعد: 5 / 156.

و بناته أم موسي، و أم حسن، و أم كلثوم (1) . و أبناؤه عند البلاذري هم: محمد، و عبدالله، و حسين (أمهم أم عبدالله) و عمر، و زيد، و بناته: عليا، و خديجة، و أم موسي، و أم حسن، و كلثوم، و مليكة (2) . وعد الشيخ المفيد أبناءه في الارشاد خمسة عشر هم: محمد (الامام الباقر (ع) و أمه أم عبدالله)، و عبدالله، و حسن، و حسين، و زيد، و عمر، و حسين الأصغر، و عبدالرحمن، و سليمان، و علي، و محمد، و أصغر (ولكهم من أم ولد)، و خديجة، و فاطمة، و علية، و أم كلثوم (3) . و عدهم علي بن عيسي الاربلي مؤلف كشف الغمة في احدي رواياته خمسة عشر علي ما أوردهم المفيد (4) . و هم في رواية أخري يظهر أنه لا يعتمد عليها تسعة أبناء، و لا بنت له (5) . و هم في رواية أخري ثمانية، و لا بنت له (6) . و كتب الذهبي أن أبناءه: حسن و حسين اللذان ماتا طفلين، و محمد الباقر، و عبدالله، و زيد، و عمر، و علي، و محمد الأوسط، و عبدالرحمن، و حسين الصغير، و قاسم (7) لابن حزم علي بن أحمد سعيد الأندلسي ذكر مفصل لهم في باب أسماء أبناء السجاد وعدتهم. فالذكور محمد (أمه أم عبدالله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب) و زيد (أمه أم ولد)

ص: 196


1- المعارف: 215.
2- أنساب الأشراف: 147.
3- الارشاد: 2 / 147.
4- كشف الغمة: 2 / 9.
5- ن. م: 2 / 82.
6- ن. م: 2 / 105.
7- سير أعلام النبلاء: 3 / 217.

و علي و حسين و عبدالله و عمر. و الاناث خديجة التي تزوجها محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب. و عبدة التي تزوجها محمد بن معاوية بن عبدالله بن جعفر، ثم علي بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم نوح بن ابراهيم بن محمد بن طلحة. و أم كلثوم التي تزوجها داوود بن حسن بن الحسن. و أم الحسن امرأة داوود بن علي بن عبدالله بن عباس. و فاطمة التي تزوجها داوود بعد وفاة أختها. و عليه التي تزوجها علي بن حسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر. و أم الحسين امرأة ابراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس (ابراهيم الامام) (1) . و ذكر ابن شهرآشوب أن أنباءه اثناعشرهم: محمد (الباقر) و عبدالله (الباهر) و زيد، و عمر، و حسين الأصغر، و عبدالرحمن، و سليمان، و حسن و حسين الأكبر، و عبيدالله، و محمد الأصغر، و علي. و قال: قالوا: لا بنت له، و قالوا: بناته: فاطمة، و علية، و أم كلثوم (2) . و ذكر الطبرسي في اعلام الوري أنهم: محمد الباقر (أمه أم عبدالله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب). و زيد، و عمر (و أمهما أم ولد). و عبدالله و حسن و حسين (أمه أم ولد) و حسين الأصغر، و عبدالرحمن، و سليمان (أمه أم ولد) و علي (أمه أم ولد) و محمد الأصغر.

ص: 197


1- جمهرة أنساب العرب: ط دار المعارف بمصر، 1382 ه: ص 52.
2- المناقب: 4 / 176.

و البنات: خديجة (أمها أم ولد) و فاطمة، و علية، و أم كلثوم. (1) . و الأبناء علي ما أري خمسة هم: الامام محمد الباقر عليه السلام و زيد الشهيد، و عبدالله، و عمر، و علي. و البنات اثنتان هما: عليه، و أم كلثوم علي ما يري في كل الأدلة المحررة. و ذهب مؤلف عمدة الطالب الي أن خلف الامام الرابع هم: الامام محمد الباقر، و زيد الشهيد، و عمر الأشرف، و حسين الأصغر، و علي الأصغر (2) . و كتب المحدث القمي أن علية ألفت كتابا نقل عنه زرارة (3) . فعلية علي هذا سيدة فاضلة، و كانت من روايات الحديث. و كتب أيضا أن أبامحمد عبدالله كان يدعي الباهر لجماله (4) . و كتب أن عمر الأشرف كان متولي صدقات رسول الله (5) . و من أبناء الامام السجاد سوي الامام الباقر - الذي يعده الشيعة اماما بعد أبيه - زيد المشهور بالعلم و التقوي و الفضل، و استشهد في الثورة علي الأمويين في الكوفة بأمر و اليهم عليها يوسف بن عمر الثقفي سنة 122 ه

ص: 198


1- اعلام الوري: 262.
2- ص 160.
3- منتهي الآمال: 2 / 30.
4- ن. م: 2 / 30.
5- ن. م: 2 / 31.

الخاتمة

«و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين» (1) . و اذ انتهي طبع الكتاب أراني الآن مكلفا أن أكتب عدة نكات: مع كل الجهد الذي بذلته في تصحيح الكتاب آسف علي ظهور أخطاء كثيرة فيه، و لا سيما في اعراب الكلمات العربية و ضبطها (2) . و الحواشي صغيرة الحروف و عيني محرومة الرؤية الصحيحة. و طلبي الي القارئين الفضلاء أن يصلحوا هذه الأخطاء كلما سنحت لهم الفرصة، و أن يذكرونيها اذا تسني لهم ذلك، لأتلافاها في الطبعة اللاحقة. و ساعدني في اعداد مواد الكتاب أحبة يجب أن أشكر لهم. و أولهم ولدي المفقود الأثر السيد احسان شهيدي الطالب في فرع الأحياء بجامعة شيراز و الدارس في الحوزة العلمية بقم الذي ذهب الي الجبهة الغربية للتبليغ و تشجيع المقاتلين قربة الي الله - تعالي - و بلغني خبر فقده مع ذكري شهادة الامام علي بن الحسين. و أدي السيد احسان غاية الأمانة و الدقة في استخراج المطالب التي عهدتها اليه من تاريخ الطبري و العقد الفريد و الكامل لابن الأثير و كتب أخري.

ص: 199


1- رعاية للأمانة: كتب المؤلف في الأصل الفارسي ما ترجمته «بسم الله الرحمن الرحيم»، وارتأينا مناسبة للذوق العربي أن نأتي بهذه العبارة، و هي اقتباس من نفس المؤلف الكريم الذي عودنا في أكثر كتبه علي استهلال فصول الكتب بآيات قرآنية أو أقوال مأثورة. م.
2- يقصد الأصل الفارسي، و نأمل أن تكون الطبعة العربية شبه خالية من هذه الأخطاء.

اللهم لا تنقصه عنايتك و رحمتك أبدا. و ثانيهم ابنتي السيدة شكوفه شهيدي (حامدي) التي لم تتثأثأ عن مساعدتي في هذه الشيخوخة و حاجتي الي الأخذ بيدي، فحررت قسما من مباحث الكتاب، و أعانتي في استخراج أعلامه و مقابلتها و تنظيمها. و ثالثهم الآنسة «مرسده معيني الفيض آبادي» الطالبة في كلية الآداب و العلوم الانسانية بجامعة طهران التي ساعدت ابنتي في تحرير فهرس الأعلام. و الطباعون في (دفتر نشر فرهنگ اسلامي) (1) الذين صبروا علي خطي غير الواضح، و قرؤوه بصعوبة غير متبرمين به. غفا الله من كل الناشرين لعلوم آل محمد صلي الله عليه و آله و تفضل عليهم بالتوفيق و حسن العاقبة و الكرامة. آمين.

ص: 200


1- ترجمته: مكتب نشر الثقافة الاسلامية.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.