النظرية السياسية لدي الامام زين العابدين(عليه السلام )

اشارة

سرشناسه : بغدادي، محمود

عنوان و نام پديدآور : النظريه السياسيه لدي الامام زين العابدين علیه السلام - محمود البغدادي

مشخصات نشر : قم: مجمع العالمي لاهل البيت، المعاونيه الثفافيه، 1415 = 1374.

مشخصات ظاهري : 454 ص.نقشه

فروست : (المجمع العالمي لاهل البيت 27)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : علي بن حسين(ع)، امام چهارم، 94 - 38ق -- سياست

موضوع : علي بن حسين(ع)، امام چهارم، 94 - 38ق -- سرگذشتنامه

رده بندي كنگره : BP43/ب 7ن 6

رده بندي ديويي : 297/954

شماره كتابشناسي ملي : م 74-3872

كلمة المجمع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خاتم الانبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين. انطلاقاً من الرسالة التي حمل أعباءها «المجمع العالمي لاهل البيت (عليهم السلام)»، التي تتمثل بنشر المعارف الاسلامية من منابعها الصافية والتعريف بأهل البيت (عليهم السلام) ومدرستهم الرشيدة، نقدم اليوم إلي قرائنا الاعزاء هذا السفر الجليل الذي حاول مؤلفه الكريم أن يعرض من خلاله لمعات منيرة من حياة الامام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين عليه وعلي آبائه أفضل التحية والسلام. والحقيقة أن هذا الامام و نظراً للظروف القاسية التي عاشها خاصة بعد ثورة كربلاء وما رافقها وتبعها من مآس ومصائب انصبت علي أهل بيت النبوة وأتباعهم وشيعتهم، نتيجة لكل ذلك قضي (عليه السلام) حقبة طويلة من حياته بعيداً عن الاضواء ولم ينقل إلينا الرواة والمؤرخون إلاّ نبذاً يسيرة منها، ومع ذلك فان هذا المقدار الذي عرفناه يشكل مادة ثريّة للدراسة والبحث والتحليل، لكونها ملئية بالعطاء وهي مدرسة قائمة بذاتها يستلهم منها العبر. هذا الكتاب حلقة جديدة في سلسلة الدراسات التي تهدف إلي ربط المسلمين بأهل البيت (عليهم السلام) وتعريفهم عليهم، بقلم سهل واسلوب أدبي شيق يتناسب مع

حاجات المجتمع، وينسجم مع الذوق العام، الامر الذي يفتح الطريق واسعاً أمام الفكرة التي يحاول المؤلف إلقاء الضوء عليها وايصالها إلي القراء الكرام. والله من وراء القصد، وإنه ولي التوفيق. المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لاهل البيت (عليهم السلام)

الاهداء

الي الذين ينشدون الخطوات الجادّة لاحياء الاسلام وانقاذ امة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم). والي الذين يبحثون عن الكنوز الضائعة تحت انقاض التأريخ. ارفع بين ايديهم هذه البحوث «النظرية السياسية لدي الامام زين العابدين (عليه السلام)». آملاً توظيفها في البناء السياسي والحضاري. محمود البغدادي جامعة النجف / 1403ه_ قال الرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة نادي مناد من بطنان العرش: ليقم زين العابدين. فكأنني انظر الي ولدي علي بن الحسين، يخطر بين الصفوف. تاريخ دمشق نسخة مصورة علي النسخة الظاهرية بدمشق، وكفاية الطالب ص448، ومناقب آل ابي طالب ج4 ص167، والصواعق المحرقة ص120، ومصادره كثيره.

علي زين العابدين رؤية في الخط السياسي

المقدمة

اذا عرفت الاسلام معرفة واسعة فاحصة، فسوف لا تستغرب من ذلك العالم الكبير المتقشف، الذي ما برح يصوم النهار، ويقوم ناشئة الليل، وهي اشد وطأً وأقوم قيلا، حتي لقب بذي الثفنات، وأدهش الخافقين بعبادته وزهده وروحانيته. اقول: لا نستغرب منه إذا ما رأيناه علَماً من اعلام السياسة، ورجالاتها الافذاذ. لقد استطاع علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ان يجمع بين الشؤون، الروحية والمنطلقات السياسية، جمعاً لا يخامره التعسف ولا يشوبه الريب. فهو العابد المتهجد، الزاهد، الخاشع، الاواب. وهو المربّي المقاوم للظلم والاستبداد، والسند القوي للمستضعفين، ليشهد العالم ان الاسلام: دين الروحية والعقيدة ودين القيادة والسياسة فلا فصل بين العبادة والسياسة في الاسلام، بل هما وحدة متكاملة بمنزلة الروح والجسد. هذا اذا فهمنا الاسلام فهماً موضوعياً بعيداً عن مخططات الاستعمار والامبريالية ومصالح المستغلين. يا ويل الذين لا يفهمون الاسلام او لا يريدون ان يفهموه الاّ من خلال العاطلين المتبطّلين والفئات الغافلة عما يراد بها بمنأيً عن السياسة والنظم الحيوية الرائدة لاسلامنا العظيم. يا

ويل الذين لا يفهمون الاسلام أو لا يريدون أن يفهموه إلاّ من خلال جهول أو حقود أو كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب. يا ويل الذين لا يفهمون الاسلام أو لا يريدون أن يفهموه إلاّ من خلال ذلك التطبيق الشائن الابتر للدول التي تدعي الاسلام، والاسلام منها بريء. من اسرار سياسة الامام علي زين العابدين (عليه السلام) انه ذلك الانسان الذي تكنّ له الجماهير كل اجلال وإكبار وحب عميق، ولا أدلّ علي ذلك من قصة الامواج البشرية التي ارتادت بيت الله الحرام والتي ما اِن رأت علي بن الحسين (عليه السلام) يريد ان يشق طريقه حتي انفرجت له وافترقت، فكان كل فرق كالطود العظيم، من غير اتفاق سابق ومن دون امر صادر لها في الوقت الذي كان فيه هشام بن عبدالملك مع موكبه الرسمي محتفظاً بموطئ قدم له منتظراً ان يخف الزحام ليؤدي مناسك الحج. ومن اسرار سياسة علي زين العابدين (عليه السلام) انه المتمكن من الضمير الشعبي حتي في حالة انتهاج المواقف الصلبة والحدّية، وانه الموقّر المهيب وإن توشح باللين والتواضع، وهذا هو السحر الحلال في السياسة والمجتمع. ومن اسرار سياسة علي زين العابدين (عليه السلام) انه قام بالمنجزات الكبيرة بعيداً عن الوسائل الاعلامية. ولكن الوسائل الاعلامية ما فتأت تكرر ذكره في محافلها وتمجده طوعاً اوكرهاً. ولابدّ ان يكون الامام زين العابدين (عليه السلام) شاعراً بهذا المعني الذي قد ورد في احدي الابتهالات الدينية الرفيعة المستوي: وكم من ثناء جميل لست اهلاً له نشرته. ما تمتاز به سياسته الفضلي انها تستند الي قاعدة فكرية وقانونية عظمي تكاد ان تكون منقطعة النظير إذْ انه الاوحديّ من علماء عصره استلهاماً للفكر الاسلامي واستيعاباً لقواعد التشريع.

من براعة سياسة علي زين العابدين (عليه السلام) انه لم يكن منصرفاً الي ا لسياسة كل الانصراف، وانما كانت السياسة شأنا من شؤونه لا اكثر ومع هذا فقد حقق من المكاسب السياسية ما يدهش الذين انصرفوا اليها انصرافاً تاماً وكانت شغلهم الشاغل طيلة الحياة من ذوي العبقرية السياسية، والاضطلاع، والجد، وقوة الاحتمال. اذا كان بعض مهرة القادة يفرضه العدو والصديق علي الحق، فان الامام زين العابدين (عليه السلام) فرضه الحق علي الصديق والعدو. ويا رُبَّ راكع للحق يجعله الحق شمساً في كبد السماء لا يراها إلاّ من رفع الرأس اليها. ان المؤلفات حول الامام علي زين العابدين (عليه السلام) التي تتحدث عن حياته وشخصيته وسلوكه العام قليلة جداً واما التي تتحدث عن خصوص سياسته فليس لها وجود. لذا جاء هذا الكتاب _ باذن الله تعالي _ محاولة لملء فراغ في المكتبة الاسلامية، وسد ثغرة من ثغرات السياسة والتاريخ. ان منهجنا في البحوث عن الامام زين العابدين (عليه السلام) قائم علي كتابة بحوث كثيرة وعلي مختلف الاصعدة فيما يتعلق به تتضمن فيما تتضمن: سياسته، تفسيره للقرآن الكريم، انشطته الادبية وغير ذلك، ثم قمنا بعملية انتزاعية للبحوث التي تتعلق بخطه السياسي، فجاءت في كتاب مستقل.. وهكذا صنعنا بالنسبة للبحوث الاخري. طبعاً مع اضافات وتنقيحات لاصل البحوث الواقعة في الاطار العام. لقد ضمّ الكتاب عن سياسة زين العابدين مواضيع مثل: مع الحسين في الثورة الخالدة. موقفه من القيادة السياسية. سياسة تحرير العبيد. توجيه العلماء. المنعطفات السياسية في ادعية الامام زين العابدين (عليه السلام). حركة الرسائل السياسية، وغيرها. اي اننا اردنا ان نعرف خطه السياسي من ثنايا هذه المواضيع التي هي مصاديق او ملامح للخط. ان الخط السياسي للامام

زين العابدين (عليه السلام) هو خط الاسلام بلا ريب، بيد ان للخط السياسي في الاسلام شُعباً وميادين كثيرة قد اقتصر منها الامام زين العابدين (عليه السلام) علي ما يوافق الملابسات، والظروف السياسية، والاجتماعية، مع فرضه وادخاله جملة من الاراء والمواقف علي الملابسات والظروف. لم تكن سياسة الامام زين العابدين (عليه السلام) سياسة غامضة فحسب، بل غامضة جداً وعليها الف ستار وستار من التغطية والتمويه التي خلقها الامام زين العابدين (عليه السلام) نفسه، فقد وضع لمسات خطه السياسي بما ينسجم مع الظروف القاهرة، والاهوال المحيطة ويتناسب وحدّتها، وشدة توترها. ان هذه هي العلة في عدم انكشاف خطه السياسي الي الان، حتي اعتقد الناس عامة بان لا سياسة له معللين ذلك بعدم امكانية إتاحة فرصة للعمل السياسي، فان الظروف السياسية الضاغطة والقاسية التي اكتنفت حياة قوي المعارضة السياسية وواجهتها بشدة وعنف قد لوّحت بالعصا الغليظة لاقل افراد المعارضة، اذاً فما يكون مصير القائد المؤمل؟. واذا ما كُشفت خطوط سياسة ما، وشُخّص الكثيرون من رموز المعارضة، فان الدقة المتناهية لسياسة الامام زين العابدين (عليه السلام) أبت إلاّ ان تكون لغزاً من الالغاز، بل اشد خفاءً وتمويهاً. حتي ان القيادة السياسية علي الرغم من عمليات الرصد والترقب ما استطاعت التوصل الي اكتشافها. ولعلك قد سمعت بالجفرة الهيروغليفية التي لم تكن يُعار لها اهمية، ولم يكن يظن أن لها مفاداً ومعنيً حتي اكتشف اسرارها شبوليون، فاذا بالمعاني تنهال عليه وهكذا كانت سياسة الامام زين العابدين. فهلمَّ اليّ لنسير معاً في مجاهيل السياسة، واصبر نفسك معي فكأننا قد توصلنا الي حل العقدة وكشف اللغز وعشنا في رحاب سياسة الامام زين العابدين (عليه السلام). (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع

الشاهدين). محمود البغدادي

المنعطفات السياسية في أدعية زين العابدين

الظروف السياسية والاجتماعية

ان دراسة الظروف السياسية الحاكمة في عهد الامام زين العابدين واستيعاب المتغيرات الاجتماعية المعاصرة له لتلقي الضوء علي بعض الركائز الاساسية في انفجار تيار من الادعية والمناجاة علي لسان علي زين العابدين (عليه السلام) ومن قلبه وضميره وفكره وسياسته. لقد عمّ الفساد آنذاك، وانتشر الترف، وساد اللهو الفاحش والغناء الخليع والمجون وغرق المجتمع في نهر الخمر الجاري من قصور الخلفاء الي بيوت الاماء. ان مراجعة تاريخهم السياسي والاجتماعي ليوقفنا علي ذلك ولسنا الان بصدد ذكر التفاصيل فانها لا حدود لها مودعة في بطون التواريخ المختلفة ولكن يكفي ان نشير الي بعضها اشارة العابر ولنتخذ قطعة صغيرة ولكنها كبيرة الدلالة من كتاب مروج الذهب. «... وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة علي الشراب، وجلس ذات يوم علي شرابه وعلي يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فاقبل علي ساقيه فقال: اسقني شربة تروّي عظامي ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زياد صاحب السر والامانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي ثم امر المغنين فغنوا به. وغلب علي اصحاب يزيد وعماله ماكان يفعله من الفسوق، وفي ايامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، واظهر الناس شرب الشراب. وكان له قرد يكني بأبي قيس يحضره مجلس منادمته ويطرح له متكأ، وكان قرداً خبيثاً، وكان يحمله علي أتان وحشية قد ريضت وذلّلت لذلك بسرج ولجام ويسابق بها الخيل... وعلي ابي قيس قباء من الحرير الاحمر والاصفر مشمر، وعلي رأسه قلنسوة من الحرير ذات الوان بشقائق وعلي الاتان سرج من الحرير الاحمر منقوش ملمع بانواع من الالوان» [1] . ومما يدل علي اللهو العابث والضياع ان شعر عمر بن ابي ربيعة _ المعاصر لزين العابدين _

وهو شعر كثير وقلما يوجد في شعراء زمانه من يضاهيه في الكثرة.. اقول يكاد ان يكون شعره كله جميعاً في التغزل والتشبيب ومحاورة النساء وذكر اسماء العاشقات والمعشوقات والتفكّه باعراضهن. ان عمر بن ابي ربيعة وان كان قد فتح في محاورته واسلوبه القصصي باباً فنياً واسعاً لم يسبقه اليه سابق في هذه الصورة ولكن موضوع شعره يعبر عن الفراغ واللهو العابث الذي كان المجتمع منغمساً فيه. ولعل الامام زين العابدين (عليه السلام) قد اومأ ايماءة خفية الي هذا الانحطاط والملذات المزرية، والفراغ القاتل. يقول صلوات الله عليه: كفي بالمرء عاراً ان تراه من الشأن الرفيع الي انحطاط علي المذموم من فعل حريصاً عن الخيرات منقطع النشاط يشير بكفه امراً ونهياً الي الخدّام من صدر البساط يري ان المعازف والملاهي مسببة الجواز علي الصراط لقد خاب الشقي وظن عجراً وزال القلب منه عن النياط [2] . ان الابيات توضح انه قد راي اشخاصاً ممن كان عليهم المعوَّل قد انساقوا مع المغريات و جرفهم التيار السياسي والاجتماعي الي مالا تحمد عقباه فإذا هم من الشأن الرفيع الي الانحطاط، والي الاقامة علي الافعال الذميمة، والانقطاع عن الخير، وقد شغلتهم المعازف والملاهي. في مثل هذه الظروف والمتغيرات الاجتماعية الدكناء قد انبثقت أدعية علي زين العابدين (عليه السلام) حمماً بركانية ضد الركام الهائل من الفساد الاجتماعي والانحطاط الاخلاقي والاحباط الروحي والتدهور السياسي. لقد كانت ادعية الامام زين العابدين (عليه السلام) نداءً عالياً ان يا ايها الناس اذكروا الله وملائكته وانبياءه ورسله كذكركم سعيدة وميّة وعزّة وبثينة وليلي ولبني او اشد ذكرا.

الصوت الملائكي الجميل

ومن اجود ما يقوله وهو يوجه المجتمع الي الله تعالي ويدعوهم الي العيش الرغيد في سُبُحات ذكره هذه

الترنيمة الرائعة، والصوت الملائكي الجميل المؤثر، الذي يشد الخلق الي الله والمثل الاعلي: الهي فألهمنا ذكرك في الخلاء والملا، والليل والنهار والاعلان والاسرار، وفي السراء والضراء وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي. الهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلي معرفتك جمعت القلوب المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلاّ بذكراك، ولا تسكن النفوس الا عند رؤياك انت المسبّح في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعو بكل لسان والمعظّم في كل جَنان.. واستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك، الهي انت قلت وقولك الحق: (يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً - وسبّحوه بكرة واصيلا). فامرتنا بذكرك ووعدتنا عليه ان تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيما واعظاماً وها نحن ذاكروك كما امرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين، ويا ارحم الراحمين [3] .

الدعاء رسالة مفتوحة الي المجتمع

لقد كانت ادعية الامام زين العابدين (عليه السلام) رسالة مفتوحة الي المجتمع؟: يا من اتّقيتم سلطان الارض ألا تتقون سلطان السماء؟ يا من ارهبكم عذاب الدنيا، الا ترهبون عذاب الاخرة اذ الاغلال في اعناقهم والسلاسل يسحبون؟ اتخشون ملكاً إذ تعصونه مرة واحدة، ولا تخشون ملك الملوك وأنتم في كل يوم له عاصون؟ تسيء اليكم الحكومات وانتم تطيعونها؟ ويحسن اليكم رب الارباب وانتم تخالفونه! اتقوا الله. ارهبوا الله. اخشوا الله، فان «رأس الحكمة خشية الله». اللهم ان ملائكتك مشفقون من خشيتك، سامعون مطيعون لك وهم بامرك يعملون، لا يفترون الليل والنهار يسبّحون وانا احق بالخوف الدائم لاساءتي علي نفسي وتفريطها الي اقتراب أجلي. اللهم اني قد اكثرت من ذنب انا فيه مغرور

متحير. اللهم اني قد اكثرت علي نفسي من الذنوب والاساءة واكثرت عليّ من المعافاة سترت عليّ ولم تفضحني بما احسنت لي النظر واقلتني العثرة واخاف ان اكون فيها مستدرجاً فقد ينبغي لي ان استحي من كثرة معاصيّ ثم لم تهتك لي ستراً... يا الهي انا الذي لم اعقل عند الذنوب نهيك ولم اراقب عند اللذات زجرك ولم اقبل عند الشهوة نصيحتك. ركبت الجهل بعد الحلم وغدوت الي الظلم بعد العلم... اللهم انك تجد من تعذّبه غيري ولا اجد مَن يرحمني سواك، فلو كان لي مهرب لهربت، ولو كان لي مصعد في السماء لصعدت او مسلك في الارض لسلكت ولكنه لا مهرب لي ولا ملجأ ولا منجي ولا مأوي منك إلاّ اليك [4] . هذا من جهة خشية المجتمع من القيادة السياسية واجهزتها القمعية، واما من جهة الطلبات الاستجدائية التي تقدم للسلطة آنذاك بل في غير ذلك من الازمان، فكم يري الرائي الخلق متوجهين الي ارباب الحكم متوسلين اليهم، ولطالما كان دعاؤهم اياهم اكثر من دعائهم الله الواحد القهار. وفي العصر الاموي بالذات توجهت اكثر الطبقات الاجتماعية صوب الامويين بالدعاء والتوسل لاستدرار اموالهم وقضاء حوائجهم المختلفة حتي تلك التي تصير بهم إلي المذلة والاستكانة. لقد قال جرير الشاعر المعروف الذي كان معاصراً لزين العابدين (عليه السلام) يستجلب عطف الخليفة: هذي الارامل قد قضّيت حاجتها فمن لحاجة هذا الارمل الذكر ونحن نسوق هذا الشاهد لا لانه يمثل نفسية احد الرجال فحسب، وانما باعتباره يمثل حالة نفسية وظاهرة عامة لدي الكثير من البشر، بما في ذلك المعاصرون للحكم الاموي. ومراجعة الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسي يوضح ذلك ايما توضيح. لقد علم علي زين العابدين (عليه السلام) بالوضع المأساوي المذكور

آنفاً وسمع ملء اذنيه الادعية الطويلة العريضة التي توجه صوب قبلة القيادة السياسية. فمن ثم يناجي الله تبارك وتعالي ويدعوه دعاء الموقظ للمجتمع، والذي يزرق في عضلاته مصل التنبيه والاحساس: «فصل علي محمد و آل محمد وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها وتيسير ذلك عليك وبفقري اليك وغناك عني فاني لم اصب خيراً الاّ منك ولم يصرف عني سوءاً قط احدٌ غيرك، ولا ارجو لامر آخرتي ودنياي سواك... اللهم من تهيأ وتعبّأ واعدّ واستعدّ لوفادة الي مخلوق رجاء رفده ونوافله وطلب نيله وجائزته، فاليك يا مولاي كانت اليوم تهيئتي وتعبئتي واعدادي واستعدادي رجاء عفوك ورفدك وطلب نيلك وجائزتك» [5] .

المنطلقات الاجتماعية والسياسية

لقد سبق الي الاذهان البعد الشخصي من ادعية الداعين _ بشكل عام _ ومن بينهم الامام زين العابدين (عليه السلام). فهو يدعو استقالة من الذنوب وتوبة الي الله واستدراراً للرحمة والكرم الالهيين وتهذيباً للنفس ونحو ذلك، ولكننا اذا راجعنا الصحف السجادية الاولي والثانية والثالثة والرابعة والخامسة سوف نقع علي الجماء الغفير من الادعية والابتهالات التي تخرج عن ساحة البعد الشخصي الي حيث المنطلقات الاجتماعية وغير ذلك، فكما انه لم يغفل البعد الشخصي من الدعاء كذلك قد ركز وبكل تأكيد علي المنعطفات الاخري اذ إن الادعية ادوية لا حصر لها لامراض لا حصر لها. فتارة يدعو زين العابدين لنفسه ادعية كثيرة، وتارة يدعو لولده واخري لجيرانه واوليائه ورابعة في الاستسقاء، ومن ذلك دعاؤهُ لاهل الثغور ودعاؤه علي الظالمين كما سيأتي الحديث عنهما، وهكذا فهو ينتقل من دائرة لاخري ومن منحيً الي منحيً، لتعم الفائدة المرجوّة من الدعاء ويسعد الجميع. نعم، الجميع الاّ من اختار علي عمد الشقاء وارتأي منهج الضلالة والانحراف. فهل يمكن

مثلاً الارتياب في النزعة السياسية لهذا الدعاء الذي كان يناجي به امام المجتمع حيث الحشود المتقاطرة في عيد الاضحي والجمعة: «اللهم ان هذا المقام لخلفائك واصفيائك ومواضع امنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها... قد ابتزوها وانت المقدّر لذلك لا يغالب امرك ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك كيف شئت واني شئت ولما انت اعلم به غير متهم علي خلقك ولا لارادتك، حتي عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين، مقهورين، مبتزين، يرون حكمك مبدّلا، وكتابك منبوذا، وفرائضك محرفة عن جهات اشراعك، وسنن نبيك متروكة» [6] .

ثلاث نظرات

هناك ثلاث نظرات فيما يتعلق بالبعد الشخصي للدعاء وفي تفسيره. ونعتقد ان النظرة الثالثة هي الصحيحة. النظرة الاولي: ان الداعين بما فيهم القادة الرساليون كالرسول واهل بيته، انما يدعون من اجل انفسهم لا اكثر باعتبارهم بشراً تكتنفهم مختلف الاحتياجات الشخصية لله عزّوجلّ فدعاؤهم اذاً دعاء شخصي خالص. النظرة الثانية: ان دعاء الرسول واهل بيته وغيرهم من القادة الرساليين انما هو من اجل المجتمع فحسب، ولا صلة لاشخاصهم في ذلك باعتبارهم قد وصلوا الي درجة عليا من الوعي الرسالي والاجتماعي وتحمل اعباء المسؤولية الجماعية ونكران الذات، فهم يفكرون بالمجتمع لا غير، غافلين اومتغافلين عن ذواتهم اي ان الغاية الوحيدة من الدعاء هي التربية غير المباشرة والمباشرة احياناً للمجتمع وتعليمه كيفية الدعاء وعمليات التطهير لشوائب النفس وصورة الادب مع الله. النظرة الثالثة: وهي النظرة الجامعة بين النظرتين، ألا وهي الدعاء من اجل النفس ومن اجل المجتمع ايضاً. في كثير من الاحيان كانت تصحب ادعية زين العابدين وغيره دموع ساخنة، ولهفات لاذعة. فاذا كان دعاؤهم من اجل المجتمع لا غير فهذا يعني ان تلك الدموع واللهفات مجرد قضية تمثيلية فقط، وزين العابدين واولئك الداعون

أجلّ وازكي من ذلك كما هو واضح. واذا كانت جميع ادعية زين العابدين وغيره من اجل نفوسهم لا اكثر من ذلك، فلماذا كانوا يعلّمون المجتمع ألواناً من الدعاء والمناجاة؟. وعلي سبيل المثال، لماذا أملي الامام زين العابدين (عليه السلام) الصحيفة السجادية الكاملة جميعها علي ولده ابي جعفر محمد الباقر (عليه السلام). كما ان تلك الادعية في حالة الانفراد وفي حالة الاجتماع تصحح النظرة الثالثة الجامعة ما بين النظرتين. دلائل العموم: يعرف عمومها من جهة صيغ الجمع كقول الامام زين العابدين (عليه السلام): «الهي فاجعلنا من الذين ترسخت اشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم» [7] ونحو ذلك كثير. ويعرف كذلك من جهة المدعو لهم كقوله: «اللهم لا تغلق علي موحديك ابواب رحمتك...» [8] فهو دعاء لمطلق الموحدين من الاولين والاخرين. ومن هذا القبيل ما مرّ من الاشارة الي مصاديق من ادعيته التي تتصف بالصيغ العمومية. ينبغي لفت النظر والقول بكل تأكيد الي ان نفس الادعية التي تتسم بالطابع الشخصي في مواضيعها او صيغها وتعبيرها، هي ايضاً ادعية عامة من زاوية اخري، إذ انها سياسة تربوية ومنهج نفسي يرتفع بالمجتمع _ في حالة استلهامه وتطبيقه عملياً _ الي حيث المواقع المتقدمة التي تنفع النفع الكبير علي صعيد الحياة الدنيا والاخرة. يرتفع بالمجتمع الي حيث: سمو الذات والثراء الروحي وسعة الافاق السياسية والتحرر من الجمود

من امثلة الادعية العامة

من دعاء الثغور: «اللهم صل علي محمد وآله وحصّن ثغور المسلمين بعزتك وايِّد حماتها بقوتك، واسبغ عطاياهم من جدتك. اللهم صل علي محمد وآله وكثّر عدّتهم، واشحذ اسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم، ودبّر امرهم، وواتر بين مِيَرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر وأعنهم بالصبر، والطف لهم بالمكر. اللهم صل علي

محمد و آله وعرِّفهم ما يجهلون، وعلِّمهم ما لا يعلمون، وبصّرهم ما لا يبصرون. اللهم صل علي محمد وآله وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور، وامحُ من قلوبهم خطرات المال الفَتون، واجعل الجنة نصب اعينهم، ولوِّح منها لابصارهم ما اعددت فيها من مسَاكن الخلد ومنازل الكرامة، والحور الحسان، والانهار المطّردة بانواع الاشربة، والاشجار المتدلية بصنوف الثمر حتي لا يهم احد منهم بالادبار، ولا يحدّث نفسه عن قرنه بالفرار. اللهم افلل بذلك عدوهم، واقلم عنهم اظفارهم، وفرّق بينهم وبين اسلحتهم، واخلع وثائق افئدتهم، وباعد بينهم وبين ازودتهم، وحيّرهم في سبلهم، وضللهم عن وجههم، واقطع عنهم المدد، وانقص منهم العدد، واملا افئدتهم الرعب، واقبض ايديهم عن البسط، واخزم السنتهم عن النطق، ونكّل بهم مَن وراءهم، واقطع بخزيهم اطماع من بعدهم... اللهم اغز بكل ناحية من المسلمين علي من بإزائهم من المشركين، وامددهم بملائكة من عندك مردفين، حتي يكشفوهم الي منقطع التراب، قتلا في ارضك، واسراً، او يقرّوا بانك انت الله لا اله الا انت وحدك لا شريك لك... اللهم اشغل المشركين بالمشركين عن تناول اطراف المسلمين، وخذهم بالنقص عن تنقّصهم، وثبّطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم. اللهم أخل قلوبهم من الامنة، وابدانهم من القوة، واذهل قلوبهم عن الاحتيال، واوهن اركانهم عن منازلة الرجال، وجبّنهم عن مقارعة الابطال، وابعث عليهم جنداً من ملائكتك ببأس من بأسك كفعلك يوم بدر، تقطع به دابرهم، وتحصد به شوكتهم، وتفرّق به عددهم. اللهم وامزج مياههم بالوباء، وبالادواء، وارم بلادهم بالخسوف، والحّ عليها بالقذوف، وامرعها بالمحول، واجعل مِيَرهم في أحصِّ ارضك، وابعدها عنهم، وامنع حصونها منهم. اصبهم بالجوع المقيم، والسقم الاليم. اللهم وايما غاز غزاهم من اهل ملّتك او مجاهد جاهدهم من

اتباع سنّتك ليكون دينك الاعلي، وحزبك الاقوي، وحظك الاوفي، فلقِّهِ اليسر، وهيّئ له الامر، وتولّه بالنجح، وتخيّر له الاصحاب واستقوِ له الظهر، واسبغ عليه في النفقة، ومتِّعْه بالنشاط، وأطفِ عنه حرارة الشوق، وأجرْه من غمِّ الوحشة، وأنسِهِ ذكر الاهل والولد، وآثر له حسن النية، وتولّه بالعافية، واصحبه السلامة، وأعفهِ من الجُبن، وألهمْهُ الجرأة، وارزقه الشدة... اللهم وايما مسلم خلف غازياً او مرابطاً في داره، او تعهّد خالفيه في غيبته، او اعانه بطائفة من ماله، او أمدّه بعتاد، او شحذه علي جهاد، او اتبعه في وجهه دعوة، او رعي له من ورائه حرمة، فأجر له مثل اجره وزناً بوزن، ومثلاً بمثل وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً، يتعجل به نفع ما قدّم، وسرور ما أتي، الي ان ينتهي به الوقت الي ما اجريت له من فضلك، واعددت له من كرامتك. اللهم وايما مسلم اهمّه امر الاسلام، واحزنه تحزّب اهل الشرك عليهم، فنوي غزواً، او همّ بجهاد، فقعد به ضعف او أبطأت به فاقة، او أخّره عنه حادث، او عرض له دون ارادته مانع، فاكتب اسمه في العابدين، واوجب له ثواب المجاهدين، واجعله في نظام الشهداء والصالحين» [9] . من منهج القرآن: هل من الممكن بالنسبة لعلي زين العابدين وهو من ائمة تفسير القرآن، وحليفه أن يغفل عن منهج القرآن، واسلوبه في الادعية والتوجه الي الله شداً للمجتمع، واخذاً بيديه الي الحق المطلق، او في توجيه الحوارق والخوارق من الادعية ضد المجرمين والمستبدين وعبد الطاغوت؟. فذاك نبيّ الله نوح يبتهل الي الله: (ربّ لا تذر علي الارض من الكافرين ديّاراً - انك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الاّ فاجراً كفّارا) [10] وقال تعالي: (وما كان قولهم الا

ان قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في امرنا وثبت اقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين) [11] ومفاد الاية الاخيرة عام في جماعات كثيرة قاتلت الي جانب الانبياء بدليل الاية السابقة (وكأيّن من نبي قاتل معه ربّيون كثير...) اي ان هنالك تلاحماً مصيرياً وتوجهات موحدة بين الضمائر والافكار والابتهالات لمختلف الذين يجمعهم الدرب اللاحب للجهاد مع شتي الانبياء. وقال علي لسان الحواريين: (ربنا آمنا بما انزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) [12] . منار للامة: هذا من ناحية التوجه العام لجملة من آيات الادعية العامة فيه والتي كان الامام زين العابدين عارفاً بها بلا ريب كما اشرنا قبل قليل، واما من ناحية ثانية فان من يعرف شخصية علي زين العابدين (عليه السلام) او يطّلع علي الخطوط العريضة فيها يدرك بوضوح ذلك البعد النفسي الرائع بل اكثر من بُعد من حيث التضحية والفداء والايثار وحب الانسانية والرفق والتحنن لها. فهل شغلته نفسه وحدها واراد لها الخير وحدها، تاركاً للاخرين من غير التفات واحساس بحالاتهم، واوضاعهم، ومسار حياتهم، وتوجهاتهم؟ كما ان زين العابدين منار للامة، وزعيم عقائدي، ورائد من رواد الخير والفضيلة. انه الامام، اذاً ليس من المتوقع ان يترك الامة سديً، والانسانية جانباً، فكما ان عليه _ من منطلق المسؤولية الكبري _ ان يدلهم علي الصواب والاستقامة، ويأخذ بايديهم الي حيث السياسة الالهية، والنزعة الروحية، ويدعوهم الي الله، فكذلك عليه ان يدعو لهم بالتوفيق والخير والصلاح. ما اريد ان اقوله: ينبغي للقادة المبدئيين ان يعينوا الله علي الناس، ويعينوا الناس علي الله. ان يعينوا الله عليهم، بان يرشدوهم اليه، ويعينوهم عليه بان يسترحموه لهم. اذ ان من الواضح وجوب الارشاد، والتربية، والتوجيه ووجوب استرحام الله، واستعطافه. وبعبارة

اخري: ان علي قادة الشعوب ان يدعوهم الي الله ويدعوا الله لهم. ومن امثلة الادعية العامة هذا الدعاء الذي دعا به زين العابدين في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان المبارك وهو دعاء علي الظالمين. ان شهر رمضان افضل الشهور عند الله وفيه ليلة القدر التي هي خير من الف شهر وهو شهر العبادة والصيام والانابة الي الله تعالي او كما قال زين العابدين: «وهذا شهر الصيام وهذا شهر القيام، وهذا شهر الانابة، وهذا شهر التوبة وهذا شهر المغفرة والرحمة، وهذا شهر العتق من النار والفوز بالجنة». فاذا اخذنا بنظر الاعتبار الايحاءات الروحية والاجواء العبادية لشهر رمضان المبارك، وكذلك الاعمال العبادية الخاصة، وألوان التزلف الي الله التي كان يقوم بها الامام زين العابدين في شهر رمضان; فان هذا يكفي للتدليل علي ان زين العابدين (عليه السلام) وهو يدعو الله علي الظالمين في مثل هذا الشهر انما كان يجمع بين التهجد والانابة الي الله، وبين التصدي والمقاومة، وبين الدعاء من جهة و بين السياسة من جهة ثانية. وهكذا قال الامام زين العابدين (عليه السلام): «اللهم ان الظلمة جحدوا آياتك، وكفروا بكتابك، وكذّبوا رسلك، واستنكفوا عن عبادتك، ورغبوا عن ملّة خليلك، وبدّلوا ما جاء به رسولك، وشرعوا غير دينك، واقتدوا بغير هداك، واستنّوا بغير سننك، وتعدّوا حدودك، وسعوا معاجزين في آياتك، وتعاونوا علي اطفاء نورك، وصدّوا عن سبيلك، وكفروا نعماءك، وشاقّوا ولاة أمرك، ووالوا أعداءك، وعادوا أولياءك، وعرفوا ثم انكروا نعمتك، ولم يذكروا آلاءك، وأمنوا مكرك، وقست قلوبهم عن ذكرك، واجترؤوا علي معصيتك، ولم يخافوا مقتك، ولم يحذروا بأسك، واغترّوا بنعمتك. اللهم انهم اتخذوا دينك دغلاً، ومالك دولا، وعبادك خولا. اللهم افتت اعضادهم، واقهر جبابرتهم، واجعل الدائرة

عليهم، واقضض بنيانهم، وخالف بين كلمتهم، وفرّق جمعهم، وشتّت امرهم، واجعل بأسهم بينهم، وابعث عليهم عذاباً من فوقهم ومن تحت ارجلهم، واسفك بايدي المؤمنين دماءهم، وأورث المؤمنين ارضهم وديارهم واموالهم. اللهم ضلِّل اعمالهم، واقطع رجاءهم، وادحض حجتهم، واستدرجهم من حيث لا يعلمون، وائتهم بالعذاب من حيث لا يشعرون، وانزل بساحتهم ما يحذرون، وحاسبهم حساباً شديداً، وعذّبهم عذاباً نُكرا، واجعل عاقبة امرهم خسرا. اللهم انهم اشتروا بآياتك ثمناً قليلاً، وعتوّا عتواً كبيرا. اللهم انهم اضاعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات. اللهم ادفع عن وليك، وابن نبيك، وخليفتك، وحجتك علي خلقك، والشاهد علي عبادك، المجاهد المجتهد في طاعتك...». ومن هذا الدعاء: «اللهم اشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، والمم به شعثنا، وكثر به قلتنا، واعزز به ذلّتنا، واقض به عن مغرمنا واجبر به فقرنا، وسدَّ به خلّتنا، وأغن به عائلنا، ويسر به عسرنا، وكفّ به وجوهنا، وانجح به طلبتنا، واستجب به دعاءنا، واعطنا به فوق رغبتنا، واشف به صدورنا، واهدنا به لما اختلف فيه من الحق، يا رب انك تهدي من تشاء الي صراط مستقيم. اللهم أمت به الجور، واظهر به العدل، وقوّ ناصره، واخذل خاذله، ودمِّر من نصب له، وأهلك من غشه، واقتل به جبابرة الكفر، واقصم رؤوس الضلالة...» [13] . فضح الهوية السياسية: يتصدي هذا الدعاء لفضح الهوية السياسية والعقائدية للظالمين، والكشف عن اساليبهم ومخططاتهم في المجتمع والدولة. ويقصد بهم الجهاز الحاكم آنذاك اذ ان زين العابدين معروف برؤيته السياسية والعقائدية لهم، وفي عدة مواقع من هذا الكتاب ما يوضح ذلك لا سيما في بحث مواقفه من القيادة السياسية. ولكن الامام زين العابدين (عليه السلام) قد وصف الجماعة الحاكمة بالكفر: «وكفروا بكتابك» وهل يمكن ان يوصف بالكفر

من يشهد ان لا اله الاّ الله وان محمداً رسول الله؟. والجواب أننا اذا عرفنا رؤية زين العابدين (عليه السلام) لمعاصريه من الحكّام لا نستغرب اطلاقه الكفر عليهم أخذاً بقوله تعالي: (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون) [14] . واما أداء شعائر اسلامية من قبيل الصلاة والصيام والحج، فقد قال وهو يصف الجماعة: «اللهم انهم أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات». والظاهر انه يقصد من ذلك ان لا اعتبار بأداء الشعائر بعد تفريغها من المحتوي، وقد قال تعالي: (ان الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) [15] ، فاذا لم تنه عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة. ومن قبيل السؤال السابق حول وصف الجماعة بالكفر وصفه لها بتكذيب الرسل، «وكذبوا رسلك». والجواب ان التكذيب قسمان: القسم الاول: هو الاعتقاد بان الله تعالي لم يبعث الرسل وانما ادّعوا امراً ليس لهم، اي نفي اصل الرسالات الالهية. القسم الثاني: هو عدم الاقتداء بهم والعمل علي خطهم وسنتهم وهداهم، او كما قال زين العابدين (عليه السلام): «ورغبوا عن ملة خليلك، وبدّلوا ما جاء به رسولك». لم يكن الحكّام في عصر الامام زين العابدين (عليه السلام) كلهم علي وتيرة واحدة من جميع الجهات الاعتقادية والعملية، فلذا لا نعرف علي وجه القطع والتفصيل ماذا يقصد بأبعاد فقرة «وكذبوا رسلك». فربما قد جعل بعض الحكّام ضمن القسم الاول وجعل بعضهم ضمن القسم الثاني. بين سياسة الدعاء وسياسة القرآن: ان محاربة الظالمين وفضح مخططاتهم التآمرية جزء لا يتجزأ من رسالة المسلم. ان عداء الظالمين والتصدي لهم سياسة قرآنية، لا لبس فيها، ولا غبار عليها. في القرآن الكريم آيات كثيرة في القدح بالظالمين ولعنهم والدعوة الي اعلان الحرب عليهم. رسالة الامام زين العابدين (عليه السلام)

وسياسته انما تستند الي مبادئ من رسالة القرآن وسياسته في مواجهة الظالمين. بخصوص الدعاء علي الظالمين المذكور قبل قليل نلاحظ عليه سيماء القرآن، فهو بين فقرات مستمدة من سياسة القرآن وبين فقرات منسجمة معها، وبين فقرات ناظرة اليها. وتفصيل ذلك: 1 _ سياسة الدعاء: ان الظلمة حجدوا آياتك. سياسة القرآن: (فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [16] . 2 _ سياسة الدعاء: وكفروا بكتابك. سياسة القرآن: (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون) [17] . 3 _ سياسة الدعاء: وتعدّوا حدودك. سياسة القرآن: (ومن يتعدّ حدود الله فاولئك هم الظالمون) [18] . 4 _ سياسة الدعاء: واقطع دابرهم. سياسة القرآن: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا الحمد لله رب العالمين) [19] . 5 _ سياسة الدعاء: واشف صدور المؤمنين. سياسة القرآن: (قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) [20] . ويمكن ان نضيف لما سبق الدعاء التالي. 6 _ سياسة الدعاء: وحاسبهم حساباً شديداً وعذّبهم عذاباً نكرا واجعل عاقبة امرهم خسرا. سياسة القرآن: (وكأين من قرية عتت عن امر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكرا - فذاقت وبال امرها وكان عاقبة امرها خسرا) [21] .

تنبيهات

1 _ في دعاء الامام زين العابدين (عليه السلام) علي الظالمين من قوله «اللهم ادفع عن وليك وابن نبيك» الي آخر الدعاء.. انما يقصد بذلك المهدي المنتظر. وفي الدعاء الذي ذكرنا مختاره توجد عدة فقرات تدل عليه سواء من التي ذكرت او التي لم تذكر. وقد ذكر هذا المقدار من الفقرات حوله باعتباره اكبر مصداق مؤمل يظهر الله تبارك وتعالي به العدل ويبير به الظالمين. 2 _ في عبارة: «وفي

خصوص الدعاء علي الظالمين المذكور قبل قليل نلاحظ عليه سيماء القرآن».. ينبغي ان يفهم ان عليه سيماء القرآن لا من حيث التعبير والبيان فحسب، بل من حيث المحتويات السياسية والاهداف كذلك. 3 _ قُدّمت الامثلة من سياسة الدعاء علي الامثلة من سياسة القرآن لسبب فني. وإلاّ فان كلام الله تعالي مقدم علي كلام البشر كما هو واضح.

المنجزات السياسية لادعية الامام زين العابدين

اشاره

والان ينبغي ان نذكر اهم المنجزات السياسية لادعية الامام زين العابدين (عليه السلام).

تحديد الخط القيادي

اشاره

ايتها الامة ان كان اختلافك رحمة في تعيين القائد، فان غلبة الاشرار ليست من الرحمة في شيء. نعم ربما كان الاختلاف في تعيين القائد رحمة ولكن لا ينبغي التأكيد علي هذا المعني. فاذا كان رحمة في بعض الاحايين، ودليلاً علي الوعي واليقظة، فانه طالما كان مصدراً للشرور ونجوم النفاق والضعف والهوان، وتصاعد الخلافات الفرعية. واذا كان اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية _ كما يقال _ فمن غير الصحيح التركيز علي هذا التوجه فانه لا يصحّ إلاّ في حالات قليلة، وغالباً ما يكون اختلاف الرأي مدعاة للفساد والتدهور، وتفخيم الاحقاد الكوامن، لا سيما في اكثر بلدان الشرق فان الحرية في الرأي والسلوك هي الغالبة عليها. لقد قال تعالي وقوله الحق _ والحق احق ان يُتّبع _: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين). فالاية المباركة تقرر ان التنازع آية الفشل، وذهاب القوة. وقال تعالي: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات). لقد استشهد الامام علي زين العابدين (عليه السلام) بالاية الثانية ناعياً علي الامة تشتت الكلمة وانعدام الوحدة [22] . ان الخلافات في القضايا السياسية والحيوية ظاهرة طبيعية ولكن ليس كل ظاهرة طبيعية يُستشف منها القوة او الجمال: الاستغلال والجشع في المستعمرين ظاهرة طبيعية. الاستلاب الحضاري ظاهرة طبيعية. تبرير مواقف الظالمين والمستبدين ظاهرة طبيعية. الكذب، الغدر، التملق الذليل، كلها من الظواهر الطبيعية. ولو لا خشية الابتعاد عن صلب الموضوع لكان التفصيل مرغوباً فيه، فهل تري في شيء من هذه الظواهر الطبيعية عنصراً من عناصر القوة او النفع او الجمال للمبادئ او الانسانية؟ انت وما

ارتأيت.

الوان قيادية

هذا الحديث عن الخلافات السياسية من حيث كونه فكرة سياسية عامة وامّا عن خصوص عصر الامام زين العابدين _ اي العصر الاموي _ فنستطيع ان نلاحظ عليه انفجار الاوضاع الامنية، وارتفاع الخط البياني للخلافات الفكرية والنزاعات المسلحة حول طبيعة الحكم ومَن الحاكم. لقد شحنت الرقعة الجغرافية الواسعة للعالم الاسلامي بالوان القيادات. أ _ منها القيادة السفيانية. ب _ ومنها القيادة المروانية. ج_ _ ومنها القيادة الزبيرية. د _ ومنها القيادة الخارجية بل قيادات الخوارج اذ أصبحوا فئات ولكل فئة قائد. ه_ _ ومنها قيادة عبيد الله بن الحر الجعفي [23] . في خضم هذه الاجواء السياسية والعسكرية المتناقضة لابد لمثل الامام زين العابدين (عليه السلام) من ان يبصّر بالحقيقة ويدل علي سواء السبيل لان مثل أمر تعيين القيادة لا يمكن ان يُترك سديً، او يسكت عن اعطاء وجهة النظر الشرعية حوله. وباعتبار ان زين العابدين (عليه السلام) إمام من ائمة الاسلام وفي اعلي درجات العلم والمعرفة بالمفاهيم الاسلامية وأحكام القرآن والسُّنة حتي ان من يعدون في الخط الموازي له تمام الموازاة يذعنون الاذعان الكامل بانه العالم الاوحدي في عصره. ومن كلام لعبد الملك بن مروان يخاطب به الامام زين العابدين (عليه السلام): ولقد اوتيت من الفضل والعلم والدين والورع مالم يؤته احد مثلك ولا قبلك إلاّ من مضي من سلفك.

خلفاء الارض

فلننظر الان من خلال ادعية الامام زين العابدين (عليه السلام) الي من كان يشير بالقيادة من بين الامة الاسلامية. المثال الاول: «ربّ صل علي اطايب اهل بيته الذين اخترتهم لامرك، وجعلتهم خزنة علمك، وحفظة دينك، وخلفاءك في ارضك، وحججك علي عبادك، وطهرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بارادتك، وجعلتهم الوسيلة اليك، والمسلك الي جنتك» [24]

. المثال الثاني: «ومتقرب اليك بنبيك (صلي الله عليه وآله وسلم) احب خلقك اليك، وأكرمهم لديك، وأولاهم بك، واطوعهم لك، واعظمهم منك منزلة، وعندك مكانا، وبعترته صلي الله عليهم الهداة المهديين الذين افترضت طاعتهم، وامرت بمودتهم.. وجعلتهم ولاة امرك بعد نبيك (صلي الله عليه وآله وسلم). اسألك بحق نبيك محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، واتوسل اليك بالائمة (عليهم السلام) الذين اخترتهم لسرِّك، واطلعتهم علي خفيك، واخترتهم بعلمك، وطهرتهم، واخلصتهم، واصطفيتهم، واصفيتهم، وجعلتهم هداة مهديين، وائتمنتهم علي وحيك، وعصمتهم عن معاصيك ورضيتهم لخلقك، وخصصتهم لعلمك، واجتبيتهم، وحبوتهم، وجعلتهم حججاً علي خلقك، وامرت بطاعتهم علي من برأت بمعني (خلقت)» [25] . وتوجد لزين العابدين ادعية اخري في هذا المضمار تكشف عن الجهاز القيادي الذي ينبغي ان يكون علي رأس الامة الاسلامية ويقود الساحة.

نشر الاخلاق الرسالية

اشاره

اضافة شرط (الرسالية) اضافة ضرورية تمييزاً للون الاخلاقي و تحديداً لفلسفته ومفاهيمه. فثم فارق ملحوظ في كثير من الاحيان بين اخلاق المسلم وبين اخلاق الرسالة الاسلامية. وقد تلتقي اخلاق المسلم في جملة من المفردات الاخلاقية مع اخلاق الرسالة الاسلامية. كان زين العابدين في الذروة العليا من الطبقة الواعية استجلاءً لاخلاق القرآن ونشراً لها بين المجتمع، وتحديداً لمفاهيم الاسلام وتعاليمه في التربية والسلوك. ومن اجل التأكيد علي الاهمية القصوي للاخلاق والتربية في الرسالة الاسلامية كان سلام الله عليه يقول: ان احبكم الي الله احسنكم عملا، وان اعظمكم عند الله عملاً اعظمكم فيما عند الله رغبة، وان انجاكم من عذاب الله اشدكم خشية لله، وان اقربكم من الله اوسعكم خلقاً، وان ارضاكم عند الله اسبغكم علي عياله، وان اكرمكم عند الله اتقاكم لله. ولزين العابدين (عليه السلام) كلام طويل يعدد فيه الذنوب وانعكاساتها السلبية

في الحياة الدنيا علي الفرد والمجتمع ومن ذلك قوله: الذنوب التي تنزل البلاء: ترك اغاثة الملهوف وترك معاونة المظلوم، وتضييع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الاعداء: المجاهرة بالظلم، واعلان الفجور، واباحة المحظور، وعصيان الاخيار والانقياد الي الاشرار. لقد فصل الامام زين العابدين (عليه السلام) في الاخلاق الاسلامية التي لابد ان يتحلي بها المسلم او يستقي منها باعتبارها منهلاً عذباً قليل النظير. لقد جاء تفصيله للاخلاق الاسلامية في نصوص كثيرة جداً والذي يهمنا منها الان النصوص التي وردت بصورة ادعية ومناجاة اذ انها موضوع البحث. النصوص الدُعائية في الاخلاق والتربية عند الامام زين العابدين (عليه السلام) علي قسمين: قسم ورد ضمن ادعية اخري، وقسم ورد نصوصاً مستقلة. ونسوق لك الان منها مثالين فحسب:

المثال الاول

اللهم صل علي محمد وآله، وسددني لان اُعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، واثيب من حرمني بالبذل، واكافي من قطعني بالصلة، واخالف من اغتابني الي حُسن الذكر، وان اشكر الحسنة، واغضي عن السيئة. اللهم صلي علي محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين والبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، واطفاء النائرة وضم اهل الفُرقة، واصلاح ذات البين، وافشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة «الطبيعة» وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق الي الفضيلة، وايثار التفضل، وترك التعيير، والافضال علي غير المستحق، والقبول بالحق وان عزّ، واستقلال الخير وان كثُر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وان قلّ من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة، ولزوم الجماعة، ورفض اهل البدع، ومستعملي الراي المخترع [26] .

المثال الثاني

«وهو دعاؤه لجيرانه» «اللهم تولني في جيراني باقامة سنتك، والاخذ بمحاسن ادبك، في ارفاق ضعيفهم، وسد خلّتهم، وتعهّد قادمهم، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم. ومناصحة مستشيرهم، وكتمان اسرارهم، وستر عوراتهم، ونصرة مظلومهم، وحُسن مواساتهم بالماعون، والعود عليهم بالجِدة والافضال، واعطاء ما يجب لهم قبل السؤال، والجود بالنوال يا ارحم الراحمين [27] . الجدة: العطية الواسعة التي تغني، والامام زين العابدين (عليه السلام) كثير التوظيف لهذه الكلمة في ادعيته عموماً.

تنشيط الساحة الجهادية

اشاره

رضا الله.. رضا الله.. إذا ما طلب الناس السلطة والجاه طلب زين العابدين رضا الله وإذا ما طلب الناس خزائن الاموال طلب زين العابدين رضا الله وإذا ما طلب الناس الرياء والسمعة طلب زين العابدين رضا الله نعم رضا الله.. رضا الله.. تلك الدائرة المقدسة.. البيضاء الواسعة.. التي آثر الامام زين العابدين (عليه السلام) الخلود فيها ابدا. ولقد قال كلمة ذات يوم.. عمل بها كل يوم: لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار، لا سر ولا علانية. ولو لا ان لاهلي علي حقاً ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عليّ حقوقاً لا يسعني الا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتي اؤديها اليهم، لرميت بطرفي الي السماء وقلبي الي الله ثم لا اردهما حتي يقضي الله علي نفسي وهو خير الحاكمين. كيف لا يكون الجهاد معلماً مضيئاً في تلك الدائرة المقدسة وهذا كتاب الله ينطق علينا بالحق: (ان الله اشتري من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن). الهدف المنشود: لا يريد الامام زين العابدين (عليه السلام) ان يجاهد إبرازاً للشجاعة النادرة، وإن كانت الشجاعة النادرة وسام الشرف

وعنوان المجد والكرامة. ولا كان الهدف من رغبة زين العابدين في الجهاد ان يحافظ علي التراث البطولي لابائه الكرام فرسان الوغي وابطال الميادين، وإن كانوا اهلاً للاحتفاظ بتراثهم وكان المرجو للادامة والاحتفاظ. انه يريد ان يجاهد لان الجهاد طريق حبيب ينتهي الي دار الحبيب. ان درب الجهاد صعب مستصعب ولكن الجدير بالفتي العقائدي مثل زين العابدين، ان يتحمل كل صعب مستصعب وصولاً الي الهدف المنشود. وهلّم الان الي مثالين فقط من ادعيته التي تبلور الدعوة الي الجهاد.

المثال الاول

«... واجعلني ممن تنتصر به لدينك وتقتل به عدوك في الصف الذي وصفت به اهله في كتابك: (كأنهم بنيان مرصوص) في احب خلقك اليك في احب المواطن اليك، وارزقني سفك دماء المشركين والناكثين والقاسطين والمارقين والفاسقين والنابذين والمبدلين. وثبت رجاءك في قلبي وثبت قدمي وافرغ الصبر عليّ وعلي ذلك فقوّني وفي صدور الكافرين فعظمني..».

المثال الثاني

«... وأعنّي اللهم علي جهاد عدوك في سبيلك مع وليك، كما قلت جل قولك: (ان الله اشتري من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) وقلت جلت اسماؤك: (ولنبلونكم حتي نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم). اللهم فأرني ذلك السبيل حتي اقاتل فيه بنفسي ومالي طلب رضاك فاكون من الفائزين».

التنبيه الاول

عرفنا فيما سبق الوجهة العمومية في ادعية الامام زين العابدين سلام الله عليه والان ننبه انه لا يريد من الدائرة المقدسة المذكورة قبل قليل ان تكون له خاصة دون سواه، بل هي ساحة واسعة لكل تائق اليها اذا اجتمعت فيه الشرائط الموضوعية.

التنبيه الثاني

لقد راي الامام زين العابدين (عليه السلام) في الدعاء ارضاً خصبة لغرس الفكر الجهادي ضد الطواغيت، سواء في الجبهة الخارجية التي تمثل الحرب ضد المشركين وامثالهم، ام في الجبهة الداخلية التي تمثل الحرب ضد الفاسقين وامثالهم. اضافة لما تقدم من المنجزات السياسية للدعاء تستطيع ان تضيف اليها عدة منجزات سياسية اخري تزخر بها ادعية الامام الموجودة في الصحيفة السجادية الاولي وغيرها من مختلف ادعيته الكثيرة جداً. ومن تلك المنجزات السياسية ايضاً.

دعم و اسناد المؤمنين - معالجة الفراغ

وتأتي ادعية الامام زين العابدين (عليه السلام) في طليعة الادعية الباهرة الجمال والابتهالات العالية المضامين. وهب الله لها من هيبة الحكمة، ومنحها من اشراق المعرفة، وسكب عليها كؤوساً من البهاء والنور والنضرة والرواء. ولو لم تكن لزين العابدين (عليه السلام) علي سبيل الفرض «خصوصاً ادعية الصحيفة السجادية الكاملة».. فلابد ان تكون لشخص آخر من ائمة التربية والعرفان والسياسة والفلسفة. (وجعلنا منهم أئمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [28] .

سياسة تحرير العبيد

النظام الاسلامي والرق

ان الاسلام بحق لم يشرع نظام الرق، فان هذا النظام موجود منذ العصور الغابرة والعهود السحيقة. وانما شرع نظام العتق والتحرير، واوجد مبررات عدة لها، وفتق كثيراً من الوسائل المؤدية لها، ليس هنا محل تفصيلها فلتطلب من الكتب الفقهية المبسوطة. هناك سلوك استعلائي في المجتمع علي مر التاريخ الانساني تقريباً ينظر الي طبقة المستضعفين ومن بينهم المماليك نظرة ازدراء، ويعاملهم من فوق الابراج العاجية. والذي تستطيع ملاحظته بيسر من سياسة الامام زين العابدين (عليه السلام) ذلك الرفض الحازم، والاستنكار العنيد لهذا السلوك نظرياً وعملياً. ومن الادلة علي ذلك انه كان لا يمنعه شيء من مجالسة الطبقة المسحوقة حتي دهش منه نافع بن جبير فقال له: انك تجالس اقواماً دونا، فقال علي بن الحسين: اني اجالس من انتفع بمجالسته [29] . ومن رحمته بهم وعطفه عليهم انه كان يشتري العبيد _ وهم من اضعف المستضعفين _ فيبرحون عنده قليلاً ثم يطلقهم احراراً. وبلا ريب انه يترتب علي التحرير منهج سياسي ايجابي ونظرة انسانية عالية وحث عملي للاخرين علي التأسي، اذ الاسلام قد اكد تاكيداً عظيماً علي التحرير، ورسم ما لفاعله من الجزاء الوافر والاجر الجميل ومن ذلك قوله تعالي: (وما ادراك ما العقبة -

فك رقبة). وعن ابي عبد الله الصادق (عليه السلام): ان فاطمة بنت أسد قالت لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): اني اريد ان اعتق جاريتي هذه فقال لها: ان فعلت اعتق الله بكل عضو منها عضواً منك من النار [30] . وفي هذا المعني وردت عدّة احاديث [31] . ولقد اعتق علي (عليه السلام) الف مملوك من كدِّ يده [32] . ان موقف الامام زين العابدين (عليه السلام) من المماليك هو خلاصة الموقف الاسلامي بما فيه من نظام دقيق، وقيم خلاّقة، واساليب تربوية وسياسية رفيعة. فمما لا ريب فيه ان الفترة التي يلبث فيها المماليك عند الامام زين العابدين (عليه السلام) يلقّنهم فيها من التربية والاداب والتوجيه والسداد ما يجعلهم احرار النفوس قبل ان يكونوا احراراً في واقع الحياة. كان في مستطاعه ان يطلق سراحهم من أوّل عقد الشراء، او حصوله عليهم من دون ان يلبثوا عنده. فما انتفاعه من الاشهر التي يقيمون فيها لديه ثم يطلقهم، ولا سيما ان العملية تتكرر؟ ان مجموعة منهم لو بقوا لديه بغير تحرير فانهم يغنونهُ عما يليهم من المماليك بيد أن هنالك هدفاً اسمي من الخدمة والمعونة المتوخاة منهم... انه هدف التربية والارشاد، هدف التعليم والتوجيه وغير ذلك. كانت لكل واحد من العبيد صحيفة اعمال يسجل فيها الامام سيئاته واخطاءه فإن حان وقت التحرير قرأ عليهم صحائف اعمالهم وهنا يعترفون بما ارتكبوا من الاخطاء فيعفو عنهم ثم يطلب منهم ان يعفوا عنه ويصفحوا فيقولون: قد عفونا عنكَ وما أسأتَ. ولا يخفي عليه ان المماليك يرغبون بعد تحريرهم ان يكتسبوا ويشقوا دربهم العملي في الحياة فيعطيهم رؤوساً من الاموال علي هيئة منح وهبات، ولا يسترد منهم ذلك ما

سمر سمير. هذه طريقته في تحرير العبيد ذكرناها بشكل موجز ولكن عثرنا علي وثيقة تاريخية علي جانب كبير من الاهمية. وثيقة تاريخية: وهي تتعلق باطلاق سراح الارقّاء ننقلها بتفصيلها لانها تعبر عن روح الاسلام ونظرته للارقاء، ولانها مادة تربوية واخلاقية واجتماعية عالية المضامين، كما انها جواب عميق عن الاسئلة والاشكالات التي تطرحها فئة من المستشرقين حول الاسلام. نريد ان نقول لهم: هذا هو الاسلام في نظرته واخلاقيته وجوهره متمثلاً في سياسة احد كبار قادته الميامين تجاه العبيد. عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام): كان علي بن الحسين (عليه السلام) اذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة. وكان اذا اذنب العبد والامة يكتب عنده: اذنب فلان، اذنبت فلانة.. يوم كذا وكذا ولم يعاقبهم.. فيجتمع عليهم الادب. حتي اذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم اظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلي يابن رسول الله، حتي يأتي علي آخرهم ويقررهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا اصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين ان ربك قد احصي عليك كل ما عملت، كما احصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت الا احصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب ان يعفو المليك عنك فاعفُ عنا.. تجدْهُ عفوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً. كما لديك كتاب ينطق بالحق علينا. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما اتينا الاّ احصاها، فاذكر يا علي بن الحسين ذلّ مقامك بين

يدي ربك الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل. ويأتي بها يوم القيامة وكفي بالله حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفح يَعفُ عنك المليك ويصفح، وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح ويقول: ربّ انك أمرتنا أن نعفو عمن ظَلَمنا، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت فاعف عنا، فانك أولي بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردَّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا ولا تخيِّبنا فانك أولي بذلك منا ومن المأمورين. إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سُؤّالك وجدتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. ثم يقبل عليهم فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنيّ ومما كان مني إليكم من سوء ملكة؟ فاني مليك سوء، لئيم، ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل. فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا، وما أسأت. فيقول لهم قولوا: اللّهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ. فيقولون ذلك. فيقول: اللّهم آمين ربَّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، واعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم، فاذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلي أقل أو اكثر، وكان يقول: ان للهِ تعالي في كل ليلة من شهر رمضان عند الافطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلّ قد استوجب النار، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، واني لاحب أن يراني الله وقد اعتقت رقاباً في ملكي

في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار. وما استخدم خادماً فوق حوله، كان اذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة اذا كان ليلة الفطر اعتق، واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتق، كذلك كان يفعل حتي لحق بالله تعالي، ولقد كان يشتري السودان وما به اليهم من حاجة يأتي بهم عرفات فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال فاذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال [33] .

المبررات السياسية والتاريخية

لقد كان لمخطط الامام زين العابدين (عليه السلام) في تحرير المماليك مبررات ودوافع روحية واخلاقية لا ريب فيها، ولكن بالاضافة الي ذلك فان له مبررات ودوافع سياسية وتاريخية ينبغي الالتفات اليها من خلال الامعان في هذه الوثيقة التاريخية الاتية. وبالمقارنة بين الوثيقتين من وثائق التاريخ السياسي، الوثيقة التي تستعرض صنيع زين العابدين ومنهجه القويم في التعامل مع الارقّاء وتحريرهم، والوثيقة التي تستعرض استعباد القيادة السياسية للاحرار، يظهر اكثر من فارق جوهري بين مبدئية علي زين العابدين (عليه السلام) وسياسته واخلاقيته المثلي وبين مبدئية القيادة وسياستها واخلاقيتها. كانت بنو أمية تبيع الرجل في الدَّين يلزمه وتري انه يصير بذلك رقيقاً، كان معن ابو عمير بن معن الكاتب حراً موليً لبني العنبر فبيع في دين عليه، فاشتراه ابو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي، وباع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز لكونه قتل رسول المهلَّب علي رجل من الازد. وكانت بنو امية تختم في أعناق المسلمين علامة لاستعبادهم. وبايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة وفيها بقايا الصحابة واولادها وصلحاء التابعين علي ان كلاًّ منهم عبد قِنٌّ لامير المؤمنين يزيد بن معاوية، إلاّ علي بن الحسين (عليه السلام) فانه بايعه علي أنه اخوه وابن

عمه ونقشوا اكف المسلمين علامة لاسترقاقهم [34] . لقد جاء مخطط الامام زين العابدين في تحرير المماليك في عصر كانت القيادة السياسية فيه تستعبد الاحرار ايَّما استعباد فكأن زين العابدين (عليه السلام) أراد من مخططه السياسي والانساني والرسالي أن يعكس لابناء عصره وللتاريخ معاً ان للانسان بما هو انسان قيمة عليا لا يصح أن يفرَّط فيها سواء كان رقاً أم حُرّا، واراد أن يثبت _ بشكل قاطع _ ان قيمة الرقيق في المنهج الاسلامي اسمي وأرفع بمراحل من القيمة التي يتوخاها طواغيت الحكام للاحرار من المسلمين. (ان في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) [35] .

الاستراتيجية التربوية

شدد الاسلام، علي المربين... في تهذيب طبائعهم، وتطهير توجهاتهم الروحية، والسياسية، والانسانية... وفي تربية انفسهم، تربية مستقاة من روح السماء، وتعاليمها، في سبيل ان يكونوا امثلة عليا... يقتدي بها الجيل، ويعتمدها في العمل والبناء، والجهاد في معركة الحياة.ان رسل الله خير من يقتدي بهم، ويقتص اثرهم (اولئك الذين هدي الله فبهداهم اقتده...) [36] (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا) [37] وكذلك ائمة أهل البيت (عليهم السلام) ; فانهم قمة شماء في التوجيه والتربية الاسلامية... فالالتزام بتربيتهم، والاخذ باوامرهم وتعاليمهم، هو الذي ينجي من التردي والسقوط، ويرتفع بالانسانية الي حيث الافق المضيء المشرق. يقول الرسول محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) كما في الحديث المشهور: «مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوي». شمولية الخلاص: وهنا يفرض السؤال نفسه: هل ان اهل البيت (عليهم السلام) انقاذ للبشرية، وسفينة للنجاة، في الشؤون الروحية والعرفانية والاخلاقية وهكذا كل ما يصون الناس من الكفر والشرك.... فحسب، أم

انهم نجاة لما هو اشمل من ذلك؟ ولسنا نعتقد بصحة التسرع بالجواب، إلاّ من بعد ان ندرك ونستلهم، مفهوم الغرق والهوي. ان الانسان إذا ما تجافي والتربية الروحية; فانه يغرق ويهوي وإذا ما ابتعد عن المفاهيم الاخلاقية; فانه يغرق ويهوي.وإذ ما كفر واشرك; فانه يغرق ويهوي.ولكن هل هذه هي المفردات والمصاديق الوحيدة للغرق والهوي.كلا، والف كلا.فإن مفردات ومصاديق كثيرة، تنصب في السياق نفسه، ولا نرغب ان نقوم بعمليات احصائية لها، لانها خارج موضوعنا، ولكن نريد ان نركز هنا، علي ما يتساوق وبحثنا الحالي.اليست السياسة، بما هي سياسة، عالماً من الخير والشر، والهدي والضلال، والعدالة والظلم، والحق والباطل. أو بعبارة اخري، نريد ان نقول:ان السياسة بحر عميق ما ينجو في عبوره اناس، إلاّ والذين يغرقون اكثر واكثر. إذن، ومن منطلقات رسالية وانسانية، لابدّ من التسارع الي عمليات الانقاذ. وفي هذه الحالة، يأتي دور السفينة أي دور اهل البيت (عليهم السلام). فهم، اهل الخير، والحاثون عليه. وارباب الهدي، والداعون إليه. ورمز العدالة، والمرغبون فيها. ومستقر الحق، والناصحون به. يا اخي الكريم: إذا رأيت بحراً عميقا... متلاطم الامواج; فاعلم انه بحر السياسة، وإذا رأيت سفينه تمخر التيار، بعد التيار فاعلم ان ربانها من أهل البيت. المثل الاعلي للقائد الرسالي: ولم ينضب بحر من البحور، إلاّ وطفح الاخر، ولم يمت ربان، في قيادة السفينة، إلاّ واحتل موقعه ربان آخر. حتي جاء الدور للامام زين العابدين (عليه السلام) ; فقاد السفينة خير قيادة، وانقذ من الهلاك جيلاً بعد جيل. لقد كان هذا الامام الهمام، القبس الهادي، والضوء المنير، والنبراس المشرق... لكل من اراد التربية الصادقة، والطريقة المثلي، والمنهج القويم. ولقد كان المجتمع، يلحظ فيه هذه الايات الباهرات; لذا ان الكثير

من ابنائه، يسارعون الي الاخذ بتربيته، معرفة بهديه، وصدق توجهاته، وانهم ما وجدوا له زلة، ولا شاهدوا منه عثرة، ولا رأوا فاصلاً بين اقواله وافعاله.انه المثل الاعلي للقائد الرسالي الذي لا يأمر بشيء إلاّ وقد امتثله، ولا يحث علي جميل إلاّ وقد عمله. (لمثل هذا فليعمل العاملون).فروع النظريات التربوية: ان لكل نظرية تربوية هدفاً نهائياً Uitimate ain تصبو إليه، وترمي لتحقيقه. سواء كان الهدف النهائي علي طريق الصواب أم كان علي طريق الخطأ. ان النظريات التربوية الحديثة، علي الرغم من وجود ثغرات تتخللها، وتكتنف جوانبها.. إلاّ انها تعتبر متطورة جداً، وذات تفوق ملحوظ _ بالقياس الي النظريات التربوية القديمة، إنْ من حيث المعاني والمضامين، وإنْ من حيث المناهج. نعم تستثني من هذا التعميم، نظرية القرآن الكريم، والرسول محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، وائمة الهدي. ولسنا الان بصدد، دراسة النظريات التربوية القديمة، ماعدا خطوطاً عريضة للنظرية التربوية _ القديمة الجديدة _ للامام زين العابدين (عليه السلام).كما لا نريد ان نتناول من النظريات إلاّ اشارات عابرة من الاهداف التربوية فيها. مقارنة بالاهداف التربوية لدي نظرية الامام زين العابدين. هناك ثلاثة فروع للنظريات التربوية، لكل منها انصاره، في الوقت الحاضر، كما يقول الفيلسوف المعاصر Bertrand Russell (برتراند راسل). الاولي تبحث في الهدف الوحيد للتربية، وهو تجهيز الفرص للنمو، وازالة نفوذ التخلف. والثانية: تتمسك في ان هدف التربية: هو منح ثقافة للفرد، وتطوير امكانياته لاقصي حد. والثالثة: تأخذ في ان التربية يجب ان تعتبر نوعا ما علاقاتها بالمجتمع، اكثر من علاقاتها بالفرد [38] بين نظريّة الامام والنظريّات التربوية: ولم يكن الهدف، من النظرية التربوية، لدي الامام زين العابدين (عليه السلام) يلتقي و واحداً من هذه الفروع فحسب. بل

يمكن القول: انه يلتقيها جميعاً. علماً بان النظرية الثالثة لا تتنافي والنظرية الثانية وانما تعني: ان نولي، العلاقات الاجتماعية، العناية والرعاية بصورة اكثر من ثقافة الافراد، والعناية بهم. وتلتقي نظرية الامام زين العابدين بالنظرية الثانية من حيث شدة الاهتمام بالفرد، وعدم اهماله بذريعة العناية والاهتمام بالمجتمع، أو اعطائه مجرد قسط من الرعاية فحسب. بيد ان الاختلاف ما بين الافراد اختلاف كثير... فمنهم من له الاستعداد الفكري أو النفسي أو الارادي علي السموّ والتحليق، ومنهم من ليس كذلك ومنهم من يرجي منه النفع العام والفائدة الكبيرة للمجتمع، والقدرة الكبري علي التوجيه والتربية، ومنهم دون ذلك بمرحلة أو مراحل. وعلي هذا الاساس; فان بعض الافراد يحظون برعاية اكثر من غيرهم، عند الامام زين العابدين (عليه السلام)، كما سنشير الي عدد منهم، وإن كان قد فتح قلبه للجميع، وادلي برعايته لمختلف الافراد. الكيفية الاليَّة: اما الكيفية الالية للالتقاء مع النظريات الثلاث فنحن سوف نوضحها بايجاز. أ _ اما الالتقاء مع النظرية الاولي، التي تركز علي تجهيز الفرص للنمو، وازالة نفوذ التخلف. فهي واضحة من خلال التعاليم والمفاهيم التالية: 1 _ قال (عليه السلام): مجالس الصالحين داعية للصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل [39] . 2 _ الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته [40] . 3 _ فأما حقوق رعيتك بالسلطان، فان تعلم انك انما استرعيتهم، بفضل قوتك عليهم; فانه انما احلّهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما اولي من كفاكه ضعفه وذلّه، حتي صيره لك رعية، وصيّر حكمك عليه نافذا، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلاّ بالله.. بالرحمة، والحياطة، والاناة [41] . ب _ واما الالتقاء مع النظرية الثانية: التي تنصب علي

ثقافة الفرد وتطوير امكانياته لا قصي حد، فنود ان نشير قبل ذلك الي امر مهم جداً وهو أن هذه النظرية صحيحة في نفسها ولكن شريطة ان لا تخلَّ بحقوق المجتمع، وتضر بالصالح العام. وباستطاعة _ القارئ الكريم _ تلمُّسُ الالتقاءِ ما بين النظريتين نظرية الامام زين العابدين والنظرية الثانية، عن طريق الامرين التاليين: اولاً: الجهود الكثيفة التي كان يبذلها الامام زين العابدين في سبيل تربية الكثير من الافراد، والعناية الخاصة التي كان يوليها لبعضهم. ومن بين هؤلاء الكثيرين، نضرب بعض الامثلة: الامام محمد الباقر (عليه السلام):الشهيد السعيد زيد بن علي زين العابدين (عليهما السلام).العالم الكبير مفسِّر القرآن الكريم الشهيد سعيد بن جبير (رحمه الله).خادم الامام زين العابدين العالم الجليل أبو خالد الكابلي (رحمه الله).الفقيه الكبير، الامر بالمعروف والناهي عن المنكر. سعيد بن المسيب رضوان الله عليه. محمد الزهري، علي الرغم من ان هذا الرجل، كان من المنتسبين الكبار لجناح السلطة التي كان الامام زين العابدين مقارعاً لسياستها ومقاصدها. إلاّ انه قد حظي بتعاليم الامام وارشاداته، وتربيته الخاصة. وقد آتت هذه التربية ثمارها، فكم لمحمد الزهري من موقف ايجابي داخل اروقة النظام، وإن كان وجوده _ للاسف _ يستفاد منه لتمرير مخططات الحكام. ثانياً: يتلخص في مفاهيم تربوية، عند الامام زين العابدين وافرة جداً، ولا يسعنا الان إلاّ ان نذكر منها شيئاً يسيراً جداً. فمن ذلك قوله صلوات الله عليه: واما حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له والستر علي جرائر حداثته; فانه سبب التوبة والمداراة له وترك مماحكته [42] ; فان ذلك ادني لرشده [43] وقيل له (عليه السلام): من اعظم الناس خطراً؟ فقال: من لم ير الدنيا خطراً

لنفسه [44] واما حق السمع فتنزيهه عن ان تجعله طريقاً الي قلبك، الا لفوهة كريمة، تحدث في قلبك خيرا، وتكسبُ خلقاً كريماً فانه باب الكلام الي القلب يؤدي اليه ضروب المعاني علي ما فيها من خير و شر [45] من كتم علماً احدا، أو اخذ عليه صفدا، فلا نفعه ابدا [46] متفقه في الدين اشد علي الشيطان من عبادة الف عابد. ثالثاً: واما اللقاء بين النظرية الثالثة التي تؤكد علي الابعاد الاجتماعية في التربية، وبين نظرية الامام زين العابدين (عليه السلام) فانه لقاء واسع رحب، كثير التشابك والتلاحم. بيد انه من المستطاع ان يجمل ببعض المؤشرات التربوية كما يلي:واما حق اهل ملتك عامة فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك; فان احسانه الي نفسه، احسانه اليك، إذا كفّ عنك اذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه. فعمَّهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم [47] جميعا منك منازلهم. كبيرهم بمنزلة الوالد وصغيرهم بمنزلة الولد واوسطهم بمنزلة الاخ. فمن اتاك تعمدته بلطف ورحمة، وصل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه [48] والنص المتقدم قبل قليل «فأما حقوق رعيتك بالسلطان» مما يجري ضمن سياقات الابعاد الاجتماعية في التربية. بل يمكن القول: ان اكثر رسالة الحقوق _ وهي رسالة طويلة جداً _ هو مما يجري في هذه المسارات التربوية المحددة وذلك لانها تؤكد علي الابعاد الاجتماعية في التربية [49] وعن الامام محمد الباقر (عليه السلام) قال: كان زين العابدين (عليه السلام) إذا نظر الي الشباب الذين يطلبون العلم ادناهم إليه و قال: مرحبا بكم انتم ودائع العلم، ويوشك إذ انتم صغار قوم ان تكونوا كبار آخرين.سادة الناس في الدنيا الاسخياء وسادة الناس في

الاخرة الاتقياء. لو يعلم الناس ما في طلب العلم; لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللجج. ان الله تبارك وتعالي اوحي الي دانيال: ان امقت عبيدي اليَّ الجاهل المستخفُّ باهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وان احب عبيدي الي التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحكماء.كلكم سيصير حديثا فمن استطاع ان يكون حديثاً حسناً فليفعل [50] . من ركائز التربية الفاضلة: أ _ مما لا ريب فيه ان الانسان إذا كان صاحب ايمان بالقيم التربوية، والمسارات الاخلاقية التي يدعو لها الاخرين فعليه التطبيق الشخصي، وان يعمل بكل ما يدعو له; وذلك لان الانسان فطريّا _ وكما هو المعتاد _ يأبي الانصياع، أو الاستقاء من المناهل العذاب التي يستقي منها اربابها. كما ان الانسان ان كان مؤمنا بما يدعو له الاخرين; فلماذا لا يعمل بما يدعو له، وإن لم يكن مؤمنا بذلك فعلام الدعوة له.يقول الله تعالي ناقداً بعض المؤمنين، وعائباً عليهم الفصل ما بين الاقوال والاعمال: (يا ايها الذين امنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون - كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) [51] ومن هذا المنطلق نري الامام علياً زين العابدين سلام الله عليه قد قام بالتطبيق الشخصي لكل ما ينصح به سواه، ويدعو له الاخرين، من قيم اخلاقية، ومثل تربوية، وواجبات، ومستحبات، وآداب، وتقوي. لقد كان سلام الله عليه مجتهداً في دين الله غاية الاجتهاد، ذائباً فيما يؤمن به، متعباً نفسه، مرهقاً بدنه، مسهراً مقلتيه، وفي شخصه الكريم، تتجسد النظرية التربوية التي ارادها خطاً في مسار الحياة، حتي كأنه نسخة من الاسلام، أو انه إسلام يمشي علي الارض.وليس شيئاً ادل علي ذلك، من حياته الشخصية، والعامة، وما كثر نقله عنه من فضائل ومكارم.

ب _ الابتهال الي الله تعالي ان يربي نفسه ظاهراً وباطناً، في مستسرالسر، وظاهر العلانية، ويمده بالتوفيق في ذلك. وابتهالاته المقدسة في هذا المجال لا تكاد تحد بحد. فمن ذلك قوله سلام الله عليه: وهب لي التطهير من دنس العصيان، واذهب عني درن الخطايا، وسربلني بسربال عافيتك، وردِّني رداءَ معافاتك، وجللني سوابغ نعمائك، وظاهر لديَّ فضلك وطوْلَك، وايدني بتوفيقك وتسديدك، واعني علي صالح النية، ومرضيِّ القول، ومستحسن العمل.ومن ذلك قوله: اللهم اقضِ لي في الاربعاء اربعا:اجعل قوتي في طاعتك، ونشاطي في عبادتك، ورغبتي في ثوابك، وزهدي فيما يوجب لي اليم عقابك. ج _ تأنيب النفس ومعاقبتها، ومحاسبتها علي الصغيرة والكبيرة، محاسبة شديدة، والوقوف منها وقوفاً حازماً، لا تسامح فيه، ولا غض نظر، والالحاح عليها في الابتعاد عن الخطايا والدنايا، وتنبيهها من الغفلات، وايقاظها من السبات. يقول سلام الله عليه: وحتي متي اصف محن الدنيا، ومقام الصديقين، وانتحل عزماً من ارادة مقيم بمدرجة الخطايا، اشتكي ذل ملكة الدنيا، وسوء احكامها علي، فقد رأيت وسمعت، لو كنتُ اسمع في اداة فهم، أو انظر بنور يقظة: وكلا الاقي نكبة و فجيعة و كأس مرارات ذعافاً اذوقها و حتي متي اتعلل بالاماني، واسكن الي الغرور، واعبد نفسي للدنيا علي غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها، وانا اعرض لنكبات الدهر عليَّ اتربّص اشتمال البقاء، وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي، ويعتدل حكم الدنيا: وهن المنايا ايواد سلكته عليها طريقي أو عليَّ طريقها [52] ويقول أيضاً في هذا الصدد: يا نفس حتام الي الدنيا سكونك، والي عمارتها ركونك؟ اما اعتبرت بما مضي من اسلافك، ومن وارته الارض من أُلاّفك، ومن فجعت به من اخوانك ونقل الي الثري من اقرانك؟... فحتّام الي الدنيا

اقبالك، وبشهواتها اشتغالك، وقد وخطك القتير، واتاك النذير، وانت عما يراد بك ساه، وبلذات يومك وغدك لاه؟ وقد رأيت انقلاب اهل الشهوات، وعاينت ما حلّ بهم من المصيبات [53] اياك اعني واسمعي يا جارة:ليس من شك ان النفس الطهور الزاكية للامام زين العابدين صلوات الله عليه لم تكن راكنة الي الدنيا، ولا مائلة لزخارفها، ولا جانحة لقدر من بروق مطامعها.. ولكنه إذ يعاتب النفس; انما لسجية من سجايا الروح العذبة التي ينطوي عليها اهل البيت عليهم الصلاة والسلام. ولا احسب إلاّ انه (عليه السلام) اراد ان يركز في قلوبنا عذل النفس الامارة بالسوء وتوبيخها ومحاسبتها، باعتبار ذلك اساساً من اسس التربية المثلي. «وليس منا من لم يحاسب نفسه...».واننا إذ يلازمنا العُجب والغرور بانفسنا، وإذ نزكي انفسنا، يربينا الامام زين العابدين (عليه السلام) علي كبح جماح الغرور، والاقلاع عن التزكية المقيتة. ومثله بالتربية جدير، وبالتلطف في التوجيه حري مبين.نعم ان عذل النفس، والتشديد عليها _ بنفسه _ شيء جميل، وإن كان صاحب تلك النفس طاهراً، امينا، زكيا، خالصاً، رضيا. أو بعبارة اخري، وان كان صاحب النفس مثل وليِّ الاولياء، وصفيِّ الاصفياء، ونور المتقين، ورمز السداد والاستقامه، اعني علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهم اجمعين.ان الكثير الكثير من الكم الهائل، والحشد العظيم، والكلمات الحسان، التي اطلقها النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، واهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ينبغي ان تفهم وتستلهم، وتدرك اسرارها، وفق المنطلقات البعيده ل_ «اياك اعني واسمعي يا جارة». بوصف ذلك اسلوباً بارعاً من الاساليب التربوية الرائدة، طبعاً لا اعني انها الاسلوب الوحيد، وانما اعني انه من الاساليب الرائعة والمتميزة للاستراتيجية التربوية عند الرسول محمد واهل بيته الميامين

سلام الله عليهم جميعا. د _ لفت الناس الي التربية الذاتية، من خلال المربي الذي يدخل في تركيبها، ويوجهها من الداخل. ففي الخبر الشريف: من لم يجعل الله له واعظاً من نفسه فان مواعظ الناس لا تغني عنه.ان التربية الذاتية تعتبر بحق حجر الزاوية في بناء الصرح التكاملي للانسان.يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): الخير كله صيانة الانسان نفسه [54] ويقول (عليه السلام) أيضاً: يا ابن آدم انك لا تزال بخير، ما دام لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعارا، والحزن دثارا [55] وهذه مقتطفات يانعة، يسيرة العدد، كثيرة المنفعة، مما قاله الامام زين العابدين (عليه السلام) في التربية الذاتية:عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرته، كيف لا يحتمي من الذنب لمضرته.انما التوبة العمل، والرجوع عن الامر، وليست التوبة بالكلام.ثلاث منجيات للمرء: كف لسانه عن الناس واعتيابهم، واشغاله نفسه بما ينفعه لاخرته ودنياه، وطول البكاء علي خطيئته.ان افضل الاجتهاد عفة البطن والفرج.اتقوا الكذب الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل; فان الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ علي الكبير. اما علمتم ان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: لا يزال العبد يصدق حتي يكتبه اللهُ عزّوجلّ صادقا، ولا يزال العبد يكذب حتي يكتبه الله كاذبا.ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة افضل من حسن الخلق.ما من خطوة احب الي الله من خطوتين: خطوة يشد بها صفاً في سبيل الله، وخطوة الي ذي رحم قاطعة.وما من جرعة احب الي الله من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلمه، أو جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبره.وما من قطرة احب الي الله من قطرتين: قطرة في سبيل الله، أو قطرة دمعة في

سواد الليل، لا يريد عبد إلاّ الله عزّوجلّ.ثلاث من كنّ فيه، كان في كنف الله، واظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه فزع اليوم الاكبر: من اعطي الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً، حتي يعلم انه في طاعة الله قدّمها، أو في معصية الله، ورجل لم يعب اخاه بعيب حتي يترك ذلك العيب من نفسه.لا حسب لقرشي ولا عربي إلاّ بالتواضع، ولا كرم إلاّ بالتقوي، ولا عمل إلاّ بالنيّة، ولا عبادة إلاّ بالتفقه. ألا وإن ابغض الناس الي الله عزّوجلّ من يقتدي بسنة امام ولا يقتدي باعماله. ه_ _ ابعاد الناس عن اصدقاء الشر، وخلطاء السوء; لمضرتهم البالغة، وخشية من تأثيراتهم السيئة; لئلا يقتبسوا منهم الخصائل الدنيئة، والشمائل المقيتة; فان الانسان بنفسه _ عادةً _ له قابلية التأثر والتلقي، وإن كان هذا يختلف بدرجته صعوداً وهبوطاً من شخص الي آخر.وفي الجانب المقابل ركّزت النظرية التربوية للاسلام علي اتخاذ اصدقاء الخير والصلاح، واصفياء الفضيلة والشمم في بيانات كثيرة، ليس هنا موضع تفصيلها. ان الخير والشر يغرسان كما تغرس النبتة، واقدر الناس علي هذا الغرس هم الاصدقاء.يقول الامام زين العابدين صلوات الله عليه وهو ينصح ولده الامام محمداً الباقر (عليه السلام) بل المجتمع الانساني أجمع بالابتعاد عن اصناف من الاصدقاء:يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق:فقال: يا ابه من هم؟قال: اياك ومصاحبة الكذاب، فانه بمنزلة السراب; يقرب لك البعيد، ويبعد لك القريب.واياك ومصاحبة الفاسق; فانه يبيعك باكلة أو اقل منها.فقال: يا أبه وما اقل منها؟قال: يطمع فيها ولا ينالها.واياك ومصاحبة البخيل فانه يخذلك في ماله، احوج ما تكون إليه.واياك ومصاحبة الاحمق فانه يريد ان

ينفعك فيضرك.واياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله [56] وقال (عليه السلام) وهو يربي المجتمع الانساني ويوجهه من خلال مخاطبة ولده الامام محمد الباقر عليه الصلاة والسلام:اياك يا بني أن تصاحب الاحمق، أو تخالطه، واهجره ولا تحادثه; فان الاحمق هجنة عبن غائباً كان أو حاضرا ان تكلّم فضحه حمقه وان سكت قصر به عيّه، وان عمل افسد، وإن استرعي اضاع، لا علمه من نفسه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تود امه انها ثكلته، وامرأته انها فقدته، وجاره بعد داره، وجليسه الوحدة من مجالسته إن كان اصغر من في المجلس أعني من فوقه، وان كان اكبرهم افسد من دونه.لقد ذكر الامام زين العابدين صلوات الله عليه خمسة من الاصدقاء الذين قد اوصي بتجنبهم، والابتعاد عن ساحتهم. والحقيقة ان الذين يجدر بالانسان السوي مجانبتهم ومهاجرتهم، اكثر من ذلك بكثير، من قبيل: الظالم، وصاحب الازدواجية في الشخصية، والوضيع النفس. ولا ينبغي الارتياب في انهم اكثر من خمسة.بيد ان الامام (عليه السلام)، لم يرد ان يقول: ان هؤلاء هم فحسب الذين يجتنبون، ولا مانع من مجانبة الاصناف الاخري كافة، وانما قد اكّد علي هؤلاء الخمسة فحسب; لغرض من الاغراض، ولحكمة ما.وعلي هذا الاساس; فان حصر مجانبة الاصدقاء بهؤلاء الخمسة، انما هو حصر اضافي، وليس حصراً حقيقياً، بمعني انه لا مانع ان يكون الاصدقاء غير المرضيين اكثر من هذا العدد، ومثل هذا الحصر الاضافي كثير الوجود في الاحاديث وفي اقوال الحكماء.وفي عقيدتي ان الاصدقاء الذين يجدر الابتعاد عنهم كثير، ولكن الاحمق من هؤلاء هو الاولي بالابتعاد عنه، ومفارقته.ان الفاسق قد يتوب من فسقه، والكاذب قد ينزع عن كذبه، والقاطع لرحمه قد

يصلهم بعد القطع، والبخيل قد يخف بخله بنسبة ملحوظة، ولكن الاحمق لا يرجي لتوبة أو نزوع.ان الاحمق، لا توقظه النوائب، ولا تحنكه التجارب.وكفي الاحمق خزيا ان يصفه الامام زين العابدين بعدم القدرة علي نفع الاخرين حتي وإن اراد ذلك. يقول (عليه السلام): فإنه يريد ان ينفعك فيضرك. كما يقول: ان كان اصغر من في المجلس اغناهم من فوقه، وإن كان اكبر افسدهم من دونه.وليس يرجي من الاحمق ان ينفع سواه، أو ان يحفظ لصديق أو عشير أو جماعة شيئاً ما، بل لا يرجي منه ان ينفع نفسه أو ان يحفظها، ولقد اجاد كثيراً الاحنف بن قيس إذ يقول: الاحمق يحفظ من كل شيء إلاّ من نفسه، أي بالامكان حراسته من كل الاضرار والمفاسد الخارجيه وحمايته منها، ولكن من اين يحمي من نفسه وسفاهة رأيه.ومما قد قلناه حول الاحمق هذه الكلمات القصيرة:حكيم يرتجل الامر خير من احمق يطيل الفكر.الاحمق لا يترك عادة سيئة إلاّ التحف اخري.إذا قصر تفكير الاحمق فخافوه علي نفسه، وان طال فخافوه علي انفسكم.يضطرب قلب الحكيم فيفتح له المسالك، ويطمئن قلب الاحمق فيورده المهالك.بمعني انه علي رغم الظروف القاسية والحرجة، التي تنتاب الحكيم في بعض الاحيان، فانه يستطيع ايجاد حلول مناسبة بصورة وبأخري، ولكن الاحمق حتي في ظروف طمأنينته، واستقراره النفسي يتخبط خبط عشواء.ان الاحمق في حالة طمأنينته، كالنعامة البليدة في حالة خوفها. و _ التركيز علي تعيين مشرف تربوي، ومستشار مقتدر، علي كل فرد، أو شريحة اجتماعية. ولا نقصد بالتعيين ان يُعيّن من قبل جهة عليا رسمية أو غير رسمية، بل لابد ان يوجد مثل هذا المشرف التربوي أو المستشار بأية صورة من الصور سواء عن طريق التعيين الفوقي، أو ان الانسان

أو الشريحة بنفسها تتخذ هذا المستشار أو المشرف التربوي، وتسعي للاستفاده والانتفاع من تربيته وتوجيهه. ويقوم هو بدور الارشاد، ورسم خط الاستقامة والسداد.يقول الامام زين العابدين: ذلَّ من ليس له حكيم يرشده. وهذا من مشهور كلامه (عليه السلام). ز _ توجيه البشرية نحو كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ودعوتهم لتدبر آياته، والتأمل في احكامه، ودقائقه، ومراميه الفكرية والاخلاقية والاجتماعية، وحثهم علي استخراج كنوزه.يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة فينبغي لك ان تنظر ما فيها.ويقول (عليه السلام) مؤكداً علي مصاحبة القرآن، والاستئناس به، وملازمته كملازمة الظل: لو مات مَن بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد ان يكون القرآن معي.ويقول (عليه السلام) تشويقاً لقراءة القرآن، ومشجعاً علي تلاوته وملازمته:عليك بالقرآن; فان الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباءها اللؤلؤ وجعل درجاتها علي قدر آيات القرآن; فمن قرأ منها قال له: اقرأ وارق. ومن دخل منهم الجنة، لم يكن في الجنة أعلي درجة منه، ما خلا النبيين والصديقين [57] ومما لا ريب فيه ان التوجيه نحو كتاب الله الحكيم توجيه في نفس الوقت للسنة الزكية. قال تعالي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب) [58] وروي العلامة الكليني في الكافي عن الامام زين العابدين (عليه السلام) مؤكداً علي السنة «ان افضل الاعمال ما عمل بالسنة وإن قل». ح _ التوعية السياسية، ولا نقصد بالتوعية السياسية ان يكون الفرد أو المجتمع علي اطلاع علي ما يجري في الساحة الخاصة أو الساحة الدولية. أي ان يكون ملمّاً بالاخبار فحسب، فان

هذه توعية مبتورة جداً، وهي لا تمثل إلاّ جانباً واحدا فقط من التوعية المذكورة.وانما نعني بالتوعية السياسية ان يمتلك الفرد أو المجتمع الرؤية الواضحة والموقف المحدد ازاء الاحداث والاخبار أو بعبارة اوضح واوسع اطاراً ان التوعية السياسية مركب يتألف من الاجزاء التالية:اولاً: الحصيلة الحدثيّة والخبرية.ثانياً: تحليل الحوادث والاخبار.ثالثاً: الموقف المحدد ازاء الاحداث والاخبار.ويشترط في هذا اللون الرفيع من التوعية السياسية ان تكون صحيحة علي المستويات الثلاث صحة الاخبار، وصحة التحليل، وصحة الرؤية والموقف.وهذا لا يعني بالضرورة لكي يكون الانسان أو المجتمع واعيا سياسيا ان يكون محيطاً بجميع الاخبار والتحليلات، وانما يعني ان يكون الحد الادني من الوعي السياسي أي اليقظة في الخط العام للاخبار والتحليلات والرؤي. وهي شيء كيفي في الدرجة الاولي لاكمي أو بتعير ادق وابعد غوراً، وهو ما يقوله الامام زين العابدين سلام الله عليه: يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل.ان الاضرار التي تنجم عن الوعي السياسي بالمعني المشهور، أو المبتور اضرار جسيمة، شديدة الخطر. ومن بين ذلك ان الفرد أو المجتمع قد يصدّق بالاخبار الزائفة والباطلة أو يعتبر التحليل الخاطئ لها تحليلا صائبا ومعتمدا، فهو ينساق معه انسياق التابع للمتبوع. ومن ثم ينحرف أو ينجرف مع التيار الزائغ من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. والله تبارك وتعالي يقول: (قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا - الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا) [59] ومن المفردات الحيوية الناشطة التي قد رامها الامام زين العابدين (عليه السلام) هذه المقولات والفِكَر.اولاً: ان في الناس من خسر الدنيا والاخرة; بترك الدنيا للدنيا، ويري ان لذة الرياسة الباطلة افضل من لذة الاموال، والنعم المباحة المحللة; فيترك ذلك اجمع، طلباً

للرياسة، حتي إذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم [60] ثانياً: وقال (عليه السلام) في تصحيح مسار غير سديد لبعض الشيعة: وددت اني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض ساعديّ وهما: النزق، وقلة الكتمان [61] ثالثاً: قال القاسم بن عوف: كنت آتي علي بن الحسين (عليه السلام) مرة، ومحمد بن الحنفية مرة، فلقيني علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال لي: اياك ان تأتي اهل العراق فتخبرهم ما استودعناك علما، فانا والله ما فعلنا ذلك، واياك ان تترأس بنا فيضعك الله واياك ان تستأكل بنا فيزيدك الله فقرا.واعلم انك تكون ذنباً في الخير، خير لك من ان تكون رأساً في الشر.واعلم ان من يحدث عنا بحديث سألناه يوماً; فان حدَّث صدقا، كتبه الله صديقاً، وإِن حدّث كذبا، كتبه الله كذاباً.واياك ان تشد راحلة ترحلها فانما ها هنا تطلب العلم، حتي يمضي لكم بعد موتي سبع حجج، ثم يبعث الله لكم غلاما من ولد فاطمة (عليها السلام) تنبت الحكمة في صدره، كما يُنبت الطلُّ الزرع [62] رابعاً: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثة.خامساً: حدثوا الناس بما يعرفونه، ولا تحملوهم ما لا يطيقون فتغروهم بنا [63] سادساً: من رسالة له عليه الصلاة والسلام الي احد كبار العلماء وقد كان منضما في سلك النظام الحاكم: جعلوك قطباً اداروا بك مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك الي بلاياهم، وسلّماً الي ضلالتهم، داعياً الي غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك علي العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال اليهم، فلم يبلغ اخص وزرائهم، ولا اقوي اعوانهم، إلاّ دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة اليهم [64] ط: في ظل هذه الشجرة الجميلة التي يوشك ان تقطع والتي تسمي عمر الانسان،

علينا ان نعمل ونكافح ونتحرك لما فيه النفع الخاص والعام.انها ايام قلائل، وساعات معدودة. فعلي الانسان ان يقدم الثمار الطيبة من كل ما يسمو ويجدر (يا ايها الانسانُ انك كادحٌ الي ربك كدحاً فملاقيه) [65] وسواء اعمل الانسان خيراً أم لم يعمل فعما قليل سوف لا نري داراً ولا ديّاراً وسوف ينقضي العمر، ويبقي العمل.يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): اعلم ان الساعات تذهب عمرك، وانك لا تنال نعمة إلاّ بفراق اخري، فاياك والامل الطويل; فكم من مؤمل مالا يبلغه، وجامع ما لا ياكله ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه.ويقول أيضاً:تعز فكل للمنية ذائق و كل ابن انثي للحياة مفارق فعمر الفتي للحادثات دريئة تناهبه ساعاته والدقائق كذا نتفاني واحداً بعد واحدوتطرقنا بالحادثات الطوارقالي ان يقول: فالشباب للهرم، والصحة للسقم، والوجود للعدم، وكل حي لا شك مخترم.ولكن العمر علي الرغم من قصر مدته، من المستطاع ان يتخذ سلماً الي خير كثير، ومرقيً الي دار لا تفني ولا تبيد. وما انفع التجارة واروعها في هذه الايام القليلة. أو كما قال الامام زين العابدين (عليه السلام):الدنيا سوق الاخرة، والنفس تاجرة، والليل والنهارُ رأس المال [66] وإذا كانت النفس تاجرة فعليها ان تعد البضائع النفيسة، وتهيئ المستلزمات الكافية، من اجل الربح الوافر، كما ان عليها الالتزام بشؤون التجارة، ومراعاة نظام الاسواق، وعليها ان تعرف جيدا ان النظام دقيق، والرقباء اشدّاء.وفي هذا المنحي من مراعاة النظام، الي تحمل المسؤولية يقول الامام زين العابدين:ليس لك ان تقعد مع من شئت لان الله تعالي يقول: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع

القوم الظالمين) [67] وليس لك ان تتكلم بما شئت لان الله تعالي يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم) [68] وقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو صمت فسلم.وليس لك ان تسمع ما شئت لان الله تعالي يقول: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اُولئك كان عنه مسؤولاً) [69] ضياع الوقت قديماً وحديثاً:لقد كان النظام الحاكم ابان عهد الامام زين العابدين (عليه السلام)، مشجعاً للفراغ وضياع الوقت، داعياً للهو والعبث; من اجل ان يتحرك ذراع السياسة باي اتجاه اراد، ولا يجد من يمنع حركته ووجهته.ولا نعتقد ان قصة مجنون ليلي بالقصة الحقيقية، وما نراها إلاّ اسطورة اختلقتها ووضعتها اخيلة سياسة النظام الحاكم، وانتزعت لها الاشعار المختلفة من هنا وهناك; في سبيل اشغال الناس عن الشؤون الرئيسية للدولة، وتمرير مخططات النظام سالمة آمنة.ولو كان الامر يقتصر علي الضياع البريء للوقت، لكان اخف وطأة، واقل شراً. بيد انه قد فتحت ابواب واسعة للموبقات والمنكرات. وكان الاخطل التغلبي شاعر البلاط يدخل علي عبدالملك بن مروان، وإن قطرات الخمر علي لحيته.ولقد استمرت هذه السياسة، بل وما هو شر منها واخطر الي هذا اليوم، فما اكثر مساحات الفراغ وما اوسعها، وما اتفه الوحدة الزمنية قصرت أو طالت في هذا العصر الضائع.ولقد احسن المفكر المعاصر هتشنس Hutchins الرأي حيث يقول:ان لم يهلك انسان هذا العصر نفسه بالقنبلة الذرية والهيدروجينية، فسوف يدمر نفسه بوقت الفراغ الطويل، الذي سيخلفه هذا العصر الذري، وإذا لم توجّه اوقات الفراغ وجهة سوية مخططة انتشرت الجرائم، وسيطر الترويج التجاري المنحرف علي امزجة الناس. ي _ التأكيد علي ذلك الفاتك الشرس، القاهر المفترس، هادم اللذات وفاجع الانسان بأخيه الانسان، اعني

الموت.إذ ان التفكير بالموت والاتعاظ به، والتأمل بمآل اخواننا وآبائنا، الذين اطفأ الموت قبس حياتهم، فذهبوا غير عائدين، كذهاب الامس الذاهب; فلا عودة لهم، ولا زيارة ترجي منهم حتي يوم التناد.ان التفكر بالموت واحواله، واتساع حركته، والاتعاظ به عامل من عوامل تهذيب المجتمع، وتشذيب الغرائز، وتصحيح توجهات الانسان، وكبح نفسه الجموح.كما انه عنصر من عناصر مضاعفة النشاط الخير، والسعي الهادف، والاستكثار من صالح العمل، والتزود من وافر المتاع; إذ ان لكل انسان فرصة للانجازات النظرية والتطبيقية. فإذا دق الموت ساعة الصفر، واقبل يزحف فلا يقف في وجهه شيء; فان الفرصة تأذن بالوداع، وتنقطع المهلة أي انقطاع.وعلي هذا لا يصح ولا يمكن ابعاد ذكر الموت، والاعتبار به، عن مجمل المنهج التربوي في الاسلام. كما ان من الخطأ اعتبار التأكيد علي الموت، داعياً ومحفزاً للكسل، بل ان العكس هو الصحيح.أُكمل الخير في الصباح لئلا يهبط الموت في هبوط المساءِ ترقد الروح والضمير إذا مانسيا الموت مقلق الاحياءِ رفرف الموت فاهتززت اباءً أنْ يوافي ولم يتم بنائي فاذا الموت ذكره وخطاه فيه خصب الحياة روح النماءِ نعم ان الموت داعية الي الخمول التام، والكسل الكامل عن ممارسة أي لون من الوان الانشطة التي تحرف الانسان عن الدرب اللاحب، والخط القويم، أو علي حد تعبير الامام زين العابدين (عليه السلام):وفي ذكر هول الموت والقبر والبليعن اللهو واللذات للمرء قاصرُوفي المنهج التربوي لاهل البيت (عليهم السلام) حشد من الخطب والكلمات، وغرر الحكم، الكاشفة عن فلسفة الموت، واجوائه، المركزة علي التفكير فيه، المؤكدة علي الانزجار خشية نزوله، والتوبة قبل وروده. ولهم في ذلك وصف دقيق، والتفاتات حيّة وتعابير ملهمة، تخشع لها القلوب، وتضطرب من هولها الارواح.فمن ذلك قول الامام زين العابدين

(عليه السلام): انظر الي الامم الماضية، والملوك الفانية، كيف افنتهم الايام; ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم وبقيت فيها اخبارهم.واضحوا رميماً في التراب وعُطلت مجالس منهم اقفرت ومعاصروحلوا بدار لا تزاور بينهم واني لسكان القبور تزاور فما إن تري إلاّ جثيً قد ثووا بها مسطحة تسفي عليها الاعاصركم من ذي منعة وسلطان، وجنود واعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمنّاه وبني فيها القصور والدساكر، وجمع الاعلاق والذخائر.فما صرفت كف المنية إذاتت مبادرة تهوي إليه الذخائرُ و لا دفعت عنه الحصون التي بني وحف بها انهارها والدساكرُ ولا قارعت عنه المنية حيلة ولا طمعت في الذبّ عنه العساكرُ اتاه من الله مالا يرد، ونزل من قضائه مالا يصد [70] . ويقول (عليه السلام) في هذا المجال أيضاً من كلام له: ويحك يابن آدم الغافل وليس مغفولا عنه، ان اجلك اسرع شيء اليك. قد اقبل نحوك حثيثاً [71] ، يطلبك ويوشك أن يدركك، فكأن قد اوفيت اجلك، وقد قبض الملك روحك، وصيرَّك الي قبرك وحيدا; فردَّ عليك روحك، واقتحم عليك ملكاك منكر ونكير لمساءلئك وشديد امتحانك. الا وإن اول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي ارسل اليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن امامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما افنيت، وعن مالك من اين اكتسبته وفيما انفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، واعدَّ الجواب. ك _ التنبيه المتواصل، وياله من تنبيه كأنه صعقة كهربائية; فلا يمكن تجاهلها في حال من الاحوال. ينسكب هذا التنبيه في مجاري قلوب الامة وعقولها. ان يا ايتها الامة احذري من احابيل الدنيا وتصاريفها. يعاضد ذلك ابراز خصائصها وطبائعها الذاتية والعرضية، والتعريف

بقدرها وختلها، ووعودها السرابية، والدعوة الي الزهد فيها، والابتعاد عن نزواتها.يقول سلام الله عليه: وما عسيت ان اصف من محن الدنيا، وابلغ من كشف الغطاء، عما وكل به دور الفلك من علوم الغيوب، ولست اذكر منها إلاّ قليلا افنته، أو مغيب ضريح تجافت عنه، فاعتبر ايها السامع بهلكات الامم، وزوال النعم، وفظاعة ما تسمع، وتري من سوء آثارها، في الديار الخالية، والرسوم الفانية، والربوع الصموت.وكم عالم افنت فلم تبك شجوهو لابدَّ ان تفني سريعاً لحوقُها فانظر بعين قلبك الي مصارع اهل البذخ، وتأمل معاقل الملوك ومصانع الجبارين، وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء، وجاهرتهم بالمنكرات، وسحبت عليهم اذيال البوار، وطحنتهم طحن الرحي للحب، واستودعتهم هوج الرياح تسحب عليهم اذيالها فوق مصارعهم في فلوات الارض.مما هو جدير بالذكر أَن للدنيا ساحتين: ساحة للخير والفضيلة، وساحة للشر والرذيلة. ففي الساحة الاولي ينبغي لاولي الالباب التزود منها، والسعي الجاد فيها، والتسابق الي المزيد من الاعمال الصالحة. وفي الساحة الثانية ينبغي لاولي الالباب التنزه عنها وعدم التلوث فيها والترفع عن صعيدها الشائن.اللهمَّ إلاّ من زاوية دفع الشر بالشر، أو كما قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام): ردوا الحجر من حيث جاء فان الشرَّ لا يُدفع إلاّ بالشرِّ.بيد ان هذا اللون من الشر خير ورحمة وفضيلة.ومما لا ريب فيه ان فلسفة الزهد في الاسلام، التي تنتظم خيوطها في الكتاب والسنة الزكية، انما تدعو الي الزهد في الدنيا، بمعني الزهد في الشر والرذيلة وما يمت اليهما بصلة وارتباط، وليس الزهد في الساحة الاولي، اي تدعو وتؤكد علي الزهد في الساحة الثانية فحسب.ولكن ثلة من ذوي التفكير العقيم، والجمود الكامل علي النص المقدس قد انكبوا علي مفهوم الزهد علي انه زهد

بالدنيا بكل آفاقها وميادينها ومستوياتها.وإذا ما اخذنا بهذا الفهم الخاطئ للزهد لا يبقي مجال أو لا يبقي معنيً لتنفيذ الايات القرآنية المباركة، والاحاديث الوافرة، التي تحث وتدعو الي الاعمال الصالحة بشتي ضروبها وافانينها. إن الفكرة الخاطئة حول الزهد كانت سبباً من الاسباب الرئيسية لتخلف المسلمين في عدة أحقاب تاريخية. ل _ كشف الاقنعة السياسية. قال الامام زين العابدين صلوات الله عليه من جملة رسالة طويلة: ايها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت واتباعهم، من اهل الرغبة في الدنيا، المائلون اليها، المقبلون عليها وعلي حطامها الهامد، وهشيمها البائد غداً.واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها.ولا تركنوا الي ما في هذه الدنيا ركون من اعدَّها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها عليها دليلاً من زينتها، وتصريف ايامها، وتغير انقلابها ومثلاتها، وتلعابها باهلها... انها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار اقواماً غدا; ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.وإن الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدي، ومعرفة اهل الحق، إلاّ قليلاً ممن عصم الله جلَّ وعزَّ; فليس يعرف تصرف ايامها، وتقلّب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها إلاّ من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان علي ذلك بالزهد; فكرر الفكر، واتعظ بالعبر وازدجر; فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها.إن من المعالم الرئيسة لمعرفة الدنيا الزهدُ فيها.وإن من المعالم الرئيسية للزهد فيها عدم الركون لطواغيتها.وإن من المعالم الرئيسية لعدم الركون لطواغيتها تعرية خططهم، وكشف اقنعتهم، وجهادهم جهاداً كبيرا.فمعرفة الدنيا معرفة صادقة وعميقة تستدعي في نهاية المطاف خوض غمار سياسة إسلامية هادفة وتستلزم

الجهاد الكبير.ومن هنا نري أنَّ التدخل في السياسة الاِسلامية، والاشتراك بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالي لا يكون باباً مفتوحاً علي مصراعيه، لكل من رغب أو اشتهي الولوج فيه.بل ينبغي أن نستدعي لهما «السياسة والجهاد» من تربّي تربية رسالية صادقة.ومن وسائل هذه التربية:تبصير الاعضاء المرشّحين للسياسة والجهاد بالدنيا، وحثّهم علي الزهد فيها. وإذا كان التبصير بالدنيا والحث علي الزهد، وسيلة ممهّدة للسياسة والجهاد فلابد من ديمومة التربية التبصيرية المذكورة. أعني حتي أثناء خوضهما.إننا نري في تأريخ الاسلام الكثيرين ممن اشترك في السياسة والجهاد الاسلامي، فبرع فيه، واحتلّ المراكز الحساسة من غير أن يكون له نصيب وافر من تربية التبصير المذكورة آنفاً. فحوّل المجري الطبيعي للسياسة والجهاد الي مجري شخصي أو فئوي أو اسري، وحرّف المقاييس الاسلامية وقرعها في الصميم.فيا أيّها الرساليون تيقظوا. م _ التثقيف الوحدوي: إن الاسلام دين الاستيعاب والاحتضان، لا دين الجفاء والعدوان. وإذا ما اراد الانسان الاعتناق الحقيقي للاسلام فعليه ان يتمثل تطلعاته، وابعاده، واهدافه، ومن الطبيعي سوف يكون حينئذ، رحيب الصدر، وسيع الافق، قوي الكسب، شديد الجاذبية. ينظر الي الاخرين بروح شفافة كريمة معطاء، تمور بالحنان والعطف والتآخي ولكن قد رأينا _ ويا للاسف العميق _ من المسلمين من يتعصبون لمذهبهم، اكثر مما يتعصبون لقرآنهم الكريم، وسنة نبيهم (صلي الله عليه وآله وسلم)، وإذ ما رأوا فارقاً بين القرآن والسنة وبين مذهبهم فانهم يؤولون القرآن والسنة وكل شيء لصالح المذهب.ولو اقتصر الامر علي الجهّال لكان الشر اقل، ولكن عدداً غير قليل من الكتاب واصحاب الخلفية العلمية المرموقة سائرون علي هذا المنوال، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.فيا ربِّ هل إلا بك النصر يرتجي ويا ربِّ هل الاعليك المعوَّل [72] ولابدَّ لنا

ان ننقد انفسنا نحن المسلمين نقداً موضوعياً بناءً فنقول بوضوح ان الثقافة الوحدوية ما بين المسلمين ثقافة ضعيفة ومحدودة، ومن الجدير جداً بالرساليين من ذوي الهمم العالية النهوض بهذا العبء الثقيل (ولا ينهض بالعبء الثقيل إلاّ اهله).ليست الثقافة الوحدوية كتاباً يقرأ مرة واحدة ثم يلقي جانباً بل من الضروري ان تشكل حيّزاً كبيراً من المساحة الثقافية للفرد المسلم.ومن واجباتنا الاساسية ان نبث الاشعاع الوحدوي في احاديثنا ولقاءاتنا ومحاضراتنا وكتبنا ومختلف الوسائل الاعلامية، وان ذلك ليس بالشيء الكثير.والان فلنصغ الي امام من أئمة المسلمين لنستلهم منه شيئاً من الافكار والتطلعات الوحدوية.يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): ان عرض لك ابليس لعنه الله بأن لك فضلاً علي احد من اهل القبلة; فانظر ان كان اكبر منك فقل: قد سبقني بالايمان، والعمل الصالح فهو خير مني، وان كان اصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وان كان تِربك [73] فقل: انا علي يقين من ذنبي، وفي شك من امره; فما ادع يقيني لشكّي.وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك، فقل: هذا اخذوا به، وان رأيت منهم جفاءً وانقباضاً، فقل: هذا الذنب احدثته; فانك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر اصدقاؤك; فقلَّ اعداؤك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف علي ما يكون من جفائهم.وقال (عليه السلام): واما حق اهل ملتك عامة فاضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك... فعمهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ، فمن اتاك تعاهدته بلطف ورحمة. وصل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه. ن _ ضرورة التفاعل مع قضية الامام الحسين

بن عليّ (عليهما السلام) في القضية الكبري.إن قضية الامام الحسين انما هي قضية الخط الاسلامي الصاعد قوة وشمولية واصالة وازدهاراً. إن ثورة الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) انما هي ثورة الكلمات المقاتلة، والافعال الجريئة، والقضية العادلة. لقد روّي الامام الحسين شجرة الاسلام بدمه الزاكي ودماء اهل بيته واصحابه الكرام حتي عادت باسقة، وارفة، معطاء.إن علماء الاسلام ومفكريه الاجلاء ينظرون الي الامام الحسين انه القدوة المثلي في الاستقامة والفضيلة، والمثل الاعلي في التضحية والفداء.لقد علَّم الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) المفكرين علي التضحية من اجل فكرهم،والعلماء علي ان يقرنوا العلم بالعمل،والزهاد علي الزهد بحياة الذل والهوان،والاحرار علي ان يستعبدوا الموت الاحمر،والابطال علي عدم التنازل حين الانفراد بالمعركة،و الانسانية علي ان تحترم نفسها امام وحشية الطغاة والمستبدين.إن وحشية السباع بافتراسها، ووحشية الانسان بصلفه وطغيانه وجبروته. ومما لا ريب فيه ان اكبر وافضل تفاعل مع قضية الامام الحسين انما يكمن في الاقتداء بسيرته وهديه بالصورة الشاملة. واما الاقتداء ببعض شؤونه ومنطلقاته فهو من شأن احرار وابطال كثيرين، بل ان عدداً منهم لم يكن يلتقي الامام الحسين (عليه السلام) في الخط والتوجه. فمن اولئك مصعب بن الزبير بن العوام والي العراق من قبل اخيه عبد الله بن الزبير; فانه لما خذله العراقيون، وبقي في قلة من الانصار، لم يرضخ لمساومة جيش عبد الملك بن مروان، ولم يشأ ان ينقاد للهوان والتنازل، واشار الي قبر الامام الحسين قائلاً: ما ترك لنا صاحب هذا القبر من عذر، وتمثل بقول سليمان بن قتة.وإن الالي بالطفِّ من آل هاشم تأسوا فسنّوا للكرام التأسيا و إذا كان مصعب بن الزبير قد اقتفي اثر الحسين (عليه السلام) من جهة عدم التساوم والخضوع،

فان الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي قد اقتفي اثر الحسين واقتدي به من جهة استيعاب المظلومية في سبيل الوصول الي الاهداف السامية. قال غاندي:تعلّمت من الحسين ان اكون مظلوماً لكي انتصر. ونشر مبادئ ثورة كربلاء والدعوة اليها، والدفاع عنها، ودرء الشبهات عنها كل ذلك من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته.وبيان مساوئ اعداء الامام الحسين وآثامهم وجرائرهم، كل ذلك من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته.وزيارة مرقده (عليه السلام)، والدعوة الي الزيارة، وبذل الاموال الطائلة في سبيل ذلك، من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته أيضاً.ولقد ذكرنا في بحث «مع الامام الحسين في الثورة الخالدة» تفصيلات حول مواقف الامام زين العابدين من قضية الامام الحسين وآثاره فيها، وتفاعله العظيم معها.والان نشير الي شيء يسير مما لم نكن ذكرناه في ذلك البحث: قال له مولاه: يا مولاي أما آن لحزنك ان ينقضي؟ فقال (عليه السلام): ويحك ان يعقوب نبي ابن نبي، كان له اثنا عشر ولدا; فغيب الله عنه واحداً منهم; فبكي حتي ذهب بصره، واحد و دب ظهره، وشاب رأسه من الغم، وكان ابنه حيا يرجو لقاءه، فإني رأيت ابي واخي واعمامي وبني اعمامي ثمانية عشر مقتلين، صرعي، تسفي عليهم الريح، فكيف ينقضي حزني وترقأ عيني.لا يوم كيوم الحسين ازدلف اليه ثلاثون الف رجل، يزعمون انهم من هذه الامة، كلّ يتقرب الي الله عزّوجلّ بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتي قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.ثم قال: رحم الله عمي العباس فلقد آثر وابلي، وفدي اخاه بنفسه حتي قطعت يداه، فابدله الله عزّوجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة، كما جعل لجعفر بن ابي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالي منزلة، يغبطه بها جميع الشهداء يوم

القيامة [74] عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: بكي علي بن الحسين علي ابيه حسين بن علي صلوات الله عليهما عشرين سنة أو اربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكي علي الحسين، حتي قال له موليً له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين. قال: (انما اشكو بثي وحزني الي الله واعلم من الله ما لا تعلمون) اني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني العبرة لذلك [75] قال (عليه السلام) لاحد اصحابه: بلغني يا زائدة [76] انك تزور قبر ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) احيانا. فقلت: ان ذلك لكما بلغك. فقال لي: فلماذا تفعل ذلك، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل احداً علي محبتنا وتفضيلنا، وذكر فضائلنا، والواجب علي هذه الامة من حقنا؟.فقلت: والله ما اريد بذلك إلاّ الله ورسوله، ولا احفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه. فقال: والله ان ذلك لكذلك؟ فقلت: والله ان ذلك لكذلك، يقولها ثلاثا واقولها ثلاثا. فقال: ابشر، ثم ابشر، ثم ابشر الحديث [77] ومما تقدم وغيره يعلم ان الامام زين العابدين (عليه السلام)، اراد ان يدخل _ بحق _ قضية الامام الحسين (عليه السلام)، ضمن اساسيات التربية الاسلامية، وفي اطارها الاستراتيجي الذي لا يحول ولا يزول. والحق كل الحق لابدَّ ان يقال: إن ثورة الامام الحسين حد صقيل لكلِّ سيف يُمتشق من اجل العدالة والفضيلة والحريّة والكرامة.إن ثورة الامام الحسين تلقن الشمس المضيئة كيف تزداد تألقاً وضياء.وتعلّم القمر الجميل كيف يزداد نوراً وجمالا.وتربّي السماء الرفيعة كيف تزداد سموّاً وارتفاعاً.

سياسة التعامل الاجتماعي

الوان التعامل

قيمة التعامل

اشاره

يعتبر التعامل الكاشف الواقعي عن جوهر المسلمين ومدي تمسكهم بالاسلام. وهو الركيزة

الاكثر تأثيراً في تعميق الاسلام بنفوس مختلف الجماهير، ونشره عقيدة وتشريعاً ومنهجاً تبشيرياً عالمياً. ان التعامل يترك بصماته الواضحة علي النفوس ان خيراً فخير وإن شراً فشر. بالكلمة الطيبة وبالتعامل بالحسني دانت بالاسلام مناطق واسعة من ارجاء المعمورة وعلي سبيل المثال اندونيسيا ودول البلقان. انهم حينما رأوا الخلُق العاطر للتجار المسلمين، والمسامحة في التعامل، و المساهلة في البيع والشراء، والاخلاص في العمل، والابتعاد عن الغش والتطفيف في المكيال والميزان.. رغبوا في دين الاسلام واعتنقوه. اما سوء التعامل وقبحه من قبل كثير من المسلمين فقد أثر التأثير السلبي علي الاسلام فنتيجة لسياسة عدة عصور من التاريخ الاسلامي تلك السياسة الشنعاء الشوهاء التي انطوت علي ألوان من التعامل المقيت بما لا يرتضيه القرآن الكريم والسنة المطهرة.. قد انسحب بعض الذين اسلموا الي عقائدهم الاولي غير الاسلامية. كما ان حركة الاسلام في الكسب الي حظيرته عاشت نوعاً من الفتور او الجمود في ازمان مختلفة للسبب ذاته. كما ان بعض المسلمين قد انسحبوا من حظيرة الاسلام للسبب ذاته ايضاً ولقد سأل الحجاج شاباً ان يقرأ القرآن فقرأ: اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله افواجاً، فقال: ويحك يدخلون. وليس يخرجون فأجاب بأن ذلك الدخول في الاسلام كان في الزمن السابق اما في زمان الحجاج فيخرجون. ان كل قيمة للتعامل بالحسني _ مع صدق الطويَّة _ اضافة الي آثارها الايجابية سياسياً واجتماعياً في الحياة الدنيا فانها تعكس آثارها النافعة علي المتعاملين في الدار الاخرة، بشكل عجيب. وحسبنا ان بعض المتعاملين بالحسني يدخلون الجنة بغير حساب. يقول الامام زين العابدين (عليه السلام) وهو ينشر سياسة التعامل بالحسني ويحث عليها وهذه احدي اساليبه فيها: إذا كان يوم القيامة

نادي مناد ليقم اهل الفضل، فيقوم ناس من الناس فيقال: انطلقوا الي الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: الي اين؟ فيقولون: الي الجنة. قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: نعم قالوا: ومن انتم؟ قالوا: اهل الفضل. قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا اذا جُهل علينا حلمنا، واذا ظلمنا صبرنا، واذا اسيء الينا غفرنا، قالوا: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله في داره. فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا الي الجنة، فتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك. قالوا: وبِمَ جاورتم الله في داره؟ قالوا: كنا نتزاور في الله ونتجالس في الله، ونتباذل في الله، قالوا: ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين [78] .

مصدر التعامل

إنّ المعتقد الذي يؤمن به الفرد او المجتمع لهو أهمّ مصدر ينطلق منه التعامل. لا نعني بالمعتقد المعتقد الديني فحسب، وانما نعني جميع المبادئ والاسس الايمانية. سواء كانت دينية أو سياسية او اجتماعية. صحيحة كانت أو خاطئة، حتي تلك الغارقة في الخطيئة والطغيان كذلك التعامل الذي يجري في ارجاء من الولايات المتحدة الامريكية; فنتيجة لاعتقاد الكثيرين من الجنس الابيض انه اسمي عرقاً وأنقي دماً واطهر نفساً من الزنوج السود ومن الهنود الحمر لذلك اضطهدوهم وضيقوا عليهم في المشاركة في مقادير من المرافق الحيوية والشؤون العامة للبلاد، دع عنك كلمات الاستهزاء التي تطلق مجاناً وبغير حساب. وما يجري اليوم في اسرائيل في تعاملها السياسي والاجتماعي مع الفلسطينيين انما هو علي أساس الشموخ النوعي، والاستعلاء العبري، الذي يشكل فيه اعتقادهم انهم شعب الله المختار حجر الزاوية في مجال التعامل السياسي والاجتماعي مع الفلسطينيين المضطهدين. ان التعامل عند الامام زين العابدين (عليه السلام) منبثق من المعتقدات كذلك، بيد أنها المعتقدات الصحيحة الاصيلة

التي لا تشوبها شائبة; اذ ان معرفته بالمعتقدات الاسلامية واصول التعامل السياسي والاجتماعي في الاسلام انما هي معرفة كاملة، واستيعابه لجوانبها استيعاب محيط، وهو بعد علي بيّنة من ربه وبصيرة من عقيدته. فاذا كانت بعض الرهوط الاجتماعية والقيادات السياسية تتعامل وفق الاساس الاعتقادي فقد يكون تعاملهم منبجساً من المعتقدات الزائغة أو الخاطئة. او مسايرة ومداهنة لمثل تلك المعتقدات حذراً من ضغط سياسي أو خشية من بعض القيود الشعبية، أما الامام زين العابدين (عليه السلام) في منطلقاته التعاملية فلم يكن يصدر إلاّ عن طريق الايمان بها، والاخلاص لها، والذوبان فيها. إنه الرسالي العظيم الذي يتحرك في تعامله ضمن رسالته ومعتقداته مستمراً في خطته، دائباً في عمله البنّاء.

طبيعة التعامل

لم يرد التعامل عند الامام زين العابدين (عليه السلام) في صيغة انجازية لمسؤوليته الفردية _ وان كان هذا من خطها _ وانما يذهب بعيداً الي حيث الهموم السياسية والاجتماعية الي حيث أن يرغب المجتمع ويوجه السياسيين في طريق التعامل بالتي هي اَحسن. يقول (عليه السلام): ان اَسرع الخير ثواباً البِرّ، واَسرع الشر عقاباً البغي، وكفي بالمرء عيباً أن ينظر في عيوب غيره ويعمي عن عيوب نفسه، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه، أو ينهي الناس عما لا يستطيع تركه. وقال (عليه السلام): افعل الخير الي كل من طلبه منك; فان كان له أهلاً فقد أصبت موضعه، وان لم يكن بأهل كنت أنت أهله. أي أنه صلوات الله عليه لم يجعل تبادل المصالح الدافع الوحيد لعمل الخير، بل في نظريته ان عمل الخير لابد منه، فلئن لم يكن المقابل مستحقاً له فينبغي أن يكون فاعل الخير مستعداً لاسدائه، مؤهَّلاً لهبته. ومن نثره الدر أو نطقه بالكلمات المضيئة في هذا

الصدد هذه الدرة اليتيمة: عليكم بأداء الامانة، فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني علي السيف الذي قتله به لادّيته اليه. إنَّ للامانة قيمة ذاتية وعلي الرسالي تأدية الحق فيها والوقوف منها وقوفاً التزامياً سواء كانت لاقرب الناس اليه سلوكاً ومعتقداً أم لابعدهم عنه; لان بُعد المؤتمن عقيدياً أو سلوكياً لا يغضَّ من القيمة الذاتية للامانة، وها هو الامام زين العابدين (عليه السلام) يضرب لاداء الامانة مثلاً هو سيف ابغض السيوف اليه، من أجل أن يؤكد علي القيمة الكبيرة لها. وفي هذا الصدد أو قريب منه جاء الحديث ليؤكد: ائتمن من ائتمَنك ولا تخن من خانك. اِنَّ الامانة في نظرية الامام زين العابدين لم تكن شاذة في مجمل التعامل والخط العام للسلوك الاجتماعي والسياسي، انها لا تشكل غير جزء واحد من الاطار الشامل للقيمة الذاتية لكل المحاسن الخلقية كالوفاء والانتصار للحق. ما المثال المتقدم الا حلقة من سلسلة ذهبية لاقواله وأفعاله التي خلّفها للاجيال قدوة حسنة لمن اراد الاقتداء، واسوة مثلي لكل عشاق الرفعة، والسمّو، والخير، والجمال. لقد كان والي المدينة يؤذيه كثيراً، وعندما أُقيل من منصبه، وأُقيم للناس ليأخذ كل من ظُلم حقه منه كان جُل هم الوالي وخوفه من زين العابدين لانه (عليه السلام) قد لقي منه ظلماً كثيراً. ولكنه (عليه السلام) قد تقدم لاتباعه ومريديه باَن لا يتعرّضوا إليه بمكروه. ومرّ (عليه السلام) بجانبه غير أنَّ شيئاً من خشونة التعامل لم يظهر منه، فبُهت الوالي من هذا التعامل الاسلامي البنّاء والسياسة الباهرة فنادي: الله اعلم حيث يجعل رسالته. لا احسب ذلك النداء إلاّ نداء الضمير وحركة الوجدان هزّته اليها جاذبية المعاملة

المعطار فاستفاق هاتفاً بالحقيقة الغراء.

مراتب التعامل

اَدني مراتب التعامل الاجتماعي مرتبة العُرف، وقد وصفتها باَدني المراتب لان العرف الاجتماعي لا يكتسب درجة عالية من الديمومة. فان الجيل اللاحق قد يرفضه من الاساس، ويقلبه رأساً علي عقب، وثانياً لان العرف الاجتماعي في كثير من الاحايين لا ينمو الا في ساحة بعض العقول البشرية والنفسيّات المختلفة ثم علي تعاقب الليالي والايام يتّخذ العرف صيغاً متَّبعة عند مجتمع ما. ان العقول البشرية مع اكبارنا لها _ من عدة جوانب _ عرضة للخطأ، والاشتباه. اريد ان اقول: العقل مارد جبار يقفز فوق كثبان من الرمال. وفي هذه القفزات كثيراً ما تغوص قدماه بالرمال، اما النفسيات فانها كثيراً ما تداعبها الاهواء والامزجة الدنيئة والامراض المختلفة، الظواهر منها والكوامن. ومع هذه المؤاخذات علي العرف فان منه ما يسمو بالمجتمع الي الغاية النبيلة والرتبة السامقة. وان من العرف ما يبني صرحه علي اساس فطري سليم، وغريزة انسانية فاضلة. واسمي من مرتبة العرف مرتبة التشريع الاسلامي، والتقنين الربّاني. ان النعتين السلبيين اللذين تطرّقا الي العرف بعيدان عن التشريع، إذ اِنه منحة الرب عزوجل، ولم يكن من صنيع العقل البشري، وما يؤاخذ علي النفس الانسانية لا يُذكر عند التعرض لتشريع الرّب تبارك وتعالي. ان التعامل وفق التشريع الاسلامي يتكفل بسعادة المجتمع وخلاصه ضمن أطره، وليس في التعامل ضمن التشريع ما يزري بالانسانية ويحط من قدرها والعكس صحيح. لقد تطرقنا لمرتبتين من التعامل ولابد من التطرّق للمرتبة الثالثة منه ألا وهي التعامل وفق الخلق الاسلامي. قد يبدو هذا العنوان غريباً أول وهلة فان التشريع الاسلامي بما فيه من التعامل مستند علي الركائز الاخلاقية في مناحيه كافة، فكيف يدرج عنوان للتعامل الخلقي الاسلامي مستقلاً عن التعامل

الثاني (التشريع) ورابياً عليه، ومتربعاً فوقه؟ الجواب: لا اشكال بسمو التعامل الثاني وخلقيته، ولكن التعامل ضمن دائرته فحسب يجعل المتعاملين «مع تمسكهم بالتشريع» يتقاربون في المستوي العملي لانهم يتعاملون وفق ارضية واحدة لا يرتفع بعضها علي البعض الاخر الا قليلا، اما التعامل الخلقي فهو اولاً لا يعني غير الخلق الاسلامي وثانياً انه غير واجب علي معتنقي الايمان الالتزام به فرضاً حتمياً. وفي الارتقاء لمرتبة الخلق ثم التصاعد فوق مدارجه يتميز الصالحون والصديقون والصفوة من المتقين ما بين درجات عليا من الايمان حتي الحد الادني منه ما تصدق عليه العدالة. ولمزيد من الايضاح نضرب لذلك مثالاً عن الامام زين العابدين (عليه السلام). كان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي زين العابدين (عليه السلام): مهلاً كفوا، ثم اقبل علي ذلك الرجل فقال له: ما ستر عنك من امرنا أكثر. ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقي عليه زين العابدين خميصة كانت عليه وامر له بالف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: اشهد انك من اولاد الرسل. اذا أراد الامام زين العابدين (عليه السلام) ان يأخذ حقه من هذا الرجل العادي عليه فان هذا مما لا شبهة فيه تشريعاً لان الاسلام لم يحرم علي الفرد المسلم اخذ حقه ممن ظلمه، بيد ان الامام زين العابدين (عليه السلام) اتبع الخطوات التالية: اولاً: نهيه اتباعه عن ا لتعرض بسوء للمعتدي. ثانياً: لطفه وتواضعه في مقابلة الرجل بقوله: ما سُتر عنك من امرنا اكثر. ثالثاً: عرضه علي الرجل القيام باعانته علي حاجته. رابعاً: الهديتين اللتين قدمهما له. ان شيئاً من هذه الخطوات لا تجب في التشريع الاسلامي، فلو اراد الامام زين العابدين (عليه السلام)

او أي انسان آخر ان يتركها لم يكن عليه بأس، ولم يقترف خطيئة، غير أن اتباعها او بعضها شيء محبب، مُرغّب فيه، دعا اليه الخلق الاسلامي ونهض به اعاظم الصالحين و سادة المتقين، يقول تبارك وتعالي: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) [79] ويقول تعالي كذلك: (ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) [80] .

وجهة التعامل

قبل التوغل في وجهة التعامل لابد لنا ان نعرف الاصناف التي نتعامل معها لان المجتمع لم يكن طبقة واحدة من حيث السلوك والتوجّه، ولو أنه كذلك اذن يصح الاتيان بصيغ من نمط واحد نطبقها علي الطبقة الواحدة، بل يختلف اختلافاً بيّناً واختلافه علي نحوين: النحو الاول: اختلاف بين الانحراف وعدم الانحراف. النحو الثاني: اختلاف في نفس ظروف الانحراف من حيث المسار. يقول الامام زين العابدين (عليه السلام) في طبقات المجتمع وهو ينعت عصره إلاّ انه ليس ثمَّ فارق كبير بين طبقات عصره وطبقات العصر الراهن. يقول: الناس في زماننا علي ست طبقات: اسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير وشاة. فاما الاسد فملوك الدنيا يحب كل واحد ان يغلب فلا يغلب. واما الذئب فتجاركم، يذمّون اذا اشتروا، و يمدحون اذا باعوا. واما الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بالسنتهم. واما الكلب فيهرّ علي الناس بلسانه، ويكرمه الناس من شر لسانه. واما الخنزير فهؤلاء المخنثون وأشباههم لا يُدعون الي فاحشة إلا اجابوا. واما الشاة فهم المؤمنون الذين تُجز شعورهم، وتؤكل لحومهم، ويُكسر عظمهم، فكيف تضع الشاة بين اسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير؟ [81] . ان التعامل مع هؤلاء يكون تارة باعتبارهم مسلمين واخري بما لهم من حقوق وثالثة بكونهم بشراً

لهم القابلية للانحراف. فاما الخط العام للتعامل معهم بالاعتبار الاول أي أنهم مسلمون فهذا الذي يستعرض الامام زين العابدين (عليه السلام) جوانبه بكلماته: فأما حق اهل ملتك فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك فان احسانه الي نفسه احسانه اليك اذا كف عنك، وكفاك مؤونته وحبس عنك نفسه. فعُمَّهُم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصِل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه [82] . قد يري الرائي ان هذا اللون من التعامل في الدستور الذي وضعه الامام زين العابدين (عليه السلام) مع طبقات المجتمع كافة بما فيهم الكلاب والذئاب لا يؤدي الا الي نتائج سلبية من حيث تجرئتهم علي سوء العمل، وتشجيعهم علي الخلق الدنيء، واضافة لهذا الاشكال قد يري الرائي ان هذا اللون من التعامل ايضاً يتخذ من طيب القلب الركن الوحيد مستنداً له، وطيب القلب وحده لا يمكن التعامل علي ركنه فحسب في مجتمع يضم شتي أنماط السلوك المهين. اقول اننا اذا اخذنا حق اهل الملة عامة بالدستور الذي رسمه الامام زين العابدين (عليه السلام) مع قطعه عن دساتيره الاخري للتعامل الاجتماعي فالامر يكون كما رآه الرائي. بيد ان الفرق كبير بين ان يكون الاسلوب التعاملي فكرة مستقلة مبتورة، و بين ان يكون الاعتماد عليه في ضمن اعتبار معين من اعتبارات شتي في التعامل. فهذا النمط التعاملي «حق اهل ملتك عامة» باعتبارهم مسلمين بقطع النظر عن اي شيء آخر، اما من حيث اعتبارهم بشراً فيهم القابلية الانحرافية فقد حدد الامام زين العابدين (عليه السلام) الدستور التعاملي معهم، ومن أمتن

بنوده الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. اذ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر احكم درع يقي الامة من الانحراف وياخذ بايديها الي الصراط المستقيم إذا طُبق وفق شرائطه التي رسمها الاسلام. فمن كلامه (عليه السلام): التارك للامر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، الا ان يتقي تقاة، فقيل: وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه او ان يطغي [83] . وهذا الاعتبار الثاني يختلف كذلك عن الاعتبار الثالث، اقصد معاملتهم باعتبارهم مجتمعاً له حقوق، فأمر المجتمع بالمعروف ونهيه عن المنكر الذي يبلغ احياناً درجة القتل لا يعني ان تُسلَب حقوقه او تُهدر. ففي الوقت الذي يؤمر فيه المجتمع باشياء ويُنهي عن اشياء اخري يُعطي له حق غير منقوص. ان الحقوق المعطاة له تأخذ اشكالاً متباينة تختلف من فرد لاخر، ومن جهة لاخري كما تختلف من ظرف لظرف آخر بالنسبة للفرد ذاته. وهذا الشكل الاخير يختلف اختلافاً نسبياً بين واهب الحق وبين آخذه. ومثال ما اختلف نسبياً بين واهب الحق وآخذه ما جاء في كلام الامام زين العابدين (عليه السلام) من ذكر حق الكبير يقول (عليه السلام): واما حق الكبير فان حقه توقير سنّه واجلال اسلامه اذا كان من اهل الفضل في الاسلام بتقديمه فيه وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه الي طريق ولا تؤمه في طريق ولا تستجهله وان جهل عليك تحملت واكرمته بحق اسلامه مع سنّه فانما حق السن بقدر الاسلام [84] . فالفرد في المجتمع يُعَدُّ كبيراً بالنسبة لبعض، فاذاً له حقوق الكبير علي من هو اصغر منه، ويُعَد الكبير في اكثر الحالات صغيراً بالقياس لكبير آخر، بل في كل الحالات يعد الكبير صغيراً بالنسبة الي انسان آخر باستثناء

شخص واحد في المجتمع كله وهو الذي يعتبر فيه الاكبر علي الاطلاق.

الخصائص الذاتية للتعامل

في الطليعة منها ما يلي: أ _ التعامل علي اساس تشريعي، وقد ألمحنا اليه. ب _ التعامل علي اساس خلقي، وقد ألمحنا اليه. ج_ _ العدالة في التعامل. نقصد بالعدالة ان لا يُرجّح بعض المجتمع علي بعض وفق موازين غير معتبرة كميزان الغني، فيُعظَّم الغني لغناه، ويُحتقر الفقير لفقره، اذ ليس للغني في الاسلام ميزة للتفاضل لنفسه، بل يُفضل الغني والفقير احدهما علي الاخر بسبب شيء خارجي يكون معتبراً في التفضيل، فيفضل الغني علي الفقير مثلاً اذا كان الفقير غير صابر و كان الغني متفضلاً مُنعماً، جواداً مكرماً. ويكون الفقير افضل من صاحبه اذا كان الفقر لا يؤدي به الي اجتراح المآثم، واقتحام المنكرات، فهو يفضل علي الغني الزائغ عن الحق، العادل عن سواء السبيل. اذن الغني بنفسه لم يكن ميزاناً للتفاضل. ومن هذا القبيل التفاضل وفق ميزان الرتبة الاجتماعية في اكثر الاحيان، فإنه غير معتبر ايضاً. اللهم الا ان تكون الرتبة الاجتماعية بعينها دالة علي الافضلية كأن تكون التقوي او العلم هي العلة في الرتبة تلك. ان الموازين السديدة لتنقم علي بعض الحضارات المتخلفة روحياً ونفسياً تعاملهم وفق اسس منبوذة، ففي السورة السابعة والاربعين من الزبور: اتدري يا داود لِمَ مسختُ بني اسرائيل، فجعلت منهم القردة والخنازير؟ لانهم اذا جاء الغني العظيم ساهلوه، واذا جاء المسكين بادني منه انتقموا منه. وجبت لعنتي علي كل متسلط في الارض لا يُقيم الغني والفقير باحكام واحدة. كم كانت تؤلم رسول الانسانية محمداً (صلي الله عليه وآله وسلم) تلك الموازين القائمة علي تفاضل الناس من حيث الفقر والغني والشرف الاجتماعي، ولقد أعلن صلوات الله عليه

ثورته عليها، فكان مما صرح به «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها». لقد امتد نفوذ العدالة في التعامل الاجتماعي في نظرية الامام زين العابدين (عليه السلام) الي تلك الغاية البعيدة حتي شمل لوناً من اشد الفعاليات ضغطاً علي النفس الانسانية وهي العدالة في اعطاء حقوق الخصم الذي يدّعي عليك جناية أو جريمة قد تؤدي الي بالغ الضرر علي علم منك بذلك، يقول (عليه السلام): «واما حق الخصم المدّعي عليك، فان كان ما يدعي عليك حقاً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود، فان ذلك حق الله عليك وان كان ما يدّعيه باطلاً رفقتَ به وروّعته وناشدته بدينه وكسرت حدّته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يردّ عنك عادية عدوك بل تبوء باثمه وبه يشحذ عليك سيف عداوته، لان لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر» [85] .

المجتمع بين الواجبات والحقوق

شمولية قانون الواجبات والحقوق

ما من خلق علي ظهر هذا الكوكب الا وله حقوق معينة. وهذا قانون عام يشمل البشرية كافة وحتي اولئك الذين يُحرمون _ بحق وعدل _ من بعض الحقوق لاسباب موضوعية يجب تأمين بقية الحقوق لهم. فمن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين الحكم لهم او عليهم وفق مقاييس العدل; لان العدل مطلوب لذلك، ولا فرق بين ان يكون المحكوم له او عليه مسلماً او غير مسلم. ومن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين حق عدم الافتراء; لان عدم الافتراء مطلوب لذاته فمن حق اي انسان الا يفتري عليه مسلماً كان او غير مسلم بل ظالما كان او ليس بظالم. فالكافر يوصف بأوصافه الحقيقية وليس من حق احد ان يتعداها.

ولك ان تنعت الظالم او المجرم بشتي النعوت السلبية التي توشح بها عامداً والتي هي محض الصدق والواقع. بيد انه ليس من حق احد ان يقول عمن اغتصب حقوق ألف انسان اَنه اغتصب حقوق اَلفين من البشر مثلاً; لان مثل هذا الكلام من الكذب الصّراح والكذب قبح وشين. ومن لا يصدق في حقوق الاعداء، لا يصدق في حقوق الاولياء، إذ إن الكذب عادة كما يجري نهرها الاسن في ارض العدو يجري كذلك في أرض الصديق. ومن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين حق الوفاء بالعهد، فانه يلزم الوفاء بشروط العهد ما بين الطرفين ما دام العدو ملتزماً بشروطها آخذاً بمقرراتها. واذا كانت لكل انسان حقوق فان علي كل انسان واجبات وهذا الامر اشبه بالقانون الفطري او الطبيعي الذي لا ينبغي الارتياب فيه، ولا يحتاج الي مزيد إيضاح وهو شامل حتي لاولئك الصفوة المختارة من الانبياء والصدّيقين، اِذ ان خصوصية انسان لنبوة او فضل او علم او غير ذلك لا تجعل منه انساناً تعطي له الحقوق علي طبق من ذهب دون اَن يؤدي ما عليه من مختلف الواجبات والمهام الملقاة علي عاتقه.

تقديم الواجبات علي الحقوق

غالباً ما يهفو المجتمع الي الحقوق مطالباً بها في الوقت الذي ينسي او يتناسي الواجبات التي يتعين عليه القيام بها تجاه رسالته أو تجاه ابناء جنسه. كلما كان المجتمع اوسع اِدراكاً وثقافةً، واكثر تطوراً كان المرجّي منه القيام بالواجبات بما لا يقل عن المطالبة بالحقوق. كما ان للتربية الروحية والنفسية والسياسية الصائبة آثارها البعيدة في العمق الاستراتيجي للمجتمع في الموازنة بين الواجبات والحقوق. بل في تقديم اَداء الواجبات علي التّلفت المشتاق الي الحقوق. اي تقديم العطاء علي الاخذ و الاستلام وهذا من معاني

الايثار الذي بينه سبحانه وتعالي في القرآن الكريم بقوله: (ويؤثرون علي انفسهم ولو كان بهم خصاصة). فما الكرم في مفهومه القويم الا التقديم السمح للواجبات علي الحقوق. إن أولي الناس بتقديم الواجبات علي الحقوق، في كل زمان ومكان، هم قادة الامم، ولكن الواقع _ عبر التاريخ _ خلاف هذه الحقيقة في اكثر الاحايين. القائد اَب وقدوة للمجتمع ولا خير في اَب لا يضحي في سبيل ابنائه ولا في قدوة تقودها الانانية والشهوات. ولذا كان علي زين العابدين (عليه السلام) _ باعتباره اِماما هادياً وقائداً رسالياً _ متفانياً في سبيل الامة مقدِّماً مصلحتها العامة علي مصلحته الخاصة. لقد كانت تحزن قلبه تلك المآسي الدامية التي تحلّ بالامة جماعات واَفراداً فكان يسعي جاهداً لتضميد الجراح النازفة في قلوب المستضعفين والمحرومين. وكم كانت تؤلمه تلك الحالات التي لا يَستطيع اِزاءها ان يكون جبراً للكسور، او بلسماً للجراح. ولقد روي أنه جاءه رجل عليه دين ثقيل ولما لم يستطع الامام رفع كابوس الفقر في تلك الساعة عن المسكين لم يكن منه الا ان ينفجر باكياً وحربة الالم تحزّ في قلبه اَن لا يستطيع انتشال ضعيف نكيب اَزرت به الدنيا الفجوع. واذا كان تألمه وشجنه لفرد من الامة قد حل بساحته الخطب الجلل، فما هو مقدار تألمه (عليه السلام) وشجنه وتفكيره للبشرية جمعاء وهي تكتنفها النوائب الشداد؟

رسالة الحقوق

في عصر الطغيان والجبروت، وتفشّي الاوضاع المادية، واستعلاء الانحراف والفساد، اعني العصر الذي استهلكت فيه المقدسات كلها او كادت ان تستهلك وتأرجحت فيه القيم الانسانية حتي أوشكت علي السقوط، وتعفّر جبين الموازين الصحيحة علي ابواب السلطة الحاكمة حتي عظِّم الصغار اكباراً لعروشهم، وبُجِّل السَّقَطة خشوعاً لاَموالهم، وكبت حق الضعيف، واستُصغر الاَبي، واندكت

حرمة الشرفاء والابرار. في مثل هذا العصر لابد من تذكير الناس بأيام الله. وحملهم علي قصد السبيل المشرق. وردِّهم الي منابع الشرف والكرامة. فألف الامام زين العابدين (عليه السلام) دستوراً في السياسة. ومنهجاً عاماً في الاخلاق الاجتماعية. ومقاييس محكمة في القيم. في بيان عذب، وتعبير سهل شفيف، مع ما في العرض من قوة، وما في الافق من اتساع. في كتاب اطلق عليه: رسالة الحقوق. تحتوي هذه الرسالة العظيمة علي فنون من العلم، ودقائق من السياسة، ونفائس من المعارف. في اسلوب جميل. ووضوح كانه اعمدة من نور. وفكر يكادسنا برقه يذهب بالابصار. اِذا ما كان عصر الامام زين العابدين (عليه السلام) هو السبب المباشر في تأليف رسالة الحقوق فان مضامين الرسالة تبقي المنهاج السديد، والقانون السامي لكل الازمنة والاجيال; إذ انها تنطوي علي افكار عامة، و مادة قانونية تبقي القاسم المشترك لتلبية حاجات مختلف العصور، ما بقيت العصور.

نصوص من رسالة الحقوق

ذكر الامام زين العابدين (عليه السلام) توطئة لاطروحته ثم عقّب بذكر الحقوق واحد بعد آخر وهي خمسون حقاً. ومما جاء في التوطئة: اعلم رحمك الله ان لله عليك حقوقاً محيطة لك، في كل حركة تحركتها، او سكْنَة سكنتها، او منزلة نزلتها، او جارحة قلبتها، او آلة تصرّفت بها، بعضها اكبر من بعض. واكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالي من حقه الذي هو اصل الحقوق ومنه تفرع. الي ان يقول (عليه السلام) ختاماً للتوطئة: فطوبي لمن اعانه الله علي قضاء ما اوجب عليه من حقوقه ووفقه وسدّده. ومن هذه الحقوق التي بيّنها الامام زين العابدين (عليه السلام) ما سوف نذكره ولكن لا علي سبيل التسلسل الوارد في الرسالة. 1 _ فأما حق سائسك بالسلطان فان

تعلم انك جعلت له فتنة وانه مبتليً فيك بما جعله الله له عليك من السلطان وان تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لاعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله ولا تعازه ولا تعانده، فانك ان فعلت ذلك عققته وعققت نفسك فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك وكنت خليقاً أن تكون معينا له علي نفسك وشريكاً له فيما اتي اليك ولا قوة الا بالله. 2 _ واما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع اليه والاقبال عليه والمعونة له علي نفسك فيما لا غني بك عنه من العلم بأن تفرغ له عقلك وتحضره فهمك وتذكي له قلبك وتجلي له بصرك بترك اللذات ونقص الشهوات وان تعلم انك فيما ألقي اليك رسوله إلي من لقيك من اهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه اليهم ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه اذا تقلدتها ولا حول ولا قوة الا بالله. 3 _ واما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان الا ان هذا يملك ما لا يملكه ذاك تلزمك طاعته فيما دق وجل منك الا ان تخرجك من وجوب حق الله ويحول بينك و بين حقه وحقوق الخلق، فاذا قضيته رجعت الي حقه فتشاغلت به ولا قوة الا بالله. 4 _ فاما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم انك انما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم فانه انما احلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما اولي من كفاكه ضعفه وذله حتي صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذاً، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ولا يستنصر فيما تعاظمه منك الا بالرحمة

والحياطة والاناة وما اولاك اذا عرفت ما اعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها ان تكون لله شاكراً ومن شكر الله اعطاه فيما انعم عليه ولا قوة الا بالله. 5 _ واما حق رعيتك بالعلم، فأن تعلم ان الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة، فان احسنت فيما ولاك الله من ذلك وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي اذا رأي ذا حاجة اخرج له من الاموال التي في يديه كنت راشداً وكنت لذلك آملاً معتقداً وإلا كنت له خائناً ولخلقه ظالماً ولسلبه وعزه متعرضاً. 6 _ واما حق إمامك في صلاتك فان تعلم انه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله والوفادة الي ربك وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، و دعا لك ولم تدعُ له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك همّ المقام بين يدي الله والمسألة له فيك. ولم تكفه ذلك فان كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك، وان كان آثماً لم تكن شريكه فيه ولم يكن لك عليه فضل، فوقي نفسك بنفسه، ووقي صلاتك بصلاته فتشكر له علي ذلك ولا قوة الا بالله. 7 _ واما حق الجليس فأن تلين له كنفك، وتطيب له جانبك، وتنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت، وتقصد في اللفظ الي افهامه اذا لفظت، وان كنت الجليس اليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس اليك كان بالخيار. ولا تقوم الا بإذنه و لا قوة الا بالله. 8 _ واما حق الجار فحفظه غائبا، وكرامته شاهداً، ونصرته، ومعونته في الحالين جميعاً، لا تتبع له عورة،

ولا تبحث له عن سوأة لتعرفها، فان عرفتها منه عن غير ارادة منك ولا تكلّف، كنت لما علمت حصناً حصيناً وستراً ستيراً لو بحثت الاسنة عنه ضميراً لم تتصل اليه لانطوائه عليه. لا تستمع عليه من حيث لا يعلم. لا تسلمه عند شديدة، ولا تحسده عند نعمة. تقبل عثرته وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك. ولا تخرج ان تكون سلماً له تردّ عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة ولا قوة الا بالله. 9 _ واما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت اليه سبيلاً، وإلا فلا أقل من الانصاف، وان تكرمه كما يكرمك، وتحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك فيما بينك وبينه الي مكرمة، فإن سبقك كافأته ولا تقصر به عما يستحق من المودة، تلزم نفسك نصيحته و حياطته ومعاضدته علي طاعة ربه ومعونته علي نفسه فيما لا يهمّ به من معصية ربه، ثم تكون عليه رحمة، ولا تكون عليه عذاباً ولا قوة الا بالله. 10 _ واما حق الخصم المدعي عليك فان كان ما يدّعي عليك حقاً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته، وكنت خصم نفسك له، و الحاكم عليها، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود، فان ذلك حق الله عليك، وإن كان ما يدّعيه باطلاً رفقت به، وروعته، وناشدته بدينه، وكسرت حدّته عنك بذكر الله، وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك، بل تبوء باثمه وبه ويشحذ عليك سيف عداوته; لان لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر ولا قوة الا بالله. 11 _ واما حق الخصم المدعي عليه فان كان ما تدّعيه حقاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوي، فان

للدعوي غلظة في سمع المدعي عليه. وقصدت قصد حجتك بالرفق، وامهل المهلة، وأبين البيان، والطف اللطف، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك، ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة الا بالله. 12 _ واما حق المستشير فان حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة، وأشرت عليه بما تعلم انك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين، فان اللين يؤنس الوحشة، وان الغلظ يوحش موضع الاُنس. وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضي به لنفسك دللته عليه، وارشدته اليه فكنت لم تأله خيراً، ولم تدخره نصحاً ولا قوة الا بالله. 13 _ واما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما يوافقك عليه من رأيه اذا اشار عليك فانما هي الاراء وتصرف الناس فيها واختلافهم. فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فاما تهمته فلا تجوز لك اذا كان عندك ممن يستحق المشاورة، ولا تدع شكره علي ما بدا لك من اشخاص رأيه وحُسن وجه مشورته، فاذا وافقك حمدت الله، وقبلت ذلك من اخيك بالشكر، والارصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع اليك ولا قوة الا بالله. 14 _ واما حق أهل ملتك عامة فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك; فان احسانه الي نفسه احسانه اليك اذا كفّ عنك أذاه، وكفاك مؤونته، فحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلتهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ فان اتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه. 15 _ واما حق اهل الذمة فالحكم فيهم ان تقبل

منهم ما قبِل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده. وتكلهم اليه فيما طلبوا من انفسهم، واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به علي نفسك فيما جري بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده، وعهد رسوله حائل; فانه بلغنا انه قال: «من ظلم معاهداً كنت خصمه» فاتق الله ولا قوة الا بالله [86] .

مفردات حقوقية

مضافة اِلي الرسالة الخالدة _ رسالة الحقوق _ وردت مفردات حقوقية كثيرة عن الامام زين العابدين (عليه السلام) في اكثر من حديث من احاديثه. ومنها هذا الحديث الذي سنذكره للتدليل علي الاهمية الخاصة التي يوليها الامام زين العابدين لمسألة الحقوق والواجبات كما اَنها دعوة روحية وانسانية للقيام بواجبات المستضعفين والمنكوبين واَداء حقوقهم. كما هي في نفس الوقت اَداءٌ لحقوق سواهم من كل من له حق. عن ابي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: من قضي لاخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضي الله له بها مئة حاجة في احداهن الجنة. ومن نفس عن اخيه كربة، نفّس الله عنه كُربه يوم القيامة بالغاً ما بلغت. ومن اعانه علي ظالم له اعانه الله علي اجازة الصراط عند دحض الاقدام. ومن سعي له في حاجة حتي قضاها له فسُرّ بقضائها فكان كادخال السرور علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). ومن اطعمه من جوع اطعمه الله من ثمار الجنة. ومن كساه من عُري كساه الله من استبرق وحرير. ومن كساه من غير عُرْي لم يزل في ضمان الله ما دام علي المكسيّ من الثوب سلك. ومن كفاه بما هو يُمهنُه ويكفُّ وجهه، ويصل به يديه اخدمه الله الولدان المخلدين. ومن

حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة الي الموقف علي ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة. ومن كفَّنه عند موته فكأنما كساه من يوم ولدته أُمّه الي يوم يموت. ومن زوَّجه زَوجةً يأنس بها، ويسكن اليها آنسه الله في قبره بصورة احب اهله اليه. ومن عاده عند مرضه حفَّته الملائكة تدعو له حتي ينصرف وتقول: طبت وطابت لك الجنة. والله لقضاء حاجته احب الي الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام [87] . لقد اومأ الامام زين العابدين (عليه السلام) بصورة مختصرة في المأثور عنه الي طائفة من الحقوق، فحق المكروب تنفيس كربته، وحق المظلوم اعانته علي الظالم، وحق ذي الحاجة السعي في قضائها. وهكذا تكون المواقف من اصحاب الحقوق الاخرين الذين تم التنصيص علي اَداء حقوقهم.

نظرة تقييمية

ما اقوم العدالة في وضع هذه الحقوق، وما أَنبل الانسانية في مضامينها.. ان هذا لهو الحق المبين. وما سنَّته حكومات وضعية وسائرون علي خطّهم _ من مصنَّفات حقوقية _ اِنْ هي الاّ (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتي اذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب) [88] . ولطالما تكون الحقوق التي تسنها الحكوماتُ لشعوبها مصدر الظلم والطغيان والسبب الاقوي في مصادرة الحقوق، اَو اخذها غير مستوفاة. ان من المآسي الكبري في التأريخ الانساني ان يسنّ اعداء الشعوب قوانين لها، ويشرع ارباب الظلم والدكتاتورية مبادئ للعدل والحرية والسلام. حتي كأن قوانينهم مبتناة علي النقص والعدول عن العدالة (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اَليم) [89] . فمتي تستيقظ الشعوب من رقادها الطويل، وسباتها العميق، فتستلهم الدين الاسلامي الحنيف روحاً ونصاً، وتنفذ قوانين الله السميع العليم. لتنعم في اكناف حكومة

العدل الالهي، وتسعد في رياض الحرية والسلام العالمي والاخاء الانساني (هو الذي ارسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفي بالله شهيداً) [90] .

توظيف الشعر السياسي

اهمية الشعر السياسي

اشاره

الشعر السياسي اداة من الادوات السياسية النافعة للحكم العادل او الجائر علي حد سواء. التاريخ السياسي حافل بهذا اللون من الشعر علي مرّ الاحقاب. الا انه قد انحسر انحساراً ملحوظاً في القرن العشرين. لطالما ساهم الشعر السياسي في دعم نظرية القيادة حول الحكم والدولة، وتسهيل مهام السلطة. ولطالما كان الشعر السياسي الوقود المتأجج للانتفاضة، والمؤيد القوي لمقررات المعارضة. العصر الاموي من العصور التي ارتفعت فيها بورصات عملات واسهم الشعر السياسي.. بل من اكثرها ارتفاعاً. ومن أسباب ذلك الارتفاع ان الغالبية من حكّامه كانوا من الادباء او المتذوقين للادب وكثير منهم كانوا من الشعراء المجيدين. ومن اسباب ذلك ايضاً ان الحس الشعري كان قوياً في الامة بما في ذلك الشعر السياسي. ومن اسباب ذلك ان أمام السلطة شعراء بارعين من اعداء السلطة او ممن كان ينقدها ولو نقداً يسيراً أمثال: يزيد بن مفرّغ الحميري وعبد الرحمن بن الحكم الاموي والفضل بن العباس اللهبي والفرزدق وعمران بن حطان الخارجي وكعب الاشقري وعبد الله بن همام السلولي. علماً بأن من هؤلاء من كان يمدح الخلفاء، او بعض كبار المسؤولين في الدولة مثل الفرزدق وكعب الاشقري شاعر المهلب بن ابي صفرة. لقد واجه النظام السياسي آنذاك خط أهل البيت المتمثل في فترة طويلة من فتراته بخط الامام زين العابدين (عليه السلام) مواجهة شديدة.. عنيفة.. صارمة.. حامية الوطيس. بشكلها المباشر وغير المباشر، المقصود وغير المقصود. كما لقي الامام زين العابدين (عليه السلام) مجتمعاً في الاعم الاغلب متهافتاً.. قاتم السلوك.. فاحم التصورات والرؤي.. مغايراً

للمقاييس الاسلامية في المجتمع الصالح. فلا بد له اذن من ان يرسم المنهج، وأن يحدد الخط. لما كان الكلام علي ضربين: نثر وشعر.. فعلي هذا قال الامام زين العابدين (عليه السلام) كلمته وحددها علي الصعيدين معاً. اذ ان الكلام علي صعيد النثر له دوره البارز كما ان الكلام علي صعيد الشعر له دوره البارز أيضاً. ان اليد الشعرية يد ساحرة لها القدرة علي التأثير والفاعلية في الصراع العقائدي والسياسي الدائر بين الحق والباطل. وهنا نستعرض امثلة كثيرة من شعر الامام زين العابدين (عليه السلام) السياسي.

تعرية المسار السياسي

أ _ قُتل الامام الحسين بن علي (عليه السلام) وسيّر أهل بيته من مكان الي آخر علي اقتاب الجمال بلا وطاء وبحالة مأساوية، فقال الامام زين العابدين (عليه السلام) واوداجه تشخب دماً «بحر البسيط»: يا أمة السوء لاسقياً لربعكمُ يا امة لم تراع جدّنا فينا [91] . لو أننا ورسول الله يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا تسيّرونا علي الاقتاب عارية كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا بني امية ما هذا الوقوف علي تلك المصائب لم تصغوا لداعينا تصفّقون علينا كفكم فرحاً وانتم في فجاج الارض تسبونا أليس جدي رسول الله ويلكُم اهدي البرية من سبل المضلينا يا وقعة الطف قد اورثتني حزناً والله يهتك استار المسيئينا ب _ وهو الزمان فما تفني عجائبهُ من الكرام وما تفني مصائبهُ [92] . فليت شعري الي كم ذا يجاذبنا بصرفه والي كم ذا نجاذبُه يسري بنا فوق اقتاب بلا وُطُؤ وسائق العيس يحمي عنه غاربه كأننا من اسار الروم بينهمُ أو كل ما قاله المختار كاذبه كفرتمُ برسول الله ويحكمُ فكنتمُ مثل من ضلّت مذاهبه ج_ _ ساد العلوجُ فما ترضي بذا

العربُ وصار يقدم رأسَ الامة الذَنَبُ ياللرجال لما يأتي الزمان به من العجيب الذي ما مثله عجبُ آل الرسول علي الاقتاب عارية وآل مروان تسري تحتهم نُجُبُ سُيّر آل محمد الامام زين العابدين (عليه السلام) وذووه تلك المسافات الطويلة بالصورة المأساوية التي قد تقدّمت. وانت خبير بان قطع المسافات الطويلة علي الجمال بلا وطاء مرهق جداً علي السليم بدناً فكيف بالامام زين العابدين (عليه السلام) الذي كان مريضاً في تلك الفترة بالخصوص، وكيف بالنساء والاطفال الذين معه؟! هذه من جهة الالام البدنية واما من جهة الالام النفسية فان مثل آل الرسول محمد يضطهدون ويؤسرون وينقلون علي تلك الاقتاد العارية بلا ذنب او سبب موجب، بينما تري اعداءهم في جو من الترف المعيشي والحياة الرغيدة. .. ولا بد ان تكون هذه الواقعة التاريخية قد رسمت بيراع المأساة علي قلب الامام زين العابدين (عليه السلام) الواناً من الصور الاليمة المحزنة جداً، ولهذا السبب فانه قد ضمّنها في عدة مقاطع من شعره. ان تضمينها في عدة مقاطع من شعره أمر جليل لافت للنظر بالقياس الي كمية شعر الامام زين العابدين (عليه السلام). فلو لا أثرها البليغ عليه لاقلّ من ذلك. د _ وهذه صورة اخري أومأ فيها الامام زين العابدين (عليه السلام) الي تسييرهم من منطقة الي اخري وهي من صور تعرية المسار السياسي للحكم القائم. «بحر الطويل» اُقاد ذليلاً في دمشق كأنني من الزنج عبد غاب عنه نصير وجدي رسول الله في كل مشهد وشيخي امير المؤمنين أمير فيا ليت امي لم تلدني ولم اكن يزيد يراني في البلاد اسير [93] . ه_ _ وقال (عليه السلام) أيضاً «بحر البسيط»: ماذا تقولون ان قال النبيّ لكم ماذا

صنعتم وانتم آخر الامم [94] . بعترتي وباهلي بعد منقلبي منهم اُساري ومنهم ضُرِّجوا بدمِ ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم خلّفتموني بسوء في ذوي رحمي [95] . هذه الابيات من الشعر المشهور قد نُسبت للامام زين العابدين (عليه السلام) كما انها نُسبت للسيدة زينب بنت علي (عليهما السلام)، ولام لقمان بنت عقيل بن ابي طالب ولاختها زينب بنت عقيل، ولابي الاسود الدؤلي. ان نسبتها لابي الاسود الدؤلي بعيدة جداً، وانما ذُكر ابو الاسود حينما تليت الابيات فتوهم بعض المؤلفين أنها له. وذلك انه حينما قيلت الابيات وفيها ماذا تقولون.. قال ابو الاسود: نقول ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال الله تعالي في محكم كتابه الحكيم: (قل لا اسألكم عليه أجراً الا المودة في القربي) فليت الامة آنذاك اذ لم تودّ قربي الرسول تركتهم وشأنهم في بلاد الله العريضة فلا هي عليهم ولا هي لهم ولكنها عمدت إلي ظلمهم اشد الظلم وحسبك ان حفيد الرسول وريحانته الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) كان مضرجاً بدمائه و قد قضي عطشاناً، وحسبك أن زين العابدين (عليه السلام) كان أسيراً في البلاد مضطهداً حتي قضي بالسم قتلاً فهل اوصي الله بمودة اهل البيت (عليهم السلام) ام اوصي بظلمهم واقصائهم وهل امر الرسول باكرامهم وإجلالهم والاخذ عنهم والاقتداء بهم ام اوصي بتجريعهم «نغب التّهمام انفاسا» [96] . يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): «والله لو ان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا فانا لله وانا اليه راجعون من مصيبة ما اعظمها واوجعها واكظها وافظها وامرّها وافدحها».

تشخيص القيادة السياسية

ونعني بذلك امرين: الاول، آراءه في حكّام عصره. الثاني، ذكره لشخصه ولاهل البيت باعتبارهم قيادة بديلة عن القيادة الزمنية آنذاك. وسيأتي تفصيل الامر الاول في البحث عن موقفه من القيادة السياسية. أ _ وهذه امثلة من شعره السياسي حول الامرين معاً. «بحر الخفيف» ليت شعري هل عاقل في الدياجي بات من فجعة الزمان يناجي [97] . انا نجل الامام ما بال حقّي ضائع بين عصبة أعلاج ب _ وقال ايضاً «بحر الوافر» [98] . لكم ما تدّعون بغير حق اذا ميز الصحاح من المراض عرفتم حقّنا فجحدتمونا كما عُرف السواد من البياض كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضينا الاله فنعم قاضي لا يجهل من له ادني اطلاع حق اهل البيت (عليهم السلام) ومكانتهم العليا في الاسلام ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد شاهد عمر بن عبدالعزيز اباه يتلكأ بعض التلكؤ في شتمه علياً (عليه السلام) وهو يخطب فسأله عن ذلك فقال له: لو ان الناس يعرفون من فضائل علي كما نعرف لمالوا الي اولاده. وسب مروان بن الحكم علياً علي منبر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقام اليه الامام الحسين او زين العابدين (عليهما السلام) راداً عليه: هذا الذي تسب شر أهلك؟ وهنا يصحر مروان بالحقيقة حين اضطر اليها قائلاً: بل هو خير اهلي.. مبيناً العلة من السب او من اخفاء الحقيقة بان الامر لا يستقيم لهم بغير ذلك. وهكذا تكتم القيادة السياسية حق اهل البيت ومكانتهم الا في احدي حالات ثلاث. 1 _ اذا اُلجئوا الي ذلك عن طريق وقوفهم امام مناظرة جريئة او نحوها. 2 _ اذا رأوا مصلحة سياسية مؤقتة ومن بعدها يعودون الي الاغلفة الاعلامية المظللة. 3 _ او

ما يصدر منهم عفوياً وعن غير قصد. وفي بعض الحالات يشترك عاملان من هذه العوامل في اظهار حق اهل البيت او حق أحدهم. ج_ _ وقال (عليه السلام) ايضاً «بحر المتقارب» [99] . لنحن علي الحوض روّادُه نذود ويسعد ورّادُهُ وما فاز من فاز الاّ بنا وما خاب من حبُّنا زادُهُ ومَن سرّنا نال منا السرور ومن ساءنا ساء ميلادُهُ ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعادُهُ في البيت الاخير يريد أن يؤكد الامام زين العابدين (عليه السلام) ان اغتصاب الحق القيادي من اهليه ليس انتصاراً حقيقياً، او كما قال علي (عليه السلام): «ما ظفر من ظفر الاثم به» فان الانقلاب العسكري الغاصب، والمؤامرة السياسية الظلوم، متاع قليل، وزاد كزاد المسافر ويوم القيامة نعم الحكم العدل والميعاد الفيصل. او كما قالت الصديقة الزاهراء: «فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون». د _ وقال الامام زين العابدين (عليه السلام) كذلك «بحر المنسرح» [100] . نحن بنو المصطفي ذوو غصص يجرعها في الانام كاظمنا عظيمة في الانام محنتنا اولنا مبتليً وآخرنا يفرح هذا الوري بعيدهمُ ونحن اعيادنا مآتمنا والناس في الامن والسرور وما يأمن طول الزمان خائفنا وما خصصنا به من الشرف الطائل بين الانام آفتنا يحكم فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقنا وغاصبنا ه_ _ وقال الامام زين العابدين (عليه السلام) من قصيدة «بحر الطويل» [101] . حياري وليل القوم داج نجومُه طوامس لا تجري بطيء خفوقُها ولا يحرز السَّبق الرزاح وإن جرت ولا يبلغ الغايات الا سبوقُها الي ان يقول: فمن الموثوق به علي ابلاغ الحجة، وتأويل الحكمة، الا اهل الكتاب، وابناء ائمة الهدي، ومصابيح الدجي، الذين احتج الله بهم علي

عباده، ولم يدع الخلق سديً من غير حجّة. هل تعرفونهم او تجدونهم الا من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرأهم من الافات، وافترض مودّتهم في الكتاب. همُ العروة الوثقي وهم معدن التقي وخير حبال العالمين وثيقُها

التذكير بمآل الحكام

ومن الشعر السياسي لعلي زين العابدين (عليه السلام) ذلك الوصف الجميل لحكام عصره، وقد تساقطوا الواحد تلو الاخر في شباك الموت. بعد ذلك الملك العظيم، والعزِّ القاهر. أ _ فمن ذلك قوله (عليه السلام) «بحر الوافر» [102] . اذا بلغ امرؤ عليا وعزاً تولي واضمحل مع البلاغِ كقصر قد تهدم حافتاه اذا صار البناء علي الفراغِ اقول وقد رأيت ملوك عصري الا لا يبغين الملك باغِ وله ابيات شبيهة بهذه في الهدف الذي ترمي اليه. وان كان قد يوجد بينهما فارق واحد بسيط وهو أَن الابيات الغينية تصف حكام تلك الحقبة التأريخية التي عاصرها علي زين العابدين (عليه السلام) والابيات التالية تشير الي تاريخ الحكّام والزعماء الماضين. او قد تشمل الماضين والمعاصرين معاً في نفس الوقت من دون الاقتصار علي المعاصرين. ب _ قال (عليه السلام) «بحر الوافر» [103] . تفكر اين اصحاب السرايا وأرباب الصوافن والعشارِ واين الاعظمون يداً وبأساً واين السابقون لذي الفخارِ واين القرن بعد القرن منهم من الخلفاء والشمم الكبارِ كأن لم يخلقوا او لم يكونوا وهل حيٌّ يصان عن البوارِ لقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) يركز علي هذا المنحي السياسي التبصيري من ذكر مآل اصحاب القرار السياسي الاَعلي، وارباب الثروة والعزة والعظمة والمنعة. ولقد كان لا يألو جهداً في وصف ذلك سواء في تفسيره للقرآن الكريم، او في الوان اَدبه، ولطالما كان ينتزع من

صفحات التأريخ ما يؤكد هذا المعني، ويلفت الانظار اليه. ولم يكن ذلك سياسة ينتهجها لتبصير المعاصرين له فحسب بل سياسة تمتد في اعماق التأريخ. ان علي كل من يمكنه الله تعالي منا في الارض ان يختط المنهج الذي اختطه الامام زين العابدين (عليه السلام)، وهكذا ستبقي سياسته علي مر العصور، وامتداد الزمن. ج_ _ ومما قاله (عليه السلام) في هذا المعني وهو من كلام طويل: انظر الي الامم الماضية، والملوك الفانية، كيف افنتهم الايام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها اخبارهم. «بحر الطويل»: وأضحوا رميماً في التراب وعطلت مجالس منهم اقفرت ومعاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم واني لسكان القبور تزاور فما ان تري الا جُثيً قد ثووا بها مسطحة تسفي عليها الاعاصر كم من ذي منعة وسلطان، وجنود واعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبني القصور والدساكر، وجمع الاعلاق والذخائر: فما صرفت كف المنية إذ أتت مبادرة تهوي اليه الذخائر ولا دفعت عنه الحصون التي بني وحف بها انهاره والدساكر ولا قارعت عنه المنية حيلة ولا طمعت في الذب عنه العساكر اتاه من الله ما لا يرد، ونزل من قضائه ما لا يصد، فتعالي الله الملك الجبار المتكبر القهار، قاصم الجبارين ومبير المتكبرين: مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الامر قاهر عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكل عزيز للمهيمن صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر [104] .

وصف الواقع المادي

لقد اقام الاسلام توازناً دقيقاً بين حاجة الانسان بما له من جانب مادي وبين حاجته في الاشواق، وخلجات القلب، وسمو النفس، وتطلعات الروح. وليس هذا بدعاً من الدين الاسلامي اِذ ان من الاساسيات فيه التي

لا تقبل الريب اَنه دين الاخرة والاولي. قال تعالي: (وابتغِ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). بيد اَنه لا ينبغي اَن يفهم من الاية المباركة _ فيما نعتقد _ ان النصيب من الدنيا كامن في المشتهيات الرخيصة، والنزعات الهابطة; فانها ليست نصيب الانسان خليفة الله في الارض بل هي نصيب ابليس وذريته، وخلفائهم في البلاد. ان في الانتهال من معين الحق الصافي ما يغني عن المستنقع الاسن. من لا يروه كأس الخير... اظمأه بحر الشر. ليس من الباطل ان يشبع الانسان حاجته الطبيعية من المادة بل الباطل اَن تطغي المادة علي الروح. اِن الزهد والسمو الروحي لا يعنيان القضاء علي الماديات واِنما يعنيان تشذيبها وعدم الوقوع في اسرها. لقد اذهل الامام زين العابدين ذلك الطغيان المادي الهائل، وانحسار المد الروحي في المجتمع. 1 _ لقد شاهد الامام زين العابدين (عليه السلام) من يقدم علي قتل ريحانة الرسول الحسين بن علي (عليه السلام) في مغامرة للحصول علي الذهب والفضة. فهذا قاتله يقول لعبيد الله بن زياد [105] . املا ركابي فضة أو ذهبا اني قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس امّا وابا وخيرهم إذ يذكرون النسبا فغضب ابن زياد من قوله وقال: فاذا علمت انه كذلك فلم قتلته؟ والله لا نلت مني خيراً ولاُلحقنك به. فقدمه وضرب عنقه [106] . 2 _ ولقد شاهد الامام زين العابدين (عليه السلام) وفود الاحنف بن قيس، والحتات بن يزيد علي معاوية واعطاءه الاحنف خمسين الف درهم مع مخالفته له في الرأي والخط، في الوقت الذي اعطي فيه الحتات ثلاثين الف درهم مع انه يري رأي الاموية. فصار الحتات الي معاوية وقال: يا امير المؤمنين تعطي

الاحنف ورأيه رأيه خمسين الف درهم وتعطيني ثلاثين الف درهم؟! فقال: يا حتات اني اشتريت بها دينه. فقال الحتات: يا اميرالمؤمنين تشتري مني ايضا ديني، فاتمها له والحقه بالاحنف. فلم يأت علي الحتات اسبوع حتي مات، وردَّ المال بعينه الي معاوية. 3 _ لقد شاهد الامام زين العابدين (عليه السلام) هاتين اللمحتين الناشزتين من لمحات عبادة الماديات الي ما هنالك من لمحات بل صفحات طويلة من صفحات الطغيان المادي الرهيب. ولكن هذا لا يعني في حالة من الحالات عدم وجود العدد الجم ممن يحملون وسام الروح الصاعدة، والنفسية الكريمة الطهور. بناءً علي ما تقدم من المشاهد الحزينة القاتمة، مشاهد الطغيان المادي علي حساب الروح.. ما كان من الامام زين العابدين (عليه السلام) إلا اَن يندد بهذا الانحطاط المزري، والانغماس الوضيع في الماديات. وله في ذلك شعر كثير ومن جملته هذه الامثلة: أ _ قال (عليه السلام) «بحر الوافر» [107] . اخي قد طال لبثك في الفسادِ وبئس الزاد زادك للمعادِ صبا منك الفؤاد فلم تزغه وحدت الي متابعة الفؤادِ وقادتك المعاصي حيث شاءت وألفتْكَ امرءاً سلس القيادِ لقد نوديت للترحال فاسمع ولا تتصاممن عن المنادي كفاك مشيب رأسك من نذير وغالب لونه لون السوادِ ب _ وقال (عليه السلام) ايضاً «بحر الوافر» [108] . ايعتز الفتي بالمال زهواً وما فيما يموت من اعتزازِ ويطلب دولة الدنيا جنوناً ودولتها مخالفة المجازي ونحن وكل من فيها كسفر دنا منا الرحيل علي وفازِ جهلناها كأن لم نختبرها علي طول التهاني والتعازي ولم نعلم بأن لا لبث فيها ولا تعريج غير الاجتيازِ ج_ _ ولزين العابدين (عليه السلام) ايضاً من قصيدة طويلة.. «بحر الطويل» [109] . تُخِّربُ ما يبقي

وتعمر فانياً ولا ذاك موفور ولا ذاك عامرُ وهل لك ان وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيراً لدي الله عاذر اترضي بأن تفني الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافرُ د _ وله ايضاً «بحر الوافر» [110] . فعقبي كل شيء نحن فيه من الجمع الكثيف الي الشتات وما حزناه من حلّ وحرم يوزع في البنين وفي البنات وتنسانا الاحبة بعد عشر وقد صرنا عظاماً باليات كأنا لم نعاشرهم بودّ ولم يك فيهمُ خل مواتِ ه_ _ وله كذلك هذه الابيات «بحر الوافر» [111] . لمن يا أيّها المغرور تحوي من المال الموفَّرِ والاثاثِ ستمضي غير محمود فريداً ويخلو بعدُ عرسك بالتراث ويخذلك الوصي بلا وفاء ولا اصلاح امر ذي التباث

تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية

طالما يتلازم التدهور او التطور بين الاخلاقية السياسية وبين الاخلاقية الاجتماعية، اذ إن لسياسة الدولة لا سيّما اذا طالت بها المدة اعظم التأثير علي المجتمع سلباً او ايجاباً; لانها المربّي الاكبر للمجتمع بما تمتلك من خطط واهداف معينة، وبما لها من الوسائل الاعلامية المختلفة ناهيك عن استحواذها علي الكثير من مصادر الثروة «طبقاً للنظرية الاقتصادية للدولة» كما ان للمجتمع بما له من اهداف وعقائد ورؤيً صالحة او غير صالحة ذلك الاثر العميق في رسم سياسة الدولة قهراً او اختياراً حسب ما هو المعتاد ما بين الدولة والمجتمع. ولكن يبقي اثر الدولة علي المجتمع اعمق وابعد غوراً من اثر المجتمع علي الدولة _ في الاعم الاغلب _ لانها تمتلك من الوسائل والمؤثرات ما لا يمتلك او اقوي واشد مما يمتلك، ولان الناس علي دين ملوكهم. في التاريخ السياسي مادة خصبة لتوضيح التاثير المتبادل ما بين الدولة و المجتمع لا سيما أثر الدولة عليه. ففي حكومة

العدل النبوي نلحظ كيف تطورت اخلاقية الحياة الاجتماعية في البلدان الاسلامية لا سيما في المدينة المنورة عاصمة الاسلام آنذاك. وكيف نري الانعكاس الرائع للاخلاقية السياسية للرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) علي المجتمع الذي اصبح المجتمع الامثل في العالم. بينما في زمن لاحق يخاطب احد الاعلام المعنيين بشؤون الامة الخليفة قائلاً: ملت فمالت الرعية. فاعتدل تعتدل. وفي العصر الراهن ما يؤكد هذا المنحي من التأثير المتبادل بين الدولة والمجتمع أيّما تأكيد. وان هذه الظاهرة من التأثير المتبادل واضحة للعيان في العصر الاموي. وان شعر الامام زين العابدين (عليه السلام) الاتي خطاب للطرفين معاً أعني الدولة والمجتمع. اي ان الفاظه تبقي علي عمومها، من غير حاجة الي التخصيص، او الاقتصار علي المجتمع او الدولة. لقد بلغ تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية في عصر الامام زين العابدين (عليه السلام) حدّاً جعل المصلحين في حالة من القلق والاهتمام والدهشة. ولقد مرّ علينا قول زين العابدين (عليه السلام): يا أمة السوء لا سقياً لربعكمُ يا أمة لم تراعِ جدّنا فينا فلما لم ترع الدولة ولم تهتم بحقوق المجتمع لا سيما حقوق اهل البيت انكفأ المجتمع علي اهل البيت النبوي ظلماً واعتداءً. ثم صارت سنة جاريةً كل من امكنه الظلم ظلم [112] . وتسابقت الدولة والمجتمع إلي الصفة الهجينة، صفة الغدر، ونكث العهود. فقد غدر قائد الدولة معاوية بن أبي سفيان بالامام السبط الحسن بن علي (عليه السلام) قائلاً: وقد اعطيت الحسن بن علي عهوداً كلها تحت قدمي. وغدر قائد الدولة الاخر عبد الملك بن مروان بابن عمه عمرو بن سعيد الاشدق وذبحه بيده كما تذبح الشاة. وغدرت أمة من المجتمع بالامام الحسين بن علي (عليه السلام) بعد تلك المراسلات

الكثيرة، والوعود السرابية بالنصر والتأييد. كما غدرت بمصعب بن الزبير حتي قُتل واحتزّ رأسه. غدرت به مضر العرا قِ وامكنت منه ربيعه [113] . علي ان الامر في تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية لا يقتصر علي الظلم والغدر علماً بان الظلم وحده ينطوي علي شعب كثيرة من التدهور والامراض النفسية والصفات المستهجنة. واضافة الي الظلم والغدر هناك اتباع الاهواء والشهوات، ومخالفة القوانين السماوية. وكان امراً ساري المفعول قيادة وشعباً. وعلي سبيل المثال من القادة السياسيين من كان يقول: لا يأمرني احد بتقوي الله الاّ ضربت عنقه. وقال الحجاج بن يوسف الثقفي وهو يذكر الذين يطوفون حول قبر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): انما يطوفون حول اعواد ورمّة. هلا يطوفون حول قصر امير المؤمنين الوليد بن عبد الملك. ومن أمثلة الشعر السياسي لزين العابدين (عليه السلام) فيما يخص تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية قوله من أبيات «بحر الطويل»: [114] . أ _ ألم تر أن العرف قد مات أهلهُ وان الندي والجود ضمَّهما قبر علي العرف والجود السلام فما بقي من العرف الا الرسمُ في الناس والذكر ب _ (صلي الله عليه وسلم) (رحمهما الله) [115] . أفي السبخات يا مغبون تبني وما يبقي السباخ علي الاساس ذنوبك جمة تتري عظاماً ودمعك جامد والقلب قاسي واياماً عصيت الله فيها وقد حفظت عليك وانت ناسي فكيف تطيق يوم الدين حملاً لاوزار كبار كالرواسي هو اليوم الذي لا ودَّ فيه ولا نسب ولا احد مواسي من المعلوم هنا ان الخطاب ب_ (يا مغبون) لم يكن خطاباً لشخص معين وانما هو خطاب للنوع. والفرق كبير بين كون الخطاب للمغبون شخصاً واحداً معيناً والخطاب له بما هو نوع الذي يعني

ان الامام يخاطب المغبونين عموماً. ومثل ذلك ما مرّ علينا «اخي قد طال لبثك في الفساد» فانه لم يقصد أخاً معيناً وانما يوجه الخطاب لكل من طال لبثه في الفساد اي ان الامام يعالج داءً اجتماعياً وسياسياً وبيلاً وليس داء شخص معين فقط. ولا يمنع من ذلك ان يناديه ب_ «أخي» فهو اِن لم يكن اخاه في الدين فهو اخوه في الانسانية. علي أن الامام كان المرشد والموَجّه، والدالّ علي سواء الصراط. ومن لا يشعر من يرشدهم المحبة في قلبه فقد افتقد عنصر التأثير عليهم. ج_ _ ولزين العابدين (عليه السلام) هذه الابيات ايضاً «بحر الوافر» [116] . وباد الامرون بكل عُرف فما عن منكر في الناس ناهي وقعنا في البلايا والخطايا وفي زمن انتقاص واشتباهِ تفاني الخير والصلحاء ذلّوا وعزّ بذلهم أهل السّفاهِ فصار الحر للمملوك عبداً فما للحر من قدر وجاهِ فهذا شغله جمع ومنع وهذا غافل سكران لاهِ

حركة الرسائل السياسية (نظرة عامة للرسائل السياسية في العهد الاموي)

التفوق الكمي

اتسعت رقعة العالم الاسلامي في العصر الاموي، وتصاعدت الكثافة السكانية للمسلمين، وتطورت الحياة المادية، وتنامت الاجهزة الادارية، وكثرت الاعباء السياسية. ان كل هذه العوامل قد تسببت في التفوق الكمي للرسائل السياسية تفوّقاً كبيرا بالقياس الي عصر صدر الاسلام. فلو اخذنا اربعين سنة من صدر الاسلام، مقارنة باربعين سنة من العصر الاموي للحظنا البون البعيد للكم الرسائلي. لا شك ان تعدد قوي المعارضة السياسية ركيزة اساسية من ركائز وفرة الكم الرسائلي، وتعدد اغراضه السياسية، وهو ما يري جليا في خلافة الامام علي ابن ابي طالب، والحياة السياسية للدولة الاموية. ومن حيث الموضوع او الغرض من الرسائل السياسية... يمكن القول: إن لكل خليفة او امير او سياسي نزعاته وتوجهاته وظروفه الخاصة، واساليبه في معالجة الشؤون

السياسية.

الرسائل السياسية ما بين عهدين

واما من الجهات الاخري فنستطيع مشاهدة التقارب _ الي حد بعيد _ بين الرسائل السياسية في عهد صدر الاسلام وبين الرسائل السياسية في العهد الاموي. فمن جهات التقارب بينها: 1 _ سهولة البيان، ووضوح التعبير. 2 _ قرب التناول وابتعادها غالبا عن التعمق. 3 _ كانت اللغة الدينية تشوب الرسائل السياسية في العهدين معا من الابتداء ب_ (بسم الله الرحمن الرحيم) الي الاستشهاد ببعض آيات الذكر الحكيم، او بعض النصوص النبوية الي حمد الله وتقديسه. وكان هذا جاريا متعارفا حتي من قبل من لا دين لهم _ حسب الواقع _ الا رفع الشعارات بعد تفريغها من المحتوي. 4 _ اكثرها من نوع الرسائل ذات النفس القصير، باستثناء حالات غير كثيرة فلقد كانت للامام علي بن ابي طالب رسائل طويلة، وكان هو الرائد في الرسائل السياسية وغير السياسية ذات النفس الطويل كعهده لمالك الاشتر، ورسالته الي عثمان بن حنيف وبعض رسائله الي معاوية، كما كانت رسائله متميزة اكثر من غيرها في قوة الاسر، وفخامة التعبير، وجزالة الاسلوب. كما وقع استثناء آخر _ في الرسائل السياسية الطويلة النفس _ في نهاية العهد الاموي وهي بعض رسائل عبد الحميد بن يحيي الكاتب الذي انتهج طريقة الامام علي سلام الله عليه في طول النفس وفي السمو الادبي المتميز، وكان يصرح باعتزاز بانه حفظ سبعين خطبة من خطب الامام علي [117] ولقد ارسل عبد الحميد الكاتب رسالة يقال انها وقر بعير [118] . 5 _ كانت الرسائل _ عادة _ في صدر الاسلام وايام متفاوتة من العهد الاموي تبتدأ بذكر اسم المرسل _ بالكسر _ قبل اسم المرسل اليه.. من عبد الله فلان الي فلان. فعلي سبيل المثال

ما جاء في رسالة النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) الي ملك الحبشة [119] . وكما جاء في رسالته (صلي الله عليه وآله وسلم) ايضاً الي كسري: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الي كسري عظيم فارس [120] . بيد ان اكثر الرسائل التي كانت تكتب الي المسؤولين الكبار في الدولة الاموية... يشرع فيها بذكر المسؤول ثم ذكر اسم المرسل. وعلي سبيل المثال ما جاء في رسالة زياد بن ابيه الي معاوية بن ابي سفيان يؤلبه فيها علي قتل حجر بن عدي، واصحاب حجر: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية بن ابي سفيان امير المؤمنين من زياد بن ابي سفيان. اما بعد [121] وكما في رسالة القائد الاسلامي شريح بن هانئ، الي معاوية بن ابي سفيان يتبرأ فيها من ذكر زياد لاسمه ضمن قائمة الشهود علي حجر بن عدي رضوان الله عليه. بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية امير المؤمنين من شريح بن هانئ. اما بعد [122] . 6 _ والمخاطب مهما كان منصبه القيادي يخاطب بعبارة ليس فيها كبير تفخيم وتعظيم، هكذا جري الامر في العصرين معا حتي جاء الوليد بن عبدالملك إلي الخلافة سنة (86ه_) فاذا بالكتابة اليه والي الخلفاء من بعده ذات طابع يتّسم بألفاظ التفخيم والتعظيم بما لم يسبق له مثيل. فاقتفي من جاء بعده من الخلفاء اسلوبه وطراز تفكيره، الاّ عمر بن عبدالعزيز فانه رفض الانصياع او الاقتفاء لهذه الطريقة.

من روائع التراث

1 _ ان مما يحز في قلب كل المخلصين ان الامة الاسلامية الي هذا اليوم، لم تؤدّ مسؤوليتها العظمي تجاه الروائع الخوالد من تراثها العظيم. علما بان الامة لا تحقق نهضتها وتطورها في الحاضر

والمستقبل حتي تستلهم الايات المشرقة من الماضي وتعتمدها في عملية البناء الحضاري. ولكن الامل وطيد ان ينهض حملة الوعي والبصيرة لهذه المسؤولية التاريخية والواجب المقدس الخطير. 2 _ من الرسائل التي وصلتنا من العصر الاموي ثلاث رسائل سياسية لعلي بن الحسين زين العابدين هي من اجود واسمي واتقن الرسائل السياسية في ذلك العصر. والرسائل هي: أ _ رسالة الحقوق. ب _ رسالة الي احد كبار العلماء. ج _ رسالته الي اصحابه. واذا كانت الرسالة الاولي منها قد توشحت ببعض العناية والانتشار، فان الرسالتين التاليتين لم تزالا في اضابير الغفلة والنسيان. ولا يسعنا الوقت هنا لاستعراض رسائل سياسية من العصر الاموي لنقارن بينهما وبين رسائل الامام زين العابدين (عليه السلام) فنحيل ذلك الي مراجعة القارئ الكريم في مختلف الكتب المعنيّة، بما في ذلك رسائل المعاصرين لزين العابدين (عليه السلام) من القادة السياسيين المجوّدين والبارعين في البيان امثال عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وقطري بن الفجاءة وغيرهم. ونعتقد ان القارئ الكريم اذا ما قارن بين الرسائل بدقة وامعان وموضوعية فسوف يري الرسائل السياسية لزين العابدين (عليه السلام) بينها كالجبل الاشمّ بين التلال. 3 _ والرسائل السياسية لزين العابدين (عليه السلام)، تعبير اصيل عن نشاط فعّال ناهض من الانشطة السياسية الواعية الكثيرة، التي قام بها توعية للاجيال، وخدمة للاسلام، واداءً للمسؤولية. 4 _ لقد رام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ايضاح رأيه من قضية الحكم والسلطة آنذاك. كما اراد تفجير الروح الملحمية والتضحوية لدي طلائع الامة، ورجالاتها الافذاذ، وعدم الذوبان في بوتقة الحكم القائم. وانّه لصراع مرير دائم امام حملات التضليل الفكري، والغبش السياسي، وامواج الفتن والبدع.

يقول سلام الله عليه: ان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلاّت الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لتذر القلوب عن تنبيهها، وتذهلها عن موجود الهدي ومعرفة اهل الحق الاّ قليلاً ممن عصم الله [123] . ولا تتم القدرة علي الصراع المرير الدائم بلا رسوخ العقيدة والايمان، وتربية النفس علي المواجهة والتحدي، وكبح جماح الاهواء والنزوات امام المغريات المتعددة. وهذا لا يتيسر لكل صادر و وارد بل هو بمقدور من عصمه الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ممن استعان علي ذلك بالزهد، فكرّر الفكر، واتّعظ بالعبر وازدجر فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها، و رغب في دائم نعيم الاخرة وسعي لها سعيها، و راقب الموت وشنأ الحياة مع القوم الظالمين [124] . 5 _ لم تكن هذه الرسائل السياسية لزين العابدين (عليه السلام) مقصورة النفع، او ان سببها مختصاً بالعصر الاموي او في سبيل انتهاج سياسة وفق مقتضيات ومتطلبات مرحلة سياسية معينة، بل انها تربية روحية واخلاقية، وتعاليم سياسية، تصلح لكل مرحلة، من المراحل التاريخية. ما دام هناك صراع بين الحق والباطل، وما دامت هناك حاجة الي القائد البديل. 6 _ انّ طول النفس في الرسائل الثلاث للامام زين العابدين (عليه السلام) هو من الفوارق بين رسائله السياسية، وبين الغالبية العظمي من الرسائل السياسية في عصره. امّا رسالة الحقوق فهي من اطول الرسائل السياسية آنذاك. واما الرسالتان الاتيتان فان طولهما طول نسبي، علي الرغم من ان الرسالتين الواصلتين لنا قد وقع فيهما حذف بحجم ما وان كان غير مخلّ بموضوع كل منهما. فمن دلائل الحذف خلو احدي الرسالتين من عبارة لازمة عند اهل البيت، وفي

صدر الاسلام والعصر الاموي من قبيل الابتداء ب_ (بسم الله الرحمن الرحيم). ومن دلائل الحذف خلو الرسالتين من تعبير مشهور في صدر الاسلام والدولة الاموية وهو (امّا بعد). وقد مرّ علينا هذا التعبير كما في رسالة زياد ابن ابيه، ورسالة شريح بن هانئ وكان التعبير هذا يذكر في بدايات كل رسالة. نعم، ان رسالة الامام زين العابدين (عليه السلام) الي عالم ديني كبير كما ستأتي تتضمّن تعبير (امّا بعد) ولكنه قد ورد في اواخر الرسالة وبعد ذكر عدة مقاصد. وهو شيء استدعاه سياق الكلام يغاير ما هو متعارف ذكره في اوائل الرسائل. ومن دلائل الحذف عدم ذكر المرسل والمرسل اليه في بدايات الرسالتين معاً. 7 _ قد عرفنا أن الرسالتين لم تذكرا المرسل والمرسل اليه بما في ذلك الرسالة الي احد كبار العلماء كما عنونّاها، والتي تعنون في المصادر ب_ (رسالته الي محمد بن مسلمة الزهري). فبناءً علي عدم ذكر المرسل والمرسل اليه لا نستطيع القول علي سبيل الجزم انه ارسلها الي الزهري ام لغيره من العلماء خصوصاً مع وجود عبارة فيها يتسرب من كوّتها الاحتمال الي عدم كونها مرسلة اليه، والعبارة هي: انك لست في دار مقام انت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه. وعبارة ثانية: اغفلت ذكر من مضي من اسنانك واقرانك، وبقيت بعدهم كقرن اعضب. وعبارة ثالثة: فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك ورسوخ علمك وحضور اجلك. وهذه العبارات الثلاث تدل علي ان المرسل اليه شيخ كبير السن، وهذا لا يتوافق مع سنّ محمد الزهري وان كان من اصحاب زين العابدين (عليه السلام) لان ولادة الزهري سنة (58 هجرية) [125] بينما رسالة زين

العابدين (عليه السلام) علي ابعد تقدير كانت سنة (94 هجرية) عام وفاة زين العابدين (عليه السلام)، وقيل عام (95 ه_) فيكون سن الزهري علي ابعد تقدير لا يتجاوز ثلاثين عاماً الاّ سنيّات. واين هذا من كون المرسل اليه شيخا كبير السن. وعلي هذا الاساس تكون الرسالة موجّهة _ علي ما يظهر _ الي عالم ديني آخر. وعبارة (ورسوخ علمك) تدلّ علي ان الشخص المرسل اليه من كبار العلماء. ونحن نحتمل ان يكون هذا العالم الديني الاخر قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وهو من الفقهاء الرسميين للدولة الاموية وكانت له مكانة كبيرة في الدولة وكان قد ولد في عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وبالمقارنة بين شخصيتي قبيصة بن ذؤيب والزهري ومعرفة السلوك السياسي لكل منهما يظهر ان قبيصة ابعد اثراً في العمق الاستراتيجي للدولة واكثر تبريراً لسيناريو النظام. 8 _ لقد كان لقاء الجمهور لقاء سياسياً من الصعوبة بمكان ولا تكمن الصعوبة في مواجهة قائد اللقاء فحسب بل حتي في مواجهة الجمهور نفسه. لا سيما اذا كانت النظرة القبلية اليه كأية نظرة الي قوي المعارضة. فجاءت طريقة الرسائل السياسية اشبه باللقاء غير المرئي بل هو لقاء غير مرئي بالفعل. تستلهم القاعدة الشعبية فيه من قائدها الاعلي علي زين العابدين (عليه السلام) التعليمات السياسية والاوامر والتوجيهات. ومنها رسالة مفصّلة لزين العابدين (عليه السلام) _ ستأتي _ قد بعثها الي قاعدته الشعبية يحذرهم فيها من اتباع الظلمة، والانضواء تحت راية الحكم القائم، ويوجههم الي اتباع القيادة البديلة المتمثلة به آنذاك.

النص الكامل للرسالتين

ونعني بالنص الكامل جميع النّص الذي بلغنا منهما، بقطع النظر عما اعتقدناه من وجود اشياء محذوفة كما سلف الحديث عنها. علما بان الحذف من النصوص

_ لسبب او لاخر _ منهج الكثير من القدماء والمحدثين من الكتّاب. كما يعرف ذلك من نصوص كثيرة جداً في مختلف العصور. ويفهم الحذف من خلال قرائن معتبرة كثيرة لا ينبغي الارتياب فيها.

رسالته الي احد كبار العلماء

كفانا الله واياك من الفتن، ورحمك من النار، فقد اصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها ان يرحمك، فقد اثقلتك نعم الله بما اصحَّ من بدنك، واطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقّهك فيه من دينك، وعرّفك من سنة نبيك محمد صلّي الله عليه وآله فرض لك في كل نعمة انعم بها عليك، وفي كل حجّة احتجّ بها عليك الفرض فما قضي الاّ ابتلي شكرك في ذلك، وابدي فيه فضله عليك فقال: (لئن شكرتم لازيدنّكم ولئن كفرتم انّ عذابي لشديد) [126] . فانظر ايّ رجل تكون غداً اذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف قضيتها. ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير، وراضياً منك بالتقصير. هيهات هيهات ليس كذلك.. اخذ علي العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه) [127] . واعلم ان ادني ما كتمت، واخفّ ما احتملت ان آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغيّ، بدنوّك منه حين دنوت، واجابتك له حين دعيت. فما اخوفني ان تبوء باثمك غداً مع الخونة، وان تسأل عما اخذت باعانتك علي ظلم الظلمة. انك اخذت ما ليس لك ممن اعطاك، ودنوت ممن لم يردّ علي احد حقاً، ولم تردّ باطلاً حين ادناك، واحببت من حادّ الله، او ليس بدعائه اياك حين دعاك، جعلوك قطباً اداروا بك مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك الي بلاياهم، وسلّماً الي ضلالتهم، داعياً الي غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك علي العلماء، ويقتادون

بك قلوب الجهّال اليهم. فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوي أعوانهم إلا دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم. فما اقلّ ما اعطوك في قدر ما اخذوا منك، وما ايسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا. فانظر لنفسك فانّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول. وانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً. فما اخوفني ان تكون كما قال تعالي في كتابه: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادني ويقولون سيغفر لنا) [128] . انك لست في دار مقام، انت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه. فطوبي لمن كان في الدنيا علي وجل. يابؤس لمن يموت وتبقي ذنوبه من بعده. احذر فقد نبئت، وبادر فقد اجّلت.. انّك تعامل من لا يجهل، وانّ الذي يحفظ عليك لا يغفل.. تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد، وداو ذنبك فقد دخله سقم شديد. ولا تحسب اني اردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكني اردت ان ينعش الله ما فات من رأيك، ويردّ اليك ما عزب [129] من دينك. وذكرت قول الله في كتابه: (وذكّر فإن الذكري تنفع المؤمنين) [130] . اغفلت ذكر من مضي من اسنانك واقرانك، وبقيت بعدهم كقرن اعضب. انظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت، ام هل وقعوا بمثل ما وقعت فيه، ام هل تراهم ذكرت خيراً علموه، وعلمت شيئاً جهلوه، بل حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك، اذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بامرك. ان احللت احلّوا وان حرّمت حرّموا، وليس ذلك عندك، ولكن اظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحبّ الرئاسة وطلب الدنيا منك ومنهم. اما

تري ما انت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، قد ابتليتهم وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم الي ان يبلغوا من العلم ما بلغت، او يدركوا به مثل الذي ادركت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه، وفي بلاء لا يقدّر قدره، فالله لنا ولك وهو المستعان. امّا بعد، فاعرض عن كل ما انت فيه حتي تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون فيما رغبوا، فما لبثوا ان لحقوا. فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك، ورسوخ علمك، وحضور اجلك، فكيف الحدث في سنّه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله. انّا للّه وانّا اليه راجعون، علي من المعوّل؟ وعند من المستعتب؟ نشكو الي الله بثّنا، وما نري فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك. فانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وكيف اعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك او بعدك ممن امرك ان تكون منه قريبا ذليلاً. ما لك لا تنتبه من نعستك، ولا تستقيل من عثرتك فتقول: والله ما قمت للّه مقاماً واحداً احييت به ديناً، او امتّ له به باطلا. فهذا شكرك من استحملك؟ ما اخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: (اضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً) [131] استحملك كتابه، واستودعك علمه، فاضعتهما، فنحمد الله الذي عافانا ممّا ابتلاك به. والسلام [132] . رسالته التاريخية الي اتباعه عن ابي حمزة الثمالي قال: كتب الامام السجّاد (عليه السلام) الي اصحابه: بسم الله الرحمن الرحيم

كفانا الله وايّاكم كيد الظالمين، وبطش الجبارين أيّها المؤمنون مصيبتكم الطواغيت واتباعهم من اهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون اليها، المفتونون بها، المقبلون عليها وعلي حطامها وهشيمها البائد غداً. فاحذروا ما حذّركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا الي ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار، ومنزل استيطان، وبالله ان لكم مما فيها عليها دليلاً من زينتها، وتصرف ايّامها، وتغير انقلابها ومثلاتها [133] وتلاعبها باهلها. انّها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار اقواماً غداً. ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه. ان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة، من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لتثبّط القلوب عن نيّتها، وتذهلها عن موجود الهدي، ومعرفة اهل الحق، الاّ قليلاً ممن عصم الله. وليس يعرف تصرف ايامها وتقلب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها الاّ من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ممّن استعان علي ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتّعض بالعبر وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الاخرة، وسعي لها سعيها، وراقب الموت، و شَنَأ الحياة مع القوم الظالمين. فعند ذلك نظر الي ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة النظر، وابصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة. فقد لعمري استدبرتم من الامور الماضية، في الايام الخالية، من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلّون به علي تجنّب الغواة واهل البدع والبغي والفساد في الارض بغير الحق. فاستعينوا بالله وارجعوا الي طاعته وطاعة من هو اولي بالطاعة من طاعة من اتبع واُطيع. فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم علي الله، والوقوف بين يديه، وبالله ما صدر عن معصية

الله الاّ الي عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا علي الاخرة الاّ ساء منقلبهم وساء مصيرهم، وما العز بالله والعمل بطاعته الا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه فحثّه الخوف علي العمل بطاعة الله، وان ارباب العلم واتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا اليه، وقد قال الله: (انّما يخشي الله من عباده العلماء) فلا تلتمسوا شيئاً ممّا في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا ايامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فان ذلك اقل للتبعة، وادني من العذر، وارجي للنجاة. فقدموا امر الله وطاعته وطاعة من اوجب الله طاعته بين يدي الامور كلها ولا تقدموا الامور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الحياة الدنيا بين يدي امر الله وطاعة أولي الامرِ منكم، واعلموا انكم عبيد الله ونحن معكم يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً وهو موقفكم ومسائلكم فاعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة، والعرض علي رب العالمين (يومئذ لا تكلّم نفس الا بإذنه) واعلموا ان الله لا يصدق كاذباً ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق ولا يعذر غير معذور، بل للّه الحجة علي خلقه بالرسل والاوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله عباد الله. واستقبلوا من اصلاح انفسكم وطاعة الله، وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم علي ما قد فرّط بالامس في جنب الله، وضيّع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا اليه فانه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون. واياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا من فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا انه من خالف اولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بامره، دون امر ولي الله، كان في نار تلتهب، تأكل ابداناً

قد غابت عنها ارواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتي لا يجدون حر النار، ولو كانوا احياء لوجدوا مضض حر النار، واعتبروا يا اولي الابصار، واحمدوا الله علي ما هداكم، واعلموا انّكم لا تخرجون من قدرة الله الي غير قدرته، وسيري الله عملكم ثمّ اليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين [134] . لفت نظر: ان باستطاعة العالم الديني ان يحتل دوراً كبيراً في التربية والاخلاق ونشر الفضيلة ومقاومة الظلم والاستبداد. ليس حمل العلم الاّ مسؤولية كبري ترهق الحامل وتثقل العاتق والكاهل. يقول زين العابدين في الرسالة التي وجهها لاحد كبار العلماء: ولا تحسبنّ الله قابلا منك بالتعذير، وراضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك اخذ الله علي العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيننّه للناس ولا تكتمونه). وقد يستطيع العالم الديني تحقيق المطالب الايجابية _ في حالات استثنائية _ حتي وان انضمّ الي السلطة غير الشرعية من اجل اصلاحها من الداخل، وتوجيهها لما فيه الصالح الحقيقي للاسلام والمسلمين والمستضعفين كما وقع ذلك لعلي بن يقطين في الدولة العباسية ولكن النظام الحاكم إبّان حياة الامام زين العابدين لم يكن بالذي يستجيب للناصح الشفيق. او كانت لسياستهِ قابلية الهضم والتمثيل لكلمات العالم او المربّي. وهذا احد المربين والعلماء الرسميين ومن المقربين جداً للنظام _ قبيصة بن ذؤيب _ المعاصر لزين العابدين يذكر عدم قبول النظام لاي مشروع او انجاز يتقدم به الاّ ذلك الذي يعبر عن مقررات النظام او تطلعاته او ينسجم مع وجهة نظره. ولسنا نعتقد ان يتنكر الامام زين العابدين للدور الايجابي الاستثنائي للعالم الديني فيما اذا اراد التحرك النبيل ضمن سلطة ما وان كانت ظالمة عاتية في سبيل الاهداف والمبادئ العليا. بيد انّ العالم الديني

الذي خاطبه الامام زين العابدين (عليه السلام) كان علي خلاف ذلك، انه بدل ان يذيب الباطل ذاب فيه، وبدل ان يوجّهه انقاد لتوجيهاته «ودنوت ممّن لم يردّ علي احد حقاً، ولم ترد باطلاً حين ادناك»، «فلم يبلغ اخصّ وزرائهم ولا اقوي اعوانهم الاّ دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصّة والعامّة اليهم». اي ان وجوده في اروقة النظام الحاكم قد اصبح تبريراً للسياسة القمعية، والسيادة القبلية، وطريقة تغريريّة يستزلّ بها الواهن والجهول. وما اكثر الواهن والجهول في كل مجتمع وفي كل زمان ومكان. رفع التعارض: من الواضح ان الامام زين العابدين (عليه السلام) قد خاطب برسالته رجلاً من العلماء وذلك بقوله: اخذ علي العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيننّه للناس ولا تكتمونه) [135] وقوله: وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وعرفك من سنَّة نبيك محمد (صلي الله عليه وآله وسلم). وقوله: فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك، ورسوخ علمك (وفي نسخة خطية من الكافي: ورسوخ عقلك). بيد ان بين اقواله هذه وبين قوله: ذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليك. وقوله كذلك: اما تري ما انت فيه من الجهل والغرة، تعارضاً. فتارة يصفه بالعلم والفقه بل يفهم ان المخاطبة لاحد كبار العلماء، وتارة يصفه بالجهل. والجواب: في الواقع انه لا تعارض بين هذه الاقوال اذ ان للعالم من بعض الوجوه معنيين. المعني الاول الذي قد اخذ من العلم الديني بحظ وافر بقطع النظر عن الممارسة والتطبيق اي انه عالم ديني سواء اعمل بعلمه ام لم يعمل. ويا رب عالم جعل العلم خزانة مقفلة لا ينفق منها علي اصلاح النفس او تربية الجيل. المعني الثاني العالم

هو خصوص من يعمل بعلمه، ويستمسك بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها نظرياً وتطبيقياً. وكثيراً ما تطلق الروايات لفظة العالم علي خصوص المعني الثاني. ان احد كبار العلماء الذي وجّهت الرسالة اليه هو ممن يشمله المعني الاول فهو عالم بالمنطلقات الفكرية والفقهية، وله القدرة علي الاستيعاب للنظرية الاسلامية من القرآن والسنّة المطهرة. وهو في نفس الوقت جاهل من جهة عدم تحقيق الانسجام والتناغم بين النظرية والتطبيق. ومن كان عمله عمل الجاهل فهو جاهل وان كثر علمه. انّها التقوي التي تميّز بين البر والفاجر، لا النظريات وارتقاء المنابر.

المستلزمات القيادية

اشاره

لقد اُعطي النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) مواهب كبري، وطاقات هائلة، في مجالات الابداع الانساني الكثيرة، بحيث تقصّر عنها قدرات أكابر العباقرة، وتتراجع اَمامها كل المواهب الخلاّقة، والامكانات المبدعة، فمن هذه الطاقات ما جاء في خطاب الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي ألقاه في دمشق عام «61» هجرية: أيها الناس، اُعطينا ستاً وفُضلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين [136] . ونكتفي بتحليل هذه الطاقات الست ومحاولة سبر ابعادها بصورة ما لنستخلص من ذلك أهلية الامام زين العابدين (عليه السلام) لقيادة العالم الاسلامي. علي أن في مجمل البحوث الاخري ما يدل علي الاهلية أيضاً. التذكير بالمواهب الست، والفضائل السبع في خطاب الامام زين العابدين سلام الله عليه في عاصمة الدولة الاموية، وفي محضر يزيد بن معاوية، واستماع قادته، وحشد من الجماهير، ان كل ذلك للتدليل علي التفوق المعنوي، وتوفر الشرائط القيادية لاهل البيت النبوي، فكأن الامام زين العابدين (عليه السلام) يريد أن يقول إني وأبي الحسين أولي منك بالمنصب المقدس الكريم، منصب الخلافة

الالهية. لم يذكر الامام زين العابدين المواهب الست، والفضائل السبع، علي سبيل الحصر. بمعني عدم وجود طاقات وتفضيلات إلاّ تلك التي عددها، وانما ذكر ما كان يحتاج اليه المقام. ونحن نذكرها مقتصرين عليها الان:

العلم

اشاره

لابد لقائد الدولة الاسلامية من معرفة غنية بما نستطيع تسميته بالعلوم القيادية في الاسلام كالقرآن، والفقه، والسياسة، والمجتمع، وعلم التخطيط، الذي يستوعب العلوم السالفة، ويستوعب المشاكل الراهنة، من أجل أن يفرز المواقف المناسبة، والاساليب الحكيمة. واما العلوم الاخري التي لا تتصل بالعلوم القيادية، فهي من العلوم الكمالية بالنسبة للقائد، كما ان الاطلاع عليها، أو التوسع فيها، لا يغني ولا يسمن في هذا الصدد اذا كان بمعزل عن معرفة العلوم القيادية. لقد كانت معرفة الرسول وأهل بيته بالكثير من العلوم، وعلي رأسها العلوم القيادية، معرفة واسعة عميقة، وكان الاصدقاء والاعداء يُقرّون لهم بالتفوق فيها علي غيرهم. ولقد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بشأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): ولا تعلموهم فانهماَعلم منكم. وقال الامام علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: هم عيش العلم، وموت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم... عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل. انه ما سُئل أهل البيت عن شيء فعجزوا عن جوابه، أو صدر الجواب عنهم خاطئاً، في مسألة من المسائل، مهما كانت، ومهما كان المسؤول من أهل البيت، صغيراً أو كبيراً، ومن يراجع الحياة العلمية لابي جعفر الثاني «محمد الجواد (عليه السلام)» ير القدرة العلمية الفذة، التي تفوق فيها علي علماء عصره، وهو آنذاك لم يزل في غضارة الصبا. ان الذي وصلنا مما صح من علوم أهل

البيت (عليهم السلام) في القرآن والفقه والعقائد والسياسة.. الخ علي الرغم من دقته، وسعة حجمه، وتعدد مناحيه ما هو الاّ قليل من كثير. وبقيت هناك علوم، وأشياء كثيرة من علوم مااستطاعوا الافصاح عنها لقصر أهل زمانهم عن إدراكها واستيعابها، فضلاً عن رفض تصديقها من قِبل بعضهم. يقول الامام علي (عليه السلام): بل اندمجتُ علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطويّ البعيدة. وجاءت عن الامام زين العابدين (عليه السلام) في هذا المضمار أبيات من الشعر الجميل، تكشف عن واقع عصره، لا نستغني عن ذكرها: اني لاكتم من علمي جواهره كي لا يري العلم ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن الي الحسين واوصي قبله الحسنا فربَّ جوهر علم لو أبوح بهِ لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال صالحون دمي يرون اقبح ما يأتونه حسنا [137] .

مصادرة الحرية العلمية والفكرية

ولا يخفي ان الحرية العلمية والفكرية قد صودرت من قبل القيادة السياسية في حياة اكثر أهل البيت مما ترك منطقة للفراغ حيل بين أهل البيت وبين ملئها بالحروف الواضحة، فكتبوا حروفها أحياناً كثيرة بالمواقف الرمزية، ومجموعة من الاحاديث غير المكشوفة. فينبغي تفهم تلك المواقف والاحاديث بعقليات واعية مجربة ومبدعة تختلف عن العقليات التي درست الاحاديث، والمواقف العامة، وتفهمتها بروح باهتة، وتفكير سقيم مبني علي الجمود والتقليد والتلقي. بيد أن أهل البيت (عليهم السلام) علي الرغم من الملابسات الحاكمة، والظروف السياسية الخانقة، في أغلب الاحيان قد فتحوا أبواباً من العلوم، والافكار الاصيلة علي مصاريعها، وعلّموا خلقاً عظيماً، وأناسيَّ كثيرا. ولقد عكفت اُمة من كبراء العلماء والمحققين قديماً وحديثاً علي معارفهم وعلومهم يتدارسونها ويحللونها، ويستنبطون منها النتائج العامة والخاصة خدمة للاسلام، وتشييداً للبناء

الحضاري الشامل. ولقد قال رجل معروف بالتعصب الاعمي، وهدر دماء أهل البيت، اَلا وهو يزيد واصفاً علم الامام زين العابدين خصوصاً وأهل البيت عموماً: انه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زَقّا [138] . وقال رجل آخر لا يقل تعصباً عن الاول، وتعطشاً لدماء أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن الظروف السياسية لم تتح له ذلك، ألا وهو عبدالملك بن مروان، قال لزين العابدين (عليه السلام): ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك، ولا قبلك، إلاّ من مضي من اسلافك. ولقد قال الشيخ المفيد رضوان الله عليه مُشيداً بعلوم زين العابدين (عليه السلام): وقد روي عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا تحصي كثرة، وحُفظ عنه من المواعظ والادعية، وفضائل القرآن، والحلال والحرام، والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء. ولو قصدنا الي شرح ذلك لطال به الخطاب، وانقضي به الزمان [139] . وليست هذه الكلمات إلاّ غيضا من فيض من الاشادة بعلم الامام زين العابدين سلام الله عليه والابانة عن معارفه.

الحلم

الحلم ما يكون عن مقدرة، أما ما لم يكن عن مقدرة فهو ليس من الحلم في شيء. والحلم سجية يعظمها الناس عامة ويحبونها حباً جمّا، ولا يطبقها علي نفسه إلا الاقلّون. ولقد قيل: انك تجد في كل مائة عشرة من الشجعان، وقد لا تجد في كل مائة حليماً واحداً. ما زالت سجية الحلم كبيرة في النفوس، مهيبة في القلوب في الجاهلية والاسلام، حتي أراد أن يضفيها علي خلقه من ليس لها بأهل، وما يتعلق منها بشروي نقير لينال محبة واكبار الخاص والعام. ونظراً لاهمية الحلم وعظمة منزلته اكّد عليه الكتاب العزيز، وركّزتْهُ السنّة المطهَّرة واكابر الفلاسفة والحكماء. يقول

الله تبارك وتعالي: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين). وقال تعالي: (خُذ العفو واؤمر بالعُرف واَعرض عن الجاهلين) [140] ، وفي رواية ان جبرئيل صلوات الله عليه نزل علي النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) قائلاً له: أتيتك بمكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة (خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين). فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): ما هذا يا جبرائيل؟ فقال: لا أدري حتي أسأل العالم. ثم عاد وقال: يا محمد ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وقال الرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم): من كتم غيظاً ولو شاء أن يمضيه امضاءً ملا الله قلبه أمناً وايماناً. ولعليّ (عليه السلام) عقود عسجدية عن الحلم والدعوة اليه نقتطف منها: ان لم تكن حليماً فتحلَّم، فانه قلّ من تشبّه بقوم الاّ أوشك أن يكون منهم. اذا قدرت علي عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه. لقد تجلت سجية الحلم بأروع صورها عند النبي وأهل بيته بلا استثناء، فمن النبي الاقدس، الي المهدي المؤمل، مروراً بالامام موسي بن جعفر، الذي غلب نعته بالحلم والصفح وكظم الغيظ علي اسمه، فاصبح كظمه وحلمه مضرب الامثال. فترة مديدة فيها من أنماط الحلم النزيه، وألوان الصفح الجميل ما يهش له العالَم. ويقف ذلك الحلم ذروة عليا «ينحدر عنها السيل ولا يرقي اليها الطير». ومن كلمات أهل البيت في الحلم ما جاء عن علي بن الحسين (عليه السلام): ما من جرعة احب الي الله من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلمه، أو جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبره. وقال: انّ علامات المؤمن خمس، وعدَّ منهن الحلم عند الغضب. وسبّه رجل فسكت عنه.

فقال اِياك أعني، فقال: وعنك أغضي. وكان عنده (عليه السلام) ضيوف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السّفود منه علي رأس بُنيّ كان لعلي بن الحسين تحت الدرج فأصاب رأسه فقتله، فقال للغلام وقد تحيّر واضطرب: انت حرّ فانك لم تعتمده. وأخذ في جهاز ابنه ودفنه. وجعلت جارية تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الابريق من يدها علي رأسه فشجّه، فرفع رأسه اليها فقالت له: (والكاظمين الغيظ) قال: كظمتُ غيظي، قالت: (والعافين عن الناس) قال لها: عفا الله عنك، قالت: (والله يحب المحسنين) قال: أذهبي فأنت حرة لوجه الله. وقيل للاسكندر: ان فلاناً وفلاناً ينتقصانك ويثلبانك، فلو عاقبتهما. فقال: هما بعد العقوبة أعذر في نقصي وثلبي. إنَّ مقابلة المسيء بالاحسان اسلوب فعال من أساليب العقوبة والردع في سياسة المجتمع وتربيته. رفع هذا الشعار علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: عاتب اخاك بالاحسان إليه، واردد شره بالانعام عليه. اِنَّ احتياج القيادة السياسية للحلم والصفح أحياناً كاحتياجها للعنف والشدة أحايين اُخر; فان الحكمة، تقتضي: أن تتخذ القيادة السياسية القرار المناسب ليناً أو شدة في كل واقعة من وقائع السياسة والحكم. ويمكننا الاشارة الي بعض الفوائد القيادية والسياسية للحلم: أولاً: ان القيادة السياسية بحاجة الي كثرة الانصار والمؤيدين والحد من المسبّبات لذلك، قال الامام علي (عليه السلام): «أول عوض الحليم عن حلمه أنَّ الناس أنصاره علي الجاهل». ثانياً: ان الحلم يدل علي أفضلية الحليم علي المعتدي ولو من بعض الجهات. وما أحوج القيادة السياسية لان يُشار اليها بالافضلية والتقدم. ثالثاً: ان عدداً من الذين تحلم القيادة السياسية عنهم يشعرون بانهم المدينون لها وانها المتفضلة عليهم وجزاء ذلك أن يكونوا من أعوانها

ومحبيها. ان للحلم ايجابيات وفيرة، بيد أنه اذا لم يُحسن الاخذ به يكون علة لسلبيات واخطاء لاتُحصي، ولذا يصح أن نقول: خُلُقان عظيمان الاغراق فيهما نقص وهوان الحلم والتواضع. فان الاغراق بالحلم والتواضع يسبب عدم أخذ القرارات السياسية موضع الجد والحديّة، ويسبب كثرة الاعتداء عليها، والاقدام علي هتك حريم عزّتها، ولو كان الحلم محموداً في جميع الحالات لحلم زين العابدين عن قتلة الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) ولكنه (عليه السلام) كان شَديد التحريض عليهم والكشف عن مظالمهم، وبتحريضه للمختار الثقفي قُتل عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد. ومن حالات الفرز بين موقع الحلم وموقع الشدة والردع يمكننا القول: عاقبوا الضعيف الذي يتبجّح بالشر، واحلموا عن القوي الذي تخجله الاساءة.

السماحة

اشاره

السماحة هي البذل في اليسر والعسر عن كرم وسخاء. وللسماحة دوافع. فمنها التقرب الي الله تبارك وتعالي وابتغاء رحمته ورضوانه لانه تعالي سخي يحب السخاء والكرم. ومنها دافع نفسي. ومنها دوافع الشفقة والرحمة بالمعوزين والمستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. ومنها طلب الذكر العطر بين الناس. ومنها لشراء الاصوات الانتخابية، والتوصل الي منصب في الدولة الوضعية، او شبه الوضعية. وقد يجتمع اكثر من دافع إلي السماحة.

من فلسفة السماحة في الاسلام

و باعتبار أن الدين الاسلامي يوجه الطاقات كافة نحو العلة الاولي، والغاية الكبري لذلك اراد أن يكون الكرم كرماً في سبيله تعالي خالصاً لوجه ذي الجلال والاكرام. يقول تعالي: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له) [141] ، ويقول تعالي: (مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء) [142] . ويندد الدين الاسلامي بالسماحة التي تكون في سبيل اغراض دنيئة ويذم العطاء من أجل الرياء والشهرة. يقول تعالي: (يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذي كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون علي شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) [143] ، صفوان: حجر املس، واحدته صفوانة. ولما كان الاسلام ينظر الي الثروات علي اَنها طاقة عالية فاعلة في الحياة حرص علي ان يصب هذه الطاقة في مسار نظيف، ومرتع خصب، للخير، والفضل، والرحمة، والكرامة، والسناء والشمم. فمن موارد توزيع المالية في نظام الاسلام بشرط ابتغاء رضوان الله ما قاله الامام علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: فمن آتاه الله ما لا فليصل به

القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الاسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه علي الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب; فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الاخرة ان شاء الله. ومن واجبات النظام السياسي في الاسلام تربية المجتمع تربية حرة كريمة معطاء، ولهذا اعتبر السخاء ما كان ابتداءً،اما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم [144] علي حد تعبير الامام علي (عليه السلام). ذلك لتخلص النية في الكرم والعطاء ابتداءً من اي باعث من البواعث غير النزيهة، ولكي يبادر الكريم بالعطاء دون تردد، ومن اجل ان يبقي المحتاج محتفظاً بماء وجهه.

جود النبي وأهل البيت

ولقد بلغ النبي واهل بيته في الجود والسماحة شأواً بعيداً، وكطبيعتهم في المسارعة الي كل الفضائل ادركوا قصب السبق في السماحة والكرم. فرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) اعطي سفانة بنت حاتم من الانعام ما وصف بانه يسد ما بين جبلين. واشتهر بين مفسري القرآن الكريم اَن هذه الاية نزلت في علي (عليه السلام): (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصَلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [145] . وبعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم اشاد القرآن العزيز: (ويطعمون الطعام علي حبه [146] مسكينا ويتيماً واسيراً - انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) [147] .

جود زين العابدين

وكان الامام زين العابدين (عليه السلام) يشتري المماليك، فيبرحون عنده قليلا ثم يعتقهم. وفي المجالس السنية عن الباقر (عليه السلام) انه كان يخرج في الليلة الظلماء يحمل الجراب علي ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل علي ظهره الطعام والحطب حتي يأتي باباً باباً فيقرع ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه اذا ناول فقيراً لئلا يعرفه. فلما توفي (عليه السلام) فقدوا ذلك فعلموا انه كان علي بن الحسين. وفي خبر انه كان اذا جنّه الليل وهدأت العيون قام الي منزله فجمع ما يبقي فيه من قوت اهله وجعله في جراب ورمي به علي عاتقه وخرج الي دور الفقراء وهو متلثم ويفرّق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً علي ابوابهم ينتظرونه، فاذا رأوه تباشروا به وقالوا: جاء صاحب الجراب. وقال الزهري: لما مات زين العابدين (عليه السلام) فغسلوه وجد علي ظهره محل فبلغني انه كان يستقي لضعفاء جيرانه بالليل... وكان يعجبه ان يحضر طعامه التيامي والاضرّاء والزمني [148] والمساكين الذين لا حيلة

لهم. وكان يناولهم بيده ومن كان له عيال حمل الي عياله من طعامه... وكان اذا اتاه سائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي الي الاخرة [149] . وعمله الاخير هذا مستند الي قول الامام عليّ (عليه السلام): واذا وجدت من اهل الفاقة من يحملُ لك زادك الي يوم القيامة. فيوافيك به غداً حيث تحتاج اليه فاغتنمه وحمّله اياه، واكثر من تزويده وانت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده.

عود الي فلسفة السماحة

وفي صنع علي بن الحسين (عليه السلام) وفي وصية الامام علي ما يؤكد مرة اخري نظرة الاسلام في ان الجود لابد ان يكون جوداً نزيها خالصا، ولعمري. أنّ في مفاهيم الاسلام ان درهما ينفق في سبيل الله خير من جنات وعيون وزروع واموال تنفق رئاء الناس، ولقد اُنزلت آية في كتاب الله العزيز بحق جود الامام علي (عليه السلام) (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية) [150] وما هي الا اربع دراهم انفقها علي الترتيب الذي ذكره الكتاب الكريم. غير ان القليل في سبيل الله تعالي كثير وافر. حسبنا من نزاهة الكرم والسماحة في الاسلام ان في مفاهيمه: صدقة الليل تطفئ غضب الرّب. وكانت بيوتات في المدينة المنورة يؤتي لهم ليلاً وفي وضع سري بالارزاق ولا يعرفون من يأتيهم بها حتي توفي زين العابدين (عليه السلام). ومن الوجهة السياسية في الاسلام أن مجرد اتصاف انسان بالبخل لينفي عنه الصفة القيادية، وان توفرت فيه الخصائص الاخري. ومن ادلتنا علي ذلك الايات القرآنية المباركة التي تذم البخل وتندد بالبخلاء، كقوله تعالي: (ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه...) [151] ، وكقوله تعالي: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) [152] . ولان البخيل يسيء الظن بالله، إذ لولا ذلك لم يبخل.

ولا يُعقل ان يكون الحاكم باسم الله مسيئاً الظن بالله. وقال الامام علي (عليه السلام): عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغني الذي اياه طلب; فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الاخرة حساب الاغنياء. وفي رواية معتبرة السند عن ابي جعفر الاول محمد الباقر (عليه السلام) رواها عنه ابو بصير: قلت لابي جعفر «الباقر»: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يتعوذ من البخل؟ فقال: نعم يا أبا محمد في كل صباح ومساء ونحن نتعوذ بالله من البخل. ان الله يقول: (ومن يوق شحَّ نفسه فاولئك هم المفلحون) [153] . ولقد أقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الجد بن قيس زعيم بني سلمة من منصبه بسبب بخله، وقال في ذلك: اي داء ادوي من البخل؟! وذلك لمّا قيل له: اَن لا عيب في الجد بن قيس سوي البخل. مع ان الجد بن قيس لم يكن قائداً الا لشريحة اجتماعية قليلة العدد. اذاً كيف يكون الحال لو كان مرشحاً لقيادة دولة اسلامية. لا ريب إذن يكون التاكيد علي اقصائه من المنصب الالهي المقدس يأتي بصورة اقوي واجلي.

الفصاحة

اشاره

يقع الكلام هنا علي ثلاثة محاور. المحور الاول حول مفهوم الفصاحة. المحور الثاني فصاحة اهل البيت عموماً و الامام علي زين العابدين خصوصاً مع مثال طويل من فصاحته. المحور الثالث ما بين السياسة والفصاحة.

تفصيل البحث

مفهوم الفصاحة إذا قيل فصح اللبن فصحاً وفصاحة فمعني ذلك أنه اصبح خالصا نقياً مما يشوبه. ومن هذا المنطلق يكون معني الفصاحة اجادة الكلام وجماله وخلوه من كل ما يشوب من العجمة وضعف العبارة وقصور التأليف. واذا قلنا: فصاحة المتكلم يضاف الي الامور السابقة قدرته علي النطق والاداء بشكل صحيح من دون وجود حاجز يمنعه كالفأفأة والتأتأة وغيرهما. اذن الفصاحة هي القوة في تبيين الرأي بلفظ عربي اصيل، وايقاع جميل. كما اَن اشراق الفكرة، ووضوح الرؤية، والخلفية العلمية، من مرتكزات الفصاحة.بيد اَنه ليس كل عالم يعد فصيحاً، طلق اللسان. فاذا كان ذا علم غزير، وفكر ثاقب، غير انه لا يستطيع الكشف عن فكره والابانة عن علمه فلا ينبغي ان يُذكر في الفصحاء. ولو قلنا بفصاحته نظراً لبعض الجهات فلا يمكن نعته بالافصح، ولذا نري موسي (عليه السلام) مع ماله من العلم النبوي والفكر الرسالي يقول _ نظراً لعقدة في لسانه _ (عليه السلام) (واخي هارون هو افصح مني لسانا) [154] . ان السرعة في توارد الافكار وتبيين المطالب من غير تردد تعد من اجود البيان، ومن الفصاحة بمكان. اراد ثابت قطنة الخطبة في البصرة في يوم الجمعة فحصر واعياه الكلام، ونزل عن المنبر وهو يقول: فان لم اكن فيكم خطيباً فانني بسيفي علي ظهر الجواد خطيبُ فقال الناس: لو تكلم بهذا وهو علي المنبر لكان من اخطب الخطباء. وفعلا لم يكن ثابت من اخطب الخطباء لان الفصاحة قد تخلفت عنه

في الوقت المناسب. ان السرعة في توارد الافكار فيما اذا اراد المتكلم الارتجال امام الملا اما اذا اراد الكتابة فلا دليل علي فصاحة كلامه من حيث السرعة في انهمار الافكار.

فصاحة اهل البيت عموماً و زين العابدين خصوصاً

والمصطفي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) واهل بيته الكرام من افصح العرب واجلاهم بيانا. يقول (صلي الله عليه وآله وسلم): أنا افصح من نطق بالضاد بيد اني من قريش. ويقول الامام علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: وانّا لاَمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه. ولو لم تكن لعلي من الاثار الاّ خطبة الاشباح التي ارتجلها، والاّ عهده لمالك الاشتر لكان المثالان دليلين علي أنه من اهل بيت هم أمراء الكلام حقاً. وخطبة الاشباح هي التي ارتجلها حينما قيل له صف لنا ربك. وهي التي اولها: الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود [155] وهي طويلة وكأفصح ما يكون الكلام وكأنه اعدها منذ اعوام. وذكر الامام علي (عليه السلام) مقارنة بين بني هاشم وبين بني عبد شمس كانت الفصاحة فيها الي جانب بني هاشم. وهذه الميزة للهاشميين عامة فضلاً عن اهل البيت (عليهم السلام) خاصة الذين هم افصح الهاشميين كما تدل علي ذلك الاثار التاريخية والادبية. وهذا الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) شدَّ جيلاً من الناس الي دينهم ووثق صلة الارض بالسماء، واحكم الارتباط بالخلق الرفيع عن طريق بلاغته الساحرة، وفصاحته السامية، التي تتعلق بها القلوب، وتنشد لها الطباع، وتعشقها الارواح، وترتشفها الاذواق السليمة; لما بها من رونق واصالة، ووضوح وسلاسة، وصدق وعمق وانسجام.. وان ذلك لواضح اين ما تصفحنا صحيفته السجادية ورسائله وما صحَّ من تراثه البارع الجميل. والحقيقة ان الادلة علي ذلك كثيرة غنية، فاين ما

تتبعنا نتاجاته الادبية، وتراثه المجيد تكشفت لنا ملكات عجيبة، وازددنا ايماناً بقدرة هذا الامام علي الفصاحة والبلاغة قدرة تنساب كشعاع الشمس في كل حدب وصوب. تصبغ الحياة بصبغتها وتألقها، وتمنح القوة والجمال، لتبني الانسان بناءً اسلامياً وحضارياً خالصاً. ولقد كتبنا بحثاً طويلاً فيما يتعلق بأدب الامام زين العابدين (عليه السلام)، وكان من المقرر منهجياً أن يكون ضمن الكتاب الكبير عن الامام زين العابدين (عليه السلام)، ثم رأينا ان يستقل بنفسه في كتاب آملين اَن يساهم بقدر ما في اعطاء الامة لوناً حضارياً زاهياً، من الوان حضارة آبائها الكرام، وفيضاً ثرّاً من تراثها الخالد. واليك الان مثالاً مهمّاً للتدليل علي فصاحة الامام زين العابدين (عليه السلام)، تلك الفصاحة النادرة، وللتفصيل محل آخر.

في دفع كيد الاعداء ورد بأسهم

الهي هديتَني فلهوتُ، ووعظتَ فقسوتُ، وابليتَ الجميل فعصيتُ ثم عرفتُ ما اصدرتَ اذ عرّفتنيه، فاستغفرتُ فاقلتَ فعدتُ فسترتَ، فلك الحمد. الهي تقحمتُ اودية الهلاك، وحللت شعابَ تلف تعرّضتُ فيها لسطواتِكَ وبحلولها عقوباتكَ، ووسيلتي اليكَ التوحيدُ، وذريعتي اَنّي لم اشرك بك شيئا، ولم اتخذ معك اِلها، وقد فررتُ اليكَ بنفسي، واليك مفرُّ المسيء. ومفزَعُ المضيّع لِحظِّ نفسه الملتجئ. فكم من عدوّ انتضي عَليَّ سيف عداوتِهِ، وشحذَ لي ظُبَةَ مُديَتِهِ وارهق لي شبا حده، وداف لي قواتل سُمُومِهِ، وسدّدَ نحوي صوائِبَ سهامه، ولم تَنَمُ عني عين حراسته، واَضْمَرَ اَن يسومَني المكروهَ، ويجرعني زُعاقَ مرارته، فَنَظَرتَ يا الهي الي ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن الانتصار مِمّن قصدني بمحاربته، ووحدتي في كثير عدد مَنْ ناواني وارصد لي بالبلاء فيما لم اُعْمِل فيهِ فكري، فابتَدَأتَني بنَصْركَ وشددت ازري بقوتك ثم فللتَ لي حده، وصيرته من بعدِ جمع عديد وحدَهُ، واعليتَ كَعْبي عليه، وجعلت ما سدّده مردوداً عليه،

فرددتَهُ لم يشفِ غَيظَهُ، ولم يسكن غليله، قد عضَّ علي شواهُ، وادْبَرَ مُوَلّيا قد اَخلَفَتْ سراياه. وكم من باغ بغاني بمكائِدِهِ، ونَصبَ لي شَرَكَ مصائدِهِ، ووكَّل بي تفقُّدَ رعايتِهِ، وأضبَأَ اِليَّ اِضباءَ السبع لطريدته، انتظاراً لانتهاز الفرصة لفريسته، وهو يظهر لي بشاشة الملق، وينظرني علي شدّة الحنق. فلما راَيتَ يا الهي تباركت وتعاليت دَغَلَ سريرتِهِ، وقبح ما انطوي عليه، اركستَهُ لامِّ رأسِهِ في زُبيَتهِ ورددتَهُ في مهوي حفرته من بعد استطالتهِ ذليلاً في رِبقِ حبالتِهِ التي كان يقدِّرُ اَن يراني فيها، وقد كاد اَن يَحُلَّ بي لَولا رحمتك ما حلَّ بساحتِهِ. وكم مِن حاسد قد شرق بي بغصّتِهِ وشجي مِنّي بِغَيظِهِ وسلقني بحدِّ لسانِهِ، وَوَحَرَني بِقَرْفِ عيوبه، وَجَعَلَ عِرضي غرضاً لمراميه، وقلّدني خلالاً لم تزل فيه، ووحرني بكيده، وقصدني بمكيدته، فناديتك يا الهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة اجابتك، عالماً اَنّه لا يُضطهد مَن أوي الي ظلِّ كنفكَ، ولا يفزع من لجأَ الي معقل انتصارك، فحصّنتني من بأسِهِ بقدرتِكَ. وكم من سحائِب مكروه جلَّيْتها عني، وسحائِب نعم امطرتها عَليَّ وجداول رحمة نشرتها، وعافية البستَها، واعيُنِ احداث طمستَها وغواشي كربات كشفتَها. وكم مِن ظنّ حسن حقَّقْتَ، وعدم جَبَرتَ، وصرعة انعشتَ، ومسكنة حَوَّلتَ، كلُّ ذلك اِنعاماً وتطوُّلاً منك، وفي جميعهِ انهماكاً مني علي معاصيك لم تمنعك اساءتي عن اتمام احسانك، ولا حجرني ذلك عن ارتكاب مساخطك، لا تُسال عمّا تفعل، ولقد سُئِلتَ فاعطيتَ، ولم تُسأل فابتدأت، واستميح فضلكَ فما اكديت. ابيتَ يا مولاي الا احساناً وامتناناً وتطوُّلا وانعاماً، وابيتُ الا تقحُّماً لحرماتك، وتعدياً لحدودك، وغفلة عن وعيدك. فلك الحمد الهي مِن مقتدر لا يُغلب، وذي أناة لا تَعْجَلُ، هذا مقامُ من اعترفَ بسبوغِ النعم، وقابلها بالتقصير، وشَهِدَ علي

نفسِهِ بالتَّضْييع.

ما بين السياسة والفصاحة

لابد لنا _ إتماماً للبحث _ من أن نلمَّ بالارتباط الوثيق بين الفصاحة والسياسة، فنقول: يختلف المفهوم القيادي في الاسلام عنه في اكثر الدول الراهنة في العالم، إذ انها تفصل بين العقيدة الروحية للشعوب و بين المعتقدات السياسية للدولة; فالقيادة فيها معبرة عن كثير من مفاهيمها السياسية المقررة قبلاً، وكثير من مفاهيمها المرتجلة. ولما كان غير جائز نهائياً فصل السياسة عن الاسلام، إذ ان السياسة من بعض شؤونه، وقسط من أنظمته الشاملة لكيان الحياة اِذن كان علي الامام في الدين، أو علي القائد الاسلامي أن يكون داعية للحياة الروحية، مطبقاً لها، وداعية للسياسة الاسلامية مطبقّاً لها، ولا يجدر اصطناع هوّة ما بين الحياة الروحية والحياة السياسية في نظام القرآن، وفلسفة الاسلام. اذن فالتوجيه والنصيحة واجبان علي قائد الدولة، فهو موجِّه نحو القضايا الروحية وواعياً لها، وموجّه نحو المفاهيم السياسية وناصحاً في ذلك. ومن هذا المنطلق تكون للقيادة الاسلامية، بل وكل القيادات السياسية التي تستند الي عقيدة روحية أحوج الي الاساليب المؤثرة من غيرها; لاتساع الاُطُر القيادية لعملها وتحركها، بما في ذلك اسلوب الفصاحة النادرة والبيان العذب، لان لهما قوة جذب، وتأثيراً سحرياً علي الاخرين. نعم نحن أحوج إلي إمام عادل منا الي إمام خطيب، أو قائد فصيح، كما أشار الي ذلك الخليفة الثالث عثمان بن عفان، غير أن الفصاحة تقوم بالدور الاسنادي للعدل، وبوظيفة الدفاع عن المكاسب الخيِّرة، ومكافحة الباطل، والدعوة لسُبُل الخير والنمو والكمال. ولو لا ذلك لما احتاج الخيلفة الي تقديم الاعتذار. اننا في الوقت الذي نؤكد فيه علي اهمية تزود القيادة السياسية في الاسلام من متاع الفصاحة والبيان لنأخذ بنظر الاعتبار بالتفاوت الزمني بين اُمة واخري، وعصر وآخر. وكذا

التفاوت العقلي والذوقي وفلسفة الحياة. فنحن مثلا نحتاج في المقطع الزمني الراهن لما نسمّيه الفصاحة التربوية، والفصاحة السياسية، كما كان في عصور سالفة حاجة لفصاحة تحقق الانسجام والتناغم مع اللغة والحياة والحقول الفكرية والذوقية والنفسية آنذاك. اي لابد أن تكون لكل جيل وعصر فصاحة وبيان يتناسبان والحاجات الفعلية والسلوك العام. لم تزل الفصاحة ميزاناً من موازين التفاضل بين القياديين عند العرب وغيرهم. ولقد حاول فرعون استغلال اللكنة في لسان النبي موسي (عليه السلام) ليجعل من ذلك ذريعة الي التفوق والاهلية، فقال: (ام انا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) ناسياً او متناسياً الموازين الاخري للتفاضل. وفي زمن لاحق كان الوليد بن عبد الملك مورداً للانتقاد السياسي والشعبي; اذ لم يتسم بالفصاحة، ولقد انتقصه بذلك حتي بعض رجالات العرش الاموي، بينما كان معاصره الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الدرجة العليا من درجات اساليب البيان العربي.

الشجاعة

اشاره

يحظر الاسلام التبعية، لاية دولة من الدول الوضعية سواء العلمانية منها أو غير العلمانية. ويقرر وجوب الاستقلال في كافة الاعمدة السياسية والاقتصادية والتعليمية وهلمَّ جرا. ولكن رفض التبعية، والانقياد لوجوب الاستقلال الشامل ليس بالامر اليسير، بل هو عسير جداً، ويتطلب التضحيات الجسام، ودرجة عالية من الحزم والعزم وقوة الارادة، كما يتطلب الشجاعة الكافية في اتخاذ القرار، ومواجهة التحديات. إذن فالقائد إذا لم يكن شجاعاً مقداماً فسوف يقع في قبضات الانظمة الوضعية جنوحاً منه للذلة والاستكانة، واشفاقاً من القوي المعادية، والضغوط الخارجية. كما أنه في حالة اشتداد المعارضة الداخلية، وتفاقم مشاكلها سيتخذ من المواقف ما يتلائم وخور قلبه واستسلامه، وضعف نفسه، وان أضرَّ ذلك بالمصلحة العامة للشريعة والبلاد. كما ان القائد اذا كان شجاعاً،

جريئاً علي الاهوال، فان ذلك سينعكس، ايجابياً علي الانصار والاتباع، وجملة الشعب الخاضع لحكمه، اَما اذا لم يكن شجاعاً فالعكس هو المتوقع. وفي حالة افتقاد القائد للشجاعة المطلوبة; فإنه وفي الظروف الحرجة له، قد يكون مثاراً للاستخفاف به حتي من قبل الخاصة، كما وقع ذلك لبعض القادة والامراء، علي مدي التاريخ السياسي العام للانسانية. ان الخطر عظيم علي المستقبل السياسي للبلاد فيما إذا كان القائد مثاراً للاستخفاف، من قبل الخاصة. اريد أن أقول: أحر بمن لم تكبره الخاصة أن تتجرأ عليه العامة. اذن فالشجاعة ليست نعتاً شخصياً مجرداً عن التأريخ الايجابي للدولة بل شجاعة القائد حصن الدولة الحصين، ومعقلها المنيع، وهيبة الوجود العقائدي في الداخل والخارج.

روافد الشجاعة

تتأتي الشجاعة غالباً من الاسس التالية: أ _ الايمان بالقضية التي يقدم الانسان من اجلها. ب _ السخط علي الوضع المعاش الذي يمارَس ضدّه، وعلي السياسة الحاكمة. ج_ _ قوة الاحتمال. د _ الوراثة. ه_ _ البيئة الجغرافية. و _ الوسط الاجتماعي. اما عن الاساس الاول فإن ايمان اهل البيت بالقضية العادلة التي يضحّون في سبيلها يفوق حدّ التصور و ما احق ان يكون قول علي (عليه السلام) تمثيلاً حقيقياً لهذا الايمان «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ومن يكن هكذا ايمانه فاي شيء يروعه، او يقف حاجزاً دون بلوغ امانيه وتطلعاته. وعمار بن ياسر «تلميذ اهل البيت» ينادي: والله لو ضاربونا حتي ابلغونا سعفات هجر [156] لعلمنا اَنا علي الحق وهم علي الباطل. فما ظنك بأهل البيت وايمانهم، ووضوح الرؤية لديهم، وانكشاف الحقائق عندهم. يقول الامام علي (عليه السلام): «والله لو لقيتهم وهم طلاع الارض ما باليت و لا استوحشت». وقال (عليه السلام): «ومن العجب بعثهم اليَّ

ان ابرز للطعان، وان اصبر للجلاد. هبلتهم الهَبول. لقد كنت وما اهدد بالحرب، ولا ارّهب بالضرب، واني لعلي يقين من ربي، وغير شبهة من ديني» [157] . واما عن الاساس الثاني فانه ينصرف انصرافاً كليّاً الي عدم الرضا مما يغضب الربّ عزوجلّ، والرفض المطلق لما يشين الاسلام، ويحط من قداسة الروح الدينية، ويسرق من اَلق العدالة. يقول الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهم السلام): «الا ترون الي الحق لا يُعمل به، والي الباطل لا يتناهي عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً; فاني لا اري الموت الاّ سعادة، والحياة مع الظالمين الاّ برما». واما عن قوة الاحتمال والصبر علي الشدائد فغير بعيد عنك قول علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: «وانا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد. والله لو اجتمعت العرب علي قتالي لما وليت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت اليها». ومما يدل علي قوة احتمال الامام زين العابدين (عليه السلام) ما جاء عن الامام احمد بن حنبل من انه (عليه السلام) اُلبسَ درعاً ففضل عنه فاخذ الفضلة بيده ومزقها [158] . وانه (عليه السلام) نقل من الكوفة الي دمشق علي جمل بغير غطاء و لا وطاء مقيد اليدين فلم يشك الماً، ولم يئن أَنةً علي الرغم من طول الطريق ومشقة السفر وعلي الرغم من أنه كان سقيم البدن في تلك الايام. واما عن الوراثة فلا ريب أن لها الاثر الجليل في شجاعة الانسان، وهي تُسكب في قلوب الابناء من اوعية الاباء والامهات. ويعتقد الكثير من علماء النفس المعاصرين بتناقل الصفات الوراثية السلبية والايجابية من فرد الي فرد ومن جيل الي آخر، ومن هذه الصفات الشجاعة، والادلة التجريبية علي

ذلك كثيرة. ومن هنا يُعلم تهافت نظرية المدرسة السلوكية التي تنفي الصفات الموروثة عن سيكولوجية الانسان. يقول وطسن مؤسس المدرسة السلوكية نافياً كل أثر للوراثة: إئتوني بعشرة اطفال فاني اذا اخذت احدهم علي غير تعيين فسأجعل منه ما شئتم طبيبا او عالماً أو لصاً. واما عن البيئة الجغرافية فالملاحظ أن ابناء الجبال وسكان الصحاري اشجع في الغالب من ابناء الحاضرة، والسبب الاكبر في ذلك شظف عيشهم وجشوبة حياتهم. والمتربون في الوسط العسكري يمتازون بشجاعتهم في الغالب علي ابناء المدن. واذا كان الامام زين العابدين (عليه السلام) او اهل البيت عامة من سكان المدن فان الزهد العظيم الذي يمتازون به قد جعلهم يعيشون _ من حيث شظف العيش وجشوبة الحياة _ كعيش اولئك في الجبال والصحاري. واما عن الوسط الاجتماعي فالمعروف بين علماء الاجتماع اَنه يلعب دوراً مهما في التأثير علي سلوك الاشخاص سلباً او ايجاباً. وكانت الامة الاسلامية آنذاك امة الشجاعة والاقدام. واذا كانت هنالك روافد غزيرة لشجاعتها واقدامها، فانها اكثر توفراً واغزر مادة، بالنسبة لشجاعة اهل البيت بما فيهم الامام زين العابدين (عليه السلام). ولقد اظهر اهل البيت من الشجاعة ما تكبر أن تقاس، بشجاعة احد من الناس، حتي كبار المشهورين بها كعتيبة بن الحارث بن شهاب، وعمرو بن معدي كرب، وبسطام بن قيس، وسليمان بن صرد. وفي شجاعة الرسول اشتهر قول الامام علي (عليه السلام): «كنا اذا اشتد البأس، واحمرت الحدق لذنا برسول الله فما يكون احد منا اقرب الي العدو منه» [159] . وصمم الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) ان يخوض حرب كربلاء بالسيف علي مابه من علة شديدة فمنعه الحسين خشية من انقطاع نسل الرسول الاقدس (صلي الله عليه وآله

وسلم). وعندما سيق سبايا آل الرسول الي الشام حاول يزيد بن معاوية معرفة شجاعة الامام علي بن الحسين (عليهما السلام)، وهل احدث قتل ابيه واهل بيته سلام الله عليهم اجمعين ردّ فعل عنده، وخفض من شجاعته، وان كان ابن الحسين (عليه السلام) فقال له هل لك ان تصارع ولدي خالداً؟ ويبادر ابن الحسين (عليه السلام) للاستجابة بدون تردد بشرط ان يسلحه يزيد ويسلح خالداً سلاحاً مثله. وهنا يصرح يزيد بشجاعة ابن الحسين (عليه السلام) ويعلق بقوله: هيهات، هل تلد الحية الاّ الحية [160] . فما كانت محاولة يزيد غير محاورة، لم يخرجها الي حيز التنفيذ، إذ لا يريد لولده الاّ السلامة ولا يروم ان يوقعه بين فكي ليث هصور ذي قوة عالية، وجرأة ظاهرة. فالامام زين العابدين (عليه السلام) هو ابن الذي قاد الثورة العملاقة في تاريخ الانسانية، والذي جرد سيفه علي رقاب المجرمين ولم يغمده الاّ في صدورهم. لم يكن جبروت يزيد بن معاوية بالذي يمنع الامام زين العابدين (عليه السلام) من مجابهته بالحق، وان يسقيه الزعاف القاتل من الكلمات العنيفة. ونكتفي بسياق اقصوصة واحدة شاهدة علي ذلك. دخل علي يزيد وهو متكئ علي منبر السلطة. يزيد: كيف رأيت يا علي بن الحسين؟ يعني بذلك كيف رأيت الله نصرنا وخذلكم؟ علي بن الحسين: رأيت ما قضاه الله عزوجلّ قبل ان يخلق السماوات والارض. ويكلم يزيد مستشاريه. فيما يصنع بعلي بن الحسين. المستشارون: اقتلهُ. لا تتخذ من كلب سوء جروا. الامام علي بن الحسين (عليه السلام) وهو يخاطب يزيد باسمه لا بالخلافة ليبين عدم شرعيته في الخلافة قائلاً: يا يزيد لقد اشار عليك هؤلاء بخلاف ما اشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسي وهارون،

فانهم قالوا له: اَرجه واَخاه [161] ، وقد اشار عليك هؤلاء بقتلنا ولهذا سبب. يزيد: وما السبب؟ الامام علي بن الحسين (عليهم السلام): ان اولئك كانوا رشدة، وهؤلاء لغير رشد، ولا يقتل الانبياء واولادهم الا اولاد الادعياء.

المحبة في قلوب المؤمنين

اشاره

الحب هو المعبر الحقيقي عن الولاء، والالتزام بالاوامر، كما ان الولاء والالتزام الحقيقيين بالاوامر هو المعبر الحقيقي عن الحب. ان كل ولاء أو التزام لا يُفصح عن الحب، وكل حب لا يفصح عن الولاء والالتزام مظهر زائف، وادعاء كذوب. يحكم القائد العام امة من الناس قلّت او كثرت، فلابد له اذاً من طائفة معينة تكنّ له الحب الصادق، وتمتثل اوامره امتثالاً كاملاً. وهو عن طريق كفاءته الذاتية، وعن طريقهم. يتصدي لقهر المتعصبين من اعدائه في الداخل. وعن طريق مجمل القوة الداخلية يتصدي لقهر اعدائه في الخارج. اذاً فالعلة الكبري، او من العلل الرئيسية علي الاقل، في قدرة القائد العام علي التصدي للمناوئين خارج دائرة حكمه انما هي وجود القوة الداخلية، ولقد علمنا ان قسطاً من القوة الداخلية انما يخضع بواسطة الذين تنطوي قلوبهم علي الحب الصادق; فهم العلة الكبري، او من العلل الرئيسية علي الاقل في طاعة الاخرين من اعداء الداخل. ان هؤلاء المحبين هم القاعدة الشعبية الاولي للقائد العام، والركن الركين في كل تقدم وازدهار يناله البلد، ويخدم العقيدة، وبهم يستتب الامن والاستقرار في المنطقة بشكل مباشر وغير مباشر. واذا ما عرفنا القيمة السياسية وغير السياسية للحب تتجلي امامنا صور توضيحية عن الايات القرآنية والاحاديث الكثيرة التي تؤكد علي الحب، وليس غرضنا التفصيل في ذلك ولكننا سوف نشير إلي شيء منه: من المسلّم به ان مودتهم اجر يتلقاه صاحب الرسالة (صلي الله عليه وآله وسلم) لقاء

تبليغها، وذلك بنص الذكر الحكيم. يقول تعالي: (قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربي ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ان الله غفور شكور) [162] . وقد اخرج الحافظ السلفي عن محمد بن الحنفية صلوات الله عليه أنه قال في تفسير هذه الاية: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا): لا يبقي مؤمن إلاّ وفي قلبه ودّ علي واهل بيته. وصحّ ان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: «احبوا الله لما يغذوكم به من نعمه واحبوني لحب الله عزّوجلّ واحبوا اهل بيتي لحبي». وذكر ابن الجوزي: لهذا في العلل المتناهية وهم. واخرج البيهقي وابو الشيخ والديلمي انه (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: لا يؤمن عبد حتي اكون احب اليه من نفسه، وتكون عترتي احب اليه من نفسه، ويكون اهلي احب اليه من اهله وتكون ذاتي احب اليه من ذاته». واخرج الديلمي انه (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: «ربّوا اولادكم علي ثلاث خصال، حب نبيكم وحب اهل بيته، وعلي قراءة القرآن والحديث». وصح ان العباس رضوان الله عليه شكا الي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ما يلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم، وقطعهم حديثهم عند لقائهم فغضب (صلي الله عليه وآله وسلم) غضباً شديداً حتي احمر وجهه، وعرق ما بين عينيه وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتي يحبكم لله ولرسوله». وفي رواية صحيحة ايضاً: «ما بال اقوام يتحدثون فاذا رأوا الرجل من اهل بيتي قطعوا حديثهم. والله لا يدخل قلب رجل الايمان حتي يحبهم لله ولقرابتهم مني» [163] . وقد روي جابر بن عبدالله الانصاري (رحمه الله) قال: جاء اعرابي الي

النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، اعرض عليَّ الاسلام. فقال (صلي الله عليه وآله وسلم)، تشهد ان لا اله الاّ الله وحده لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله. قال: تسألني عليه اجراً؟ قال (صلي الله عليه وآله وسلم): لا... الا المودّة في القربي. قال: قرباي او اقرباؤك؟ قال (صلي الله عليه وآله وسلم): قرباي. قال الاعرابي: هات ابايعك. فعلي من لا يحبك ويحب قرباك لعنة الله. قال (صلي الله عليه وآله وسلم): آمين.

من علل حب أهل البيت

يحب المسلمون اهل البيت لانهم المثل الاعلي للدين الاسلامي. يحب المسلمون اهل البيت لانهم اشد من يضحي في سبيل المبادئ. يحب المسلمون اهل البيت لانهم حملة ألوية كل علم وسداد وصلاح وخير وانسانية ونقاء. ولقد جُبل الانقياء بشكل خاص علي حب اهل البيت. وانعقدت عليه ضمائرهم. يقول احد المعاصرين: جبلنا علي حب النبيِّ وآله كما الفطرة البيضاء في الطفل تجبلُ [164] ولو واجهتهم الصعاب الشداد علي ان ينفصلوا، عن حبهم لما تحقق الانفصال في اي شكل من الاشكال. ولو قلنا: ان الصعاب الشداد لم توجه اليهم من قبل اعدائهم بل توجهت اليهم من قبل اهل البيت بالذات، اذن لما اختلفت النتيجة، ولكانت القضية في الحالتين قضية واحدة. يقول علي بن ابي طالب (عليه السلام) كما في نهج البلاغة «لو ضربت لو ضربت المؤمن بسيفي هذا علي أن يبغضني ما ابغضني». ان من ادل الادلة علي الحب الصادق الذي يكنه المؤمنون لاهل البيت ذلك الكم الجماهيري الذي خرج مسرعاً علي اِثر اطلاعه علي قدوم الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) وموكبه المقدس من ارض كربلاء الي مدينة الرسول. وها هو علي قرب من المدينة. لقد شرق

المستقبلون بدموعهم، واكتووا بنار الامهم واشجانهم لمظلومية الامام الحسين وآل الحسين. وماهي الا فترة وجيزة حتي رفعوا حرابهم بوجه السلطة معلنين الثورة المسلحة التي تعرف بثورة اهل المدينة. ومن الادلة ايضاً ما كان من تلك المحنة المحزنة الفاجعة، حيث انتقل الامام زين العابدين (عليه السلام) الي الرفيق الاعلي، وخبت جذوة العشق الالهي. لقد هب المجتمع المدني لتشييع الجثمان الطاهر. لم يشغلهم شاغل، ولم يروا لاحد تخلي عن تعظيم هذا الشعار المقدس، تشييع الامام علي زين العابدين (عليه السلام) من عذر. ولما خرج كل من في المسجد للتشييع ولم يبق فيه الا سعيد بن المسيب يصلي، حينئذ كان سعيد موضعاً للدهشة والاستغراب من جراء التصرف المذكور، وهو انشغاله بصلاة مستحبة يستطيع الاتيان بها في وقت آخر عن تعظيم شعيرة من شعائر الله. حتي قال علي بن زيد التيمي: قلت لسعيد بن المسيب: انك اخبرتني ان الامام علي بن الحسين (عليهم السلام) النفس الزكية وانك لا تعرف له نظيراً. قال: كذلك، وما هو مجهول ما اقول فيه، والله ما رؤي مثله. قال علي بن زيد: فقلت: ان هذه الحجة الوكيدة عليك يا سعيد فلم لم تصلِّ علي جنازته [165] . ومن الادلة علي التعلق الشديد والحب الصادق ما كان من قصة الامواج البشرية التي ترتاد البيت العتيق، والتي ما ان رأت الامام زين العابدين (عليه السلام) يهمّ ان يشقّ طريقه حتي انفرجت له وافترقت. (فكان كل فرق كالطود العظيم) [166] . بينا كان هشام بن عبد الملك محتفظاً بموطئ قدم له، منتظراً ان يخف الزحام ليؤدي مناسك الحج. واذا كانت القصة الاولي والثانية «استقبال الامام زين العابدين (عليه السلام) وموكبه، وتشييع جثمانه» للتدليل علي الولاء الاكيد، والحب

العميق قد وقعتا ضمن اطار المجتمع المدني فان القصة التي وقعت في موسم الحج اوسع من كليهما بكثير، اذ تتقاطر الوفود الي البيت العتيق من مختلف بقاع العالم الاسلامي ويأتون (رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق) [167] .

الامامة صرح السياسة

بين يدي البحث

لقد وردت نصوص روائية وتاريخية كثيرة جداً عن الامام علي زين العابدين (عليه السلام) فيما يتعلق بالامامة والائمة. وهذه النصوص واضحة بينة من حيث المتون، واما من حيث السند فان بعضها معتدّ به ومعتبر سنداً. ان الحصيلة التي يخرج منها الباحث هي ان الامام زين العابدين (عليه السلام) لم يترك الحديث عن الامامة، أو تحديد الموقف الشرعي منها، أو يدعها سديً. بل قد شرح فكرته حولها، واعرب عن النصوص التي تلقاها عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والامام علي بن ابي طالب والصديقة فاطمة الزهراء والامامين الهمامين الحسن والحسين (عليهم السلام). ان قضية الافصاح عن الامامة والائمة من مثل الامام زين العابدين امر يتّسق والمنطق، ويتناغم والفكر الرسالي الذي يحمله الامام (عليه السلام)، اذ ان مسألة الامامة مسألة بالغة الاهمية، وخطيرة جداً، فليس المتوقع من مثله وهو الاب الروحي، والقائد الرسالي، والحريص علي المصلحة العامة للمسلمين ان لا يتعرض لها، ويشخص معالمها. ولما كانت الامامة الكبري [168] اعلي المناصب السياسية في الاسلام بعد النبوة، إذاً لابدّ ان يعدّ الحديث عنها حديثاً عن الفكر السياسي في الاسلام، والتعرف عليها تعرفاً علي جوهر متميز من جواهر فلسفة الادارة والحكم. ومن هذا المنطلق تكلمنا _ بشكل وجيز _ قبل الدخول الي صميم البحث عن الامامة في اللغة، والامامة في القرآن الكريم، والامامة في الاصطلاح السياسي.

الامامة في اللغة

الامام ما ائتم به من رئيس وغيره، والجمع أئمة، وفي التنزيل العزيز (فقاتلوا أئمة الكفر)، أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم. قال ابن سيدة: (وجعلناهم أيمة يدعون الي النار) أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة... الجوهري: الامام: الذي يقتدي به وجمعه أيمة. وامام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن

امام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) امام الائمة والخليفة امام الرعية، وامام الجند قائدهم. وهذا ايمّ من هذا، وأومّ من هذا اي احسن امامة منه، واممت القوم في الصلاة امامة. وائتمّ به اي اقتدي به، والامام المثال. قال النابغة: أَبوه قبله وابو أبيه بنوا مجد الحياةِ علي إمامِ ... والامام الخيط الذي يمدّ علي البناء فيبني عليه، ويسوي عليه ساف البناء وهو من ذلك قال: وخلّقته حتي إذا تمّ واستوي كمخّة ساق أو كمتن إمام اي كهذا الخيط الممدود علي البناء في الامّلاس والاستواء يصف سهما... وفي الصحاح الامام خشبة البنّاء يسوي عليها البناء. وامام القبلة تلقاؤها، والحادي امام الابل وان كان وراءها لانه الهادي لها. والامام الطريق [169] .

الامام في القرآن الكريم

يختلف استعمال القرآن الكريم للفظ الامام بين مورد وآخر كما في الايات الاتية، فتارة يستعمله بالمعني اللغوي، وتارة يستعمله بالمعني السياسي. فمثال المعني اللغوي قوله تعالي: (ومن قبله كتاب موسي اماماً ورحمة) [170] ، أي قدوة ومثال ينبغي ان يحتذي. ومن المعني اللغوي قوله تعالي: (وان كان اصحاب الايكة لظالمين - فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) [171] ، أي بطريق واضح. وقال تبارك وتعالي: (وكل شيء احصيناه في امام مبين) [172] ، والمقصود به اللوح المحفوظ. ومثال المعني السياسي قوله تعالي: (ونريد ان نمنَّ علي الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين - ونمكّن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [173] ودلالة المعني السياسي في الاية واضحة لا سيّما مع قرينة (ونجعلهم الوارثين) أي يرثون الارض، ومع قرينة، (ونمكن لهم في الارض) وقرينة اراءة فرعون وهامان وجنودهما ما يحذرون منهم فانما يتمّ ذلك

مع وجود امامة سياسية وقيادة قويّة متمكنة جديرة. وكذا قوله تعالي: (فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) [174] ، أي قادة الكفر وزعماء الضلالة والانحراف. ومن المعني السياسي قوله تعالي: (وجعلنا منهم أئمةً يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [175] .

الامامة في الاصطلاح السياسي

الامامة في الاصطلاح السياسي تعني القيادة الاسلامية أو الخلافة، والفارق ما بين الامامة في اللغة كما مرَّ وبين الامامة في الاصطلاح السياسي انها في اللغة اكثر احاطة واوسع دائرة منها في الاصطلاح، والتمييز ما بينهما ليس مستصعباً لدي القارئ الكريم. وسوف نسوق عدداً من الامثلة الروائية والتاريخية والادبية شواهد علي المقصود، والحكمة من كل ذلك ان نحدد معني الامامة في نصوص الامام زين العابدين وكلماته علي ضوء المصطلح السياسي والعرفي والخطابي عند المسلمين علي مختلف مواردهم ومصادرهم ومشاربهم. أولاً: عقد البخاري في صحيحه باباً بعنوان (بطانة الامام واهل مشورته). ومما جاء فيه «... عن ابي سعيد الخدري عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): ما بعث الله من نبيّواستخلف من خليفة إلاّ كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالي» [176] . ثانياً: كما عقد البخاري باباً بعنوان (كيف يبايع الامام الناس) [177] ، والمراد من الامام الخليفة لانه الذي يبايع. ثالثاً: روي مسلم في كتاب الامارة من صحيحه عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): من بايع اماما، فاعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ان استطاع، فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاخر. رابعاً: روي الحاكم بسنده عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): «الائمة من قريش ابرارها امراء ابرارها، وفجارها

امراء فجّارها. وان امّرتُ عليكم عبداً حبشيا مجدّعاً فاسمعوا له واطيعوا» [178] . فالتعبير بكلمة امراء وكذلك امرت اضافة الي الامر بالسمع والطاعة كل ذلك يلقي الضوء الاخضر، بل يصرح بالمعني السياسي من كلمة (الائمة) لا سيما مع تكرار التعبير بالامراء. خامساً: قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) معلقاً علي بعض اخبار السقيفة ابان وقوعها: ما قالت الانصار؟ قالوا: قالت: منا امير ومنكم امير، فقال: فهلا احتججتم عليهم بان رسول الله وصّي بان يحسن الي محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم. قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال (عليه السلام): لو كانت الامامة فيهم، لم تكن الوصية بهم. والامامة في كلامه (عليه السلام) تعني بالضرورة الامامة السياسية بقرينة احداث السقيفة، وكذا قول الانصار: منا امير ومنكم امير. سادساً: لما قتل عثمان اجتمع اصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والانصار، فيهم طلحة والزبير، فاتوا علياً فقالوا له: انه لابدّ للناس من إمام. قال: لا حاجة لي في امركم فمن اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك: إنّا لا نعلم احداً احق به منك، لا اقدم سابقة، ولا اقرب قرابة من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فقال: لا تفعلوا فاني اكون وزيراً خيراً من أَن اكون اميرا، فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتي نبايعك. قال: ففي المسجد فان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلاّ في المسجد [179] . سابعاً: قال عمار بن ياسر (رضي الله عنه) حول بيعة الامام علي (عليه السلام) ابياتاً مطلعها: قال سعد لذي الامام وسعد في الذي قاله حقيقٌ ظلوم [180] . وثم شواهد وادلة في المقام

كثيرة جداً لو اردنا ايرادها جميعا روايةً وتاريخاً وادباً لاحتجنا الي تأليف مجلد كامل حول ذلك. ومن هنا يُعلم ان مصطلح الامامة يرادف مصطلح الخلافة. نعم تسمي الشيعة أئمتها الاثني عشر أئمةً، وإن لم يكونوا بالفعل، وبحسب الواقع الخارجي، قد نالوا الخلافة بسبب جملة من الملابسات السياسية; وذلك لانها تري انهم (عليهم السلام) منصوص عليهم بالخلافة وانهم اولي من غيرهم بهذا المنصب الالهي والسياسي الخطير. وممن يؤكد علي الوحدة الاتساقية أو التماثل المعنوي بين الامامة والخلافة العلامة ابن خلدون إذ يقول: وإذ قد بينّا حقيقة هذا المنصب، وانه نيابة عن صاحب الشريعة، في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمي خلافة أو امامة، والقائم به خليفة أو امام. ويذهب الماوردي الي نفس الرأي حين يعرف الامامة بانها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. ويتابعه رشيد رضا فيقول في كتابه الخلافة أو الامامة العظمي: الخلافة والامامة العظمي وامارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد. ويفسر الشيخ ابو زهرة الترادف بين اللفظين بقوله: ان المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة، وهي الامامة الكبري; وسمّيت خلافة لان الذي يتولاها، ويكون الحاكم الاعظم للمسلمين، يخلف النبيَّ في ادارة شؤونهم، وتسمّي الامامة لان الخليفة كان يسمي اماماً، ولان طاعته واجبة، ولان الناس كانوا يسيرون وراءه، كما يصلون وراء من يؤمهم في الصلاة [181] .

المكونات الاسلامية العامة للاصطلاح السياسي

عرفنا ما هو المقصود من كلمة الامام والامامة حسب الاصطلاح السياسي المتداول بين المسلمين، وأن لفظ الخلافة ولفظ الامامة مترادفان، ومن نسيج واحد. ولكن هل أن المكونات الحقيقية لهذا الترادف مكونات شيعية فحسب، أي ان الايدي التي حاكتها ايدي فرقة الشيعة، ام انها اسلامية عامة لا علاقة لها بطائفة دون اخري؟ يقول احد الاعلام المعاصرين: يبدو

ان للشيعة يداً إذ يعتبر التشيع اهمّ انشقاق في التنظيم السياسي للدولة الاسلامية، فلقد كانوا يمثّلون اقوي احزاب المعارضه للحكومة القائمة، ليس فقط لكثرة عددهم إذا قورنوا بالخوارج وانما لاستناد التشيع الي اساس عقائدي أو ايديولوجي في الكلام. وتنشأ النظريات السياسية عادة من احزاب المعارضة، التي لا تكتفي بموقف سلبي من الحكم القائم وانما تقدّم نظرية متسقة في اصول الحكم، وتقع تبعة ذلك في الاسلام علي عاتق الشيعة. يقول ابن النديم: ان اول من تكلم في مذاهب الامامة، والّف في ذلك علي بن اسماعيل بن ميثم التمار، وله من الكتب كتاب الامامة وكتاب الاستحقاق. ويقول عن هشام بن الحكم: هو الذي فتق الكلام في الامامة وهذّب المذهب وسهّل طريق الحجاج فيه [182] .

علي دفة الحوار

ولنا حوار مع الاستاذ الكاتب ينصب علي هذه الجهات: الجهة الاولي: اعتقد انه من غير الصحيح أو الدقيق ان يُعبّر عن معارضة الشيعة للحكم القائم مثل الحكم الاموي أو العباسي انشقاقا، لان المفهوم السياسي للانشقاق في التنظيم السياسي للدولة ان تنشق جماعة كانت تعد جزءاً من الدولة، وعضواً من اعضائها عنها. ومثال ذلك انشقاق الضحاك بن قيس الفهري صاحب وقعة مرج راهط سنة خمس وستين عن الدولة الاموية، ومثل انشقاق يزيد بن المهلب بن ابي صفرة عنها أيضاً سنة احدي ومئة واثنتين ومئة وهكذا. وكان هذان الرجلان يعدّان منها في الصميم بل من كبار قادتها وعظمائها. اما الشيعة فان التاريخ السياسي يؤكد _ وبشكل صريح وواضح _ انها لا تؤمن بالحكم القائم سواء الاموي أو العباسي، ولا تضفي عليه الشرعية ولا تعتبره اسلامياً ومن ثم فهي ليست جزءاً من التنظيم السياسي للدولة. الجهة الثانية: لقد تأثر المسلمون عامة من الشيعة ومن

غيرهم بالقرآن الكريم، واخذت مداليله السياسية والفكرية وحتي تعابيره تشيع فيما بينهم علي اصعدة متفاوتة. ومن هنا نريد ان نقول: ان مادة الامامة والخلافة في مدلولهما السياسي وباللفظ المذكور _ وبغض النظر عن المداليل الاخري _ قد وردا عدة مرات، وقد اشرنا الي قسم منها. ومن ذلك قوله تعالي: (يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق)، وقوله تعالي: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض). وهكذا ما ورد عن الرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) من الروايات التي تتضمن كلمة خليفة أو امام. إذاً أصل التأثر وأصل التكوين للّفظتين قرآنيّ ونبوي، والقرآن الكريم ونبوة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) للمسلمين جميعاً. لا فرق فيهما بين طائفة وطائفة. الجهة الثالثة: يري المؤلف الفاضل ان النظريات السياسية للشيعة قد نشأت من معارضتهم للحكم القائم، اي انها مجرد انعكاس للواقع السياسي أو ردّ فعل له. وهذا امر غريب، وبعيد عن الموضوعية; وذلك لان قوي المعارضة الشيعية _ حسب وثائق التاريخ السياسي _ انما تبلورت وانتظمت وانبثقت بسبب افكار الشيعة ونظريتهم حول الحكم والحاكمين. ففي عقيدتهم ان الحكم الذي لا يستند الي الاصول الاسلامية في العدالة، واصلاح البلاد، ورعاية الامة... الخ وان الحاكمين الذين لا يتوفرون علي الشرائط الموضوعية في الاهليه القيادية تجوز أو تجب معارضتهم ورفع السلاح بوجه الحكم والحاكمين بهذه الصورة. ولو رجعنا الي تاريخ اوائل اعلام الشيعة امثال عمار بن ياسر وقيس بن سعد وحجر بن عدي الكندي وسليمان بن صرد ورفاعة بن شداد البجلي والمسيب بن نجبة الفزاري وعبدالله بن عوف الاحمر وحبيب بن مظاهر وغيرهم لوجدنا مواقفهم المعارضة للحكم القائم انما تنبثق وتنطلق من آرائهم

حول الحكم والحاكم وليس العكس، وذلك قبل ان يخلق الله تعالي علي بن اسماعيل أو هشام بن الحكم. ولقد دقّ الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) اسفين الثورة، وقاد المعارضة الارجوانية معللاً الثورة والمعارضة بقوله: «ألا ترون الي الحق لا يعمل به والي الباطل لا يتناهي عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لا أري الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما».

رائد الامامة

ولنبدأ الحديث حول رؤية الامام زين العابدين (عليه السلام) للامامة، بما ينقل لنا عن امامة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) باعتباره اول الائمة وسيدهم وامامهم. أولاً: روي الموفق بن احمد المكي الخوارزمي باسناده عن الامام زين العابدين عن ابيه الحسين بن علي عن ابيه علي بن ابي طالب (عليهم السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: «يا علي انت سيد المسلمين، وامام المتقين وقائد الغرّ المحجلين، ويعسوب الدين» [183] . اقول: أخرج هذا الحديث كثير منهم الاعلام من الحاكم في المستدرك ج3 ص137، وعلي ابن المغازلي الشافعي في المناقب ص65، وابن الاثير الجزري في اسد الغابة ج1 ص69. ثانياً: وروي الموفق أيضاً باسناده عن الامام زين العابدين (عليه السلام) عن ابيه قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): نزل عليّ جبرئيل (عليه السلام) صبيحة يوم فرحاً مستبشراً فقلت: حبيبي مالي اراك فرحاً مستبشراً؟ فقال: يا محمد وكيف لا اكون كذلك وقد قرّت عيني بما اكرم الله به اخاك ووصيك وامام امتك علي بن ابي طالب (عليه السلام)...». ثالثاً: روي الامام زين العابدين (عليه السلام) عن ابيه الامام الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): لما اسري

بي الي السماء عهد اليّ ربي جل جلاله في عليّ ثلاث كلمات فقال: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك، فقال عزّوجلّ: ان علياً امام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين، ويعسوب المؤمنين. فبشره يا محمد بذلك...». رابعاً: روي الامام زين العابدين (عليه السلام) عن ابيه الامام الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): ان علي بن ابي طالب خليفة الله وخليفتي، وحجة الله وحجتي، وبابُ الله وبابي، وصفي الله وصفيي، وحبيب الله وحبيبي، وخليل الله وخليلي وسيف الله وسيفي...». خامساً: روي الامام زين العابدين (عليه السلام) عن ابيه الامام الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): لما اُسري بي الي السماء، ثم من السماء الي السماء، ثم الي سدرة المنتهي اُوقفت بين يدي ربي عزّوجلّ، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك. قال: قد بلوتَ خلقي فايهم وجدت اطوع لك؟ قال: فقلت: ربي علياً. قال: صدقت يا محمد، فهل اتخذت لنفسك خليفه يؤدي عنك، ويعلّم عبادي من كتابي ما لا يعلمون؟ قال: قلت: اختر لي فان خيرتك خير لي. قال: قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفة ووصيّا...». سادساً: قال الامام زين العابدين (عليه السلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): فضّلت علي الخلق اجمعين، وشرّفت علي النبيين، واختصصت بالقرآن العظيم، واكرمت بعلي سيد الوصيين». هذا وفي البحث التالي حول امامة أهل البيت عموماً سوف يأتي ذكر امامة علي (عليه السلام) في جملة من النصوص.

امامة أهل البيت

ولنأخذ الان امامة أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وهم اثنا عشر اماما. اولهم الامام علي بن ابي طالب وآخرهم القائم محمد المهدي صلوات الله عليهم. وما يقوله الامام

زين العابدين (عليه السلام) في هذا الصدد هو مما يعبر عن نظرية الشيعة الاثني عشرية جميعاً وهم اكثر فرق الشيعة انتشارا [184] وهذا غيض من فيض مما ورد عن سيدنا الامام زين العابدين (عليه السلام). أولاً: العلامة الثقة سليمان الاعمش بسنده عن الامام زين العابدين عن ابيه عن الامام علي بن ابي طالب (عليهم السلام) قال: «حدثني النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: اتاني جبريل (عليه السلام) وقال: تختموا بالعقيق فانه اول حجر شهد لله بالوحدانية، ولي بالنبوة، ولعليّ بالوصية، ولولده بالامامة ولشيعته بالجنة» [185] . ثانياً: الراوية والمفسر الثقة ثابت بن دينار «ابو حمزة الثمالي» عن الامام زين العابدين عن ابيه عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): الائمة بعدي اثنا عشر. اولهم انت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله عزّوجلّ علي يديه مشارق الارض ومغاربها» [186] . ثالثاً: الامام زين العابدين عن ابيه الحسين (عليهما السلام) قال: «دخلت أنا واخي علي جدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فاجلسني علي فخذه الايسر، واجلس اخي الحسن علي فخذه الايمن ثم قبلنا وقال: بأبي انتما من امامين سبطين، اختاركما الله مني ومن ابيكما ومن امّكما، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم» [187] . رابعاً: الامام زين العابدين عن ابيه الحسين عن اخيه الحسن (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): الائمة بعدي بعدد نقباء بني اسرائيل، وحواريّ عيسي، من احبهم فهو مؤمن، ومن ابغضهم فهو منافق... هم حجج الله في خلقه، واعلامه في بريته» [188] . خامساً: الامام محمد الباقر عن آبائه عن علي

(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي انت اخي ووزيري ووصيي وخليفتي في اهلي وامتي في حياتي، وبعد مماتي، محبك محبّي، ومبغضك مبغضي. يا علي انا وانت ابوا هذه الامة.. يا علي انا وانت والائمة من ولدك سادات في الدنيا، وملوك في الاخرة» [189] . سادساً: روي الامام زين العابدين عن ابيه الحسين عن ابيه (عليهم السلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي انت والائمة من ولدك بعدي حجج الله عزّوجلّ علي خلقه، واعلامه في بريته. من انكر واحداً منكم فقد انكرني، ومن عصي واحداً منكم فقد عصاني، ومن جفا واحداً منكم فقد جفاني، ومن وصلكم فقد وصلني، ومن اطاعكم فقد اطاعني، ومن والاكم فقد والاني، ومن عاداكم فقد عاداني، لانكم مني خلقتم من طينتي وانا منكم» [190] . سابعاً: الامام زين العابدين عن ابيه الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: «كان رسول الله يقول فيما بشرني به: يا حسين انت السيد ابن السيد ابو السادة. تسعة من ولدك أئمة ابرار والتاسع قائمهم... انت الامام ابن الامام ابو الائمة تسعة من صلبك أئمة ابرار، والتاسع مهديهم يملا الدنيا قسطاً وعدلاً، يقوم في آخر الزمان كما قمت في اوّله» [191] . ثامناً: ابو خالد الكابلي عن الامام زين العابدين عن ابيه الحسين سلام الله عليهما قال: «دخلت علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وهو متفكر مغموم، فقلت: يا رسول الله مالي اراك متفكراً؟ فقال: يا بنيّ ان الروح الامين قد اتاني فقال: يا رسول الله، العليّ الاعلي يقرئك السلام ويقول لك إنك قد قضيت نبوتك، واستكملت ايامك، فاجعل الاسم الاكبر، وميراث العلم،

وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب، فاني لا اترك الارض إلاّ وفيها عالم، تعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي، فاني لم اقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك، كما لم اقطعها من ذريات الانبياء الذين كانوا بينك وبين ابيك آدم. قلت: يا رسول الله فمن يملك هذا الامر بعدك؟ قال: ابوك علي بن ابي طالب اخي وخليفتي، ويملك بعد علي الحسن، ثم تملكه انت وتسعة من صلبك، يملكه اثنا عشر إماماً، ثم يقوم قائمنا يملا الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يشفي صدور قوم مؤمنين من شيعته» [192] . تاسعاً: الامام زين العابدين عن عمته زينب بنت علي [193] عن فاطمة (عليها السلام) قالت: «دخل الي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عند ولادة ابني الحسين، فناولته اياه في خرقة صفراء، فرمي بها واخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها ثم قال: خذيه يا فاطمة فانه الامام وابو الائمة. تسعة من صلبه ائمة ابرار والتاسع قائمهم» [194] . عاشراً: روي عن الامام زين العابدين (عليه السلام) انه قال: «قال الحسن بن علي (عليه السلام): الائمة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عدد نقباء بني اسرائيل، ومنا مهديّ هذه الامة» [195] . الحادي عشر: الامام زين العابدين (عليه السلام) عن الحسين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): فاطمة بهجة قلبي.... وابناها ثمرة فؤادي... وبعلها نور بصري... والائمة من ولدها امناء ربّي وحبله الممدود بينه وبين خلقه... من اعتصم بهم نجا، ومن تخلّف عنهم هوي» [196] . الثاني عشر: الامام زين العابدين (عليه السلام) عن ابيه الحسين عن ابيه علي (عليهما السلام): قال: «قال رسول الله (صلي الله

عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه» [197] . الثالث عشر: الامام زين العابدين عن ابيه عن علي بن ابي طالب (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذل من خذله وانصر من نصره» [198] . قال المؤلف: إن حديث «من كنت مولاه» حديث متواتر عند المسلمين تواتراً معنوياً وهو ما قاله رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في يوم غدير خم. ولقد تعجب ابو جعفر الطبري من كثرة طرق الحديث والف في ذلك كتاب الولاية وقد ذكر فيه سبعين طريقاً. ولقد نقل الفقيه علي بن محمد الشافعي (ابن المغازلي) عن ابي القاسم الفضل بن محمد ما قاله حول حديث الغدير: هذا حديث صحيح عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، وقد روي حديث غدير خم عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) نحو من مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا اعرف له علة، تفرد علي (عليه السلام) بهذه الفضيلة ليس يشركه فيها احد [199] . ولقد الّف في حديث الغدير عدد من أعلام المحدثين والعلماء منهم اضافة الي العلامة الطبري، الحافظ الكبير والامام المتقن احمد بن محمد بن سعيد (ابن عقدة) وعلي بن هلال المهلبي ومسعود الشجري. وفي العصر الحديث الّف عدد من الباحثين حول هذا الامر وعلي رأسهم الامام عبد الحسين الاميني النجفي، وكتابه الغدير جامع بديع ويقع في (11) مجلداً، وقد نقل واقعة الغدير فيه عن (110) من الصحابة، وحشد هائل من التابعين والعلماء الاعلام والشعراء والادباء. وهنالك خلاف حول المقصود من حديث

من كنت مولاه. فقد ذهبت الامامية كلها وجماعة كبيرة من غيرهم الي ان المقصود بذلك تنصيب الامام علي (عليه السلام) خليفة علي المسلمين، واستدلوا علي ذلك بادلة كثيرة لا مجال للتعرض لها، وذهب الاخرون الي ان الحديث يدلّ علي فضيلة كبيرة للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) ولكنه ليس تعييناً للخلافة. ولقد روي عن الامام زين العابدين (عليه السلام) ما يلتقي والرأي الاول. الرابع عشر: عن شريك عن ابي اسحاق (السَّبيعي) قال: «قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) ما معني قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه. قال: اخبرهم بانه الامام بعده» [200] . قال المؤلف: ومما يعضد هذه الرواية ويتسق معها في معني حديث واقعة غدير خم عند الامام زين العابدين ما رواه (عليه السلام) عن الامام الحسن بن علي سلام الله عليهما من خطبة له بمحضر الناس ومعاوية وذكر فيها فضل ابيه وسوابقه وما قاله فيه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من النص. ومما جاء فيها: «وقد تركت بنو اسرائيل _ وكانوا اصحاب موسي _ هارون اخاه وخليفته ووزيره، وعكفوا علي العجل، واطاعوا فيه سامريهم، وهم يعلمون انه خليفة موسي وقد سمعت هذه الامة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك لابي (عليه السلام): انه مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ انه لا نبي بعدي، وقد رأوا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حين نصبه لهم بغدير خم وسمعوه ونادي له بالولاية ثم امرهم ان يبلغ الشاهد منهم الغائب» [201] . الخامس عشر: الامام زين العابدين عن ابيه الحسين بن علي عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب قال: «دخلتُ علي رسول

الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في مسجد قبا ومعه نفر من اصحابه...» الي ان قال نقلاً عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): «معاشر اصحابي ان علياً مني وانا من علي، روحه من روحي وطينته من طينتي وهو اخي... ووصيي... وخليفتي علي امتي في حياتي وبعد موتي... من اطاعه اطاعني... ومن وافقه وافقني... ومن خالفه خالفني» [202] . قال الامام زين العابدين (عليه السلام): «بلغ ام سلمة زوجة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ان مولي لها ينتقص علياً و يتناوله فارسلت اليه فلما ان صار اليها قالت: يا بنيّ بلغني انك تنتقص علياً وتتناوله. قال: نعم يا امّاه. قالت: اقعد ثكلتك امّك حتي احدثك بحديث سمعته من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم اختر لنفسك ما شئت...» الي ان قالت نقلاً عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) انه قال لها: «يا امَّ سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن ابي طالب وزيري في الدنيا ووزيري في الاخرة. يا امَّ سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن ابي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي والذائد عن حوضي. يا امَّ سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن ابي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي والذائد عن حوضي. يا امَّ سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن ابي طالب سيّد المسلمين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجّلين...» [203] . روي الشيخ الطوسي في اماليه باسناده عن الامام زين العابدين (عليه السلام) انه قال: «قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) علي منبر الكوفة: ايها الناس انه كان لي من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عشر خصال، لهنّ احبّ الي مما

طلعت عليه الشمس. قال لي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي انت اخي في الدنيا والاخرة، وانت اقرب الخلائق الي يوم القيامة في الموقف بين يدي الجبار...» الي أن قال: «وانت الامام لامتي، وانت القائم بالقسط في رعيتي، وانت وليّي ووليي ولي الله، وعدوك عدوي وعدوّي عدو الله». السادس عشر: قال الموفق الخوارزمي المكي: اخبرنا الاجل اخي شمس الائمه ابو الفرج محمد بن احمد المكي... ثم ساق الاسناد الي علي بن الحسين سيد العابدين عن ابيه الحسين بن علي الشهيد قال: «سمعت جدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: من احب ان يحيا حياتي ويموت مماتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي، فليتول علي بن ابي طالب، وذريته أئمة الهدي ومصابيح الدجي من بعده، فانهم لن يخرجوكم من باب الهدي الي باب الضلالة» [204] . السابع عشر: حدَّث الامام زين العابدين عن ابيه الحسين (عليه السلام) عن علي صلوات الله عليهم قال: «قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض» [205] . اقول: والخبر التالي يفسّر معني عترتي اهل بيتي تفسيراً واضحاً لالبس فيه، ولا غبار عليه. الثامن عشر: حدث الامام علي بن الحسين زين العابدين عن ابيه الحسين (عليهما السلام) قال: «سئل امير المؤمنين صلوات الله عليه عن معني قول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): اني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي. من العترة؟ فقال: انا والحسن والحسين والائمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديّهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم، حتي يردوا علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حوضه» [206]

.

بين الوراثة الروحية والوراثة الدموية

ظن عدد من الكتاب والمفكرين من غير الشيعة ان مستند النظرية السياسية للشيعة في تعيين اثني عشر اماماً انما يرجع لكون الائمة تربطهم بالرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وشائج القربي وشجن النسب، ولولا ذلك لم يكن لهم مدعي في الامامة، ولا سبب الي الخلافة. ولذا يقول احد هؤلاء وهو الدكتور محمد علي ريان في كتابه تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام: نجد الشيعة من ناحية أخري يتمسكون بامامة آل البيت ابتداء من علي بمقتضي الوراثة الدموية للرسول [207] . بينما نجد إذا قرأنا قراءة فاحصة للنظرية السياسية الشيعية ان المستند في تعيين الائمة انما هو النصوص الشرعية الواردة في حقهم فحسب. سواء منها المذكورة في طرقهم أو المذكورة في طرق الاخرين كما قد رأينا في النصوص السابقة وكذا في النصوص اللاحقة، التي لا تمثّل إلاّ النزر اليسير من النصوص التي يعلنونها، ويدعمون بها نظريتهم. ان النصوص في النظرية المذكورة تعني في الدرجة الاولي الخط المتقدم من اساسيات الاحقية بالقيادة الاسلامية العامة. وهذا يعني ان القربي ليست الملاك في الاحقية بالامامة أو الخلافة. إن القرابة من الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فضيلة من فضائل الائمة (عليهم السلام) وكرامة لهم. ولو افترضنا ان لا صلة نسبية قريبة مؤكدة بين الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وبين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فانهم مع هذا اصحاب الخلافة باعتبارهم اصحاب النص. واما جميع الفضائل الاخري فهي لدعم النصوص، وتعميق الاهلية القيادية العامة.

المعتدلون والغلاة

بيد ان النصوص التي يذكرها الشيعة حول الامامة والائمة (عليهم السلام) ليست كلها من نصوص المعتدلين والموضوعيين فيهم، بل قد اضيفت اليها، والصقت بها، نصوص موضوعة سطرها الغلاة وذهبوا بها كل مذهب. لقد نسجت

حركة الغلاة روايات كثيرة حول الامامة والائمة، يمكن تمييزها من وجود بعضهم في اسانيد الروايات ويمكن تمييزها من فهم المتون الروائية، وكذلك من خلال المذاق العام لهم، وتصوراتهم المتطرفة حول الامامة والامام. هذا ولم يقف خطرهم عند سياج تحريف احاديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام)، وانما تجاوزها الي حيث الزعم الفاضح، والادعاء الشائن بالقول بتحريف القرآن الكريم، وان في آياته المباركة آيات قد حرّفت الفاظها وفيها النص علي الامام علي والائمة (عليهم السلام). ومن منهجنا ان نردَّ كل حديث أو خبر مخالف لكتاب الله عزّوجلّ، وان نضرب به عرض الجدار. ومن منهجنا ان نردّ كل حديث أو خبر صريح في تحريف القرآن الكريم. ان القرآن الكريم الذي تداولته الاجيال الي عصرنا الحالي هو نفسه ذلك الذي انزله الله تعالي علي نبينا محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) بلا زيادة ولا نقصان، ومسألة تقديم بعض السور، وتأخير بعض آخر، مسألة اخري ليس لها أي مساس في التحريف. وما كلّ حديث أو خبر أو تقرير ينسب إلي الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) قد صدر عنهم فعلاً، ولذا قام علماء الرجال وائمة الحديث بتمييز المعتبر من غير المعتبر، والغث من السمين، والله الموفق الي سواء السبيل. فعلي كل موحّد في الدين، مؤمن بالله ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلم) ان لا يغتر بهم، وبكلماتهم المعسولة، وأن لا يقع في شباكهم، ولقد تبرأ ائمه أهل البيت (عليهم السلام) منهم، ولعنوهم، وقعدوا لهم كل مرصد. ولقد جاءت الرواية عن الامام الهادي (عليه السلام): «فاهجروهم لعنهم الله وألجئوهم الي ضيق الطريق، فان وجدت من احد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر» [208]

. قال سعد: حدثني العبيدي قال: كتب اليَّ العسكري ابتداءاً منه: «ابرأ الي الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي فابرأ منهما، فاني محذرك وجميع موالي، وإني العنهما عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتانين مؤذين آذاهما الله واركسهما في الفتنة ركسا. يزعم ابن بابا اني بعثته نبيا وانه باب عليه لعنة الله. سخر منه الشيطان فاغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك. يا محمد ان قدرت ان تشدخ راسه بالحجر فافعل، فانه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والاخرة» [209] . وروي الحسين بن خالد الصيرفي عن الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) قال: «لعن الله الغلاة، ألا كانوا يهوداً، الا كانوا مجوساً، الا كانوا نصاري، الا كانوا قدرية، الا كانوا مرجئة، الا كانوا حرورية. ثم قال: لا تقاعدوهم، ولا تصادقوهم، وابرأوا منهم برئ الله منهم» [210] . وفي كتاب سيرة الائمة الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني فصل طريف بعنوان الامام الصادق والغلاة ج2 ص258 _ 269 فراجعه في سبيل الانتفاع.

خطوة علي طريق التعزيز

لقد تقدم الامام زين العابدين صلوات الله عليه خطوة نوعية علي طريق تعزيز الموقف، وتعميق المضمون الفكري والسياسي عند اتباعه ومريديه. فمن منطلق المسؤولية الرسالية، والمهمة القيادية قد اتخذ اسلوباً آخر حول الامامة، فانه اضافة إلي اسلوب ايراد النصوص التي رواها عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والامام علي بن ابي طالب والصديقة الزهراء والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام، قد اعرب عن موقفه هو من الامامة وتحديد هوية الائمة. ولنقتصر علي النزر القليل، مما ورد عنه في هذا السبيل: اولاً: روي الحافظ الجويني باسناده عن سليمان بن مهران الاعمش، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه

السلام)، عن ابيه محمد بن علي (عليه السلام)، عن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قال: «نحن ائمة المسلمين، وحجج الله علي العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن امان أهل الارض كما ان النجوم امان لاهل السماء. (إلي ان قال): ولم تخلُ الارض من حجة لله فيها ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو الارض إلي ان تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان: فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» [211] . ثانياً: عن ابي خالد الكابلي رضوان الله عليه وكان من المختصين بالامام زين العابدين (عليه السلام) قال: «دخلت علي علي بن الحسين (عليه السلام) وهو جالس في محرابه فجلست حتي انثني واقبل علي بوجهه، يمسحُ علي لحيته. فقلت: يا مولاي اخبرني كم يكون الائمة بعدك؟ قال (عليه السلام): ثمانية. قلت: وكيف ذاك؟ قال (عليه السلام): لان الائمة بعد رسول الله اثنا عشر إماماً، عدد الاسباط، ثلاثة من الماضين، وانا الرابع، وثمانية من ولدي أئمة ابرار» [212] . ثالثاً: عن زيد الشهيد بن الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) قال: «بينا أبي مع بعض اصحابه إذ قام إليه رجل فقال: يابن رسول الله هل عهد اليكم نبيكم كم يكون بعده أئمة؟ قال: نعم اثنا عشر عدد نقباء بني اسرائيل» [213] . رابعاً: عن الحسين رضوان الله عليه بن علي زين العابدين (عليه السلام) قال «سأل رجل ابي (عليه السلام) عن الائمة فقال: اثنا عشر سبعة من صلب هذا، ووضع يده علي كتف اخي محمد» [214] . خامساً: يروي ان الامام زين

العابدين (عليه السلام) قال تفسيراً لقوله تعالي (ان الذين يكتمون ما انزلنا من البيّنات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [215] ، أو تعليقاً علي الاية المباركة: «هذه احوال من كتم فضائلنا، وجحد حقوقنا، وتسمّي باسمائنا، وتلقّب بالقابنا، وأعان ظالمنا علي غصب حقوقنا، ومالا علينا اعداءَنا» [216] .

حديث المنزلة

روي الشيخ محمد الصدوق باسناده عن ابي خالد الكابلي قال: «قيل لسيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام): ان الناس يقولون ان خير الناس بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (عليه السلام) قال: فما يصنعون بخبر رواه سعيد بن المسيب عن سعد بن ابي وقاص عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) انه قال لعلي (عليه السلام): انت مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ انه لا نبي بعدي. فمن كان في زمن موسي مثل موسي». اقول: حديث المنزلة من الاحاديث المشهورة جداً عند المسلمين، سواء في الكتب الروائية ام الكتب التاريخية ام الكتب الادبية وكذلك العقائدية، فليس من شائبة علي أصل الحديث، ولا من غبار علي صدوره عن المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، وانما الكلام في دلالته السياسية. فقد اعتبرته النظرية الشيعية دالاً علي خلافة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام): ولكن يبدو _ بوضوح _ من بين ثنايا مختلف المؤشرات السياسيَّة والوقائع التاريخية ان الاختلاف في الدلالة السياسية للحديث الشريف، ليست بالشيء الجديد علي الساحة. ولقد سئل الصحابي الكبير جابر الانصاري _ كما تروي المصادر الشيعية _ عن معني الحديث. ولا شك ان السؤال لم يكن عن الجانب اللغوي أو الادبي فيه، ولا عن سبب

صدور الحديث _ فان كل ذلك مما لا يختلف فيه اثنان _ وانما السؤال عن وجود الدلالة السياسية فيه. ولقد اجاب الصحابي باثبات الخلافة لعلي (عليه السلام)، معتبراً ان من يتجافي عن هذه الدلالة فهو من الظالمين. وهذا يعني ان الاختلاف في الدلالة كان قائما. وسوف يأتي كلام الصديقة فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في عرض حديث المنزلة، الي جانب حديث يوم غدير خم في مقام الاحتجاج علي عدم تسلم الامام علي للخلافة بعد الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). ولاهمية هذين الخبرين _ من الوجهة العلمية _ خبر جابر الانصاري وخبر الصديقة (عليها السلام) آثرنا نقلهما: 1 _ روي ابو هارون العبدي: «سألت جابر بن عبدالله الانصاري عن معني قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لعلي: انت مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ انه لا نبيَّ بعدي. قال: استخلفه بذلك والله علي امته في حياته وبعد وفاته، وفرض عليهم طاعته، فمن لم يشهد له بعد هذا القول بالخلافة فهو من الظالمين» [217] . 2 _ روي شمس الدين الجزري الدمشقي وهو من اعلام الشافعية باسناده عن فاطمة [218] بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) انها قالت: «انسيتم قول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلم): انت مني بمنزلة هارون من موسي (عليهما السلام)؟» [219] .

من مصادر الحديث

ومصادر حديث المنزلة كثيرة جداً ومن هذه المصادر علي سبيل المثال لا اكثر: أ _ الطبراني في المعجم الكبير «مخطوط» رواه عن حبشي بن جنادة وجابر وسعد بن ابي وقاص والبراء بن عازب وزيد بن ارقم. كما

رواه أيضاً في المعجم الصغير ج2 ص53. ب _ ابن عساكر في تاريخ دمشق «مخطوط» رواه عن علي (عليه السلام) وام سلمة وحبشي بن جنادة وفاطمة بنت حمزة وعمر بن الخطاب وابي هريرة وابي سعيد الخدري وسعد بن ابي وقاص. ج _ عبد الرزاق الصنعاني رواه في المصنف ج5 ص405. د _ يوسف بن عبد البر القرطبي المالكي رواه في جامع بيان العلم ص149 دار الكتب الحديثه بالقاهرة. ه_ _ الذهبي في تذكرة الحفاظ ج1 ص217 وج2 ص522. و _ العلامة ابو داود الطيالسي في مسنده ص29 ط. حيدرآباد. ز _ الشيخ علي المتقي الهندي في كنز العمال ج12 ص200 وص206 _ وص207. ح _ ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ص72. ط _ ابن المغازلي الشافعي في مناقب علي بن ابي طالب ص34 وص36 وص94. كما رواه من الشيعة حشد هائل من العلماء قديماً وحديثاً تركنا ذكرهم روماً للاختصار.

الامام زين العابدين و تعيين الامام بعده

لقد اولي الامام زين العابدين (عليه السلام) قضية الامامة اهمية قصوي قلما يوليها لقضية اخري من القضايا العقائدية والسياسية والمصيرية. فلم يشأ ان يلتحق بالرفيق الاعلي دون ان يشخص الامام بعده، وينص عليه. فما احوج الامة الاسلامية، والانسانية الضائعة، الي القدوة المثلي والامام العادل. يكشف لها ظلمات الجهل والغواية، وينير آفاق الليل البهيم، ويأخذ بأيديها الي شاطئ الخير والرحمة والسلام. ولقد شاء الامام زين العابدين _ عن وعي وادراك _ ان يكون الامام بعده محمد الباقر (عليه السلام)، فعينه بالفعل اماماً للناس وقدوة للمقتدين. وتذهب الامامية كلها وفي قول واحد الي ان تعيين الامام السابق للامام اللاحق انما هو انعكاس لاحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في تعيين الائمة. وليس تعيين احدهما للاخر

إلاّ بنحو الكشف والحكاية عن النصوص النبوية في هذا المضمار. فاما من حيث النصوص فقد بينها الامام زين العابدين بما فيها من النص علي الامام الباقر (عليه السلام)، واما من حيث النصب والتعيين فقد اشار إليه بل نص عليه كما في جملة من الاخبار الروائية والتاريخية واليك جملة منها: اولاً: في رواية معمر عن الزهري بما مختصره قال: «دخلت علي علي بن الحسين (عليه السلام) في المرض الذي توفي فيه (إلي ان قال): ثم دخل عليه محمد ابنه فحدثه طويلاً... قلت: يابن رسول الله ان كان من امر الله ما لابدّ لنا منه _ ووقع في نفسي انه قد نعي نفسه _ فإلي من يختلف بعدك؟ قال يا ابا عبد الله الي ابني هذا _ واشار الي محمد ابنه _ انه وصيي ووارثي وعيبة علمي، معدن العلم، وباقر العلم. قلت يابن رسول الله هلا اوصيت الي اكبر اولادك. قال: يا ابا عبد الله ليست الامامة بالصغر والكبر. هكذا عهد الينا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)» [220] . ثانياً: عن عثمان بن عثمان بن خالد عن ابيه قال: «مرض علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه، فجمع اولاده محمداً والحسن وعبدالله وعمر وزيدا والحسين، واوصي الي ابنه محمد بن علي، وكنّاه الباقر، وجعل امرهم إليه...» [221] . ثالثاً: عن مالك بن أَعين الجهني قال: «اوصي علي بن الحسين (عليه السلام) ابنه محمد بن علي (عليه السلام) فقال: بنيّ اني جعلتك خليفتي من بعدي، لا يدّعي فيما بيني وبينك احد إلاّ قلّده الله يوم القيامة طوقاً من النار، فاحمد الله علي ذلك واشكره...» [222] . رابعاً: التفت

علي بن الحسين إلي ولده وهو في الموت، وهم مجتمعون عنده، ثم التفت الي محمد بن علي ابنه فقال: «يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلي بيتك ثم قال: اما انه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً» [223] . خامساً: ونحو الرواية الرابعة ما رواه جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «لما حضر علي ابن الحسين (عليه السلام) الموت، قبل ذلك اخرج السفط أو الصندوق عنده فقال: يا محمد احمل هذا الصندوق. قال: فحمل بين اربعة «رجال». فلما توفي جاء اخوته يدّعون في الصندوق فقالوا: اعطنا نصيبنا من الصندوق. فقال: والله مالكم فيه شيء، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه اليَّ، وكان في الصندوق سلاح رسول الله وكتبه» [224] . سادساً: عن ابي خالد (الكابلي): «قلت لعلي بن الحسين: من الامام بعدك؟ قال: محمد ابني يبقر العلم بقرا» [225] .

الحقوق بين الامام والمأموم

فارق كبير بين حاكم يسيّر دفة الامور ضمن قانون محدد، وصلاحيات معتبرة ومنطقية سواء كانت اسلامية تستلهم القرآن والسنة المطهرة روحاً ونصاً، أو علي الحد الادني تستمد وجودها مما يسمي في المصطلح العصري بالسيادة الشعبية Popular Soverignty، وبين حاكم آخر قد اتخذ رأيه الشخصي، ومزاجه الخاص، وحالاته النفسية قانوناً يعتمده ومنهلاً يرده، فليست لقانونه أو صلاحياته من حدود إلاّ الاهواء والنزوات والمشتهيات. ولقد اراد الامام زين العابدين ان تكون ثم ضوابط وحدود بين الامام _ بالمعني الاعم _ وبين المأموم، فلا يجحف هذا بحق هذا، ولا يهدر احدهما حقوق الاخر، في موازنة عادلة، وطريقة سليمة مثلي فيقول (عليه السلام): أ _ فأما حق سائسك بالسلطان فان تعلم انك جعلت له فتنة، وانه مبتلي فيك بما جعل الله له عليك

من السلطان، وان تخلص له في النصيحة، وان لا تماحكه، وقد بسطت يده عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه، وتذلل وتلطف لاعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضر بدينك، وتستعين عليه في ذلك بالله، ولا تعازّه ولا تعانده، فانك ان فعلت ذلك عققته وعققت نفسك فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة... [226] . ب _ اما حقوق رعيتك بالسلطان فان تعلم انك انما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم فانه انما احلهم محلّ الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما اولي من كفاكه ضعفه وذله حتي صيرّه لك رعية، وصيرّ حكمك عليه نافذا، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلاّ بالرحمة والحياطة والاناة... [227] . تعليق: ان هذه الحقوق التي ذكرها (عليه السلام) للامام _ بالمعني الاعم _ وما أعلنه من الطاعة له والانقياد لتعاليمه ومقرراته، وعدم التعرض لمكروهه انما تكون في حالات يجدر السكوت فيها، واوضاع يمكن الصبر عليها. اما إذا كان الامر علي خلاف هذه الصورة بحيث ان العقيدة السليمة تكون معرضة للخطر، والمبادئ العليا للانتهاك، والقيم للاندكاك والتهافت، فان الامام زين العابدين علي خط ابيه الامام الشهيد (عليه السلام) روحاً وانطلاقاً وجرأة وشدة علي الظلم والظالمين. ولقد زوّدنا التاريخ بوثائق رائعة عن مواقفه البطولية المتعددة من عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وعبدالملك بن مروان. كما اوضحنا ذلك في بحثنا مع الحسين في الثورة الخالدة، والبحث عن مواقفه من الحكم القائم.

مع الحسين في الثورة الخالدة

يزيد والمقومات الاساسية للقائد الاسلامي

اشاره

لعمري ما الامام الا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق. هذه المقومات الاساسية للقائد الاسلامي، يعلنها الامام الشهيد الحسين بن علي (عليه السلام) [228] وهو في طريق الثورة الخالدة، ثورة كربلاء. ولقد كان يزيد بن معاوية علي النقيض

من هذه المقومات والاسس. كما هو معلوم بديهياً في التأريخ. ولقد كان كما قال علي زين العابدين في كلام طويل: وليَ يزيد رقاب المسلمين وهو يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب. فكيف يرضي مثل الامام الحسين وهو هو ذوباناً في محراب العقيدة والايمان؟ أن يكون مثل يزيد اميناً علي القرآن، وقائداً لامة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ ومما زاد الطين بلّة، وتألق وضوح رؤية الحسين لشخصية يزيد ما رُوي من ان الامام الحسين (عليه السلام) اجتمع مع عبدالله بن جعفر عند معاوية فخرج بخروجه، فقال له ابن جعفر: يا بن رسول الله ان لي الي يزيد حاجة فلو وقفت معي اليه فقال: نعم، فأتياه فأصاباه يشرب وعنده مسلم بن عمرو الباهلي يغنيه. وكان يضرب الطنبور، وقيل: انه اول من تغني بالنصب بالبصرة [229] فحمل يزيد المسكر علي ان ائذن لهما وهو علي حالته. فلما رآه الامام الحسين (عليه السلام) تعاظمه امره. فقال يزيد للساقي: اسقهما. فنظر الامام الحسين (عليه السلام) الي يزيد نظراً منكراً، وامسك الساقي هيبة له، فقال يزيد لمسلم: الا يا صاح للعجب دعوناه فلم يجبِ الي القينات واللذاتِ والشهوات والطربِ وفيهن التي تبلت فؤادك ثم لم تتبِ فقال الحسين أعهد الي الله عهداً لئن خلص الامر اليك وأنا في الحياة لما اعطيتك إلا السيف بعد ان شهدتُ عليك بهذا المشهد. وقام فخرج معه عبدالله بن جعفر [230] . فيستنكر الحسين المنهج الوضعي في الحكم والسياسة، ويتصدي لقراعه أي_َّما قراع، ويدعو للمبادئ الاسلامية. وكانت الثورة. كانت ثورة الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) ضرورة رسالية، وحتمية حضارية ليس عنها من محيص. (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين

يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم اهلُها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً) [231] .

توقيت الثورة

لقد كانت خطة الحسين في توقيت الثورة في عهد يزيد خطة سديدة موفقة. فلو قدر له القيام بالثورة في عهد معاوية بدلاً من عهد يزيد لما حصلت الثورة علي النتائج الايجابية التي اقتطفت ثمارها في المدي القريب والبعيد، والتي اينع بها الاسلام، واثمرت الوعي الديني، والهبت الكفاح المسلح ضد سلاطين الجور، بعد ثورته مباشرة، وبعدها بشكل غير مباشر، كثورة اهل المدينة، وثورة التوابين، وثورة المختار، وثورة زيد بن علي زين العابدين (عليهما السلام)، وغيرها. فلو ثار في عهد معاوية لاستطاع الاخير بمكره وميكافيلية اساليبه ان يصادر قسطاً كبيراً من جوانب الثورة. يساعده علي ذلك التظاهر بالورع والصلاح امام الجماهير، وحكمه في ارض الشام وهي منطقة واسعة من ارجاء العالم الاسلامي زمناً طويلاً، حتي انه كان الوالي علي دمشق منذ سنة «18» للهجرة. كما اَن معاوية يستطيع ان يصادر قسطاً من جوانب الثورة لان الحسين قد بايعه بالخلافة حين اضطر اليها إبّان الصلح بين الامام الحسن (عليه السلام) ومعاوية _ في ظروف قاهرة _ فيعلن معاوية للجماهير أن الحسين ناكث للعهد، مخالف للميثاق; فهو اذن صاحب هويً وخيانة، لا صاحب قضية عادلة. ولا نعتقد أن الامام الحسين بن علي (عليهم السلام) يحذر من نقض الاتفاق، لان معاوية قد نقض كل الاتفاقية. وهذا غير خفي علي كل مَن راجع بنود الاتفاق مقارناً لها مع السيرة السياسية لمعاوية ومنهجه في الحكم. ويتلخص ذلك في ما قاله التابعي العظيم الحضين بن المنذر الرقاشي: والله ما وفي معاوية للحسن بشيء مما اعطاه; قتل حجراً واصحاب حجر، وبايع لابنه يزيد،

وسم الحسن. ان الطرف المقابل اذا لم يلتزم ببنود الاتفاقية فلا يتعين علي الطرف الاخر الالتزام بها، بل يبين كتاب الله الموقف السياسي والعسكري من الطائفة التي تظهر عليها بوادر النكث ونقض الميثاق فيقول: (واما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم علي سواء). ولكن الظاهر ان الامام الحسين (عليه السلام) كان يحذر من استغلال معاوية للميثاق بما انتهج من خداع وتزوير، ولامتلاكه مختلف الوسائل الاعلامية. كما ان ميقات الثورة لم يحن بعد. اما يزيد بن معاوية فلم يكن بينه وبين الامام الحسين (عليه السلام) ميثاق وليس في عنق الامام الحسين (عليه السلام) بيعة له. كما لم يكن ليزيد دهاء ابيه وكانت فيه خفة، وجهل بمتطلبات السياسة، ومستلزمات كسب الجماهير، وتطلعات الامة. لا يداري الناس. ومداراة الناس نصف العقل [232] . لا يوسع صدره للامة. وآلة الرئاسة سعة الصدر [233] . وسواء اكانت الثورة في خلافة معاوية أو في خلافة يزيد فانها وفي تلك الصورة مقدر لها الاخفاق عسكرياً بيد ان الثورة في عهد الغلام النزق لا يمكن ان تصادر ولا بعض ثمراتها. ولا يمكن اعتبار رفض الامام الحسين (عليه السلام) لبيعة يزيد منحصراً بالانفة، واباء الضيم، أو أن الحسين (عليه السلام) من قبيل هاشم، ويزيد من قبيل أميّة، وبين القبيلين عداء تقليدي مستحكم كما عليه بعض الكتاب. لقد رفع الحسين شعاراً ارجوانياً معبراً عن اهدافه السياسية، وابعاده الثورية في اكثر من مناسبة وموقف فمن ذلك قوله: الا ترون الي الحق لا يعمل به، وإلي الباطل لا يتناهي عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لا أري الموت الاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً. وأما الاختلاف ما بين الحسين ويزيد فهو وانْ كان عميقاً

وبعيد الاثر، ولكنه ليس اختلافاً بسبب مآرب شخصية، أو تسابقاً في الاروقة السياسية. ولكن النظرة التقييمية التي كان يحملها الحسين (عليه السلام) ليزيد مبتناة علي ما ينطوي عليه سلوك يزيد ابتعاداً حقيقياً عن قواعد الاسلام، وموازينه الصحيحة في الفرد المسلم، وسقوط همة، وتلاعباً بمقدرات الامة. وأن الشرائط الموضوعية التي يقررها الاسلام اسساً لا محيص عنها للقيادة الاسلامية، مثل العدالة وهي الاستقامة علي الطريق اللاحب، ومثل العلم وغير ذلك، غير متوفرة في شخصية يزيد بن معاوية. ولا أدل علي ذلك من ان اضبارة سلوكه وشخصيته، ومنحنيات نفسيته، اضبارة سوداء فاحمة بعيدة الجذور، معروفة في حياة ابيه. ولقد كان معاوية عارفاً بتهافت شخصية يزيد وان قام بمحاولة تمويهها واضفاء طوابع ايجابية عليها بما لا يخفي علي ذي عينين، ولكنه قد اوضح من حيث يعلم أو لا يعلم أن في الامة من هم اولي بالخلافة من يزيد، واجدر بالقيادة الاسلامية. لذلك ضرب مثلاً بتولية رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عمرو بن العاص اميراً مقدماً له علي ابي بكر وعمر ومن دونهما من الصحابة وقد رد عليه الامام الحسين (عليه السلام) بأن لعمرو بن العاص فضيلة بصحبة رسول الله وبيعته له وما صار _ لعمر الله _ يومئذ مبعثهم حتي أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه افعاله، فقال (صلي الله عليه وآله وسلم): لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري.. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل رسول الله في اوكد الاحكام. ان مجرد تمثل يزيد بإمرة عمرو بن العاص ليدل علي ان معاوية كان عارفاً بتقدم غيره عليه. ولقد قام معاوية بأكثر من طريقة لتعيين يزيد خليفة من بعده، ومن بينها الطريقة التي اومأنا

اليها. فكان ردّ الامام الحسين (عليه السلام) عليه ردّاً حاسماً، يضع النقاط علي الحروف، ويبين المسؤولية الشرعية، والموقف الصحيح من القيادة يقول (عليه السلام): وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لامة محمد. تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، او تنعت غائباً، او تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه علي موقع رأيه فخذ ليزيد فيما اخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبّق لاترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما اغناك ان تلقي الله من وزر هذا الخلق باكثر مما انت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جَور، وحنقاً في ظلم حتي ملات السقية وما بينك وبين الموت الاغمضة، فتقدم علي عمل محفوظ، في يوم مشهود، ولات حين مناص. ولما كان معاوية ينظر الي منصة الحكم علي انها ملك عضوض، وأنها افراز يتمخض عن المكر والغلبة والسياسة الميكافيلية، لذا يصر علي موقف من ولاية العهد. ويدلهم ليل معاوية ويُنقل الي مثواه الاخير، فاذا يزيد ضمن السياسة المفروضة هو الخليفة. فما اسرع أن كتب (كما في حوادث سنة 60 من تاريخ الطبري) في صحيفة الي الوليد بن عتبة: اما بعد فخذ حسيناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، بالبيعة اخذاً شديداً ليست فيه رخصة. ويدعو امير المدينة الوليد بن عتبة الامام الحسين (عليه السلام) الي بيعة يزيد، وفي محاولة ذكية وجريئة يتخلص منه الامام الحسين (عليه السلام). ويزمع علي الرحيل من المدينة ذات الضغوط السياسية الشديدة عليه الي حيث مكة المكرمة. ينطلق الموكب المقدس، موكب الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته الا قليلاً منهم. ينطلق

الموكب وفيه علي زين العابدين _ ولم يكن آنذاك مريضاً _ وفيه ايضاً العباس بن علي (عليهما السلام). ويشرع في الطريق العام المكشوف. ويشير مسلم بن عقيل رضوان الله عليهما علي الامام الحسين (عليه السلام) بترك الطريق والتوجه في طريق فرعي كما صنع ابن الزبير فيأبي الامام الحسين (عليه السلام). الي أن استقر بعض الاستقرار في مكة المكرمة حيث اللقاء الايجابي فيها مع مختلف القادمين اليها من شتي اَرجاء العالم الاسلامي، ولكن دوائر النظام كانت تتربص به الدوائر وكانت عملية اغتياله عملية متوقعة، فقد أصدرت الاوامر الرسمية بقتل الامام الحسين (عليه السلام) ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. ويحذر الامام الحسين (عليه السلام) كل الحذر من القتل في مكة لا إشفاقاً من الشهادة التي كانت حبيبة إليه وكان حبيباً اليها، ولكن إشفاقاً من اَن تُستحل بقتله حرمة الكعبة وقداسة مكة المكرمة. وفي هذا الظرف الحسّاس، والجو السياسي الخانق، تتواتر الرسائل من العراق قادة وأفراداً تمنّيه النصر، وتُعلن له الطاعة، والانقياد، بما في ذلك رسائل الذين يعرفهم عن كثب بالولاء والاخلاص، من امثال حبيب بن مظاهر الاسدي، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، ورفاعه بن شداد البجلي. ولقد كان هؤلاءِ من اعلام اصحاب ابيه الامام علي (عليه السلام).

مندوب الامام الحسين

فيرسل ثقته ومعتمده وابن عمّه مسلم بن عقيل خطوة تمهيدية يستطلع فيها الاوضاع الاجتماعية والسياسية والعسكرية، ويمهّد للقدوم. في سنة (60ه_) من تأريخ الطبري: ثم أقبل مسلم حتي دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة وهي التي تدعي اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف اليه. فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام). فأخذوا يبكون، فقام عابس بن أبي شبيب

الشاكري فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أمّا بعد فاني لا اُخبرك عن الناس ولا اَعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم، والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لاجيبنّكم اذا دعوتم، ولاُقاتلنّ معكم عدوكم، ولاضربنّ بسيفي دونكم حتي ألقي الله، لا اُريد بذلك اِلاّ ما عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، ثم قال: وأنا والله الذي لا اله الاّ هو علي مثل ما هذا عليه. ويكتب مسلم بن عقيل الي الامام الحسين (عليه السلام) أن ثمانية عشر ألف رجل قد بايعوه في الوقت الذي قد علمنا فيه حال الامام الحسين (عليه السلام) في مكة من التربص به والارصاد لقتله.

الاعداد للرحيل

فيعزم الامام الحسين (عليه السلام) علي الانتقال الي العراق فيقوم خطيباً في جماعته قائلاً: خطّ الموت علي ولد آدم مخطّ القلادة علي جيد الفتاة.. وما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف.. وخيّر لي مصرع أنا لاقيه.. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملان مني أكراشاً جوفي، وأجربة سغبي. لا محيص عن يوم خط بالقلم.. رضا الله رضانا أهل البيت، لن تشذ عن رسول الله لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز له وعده.. من كان فينا باذلاً مهجته، موطِّنا علي لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فاني راحل مصبحاً.

صلاة الدم

إن هذا النص وثيقة تأريخية تشهد أنَّ الامام الحسين (عليه السلام) كان عارفاً بشهادته وأن ليس من أهداف ثورته أن تطال يده الحكم لاسباب موضوعية وان كان أهلاً للحكم وفوق الاهل. أقدم الامام الحسين (عليه السلام) علي الشهادة لان الاُمة والاوضاع السياسية، ودين جده محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) كانت بحاجة إلي ذلك الدم الطهور. لقد جاء الامام الحسين (عليه السلام) الي العراق ليصلي صلاة الدم في محراب العشق الالهي المقدس. ومما يؤكد النص المتقدم ما كتبه الامام الحسين (عليه السلام) الي محمد بن الحنفية (عليه السلام) خاصة، والي بني هاشم عامة: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الي محمد بن علي، ومن قِبله من بني هاشم، أمّا بعد: فانَّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته نعم، يذهب بعض الفلاسفة، السياسيين، الي أن ما جاء من أحاديث الرسول محمد والامام علي صلوات الله عليهما حول قتل الامام الحسين (عليه السلام) مما يصلح الاستدلال علي أنَّ الامام

الحسين (عليه السلام) كان عالماً بشهادته مجردة عن القيادة السياسية للبلاد. قلتُ: ولكننا لا نستطيع الاعتقاد بالرؤية المذكورة، لقد كان الامام الحسين (عليه السلام) عالماً بشهادته، ولكنه هل يعني هذا شهادته بعد أن يحكم فترة ما وتنقاد له البلاد أَم شهادته دون أن يجري في الساحة السياسية شيء من هذا القبيل. الاحاديث لا تتطرق الي ذلك. وان كان الامام الحسين (عليه السلام) عالماً بشهادته دون الوصول الي حكم الدولة عن طريق أدلة اخري. ولتوضيح الفكرة نقول علي سبيل المثال: قد أخبر الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) بمقتل عليِّ (عليه السلام). كما انَّ علياً كان يُخبر عن قتله. ولقد وقع هذا الامر فعلاً ولكنه (عليه السلام) قد استشهد بعد أن اَصبح حاكماً وانقادت له أزِّمة الامور. وثمة أدلة اخري علي ما تقدم، منها ان الحسين لما خرج من مكة متوجهاً الي العراق وبلغ ذات عِرق، لقيه رجل من بني اَسد يُقال له بشر بن غالب. فقال له الحسين: ممن الرجل؟ قال: من بني اَسد. قال: فمن أين اقبلت؟ قال: من العراق. قال: فكيف خلّفت اَهل العراق؟ فقال: يابن رسول الله خلفت القلوب معك، والسيوف مع بني اُمية. فقال له الحسين: صدقت يا اَخا بني اَسد. ان الله تبارك وتعالي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وأثناء مسيرة الحسين لقيه الفرزدق الشاعر المعروف في منزل الصفاح، فقال الفرزدق يخبر عن اوضاع اهل العراق: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُمية. بيد أن صدر الحسين كان مليئاً بالعزم الثابت والتصميم الاكيد متوجهاً بالشوق الي الله، مصرّاً علي تفجير عبوات الثورة. ثم سار حتي نزل بطن العقبة فلقيه رجل من العرب فقال له: انشدك لما انصرفت، فوالله ما

تقدم اِلاّ علي الاسنّة وحدّ السيوف. ان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفَوك مؤونة القتال، ووطأوا لك الاشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأياً، فأما علي هذه الحال التي تُذكر فلا اَري أن تفعل. فقال: انه لا يخفي عليّ ما ذكرت ولكن الله عزوجل لا يُغلب علي أمره. ثم ارتحل منها. وهذا الخبر وغيره يعني اهمية النظر الي فلسفة الثورة الحسينية لا من الوجهة السياسية فحسب بل ان هناك امراً في غاية الاهمية وراء واقع التحليلات السياسية، وهو أن الحسين قد كان اطلع _ عن طريق ما _ علي المشيئة الالهية في ضرورة الثورة، ثورة الاسلام المتجدد علي الجاهلية المتجددة.

مكان الخارطة

وفي اليوم الثاني من محرم الحرام من سنة احدي وستين نزل الحسين ارض كربلاء. وهنالك التحم الطرفان في معركة حامية الوطيس بين الحق المتجسد بالحسين واتباعه وبين الباطل المتجسد باتباع يزيد بن معاوية. وكان القتال يوم العاشر من محرم. وكتب الحسين واهل بيته واصحابه به اروع صور الدفاع عن الحق، والاستماتة من اجل المبادئ. كما اتقن الجيش الظلوم الحقود دوره في الوحشية الكاسرة، وروح الجاهلية، بل تعداها الي حيث الدرك الاسفل من المعاملة الوضيعة والانحطاط. ونادي الحسين هل من ناصر ينصرنا؟ هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ فانتفض الامام علي زين العابدين (عليه السلام) من فراش المرض. وكان شديد العلة، منهار القوي، ولكن قوة الارادة، ورباطة الجأش، وألم المصاب، حركت بدناً وانياً فتحرك، وهزت جسداً عليلاً فاهتز اهتزاز المهند، وخطي الخطوات الاولي نحو المعركة فمنعه الامام الحسين (عليه السلام) لما به من علة شديدة، وخشية من الامام الحسين (عليه السلام) علي نسل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ان ينقطع وقد

كاد لو لا ارادة الله ولطفه ورعايته. وقد تقدم الكلام أن مرض الامام زين العابدين (عليه السلام) انما هو بسبب قطعه لحلقات الدرع وتمزيقها بيده وقد كان ذلك ايام حوادث كربلاء. وما عدا ذلك فلقد كان يمتلك قوة بدنية هائلة. فعن قدامة بن عاصم: أنه (عليه السلام) كان ضخماً من الرجال، وكان يسابق ظباءً فيسبق اوائلها فيردها علي اواخرها [234] . ان هذه السرعة في العدو بحيث يسبق الظباء علي الرغم من ضخامة الجسد تعني درجة قصوي من اللياقة البدنية، والتميز الصحي.

اداء المهمة الرساليه

اراد الامام الحسين (عليه السلام) ان يحمل الحملة الاخيرة فاذا به يهمه اكمال رسالته في الحياة من ناحية اخري، فدخل خيمة ولده الامام زين العابدين (عليه السلام) ومن جملة ما قال له: اني اوصيك بما اوصي به جدك رسول الله علياً حين وفاته، وبما اوصي به جدك علي عمك الحسن، وبما اوصاني به عمك: اياك ان تظلم من لا يجد عليك ناصراً الا الله. ليست بدعاً هذه الوصية من الامام الحسين (عليه السلام) ان يلقيها علي ولده العظيم في تلك الساعة الحرجة والموقف العصيب، وليس بدعا ان يخص الامام زين العابدين (عليه السلام) بالمشافهة بها وهو طريح الفراش تحفه الاعداء. فلقد كان الامامان الهمامان الحسين وزين العابدين (عليهما السلام) أجلّ من خطط للعدالة ومن جسدها في سلوكه القويم آنذاك، وندد بالظلم والعدوان. وان يكونا قد ظلما كثيراً ظلماً سياسياً واجتماعياً فما ظلما احداً من العالمين، ولا شروي نقير. واخيراً سقط الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) مخضباً بالدماء وقطعوا رأسه. وَتخللوا بين الخيام، فافزعوا النساء والاطفال، واضرموا في الخيام النيران.

علي شفير القتل

ثم انتهوا الي الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فاراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله اتقتل الصبيان؟ وكان مريضاً، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلن بيت هذه النسوة احد، ولا يعرضن لهذا الغلام المريض [235] . قلت: لقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) في ملحمة الطف قد تجاوز من العمر عشرين سنة، واذا كان لابد من توجيه العبارة السالفة في عدّه من الصبيان فبمعني ان شدة مرضه آنذاك قد جعلته كأنه من الصبيان في ظاهر الحال. وهكذا يصنع المرض. ومن الممكن ان يكون حميد بن مسلم

ينظر الي زين العابدين (عليه السلام) انذاك علي انه شاب من الشباب وليس صبيا من الصبيان، ولكنه قد آثر التعبير بالصبي ليصرف بذلك نظر الشمر عن قتل الامام (عليه السلام). لقد عاش الامام زين العابدين (عليه السلام) هذا الفصل وغيره من فصول ملحمة كربلاء التي جرت في صورة بشعة جداً، قاتمة الالوان، الي ابعد حد. ففيها من الظلم والدناءة والوحشية ما يقصر الباحث العبقري، والبليغ المصقع، عن اعطاء الصورة الكاملة المعبرة عنها.

من كربلاء الي الكوفه

وساق القوم حرم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من كربلاء كما تساق الاساري، حتي اذا بلغوا بهم الي الكوفة خرج الناس اليهم فجعلوا يبكون وينوحون. والامام علي بن الحسين (عليهم السلام) في وقته ذلك قد نهكته العلة فجعل يقول: الا ان هؤلاء يبكون وينوحون من اجلنا فمن قتلنا؟! [236] .

ازدواجية العواطف

لقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) حراً كريماً مستقيماً صادق التعامل، لذا يعجب من الازدواجية في الشخصية عند هؤلاء الذين يذرفون دموع التماسيح علي الامام الحسين (عليه السلام)، وهو يعبر عن تعجبه من هذا الامر الغريب اللافت للنظر: الا ان هؤلاء يبكون وينوحون من اجلنا فمن قتلنا؟! لقد استنكر الامام زين العابدين (عليه السلام) البكاء الكذوب في الوقت الذي كانت تسح من عينيه الدموع الساخنة حزناً وحرقة قلب علي مصائب آل الرسول. وكان ضمن منهجه في استمرارية ثورة الامام الحسين (عليه السلام) ان يحرض الناس علي البكاء ويدعوهم اليه ولكنه البكاء الصادق المعبر عن الحب الخالص، والتأثر العميق. فعن ابي جعفر (عليه السلام) (محمد الباقر) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: ايما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليه السلام) دمعة حتي تسيل علي خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها احقاباً. وايما مؤمن دمعت عيناه حتي تسيل علي خده فينا لاذيً مسّنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوّأ صدق. وايما مؤمن مسه اذيً فينا فدمعت عيناه حتي تسيل علي خده من فضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الاذي، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار [237] . ويبدو أن البكاء والنحيب، الذين أظهرهما الناس في الكوفة لم يكونا أمرين عاديين كما

ذكر، فقد روي أن الناس ضجوا بالبكاء والنوح، ونشرت النساء شعورهن، ووضعن التراب علي رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، فلم ير باكية وباك اكثر من ذلك اليوم. ولا بد أن يكون هذا ندماً علي ما وقع منهم بحق الامام الحسين (عليه السلام) فانهم كانوا بين قاتل جريء علي الله، وخاذل جري علي النكث، إلاّ قليلاً منهم. ثم ان الامام زين العابدين (عليه السلام) أومأ الي الناس أن اسكتوا، فقام قائماً فحمد الله واثني عليه، وذكر النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ثم صلي عليه، ثم قال: ايها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فانا اُعرّفه بنفسي. أنا علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليهم السلام)، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله. اَنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث. أنا ابن من قُتل صبراً وكفي بذلك فخراً. ايها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون انكم كتبتم الي أبي وخدعتموه وأعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه; فتباً لما قدّمتم لانفسكم وسوءة لرأيكم. بأية عين تنظرون الي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من امتي. قال الرواي: فارتفعت الاصوات من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون. فقال (عليه السلام): رحم الله امرأً قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله واهل بيته، فانّ لنا في رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) اسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك. ولا راغبين عنك، فمُرنا بأمرك يرحمك الله، فانّا حرب لحربك وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد

لعنه الله ونبرأ ممن ظلمك. فقال (عليه السلام): ايها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات انفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم الي آبائي من قبل، كلا ورب الراقصات [238] فان الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالامس، وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وثكل أبي، وبَني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا، ثم قال: لاغرو إن قتل الحسين فشيخه قد كان خيراً من حسين وأكرما فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصيب حسين كان ذلك أعظما قتيل بشط النهر روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جهنما ثم قال: رضينا منكم رأساً برأس، فلا يوم لنا ولا يوم علينا [239] .

حوار مع الجبار

وفي الكوفة أدخل الامام زين العابدين (عليه السلام) ومن معه علي بن زياد و كان فظاً، غليظ الطبع، جباراً، سفاكاً للدماء. قال المؤرخ القدير أحمد بن أعثم: فالتفت ابن زياد الي علي بن الحسين (رضي الله عنه) قال: أو لم يقتل علي بن الحسين؟ قال: ذاك أخي وكان اكبر مني فقتلتموه. وان له مطلاً منكم يوم القيامة. فقال ابن زياد: ولكن الله قتله. فقال علي بن الحسين (رضي الله عنه) (الله يتوفيّ الانفس حين موتها) [240] . «وهنا يقول ابن زياد لبعض جلسائه»: خذه إليك الان فاضرب عنقه. قال فتعلقت به عمته زينب بنت علي وقالت له: يابن زياد انك لم تبق منا أحداً فان كنت عزمت علي قتله فاقتلني معه. فقال علي بن الحسين لعمته: اسكتي حتي اكلِّمه. ثم أقبل علي (عليه السلام) علي ابن زياد فقال: أبالقتل تهددني؟!

أما علمت ان القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة. قال: فسكت ابن زياد ثم قال: أخرجوهم عني [241] . نعتقد ان ابن زياد ما استشاط غضباً لرد الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) بجرأة كما استشاط غضباً لعدم قدرته علي الجواب المُصيب، وخلو تفكيره من الرد الكفوء. (2) لم تكن ثورة الامام الحسين (عليه السلام) وليدة مقطع زمني تنتهي بانتهائه، بل إِن لها من مبررات الوجود ما يجعلها خالدة في الخوالد. لقد اختزنت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) مفردات تنظيرية كثيرة سياسية وثورية وروحية قلّما تتوفر في ثورة اخري من الثورات علي مر التأريخ. ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة ضاربة في اعماق الحضارة الاسلامية والتاريخ والضمير الانساني والامة الاسلامية. إن التاريخ لا يمكن أن تتخلي صفحاته عن الاحرف المضيئة لدور الامام الحسين (عليه السلام) الرسالي، إلاّ إذا تخلت الشمس عن دفيق ضوئها. كيف ينفصل الضمير الانساني عن وحي ثورة الحسين الاّ اذا انفصل القلب عن نبضاته. ويعتقد الامام علي زين العابدين بالحسين بن علي (عليهم السلام) اماماً هادياً، وبملحمة الطف قضية عادلة اعتقاداً يقينياً خالصا من كل شوب. فيشارك في الثورة إبّانها، ويدخل بعقليته الجبارة، وتفكيره الحكيم، وجرأته السامية، وروحه الكبيرة، وكل شيء في كيانه في سياق امتداداتها البعيدة مساهماً ايما مساهمة في الخطط التنموية لها. لم تكن الجهود السياسية والثورية التي بذلها الامام زين العابدين (عليه السلام) دعماً لثورة كربلاء سواء في العراق او الشام او الحجاز جهوداً عائمة منفصلة عن مجمل التنظير الكامل للثورة. لقد اراد الامام زين العابدين (عليه السلام) ان ينقل آليات التحرك الثوري والوعي الرسالي الناهض من كربلاء الي الكوفة ومن ثم الي الشام والمدينة المنورة. مع العلم ان العراق والشام

والحجاز وقتئذ تعتبر اكبر مراكز الثقل السياسي في العالم الاسلامي. ولئن كان الامام زين العابدين (عليه السلام) مجبراً علي التنقل من كربلاء الي المدينة المنورة ضمن هذه المسيرة بأمر من السلطة الحاكمة _ ما عدا المدينة المنورة _ فإنه استطاع ان يقول كلمته ويعلن أحقية الامام الحسين (عليه السلام) وتهافت اعدائه علي الرغم من الاجواء الخانقة والاستبداد السياسي، وشدة التوتر في العلاقات بين الحاكم والمحكوم. ونزداد اعجاباً واكباراً لدوره الخطير اذا علمنا بمرضه الشديد في تلك الفترة.

امتداد الثورة الي الشام

بعد تلك المواجهة العنيفة بين الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) وعبيد الله بن زياد امر ابن زياد باخراجهم وانزالهم في دار إلي جنب المسجد الاعظم. ثم دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي فاعطاه رأس الامام الحسين (عليه السلام) ورؤوس اخوته واهل بيته وشيعته ودعا بعلي بن الحسين (عليه السلام) فحمله وحمل عماته واخواته وجميع نسائهم معه الي يزيد، فسار القوم بحرم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من الكوفة الي بلد الشام علي محامل بغير وطاء، من بلد الي بلد، ومن منزل الي منزل كما تساق الترك والديلم [242] . ولم يكن الامام علي بن الحسين (عليه السلام) يكلم احداً من القوم الذين معهم الرأس في الطريق كلمة واحدة حتي بلغوا الشام. فلما انتهوا الي باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محفر بن ثعلبة أتي امير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه علي بن الحسين (عليهما السلام): ما ولدت ام محفر أشرّ والام [243] .

الحقيقة تفرض نفسها

وأُتي بحرم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي اُدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له باب توماء، ثم اُتي بهم حتي وقفوا علي درج باب المسجد حيث يقام السبي. واذا بشيخ قد اقبل حتي دنا منهم. وقال: الحمد لله الذي قتلكم واهلككم، واراح الرجال من سطوتكم، وامكن امير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ فقال: نعم قد قرأته. قال: فعرفت هذه الاية (قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربي)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال علي بن الحسين (رضي الله عنه): فنحن القربي يا شيخ. قال: فهل قرأت في سورة بني اسرائيل (وآت

ذا القربي حقه)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال علي (رضي الله عنه): نحن القربي يا شيخ. ولكن هل قرأت هذه الاية (واعلموا ان ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربي)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال (علي): فنحن ذو القربي يا شيخ. ولكن هل قرأت هذه الاية (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال علي: فنحن اهل البيت الذين خصصنا بآية الطهارة. قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً علي ما تكلمه ثم رفع رأسه الي السماء وقال: اللهم اني تائب اليك مما تكلمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللهم اني ابرأ اليك من عدو محمد وآل محمد من الجن والانس [244] .

حوار كحد الحسام

ثم أُتي بهم حتي اُدخلوا علي يزيد. قيل: ان اول من دخل شمر بن ذي الجوشن بعلي بن الحسين، مغلولة يداه الي عنقه. فلما نظر الي علي بن الحسين (رضي الله عنه) قال له: من انت يا غلام؟ فقال: انا علي بن الحسين. فقال: يا علي ان اباك الحسين قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين: (ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم الا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك علي الله يسير). فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه يا بني فلم يدر خالد ماذا يقول. فقال يزيد: (وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير). فتقدم علي بن الحسين حتي وقف بين يدي يزيد وقال: لا تطمعوا ان تهينونا ونكرمكم وان نكف الاذي عنكم وتأذونا فالله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ان لم

تحبونا فقال يزيد: صدقت يا غلام ولكن اراد ابوك وجدك ان يكونا اميرين، فالحمد لله الذي اذلهما وسفك دماءهما. فقال له علي بن الحسين: يابن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والامرة لابائي واجدادي من قبل ان تولد ولقد كان جدي علي بن ابي طالب في يوم بدر واُحد والاحزاب في يده راية رسول الله، وابوك وجدك في ايديهما رايات الكفر. ثم جعل علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: ماذا تقولون ان قال النبي لكم ماذا فعلتم وانتم آخر الامم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أساري ومنهم ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي اذ نصحتكم ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي ثم قال الامام علي بن الحسين (عليه السلام): ويلك يا يزيد انك لو تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من ابي واهل بيتي واخي وعمومتي، اذن لهربت الي الجبال، وافترشت الرمال، ودعوت بالويل والثبور أيكون رأس ابي الحسين بن علي وفاطمة منصوبا علي باب مدينتكم وهو وديعة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فيكم؟ فابشر يا يزيد بالخزي والندامة اذا جمع الناس غداً ليوم القيامة. ثم دعا يزيد بالخاطب وامر بالمنبر فاحضر ثم امر الخاطب فقال: اصعد المنبر فخبر الناس بمساوئ الحسين وعلي وما فعلا. قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله واثني عليه. ثم اكثر الوقيعة في علي والحسين، واطنب في معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل. قال فصاح علي بن الحسين: ويلك ايها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فانظر مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام): يا يزيد اتأذن لي ان اصعد هذه الاعواد فاتكلم بكلام فيه رضا لله ورضا هؤلاء الجلساء واجر وثواب؟

خطاب دمشق

قال فأبي يزيد ذلك.

فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد المنبر، لعلنا نسمع منه شيئا. فقال لهم: ان صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحتي وفضيحة آل ابي سفيان. قيل له: يا امير المؤمنين وما قدر ما يحسن هذا. فقال: انه من اهل بيت قد زقوا العلم زقاً. قال: فلم يزالوا به حتي اذن له بالصعود فصعد المنبر فحمد الله واثني عليه، ثم خطب خطبة ابكي منها العيون، واوجل منها القلوب فقال فيها: ايها الناس اعطينا ستاً، وفضلنا بسبع: اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة، والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين. وفضلنا بأن منا النبي المختار محمداً (صلي الله عليه وآله وسلم) ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا اسد الله واسد الرسول ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة. «وفي رواية: ومنا مهديها». فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني انبأته بحسبي ونسبي. انا ابن مكة ومني، انا ابن زمزم والصفا. انا ابن خير من طاف وسعي، انا ابن خير من حج ولبّي، انا ابن من اسريَ به من المسجد الحرام الي المسجد الاقصي، فسبحان من اسري، انا ابن من بلغ به جبرئيل الي سدرة المنتهي، انا ابن من اوحي اليه الجليل ما اوحي، انا ابن محمد المصطفي، انا ابن علي المرتضي، انا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا لا اله الاّ الله، انا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وبايع البيعتين، وصلي القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين. انا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين. انا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل. انا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل

الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد اعداءه الناصبين، وافخر من مشي من قريش اجمعين، واول من اجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين. واقدم السابقين، وقاصم المعتدين ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله علي المنافقين، ولسان حكمة العابدين. وناصر دين الله، وولي امر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله. سمح سخي بهلول زكي، ابطحي رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، شجاع قمقام، قاطع الاصلاب، ومفرق الاحزاب، اربطهم جنانا، واطلقهم عناناً، واجرأهم لسانا، وامضاهم عزيمة واشهدم شكيمة، اسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب _ اذا ازدلفت الاسنة وقربت الاعنّة _ طحن الرحي، ويذروهم ذرو الريح الهشيم.. ليث الحجاز وكبش العراق. مكي مدني، ابطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري احدي، شجري مهاجري من العرب سيدها، ومن الوغي ليثها. وارث المشعرين، وابو السبطين، الحسن والحسين. مظهر العجائب ومفرق الكتائب، والشهاب الثاقب، اسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، ذاك جدي علي بن ابي طالب. انا ابن فاطمة الزهراء، انا ابن سيدة النساء، انا ابن الطهر البتول، انا ابن بضعة الرسول. قال ولم يزل يقول انا انا حتي ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد ان تكون فتنة، فأمر، المؤذن ان يؤذن فقطع عليه الكلام وسكت; فلما قال المؤذن: الله اكبر، قال علي بن الحسين: كبرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء اكبر من الله. فلما قال: اشهد ان لا اله الاّ الله، قال علي: شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخي وعظمي. فلما قال: اشهد ان محمداً رسول الله، التفت علي من اعلي المنبر الي يزيد وقال: يا يزيد محمد هذا جدي ام جدك؟ فإن زعمت انه جدك فقد كذبت، وان قلت: انه جدي فلم قتلت عترته؟!. قال:

وفرغ المؤذن من الاذان والاقامة فتقدم يزيد وصلي صلاة الظهر [245] . فلما فرغ من صلاته أمر بعليّ بن الحسين واخواته وعماته رضوان الله عليهم ففرَّغ لهم داراً فنزلوها. وأقاموا أياماً يبكون وينوحون علي الحسين (عليه السلام) [246] .

الطاغوت والمحاولة الانهزامية

واستخلي يزيد يوماً بعلي بن الحسين (عليه السلام) ثم قال له: لعن الله ابن مرجانة. أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته اياها، ولدفعتُ الحتف عنه بكل ما استطعت. قلت: اعتذر يزيد الي الامام علي بن الحسين (عليه السلام) متناسياً أوامره الي السلطة التنفيذية بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، ومتناسياً أنه كان بعد قتله ينكت فمه بمخصرة في يده ويقول: «ليت أشياخي ببدر شهدوا..» وانه أمر أن يُصلب الرأس الشريف علي باب داره، وانه في تلك الحالة دخلت عليه امرأته هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز فوثبت علي يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة علي باب داري، فغطاها يزيد وقال: نعم فاعوِلي عليه يا هند وابكي علي ابن بنت رسول الله وصريحة قريش «فاطمة»; عجّلَ عليه ابن زياد فقتله قتله الله [247] . ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن معاوية بمحاولة التنصل من الجريمة الكبري، قتل ريحانة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فتارة يلقي المسؤولية علي الحسين نفسه، واخري يلقي اللائمة واللعنة علي ابن مرجانة «عبيد الله بن زياد». ولا أدلّ علي رضاه بقتل الحسين بل أمره بقتله من الوثيقة التاريخية المذكورة آنفاً، ففي الوقت الذي يصلب رأسه علي باب داره، وزوجته هند تعترض عليه في ذلك يقول: نعم، أي صلبته علي باب داري، فاعولي عليه يا هند وابكي علي ابن بنت رسول الله. كل ذلك ناتج من

إحساس السلطة الغاشمة بعظيم ما ارتكبت، وخطأ ما قدمت، لاحياء من الله تعالي وخوفاً من العذاب الاليم في الدار الاخرة يوم (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام) [248] ولا أن لهم ضميراً حياً فبدأ يتيقظ بعد أن تهاوي في الحضيض، ولكن خشية من تفاقم الاوضاع السياسية المتدهورة، وانفجار عبوات الوجدان الاسلامي الذي بدأ يتوثب، ويتساءل ويندهش، حتي في بيت يزيد، مما مرَّ من صنيع هند مع يزيد واستنكارها لموقفه الشائن المقيت، وانه لما دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل معاوية إلاّ استقبلتهن بالبكاء والصراخ، والنياحة والصياح علي الحسين، وألقين ما عليهن من الحليّ والحلل. وأقمن المآتم عليه ثلاثة أيام [249] . انّ محاولة التنصل من الجرائم التي تنكشف للعيان سياسة اكثر الحكام الطواغيت منذ العصور المتقدمة حتي العصر الحاضر، فتتظاهر القيادات السياسية المتوغلة في الظلم والغدر بالانسانية والتأسف لما وقع، والاعتذار مما حدث، وتحيل مسؤولية الجرائم علي السلطات التنفيذية، واحياناً تنهكها عقوبة، وتصب عليها جام الغضب والعذاب الاليم. كل هذا أمر واضح وأمثلته كثيرة جداً، وفي صفحات التأريخ السياسي وتقارير المراقبين شواهد لا تحصي. بيد أن الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) لم ينخدع بادعاء يزيد ومحاولته الانهزامية، فكاشفه بكل قوة وحزم _ وجها لوجه _: ويلك يا يزيد إنك لو تدري ما صنعت وما ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي اذن لهربت في الجبال، وفرشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور. وفي تأريخ ابن الاثير خبر طريف جداً يؤكد ما مر من الرضا الذي عليه يزيد بن معاوية، والارتياح البالغ لقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) ثم الالتجاء الي محاولات التنصل الفارغة التي لم تُجْده أو تسعفه في المقام. فإليك

نص الخبر [250] . وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلي يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث حتي بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم له فندم علي قتل الحسين، فكان يقول: و ما عليَّ لو احتملت الاذي وانزلت الحسين معي في داري وحكّمته فيما يريد، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، ورعاية لحقه وقرابته. لعن الله ابن مرجانة فانه اضطره وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتي يتوفاه الله، فلم يجبه الي ذلك فقتله، فبغّضني بقتله الي المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فابغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ومالي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه! [251] . وفي الشام وقد تراخت قضبان الديكتاتورية شيئاً ما، ولانت أغلالها، وبعد تلك المشادّات الكلامية والمناورات الحادة خرج الامام عليّ بن الحسين (عليه السلام) ذات يوم فجعل يمشي في سوق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الضبابي فقال: كيف أمسيت يابن رسول الله؟ فقال: أمسيت والله كبني اسرائيل في آل فرعون. يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم. يا منهال أمست العرب تفتخر علي العجم بأن محمداً (صلي الله عليه وآله وسلم) عربي، وأمست قريش تفتخر علي سائر العرب بأن محمداً قرشي منها، وأمسينا آل بيت محمد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتولون مشرَّدون مطرودون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون علي ما أمسينا يا منهال. وذكر السيد ابو طالب هذا الحديث وزاد فيه: وأصبح خير الامة يُشتم علي المنابر، وأصبح شرّ ألامة يمدح علي المنابر، وأصبح مُبغضنا يُعطي الاموال، ومَن يُحبّنا منقوصاً حقه [252] .

البلورة السياسية للقربي

هذه كلمات دقيقة المحتوي، ذات

بعد سياسي لا ينبغي أن يخفي، فإن أجلّ مفاخر الشعب العربي علي غيره من الشعوب كون الرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) عربي الانتساب. واذا كان هذا مفتخراً سامياً للعرب عامة، فهو مفتخر لقريش خاصة فإنهم قومه وذووه. ولكن أليس من المنطق السليم اذا كان افتخار قريش علي العرب لانتماء الرسول إليهم أن يكون آل محمد وعترته الادنون أولي بالافتخار، وأقرب لشرف الانتساب; فاذا كانت لقريش خصوصية في هذا الامر فان قرابته الادنين أشد أختصاصاً. ولقد بلورت قريش المفتخر المذكور بلورة سياسية; فهو الحجة الدامغة، والمبرّر الكافي عندها وفي مخططها المدروس للاستيلاء علي الخلافة الاسلامية. ومن العجب أنَّ الاستغلال البشع لقرابة رسول الله لم يقتصر عليه بل تعدّاه الي استغلال القرابة من الصديقة فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) حتي فيما يضيرها ويسحق كرامتها. فانه لمّا استشهد الامام الحسين (عليه السلام) صعد عمرو بن سعيد أمير المدينة المنبر وخطب وقال في خطبته: انها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، وموعظة بعد موعظة «حكمة بالغة فما تغني النذر». فقام اليه عبد الله بن السائب فقال: أما لو كانت فاطمة حيّة فرأت رأس الحسين لبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد وقال: نحن أحق بفاطمة منك، أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، وابنها ابننا، أما لو كانت فاطمة حية لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامت من قتله ودفع عن نفسه.

حزن والتياع

وقبل أن نغادر الحديث عن الاوضاع المأساوية وانشطة الامام زين العابدين (عليه السلام) في الشام نودّ أن نؤكد إضافة الي ما مرَّ في سياق الحديث ونشير الي عمق النوائب التي واجهها الامام علي زين العابدين وأهل بيت الحسين (عليهم السلام) وهم في الطريق الي الشام، وفي الشام

نفسه حتي ان الامام زين العابدين (عليه السلام) كان يتحدث عنها بكل حزن والتياع حتي ذكرت له مقاطع شعرية كان يقولها وهويتنقل في كهوف المظالم والمحن من كهف الي كهف، فمن ذلك المقطوعة التي أولها: أقاد ذليلاً في دمشق كأنني من الزنج عبد غاب عنه نصير والقطعة التي أولها: ساد العلوج فما ترضي بذا العرب وصار يقدم رأس الاُمة الذنب والقطعة التي أولها: هذا الزمان فما تفني عجائبه عن الكرام ولا تفني مصائبه ولقد سأله ابنه الامام محمد الباقر صلوات الله عليه عن حمل يزيد له فقال: حملني علي بعير يظلع بغير وطاء، ورأس أبي الحسين (عليه السلام) علي علم، ونسوتنا خلفي علي بغال غير مؤكفة، والفارضة «الجلاوزة» خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح، حتي اذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا اهل البيت الملعون. وأخيراً قال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السلام): اذكر ما حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن، فقال له: الاُولي أن تريني وجه سيدي ومولاي أبي الحسين (عليه السلام) فأتزود منه. والثانية أن تردّ علينا ما اُخذ منا، والثالثة ان كنت عزمت علي قتلي أن توجه مع «هذه» «هؤلاء» النسوة من يردّهن الي حرم جدّهن (صلي الله عليه وآله وسلم). فقال أمّا وجه ابيك فلا تراه أبداً، وأما ما اُخذ منكم فأنا اعوضكم عليه أضعاف قيمته، فقال: أما مالك فلا نريده، وهو موفَّر عليك; وانما طلبت ما اُخذ منا لان فيه مغزل فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) ومقنعتها وقلادتها وقميصها. فأمر بردِّ ذلك وزاد فيه من عنده مئتي دينار، فأخذها الامام زين العابدين (عليه السلام) وفرّقها في الفقراء. (3) ولمّا اعتقد

يزيد بانتهاء مهمته في جلب أبناء النبوة الي دمشق سيَّر القافلة الي المدينة، وأمر برعايتهم في الطريق، فتحرك الموكب الربّاني. موكب العقيدة والفداء حتي إذا كانوا ببعض الطريق رغبوا الي المسؤول المعين علي حراستهم من قبل يزيد أن ينطلق بهم الي كربلاء، فاستجاب لهم، وهناك حيث وصلوها ألفوا الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة الامام الحسين (عليه السلام)، فارتفعت الاصوات بالبكاء والعويل، وتجسدت لهم مرة اخري وقائع كربلاء حيث مقتل الصفوة من رجال الله. واتجه الموكب بعد ذلك الي مدينة الرسول تصطحبه الهيبة والجلال، والحزن العميق والدموع الساخنة، والقلوب المفعمة بالوجد والاسي، حتي اذا أوشك الموكب علي الوصول، وشارف مدينة الرسول التفت الامام زين العابدين (عليه السلام) الي بشر ابن حذلم فقال له: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر علي شيء منه؟ فقال: بلي يابن رسول الله اني شاعر، فقال (عليه السلام): ادخل المدينة وانع أبا عبد الله (عليه السلام). فعندئذ أمره الامام أن يدخل المدينة ويلقي بيان قتل الحسين (عليه السلام) بصياغة شعرية. فينظم بشر بيتين من الشعر، وما إن دخل في المدينة وبلغ مسجد النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) حيث العمق الاستراتيجي حتي صاح صيحة المستغيث، ونادي نداء الثائر، ليحرك الجماهير ويُلهب المشاعر: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قُتل الحسين فأدمعي مدرار الجسم منه بكربلاء مضرج والرأس منه علي القناة يدار فاجتمع الناس _ وهم من كل حدب ينسلون _ وأذهلهم النداء، وعم البكاء، واضطرب الناس حتي اهتزت ارجاء المدينة وهم يستزيدون بشراً من التعرّف علي هذه المصيبة الهائلة وهو ينبئهم بمجمل الاحداث، ويدلّهم علي وصول موكب السبايا حيث

نزل الامام علي بن الحسين (عليه السلام) في أطراف المدينة وحطّ رحله هنالك، وضرب فسطاطه، وانزل نساءه. فسار الناس أفواجاً أفواجاً الي الموكب.

خطاب المدينة أو فتيل الثورة

فأمر الامام زين العابدين (عليه السلام) بكرسي فنصب له، وان عويل الجماهير وصراخها يشق عنان السماء. فأومأ الامام إليهم أن انصتوا فأنصتوا وراح يدلي بخطاب تأريخي هام، حيث يقول: الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السموات العلي، وقرب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الامور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. أيها القوم: ان الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة في الاسلام عظيمة قتل أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) وسبي نساؤُهُ وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان وهذه الرزية التي لامثلها رزية. ايها الناس، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسموات بأركانها والارض بأرجائها والاشجار بأغصانها والحيتان ولجج البحار والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون يا ايها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن اليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم؟ ايها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الامصار كأنا أولاد ترك وكابل من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبنا ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في أبائنا الاولين إن هذا إلاّ اختلاق. والله لو أن النبي تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا فأنّا لله وانا اليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها

واكظَّها وافظعها وأمرَّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا فانه عزيز ذو انتقام [253] .

تكريس المظلومية

لقد جسَّد الخطاب _ علي قصره _ واقعة كربلاء مركزاً علي المظلومية التي لحقت بأهل البيت من قتل الحسين (عليه السلام) من جانب، واسر اهل بيته من جانب آخر. ولم يكتف الجناة بذلك بل نصبوا رأس الحسين فوق السنان، ينقل من بلد الي بلد من جانب ثالث. وعقب الامام زين العابدين (عليه السلام) علي ذلك بتلميحة سريعة، ولكنها معبرة ومؤثرة، الي ما لقيَ شخصياً ومن معه من آل بيت الرسول من السبي والتشريد، فاذا كان الترك والكابليون يؤسرون في الحروب بسبب شركهم آنذاك فلماذا يعامل اهل بيت الرسول معاملة الاسري وهم اهل الايمان والاستقامة، وقادة الخير والرحمة والفضيلة؟! ثم ينتهي الامام زين العابدين (عليه السلام) إلي القول: والله لو أَنّ النبي تقدم اليهمفي قتالنا، كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوه. وهذه كناية بديعة نادرة عن منتهي مخالفة القيادة السياسية، والسلطة التنفيذية لاوامر الرسول وتوجيهاته وتعاليمه حول اعطاء اهل بيته حقوقهم موفورة، واكبارهم ومحبتهم. اي أنّ ازلام النظام الذين يحكمون باسم الرسول الاعظم قد جنوا علي اهل بيته بأقصي ما يقدرون عليه من الجناية والهتك والاجرام. ومن هنا نعلم أن عليا زين العابدين (عليه السلام) قد ابتغي من الخطاب تكريس مظلومية اهل البيت لصالح الروح الثورية والنهضة الواعية ضد الطغيان والجبروت.

ابعاد التوقف علي المشارف

ينبغي لفت النظر الي أمر في غاية الاهمية من الوجهة السياسية وهو السبب الذي من اجله لم يدخل موكب الامام زين العابدين (عليه السلام) الي المدينة مباشرة بل أمر بالتوقف علي مشارفها وهبط هناك وارسل مندوباً عنه الي اهل المدينة ينعي الحسين (عليه السلام) ويعلمهم بوجود موكب السبايا باطراف المدينة. قد تكون العلة في ذلك احد الاحتمالات التالية، او

أنَّ هذه الامور مجتمعة تكوّن العلة التامة لسياسة الامام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الشأن: أ _ لقد اراد زين العابدين (عليه السلام) اين يعطي زخماً سياسياً عالياً _ حسب المستطاع _ يتناسب وحجم ملحمة كربلاء. وقد كان يتوقع أن يخرج اهل المدينة بأسرهم استجابة للحدث العظيم، واستماعاً للبيان التأريخي الذي سيدلي به فيما يخص الحادث. ان تحقيق مثل هذا المطلب ليحتاج الي مكان رحيب جداً، يستوعب عشرات الالوف من المدنيين رجالاً ونساء وصبياناً. في الوقت الذي قد ارتفعت الكثافة السكانية للمدنيين فلقد كانت المدينة الي عهد قريب عاصمة الامة الاسلامية. ومن نافلة القول أنه ليس بالامكان ان يضم بيت من البيوت مهما اتسع، ولا المسجد النبوي تلك الاعداد الغفيرة. فاختار الامام زين العابدين (عليه السلام) افضل الاماكن من حيث المساحة أرضاً فضاء رحيبة خارج المدينة، تتسع لاكبر كمّ جماهيري يناله الاحتمال. ب _ اراد الامام زين العابدين (عليه السلام) ان يعرف حجم الاستجابة الواعية لملحمة كربلاء، ومقدار التفاعل معها _ لا عن طريق النظرة القبلية _ بل عن طريق التظاهرة الشعبية العارمة التي تنطلق _ عن ادراك وارادة _ نحو المكان الذي يحدده لها خارج المدينة وذلك لايتأتي في ازقة معينة او غير معينة، او المسجد النبوي، او ديار، او غيرها من الاماكن داخل المدينة، قد مرنوا علي ارتيادها يومياً وبصورة عابرة; فاختار لهم المكان خارج المدينة. ولقد كان هذا المكان المختار _ بحق _ بمثابة المقر العام للقيادة. ج_ _ في حالة افتراض دخول الامام زين العابدين (عليه السلام) ومن معه الي المدينة مباشرة اي دون الخطّة التي وضعها (عليه السلام) فانه سوف يكون دخولا عادياً غير محرك او فاعل في الساحة

الشعبية او السياسية. انهم يدخلون _ حسب هذا الافتراض _ كما يدخل الغائب بعد الاياب الي الوطن، او الاسير اذا اطلق سراحه. بينما كان الامام زين العابدين (عليه السلام) يتوخي تحريك الساحة، وتوجيه الانظار الي خط الثورة، والي ما لقيه آل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) من الاسي والاضطهاد والتعذيب. د _ لقد جهد النظام الغاشم في اذلال اهل البيت النبوي اذ قد نقلهم علي أسوأ حال من بلد الي بلد. علي جمال بغير وطاء، موثوقين من العراق الي الشام بالحبال. او كما قال الامام زين العابدين (عليه السلام) في الخطاب الموجّه لاهل المدينة: أيها الناس اصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الامصار، كأنا اولاد ترك وكابل. فعمد الامام زين العابدين (عليه السلام) في خطته من ايفاد الناس الي خارج المدينة أن يرجع العزة القعساء والكرامة المهدورة. فاذا بالجماهير المدنية تستقبلهم بكل حفاوة واكبار، قاصدين لهم حيث كانوا. ولقد كان آل الحسين (عليه السلام) حينما سيقوا الي مدينة دمشق قد اظهر سكانها _ في بداية الامر _ السرور والشماتة; اذ انَّ الاجهزة الاعلامية التضليلية للنظام قد بثت بينهم ان هؤلاء الاسري من الخوارج المارقين عن الدين.. فقابلهم الناس بجفاء وتقطيب. فاستهدف الامام زين العابدين (عليه السلام) من خطته المذكورة ان يزيد اهل المدينة بصيرة الي بصيرتهم; وان يستقبلوا آل الحسين (عليه السلام) باجلال وتعاطف بالغين. علي العكس تماماً مما وقع في دمشق إبّان دخول الموكب. ه_ _ تقدم ما لقي الاسري من آل الحسين (عليه السلام) من القهر والحرمان والعذاب، اضافة الي أثر حرارة الشمس عليهم الذي بان علي اجسادهم، وهم يقطعون المسافات المترامية. واذا افترضنا أنهم دخلوا المدينة مباشرة من دون توقف علي

المشارف. فان حالات من الراحة سوف تغمرهم، وترجع اليهم الحياة الطبيعية وتزول عنهم آثار الارهاق والالام شيئاً فشيئاً. ولمّا كانت الاماكن المتوقعة لنزلهم في المدينة لا تتسع لان يزورهم المجتمع المدني جملة واحدة، فلا بد ان تتدرج الزيارة، فيكون اكثر المدنيين بعد انقشاع حالات البؤس والنصب او تخفيفها، ولا يراهم في وضعهم الاول وكما هم عليه الا بعض المدنيين. كما ان رؤيتهم وهم علي صعيد واحد وفي ساعة واحدة يوحي برد الفعل ضد النظام والتعاطف مع اسري آل محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) اكثر مما توحي به رؤيتهم متفرقين قد رجعوا الي بيوتهم. فاستهدف الامام زين العابدين (عليه السلام) من رؤيتهم بذلك الوضع المؤلم، والمشهد الحزين، كشف جرائم السلطة بحق اهل البيت، وتعرية النظام. نكتفي بهذا المقدار في ذكر الاسباب التحليلية المحتملة لعدم دخول موكب الامام زين العابدين (عليه السلام) الي المدينة مباشرة، وانما توقّف علي مشارفها بأمر منه (عليه السلام). لماذا الشعر دون النثر؟ لقد امر الامام زين العابدين (عليه السلام) بشر بن حذلم ان يدخل المدينة وينعي ابا عبد الله الحسين (عليه السلام) ببيتين من الشعر، فلماذا الشعر دون النثر «حسب هذا الموقف» او دون ان يقول له: انع ابا عبدالله، اي بقول مطلق من دون تحديد للنعي نثراً او شعراً. وهذا سؤال مهم لا يجدر ان نمرّ عليه مر الكرام وذلك باعتباره يلقي الضوء علي احد المواقف السياسية لتحرك الامام زين العابدين (عليه السلام). أقول: انما كان هذا الامر _ فيما اعتقد _ بسبب علم الامام بالدور الفعّال الذي ينهض به الشعر في الاثارة والتأجيج وفي تجسيد الواقعة وبلورة الحادث. كما ان الامام (عليه السلام) كان بمسيس الحاجة الي التعجيل في

تحشيد الجماهير وانتهاز الفرصة قبل اتخاذ النظام لما يسمي بالتدابير الامنية في تفريق المتظاهرين او ايقاف عجلة المعارضة، اي قبل أن تتحرك اجهزة النظام لقطع سير مخطط الامام زين العابدين (عليه السلام) في تحريك الناس وانطلاقهم الي موكب آل الرسول بسرعة واندفاع. وفي هذا السياق من التسريع بحركة التحشيد وشد الجماهير نلاحظ حكمة الامام في أمره ببيتين من الشعر كما حدده لبشر بن حذلم ولم يقل بقصيدة او عدة ابيات اذ من الواضح ان القاءها يحتاج من الوقت الي اضعاف ما يحتاجه البيتان.

لقطاتمن ثورة اهل المدينة

ظل الامام زين العابدين (عليه السلام) في المدينة يندب أباه، واهل بيته، واصحابه المجزرين كالاضاحي، ويبكيهم اشد البكاء وأحرقه، ويثير السخط الشعبي، علي الظلمة المستبدين، اعداء اهل البيت النبوي الكريم. ولقد كان هذا الاسلوب وغيره من الاساليب التي اختطّها دوراً فاعلاً في ثورة اهل المدينة، فانها كانت من بعض الجهات رشحاً من فيض دموعه، وناراً من نار تأليبه وحثّه وسخطه علي الطواغيت. وفي المدينة غالبية الانصار والكثير من اهل التقوي والصلاح الذين يثير حفيظتهم قتل انسان بريء لمجرد براءته فكيف بالحال وقد قُتل الصفوة من آل الله. ومما زاد المشكلة السياسية والروحية تفاقماً، والغضب اتقاداً، ان والي المدينة قد ارسل وفداً من اهلها الي يزيد بن معاوية، وهو وإن كان قد اكرمهم، إلاّ انهم قد رأوا من سلوكه كل ما يشين ويقبح. ولما رجعوا الي المدينة اظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحرّاب _ وهم اللصوص _. وانّا نشهدكم انّا قد خلعناه [254] . لقد كان ارسال الوفد تكتيكاً من اجل استمالتهم واغرائهم، وتقريب

نظراتهم السياسية من نظرات الحكم القائم. إذ فرض عليهم واقع يزيد، وسلوكه الملوث بعداً عن السلطة القائمة، وغضباً علي الخليفةِ الجديد. وعندما خلعوه قام عبدالله بن حنظلة فقال: جئتكم من عند رجل لو لم اجد الاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد اعطاني واكرمني وما قبلت عطاءه إلا لاتقوي به فخلعه الناس، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل علي خلع يزيد وولّوه عليهم [255] . ولقد كانت تقع امثال تلك المنكرات في خلافة معاوية فلا نكاد نري مَن يقول ما قاله ابن الغسيل: لو لم اجد الا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، والظاهر ان العلة في هذه الروح النضالية والاندفاع الجهادي، كانت صديً لموقف الامام الحسين (عليه السلام) حيث جاهد القيادة الوضعية، واعلن الحرب المسلحة ضدها، مع قلة انصاره، وكثرة مناوئيه. فلم يدع بذلك حجة لسواه في عدم مجابهة الطغيان; بسبب قلة الانصار، او خشية الانفراد في المجابهة. ولم تكن كلمات الوفد ونقده الدليل الوحيد عند اهل المدينة علي انحراف يزيد وتنكّره للاسلام وجوره وطغيانه، بل قد رأوا بأم اعينهم كما قد رأي الاخرون جور يزيد وعماله علي البلدان وما ظهر من فسقه وعمّهم من ظلمه، وما عُلم من قتله ابن بنت رسول الله، وانصاره، وما اظهر من شربه الخمور وسيره سيرة فرعون بل كان فرعون اعدل منه في رعيته، وانصف منه لخاصته وعامته [256] . فاخرج اهل المدينة عامل يزيد عليها وحصروا بني امية واتباعهم فكلم مروان بن الحكم وهو العدو اللدود لال الرسول عليّ بن الحسين (عليه السلام) ان يضم عياله اليه فاستجاب الامام لذلك لكرمه (عليه السلام) وطيب سجاياه وصدق اخلاقه الاسلامية. وقد نفعه الموقف هذا فيما بعد اذ ابعد من التحليلات السياسية المطروحة

آنذاك من قبل الامويين ان يكون قد مدّ أصابعه لتحريك اهل المدينة ثورياً، أو انه القي الوقود في طريق الثورة لتزداد تأججاً واشتعالاً.

وصف موجز للقتال

ويرسل يزيد بن معاوية جيشاً كثيفاً الي مدينة الرسول بقيادة مسلم بن عقبة، فاقبل من ناحية الحرّة، واشتد القتال بين الفريقين، وحمل الفضل بن العباس ابن ربيعة قائد الفرسان علي جيش يزيد فكشفه مرتين. فاخذ مسلم رايته وحرّض الجيش، فقتل الفضل بن العباس وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبة الا نحو عشرة اذرع. واقبلت خيل مسلم ورجّالته نحو ابن الغسيل. فاقتتلوا اشد اقتتال رؤي لهم، واخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحداً واحداً حتي قُتلوا بين يديه، وهو يضرب بسيفه ثم قُتل وقُتل معه اخوه لامّه. فقال: ما احب ان الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم. (وقيله يا رب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون). وانهزم الناس، واباح مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والاموال، ودخل رجل منهم علي امرأة من الانصار ترضع ابنها، فسأل ان تعطيه مالاً فقالت: والله ما تركوا لنا شيئاً، فاصرّ إن لم تعطه مالاً ليقتلنّها وصبيّها. فقالت له: انه ولد ابن ابي كبشة صاحب رسول الله. فاخذ برجل الصبي ويده، وفمه في ثدي امه، وضرب به حائطاً فتناثر دماغه. وبايع الناس علي انهم عبيد ليزيد. (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم).

زين العابدين و مسلم بن عقبة

وأُتي بزين العابدين (عليه السلام) الي مسلم بن عقبة او مُسرف كما يسميه اهل المدينة، وهو مغتاظ عليه فتبرأ منه ومن آبائه. فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، واقعده الي جانبه، وقال له سلني حوائجك فلم يسأله في احد ممن قُدّم الي السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه. فقيل لعلي (عليه السلام): رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟ قال: قلت: اللهم رب السموات السبع وما اظللن، والارضين السبع وما أقللن، رب

العرش العظيم، ربّ محمد وآله الطاهرين. اعوذ بك من شرّه، وادرء بك في نحره. اسألك ان تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه؟ وقيل: لمسلم رايناك تسبّ هذا الغلام وسلفه فلما اُتي به اليك رفعت منزلته. فقال: ما كان ذلك لرأي مني لقد مُلئ قلبي منه رعباً [257] .

لجوء و طمأنينة

وبينما الاضطهاد علي أَشدّه، والمطاردة في ابعد مداها.. وفم الحرية يشرق بآخر ما فيه من قطرات، التجأت أُسر كثيرة الي الامام زين العابدين (عليه السلام) مأوي المضطهدين، وحبيب المستضعفين. واما قلوبهم المثقلة بالحيرة، والخوف، والجراح، فقد اودعها بقوة تاثيره اناشيد الطمأنينة، واغاريد الامن والسلام.

الاستثناء من قرار الاستعباد

يجدر التنبيه الي ان قرار الاستعباد المدني، اي قرار يزيد بن معاوية ببيعة اهل المدينة علي انهم عبيد له، لم يستثن منه الا علي بن الحسين (عليهما السلام) وعلي بن عبدالله بن العباس. أما بالنسبة للاخير فانه امتنع بأخواله من كندة، وكان الحصين بن نمير السكوني الكندي نائب مسلم بن عقبة قد قال: لا يبايع ابن اختنا الا كبيعة علي بن الحسين. ولكن لماذا استثني علي بن الحسين (عليهما السلام)؟ لقد أثار قتل الامام الحسين (عليه السلام) نقمة جماهيرية عارمة ضد السلطة، وحوّل مظاهر المسرّة والابتهاج الي حزن عميق، وتفكير وقلق متزايدين، وقد تقدّم ايراد ذلك. ومن الدلائل عليه أيضاً: ان عبدالملك بن مروان بُعيد هذه الفترة قد ادرك حجم التدهور والبوار فيما اذا اقدم علي قتل علي بن الحسين، فحينما طلب منه الحجاج قتله، ليثبت ملكه أبي ذلك. لا رحمة به، او حباً له، وانما هو الخوف الذي يساوره علي الملك ان يزول. وإذا ما عُرضت البيعة بشرطها الاستعبادي علي الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) فانه من الممكن جداً ان يستمر علي نهجه بمنطقه الرافض، وان معني الرفض هنا ان يتضرج بدمائه الزكية. وهل يعني هذا الاّ ان صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات القمعية، ستدخل في العمق الاستراتيجي للمعارضة السياسية والثورية، وتزلزل اعمدة الكيان الحاكم.

من فلسفة التحرير

لقد حّول الحكم الاموي الغادر اهل المدينة عبيداً ليزيد، بايعوا علي ذلك قسراً، واذعنوا لامر يزيد وقائده المسرف الا قليلاً منهم. في الوقت الذي نشاهد فيه الامام زين العابدين (عليه السلام) يشتري العبيد ويطلقهم من الرق. فما العلة لحركته التي قام بها لتحرير العبيد بصورة يندر نظيرها؟ ولقد فصّلنا البحث في موضوع سياسة تحرير العبيد

من هذا الكتاب. والذي ليس لنا بدٌّ من ان نقوله هنا فيما يخص هذا البحث جواباً علي السؤال المذكور أن الحقيقة هو وجود اكثر من علة لذلك، والذي نراه ان اكبر العلل هو ان الحكيم الرسالي العميق الاسلوب علياً زين العابدين (عليه السلام)، لما راي ان الناس يمتهنون من قبل القيادة السياسية واذنابها، وقد بايع اهل المدينة وهم احرار كما ولدتهم امهاتهم علي انهم عبيد ليزيد، برهن (عليه السلام) عملياً علي ان خط الاسلام مباين تماماً لخط القيادة السياسية، فبينما هي تستعبد الاحرار وتخنق الحرية كان الخط الاسلامي الاصيل علي يد زين العابدين (عليه السلام)، يحرر العبيد، ويطلق الارقّاء، ويدعو الي الحرية والسلام.

محاولة للاستنتاج

من المعروف _ تاريخاً _ ان الامام زين العابدين (عليه السلام)، لم يشترك في قتال اهل المدينة، ضد جيش يزيد بن معاوية، بل خرج من المدينة الي ينبع، وإن كان له ادوار ايجابية خارج حدود القتال، فما هو السبب في عدم اشتراكه في القتال؟ في الواقع، اننا لم يردنا نص تحليلي في ذلك سواء عن الامام زين العابدين (عليه السلام)، او عن غيره من ائمة اهل البيت (عليهم السلام). اذاً ليس امامنا من تحليل او تعليل الا ذلك الذي سنحاول استنتاجه من الزاوية العقلية والرؤية السياسية والتاريخية فحسب. قد يمتنع الانسان عن الاشتراك في القتال لسبب او اكثر من الاسباب التالية: أ _ عدم الايمان بعدالة القضية: لقد مرَّ في اصل البحث ان هل المدينة انما ثاروا علي يزيد لما رأوا من ظلمه، وشربه الخمر، وقتله للامام الحسين بن علي (عليهما السلام)، اي ان ثورتهم تهدف الي قمع الضلالة والاستبداد، والي الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر. اذاً فليس من شك او

ريب، في عدالة قضيتهم، ولكن عدالة القضية ليست الشرط الوحيد، فان النهوض بالثورة يستند الي مستلزمات كثيرة، وليس عدالة القضية الا واحدة منها، وليس هذا الامر طبقاً للنظرية السياسية والعسكرية للاسلام فحسب، بل طبق للنظريات الوضعية أيضاً. وهو ايضاً اعتبار عقلائي، متسالم عليه. اننا نري كثيراً من الطبقات الاجتماعية المضطهدة، والحركات السياسية لا تلهب مراجل الثورة، علي الرغم من ايمانها الخاص بعدالة قضيتها; وما ذاك الا لفقدانها لبعض الشرائط الاساسية الاُخري. ولا ريب في ان الامام زين العابدين سلام الله عليه يشارك اهل المدينة الرؤية والتقييم للنظام الحاكم، ولشخص يزيد بن معاوية; لان ذلك من المسلّمات عند اقل الناس وعياً سياسياً، وادراكاً روحياً. وما اسلامية النظام الحاكم الاّ مسرحية هزلية، سيئة جداً في النص والاخراج والتمثيل. ولكننا قد علمنا. ان عدالة القضية ليست الشرط الوحيد للثورة. ب _ ضعف الشجاعة: ولا يمكن باي حال من الاحوال ان يطبق هذا الامر علي مثل الامام زين العابدين (عليه السلام) ; فانه كان حاضر الاستعداد للحرب والمواجهة، ثابت القلب، مقداماً شجاعاً، ولقد حاول القتال في كربلاء علي الرغم من شدة المرض، او انه قاتل بالفعل حتي ارتث كما في بعض الاخبار. وغير ذلك من المواقف التي تغني عن التفصيل [258] . ج _ فقدان الاستطاعة البدنية: وهذه القضية لا تنطبق ايضاً علي الامام زين العابدين (عليه السلام) ; فانه قد كان يتمتع بصحة بدنية فائقة. ولقد كان في موروثه البدني عن الامام الحسين والامام علي بن ابي طالب (عليهما السلام)، اضافة الي جشوبة عيشه، ما يجعله في مصاف الندرة من الاقوياء. د _ عدم الاعتقاد بجدوي الحرب: وهنا بيت القصيد; فان النظرة الي مجمل اوضاع ثورة اهل المدينة

تنبؤاً لا تنبئ بمستقبل مفلح وزاهر من حيث القدرة علي الانتصار. يكفيك انهم اطلقوا سراح اسرائهم، من بني امية وغيرهم، وهم الف رجل قبل المواجهة، وقبل احراز النصر ابدا. مما حدا ببعض الاسراء ان يكشف الاسرار العسكرية للثائرين. لقد اكتفي اهل المدينة من هؤلاء الاسري ان احلفوهم ان لا يكشفوا اسرارهم، مع العلم ان بعض الاسري ممن لا يمكن ان يوثق به، ومن هو معروف بالخواء الروحي، والاحباط العقائدي. ويكفيك انهم لم ينسّقوا مع الاطراف الاخري المعنية بالثورة علي النظام الحاكم، في العراق، وفي الحجاز. ويكفيك ان ثورة اهل المدينة لم تستمر اكثر من يوم واحد، حتي قمعت. قال عيسي بن طلحة: قلت لعبد الله بن مطيع: كيف نجوت يوم الحرة، وقد رأيت ما رأيت من غلبة اهل الشام؟ فقال عبدالله: كنا نقول: لو اقاموا شهراً ما قتلوا منا شيئاً، فلما صنع بنا ما صنع، وأدخلهم علينا، وولي الناس ذكرت قول الحارث بن هشام: وعلمت اني ان اقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي فانكشفت فتواريت، ثم لحقت بابن الزبير بعد، فكنت اعجب كل العجب ان ابن الزبير لم يصلوا اليه ثلاثة اشهر، وقد اخذوا عليه بالمضايق، ونصبوا المنجنيق، وفعلوا به الافاعيل، ولم يكن مع ابن الزبير احد يقاتل له حفاظاً، إلا نفير يسير، وقوم آخرون من الخوارج. وكان معنا يوم الحرة الفا رجل كلهم ذو حفاظ، فما استطعنا ان نحبسهم يوماً الي الليل [259] . وقد لا تكون بحاجة ماسة الي مزيد من التحليل والاستدلال علي ان مستقبل الثورة كان لا يبشر بخير، فان الاخفاق في الثورة، سريعاً يكفي عن المزيد من التحليل.

لقطات من ثورة المختار

المختار الثقفي

من زعماء المسلمين في العراق وله في الجهاد والسياسة باع

طويل وهو من اسرة مؤمنة مجاهدة تعتبر بحق الصفوة المختارة من بني ثقيف وقد استشهد ابوه وعمّه في فتح العراق. ولمّا اوشكت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) علي الانطلاق اعدّ المختار فوجاً من المقاتلين للمشاركة في الثورة فالقت السلطة الاموية القبض عليه، وحينما اطلق سراحه التجأ الي عبدالله بن الزبير في الحجاز واشترك معه في قتال القوّات الاموية. ولم يكن هواه مع ابن الزبير إلاّ انّه رأي الفرصة السانحة لاضعاف الامويين تتحقق من خلال الثائر في الحجاز. الواقع ان المختار لمّا هاجر الي الحجاز وصل ببدنه فقط، امّا روحه وتطلّعاته فما برحت داخل حدود العراق. وفي الحجاز اخذ يراقب عن كثب التطورات السياسية والاجتماعية في العراق ويتحرّاها بتلهّف. وفي ذات يوم حدثّه هانئ الوادعي عن الكوفة قائلاً: انّهم في صلاح واتّساق علي طاعة ابن الزبير إلاّ ان طائفة من الناس اليهم عدد اهل مصر لو كان لهم رجل يجمعهم علي رأيهم اكل بهم الارض الي يوم ما. فرأي المختار ان آفاق طموحاته وتطلّعاته الهادفة في تحقيق حكومة اسلامية عادلة تقصم ظهور قتلة الحسين قد اقتربت من التنفيذ. فقال لهانئ: انا ابو اسحاق انا والله لهم انا اجمعهم علي الحق وانفي بهم ركبان الباطل واقتل بهم كل جبار عنيد. واتّجه تلقاء الكوفة يدعو الناس الي نفسه. ويمكن ارجاع هذه النفس المقتدرة والروح العالية والعزم الشديد في المختار الي علّتين: الاولي: ما يحسّه في شخصيته من كفاءة عالية وقدرة فائقة. الثانية: التلويح احياناً والتصريح احياناً اخري في الاخبار بانّه طالب الثأر وقاتل الجبارين، كقول الامام الشهيد وهو يدعو علي الحشود المقاتلة له: وابعث عليهم غلام ثقيف. ولما دعا الناس الي نفسه وزعم ممثليته لمحمد بن الحنفية ذهب

وفد الي محمد بن الحنفية (عليه السلام) للتأكد من صحة ادّعاء المختار، فلمّا قدموا عليه قال لهم فيما قال: وامّا ما ذكرتم ممّن دعاكم الي الطلب بدمائنا فوالله لوددت ان الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه. ولو كره لقال لا تفعلوا. وممّا يؤكد علي العلاقة الايجابية بين الامام زين العابدين (عليه السلام) وبين المختار دعاء الامام للمختار وترحّمه عليه بعد استشهاده وقبول هداياه التي منها الاموال ومنها جارية كريمة ولدت للامام ولده العظيم زيداً الشهيد (عليه السلام) وعمر وعلياً وخديجة. روي زياد بن المنذر (ابو الجارود) قال: اشتري المختار بن ابي عبيدة جارية بثلاثين الفاً فقال لها: ادبري فادبرت، ثم قال لها: اقبلي فاقبلت، ثم قال: ما ادري احداً احق بها من علي بن الحسين فبعث بها اليه. وهي ام زيد بن علي (عليه السلام) [260] . قلت: ان في الرواية مؤشراً الي ان المختار كان يفضّل علياً زين العابدين (عليه السلام) علي محمد بن الحنفية ولولا ذلك لم يقل: ما ادري احداً احق بها من علي بن الحسين، ولقال: ما ادري احداً احق بها من محمد بن الحنفية. ويعلم من خط اهل البيت في بعض الاحايين مساندة تحركات اسلاميّة ثورية من دون التدخل المباشر في ذلك كمساندة الامام الصادق لزيد الشهيد ومساندة الامام الكاظم لشهيد فخ «الحسين بن علي الحسني» من دون اثارة الضجيج ومن دون اتباع الوسائل المباشرة التي تعلمها السلطة فتقبض علي الامام وتقطع دوره في الحياة الرسالية. وما هي الاّ موازنة دقيقة بين التدخل المباشر والتدخل غير المباشر، فكما تتعيّن افضلية الثاني تارة تتعين افضلية الاول تارة اخري. ولمّا رجع الوفد من محمد بن الحنفية (عليه السلام) الي

المختار قوي امره واتسعت دائرة نفوذه، وسانده اعيان المنتمين لخط اهل البيت، ومن بينهم ابراهيم بن الاشتر ونعيم بن هبيرة الشيباني، وابو الطفيل وابو عبدالله الجدلي.

و فجر المختار عبوات الثورة

وشعار رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يتصاعد الي السماء ونداؤه الهادر: يا لثارات الحسين يشق الاثير. وابراهيم بن الاشتر يبتهل الي الله: اللهم انّك تعلم انّا غضبنا لاهل بيت نبيّك وثرنا لهم فانصرنا علي هؤلاء. وانتصرت ثورة المختار وتسلّم مقاليد الدولة، فقسم علي المقاتلين معه الاعطيات، وبعث الامراء في انحاء العراق وفي ارمينيا وآذربيجان وغيرهما. وتتبّع قتلة الحسين. فحصدهم كحصاد السنبل وسحقهم كسحق البيدر وتعقّبهم كتعقّب الاسد لفريسته (فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون) [261] . فارسل المختار رأس ابن زياد ورأس عمر بن سعد وحصين بن نمير الي الامام زين العابدين (عليه السلام)، فهوي الامام ساجداً لله، شاكراً لسوابغ آلائه وقال (عليه السلام) وهو يتلفّع بالسرور ودفيق البشري يتلالا علي اسارير وجهه: الحمد لله الذي ادركني ثأري من اعدائي، وجزي الله المختار خيراً. وبعد حكم المختار عاماً ونصف العام اقبل اليه مصعب بن الزبير سنة سبع وستين فقاتله المختار حتي قتل رضوان الله عليه.

تحقيق حول المختار

من يتحقق في سيرة المختار وحربه للامويين ودكّه لجيش قائدهم عبيد الله بن زياد، وفي عدائه للزبيريين ابتداءً من انتزاع الحكم منهم في اوّل ثورته حتي قتاله لمصعب الذي سيطر علي الحكم بعد المختار، من يتحقق في هذا يستطع تحليل اتّهام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاسلام وقتل الامام الحسين (عليه السلام) من اجل مصالحه الشخصيّة، وان تنسب له اقاويل مضادّة للاسلام. وكيف لايتّهم بالامور السالفة واضرابها وقد اطبقت علي عدائه دولتان، دولة ابن الزبير ودولة الامويين؟ ولتقريب الصورة الي الاذهان نذكر ان من يعادي في الوضع الراهن حاكماً جائراً يحاول الحاكم او حكومته تحريك اصابع الاتّهام اليه، وان كان المعادي له

صافياً طهوراً كقطر السماء نقيّاً، بريئاً من التهمة كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. والذي يجري في الساحة السياسية هذا اليوم كان يجري بالامس (لتركبن طبقاً عن طبق). ان اكثر صفحات التاريخ دبجتها الايدي الجانية عليه، وان اغلب القراطيس التاريخية سطر فيها مؤرخون مِداد يَراعِهم من اموال سلاطين الجور والطغيان. (قل لا تسألون عما اجرمنا ولا نسأل عما تعملون - قل يجمع بيننا ربُّنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) [262] .

من اعلام البحث

1 _ محمد بن الحنفية (عليه السلام): محمد بن علي بن ابي طالب من عظماء المسلمين علماً وتقوي ورجاحَةَ عقل وإرادة، وزهداً، واجتهاداً في امر الله. وكان علي (عليه السلام) يحبه حباً جما ويقول: من اراد ان يبرّني في الدنيا والاخرة فليبّر محمداً. وبعد استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) اعتقد الكثيرون انّه الامام من بعده. ولكنّه اذعن في نهاية المطاف لابن اخيه الامام علي زين العابدين (عليه السلام) وقال بامامته. 2 _ زيد الشهيد عليه سلام الله: كان زيد نسخة طبق الاصل لشخصية عم ابيه محمد بن الحنفية وقد قال له ابوه الامام زين العابدين (عليه السلام): اعيذك بالله ان تكون زيداً المصلوب في الكناسة. واستشهد زيد في خلافة هشام بن عبدالملك سنة (121 أو 122 ه_). 3 _ نعيم بن هبيرة الشيباني: من اعيان اصحاب الامام علي (عليه السلام) وبقي علي اخلاصه له خلافاً لاخيه مصقلة بن هبيرة. واستشهد نعيم في بداية ثورة المختار سنة ست وستين في ربيع الاول وهو علي رأس فوج من المقاتلين. 4 _ ابوالطفيل عامر بن وائلة: آخر الصحابة موتاً توفي سنة (110 ه_) كان ابو الطفيل من خواص الامام علي عليه الصلاة والسلام وشهد

معه حروبه. ولمّا انكسر المختار في حرب مصعب والتجأ الي القصر كان ابو الطفيل معه واخيراً رمي بنفسه من فوق القصر ونجا، واشترك بعد ذلك في ثورة ابن الاشعث، وكان ابو الطفيل كثير الحروب. 5 _ ابو عبدالله الجدلي: صاحب الامام علي، وكان المختار ارسله علي رأس قوّة لانقاذ محمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم، وقد كان ابن الزبير قد جمعهم في شعب واراد احراقهم فانقذهم الجدلي. 6 _ حصين بن نُمير: اهّلته نفسيته الاثيمة للتنقل في المناصب القيادية ذات الانحراف والجريمة المتميزة، فمن قتل الحسين الي استباحة المدينة الي رمي بيت الله بالمجانيق الي قتال التوابين الي ان سقط قتيلاً في وقعة الزاب وهو يقاتل تحت راية ابن زياد فأرسل المختار رأسه الي زين العابدين كما تقدّم.

الادب السياسي

اهمية الادب السياسي

ان الادب مرآة جمالية تعكس الفكر الحضاري وفلسفة الحياة في مختلف الامم والعصور. كما ان الادب قوة وجاذبية وتأثير وجمال.. ومن هذا المنطلق يجهد السياسيون ممن لهم القدرة الادبية _ سواء كانوا من الصلحاء او الزائغين _ ان يستثمروا الادب وسيلة من وسائل التعبير عن الرؤي والمشاعر والتوصل الي الاهداف.. اذ ان المنطق الطبيعي للحياة يقتضي الاستغاثة بمختلف مراكز التأثير، والقوة، والجمال.. الصالحة للانتفاع. وهذا يعني بالضرورة ان ليس بالمستطاع الاستغناء عن الادب. وعلي هذا الاساس نري الصلة الوثقي ما بين السياسة والادب ضاربة في اعماق التاريخ. ويمكننا ايضا رؤية المساحة الكبري للادب السياسي اذا لم ننشغل بالتقييم الرسمي والصارم للادب السياسي والذي يدع جوانب مهمة من الادب علي الرغم من وجهتها السياسية ولو من بعض مناحيها. من الممكن جدا التنبّه الي مؤشرات، وملاحظات، وافكار سياسية حتي في كبريات الملاحم التي لم تكتب اساسا في

الجانب السياسي.. اننا نري عليها طابعا سياسيا مهما.. يتخلل جنباتها، و يشيع بين ثناياها كملاحم الشخصيات التالية: الاوديسة ماهاباراتا رامايانا پوراناس وهكذا عبد المسيح الانطاكي المصري وبولس سلامة والعلامة الفرطوسي في ملاحمهم.. ولهذا الاعتبار اولي النبي وائمة اهل البيت (عليهم السلام) الادب السياسي عناية فائقة. لقد واجه النبي وأئمة اهل البيت (عليهم السلام).. التحديات التي تمتلك ادبا سياسياً فلا بد اذن من استخدام السلاح نفسه اي مقارعة الادب السياسي بمثيله. ان من الوظائف العظمي للنبي واهل بيته التوجيه والارشاد والتربية ولا شك ان الادب السياسي يلعب دوراً بالغ الاهمية في هذا المجال. ان مراجعة فاحصة للقرآن الكريم ولسيرة الرسول الاكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) والاحاديث الكثيرة، تطلعنا أن النظام السياسي حقيقة ثابتة في الاسلام، وجزء لا يتجزأ من الدين الحنيف. فكما علي الرساليين توضيح معالم النظام، واسسه العامة، وحيثياته، بالاساليب العلمية والسياسية وغيرها، كذلك عليهم توضيح ذلك عن طريق الادب السياسي. وكذلك الامر فيما يتصل بدعم النظام والدفاع عنه، اذ ان الادب السياسي سلاح فاعل من اسلحة الدفاع والهجوم.

التيارات الادبية المعاصرة للامام زين العابدين

اشاره

ثمة تيارات ادبية كثيرة ومتنوعة في عهد الامام زين العابدين (عليه السلام) يستلزم المنهج العلمي اعطاء فكرة عنها في سبيل تحديد ادبه سلام الله عليه ما بين هذه التيارات، ولتبيان الفوارق الجوهرية ما بينه و ما بينها جميعا... علما بان اغلبها يتّسم بالطابع السياسي. وسوف نفصِّل ذلك ان شاء الله في كتاب لنا خاص حول الادب السياسي عند الامام زين العابدين (عليه السلام).

تيار الامويين

غايته الكبري ارساء دفة الحكم الوضعي وتسخير المجتمع لصالح النظام.. فاتجهت الي مديح الامويين، وتصويب سلوكهم ملوكا وامراء،.. ورشق السهام صوب اعدائهم.. ولقد شدد ادباء هذا ا لتيار علي الانذار والوعيد وصبغوا ادبهم بدفيق من الدماء، وشواظ من الجحيم. ومن امثلة هذا التيار: الحجاج الثقفي.. مسكين الدارمي.. الاخطل.. جرير.. علي بن الغدير.. الضحاك بن قيس الفهري.. عتاب بن ورقاء.. روح بن زنباع.. يزيد بن معاوية.. مسلمة بن عبدالملك.. عمرو بن سعيد بن العاص.. عبد الاعلي وعبدالعزيز ابنا عبدالله بن عامر، والخمسة الاخيرون من هذه القائمة، من البيت الاموي نفسه.

تيار الخوارج

يمتاز بمتانة الاسلوب، وقوة السبك، والاختصار في تناول الموضوع، والحماس الحزبي الملتهب. ولقد كان ادبهم موجها في الدرجة الاولي الي تركيز الخط العقائدي، وعداء السلطة الاموية. ومن امثلة هذا التيار في العصر الاموي ابّان عهد زين العابدين، قطري بن الفجاءة.. عبيدة بن هلال اليشكري.. سميرة بن الجعد.. عمران بن حطان.. رهين المرادي.. المقعطل.. عيسي بن فاتك.

تيار المتمردين

هؤلاء لم يجمعهم جامع،ولم يؤلف بينهم وازع، الاّ السخط العنيد والانتفاضة ضد الحكام الجائرين. ومن امثلة هذا التيار عبيدالله بن الحر الجعفي.. الغضبان بن القبعثري.. ضابئ بن عمير.. جامع المحاربي.. ابو المسيب الكلابي.. النعمان بن زرعة بن ضمرة..

تيار الذاتيين

يتمثل في شعراء الغزل.. والادباء الذين ليس لهم دور التصدي في معترك الحضارة، وعالم العقيدة والسياسة. ومن امثلة هذا التيار: مالك بن اسماء بن خارجة.. جميل بن معمر.. ذو الرمّة.. عمر بن ابي ربيعة.. عبيدالله بن زياد بن ظبيان.. العديل بن فرخ العجلي.. الحارث بن خالد المخزومي.

تيار الزبيريين

هو اضعف التيارات الادبية في ذلك الوقت تاثيرا واقلها انتاجاً.. وذلك لندرة ادبائه، ولارتباطهم المحكم بدولة الزبيريين التي حكمت تسع سنوات فقط «64 _ 73 ه_»... فانتاج ادبائها انبثق خلال هذه الفترة فحسب وبعدها قليلا، كالاولي.. ثم خبت ناره، ونكّس لواؤه وبقي منكوسا الي هذا اليوم. ومن امثلة هذا التيار: عبيد الله بن قيس الرقيّات.. عدي بن الرقاع العاملي.. عبدالله بن الزبير (الذي ينسب التيار اليه).

التيار المهلبي

كان شبيها بالتيار الادبي الزبيري من حيث المعاصرة، وقصر المدة، والولاء الشخصي والشبيه بالشخصي، وندرة الادباء نوعاً ما، ولقد اطلقنا عليه التيار المهلّبي نسبة للمهلب بن ابي صفرة العتكي الذي كان مرتبطاً وبنوه تبعاً له بسياسة النظام الاموي الحاكم، وما بعد ذلك انشق بنوه عن النظام في حركة انفصالية حادة ادت الي الحرب بينهما ثم الي ابادتهم بسيوف الامويين. ومن امثلة هذا التيار: يزيد بن المهلب.. كعب الاشقري.. حمزة بن بيض الحنفي.. المغيرة الحنظلي.. زياد الاعجم.

تيار الزهاد

يدعو الي الزهد في حطام الدنيا، ولذات الحياة، والي التعلق الروحي بالله.. وكان بمنأيً عن الاجواء السياسية بشتي الوانها، ولولا الحالة الاخيرة لكان الامام زين العابدين السيد المطلق لهذا التيار. ومن امثلة هذا التيار: مؤرق العجلي.. الحسن البصري.. سابق البرري.. حبيب ابو محمد.. بكر بن عبدالله المزني..

من خصائص ادبه السياسي

هذه بعض خصائص ادب الامام زين العابدين (عليه السلام) وميزاته التي يفترق بها عن التيارات الادبية المعاصرة له والتي مر ذكرها قبل قليل. أ _ ان الامام زين العابدين (عليه السلام) نفسه كان ينطوي علي جوانب الادب كلها ويمتلك ناصيتها جميعاً من خطابة وشعر ومناظرة ورسائل وغير ذلك. بينما بقية التيارات تضم اشخاصاً فيهم الخطيب وليس بشاعر، او الشاعر وليس بخطيب، وان وجد فيهم شاعر وخطيب في نفس الوقت، فليس فيهم من يجمع هذين الجانبين الي الجوانب الاخري. فعبد الله بن الزبير خطيب مؤثر ولكنه لا يعدّ من الشعراء ولا من المناظرين الجيدين. وجرير شاعر كبير الاّ انه ليست له قدرة علي صياغة الكلمات القصار، او علي فن الرسائل وهلمّ جرّا. ب _ الاصالة الاسلامية الصافية المنبع التي تطبع وجوه ادبه جميعاً. اذ انّ صاحب هذا الادب هو الامام زين العابدين (عليه السلام) الذي اصطفاه الله لاداء رسالته، وارتضاه دليلاً علي دينه المجيد، وكتابه العزيز، فلا يستقي هذا الادب الاّ من السماء وعن السماء. بينما التيارات الادبية الاخري، بين تيار وثني، وآخر ينطوي علي عقائد باطلة، وثالث يعيش الضياع، ورابع من سقط المتاع، وخامس متّبع للهوي وطالب للدنيا، الي تيار تنقصه الرؤية الشاملة، والانفتاح الايجابي علي الحياة. ج _ اذا كانت التيارات الادبية في عصر الامام زين العابدين (عليه السلام) تيارات تقليدية في الاسلوب والاداء و المضمون..

فان ادب الامام زين العابدين (عليه السلام) انتهج منهجاً جديداً، ومبدعاً في المضامين والعرض وتناول المادة وما سقناه ونسوقه من عيّنات يكفي دليلاً ساطعاً علي ذلك. د _ انعكاس القاعدة العلمية الرصينة للامام زين العابدين (عليه السلام) علي اغراضه الادبية، اذ لا ريب في وجود رابطة وثقي بين العلم والادب، فنري العلماء الكبار من الذين هم ادباء كبار في نفس الوقت امثال: الشافعي الفقيه، والشريفين المرتضي والرضي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء، وجوهان جيتي (1749 _ 1832 م) وتوماس هاردي (1840 _ 1894 م)، قد القت امكانياتهم العلمية الفائقة بظلالها الوارفة علي آثارهم الادبية. ومن هذا نعلم ان سعة علوم الامام زين العابدين (عليهم السلام)، وتنوع معارفه، واستيعابه الكامل للقرآن الكريم، وآثار آبائه (عليهم السلام)، قد زاد في عمق استنتاجاته الادبية، وأورثه الانتزاع الحر لفلسفة الحياة وفنها الرفيع. بينما تري الذين يمتلكون الخلفية العلمية من الادباء المعاصرين له نادري الوجود امثال عبد الله بن عباس (ت 68) الذي يمكن ان نعده بحق دائرة معارف Ensyclopidia، ابو الاسود الدؤلي (ت69) محمد بن الحنفية (ت 83)، الحسن البصري (ت 110) علما ان علوم هؤلاء لم تبلغ القمم الشمّاء التي تطل عليها علوم الامام زين العابدين (عليه السلام).

الامام زين العابدين ممثل لتيار

لقد كان الادب السياسي بل مطلق ادب الامام زين العابدين صلوات الله عليه يمثّل تياراً اصيلاً.. دافقاً في حياة الامة وفي تاريخ الادب. ولقد انتمي لهذا التيار صفوة من كبار الادباء بصورة واخري، ومن المعاصرين للامام زين العابدين (عليه السلام) زينب الكبري.. عبدالله بن عباس.. عبدالله بن جعفر الطيار.. ابو الاسود الدؤلي.. ابو دهبل الجمحي.. اعشي همدان.. عدي بن حاتم الطائي.. عبدالله بن عوف الاحمر.. قيس بن فهدان الكندي.. الفضل

بن العباس بن عتبة.. ابو الطفيل عامر بن واثلة.. حضين بن المنذر الرقاشي.. الجارود بن ابي سبرة.. الاحنف بن قيس. يزيد بن مفرغ الحميري. لقد قام هؤلاء بدور فاعل في تثبيت عقائد الاسلام، ونشر راية القرآن، وتركيز خط اهل البيت، وارساء قيم الفضيلة والجمال، كما قاموا بتحرك حيوي في مقاومة الحكّام غير الاسلاميين، ورمي مواقد السخط والثورة في وجوههم.

من اغراض الادب السياسي

الخطب

اثر القرآن الكريم علي الخطب

ارتفع شأن الخطابة في الاسلام، واتسع مداها. وتعددت اغراضها.. وقد هذّب الجو الديني مقاول الخطباء، وشذّب كلماتهم، وألهب مشاعرهم، ووجّه البابهم وانضجها فانطلقت حناجرهم كأنها السنة من النار. وكان للقرآن الحكيم تأثيره البالغ علي رفع القدرة البيانية للادباء، وللخطباء منهم علي وجه الخصوص، وتوسيع افقهم، وتزويدهم بالحجج المقنعة، والادلة المشرقة، والبسهم لوناً جديداً من الادب.. ما كان لهم ولا لابائهم به من علم. ولو امعنّا في التحقيق.. لعرفنا انّ اكثر الخطباء تمسكاً بالقرآن، واستجلاء لاياته.. واستنطاقا لمعانيه.. واقتفاء لاساليبه.. هم الامكن في الخطابة، وفي الاغراض الاخري من الادب. وهم الاشد اقتداراً علي كسب الجماهير، والاخذ بمقود اسماعهم. ومنذ ان نزل الروح الامين علي صدر نبينا ليكون من المنذرين.. اصبح من الواضح جداً نفوذه الي شخصية الرسول وملكاته.. وتجلّت انعكاساته في خطبه وكلماته.. فهذه خطبه كما قيل _ نمط جديد من القول بلاغة وفصاحة، وايماناً وبساطةً، وصدقاً وعمقاً لم يالفه العرب من قبل، وتبصير واضح بسيط نافذ بحقائق قد غفل الناس عن وجودها وهي ماثلة امامهم كل يوم [263] .

خطباء اهل البيت

وفي عصر صدر الاسلام فما بعده لا نجد خطيبا بذّ الاقران، وفاز بالقدح المعلي.. كخطباء اهل البيت.. الذين نزل القرآن في بيوتهم وارتشفوه معنيً ومبنيً.. فهذا رسول الله وهذا الامام علي بن ابي طالب وتلك فاطمة الزهراء، وذلك الامام الحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام).. اينما تلفتّ في خطبهم وامعنت النظر.. استشرفت تأثير القرآن فيها، ونفوذه في اغوارها، واشعاعه بين جنباتها.

بين القرآن و خطب زين العابدين

ولو شخصنا ببصرنا الي خطب الامام علي بن الحسين عليه الصلاة والسلام وسائر ادبه.. لعلمنا انه لا جرم ان يكون كذلك، السنا نعلم انّ من القابه (حليف القرآن). بلي، انه حليف القرآن، وسميره. انهما الحبيبان وهيهات ان يفترقا. ومن ولعه بكتاب الله العزيز انه كان يرفع صوته بقراءته، ويجوِّده، ويتلوه حق تلاوته بصوت جميل ما بعده من جمال. وهذه الملازمة الوثيقة للقرآن صاحبت الامام علي بن الحسين (عليه السلام) لا في قراءته للقرآن وتفسيره له، وتأويله لاياته فحسب بل حتي في مناظراته ورسائله وخطبه، وسائر شؤونه الفكرية والاجتماعية ومختلف انطلاقاته، وكانت خطبه في كل يوم جمعة في مسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالمدينة وهي خطب في التربية الروحية والسياسية تشعّ بالروح القرآني، وتتدفق بالبيان العذب، والكلمات المتّسقة، والالفاظ الشائقة، وحسن النظم، وجودة التأليف. وان كثرة الاستدلال والاستشهاد والاستنطاق لايات الكتاب طابع مميز لخطبه (عليه السلام). ولابد من الاشارة والتذكير: ان يد الخيانة والعاطفة امتدّت فشوهت مقادير من خطبه السياسية، وفنونه الادبية الاخري. وأحدثت اضافات يبرأ منها الادب والادباء، بيد انّ مقادير كثيرة جدا من أدبه بقيت علي اصالتها ورونقها. وما يهمنا الان منها خطبته يوم الجمعة في مسجد رسول الله.. فجاءت هذه الاخيرة.. مزهوّة مهيبة.. رائعة القسمات.. ظاهرة الوسامة..

تتهادي بين الفصاحة وبين الجمال. وقد حذر فيها من سلوك خط الظالمين وسياسة المعتدين.

خطبة للامام زين العابدين

ومن جملة ما جاء فيها: ... اشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما قد وعدكم في مرجعكم اليه من حسن ثوابه، كما قد خوّفكم من شديد عقابه; فانه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه. ولا تكونوا من الغافلين المائلين الي زهرة الحياة الدنيا، وقد قال الله تعالي: (افأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الارض او يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون - او يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين او ياخذهم علي تخوف) [264] فاحذروا ما حذركم الله، بما فعل بالظلمة في كتابه ولا تامنوا ان ينزل بكم بعض ما توعد به القوم الظالمين في كتابه. لقد وعظكم الله بغيركم.. وان السعيد من وعظ بغيره، ولقد اسمعكم الله في كتابه ما فعل بالقوم الظالمين، من اهل القري قبلكم حيث قال: (وانشأنا بعدها قوماً آخرين). وقال: (فلما احسّوا بأسنا اذا هم منها يركضون) _ يعني يهربون _ (قال): [265] (لا تركضوا وارجعوا الي ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون). فلما اتاهم العذاب [266] (قالوا يا ويلنا انا كنّا ظالمين) [267] . فان قلتم ايها النّاس ان الله انما عني بهذا اهل الشرك، فكيف ذلك؟ وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل اتينا بها وكفي بنا حاسبين) [268] . اعلموا عباد الله: ان اهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ولا تنشر لهم الدواوين وانما يحشرون الي جهنم زمرا. وانما تنصب الموازين وتنشر الدواوين لاهل الاسلام. فاتقوا الله عباد الله واعلموا ان الله لم يحبّب زهرة الدنيا لاحد من اوليائه،

ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها، وظاهر بهجتها، فانما خلق الدنيا وخلق اهلها ليبلوهم فيها ايهم احسن عملا لاخرته. وايم الله لقد ضربت فيه الامثال، وصرفت الايات لقوم يعقلون فكونوا ايها المؤمنون من القوم الذين يعقلون، ولا قوّة الاّ بالله، ولا تركنوا الي الدنيا فان الله قال لمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم): (ولا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار...) [269] .

من الفلسفة السياسية للزهد

حقاً ان هذا منعطف مهم جداً في فلسفة الزهد. فاذا كان المتبادر الي الاذهان من معني الزهد، الزهد في الطعام والشراب والملبس، فهذا صحيح لا سيما اذا كان المجتمع بحاجة الي هذا اللون. ولكنّ الذي هو اهم ان يزهد الانسان في الركون الي القوي الشريرة، والطغيان والاستبداد، او كما قال الامام زين العابدين (عليه السلام) «ولا تركنوا الي الدنيا فان الله قال لمحمد (صلي الله عليه وآله وسلم): (ولا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار)» انّ الله تعالي لم يتوعّد بالنار من لم يزهد بالمطعم والمشرب والملبس ونحوها. وان كان الزهد فيها في اكثر الحالات يشير الي الرفعة، وسمو الذات. ولكن الله تعالي توعّد بالنار اولئك الذين لم يزهدوا بالركون الي الظالمين (ولا تركنوا....) اذا كان الزهد في الافراط بالمشتهيات مستحبا، فان الزهد في الركون الي الظالمين واجب لا ريب فيه. وعلي ضوء مقولة الامام زين العابدين (عليه السلام): «ولا تركنوا الي الدنيا...» حول هذا الزهد الناهض، والمتضمن بقوة للوعي السياسي نستطيع ان نعي الكثير من الاحاديث الداعية للزهد والمرغّبة فيه. ان قول الامام زين العابدين (عليه السلام): «ولا تركنوا الي الدنيا...» لا يعني بالضرورة ان الزهد يقتصر علي حالة عدم الركون للظالمين، اذ من الواضح ان الزهد في الافراط بالمشتهيات قد

ورد في روايات كثيرة غير قابلة للتأويل. ولكنه (عليه السلام) يؤكد علي اهم فرد من افراد الزهد واعظم مصداق من مصاديقه الا وهو الزهد في الركون الي الظالمين. ومن خطب الامام زين العابدين (عليه السلام) السياسية: الخطبة التي ادلي بها في دمشق امام يزيد بن معاوية، وبحضور حشد جماهيري من اهل الشام. وكذا الخطبة التي القاها علي اهل المدينة المنورة، بعد توجهه من الشام اليها. وقد اوردنا الخطبتين معا ضمن هذا الكتاب

اطلالة اخري

ويطل الامام زين العابدين (عليه السلام) مرة اخري علينا بهذه الخطبة من خطبه السياسية الرائعة التي لم نذكرها الي حد الان. لقد حدد الامام (عليه السلام) في هذه الخطبة الشخصية الاسلامية الحقة التي تعتبر المثل الاعلي للمجتمع والقوة للجميع. كما يؤكد فيها علي الدقة والتحقيق في الهوية العقائدية والمنحي الواقعي لانماط اجتماعية كثيرة تتظاهر بالورع والزهد والتقوي، بينما تفصح حقيقة انفسهم انهم علي خلاف ذلك. وانما يصنعون من ذلك ما يصنعون تستّرا علي نواياهم الخبيثة واغراضهم الدنيئة. يقول الامام زين العابدين (عليه السلام): «اذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتمارث في منطقه، وتخاضع في حركاته فرويدا لايغرنكم، فما اكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم فيها، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكن من حرام اقتحمه. فاذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام.. فرويداً لا يغرنكم، فان شهوات الخلق مختلفة، فما اكثر من ينبو عن المال الحرام وان كثر، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّما. فاذا وجدتموه يعفّ عن ذلك.. فرويدا لا يغرنّكم حتي تنظروا ما عقده عقله. فما اكثر من يترك ذلك اجمع ثم لا يرجع الي عقل متين، فيكون

ما يفسده بجهله اكثر ممّا يصلحه بعقله. فاذا وجدتم عقله متينا.. فرويدا لايغرنكم حتي تنظروا مع هواه يكون علي عقله؟ او يكون مع عقله علي هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها؟ فان في الناس من خسر الدنيا والاخرة بترك الدنيا للدنيا، ويري ان لذة الرئاسة الباطلة افضل من لذة الاموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك اجمع طلبا للرئاسة، حتي: (اذا قيل له اتّق الله اخذته العزّة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) [270] . فهو يخبط خبط عشواء.. يقوده اول باطل الي ابعد غايات الخسارة، ويمدّ به يده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه.. فهو يحلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما احلّ الله. لا يبالي ما فات من دينه اذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من اجلها، فاولئك مع الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهينا. ولكنّ الرجل.. كلّ الرجل.. نعم الرجل: هو الذي جعل هواه تبعا لامر الله، وقواه مبذولة في رضاء الله تعالي، يري الذل مع الحق اقرب الي عز الابد من العز في الباطل ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤديه الي دوام النعم في دار لا تبيد ولا تنفد، وان كثير ما يلحقه من سرّائها _ ان اتبع هواه _ يؤديه الي عذاب لا انقطاع له ولا زوال، فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، والي ربكم فيه فتوسلوا، فانه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة» [271] .

دفع آليات الوعي السياسي

لقد ضم عصر الامام زين العابدين (عليه السلام) رجالاً كثيرين من الانتهازيين في كل زاوية من زوايا الخارطة السياسية للعالم الاسلامي. ولقد قام السيناريو القيادي بالانتفاع من الامية السياسية وشبه الامية المنتشرة في

المجتمعات علي اختلافها. وعلي سبيل المثال نري الحجاج الثقفي وهو يجيد النصيحة والموعظة، وكان بليغا بارعا في الامر بتقوي الله تبارك وتعالي. وهذا عبدالله بن الزبير يلجأ في حالة ضعفه الي البيت الحرام قائلاً: انا عائذ الله. ولكنه في حالة القوة يضيّق الخناق علي اولياء الله.. واذا كان الناس علي دين ملوكهم... فسوف نعرف حجم الانتكاسة الروحية والاخلاقية، ومساحة الاستغلال السياسي لشتي العوامل المؤثرة والتي يمكن ان تكون وسيلة لخداع الجمهور. كما ان دراسة مفصلة اجتماعية وادبية للعصر الاموي، تزودنا بارقام مذهلة عن هذا التوجه المقيت. ومن هذا المنطلق ندرك الاهمية السياسية والروحية البالغة لخطبة زين العابدين الانفة. ومن الخير ان نتساءل _ من اجل دفع آليات اليقظة الروحية والوعي السياسي _ هل كانت تعاليم الامام زين العابدين (عليه السلام) في حدود العصر الذي انتشر اريجها فيه؟ ان الجواب بالنفي هو الجواب المتحتم. وفي خصوص الموضوع الذي نحن فيه لو سألنا الامام زين العابدين (عليه السلام) هل يختلف واقعنا المعاصر جوهريا عن الحقبة التاريخية التي كنت فيها؟ حقا انني احسّ من الاعماق ان الامام زين العابدين (عليه السلام) سوف يطرق برأسه، ويفتح عينيه; ليصوّب نظراته السديدة الي الواقع المعاصر. ثم يطبق عينيه، وترتعش الحروف علي شفتيه متمتما: لتركبنّ سنن من كان قبلكم. ولعمري ان التاريخ يعيد نفسه. بيد انه (عليه السلام) لا يكتفي باسداء النظرة التقييمية فحسب، بل يواصل الكلام، و يحدد المسؤولية قائلاً: اذا رايتم الرجل قد حسن سمته وهديه... فاذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام. فرويدا لا يغرنّكم... فذا وجدتم عقله متينا، فرويدا لا يغرنّكم... ولكن الرجل.. كل الرجل.. نعم الرجل.. واخيراً لابد لنا من القول ان تعاليم الامام زين العابدين (عليه السلام)

سوف تظل ناهضة عبر العصور لا تؤثر فيها خناجر السنين.

المناظرات

مقدمة

هي في الاصل المجادلات التي تستند علي ادلة منطقية يهدف فيها الطرفان الي اثبات صحة عقيدة او فلسفة او سياسة... او تفنيد ذلك غير ان ابتغاء الباطل في الناس كثير و ما اكثره، ولهذا يعتمد الكثيرون علي ادلة ايهامية او سوفسطائية من اجل مساندة موقف او رأي مهما كان مرتكزه. ولا بد للمناظر _ في الاساس _ من ان يمتلك وضوحاً في الرؤية، لئلا يتلكأ في المناظرة او يقع في المتناقضات. وكان الفيلسوف النمساوي لودفيج يوهان فتجنشتين (1889 _ 1951م) يعتقد أن كل ما يمكن التفكير فيه علي الاطلاق يمكن التفكير فيه بوضوح، وكل ما يمكن ان يقال يمكن قوله بوضوح [272] . كما ان المناظر في حاجة الي قوة الارتجال، ونشاط عقلي فعّال، وقدرة متمكنة علي اقتناص نقاط الضعف عند المقابل، وقد تكون المناظرات من اجل المناظرات، او في سبيل اثبات القدرة الجدلية، كالذي يستخدمه بعض عشّاق السفاسف. فكأنما يلهون بادوات الشطرنج، او كالذي يريد ان يهتف في وسط مفرّغ من الهواء. وهكذا تضيع الحقائق، ويهدر رونق الواقع. وما اشبه هؤلاء بقوم عاطلين وفارغين في اليونان، كانوا يعبثون بالالفاظ، ويقلّبون المعاني علي غير وجوهها، ويتّخذون المناظرات وسيلة للّهو العابث مما حدا بالفيلسوف الكبير ارسطو طاليس ان يضع موازين خاصّة للمناظرات، وقوانين لمعرفة صحة الكلام من فساده _ حسب رأيه _ في كتاب يعرف بالمنطق. وعلي هذا الاساس لا يمكن ان نعتبر المناظرات او مطلق الكلام افضل من الصمت في جميع الاحوال، بل لكل من الصمت والكلام محاسن ومساوئ، والحكيم من استطاع دقة التمييز ما بينهما، وتجنب ما لا ينفع. ولقد سئل الامام زين

العابدين (عليه السلام): ايّهما افضل السكوت ام الكلام؟ فقال (عليه السلام): لكل واحد منهما آفات، فاذا سلما من الافات فالكلام افضل. قيل فكيف ذلك يا بن رسول الله؟ فقال: ان الله سبحانه لم يبعث الانبياء والاوصياء بالسكوت، انما بعثهم بالكلام.. ولا استحقت الجنة بالسكوت.. ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت.. ولا توقيت النار بالسكوت.. ولا تجنب سخط الله بالسكوت. انما ذلك كله بالكلام. وما كنت لاعدل القمر بالشمس، وانّك تصف فضل السكوت علي الكلام، ولست تصف فضل الكلام علي السكوت. وقال (عليه السلام) ايضاً علي لسان حال الجوارح واللسان كما في رواية ابي حمزة الثمالي: ان لسان ابن آدم يشرف علي جوارحه كل صباح فيقول: كيف اصبحتم؟ فيقولون: بخير ان تركتنا.. ثم يقولون: الله فينا، ويناشدونه ويقولون: انما نثاب ونعاقب بك.

اهل البيت والمناظرات

ولقد اتّخذ اهل البيت المناظرات إحدي الوسائل الوطيدة لارساء المبادئ ونصرة العقيدة. وابدعوا في المناظرات كل الابداع.. واتوا بحجج هي صرخة الحق ونداء السماء وضوء البصيرة. ومن صور ابداعهم انهم يفاجئون المقابل بادلّة تربكه وتبهته اذ لا عهد له بها، ولم يحسب لها حساباً.. لم تزل جرأة القلب عاملاً من عوامل قدرة اهل البيت علي المناظرات التي.. ليس لوقعتها كاذبة. فالامام زين العابدين (عليه السلام) وهو في الاسر وبين يدي الطاغية الاثيم عبيد الله بن زياد، وبين يدي الجبار العنيد يزيد بن معاوية، يفحمهما في المناظرة، ويدلهما علي ضآلة مكانهما الذي يرزح في الحضيض الاوهد. فابن زياد قد نكّسه الامام علي امّ رأسه في مناظرة مختصرة الاّ انها البسته تفصيلاً من الخزي والعار.. فابرق، وارعد، ثمّ هدد فاوعد، ثمّ انتفخت اوداجه، وتصلّبت شرايينه، وعرق جبينه فغصّ بريقه، وارتعشت يداه، فصاح صيحة ملؤها الويل والثبور:

يا جلاّد اقتله. وهكذا حينما يعجز الطواغيت عن التصفية الفكرية يلتجئون الي التصفية الجسدية.. فاولي لهم فاولي. ثمّ اولي لهم فاولي. وقد تقدّم في المناظرة في هذا الكتاب كما تقدمت مناظرته مع يزيد بن معاوية.

شواهد من المناظرات

انّ لزين العابدين (عليه السلام) مناظرات كثيرة نذكر شيئاً يسيراً منها، ومن لم يغنه القليل لا يغنه الكثير. أ _ دخل الامام زين العابدين (عليه السلام) المسجد الحرام فرأي الحسن البصري وحوله جماعة من الناس وهو يعظهم، وكان يعرف منه انه يري رأي المعتزلة في تخليد من يعمل ذنباً كبيراً في النار.. فقال له الامام زين العابدين (عليه السلام): امسك. اسألك عن الحال التي انت عليهامقيم، اترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله اذا نزل بك غدا؟ قال: لا قال: افتحدّث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك الي الحال التي ترضاها؟ قال: (الراوي) فاطرق ملياً ثمّ قال: انّي اقول ذلك بلا حقيقة. قال: افترجو نبيا بعد محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) يكون لك معه سابقة؟ قال: لا قال: افترجو داراً غير التي انت فيها ترد اليها فتعمل فيها؟ قال: افرأيت احداً به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟ انّك علي حال لا ترضاها ولا تحدّث نفسك بالانتقال الي حال ترضاها حقيقة ولا ترجو نبيا بعد محمد ولا دارا غير الدار التي انت فيها فتعمل فيها وانت تعظ الناس؟! قال (الراوي): فلمّا ولّي (عليه السلام) قال الحسن البصري من هذا؟ قالوا: علي بن الحسين. قال: اهل بيت علم. فما رؤي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس [273] . ب _ كان الامام زين العابدين (عليه السلام) يصف حال من مسخهم الله قردة من بني اسرائيل ويحكي

قصّتهم.. فلمّا بلغ آخرها قال: ان الله تعالي مسخ اولئك القوم لاصطيادهم السمك، فكيف يكون تري عند الله عزوجل حال من قتل اولاد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وهتك حريمه. ان الله تعالي وان لم يمسخهم في الدنيا، فان المعد لهم من عذاب الاخرة اضعاف المسخ، فقيل له: يا بن رسول الله فانّا قد سمعنا منك هذا الحديث فقال لنا بعض النصّاب: فان كان قتل الحسين (عليه السلام) باطلاً فهو اعظم من صيد السمك في السبت، افما كان يغضب علي قاتليه كما غضب علي صيادي السمك؟ فقال علي بن الحسين (عليهم السلام): قل لهؤلاء النصّاب فان كان ابليس عليه اللعنة معاصيه اعظم من معاصي من كفر باغوائه، فاهلك الله من شاء منهم كقوم نوح وفرعون، فلم لم يهلك ابليس وهو اولي بالهلاك فما باله اهلك هؤلاء الذين قصّروا عن ابليس في عمل الموبقات، وامهل ابليس عليه اللعنة مع ايثاره تكشّف المخزيات. والاّ فان كان ربنا عزوجل حكيماً تدبيره حكمه فيمن اهلك وفيمن استبقي فكذلك هؤلاء الصيادون للسمك في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين (عليه السلام) يفعل بالفريقين ما يعلم انه اولي بالصواب والحكمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقال الباقر (عليه السلام): فلمّا حدّث علي بن الحسين بهذا الحديث قال له من في مجلسه: يا ابن رسول الله كيف يعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الاخلاق علي قبائح اتاها اسلافهم وهو يقول: (ولا تزر وازرة وزر اخري). فقال الامام زين العابدين (عليه السلام): ان القرآن الكريم نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه اهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي _ قد اغار قومه علي بلد وقتلوا من فيه _: أغِرْ علي بلد كذا وكذا، ويقول العربي:

نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خرّبنا بلد فلان، لا يريد انهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل، واولئك بالافتخار انه قومهم فعلوا كذا. وقول الله عزّو جلّ في هذه الايات انما هو توبيخ لاسلافهم علي هؤلاء الموجودين، لان ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، والان هؤلاء الاخلاف أيضاً راضون بما فعل اسلافهم، مصوّبون لهم. فجاز ان يقال: انتم فعلتم. اي: اذا رضيتم قبيح فعلهم [274] . ج _ قال ابو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه: ان رجلاً جاء الي علي بن الحسين برجل يزعم انّه قاتل ابيه، فاعترف فاوجب عليه القصاص، وسأله ان يعفو عنه ليعظم الله ثوابه، فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال الامام علي بن الحسين (عليه السلام) للمدّعي الدم الذي هو الولي المستحق للقصاص: ان كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا فهب له هذه الجناية، واغفر له هذا الذنب، قال: يا بن رسول الله له علي حق ولكن لم يبلغ به ان اعفو عنه عن قتل والدي اريد القود، فان اراد لحقه عليّ ان اصالحه علي الدية صالحته وعفوت عنه. قال الامام علي بن الحسين (عليه السلام) فما هو حقه عليك؟ قال: يابن رسول الله لقّنني التوحيد، ونبوّة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وامامة علي بن ابي طالب والائمة (عليهم السلام). فقال الامام علي بن الحسين (عليه السلام): فهذا لا يفي بدم ابيك؟ بلي والله هذا يفي بدماء اهل الارض كلهم سوي الانبياء والائمة ان قتلوا، فانه لا يفي بدمائهم شيء [275] .

وجيز الافكار

سياسة الالفاظ

ان الهيمنة علي سياسة الالفاظ وجعلها اداة طيّعة.. لمن ادلّ الادلّة علي القدرة البيانية المتفوقة، والبراعة السياسية. البليغ البليغ من

امتكلها، واحسن توجيهها. فاذا اراد المعني الواضح، والتعبير السلس _ لسبب يقتضي ذلك _ امكنته سياسة اللفظ من ذلك. وإذا اراد الاسلوب الجزل، والتركيب الفخم _ لسبب يقتضي ذلك _ امكنته أيضاً ممّا اراد. واذا رغب في تفصيل المطالب، وبسط المقاصد، لم تعصه السياسة المذكورة. وان ارتأي ايداع المعاني الكثيرة، والمفاهيم الوسيعة، في اوعية صغيرة من الكلمات.. اطاعته السياسة اللفظية كما كانت تطيع الامام زين العابدين (عليه السلام)، تنفيذاً لامره، وإذعاناً لارادته. لقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) ذا باع طويل... في ايراد قصار الكلمات التي تحظي باهمية خاصّة من حيث الكمية او من حيث الكيفية، كما ان فيها من جودة الحكمة، ودقة الرأي، وواقعية التفكير ورهافة الحس.. ما لا يبلغ شأنها ارباب كثيرون، يشارُ اليهم بالبنان، ويقام لهم و لا يقعد.. كلما ذكرت البلاغة واستعرض الفكر، وتجلّت الواقعية. وان فيها ما اصبح امثالاً سائرة، ومواعظ مشهورة، وان كان الجهل في نسبتها اليه واضح عند اكثرية من يتمثلون بها، او يذكرونها في كتبهم. ولقد احتضنها عاشقو الادب، ورجال الفكر والقلم، كما تحتضن الربي الورود، او كما تحتضن الهالة القمر. ومن معالم السياسة البيانية عند الامام زين العابدين (عليه السلام) انه يأتي بالكلام المجيد، ويحسن القول بما ليس علي حسنه مزيد، سواء كان ذلك في الكلام الطويل، كعدد من رسائله وخطبه، وقسط وافر من ادعيته، او بالكلام القصير كجملة من ادعيته، ورسائله، وكذا كلماته القصار، وافكاره الوجيزة. ان الاجادة الفائقة في طويل الكلام وفي قصيره، وفي مختلف الاغراض ليس بمقدور احد الاّ قليلاً من ائمة اصحاب البيان.

كلمات شماء

_ ايّاك ومعاداة الرجال; فانه لم يعدمك مكر حليم، او مفاجأة لئيم... [276] . _ الكريم يبتهج

بفضله، واللئيم يفتخر بملكه... [277] . _ كفي بالمرء عيبا ان يبصر من الناس ما يعمي عليه من نفسه، او يؤذي جليسه بما لا يعنيه... [278] . _ ايّاك ان تتكلم بما يسبق الي القلوب انكاره، وان كان عندك اعتذاره، ليس كل من تسمعه شرا، يمكنك ان توسعه عذرا. _ من لم يكن عقله من اكمل ما فيه، كان هلاكه من ايسر ما فيه. _ اهل الدنيا يتعقّبون الاموال، فمن لم يزاحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم، و من لم يزاحمهم ومكّنهم من بعضها، كان اعز واكرم... _ لا تحتقر اللؤلؤة النفيسة ان تجلبها من الكِبا (الكناسة) الخسيسة.. _ وقال بحضرته رجل: اللّهم اغنني عن خلقك، فقال (عليه السلام): ليس هكذا، انما الناس بالناس ولكن قل: اللهم اغنني عن شرار خلقك.. قلت: نظر الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي الي هذا المعني فقال: النّاس للناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وان لم يشعروا خدم _ كفي بنصر الله لك ان تري عدوّك يعمل بمعاصي الله فيك. _ ابن آدم انك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعارا، والحذر لك دثارا... [279] . _ لا حسب لقرشي ولا لعربي الاّ بتواضع [280] . _ يا سوأتاه لمن غلبت احداته عشراته _ يريد ان السيئة بواحدة، والحسنة بعشرة [281] . _ مجالس الصالحين داعية الي الصلاح _ الخير كله صيانة الانسان نفسه _ من رمي الناس بما فيهم، رموه بما ليس فيه [282] . _ من لم يعرف داءه افسده دواؤه _ لا تمتنع من ترك القبيح، وان كنت قد عرفت به، ولا تزهد في مراجعة

الجميل وان كنت قد شهرت بخلافه _ الشرف في التواضع، والغني في القناعة _ خير مفاتيح الامور الصدق، وخير خواتيمها الوفاء [283] . _ الدنيا سبات والاخرة يقظة ونحن بينهما اضغاث احلام [284] . _ اخذ هذا المعني الشاعر الكبير ابو حسن التهامي _ علي بن محمد (ت416) فقال في رثاء ولده: فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري وللمؤلف: العمر نوم ويوم الحشر يقظتنا (ونحن بينهما اضغاث احلام) _ عن الامام ابي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: لمّا حضرت علي بن الحسين (عليهما السلام) الوفاة ضمّني الي صدره ثم قال: يا بني اوصيك بما اوصاني به ابي حين حضرته الوفاة وبما ذكر ان اباه اوصاه به: يا بني اياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الاّ الله [285] . _ التارك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره الا ان يتقي تقاة. قيل: وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً ان يفرط عليه او أن يطغي [286] . قلت: لقد شدّد الامام زين العابدين (عليه السلام) النكير علي تارك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ممثلا له بنابذ كتاب الله وراء ظهره، وهذا امر هائل. والذي نعتقده ان هذا التمثيل المرعب.. الشديد، بسبب ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من المفاهيم القرآنية الثابتة، التي لا تقبل النقاش او التأويل، بل وردت صريحة ظاهرة في جملة من الايات المباركة مثل قوله تعالي: (ولتكن منكم امة يدعون الي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون) [287] . ومثل قوله تعالي: (الذين ان مكنّاهم في الارض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) [288] . اذن اصبح من

الواضح ان التارك لامر صريح ظاهر في القرآن كالنابذ له ولقد قال تعالي: (افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الي اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) [289] . ان القرآن الكريم وحدة متكاملة متناسقة غير قابلة للتجزئة او التشرذم. الحقيقة ان ترك العمل بأي مفهوم من المفاهيم القرآنية غير القابلة للتأويل هو بمثابة نبذ القرآن وراء الظهر، غير ان الامام زين العابدين اكّد ذلك في خصوص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار الاهمية الخاصّة للامر والنهي. ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر طاقة روحية وادبية تحفظ جوهر الاسلام وتمنح التربية الاجتماعية الديمومة والاصالة. بيد ان السؤال الذي يفرض نفسه: لم اوجب الامام زين العابدين (عليه السلام) الامر والنهي في جميع الحالات الاّ اذا ارتفع امر الي مستوي التقية فحينئذ يسقط الوجوب؟ فلماذا يسقط الوجوب؟ الذي اتصوّره: ان الامر والنهي اللذين يقصدهما الامام زين العابدين (عليه السلام) انما هما الامر والنهي في الشؤون الاعتيادية، او ما نستطيع تسميته بيوميات الامر والنهي. اما اذا بلغت الحال الي درجة الحفاظ علي لباب العقيدة، وكيان الاسلام فلا تقية حينئذ. ويستمر الامر والنهي حتي وان غضب الف جبار. كما قال الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، خرجت لامر بالمعروف، وانهي عن المنكر. وكما واجه الامام زين العابدين (عليه السلام) بشدة وعنف يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وكما حضر وقعة كربلاء بل كما قاتل فيها وهو عليل حتي سقط جريحا كما في رواية. وعن طريق الرؤية هذه نتمكن من الجمع بين كلام الامام زين العابدين (عليه السلام)

حول الامر والنهي اللذين حددهما بعدم وصول الامر الي درجة التقية وبين كلام الامام الحسين (عليه السلام) وكذلك الجمع بين كلام الامام زين العابدين وبين سلوكه وسلوك ابيه (عليه السلام) وموقفهما من الجبابرة. _ وقال الامام زين العابدين (عليه السلام): ان عدوّي يأتيني بحاجة فابادر الي قضائها خوفا ان يسبقني احد اليها وان يستغني عني فتفوتني فضيلتها. _ لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم الا اوشك ان يقول فيه من الشر ما لا يعلم [290] . _ وقال (عليه السلام): هلك من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده. قلت: هذا ما تؤكده المختبرات السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، اذ في كثير من الحالات لا تستطيع الشخصية القويمة والمتزنة ان ترد علي طيش اجتماعي، او سفه، او اعتداء من نوع خاص.. بينما باستطاعة السفيه الذي يعضدك ان يرد السفه بالسفه والاعتداء وان كان بما لا يليق. ولقد كان الاحنف بن قيس مضرب المثل في الحلم والصفح ومع هذا فهو يمدنا من حقيبته التجريبية بالحكمة قائلاً: عليكم بالسفهاء فانهم يكفونكم العار والنار. والمقصود من السفيه هنا الخفيف التصرف الذي يتسارع لرد الطيش والاعتداء كيلا بكيل، والذي لا يغض النظر عن هفوة عامدة. ان الحكمة التي ادلي بها الامام زين العابدين (عليه السلام) لا تقتصر علي الشؤون الفردية، بل ان الدولة تستخدم مثل هذا العضد الذي يفدي ولا يفدي، وفي بعض المنتسبين للقوي التنفيذية في الدولة ما يدل علي ذلك. ان كلام الامام زين العابدين (عليه السلام) لا يعني في حالة من الحالات تشجيعا للسفهاء، ولاحثا علي السفه ولكنه (عليه السلام) لا ينظر الي الحياة السياسية والاجتماعية بمنظار الخيال المحلق بل

بمنظار واقعي رزين... فان وجود السفهاء في المجتمع ظاهرة لا تخفي، كما ان الحاجة الي امثالهم في بعض الاحيان من الامور الواضحة التي لا ينبغي اطالة الجدال فيها. وللفلاسفة والقادة والتأريخيين والشعراء كلمات رائعة تلتقي وسياق حكمة الامام زين العابدين (عليه السلام) في هذا المجال. ولقد قال سعد بن كعب الغنوي: ولا يلبث الجهال ان يتهضموا اخا الحلم ما لم يستعن بجهول وقال نهشل بن حري التميمي (رحمه الله): ومن يحلم وليس له سفيه يلاق المعضلات من الرجال وينسب هذا البيت أيضاً للاحنف بن قيس. وقال (عليه السلام): _ المؤمن نطقه ذكر، وصمته فكر ونظره اعتبار [291] . _ الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته [292] . _ لقد استرقك بالود من سبقك الي الشكر [293] . _ وقيل له (عليه السلام): من اعظم الناس خطراً؟ قال: «من لم ير الدنيا خطراً لنفسه» [294] . قلت: هذا كلام عظيم صادر من رجل عظيم، وهو بعد عميق المحتوي.. بعيد الاثر.. سواء كان ينصب في المداليل الروحية او المداليل السياسية. اما مدلوله الروحي فباعتبار ان الدنيا بزينتها.. وبهجتها.. والوان زخارفها (فيما اذا كانت بمعزل عن التوجيه الي الاخرة) ليست معادلة للكيان الروحي للانسان ولا ثمنا للنفس الانسانية. وان حاول الاستغناء بها عن الاخرة كل محاولة، وجاهد في سبيل الانتفاع بلذائذها، ومتعها البائدة.. يقول الامام (عليه السلام): «انه ليس لانفسكم ثمن دون الجنة فلا تبيعوها الا بها». واما المدلول السياسي فالكلام يتضمن نقداً عنيفاً للقادة السياسيين الذين يجعلون من مناطق نفوذهم وصلاحياتهم السياسية دليل العظمة والشموخ. وهكذا كلما تضاءلت همة الانسان استكثر مناطق النفوذ التي يديرها واستعظم حجم الدولة الخاضعة لحكمه. كما ان في كلام الامام زين العابدين

(عليه السلام) تقديراً واكباراً للقادة السياسيين من اولي الهمم الشماء الذين لا يعدون مكانتهم الدولية او مناطق نفوذهم بالامر، الذي هو فوق الخط البياني لمستوياتهم ومكانتهم النفسية او السياسية. ولقد فطن احد قادة الامام علي (عليه السلام) لهذا السياق الدلالي فقال يخاطب الامام (عليه السلام): «لقد زنت الخلافة وما زانتك وشرفتها وما شرفتك». وللمؤلف _ غفر الله له _ ما يلتقي مع هذا المعني: ارأيتم الصقور لاتقطن اعشاش العصافير كذلك لا تتسع الدنيا لهمم العظماء.

الامام زين العابدين و سياسة الحكم القائم

اشاره

يحدد الفقه السياسي في الاسلام جملة من المرتكزات لمنح الشرعية للحاكم الاسلامي. وسوف لا نأخذ بنظر الاعتبار نظرية خاصة دون اخري بل سنشير باختصار الي مختلف النظريات العامة حول ذلك. اولاً: يستند الحاكم الاسلامي في الشرعية الي الدليل اللفظي، اي الي وجود النص عليه من قبل الله ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلم). وهذا ما كان يعتمده اهل البيت وعامة الشيعة. واما غير الشيعة من المسلمين فانهم لا ينكرون ذلك بل يقدمونه علي كل المستندات الشرعية الاخري، ولكنهم يذهبون الي ان الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) لم ينص علي شخص معين بالفصل وانما ترك ذلك للمسلمين. نعم ان قسماً قليلاً منهم _ لا سيما من المعاصرين _ يذهبون الي انه (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نص علي الامام علي (عليه السلام). ثانياً: تعيين اهل الحلِّ والعقد والشوري، للحاكم. وهذا مورد اتفاق بين المسلمين اعتماداً علي صريح الكتاب والسنة. الا انه قد وقعت بعض الاختلافات حول التفصيلات في ذلك. ثالثاً: تعيين الحاكم السابق للحاكم اللاحق، فيما اذا كان الاول يمتلك الاساس الشرعي في الحكم. وهذا مما اجمع عليه المسلمون قاطبة. رابعاً: قد جعل بعض الفقهاء الانتخاب الجماهيري وسيلة

من الوسائل الشرعية لتعيين الخليفة او الرئيس. اقول: وهو نعم الرأي، فيما اذا كانت الجماهير تتسم بالشرائط التالية: أ _ امتلاك الروح الدينية. ب _ امتلاك الوعي السياسي. ج _ ان يكون اهل الحل والعقد او قسم منهم في جملة المنتخبين. خامساً: ويري بعضهم ان الحاكم قد لا يكون مستنداً الي الشرعية في الحكم، ولكنه اذا حكم بالعدل واقام السنة وامات البدعة; فانه يستحق الحكم بهذه المسوغات كعمر بن عبدالعزيز; فانه لم يحكم ارتكازاً الي قاعدة شرعية وانما عينه الخليفة قبله وهذا الاخير فاقد للشرعية وفاقد الشيء لا يعطيه اذ يكون حكم عمر بن عبدالعزيز عن طريق القوة بصورة أو بأخري. وهذا لا يكفي مسوِّغاً للحكم. ولكن حكمه بالعدل والكتاب والسُّنة اضفي عليه طابع الشرعية. اقول: وهذا الرأي يشبه الي حد بعيد ما قاله جان جاك روسو Jean jaquesRousseau: «يستحيل علي القوي ان يظل سيد الموقف الا اذا استطاع ان يحوّل قوته الي حق، وطاعته الي واجب». ولكن لا يخفي علي القارئ الكريم ان من آفات الرأي الاخير انه يفتح الباب علي مصراعيه لمختلف السياسيين، بما فيهم من ازدواجيين ونفعيين للاشتياق الي الحصول علي عرش الحكم بذريعة اقامة العدالة لو حكموا، وانهم يطبقون حكم الله ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلم). سواء من السياسيين من يصدق لو استلم أزمَّة الحكم، ومن يكذب (وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين). وهكذا نعرف بوضوح ان القوة وحدها في التغلب علي الحكم ليست مبرراً للحاكم في التسلط علي الرقاب، لان نظرية القوة ليست من نظريات الفقه السياسي في الاسلام. نعم ان نظرية القوة في الاستيلاء علي الحكم تتمتع بانصار كثيرين قديماً وحديثاً، سواء ممن زاولوا الحكم عن طريقها فحسب،

او من انصار السياسة الاستبدادية أو من الكتاب والفلاسفة الذين يتجهون الي هذا التفكير في فلسفة الحكم ونشوء الدولة. ومن هذا المنطلق فإن الدولة سوف تكون تنينا كبيرا يضم مختلف افراد المجتمع علي حد تعبير توماس هوبز Thomas Hobbes. لا يقّر الاسلام ان كل من تسلّم مقاليد الحكم، وتسنّم دفة الدولة اصبح حاكما اسلامياً، او خليفة اسلامياً، أو اميرالمؤمنين، أو غير ذلك من الاصطلاحات السياسية الصادقة والكاذبة، اذ ان ادّعاء الاسلام فحسب ليس يكفي لان يندرج الانسان في الاسلاميين _ رعيةً _ فضلاً عن ان يكون خليفة اسلامياً وراعياً للامة يحكم الناس باسم القرآن والسنّة. ان الادّعاء وحده يفتقر الي الادلّة العملية التي تثبت صدقه، وتبرهن علي واقعيته. وهنا نود ان نعرف ومن منطلق النظرية السياسية لدي الامام زين العابدين (عليه السلام) هل كان الحكم الاموي قائماً علي اساس النظرية الاسلامية في السياسة والحكم ام لا؟. جاء في الصحيفة السجادية الكاملة من دعائه (عليه السلام) يوم الاضحي ويوم الجمعة: «اللهم ان هذا المقام لخلفائك واصفيائك ومواضع امنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها و انت المقدّر لذلك لا يغالب امرك ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك كيف شئت وانّي شئت ولما انت اعلم به غير متّهم علي خلقك ولا لارادتك حتي عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات اشراعك وسنن نبيّك متروكة. اللّهم العن اعداءهم من الاولين والاخرين ومن رضي بفعالهم واشياعهم واتباعهم». اعلمت من خلفاء الله واصفياؤه وامناؤه علي رسالته؟ ومن يعني الامام زين العابدين بهذه الكلمات؟ انّه يعني اهل البيت النبوي، وانّه لمنهم في الصميم. اما القيادة السياسية الحاكمة في عصره فانها وان تسمّت

بالخلافة وتظاهرت بتطبيق المبادئ الاسلامية لكنّها قد بدلت حكم الله، ونبذت كتابه، وحرمت فرائضه، وتركت سنن نبيه حسب ما جاء عن الامام زين العابدين (عليه السلام) في الدعاء المذكور. ولسنا هنا بصدد تفصيل حياه القادة السياسيين في الدولة الاموية وتبيان خطّهم السياسي وتوسعة البحث عن سلوكهم واعمالهم، فذلك موكول الي مظانّه، ولكنّا هنا نحاول ان نستلهم جوانب من مواقف زين العابدين تجاه تلك القيادة، ونريد ان نطّلع علي مواقفهم منه (عليه السلام) مع اشارات سريعة الي شخصياتهم، ونعني بذلك من ناحية التاريخ السياسي المدة الواقعة بين تسلّم الامام زين العابدين (عليه السلام) للزمام القيادي حتي مصيره الي ربه (61 _ 94). ان اول خليفة معاصر للامام زين العابدين (عليه السلام) في هذه المدة:

يزيد بن معاوية

ممّا يندي له جبين الانسانية ان يصبح رجل متهتّك، ماجن ظاهر الفسق، بيّن الفجور، مسيطراً علي امور المسلمين، ومتحكماً بمقدرات الامّة ورسالتها الخالدة. ولقد اجاد الفيلسوف ابو العلاء المعري حيث يقول تعبيراً عن صرخة وجدان حيّ وضمير يقظ: اري الايّام تفعل كل نكر فما انا في العجائب مستزيد اليس قريشكم قتلت حسيناً وكان علي خلافتكم يزيد وجاء في كتاب التنبيه والاشراف في وصف يزيد خلقاً وخلقاً: كان آدم شديد الادمة عظيم الهامة، بوجهه اثر جدري بيّن، يبادر بلذته ويجاهر بمعصيته ويستحسن خطأه، ويهوّن الامور علي نفسه في دينه اذا صحّت له دنياه [295] . ومن كبريات الجرائر التي ارتكبها يزيد: مجزرة كربلاء. اباحة المدينة المنورة. اباحة الكعبة بالمنجنيق. ولقد بحثنا في هذا الكتاب موقف الامام زين العابدين (عليه السلام) من واقعة كربلاء، كما بحثنا عن اخذه واهل بيته الي دمشق، وكيف اوقفوا امام يزيد، وشيء من المطارحات بين يزيد والامام زين

العابدين، وبحثنا في وقعة الحرّة واسلوب الامام في ذلك. وكان (عليه السلام) قد ضمّ الي نفسه اربعمائة منافيّة واخذ يعولهن الي ان تقوّض جيش مسلم (بن عقبة) فقالت امرأة منهن: ما عشت والله بين يدي ابويّ مثل ذلك التشريف [296] . وكانت خلافة يزيد ثلاث سنين وثمانية اشهر ومات بحوران ودفن بدمشق وكان سبب وفاته انّه سكر وهو علي سرير مرتفع من الارض فقام يرقص فهوي الي الارض علي ام دماغه فاندقّت عنقه [297] .

معاوية الثاني

كان هذا علي خلاف سيرة ابيه (يزيد بن معاوية)، فلم يكن له استهانة بدماء الابرياء، ولا حرص علي الدنيا، او بغض لاهل الحق، بل لم يكن في قلبه شيء من ذلك. ولقد رأي ما منيت به الامّة من قتل واضطهاد، وجور شامل، وما صنع اهل بيته بمكتسبات الامّة وآل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). وقد ولي الخلافة بعد ابيه وهو ابن ثماني عشرة سنة او اثنتين وعشرين سنة. ولم يكن طالباً لها بل اتته منقادة (تجرجر اذيالها). فما ان وليها اربعين يوماً وقيل شهرين وقيل اكثر من ذلك حتي صمّم علي التنازل عنها، فجمع الناس وحمد الله واثني عليه ثم قال: ايها الناس اني نظرت بعدكم فيما صار اليَّ من امركم وقلّدته من ولايتكم فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي ان اتقدم علي قوم فيهم من هو خير مني واحقهم بذلك واقوي علي ما قلدته فاختاروا مني احدي خصلتين اما ان اخرج منها واستخلف عليكم من اراه لكم رضاً ومقنعا، ولكم الله علي ان لا آلوكم نصحا في الدين والدنيا، واما ان تختاروا لانفسكم وتخرجوني منها. قال فأنف الناس من قوله وابوا من ذلك وخاف بنو

امية ان تزول الخلافة منهم فقالوا: ننظر في ذلك يا امير المؤمنين نستخير الله فامهلنا. قال: لكم ذلك عجّلوا عليّ، قال: فلم يلبثوا بعدها حتي طعن، فدخلوا عليه فقالوا له: استخلف علي الناس من تراه لهم رضاً، فقال لهم: عند الموت تريدون ذلك، لا والله لا اتزودها، ما سعدت بحلاوتها فكيف اشقي بمرارتها ثم هلك (رحمه الله) ولم يستخلف احداً [298] . واورد اليعقوبي في تاريخه خطبة مغايرة لهذه بعض الشيء فمما جاء فيها: ثم قلد ابي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه... وقد قتل عترة الرسول واباح حرمه، وحرق الكعبة، وما انا المتقلد اموركم ولا المحتمل تبعاتكم فشأنكم امركم [299] . وقيل: انّه كان شيعياً امر الناس بالرجوع الي علي بن الحسين (عليه السلام)، وقال: ان هذا حق له. وممّا ينسب اليه: ياليت لي بيزيد حين انتسب اباً سواه وان ازري بي النسب برئت من فعله والله يشهد لي اني برئت وذا في الله قد يجب

تعليق عابر

قول ابن قتيبة في الامامة والسياسة عن معاوية الثاني: (طعن) اي اصابه الطاعون وهو المرض المعروف. قلت: الظاهر انّه الطاعون السياسي الذي اودي بكثير من الاعلام غير المرغوب فيهم، ومازال يأخذ اثره ويتابع مساره التنفيذي في الشرق والغرب.

مروان بن الحكم

اضطربت التوجهات السلطوية بعد موت معاوية الثاني (رحمه الله)، فكان عبدالله بن الزبير اكبر من دانت له البلاد، بما فيها بلاد الشام كلها الاّ الاردن، وخلافة ابن الزبير تترك خلافاً جوهرياً، اذ ان القيادة السياسية العامة تنتقل من القصر الاموي الي غيره. لا سيما ان بين الطرفين نزاعاً قيادياً شديداً وقد وقعت بينهما حرب قبل ذلك وحوصرت مكة. يضاف الي ذلك انتقال القيادة العامة الي عبدالله بن الزبير يعني ان عاصمة البلاد الاسلامية ستنتقل من الشام الي الحجاز حيث مركز ابن الزبير في مكة، وصرّح بعض الزعماء من الشام باستنكار قرار الانتقال كروح بن زنباع، والحصين بن نمير. فتآمر بعض انصار الامويين علي نقل السلطة لهم، وتمكينهم منها، وفي ذلك يقول روح بن زنباع لمروان بن الحكم: ان معي اربعمائة رجل من جذام سآمر ان يبتدروا في المسجد غداً فمر ابنك عبد العزيز ان يخطب ويدعوهم اليك، وانا آمرهم ان يقولوا صدقت فيظن الناس ان امرهم واحد. قال: فلما اصبح عبدالعزيز خرج علي الناس وهم مجتمعون فقام فحمد الله واثني عليه ثم قال: ما احد اولي بهذا الامر من مروان بن الحكم، انه لكبير قريش وشيخها وافرطها عقلاً وكمالاً ودنيا وفضلاً. والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر، فقال الجذاميون: صدقت... فقال خالد بن يزيد (بن معاوية): امر قضي بليل. فبايعوا مروان بن الحكم فقال عمرو بن سعيد للضحّاك بن قيس: أرضيت ان تكون

بريداً لابن الزبير وانت اكبر قريش وسيدها تعال نبايعك. فخرج به الي مرج راهط، فلما دعاه الي البيعة اقتتلوا فقتل الضحّاك بن قيس [300] . وكانت بداية بيعة مروان بالاردن وهو اول من اخذها بالسيف كرهاً علي ما قيل [301] . ولقد كان مروان مناقضاً لدوداً لاهل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، من ذلك اشتراكه ضد الامام علي (عليه السلام) في حرب الجمل وصفين ومواقفه من سبطي رسول الله، ولولا قصر خلافته لكان لهم منه يوم احمر. وعلي الرغم من مواقفه العدوانية، فقد حظي منهم بالنبل وبالتسامح المعهود، فلقد عفا عنه الامام علي (عليه السلام) بعد الانتصار في حرب الجمل، من بعد ان تمكن من خناقه. ومن ذلك الاستجابة الكريمة والسمحة من زين العابدين (عليه السلام)، وموافقته علي طلب مروان ان يضم عياله الي عياله اثناء محاصرة اهل المدينة لبني امية كما تقدم الحديث في ثورة اهل المدينة. ولقد صدقت فيه مقالة الامام علي (عليه السلام): «اما ان له امرة كلعقة الكلب انفه». كناية عن قصر مدة تسلّمه الحكم; فبعد ان حكم تسعة اشهر وقيل دون ذلك القت عليه جواري زوجته ام خالد الوسائد بامر منها فمات مخنوقاً.

عبدالله بن الزبير

كان عبدالله بن الزبير من النفر الذين يحذرهم معاوية بن ابي سفيان، ويحذر ولده يزيد منهم. وما ان ولي يزيد الخلافة حتي رفض ابن الزبير بيعته، واشتد عليه معتصماً بمكة. وبعد موت يزيد اشتد امره وقوي سلطانه. وابن الزبير عدو لدود وخصيم مارد ضد آل محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم). ولقد كان ابوه سنداً قوياً للامام علي (عليه السلام) فاستطاع الولد ان يصرفه عن توجّهه العلوي وفي ذلك يقول الامام علي صلوات الله

عليه: «كان الزبير رجلاً منا اهل البيت حتي شبّ ولده المشؤوم عبدالله». واشترك ابن الزبير في الجمل محارباً لعلي (عليه السلام) وصنع ما صنع قبيل الحرب وابّانها حتي اطفأ مالك الاشتر جمرته. وبعد الانتصار صفح عنه الامام واعرض. غير ان ابن الزبير ممّن لا يقابل الاحسان بالاحسان، وكان يسب الامام علياً (عليه السلام) في خطبته. قال المسعودي: خطب ابن الزبير فنال من علي فبلغ ذلك ابنه محمّد بن الحنفية; فجاء حتي وضع له كرسي قدامه فعلاه وقال: يا معشر قريش شاهت الوجوه اينتقص علي وانتم حضور؟ ان علياً كان سهماً صادقاً احد مرامي الله علي اعدائه [302] . ويسجن ابن الزبير محمد بن الحنفية (عليه السلام) ومجموعة من بني هاشم في شعب ويريد احراقهم، فيرسل المختار الثقفي وحدة عسكرية في سبيل انقاذهم. فما شعر ابن الزبير إلاّ والرايات تخفق علي رأسه. قال الديّال بن حرملة: فجئنا الي بني هاشم فاذا هم في الشعب، فاستخرجناهم فقال لنا ابن الحنفية لاتقاتلوا إلاّ من قاتلكم، فلمّا رآي ابن الزبير تنمّرنا له وإقدامنا عليه لاذ بأستار الكعبة وقال: أنا عائذ بالله [303] . لقد كان عبدالله بن الزبير يحسن التمثيل ويجيد التلوّن، فان شاءت الظروف كان جبّاراً عصيّاً، وان شاءت الظروف كان عبداً تقيّاً، رافعاً كف الخشوع للرب عزّوجلّ، مستجيراً بالبيت العتيق، عائذاً بالله. ولقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) كثير الحذر من قيادة ابن الزبير، شديد التخوف من فتنتها، تساوره الاشجان وتعتريه الاحزان، ولا نحسب ان تفكيره وآلامه من بلاء القيادة الاموية اقل من تفكيره وآلامه من بلاء القيادة الزبيرية، إذ ان القيادتين معا تجتهدان بان تأتيا علي بنيان اهل البيت من القواعد، وتشيّدا صروح الاهواء والجاهلية

والنزوات الرخيصة. قال ابو حمزة الثمالي رضوان الله عليه: اتيت باب علي بن الحسين (عليهما السلام) فكرهت ان انادي، فقعدت علي الباب الي ان خرج فسلّمت عليه ودعوت له فردّ عليّ ثم انتهي بي الي حائط، فقال: يا ابا حمزة الا تري هذا الحائط؟ فقلت بلي يا سيدي فقال: فاني متكئ عليه يوماً وانا حزين مفكر، اذ دخل علي رجل حسن الوجه، حسن الثياب طيّب الرائحة فنظر في تجاه وجهي ثم قال لي: يا علي بن الحسين مالي اراك كئيباً حزيناً علي الدنيا فهو رزق حاضر يأكل منه البر والفاجر، فقلت: ما عليها احزن وانّها كما تقول، فقال: علي الاخرة فهي وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر، فقلت: ما علي هذا احزن وانّها كما تقول، قال: فعلام حزنك؟ قلت: الخوف من فتنة ابن الزبير، قال: فضحك، ثم قال: يا علي هل رأيت احداً سأل الله تعالي فلم يعطه قلت: لا، ثم نظرت فاذا ليس قدامي احد [304] . ينبغي ان يكون واضحاً ان تخوّف الامام زين العابدين (عليه السلام) _ وهو الشجاع المقدام _ من فتنة ابن الزبير ليس تخوفاً علي شخصه ولا علي المآرب الذاتية لانّه كان في الدرجة العليا من الايثار والتضحية، وانّما كان متخوفاً علي الاسلام والمصلحة العامة. ولقد ظلّ عبدالله بن الزبير في الحكم _ خليفة _ تسع سنين ثم قتله اهل الشام سنة ثلاث وسبعين في خلافة عبدالملك بن مروان، وبذلك تخلّص عبدالملك بن مروان من منافس خطير وعدو شديد.

عبدالملك بن مروان

بويع عبدالملك بالخلافة بعد ابيه مروان سنة خمس وستين للهجرة وكان شديداً حازماً، رهيب السطوة. وفي الايام الاولي من خلافته اصطدمت قوات اهل الشام بحركة التوابين في منطقة عين

الوردة وقد تضعضعت قوات اهل الشام وانكشفت مرتين الاّ ان كثرتهم الغالبة حالت دون انكسارهم انكساراً نهائياً فسقط التوابون صرعي وما نجا منهم الاّ قليل. ثم ظهر المختار في العراق والتحم جيشه بجيش عبدالملك واندحرت قوات الاخير ومزّقت كل ممزّق. وكان التوابون والمختار في خط اهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يعني ان كفاحاً مسلحاً عنيفاً وقع بين عبدالملك وبين خط اهل البيت المتمثل بالامام زين العابدين (عليه السلام) وهذا يشكّل احد الركائز الاساسية التي جعلت عبدالملك متتبعاً _ بقوة وشمولية _ القواعد الشعبية لخط اهل البيت (عليهم السلام) في محاولة لاستئصال شأفتهم واجتياحهم نهائياً، فنصب الحجّاج الثقفي والياً علي العراق والحجّاج كما وصف نفسه لعبد الملك حسود حقود لجوج. ولا يعني حسده الاّ لاهل الفضل والكرامة، ولا حقده الاّ علي اهل الصلاح والسؤدد، ولم يكن لجوجاً الاّ بسفك الدماء، وهتك الاعراض، وتتبّع الابرياء بالقتل والتنكيل.

تعليل

بيد ان سياسة عبدالملك الدموية تجاه قواعد اهل البيت تغاير سياسته _ من حيث القتل _ مع اهل البيت انفسهم وعلي رأسهم الامام زين العابدين (عليه السلام) فما العلّة من ذلك؟ قلت: يمكن إنهاء ذلك الي علّتين: الاولي: لقد رأي عبدالملك في اوائل حكمه حركة التوّابين وحركة المختار الّلتين اصطدمتا به اصطداما عنيفا جدا كاد ان يودي بقيادته ويحسم مادة وجوده، وعاصر ثورة اهل المدينة، كل ذلك طلباً بثأر الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام)، فاذا ما صنع بعلي بن الحسين (عليه السلام) كصنع يزيد بالامام الحسين تأجّج وقود الثورة من جديد ثم لا يدري ما تكون العاقبة له ام عليه. العلّة الثانية: وهي لا تحتاج الي مقدمة لانّها واضحة من خلال الكتاب الذي ارسله عبدالملك في خلافته

الي الحجّاج الثقفي. من عبدالملك بن مروان امير المؤمنين الي الحجّاج بن يوسف امّا بعد، فانظر دماء عبدالمطّلب فاجتنبها، فأني رأيت آل ابي سفيان لمّا ولعوا بها لم يلبثوا إلاّ قليلاً. والسلام قال وبعث بالكتاب سرّاً الي الحجّاج وقال له: اكتم ذلك، فكوشف بذلك علي بن الحسين (عليهما السلام) حين الكتابة الي الحجّاج، فكتب من فوره: الي عبدالملك بن مروان من علي بن الحسين امّا بعد، فانّك كتبت في يوم كذا من شهر كذا الي الحجّاج سراً في حقّنا بني عبدالمطلب ممّا هو كيت وكيت، وقد شكر الله لك ذلك. ثم طوي الكتاب وختمه وارسل به مع غلام له من يومه علي ناقة له الي عبدالملك بن مروان وذلك من المدينة الشريفة الي الشام، فلمّا قدم الغلام علي عبدالملك اوصله، الكتاب، فلمّا نظره وتأمّل فيه فوجد تاريخه موافقا لتاريخ كتابه الذي كتبه الي الحجّاج في اليوم والساعة فعرف صدق علي بن الحسين وصلاحه ودينه ومكاشفته له، فسر بذلك وبعث له مع غلامه بوقر راحلته دراهم، وكسوة فاخرة، وسيّره من يومه، وسأله ان لا يخليه من صالح دعائه [305] .

اعتقال الامام زين العابدين

عن ابن شهاب انه قال: شهدت علي بن الحسين (عليه السلام) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة الي الشام فاثقله حديداً ووكّل به حفّاظاً في عدة وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه، والتوديع له، فأذنوا لي فدخلت عليه وهو في قبّة، والاقياد في رجليه، والغلّ في يديه فبكيت وقلت: وددت اني في مكانك وانت سالم، فقال لي: يا زهري او تظن هذا ممّا تري عليّ، وفي عنقي مما يكربني؟ اما لو شئت ما كان. وانه ان بلغت بك وبامثالك غمرة (شدة وضيق) فليذكر عذاب

الله. ثم اخرج يده من الغل ورجليه من القيد، ثم قال: يا زهري لا جزت معهم علي ذا منزلتين من المدينة. فما لبثنا الاّ اربع ليال حتي قدم الموكّلون به يطلبونه من المدينة فما وجدوه فكنت فيمن سألهم عنه فقال لي بعضهم: انّا نراه متبوعاً، انه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده اذ اصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاّ حديدة. قال الزهري: فقدمت بعد ذلك علي عبدالملك بن مروان فسألني عن علي بن الحسين (عليه السلام) فاخبرته، فقال لي: انّه جاءني في يوم فقده الاعوان... فدخل عليّ فقال: ما انا وانت؟ فقلت: اقم عندي. فقال: لا احب. ثم خرج... فوالله لقد امتلا ثوبي منه خيفة. قال الزهري: فقلت: يا امير المؤمنين، ليس علي بن الحسين حيث تظن، انّه مشغول بربّه... فقال: حبّذا شغل مثله فنعم ما شغل به. تحليل: والان نتساءل: ماذا يعني قول الزهري: ليس علي بن الحسين حيث تظن؟ فماذا كان عبدالملك يظن بعلي بن الحسين (عليه السلام)؟ لابد انّه كان يظن ان علياً يحرّك الساحة ضده، ويقلب له الامور، ويفند قيادته، ويريد الاطاحة بذلك الحكم الانتهازي. وفعلا لقد كان علي بن الحسين (عليه السلام) كذلك ولكنه يستخدم _ عادة _ الاساليب غير المكشوفة، والوسائل غير الواقعة تحت الرصد، وإذا ما رُصد شيء فانّما ترصد الاثار والنتائج. غير ان الاثار والنتائج لا تكشف عن مثيرها ومسبّبها بشكل واضح إلاّ احياناً. وبذلك يلتف النسيج بعضه علي بعض، ولا يؤدي المنظار الي الناظر احياناً إلاّ ارتباكاً وضبابيّة في الرؤية. ولمّا نفي الزهري عن الامام علي بن الحسين (عليه السلام) الاعمال المضادّة للسلطة لانّه مشغول بربّه، اثني علي هذا الشغل وهذا الانصراف وأكبرهما، اذ ان الحياة

العبادية حسب فهم عبدالملك واضرابه لا تعني في مدلول من مداليلها التدخل باي نمط من الانماط السياسية، وتوجيه الامة والقيام بمسؤولية المهام الاجتماعية الكثيرة.

بين عبدالملك و يزيد

لقد لقي الامام الهمام زين العابدين (عليه السلام) بسبب قيامه بالمسؤوليات الجسيمة كل الوان العنت والاضطهاد، فلقد نقل من الكوفة الي دمشق مغلولة يداه الي عنقه علي الرغم من طول المسافة والعلّة التي انهكت بدنه آنذاك وها هنا مرة ثانية توضع القيود في يديه والاغلال في عنقه لينقل الي دمشق، في المرة الاولي من اجل ان يقدّم الي يزيد بن معاوية ليري فيه رأيه، وفي المرة الثانية من اجل ان يقدّم الي عبدالملك بن مروان ليري فيه رأيه. فكأن العذاب الاليم والاضطهاد الشديد قد كتب علي هذا الامام الطاهر ليلاقي في سبيل المبادئ العليا ما يلاقي. غير انّه والحمد لله يرجع في كلتا الحالتين الي مدينة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مبجّلا، معزّزا، موفور الكرامة. قد اثبت جدارته، وادّي مسؤليته وان سخط ساخطون.

بين عبدالملك و مسلم بن عقبة

ونريد ان نرجع بالذاكرة مرة اخري الي حيث ثورة اهل المدينة واباحتها. كيف كان مسلم بن عقبة قائد جيش الاستباحة يتهدد ويتوعد الامام زين العابدين (عليه السلام) قبل لقائه، فلمّا رآه وقد اشرف عليه ارتعد وقام له، واقعده الي جانبه وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في احد ممّن قدّم الي السيف الاّ شفّعه فيه. ولمّا سئل الجزار عن هذا التناقض في السلوك، والموقف من زين العابدين قال: ما كان ذلك لرأي مني لقد ملئ قلبي منه رعباً. وهكذا يأمر عبدالملك باعتقال زين العابدين في تلك الصورة المأساوية المؤلمة، وإذا به وقد واجهه يكرمه ويجلّه، وينهار امام شخصيته الكبري ويقول: فوالله لقد امتلا ثوبي منه خيفة.

حزم و كياسة

بلغ عبد الملك ان سيف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عند زين العابدين فبعث يستوهبه منه، ويسأله الحاجة، فابي عليه، فكتب اليه عبدالملك يهدّده، وانّه يقطع رزقه من بيت المال. فاجابه (عليه السلام): امّا بعد، فان الله ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقال جلّ ذكره: (انّ الله لا يحب كل خوّان كفور) [306] . فانظر ايّنا اولي بهذه الاية.

القدح بشخصية الامام

فاذا لم يكن في الترهيب انتصار لعبدالملك، واذا كان الترغيب والاغراء قد باءا بالفشل فان ثم لمحات يبدو للمترصد لها ان يستغلّها ايقاعاً بالطرف المقابل وقدحاً بشخصيته امام اعين الجمهور.. وفعلا كان لعبد الملك بالمدينة المنورة عين يكتب اليه باخبار ما يحدث فيها، وينقل له مجريات الامور. فكتب اليه ان علي بن الحسين اعتق جارية ثم تزوجها. فكتب عبدالملك الي علي بن الحسين (عليه السلام): اما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت انّه كان في اكفائك من قريش من تمجد به في الصهر، وتستنجبه في الولد. فلا لنفسك نظرت ولا علي من ولدت ابقيت. والسلام. فاجابه (عليه السلام): ليس فوق رسول الله مرتقيً في مجد، ولا مستزاد في كرم. انّما كانت ملك يميني، خرجت مني. اريد الله عزّوجلّ بامر التمست فيه ثوابه، ثم نكحتها علي سنّته. وقد رفع الله بالاسلام الخسيسة وأتمّ به النقيصة فلا لوم علي امرئ مسلم. انّما اللوم لوم الجاهلية. فلمّا وصل الكتاب لعبدالملك قرأه ثم ناوله ولده سليمان فقرأه ثم قال له: يا امير المؤمنين لشدّما فخر عليك ابن الحسين، فقال: يا بني لا تقل ذلك فانّها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر. وتعليقاً علي ذلك قال عبدالملك لمن

حوله: خبّروني عن رجل اذا اتي ما يصنع الناس لم يزده الاّ شرفا. قالوا: ذلك امير المؤمنين. قال: ما هو ذاك. قالوا: ما نعرف الاّ امير المؤمنين. قال: لا والله ما هو بأمير المؤمنين ولكنّه علي بن الحسين. إذْ إن المعتاد عند المجتمع آنذاك ان الزواج من الاماء يضع المتزوج وينقص قدره.. امّا زين العابدين فقد تزوج امة كما يتزوج كثير من الناس ولكنّهم يتّضعون وهو يرتفع.. ويسمو.. مكانه. وهذا امر غريب يكاد ان يلحق بالمعجزات لان السبب واحد _ الزواج من الاماء _ ولكن النتيجة تختلف.. هؤلاء يتّضعون وهذا يرتفع. حتي كأن النتيجة لا تستند إلي مقدمة. سبحانك يا رب ترفع من تشاء، وتضع من تشاء. ان زواج زين العابدين (عليه السلام) من امة دليل من الادلة الوافرة علي نبله وتواضعه، وسجاحة خلقه، ونظرته الانسانية الصادقة واقتدائه بالرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) اذ قد تزوج امته صفية بنت حيي بن اخطب بعد إذ أعتقها، كما تزوج مارية القبطية. وما علي من استنّ بسنّة رسول الانسانية من سبيل. انّما السبيل علي من يستعلون علي طبقة المستضعفين من المجتمع وبها يستخفّون. وبعد ان حكم عبدالملك في المدة ما بين رجب سنة (65ه_) الي النصف من جماي الاخرة سنة (86ه_) انتقل الي مثواه الاخير.

الوليد بن عبدالملك

بويع الوليد يوم وفاة ابيه فخرج علي قومه في زينته، وصعد المنبر وخطب قائلاً: لم أرَ مثلها نعمة، فقدت الخليفة، وتقلّدت الخلافة فانّا لله وانّا اليه راجعون علي المصيبة، والحمد لله رب العالمين علي النعمة. وقد وصفه كبير المؤرخين القدماء علي بن الحسين المسعودي (رحمه الله) قائلاً: كان لحّانة، شديد السطوة، لا يتوقف عند الغضب، ولا ينظر في عاقبة، ولا

يكلّم عند سطوته، تهون عليه الدماء. ما أشبه سياسة الوليد بسياسة ابيه تجاه خط اهل البيت (عليهم السلام)، فان تتبّع القواعد الشعبية لهم لا يزال علي قدم وساق والذبح والتنكيل والاعتقال كأشد ما يكون. هذا من جهة، والجهة الثانية المشابهة لسياسة ابيه ايضاً هي الابتعاد عن التعرض الدموي للشخصيات الهاشمية.

تصاعد النفوذ

غير انّه قد رأي تصاعد النفوذ الشعبي لزين العابدين (عليه السلام)، وقوة جماهيريته فامتلا حقداً عليه وتربّصاً به، وخصوصاً عندما حج هشام بن عبدالملك، فاراد ان يستلم الحجر الاسود فلم يستطع لشدة ازدحام الناس فبقي ينتظر الفرصة. ولمّا اقبل الامام زين العابدين صلوات الله عليه انفرج الناس له هيبة واجلالاً واكباراً لشخصه الكريم فاستلم الحجر الاسود. ويسأل بعض اصحاب هشام عن هذا الرجل الذي لقي كل حفاوة وتكريم، ومحاولة لتغطية الموقف، ولئلاّ يرغب بزين العابدين يجيب هشام بالنفي عن معرفة مثل هذا الشخص. وكان الفرزدق حاضراً، مستمعاً للسؤال وللتجاهل في الجواب، فقال: انا اعرفه.. وانطلق ينشد رائعته التاريخيّة: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلّهم هذا التقي النقي الطاهر العلم اذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم ينمي الي ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الاسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم يغضي حياءً ويغضي من مهابته فلا يكلّم الاّ حين يبتسم في كفّه خيزران ريحه عبق من كف اروع في عرنينه شمم ينشق نور الهدي من نور غرتّه كالشمس تنجاب عن اشراقهاالظلم منشقّة من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجدّه انبياء الله قد ختموا الله شرّفه قدماً وعظّمه

جري بذاك له في لوحه القلم وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت والعجم كلتا يديه غياث عمّ نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشي بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم حمّال اثقال اقوام اذا فدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء اريب حين يعتزم عم البرية بالاحسان فانقشعت عنها العماية والاملاق والعدم ما قال لا قط الاّ في تشهده لولا التشهد كانت لاءه نعم من معشر حبّهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجيً ومعتصم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وان كرموا هم الغيوث اذا ما ازمة ازمت والاسد اسد الشري والبأسُ محتدم لا ينقص العسر بسطاً من اكفّهم سيّان ذلك ان اثروا وان عدموا مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بدء ومختوم به الكلم يأبي لهم ان يحل الذم ساحتهم خيم كريم وايد بالندي هضم أي الخلائق ليست في رقابهم لاولية هذا او له نعم من يعرف الله يعرف اولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الامم [307] فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب، ثمّ انّه اخذ الفرزدق وحبسه ما بين مكة والمدينة، وبلغ علي بن الحسين امتداحه فبعث اليه بعشرة آلاف درهم فردّها وقال: والله ما مدحته إلاّ لله تعالي لا للعطاء، فقال علي بن الحسين: قد عرف الله له ذلك، ولكنّا اهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، فقبلها منه. وقال الفرزدق يهجو هشاماً لحبسه ايّاه: ايحبسني بين المدينة والتي اليها قلوب الناس يهوي منيبها يقلّب راساً لم يكن راس سيد وعينا له حولاء باد عيوبها وبقي الفرزدق في الحبس اربعة اشهر، فبذل فيه الامام زين العابدين (عليه السلام)

اربعمائة دينار حمراء، واطلقه من الحبس.

تحقيق تاريخي

هذه القصيدة من مشهور شعر الفرزدق بل هي اشهر شعره اطلاقاً، وقد ذكرها جمع غفير من المؤرخين والمحدّثين والادباء، وليس عندنا ريب في صحّة ذلك، ولكن قد ذكر ان الواقعة التي اُنشئت فيها القصيدة كانت في زمن عبدالملك كما ذكر انّها في زمن عبدالملك أو الوليد علي جهة الترديد، وقد ذكرنا وقوعها في عهد الوليد من غير تردد، وسبب تاكيدنا علي هذا المعني هو ان وفاة هشام بن عبدالملك كانت سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة كما عليه جملة من المحقّقين [308] وقيل ابن خمس وخمسين سنة. وعلي هذا الاساس يكون في عهد ابيه عبدالملك صغير السن، يلعب مع اترابه، لان وفاة عبدالملك كانت سنة ست وثمانين.. اذن فمن المستبعد بل المستبعد جداً ان تكون الحادثة قد وقعت في عهده وإنما في خلافة الوليد. وما يدريك فربما كان الوليد قد سمّ الامام زين العابدين (عليه السلام) وقضي عليه _ كما هو مشهور _ بتحريض من هشام لما راي من شعبية زين العابدين صلوات الله عليه ومكانته بين المسلمين.

واخيراً

لما بلغ الوليد ثلاثاً واربعين سنة سقط ميّتاً وذلك سنة ست وتسعين. (افأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون).

طبيعة الصراع

لم يكن الصراع بين الامام زين العابدين (عليه السلام) وبين الوليد في سبيل تحقيق اهداف ومطامح شخصيّة او اسريّة او غيرها من مطامح واهداف دنيوية بل كان صراع زين العابدين لبواعث دينيّة واخلاقيّة. انّه صراع بين من يفتدي الحق، ويجسّد الفضيلة وبين من يجسّد الباطل بكل ثقله. وانتصر علي بن الحسين. وزهق الباطل، ان الباطل كان زهوقا. وبقي علي زين العابدين حيّاً يرزق.. خالداً في الخالدين.. منبعاً ثرّاً للعطاء، والخير، والكرامة.. وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً.

ما وراء المواقف العملية

اضافة الي مختلف انشطة الامام زين العابدين (عليه السلام) في معارضة الحكم القائم فان له موقفاً آخر يتّصل بالغيب.. ويتصاعد الي السميع العليم. انّه خلجات القلب تتحول الي الفاظ وبيان وذوبان الروح في محراب الانشداد للقدرة الازليّة. يا من لا يخفي عليه انباء المتظلّمين... ويا من لا يحتاج في قصصهم الي شهادات الشاهدين... ويا من قربت نصرته من المظلومين... ويا من بعد عونه عن الظالمين [309] . وشكا إليه بعض اصحابه سياسة القمع والاستبداد وشتم الامام علي (عليه السلام) علي المنابر فما كان منه (عليه السلام) إلاّ النظر الي السماء مبتهلاً بهذه الكلمات: «سبحانك سيدي ما احلمك، واعظم شأنك في حلمك واعلي سلطانك يا رب. قد مهّلت عبادك في بلادك حتي ظنّوا أنهم مهّلتهم ابداً. وهذا كلّه بعينك لا يغالب قضاؤك،ولا يردّ المحتوم من تدبيرك».

النظام النقدي

لم تكن الجهود السياسية المكثّفة، والمتعددة الاساليب التي قام بها الامام زين العابدين (عليه السلام) في مواجهة النظام القائم من اجل تحقيق اهداف ومطامح شخصية او أُسرية او غير ذلك كما عرفنا، وانّما كان زين العابدين (عليه السلام) صاحب دين قويم وعقيدة راسخة رسوخ الجبال فهو يتّخذ من المناهج السياسية وطرائق العمل بما تمليه عليه ديانته وتوحيه العقيدة الصلبة. ومن هذا المنطلق يهبّ الامام زين العابدين (عليه السلام) كلما دعت الضرورة الي تدعيم الدولة واسنادها اذا كان في ذلك نفع حقيقي للاسلام... ولا يألو جهداً في تقديم ما يمكن تقديمه من الصيانة للدين والاخلاق والمبادئ العليا. ان دعاءه لحرس الحدود المعروف بدعائه لاهل الثغور من الادعية التي تواتر نقلها عنه (عليه السلام). في الوقت الذي يعني تعاطفه مع حرس الحدود تعاطفاً مع مصلحة الاسلام ومكتسبات الاُمّة. ومن الادلّة ايضاً

علي الدوافع الدينيّة والاخلاقيّة لسياسة الامام زين العابدين (عليه السلام)... قضيّة النظام النقدي للدولة، وايجاد الحل العملي له. إذ كان الحل ورفع المشكلة يعني نصراً للاسلام والمسلمين. وتوضيح ذلك: ان المسلمين لما فتحوا العراق والشام وغيرها وقد كان الاوّل خاضعاً للحكم الفارسي والثاني خاضعاً للحكم الرومي.. استمرّوا علي استخدام النظام النقدي القديم فكان: الدرهم البغلي = 2 / 3، 66 / 4 غرام الدرهم الجوارقي =40 / 3 غرام الدرهم الطبري =1 / 2، 83 / 20 غرام هو النظام النقدي السائد في العراق وان كان العراقيون يستخدمون غيره بصورة اقل وكان اهل الشام يستخدمون العملة الروميّة. وقد ضرب عدد من حكّام المسلمين عدداً من النقود ما بين الفتوحات الاولي الي سنوات من خلافة عبدالملك بن مروان، الاّ ان المسلمين ما زالوا غير مستقلّين في نظامهم النقدي، وفي فترة من فترات شدة التوتر بين ملك الروم وبين المسلمين انذر ملك الروم عبدالملك بن مروان بقطعها عن المسلمين فتأزّم وضع عبدالملك وقال: احسبني اشأم مولود ولد في الاسلام، واستعان بزين العابدين (عليه السلام) وقد ادرك المسؤولية الخطيرة المتعلّقة بالمصلحة العامة فأرسل إليه ولده محمداً الباقر (عليه السلام) لحل الازمة النقديّة، يتقدم المسلمون خطوة إلي الامام علي يدي الامام زين العابدين (عليه السلام) باحراز الاستقلاليّة في النظام النقدي.

ملاحظة

المشهور بين المؤرخين ان الامام زين العابدين (عليه السلام) قد اوكل مهمّة الانجاز النقدي الي ولده محمد الباقر (عليه السلام) فارسله الي دمشق لهذا الغرض واضعاً له الخطّة المناسبة. ولكن اود ان اشير الي ان بعض المصادر تذكر ان الامام زين العابدين (عليه السلام) ذهب بنفسه الي دمشق لتحقيق الانجاز... قال ابن كثير الدمشقي: وقد استقدمه عبدالملك مرّة

اخري الي دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب اليه فيه من امر السكّة وطراز القراطيس.

رمز السياسة

غرّدْ علي فَنَن من الخضراءِ فالعيشُ عيش الروضة الغنّاءِ غرّد علي نادي الهوي تغريدةً دارت عليها اكؤُس الندماءِ لا نايَ في الدنيا كصدح عنادل طربت وسجع حمامة ورقاءِ غرّد أمالكَ في الرياض وحسنها من حاجة ياملهم الشعراءِ ما بين حقل زاهر معشوشب وخميلة تحيا بكل هناءِ والوردِ بعد الوردِ مبتسماً الي شجر كمثل القامةِ الهيفاءِ او لم تكن بجمالها ونسيمها جعلتك رَبَّ تلاوة وغناءِ فاسْدِ لها اللحن الطروبَ فانها يا حبي اولي الخلقِ بالاسداءِ لو كنت في الجرداء [310] ما اطربتنا هيهات من طرب علي الجرداءِ وفِّ لها ما اسطعت بعض حقوقها ان الوفاء طبيعةُ الشرفاءِ وأصدق لها المدحَ البديع محبةً لجمالها الاسمي وبعض ثناءِ واري المديح الفذ ماقد هاجه ربع الهوي او كان محضَ جزاءِ لا تذهبنَّ مشرقاً ومغرباً بهواك متبّعا خطي الاجراءِ وقف الهوي في ربعه وهم الاُلي من آل بيت المصطفي الامناءِ اعلام دين الله موضع سرّه ومهابط التنزيل والايحاءِ لا ليسَ يهواهم سوي كبد ذوي بمحبة الحكماء والعلماءِ هذي العقيدةُ افصحت عن سرها في خير افصاح وخير اداءِ هتفت: بان المسلمين منابتٌ شتي فبين الهدي والاهواءِ وهداتهم شتي فهم في سلَّم يمتدّ بين الارض والجوزاءِ فإذا عليُّ ابنُ الحسين متوجٌ فوق الانام وساحة الشهداءِ خيرُ الانام فتيً تعلق بالهدي كتعلق الابناء بالاباءِ خيرُ الانام فتيً يذوبُ محبةً لله ذوبَ الظلِّ في الصحراءِ خيرُ الانام فتيً يصدُّ عن الهوي المردي صدود الخصم عن خصماءِ خيرُ الانام من اصطفاهُ محمدٌ لامامة حنفية عصماءِ الصالحون هم الذين سَمَوا بنا للمكرماتِ وللهدي الوضّاءِ وعليُّ زينُ

العابدين سمابهم فوق العلاءِ وفوق كل سماءِ كشّاف ادواء الانام بعلمه والعلم للانسان خير دواءِ قطاّع اعناقِ اللئام بجوده والجودُ مخزاةٌ علي اللؤماءِ مقحامُ اودية النفوس بنظرة كبرت عن التبجيل والاطراءِ فتراهُ يكنفها ويسبرُ عمقها والسبْرُ يدني القاصي المتنائي حتي يريكَ صحيحها وسقيمها ليس السماعُ كمثلِ عين الرائي فكأنما الرحمان اشهده علي خلق النفوسِ برؤيةِ وجلاءِ ومشمّر يسعي بغير هوادة لا تعتريه سآمةُ الاعياءِ بين العبادة لا يُنال اقلّها يسعي وبين معارف سمحاءِ ويجدُّ نحو سياسة قد رفرفت بالفوزِ بين الصحبِ والاعداءِ وله _ إذا ما الليلُ اطبق _ ساعةٌ تحنو لشدِّ سواعدِ الفقراءِ ولربّما اسودّت صحيفةُ ظهره من طولِ حملِ الماءِ للضعفاءِ [311] . ورسائل للظالمين يصدهم فيها عن النزواتِ والفحشاءِ ورسائلٌ للاصفياء تفجرت القاً من التبصير واللالاءِ الليل يسبحُ والنهارُ وانه لاشدُّ في سبح وفي اجراءِ يسعي وان الدين والدنيا معاً يتقدمان بهمةِ السعّاءِ [312] . اذكي الحياة بفكرهِ وعلومه واقام بالاذكاء خير لواءِ واري الحياةَ جواهراً ومظاهراً ابداً تدينُ لجذوةِ الاذكاءِ ولربَّ يوم لا يقاسُ بمجدهِ قرنٌ من الامجاد والعلياءِ واتي عليُ بنُ الحسين ملبيا لله قربَ الكعبةِ الغرّاءِ فتذاوبت عنه الجموع وهالهم قمرٌ يشق مهابط الظلماءِ فكأنه بطلُ الجيوش تفرقت عنه الكتائبُ فهي مثلُ هباءِ أسرَ القلوبَ محبةً عذريةً قدسيةَ الاظهار والابداءِ ومهابةً تحكي مهابةَ حيدر ذاك الفتي في الساحة الحمراءِ والقلبُ _ انيّ كان _ عبدُ محبّة أو عبدُ خوف قاتل ورجاءِ ورأوا به القرآن جُسّد شاخصا هدياً ومعرفةً وحسنَ رواءِ ورأوا به الزهراءَ بنت محمد في البهجةِ القمريةِ الزهراءِ ورأوا به من كربلاءَ سموّها أو وقعَها في النفس والاحشاءِ وأتي هشامٌ [313] لاهثاً أو باحثاً عن موطئ الاقدام في

الترباءِ قد ظلّ فيهم حائراً متردّداً متأخراً كالنعجة الشلاّءِ وانحاز يسأل عن مصير بائس للاشقياء وعزة السعداءِ أهشام مَن هذا؟ فقال كأنه متجاهل دعني وعمقَ عزائي لا لستُ أعلم من يكون وانه بعض الرجال فخلّني ورثائي فإذا بسرّ الله يصرخ هاتفاً يُعلي شموخ العزة القعساءِ نفثاً كنفث السمر غير مدافع برؤي الفرزدق في أتمِّ نداءِ هذا الذي البطحاء تعرف قدرَه هذا عليٌّ سيدُ البطحاءِ البيتُ بيتُ الله يدرك سرَّه والحِلُّ والتحريم دون مراءِ [314] . إنْ كنتَ تجهله فليس بضائر جهل الحضيض بقمّة شماءِ قد عذّبوه بتهمة شوكيّة وأُقيمَ بين سواتر دكناءِ أوَذلكم زين العباد وشمسُهم قد صوّروه بريشة سوداءِ ورموه جهلاً بالسياسة وهو لا ينفكُ نبعَ الساسةِ الكبراءِ كان السياسةَ مخبراً وسجيّةً لكنما الجهلاء في إغواءِ ان السياسةَ _ لو علمتَ _ طبيعة في النفس لانبأٌ من الانباءِ وإذا تكانفت السياسةَ شهرةٌ حسني فمثل الضوع في الاشذاءِ كم بين مشهور بزورِ دعاية يوماً ومشهور بلا اصداءِ وصفوهُ بالصمت الغريب وما لهم علم بما للصمت من أدواءِ الصمت ظلم للحقيقة إنّها بالقول نعرفها بدون غشاءِ والصمت ظلم النفس لم تطبع علي صمت كمثل حجارة صماءِ قد كان يصمت عن مقام مابه للقول من دار ومن إيواءِ ويبثُّ حكمته وينشر علمه كالشمس مشرقة علي الغبراءِ ويسلُّ رأياً مشرفياً صارماً يوم الجدال وملتقي الخطباءِ وله النصائح كالضحي طلاّعة ما بين أرجاء الي أرجاءِ وبمسجد للمصطفي كم خطبة تسبي النهي بفصاحة وبهاءِ وبأرض كوفان مقام لم يزل مرعي البيان ومطمح البلغاءِ وعلي دمشقَ ملامح من روعة تغني طلاب الحسن اي غَناءِ وصفوهُ بالتقوي وليس بمتِّق تقوي الذليل وخشعة الاُسراءِ كان التقي بجِدّه وكفاحه وبروحه الاخّاذة [315] المعطاءِ كان

التقي ولم يخف من ظالم أنيّ تخاف مساعر الهيجاءِ كان التقي وكم له من خطَّة في الاجتماع سليمة عذراءِ كان التقي تقي النبي محمَّد لا منحني الاُجراء والدُّخلاءِ وصفوهُ بالزهد العجيب وما دروا للزهد من أصل ومن أنحاءِ الزهد زهد النفس في شهواتها لا بالثياب وجرّة من ماءِ وبساحة التأريخ كم من زاهد بالثوب مسراع إلي الغوغاءِ وبساحة التأريخ كم من زاهد بالزاد معروف الضّلال مرائي وبساحة التأريخ كم من زاهد بالدّار منكبٍّ علي الاخطاءِ وبساحة التأريخ كم من زاهد بمطارح البيضاء والصفراءِ [316] . متقدّم نحو الرئاسة لم يكن من أهلها كتقدّم الفضلاءِ الزهد زهد أخي العقيدة والهدي زين العباد الساجد البَكّاءِ الخاشع الاوّاب كنز مباهج الحكماء والزُهّاد والبُرَآءِ وصفوهُ بالعرفان وصفاً قاتماً مستوبل الالوان والافياءِ يا صاح ما العرفان إلاّ شعلة وهّاجة في أنفس الحكماءِ نور ومعرفة بقلب موحِّد يُحيي الظّلام بأدمع وطفاءِ يا صاح ما العرفان إلاّ ألسن ثريت بذكر الله أيّ ثراءِ يا صاح ما العرفان إلاّ أكبد قد أسكرتها خمرة الاسراءِ [317] . يا صاح ما العرفان إلاّ مهجة ذابت من الاشواق والبرحاءِ إن رمت للعرفان رمزاً وارفاً فعليُّ رمز محافل العرفاءِ وصفوهُ بالدَّعّاء لكن ما الذي يجري وراء الوصف بالدَّعاءِ أخيالُ شعر أم ملاعب فتية أم بعض اُنس الغادة الحسناءِ قد كان دعّاءً إذا نشر الدُجي أستارَهُ في الليلة الليلاءِ وتراه دعّاءً إذا الصبح انبري متبختراً بالصفحةِ البيضاءِ إِنَّ الدعاءَ وسيلةٌ روحيةٌ تبني صروحَ النفسِ ايّ بناءِ وهو الدعاء إذا تشاء سياسة صكّت وجوه الظلم والنكراءِ سيل من اللعنات تسكبها لظيً من فوق هام القادة اللُؤماءِ وفضائح تفري الوجوه وإن أبت أن تنحني للفري كلّ إباءِ ولكم به من

خطة معهودة بالفوز والانجاح والارواءِ ولكم به إيحاءة مرّت علي سمع الطغاة كصعقة حَذّاءِ [318] . لا يبلغ التصريحُ غايات له إلاْ وتبلغها يد الايماءِ وصفوه بالبَرّ الحنون وانما قصدوا معانيَ مُوِّهت بغطاءِ فيض من الرّفق الشفيف يزينه نبل الشعور ورقّة الرحماءِ قد حنَّ للعاني [319] الضعيف وزاره برفيف أخلاق وعطر إخاءِ والدّمع يسكبه كمثل لئالئ رفقاً وتحناناً علي البؤساءِ وله العواطف ساميات تلتقي والنفس نفس تلطّف وصفاءِ وإذا يلاقي الظالمين فإنّه كالصُلْب أو كقساوة البيداءِ كم قولة كالصخر شجَّت أوجهاً سوداء بل كالفيلق الشهباءِ وخطابة كالارجوان أعدَّها لقراع جور دونما اغضاءِ وسياسة لانت فخلتُ كأنّها ترف الغني أو بهجة السرّاءِ حتي إذا اشتدّت حسبتُ صوارماً هنديّة صُبَّت علي اللُّقطاءِ وعلي دمشقة [320] من زئير سياسة زينيّة [321] ماحزَّ بالهُجَناءِ رجل السياسة لم تزل من همِّه حتي أعدَّ مراجل الاِبقاءِ جيلاً يردّ بصدره وبنحره ضربات كف حكومة عسراءِ تبْغي له الزّيغ الحقير وإنّه يبغي لها صوراً من الافناءِ حتي أضرّت فيه وهو مكافح ما أخمدتهُ صواعق الشحناءِ وأشدّ أبطال الكفاح مصابر للحرب لم يهزم لطول عناءِ وتظلّ توخزه أسنّة بطشها بسياسة كالصعدةِ السمراءِ ويظلُّ يطعنها بخطّ سياسة زينيّة معدومة النُظراءِ كلٌّ بصاحبه يروم إطاحة والخلد لا يعنو لغير فدائي فإذا بذاك الجيل يخلق مثله وإذا الحكومة ريشة بهواءِ وهدي السياسة لم يزل قرآنها المَتْلُوَّ في الاصباح والامساءِ يتلو صحيفتها وتتلو صُحفه الغرّاء، والجُهّال في إغفاءِ ما رامَها إلا وأقبل جندها متجاوباً مستسلم الاعضاءِ رجل السياسة والعقيدة لم يجد بوناً وردَّ مقالة السفهاءِ إنَّ السياسة بعض دين محمّد فتأَخّروا يا معشر الجهلاءِ [322] .

عاش العقيدة ثورة

قل للعوائلِ في المدينةِ ميلي نحو العويلِ لفقدِ خيرِ معيلِ دامي

الفؤاد _ تقطعت أحشاؤهُ فتقطعت اَحشاءُ كلِّ أَصيلِ وتنكّرت قسماته وأحالها سم وإن السم شرُّ محيل دمعي سكبت علي مربّي الجيل سحاً عليه فما شفيت غليلي زين العباد وصفوة الله الذي لم تفصح الدنيا له بمثيل ومفجِّع قد حلّ بعد مفجِّع شهرَ المحرمِ آهِ أي حلول ترك الحسين علي الفرات مضرَّجاً ظامي يتوق لورده المعسول وفجيعة السجّاد بين أحبّة ندبوه بالتكبير والتهليل وبكوه للدنيا تطيب بظلّه وبكوه للاخري بكل عويل ذاك الامام الفذ من فاق الوري بالجَد إنّ الجَد خبرُ رسول ذاك الامام الفذ من فاق الوري بالاُم انّ الامَّ خير بتول وبحسبه ان كان حيدر اصلهُ والفرع لا يرقي بغير اصول وبحسبه ان فاق من وطئ الثري بالفقه والتنزيل والتأويل وله من التاريخ كل معارف بالفكر دافقة دفيق النيل وبحسبه قيلُ النبي المصطفي لو ادرك الحكام معني القيل يوم القيامة سوف يدعي جهرة والخلق ماثلة أشد مثول أين الفتي زين العباد فيالها اكرومة جلّت عن التمثيل فكأنني أرنوا الي ولدي مشي بين الصفوف موفّر التبجيل ذاكم علي بن الحسين وصيتي فيكم وهل أوصي بغير جميل [323] . أولي البرية في البرية كلها بقيادة عليا وبالاكليل ليس القيادة في سياسة دربه غنماً لكل مخادع وضئيل كلاّ ولا ملكاً عضوضاً زائغاً ألقي به الضلّيل للضلّيل انّ القيادة كوكب متوهج في خطهِ الاسمي وشمس أصيل دين النبي محمد منهاجها ودليلها أكرم بخير دليل لاتبغي إلاّ الحق ليس يغوله كذب الشعار ولا المقال بِغُول [324] . لا تحكم الارحام في جنباتها ابداً ولا كان الهوي ببديل يا ويلهم جعلوا قيادة حكمهم أرثاً وتوكيلاً الي توكيل بين ابن هند لاعباً متفكّهاً بادي الضلال الي أحطّ سليل عن ذي الكفاءة

والمعارف والهدي عدلوا بها سَفَهاً لغير عدول لو كان حاكمهم [325] اذن علم الوري نبل الحكومة في زمام نبيل أو كان قائدهم اذن علم الوري علم المقدَّمِ ليس بالمفضول انّ النبي محمداً لمّا يزل حياً وان الدين غير كليل عاش العقيدة ثورة لا ثروةً ومحطة للكسب والتمويل واذا المطامع حُكّمت أضحي الهدي ضرباً من التزمير والتطبيل ومواقف مشهودة قد جاوزت مدح البليغ ورائعات قؤول أوَ ليس في نادي الشآم كفاية اذ صار عزّ الملك شر ذليل لمّا سما زين العباد بمنطق صعب الامور لديه جدّ ذلول ولربّ نطق لا يقاس بقدره حدّ الحسام ولا فعال فَعول لو كنت تعقل يا يزيد فجيعة اوقعتها ياويك [326] من مرذولِ لتركت ألوان الاسرّة طائعاً وثويت في رمل هناك مهيل وأكلت من نَبذ [327] الرماد مفارقاً رغد الحياة وطيّب المأكول ودعوتَ بالويلات ممّا قد جنتْ كفّاك بابن المصطفي المأمول وصرختَ كالثكلي اُصيب وحيدها يا للثبور لقاتل مقتول مَن كان يعرفني فذاك ومَن له جهل فإني معلم لجهول أنا مَن أنا زين العباد وفي الذي قد قلت ما يُغني عن التحصيل ولقد طلعتُ عليكمُ بمحمد لو تعرفون مكانتي ومقيلي ولقد طلعت عليكمُ بوصيّهِ خير الانام وملتقي التفضيل أنا إبن اول من أجاب مسارعاً لله واستسقي هدي التنزيل أنا إبن يعسوبِ الهداة ونور مَن قد جاهدوا والبِيض ذات فُلول أنا إبن من قد كان جبريل له عوناً ومنصور [328] بميكائيل أنا إبن مردي المشركين وقاصم القوم الطغاة بسيفه المصقول أنا إبن سهم من مرامي الله قد أودي البغاة وكرّ غير مَلولِ قطّاعِ أصلابِ الرجال مفرّق الا حزاب للحرب العوان وَصولِ سمحِ سخيّ لا يقاس به امرؤ طهر زكيّ صادق بهلولِ وأشدِّ

من شهد الحروب شكيمةً أسد الي الشوس الكماة عَجولِ ليثِ الحجاز وكبشِ ابطال العرا ق وغيثِ كل جديبة ومحيل فاذا يزيد يضجّ مما قاله خير الوري ويحيد كالمذهول تلك السياسةُ بالشجاعة ركّبت فاذا هما كالصارم المسلول [329] . ويقول منهال بن عمرو كيف قد أمسيت بين إقامة ورحيل فيقول أمسينا وربّ محمد ومثالنا فيكم بنو اسرائيل ما بين فرعون اللئيم وحزبه يتخضبون من الدم المطلول منهال أمسي العُرب قد فخروا علي مَن دونهم فخراً بغير عَذول [330] . وقريش أمسوا بُذّخاً بمحمد فخراً علي فخر هناك أثيل ولنحن آل محمد وبنوه أو لي منهمُ طرّاً بكل جليلِ عشنا العذاب ولم نزل مذ فقدهِ اُسراء غمّ _ لا يطاقُ _ مهولِ ما بين مغصوب ومقهور و مقتولِ وبين مطرَّد معقولِ وأتي المدينة لا يهاب مؤمَّراً أنيّ يهاب الذئبَ ليثُ الغيلِ [331] . أوَ ترهبون الفاسقينَ غشوْكمُ جوراً وبِيض الهندِ ذات صليل قُتل الحسين فيالها من محنة كبري ورزء كالجبال ثقيل قُتل الحسين ورأسهُ طافوا به في كل حَزن شامخ وسهول قُتل الحسين وآلُهُ وَنساؤه اُسروا فمن لخفائر وشبول من بعد ما قُرعت بأرماح العِدا نزلت بربع ليس بالمأهول يا أيها الاقوام أيّ منكمُ من بعد قتله يرتوي بنهول أم أي قلب بعده لم ينصدع أم أي عين لم تُصَب بهمول يا أيها الاقوامُ شمسُ محمد ما بينكم قد آذنت باُفول يا أيها الاقوام شرِّدنا بلا جُرم وطرّدنا بكفّ هزيل والله لو ان النبيّ بقتلنا وبأسرنا أوصي ونيل ذحول [332] . ما زاد أقوام علي ما قد جنوا بحقوقنا وأتوا بكل وبيل انظر رجالك يا محمد غودروا ما بين مسموم وبين قتيل بعض يُشال علي الرماح وبعضهم

فوق الكناسة باديَ التنكيلِ في كربلاء ويوم فخ هاهمُ تجري دماؤهمُ كدفق مسيل انا قد عهدتك سيدي دامي الحشا فاندبْ بدمع كالسحاب هطولِ قتلوا علياً ذا الفخار ومثّلوا بحسين يوماً أيّما تمثيل والمجتبي بالسم يقضي نحبه والعابد السجاد في تكبيل والباقران معاً وموسي أصبحوا مثلاً لمكويّ الفؤاد عليلِ وعليّ والفرد الجواد ونجله والعسكري قضوا بكل سبيل أسروا بناتك آه أيّ مصيبة جلّت عن التمويه والتضليل تلك المصائب بالجبال عدلتُها فتهافتت ومضوا بغير عديل قدْ مُتَّ لكن لا تموت عبادةٌ صدعت فؤاد العاشق المتبول قد مت لكن لا تموت سياسةُ بهرت عميقَ الفكر والمعقول [333] . وصحيفة ظلت طليعة ثورة كبري ودرب سياسة وحلول وصحيفة كانت لال محمد انجيلهم لله من انجيل وصحيفة ملء الكرامة صاغها ظل النبوة لانتشال الجيل كالشمس في اعطائها والسيف في ضرباته لملفّق ودخيل كالروض الا انها قد اورقت حراً وقراً دونما تعطيل [334] . محمود البغدادي اللهم إن قدّرت لنا العمل بما نعلم فجنبنا العمل لغير وجهك فياويلنا أيكون العلم منك والعمل لغيرك.. فما أضلّ صفقة تاجر رأس ماله لمولاه، وربحه لسواه. اللهم وان قدرت لنا العمل بما نعلم فجنبنا سوء التطبيق وعثرة الطريق.. فان سوء التطبيق من نكد العلم، وعثرة الطريق من شقاء العالم. المؤلف

عرفان الجميل

اتقدم باسمي آيات الشكر والتقدير للمجمع العالمي لاهل البيت (عليهم السلام) علي الجهود المتظافرة، والانشطة العلمية الوافرة التي يجود بها احياءً للكتاب الحكيم، والسنة المطهرة، ونشراً للحقيقة الغراء. اسأل المولي عزّوجلّ ان يكلا القائمين عليه، والعاملين فيه برعايته، وان يكلل اعمالهم بالنجاح الفائق والتوفيق المطّرد. انه نعم المولي ونعم النصير المؤلف محمود البغدادي

ملاحق

الملحق 01

كتب ملك الروم الي عبد الملك يتوعده، فضاق ذرعاً بجوابه وكتب الي الحجّاج وهو إذ ذاك علي الحجاز أن ابعث الي علي بن الحسين فتوعده وتهدّده واغلظ له، ثم انظر ماذا يجيبك فاكتب به إليّ. ففعل الحجاج ذلك، فقال له الامام علي بن الحسين (عليه السلام): انّ لله في كل يوم ثلاثمئة وستين لحظة، وارجو أن يكفيك في اول لحظة من لحظاته. وكتب بذلك الي عبد الملك، فكتب به الي صاحب الروم كتاباً. فلما قرأه قال: ليس هذا من كلامه هذا من كلام عترة نبوّته [335] . كتب عبد الملك هذا الكتاب أثناء تولية الحجّاج علي الحجاز. ومن هنا نفهم أن تأريخ الكتاب قد وقع بعد مقتل عبدالله بن الزبير، أي أن العالم الاسلامي آنذاك تحت سيطرة عبدالملك. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نعي أنّ عبد الملك لم يعرف بين الاصدقاء والاعداء في العالم الاسلامي جميعاً شخصاً أولي بالتفكير الراجح والرؤية الثاقبة من علي زين العابدين، ولهذا السبب حاول أن يستطلع تفكيره ويستجلي رؤيته في جواب ملك الروم. ولقد كان بمستطاع عبد الملك أن يستشير الامام زين العابدين (عليه السلام) في جواب ملك الروم كما استشاره في قضية النظام النقدي، ولكن الظاهر ان سياسة عبدالملك تحاول الاستفادة من الطرف المناوئ ذي التفكير القويم من دون أن تنزله الي دائرة الضوء، أو

تعمّق وجوده الاجتماعي. كما يمكن أن يكون السبب أنّ عبد الملك كان في حالة شديدة من الحرج والضغط الخارجي، فأراد أن يشرك رجلاً مفكراً قوي العزيمة في نفس شباك الحرج والضغط الشديد والتي كان هو واقعاً فيها. ان الانسان اذا كان بعيد الغور قوي الارادة. انتزع من الحلول السريعة والعملية ما لا يستطيع ان ينتزعه في الحالات الطبيعية.

الملحق 02

اشاره

أولي علماء المسلمين ومفكّروهم عناية فائقة بالصحيفة السجادية الكاملة شرحاً وتعليقاً، قديماً وحديثاً، ومن هؤلاء الافاضل: 1 _ الفقيه محمد ابن إدريس الحلي (ت 558). 2 _ ابراهيم بن علي الكفعمي (ت 905). 3 _ الفقيه علي بن عبد العالي الكركي (ت 940). 4 _ محمد بن جمال الدين الجبعي من احفاد الشهيد الثاني (ت 1030). 5 _ الشيخ عباس البلاغي من اعلام القرن الحادي عشر. 6 _ محمد بهاء الدين العاملي (ت 1030). 7 _ كما اَنَّ لابيه العلامة الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثي العاملي تعليقاً. 8 _ علي بن زين العابدين. فرغ من تأليفه (ت 1097) هجرية. 9 _ السيد حسين الموسوي الكركي. 10 _ السيد علي بن نظام المدني الشيرازي (ت 1120). 11 _ الشيخ يعقوب بن ابراهيم الحويزي (ت 1150). 12 _ العلاّمة جمال الدين الكوكباني اليماني (ت 1339). ومن المعاصرين: 13 _ الاستاذ عزّ الدين الجزائري. 14_ العلاّمة محمد جواد مغنية. وغيرهم.

ملاحظة

اخبرنا آية الله العظمي السيد شهاب الدين المرعشي النجفي: ان العلامة المصري جوهري طنطاوي حينما اطلع علي الصحيفة السجادية اعجب بها غاية الاعجاب، وكتب الي بتصميمه علي كتابة شرح علي هذه الصحيفة.

الملحق 03

لزين العابدين (عليه السلام) أدعية كثيرة للغاية. منها ما هو مذكور في الصحيفة السجادية الكاملة وهي متواترة عنه، ومنها ادعية تُنسب اليه كثيرة جداً ذكرتها الصحف التي أُلّفت في العصور الاخيرة. فالصحف السجادية اذن: 1 _ الصحيفة السجادية الكاملة وهي من إملاء الامام زين العابدين (عليه السلام). 2 _ الصحيفة الثانية السجادية، وهي من جمع الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي. 3 _ الصحيفة الثالثة السجادية، وهي من جمع صاحب رياض العلماء عبد الله الافندي. 4 _ الصحيفة الرابعة السجادية للمحدّث حسين النوري. 5 _ الصحيفة الخامسة السجادية للسيد محسن الامين العاملي. وقد رأيت عدة أدعية للامام زين العابدين (عليه السلام) غير مذكورة في الصحف السجادية الخمسة.

الملحق 04

هناك أبيات كثيرة من الشعر قيلت في إثر استشهاد الامام الحسين (عليه السلام)، لها أهميتها من الوجهة السياسية والتأريخية. وقد اختلف في نسبتها الي قائلها، فبعض نسبها لسليمان بن قتّة العدوي مولي بني هاشم، وبعض نسبها الي سراقة البارقي، وقد نسبها صاحب كتاب التذكرة في أحوال الموتي وامور الاخرة الي الامام علي زين العابدين (عليه السلام) مقتصراً منها علي ذكر مطلع الابيات والبيت الثاني [336] . عين جودي بعبرة وعويل واندبي اِن ندبت آل الرسول واندبي تسعة لصلب علي قد اصيبوا وخمسة لعقيل وابن عمّ النبي عوناً أخاهم ليس فيما ينوبهم بخذول وسميّ النبيّ غودر فيهم قد علوه بصارم مصقول واندبي كهلهم فليس إذا ما عدّ في الخير كهلهم كالكهول فلعمري لقد اصبت ذوي القربي فبكّي علي المصاب الطويل فاذا ما بكيت عيني فجودي بدموع تسيل كل مسيل لعن الله حيث كان زيادا وابنه والعجوز ذات البعول ان نسبة الابيات الي سراقة البارقي بعيدة عن الصحة. فإنه

كان بمنأيً عن طريق اهل البيت (عليهم السلام) كما يظهر من حاله، فإنه كان عدواً للمختار، وفي نفس الوقت كان تحت راية بشر بن مروان كما في تاريخ دمشق لابن عساكر _ نسخة مصورة _. فتبقي الابيات مرددة بين الامام زين العابدين (عليه السلام) وبين سليمان بن قتّة. وفي مروج الذهب 3 / 62 نسبتها الي مسلم بن قتيبة مولي بني هاشم، والظاهر أنه تصحيف سليمان بن قتة خصوصاً مع قرينة مولي بني هاشم. تتجلي اهمية الابيات من حيث وقوعها التأريخي في ذلك المقطع الزمني، أي علي اثر استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته الكرام، كما أن مجرد رثاء الامام الثائر علي الحكم القائم امر في غاية الصعوبة والارهاق، فكيف يكون الحال إذا كانت الابيات لم تقتصر علي هذا المنحي الخطير بل انها ترسل اللعنة، وترمي بشرر كالقصر في وجوه القيادة الظالمة المستبدة كما في البيت الاخير.

الملحق 05

اشاره

أبو علي الطبرسي في اعلام الوري، عبدالله بن سليمان الحضرمي، في خبر طويل: ان غانم بن ام غانم، دخل المدينة ومعه امه وسأل: هل تحسّون رجلاً من بني هاشم اسمه علي؟ قالوا: نعم هو ذاك. قال: فدلوني علي علي بن عبدالله بن عباس. فقلت له: معي حصاة ختم عليها عليُّ والحسن والحسين (عليهم السلام)، وسمعتُ انه يختم عليه (عليها) رجل اسمه علي. فقال علي بن عبدالله بن عباس: يا عدو الله كذبت علي علي بن أبي طالب وعلي الحسن والحسين. وصار بنو هاشم يضربونني; حتي ارجع عن مقالتي، ثم سلبوا مني الحصاة. فرأيت في ليلتي في منامي الحسين (عليه السلام)، وهو يقول لي: هاك الحصاة يا غانم وامضِ الي علي ابني فهو صاحبك. فانتبهت والحصاة في

يدي، فأتيت علي بن الحسين (عليه السلام) فختمها وقال لي: ان في امرك لعبرة فلا تخبر به احداً. فقال في ذلك غانم بن ام غانم: اتيتُ علياً ابتغي الحق عنده وعند علي عبرة لا احاولُ فشد وثاقي ثم قال لي اصطبر كأني مخبول عراني خابلُ فقلت لحاك الله والله لم اكن لاكذب في القول الذي انا قائلُ وخلّي سبيلي بعد ضنك فاصبحت مخلاته نفسي، وسربي سائلُ فافقبلت يا خير الاَنام مؤمماً لك اليوم عند [337] العالمين اسائلُ وقلت وخير القول ماكان صادقاً ولا يستوي في الدين حق وباطلُ ولا يستوي من كان بالحق عالماً كآخر يمسي وهو للحق جاهلُ وانت الامام الحق يعرف فضله وإِن قصرتْ عنه النهي والفضائلُ وانت وصي الاوصياء محمد ابوك ومن نيطت إليه الوسائلُ

تعليق

ان صح هذا الخبر أو لم يصح، فليس بالامر الذي يستحيل وقوعه أو عدم وقوعه. وذلك ان صدق القائل بذلك، فما اكثر الكرامات الحقيقية للرسول واهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم اجمعين. وإِن لم يصدق القائل بذلك، فما اكثر ماكذب علي الرسول واهل البيت. وعلي فرض صحة اصل الخبر فليس من الضروري ان يكون صحيحاً بهذه الكيفية التفصيلية. فقد تكون بعض فقراته قد نسجتها ايدي الناسجين. ان التاريخ يحدثنا والكتب العقائديه تؤكد لنا ان اجيالاً متعاقبة في زمان أئمة اهل البيت (عليهم السلام) كانوا يؤمنون بهم ويعتقدون بإمامتهم، حسب الطرق المعتادة والمعروفة، وليس عن طريق الختم علي الحصاة. كما ان رؤية الامام الحسين (عليه السلام) في المنام وبهذه الصورة المنقولة وإِن كانت غير مستحيلة إلاّ انها مع اهميتها لم يشر اليها في الابيات المتقدمة، وهذا ما يدع مجالاً رحيباً للشك في صحتها. والذي يمكن ان نستفيد

منه تاريخياً من الابيات ضمن الاطر الداخلية لها _ باعتبار ان الادب مصدر ثر للمادة التاريخية _ ان نزاعاً وتصادماً قد وقع بين علي بن عبدالله بن عباس رضوان الله عليهم وبين غانم بن ام غانم، ادي الي ان يقع الاخير في قبضة الوثاق. ثم ان غانماً عمد الي مدح الامام علي زين العابدين (عليه السلام). اضافة الي ان الابيات قد اوحت بل قد نصت واعتمدت مقارنة بين الشخصيتين: شخصية الامام زين العابدين، وشخصية علي بن عبدالله، وكان الترجيح الشديد وبشكل واضح في صالح الامام سلام الله عليه. علي ان مدح الامام زين العابدين في الابيات لا يقتصر علي زاوية الترجيح ما بين الشخصيتين، بل يتعداها كثيراً الي حيث الوصف ب_ (خير الانام). ومن الجدير بالذكر ان اثبات الامامة لاي امام كان أو يكون انما يستند علي الادلة القطعية، والمستمسكات العلمية، وليس علي المنام والرؤيا حتي تلك التي تحظي باهمية خاصة، ومكانة كبيرة. نعم ان للرؤيا دوراً في تعميق الاطمئنان في النفس، وتأكيد الفكرة التي قامت عليها الاَدلة المعتمدة.

ايضاح

ابان بن تغلب الذي روي الخبر عنه هو ابان بن تغلب بن رباح البكري، من اجلاء الفقهاء، واعلام مفسري القرآن الكريم، ثقةٌ عدل. قال العلامة ابو العباس النجاشي: عظيم المنزلة في اصحابنا. وقال العلامة الحافظ الذهبي: صدوق في نفسه، عالم كبير. وقال عبدالله بن احمد بن حنبل عن ابيه، واسحاق بن منصور عن يحيي بن معين، وابو حاتم، والنسائي: ثقة [338] .

تحقيق

إذا ما جعلنا هذا الخبر علي محك التمحيص والتأمل، أو في محل الرد، فليس بعلة نسبته الي ابان بن تغلب ذلك الرجل الصادق الامين، بل لافة أخري لا علاقة لها بشخصه الكريم. ان الخبر غير معتمد سندياً، ولا اقل من ان ابان لم يشاهد الواقعة بنفسه وانما نقلها عن غيره، وإن كان الخبر أول وهلة يبدو كأن أباناً هو الشاهد للحادثة. ودليلنا علي هذا ان ابان بن تغلب _ وإن لم نجد مصدراً يدلنا علي تحديد سنة مولده المبارك _ قال عنه الذهبي اثناء ترجمته له: وهو من اسنان حمزة الزيات. بقي علينا اذن ان نعرف تحديد عام مولد حمزة الزيات، ولقد حدد خير الدين الزركلي مولده بعام 80 للهجرة. ومن هنا نعلم ان مولد ابان بن تغلب عام 80 للهجرة وأن هدم الحجاج للكعبة قد وقع سنة 73 للهجرة. اذن لم يكن ابان بن تغلب قد حضر هذه الواقعة، ولم يكن آنذاك مخلوقاً، بل وقعت الواقعة قبل مولده بعدة اعوام. ومن هذا المنطلق، يكون ابان قد نقل الخبر عن غيره ولم يشاهده مباشرة، ولسنا نعلم من هذا الذي قد نقل عنه، فهو مجهول.

الملحق 06

اشاره

روي عن ابان بن تغلب: لما هدم الحجاج الكعبة، فرق الناس ترابها، فلما جاؤوا الي بنائها وارادوا ان يبنوها، خرجت عليهم حية، فمنعت الناس البناء حتي انهزموا. فاتوا الحجاج فاخبروه، فخاف ان يكون قد منع بناؤها، فصعد المنبر وقال: انشد الله عبداً عنده خبر ما ابتلينا به، لما اخبرنا به. قال: فقام شيخ فقال: ان يكن عند احد علم، فعند رجل رأيته جاء الي الكعبة واخذ مقدارها ثم مضي. فقال الحجاج: من هو؟ قال: علي بن الحسين. قال: معدن ذلك.

فبعث الي علي بن الحسين فاتاه فاخبره بما كان من منع الله اياه البناء. فقال له علي بن الحسين: يا حجاج عمدت الي بناء ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام) والقيته في الطريق، وانتهبه الناس كأَنك تري انه تراث لك. اصعد المنبر فانشد الناس ان لا يبقي احد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ رده. قال: ففعل فردوه. فلما رأي جميع التراب اتي علي بن الحسين فوضع الاساس، وامرهم أن يحفروا. قال: فتغيبت عنهم الحية، وحفروا حتي انتهوا الي موضع القواعد. فقال لهم علي بن الحسين: تنحوا. فتنحوا فدنا منها فغطاها بثوبه ثم بكي ثم غطاها بالتراب، ثم دعا الفعلة [339] فقال: ضعوا بناءكم; فوضعوا البناء، فلما ارتفعت حيطانه امر بالتراب فالقي في جوفه، فلذلك صار البيت يصعد إليه بالدرج [340] .

تحقيق

لا ريب ان للكعبة فضيلة كبري; باعتبارها بيت الله تبارك وتعالي، ومهبط ملائكته الطاهرين. ولا ريب ان للامام زين العابدين فضيلة كبري; باعتباره منار الحق والسداد، وكعبة الايمان والعقيدة. بيد ان الفضيلة الكبري للكعبة المكرمة وللامام زين العابدين (عليه السلام)، لا تمنع ابداً من التحقيق والتدقيق في الفضائل التي تنسب لها أو له، وذلك من اجل تمييز الغث من السمين، والزهيد من الثمين. اننا لو تركنا الحبل علي الغارب في باب الفضائل وفي شتي الابواب، من الاخبار والاثار، من غير تحقيق ولا تأمل، لامتزجت الخرافات بالحقائق، ولبّست علي الناس امور كثيرة جدا. ان للانسان اذناً وعيناً، اذنا للاستماع، وعيناً للتحقيق. ولقد قال الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): اعقلوا الخبر إذا سمعتوه، عقل رعاية لا رواية. فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل. وعلي هذا الضوء سوف ندرس الخبر الذي نحن بصدده. أ _ سوف

نعلم ان ابان بن تغلب رضوان الله عليه، لم يشاهد الواقعة المذكورة بعينه، ولم يكن مخلوقاً في زمانها، وانما قد نقلت له. ب _ يذكر الخبر ان الحجاج قد هدم الكعبة، وجاء الامام زين العابدين (عليه السلام) فاخذ مقدار الكعبة. ان عبارة مقدار الكعبة، غير واضحة كل الوضوح. فهل المقصود بها انه اخذ من ترابها، أي انه اخذ مقداراً منها مثلاً، إذا فلماذا امتعض (عليه السلام) ممن اخذ التراب منها؟ ولماذا امر برده؟ أو ان المقصود انه اخذ قياس الكعبة، وحينئذ يرتفع الاشكال من هذه الجهة. ج _ لقد هدم الحجاج الكعبة المقدسة اثناء الحرب بينه وبين عبدالله بن الزبير. وكان الحجاج يمتلك جيشاً، وعبدالله بن الزبير يمتلك وحدة عسكرية قوية الشوكة، وما زالت الحرب بينهما حتي احرز الحجاج الانتصار عليه. فهل كان الحجاج بجيشه الذي انتصر علي تلك الوحدة العسكرية الشديدة عاجزاً عن قتل حية خرجت عليه، مع ان انساناً واحداً من قواته يكفي للقضاء عليها. وكيف ينهزم الناس _ بما فيهم جيش الحجاج _ من حية واحدة، ولم ينهزموا من مواجهة ابن الزبير ومن معه؟ علماً بان خروج حية او نحوها اثناء القيام بالحفريات وعمليات الترميم والبناء امر عادي، كثيراً ما تتكرر حالاته وامثلته. وقد يخامر التفكير سؤال مهم يفرض نفسه. هل كانت الحية قد خرجت عليهم بالشكل المذهل الذي لم يره الناس أو يعتادوا مثله، بحيث انهم ينهزمون منها؟ ام كانت من الحيات التي اعتادوا رؤية اشباهها ونظائرها؟ ظاهر الخبر انها من الحيّات، التي اعتاد الناس رؤية امثالها، ولو كانت مغايرة لهذه الصورة، لتضمن الخبر _ وصفاً اضافياً _ لها.

الخاتمة

اشاره

ان من الشرائط الاساسية للبحث العلمي بل مطلق البحوث ان يكون

بحثاً نزيهاً موضوعياً، بعيداً عن التعصب والميول الشخصية أو الطائفية او السياسية أو الطبقية. ولكن جملة من البحوث، والمقالات، وفنون من التقييم لاهل البيت (عليهم السلام) تحمل النزعة المتطرفة لاصحابها، فكم بين الكتاب والباحثين واصحاب الرأي او الهوي من شذّوا عن الحدود القويمة، وعفّروا وجه الحقيقة عن طريق الغلو بفضائلهم وامتيازاتهم. وكم بين الكتاب والباحثين واصحاب الرأي من يشوه الصورة المتألقة، ويكتم الحق الصراح، ويخبط خبط عشواء، يحمله علي ذلك العداء والجفاء. والامر لا يقتصر علي عصرنا او العصور القريبة منه. فلقد كان في عصر اهل البيت (عليهم السلام) من هؤلاء المتطرفين نحو اليمين او الشمال الجمّاء الغفير. سواء من اصحاب التأليف، او من شتي طبقات المجتمع او الرابضين في الاروقة السياسية. ولقد كان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) المثال الطيب، بل أقوي الامثلة للتعرّض الي هجمات المبغضين من جهة، وإلي آراء المغالين من جهة اخري. وكان بعض المبغضين يزعم ان علياً (عليه السلام) لا يصلي. وكان احد الاطراف قد بلغ به الغلو الي القول إن علياً اله من دون الله (كبرت كلمة تخرج من افواهم إن يقولون إلا كذباً) [341] . ولقد صدقت بعلي (عليه السلام) قولة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي هلك فيك اثنان محب غال، وعدو قال. ومثله قول علي (عليه السلام): يهلك في اثنان محب غال، ومبغض قال [342] . وعلي زين العابدين (عليه السلام) هو المثال الاخر من الامثلة الوفيرة في هذا الباب. لقد زعم بعض اعدائه انه ومن معه من اسراء كربلاء من الخوارج. وجاءه آخرون يبالغون في شخصه الكريم، فما كان منه الا ان قال: حسبنا ان نكون من صالحي قومنا. وقال

الامام زين العابدين: احبونا حبَّ الاسلام فما زال حبكم حتي صار علينا عابا. ان شدة التطرف في المدح او الذم لون من الوان المبالغة عند الكثير من مختلف المجتمعات البشرية لاسيما المتخلفة منها. كما انها حالة من الحالات النفسية عند كثير من الناس، فتراهم يبالغون اذا احبوا أو مدحوا أو اكبروا شخصاً او جماعة. وكذلك يبالغون اذا كرهوا او ذموا او احتقروا شخصاً او جماعة. إن المبالغة في شتي انماطها لتدل علي الخلل الكبير في الكيان الثقافي والتربوي لمختلف المجتمعات التي تستشري فيها هذه الحالة. وفي عقيدتي ان بالامكان ان نعزو المبالغة والتطرف الي نوعين من الاسباب:

الاسباب الداخلية

وهي التي تعود الي الثقافة المرتبكة للانسان والي التربية المنحرفة.

الاسباب الخارجية

وهي البواعث والاغراض السياسية او الطائفية او العنصرية أو المادية التي تقود الانسان الي المبالغة الهوجاء والتطرف الاسن. ان عدم التطرف ركيزة من الركائز الكبري للاسلام في الفكر والسياسة والاجتماع. قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): خير الامور اواسطها. وقال الامام علي (عليه السلام): نحن النمرقة الوسطي التي بها يلحق التالي، واليها يرجع الغالي [343] . تتسم الغالبية من المؤلفات حول اهل البيت (عليهم السلام) _ قديمها وحديثها _ لا سيما القديم منها بابراز الجانب الاخلاقي لهذا الامام او ذاك، او نقل صور عن فضائله ومناقبه وملكاته النفسية وحياته الروحية. ولا ريب في اهمية الجوانب التي يتطرق لها المؤلفون الكرام. ولكن جانبا مهما ايضاً بل في اهمية بالغة _ الا وهو _ الجانب السياسي قد بقي في الاعم الاغلب من المؤلفات بمنأيً عن المعالجة والتناول. واذا ما تناولته بعض المؤلفات فإنه لا يعبر _ عادةً _ الا عن صورة باهتة الالوان، و روح جامدة، ومادة مبتورة. ولعلَّ مردّ ذلك يعود الي عدم الصبر علي البحث الدؤوب، والتحقيق المجهد، وما يتمخض عنهما من نتائج ايجابية، واضحة المعالم، وفي سياق من التكامل، او ما هو شبيه بالتكامل. كما ان عدم التعمق في التاريخ السياسي، وقلة الارتواء من المناهل السياسية والاجتماعية، يشكِّل هو الاخر سبباً مهماً من اسباب عدم الفاعلية والحيوية في حركية البحث والتناول. كما انه من اسباب عدم الغزارة في المادة، او البعد عن استيفاء الموضوع. وبناءً علي هذه القاعدة كانت البحوث غالباً ما تتصف بتجلية السيرة الذاتية لاهل البيت (عليهم السلام)، وبلورة البعد الشخصي لكل واحد منهم. ونحن مع اعترافنا بالقيمة السنية

والكبيرة للسيرة الذاتية لاهل البيت (عليهم السلام) وانها سيرة الطهر والخلوص والنبل والكرامة.. الخ. الا ان المنحي الاخر من مناحي شخصياتهم (عليهم السلام) انما ينصب فيما يتعلق بما لهم من اهداف وما لهم من اعمال وانشطة في المضامير السياسية والاجتماعية، وما قدموه علي الصعيد التخطيطي والتوجيهي، وعلي صعيد الممارسات التطبيقية. صحيح ان السيرة الذاتية بنفسها تسلط الضوء علي المجالات السياسية والاجتماعية، وانها تعكس آثارها ومقوماتها، علي تلك المجالات، غير انها بحاجة الي من يوضحون ذلك الانبعاث الضوئي، ويبينون خط الانعكاس. ينبغي لفت النظر الي وجود العلاقة الصميمية والتلاحم العضوي بين الفكر وبين السياسة، وان الخط الفكري يشكل القاعدة العريضة للخط السياسي. ومن هذا المنطلق علينا ان لا نفرق بين امرين من هذه الامور، مثالين علي المقصود. اولاً: من الوجهة الفكرية: يري ائمة اهل البيت سلام الله عليهم: انهم اولي بمنصب قيادة المسلمين من غيرهم باعتبار ان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نص عليهم في ذلك، وانهم اصحاب قدرات خاصة تؤهلهم لهذا المنصب الالهي الخطير. وعلي هذا الاساس _ من الوجهة السياسية _ ليس من الصحيح ان ننسب لاحدهم الاذعان طوعاً، وعن ارادة محضة، لاي حاكم من حكام عصرهم باعتباره الاولي بالحكم والقيادة العامة منهم. ثانياً: من الوجهة الفكرية: يري ائمة اهل البيت سلام الله عليهم: جواز الخروج علي الحكومة الظالمة احياناً، ووجوب ذلك احياناً أخري، لانها تتربع علي عرش الحكم باسم الاسلام; فلا بد إذن ان تحكم بالاسلام روحاً ونصاً دون هواها، ونزواتها، ونزعاتها الشخصية، ومآربها الفئوية الضيقة. وعلي هذا الاساس _ من الوجهة السياسية _ من غير الصحيح ان ينسب لاحدهم (عليهم السلام) سياسة الاقرار بظلم الحكومة وسلوكها غير المشروع، او

الاعتراف باية حكومة لا تطبق الكتاب الحكيم والسنّة المطهرة. وانما سكت من سكت من الائمة عن الظالمين، و لم يناصبوهم الحرب لا اقراراً بظلمهم او اعترافاً بحكومتهم او عدم جواز محاربتهم، بل لاسباب موضوعية، كقلة الاعوان، او عدم الوثوق بوفاء القاعدة، او عدم توفر التربة الخصبة للثورة. علماً ان سكوتهم لم يكن سكوتاً مطلقاً، فالامام زين العابدين (عليه السلام) كان يحرض المختار الثقفي. والامام الصادق (عليه السلام) لم يحارب المنصور الدوانيقي، ولكن ولديه عبدالله وموسي بن جعفر (عليهم السلام) قد حاربا مع محمد ذي النفس الزكية في ثورة المدينة ضد المنصور. فهل كان حربهما مع ذي النفس الزكية بدون تحريض ابيهما (عليه السلام)، او بدون اذنه علي الحد الاقل؟ والامام موسي بن جعفر (عليه السلام) لم يثر علي الحكم القائم، ولكنه دفع عجلة المعارضة نحو الامام، قائلاً لقائد المعارضة (شهيد فخ): حدَّ الضراب. يري ائمة اهل البيت (عليهم السلام) انهم اولي بالخلافة من غيرهم استناداً الي النص عليهم من قبل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم). واتفقت كلمة الامامية علي النص علي الامام علي (عليه السلام) ووافقهم علي ذلك جماعة قليلة من علماء السنة واقطابهم [344] . هذا اضافة الي قدراتهم الخاصة، ومؤهلاتهم الكثيرة كما تقدم. واما القربي من الرسول محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) فهي فضيلة تضاف الي فضائلهم (عليهم السلام) وليست السبب المؤهل للخلافة; لان النص وحده، يكفي للتأهيل للخلافة، كما ان الكفاءة تجعلهم الاحق من غيرهم بالخلافة، من منظار العقل والمنطق السياسي. واما النسب فنحسب انهم انما تعرضوا له لا لانه السبب الشرعي للخلافة _ حسب الواقع _ وانما في سبيل ارضاء الطرف المقابل، كما انه اقناع جدلي في ساحة الصراع

السياسي. ان اول من قدم النسب والقربي للغرض المذكور هو الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وذلك الزاماً لقريش، اذ احتجت علي الانصار بالاولوية الخلافة; بأن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) منها، اي انهم الشجرة النسبية للرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)، والانصار ليسوا كذلك. فقال علي (عليه السلام): احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة. ومن هذا المنطلق، لا عبرة بما يثار في بعض كتب الفقه السياسي والتاريخ السياسي، بضعف مستند اهل البيت سلام الله عليهم، اذ انهم طلبوا الخلافة بسبب قرباهم من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، إذ قد يكون ذو النسب المختص غير كفوء للرئاسة، فإن للرئاسة العامة، بل كل رئاسة، مؤهلات وشرائط موضوعية، قد يتوفر عليها المختص بالنسب وقد لا يتوفر عليها، وإن كان من اقرب الناس الي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). والجواب واضح كما تقدمت الاشارة اليه، ولو كان النسب هو المستند الشرعي، والركن الاساس في الاحقية بالرئاسة; لكان العباس بن عبدالمطلب رضوان الله عليه نظير الامام علي (عليه السلام) في الاولوية بالرئاسة، بل اولي منه بها، لانه عم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم). بينما نراه يتقدم بين يدي الامام علي بن ابي طالب قائلاً: امدد يدك ابايعك. ومما هو جدير بالذكر ان الامام علياً كتب الي معاوية بن ابي سفيان: قد بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر. ان هذا ايضاً من باب الزام الطرف المقابل بما الزم به نفسه، وان علياً (عليه السلام) يري نفسه الاحق بالخلافة; لما تقدم من النص والاهلية الخاصة، لا للسبب المذكور. وللشوري نظام خاص في الاسلام، فمن امتلك رأي الشوري، فقد امتلك الشرعية في الخلافة. قال

تعالي: (وشاورهم في الامر) [345] . وقال تعالي: (وأمرهم شوري بينهم) [346] . بيد ان اهل البيت (عليهم السلام) يعتبرون أنفسهم الاولي بالرئاسة العامة للمسلمين، لا لاَجل الشوري، وانما لاجل النص، والكفاءة. واما الشوري فهي وان كانت نظاماً اسلامياً، الا ان موقعها من حيث الترتيب الشرعي بعد النص. قال تعالي: (وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله). وهذا يعني ان عزمه ونصه (صلي الله عليه وآله وسلم) هو الراجح والمتقدم في مقام التعارض، ما بين الشوري وبين النص. وهل الشوري الا محاولة لموافقة امر الله ورسوله؟ فإذا تعيّن النص، انهارت الشوري. واذا اردت ان تضع اصابعك، وانت مطمئن، الي ان النسب والشوري. لدي اهل البيت (عليهم السلام)، ليستا الركيزتين الحقيقيتين والمعتمدتين في الخلافة، وانما هما الزام للجهة المقابلة، فاقرأ البيتين التاليين للامام علي (عليه السلام): فإن كنت بالشوري ملكت امورهم فكيف بهذا والمشيرون غيَّبُ وان كتب بالقربي حججت خصيمهم فغيرك اولي بالنبيِّ وأقرب [347] . ومما يجري ضمن السياقات الاقناعية المتقدمة قول الامام علي (عليه السلام): واعجبا اتكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة [348] . فان صحبة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) شرف وكرامة وفضيلة للصاحب، ولكنها ليست الاساس الشرعي للرئاسة العامة. ويتلخص مما تقدم أنه ليست القربي ولا الشوري ولا الصحبة البني الشرعية لخلافة ائمة أهل البيت من منطلق نظريتهم السياسية في الحكم والرئاسة العامة،وانما هو النص وكفي. ولما كانت النصوص التي تروي عن خلافتهم، والاخري التي يروونها هم (عليهم السلام) كثيرة جداً لذا نكتفي بالاشارة الخاطفة لشيء يسير منها. لقد ناشد الامام علي (عليه السلام) الناس في الرحبة: من سمع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير

خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقام اليه جماعة من الصحابة الكرام فشهدوا بذلك. منهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وابو ايوب الانصاري وسهل بن حنيف وحبشي بن جنادة السلولي وعبيد بن عازب الانصاري وثابت بن وديعة الانصاري وابو فضالة الانصاري، والنعمان بن عجلان الانصاري، وعدي بن حاتم الطائي. وكان الذين شهدوا سبعة عشر رجلاً، وقيل: كانوا ثلاثين رجلاً. منهم اثنا عشر بدرياً [349] . قال الامام زين العابدين (عليه السلام): الائمة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر عدد الاسباط، ثلاثة من الماضين وانا الرابع وثمان من ولدي، ائمة ابرار [350] . وعن زيد الشهيد (عليه السلام): بينا ابي (عليه السلام) مع بعض اصحابه اذ قام اليه رجل فقال: يابن رسول الله هل عهد اليكم نبيكم كم يكون بعده ائمة؟ قال: نعم، اثنا عشر عدد نقباء بني اسرائيل [351] . الوحدة في القرآن الكريم امر الزامي صريح، لا تردد فيه، ولا خيار معه. وان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) اولي الناس بتطبيق كتاب الله العزيز، والتمسك به، والدعوة إليه وتوجيه الاخرين نحوه. ومن هنا يفرض هذا السؤال نفسه. إذا كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من دعاة الوحدة، فكيف يجتمع هذا مع كونهم يؤمنون بأولويتهم بالقيادة الاسلامية العامة من غيرهم؟ والجواب ليس بتلك الصورة من التعقيد أو الغموض، وذلك اننا نعرف ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة ابداً ان الاطراف الذين ينضوون تحت لوائها لا يختلفون في وجهات النظر والتفكير ابدا; لانه لا يوجد طرف إلاّ وله خلافات كثرت ام قلت مع الاطراف الاخري. ومن البعيد ان يوجد تحت زرقة السماء شخصان يتفقان في كل شيء مطلقاً. وإذا كانت الوحدة تعني

عدم الاختلاف مطلقاً فليس الي تحقيق ذلك من سبيل. بيد ان الفرق واضح بين انسان يختلف مع الاخرين في وجهات النظر وكثير من الاراء، ويدعوه ذلك إلي اعلان الحرب عليهم، وان اضرَّ ذلك بالمصلحة العامة، وبين انسان يختلف مع الاخرين ومع هذا فهو يتألفهم، ويتعاون معهم، ويرشدهم، أو علي الحدّ الاقل لا يحاربهم، مادامت حربهم تضر بالمصلحة العامة. وعلي هذا الضوء يمكن تقسيم القيادة العامة التي عاصرت أهل البيت (عليهم السلام) الي ميدانين. الميدان الاول: كالخلفاء الثلاثة علي سبيل المثال، ممن يطبق الاسلام مع وجودهم، وتقام حدود الله تعالي وان كانت لاهل البيت (عليهم السلام) آراء تخالف قسماً من مفردات الحكم والسياسة لديهم. وقد تعامل أهل البيت مع هؤلاء بروح تآلفية، واسدوا لهم التوجيهات القيمة، علي الرغم من رؤيتهم الثابتة لاحقيتهم (عليهم السلام) بالحكم منهم، ولكن مصلحة الاسلام واهداف الوحدة تقتضي التعاون والتنسيق، وترتيب البيت الاسلامي، والابتعاد عن ايجاد ثغرة، أو فتح هوة بين الطرفين، ما امكن ذلك. لقد ضرب اهل البيت (عليهم السلام) في التعاون والتفاهم ومحاولة توفير حالة الانسجام مع هؤلاء اروع الامثلة، وسطروا اجمل صور نكران الذات، إذ لا ريب ان تعاون الانسان وتنسيقه مع الاخرين علي الرغم من اعتقاده الكامل بالاحقية منهم بالقيادة والحكم امر صعب مستصعب، لاتطبقه من البشرية إلا ثلة قليلة. وفي مثل هذه الملابسات والمداخلات السياسية يقول الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من جملة كلام له: «لاسلمنَّ ما سلمت امور المسلمين» [352] . ان الذي يؤرق اهل البيت ويشجيهم من الدولة الحاكمة _ بصورة عامة _ ان تنحرف عن المسار الصحيح، والمقاصد الاسلامية الرفيعة. وهل ثم اوضح من هذا البيان التاريخي الحافل بالاهتمام الكامل برعاية حقوق

الاسلام والمسلمين: «ولكني آسف ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها، وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا...» [353] . الميدان الثاني: وامثلته كثيرة من قبيل يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، والهادي، والمتوكل، وغيرهم. فإن التعاون معهم، والابتعاد عن منازعتهم لا يجدي; لانهم بانفسهم لا يحفظون جوهر الاسلام بشكل عام. كما ان عدم منازعتهم يضر بجوهر الاسلام أُطُراً ومضامين، لذلك كانت لائمة أهل البيت (عليهم السلام) نزاعات شديدة معهم، ضمن اساليب وطرائق شتي، ربما تصل احيانا الي الحرب المسلحة ضدهم، كما في ثورة الامام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) علي يزيد بن معاوية. ان الوحدة مع يزيد، وامثال يزيد تعني الاختلاف مع القرآن، ومنازعة الاسلام، والانفصال عن تحقيق صلاح المسلمين، والقيام بأمور المستضعفين. ومن هنا ينبغي ان يعلم ان الوحدة لدي أئمة اهل البيت (عليهم السلام) لا تعني وحدة المنافع الشخصية، والمصالح الذاتية المشتركة بينهم وبين القادة السياسيين المعاصرين لهم. وانما تعني الوحدة المنبثقة من الرؤية القرآنية، والمنهج النبوي، تلبية لمتطلبات الوجود الاسلامي العام، والحاجة الواقعية للمسلمين. (وأطيعوا اللهَ ورسولهُ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكمْ واصبروا إنَّ اللهَ مع الصابرين) [354] .

پاورقي

[1] المؤرخ الكبير المسعودي _ علي بن الحسين (ت 346 ه_) مروج الذهب 3 / 67 _ 68.

[2] الفقيه والمفسر والاديب بهاء الدين محمد العاملي (ت 1030 ه_) الكشكول 3 / 150.

[3] الصحيفة السجادية الكاملة / مناجاة الذاكرين.

[4] الكاتب الموسوعي، العاملي السيد محسن الامين / الصحيفة الخامسة السجادية، من دعائه يوم عرفة.

[5] الصحيفة السجادية الكاملة، دعاؤه يوم الاضحي و يوم الجمعة.

[6] الصحيفة السجادية الكاملة، دعاؤه يوم الاضحي ويوم الجمعة.

[7] العلامة المجلسي / الشيخ محمد باقر (ت

1111 ه_) / بحار الانوار ج 94 / ص 51.

[8] بحار الانوار 94 / 143.

[9] الصحيفة السجادية الكاملة / دعاؤه لاهل الثغور. [

[10] نوح / 26 _ 27.

[11] آل عمران / 147.

[12] آل عمران / 53.

[13] العالم العارف السيد ابن طاووس _ علي بن طاووس (ت 664 ه_)، الاقبال / 145، والصحيفة الخامسة السجادية / 405.

[14] المائدة / آية 44.

[15] العنكبوت / آية 45.

[16] الانعام / آية 33.

[17] المائدة / آية 44.

[18] البقرة / آية 229.

[19] الانعام / آية 45.

[20] التوبة / آية 14.

[21] الطلاق / آية 8 _ 9.

[22] وذهب آخرون الي التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم واتهموا مأثور الخبر بما =استحسنوا. يقتحمون أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قبس نور من الكتاب ولا أثرة علم من مظانّ العلم. زاعمين أنهم علي الرشد من امرهم فإلي من يفزع خلَف هذه الامة وقد درست اَعلام الملة ودانت الامة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضها بعضاً والله تعالي يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات). فمَن الموثوق به في اِبلاغ الحجة وتأويل الحكمة، الاّ قرناء الكتاب وائمة الهدي، ومصابيح الدجي الذين احتج الله بهم علي عباده، ولم يدع الخلق سديً من غير حجة.

[23] من كبار قادة المعارضة وقد اثبت جدارة في الحروب ما بعدها جدارة.

[24] الصحيفة السجادية الكاملة _ من دعائه يوم عرفة.

[25] العالم الثقة العارف ابراهيم بن علي الكفعمي، المصباح، فصل فيما يعمل في ذي الحجة.

[26] الصحيفة السجادية الكاملة، دعاؤه في مكارم الاخلاق ومرضي الفعال.

[27] الصحيفة الخامسة السجادية / من دعائه (عليه السلام) لجيرانه.

[28] سورة السجدة / الاية 24.

[29] المؤرخ الكبير يعقوب بن سفيان (ت 277 ه_) _ التاريخ والمعرفة 1

/ 545 تحقيق د. ضياء الدين العمري.

[30] محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ه_) وسائل الشيعة 16 / 3 دار احياء التراث العربي.

[31] انظر وسائل الشيعة 16 / 2 _ 6.

[32] انظر الوسائل 16 / 3.

[33] علي بن طاووس (ت 664)، الاقبال / 477.

[34] المؤرخ والاديب والمتكلم ابن ابي الحديد (ت 656)، شرح نهج البلاغة 15 / 242 _ ط. دار إحياء الكتب العربية.

[35] سورة الانبياء / الاية / 106.

[36] الانعام الاية / 90.

[37] الاحزاب الاية / 21.

[38] برتراند راسل / التربية والنظام الاجتماعي ص29.

[39] ابن شعبه الحراني / تحف العقول، ص204.

[40] ابن عساكر / تاريخ دمشق في ترجمته (عليه السلام). نسخه مصورة علي النسخة المخطوطة بدمشق.

[41] تحف العقول، ص 188.

[42] المماحكة: المنازعة واللجاج. قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين رضوان الله عليه:اي القريش أصلحوا ذات بيننا و بينكم قد طال حبل التماحكِ.

[43] تحف العقول ص194.

[44] تحف العقول، ص200.

[45] المصدر السابق، ص185.

[46] كشف الغمة، ج2 ص103، وحلية الاولياء، ج3 ص140 ط. مصر. الصفد: العطاء.

[47] في نسخة: وانزلتهم.

[48] من الرسالة المعروفة برسالة الحقوق.

[49] راجع بحث سياسة التعامل الاجتماعي (2) من هذا الكتاب.

[50] تاريخ اليعقوبي، ج3 ص37.

[51] سورة الصف / الاية / 2 _ 3.

[52] من ندبة طويلة. انظر الصحيفة الخامسة السجادية للسيد محسن الامين، دعاء 109، والبحار للمجلسي، 78 / 154، وينابيع المودة للحافظ القندوزي الحنفي، ص273، وكشف الغمة للاربلي، 2 / 309.

[53] البلد الامين للكفعمي ص320، والصحيفة 4 / 29.

[54] الديلمي، اعلام الدين، فصل من كلام علي بن الحسين.

[55] هذا من مشهور كلامه (عليه السلام) ومصادره كثيرة منها: امالي الشيخ المفيد ص207، وارشاد القلوب للديلمي ص25، ومشكاة الانوار لابي الفضل الطبرسي، ص222 ط. النجف.

[56]

الشبراوي، الاتحاف بحب الاشراف، ص50، وابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص77، وابو نعيم، حلية الاولياء 3 / 184.

[57] السيد هاشم البحراني / البرهان في تفسير القرآن ج3 ص956.

[58] الحشر / الاية 7.

[59] سورة الكهف / الاية 103 _ 104.

[60] انظر تفصيل كلام الامام (عليه السلام) في بحث الاغراض الادبية _ الخطب.

[61] الصدوق، الخصال ص24.

[62] رجال الكشي ص111 ط. النجف.

[63] المجلسي، بحار الانوار 1: 89 ط. ايران.

[64] انظر التفصيلات في بحث «حركة الرسائل السياسية».

[65] الانشقاق / الاية: 6.

[66] الديلمي، ارشاد القلوب ج1 ص71.

[67] سورة الانعام / الاية 68.

[68] سورة الاسراء / الاية 36.

[69] سورة الاسراء / الاية 36.

[70] ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق: 17 / 249.

[71] حثيثاً: سريعاً.

[72] البيت للكميت بن زيد الاسدي.

[73] تِربُك: من وُلد معك.

[74] الشيخ الصدوق، الامالي / ص277.

[75] الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات ص107 المطبعة المرتضوية / النجف.

[76] يُذكر انه زائدة بن قدامة الثقفي من اصحاب الامامين زين العابدين والباقر (عليهما السلام).

[77] كامل الزيارات _ الملحق _ الحقه بعض تلاميذ المؤلف رحمه الله تعالي ص260.

[78] احمد بن ابي يعقوب، تاريخ اليعقوبي 2 / 303 _ 304 والاربلي، كشف الغمة 2 / 103.

[79] آل عمران / آية 124.

[80] فُصلت / آية 34.

[81] الخصال للشيخ محمد بن علي الصدوق / ابواب الستة، الحديث الاخير منها.

[82] من رسالة الحقوق.

[83] محمد بن سعد _ الطبقات الكبري ج 5 / ص 213 _ 214.

[84] الحق 42 من رسالة الحقوق.

[85] رسالة الحقوق.

[86] ابن شعبة الحراني، القرن الرابع الهجري، تحف العقول. و ذكر رسالة الحقوق مع شيء من الاختصار الشيخ الصدوق (ت 381) الخصال ابواب الخمسين، الحديث 1.

[87] الشيخ الصدوق. ثواب الاعمال / ص80 طبعة حجرية.

[88]

النور / آية 39.

[89] الزخرف / آية 65.

[90] الفتح / آية 28.

[91] جمعتها من روايات مختلفة وقد وردت كاملة في البحار 45 / 114 مؤسسة الوفاء بيروت.

[92] البحار ج 45 / ص 127.

[93] لوط بن يحيي «ابو مخنف»، مقتل الحسين / 197.

[94] ممن نسبها لزين العابدين العلامة احمد بن اعثم الكوفي ت نحو (314 ه_) ج الفتوح 5 / 245. وذكر الخوارزمي في مقتل الحسين 2 / 63 البيتين الاول والثاني ونسبهما لزين العابدين.

[95] وتضيف بعض المصادر القديمة الي هذه الابيات: ضيعتمُ حقنا والله اوجبه وقد رعي الفيل حق البيت والحرمِ اني لا خشي عليكم ان يحل بكم مثل العذاب الذي اودي علي اِرَمِ فيه اشارة الي قوله تعالي (الم تر كيف فعل ربك بعاد - اِرَمَ ذات العماد).

[96] من تعابير الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام).

[97] لوط بن يحيي «ابو مخنف»، مقتل الحسين وهو افضل كتب المقاتل الاّ انه قد غير وحرف منذ قرون وقد ذكر نصوصه الاولي كبار المؤرخين امثال البلاذري والطبري وغيرهما.

[98] مناقب آل ابي طالب 4 / 174.

[99] جمعتها من روايات مختلفة وقد ذكرها ابن شهرآشوب في مناقب آل ابي طالب 4 / 156. [

[100] مناقب ال ابي طالب 4 / 156، المجالس السنية 5 / 430.

[101] علي بن عيسي الاربلي، كشف الغمة 2 / 98 _ 99. الصحيفة الخامسة السجادية دعاء 109.

[102] بهاء الدين العاملي (ت 1031) الكشكول 3 / 150 _ 151.

[103] بهاء الدين العاملي، الكشكول 3 / 13.

[104] ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق 17 / 250، دار الفكر. وابن كثير، البداية والنهاية 9 / 129، دار إحياء التراث العربي.

[105] الامام الموفق بن احمد المكي أخطب خوارزم (ت

568) مقتل الحسين 2 / 40، ط. الزهراء النجف 1367ه_ 1948م وانساب الاشراف لاحمد البلاذري من اعلام القرن الثالث الهجري ج 3 / ص 205، ط. بيروت دار التعارف 1977م 1397ه_.

[106] يذكر بعض المؤرخين ومنهم الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي في مقتل الحسين ج2 ص61 ان الذي امر بقتله انما هو يزيد بن معاوية. وذكر بعضهم ومنهم ابن شهرآشوب في كتابه المناقب ج4 ص113 ان الذي أمر بقتله، انما هو عبيد الله بن زياد. ومما يرجح تولي يزيد لقتله ما ذكره المؤرخ الاكبر علي بن الحسين المسعودي في مروج الذهب ج3 ص61 طبعة دار الاندلس _ بيروت، بعد ان ذكر الرجز المشار إليه في المتن قال: فبعث به ابن زياد إلي يزيد بن معاوية ومعه الرأس. وهذا يدل بالضرورة علي ان ابن زياد لم يقتله. والذي نعتقده ان علة قتل يزيد اياه «أو ابن زياد» انه اراد _ عن خبث ومكر _ ان يوجه الوسائل الاعلامية، الي شرعية قتل الامام الحسين (عليه السلام)، واستحقاقه للقتل، وان ينتقص من قدر الحسين ومكانته العظمي في الامة الاسلامية، لا ان يمدح وابواه معا سلام الله عليهما، وان كان الراجز لم يتعمد المدح، ولم يقصد إليه، وانما حملته علي ذلك حماقته وسوء طالعه. حقاً، ان اكثر الناس عذاباً من اقيم بين المطامع، وبين سوء الطالع. وإذا كان الذي يتولي قتل الامام الحسين هو الذي يمدح الامام الحسين فان كثيراً من الاهداف السياسية سوف تذهب هباءً منثورا.

[107] بهاء الدين العاملي، الكشكول 3 / 12.

[108] المصدر السابق.

[109] ابو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 5 / 113 وتاريخ دمشق _ مصورة.

[110] بهاء الدين العاملي، الكشكول 3 / 11.

[111] المصدر السابق.

[112]

البيت لعبد المحسن الصوري.

[113] البيت لقيس الرقيّات.

[114] مناقب ال ابي طالب 4 / 166.

[115] الكشكول 3 / 13.

[116] الكشكول 3 / 152.

[117] ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 1 / 24 ط دار احياء التراث العربي (1378 ه_ / 1959م).

[118] القلقشندي، احمد بن علي. صبح الاعشي 6 / 391. دار الكتب المصرية (1914 _ 1919م).

[119] محمد بن جرير الطبري. تاريخ الطبري 2 / 652 الناشر دار المعارف بمصر سنة (1918م).

[120] المصدر السابق 2 / 654.

[121] الاصفهاني، ابو الفرج علي بن الحسين، الاغاني 17 / 148 دار الكاتب العربي (1389ه_ / 1970م).

[122] المصدر السابق 17 / 149.

[123] من رسالته الي اصحابه كما سيأتي.

[124] من رسالته الي اصحابه كما سيأتي ايضاً.

[125] ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 9 / 340.

[126] سورة ابراهيم / آية 7.

[127] سورة آل عمران / آية 187.

[128] الاعراف / الاية 168.

[129] عزب: بعد.

[130] الذاريات / آية 55.

[131] مريم / آية 59.

[132] ابن شعبة الحراني _ تحف العقول / ص 198 _ 200، والشيخ المجلسي _ بحار الانوار 17 / 213.

[133] مثلاتها: عقوباتها.

[134] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، روضة الكافي 8 / 14 _ 17، وتحف العقول / 182 _ 184، والشيخ المفيد، الامالي / ص 125 _ 127 المطبعة الحيدرية النجف، وورّام الاشتري _ مجموعة ورّام 2 / 37 _ 39.

[135] آل عمران / آية 187.

[136] مقتل الحسين للخوارزمي / الموفق بن احمد المكي ج2 ص69 من خطابه (عليه السلام) في دمشق.

[137] الالوسي _ الشيخ العلامة محمود الالوسي البغدادي، روح المعاني 6 / 190، والشبراوي، الاتحاف بحب الاشراف 50.

[138] الموفق المكي الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 69.

[139] المفيد، محمد بن محمد النعمان، الارشاد 260

_ 261. بيروت، مؤسسة الاعلمي، 1399ه_ _ 1979م.

[140] الاعراف / 199.

[141] الحديد / الاية 11.

[142] البقرة / الاية 261.

[143] البقرة / الاية 264.

[144] التذمم: اجتناب الذم.

[145] المائدة / الاية 55.

[146] أي علي حب الطعام، بمعني انهم علي الرغم من حبهم للطعام بسبب الجوع ولكنهم يؤثرون المسكين واليتيم والاسير طلباً لوجه الله تبارك وتعالي.

[147] الانسان / الاية 8 _ 9.

[148] اصحاب العاهات.

[149] المجالس السنية، ج5 ص422 _ 423.

[150] البقرة / الاية 274.

[151] محمد / الاية 38.

[152] آل عمران / الاية 180.

[153] الحشر / الاية 9.

[154] القصص / الاية 34.

[155] ابن ابي الحديد / شرح نهج البلاغة ج6 ص398. ط. دار احياء الكتب العربية ط.2.

[156] هجر: مدينة كثيرة النخيل وبكثرة نخيلها يضرب المثل فيقال: كناقل التمر الي هجر.

[157] وردت هذه الخطبة في صور مختلفة ولكنها متقاربة. انظر شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج10 ص3، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة للشيخ محمد باقر المحمودي ج1 ص300 ط. مؤسسة الاعلمي للمطبوعات. وغيرهما.

[158] محمد علي بن شهرآشوب المازندراني / مناقب ال ابي طالب: ج4 ص142 _ 143.

[159] يحتاج الكلام المنسوب الي الامام علي (عليه السلام) الي توضيح وتفصيل ليس هنا موضع ذكره.

[160] ويروي ان القصة وقعت مع عمرو بن الحسن السبط، وممن ينسب وقوعها مع الامام زين العابدين (عليه السلام) ابن شهرآشوب محمد بن علي (ت 588)، مناقب آل ابي طالب: 4 / 173.

[161] من قوله تعالي (أَرْجِهْ واخاهُ وارسل في المدائن حاشرين) سورة الاعراف / الاية: 111.

[162] الشوري / الاية 23.

[163] الهيثمي: احمد بن حجر المكي (ت 974 ه_). الصواعق المحرقة / ص172، الناشر مكتبة القاهرة.

[164] من ملحمة اولها: كذا العاشقُ الولهانُ يُسبي ويُقتل فلا شيءَ إلاّ

انت اسمي واجملُ.

[165] الكَشّي / محمد بن عبد العزيز / رجال الكشي ص76.

[166] من الاية 63 من سورة الشعراء.

[167] من الاية 27 من سورة الحج.

[168] تمييزاً لها عن الامامة الصغري وهي امامة الصلاة.

[169] العلامة ابن منظور / لسان العرب ج12 ص24 _ 26 مادة (امم) وقد نقلنا عنه باختصار.

[170] سورة هود من الاية / 17 وسورة الاحقاف من الاية / 12.

[171] الحجر / الاية 78 _ 79.

[172] يس / الاية 12.

[173] القصص / الاية 5 _ 6.

[174] التوبة / الاية 12.

[175] السجدة / الاية 24.

[176] فتح الباري بشرح صحيح البخاري / للامام الحافظ احمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 _ 852 هجرية) ج13 ص189.

[177] المصدر السابق ج13 ص192.

[178] مستدرك الحاكم ج4 ص76.

[179] ابن الاثير / الكامل في التاريخ. طبعة دار صادر بيروت ج3 ص190. وكذا تاريخ الطبري ج3 ص450.

[180] المؤرخ القديم ابن اعثم / الفتوح، ج2 ص442.

[181] الدكتور احمد محمود صبحي / الامامة لدي الشيعة الاثني عشرية ص20.

[182] نظرية الامامة لدي الشيعة الاثني عشرية ص22 _ 23.

[183] الموفق المكي الخوارزمي / المناقب، الفصل التاسع عشر.

[184] ولم يبق من فرق الشيعة التي يذكرها المؤرخون واصحاب الملل والنحل سواء منها الموهومة أو الحقيقية إلاّ فرقة الامامية الاثني عشرية وفرقة الزيدية وفرقة الاسماعيلية.

[185] مناقب علي بن ابي طالب لعلي بن محمد الشافعي المعروف بابن المغازلي، ص281، والمناقب للخوارزمي، ص228.

[186] كمال الدين للشيخ الصدوق، الباب 24، وعيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق أيضاً، ص38، وبحار الانوار للعلامة المجلسي، ج36 ص226.

[187] الصراط المستقيم لزين الدين علي بن يونس العاملي البياضي (ت877) ج2 ص126، وكمال الدين، ص157، وبحار الانوار، ج36 ص255.

[188] غاية المرام، ص125، وبحار الانوار، ج36 ص340.

[189] غاية المرام للسيد

هاشم البحراني، ص300.

[190] امالي الصدوق، ص31 _ 32، وغاية المرام، ص293 _ 294.

[191] بحار الانوار، ج36 ص344.

[192] بحار الانوار، ج36 ص345 _ 346.

[193] هي تلك المرأة العظيمة التي فاقت الرجال العظام. امتازت بالحكمة والمعرفة وقوة الفصاحة والخطابة والشجاعة الفائقة، وكان لها الصبر العجيب الذي يستخف بالرواسي الشداد، ولها مواقف جليلة في ثورة كربلاء، كما كانت لها دروس في تفسير القرآن الكريم.

[194] بحار الانوار، ج36 ص350 _ 351.

[195] المصدر السابق، ج 36 ص383.

[196] مقتل الحسين / للموفق الخوارزمي المكي، ج1 ص59. مطبعة الزهراء / النجف.

[197] رواه ابن المغازلي عن احمد بن حنبل في المناقب، ص21 ت 22، وغاية المرام، ص342.

[198] غاية المرام، ص392، وامالي الطوسي، ج1 ص352 _ 353.

[199] مناقب علي بن ابي طالب لابن المغازلي، ص26. وقبل نقل ابن المغازلي (رض) لتعليق ابي القاسم الفضل بن محمد نقل طرقاً كثيرة لحديث من كنت مولاه.

[200] الشيخ الصدوق / الامالي، ص109، وغاية المرام، ص377 _ 387.

[201] غاية المرام / ص399.

[202] امالي الصدوق، ص31 _ 32 ط. النجف، وغاية المرام، ص293 _ 294.

[203] الشيخ المفيد / الارشاد، ص20 وابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب، ج3 ص54.

[204] الموفق المكي الخوارزمي / المناقب / الفصل السادس، ومستدرك الحاكم، ج3 ص128.

[205] الشيخ الصدوق / كمال الدين، باب اتصال الوصية، الحديث 56.

[206] الشيخ الصدوق، كمال الدين، باب اتصال الوصية، الحديث 62.

[207] تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام، ص127. طبعه دار النهضة العربية، بيروت.

[208] رجال الكشي / الخبر 997.

[209] رجال الكشي / الخبر 999.

[210] الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا، الباب 46، ما جاء عن الرضا في وجه دلائل الائمة والرد علي الغلاة والمفوضة. وذكر في الباب اكثر من حديث حول ذلك.

[211] الامام الجويني

/ ابراهيم بن محمد بن المؤيد (ت730 هجرية)، فرائد السمطين ج1 ص45 _ 46.

[212] كفاية الاثر / للخزار _ مخطوط، والبحار للمجلسي، ج36 ص388، والصراط المستقيم للبياضي العاملي، ج2 ص131.

[213] بحار الانوار، ج36 ص389. مؤسسة الوفاء.

[214] كفاية الاثر _ النسخة الخطية، وبحار الانوار، ج36 ص389.

[215] البقرة / الاية 159.

[216] التفسير المنسوب للامام الحسن العسكري _ نسخة خطية _ عند تفسير قوله تعالي: (ان الذين يكتمون ما انزلنا...).

[217] الصدوق، معاني الاخبار.

[218] قال الدكتور علي سامي النشار وهو من اعلام رجال مصر المعاصرين: كانت فاطمة تؤمن بلا شك بالحق الالهي لعليّ في الخلافة. نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ج2 ص6.

[219] الشيخ عبد الحسين الاميني / الغدير، ج1 ص197.

[220] العلامة المجلسي، بحار الانوار، ج46 ص232 _ 233، والبياضي العاملي / الصراط المستقيم، ج2 ص131.

[221] كفاية الاثر / مخطوط، وبحار الانوار، ج46 ص230 _ 231.

[222] البحار، ج46 ص231 _ 232.

[223] البحار، ج46 ص229.

[224] بصائر الدرجات، باب 4، ص48.

[225] البحار، ج46 ص230.

[226] ابن شعبة الحراني / تحف العقول / رسالة الحقوق.

[227] المصدر السابق.

[228] المؤرخ الكبير ابن الاثير علي بن ابي الكرم الشيباني (ت 630ه_)، الكامل في التاريخ: 4 / 21.

[229] النصب: نوع من الغناء.

[230] العلامة ادريس عماد الدين القرشي (ت 872 ه_). عيون الاخبار، السبع الرابع / ص83 _ 84 تقديم وتحقيق الدكتور مصطفي غالب دار التراث الفاطمي بيروت 1973م.

[231] النساء / الاية 75.

[232] من حكم الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

[233] المصدر السابق.

[234] الطبري، محمد بن جرير، دلائل الامامة / ص84.

[235] ابن الاثير، عز الدين الشيباني، الكامل في التاريخ 4 / 79.

[236] ابن اعثم، ابو محمد احمد بن اعثم الكوفي ت نحو (314 ه_)، كتاب الفتوح 5 /

221 _ 222.

[237] ابن قولويه، الفقيه جعفر بن محمد (ت 367 ه_)، كامل الزيارات، الباب 32، الحديث 1.

[238] الراقصات: الابل لانها في مشيها كأنها ترقص، وهذا القسم موجود في الجاهليه وصدر الاسلام والعصر الاموي والعباسي كذلك. قال قيس بن سعد بن عبادة: والراقصات بكل اشعث اغبر خوص العيون تحثها الركبانُ ما ابن المخلَّدِ ناسياً اسيافنا فيمن نحاربه ولا النعمانُ.

[239] ابن نما: جعفر بن محمد الحلي _ مثير الاحزان / ص 41، والمجلسي: بحار الانوار 45 / ص 113.

[240] الزمر / الاية 42.

[241] ابن اعثم: الفتوح 5 / 228 _ 229.

[242] احمد بن اعثم، كتاب الفتوح / ص 235 _ 236، والخوارزمي، مقتل الحسين ج 2 / ص55 _ 56. وذكر ابن الاثير في تاريخه 4 / 83 ان ابن زياد قد جعل الغل في يدي علي بن الحسين ورقبته وذلك لما ارسل بهم الي يزيد في دمشق.

[243] الفقيه الكبير الشيخ المفيد، الارشاد / ص 245 _ 246، منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات _ الطبعة الثالثة (1399 ه_ _ 1979م).

[244] ابن اعثم، الفتوح 5 / 242 _ 243، والخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 61 _ 62.

[245] الخوارزمي: مقتل الحسين 2 / 69 _ 71، وانظر الفتوح 5 / 247 _ 249.

[246] الفتوح 5 / 249.

[247] الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 74.

[248] الرحمن / الاية 41.

[249] الخوارزمي: مقتل الحسين 2 / 74.

[250] ابن الاثير (ت 630هجرية)، الكامل في التأريخ 4 / 87.

[251] ذكر الطبري في تاريخه 7 / 314 عن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه من المدينة الي مكة، ومن مكة الي العراق، ولم أفارقه حتي قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة

ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في عسكر، الي يوم مقتله، إلا وقد سمعتها. لا والله ما اَعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يُسيّروه الي ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال: دعوني فلاذهب في هذه الارض العريضة حتي ننظر ما يصير أمر الناس. وهذا النص القاطع عن ابن سمعان ينفي ادعاء يزيد من طلب الحسين أن يسير الي ثغر من ثغور المسلمين. والنص أحد الارقام التي تؤكد عمليات التشويه للصورة الناصعة التي عليها الحسين وثورته ويؤكد ان الاغلفة الاعلامية المضللة كانت منذ عهد يزيد.

[252] السيد ابو طالب الموفق الخوارزمي المكي / مقتل الحسين ج2 ص71 _ 72، واحمد بن اعثم / الفتوح ج5 ص250، وابن نما الحلي (567 _ 645ه_)، مثير الاحزان ص58.

[253] العلامة السيد ابن طاووس / اللهوف / ص116، والعلامة المجلسي / بحار الانوار ج45 ص128 _ 129، ومصادرها كثيرة.

[254] ابن الاثير، الكامل في التأريخ 4 / 103.

[255] ابن الاثير، الكامل في التاريخ 4 / 103.

[256] المسعودي، مروج الذهب 3 / 68 _ 69.

[257] المسعودي، مروج الذهب 3 / 70 _ 71، والمفيد، الارشاد / 291، والمجلسي، البحار 46 / 122.

[258] راجع موضوع المستلزمات القيادية من هذا الكتاب، النقطة الرابعة «الشجاعة».

[259] الطبقات الكبري لابن سعد ج 5 / ص 146 _ 147.

[260] ابو الفرج الاصفهاني، مقاتل الطالبيين ص86.

[261] الزمر / آية 26.

[262] سبأ / الاية 25 _ 26.

[263] الدكتور مصطفي الشكعة / الادب في موكب الحضارة الاسلامية ج2 ص65.

[264] سورة النحل الاية 45 _ 47 وتكملة الاية الاخيرة (فان ربكم لرؤوف رحيم).

[265] من تفسير الاية المباركة وليس من نصها.

[266] أيضاً من تفسير

الاية المباركة.

[267] الانبياء الاية 12 _ 14.

[268] الانبياء / الاية / 47.

[269] ورّام الاشتري _ مجموعة ورّام 2 / ص 47 _ 50، والديلمي _ اعلام الدين / ص 323 _ 325.

[270] البقرة / الاية 206.

[271] نسخة خطية من التفسير المنسوب للامام الحسن العسكري (عليه السلام).

[272] د. عزمي اسلام _ لدفيج فنجنشتين / ص 372 ط دار المعارف بمصر.

[273] الديلمي _ اعلام الدين / ص 328 _ 329 وابن شهرآشوب / مناقب آل ابي طالب ج4 ص189.

[274] الامام الحسن العسكري (عليه السلام) / التفسير المنسوب اليه جمعته من نسختين خطيتين.

[275] المصدر السابق.

[276] علي بن عيسي الاربلي _ كشف الغمة 2 / 106.

[277] المجلسي _ البحار 17 / 106.

[278] الكليني _ اصول الكافي _ علي هامش مرآت العقول 2 / 428.

[279] الشيخ المفيد _ الامالي / ص 207، والديلمي _ ارشاد القلوب / ص 25.

[280] الشيخ الصدوق _ الخصال باب الواحد.

[281] تحف العقول، فصل: وروي عنه في قصار هذهِ المعاني.

[282] اعلام الدين / فصل من كلام علي بن الحسين.

[283] الديلمي _ ارشاد القلوب / ص 25.

[284] وفي رواية ورام الاشتري _ مجموعة ورام 2 / 24 الدنيا سنة. والسنة اشبه بالنوم الخفيف.

[285] الصدوق _ الخصال باب الوصية بخصلة / ص 16.

[286] ابن سعد _ الطبقات الكبري ج 5 / ص 213 _ 214.

[287] آل عمران / الاية 104.

[288] الحج / الاية 41.

[289] البقرة / الاية 85.

[290] ابن الصباغ المالكي _ الفصول المهمة / ص 202.

[291] الحسن بن محمد الديلمي _ ارشاد القلوب / ص 25.

[292] تاريخ دمشق _ نسخة مصورة علي النسخة الخطية في المكتبة الظاهرية بدمشق.

[293] المصدر السابق.

[294] تحف العقول _ فصل: وروي عن الامام

زين العابدين (عليه السلام)، في قصار هذه المعاني.

[295] المسعودي، علي بن الحسين، التنبيه والاشراف ص264 _ 265 دار الصاوي للطبع والنشر والتأليف، القاهرة.

[296] ورّام بن ابي فراس المالكي الاشتري ت (605 ه_)، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1 / 72 / بيروت دار التعارف.

[297] مؤلف مجهول من القرن الحادي عشر، تاريخ الخلفاء / ص203 قام بنشر النسخة المصورة للمخطوطة الوحيدة بطرس غرياز نيوپچ / موسكو 1967م.

[298] ابن قتيبة الدينوري، الامامة والسياسة.

[299] اليعقوبي احمد بن ابي يعقوب. تاريخ اليعقوبي، دار صادر بيروت ج 2 / ص 254.

[300] ابن قتيبة / الامامة والسياسة عند ذكره بيعة اهل الشام لمروان بن الحكم.

[301] مروج الذهب 3 / 86.

[302] مروج الذهب 3: 76 _ 77.

[303] المصدر السابق.

[304] ابو الفداء بن كثير الدمشقي ت (774 ه_) البداية والنهاية 5 / 119 _ 120، وابن عساكر / تاريخ دمشق / مصوّرة، وذكرها الشيخ المفيد في الارشاد / ص 258 وفي الامالي، وابن الصباغ المالكي، الفصول المهمّة / ص 203.

[305] تاريخ اليعقوبي 2 / 304 _ 305.

[306] الحج / 38.

[307] ديوان الفرزدق 2 / 178، ابن عساكر / تاريخ دمشق، نسخة مصوّرة، ابو نعيم الاصفهاني، حلية الاولياء 3 / 139، ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة / ص 207 _ 208 و المصادر كثيرة جداً.

[308] انظر المسعودي، مروج الذهب 3 / 203، والتنبيه والاشراف / ص 278.

[309] الصحيفة السجّاديّة: من دعائه اذا اعتدي عليه او راي من الظالمين ما لا يحب.

[310] الجرداء: الارض الجرداء.

[311] يذكر التاريخ ان زين العابدين (عليه السلام) كان يحمل الماء للضعفاء من جيرانه.

[312] السعاء: الكثير الجد والسعي.

[313] هشام بن عبد الملك بن مروان وكان آنذاك ولي العهد.

[314] مراء: جدال، اي ان

الحلال والحرام يدرك سر الامام زين العابدين بدون جدال.

[315] الاخاذة: التي تأخذ القلوب بروعتها وجمالها.

[316] أي الفضة والذهب.

[317] بمعني الاسراء الي الله تبارك وتعالي والتوجه الكامل نحوه.

[318] حذّاء: سريعة.

[319] العاني: الاسير.

[320] دمشقة: لغة في دمشق.

[321] زينيّة: نسبة للامام زين العابدين (عليه السلام).

[322] القصيدة للمؤلف عفا الله عنه.

[323] اذا كان يوم القيامة نادي مناد من بطنان العرش: ليقم زين العابدين، فكاني انظر الي ولدي علي بن الحسين يخطر بين الصفوف. (تاريخ دمشق: مصورة، وكفاية الطالب / ص 448، وحلية الابرار 2 / 8 ومصادرها كثيرة).

[324] بغول: بداهية، بهلاك.

[325] أي لو كان الامام زين العابدين هو الحاكم.

[326] ياويك: ياويلك.

[327] النبذ من الشي: القطعة منه.

[328] التقدير: وابنُ منصور.

[329] راجع خطبتهُ (عليه السلام) في موضوع «مع الحسين في الثورة الخالدة».

[330] عذول: لائم.

[331] راجع خطاب الامام زين العابدين (عليه السلام) في مشارف المدينة المنورة في فصل: مع الحسين في الثورة الخالدة _ 3 _.

[332] ذحول: جمع ذحل وهو الثأر.

[333] المعقول: العقل وهو من استعمال اسم المفعول بمعني المصدر.

[334] وافق عدد ابيات القصيدة سنة وفاة الامام زين العابدين (عليه السلام)، وهي 94 للهجرة علي المشهور.

[335] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 2 / 304.

[336] الانصاري القرطبي، محمد بن احمد بن ابي بكر (ت 671)، التذكرة في أحوال الموتي وامور الاخرة / ص645.

[337] هكذا وردت ولعل الاصح عنك بدل عند.

[338] سير اعلام النبلاء ج6 ص308، تهذيب الكمال في اسماء الرجال للحافظ المتقن جمال الدين بن الحجاج يوسف المزي ج2 ص7، الاعلام، خير الدين الزركلي ج2 ص277.

[339] الفعلة: العمال.

[340] مناقب آل ابي طالب / لابن شهرآشوب ج4 ص140 _ 141.

[341] سورة الكهف: الاية 5.

[342] البيهقي، المحاسن والمساوئ ج 1 / ص 29.

[343] شرح نهج البلاغة لابن

ابي الحديد 18 / 272، والنمرقة: وسادة صغيرة.

[344] ومن القائلين بالنص من هؤلاء ابو الحسن الشمشاطي العدوي البغدادي (ت 380هجريه) في كتابه البرهان الجلي في النص علي امير المؤمنين علي كرم الله وجهه، انظر ينابيع المودة ص8. ومنهم: الفقيه علي بن محمد بن محمد الشافعي، المعروف بابن المغازلي (ت 483 هجرية) في كتابه مناقب علي بن ابي طالب لا سيما في الحديث 68 ص45 _ 46. وكما يعلم ذلك من الموفق الخوارزمي المكي (ت 568 هجرية) في كتابه المناقب. وكذلك الفقيه الكبير، والمؤرخ الشهير احمد بن عبدالله بن محمد بن ابي بكر الطبري شيخ الحرم المكي، ومن اركان الشافعية (م 615 ت694 هجرية) في كتابه ذخائر العقبي، لا سيما في العنوان «ذكر اختصاصه بسيادة العرب وحث الانصار علي حبه» والعنوان «ذكر اختصاصه بسيادة المسلمين وولاية المتقين» _ ص70 عنيت بنشر الكتاب مكتبة القدسي _ القاهرة _ ط. 1356 هجرية. ومن القائلين بالنص: سليمان القندوزي الحنفي (ت 1294 هجرية) في كتابه المشهور ينابيع المودة لا سيما في الباب الثامن والثلاثين في تفسير قوله تعالي: (يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) ص114 _ 117، ولا ينبغي ان يقال: انه مجرد نقل لجملة من الروايات، وآراء بعض المفسرين، واعلام الدين، فحسب، ومثل هذا لا يكفي في الدلالة علي المطلوب. وذلك لان المؤلف رضوان الله عليه في صدد تفسير قوله تعالي..... (... واولي الامرِ منكم) وقد فسّرها اعتماداً علي جملة من الروايات، واقوال بعض اعلام الدين. وإن بامكان القارئ ان يتلمَّس بوضوح القول بالنص في كلام الدكتور عبد الرحمن الكيالي الحلبي فقد قال وهو يتحدث عن واقعة الغدير: وفي كل ما حدث، بقي العالم

الاسلامي بعيداً عن فهم الحقيقة، حقيقة الحدث التأريخي، الذي لو عمل به صحابة العهد النبويّ، ونفّذ ما جاء في الوصية حسبما اراد الرسول الامين، والمؤسس الاعظم، لما وقع ما وقع، واصاب المسلمين ما اصاب، من بلاء الشقاق، وشقاء الاختلاف ولبقيت وحدة المسلمين متماسكة الحلقات، سليمةً من النوازع والرغبات، وسارت الخلافة يحفّها النصر، وتظللها اعلامُ الهدي والرشاد، في طريق القوة والاجماع، كما رسم خططها الرسول. من رسالة بعثها الدكتور المذكور الي العلامة عبد الحسين الاميني النجفي وقد نشرها الاخير في كتابه الغدير ج4 ص / ج د ه_ و.

[345] آل عمران الاية / 159.

[346] الشوري الاية / 38.

[347] نسخة خطيّة من نهج البلاغة كتبت سنة (494 ه_).

[348] النسخة الخطية المذكورة.

[349] راجع مسند الامام احمد بن حنبل ج1 ص119، واسد الغابة لابن الاثير ج5 ص205، ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ج9 ص106، والغدير للعلامة عبد الحسين الاميني ج1 ص166 _ 186.

[350] كفاية الاثر في النص علي الائمة الاثني عشر لعلي بن محمد الخزاز (القرن الرابع الهجري) نسخة خطية.

[351] المصدر السابق.

[352] نهج البلاغة ج1 ص151 طبعة دار الاندلس، بيروت.

[353] من خطبة للامام علي (عليه السلام).

[354] الانفال: 46.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.