الامام زين العابدين (علیه السلام ) عنقود مرصع

اشارة

سرشناسه : كتاني، سليمان
عنوان و نام پديدآور : الامام زين‌العابدين عنقود مرصع/ سليمان كتاني
مشخصات نشر : بيروت: دارالروضه ، م‌۱۹۹۳ = .ق‌۱۴۱۴ = .۱۳۷۲.
مشخصات ظاهري : [۲۷۴] ص
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
موضوع : علي‌بن الحسين (ع)، امام چهارم، ق‌۹۴ - ۳۸ -- .سرگذشتنامه
موضوع : علي‌بن الحسين (ع)، امام چهرم، ق‌۹۴ - ۳۸ -- .داستان
رده بندي كنگره : BP۴۳/ك‌۲‌الف‌۸
شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۹۳۶۴

استشارة المراجع

تاريخ طبري، لأبي جعفر الطبري تاريخ العرب، لفيليب الحتي مختصر تاريخ العرب، للسيد أمير علي أعيان الشيعة، للامام السيد محسن الأمين الامامم زين‌العابدين، لباقر شريف القرشي في رحاب الصحيفة السجادية، لعباس علي الموسوي زين‌العابدين، لعبد الرزاق الموسوي المقرم [ صفحه 7]

للمؤلف

الامام علي، نبراس و متراس فاطمة الزهراء، وتر في غمد محمد شاطي‌ء و سحاب يسوع أبد الانسان لبنان علي نزيف خواصره جبران خليل جبران في مداره الواسع، مسلسل تلفزيوني مي زيادة في بحر من ظمأ، مسلسل تلفزيوني أمل وياس الجذور الامام الحسن الكوثر المهدور الامام الحسين في حلة البرفير ميخائيل نعيمة بيدر مفطوم جوزة الدب، قصة غزالة قاع الريم، قصة الامام زين‌العابدين عنقود مرصع محاكمة هارون الرشيد، مسرحية مخطوطة المهلب بن أبي‌صفرة، مسلسل تلفزيوني مخطوط [ صفحه 9]

كلمة شكر

انها موجهة للمستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية في بيروت بشخص صاحب الفضيلة الشيخ محمد شريعتي. للمستشار الفاضل يد جلي في اخراج هذا الكتاب من دائرة العتمة الي حيز النشر - انها المهمة الجليلة التي تعني بها الجمهورية الاسلامية الايرانية في شرقنا العظيم، لجعل الفكر في مهب الانفتاح، و ربط الاسلام المؤمن بامدائه المتوسعة بالفهم و الخير و المعروف. يا للعظمة في الامام علي، يربط ايران الجوار برسالة الاسلام المنفتح، و يفك الانسان من عبودية الاسار، فاذا بالملكة الأسيرة شهزنان بنت يزدجرد بن انوشروان، تعانق بالزواج سيد الجنان الحسين بن علي، بكر الشهداء في حقول العنفوان، و تنجب أول امام دعي بابن الخيرتين: الخيرة الفارسية و الخيرة العربية. علي بن الحسين أو الامام زين‌العابدين، هو عنوان هذا الكتاب، تزينه الطباعة بمجهود ملون بزهو الانفتاح. فشكرا [ صفحه 10] للمستشار محمد شريعتي، يمسح كفه بمجد الحرف، و ينشر أطياب الجنان. المؤلف [ صفحه 11]

الي القاري‌ء الحكيم

الي القاري‌ء الكريم و أنت دائما وجهتي و عمادي أرجو أن تأخذ كتابي هذا في الامام زين‌العابدين مترابطا بحدود ثلاثة: 1 - اعتبار الأدب فيه من أجل أناقة تصوير الفكرة و جعلها في منزلة المحسوس. 2 - اعتبار الخيال فيه من أجل تنزيل الواقع في اطار الحدث. 3 - اعتبار الحوار فيه من أجل احياء التاريخ و جعله يتكلم من واقع ما يضمر. و لكم شرك و احترام المؤلف سليمان كتاني [ صفحه 13]

تقديم

بقلم السيد محمدحسين فضل‌الله الحمد منه و سلام علي عباده الذين اصطفي. في سيرة الامام علي بن الحسين «زين‌العابدين» أكثر من عالم مفتوح علي الله و علي الانسان و الحياة، و أكثر من أفق منطلق بالفكر و الروح و الشعور و الحب الالهي، و العرفان الروحي، و أكثر من ساحة مليئة بالقضايا الأخلاقية، و الأجواء الانسانية، و المناهج الحركية و هو - في ذلك كله - يمثل وحدة تربط بين كل هذه العوالم و الأفاق و الساحات. لأن الانسان الذي عاش مع الله معني العبودية الخالصة له أمام ألوهيته المهيمنة علي الأمر كله. فكانت مسؤوليته - في انسانيته - احدي مظاهر هذه العبودية، و بذلك التقي بالانسان في كل مواقعه و انفتح علي الحياة في كل مجالاتها، فكان الفكر هو سر ارتفاع الانسان في مستوي المعرفة التي تطوف به في أفاق الله، لتمتد معه في أسرار الحياة في ظواهرها الكونية، في سنن الله في الكون، و في ظواهرها الانسانية الفردية و الاجتماعية، في سنن [ صفحه 14] الله في الأفراد و المجتمعات، و هكذا اكتشف اروح في البعد الانساني السائر الي الله في عبادة شعورية تهز الأعماق و في حب لله يغمر الكيان كله فيذوب الانسان معه في أجواء العشق الالهي، الذي يسمو الانسان به و يصفو و يرق فيعيش الصفاء كله و النقاء كله في اطلالة علي الحياة، و في استغراق في العالم الآخر فيما بعد الموت، حيث الحياة الجديدة التي «لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر علي قلب بشر» «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين». و مع الله في الأجواء الروحية العبادية الفكرية، لا بد من قاعدة أخلاقية للسلوك يقف الانسان عليها ليتطلع الي الله من موقع أخلاقي ثابت، أصله ثابت و فرعه في السماء يؤتي أكله كل حين باذن ربه و ذلك من خلال استيحاء أخلاق الله في صفاته العليا و أسمائه الحسني علي هدي الحديث المأثور «تخلقوا بأخلاق الله» ليكون الانسان بذلك انسان الله في روحيته الأخلاقية، و أخلاقه الالهية. و مع الله، يكتشف انسانيته في حركة المسؤولية في حياته لينفتح علي الآخر في آلامه و مشاكله و قضاياه و حاجاته و أوضاعه الخاصة و العامة و لينطلق معه فيكون ايجابيا في حركته في اتجاهه حتي لو كان الآخر سلبيا معه، كما نستوحي ذلك في الخط التصاعدي الذي يرتبط بالأفضل و الأكمل و الأحسن، ليعارض من غشه بالنصح و يجزي من هجره بالبذل و يثيب من حرمه بالبذل و يكافي من قطعه بالصلة و يخالف من اغتابه الي حسن الذكر و يشكر الحسنة و يغضي عن السيئة، و يكره ظلمه للآخرين كما [ صفحه 15] يكره ظلم الآخرين له انطلاقا من رفض المبدأ كله من نفسه و من الناس. و هكذا تكون الحركة الانسانية في خط المنهج القائم علي العدل و الاستقامة و الحرية لتكون الحياة أقوي و أقوم و أكثر انفتاحا علي الحق و الخير و السلام. و في ضوء ذلك قد تكون هذه السيرة بحاجة الي دراسة توثيقية واسعة تقف أمام كل هذه المفردات التي يحفل بها تاريخ هذا الامام العظيم، لتستوحي منها أكثر من خط فكري و أخلاقي و روحي و اجتماعي علي مستوي النظرية في النهج العام، و لتلتقي بالخطوط التفصيلية في حركة السلوك العملي في هذه السيرة علي مستوي التطبيق، لتجد الانسان تجسيدا للقيمة الروحية المثلي و لتكتشف في عمق هذه القيمة و امتدادها عمق هذا الانسان و امتداد أبعاده في السر الكامن في الفكر و العقل و الروح في مداها الواسع. و قد ينفتح الدارسون فيها علي الكثير الكثير من مفردات الثقافة الاسلامية في المسألة العقيدية و الفقهية و العرفانية و الاجتماعية و الأخلاقية بحيث تتمثل لك الثروة العلمية الواسعة الممتدة في واقع الحياة كلها علي خط الاسلام. و اذا درسنا الشخصيات التي روت عنه و تتلمذت عليه و عاشت في مدرسته فاننا نجد في ذلك كله أنه كان - في عصره - الوجه الأبرز و الأكثر اشراقا و تأثيرا في الثقافة الاسلامية آنذاك. و ربما كانت مشكلة بعض الباحثين أنهم يتمثلون في [ صفحه 16] دراستهم له الوجه الحزين الذي يعيش بكائية الألم في ذكرياته الأليمة المفجعة للمأساة الكربلائية التي وعي كل تجربتها المؤلمة القاسية التي تهز الشعور كلها في عمق احساسه لتحوله الي فيض من الدموع المتفجرة بالحزن المأساوي، و لكننا لا نجد ذلك فيه علي مستوي الظاهرة في معني الشخصية، بل قد تكون علي مستوي اللحظات الطارئة التي قد تحمل في طبيعتها بعض الحاجة الي الاثارة و التذكير من أجل الاستفادة من صورة الحزن في الذكري لاستعادة القضية في الوعي الانساني بعمق و امتداد يوحيان بالعقدة الحركية التي يتحملها كل الناس الذين كانوا لا يزالون يخضعون للحكم الذي صنع المأساة و استمر في ممارساته التي انطلقت حركة المأساة التي عاش الامام الحسين عليه‌السلام ثوريتها الاستشهادية، من أجل الاحتجاج عليها. اننا عندما ندرس موقف الامام السجاد في مجلس ابن زياد و يزيد، و في حواراته في الطريق الي الشام، و في حديثه، قبل ذلك مع السيدة زينب، فاننا نجد الهدوء القوي، و الصبر الجميل و الوعي المنفتح علي الموقف، بالدرجة التي قد لا تجد لديه أية دموع ليسكبها علي المأساة القريبة من تلك المرحلة. اننا لا نستطيع أن نتصور الامام جازعا باكيا بالطريقة التي يستهلكها بعض رواة التاريخ الذين يريدون تحريك الاثارة العاطفية من دون دراسة للأسس الأخلاقية القويمة التي ترتكز عليها شخصية هذا الامام، و الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام التي ينطلق الصبر ليكون في مستوي الأساس الذي ترتكز عليه الشخصية في جمعي جوانبها. [ صفحه 17] و هناك - من الباحثين - الذين يتحدثون عن هذه الثروة الروحية الدعائية التي تمثل الصحيفة السجادية، كما تمثل مجموعات كثيرة متناثرة في أكثر من كتاب، فيرونها أسلوبا جديدا من أساليب الدعوة الي الله و الاصلاح الاجتماعي، من خلال ما تتضمنه، هذه الأدعية، من اشارات فلسفية، و نظرات اجتماعية و مناهج أخلاقية، و ايحاءات روحية، و خطوط اسلامية، لينطلق الناس - من خلال الدعاء - في الانفتاح علي كل هذه القضايا، ليفكروا و يهتدوا و يتحركوا نحو الأهداف الكبري التي يستهدفها الاسلام في فكره و شريعته و حركته. و لكننا - في الوقت الذي نقدر فيه هذه الرأي - نتصور أن الأدعية كانت نهجا اسلاميا في عبادة الله، و التوجيه الذاتي الروحي، في الأسلوب القرآني، و في السنة النبوية الشريفة، و في تراث الامام علي و الأئمة من بعده عليهم‌السلام. و لم تكن حالة متكلفة علي طريقة الكتاب و المؤلفين في انتاجهم الفني بل كانت حالة عفوية وجدانية في الانفعال الروحي العبادي الذي يعيشه الانسان بين يدي الله، في خصوصياته الذاتية الايجابية منها أو السلبية، أو في صفته الانسانية التي يتجرد فيها الانسان عن خصوصية ذاته في سلوكه الشخصي، ليتحول - بين يدي الله - الي انسان يحمل في انسانيته كل خطايا الانسان و كل تطلعاته، تواضعا لله، و ذوبانا في حبه، و استغراقا في عظمته. ان القيمة الفنية المبدعة في أدعية الامام زين‌العابدين عليه‌السلام، في الفكرة و الأسلوب و العرض و جمالية الجو و الايحاء و اللفتة و الايماء، و روعة الكفرة. [ صفحه 18] ان هذا كله يوحي بأن الامام كان يدعو من كل روحه و قلبه و شعوره و كل وجوده و كيانه، تماما كما هو الاحسان العفوي الذي يعيشه الانسان العابد الخاشع الخاضع بين يدي ربه. و لكن هذا لا يمنع أن يجد الناس فيها نتائج الوعي الروحي الأخلاقي الاجتماعي في المسألة الاسلامية، لأنها تمثل احدي نماذج الثقافة الاسلامية في حركة التوعية العامة التي يجد فيها المؤمنون الغني الروحي في التجربة الدعائية العبادية من خلال الشكل و المضمون و الجو و الحركة و الانفتاح. و هناك نقطة أخري - بالاضافة الي هذه النقطة - و هي أن الواقع الذي عاشه الامام في حركة الدعوة، لم يقتصر علي الدعاء بل امتد الي أكثر من أسلوب و انفتح علي أكثر من قضية، و تحرك في أكثر من موضع كانت تجد في تراثه الكثير الكثير من المفردات المتحركة في واقع الانسان كله، مما يعني أن الساحة كانت تتسع للكثير من النشاطات الاسلامية من دون أية مشاكل سلبية، في هذه المجال. اننا نعتقد أن الامام السجاد لم يدرس دراسة شمولية علي مستوي ملاحقة كل نتاجه العملي و الروحي و الحركي في تحليل عيمق دقيق شامل، الأمر الذي يفرض علي الباحثين مواجهة هذه المسؤولية في تجارب متنوعة متعددة، من أجل الوصول الي معرفة عناصر هذه الشخصية الاسلامية الكبيرة، بعمق و وضوح و شمولية. [ صفحه 19] و هذا الكتاب تجربة أدبية فنية في اكتشاف العناصر الكامنة في عمق هذه الشخصية، من خلال ملاحقة الجذور التاريخية التي عاشها هذا الامام العظيم، في أجواء جده و عمه و أبيه، و في الفترات التاريخية الصعبة التي جلبت الكثير من المشاكل و الآلام للخط الاسلامي الأصيل، في محاولة للسير مع مفردات هذا التاريخ كنقاط مضيئة علي التأثيرات التي تتمثل في الجانب الفكري و الشعوري و الحركي في حياته. و هي تجربة حية في جمالية الأسلوب، و ترف الكلمة، و سعة الخيال و عمق الاحساس، و استكشاف الآفاق البعيدة بحيث نشعر بحركية التاريخ في كل سلبياته و ايجابياته، و بكائياته و صرخاته، و في كل مشاكله و قضاياه، و حربه و سلمه، و تتمثل شخصياته في وجدانك كما لو كانت ماثلة أمامك في كل حركتها التي تضج بالصراع الدامي الذي حول الساحة الي دموع و دماء. و قد نلاحظ علي كل التجارب الأدبية الفنية أن الكاتب قد يقول الشخصية التاريخية ما لم تقله مما قد يتبناه من أفكار و آراء و كلمات بحيث لا يتناسب مع الخط العام لفكره و حركته الأمر الذي قد يخلق بعض الارباك لصورة الشخصية في الوجدان الفكري. و قد استطاع الكاتب - قد نهاية الكتاب - أن يفهرس «رسالة الحقوق» و «الصحيفة السجادية» في عناوينها البارزة، و أن يشير الي بعض ايحاءاتها الفكرية و الاجتماعية و الروحية. انني أقدر للصديق الأديب سليمان كتاني أدبه و فنه و شاعريته في خياله و أسلوبه كما أقدر له هذه التجربة التي اذا لم تستطع أن [ صفحه 20] تمنحنا الصورة الميدانية الواقعية للامام السجاد فقد منحتنا بعض الملامح الرائعة للأجواء التي عاشتها هذه الشخصية المميزة. انها أسلوب جديد في كتابة السيرة الذي قد تجد فيه ما لا تجده في الكتب المنهجية لكتابة السيرة، و اذا كنا نتحفظ معه في بعض الستيحااءته و طريقته في الاستنتاج و بعض أفكاره، فان ذلك لا يمنعنا من تقدير جهده راجين لكتابه المزيد من الرواج و الانتشار، مع كل المحبة و الانفتاح. 18 صفر1414 ه محمدحسين فضل‌الله [ صفحه 21]

الكلمة الأولي

يا أيها الامام الغارق في معجن اللطف و يا أيها السيد الأنيق الساجد فوق القبب آراني الآن أنقر و تري اليك، و هو وتر ينغم فيك بعد أن نقعته بطيب حوشته - منك - و أنا أتلقف حروف كل صحيفة من صحائفك المبلولة بذلك! يا لذلك الكبير يسحقك بين يدي ربك! و يا لربك الأنصع و الأكبر، ينشر ذل الطيبين عزا فوق صهوات القناطر. و اني الآن آتيك - لو تري يا سيدي - من ذات الباب الذي دخلت منه: مرة للاختلاء بعمك الحسن «الكوثر المهدور»، و مرة أخري لتذوق طعم العز المقطور من رذيذات الدم المفجور من وريد أبيك الحسين و هو «في حلة البرفير» - و أيضا من ذات المحراب الذي خشعت علي لمسات عتباته و أنا أطيب نفسي، حينا بين يدي جدك «النبراس و المتراس»، و هو السجاد مثلك فوق القباب، و حينا آخر تحت ناظري جدتك الزهراء، الواقفة فوق لوحات الميدان، كأنها قضيب من رمح، أو كأنها «وتر في غمد»، و لكنها - أبدا - ملفوفة بكل قمصان أبيها! اما أبوها فهو جدك الأعلي، النازل علي الأرض من [ صفحه 22] أفاجيج السحاب، اني رأيت انه هو «شاطي‌ء و سحاب». هؤلاء كلهم - يا سيدي - و هم خمسة خشع تحت القباب - قرع الباب عليهم قلمي، و دليلي انه بهم قد طاب: ارتياح في نفسي استمر به مغمورا، و كلمة من طيب كانت تجيئني - مرة اثر مرة - من أولياء آل البيت، كنت أجد فيها كل الثواب. ان آل البيت كانوا - دائما - الداعين ريشة الأقدام للابتراء من مثل هذه الساحات. و أنت، يا رابعا في نول الامام، و يا سادسا أنقر عليه الباب - فاني أرجو أن يكون لي دخول مقبول تحت قناطرك الظليلة. عساي أراك كيف تنام بعين، و يكف بعينك الثانية تصحو فلا تنام. و كيف تغمر ألما من مضيض التراب بأمل منسوج من فتيل السحاب؛ و كيف تشرب القرآن لينضح من تجعدات جبينك، و من تدرنات ركبتيك، و من مدارج طويتك، و من أشعة عينيك. و كيف تشمي - هنا - مشي الهوينا، بينما تبدو هناك، رشيق العدو خفاق الضياء. عساي - أعود فأقول - أصيب فليك مدي الملم به حروف الكلمات، فاسمع أذني صدي ما حوشت عيني من نفحات، فاذا كنت غني الجمع منك و فيك، فاسمح لي بنوم قرير الوسادة - أو اذا كنت شحيح البلوغ، فارشقني بهزة من ارق أعدل بها ما قصرت عنه عين الرؤي، و عين النفس، و عين التوق الي واحات الصفاء. سليمان كتاني [ صفحه 23]

المقدمة

علي بن الحسين، و الامام زين‌العابدين؟ هل هما اسم واحد لجهاز واحد؟ أم ان هناك مركبا مزجيا أذاب الموصوف في الصفة، في عملية تفاعلية اندماجية أنيقة المسار، راضت الاسم و امتزجت به، ثم ابتلعته ليكون للصفة بروز اللون في جهرة المطلق! اني أري ذلك في حقيقة اضماري، لأني لمست هنا بين موصوف و صفة مسافات رققت الاسم المبني من لحم، و دم، و غدد بيضاء، و راحت تتقلب به و هو يمشيها من مقطع الي مقطع و من مقلع الي مقلع، حتي صهرته بعرقه و أتعابه و آلامه، فاذا هو - في طرف الميدان - ثمر أنضجته الشمس، و الريح، و خفقات الغمام، و عطر خلصته أقمار الليالي من شهوات البراعم و من أصباغ الرغام. تلك هي واقعية الحال... قبل أن يكون علي بن الحسين زين‌العابدين، كان عليا بن الحسين، بلا لون من ألوان العبادة... و بعد أن مشي ردحا فردحا: تحت عيني جده علي، و في حضن عمه الحسن، و بين يدي أبيه الحسين، لم يبد عليه انه صار امام [ صفحه 24] العابدين، ليس لأن الامامة لم تكن قد ألقت علي كاهله ثقلها المرزوم - فهو لها، علي الرغم من أن التقية كانت تلجلجهم جميعا - بل لأن السمافة المبدعة التي لم تكن قد ألقت بعد كل وزنها عليه، هي التي ما زالت بانتظاره في مكامن الطريق! بعد أن يبلغها، و يمشيها بعرق و دم، و يشربها، و تعجنه تحت مياسمها، ساعتئذ يصير - و من دون شك - أمير العابدين. و ماذا تعني هذه الصفة الواسعة المضمون؟ أو بالأحري ما هي خلعتها علينا، نحن المتشوقين المنتظرين حفظ حروف الكلمات التي كان يتعبد به الامام، امام عرش سيد المتعبدين؟!! بحكم الطبع أن في صلوات التعبد راحة للمؤمنين، و مزيجا من حرارة و بلسم للمحرومين و المكروبين. و كثيرا من انسحاق للمرضي و المظلومين و المضطهدين، و ان في كل نوع من صلاة أملا بعطف و شفقة و نجاة، و ان الايمان الراجح برب الخلق هو المدبج كلمات الدعاء، و الملونها بالحرارة، كما و ان راحة ضمنية تشدد المصلي و تؤمله بالاستجابة. و لكن زين‌العابدين لم يبدع صلاة ما سجد بها من قبل، بل انه سحب الصلوات كلها من قيود الحرف، و جعلها تنبض بالمشاعر المتحركة، لتكون عقلا، و لتكون علما، و لتكون و حيا و فهما و روحا و حسا، و لتكون التهابا بالحق، و نورا بالايمان، [ صفحه 25] و لتكون حبا و ثوابا للقلوب البريئة، و لتكون بغضا يتفل الحقد في وجوه الطواغيت، و يرجمهم بأوبئة مبيدة، و لتكون بركة و حورا من جنان للمطهرين، و لتكون نقمة و زفيرا من جحيم للأبالسة المجرمين العاهرين. أجل - لقد كانت صلواته كله قالبا من فن، بحروف من أدب موشوم يسمو به النبل و صدق الحس، و يميزه البعد الفاصل بين الحق و الباطل، في لون من العمق الفريد الذي يقدم نفسه بنفسه، لمجتمع تنقصه الصلاة الكبيرة، حتي يعود الي لملمة جراحه التي فجرها في صدره الكفرة المجرمون. ان المسافة الطويلة التي استكمل مشيها علي بن الحسين و التي غمرته بكل ألوان الأتعاب و الأوصاب، و التي نزلت به الي أغوار النفس، و اندمجت بكل طواياها، هي التي فجرت فيه المواهب، و نقلته من الاسم المجرد الي الصفة الزاهية المدلة بلونها، و هي التي جعلته يكتشف معين ذاته المدموجة بالواحات التي دلنا اليها جده الأكبر، لتكون نعيما لهذه الأمة، فوق هذه الأرض بالذات، لتكون جنة لنا تزينها و تصونها التقوي، و لا يعززها الا الحق و الصدق و النبل و روح المساواة. ان الصفة التي لبسها اسم علي بن الحسين و تسربل بها كما يتسربل الشوق بقلوب العاشقين، هي التي تغمرنا الآن بسناها، و هي التي تجعلنا واقفين علي عتبة المحراب نسأل: كيف كان لك [ صفحه 26] أيها الامام أن تصلي، و أن تملأ الدهر بالصلاة و الدعاء؟ و لماذا صغت الحروف و نقشتها بمثل هذا الذل المسلسل و المنور بالجمال؟ أليست الصلاة تأملا عميقا و صمتا غائرا في حميم الذات؟ فلماذا رحت تحبر مئات الصفحات بآلاف الجمل و عشرات ألوف الكلمات؟ أيكون ربك العليم الفهيم الواسع الظن، و البهي السمات، لا يرضي الا بذل العباد محفورا علي ألواح السجلات؟ أم انك رحت هكذا أيها السيد، تنقش القرآن في صميم الذات، حتي يصبح حيا في النفس، و حيا في البال - حتي يصبح خشوعا في الطوية و حضورا في السجية: سدا لجوع، و ريا لعطش، و طريقا لمأرب، و بلوغا عفيفا لأي صواب. يبدو أنك كنت كل هذا أيها المتمنطق بالجسود الرفيع تحت القناطر و فوق القباب - يبدو أنك امام ترسل بنهج مدرسي قويم الدرس و سداد الحساب - يبدو انك رسالي من طراز بهي أدرك أن رسالة ابن الغار هي المنجية الأمة من الدمار.... و هي البانية بالعزم، و يه الجامعة بالتوحيد، و هي الصائنة بالمثل العفيفة و التطبيق الحصيف، و هي الخاضعة بين يدي خالق قدير عظيم رحيم؛ يلف الصدق بالتقوي، و الجمال بالعفاف، و العدل بالحق، و الحب بالوفاء.... يا للأمة تأخذ منها و ترد اليها أوشحة الامامة.... و يا [ صفحه 27] للامامة فيك تزرع العلم في العبادة، و توزع الصلاة علي الأفواه... و يا لقلمك كيف يغرف من ذاتك أدب المران في مدي الانسان، يسلسله حقوقا و معارف، و يحدده صيانات، من أجل مجتمع مبني بالصفات، و مهدوم بتحطيم الصفات. ألا تسمح لنا أيها السيد بتتبع خطاك، لنتفهم مبتغاك؟ و هل يكون لسياسة الأمة تسديد خطوات ان لم تدرك - هي بالذات - كيف جمعت قدميك - لها - من طول المسافات: و المسافات؟ أليست - فعلا - تتألف من الخطوات التي نمشيها أو نمشي بها في حياتنا فوق الأرض؟ فلنتبصر قليلا في بسطة التجريد: قد نكون في حياتنا أكثر من مشائين، أي قد نكون - حتي - عدائين: و لا يكون لنا من عدونا الناشط أي نسج لأي مسافة: و معني ذلك - كما نفهم - أن المسافات هي أبعاد أخري لا نمر ببعد واحد منها، و نحن حتي مقعدون، ألا و يترك فينا هذا البعد نقشا تعيه ذاتنا، و تمتلي‌ء منه طويتنا، و تتلون به أساريرنا، و تفصح عنه مجالاتنا في التعبير. و المسافات؟ بمعني الجمع، أليست - هي - حبال المعاناة؟ تقتنصنا و نحن نصطدم بها، فنمتصها و هي تغشانا؟ انها هي التي ستكون خميرة فينا، ينمو بها عقلنا، و وعينا، و حسنا، و مدانا. ان المجالات الروحية فينا هي الأشد تأثرا بها، و الأزخم تعبيرا عنها، و هي - وحدها - التي نعينها مسافات تبرز منها شخصية الانسان. [ صفحه 28] و اسمح لنا أيها السيد، أن نتكشف أبعاد مسافاتك، حتي يستقيم لنا فهمك، و حتي يتنور لنا صدق مداك. أليست المعاناة - معاناتك - هي التي اختمرت قيمة فيك، برزت في فهمك، و انجدلت في صلواتك؟ أليست هي التي كانت نقوش الظل في خلود صفاتك؟ [ صفحه 29]

تمهيد

لقد عزمت علي أن أقرع الباب و أدخل الي الامام زين‌العابدين... كنت أعلم انه من سكان مدينة يثرب، و لكني كنت أجهل أين تقوم العمارة التي ينزل فيها، و أي واحد من الشعاب يؤدي اليها... فوجهت اليه هاتفا من توقي و روحي... و سريعا ما سمعت منه بوادر الترحيب: - ليس عليك أن تضيع في أزقة المدينة. بيتي شاهق في صدر المكان. يدلك الشكل اليه. أول ما يأخذك منه مدخل و اطي‌ء ضامر... لا يتمكن من عبوره من لا يروضه السجود... فالعتبة حرف من مدي و الممرات حروف من - صعود! نزلت هذه المقاطع في بالي مغلفة ببسمة زادت علي روعة [ صفحه 30] اللغز... و تلفت فاندهشت من عمارة واقفة في الصدر - اطلالتها نحيلة في مدخل هزيل، و بعتبة لا ترتفع عن الأرض الا بضعة أشبار... و لكن المدخل المتواضع هذا، فانه يأخذ - قليلا قليلا - بالارتفاع، مع امتداد العمارة، حتي يبلغ في طرفه الشرقي ارتفاعا شاهقا كانه من أنواع القبب. أحنيت هامتي و دخلت - بعد عدة خطوات شعرت بان الممر قد علا سقفه، و شعرت أيضا بانه قد اتسع، ثم بدأ يتخلص من شحوب النور... و هكذا - بعد لحظات - تمتعت براحة ضمنية في وسط قاعة عميقة السكون، و ان تكن خالية من الرياش، و لكنها في سقف تتزاحم اليه - من كل الجوانب - أشعة الضوء، و هكذا فأنت في لذة جديدة تبحث: من أين لهذه القاعة أن تجذب الي سقفها أسلاك النور؟ و تقدمت صوب معبر محفور في الجدار، مسدول عليه سجف سميك، و من لون الليل، و ما كدت أزيحه بكلتا يدي حتي انهمرت علي عيني أضواء خلتها هابطة من سماك رفيع: ثلاث قبب مستديرة، تتساند في الفضاء، تظللها - علي وسع العلاء - قبة رابعة شاهقة، تظنها مسبوكة من عسجد منير... انها من هالات لا تدري من أين تسخو عليها مسارح السماوات!!! هل كنت مخطوفا الي بهاء؟ أم كنت مشدودا بخيوط العسجد؟ و لكني كنت أسيرا أفتش عن أرض غير هذه الأرض، [ صفحه 31] تترسخ فوقها قباب عدن... بعد لحظات - من يدري كم هو طولها - وقعت عيني علي ساجد تحت القبب، يغلف نفسه بالأشعة و يرفعها مرايا مرايا... عرفته... و لكني خجلت من أن أسجد قربه... لأن سجوده كان من النوع الصقيل. قد يحسب الخيال شفيعا لمثل هذه الصورة البيانية أرسمها في امامنا المميز زين‌العابدين. و لكنها - مع مطلق الحال - صورة تعكس الواقع الحياتي الذي اندمج به الامام. فعلي الأصغر انما هو الرابع في خط الامامة، و لم تتوش امامته الا بذات الوشي النابع من ذات المصدر! و المصدر واحد يتغير عهده، و لا تتغير أرومته... أي أن العهد هو الملون بحورف الزمان، اما الجوهر فهو الموصول بركيزة الأصل، ثابت عليها، و مستمر بها، و تلك هي حدوده الأصلية، و لولاها لضاع من أفق الزمن، و لما كانت له الصفات البليغة التي و شته بها حتيمة ثمينة الرجحان. ذلك هو زين‌العابدين تحت قبة سخية من قبب الحق، رفعها جده العظيم فوق قناطر ثلاث: واحدة دفقها دفقا سنيا باسم جده علي الراقد خالدا في مسجد الكوفة - و واحدة نزلها تنزيلا بهيا من ضلوع الجنة، رسمها باسم عمه الحسن النائم سيدا في حضن أمه فاطمة في ردهات البقيع، و واحدة مقطورة من الدموع الحمر، باسم سيد من أسياد الجنان، هو أبوه الشهيد الأمثل و الأروع، المغطي كربلاء ببرفير أزهي من ضلوع المجد! [ صفحه 32] أي واحد من أربعة يمكن عزله من ملف يدور به و عليه قسطاس الامام؟ أي واحد منهم لم يشده بالرسالة، و النهج، و العزم الملون؟ أن الجوهر واحد كما قلت، لانه ركيزة من معدن أصيل لا يمكن أن يتبدل أو يتطور... اما التصرف من أجله في الصيانة و التسديد، فهو الذي يلبس زيا متناسبا مع ساعات العصر، و اهتزازات ريحها في الهمود و الاقلاع. لقد كان التصبر و التروي خيطين و حيدين غزل بهما الامام علي عباءته العفيفة، و لما انضغطت بوجهه فتحة الريح، واجه الميدان بصدره دفاعا عن أمة هو وليها الأول، تثبيتا لها عن صدقه و ولائه، و لقد قطعت الساحات وريده، و كان سعيدا - هكذا - بانضباط خلوده. اما الأحداث فكانت وفيرة في أيامه - و أن تكن كئيبة بكفرها و جحودها - فقد ملأها و تحداها، و لونها بصموده. كذلك يمكننا القول عن العهد الثاني الذي آل الي الامام الحسن، فانه كان استمرارا في تتميم النهج، و لقد نسجت الأحداث نسجها الآني، مما جعل الامام يتصرف من و حيها و ضغطها... أكان في مقاومة ريحها، أم في مطاوعتها حيت تستريح من اقلاعها الأهوج! و كلنا نعلم أن التصرف كله كان من نسيج الاحتياط لصيانة أمة من الانفراط. و لكن الأحداث ما غيرت لا خيطها و لا مكوكها مع العهد [ صفحه 33] الثالث الواصل الي الامام الحسين - و لقد حاول أن يتصرف، و لكن الريح سدت عليه كل المجاري! ان سياسة الخمسين سنة ألقتهم جميعا في قبضة يزيد، و رمت الرسالة علي شدق خليع! و كان الرفض - وحده - بوابة التصرف، حرك به الحسين ضمير الناس، عن طريق الاباء و العنفوان، بتسليم الوريد لمقطع الشهادة... ان العنفوان وحده يبقي للأمة، تشتري به حينوناتها المجيدة التي تعيدها الي ساعة الوصل. منذ مقتل الامام علي، مرورا بتذويب الامام الحسن، و الامام الحسين يتقلب في ذل، تتجرر به - تحت عينيه - هذه الأمة التي استرجعها جده من غيبوبة خرقاء! و لكن الذل الذي يطول و لا يقتل، هو ذل الفحمة السوداء: تنام ليلها الطويل... و مع فجر بهي تولد لتبقي الي أبد حبة ماس!!! هذا هو كل ما مر به الامام الحسين، حتي انفجر - هلالا - بعد عشر في كربلاء. و جاء دور الامام الرابع. لم تقع عدسة عينه أبدا - علي جبين جده الرسول - اما الثلاثة الآخرون فانه استوعبهم بعينيه، و أذنيه، و ملامس أصابعه، و هم الذي ضمخوه: بالذكر، و الآية، و كل حروف الحديث، و هم الذين طيبوه بأسرار العطر، و نقشوه بالفوح المقدس، و هم الذين علموه نقل الخطوات فوق المعابر السود، و امتصاص الحزن من ملامس السوء، و تغليفه بالفرح النفيس، و تقبل الضيم من ملاقطه المكروهة، و عرضه علي أفق [ صفحه 34] فسيح تعيش فيه زهور المكارم. فعلا - انه هو هذا الامام - ما وصل اليه دور الامامة، الا بعد أن قطع ثلاثة و عشرين عاما من عمره و هو في مباركة الظل. لقد شاهد - بعينيه و حسه المرهف - سقوط جده الامام الأول تحت سيف ابن ملجم!!! و لقد صعقته صعقا لعقة العسل، تيبس بها عروق عمه الحسن!!! اما أبوه الآخر، فانه رافقه رفقة العمر، و رفقة الدهر... و شاهده - بعينه، و قلبه، و روحه، و كل ذله الأكبر - يتقطع و يتفجر، من دون أن يتمكن من تبليل شفتيه بقطرة ماء ضن بها نضح القرآن!!! و لقد تخلص من برائن ابن زياد في الكوفة، و نجا من قبضات يزيد في الشام، و تم افرازه الي يثرب، حيث ستمتصه ساحة الحزن، من غير أن تكون له باع يمدها الي حسام! لا يحلو لي أن أرسمه، أو أن آتي اليه، الا من خلال هذه النقوش التي أسميها «نقوس الظل». انه عنوان الفصل الأول من هذا الكتاب في سيرة الامام زين‌العابدين التي هي تظهير أدبي لم تكتمل حلقاته الا بعد جلوسه في كرسي الامامة، و اعتماده علي قوي الذات التي تم بها النقش النفيس، و رواح - من وحيها المتين - يبدع ذاته الثانية في التحامها بذاته الأولي. ان في التحام الذاتين تكاملا حيا في اظهار الشخصية المثلي بنضجها الذي ستتصرف به في نهاية المطاف. [ صفحه 35] سيكون عنوان الفصل الثاني: «ظل النقوش» - و تفسير ذلك أن النقوش التي حفرت عميقا في نفسية الامام، هي ذاتها - في فعلها الحاضر - مشت به في حقيقة الابداع، و جلت له خطوط التصرف. لم يبق للامام زين‌العابدين - و قد وصلت اليه الامامة بهذا الفراغ المفجع - الا أن يلجأ الي يثرب، يفتش عن زوايا يشرب فيها حزنه الكثيف! اما أن يظهر في الساحة و يقول لها: ها أنذا... فان الساحة ذاتها كانت المقبوضة علي نفسها لا تدري كيف تهرب عنها معالم النور! ان الخوف، و الكبت، و التهديد، تسد كلها علي القوم مجالات التنفس، و تضغطهم في لطوات الصمت العقيم! ليس في الساحة الا الوقاية، و التصبر علي الضيم... اما ذلك الذي يتحومل في خفايا النفس، فانه الرهيب أيضا، لا يرجي منه خلاص يبشر بطمأنينة و هدوء! انه بغض، و حقد، و مفاعل تفجير الضغائن، و ليس فيها ما يصلح أمر الناس، أو يرشدهم الي صواب، بل ان كل ما فيها ليس الا معاول تهديم! يضرب بها عامل أخذ الثأر، حتي تنام كل المجاهيد في حفر التردي و مقابر الموت!!! اما الامامة - و هي المغمورة الآن بفداحة الأحزان - فهي المسدودة عليها قبضات التصرف السليم... ليس لها السيف، و ليس لها الرمح حتي تزجر الخطأ و تقطع به باعه و لسانه، و ليست بها صوابية التصدي و فرض حقيقة النهج، حتي ترمي سهمها و تعاقب المتعدي، و تطمره في كيده، و تكون - [ صفحه 36] بالوقت ذاته - لمامة شمل في توحيد الجماعة و صهرها في المجدل الصافي المنزه من أحقاد القبائل و ارتباطها بهمجية أخذ الثأر و ضفائره المخزية! و عكف الامام علي تفتيق ذاته من واحات ذاته... لقد أشرقت عليه كل المعادلات، بعد أن اتضح له أن الأمة التي هي ميدان الرسالة و مكانها الأول في التحقيق، هي التي تمر منها و عليها كل الخطايا، أو فلنقل كل الرزايا، و انها هي - بالذات - المتسدركة حتي تنقذ نفسها من حزن صبغتها به «براقش»، و ليست تنام «براقش» الا تحت ضلوع الانسان، فهي منه في منبت الخزي و الويل، يبتدعها له لبه المخبول بجهله الأبشع! ان الوعي - وحده - ينجي النفس من «براقش» و تطمر براقشها في محافر ذلها المكشوفة للعيان! أي شي‌ء غير الحق يبني مجتمع الانسان و ينجيه من انحطاطه؟ و أي شي‌ء غير العفة، و الطهر، و الصدق، يجلو بها شعاب سلوكه؟ و أي شي‌ء غير فقه الذات يدله الي رحمة ربه الرافع السماوات فوق رأسه، و الباسط الأرض تحت خطواته؟ و أي شي‌ء غير العلم المؤمن بطاقات الخير يدله الي جنان المعروف، و ينهاه عن جهنم المنكر؟ و أي شي‌ء غير التقوي يذلل النفس ليرفعها الي مجالات الجمال؟ و أي شي‌ء غير الصلاة الكبيرة و البريئة يرفع [ صفحه 37] النفس و ينزهها من المعاصي، و ينورها بما لها و ما عليها من حقوق و موجبات، حتي تستقيم دروب الانسان معززة باناقات الروح، و مطيبة برفاهة الوجدان!!! هكذا راح الامام زين‌العابدين ينثر حروف أبجدية مسبوكة له علي مشفري قلمه الرزين، حتي يزرعها علي كل صفحاته القديسة، فتنتج مواسم مواسم من صلوات، و أدعية، و سجود رفيع، تتعلم قراءتها الأمة قراءة تترسخ في صلواتها، و سجودها، و أدعيتها... و تترسخ - بالتالي - في وعيها، و حفيظتها، و مناهجها، و سجاياها، و مداركها، و كل سلوكها: ايمانا و تقوي، و انارة... سيكون للقسم الثالث من هذا الكتاب عنوان تلبسه الامام صفة مميزة له و هو: «زين‌العابدين» - ان العنوان هذا هو مطاف الصفة، تسربل صاحبها بعباءة من فن، تحترم العلم و تجله، في سبيل تركيز الأمة علي معادلات الفهم و الادراك، لتخليص ذاتها الانسانية من الجهل، و الحزن، و التردي، و الاستعاضة عنها بالوعي، و الفرح المؤمن، و التحقيق المنور... سيكون الامام زين‌العابدين تركيزا موجها لأمة تعتمد العلم في توجيهها الأصيل... و سيكون ابنه الامام الباقر استمرار المدرسة العلمية هذه، و سيكون حفيده الآخر الامام جعفر الصادق توسيعا باهرا لجده زين‌العابدين. [ صفحه 43]

نقوش الظل

مع الولادة

شاهزنان

لقد كان لتلك الليلة الطويلة صباح ضائع بين بسمة هزيلة من فرح، و قبضة حزينة من هلع. فشهربانو أو بالأحري شهزنان بنت يزدجرد بن أنوشروان، زوجة الحسين بن علي، انما هي طريحة مشلولة بألم مخاض صعب المراس، لن يتركها تضع ابنها البكر الا محطمة مكسرة الجناح. منذ أكثر من خمسة أيام و الأميرة الفارسية ملقوطة الخاصرتين بموجبات ممضة من ألم تطرحها فوق فراش من شوك و تعب. لقد انحفر الألم حفرا بليغا في عينيها و أسارير وجهها، و لقد تلاشت به و هو يلفها بغلالة من زعفران، أما أصابع كفيها فهي التي خدرها الارهاق مع هذا الليل الخامس الغائر الصبح في العتمة السوداء، فارتمي ذراعاها فوق قماشات الغطاء، و تراخت أصابعها في كسل الانشلال، من فرط ما انفتحت و انقبضت و هي تتلقط بكل ما يلامسها، عله يريحها من أثقال المخاض. أربع من أشهر قابلات المدينة كن يتناوبن السهر حول فراشها في الغرفة الحزينة - و لكن الطفل المنتظر لم يلب أية عملية من [ صفحه 44] عمليات الاستنجاد، حتي يخلص أمه من آلام تعصرها عصرا، و بقي في عناده الأصلب حتي مطلع الصبح من الليلة الخامسة، فترك الرحم المنهوكة و هو منهوك أيضا من شدة ما عاناه من وابل مغص دهك حشا أمه و أفرزه طفلا نحيلا، مسمر العينين، غائر العينين، هزيل العنق، شاحبا» مكمدا. كان الحسين بتمشي ببطء مثقل بالنعاس في صحن الدار، في ذلك الليل الذي طال، و لم تخطه بعد تباشير الصباح. لقد كان مطرقا او حزينا - أنه وحده الآن في خضم من الآلام، فاخوه الحسن غائب عنه في جبهات القتال التي حركها و أشعل نارها الكافر الجاحد معاوية بن أبي‌سفيان!!! منذ ليلتين جاءه رسول من الكوفة من قبل أبيه الامام، ليأخذ اليه خبرا عن شهربانو الحامل التي كان قد بشرها من قبل بولادة طفل بهي يرتبط به خط الامامة، و به يستمر اسم علي فوق الأرض، و به ستنتعش كل رسالة الأمة، أمة النبي الكريم محمد. و لكن رسول الامام الي ابنه الحسين بقي في المدينة منتظرا خلاص الأم من ثقل المخاض، ليأخذ الخبر المفرح الي الامام المصلي في محراب مسجد الكوفة، حيث سيتناوله بظبة سيف، مجرم أخرق، اسمه ابن ملجم!!! - مسكين أبي، راح يقول في مهجته الحسين، و هو مغمض العينين، و مسحوق النفس، و مشغول البال!!! ثم انتبذ زاوية الدار، [ صفحه 45] حيث توجد أريكة ممدودة يعطيها بساط من وبر الجمال. فجلس القرفصاء يتذكر أباه الامام - منذ أكثر من سنة مرت - كيف أنه حال دون بيع شهربانو كجارية في سوق الاماء، و كيف حررها و هي أسيرة حرب، و خيرها في أن تتزوج من تشاء من الأسياد - فأجالت عينها الكحلاء، و هي رضية سعيدة تتنقل في أرجاء الدار، بقوام و شيق، و قد ممشوق من شجرة بان... ثم مدت اصبع كف هليلة بيضاء، و أشارت الي من تشتاقه عريسا لها، فقال الامام: - مبروك عليك يا شاهزنان - يا أميرة الجمال في مبزغ ايران، و غزالة الحسن في لفتة العربان. انه لك ابني الحسين و هو وافد اليك من تحت قناطر الجنة. فاحمليه و طيري به الي هناء يهزأ بكل عناء. و ليكن لك منه من ترفعين به رأسك الي كبد السماء. لم تتجدد هذه الذكريات في خاطر الحسين حتي تلملم من مقعده و عاد يخطر في صحن الدار، و ثقل المناجاة يرنحه ترنيحا. - ألا نجيتني يا الله من مرارة الفقدان؟! اني أحبها حبا وسيعا يا اله المحبين! انها وصلة شهية من طهر، و وصلة أنيقة من حب! [ صفحه 46] و وصلة سنية و بهية من جمال... انني خائف يا الله... أن تفجعني بها و ترفعها الي سناك... فلينغض طرف الموت عنها يا الهي. و احفظها ساجدة معي أمام عرش بهاك. لم يتمتم الحسين بحروف هذا الدعاء حتي خر ساجدا أمام باب الغرفة التي خرجت منها امرأة فارعة الطول، و نقية كزهرة بلسم، و علي صدرها طفل مخدر و لكنه يتنفس، و هو ملفوف بأقمطة سمراء، و ما أن لمحت السيد في هبوطه الي الأرض، حتي هبطت قربه و هي تقول بصوت خافت مبلول بحنين: - الحمد لله يا سيدي... طفل ذكر يا مولاي... و سريعا ما أخذه الحسين بيدين مرتجفتين و هو يتمتم: الحسين: و الأمام يا غزالة... كيف هي الأم؟ غزالة: انها مرتاحة... صدقني... و الحمد لله... بعد خمسة أيام ثقيلة كحجر الرحي، [ صفحه 47] و خمس ليالي منفغرة كأفواه الوحوش!!! انها تبدو مرتاحة. الحسين: عساها تنجو يا غزالة. لقد سميتك غزالة... سعدا لك يا أم أطفال هذا البيت ان اسم الحبيبة بالفارسية شاهزنان و معناه بالعربية: غزالة... اذا نجت و عاشت شاهزنان، فسيكون لهذا البيت غزالتان... و ان لم يسمح ربك و ربي... فستلبثين أنت - وحدك - غزالة هذا الطفل الذي سيربو في حضنك الطيب، ان اسمه منذ الآن علي الأصغر... و ضم الحسين طفله - برفق - الي صدره. ثم ناوله حاضنته غزالة - ثم انحني يقبل الأرض في صلاة السر - ثم نهض... فتح الباب... و علي رؤوس أصابعه دخل... لم يتقبل رب الساجدين صلاة الساجدين! انه - وحده - العليم [ صفحه 48] بوطأة الأحكام و لغة الأسرار، و هو الغني بكشفها العلني، و لكنه الفارضها مرانا فوق رؤوس الخاشعين! فسبحانه - كل مرة - يملي فيها حكمه المكنون. هكذا خطفت حمي النفاس شاهزنان، من دون أن يتناول الصغير علي قطرة واحدة من ثديها المحموم. أما غزالة البيت - بحدبها الرؤوم - فانها ذابت في الرضاع المقدس، و توسع صدرها بالحنان الريان، من دون أن تعلم أن الذي تقطر في حلقه العافية و الأود هو الذي سيكون - في يوم آت - اماما سخيا و تقيا، يصلي عن الناس جميعا حتي يتعافوا من مذلة الكفران... تماما كما فعلت من قبل حليمة السعدية اذ لقمت ثديها طفلا من دون أن تدري أنه سيكون نبيا يسكب الله في طوية الانسان!!! [ صفحه 49]

غزالة

و كانت غزالة في الأيام الأولي شحيحة الدر؛ و هكذا كانت حليمة السعدية مع طفلها الذي حملته معها من المدينة الي طنبها المشدود تحت شمس البادية. لقد كان در صدرها في المبتدأ شحيحا، و لكنه راح يغزر من يوم الي يوم، بمقدار ما كان ينمو حسها و هي تحدق في الشفتين الممتصتين حلمتي صدرها: كم أنهما عذبتان تغدقان عليها شعورا لذيذا يوسع فيها الحب و تذوق الجمال، تحت هذا الجبين المفسوح بالمعاني الكبيرة الغائرة في سحر من الابهام. هكذا أحبت السعدية طفلها الصغير، و هكذا أرضعته لبن النبوة، ألا يصح هكذا أن نقول؟ أليس الوجه المشع بالمعاني النفسية - الروحية الهاجعة في التقاسيم، هي التي كان لها انسكاب تخميري في العينين اللتين كانتا في حليمة سلكين يوصلان الدف‌ء، الي جسمها الحساس، فتتأجج بالحب و تتوسع غدتا صدرها، و تتندي بالانصهار و تتلون روحها الذكية؟ و ذلك كله من دون أن تدري و من دون أن تعلم؟ انها مفاعل الايحاءات، كمفاعل التخمير في ملاقط [ صفحه 50] الكيمياء: تتشعب في أجهزة الأجساد انعكاسات انعكاسات، تتسرب الي هنا و الي هناك، في العين - و في الجبين - و في كل مخابي‌ء السمات - انها مخازن النفس المتكومة اليها من المجاري البعيدة المتحوملة من حقول التجارب التي كان يعاني كل وطآتها الآباء و الأجداد، انها خطوط البناء النفسي - الحياتي الذي تشتاقه الذات الأصيلة في الانسان - انه المجتمع الذي هو قوة و منعة الانسان. انها الصفات المشعة بمعانيها، تلك التي كانت سحرا، و هيبة، و ايحاء، و جمالا، في تقاسيم الطفل البهي الأمين محمد ابن عبدالله الطالبي الهاشمي، و ابن آمنة بنت النجار، انه المتفرع من أرومة طيبة الجدود في اهتماماتهم الأصيلة لبناء الانسان الطيب المهتم بصوغة المجتمع الذي هو ملاذ الأمة. و هكذا انفتل الايحاء انعكاسا في غدة صدر حليمة، و هكذا غزر في صدرها لبن النبوة... فسبحان الله تزخر بين يديه الأنابيب بالعناصر، تلونها و تلعب بها أصابع الكيمياء... مهلني الي مثل هذا القول، اسم غزالة، المربية و الحاضنة. انها الجارية المأوية الي بيت الحسين - لقد كانت أم ولد - لا شك أن ايحاءات الجو الذي لازمته منذ بعض الوقت، قد لعب في عناصر جهازها النفسي الطيب لعبته الكيميائية المتجاوبة مع حقيقتها الجميلة، فانصهرت مع آل البيت علي اندغام شعوري و في الارتباط - لقد أخذت بحب الحسين في مطاوعة داخلية [ صفحه 51] المحور، أملتها عليها أشعة من طيب عنصره، كانت تنعكس علي كل ملامح جسده، في كل حركاته و سكناته: انه ابن علي العظيم، المتين الخطو فوق الأرض، و البهي الملامح و هو ينقل عينيه عبر الفضاء - و انه ابن جده الرسول، المكفكف الأرض بمطارف النعيم. و غزالة - هنا - كحليمة السعدية - هناك - يبعد بها الغور من دون أن تعرف كيف تمشيه - انها المتأثرة بمهابة ما تري، من دون أن تدرك كيف هي خيوط الجاذبية، و ما هو لون و عمق مداها. عندما أخذت الطفل الي صدرها كانت - ربما - أكثر قليلا من خادمة - ولكنها - اذ مرت بالحسين و وجدته ساجدا يصلي لخلاص زوجته من الموت - سجدت قربه، و كان سجودها هكذا، يرفعها الي سوية أخري لفها ببعض مما يلتف به الحسين، و رفع قيمتها من مهبط الي مبهط. و عندما قرأت نبرات روحه في عينيه، تحولت نفسها من شعاع الي شعاع، و أحست - من دون أن تفهم - أنها تحررت من ربطة تزنر خصرها بها أغلبية الجواري، لترتبط بزنار آخر، هو الذي تتقدس به صدور الأمهات. لقد حملت الطفل الضعيف الخائر القوي، و العين و الصوت - و الخارج منذ لحظات من رحم شرفت بها الأمومة، و هي تتعصر اعتصارا بآلام الموت - حملته و هي خادمة حزينة، و لكنها كفكفته بخيط من دف‌ء عندما ألقي الحسين علي رأسها حبرة أم. [ صفحه 52] و لقد عطفت عليه عندما اختلت به في ساعة أولي، و أرضعته في أول ليلة من عمرها الجديد، قطرات شحيحة، لأنها ما كانت بعد قد غاصت في حنينها المنشود. أما في اليلة الثانية فانها كانت مهدومة القلب، و من أشد الباكيات حزنا علي الأم التي مزقتها حمي المخاض. و في الليلة الثالثة أحست بأن لها غدة في صدرها بدأت تمتص ذاتها من ضفاف القلب، و هكذا راحت تنشط بها شفتي طفل، لا يزال كسل حزين يلقط عينيه عن تلمس النور. بعد مدة وجيزة غير مطروحة من الذاكرة - و قد بدأ الطفل يوزع نظرات عينيه علي الأكف التي تناديه الي غنج و الي شبه مداعبة - راح اللمح ينفتل بغزالة من حس الي حس آخر، يقوي فيه و ميض الوجدان. لقد بدأت تقطع مثل هذه المراحل المنوعة - مرة بعد مرة - مع نمو الطفل و شعوره المتزايد بالجو المشبع بالعطف و الحب اللذين هما له علي وجه التخصيص المندي. كثيرا ما كان يدخل الحسين - في ساعات وجوده في البيت - الي الغرفة المحبوبة - و كانت السعادة تغمر وجه الأم الرضية، و هي تراقب الأب مغرقا عينيه في عيني الصغير، و هو يداعبه من دون أن يشبع. لم يتمكن هذه المرة - و هو جالس علي الأرض، و بين ذراعيه الصغير علي - الا أن ينادي غزالة حتي تشاركه لذة الغوص. [ صفحه 53] و لبت غزالة، و بسرعة بريئة هبطت الي الأرض بالقرب منهما، و الحسين كأنه بشعر يتغني: - ألا ترين معي يا غزالة: كم في العين هذه من بعد قصي؟... اني أري فيها جنانا لا تشبع من ارتشاف الكوثر... اني أري فيها نعاسا لا يتعب من مجادل النور... اني أري فيها قعورا عجيبة مرصعة بالقباب... و عرك الأب الطفل بين يديه و تركه الي ما بين يدي غزالة - و وقف مفتشا يمينا و شمالا و هو يقول: - أين أنت يا غزالة؟ ألا ترين معي ما أري؟ و لكن غزالة حزرت أن مولاها في خدر المناجاة - و أن الذي يره هو من وحي السياحات... فركعت علي الأرض خاشعة تراقبه. و طفلها الصغير قد استسلم الي اغفاءة هنيئة. أم الأب، فقد بقي يتمشي و كأنه مغمض العينين و هو يستأنف القول. - اني أري فيها أبي الامام، الأدعج العين [ صفحه 54] و الساطع النور، انه الامام علي، ركيزة الأئمة، و شعاعهم الأبدي. اني أري فيها جدي العظيم محمد... يسجد هناك لربه، تحت و فوق قباب النجوم. اني أري فيها اماما يبتدي بتركيز الحق المنير... لا ينتهي الحسين من مناجاته تلك حتي يكون قد فتح الباب و خرج. و لكن غزالة الباقية وحدها مع الطفل علي المغفي علي صدرها، فانها انتفضت و هي تقول: - لقد فات وقت رضاعك يا طفلي العظيم. ان صدري ينزف و ينثر من فوهتيه اللبن. الا استيقظ يا حبيبي و التهمني. لقد جعلني أبوك بكليتي غدة لك... ما أدركت حليمة السعدية أنها أرضعت نبي المسلمين لبن النبوة، الا بعد أن زارته و هو النبي. فأجلسها قربه علي طرف عباءته، و لفها بها و هو يضمها الي صدره بذراعيه. و لكنها أدركته [ صفحه 55] قبل هذا الحين - بلمحها المشتاق - أدركته من سناء جبينه، و من غزلة عينيه. و ها هي الآن غزالة - ما أدركت أنها تلقم ثديها اماما سيعلم الأمة كيف تبنيها معاني السجود: و لكنها تأكدت من أنها ترفع طفلا نجته من لوعة اليتم. و سينجيها - بدوره - من ذل عبودية رفضتها مبادي‌ء الاسلام. يا لحليمة السعدية، تستكل وجودها مكررا - مع مثيلتها غزالة - في ردهات الزمان. هل هو التقمص؟! أم أنه توراث الصفات المتطابقة و المخزونة في مجتمع الانسان - تتطور به و تشتد بنية الانسان؟!! [ صفحه 57]

الحسين

اشاره

أنه ظل من الأظلال الشفيفة، تتماوج فيه صفات تفيض من الجبين، و العين، و نعمة العنق، و تختنق بها بسطة الكف عبر أصابع لا يتلعثم فيها رونق التعبير. لقد حوشها كلها الي فسحة في النفس. فهم متهاد اليه من علياء الضفاف - كانت مفاتيحه مرصودة الانفساح علي جنان عزيزة الجني و رفيعة العطاء. لقد كان أبوه ضفة النجوي، و كانت أمه ضفة النعمي، أما جده فكان الضفة الفيحاء، تدله بها، و بها غنج، و بها طابت رؤاه في البعد المنيع، و بها عزت نجاواه في العزم الرفيع. يا له - هذا الرفيع - سيمشي سيدا عزيزا منيعا، علي قدمين من شوق أبلج، تقطعان به حر الصحاري، و صدي السراب، و ترميانه شهيدا يشرب دمه علي كفه، و يسقي التربة المقهورة في كربلاء! انه الآن أب لطفل ولد جديدا مع صبح مكسوف القمر، و غائز الزهرة في هالة دغشاء. لقد رأيناه - في نموذج طري - كيف كان يقرأ ذاته في عين طفله، كأنه يقرأ مقطوعة شعر. أنه الشاعر علي كل حال، مجنح الفكر، و قدسي الخيال - لقد [ صفحه 58] صاغته رسالة جده و امامة أبيه شاعرا، و صاغه الوعد في البناء النفسي المركز، و كذلك صاغه الاقتناع الضمني الواسع الحدود. تلك هي حدوده الأربعة: اثنان منهما في وحدة التركيز، و اثنان آخران في مهمة التجهيز. لقد كانت الرسالة عنوان الاطار العام، و كانت الامامة اطار التعهد، أما الوعد فكان اشتقاقا من حقيقة المصدر، و شعاعا نابعا منه في حقيقة الصيانة، و حقيقة الانارة - أما الاقتناع فهو من الفلسفة ضلع العقل، و ضلع العزم، و ضلع الصدق في حقيقة التبتل لقضية توازي - بمفردها - كل الوجود. فلنوسع - قليلا: التلميح

رسالة الانسان

من بامكانه القول: ان رسالة الاسلام صعبة الفهم و عاصية المنال؟ لو كانت كذلك لما احتوتها الجزيرة في مدي عشرة أيام و عشر ليالي، و لما اختمرت بها أمم وسيعة من أمم الأرض، و تم بها تفاهم فسيح المجال - فلنقل: انها عميقة القرار و لكنها سخية رضية في التفافها ببساطة لا يتعرقل بها الفكر و لا تتنابذ فيها نغمة الأوتار - ان لها البليغ من الأركان، و لكن لها النذر القليل من تعداد الأركان. انها التوحيد - أولا و آخرا - انها التوحيد توحيد الخالق، و توحيد المخلوق في الخالق، توحيد الانسان في الأمة، و توحيد الأمة في الانسان - انها المساواة في التوحيد، و انها الحق [ صفحه 59] و العدل في المساواة - انها الحب، و انها الصدق، و انها العفة، و انها نبل الصفات، و تلك هي الوحدة العادلة و الجامعة في الأمة المرصوصة بالانسان. أي شي‌ء في الأمة يجمعها، و يقيها من الانفراط، غير الوحدة العفيفة المشمولة بالصفات؟ فاذا تلفظت الرسالة بالأمة عنت بها مئات ملايين الناس، و اذا قالت الانسان، شملت به كل أمة من أمم الانسان - انها التوحيد البهي النازل في الكلمة، و تلك هي نحافة الكلمة، و تلك هي ضخامة الكلمة، و تلك هي البساطة و الفرادة في نحت الكلمة، و هكذا اذا أمرت الرسالة بالمعروف، و نهت عن المنكر، فانها تكون قد سكبت كل جواهر التوحيد في الأمر و النهي الصائنين حدود الأمة في بناء حقيقة الانسان. أي شي‌ء هي الرسالة غير التوحيد، غير نشر الخالق في المخلوق: عدلا، و حبا، و نبلا، و شكرانا، و وفاء، و وعدا بنعيم يستحقة الصادقون، و انذارا بجحيم يشوي بها المارقون؟! اليست الأرض في مجموع أممها هي التي تبني انسانها بمثل هذه الشرائع التي يسميها الناس مقدسة، و هي - فعلا - مقدسة في بناء مجتمع الانسان. تلك هي الرسالة في تركيزها الفلسفي و في ميزانها الاجتماعي الرائع، و تلك هي التي نزلت نقشا في وجدان الحسين، و التهبت بها مشاعره - أما الذي أنزلها نقشا، و أججها لهبا في أسلاك النفس، فهو ذاته الذي اقتنصها من بحبوحة الفيض، [ صفحه 60] و خص بها آل البيت ليكونوا ركيزة القيمومة وعدة الامامة في مطلع الغد.

الامامة

و ليست الامامة من غير جوهر الرسالة - فهي اشتقاق منها و ليس من سواها، تماما كما يمتد الشعاع من مبزغ النور، لا من انطواء النور في عتمة الديجور. و الامامة - لغة - هي الأم بكل معناها الصحيح، فهي رحم في تكوينها الممتاز. و بطانتها المقدسة. كثيرا ما تكون القضايا الكبيرة مضغوطة بحجم صغير، كحجم العدسة في العين: فهي صغيرة صغيرة و حجم الفضاء و النور يمر فيها رواء - و كذلك هو حجم طبلة الأذن خلف مسرب ضيق الثقب في هضبة البوق - و هدير البحار، و قرقعات الأعاصير، و صفير الجن، تتسجل كلها عليها و هي تميز في ما بينها بلا عناء. انها لكذلك قضية الرحم في حجمها المضغوط - انها تضيق و تضيق كأنها حق صغير لحضانة نطفة هزيلة هابطة من دنيا الخفاء - ثم تتسع و تتسع كأنها عالم واسع المدي في انطباقها علي جنين سيكون من ولادته انسان مغموس في حنين روحي يخلد به مجتمع الانسان. [ صفحه 61] أسوق ذلك لأعني أن الرحم بالذات هي الانسان - مزق الرحم تر أنك حطمت الكون، و شللت الوجود من عصب الانسان. و الامامة - بالنسبة للرسالة - هي الرحم المعهودة: نقشت لها البطانات الرضية منذ أن جالت الرسالة هيمنة في البال. لقد مدت البسط كلها في الواحات الظليلة حتي يتم عليها هبوط الوحي ملفوفا بكل سجف من سجف الخيال، و محفوفا بكل عناية تتعهد النطفة في تنقلها من دلال الي دلال... أليس الاهتمام بسلامة الأم هو الأول و الأجدي، ليكون - بدوره - فاعلا في تحقيق سلامة الجنين؟ تلك هي قيمة تحضير الامامة قبل أن يولد حرف الرسالة، و الا فان الرسالة جهض قبل أن تولد... لا لعمري، يقول المنطق الشبعان: ان من استنزل الوحي من واحة الوجدان هو العليم كيف يصونه بدفة القرآن. لقد صاغ الامامة، ثم أنزل فيها الرسالة، لتكون الامامة رحما من لون المخزون فيها، تتسع له و تتمدد به، أي لتكون من بعده، و من شأوه، و من كل حقيقته في أي مجال: دما من دم، و روحا من روح، و حقا من حق، و علما من علم يتمكن من ربط الزمان بضلوع الزمان، و يتمكن من عجن الانسان بدم الله في عروق الانسان. [ صفحه 62] تلك هي الرسالة، و تلك هي الامامة: انبثاقا من انبثاق، من أجل تعهدات يليق بها أن تكون مؤمنة، و هادية، و واصلة الي واحات موصوفة بجنان مشبهة بارم ذات العماد و يقول أيضا ذلك المنطق: ان آل البيت بالذات هم التعب الكبير المصبوب في عملية التقطير و التحضير، تحضير امامة تتمكن من التعهد المقطور - انهم الطيبون الأوائل، و المعاينون الأوائل، و المعانون الأوائل، و المعنيون الأوائل، وعليهم ستبني السدانة الجديدة... لم ينطق بغير هذا الوعد يوم الغدير.

الوعد

ما هو الوعد؟ و من هو الواعد؟ و من هو الموعود؟ الوعد هو القاء مهمة التعهد علي كاهل متين يقدم للأمة رسالة نبيها الكريم، حتي تنفض عن عينيها غبار العصور، و تبني خطواتها من جديد نحو مجد و عز يحققان فيها قيمة الانسان... الوعد هو تمتين الامامة بمفاهيم الرسالة التي هي كل العمق، و كل العلم، و كل الفن، و كل الادراك، حتي يكون التعهد انبثاقا منها و تلاشيا فيها، علي حصر لا فكاك منه كأنه المطلق... الوعد هو جعل الامامة في مركز التثبيت الموحد: فلا رسالة بلا الامة، و لا أمة بلا الرسالة - انها في وحدة بلا تثنية، كما هما السماء و الأرض، في وحدة الله و بسطة الوجود... الوعد هو جعل الامامة ملكا لما تملك، بلا خيط فاصل بين جوهر و جوهر. [ صفحه 63] فالامامة واحدة و الرسالة واحدة، و الأمة كلها هي الاطار الجامع... الوعد هو جعل بيت آل البيت بيتا للأمة كلها في حقيقة النسب الجديد الباني بيته الآن من حجارة مقلع واحد هو مقلع الأمة الأوحد. فالرسالة هي المقلع، و الامامة هي الرسالة، و الأمة هي الحصن المنيع، و الوعد هو المجنح.

الواعد

أما الواعد فانه الجليل العظيم الساكب الحق في رسالة جمعت الأمة لتربطها بحقيقة الانسان... انه الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، في مجتمع أناخت به الترهات فنشفته غبارا، و قحلا، و سرابا - فسخا عليه من فيض نهاه، و اجتباه من جديد الي سماه، و رد اليه عافية - عصرها له - من كل واحة زاغت عنها عينه فلم تبصر الا و هنا من فرط عماه... انه الواعد الأوحد بعد انصرام القرون و انفراط الحقب، فاذا الأمة كلها تأخذ منه شدات العصب. سيظل الواعد الأول العزيز الأوحد بأمة عزيزة كريمة هادية، يضطرد بها السعي الي تكامل و اكتمال، اذا تمت لها الطاعة الوادعة، و المطاوعة الواعية، و ضبطت خطواتها فوق الصراط المستقيم - و عندئذ فهي أمة تضبط موازينها في الفهم رسالة مدعمة بامامة حصيفة و حصينة، في وحدة مؤمنة بالمثل المنزلة من هالات السحب. [ صفحه 64]

الموعود

أما الموعود بالامامة فهو الآن ابن المشار اليه بالبنان و العين و اللسان، انه الحسين بن علي، و انه المعين في الخط الأمامي، عينه جده النبي بلسان جده علي، و لم يكن قد ولد بعد. ان سلسلة الخط هي المرسومة في البال: من أب الي ابن، الي حفيد، طالما أن الرسالة تلقط الأمة في احيتاجاتها اليها، من عهد الي عهد، و من جيل الي جيل، - و عندما تصبح الرسالة - عن حق - مرانا و ثقافة عامة في الأمة، فان الامامة تصبح هاجعة في مفاصل الأخيار و الأبرار، و تصبح السياسة فنا أصيلا يتعاطاها كل من ينتدب اليها، أكان طالبيا بالتخصيص، أمن من أي فرع آخر... ان الأمة - بعد مسافات المران - تكون قد تماسكت عجينتها، و طابت و حدتها، و التحمت جدران بيوتها بروعة البنيان... ساعتئذ فلتفلت الوصية من قبة الاشارة و من احتياطات التحسب. لأن الضمانات كلها تكون قد فعلت فعلها المدهش في بنية الانسان. ها هو الحسين الآن - و خط الامامة متلاعب به - فانه يشعر أنه هو، و أخوه و أبوه في معرض الامتهان. و أن الرسالة - و بالتالي الأمة - واقعة في ذات الامتهان. منذ سنتين فقط - و بعد لأي حزين - استعانت الساحة بأبيه حتي يتسلم زمام سياسة الأمة، تنفيذا لمضمون تلك الوصية في يوم الغدير... و لكن الساحة بدت تحت خطواته كثيرة الارتجاف، بعد ابعاده عنها ربع قرن!!! ان عدم الأبه لتحسب [ صفحه 65] الوصية و احتياطها في تجهيز الامامة، خسف الساحة و دق فيها سنانير الزور، لأن القبلية - وحدها - هزت ذيلها في سقيفة العصيان - فانتشثرت لحمة الصفوف، و انتكست الرسالة في نموها الطري!!! لقد ظن الناس أن الامامة حصر لمنافع سياسية - اقتصادية، تدر القوة، و الجاه، و المال، علي المتخصصين بها، و هي محصورة - دوريا - بواحد من آل البيت هو أب أو ابن أو أخ أو حفيد للامام المعين الآن في لوحة الصدر. قد لا تكون الأمة و قيعة مثل هذا الظن، و لكن الراجح هو أن أركان السياسة المحلية الذين لم ينسوا بعد مغانم الحكم العتيق، هم الذين سيطروا عليها بهذا الابهام، فقسموا الرسالة - أمامها - الي شقين: شق روحي - حياتي - مثالي - مآلي؛ و شق سياسي نفوذي - تسلطي - وصولي؛ من دون أن يأبهوا الي كون الرسالة وحدة قائمة بذاتها، و أن السياسة مشتقة منها لتعهدها في النشأة و النمو و الفلاح. لقد احتوت الرسالة الأمة، مع العلم أن آل البيت هم ركن الرسالة؛ و أن الرسالة كلها بكل ما فيها من تعميم و تصور و تحديد - هي الرسول و النبي العظيم محمد، و أن الامامة المركزة علي الامام علي، ليست مشقوقة عن الرسالة، بل هي المدموجة بها علي التحام، و انصهار، و انضمام... فما بال الذين يأخذون الرسالة [ صفحه 66] مشقوقة عن الامامة؟!!! ألا تراهم قد خبلوها، و مشوا بها مجزوءة، من دون ركنها الأساسي؟!!! ان معارك يوم الجمل، موصولة بمرجوحة النهروان، مفروزة الي تزوير مصاحف عثمان في صفين... تشهد كلها أن انقطاع الرسالة عن خطها الأمامي المدروس و المرسوم في سيرها المنظم، هو الذي أوقع المجتمع في اضطراب الفجوات، و آفاق فيه قديم النزوات، و أنساه أنه موعود بامامة تسير به بانضباط ملحوم بوحدة سماوية و وحدة مكانية، تقطع بها أشواط العمر، برفاهية عاقلة، هي ثواب المجتمع المبني بالعقل النير و الايمان العفيف. [ صفحه 67]

الاقتناع

كثيرا و بليغا ما تترك المعاني الفكرية - الروحية و شما ناضحا منها فوق بسطة الأجسام. أن للأسارير في خطوط الوجه و تجاعيد الجبين، و لخفقات المدي في لفتة العينين، و للعج القلب و الفكر في رهج الشفتين. أثرا نفيسا تأخذه المراقبة الذكية و تقرأ فيه أمواج الروح في صاحبها، و مخابي‌ء النفس في طواياه. و أظن أن نمو الجسم - حتي - و نوع تأوه الحركة في اليدين و الرجلين و الأوصال - هو خاضع أيضا لذات التموج الفكري - الروحي المتمركز في باحة الجسم، لتكون تعبيرا عن مدي توحي به الأوامر المنطلقة من خبايا الداخل، لتصبح بدورها - هذه الحركات - مصبوغة و مدموغة بذات التعبير و طول الملازمة. ليت لي أن أري جسم الحسين و وجه الحسين، بعيني، كما أراه الآن بفكري و شوقي، بعد فاصل طويل من القرون، حتي أسبر غور حفر العزم و الروح فوق لوحة بدنه: كم هو عميق في تجاعيد الجبين، و كم هو مشع و حارق في رمشة العين، و كم هو رحال المدي في نقلة قدمه، و كم هو رقراق الموج في معصمه، و كم هو أنيق العنق في تلعها فوق المشارف. [ صفحه 68] اني ألمحه - هذا الحسين - بعد اقتناعه الكامل: بأنه مدي جده الرسول فوق الأرض، و وصلة ابنه الامام في مدارج الظل، و بأن الرسالة هي كل المدي المفتوح علي مجالات الأقاصي، و بأن الامامة هي في الرسالة دوي الرسالة و ظلها المقرون، و بأنه من الرسالة و الامامة ذوب شمس لا يشربه غير الظل، و بأنه في مقالب الرسالة و الامامة و صلة شعر في موجة حق و دمجة مطلق، و بأن الامامة عقب موصول بعقب، الي أن يفيض الله في عين الأمة و تحترق عنها مياسم الذل. هكذا لمحته محفورا بمداه. و هو يقرأ ذاته في عين طفله الصغير علي، و أمه غزالة تسكب في حلقه لبن الامامة. سيشد رحله الليلة صوب الكوفة، حتي يرعي - بالقرب من أبيه - امامة مقهورة العين، يتنزي بها حبك الشياطين، قبل أن يكمل دوره فيها الامام الأول! سيكون معه - في الحاشية - صغيره الامام علي - حتي يغرق عينيه في عين جده، و يري فيها مدي البصيرة، و يتعلم منه حكمة الأيام. [ صفحه 69]

الكوفة

للجزيرة الأم متنفسان طريان يغدقان عليها النسم و الندي و الظل، و يخلصانها من كذب السراب و جفاء الهجير. واحد منها ينفتح بها علي الشرق و ينقلها - علي امتداد الصحراء - الي العراق، عن طريق طويل تمتد خطوطه علي متعرجات المقاطع في فجوج الرمال، و لا تتركز ملامحها الا في مكان اسمه «واقصة» و هي دائرة تتفرع منها دروب ممتدة - من جهة - نحو الكوفة و البصرة و ما أحاط بهما من سهول يرويها الرافدان، دجلة و الفرات، و من جهة ثانية نحو المقاطع المخضرة، يلونها الرقراق بردي، و يكسوها - في الغوطة - بالزهر، و السندس، و العطر، و الظل المرتاح. أما المتنفس الآخر، فهو الذي يصلها من جهة الغرب - عن طريق وادي سرحان - بالمرواح الشهية، تتندي بها مرابع القدس و سهول بيسان، في بوح من مياه الليطاني، و الأردن، و كل المجاري المتدفقة من تعاريج الجبال في لبنان علي شاطي‌ء مغناج ممتد من البحر الأحمر الموصول بالأبيض الأزرق المكفوف بجبال طوروس في أركان الشمال. [ صفحه 70] منذ القديم القديم و الجزيرة الأم تروح عن صدرها المثقل بالنار و الغبار، بهذين المتنفسين الوريدين اللذين كانت تتخفف بهما من غوائل ما يصيبها من ضيق في التنفس، يتردي بها - ان لم تعالجه بالنزوح - الي عوارض الاختناق! من هنا كان تموج الهجرات التنفسية مع الأوائل الملموحين: بالأشوريين، و البابليين، و الأموريين، و الآراميين، و الكنعانيين الفينيقيين، و كلهم تدفقوا و التحموا بالجدود الأوائل المسمين - مثلا - بالأكاديين السومريين الأصيلين المتجذرين في الأرض منذ الأبعد من تساجيل التاريخ المضبوط بالأبجديات. تلك هي الأمة في تكوينها الأصيل - انها الالتحام المجذر من حاصلين: حاصل فائض عن رمال الجزيرة، و حاصل آخر هو في حقيقة الانذغام بالأرض المطيبة علميات التنفس، و التي هي رثة متسعة تنقي دم الجسم من كدره، و تضفي علي خلايا الدماغ صفوة الفكر و برزات الخيال. ان التوحيد - في النتيجة - هو الحاصل فوق الأرض - حتي يطيبه الفهم، و الأذعان، و الاستقرار في الواقع الاجتماعي - الحياتي - التاريخي المتمادي في الوجود. فليتكرر الانتقال، أو فلنقل: الامتداد - اذا استهوانا وقع الكلمة - مع الفتح الاسلامي الجديد، حتي تنال الأمة كلها مما أصابت من جدوي السماء. و ليكن لوقع خطوات الامام علي حفر بليغ في «واقصة»، ينقل بها نقوش الامامة الي الكوفة، و البصرة، و كامل أرض العراق، و يتدبر - من هنا - شؤون الرسالة ليجعلها [ صفحه 71] نظيفة «كالشعاع»، و بهية كالمصدر الذي انزلقت عنه، و ليكن المسجد - في الكوفة - مركز صلاته، و مهبط جسده، و مغسل رأسه، و مدي أبديا لذكري تدوم كما يدوم البهاء من مبزغ الضياء. [ صفحه 73]

علي الصغير

و وصلت قافلة علي الصغير الي الكوفة بعد عشرين يوما من سفر مسري علي نسم الليل، و علي ضوء القمر، و مطوي في النهار تحت الأطناب اتقاء لفح الشمس و شدات الهجير. كان يسبق القافلة أسعد الهجري، علي ظهر برذون ذكي أسود، انما الهجري هو حاجب الباب عند الحسين، و هو أمين سره و حارس دربه - و كان دائما يسبق القافلة بمرحلة تقدر بساعة، حتي يكشف الدرب و يتأكد من سلامة المرور، فاذا لمح ما يريب، قفل راجعا للتنبيه و أخذ الحيطة، و الا، فانه يكمل السير حتي المحطة المقبلة، حيث ينتظر وصول قافلة سيده الحسين، و هكذا كان يتم الانتقال حتي بلوغ الكوفة. عرف الهجري، في تلك الليلة، عند الوصول الي محطة «واقصة»، المستديرة التي تتوزع منها المفارق: يمينا نحو الكوفة و البصرة، و يسارا نحو تدمر و الشام - أن المنطقة كلها، ابتداء من «واقصة» و مرورا بمحطة «مياه العرب» و «الحاجر» و «جل لعلع» حتي «القطقطانة» شهدت تعديات مذلة للعرب، فرض فيها جمع الصدقات، و دخول البيوت من دون استئذان... مرة أولي مع عبد [ صفحه 74] الله بن مسعدة الفزاري الذي وجهه معاوية أيضا لتذليل العرب وصولا الي الحجاز - و لكن الامام أميرالمؤمنين، جهز قوة عسكرية بقيادة المسيب بن نجبة الفزاري دحر بها ابن مسعدة و أرجعه الي الشام - و كذلك - منذ عشرة أيام - جهز الامام قوة عسكرية أخري بقيادة حجر بن عدي الكندي، دحر بها ابن قيس، و جعله يتقهقر علي أعقابه، من «القطقطانة» حتي «واقصة»، و راح يتعقبه اندحارا حتي صحراء تدمر. لقد انتظر أسعد الهجري، وصول قافلة الحسين الي «واقصة» فاطلعه علي صحة الحدثين - فتركوا المحطة سريعا و غذوا السير ليرتاحوا في محطة «الخزيمية»، و من بعدها يقومون، باستئناف السير. بعد عدة أيام، و مع الصباح الباكر عند بروز الزهرة، و صلت القافلة الي الكوفة. تتمثل القاعة الوسيعة التي تم فيها اجتماع العائلة بدار فسيحة قانعة ببسط سوداء الخيطان، و بمقاعد واطئة عليها طراريح نظيفة مكسوة باردية محوكة من و بر الجمال. اما الحيطان فكانت مزينة بقبضات سيوف مقصفة النصال، و بدروع مصدأة الزرد، منقحة بثقوب تمكنت من أحداث ثلماتها رؤوس السيوف المقصفة و الباقية مغروزة فيها لاحياء تذكار ساعات الجهاد. في هذه القاعة نري الآن الامام رابضا كالحيدر في صدر المكان، و من حواليه يمينا و شمالا: الحسن و الحسين، و أمامه في [ صفحه 75] صحن الدار أسعد الهجري يسند من الوراء ظهر الغلام علي الذي ترك حضن أمه غزالة و راح يمشي صوب جده الكبير الذي يلوح له بيديه الممدودتين حتي يقترب منه ليضمه الي صدره المشتاق. يبدو أن قدمي الغلام تتقويان الآن بما يقارب السنتين من العمر. انهما ثابتتان، تخفرهما يدان مبسوطتان، لا تتثاءبان، و لا تخفقان، كأنهما من الفخذين في وحدة الحركة، و في ذات الشد، و ذات المد، و ذات الميزان، مع انتساق في الكتفين، تحت رأس مسحوب منهما في انسكاب أنيق الصلب خفيف الزيغان. اما العينان ففي فتور غنوج تلعب فيهما بسمة مغسولة بكسل لا تدري هل هو حول أم انه دهشة من كحل، أو انه حزن رخي زرعته فيهما - قبل أن ترحل - أمه شهزنان. و توقف الغلام عن قطع خطوتين - فقط - تصلانه بجده الامام، كأنه تهيب الارتماء بين ذراعيه... و غرق الامام - بدوره - في صلاة ساجدة، و هو يتأمل الغلام في سبكة قده، و ما عتم أن قال، باغماضة عين و نهدة رأس: - سبحان الله، لقد تنبأت لشهزنان و هي في بالي كأنها مريم - بدكر يزهو به المكان... يا لجبريل، يبشر مريم بغلام سخي!!! و يا لي أنا... تنمو علي لساني ذات البشارة!!! [ صفحه 76] و ها هي الجنان كلها تنكسب علينا. هنيئا لك يا ابني، يا الحسين. - يا سيدا من أسياد الجنة - تضبط المكان بألغاز الزمان، و تحيي الرسول بنسل الرسول، و تسكب في قلبي العزاء، و تلبي النداء بأسرار النداء. و انخفض الامام بيديه أمام الصغير، و بسرعة كالانخطاف، كان هذا الزين بين ذراعي جده، في حضنه، في وسيع باله، في دوحة عينيه... اما الجميع فكانوا في سجود الفرح، في سجود الدمع، في سجود الصمت، في سجود السكوت... بينما كان الطفل يغوص في عيني الامام، و أصابع كفه اليمني تلعب بعثنونه، و أصابع كفه اليسري تغفو تحت ابطه، راح الحديث يدور من الكوفة الي البصرة، و من مكة الي المدينة، و من تدمر الي غوطة الشام. قال الامام: - أرجو يا حسين أن تكون قد غسلت روحك من وطأة الحزن علي شهزنان... لقد أعاض الله عليك بهذا الغلام الذي سيستمر به مشدودا حبل الامامة - انها وصية جدك الكبير يا ابني، [ صفحه 77] فكفكف حزنك بعزاء تمتد به الرسالة فاعلة في الأمة التي هي أمة جدك و أمتنا سواء بسواء! و كأنه أتي من مجال بعيد، أجاب الحسين: - بالتمام كما قلت يا أبي - لولا رسالة جدي - ملفوفة بك - لما كان لي، من وجودي، شي‌ء أحزن به أو أحزن عليه. اني الآن أصبحت أدرك أن خلو الأمة منا هو كخلو السراج من الفتيلة، هكذا أراد جدي أن تكون فتيلة السراج، و من دون الفتيلة لا ضوء و لا سبيل انارة، فسبحانه تعالي يتعهد خلقه بالدراية، يزرع الرسالة فينا لنكون - بدورنا - قبسا ننقل العلم، و الحق، و نستمر بنقل الهداية. الامام: أصبت يا ولدي... ان الزيت في السراج هو مخزون الرسالة، أم الامامة فهي التمرس الذكي، و المران المتنسك - فاذا فقدتنا الأمة، فمن يكون البديل الأصيل؟ هذا أنا في حرصي علي سلامتكما، يا ابني الحسن، و يا نجيي الحسين، فاذا أضيعكما في زحمة الأحداث... فمن أين أتمكن من أن آتي بمثلكما؟ و أنتما المزروعان في بال جدكما [ صفحه 78] و هو غائص في سجوده في غار حراء: أنتما نزول السماء في جنانه، و مهبط الوحي في وجدانه - لقد وصلكما بالرسالة بخيط امامة لا تشرب الا زيت السراج. لقد غرق الامام - فعلا - في ذهول و هو يتلفظ بهذا الكلام الذي ابتدأه عاليا، ثم راح يتدرج به الي خفوت ملحوظ، كأنه يريد أن يسكبه سكبا في أذن هذا الصغير المالي‌ء الآن حضنه. لقد لحظ انه يغفو تحت وطأة الكلام، و عندما سكت الامام، فتح الطفل عينيه كأنه يطلب المزيد... اما المزيد فانه جاء من الحسن و هو يقول: - ما أكبرك صادقا - أبدا - يا أبي! اني أتذكرك و أنت خارج من معركة الصلح في صفين، اثر عملية رفع المصاحف كنت أنت المريد الأول و الأحزم في خوض المعركة حتي النصر، و لكن أغلبية الناس ما طاوعوك، لقد أرادوا الصلح بحجة حقن الدم... فتهيبت أنت الموقف، و صمت... ثم رضخت... و أدركت أنا سر صمتك آنذاك، و معني رضوخك... لقد أدركت معك، أن النصر في الساحة قد ايتعد - و ان الانكساف كله سيتناولنا جميعا اذا استمررنا في العراك بقوة أصبحت هزيلة بعد أن فرط تلثيها التقاعس، [ صفحه 79] و الجبن، و عدم التبصر!!! ألا تسمح لي يا أبي أن أحيي الآن الحوار الذي دار أمامنا بينك و بين عبدالله بن وديعة الأنصاري؟ لقد قلت له في تلك اللحظة: - «ما يقول الناس في أمرنا عن صفين؟» - فأجابك: «منهم الكاره له، و منهم المعجب به». فشددت عليه السؤال بوجه آخر: - «ما قول ذوي الرأي؟»، فتحفظ و أجاب: - «انهم يقولون: - ان عليا كان له جمع عظيم ففرقه، و كان له حصن حصين فهدمه... فحتي متي يبني ما هدم؟ و يجمع ما فرق؟ - فلو انه كان مضي بمن أطاعه - اذ عصاه من عصاه - فقاتل حتي يظفر أو يهلك، اذا - كان ذلك هو الصواب!!» - و كان جوابك مقهورا و أنت تتمتم به: - «ما غبي ذلك عن رأيي، يا عبدالله، يا زينة الأنصار،... و لقد هممت بالاقدام علي الموت». فنظرت الي هذين الشاخصين الآن، امامك، - الحسن و الحسين - فعلمت أنهما - ان هلكا - انقطع نسل محمد... فكرهت و أشفقت علي هذين أن يهلكا... ما انتهي الحسن من تعليقه، حتي وجد أباه قد انكب يقبل [ صفحه 80] الطفل بين يديه، ثم يدعو أمه غزالة حتي تقترب و تأخذه، فانه قد لاشاه النعاس. فهرولت بسرعة، و تناولت الطفل، و الامام يقول لها: - أنت مرضعة امام يا غزالة. فطوباك من أم‌عظيمة كحليمة السعدية، لقد لحمت شهزنان صدرها بصدرك، ستكونين معها - كمريم أم‌عيسي - و ستأكلان اثنتاكما من ذات الرطب. و انسحبت غزالة، و غمر من جمال يسربلها و هي تقطع الباب الي باب الخباء. ما طال الصمت أكثر من دقيقتين، حتي قطعه الحسين بالاستفهام: - و الي متي يا أبي سيبقي معاوية متماديا في تقطيع الأوصال؟ بالأمس، و نحن قادمون الي الكوفة، علمنا في «واقصة» بحملة ابن مسعدة التي وجهها معاوية نحو تيماء، و علمنا أيضا بحملة الضحاك بن قيس التي وجهها أيضا معاوية قصد تشويش الخطوط من «واقصة» حتي الحجاز! و لقد تمكن المسيب بن نجبة و حجر بن عدي، من دحر الاثنين و ارجاعهما الي تدمر و الشام، فهل سنبقي هكذا، مشغولين بمعاوية من دون أن تتخلص من كفره و نكرانه؟! [ صفحه 81] و انتفض الامام قليلا و أخذ الحديث: - اسمعني يا حسين و صدقني في كل ما أعني و أقول: انهم دائما بنو حرب، كأنهم الأسافين المدقوقة في حجارات الأساس، يخلخلون المداميك و يزعزعون البناء! و انها الأمة أيضا في جدية التخصيص... انها بحاجة الي تركيز يثبتها في الحق، و يعلمها الغوص في مدارج النفس، حتي يتمكن منها الصواب، و الفهم، و الادراك... انها الأمة الأصيلة... فليكن لنا أن نقر لها بالأصالة، و لكن العياء الطويل قد نكبها عن حقيقة البناء، و حرمها نعمة العلم، و أوقعها في غباء كثيف تلبسته في قبليات لها شردت بها عن حقيقة جوهر الانسان، اذ جعلت الفرد في القبيلة رقما عدديا لا اسم له في معرض التعريف، و لا قيمة يزدان بها في لقطة الميزان... ان الفرد - و الحالة هذه - هو في عداد الحيوان، و ليس في مصاف الانسان. ذلك هو واقع الأمة بين أيدي مشايخ القبائل، جاءتها الرسالة لتستعيدها انسانا يكون له اسم بحد ذاته، و له حد كريم، و له نفس عزيزة... جاءتها الرسالة لترفعها قيمة عددية [ صفحه 82] من الفين - فلنفرض - في عدد أشياخ القبائل، الي ملايين لا اسم لكل واحد منهم معرف عن الذات، كأنهم من ضمن اعداد السوائم!!! - تلك هي الرسالة - يا ابني يا حسين - جاءت تجلو هذه الأمة التي كانت تعبر «واقصة» منذ زمن سحيق، و لا تزال تعبرها حتي اليوم: الي الكوفة، و البصرة، و أرض صفين - و الي تدمر، و الشام، و الغوطة، و مرابع فلسطين... لقد جاءت الرسالة تجلو هذه الأمة، بأنسانها القديم و أنسانها الجديد - بأنسانها العابر «واقصة»، و أنسانها العابر وادي السراحين،... انه أنسانها المتفرع عنها منذ عشرات آلاف السنين، و انه أنسانها الذي لا ينسي جذوره، و لو بعد عشرات آلاف السنين... لقد تعقبته الرسالة من حيث امتد الي حيث اشتد - تعقبته حتي تبنيه انسانا عزيزا، لا ينسي آباءه، و يستمر في أبنائه، و يعيش باحترام الجدود. و هان نحن الآن - يا ابني - أولياء الرسالة تنشر عزا و حقا، توقظ بهما أمة وسعها المجد فوق الأرض، لنعيد اليها مجدا ضيعته في سري الليل العتيق... اما معاوية السفياني المستنجد بقبليات قتلت فينا قيمة الانسان بين [ صفحه 83] أحضان المشايخ، فاننا لم نتخلص من سفيانيته بعد، حتي تستقيم خطواتنا فوق المعابر. انه لي أن أكمل السير، و انه لك يا ابني يا حسن - أن تتابع مثلي السير. و سيكون لك يا حسين أن تشرب أيضا كأس الخل عندما يأتي دورك - و أنت تبعث رسالة جدك في النفوس حتي تستقيم النفوس و تعي وجودها في حقيقة الانسان... يا لجدك الذي يبعث الحياة في الأمة حتي يحيا هو فيها، و حتي نحيا نحن فيها، فلا هو يموت، و لا نحن نموت. [ صفحه 85]

نبذات

ابن‌ملجم

لا يزال اسم هذا الحقير يقفز الي البال كلما مر بالخاطر اسم الامام علي، و لو بعد تصرم أربعة عشر قرنا من قرون السنين... أيكون للاسمين - هكذا - أن يعيشا متلازمين في ذمة التاريخ: واحد تتمجد به قيمة الانسان، و آخر تتلطخ به قيمة الانسان... أم أن الخديعة التي نقع فيها هي - دائما - في اننا اذ نسمع خببا، نذكر حافر الحصان قبل أن نتمثل طلة الحصان... لعمري، ان الحافر، و لو كان من الحصان في عزم الحصان، هو غير العز الذي يتلقاك به صدر الحصان... تماما، كابن ملجم - في اسم انسان - يضرب حافره في صدره الامام!!! يا لذل المسافات، بين انسان و انسان، كذلها بالتمام بين حافر و حصان... و ضرب ابن‌ملجم حافره في صدر الامام و دحرجه صريعا فوق التراب، تماما و هو متصل بربه في باحة المسجد!!! يا له من بطل نجي الرسالة من كفر الامام، و عقل الامام، و مسافات الامام!!! [ صفحه 86] كأن الجزيرة كلها كانت في عناية ابن‌ملجم يفتش عن كل موبقة فيها، ليخلصها منها، و يبنيها من جديد بناء صحيحا... هكذا قالت له الحبيبة القطماء، و اسمها قطام... أغرته بالحب، و منته بالوعد، و بشرته بالجنة ان أقدم و أراح الكل من... يا للمرأة الباهرة التي خلصها الحب العفيف من الوأد الكافر، و صاغ لها قدمين جميلتين تمشي بهما فوق الرمال.

و الأمة؟

لقد وصفها لنا الامام - منذ لحظات - بانها أصيلة، و لكنها تعبت من حمل أصالتها فوق أكتافها و هي تعبر - علي مدي آلاف السنين - فيافي الرمال و حرائق الحرات... و لقد اجتازت، بقوافلها المزدحمة فوق الخطوط، كل المعابر المغبرة بالسراب و الهجير، و ألقت رحالها في واحات اليمين، و في واحات الشمال، و في الواحات النابتة من تحت المجاذيف، فاسترجعت - حيث حط بها الحنين - نشاطا من عزمها الدفين، و راحت تبني ذاتها، حيث حلت، من دون أن تنفض عن قدميها غبار ماضيها القديم!!! لقد جاءت قبائل قبائل، و عاشت فوق الأرض قبائل قبائل، من دون أن تدري أن الالتحام الصحيح بالأرض يجعلها قبيلة واحدة مزروعة بعصبية واحدة تمتنها وحدة الأرض و لا يفتتها تعداد القبائل. انها الأمة الحاملة تفتيشها فوق الأصقاع، و هي التي جاءتها [ صفحه 87] الرسالة تعلمها توحيد الله بتوحيد ذاتها و تنظيفها من مرض القبلية المفرطة في توزيع الولاء. ان للأمة الموحدة أرضا واحدة تجمعها لولاء واحد نابع من مصلحة جامعة، تلحمها مثل واحدة كريمة تبنيها - وحدها - بلا شرك يفسد الايمان بالجوهر الفرد. فلتتعزز الأمة بقوله الكريم: - «ولتكن منكم أمة يدعون الي الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون» (سورة آل عمران، الآية. 109) - «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله» (سورة آل عمران، الآية. 109) - «لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه...» (سورة الحج، الآية. 66) - «فأرسلنا فيهم رسولا منهم...» (سورة المؤمنون، الآية. 31) - «و ان هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون» (سورة المؤمنون، الآية. 51) - «و كذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر أم القري و من حولها...» (سورة الشوري، الآية. 6) [ صفحه 88] - «انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» (سورة الزخرف، الآية. 2) - «بل قالوا انا وجدنا آباءنا علي أمة واحدة و انا علي آثارهم مهتدون» (سورة الزخرف، الآية. 21) هذا ما قدمه النبي العظيم لهذه الأمة، و هو واحد منها في تسلسل التاريخ، و لقد تقبلت هذه الأمة دستوره الحياتي الجديد، و راحت تتوحد و تتجدد به، و ذلك هو كل ما اقتنع به الامام علي، و كل ما انتدب نفسه لترسيخه، حتي تتمكن الأمة من لم شعثها و استرجاع أصالتها، و نبذ قبلياتها الي قبيلة واحدة مؤمنة بالوحدة العظيمة التي هي منية الرسول، و منية البيت الذي هو بيت الرسول، و بيت الامامة، و بيت المجتمع في آن واحد.

و القبلية؟

ان القبلية - وحدها - هي التي قتلت الامام! ليس لانه عبقري يندر أن يأتي بمثله نسل الانسان، بل لانه - بالاضافة - طالبي سيحصر الامامة و السياسة في صلبه، من دون أن يدعها - تحلم بهما - كل قبيلة من مجموع القبائل الأخري التي تتبعثر بها الحرات، و الأحقاف، و الأرباع الزاحفة الي الخلاء من كل تحقيق يتمناه حضور الانسان! انه الظن الأثيم الغارق في الجهل، و البعيد [ صفحه 89] عن أي مضمار!!! فالطالبية - في منطوق الرسالة التي حظيت بها أقحاف الجزيرة، و حراتها، و ربعها الخالي علي السواء - انما هي حصة الأرض الباقية لها من واحاتها المقدسة، و هي الآن، من حضن الرسالة، طلقة رائعة أرفع من قبلية، و أبعد من طائفية، و هي - بذات الوقت - عصبية كثيرة الالحاح علي صهر القبائل كلها في الوحدة الممتازة الصائنة الأمة من أي انفراط. ذلك ما وعاه الامام من طالبيته التي نبذها و اعتصم بها امامية - رسالية - توحيدية، تغطي الأرض كلها التي وطئتها الجزيرة و هي تفتش عن أودها منذ عشرات آلاف السنين. انه لم ير الرسالة وحدها في الضمانة الرائعة المحققة أمة تنسي قبلياتها، و تعتصم بوحدتها الأرضية المفعمة: بالخير، و الحق، و العدل، و التقوي، و كل معاطف العلم، و الفهم، و الادراك، ليكون لها انسان نظيف مقتنع بالمنطق، و مؤمن بأن الأمة كلها هي الحوض الوحيد الباني جنة الانسان، و الصائن قيمة الانسان. ان الانسان هذا المبني بالفهم، و الوعي، و الصدق، و الادراك، هو مطلب الامام، يبنيه، صرفا - بالتقوي و العفاف، حتي ينجي الأمة من أي لص - كابن ملجم - و من أي حاكم - كمعاوية - يحتال علي القبائل - باسم الرسالة - حتي تملأ خزائنه - من عرقها - بسبائك الذهب، يرقص بها فوق الجماجم، ابنه الخليع يزيد!!! [ صفحه 90] و لكن القبلية - بقيادة من حركها منذ ثلاثة عقود - تشددت الآن بابن ملجم، انعشت معاوية، و طرحت عليا الي الأرض، ليكون للحسن أن يتحمل أعباء الجريمة بمحاولة جديدة انتقلت اليه، و هي من جوهر المهمة الملقاة - أصلا - علي عواتق الأئمة.

و الامام الصغير علي؟

و الامام الصغير علي، و عمره الآن أكثر من ثلاث سنين - ما حاله و قد خسر جده؟!! و هو له أكثر من جد، و أكثر من صديق،... انه بالنسبة اليه: أمرح ذراعين، و أطيب شفتين، و أعذب عينين... انه حضن، و انه غنج، و انه رقص علي الكتفين... مع الصباح يراه، و يعلو صدره، و يعلو كتفيه... و مع المساء يدغدغه، و يحفر اذنه بأصبعه و يغفو علي زنديه... كأنه وحده هو المناديه، و كأنه وحده المعلمه مد النداء... انه الآن يصوغ الجمل علي هواه فيقول: - جاء جدي، فأين أنت يا حسين... افتح الباب... جدي في الباب... و علي أمه غزالة ينط نطة السنجاب... انه يطرحها أرضا و هو يقفز من باب و يتلطي خلف باب... ثم يدنو منها، يعتلي ظهرها و يثغثغ: - لما أقول لك قومي قومي يا أم‌علي، و اذا [ صفحه 91] ما قلت لك قومي - خليك في بطن الدار. انها كلها جمله التي أصبح ينتقيها علي ذوقه و يلحنها علي موسيقاه. فكيف سيكون له أن يلحن؟ و قد خلت الدار من جده المختار!!! انه المدهش هذا الفتي الصغير، بعينيه الذابلتين، و جبينه النضير. لقد تقبل صرعة جده بذهول أخرس، غلفه بتأمل غزير، لا يعرف من أي مدي هو المسحوب... لقد رأي جده محمولا علي الزنود، عندما دخلوا به و ألقوه علي فراشه، و هو مضرج بالدم، فوقف تجاهه يتأمله بعينين مشدوهتين، يطوف فيهما سؤال عجيب وجيع - معناه: - ما هذا الذي حصل؟!! و لقد لمحه جده و هو فوق فراشه صريع، و لكنه بجبروته و ايمانه منيع رفيع، فاشتد نحو فتاه و ناداه، فانكب الولد صريعا يغمر قدميه، و ينزف دما من مقلتيه، و تعبا، و هلعا، و ارتعاشا من رئتيه!!! فلملمه الجبار الممزوق الضلع بضربة السيف، و الي صدره لفلفه بعشر قبل حمر - و هو يقول: - لا تخف يا ابني العظيم! سيكون لي أن أنقل خطواتي الي فوق، أيناديني جدك الأعلي اليه، و لا أرحل؟ [ صفحه 92] ان الجنان لنا يا ابني النجيب، فابكني قليلا، قليلا و لا تكثر... ثم فليضحك بك الحق الذي ينمو فيك، و بك سيتفسر... و عندئذ - فأنا ملفوف بقميصك، حي في عينيك، بليغ في لسانك و في شفتيك... أيجوز أن تحزن علي، و أنا فيك - هكذا - حي؟!! منذ أن أغمض الامام عينيه - و خشوع فريد يلون عيني علي الصغير، بمسحوق لا هو من الحزن - و لا هو من التصبر، بل هو من التأمل الغائص في واحات الذات - و هو الذي ستولد منه حقيقة التبصر، و حقيقة الرضوان. [ صفحه 93]

الامام الحسن

انه عميد البيت، و عماد الامامة. ان القاعة ذاتها، كان يتصدرها الامام علي منذ عشرة أيام، يتصدرها الآن الامام الحسن... انها حزينة كما يبدو علي الوجوه، و علي الجو، و علي الحيطان!!! و لكن الرهبة ذاتها التي كانت في كل حين تسيطر علي المكان، انما هي التي تستمر في اشاعة ذاتها علي المكان، فالامام علي - و ان يكن قد غادر و تخطي الزمان - انما هو قيمة يتلبسها اسمه، و تتجوهر به حروف الحدثان... فلينله ابن‌ملجم، و ليتكايد عليه ابن‌سفيان... فانه يحول و لا يزول - انما الجوهر هو في ما هو العطر، لا في ما هي طينة الأبدان، و الصدق و الحق هما جوهر الروح في الانسان، و هما خلود في مجتمع الانسان. و انعقدت - مع الصباح الباكر - جلسة بين الحسن و الحسين، للتداول في الشؤون الملحة التي تعاني منها الأمة في ظرفها العصيب. ان معاوية - كما قال الامام للحسين، اثر وصوله من المدينة الي الكوفة، و لقد سمعنا نحن القول: «انهم دائما بنو حرب، كأنهم الأسافين المدقوقة في حجارات الأساس، [ صفحه 94] يخلخلون المداميك، و يزعزون البناء - انما معاوية بن حرب كان موضوع البحث بين الأخوين، و كان محصورا في كيف يمكن اتقاء الرجل، بعد أن قويت شوكته و استفحل أمره؟! و لقد توقف البحث علي خطين: اما معالجة الأمور في الوقت الحاضر بالمهادنات - و اما الالتجاء الي الحرب، انطلاقا من «واقصة» حتي تدمر و الشام... ان القضاء علي الرجل هو المريح الأمة كلها و الموحدها في خطها الأصيل!!! لم يكن قد جال البحث في مجمل مضامينه، حتي شق الباب الفتي علي و دخل... و ما أن لمح أباه و عمه جالسين في مكان جده، حتي درج متينا نحوهما، و من دون أي تردد تناول حضن عمه الحسن، و جلس فيه، كأنه حضن جده - بالذات - لم يزل حيا... خشع الرجلان للبادرة النقية، و تناولاه - اثناهما - بضمة معبرة عن شوق حميم: زرع الجد في الحفيد، و أحيا الحفيد في الجد!!! يا للجمال الناتج من ذاته كم انه رائع متسلسل العطر في مسلسل فوح الزهر!!! أطلت الأم غزالة علي الباب تفتش عن غلامها الشارد منها... فتبسم لها الثلاثة بسمة واحدة و بمعني واحد، جعلتها مغتبطة - تقفل الباب و تذهب. أما الحديث فكان حوارا بين الأخوين، و كان صمتا مدهشا [ صفحه 95] علي وجه الغلام، كأن عينيه آلة تسجيل أبلغ ما ينحفر فيها مدي الصوت في ارتعاشاته و اعتلاجاته، لا في تأوداته و اهتياجاته، كأن المعاني لا المباني هي الولوج المقدس الي قرارات النفس - تدركها بالعين و لا تأخذها بالاذن - و لا تنالها في قرعات النداء، بل تستعذبها من رجعات الصدي. لقد كانت هكذا حال الفتي - و هو في أربع من عمره - يختزن الظنون من تحت المتون، و يكتشف روعة الأبعاد من عيون المشرفين عليها، و يعرف لون العطش من العطاش يفتشون عن ماء!!!. أليست هكذا - مبنية - نفوس المشتاقين، و أرواح الملهمين، و عدسات عيون الرائين و المبصرين!!! و تبسط الحديث عن ماهية المهادنات - قال الامام الحسن، و الفتي في حضنه يرافق مجال شفتيه: - لما كنا - بحاجة الي انشاء مهادنات توقف الحرب، و تحقن الدم، و تنجينا من هدر يطالنا في جميع طاقاتنا الروحية و المادية علي السواء... عشر سنوات - فقط - كانت كافية لنا في مجال التحمل، ركز فيها جدنا الرسول هذه الأمة، و ضبط كل شؤونها في الجمع و التوحيد، ثم فرض عليها هدنة - لماذا لا نقول: أبدية... تبني فيها كل امكاناتها العظيمة في ظل من السلم الواعي و الباني [ صفحه 96] أمجاد الأمم... لقد كانت الهدنة - تحت عينيه - هي المحققة راحة الأمة، و السائرة بها من تركيز الي تركيز، و من تسديد الي تشديد، و من مران الي ترسيخ، و من عدد فارغ القيمة، الي جعبة ملأي بالقيم، أي من قبائل بلا عد، يضج به الغزو و التشريد، الي وحدة تجمعها الرسالة في الحق و التوحيد... ان الترسيخ - وحده - كان الضامن الأكبر و الصريح، و كان الوقت يمشي و يطول، هو المرسخ المبعد الأمة عن الانفراط، و المشفيها من ماضيها المريض، و المنسيها شقاشقها التي كانت تنسبها الي البعران أكثر مما كانت تنسبها الي الانسان! قال الحسن ذلك و توقف به حزن أسود، امتدت عدوته الي وجه الحسين، فتململ في مكانه و هو يقول: - هل آخذ عنك شقا من الحديث حتي ترتاح يا أخي الامام؟ و أجابه الحسن: - و هل أحد غيرك يكمل دوري يا حسين؟ و هذا الفتي المصغي الي، أليس له أيضا أن يصغي اليك؟ فيما كان الحسين في بهاء استعداده لتكميل الحديث، كان [ صفحه 97] علي الصغير يقفز من حجر الي حجر، يغمر عنق أبيه و يستقر: الحسين: لو أن زعماء القبائل - و قد قبلوا رسالة جدي و تمنطقوا بقوة هديه - دغموا الرسالة بالوصية، و مشوا قدما في التسديد و الترسيخ و التشديد، لكانت الهدنة تلك بقيت كما قلت يا أخي، فاعلة فعلها الرشيد... لكان أبي السائس السديد، لكان - هو ذاته - الطويل العمر، و السائر بنا نحو محطات البهاء و الرخاء... لكانت الأمة - فعلا - تتمتع بهدنة مجيدة، يأخذ الدهر منها صوابية الترسيخ، و يتعلم منها التاريخ كيف تكون روعة التاريخ!!! و لكن الزعماء - من حيث لم يدروا، لنكد الحظ - مرغوا نفوسهم، و مرغونا بالفشل الطويل الأصفر!!! هكذا نزل الحزن و الأسي من بين سفتي الحسين، بعد أن انسابت دمعة حمراء من عينه، حطت علي ثغر الفتي - فاحترقت بها شفتاه، و اتقدت بها عيناه، فغطي عينيه براحتيه الصغيرتين، و هو يخنق نشيجا تعبأ به صدره النحيل! بعد دقيقة من قوت مذهول، غمر الحسين ابنه الصغير، و أقعده وحده علي المقعد و هو يقول له: - اجلس رجلا، و لا تخف يا ابني - نحن لا [ صفحه 98] نريد أن نعلمك الفرح قبل أن ننشر أمامك مناديل الحزن... ساعتئذ تقدر أنت أن تعري الحزن من مناديله و تتركه قبيحا أجرب!!! فتبسم الفتي و هو يقول بلهجته الذكية: - الحزن هو الأجرب... اما الحسين فانه استقام في مقعده - بالقرب من ولده - منتظرا اكمال الحديث المطروح علي بساط البحث - اما الامام الحسن فأكمل: - منذ أن تولي الحكم سيد الأئمة، و هو يعالج الناس بعزم مهدور بين حروب داخلية، و مهادنات جانبية... لا الحروب أدت فعلها المطلوب، و لا كان للمهادنات غير قيمة محدودة! ليس للحرب أن تسكت الا بعد أن تسكت الخصم! و ليس للهدنة أن تطيب الا اذا فرضها التعادل بين قوتين، لتكون حكما يفرض علي الاثنين سلما بسلمين. القوة تفرض الحرب - أكانت علي حق أم كانت علي باطل! و الضعف في أغلب الأحيان - يطلب الهدنة - و لو كان معه كل الحق. أما المقاومة فهي - بين المطلبين - لا حرب و لا هدنة، بل هي مهادنة ذكية، تتحايل علي القوة، علها - مع الوقت - تضنيها و تأخذ عليها المبادرات... [ صفحه 99] - ذلك هو شأننا مع معاوية، منذ أن تحكمت برقابنا أدران الخطيئة، فحرمنا - أغبياء الزعامة فينا - من نعمة هدنة صحيحة فرضت لتنجينا من حروب التدمير، و لتقينا من مقاومات فيها من البؤس، و الجبن، و التحايل الكثير الكثير!!! لقد زرعوا معاوية في الشام - منذ أربعين سنة زرعوه - فبعثرونا شظايا شظايا، و طرحونا أشلاء حروب باطلة، و مهادنات كاذبة، - و مقاومات فقيرة، فيها من الحيف و التشريد ما يعمي الأمة و يضنيها!!! اذا كان هذا هو تصوير حالنا مع معاوية، فما هو رأيك يا الحسين؟ هل لنا أن ننشط للحروب؟ أم نتلهي بالمهادنات؟ أم نكتفي بمقاومات نتعلل بها الي يوم حريز؟!! ما تفشت علي وجه الحسين غلالات يأس، بل انه تصلب بعزم و قال: أري التعادل موفورا بين قوتين: - و أراه معنا أكثر من تعادل - انه ترجيح: لقد أسكتنا معركة يوم الجمل، و كأننا أسكتنا معاوية... و أخرسنا جعجعة النهروان - و هذا معاوية آخر يسكت... و خضنا صفين - و لولا رفع المصاحف، اما كانت خرست صفين؟!! [ صفحه 100] الحسن: صحيح ذلك، و لكن قوة معاوية تستند الي مخزون أربعين سنة في أرض الشام الغنية و المرتاحة، أما قوتنا فهي التي أنهكها زعماؤنا التقليديون علي مدي أربعين سنة بالتمام! فجنينا هنا: الفقر و الضعف و الحرمان! و جني هو الثروات الطائلة، يخضها سيوفا في نحورنا، و معدات، و دروعا و رماحا... و يرشها شبعا علي جنوده، و رشوات يشتري بها جياعا عندنا، يقوي بهم جيشه، و قلاعه و متاريسه!!! لقد كان رفع المصاحف خدعة يصوغ منها هدنة تريح جنوده ليوم حرب ثان، يقوي فيه، و نهزل نحن!!! أنا معك في تحقيق الربح لنا يوم صفين. لو بقيت الحرب في تصعيدها المؤمن... و لكن الأمة التعبانة - لا أنت و لا أنا - هي التي ضغطت علي وقف الحصار، و قبلت بهدنة المصاحف، و لوت السيف و الرمح، و استكانت تطلب الظل!!! و الظل هارب منها منذ أن هربت عليا من الساحة الأولي، و هربت معاوية الي غوطة الشام! الحسين: أنا لا أقول عكس ما تقول يا أخي الامام - فقولك صدق و نبعة من واقع - و لكني متيم بأمة جدي، و يضنيني البؤس اذا لم يشبعها [ صفحه 101] عجين الرسالة... و عجين الرسالة بطولة في الروح، و كنوز في الأرض و في السماء، و صدق في العمل، و بركة في الانتاج... ألا يمكن أن تغتني الأمة بمثل هذه البركات، و تتمكن من ترقيق سيف و ترس و رمح؟!! الحسن: عوفيت يا أخي الحسين - ألسنا نحن من صلب جدنا العظيم، مزروعين في الأرض حتي نلملم أسقام الأمة، و ننشط الروح فيها بالصدق و الحق و العزم؟ انها مهماتنا الكبيرة. و ها اني أقول لك: لن تموت الأمة تحت غمامة سوداء - صحيح أن معاوية يضنيها، و هو اليوم متين، و لكنه لن يبقي في باطله متينا! سنصمد في وجهه بالأساليب العديدة: بالحرب اذا توفرت لنا زنود الحرب... و بالمهادنات اذا تضافرت لها الاغراءات المتلائمة مع واقع الحال... و بالمقاومات الصحيحة و المتعددة الأشكال و الألوان، كلما لزم الأمر... ألسنا دائما أولياء أمة نبتكر لها شتي الأساليب في دفع المكاره عنها، و تجميلها بالأخلاق و المثل؟! سيزول معاوية و ألف مثله، و نبقي نحن للأمة - في خط الحراسة و الصيانة - نتداولها في كل كبوة من كبواتها المتمادية، [ صفحه 102] و ستبقي هي في هالات الخلود - لأنها أمة جدنا العظيم: صونها بالحق - و صونها بالعدل - و صونها بالرشد الكريم. لقد انتشي الحسين أو فلنقل بشكل آخر: قد تعزي بهذا الكلام الذي انتهت به الجلسة، فقام مادا يده الي فتاة، قائلا له: - أرأيت يا صغيري العلي - كيف أن عمك الامام عري الحزن أمامك من سراويله السوداء؟! الحزن - دائما - هو الجربان - و قانا الله من حزن يفتل معاوية خيطانه علي مغازل الشيطان. و مشي الحسين مترنحا بحزن يوشيه صمت كئيب، و معه فتاه، فتح الباب و هو ينادي علي غزالة، كي تأتي و تأخذ الصغير ليرتاح في فراشه، و قد أنهك روحة تعب الروح. [ صفحه 103]

وقائع

- بعد ثلاثة أشهر علي وجه التقريب، كان الأخصاء في الكوفة يلتمون مودعين أهل البيت و قد عزموا علي الرحيل نحو يثرب، بعد أن استلم معاوية الكوفة التي بايعته بالخلافة. - قبل سنة من هذا الوقت جرت بين علي و معاوية مهادنة قبل بها الطرفان: لعلي العراق، و هو أميرالمؤمنين، و لمعاوية امارة الشام، و لكن أميرالمؤمنين هلك، و تم صلح بين الامام الحسن و معاوية، علي أن تكون الخلافة لمعاوية علي مدي حياته، و تعود - بعد مماته - الي الامام الحسن. - لقد أملي الحسن هذه الشروط علي معاوية، و تم القبول بها بعد أن عجم الامام عود القبائل في العراق، أكانوا مضريين، أم حميريين، أم كلبيين، أم قيسيين... لقد وجدهم جميعا في محنة من خوف و جبن: يتشجعون فيعدون، و يرهبون فيحجمون... حتي الولاء فيهم كان مضغة لا يمتنه الوعي، أكثر مما يهيجه الحقد. و الحقد - وحده - لا يبني شجاعا و لا يطيب سيفا، بل يكون - في نظر الامام - دفعا الي انتحار! ثم ان الامام لم يكن مؤمنا بحرب تدفع نصف الأمة لمناجزة [ صفحه 104] نصفها الآخر، لتنقلب الساحات كلها الي مخندقات للمقابر!!! - من أجل سلامة الأمة و صيانتها قبل الحسن بصلح لن يسترسل معاوية بالتقيد بمضامينه - لأنه داهية خداع، و أسير حقد سفياني علي مطلق طالبي، و من أشد المتهالكين علي خزن الدنيا في عبه ذهبا و مجدا و سؤددا - ولكن الوضع الراهن جعل الحسن يقبل بصلح يجمع شتات الأمة و يلحم نصفها بنصفها الآخر، ليكون التنازل عن الحكم من أجل ازدهار الأمة و لحمتها، قدوة للحاكمين الوافدين مع أي جيل من أجيالها الطالعة تخلقهم الأمة من معدنها الأصيل... لقد كان التنازل و انشاء الصلح، من أجل سلامة الأمة، و من أجل احياء القدوة، لا من أجل معاوية بالتخصيص، و لا من أجل سلامة الحسن بالتعيين. - و خطت قافلة أهل البيت من الكوفة نحو يثرب، علي المحطات ذاتها التي يغشاها كل المسافرين... منذ سنتين مشتها قافلة الحسين، و اليوم تعود القافلة بقيادة الامام الحسن الي المدينة، و معهم فتي صغير اسمه علي الأصغر، و لكنه أصبح الآن يتقن فتل الجمل، و أصبح يتألف في عينيه حزن رصين!! - و استقر الوفد كله في يثرب، في وحدة وسيعة القرار، و أنيقة المسري، و معينة الأهداف - و كان الامام الحسن القطب [ صفحه 105] الملتم اليه أهل البيت في كل شؤونهم المعيشية - الحياتية - الفكرية - الروحية، و كانت المدرسة التي أنشأها بمعاونة حبر الأمة عبدالله بن العباس، هي المنتدي الواسع الجامع كل المدينة حول امامهم الوحيد الموقد لهم شموع المحراب... - بعد ثمان أو تسع سنوات من انعقاد الصلح الأبيض، تسلل معاوية من الشام، تحت خافية غراب اسحم - عبر واقصة و محطات كل العرب... ها هو - بعد منتصف الليل - يتلوي بين الأزقة في يثرب - يقرع باب بيت الامام الحسن - تفتح له جعدة بنت الأشعث - زوجة الامام - يناولها كأسا مذهبة، فيها عسل مذوب، و فيها سم أشقر يعدها بفجر ملون و معطر... تبتسم هي له... يلتحق هو بسحمة الليل... و لكن نجمة صبح ذلك الليل اختنقت... لقد ازدردتها الجرعة!!! [ صفحه 107]

رجوع القافلة

و لكن القافلة التي أقلعت في ساعة من ساعات الليل، قد تركت الكوفة، في عملية كأنها نوع من نزوح، و مرت في «واقصة» و خطب طويلا من الصحراء، ثم حطت في مدينة يثرب. من هم الذين كانوا فيها؟ بحكم الطبع، انهم العائلة جمعاء: رجالا، و نساء، و أولادا، و أطفالا، و حراسا، و عتادا، و حاجيات، و ما اليها من مستلزمات. و لكني لم أر أحدا من ركاب القافلة، الا الصغير عليا، لأن نفسي أصبحت مقطوبة بفتي بدأ يترنح في بالي كأنه هو البيت بكل ما فيه: و هو القافلة و كأنها ما انشدت الا له، و كان الصلح الأبيض الذي مهد له جده الامام الأكبر، و أتم انجازه عمه الامام الثاني، انما هو الاطار الآخر: ظاهره الواقي لملمة أمة و صيانتها من انهدار الدم... و جوهره الخافي وقاية الامامة التي ستكون له في ما بعد حتي تبقي في حرزها الأنيق، تتعهد السهر علي الأمة، و تمدها - من مناهل الرسالة - بكل ما يجعلها أمة مؤمنة حية تجتاز المعابر المدلهمة، و تنجو من مخاطر الانفراط. [ صفحه 108] لقد بدا لي أن هذا الفتي المعدود في خط الامامة، حتي من قبل أن يولد، هو - فعلا - طاقة مميزة تشير اليها و فرة من الدلائل: ربما تكون فتحة عينيه و نوع المدي فيهما و هو طفل صغير، هي واحد من الأدلة التي تفرده عن الاطفال من عمره الذين ينظرون اليك و كأنهم لم يروك... ربما تكون خطواته الأولي التي مشاها في صحن الدار، بيدين لا تتأرجحان، و بقدمين لا تصطكان - هي أيضا دليل يفرده عن بقية الأطفال من عمره، و الذين لا يمشون الا و أيديهم تفتش في الهواء عما يتلقطون به حتي لا يسقطوا أرضا - و ربما يكون - و هو في حضن أبيه يصغي اليه يتكلم، و عمره أقل من سنتين، و يبدو غارقا في صمت و انذهال، كأنه يستوعب ما يسمع - دليل ثمين آخر، يفرده عن بقية أترابه الذين لا يسمعون كلاما منك حتي يغرقوك في ثغثغات لا هوادة فيها. و لكن ذلك و ما شابهه، قد يحسب تغنيا يتلذذ به الأهل و هم يحدثون زوارهم عن أطفالهم الأحباء... الا أن شيئا من هذا كله لم يكن في هذا الفتي أقل من ظاهرة ملفتة للنظر، تأخذها منه في تسلسل تلقائي تلمحه كلما توضحت فيه الاشارات مع سياق العمر... أن هلعه - مثلا - أمام جده الامام و هو مضرج بدمه، قد صبغ وجهه بقرمز غريب لا يفرز مثله الا وريد آخر يتمكن من استفحال المصيبة من مكامنها الأليمة، و هو يتحسس فيها الخطر الجسيم! منذ أن غاب جده من تحت ناظريه اشتعل في عينيه وجد [ صفحه 109] نحيل، راح يغطي فيه غضون الوجه و لا يمسحها الا بزهو مشلول! لا يحلو لي استباق الأحداث قبل الوصول اليها - وجها لوجه - و لكني الآن ألمح بشي - علي سبيل توضيح ما أقصد تبيانه - فأقول: من هذه الطفولة بالذات التي أصف بعض دلائلها في امامنا الكريم زين‌العابدين، تضافرت عليه في ما بعد، و هو في نضج العمر، روافدها نقشا و حفرا، فاذا هو الساجد المبدع، و المصلي الرفيع الولوع، و الزاهد الملون بخشوعه الأمثل، و الفنان الكبير في انتهاج الأدعية، و المكمل الأوحد نسيج انشاء منيع، ما تناول مثله نسيجا علي قرطاس الا جده علي في نهج‌البلاغة. نعود الآن الي نولنا الذي نحوك عليه فنقول: و لو كان عمر علي الصغير أربع سنين، عندما شاهد جده علي المحفة الخرساء، فان الذي جذبه الي جده كان من نوع اللهيب، فسبحان الله اذا كان لنا أن نسأل: ما هو لون اللهيب؟ ان لون اللهيب عجيب غريب، يحفر ذاته في السليقة من دون أن تدري السليقة كيف انشوي فيها الحفر السكيب... من هنا كانت الدلائل التي و صفتها فيه، كأنها فريدة في تكوينه النفسي الأصيل. لقد لمحتها هكذا - في ملامحها عليه - لا من قراءة الحروف، بل من التلقط بالصدي المنبعث من وهج الحروف... أنا لم أقرأ حرفا واحدا يصفه عندما اعتصم جده بالصمت البليغ و لكني رأيته بعيني الباطنية - بعد التفات الدهر [ صفحه 110] بطيات القرون - رأيته يمتص حزنا جليلا تلازم به كل السنين، أما التلازم هذا فكان في النهج، و كان في التعبير. سيكون لنا أن نري الامام زين‌العابدين صورة طبق الأصل عن الامام أميرالمؤمنين: قولا و فكرا و نهجا. لكأن حروف نهج‌البلاغة هي التي ركب منها روائعه البيانية في سجوده الأمثل. تستوقفني مليا كلمة التلازم، ففيها كثير من معاني الاحتواء الذي هو مجموعة الأهواء الفاعلة في التكوين النفسي الباني شخصية الانسان. ان تضافر الصفات الجليلة، و تفاعلها في عمق الذات، و توافرها في الاحتكاك و الاندماج هي التي يحييها الشوق، و يوحدها التلازم، فاذا هي تسلسل متتابع الدفع و بليغ الأداء... أما الصفات فهي المكتسبة، و هي التي تعلق في بطانات النفس، تنعشها و تنتعش بها في عملية التلازم و الالتصاق. و بطانات النفس انما هي قماشة مخملية الزغب، تجذب اليها ما تكتسبه عن طريق الامتصاص، لتكون كالشعيرات، تتأجج بما تمتص، فتتعافي غزاراتها لتنمو و تورف بها ظلال الفكر و واحات الروح. ان الصفات الكريمة و المتشعبة الأضلاع، هي التي تتغازر في تناسقها، و تتمادي في التغازر حتي تشير أخيرا الي لون كل عبقرية تبرز في مجتمع الانسان. أما زرع الصفات في النفس، فالمتكفل بها هو المجتمع بالذات يزرعها في الناس و هم في بطون أمهاتهم أجنة. و يكون [ صفحه 111] الزرع أجني و أوفي و أصدق، كلما عاد عمر المجتمع الواعي الي الوراء آلاف السنين... أليست هكذا تتفسر معاني الأصالة و العراقة في مجتمعات الانسان؟ لطوية النفس آثار و أسرار، تبوح بها السمات في الوجه و العين - من هنا كان التجاذب بين الامام علي الكبير، و الامام علي الصغير، مضفيا علي الاثنين قابلية من وحدة المصدر، تلقط بها الطفل محمومة بذاتها من دون أي وسيط. و خط الامامة هو المصدر الموحد، لأنه من نوع التلازم و الالتزام - ان فيه البليغ من الايحاءات الفاعلة من لوحات الطوية التي هي خزان الاحتواء - تأخذ منه العين، و كل خلجة من خلجات النفس، صباغها الزاهي و مداها المميز. تلك هي المعجزة التي اجترحها النبي الكريم في حفر الامامة و انزالها في النفس طوقا و وشما، حتي تكون الامامة - بحد ذاتها - اطارا سنيا لاحتواء رسالة يخلد بها مجتمع الانسان - لقد أناط حراسة الرسالة و صيانتها بالامامة، بعد أن نزه هذه الامامة و وشاها بخزانات العلم و الادراك، و بعد أن جعلها تخصيصا، و ألزمها بكل أناقات الروح، و بعد أن عينها خطا منسولا - اماما من امام - في سجل رسالي يضي‌ء ذاته بذاته، لأنه موحد الدفة و موحد القرآن، و هكذا لا يمر قرن من السنين أو قرنان، الا و الأمة في حد مكين، يجمعها الترسيخ و الاستقرار، و ينورها هدي الرسالة، [ صفحه 112] و يثبتها الحق الرفيع. فلتفعل التأثيرات النفسية فعلها المباشر علي الامام الصغير، و ليمغنطها خط الامامة من ذاتها في ذاتها، بالتناغم الحي، و ليكن ذلك فيه نتيجة ايحائية تجاوبية بني بها منذ أن استمدت - من باعثها - و حيا فاعلا في الرقعة النفسية المعهودة في الامام علي، في تنقل منبثق عنه، الي صلب منه موصول به، و منوه عنه في التدرج و التعيين... فالرسالة ما تركت من بالها - أبدا - تنسيق خطواتها فوق الدروب. لقد كان التنظيم المسبق من ضمن تعهدها في ضبط أسماء الأولياء الذين سيكون عليهم في الغد الآتي توجيه السفينة فوق أمواج العباب. تلك هي الامامة في مرماها البعيد. انها احتياط الرسالة في تنجيتها أمة من التخبط و التشويش، ما صانها منهما بعد وعي منظم، و هذا قول معاد و مكرر: لو أن الأمة تمكنت منها حقيقة الرؤيا يوم اجتماع السقيفة، لكان لها حتي اليوم حصاد ثمين... و انطوي الامام علي في دثار من كفن، و انصبغ وجه الامام الطفل بكآبة ملفوفة بفرح مكتوم، ثم استفاقت به اشراقة ملحوظة استجم بها في حضن عمه الامام الحسن، كأن الخيط ما انقطع، و كأن التناوب الباقي هو الوصل المؤمم. و سارت القافلة من الكوفة الي يثرب، و هي تمضغ خذلانا محفوفا بخذلان! انها الأمة العريانة، رقعت ثوبها الممزق، [ صفحه 113] و استكانت في حفر الظل!! لقد اشتروا لها صلحا أعور، درأوا به لحمها و عظمها و دمها: علها تسترد جأشها المهدور في ذل الحفر!!! كل ذلك كان في لون وجوه الراجعين، و لقد انعكس - هو ذاته - في وجه الصغير الذائب في قلب الحاشية... لقد كان الحديث كله تحليلا و تعليلا لواقع مقيد بتصرف لا مندوحة عنه... عسي الأمة - و لو بعد حين - هي المتمكنة من وعي يصحح لها وحدتها في حقيقة الالتزام. ان القافلة الآن، تستقبلها عناصر الأنصار في مدينة يثرب. [ صفحه 115]

يثرب

و يثرب؟ انها المدينة المنورة، لقد ولد فيها من أضاءها بشمس خلدتها بالأشعة. يا للولادات البهية، تفرك التراب و تعجنه باكسير النور، فاذا هو حياة يشع بالجمال حتي لا تنطفي شمسه... انها يثرب، أي شأن يكون لها - بأزقتها الفقيرة، و يبوتها المضروبة من لبن الطين -! لو لم يولد من طينها نبي خفقت به شمس لا تغيب؟! الي يثرب هذه عادت قافلة الحسن و الحسين، و علي الصغير، لأنها مهبط رؤوسهم، و مهبط رأس من نورها، و بني فيها مسجدا من شمس، و ثوي فيها حتي تبقي حية بخلوده. و يثرب - حتي ولادة الرسالة - كانت أزقة متداعية، و بيوتا من طين، ستذيبها الشمس علي مهل، و تطمرها سافيات الريح!!! و لكن الرسالة التي لملمتها الهجرة، و صاغت لها رقما حسابيا زاهيا في صفحة التاريخ، هي التي جعلتها مدينة مرسخة الجذور، لا تقوي علي محوها عاديات الزمان، و كفكفتها بعزم روحي مشتق من صلابة الانصار، عاشت به حمية الرسالة و شعت، لتبقي يثرب [ صفحه 116] منورة بالوهج السني، من دون أن ينطفي‌ء لها ذكر، حتي ولو ذابت حجارة و طينا من علي صفحات الرمال. و راحت الدار المرصوصة بعضها الي بعض في وحدة الحيطان، تنشق أبوابها لاستقبال الوافدين و المرحبين بعودة أهل البيت. بالأمس تركهم الصغير علي، و قدماه فوق الأرض شحيحة الوطء و خفيفة الزيغان، أما اليوم فانه الراجع بعدو رشيق، لا يعدله الا توازن يصنفه بمجال لا دعابة فيه. لقد كان يعين - هو - مجلسه بين أبيه الحسين و عمه الامام، يصغي مليا، و اذا وجهت اليه كلمات أجاب عليها برصانة و احتشام. انها فترات - أظنها رسخته في الاصغاء الوسيع - راحت تطل به علي فهم رزين، انما يحتاجه ذوو العقول المتينة في غوصهم الي أعماق الذات و لب القضايا، و تنبههم الي أي مجال تتمسح به شفافية الروح في الانسان. و هكذا يدخل العلم الي آفاق الفكر، و تغتني النفس من رواق المعرفة. اني علي شبه يقين من أن الثماني أو التسع سنين التي قضاها الفتي في يثرب مع عمه الامام هي التي حفرته بأبجدية الحرف، و علمته قراءة الجمل و أناقة التعبير، و هي التي طيبت عليه الغوص في أبعاد النفس، و حضرته للكشف عن أسرار الغياهب. و لقد أطلعه عمه الامام علي كل رق كتب عليه جده أميرالمؤمنين كل جواهر نهج‌البلاغة، بخط الكوفي، و أبعاده [ صفحه 117] الرسالية، و تعاليمه المنظفة بالعدل، و الحق، و أطياب السلوك... لقد كان - بين يديه - كالعجينة في راحة العجان: تقبل العجن بكل أشواق الطحين، و تسترسل اليه كما يسترسل النور من فتحات النوافذ. و طال الامام - كما رأيناه في نبذة مرت علينا كما يمر السهم في عين الرمد - و جيف الموت اثر جرعة من عسل مسمم، قدمه معاوية بواسطة جعدة بنت الأشعث، هدية للرجل الذي اشتري سلامة الأمة و خلصها من نهش الذئاب!!! و طال الفتي - بالمقابل - و جيف آخر، عندما تفسرت له الغاز الجريمة، و تكشفت أمام عينيه مناجم الكيد و الضغينة في كبد الانسان! انها المرة الأولي يلتاع فيها لوعة مكشوفة الجوانب، يحدها عقله، و عينه، و حسه، و عمق ادراكه... و انها الاجفالة الأولي تنط به الي صدر أبيه يسأله كيف تكون الرزية!!! و لكن حزن أبيه و لوعته المجنونة، كشفا له عمق الهاوية المحفورة تحت أقدام الطالبيين!!! و انكفأ الفتي الي ذاته يتذكر... لقد فهم الآن ما معني ابن‌ملجم، و في يده دسة الخنجر!!! و أدرك عمق المأساة، و فظاعتها: في كيفية اتقان مزج السم في لعقة السكر!!! لقد مسه تأوه السؤال: [ صفحه 118] - هل هكذا يكون الانسان حبلا من حبال الشيطان؟!! و ذئبا بوجه انسان؟!! [ صفحه 119]

الحزن يلون الصور

ان لي الآن مركبة مشدودة من خيوط الزمان، لا تدفعني الي الأمام ألف سنة، بل تحملني الي الوراء أربعة عشر قرنا و هي تبللني بحنين مزروع في حزن النفس تنوء به معي محارم الكعبة و أطلال يثرب. كأني أراها - مدينة يثرب - بعدسة عيني، تغرق في أساها - كأني أتنادي الي كل المشارف فيها، و لكني لا أري الا بعضا من مدارجها، من دون أم أتمكن من تعيين و جهاتها بالنسبة الي مشرق الشمس أو مغربها، كأن المكان ظل من زمان، لا حجارة من مقلع أو وجبة من طين. و هكذا حرت أزور غار حراء في لحف كريم البزوغ في مدينة مكة، تلتمع في سقفه نجمة قطب، و ادخل بهوا مشرعا في لحف من بيوت يثرب مقهور السقوف، لا ينهض فيه الا ضريح من ورد أبيض، هو مرقد الرسول في مسالك المسجد!!! أما البقيع - في العزلة الصامتة - فهو ردهات مسلوخة من أحزان الليالي الغائرة الأقمار في أعماق اللحود!!! أنا لا أسأل القلم بين أنامل كفي كم من الوقت بقي يخط [ صفحه 120] علي القرطاس في رحلته الملتاعة و المشتاقة، و لكني لمحت في مدي غرقي، أنني صرفت معه وقتا كأنه يطول عشر سنين، و لكنه وقت غير ملحوم الثواني، لأن حزنا أخرس كان يشرد بي من مكان الي زمان، و من زمان الي مكان، و هو الذي استعذبت أن أنقع به روحي لقد علقت علي كل ذلك: صحيح أن الحزن هو العقيم الأجرب، و لكن شأبيب المعاناة، هي التي تغسل النفس بالحزن و تجلو به خبيئة الجوهر. و تتابعت علي المشاهدات: - منذ أن سكت قلب الامام الحسن، و اعصار من وجوم يقطب وجوه آل البيت، كأن الريح هي التي حفرت فوهة القبر في البقيع، كأن صدر أمه فاطمة هو الموسوع في وحدة الكفن!!! قبران في ظل واحد، جمعتهما وحدة الظل بالظل في عملية الضم!!! ما شحت زيارات الحسين لمثوي أمه و أخيه الامام - أمامه ابنه العلي الصغير، و خلفهما امرأة سمراء، يهزهزهم جميعا حزن سقيم!!! - بالقرب من محارم الكعبة في لحف الجبل السابح في غلالات من أثير تري العين الخاشعة تحت أطياف الظل، شبحا نحيلا [ صفحه 121] يصلي أمام فوهة غار - انه الفتي علي - الساجد الأول المطيل سجود الذكر و الشكر في حراء ساجد في عب كهف. مع الصبح المهل يعود الفتي الي جنب أبيه المصلي صلاة الامامة!!! - هنا في يثرب - علي بعد خطوات خافتات، و بين ظل و ظل ناطحين قبة المسجد - يغفو مقام تعلو به ذروات السحاب... انك تسمع همهمات الريح و هي تسبح العلي العظيم بلسان من صلي الله عليه و سلم!!! انه مثوي محمد، يزوره - مع الصبح و مع المساء - سيد من أسياد الجنة، موصولة به رسالة مفجورة من كوثر الحق، يربطها الوعد، و يزهيها النور، و يسمو بها نهود العنفوان!!! فلنصغ الي هزهزات يموج بها صدر الحسين: - نحن هنا، يا ابني علي - نتناوب السهر علي بوابة الدار، حتي لا يتسلل لص من يمين، أو عاهر من يسار... اننا حراس العهود - هكذا غرسنا الوعد: سماكا بعد سماك - ألا تري جدك عليا كيف انطوي خلف الحجاب! و سدده في الفي‌ء عم لك، ما استدعي حتي أجاب؟ و ها أنا - اليوم - لا [ صفحه 122] أخاف و لا أهاب!!! و ها أنت - من بعدي - مبني لمجابهة الصعاب... انها الأمة - يا ابني - نظنها بلا عمر، و لا الا لها العمر المديد: انها الجد في الابن، و انها الابن في الحفيد!!! انها الخط المتمادي في شعاب الأمس، و انها البقاء المتنامي فوق الدروب!!! انها روح الله في الانسان و سر الشمس يطويها الغروب... ثم تسترجعها و مضة الصبح كأنها ما غابت و لا تذوب! - جدك النبي هو العظيم، يا كل أبيك في برزة الميراث، لقد جمع للأمة كل مآتيها للغد النامي - و لولاه لكانت في مهابط الانهيار! و انهيار الأمم هو انخساف الي درجات الذل المبيد، الي فناء في جحيم الأبالسة! - ان الرسالة هي المستردة زهوات النعيم، و هي - في الموازاة النابضة - تلبي باعثها بنسبة ما تحققه هي - الأمة - من عز، و قوة، و مجد، هي كلها حقيقة وجود مجتمع الانسان!! و انها تقصفه الي خيبات الفشل، بنسبة ما تخف قابلية المجتمع في الالتزام المنيع... و الرسالة و عي، و رصف، و لمة دستور... [ صفحه 123] أما نحن - الأئمة - فاننا الملزمون - نلون بوابات السهر بما يلزمها من وعي مقيم، و الا فان الأمة هي المفككة المهدورة، و ان النبي - نبينا - هو أيضا ذلك المهدور!!! حاشا للأمة أن تضيع ما اقتنصت علي يد من لا تأتي الدهور بمثله عبر آلاف الحقب... - قدم جدك النبي للأمة شمول الدستور - فاذا هو وحدة فوق الأرض، و وحدة في عالم النور. - و قدم لها جدك الامام نزاهة العدل، و قسطاس الحق، و نقاوة الضمير... فأي شي‌ء ينقصها غير الغرف من نقاوة الوجدان؟!! - و قدم لها عمك الأمثل، أمثولة في روعة التجرد و سلامة التوحيد، حتي تكون سالمة من القهر، و من الذل، و من التشريد، فأي شي‌ء هو الأجدر لها من التفتيت و التبديد؟!! - و سانجيها أنا من ذل لم ينفعها فيه صلح كالثلج أبيض، و سأحاول أن أفديها بدمي حتي تتعلم أن ذل النفس وباء في المجتمع، يضنيه [ صفحه 124] و يلاشيه، و أن الرفض يعود فيبنيه بعنفوان يتحرر به فيحييه! - ان العنفوان الذي هو قيمة رفض المكر و الهوان، هو الذي يبني المجتمع من جديد و لو استمر الذل الي ألف ألف عام! - أما أنت يا ابني فاني أترك لك تعيين اللون الذي تحتاجه الأمة من نور هديك: و أنت روح تذب عنها حزنا لا يزال يكبه علي الأمة أفواج الزناديق!!! كأنها كانت تنهمر نبرات الحديث الشبيه بالوصية، من كوة مثقوبة في سقف ليست تحته سواتر الجدران الا أنه سقف تغلفه الريح بعجاج من غبار - عندما أطلت علي الفسحة المكشوفة، امرأة تخبي‌ء في عينيها دفقتين من عطف و حنان، و في يدها كوب تقدمت به من خلف الفتي - كأني سمعتها تقول: - لقد تأخرت يا ابني عن تناول جرعتك من الدواء، و لن تتخلص من الأسهال اذا كنت هكذا تنسي أنك به مصاب!!! لقد أصيب علي الأصغر، و عمره الآن مشرف علي ثمانية [ صفحه 125] عشرة من السنين، باسهال عنيف اثر الصدمة التي نالته من وفاة عمه الامام. لقد كانت تنتابه الأعراض فيشفي منها لفترة طويلة، ثم تعود فجأة و لا يتخلص منها الا بعد معاودته تجرع الدواء: انه تركيبة خاصة من سبع حشائش تنبتها أرض البادية، تغلي - ممزوجة - علي نار، و تبرد، و يسقي المريض من نسغها عدة أيام فيشفي. و يقال ان هذا المرض من الاسهال يكون نوعا من الحصي في المرارة أو في مجاري المثانة، و لا ينجو المريض من عوارضه المؤلمة الا بعد مداومته استعمال الدواء هذا مدة عشرين يوما بانتظام، فيشفي المصاب، و تطول أو تقصر سلامته بالنسبة الي دقة الاعتناء بنظام المشرب و المأكل، بحمايتهما من التلوث ما أمكن. كان الحسين يلقي حديثه شذرات شذرات، و هو متربع فوق أريكة بيضاء، و قبالته فتاه علي رابض علي ركبتيه مطرق في اصعاء السجود. سمه صوت أمه غزالة، فانفتل نحوها، ثم تناول الكوب فشربه جرعة واحدة، ثم مرغ وجهه بكفها و زرع عليها قبلة طويلة، أخذتها منه متهللة و سكبت روحها في الكوب و انسحبت كأنها نوع من النسيم. أما الحسين فانه تلفلف ببعض و شاحاته، ثم تناول كتفي ابنه، هزه هزتين و هو يقول: - ثلاثة أشياء - تنام في بالي - حان لك الآن أن تستوفيها مني و هي لك: [ صفحه 126] أولها السهر علي عافيتك التي هي فرض عليك لتأدية مهماتك. فأنت للامامة الموصولة بالرسالة، من أجل أداء الفريضة الموكولة بك، فلا يجوز لك اهمال الفريضة. ان الأمة في خط الامامة، هي اطار جدك في الخلود. و ثانيها - في خط التلازم و التكامل - هو ربط الارث بمقوماته المستمرة، لأن في الانقطاع و قوعا في فجوات تعرض الخط الامامي لفتاوي تتنابذ بها و فيها التآويل الصريحة و الصحيحة، لأن الامامة تعيين مسبق، شده المصدر بخيط النسل، لا من أجل نقاوة النسل، بل ابتغاء لتوحيد مصدره في تسلسله الفكري - الروحي الموصول الوجدان بالوجدان. ان الاتصال الوثيق هو الكفيل بعدم قطع الخط المناقبي المرتبط به جوهر الرسالة... ستكون الثقافة الممتنة - هكذا - بوحدة خيوطها، منال الأمة في مسيراتها المجدية علي دروب الحياة. لهذا أقول لك: مثلما أنت بالذات تكون من بعدي الامام الرابع باسم علي الأصغر، هكذا سيكون منك بالذات الامام الخامس باسم محمد الباقر - ستكون فاطمة ابنة عمك الحسن - بالذات - أم الامام الباقر - فيها في [ صفحه 127] غد يا ابني، و اربط خيطك بحبل الأمة المخصب، و امش بالوعد قبل أن تنالنا - باصبعها - كف المكيدة - أن الله عزيز حكيم. أما ثالث الأشياء، فقد زالت أسباب الاحتياط من عدم كشفها عليك - لا بل ان اطلاعك عليه يوسع علي نفسك جمالين أثيرين يسربلانك بحزن أنيق... ما كاد علي يسمع كلام أبيه حتي رفع رأسه اليه. و فتح عينيه باستفهام وسيع و دهشة مستعجلة، فتناوله أبوه بذراعين مطمئنين و استأنف التعليق: - لقد عينت أنا لك الآن اسم زوجتك فاطمة ابنة عمك، لتكون أما لامام من صلبك - و كذلك عين جدك الرسول اسم زوجة جدك الامام أميرالمؤمنين، فاطمة الزهراء - ابنته و من صلبه، لتكون أما لامامين هما: عمك الحسن، و أبوك الحسين، أما جدك الامام علي، فانه عين اسم أمك... و لقد ظننتها أنت غزالة، و الحقيقة أنها جارية و أم ولد - أنمتك بالرضاع، و أخذت دور أمك بالعطف الكبير و الحدب الفريد، لأن أمك ماتت بحمي النفاس، و لم تلمحك الا بعين سكري بنشوة الموت... ان اسمها شهزنان بنت بزدجرد بن [ صفحه 128] أنوشروان... لو تدري كم كانت عظيمة ابنة الخيرتين: الفارسية و العربية، و كم كانت جميلة و بهية زوجة أبيك الحسين!!! أرأيت كيف يكون الحزن رضيا عندما لا يكون أسود أجرب؟!! و الحقيقة أن حزن الرجلين كان الآن قويا شديدا، و لكنه كان عزيزا رخيا، جعل الأب يطرق عليه، و جعل الابن يبتسم به، و هو ينهض آخذا بيد أبيه، يكفكفها بالدمع و القبل، ثم يتأوه: - لقد عاشت أمي شاهزنان من جديد - في عيني أمي الثانية بجمال عزيز الأخذ و جليل البهاء!!! ألا تسمح لي يا أبي أن أعجل الي صدر أمي النقية، فأضمها الي شعاب صدري، و أحررها من اسم جارية، و أزوجها - كما يقتضي منطق الحق - من سيد تزيد أناقته امرأة اسميتها أنت غزالة؟!!! قي تلك الليلة - و لست أدري لماذا توفرت لي فيها غزارة المشاهدات، علي الرغم من شعوري بأنها كانت سوداء شعثاء - قمت بزيارة صديقي أسعد الهجري، فهو أعز من هفا اليه قلبي في حاشية أهل البيت. و أصدق من سهر علي أبواب الحسين، و أكتمهم، و أنبههم، و أذكاهم في أنماط الحراسة. حسبته - لما اقتربت من بوابة المدخل - سيفا مخبوءا في غمده و محفورا علي [ صفحه 129] خشبة الباب، و لما دنوت أكثر، تبينته مسلولا يخطف عتمة الليل - قلت له: - كيف تموه ذاتك في غمد الحسام، و أنت انمزاق من قرابه؟ و تبسم و تبسمت، ثم انحني بي الي لطوة مهجورة و قال: - أتعرف أن الوليد بن عتبة، ابن واحد سفياني من بني حرب، الحاكم سعيدا مدينة يثرب - هو الخارق - لا أنا - عتمة الليل؟ لقد جاء ينعي الينا وفاة معاوية و يربطنا بمزيد الأسي علي رجل مات و لا تزال تسيل من أصابعه قطرات السم. و لقد جاء أيضا يشتري سيدنا الحسين، و يغريه بالعافية اذا بايع بالخلافة ابن معاوية يزيد الفهود و قيس القرود. سيشهد نصف الليل انسلالنا جميعا من المدينة الي محارم الكعبة، حتي نتدبر من هناك شؤون الغد!!! أما جعدة الشعثاء - مصدقة الوعد - و خائنة العهد، فانك طلبت مني في الأمس عنها خبرا... فاعلم يا صديقي أن الجو كله هنا [ صفحه 130] قد أهمل عنها الخبر. لقد نزحت و لم يعرف الي أي جحيم قد ارتحلت! في هذه الأثناء فتح الباب و خرج الحاكم فودعت صديقي الذي انعطف الي الداخل، و أقفل دوني الباب... و لكني انزلقت خلف الحاكم من بني حرب و هو من المنسلين أبدا في عتمة الليل، و قد أصبح في طوق من عشرة رجال كانوا متخبئين خلف الزوايا من الزقاق المعتم - انهم الحراس أن دعت ملمة... و لكني اقتربت و تصديت، بعد أن تكفكفت بأعراض الجنون: فاحتواني القوم، و سيوفهم قد اهتزت في قربها - و ما تهيبت بل تقدمت أسأل، و دار بيني و بينهم هذا الحوار: قلت - أنا واحد من نزار... منذ وقت طويل و أنا أبحث عن امرأة اسمها جعدة بنت الأشعث... لقد كانت في حرم الحسن... و لكنه مات... أما هي فانطوي عنها الخبر... فهل أحد منكم يعلم كيف ذابت بنت الأشعث؟!! قالوا - هلا سألت عنها بني الحسن؟ قلت - و لكنها تبخرت من أجواء كل بني الحسن! قالوا - و أين تظنها اختفت؟ قلت - ألا تظنون أنها في قصر من قصور يزيد [ صفحه 131] المطلية بالعندم؟! قالوا - و لماذا عند يزيد؟ و في قصر من قصوره المطلية بالعندم؟ قلت - لأنه وعدها بالزواج منه، اذا تمكنت من انعاش نفس زوجها الحسن بلعقة من عسل أبيه معاوية... قالوا - و هل فعلت؟ قلت - بحكم الطبع قد فعلت أتكون قليلة وطأة الاغراء؟!!! قالوا - و هل يتزوج خليفة المسلمين من عاهرة؟ قلت - أيكون يزيد خليفة المسلمين؟ قالوا - بحكم الطبع انه خليفة المسلمين أتكون قليلة وطأة المبايعة؟!! قلت - و هل يكون يزيد الخليع أقل منها عهرا؟!! ما انتهيت أمام هؤلاء الأبطال الأشاوس الي مثل هذا القول الأبجر، حتي أطبقوا علي بنعالهم... و لكني تسللت من بين النعال، و عذت بعتمة الليل، و نجوت... بعد نصف الليل بقليل، فتحت أبواب دائرة الحسين، [ صفحه 132] و خرجت هوادج النساء و الأطفال، و عدد ضامر من الخيول و الجمال - و تناولوا الخط من المدينة نحو مكة، بعد خمسة أيام تم الوصول. أما أنا فاني قد اندسست خلف صديقي أسعد الذي تعود أن يسبق مسير القافلة بساعة من وقت، علي ظهر برذونه الأسود... و لكنه كان يمشي علي قدميه أكثر مما كان علي ظهر برذونه يركب، و هكذا علمني أيضا أن أخفف عن البرذون الطيب مشقات الطريق. بين الفينة و الفينة كان الهجري يمتعني ببعض الطرف من حديثه الظريف، و هكذا كنا نقطع الطريق في الليل علي خفق بعض النسيمات التي فيها شي‌ء من نعومة الصبا... قال - هل تدري كم اماما تحوي قافلة هذا الليل؟ قلت - الامام الحسين، و ابنه الامام الآخر عليا الأصغر... قال - و لماذا لا تذكر اسم الثالث يا صديقي؟ اسم أبيه علي الأصغر، و اسم أمه فاطمة بنت الحسن، و اسم جده الامام الحسين... ألا تستهويك رقصة الاسم: محمد الباقر؟!! ما سمعت ذلك حتي تذكرت قافلة الحسين - منذ ما يقارب العشرين سنة، لما توجهت من المدينة الي الكوفة... فقلت لصديقي الهجري، و في عيني غبار الذكري: [ صفحه 133] - سقي الله أرض العراق بدفق اثر دفق من نهر الفرات... لقد ذكرتني يا صديقي بدار الامامة في الكوفة... لقد ضمت يومذاك - دفعة واحدة - أربعة أئمة: الأمامين العليين - الكبير و الصغير، و الامامين الحسنين... و انقبض وجه أسعد، و بقي و اجما يسري، فوجمت مثله و سريت. بعد نصف ساعة من سري صامت، توقف رفيقي يمسح عينيه بكفيه - لقد عكرهما دمع ملون - و توجه نحوي كأنه يسدد جوابا علي قولي السابق: - لو لا بغاء «جعدة» لما كانت تشوهت روعة الخط!!! فانتفضت سريعا و أنا أعلق علي القول: - ليست جعدة البغي الأول، يا صاحبي المحزون! أن السقيفة كلها كانت البيئة الأولي في تنتين الصدور بقيح الفجور!!! اما العالق علي حيطان السدود - منذ عهد عمر الي عهد يزيد - فهو تكرار المكرر في انتاج سلسلة العهر من بغاء العاهرين!!! ان الطهر الذي يداس - يمتن أقدام الفاجرين!!! و ان العدل الذي يسمم و يرجم، يقوي العزم في زنود الكافرين!!! يا تعس أمة [ صفحه 134] تقتل الطفل في بطن أمه اذ توجس أنه سيولد عليا عظيما!!! ما سمح الهجري هذا التأوه حتي سجد في مكانه و تفجر بالبكاء! اما القافلة، فانها - اذ وصلت الي مكان السجود - أناخت بالمكان - و راحت ترفع الخيام و تمد البسط، لترتاح من عناء الليل! ما عدت أجسر أن أترك محارم الكعبة في مكة و أعود: لا الي أزقة يثرب، و لا الي مدارج الكوفة، و لا الي مفاسح تدمر، و لا الي غوطة الشام،... خوفا من أن يراني أحد من أزلام يزيد المبثوثين في كل مكان، فيجهز علي بعركي تحت النعال... لقد و بلتني اللعنة اذ ذكرت بشفتي اسم تلك الشقية الرقطاء... ثم اني مزجوج في حاشية ليس لها صك في العيش، لا فوق الأرض، و لا خلف أية قبة طالبية محفورة في الجنان، فالنعيم حصر بأبناء القصور المدلهة بدفقات الخمور، و ان للمجون - وحده - جواز المرور من رخاء الي حبور!!! اما الأمة كلها فلتطمر من جديد، و لتكتب ارثا لخلافة نبوية ينقلها معاوية لابنه يزيد!!! ليست هذه الصورة البيانية من تلاعبات الخيال، بل انها مجاز الي واقع حياتي تعاني ثقله الأمة، من مرتفعات البصرة حتي [ صفحه 135] منفسحات الحجاز، حتي السواحل كلها من أرض الشام... ليس فوق الأرض - بعد مقتل الحسن، و انفتاق عين ابن أبي‌سفيان - الا مبايعات تمشي بنعال فوق الرقاب ليس أمرها مكتوما، بل معلن مسنون: - سجل مكرها - بيعتك ليزيد، و الا فعنقك المدوسة!!! و مكة المكرمة!!! بيض الله لها الوجه الكريم!!! و انها لا تزال تحافظ علي ارثها الحضاري العريق، في محارمها حول الكعبة... انها الكعبة المكرمة، و هي حتي اليوم أوسع محجة لملايين الأتقياء المؤمنين، يحجون اليها و يتبركون. لقد وسعها النبي الكريم، اذ رفع فوق مداميكها الحجر الأسود، و بهره بأنوار العلي، و حزم الكعبة كلها بمجال الضوء، و جعلها قبة و حرما... هنا - راحت تصان كرامات الناس المحترمين فيها، و لا ينالهم أي أذي ما بقوا فيها المحترمين. لقد التجأ الي الكعبة ابن الزبير، حتي ينجو من مضايقات ابن معاوية، و التجأ اليوم كذلك السيد الحسين، حتي يصون - موقتا - عنقه من نطع يزيد... و لكن... الي متي يبقي اللجوء الي المحارم المنزهة، و الي متي تبقي ملجومة عنها حجارات المنجنيق؟ [ صفحه 136] و انعقدت في المساء جلسة (أعلنت فيها القرارات). لقد كان صديقي الهجري يؤمن لي دائما مقعدا صغيرا في الزاوية الصامتة من القاعة السرية ذات البحوث التقريرية في شؤون الجماعة، لأن الحسين كان يثق بي، و كان يأبي الا أن يشعرني باني خيط من قمصان أهل البيت، لا لشي‌ء الا لأني موال قديم للرسالة الفخمة المنبثقة من عب النبي العظيم، و قد خيمت عليها ظلال علي، و هو العظيم الآخر الذي عشقت فيه شبكة المكوك. ما أن دخلت القاعة حتي احتوتني بكل اظلالها: كان في الصدر ربوض الحسين، و الي يمينه علي الأصغر و قد أصبح تقريبا في الثالثة و العشرين، و ما بينهما جالس - مستكينا - محمد الباقر، بوجهه البهي و شعره الأجعد، و هو بنهدة الأربع سنين - انه عاقل يصغي... لقد أحيي لقطة لا تزال عالقة في بالي عن أبيه علي الأصغر، و هو في ذات العمر في قصر الامارة في الكوفة - لقد كان علي الأصغر - و قتذاك - جالسا بذات الوضع يصغي لحديث دائر ما بين أبيه الحسين و جده الامام علي - و كان معهم أيضا الامام الحسن... قلت في نفسي: هل يكون التصرف في مثل هذا التطابق في نشأة الأئمة؟ و هكذا انعزلت الي مقعدي الصغير في الزاوية و أنا أتأمل... أما أخو الحسين، محمد بن الحنفية، فهو في مكة منذ يومين أو ثلاثة أيام... علي طاولة محبوكة من قصب غزار فارسي، رزم كبيرة من ملفات ورق خشن، مربوطة بخيطان من نبات الليف الأسمر... علي الباب واقف أسعد [ صفحه 137] الهجري... ماثلة مغروز فيها ثلاث شمعات تضي‌ء المكان... رهبة خاشعة تربط السقف بالحيطان... قال الامام الحسين: - نحن في مكة منذ ما يقارب السنة... أظنها انتهت عمرتنا الي البيت الحرام. بعد ساعتين علي الأكثر نركب الخط و نمضي - لا الي المدينة و لا الي اليمن، بل الي الكوفة، حيث تلتف عظام أبي علي بسنا الحق... لقد انسللنا تحت جنح الليل من تحت عيني الوليد بن عتبة، فعتب علينا الرجل لأننا ما و دعناه - و سننسل الليلة من بين يدي عمرو بن العاص قبل أن يفتح علينا باب الصباح بالمبايعات. انها بين أيادينا المبايعات: ألوفا ألوفا من الكوفة، و ألوفا ألوفا من البصرة، و ألوفا ألوفا لا تزال نائمة هناك لم تترك بعد أرض اليمن و لا مفازات الحجاز... سنحملها معنا حزما حزما في هذه الملفات، لا لنطالب بها مساكين الناس هنا في الحجاز، أو مساكينها هناك في العراق، بل لنحفظها و نجعلها سياجا اذا علينا تجنت أحاديث الفتنة!!! فالأمة تطلبنا بلسانها المحتاج الينا، و بشوقها، و بكل حنينها المجروح!!! فاما يذوب الخوف و تنجلي [ صفحه 138] البطولات - عندئذ - فنحن لها في حقها المشروع، و نحن نحن اسنتها البيضاء... و اما يسد عليها الجور و التعدي أبواب العزم، فتنام في سراويل القهر، و تتركنا في الساحات نلملم لها - وحدنا - خيطان المجد من دمنا الرافض قبول الذل، و الراضي بطعم الاستشهاد!!! أظن جدنا النبي هو الزارع فينا حقيقة العزم و شرف البطولات!!! و أظن الأمة ستجدنا في طرف الميدان حماتها المطيبين تحت السرادق الأكبر!!! اننا لها - في مجالها الأوسع - فهي سرادق المجد، و سرادق الخلود!!! هل لأحد منكم بعض نصيحة؟ تلملم قليلا ابن الحنفية... ثم قال: - أخاف أن أقول: ان أهل البهتان هم أسياد الميدان... و لا أزال أقول: تريث بعد... و اذا ضاقت عليك محارم الكعبة، فقد يكون اليمن أضمن و أنجي... و لعلها في غد تتغير المعادلات... أنا لا أري سليمان بن صرد و من معه من رؤساء أخماس القبائل في العراق، أشجع و أمتن في قيس بن سعد الذي لم يتمكن في الأمس من مساندة أخينا [ صفحه 139] الحسن... ليس في أقوام العراق ثبات عزوم يساوي الانتصار!!! و بحزم أجاب الامام: - كل القبائل من ديدن واحد - فأي فرق بين ابن صرد و ابن قيس؟ أليسوا جميعا شيوخ قبائل، و رياح مبايعات؟! لعلنا في المحاولة التي تتهيأ لنا الآن - مربوطة بالحاحاتها القوية - نتمكن من تغيير المعادلات، و نفهم الأمة التي خيبتها، منذ ثلاثين سنة، المبايعات، أنها لن تجد سويتها الا ببطولة تنجيها من المماحكات الأثيمة!!! و الا، فان في ضعف عزمها ما يقوي عزمنا علي مضاعفة الجهاد!!! ألا تبقي الشهادة مهمازا طويل العمر، يحرك الأجيال للرجوع الي البطولات المتلقطة بأوتار النجاة، و البقاء، و الخلود؟! أنا لست اليوم عازما علي أن أضيع فرصة متاحة قد لا أجدها اذا غيرت اتجاهي الي اليمن... انه دوري في الامامة، و انه لوني في تقرير المصير... اما علي الصغير الذي لم يغير مجري سجوده أمام أبيه عندما يتكلم، فانه لبي أباه الامام و أجاب: - اني مأخوذ بك يا أبي الامام - و ان لم تنتصر بالقوم غذا فانك المنتصر أبدا بالعزم [ صفحه 140] المنيع!!! فأنا لك حتي قيام الساعة في الباحة المتربع في صدرها جدي الامام... و التفت الي الامام الحسين، كأنه يحرك في نبرة من النبرات... فخشعت و أنا أتلملم: - و ان هلعت من المصير، فاني واجد أخاك و ابن أبيك في حزن غير رحيم... و لكني... و ان يمضني ألم رهيب... غير خائف عليك من اندحار... ان الثواني لديك، انما هي من لون ساعات أبيك... سيبقي الي جانبك سليمان بن صرد لمعة من سيف ما امتشقه بعد شيخ قبيلة، قد يخذله جبن القوم، و لكنه سيبقي نبرة منسولة من عزم امام اسمه علي بن أبي‌طالب، يري الحق أطول من أعمار الدهر. بعد ساعتين كانت القافلة متجهة لتحط في أرض كربلاء. كنت لا أزال شبه مسحور في مقعدي الصغير، عندما فتحت عيني علي ضوء شمعة واحدة بقيت تتنهد في ذبالتها القصيرة. لقد ذابت من الماثلة رفيقتاها الاثنتان. تفقدت المكان و علمت أن القوم قد انسحبوا و أخذوا عن الطاولة الملفات المحزومة بخيطانها و رحلوا، من دون أن ينتبهوا الي المطوي في الرواية كأنه دمعة من [ صفحه 141] حبر علقت بين مشفري قل الغزار... و لكني أدركت - توا - انهم قصدوا - فقط - أن يجنبوني رحلة في رفقة ستشتد فيها وطأة المآسي، و تتكاثف فيها ألوان الحزن الذي لا يتمرس بمثله الا نوع فريد من الأبطال المتصلبين بالاباء الفذ الذي تصاغ منه - في الأمم - روعات المكارم. ما أن أدركت ذلك حتي هببت الملم أرجاه نفسي، و فتحت الباب و انطلقت و أنا أهمهم: - لن أتركهم وحدهم، من دون أن أمتزج نسمة بأعصارهم المقلع، من دون أن أشرب نقطة من حبرهم الأحمر، من دون أن أنبث نبرة في حزنهم المجيد، أو خفقة في مداهم الأكرم، أو - علي الأقل - شاهدا لا تكذب به رحلة التسجيل!!! الا فليصمت التاريخ اذا يقصد أن يتغابي، فالقوم ما ارتحلوا و هم لا يدرون الي أين يرحلون! منذ الزمن الأول و هم يدركون أن خطواتهم فوق الدروب هي الموزونة! لقد وزنها لهم عظيم منهم، جهزهم بالوعي المحيط، يتمكنون به من مد الجسور فوق المهاوي، من لون عمق المهاوي، و من لون مداها، حتي اذا وقعت الأمة في المزالق، يكون لها - بهم - متدبر يحفظها من حين [ صفحه 142] الي حين يتعدل فيه الانخساف! سيكون المدي طويلا أمام الخط الامامي، طويلا و ملونا بأساليب الابتداع... ان أصالة الفكر و الروح - وحدها - هي المبدعة في الرصد و التلوين، و ان الاهتمام بالأمة - وحدها - هو تركيز الصيانات في مجتمع الانسان... و من لا يهتم بمجتمع الأمة يخسر حقيقته في عالم الانسان. كيف لا يكون الحسين مدركا علي أي مفرق من المفارق يلوي ركبتيه، و قد سمعناه - منذ لحظات - يشرح أمام أخيه و أمام سلسلة الأئمة الذين سيتناوبون السير من بعده علي كل الخطوط... ألم يقل لهم و لنا بأن لكل امام لونا من سياسة يمهر بها عهده، تكون من صنف المناسبات، و من نتائج ضغطها في الأحداث؟ ألم يذكر لنا بأي شكل تصرف أبوه في تصبره علي المكاره و الملمات؟! فكان العدل، و الحق، و نظافة الكف، من معادلاته الأنيقات؟! و كيف أن أخاه الحسن ابتدع الصلح الأبيض حتي يلحم الأمة و ينجيها من اراقة الدماء... و ها هو الحسين ذاته الآن، يترك حرما أعلي قببه جده النبي، و ختم مداميكها بالحجر الأسود الهابط من حضن الضياء. الي أين هو ذاهب هذا الامام الحسين؟ لم يقبل الي اليمن هروبا و انكفاء، أو التماسا رخيصا لنجاة!!! بل الي الساحة البكر اندفاقا!!! يقرعها بزنده و صدره، و رأسه، محوا لذل، و تعزيرا [ صفحه 143] لاباء، و تثبيتا لرفض تأخذه الأمة عنه مثالا حيا تعيد به مجالاتها الأبية في ظل العنفوان. ليس لأية أمة من أمم الأرض رجاء و بقاء، الا في الظل العفيف المدبج بالوعي و حقيقة الاباء! ان درجات الوعي - وحدها - هي سلم المراقي في مدارج الانسان، و ان اباء النفس - وحده - هو الصاعد به لتحقيق نجاواه، اما الحسين فهو ذلك النازل في فسيفساء ذاته، لأنه تمثيل مطلق الدور لامامة مفروعة من صدر جده محمد، ولي الرسالة، و ولي التنزيل، و ولي الجمع المطلق، و هكذا فانه الآن الولي الأوحد المسؤول عن توجيه أمة و احاطتها بلون من ألوان الصراط. هنالك رجل خليع، اسمه يزيد، يغتصب الخلافة بالتزوير، و يثبت حكمه بالفتك و الترهيب، و يهدد الأمة بالضياع و الفساد و التشريد، و ذلك تحت سمع الأمة و بصرها! اما التصدي له بالسيف و الرمح و الترس، فان وقوع الأمة في الضعف و الهوان، يبعد عنها الآن هذا المنال؛ و لكن ترك الأمور منساقة في مجرياتها، معناه التمادي في التردي، و اغراق الأمة في انخسافاتها، و نهب امكاناتها في التحقيق... اما الامامة، و هي - في الأصل و مجرد الواقع - في محل الاشتراع، و في مركز [ صفحه 144] الحكم، و التوجيه، و الاحاطة، و الدراية، فانها المقصودة الوحيدة - ليس فقط بالتذليل، و التعقيم، و الاطاحة - بل بالحزن و الافناء، مهما اقتضي فن الابادة. ان السكوت - وحده - معناه الرضوخ، و ان الهروب - وحده - الي اليمن، أو الي أي مكان، هو تشديد الملاحقات، و ليس للسكوت و لا للهروب الا معني الانحذاف من الساحة الفاعلة، و الانشلال من دورة الحياة، أما الأمة، فانها تكون - و الحالة هذه - شاهدة وحدها علي ذل المسؤول و عجزه عن اثبات الذات. لهذا - بتعليل و تأكيد من المنطق المصيب - توجه الحسين الي ساحات الصراع، ليس علي صدره درع، و ليس في يمينه حسام، بل في صدره زرد الدرع، و في زنده موجات الحسام!!! توجه يعلم الأمة في الساحة البكر: أن الحسام - ان لم يطيبه الوعي بهزيز العنفوان - يقصفه الجهل بصدأ الهوان!!! توجه الي الكوفة، و في باله افتراضان متلازمان، متساندان، متواصلان بروعة الرهان... و ابتدأ الرهان: - غير الطريق الذي سلكه أبي من المدينة الي الكوفة لن أسلك، ان الكوفة قاعدة امارة أبي، و امارة أبي هي امارتي الموصولة به وصلة المكان بالمكان، و وصلة الزمان بالزمان، و هي التي ربطت الأمة بالوعد، و الوعد بكل مآتي الدهور!!! لأن الوعد النازل من سحب [ صفحه 145] الحق، هو ضمير النبي المنور بالخيال الصافي، و المركز بالمقصد الحي، و المسدد بالعقل الملم بآفاق الوجود. لقد أصبحت الأمة مربوطة به و هي تحقق ذاتها فوق الأرض و تحت السماء. - مقاطع مقاطع مفاصل الدروب! و انها دروب الأمة، تقطعها عبر الفيافي و البوادي و الفجاج، وصولا الي و احاتها الخضر! و لن تقحل و احاتها، حتي و لو سدت عليها القنوات! لأن من يسد مجاري الري مجرم أثيم، و لن تبقي السدود رهينة كفه، ستحطمه و هو ظان انه قابض علي مغالقها، لتطمره في حفر العطش! - لا بأس بها محطات المعابر - فلتكن طويلة بمشقاتها المشوية بالحريق، طالما أنها تفرز أوشحة يتندي بها جبين المجد!!! ستكون خطواتي عريضة فوق الدروب، حتي تسمعها الأمة و تعرف أني آت ألملهما من لوثات العثار!!! فاذا سمعت و أدركها وعي مجنح، فاني لها في صدر الشعار، أنسجها صفوفا مجدولة، و أقذفها نارا تحرق أشواك الهشيم! و لن يطول وقوفها تحت الهجير، لأن من يتنزي علي حرماتها و يلوث ماءها الفرات، ستخطفه [ صفحه 146] مهابة الجدل تتهلل به صفوف الأمة في قوة لا تقهر، لأن الوعي يزينها و يرزمها، و لأن العنفوان - أجللها به - سيرفعها فوق الستائر، و هو يدك عهر الفاجرين. و اذا لم تسمعني، لوقر لا يزال يسد فوهات مسمعها، فاني أكمل وحدي خطوات السير، و أهدر دمي في انقاذ دمها من الانهدار، حتي تراني بعينها الأنيقة، و تتذكرني في حنين القدوة: باني رفضت الذل من عروقي، و نجوت من حفر الهوان، و بقيت لها في مشارف الميدان أناديها لتستردني اليها في يوم وعيها الآتي، و لا بد لها من اليوم المنور، لأنها أمة جدي لأنها أمة جدي. تلك هي مصوغة الحسين - و هكذا كان لي أن أشاهد بقية الشمعة الثالثة في الماثلة المثلثة الشمعات، تمتص آخر نقطة في ذبالتها، و تعانق عتمة المكان و تهمد. وجدتني في عراء الليل... خببا خببا سمعت الوطء في صداه الزاحف نحو «واقصة» عبر «التنعيم»، «و الصفاح» و «وادي [ صفحه 147] العفين»... لقد أدركت القوم في سري الليل... انهم في مخابئهم المكشوفة تحت النجوم... لقد رافقتهم و أنا أمشي علي قدمين خرساوين، كأنهما بسكون الليل منتعلتان. ما هدأت، و لا تكلمت، بل انغللت، و تأملت، و اعتصمت بالصمت الشفيف... تحت بلس الخيام انسللت، و مع القوم في الزوايا رقدت، و من نسم الليل عببت، و من عطش الهجيرة - مثلهم - شربت... رأيت العزم يتكلم في تقطيب الجفون، و سمعت الصبر يتصبر في دهشات العيون... انها كلها مسيرة العنفوان لعناق المجد خلف رصات الحصون!!! و تم الوصول الي كربلاء من بعد مجهود عباب و خضم من عناء ظنت - عانة الذئاب - انها لفلفت قطيع النعاج في الحظيرة، و أحكمت عليه لفات السياج، و نعجة نعجة ستلتهم القطيع علي شبع لعشرة أيام!! منذ متي؟ و هذه العانة تطوي نابا و تكشر عن ناب؟! أتكون السقيفة أول العهد، و أدهي من خبأ سما و فتكا في لثة الأنياب؟! و لكن القصة طويلة اذا عدنا الي الوراء نشرح و نسأل: لماذا ألبسوا [ صفحه 148] حواء ورقة التين؟ ان الحسين الآن هو المعري الهازي‌ء من ورق التين!!! لقد ألبسوا حواء ورقة التين من بستان الخطيئة، حتي يطردوها من الجنة... و لقد ألبسوا عليا بن أبي‌طالب ورقة تين من بستان السقيفة، حتي لا يدخلوه الي السقيفة... ثم ألبسوه ورقة ثانية من بستان بن عفان، حتي يمزقوه بخنجر... و ألبسوا الحسن ورقة تين من بساتين بنت الأشعث، حتي يمحوا اسمه من اتفاقية الصلح! و ألبسوا الحسين ورقة تين من بساتين المبايعات ليزيد، و لاحقوه من الكوفة الي المدينة، و من المدينة الي مكة، و من مكة الي كربلاء، حتي يحصروه في حظيرة، و ينشبوا الأنياب فيه مضرجا بالدماء!!! و لكن الحسين ما اتخذ - أبدا - علي حين غرة! فهو الذي مشي الطريق بعلمه المسبق، بعد أن حصنه بالاعلام الوسيع!!! لم يرد أن يؤخذ غيلة: لا بسم، و لا بضربة خنجر، و لا حتي بهروب يخفيه مدة عن العيان، ثم يقبض عليه و يستهلك، كأنه قرد باصبع انسان!!! بل انه بطل وسيع الصدر، مهد السبيل لتوسيع الخبر، حتي يشمل العلم كل أرجاء الأمة، بحيث يكون لها وسع السمع و وسع البصر. فهو مقدم علي شهادة تشهد له بتقرير المصير و رفض الذل من أجل احياء القدوة للأجيال فتحقق ذاتها بذاتها مع طلوع الأيام: [ صفحه 149] - ان توجيه مسلم بن عقيل الي البصرة كان القصد منه التحضير و اعلاء النفير. - ان التمويه علي الوليد بن عتبة حاكم يثرب، ثم الانسلال خفية الي محارم الكعبة، كان مقصده تحريك الحفيظة من أجل زرع الاعلام في تحضير رجال الحكم للملاحقة! - ان الافلات من بين يدي حاكم مكة عمرو بن العاص، كان مقصده أيضا توسيع الاعلام بتحريك الحفيظة و تحريك رجال يزيد للملاحقة. - ان مرور قافلة الحسين علي محطات القوافل، كان القصد منه توسيع الاعلام في نشر الخبر: لقد لحقه في الطريق: عون و محمد ابنا عبدالله بن جعفر و لم يتركاه - و لقد فعل كذلك زهير بن القين - زوج البطلة المخلصة «دلهم» و لقد لحق به عبدالله بن عمر، و لو ذان بن أبي‌عكرمة - اما عمر بن خالد الصيداوي، و مجمع العائدي، و جناده بن الحارث السلماني، و الشاعر الكبير الطرماح بن عدي - فانهم كانوا يمثلون أربعة آلاف مجاهد في لحف جبلي أجأ و سلمي من أرض طي - نصحهم أن يركنوا للسكينة، بعد [ صفحه 150] أن شدد عليهم بأن يوسعوا سمعهم و عيونهم ليروه كيف يتصرف - من أجلهم - في يوم غد!!! - و لقد تصدي له الحر بن زياد التميمي، علي رأس قوة من ألف فارس و منعه من التوجه الي أي مكان غير كربلاء!!! اما عمر بن سعد بن أبي‌وقاص، فانه القائد العام الذي زنر المنطقة كلها بثلاثين ألف محارب حول حظيرة كربلاء، و فيها مئة و ثمانون - فقط - من النساء و الأطفال، و الجواري، و الأتباع الموالين، و علي رأسهم رجل فرد - اسمه الحسين - مع ابنه المرمي علي فراشه و قد عاوده علي طريق القوافل مرضه المشهور، بعوارضه الممضة!!! ان اسمه علي الأصفر!!! اما سليمان بن صرد و معه رؤساء أخماس القبائل، فان مقتل مسلم بن عقيل، و هاني بن عروة برميمهما من فوق السطوح، أقعدهم مشدوهين مكبلين - و لكن... مصغين و متأملين... أليس هكذا أراد الحسين أن يوسع الاعلام، و هو يسوق نفسه لينزج في الحظيرة؟!! فلا يظنن أحد أن عانة الذئاب، هي التي - بفن ذكي منها - كفكفته من كل الجوانب حتي أدخلته الزريبة!!! [ صفحه 151] واها ثم واها رحت أهجس: - كيف لي أن لا أؤخذ برهبة الساحة فلا يطالني منها لا البرق و لا الرعد! فاذا كان لي - بالأمس - أن نجوت من دوس النعال! فكيف يكون لي الآن أن أنجو من رمي النبال، و تكسير النصال علي النصال؟! و لكن... لماذا الهجس و الوجس: ما كل نبل يصيب الروح و لا كل نصل يمس! فلتمطر الدنيا نبالا و نصالا من حديد... من نوع نبلك يا ابن الزياد و من نوع نصلك يا اليزيد... فهي خيوط من غزل العناكب! أو انها غزل من قوم قرود؟! من نبل سقراط غير قوم قرود؟! من نبل عيسي غير قوم قرود؟! من نبل عليا غير قوم قرود؟! من نبل الحسنين غير قوم قرود؟! هم النابلون - أنفسهم - أصيبوا بلعنات [ صفحه 152] الأمم - واندثروا كأنهم بصاق صديد علي أقفية القرود!!! اما الذين نبلوا - أنفسهم - فانهم عمالقة الذكر - و انحفروا كما سنانير النور علي صدر الشهيد!!! و امتصتني الساحة، و لقد رغبتها تمتصني كما يمتصني قلمي في نقطة الحبر، و رحت - كظل أفاق من خبل - أتفقد الناس خلف خيامهم المبعثرة في عراء السكون، و لجج من الصمت تسردقها في هذا الخلاء الغائر في خضم من غبار. لقد لمحت كل ما حصل فوق الأرض! و ما انتهت الأيام العشرة بلياليها السوداء، حتي رأيت أن المأساة قد حبكت ملحمتها الملطخة بالاثم، و الدم، و الهمجية الكلحاء...!!! لقد رأيت الخيام تتساند مشدودة بالحبال لصقا بلصق، يتكوم في كل منها: الجمال، و البغال، و البراذين، و المؤن - و النساء، و الأطفال، و الجواري، و المرضي - و الرجال، و الأهل، و الأصدقاء الموالون [ صفحه 153] المهتمون بتخفيف أي عناء عن لفيف أهل البيت المتحملين كل هذا البلاء!!! و مهما يكن الشأن... فانهم جماعة محصورة بأهل البيت، لا تلونهم الا سياسة تتفاني في خدمة الأمة و اعلاء شأنها... هذا هو ذنبهم الجسيم، قطعوا به البوادي، و الصحاري، و محطات الحريق... لو انهم جاؤوا لحرب، لكنت غصت الأرض بفيالق المحاربين... و لكنهم جاؤوا ليزينوا الأرض بالسلم العفيف، حتي يراه الحاكم فيصلح به. و لكن الحاكم الكافر المستبد، لم يرد أن يفهم شيئا من رموز الاعتراض، و لم يشأ أن يصلح جزءا من سلوكه القردي - و انهمر سهاما و نبالا علي بلس الخيام... قطع الحبال و قصف الأوتاد... و ملأ الجو: صهيلا، و رماحا، و سيوفا، و نصالا، و موتا زؤاما!!! و لم يستسلم الحسين - و دافع عنه رجاله المعدودون، ولم يبالوا بأرير الموت!!! انهم المضرجون بالدم - اسم واحد منهم «عون»، و اسم أخيه «محمد»، و هما ابنا عبدالله بن جعفر... لقد رأيتهما يجاهدان متساندين، في دفاع يائس حطم جمجمة الأول بين يدي الحسين، و قصم ظهر الثاني... أما زهير بن القين، زوج «دلهم» فاني رأيته يقفز الي حصان مر من أمامه، و يطعن الفارس من الوراء بخنجره، طعنة كبته الي الأرض قتيلا، [ صفحه 154] و هو يقول له: - خذها من يد «دلهم» و لكنه في عصر ذلك اليوم - أثخنته الجراح، و انعزل تحت بلاس ممزق، يلهث حتي أسلم الروح... لم أعد أعرف لا عدد و لا أسماء المتنادين الي بذل الدم في الحلبة الحمرءا، غير اني هلعت لما رأيت صديقي أسعد الهجري، بقامته المحبوكة، و صدره الوسيع المقدود من صخر - يتلقي بين ذراعيه هبوط الحسين، كأنه خارج من مغطس دم!!! انه يسحبه من أرض المعمعة، صوب نهدة من رمل شكت فيه عشرات الأسهم الضائعة عن اصابة مراميها!!! و لكن وابلا جديدا أمطرهما و أجهز عليهما في العناق المدمي!!! علي باب المخيم أبصرت شبحا يسحب رجليه سحبا هزيلا!!! عرفته!!! لحقت به من الوراء، فتاة هي عمته زينب، كأنها قفص من حزن يابس - كفكفته بخمارها، و عصبته بكفيها، حتي لا يري هول الجريمة!!! [ صفحه 155] بعد لحظات خرساء - نقلني الأسي الي المريض المفجوع - ألقيت فمي في اذنه أوشوشه: - أنا بعض منك في الأسي الأسود... و لكنه لابد لي من أن أذكرك - و لو في الساعة العصيبة - بأن أباك العظيم لم يسمح لك - و أنت الامام - بأن تأخذ حزنا، مهما طغي و تجبر، من دون أن تعريه من قمصانه السود... و نبهك الي أن الحزن هو - دائما - الأجرب... يشل طاقات الروح، و يسد عليها مجاري الفكر و مدارج السمو... ما رأيت أشجع منه و أروع... لقد سمع خفوت ندبي في خفقتي المهزورة... و أدار عنقه الي سراديب المخيم... فلبته من الوراء امرأة مهزومة العينين، و في يدها كوب، فاحدودبت اليه... تناول من يدها الكوب و جرعه مدفوقا... فارتمت عليه بلا حراك... تفقدتها و لم أعرفها... الا أني ارتضيت الجزم النجي: - بانها من دون أي شك - تلبس لهفة أم شدها الأسي من تحت الكفن... [ صفحه 156] و لكن الليل لم يمح بعد، عندما اهتزت رهبة السكون بحوافر القوم. دخل عدد و فير منهم سراديب المخيمات، و راحوا يجمعون الحريم و الأطفال سبايا، في حزم من حزن لا يرفع صوتا و لا نأمة من لوعة... بينما راح فوج آخر منهم يقذفون بأرجلهم جثث القتلي... حتي اذا وصلوا الي الحسين، تناولوه من حبرته الحمراء،و بضربة واحدة من سيف، فصلوا رأسه، زرعوه علي رأس الرمح!!! انطلقوا - هكذا - برأس الباز... اما الجسم المسجي بحبرة الدم فأضحي مداس النعال!!! بعد لحظات شملت المكان كله فراغات - كأنها من الزمان اغماءات الزمان! [ صفحه 161]

ظل النقوش

اشاره

أي شي‌ء في الوجود بلا ظل؟ للنور ظل، و للعتمة ظل، و للظل ظل، و لظل الظل أيضا - ظل، و الحياة بأجمعها تسلسل اظلال تتشعب من ذاتها في حقيقة المحسوس و غير المحسوس في الدائرة العظمي التي هي - وحدها - ظل الله المحيط بظله. اما الاظلال كلها فهي حتمية انعكاس الحق النابع من ذاته المرسخة في ضمير الوجود، حتي لا يمحي ظل الله في سليقة خلقه. و للظل أثر يتركه في الصفحة التي ينزل عليها، و له وزن من ثقله، و لون من دباغه، و طعم من مذاقه، و طول، و عرض، و عمق: من حجمه، و مدي ضغطه، و عمر تسلسله في الاستمرار و التكرار... من هنا نري أن الانسان في تكوينه الفيزيولوجي النفسي المركز، هو المرآة المنعكسة عليها كل الاظلال التي مرت علي اعماره في مدي الأزمنة. لا أقصد من هذا القول ارتيادا لحدود فلسفية حول نشأة الكون و نشأة الانسان - بل يقوم القصد كله في توجيه الاشارة الي كل الانطباعات التي يتطبع بها تكويننا الجسدي - النفسي في وجودنا الانساني، و من أجل هذه الانطباعات ما تحوشه النفس [ صفحه 162] و هي في عتمة الظل. فالطفل - مثلا - و هو في رحم أمه - يكون له أن يتقبل نقشا في تكوينه الطبيعي أو الخلقي الروحي، قد لا يحصل علي مثله بعد أن يبصر النور... معني ذلك: أن دورة الدم في عروق أمه تحمل هياج أو هدوء انفعالاتها النفسية، و لا بد لها من أن تضخ تلك الاشعاعات المتولدة في الظل الحميم، الي كل مسام الجسم المتنامي في احشائها، و هذا هو ظل الظل في نقشه المعتم. ان الاظلال كثيرة من هذا النوع، و هي لا تحصي، لا بأشكالها، و لا بأنواعها - تنزل علي السمع، و تنزل علي البصر، و تنقش صفحة النفس نقوشا عميقة، و تنقش العزم و الفكر و الخيال ببطولات و عبقريات من نوعها و لونها، و من عمق مداها. و قد يكون لها عمل معكوس، تقلل كثيرا من قيمة الانسان، و تقتل فيه نفحة الجدوي. ان القسم السابق كله من هذا الكتاب - و عنوانه يحمل معناه: «نقوش الظل» هو الذي تعرفنا - من خلاله - علي بعض النقوش التي كان لها بعض الحظ في العلوق علي صفحة النفس عند علي الأصغر، منذ ولادته حتي الثالثة و العشرين من عمره. لقد سلسلنا بعضا منها حسبناه - من دون شك - قد حفر في صفحة نفسه حفره الممتع، علي الرغم من الظن - في بعض الأحيان - أن علاقة بعض منها ضئيلة جدا في عملية التكوين النفسي المنشود. [ صفحه 163] و فوق ذلك، فان للتكوين النفسي عند مطلق انسان، روافد روافد، من أين لأية عين أن تتمكن من تعيينها و تتبعها في عمليات التشابك، و التداخل، و الاندماج؟ غير أن الاعتراف بحصولها و غزارة مواردها، مع التقصير في الاحاطة بمجالاتها، يجعلنا نحترم مداها، لا سيما عند الذين يحتلون مراكز مرموقة في مجتمعية الانسان. لقد مهدنا بذلك حتي نقول: ان النقوش التي اشتغلت بليغا في نفسية علي الأصغر، هي أبعد من أن تحصي و توصف، و لكن المسوق منها، و ان يكن قليلا، فجدواه في تبليغ الاشارة الي نفسية متينة نقشتها احداث معينة، كان لها أثر في عمليات التكييف، و البث، و الاخراج، و انها تبقي - أبدا - نقوشا تلونت بها الصفحة الثمينة التي هي المرآة المنعكسة عليها مدارج الاظلال. [ صفحه 165]

اطارات الامامة

لقد خيم الحزن علي آل البيت منذ الزمن الأول - فلنسبر غور شحناته ابتداء من الامام علي الأكبر، وصولا الي امامنا علي الأصغر، و هو رابع في خط الامامة، منذ هذا اليوم العاشر من محرم المختوم بحزن كربلاء! لقد صدم الامام علي بموت الرسول، و لكن حزنه ذاك، ما كان ليتمرد لا عليه، و لا علي آل البيت أجمعين، لو لا دفق ردي‌ء اخر رجمهم به اجتماع السقيفة! و لقد تجدد الرجم و تضاعف الحزن مع كل عملية من عمليات الابتزاز، أبعدت فيها الخلافة عن محورها الأصيل: من أبي‌بكر، الي ابن الخطاب، الي ابن عفان، الي زرع كل أسباب الفتنة و الضيم في غوطة الشام! اما موت بنت النبي، و زوجة الرجل العماد، و أم السيدين الموصولين بالامامة وصلة الأمة بالرسالة، و وصلة الرسالة برياض الجنان، فانه ألهب الحزن في المفاصل، و حفره في الخواطر، و جعل «فدكا» أخت السقيفة... اما الدور الذي وصل - هزيلا - الي الامام، بعد خمس و عشرين حجة من قطيعة، فانه دغم الحزن بالمرارة، و استمر يفعل بالنفس تشريحا و تمزيقا، حتي أطبقت ساحة [ صفحه 166] المسجد في الكوفة علي الامام و امتصته قتيلا! و انتقل اصراع مع الحزن المستمر الي الامام الثاني، و هو السيد الحسن - و تكشفت الأحداث عن نوايا مبيتة و موصولة و صلا دقيقا بمخططات السقيفة، و كلها مشغول بفن من فنون العفاريت، تقضي قضاء مبرما علي طالبي رفعته في المجتمع سبل المكارم، و سلمته مقاليد السياسة و التوجيه، و تقبلت منه خطوط الفكر، و خطوط الروح، و كل آيات الله في قرآن كريم. لقد ظن ذلك السفياني الصغير، ان باحات المجد تسكرت أمام خطواته المخبولة بأفكار الشياطين، و أن توحيد الأمة بأشعة الخير، يقطع حبال القبائل، و يفرطها الي واحات الزفت و الكبريت!!! ألا فليفعل شيئا يمنع الخط عن طالبي يحاول تنشيف الأرض من حراتها!!! و حراتها هي من القبائل المشرورة فيها من عهد عاد!!! و ابتدأ الفعل العظيم يسري: مع تكوين السقيفة - مع تجريد فدك من نخيلاتها الباسقات - مع زرع معاوية في غوطة الشام، و حصر بردي في أكواب بني‌سفيان - مع حشد القبائل و تخبئتها في المخندقات، حتي تتم بها الهجومات المباغتة - مع المبيتات المدفونة في الصدور: سما، و قيحا، و صديدا من زئير القرود، يصطاد بها كل طالبي يمشي علي الطريق، و هو في غفلة عن القدر المحوك! [ صفحه 167] مع الوقت راحت تتكشف هذه النوايا المرصودة، بكل ما هو مخطط لها. و كان افتراض الظن يلقي علي عامل الوقت تنفيذا ممتازا و حازقا لما هو مرسوم، حتي اذا ما تمر خمسون أو حتي مئة عام، يكون قد انقطع خط الطالبيين من بين الأنام، و بقيت ساحة الدنيا لسفياني أكيد، يجدل من شعر رأسه حبلا يزنر به خصر الأرض، و يملكها: ذهبا، و مجدا، و عبيدا، و اماء!!! و ابتلع ريقه الامام الحسن - و راح يعد الأيام، أيام الدهر في حياة الأمم، و وجد الصبر يطول عمر الاناة، و هو يقرض حبال الثواني الفارغة، حتي يجعلها مليئة بقرعات الحق - و لا بد للحق من أن يخصب الهشيم، و يملأ قشه بحبات السنابل! و لما جاء دور «جعدة» المسلوخة من بني‌سفيان، تناول الحسن من يدها جرعة السم، و اختصر أيام الفراغ، حتي يبقي هو - نموذج حق تمشي الأمة علي مدارجه اذ تستفيق علي همسات الحقائق، و تبني ذاتها من جديد علي نور وحدة فاعلة، تخصبها الرسالة العظيمة بخلود الحق. و بقي الحزن وحده الملقط الجامع آل البيت - لقد أصبح الآن و جيبا يملأ الصدور بأظلال رهيبة - و لقد تناوله الحسين و مسح به وجهه، بعد أن اكتحل به و اعتصب. انه - فعلا - حزن رهيب، طوقهم به شيطان رهيب! و لكن الحزن الواصل الي الحسين - ساعديني يا مدارج [ صفحه 168] الذهن حتي أتمكن من تحديد الحزن الذي تكون في طوية الحسين - فانه من النوع المجنح، قد لا يكون لنا أن نحسبه حزنا، اذا قارناه بأحزان الناس... انه عند الناس مضيض من أسي، و كوم من لوعات! اما عند الحسين، فانه حزمة واحدة من صمت و تأمل - و انه مدي آخر من ترقب مصقول، يعد ذاته لقفزة مثلي يملك بها روعة المجهول... و للمجهول عنده حدود من مجد تربط الدهر بعمر الانسان، و تعتبر الانسان تحقيقا رخيا، في اللحظة العتية التي يمسح فيها صدره بومضة واحدة من بريق العنفوان. لم يحترم الحسين أنامل الحزن تمسح دمع العين حتي تعود العين الي سفك مجدد... ان الدمع يغسل العين - فقط - حتي تري، لا من أجل أن تعمي... و تغرق في النزف... و تخنع و سحقا لحزن يشل قوي السمع... و مجادل النفس و أفانين البصر! و قفز الحسين بحزنه المطيب فوق فوهة المجهول، و لقم الشهادة كلها بعنفوانه المطلق: - اذما تمسح النفس صدرها بوميض العنفوان، يمح ظل الحزن من مدمع الانسان، و تبرأ من قزمة الشيطان ردهات الجنان. و شاهد الامام الصغير، بعينه الكبيرة، قفزة أبيه فوق لجج [ صفحه 169] القهر، و رأي ملوك العهر تحت مواطي‌ء النعل، لا يشرئب لهم خفق الا خفق حقير... و رأي ذل الأرض كلها في دخانه الأغبر، لا تتعبا به الا صدور الأفاعي في زحف زنيم يتجاوب به زحف زنيم... انه الختل - وحده - يمتص ذل الأرض، و يمرغ الأرض بروغات الجحيم! اما العنفوان فانه الهابط - وحده - في مجادل الأسلاك، يشتري يقظة الذات من غيبوبة الحق، و يربطها بومضة الصبح، و ينجيها من غرق في حزن عقيم، تيبس به العين، و ينطفي فيه القلب، و تتلاشي معه نبضات الضمير! منذ كان صغيرا جدا هذا العلي الأصغر، و أبوه الحسين ينقشه بمثل هذا النقش الأمثل - كان يفهمه أن الامامة التي هي منه و له، هي وفود من علاء، و أن الحزن الذي يتغشي أمامه من حين الي حين، هو عقيم أجرب، و ليس للنفوس الأبية أن تعيره أبها، و أن تعريته من قمصانه هو الأجدي و الأصوب، لأن الخضوع للحزن منقصة من مضاء النفس، و اقرار له بالغلبة، و ان التسلط علي أسباب الحزن هو الذي يبريها و يعييه. و ما ضوءل الحزن علي أبيه و لا شحت عببه، بل استحالت نجاواه الي كآبة غطت الوجه بمياسمها النبيلة، و سادت النبرات بهدوء رزين، و بقي هكذا ظل النفس تحت و شمه المبارك، ينسف الحزن من تشعبات الطريق، و يعلم الأمة صلاة الحق حتي يرفعها الي علياء ربها و ينجيها من كفر المارقين. [ صفحه 170] لقد تحول الحزن في عين الامام الأمين و ثيقة من فن أصيل، من أجل تعزيز رمق الشهادة، من أجل رفع الذات من وهدة الذل، و تسجيلها حرفا من آية نطق بها جده نبي المرسلين. ان اطارات الامامة أمنع من أن ينشفها الحزن من الفرح الآخر الذي هو عز الحياة و جلوة الحق... ان مقر الشياطين هو - أبدا - في صقر، و ان نقطة واحدة من عنفوان الحق تطمر الشيطان في جحيمه... [ صفحه 171]

رمق الشهادة

و ابتدأ يتعزز في العلي الأصغر رمق الشهادة... مع هذا النهار الأول البازغ من تحت أقدام أبالسة الجحيم ابتدأ يتعزز رمق الشهادة التي قدمها حسين كربلاء... لقد شاهدنا - و شاهدت الأجيال - كيف كان يتفجر الجحيم فوق هامات الشهداء... كيف كانت نعال الهمجية تدوس أجسادا جردتها من روح الله المسكوب فيها، و راحت تحز الرؤوس ترقص بها مشكوكة علي رؤوس الرماح... كأن الله ما جدل ذاته فيها آيات منورات شعت بالحق و كحلت به مقلة الانسان. هؤلاء هم شياطين الجحيم - أو بالتعبير الأصح - وحوش الأرض نزلوا كربلاء و مثلوا بأشلاء القتلي و أضرموا النار في الخيام و الأخبية، فحجزوا حريم الحسين، و الأطفال، و المرضي، و ساقوهم سبايا كالأغنام في شوارع الكوفة، لتنشرح بهم عين الأمير، حاكم الكوفة، عبيدالله بن زياد. قرت عين الأمير اذ وقعت علي كوم من سبايا مغلولات بالبؤس، و الحزن، و تمزيق الصدور، و في رفقتهن فتي حقير تشد به الي الأرض أثقال المهانات... تأفف الأمير الخطير الشأن من [ صفحه 172] النظر اليه، و هو المدله برقعة مجده، و انحدر اليه بالسؤال. - من أنت؟ و كان الجواب الصغير كأنه لطخة من تهكم: - علي بن الحسين... و اشمأز الأمير من رنة الجواب و انبري يسأل: - ألم يقتل الله عليا بن الحسين؟!! و ارتفع الفتي الوضيع قيراطين فوق راحتي قدميه و قال: - «كان لي أخ يسمي عليا، قتلتموه... سترونه أمامكم يوم القيامة». و لكن الأمير الذي تعرف الي الله عن لسان محمد تلطي برب محمد، و أحال عليه ثقل الجريمة و هو يتبرأ: - لم نقتله نحن، ان الله قتله. و علي الفور كان الجواب: - صدقت: «الله يتوفي النفوس حين موتها... و كان لنفس أن تموت الا باذن الله». و لكن - اعلم أيها الأمير: ان الله لا يقتل، بل يحيي... و اذا كان الموت باذنه - سبحانه [ صفحه 173] - فهو استدعاء و اثابة... أو - بالمنطق المجرد - استيفاء النفس الي مصدرها. لم يرض الأمير جواب جري‌ء مؤمن، بل خبله الجواب الذي لفه بثوب الهمجية و جلببه بجلد الوحش!!! و هكذا أمر الجلاد الواقف علي بابه، بضرب عنق الفتي الجربان المتجري‌ء علي سيد المكان. نحن الآن في استحضار نفيس غير خائفين علي علي الأصغر من حذف عنقه تحت ضربة الجلاد، لأننا نعلم أن عمة الفتي الطاهرة زينب، المهدودة الركن و العين و اللب، أخذته بزنديها، و اشترته بحياتها حتي لا تتم عليه جريمة الغاب... لقد رضخ ابن زياد - لوتر فيه كان في ما مضي ينبض - فتساخي و عفا. و هكذا نري أن شيطانا في نفس ابن زياد قد طمرته في جحيمه نبرة من عنفوان أمام فتي عمره في الامامة يوم واحد. و اندثرت قرون عددها أربعة عشر... و لا يزال رمق الشهادة ملتهبا بوميض النور: يزين اسما بمرجان الجنان... و يبري‌ء الثاني من عفة المرجان... و تكرم الأمير بلفتة من شهامة، دعمها بتساخيه و عفوه عن الفتي المغلف بحزنه و ذله، و أتاح له نعمة القيام بدفن أبيه و عمه الفضل بن العباس - فلملم الامام المهيض الجناح أشلاء أبيه [ صفحه 174] المحزوز الرأس من موازاة الكتفين... و أنزله في حفرة ما وسعها الا شرف الشهادة... و أنزل عمه الفضل في حفرة كريمة موصولة بأختها، مسقية بعطر الدم و مضمخة بنبل الفداء... بعد ساعة مضنية بالتأمل المسحوق، تقدم البطل شمر بن ذي الجوشن، فسحب الفتي من وهدة صمته، و غل عنقه بحبل أسود: لقد عين ابن الجوشن قائدا لنقل موكب السبايا من قصر الأمير ابن مرجانة في الكوفة، الي قصر الخليفة ابن معاوية في رحاب الشام. و علي ذات الموسيقي - من ضرب دف و نقر و تر - تم نقل السبايا في رزم مربوطة بخيطان رخيصة، علي ظهور أتن بلا أرسن تضبطها من هزيان... و لكن حمارا ذكيا، يركبه من هو أذكي منه و أفخم، كان يضبط حبل الاتن علي الطريق الممتد من الكوفة - عبر واقصة - الي تدمر فغوطة الشام. هنالك أطفال صغار في القافلة، كانوا مربوطين بحروج النساء... أما الكبار منهم فكانوا محزومين بزنانير حول خصورهم الي خصور أمهاتهم... اذا حددنا النظر قليلا نري - مثلا - زنارا محيطا بخصر فاطمة بنت الحسن، زوجة الامام ابن الحسين، و طرفه الآخر حول خصر ابنها محمد الباقر، أظن عمره الآن أربع سنوات... و نري أيضا بالقرب منهما الامام عليا الأصغر - و لا رجل غيره في حبل الأساري - يركب أتانا حقيرا بمحازاة أتان [ صفحه 175] حقير آخر تعتليه عمته زينب... ان الاثنين مغلولان بحبل واحد ممتد من عنق الي عنق لتشديد الدلالة علي أنهما أسيران محترمان ترهبهما خطوط القوافل، و تعتز بتقييدهما جيوش يزيد... و وصلت القافلة الي أرض الشام، و مرت في زواريب الأزقة - مرت في وضح النهار، و لم تمر في غلسة الليل، لأن الليل يغمض العيون بعتماته، و يحجز الناس المتفرجين في أسرة النوم، فلا يرون ما يريد أن يعرضه عليهم المهرج الراقص بسعادينه، و زمر دببه، و طبوله، و آلات زمره... ألم يكن المهرج ذاك يكني بأبي قيس؟ أحذق قرد في عالم السعادين، و أذكي من رقص في ساحات القرود؟ أليس هو - يزيد - الذي سيطر علي البصرة و الكوفة و أخضعهما تحت امرة عبيد الله بن زياد، فزنر كربلاء بسياج من رماح، و أسنة، و أقواس موتورة بآلاف النبال؟ أليس هو الذي شحن الليالي العشر بالرعب، و أطبق علي ساحة ليس فيها أكثر من مئة و ثمانين من النسوة و الأطفال، و العجز، و العزل الذين لا حول لهم و لا طول في اقامة حرب تستدعي حشد قوة من ثلاثين ألفا يصولون و يجولون بالأبطال، و الفرسان، و الخيول، و الرماحة، و نصابي قواعد المنجنيق؟ هل كان كل ذلك فيه أكثر من تهريج علي الناس، يبطن التخويف و الترهيب ان لم يبايعوه و يخضعوا لسلطانه؟ و يكون هو - في الوقت ذاته - قد نفذ القتل و التدمير، أمام عيون الملأ، بمحو العاصين الذين لم يخضعوا [ صفحه 176] لسلطانه؟ لماذا لم يأسر الثائرين و يرمهم في عتمات السجون؟ اذا كانت نيته صافية من التهريج و بث الذعر في الألباب؟ لماذا لم يخطف العاصين - هؤلاء - خطفا بهجوم لا يستغرق منه الآن أكثر من ثلاث دقائق، و يستريح من الرقص و التهريج؟ لماذا لا يقلد الا الفهود و الهررة - و هما من فصيلة واحدة في القفز و الفتك - فالهرة الشرسة لا تلتهم فريستا الصغيرة الا بعد خمس ساعات من مداعبات فيها كل لذات القهر، و العهر، و التهريج المرير؟!! أليسوا هكذا فعلوا بجرجرة السبايا في الأزقة و في وضح النهار؟ حتي يرهبوا الناس بلون فتكهم الذئبي - الفهدي - الخنزيري - الملطخ بشراسة السراحين؟! يا للقسمات الواضحات، رجعوا بها الي طبائع الحيوان، و لم يسموا بها الي مدارج القرآن!!! أخذوها من ظفر فهد و هر، لا من أنامل عطف و بر... و لا من سمو، و لا من ايمان نقي، و لا من رهان جليل لتحقيق عزة الانسان، و حضارة الانسان، و تعزيز الوجد في ضمير الانسان!!! هكذا دخل القائد المفدي شمر بن ذي الجوشن - بالسبايا - أزقة الشام، راقصا برأس الحسين مشكوكا علي رأس رمح - و خلفه رتل من سبايا صامتات، مصونات، مغلولات بذل مسحوب من قفا قرد، و ظفر هر، و عين خفاش!!! وحده - علي بن الحسين - قفزت به الأظلال من مدي الي مدي، اذ هبط عن ظهر أتانه الي شوارع الشام... لقد كان ينوء [ صفحه 177] بثقل حزن لا هوادة فيه، و هو يخط دروب البادية من واقصة حتي شرائح تدمر - و لكنه الآن - و قد تلقفتهم عيون الناس في المدينة - خف الي نفسه، نسي أنه الذليل - الجريح - المدمر، لقد تبدل به عنفوان الذات من متعب، حقير، مهدوم النفس، و مهدوم العافية، الي بطل آخر: يرفع جبينه شعار العز، و يوسع صدره فخار الانتصار... هكذا مشي تحت عيون الناس: بقدم هزيلة مثقلة، و لكنها متينة الثبات - بعين مفتوحة بنعاسها، و لكنها غائمة القرار - بجبين مفسوح و مرفوع، و لكنه مهزوم المدي - بيد مكبلة الي خصره، و لكنها مهزوزة الريح بأصابعه الملتاعة. و الناس؟ ما القصد من تكديسهم في الشوارع؟ أليس ليلقوا علي هذا الفتي نظرة التحقير؟! و لكنه - كما يبدو من ظاهر عريه - لا يستأثر الا بلفتة التقدير... فلماذا - اذا - كل هذا الحشد تنتخم بهم الأزقة؟ و ما هي الغايات من مثل هذا التذليل و التشهير؟!! لقد راحت عيون الناس تتبادل السؤال بتطارحات منوعة، فيها كثير من ذكاء، و فيها كثير من عياء... و لكن السؤال الصريح كان يتخبأ تحت اللسان، من دون أن يجرؤ فيفصح عنه أي بيان!!! ان التوريات - وحدها - كانت تتلاعب بالاشارة: [ صفحه 178] هذا شيخ مسن - بكي لما وصل اليه الفتي المخبول - فاندس قربه و راح يسأل: - أنا لا أراك تستحق الذل... ألا تكرمت علي بكلمة تخفف عني الضيم؟! وغمره علي بنظرة شفافة و أجاب: - هل يكفيك أن أقول لك: أنا علي بن الحسين بن علي، و ابن فاطمة بنت الرسول؟! ما كاد الشيخ يسمع التعريف حتي وجه رأسه نحو الفتي الأسمر، و راح يحدق به... بعد قليل هبط الي الأرض كأن اغماءة خطفته عن عصاه... و لما أراد الفتي أن يتداركه الي صدره، فاجأه من الوراء رفس الحراس لمتابعة المسير. و توبع المسير مع لجاجة الزحف... و تم الوصول الي باحات القصر - فانكفأ الناس مفسحين للحراس بتمرير السبايا من تحت العتبات المذهبات، فالأمير يزيد و هو الآن الخليفة المهاب - بانتظار وصول فتي، اسمه علي الأصغر، ليتعرف عليه، و يستكشف سر نجاته من وطء النعال! [ صفحه 179] أما الفتي المحمول علي مثل هذه المحفات من التكريم و التشهير، فان عين الأمير ستقع عليه للمرة الأولي. لقد كان يعرف أن أباه الحسين خطير جدا، فهو من دوحة طالبية تجسم فيها الخطر علي سفيانيته منذ عهد الجدود... لقد أخبره أبوه معاوية - و عند معاوية الخبر اليقين - أن لا وصول لسفياني الي شرفة مجد، الا بسحق شامل لكل جذر من جذور الطالبيين... فليكن منهم - كطالبيين - من ربط الجزيرة كلها بملاحف الدين، و لكنهم - كسفيانيين - علي مهل، علي مهل رشيق، سيزعزعون الخط بتمويه العسل، و ستبقي لهم - في نهاية الشوط - آيات الرحيق... لهذا كان للحسين أن يموت الميتة البطيئة - كما كان لأخيه الحسن أن يموت الميتة البطيئة - كما كان لأبيهما أن تلفه الميتة البطيئة - كما سيكون لهذا الفتي المشهر به، أن ينزح بطيئا بطيئا الي يثربه، تجذبه اليه ميتة بطيئة!!! و أطل علي الدار الفسيحة المطعمة بالعاج و الياقوت الفتي الذي اسمه علي الأصغر، و بالقرب منه عمته التي اسمها زينب. و امتلأت أركان المكان بالسبايا المقرحات الرافلات بالخز و الدمقس و أوشحة البرفير، كأنهم جميعهن الهابطات من الجنان العلي، و هن الموشحات بالعفاف السني، لتقر بهن عين الخليفة في ساعة مجده! و ما أدرنا ما معني الخليفة؟ انه هو المغروف من نعيم محمد في الفهم، و الاستيعاب، و التمثيل، حتي يكون من [ صفحه 180] بعده في حقيقة الاستشراف و الاستمرار، من أجل امداد الرسالة بمقوماتها التوحيدية الجامعة، و السير بها من مداها الي مداها الأصيل. علي الخليفة أن يكون فرعا من مغزل المخلوف: خيطا و غزلا و تعيينا... فما أجل هذا اليزيد! حظي بالتعيين الرزين، قبل أن يترك الأرض ولي المسلمين. وقف العلي الأصغر تحت شملة اليزيد الأكبر، و تناوله - دفعة واحدة - من فوديه حتي أخمصيه. ثم فتل القاعة كلها بعزلة عينيه، من شهقة السقف حتي الحضيض المنضد - ثم أدار عنقه المغلولة بمرسة سوداء، و راح يدور بها من وجه الي وجه، كأنه يتفحص نفس كل عزيزة من أهله: ما هو لون مشاعرها في هذا المدرج الأنيق؟ لقد لف الصمت الفصيح كل القاعة بهذا الشكل المبدع - لم يتململ منه - في النتيجة - الا يزيد... لقد أحس أنه أمام رجل بعيد جدا في لمحه الأخاذ، حتي أنه رأي نفسه - تحت هاتين العينين - كأنه المعري من كل ما يستره عن العيان. لقد أدرك أنه - من لمحة واحدة - فهم كل ما دار و يدور في خلده، و أن كل ما سيقوله له، قد أصبح في حقيقة فهمه و علمه، و أن كل احترام سيقابله به، انما قد فرضه عليه ثقل آخر فطنت به المعية في شخصيته، و توازن في مواهبه... و سريعا ما رأي نفسه محتاجا [ صفحه 181] للتخلص من وقوفه عريانا أمام من قصد - هو - أن يعريه من عزته المنقوشة في بطانة نفسه، و الموصولة بجده الكبير، نبي الأمة، و نبي المسلمين. و هكذا استدعي رئيس الديوان، و قاله له: - فكوا أغلال القوم - و خذوا الأسيرات الي غرف القصر - و امسحوا حزنهن بما يلزم من التكريم - و ألبسوهن ثياب الأميرات. أما أنت أيها الامام، فاقترح علي ما تريد - الا أن تطلب ارجاع رأس أبيك اليك... أصبحت أعرف أنك تحزر السبب، لهذا و فر علي و عليك خوضا بهذا المجال... ما عدا ذلك فانك المكرم في قصري حتي ترتاح من أتعاب رشقناك بها... انك تقدر - ساعة تريد - أن تعود الي يثرب بقيادة النعمان بن البشير... و لكني أوصيك بأن لا تتجاوز حدودك في يثرب، فأنت محترم في مجالك، و لا تتعد المجال... فهل لك ما تقوله لي قبل أن تترك المكان؟ لقد فهم الامام كل ما قصد الأمير عمله، و رأسا أجاب: - سريعا ما فهمتني أيها الأمير، و أنا بدوري لم تخف عني نواياك، لذلك لي عليك رجاء: [ صفحه 182] لا تشط في سياسة الأمة - انها أمة جدي، و انها أمة أجدادك بلا مراء... لقد وفرها سالمة عمي الحسن، و حقن دمها من الهدر، أما أبي، فأنت أخطأت كثيرا باهدار دمه، لا لشي‌ء الا أنه لم يرد أن يهدر عزة الأمة... فيا ليتك لم تقصر من أناتك، و ما عجلت علي امتلاك الدنيا التي لن تصبر طويلا حتي تفر من بين يديك... ما عدا ذلك، فاقبل نصيحتي، و لا تؤذ الرعية لعل جدي يغفر لك... بعد ثلاثة أيام كانت قافلة السبايا تستعيد رمقها نحو مدينة يثرب. [ صفحه 183]

النعمان بن بشير

و النعمان بن بشير؟ أليس هو اياه، ذلك الذي لف أصابع نائلة بقميص زوجها المقتول الخليفة عثمان بن عفان؟ لقد هاجت الثورة علي الرجل، فاقتحموا داره بالسيوف و الخناجر - صدت المرأة عن صدره بكفها ضربة السيف، فانبترت أصابعها و أردت الطعنة الرجل قتيلا. و اتجه النعمان نحو معاوية في الشام، بالقميص المضرج بالدم، و فيه ثلاث أصابع بلون العندم، فشهد زورا: أن القاتل هو علي بن أبي‌طالب... و لبس معاوية القميص، و علق أصابع نائلة فوق عتبات القصر، ليبقي له دائما ذلك الاستئثار بطلب الدية و استيفاء الثأر. يا للمفارقات الغريبة - فالرجل ذاته الذي خلد قميص عثمان، و جعله مأربا من مآرب بني‌سفيان، هو المكلف الآن بارجاع ابن الحسين - الي يثرب - في قميص السلامة. ألف النعمان بن بشير قافلة ارجاع الامام علي بن الحسين من الشام الي يثرب: من عدة هوادج للحريم و الأطفال، و من عدة جمال و بغال لحمل المؤن و اللوازم التي يطلبها طول الطريق، و من [ صفحه 184] عدة خيول مضمرة لقائد القافلة و للامام العائد مكرما الي مسقط رأسه، و لعدد من الحراس المولجين بضبط المسير، مع نصف الليل تم الرحيل المنظم - ستكون دائرة واقصة في الانتظار. قسم من الحراس أمام القافلة، علي رأسهم دليل، يليهم - رأسا - رتل الهوادج، ثم حصانان فخمان، يعتلي واحدا منهما الامام علي، و يعتلي الآخر علي اليسار القائد النعمان - ثم يأتي دور البغال و الجمال، ثم قسم من الحراس في ذيل القافلة. لقد كان الترتيب رسميا - و لا غرو - فالخليفة يزيد بن معاوية هو الآمر باعداد القافلة، و هي التي تسير الآن في حقيقتها من صحة التمثيل. اما الحديث الذي كان يدور بين الرجلين البارزين - وحدهما - علي طول الطريق، فانه كان كثير الاقتضاب، حسبما تفرضه اللياقة و الكياسة، أو بنسبة ما تمليه قواعد السلوك و بوادر التهذيب. فمن جهة، ليس بين الشخصيتين تعارف سابق، و من جهة ثانية - ليس الظرف الا قاسيا جدا لا يسمح بتناول حديث مفتوح: فوضع الامام مأسوي، و الحزن - بعد حصول النكبة، و عمرها بضعة أيام - هو الذي يفرض الاحترام، و بالتالي، الاعتصام بصمت و تأمل. بين الفينة و الفينة، كان يشعر ابن بشير بان رفيقه في الطريق، يوجه اليه نظرات مسترقة، كأنها فاحصة - ثم لا يعتم أن يخفيها ببعض التمويه. بعد الوصول الي «واقصة»، و هو المفرق [ صفحه 185] المشهور المتشعب شمالا نحو الكوفة و البصرة، و جنوبا نحو مدن الحجاز، توقفت القافلة علي طلب من الامام، للتوجه نحو الكوفة، للقيام بزيارة ضريح أبيه و ضريح عمه الفضل بن العباس، فلبي النعمان طلبه، و شكره الامام و هو يركز عليه عينا كأنها تحاول الاستفحاص عن دخيلة فيه يريد استكشافها. و عادت القافلة من الكوفة الي واقصة لاستئناف المسير، اما النعمان فانه صمم علي أن يسحب رفيقه من دائرة الصمت - و لما سنحت الفرصة توجه اليه بالكلام: - في صمتك كثير من التعبير عن حزن أنت به أولي، ألا يمكننا أن نتحدث قليلا يا سيدي فنبري طول الطريق بما قد يخفف من ثقل معاناتك؟ فتبسم الامام بسمة مهذبة القصد و التوجيه و استدار نحوه مجيبا: - لقد لمحت يا سيدي انك تريد الاحتكاك بي علي مرتين كنت أنا فيهما أحاول أن أنفتح عليك. أما و قد سبقتني بالمبادرة، فلا بأس من أن نتبادل معا أطراف الحديث. لقد طرح الخليفة اسمك علي عندما و عدني باخلاء السبيل. هكذا عرفت أن النعمان بن بشير هو الذي يقود قافلة ارجاعي [ صفحه 186] الي يثرب، و من هنا أقول: لك نقش في بالي طول ظله سبعة و عشرون عاما... و لكن عيني لم تقع عليك الا مع بداية هذه الرحلة التي تردني أنت فيها - هكذا - حزينا - الي مسقط رأسي. سمعت بك و أنا في الكوفة - كان عمري أربع سنين - و أنا الآن في الرابعة و العشرين. اما الحديث عنك فكان قبل أن أولد بثلاث سنين، أي سنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان. و هكذا فان مقتل علي فبعد هذا التاريخ من مقتل عثمان بثلاثة أعوام، علي يد مجرم تعرفه أنت - و عرفته أنا باسم ابن‌ملجم المرادي. أتراني بهذا القول يا سيدي أضبط أحداث التاريخ؟ أخذ النعمان الحديث المفتوح بهذا الشكل و لم يجب عليه الا بعد تفكير و استغراق: النعمان: يبدو انك تضبط نقلة الأحداث، و لكني لم ألمح بعد المناسبة التي نزل اسمي فيها علي بالك و أنت بعمر الأربع سنين. الامام: أن ذلك واضح يا سيدي - انها مناسبة مقتل جدي الامام علي، علي يد المرادي، و كان عمري في تلك الساعة أربع سنين! [ صفحه 187] النعمان: و ما دخل النعمان بن بشير بمقتل الامام علي؟ الامام: ألا تري لمقتل ابن عفان صلة بمقتل ابن أبي‌طالب؟ النعمان: أهكذا تري؟ الامام: أنا أري أن ما يحصل عن طريق المداورة هو أبلغ من الذي يحصل عن طريق المباشرة! النعمان: ربما يا سيدي، و لكني لم أفهم بعد ما تقصد. الامام: أنا لا أقصد الا شيئا واحدا يا سيدي: هو فتح حديث نشبع منه نهم الطريق، و نقطع به المسافات الطويلة التي - لو كان لنا أن قطعناها بروية و امعان - لكان نجا من بترة العمر عثمان بن عفان - و لكانت الأمة قد تربعت طويلا في حضن امام متين الرسوخ في كرسي البلاغة. قال الامام ذلك و سكت علي بعض التأمل - اما ابن بشير فراح يمضغ ما سمع، و هو غارق في مناجاة الذات - قال في سره: - ان الرجل عميق القرار، يلتهمك قبل أن [ صفحه 188] تمد اليه اصبعك. لا بد انه من الصنف الفريد، يشملك بمهابته اذ يلفك بهدوء عينيه... لقد بدا ذلك من تصرف الخليفة ازاءه: لقد استدعاه مكبلا من الكوفة، ليلعب به كما تلعب الهرة بالفأرة، و اذا بالفأرة هي التي تعلم الهرة تنعيم الأظافر. يا للنفس كم هي تزخر بالطاقات الجليلة تفيض بها العين فيضة سحر!!! في هذه اللحظة بالذات، توقفت القافلة و سمع صوت الدليل: - نحن في محطة «مياه العرب» فاستعدوا للنزول. بعد يوم من راحة - و كانت قد ملئت القرب من الماء المجمع الي المنطقة من الجبل القريب و اسمه «جيل لعلع» - انتظم المسير نحو «الحاجر» و جبل «لعلع»... قبل الوصول الي «التنعيم»، و هي آخر محطة رئيسية من محطات الصحراء، كان قد تم الحديث المعلق بين الرجلين مستكملا مواعينه. و هكذا كان لابن البشير أن جدد السؤال: النعمان: لا أزال متشوقا لاكمال حديث فتحته بالأمس و أبقيته ملفوفا بالغموض. لقد قلت انك تعرفني منذ سبعة و عشرين عاما - فهل [ صفحه 189] تفسر لي ذلك؟ الامام: ألم تحمل منذ سبعة و عشرين عاما قميص عثمان بن عفان من يثرب الي الشام! لا أظنك الا ذاكرا. و انفتل ابن البشير نحو محدثه كأنه رجع من غيبة تقدر بمئة عام و سريعا ما ملك روعه و أجاب: النعمان: صحيح... لقد نقلت خبرا ملفوفا... بقميص... انها نعوة... و لكن... أي ذنب في نقل نعوة ملفوفة بقميص؟ الامام: ليس القميص لنقل الخبر، اما قميص القتيل فمعناه: لف عزمك بقميص القتيل و لا تنس... فالثأر هو المطلوب في بث الخبر... أتريدني أربط ذلك بما جد من الأحداث حتي مقتل الامام علي بن أبي‌طالب؟ النعمان: و أي دخل لقتل الامام بنقل قميص القتيل الي الشام؟ النعمان: هنا الموضوع كله يا أيها السيد الباقي في السلك الرسمي من ديوان ابن أبي‌سفيان... أنا لا أقصد الانتقاص من عافيتك في ظل بني حرب... و لكم تمنيت - بعد أن تمليت من [ صفحه 190] معرفة الأوضاع - لو أن لمعة واحدة من لمع نشاطك الذكي، تمكنت من توجيهها - و قتذاك - لانارة الشعب المعتم في نفسية الناس المتلهين بوتائر الضغائن و أخذ الثأرات... لو درست أنت - في تلك اللحظة التاعسة - أسباب مقتل ابن عفان، لوجدت أن ابن عفان هو الجاني الوحيد علي ابن عفان، لضعف في البصيرة، و انشلال في النظر، و لسوء جسيم جسيم كائن في النفس من طوية جاهلية حقيرة الحقد، ما بنت مرة واحدة انسانا، و لا نقلته الي صف البشر. كيف رأيت - يا ضامن ايصالي الآن الي يثرب أن قاتل عثمان هو ابن أبي‌طالب؟ و ابن أبي‌طالب هو الأول في الصف المرزوم تحت عين نبيك، و نبيي، و نبي المسلمين... كيف رأيت أن ابن أبي‌طالب يقتل الانسان و هو يحيي الانسان؟ و كيف لم يمكنك أن تري أن العدل، و التقي، و طهر النفس، هي كلها في بنية الامام، و انه اشتقاق شفيف من نبي عفيف، سحب الجزيرة كلها من بطون القبائل، و نجاها من الخبل، و قال لها: كوني من معدن رجل يكملني، اسمه علي، و سمته علي، و نهجه علي، و لا تنزلقي الي غيهب [ صفحه 191] ماض لم يكن فيه غير الحقد، و غير أخذ الثأر، و غير الانفراط السخيف! قال الامام هذا القول، و التفت صوب رفيقه، فرآه علي ظهر حصانه مصغيا و هو منكس الرأس، فسكت قليلا ثم توجه اليه بصوت آخر، فيه كثير من انكسار النفس ممزوجا بعطف سليم، و ألم مجروح، و عتب دامع: - لماذا لم تصدقني في ذلك الحين؟ أؤكد لك - و لو لم أكن بعد قد ولدت - أني تتبعت خطاك. و لكنك كنت سريع العدو في قفزك نحو الشام... و لكني ما يئست، بل بقيت أمشي و راءك بخطواتي الهزيلة، و أنا أصرخ فيك: أقصف القميص من يدك، ان فيه خنجرا مسموما، يفرط الجماعة، و يمتص منها الصواب!!! بلغ الخبر وحده - اذا أردت - من دون تحريك الضغينة، و اللجاجة بأخذ الثأر... ان في ايصال القميص الي معاوية - اذ فعلت - هذين المعنيين، و هما من ملتمساته لاحتواء الأرض - و امتلاكها في عبه، ذهبا، و جاها و سلطانا... بينما الذهب هو ملك الأمة كلها في رفاهية الانسان الذي يبنيها بميزان الحق - و الجاه هو مطرفها المغزول بالوعي، و الفهم، و الادراك، و لا يجوز اذا [ صفحه 192] تعريتها منه - اما السلطان فهو العادل، التقي، النقي، المغطي الأمة بحبرات السماء... و من الحيف و الاجرام أن لا تلقي علي مثل هذا الأنيق سطوة السلطان. و التفت الامام صوب رفيقه، فوجده في ذات الغرق و ذات التركيز، فشدد عليه لهجة الطلب: - بدلا من أن توصل الي معاوية قميصا مسحورا بتهييج الفتنة، جلس من قناته - اذا عقلت - و قل له الكلام الجري‌ء اللامع، و أبعده عن مركب العصيان، و أربطه باطاعة السلطان، و لا تخف عنه حقيقة القول: ان ولينا العظيم - و هو محمد - طبخ لنا جوهر السلطان، و فسر لنا، بالبيان و العيان، لماذا و كيف ألقي علي علي و شاح السلطان. اذا كان معاوية لم يرد أن يفهم، فلماذا أنت لا تحاول أن تجعله يفهم؟ و سكت الامام، كأنه يريد أن يحصل من رفيقه علي جواب - و لكن الصمت كان غلاف الليل... و كأن الامام ما كانت له قابلية الصمت، و بصوت أخف قوة و مراسا، و فيه شي‌ء من بحة، استأنف البث: - هل تدري يا سيد الأمس، أني بقيت [ صفحه 193] أتتبعك في ذلك الليل - و أنا طفل هزيل القدمين - حتي وصلت الي المفرق الكبير المعروف «بواقصة؟» و لما وقفت أتبين أين صرت؟ رأيتك - مع شروق الشمس - تضرب قفاك بأزقة الشام، فقلت: هل سمع حامل القميص الستغاثاتي؟ أم انه ضربني بنعله و مر؟ و لما بلغت أربعا من عمري، و كان جدي قد خر صريعا تحت ضربة خنجر مسموم، بكيت و أنا أقول: انه الخنجر الملفوف بقميص عثمان! ليت النعمان بن بشير لم يحمل - أبدا - قميص عثمان. و انخطف صوت الامام - و لكن نشيجا سمعه مع خفقة الليل، جعله ينفتل صوب النعمان، فرآه يمد اليه باعه و يقول: - أنت يا سيدي بهي جدا أتراني هكذا أغرقتك في الحزن؟ و لكن حزنك بهي أيضا، أصابني منه رشاش عطر... و أسكته الامام بنبرة جديدة: - دع الحزن يكمل مداه يا صاحبي - انه الآن عنصر من كيمياء روحي. سأحوله - يوما بعد يوم - الي نوع من بلسم نداوي به - معا - [ صفحه 194] جراح الأمة التي هي، بالنتيجة، حزننا المفتوح!!! اما الآن، فما أحوجني أعرض عليك - بسرعة - كم جرح الأمة نزيز السم من قميص عثمان!!! انه كشف أليم زجك حرفا يابسا فيه نهج الخليفة عمر بن الخطاب! ليته لم يمرغ به ضلعا من ضلوعه في اجتماع السقيفة!!! اما النتائج، فتصور أنت مبلغ ضغطها في جسم الأمة الطرية العود: أول نقرة من نقرات الخطأ هي ثورة صغيرة حذفت ابن عفان... اما النقرة الثانية فكانت من نوع الشرارة الملفوفة في قميص عثمان، تذرع بها معاوية المزروع في غوطة الشام، و راح يخض بها جروح الجماعات الخارجة حديثا من عتمة القبليات... خذ يوم الجمل، و تذوق معي طعم المضيض... خذ معارك النهروان و استشرف معي فلسفات الجهل و مبتكرات العي... خذ كذلك معارك صفين، و متع عينك بشعاعين مقصوفين من بهجة الشمس... يا للقرآن نمزقه بأيدينا و نحن نعده بالآيات!!! خذ كل الامام علي - وحدة و تفصيلا - و امسحه من رضوان لنبي - فماذا يبقي لنا غير الكفران، و العصيان؟ و غير قرآن نكذب عليه؟ و غير أمة نبللها بذل قديم، [ صفحه 195] و نهدرها في مكبات الضيم!!! لقد حاول الحسن أن يرتق الفتق، و يجمع الناس من شتات الفرقة فكانت له دقة العنق - و حاول الحسين أن يرفض الذل، و يمسحنا بدفق العنفوان، فكان له بالمرصاد قميص عثمان لا يزال يلبسه - بالارث - يزيد بن أبي‌سفيان!!! يا للواقع الذي فجر الحزن علينا شآبيب شآبيب!!! و يا لنا - بمفاتيح الصبر - نبري حروف الضيم و نفتلها الي بلسم... ليس من أجلنا نحن في حقارتنا الهزيلة، بل من أجل الأمة التي صاغها محمد، من حزنه المطلق، لمجده المطلق... لم يكمل الامام نزف نفسه - عندما سمع عاليا صوت الدليل: - وصلت القافلة بخير - تركنا التنعيم و نحن الآن في يثرب... و التفت الامام - و كان الصبح قد شف - فرأي صفوف الأهل في يثرب بالانتظار الدامع - الصامت - الحزين... و وجد النعمان [ صفحه 196] بن بشير واقفا أمامه، مادا ذراعيه لاحتوائه ينزل عن ظهر حصانه... و اعتنقه النعمان و هو دامع صامت، من دون أن تخفق به أية كلمة. [ صفحه 197]

من يثرب الي يثرب

لم تكن كثيرة تلك الدروب التي مشاها علي بن الحسين. لقد كانت مصحورة بين يثرب، و الكوفة، و مكة، و مدينة الشام، و لكنه لم يترك يثرب و لا مرة الا و عاد اليها مثقلا بجني عجيب غريب جمعه باقات باقات، و خزنه في زوايا بيته... ثم بني قصورا ذات قباب، ما بني مثلها الا أثرياء قلائل، شحت بهم دروب الانسان، و اغتنت بهم مجتمعات الانسان. لقد رافقناه يمشي فوق الدروب، و لكننا لم نلاحظ مليا كيف كان ينقشها بخطاه، و كيف كانت - هي - تمده بعصارات تنز بها من تحت راحتي قدميه، فيمتصها الي جيوب نفسه، و يخمرها في وعاءات روحه، و يخزنها في خلاياه الوسيعة ثم يسكبها في ساعات الشح، يروي بها دروب العطاش التي يقحلها زفت، و كبريت، و حرمان، و حزن صامت، و جهل غارق في نسيان الذات. لقد رافقناه - منذ لحظات الولادة - يستقبل مع الصبح كوكب الزهرة، بأم تركته يتيما حزينا، و غابت في لجة الموت! لقد ظننا - لحظة تلك - ان تعويضا حنونا - باركته به جارية رؤوم أطافوها باسم غزالة، كان يكفيه، و لكن موت الأم شاهزنان كان قد طوق [ صفحه 198] البيت كله، و بمن فيه، بحزن صبغ السقف و الأرض و الجدران و طال الطفل - من حيث أحد لم يدر - و انسكب في عينيه، و طوية نفسه. حتي انه كان يمتصه من الثدي الذي كان يرضعه و يحنو عليه... و لقد رافقناه من يثرب - و عمره سنتان - الي الكوفة للتمتع بمعرفة جده الامام علي، و للتروض بحنانه، و كنا نعجب - و قتذاك - كيف كان للطفل انجذاب قوي الي حضن جده، من دون أن ندرك أن شبيه الشكل منجذب اليه، فالحزن الذي كان يفيض من نفس الامام في دوحة عينيه، كان كافيا لتعجيل انجذاب الحفيد المبني - بالحزن البكر - الي ما بين يدي جده الرائع... و تم عشق متبادل بين الجد و الحفيد - أضحي سببه الآن بهي الظهور - أغرق العلي الصغير بحزن غائر الحدود، عندما شاهد جده محمولا علي الأكف، و قد غدر به ذلك الجلف المرادي... و لم يفتنا في ذلك الحين أن نطرح السؤال علي الذات: كيف يمكن طفلا، لم يتجاوز الأربع سنين، أن يتناول مثل هذا النوع من الحزن المركب؟ فالجريمة التي حذفت ركن البيت و ركن الرسالة، انما هي تهديد مخيف، يشمل الواحد منهم تلو الآخر، لأن الخط الأموي يقصد استئصال كل طالبي تجهزه الرسالة لاستلام القيادة. لقد أصبح مثل هذا الهاجس المرير محفورا في البال، و أصبح التصرف الحاصل علي الأرض يثبته واقعا مريرا. ان تجريد الطفل علي من هذا الحدس غير مصيب، فالامامة زرع في نفسه، تعهدته [ صفحه 199] الرضاعة، و تعهدته العناية الخاصة، و كل لفتات العيون، و ان الامامة ذاتها هي التي تنفذ فعلها فيه، من حيث سيأخذه، ذات التحسب و ذات الوجيف، بواسطة حسه الضمني، و عقله الباطني، و هما قوتان منقوشتان في سليقة الانسان. بهذا الحس الضمني و العقل الباطني المجردين من فعل الارادة، تم للعلي الصغير التقاء بعمه الامام الحسن، بعد فراغ مقعد الامامة من الولي الأول - لقد هفا اليه بكليته، لأن الامامة انتقلت اليه، و هو الآن في المركز المهيأ للدفاع عن الذات، في سبيل تقرير المصير. و انفتل الحزن في عين الامام الصغير الي نوع من فرح ولدته الطمأنينة في البال... و لكن سير الأحداث الي مثل ما انتهت اليه - مما جعل الامام الحسن يخسر المعركة الأساسية، و يخسر قيادة الأمة و لو الي حين موعود به، و مهدد بأكثر من كذب و احتيال - أعاد الحزن ذاته الي نفس علي الصغير، و دغمه دغما مريرا بحزنه الأصلي الراسخ فيه. و عادت القافلة من الكوفة الي يثرب، تحمل آل البيت ملفوفين بهواجس الصمت و الترقب. اما الامام الصغير، فان اطار الحزن كان جلبابه الأوحد، يحاول أن يفتت من حروفه و لا يقدر - انه قدره الكبير الحامله الآن الي يثرب. [ صفحه 200] و كرت الأيام الشاحبة، حاملة معها هموما تكدس الهواجس، من دون أن تلونها بتعلة - فمعاوية المتربع في الشام فوق كرسي من ذهب، مهد لانتقال العرش الي ابنه يزيد - اما الأمة كلها فأصبحت زمرا زمرا من قبليات تنام من أحضان البطون، و ترقصها هزات القرود. كان يشغل بال معاوية أن يموت قبل الحسن فاذا حصل ذلك - حسب اتفاقية الصلح - فالخلافة تعود الي الامام، و يخسر يزيد ارث أبيه... لهذا أسرع معاوية الي النفاق الذكي، و قضي علي الحسن بلعقة عسل، و حول الخلافة كلها الي يزيده الأمثل، ليموت - هو - علي مهل، مرتاحا من أي شرط يقلل من روعة الكرسي، و لمعة الذهب. أي شي‌ء أرهب من دخول لص حرم بيتك، في وضح النهار، فيحملك علي مجالسته و الترحيب به، ثم لا تدري كيف أنامك في فراشك، و خطف أنفاسك، و سرق مواعين بيتك، ثم قهقه و رحل... هذا هو كل ما حصل في بيت الحسن: لقد فتحت الباب لمعاوية جعدة بنت الأشعث قريبته من بني حرب، فدخل و ناولها كوبا من عسل، سقته زوجها الحسن، فنام و لم يقم من غفوته! [ صفحه 201] و ارتاع الامام الحسين، و اشتعلت الحرائق في روحه و دمه، و فتش الأرض كلها من حواليه، لعله يجد حساما أبيا - يضرب به باطل الذل و التعدي - لا يقصف... فوجد الأرض كلها أذل من وتد... و أن النفوس كلها قد ذلت تحت أقدام العبيد... فمادت الأرض تحت قدميه، و اشرأبت به علياء أخري، ضربت رأسه في السقوف العتية، فتعلق بها، و راح يشحذ سيفا سله من بين ضلوعه، سيف المجد الذي سيشتري الأمة المذللة كلها من براثن الخفافيش. و انسل هاربا من تحت عيني رجل سفياني اسمه الوليد بن عتبة - حاكم مدينة يثرب - كان يحاول أن يضمن له سلامة العنق، بمبايعة رجل لخلافة نبي المسلمين، اسمه الأول و الثاني يزيد بن معاوية، و اسمه الثالث سفياني... يا للمسافات الرخيصة، شطبت اسم الحسين من مدينة يثرب، مدينة النازحين الخالدين و سجلته في محارم الكعبة، حيث سيعقد مبايعة رفيعة القناطر، لخليفة رأسه في سماك العز، اما اسمه الحي الأبي القيوم فهو العنفوان. أما علي بن الحسين، فانه اندس تحت ابط أبيه، و ذاب في اريحية ظلة، و سافر معه الي كل الأفياء السخية، بصمت ما عرف أبلغ منه خشوع المتعبدين. و تم شحذ الحسام علي التصميم الرفيع، و انسل الامام [ صفحه 202] الحسين من تحت كلابة عيني حاكم مكة، ذلك الداهية الآخر، عمرو بن العاص توأم معاوية في الحياكات الملونة النسيج: بالخيط، و المكوك، و الحبك المقعر... اما القافلة المزنرة: بالحريم، و الأطفال، و الموالين الأصفياء المتسلسلين من نعمة الصدق و بحبوحة الاباء، فهي التي اخترقت حدود الرمال، في سفر معين الرحل، و معين القصد، و معين المآل، في كل ظاهر يدل عليها بأنها قافلة يحبو بها الرفض الي حفر الموت المصبوغ بدم الشهادة. و ألقت رحلها القافلة المقدسة في أحضان كربلاء، بابطالها المئة و الثمانين المدججين بسلاح ماض الظبات، تنتصر به كل أمة يطالها ذل البغاء، و تعود- به - الي اعتناق الحق، و اعتناق العز، و اعتناق الرجاء. و تمت مسرحية المأساة فوق خشبة الأرض، قامت بها زمر زمر من العفاريت السود: زنانيرهم سوداء، و جباهم سوداء، واقفيتهم سوداء من كثرة ما احتكوا بحتات الفحم قبل أن يبيضه الرماد، و نعالهم سوداء مسلوخة من عتمة ضمائرهم السوداء... يا للشياطين تملصت منهم نعمة الحق، و نعمة العقل، و نعمة الصلوات... وحده الناجي من تحت النعال، ذلك المطروح مريضا مقعدا فوق بلاس أسود - وحده علي بن الحسين - وحده الباقي من بين [ صفحه 203] الرجال - شاهد التفصيل في واقع التمثيل، و شاهد النعال تعلو و تهبط في صدور الرجال، و شاهد السيوف الملتمعة بخفق الدم، كيف يرقصها سفك الدم، و كيف تسكرها حميا الدم، و كيف لا يبريها هدر الدم!!! و شاهد رأس أبيه مشكوكا برأس الرمح - يتغني به رأس الرمح - و يرقص به رأس الرمح - و ينتصر به رأس الرمح!!! فهب من مرضه الذي ذاب - و جلس علي بلاسه الذي ابيض، و حملق عاليا عاليا فوق السحاب، و امتلأ صدره بضمخ السحاب... فأبوه - الآن - هو العالي فوق السحاب... يا للعنفوان المضمخ، يحقق ذاته من تلقاء ذاته، في اللحظة التي لقمها فيها قطرات دمه. هكذا وعي ابن الحسين حقيقة استحالة أبيه الحسين فأغمض عينيه عن مشاهدة الدم، و راح يرنو الي غد آخر تري الأمة فيه هزة الرمح المشكوك به رأس الحسين، فترقص بها رماح العز و هي محققة لها مجدا مبنيا من رفض الذل، و مشتقا من عنفوان امام اسمه الحسين. و حان اختتام المسرحية المأساة باخراج منمنم لمشهدين جانبيين أضيفا علي شاشات الستار: واحد منهما مرحت به شرفات القصر - قصر الحاكم عبيدالله بن زياد - باطلالاته الوسيعة علي ساحات الكوفة - تم فيها عرض أنيق للسبايا المضرجات بدمائهن المستباحة، و في وسط دائرة منهن رجل قصير حنطه [ صفحه 204] الذل، و ألبسه ثوبا منقوش الخيطان بغبار الموت، و جعله شبيها بملوك أقزام - يحركهم علي لوحة من خشب لاعبو الشطرنج. لقد تمتع - هكذا - ابن زياد بمرأي الانخساف و الانكساف يرفل بهما علي بن الحسين. كاد ابن زياد أن يسحب من وريد الأسير كل نقطة دم بقيت فيه تسرح... و لكن مهابة أنيقة شعت من حجة هذا الذليل، جعلته ينفك عن ورمه، و يلف الفتي الهزيل بحزمة السبايا، و يبعث بهن الي الشام فلا يفوت الخليفة يزيد بن معاوية تنعم بمرأي الذل في مشهد جانبي يضحك و لا يبكي، و تقر به عين قبل أن تتغمض علي حرير الوسادة. و جاء دور المشهد الثاني - في زواريب الشام - و أمام قصر الخليفة، و تحت عيون أفواج المتفرجين - صحيح أنها ضلوع المهزلة، و لطالما هرج بمثلها «قيس» يزيد، و لكنها الآن مهزلة ترنقت بالعبر. فالامام المهرج به امام الناس في الشوارع، و تحت عين الخليفة في باحة القصر، هو المتسربل الآن بمهابات جليلة البزوغ: من جبينه، و عينيه، و صفقات يديه، و حتي من اطلالة قده القصير الناحل المعبر عن طاقات فيه لا تزال في أختامها مستورة، و لكنها تبدو - في ظلها المقهور - هديرا من موج تسكت به أعماق أليم. كل ذلك قد لملمته عين الفجيعة من خوابي الفجيعة، فاذا [ صفحه 205] هو احتكاك بمعادن الذات، فجره الحزن علي مكامن الحزن في خبايا الذات، و استحال به الي عنفوان يرفض الحزن يكبل النفس بذل و يبعدها عن الفرح الذي هو لها في بهجة الصدق، و بهجة النور. ان العنفوان الذي فجره الحسين من مكامنه الرفيعة، يأبي أن يعرقله الحزن و يسد به الأبواب. لهذا كان يشدد علي ابنه الصغير علي، أن لا يخضع كثيرا لسلطان الحزن من دون أن يفتته من حروفه الذليلة، و يرفضه رضوخا لذل يكبل به طاقات النفس، و يمنع عنها أشعة النور و أفراح الحياة. في اللحظة ذاتها التي شاهد فيها رأس أبيه مشكوكا برأس رمح، تذكر أباه كم كان يلح عليه برفض الحزن جرذا يقرض قمصان الفرح و أوشحة المجد. و هو هو - برأسه المحزوز - يحقق الشهادة للعز المنيع، و يرفض ذلا تقوم به جوقة الجرذان. اما الجرذان التي أنهكت قميصه، فهي التي تقر له بالغلبة المثلي، و ترفعه عاليا فوق السحاب، حتي تراه - دائما - أجيال الأمة في بعثها الصحيح و رؤياها المجيدة. هذا هو بعض مما لملمه من خيوط اللمح هذا المهرج به في الكوفة، و المهرج به في الشام - لقد غرف العنفوان من دوحة العنفوان، و بدلا من أن يذله الحزن، راح يعززه الحزن، و يوقره الحزن: فهو البطل ابن أبيه، ينوف به الصدق، و ينوف به النبل، و الحق، و الايمان الكبير، و هو لحمة أبيه، و عمه، و جده، و نبيه الرسول فأي شي‌ء من تفاهات التراب يذلله، و يسحقه بالحزن [ صفحه 206] تحت أظافر الجرذان. بهذا الجبروت الذي تسربل به الامام ابن الحسين، تملك و قار الناس له، لا لانه فتش عن ثوب يلبسه فيتهيب به، بل لانه انتفض من حزن ذليل، فاذا به - في قماشة عريه - يبان في قميص و شمه به النقش الطريف. هكذا انصبت مهابته في حفيظة ابن زياد، فعفا عنه من حيث لم يرد أن يعرف لماذا عفا... و هكذا انفتل الميزان عند ابن معاوية: من تهريج مقصود، و تشهير ببقية حقيرة من ولد الحسين، الي خشوع ملقح بالوقار، و اذا به ينيله عفوا غنيا، من حيث لم يقدر أن يغرقه تحت موجات الجفاء... لقد رأينا كيف دبر له قافلة مدبجة بخيول عريقة، كان قائدها رجل مرموق في بطانة العرش، و لا يزال عليه قميص مزخرف من قمصان عثمان... ألا قليبل الدهر قبل أن يبلي قميص عثمان! و سار كذلك قائد القافلة - النعمان بن بشير - ناسيا انه حامل قميصا أغرق الأمة كلها ببحر من دم - أوصل العائد الي مدينة يثرب، ثم عاد الي الشام، ناسيا أيضا انه مأخوذ بمهابة رجل يقدس قيمة الحق!!! لو تعقل بالبشير مهابة الحق، لمزق قميصه الموروث، و بقي في عريه في يثرب، مع الرجل الذي كساه بقميص الحق. [ صفحه 207]

و في يثرب

و التمت كل خطوات الرجل في يثرب - الخطوات التي مشاها فوق دروب من تراب، و الخطوات التي مشاها فوق دروب من رحاب. انها الآن في المخزون النفيس، لقد أصبحت جميعها منقوشة في اللوحة المتينة، يفصل منها أزياء قمصانه، ليلبسها في كل عرض تتأنق به ليلة العيد. بضع خطوات لم يمشها بعد، سينهض اليها لتتميم مشيئة الأقدار، آخذا منها لونا جديدا يصبغ بها نعله فوق الطريق. لم يبرح مدينة يثرب بعد رجوع القافلة اليها من أزفة الشام، الا مرة في كل سنة للقيام بفريضة الحج، و التبرك بالرمز الموشح به حجر الكعبة. اما زيارة الكوفة - حيث يسجد مليا سجدة الحق، جده الأمثل، و أبوه الغافي فوق نصلة الرمح - فانه كان ينخطف اليها، في بعض غفلات السنين، في عب عتمات نادبات، فيصل الكوفة ليهرق دمعه، و كل زفرات روحه، فوق مرقدين لم ييبس فوقهما جفن التراب... ثم يعود محمولا علي صلوات تنسيه مشقات الطريق، و لا بد من انه سيسكبها أناشيد في صحائفه المفتوحة في بيته المعزول في يثرب. [ صفحه 208] في هذا البيت الغافي تحت سقف وضيع، كانت تتم حياكات علي نول منيع: سداها كل مدود النفس مما حوشت من ثقل السنين، في نقش محفور فوق ألواح الطوية، و علي بسطات الظنون، و لحمتها كل ما قامت به الاظلال من و شي مطرز باللون، و العمق، و البث المدقوق علي أوتار المشاعر، و المنسول من الخبايا الغائرة في دوحات الحنين... انها حياكات نول، كل ما فيه مكوك أنيق يلقطه العقل و خفق اللب، و لا يشد به الا الاستعراض الفسيح، ليكون للاستعراض رشاقة الاخراج في قماشة منسوجة تشهد انها و شاح لمن أخذت من سداه و من لحمته حبكة الوشاح. كيف لنا أن لا نرافق الامام في استعراضاته المشبعة بالحنين الممتاز؟ انه وحده النازل في هذا البيت الباقي له في يثرب - انه وحده العائد من مجزرة أرادوها لأبيه مقبرة بينما صاغها - أبوه - ملحمة هي الياذته في شعاع البقاء... من أبيه بدأ الاستقطاب... بدأ من الساعات الأخيرة التي ألف هو - أبوه - ثوانيها الباهرات. منذ أن خر جده الامام صريعا في ساحة المسجد، بدأ أبوه يهزأ بساعات القدر، و يتهمه بخنوع الذات، و أن لا بد من تصميم آخر يقلل من قبول معادلاته... و لما اضطر الامام الحسن لاقتبال الصلح الأبيض مع معاوية بشروط كان لا بد منها، كان الحسين [ صفحه 209] يضرب سقف البيت برأسه و هو يقول: - تبأ لقدر يمنع عنا السماء بسقف لا يذوب تحت دفعة النور! و لكن اختناق أخيه الحسن غريقا في كوب من عسل، جعله يجبل الأرض بقدر مخبول، و هو يقول: - أية قيمة لك يا أرض - يقعدك العار، و لا ينهضك شوق النار؟ و دثار العار - ان لم تطهره النار - حيف، و ذل، و شنار! لقد ظنوا أن صوت الحسين قرعة ذابت في رمال كربلاء... لا... يقول الامام الناجي من حريق كربلاء: - ان النفس النازلة من صلب حدي في امتصاصه قبس الرسول، هي التي اكتشف الحسين مداها... سيعيشي مع الأجيال صداها... أين أنت يا كربلاء؟ فتتتني حزنا مديدا... و أنا لا أستعجلك تجبلينني من جديد.. فالحزن الذي لم يردني أبي أتمادي فيه، بل أن أعريه من قمصانه السود - أحبه الآن قدرا لي - أتمتع به دمعا لذيذا، و ذكرا لذيذا... الي أن يكتمل شوطي... و عندئذ أستبدله بكآبة لا أظنها أخت الحزن، بل هي شفيف منه، يتغلف بها حنين الروح! [ صفحه 210] صدق أبي: ان الحزن هو التفل... اما الكآبة فهي عصارته الباقية باسم الحنين. اذا كان للحزن غزارة يكتب بها قرون الحروف... فيا ما أجل الكآبة من نتاجه! لقد غرق الامام طويلا في مثل هذه المناجيات، و لكنها بقيت حدودا صغيرة أمام ما يريد تلمسه في قعور الذات من تفهم القضايا الكبيرة التي تنسج في النفس نسجها المبدع، و تنتقل بها الي ارادات تصنع المشيئات، و تسجل العناوين في دواوين التصرف بشؤون الانسان الباني أمة الحق في عوالم الأرض، ليكون له ميراث منزه من أحزان الباطل النازح من جحيم الجهل، و الكفر، و معرة الشيطان. في كل يوم و في كل حين، كان يتم له اختمار رائع التأمل، يسبغ عليه لذة في الروح، يقوم و يسجد بها في الخلوة الخاشعة، دلالة شكر علي استنارة تطلع عليه من خبيئة نقشت فيه، يتم له بها كشوفات ثمينة تضي‌ء نهجا ثمينا. هب من نومه ذات يوم، و في عينيه اغفاءة تكشحها كآبة قال: - بدأت أعرف بأي ماء غسلت، منذ أن ولدت الي أن عضني ذل كربلاء - تسلسلي علي يا ثواني العمر، كم نالك فيها من سكب [ صفحه 211] خصيب، رخت به علي عين الحسين... و أغمض عينيه تحت ظل من سكون... و تراءت أمامه امرأة في قد نحيل - تظللها غمامات وسيعة - يوشحها حزن - و يرشقها نور... طرفته بعينيها و ذابت فوق طيات النعيم... و فتح الامام عينيه الي سماء منيرة، ثم تمتم بالصلاة: - عرفتك يا أم علي... يا طالما رأيتك تخطرين بروحك القدوس في عين أبي المدعوكة بالدم!!! أتظنينني لم أشعر بك نازلة في صدر غزالة المتوسع بك حبا حميما؟ يا للاسلام العظيم... لا تحسبي انني لم ألمح - لقد حفرتك عين أبي في أعماق روحي حفرها الأبلغ... و لا تحسبي أن جدي الامام لم يحفرك في بالي حفره الأروع - كلاهما حفراك بأزميل النور يا ابنة الجوار المفتوح بنور الرسالة... انها الرسالة جدي، و كم انها باهرة خلصتك من ذل الأسر، و ضمتك فارسية - ايرانية من مدارج الملوك، الي عربي طالبي من مدارج بني قحطان - يا للصلات بين الأمم، تربطها المثل الكريمة و الكبيرة، صدرا الي صدر، و باعا الي باع، في ظل احترام الانسان للانسان، علي بحبوحة الحق و بحبوحة الايمان... و ها [ صفحه 212] أنا الآن - يا أمي - ابن خيرتين: فارسية و عربية، تشهدان للرسالة بانها مدي الخير الوسيع الذي يبشر بان الانسان أخو الانسان... أظنك فهمت ذلك مليا يا أمي قبل أن تخطفك - الي فوق - ولادة الامام. و نزلت الكلمة - الامام - كأنها الهابطة من علياء، تسرح فيها الآن أمه خلف مدارج الجوزاء، و استقرت في اذنه التي تتجسد فيها محامل الأصوات: - و ما هي الامامة في مدلولها المطلق؟ أليست و عاء تسكب فيه مهابط البعث في ايحائه المطلق؟ أليست اطارا تنضبط فيه المناهج في تحسبها المطلق؟ أليست هي ذاتها الرسالة في وعيها المطلق؟ تري البعد بعينها الصغيرة و تلمح مداه في شأوه المطلق!!! لا لعمري انها حياكة جدي النب بمكوك ربه المطلق. ليس للأمة غير أن تبقي في حضن ربها المطلق. قصية جدا مرامي جديد في دستور الحياة، [ صفحه 213] و ترتيب الامامة هو أقدس ما انخط علي نول العناية و الصيانة، في سبيل أمة بناها الحق حتي تدوم ناجية من خيباتها الطويلة... الأمة وحدها هي الخاطر العظيم المالي‌ء بال محمد، و الانسان العظيم هو الباني أمة يخلد بها فكر محمد، و محمد هو وحده الرجل العظيم الزاهي بقيمة الانسان، و لولا نهجه في التوحيد لانفرطت مجتمعية الانسان، و خيمت عليها - بالتالي - عجموية الحيوان. و تهلل خاطر الامام بقتينه من معني الامامة... و سريعا ما قام و انزلق من بوابة الدار... و راح يسجد و يقبل الأرض بركعة و ركعة تحت كل نخلة من نخيلات بستانه البالغة خمس مئة... ألف ركعة كان يركع كل يوم، شكرا لربه و ذكرا لنبيه الذي أولاه شرف الامامة... اما أبوه الحسين فكان يوجه لايه كل يوم ركعتين: - ايه يا أبي العظيم، فأنا ما وعيت ذاتي الا تحت ناظريك. لقد سبكتني سبكا بالامامة، و حليتني لها بشوقك المفعم، حتي اني أخذتها رضاعا من صدر أمي غزالة، و من عينيها المغزولتين ارتشفتها انهمارا، كأنها كانت تلبي مشيئتك أنت في السجود تحت طاقة المحراب... لقد أشبعت الجو حولي [ صفحه 214] يا أبي بكل ما كان يخشعني تحت طاقة المحراب... فأنت عزمي، و أنت مثالي في مجتني روحي، و أنت سيد في جنان مخزونة للأمة، ستبلغها الأمة - عندما يتحقق بها صدق الرهان. لقد بدأت تطيب الأدعية خارجة من الصدر الأمين المنقوش بنعمة الرضوان. هكذا الغيث في استجماع ذاته، كلما تكثفت به مطاوي الغمام... و هكذا - ركعة فوق ركعة - كانت تتطيب الصلوات المكتوبة فوق لوحة الوجدان، كأنها قراءات الروح في مهابة الرحمن. و لكن السجود علي هذا المنوال قد طال: أطاله الحزن، و مد به التذكار المدبوغ بفظاعات كربلاء، في ظل حكم لا يعرف معني السجود و لا يبالي بقيمة الصلوات... أين هي الأمة الموعودة بمخزون الجنان؟ راح - في استغراق - يسأل: - هل اذا تماديت أنا في سجودي، أو اذا أنا ذبت في صلواتي الضامرات - تتمتع الأمة بمخزون الجنان؟ و لكن الأمة بالذات - ما لم تقم - هي - بتدبيج الصلوات، لا تستقيم لها خيرات الحياة... لن يكون مخزون الجنان الا لمن يسعي اليه بالشوق البهي... يا ضعف سجودي، و يا ضعف صلاتي، لم [ صفحه 215] ينجيا الأمة من ذلها، و لم يفكا عنها نعال العبيد. و أطرق عميقا يستنجد ذاته علي ذاته، كأنه يفتش عن ذنب قد اقترفه و لم يتبرأ منه بعد... و انبرت له صورتان صغيرتان في حدود الذات، و أخذتا تكبران و تتجسدان أيضا أمام عينيه في حدود الذات، كان ذلك في ساعة أغرقته طويلا في سجود حزين، و لكنه لم يعد من غيبوبته تلك حتي لمح أحد أبنائه ساجدا قربه في حالة انتظار. فابتهج به و هو يقول له: الأب: هل لك من طلب يا ابني البيه لك؟ الابن: ابت... لم هذا الدؤوب؟ الأب: أي دؤوب تعني يا ابني؟ ألا تراني أتحبب الي ربي؟ و بكي الابن و انسحب، كأن طلبه الي أبيه - من تخفيف المضنيات عنه - قد خاب. أما الامام الآن - و قد ارتسمت في باله صورة ابنه ملتمسا منه تخفيف و طأة تضني أكثر مما تجدي - فانه استقام في جلوسه و هو في تمام الاقتناع: - أعذرني يا ابني، فأنا ما سددت اليك - في الأمس - جواب الحق... أنت مصيب في سؤالك: «لم هذا الدؤوب؟»... و الحقيقة انه دؤوب بحد ذاته مهدور... انه ركوع في [ صفحه 216] الزوايا... تخفيه الزوايا... و لا تبديه المرايا... علي المرايا أن تفسر معني السجود لا شكل السجود... و شكل السجود هو المظهر الخفيف المتمكن منه الساجد، أكان نائما فوق بلاس، أو مسافرا علي ظهر ناقة - اما المعني فهو المدي المطلوب أن تراه الأمة في فعل السجود و اقامة الصلاة... علي أن أسجد أمام الأمة، و عن الأمة، لا عني أنا بالذات - و أن أصلي عن الأمة، و في سمع الأمة، لا عني، و لا في مسمعي المسدود... فلأسجد أمامها حتي أعلمها حنوات السجود... و لأصلي أمامها بصوتي العالي حتي تسمع و تتعلم كيف تحفر في نفسها حروف الصلاة... يا قيمة يا ابني لهذا الدؤوب، ان لم يكن من أجل الأمة هذا الدؤوب... تماما كما فعل جدك الحسين: فانه جسد العنفوان تحت عين الأمة، في عيان الشمس - و في ملأ الفضاء - و لم يجعله انتحارا و انهدارا، في عتمة الزوايا أو حفر الخفاء! أصبت يا ابني، أصبت في ما قصدت... و راح الامام ينتظر بروز الصورة الثانية علي باله الحزين... [ صفحه 217] و تراءي له الصحابي الكبير جابر بن عبدالله الأنصاري، صاحب الرسول. لقد وفد عليه - ذات مرة - و هو غارق في صلاة مديدة... فانتظره واقفا حتي انتهي منها. و عندئذ قال له: جابر: «يا ابن رسول الله، اما علمت ان الله تعالي انما خلق الجنة لكم و لمن أحبكم؟ فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟». الامام: «يا صاحب رسول الله، اما عملت أن جدي رسول الله، قد فعل أكثر من ذلك؟». جابر: «البقيا علي نفسك - فانك من أسرة بهم يستدفع البلاء، و بهم تستكشف الأدواء». و التفت الامام الي ذاته و كأنه يري امامه الأنصاري العظيم، فرد اليه الجواب: - صدقت يا صاحب الرسول. أنا لم ألمح، في تلك اللحظة التي كانت تقوقعني بالحزن، ما كنت تقصد بتوسلاتك... لقد كنت تطلب فعلا - أن أوفر قوتي و أحفظها لمجابهة الأتعاب، من أجل الأمة و تحضيرها لأيام المآب، و تخليصها من الأعباء و الأوصاب، للنهوض بها من تحت المحن... فأنا لست بحاجة الي صلاة تنيلني السماء، فاني من بيت طهرته الصلاة من أي رجس... اما [ صفحه 218] صلاتي فلتكن من أجل أن تتطهر الأمة من أرجاس يغرقها فيها رجس الآثمين المعكرين الماء، و الصفو، و جنان الحق الموعودة بها أمة محمد. انها اللحظة المستنيرة المهتدية الي حقيقة الذات - هزتها دفقة رشيدة من دفقات الوعي المجرد - سحبتها من عتمة حزن ذليل عتم النفس و ضيق عليها مجالات التعبد، و حقيقة التشهد، و أفراح الصلاة... انها عمق الهداية للمهتدين و صحة الايمان للمؤمنين، و رجاء السجود للساجدين، و صدق الوعد للمتعبدين المتصبرين الموعودين... في هذه اللحظة المستنيرة - بالذات - تنور سقف غرفة هو فيها الامام يصلي، و اذا بأبيه الحسين يملأ المكان ببهاء عينيه... فنهض الامام و ارتفع خفيفا نحوه... و راح من عمق الصمت يهلهل في حضرته هذا الكشف الرصين: - طالما زعزعني الحزن عليك... و لطالما حاولت أن أبريه... و لم أرد - لأني اعتبرته مسربا اليك... و الحقيقة أن الفرح، لا الحزن، يوسع الدرب اليلك... فأنت ما أقدمت علي البذل النفيس، الا تشهيرا بالذل الخسيس الذي يقضي علي فرح الحياة و يحرم النفس من الابتهاج. [ صفحه 219] - كثيرا ما أتذكرك يا أبي - و أنا طفل لم أكن قد وعيت بعد أبعادك - تقترح علي أن لا أحترم الحزن، و أن أعريه من حروفه - لأن حروف اسمه سوداء، فهو كالجرذ يقرض قمصان الحياة و يجردها من ذاتها الندية... و الآن فهمت ما تقصد: فالذل الذي يسببه الجهل، و الحقد، و الطغيان، هو الذي يلفلفنا بالحزن، مبعدا عنا مطارف الفرح... ان محو الجهل، و تحضير النفس للانتفاض علي البغض و الكفران، هي كلها الكفيلة بالانتصار و استرجاع الفرح الي مناديله الزاهية - و عندئذ، هي الأمة في خطها الواعي و حقها الشبعان... الأمة - دائما - هي صورة الانسان في مجتمع الانسان، انها أمة جدي الامام - و أمتنا نحن جميعا، في رسالة جدنا العظيم، و علينا نحن أن نخلصها من جهل يضعفها و يعرضها لمقاضم الجرذان. - منذ هذه اللحظة يا أبي قررت أن أمسح الحزن بكآبة حلوة لا تخلو من فرح قنوع... و عزمت علي أن أنقل سجودي و صلاتي من مخدعي المعتم الي فسحات العراء، حيث أفتح مدرسة تعلم الناس كيفية السجود، [ صفحه 220] و نوعية الصلاة... سأضبط سجودي في عب الحروف، و أعلن صلواتي في حبر الكلمات. حتي تراني الأمة و تتعلم، و تسمعني الأمة و تتفهم... و لن تكون لي - أنا - عمليات السجود و لا تنوعات الصلاة... فليكن لكل واحد سجود خاص يحفظه عني، و يتلذذ به في محنة نفسه - و لتكن لكل فرد صلاة يأخذها من رأس قلمي، تعبر عن موجدة روحه - و الله هو الكريم في يقظة كل ضمير، و واحة كل مشتاق، يلبي نداء الوعي في النفس، و يغطي الشوق بفسحات الرجاء... و لن أصلي بعد الآن لنفسي حصولا علي عطاء - فان الله شرفني بالعطاء - ولكن الأمة كلها هي الأحوج للعطاء، حتي يستفيض عليها - في غدها المقبل - كل الجمال و كل السخاء. و لم يسكت الامام الا و هو ينتظر من أبيه ردات الرضي، أو ردات أخري تخفف من وجيف الذات. و لقد لباه رضوان أبيه و أملي عليه هذا المقال: - أنت علي صواب يا ابني، تكمل ذاتك بوجيف ذاتك... من منا لم يكن هكذا في تقلبات الوجيف؟... غير انك اكتملت. - اني أبارك لك اهتمامك بالأمة، فلو لا [ صفحه 221] الأمة لما هبط جدنا من غمام و ارتفع فوق غمام - و لما ذاق أبي الامام طعم المجد منخوسا بشفرة سيف... و لما تحجر الدم في وريد عمك الحسن بلعقة سم... و لما شربت أنا كأس الفرح يغدقه علي أحقر الناس... - الجهل في الأمة و شلل اليقظات فيها، هو الذي خدرنا و عجل علينا خطوات الرحيل - ما عدا ذلك فاننا ما حرمنا بهجات الجنان، لأننا و فينا ذمة الحق فينا، و قسطناه ردودا منوعة الآذان. - لا تقل يا ابني: ان جهد الخير فينا لم يؤت المجتمع من نضج الثمر - فليكن اليوم علي ابتسار - و لكنه سيكون، في نهار آخر، علي نضج ثان فيه الكثير من طعم الشمس، و فيه اللذيذ من انداء السحر... اننا الخميرة، و اننا لا نقدم الا فعل الخمائر، في نقل الأمة من واقع خفيف النظر الي واقع جديد البصر، تحقق الأمة فيه نقلتها الأمينة. - بالأمس - يا ابني - قدمت عنقي لسيوف المجرمين، معلنا مجد العنفوان، مضفيا علي الأمة رؤية رفض الهوان، حتي تتعلم - بالعيان [ صفحه 222] - كيف أن الذل يقصف، و كيف أن دم الانسان الأبي يقوي في وعي الذات علي دحر الهوان... و تلك هي أعز سبل الانسان، يجترحها العنفوان، و يغنيها الكرم الصحيح المفتقر اليه مجتمع الانسان. - و تجاوب و عي الناس معي - و لو وعيا جهيضا - في مدينتنا يثرب، و لقد شاهدت أنت بأم العين واقعة «الحرة»... انها جاءت علي ذكري، رفضا كرفضي، و اباء من نوع ابائي... فلتباركها الأيام، لأنها هزمت مثلما أنا هزمت، و ديس فيها المسجد بنعال خيول مسلم بن عقبة!!! كما ديس بدني في كربلاء بنعال خيول عبيدالله بن زياد. - لا تيأس يا ابني، و لا تسمحن للحزن بأن يستبد بلبك... فثورة الثوابين في الكوفة كانت امتدادا لثورة الحرة، و لقد هزمت أيضا، بعد أهبة أخذت من الوقت أربع سنين... فليستشهد الأبطال فيا، مثلما استشهد شيخنا الأبي سليمان بن أبي صرد في عين الوردة من أرض النخيلة.... و ليقتل معه المسيب بن نجبة، و عبدالله بن سعد... و لينم عدد الشهداء، كما ينمو المن في لوعة الصحراء... انها نعمة العنفوان، تهبط في [ صفحه 223] أرض التيه و تفرز شوكة مباركة الزهرة في عطرها البكر... - انها الشوكة المباركة يا ابني الكبير، غمرت بعطرها المختار بن يوسف الثقفي، في ثورة مقدسة الجوانب، لها جذر يعيش عميقا في تربة الحرة، و جذر مبلول بخطيئة ندم عليها في الكوفة رهط التوابين.... اما الجذور الأخري التي لا تزال هاجعة في الأرض، فانها في انتظار أن يذوب الريب من جيوب الدم، و أن تتصفي الأنفاس من عفن بثه الكيد، و الجهل، و العار في مجاري الريح، و لا تزال مخدرة به تلك الضمائر. - لم يكن بد للمختار من أن يتناول شريط النار الا من فتائل النار، ذلك كان حظه التاعس من أخذ الثأر، و كما حز رؤوسنا شمر بن ذي الجوشن بمقدرة العبيد بن زياد، حز المختار رأس ابن ذي الجوشن، و رأس العبيد بن ذي الزياد، لتكون للثأر رقصة الثأر في مواسم القبائل... فلا تفرح يا ابني الامام الا قليلا قليلا في بهجة العرس، و انشر التهليل في حروف الصلاة المعلنة علي آذان العباد، حتي تتنجي الأمة من تسلسل الأثار، و تغدو وحدة متيمة بالحق، و العدل، و بهجات [ صفحه 224] العنفوان... فلا يقعدها عن المجد ذل أسود، و لا يثنيها عن الطريق عثار... و انها - ساعة تلك - في حضن نبيها العليم العظيم، و تكون في حقيقة مشتهي جدك العلي النبراس و المتراس، و تكون بأجمعها جوابة في حقول الظن المروية بالعلم، و الفهم، و الوعي، و اليقين. - طوباك يا ابني الامام المتكامل بنقوش التراب... تقطع الصلوات من مهجة السر، و تطبعها في قوالب الحروف - فيها العلم و التعليم، و فيها الحق للنشر، و فيها الرشد و كل آيات البيان... انك هكذا تعبي‌ء المسافات بثقل المسافات، و تجسد العنفوان بأضواء العنفوان، و تملأ الأنابيب بالمدخرات المعتقات. فاذا كنت هكذا - مثقلا بهذه الطيبات - فلا تسأل كيف لن تفرغ أنابيبك من عطاياك؟... ان الزمان طويل في عمر الأمة... و عطايانا من نوع الخمائر... كلما مستها حفنات الطحين، تخمرت بسرها حفنات الطحين... أذكر جدك الباقي في خزائن الأرض - انه هذا الصنف من الخمائر. و أسمعه يقول: للباطل ساعة، اما الحق فلقيام الساعة... انه هو الذي باركك في الكوفة [ صفحه 225] قبل أن يرحل، و لقد قرأك في جبينك و عينيك، و قال لي: سيكون فتاك هذا يا حسين - زين‌العابدين - عندما سكت الحسين - ربض الامام زين‌العابدين علي الأرض - تناول سكينا بري به غزارة بين يديه - غمسها بالحبر - و راح يخط علي لوح أبيض كان بالقرب منه... يا للصحائف بين يديه... كيف بالحبر ستسود... أتكون صحائفه قناديل في قبب المآذن؟ [ صفحه 231]

زين‌العابدين

اشاره

لقد ذاب علي بن الحسين في الصفة التي نعتته - و منذ اللحطة تلك ابتلع أفعل التفضيل اسم مولاه، و أصبحت صيغة الاسم الجديد قائمة بذاتها - اما علي بن الحسين، فلنفتش عنه في كربلاء، و عند عبيدالله بن زياد، أو عند يزيد بن معاوية، أو - اذا عز بنا التفتيش - خلف عتبات صامتة، حيث يسجد كل يوم ألف سجدة، من دون أن نبقي له اضبارة من وقت ينصرف فيها لمعالجة شؤون الناس، و هو القيم علي امامة لا تستقيم ضلوعها الا اهتماما بشؤون الناس. لا - يا أيها المحصي علي الامام عدد السجدات - هنالك أيام طويلة موصول بعضها ببعض، لا ينفصل فيها ليل عن نهار، قضاها الامام في حالة سجود كأنه الاغماء المتواصل، رمته فيها فظاعة الجريمة التي مثلت تحت عينيه: عملية حز رأس أبيه و شكه برأس الرمح، و الرقص به كأنه دمية من دمي الأطفال - و عملية الهمجية في عرك بدنه المطهر، بنعال البغال و نعال الأنذال. كان الحزن العتي يرمي الامام في السجدة العتية التي لا ثواني لها تفصل الليل عن النهار... انها السجدة العتية - كما [ صفحه 232] رأيت - و هي الدهر كله في مجالات الامام، أفرده ساجدا، لا ألف سجدة - يوميا - تحصيها يبوسة الأرقام، بل سجدة واحدة بمعناها الفخم، دغمت مفاصل جسمه بروحه، و صاغته فريدا في السجود العالي الموحد. عندما تمت سيطرة العقل و سيطرة الروح علي الحزن، و تم تفكيك عري قمصانه السوداء، نقل الامام الركوع من ركبتيه الحزينتين المعفرتين بالتراب، الي علاء جبينه الغائر في السحاب... ثم تناول قلمه الراسخ في معطيات الروح، و راح يسجل السجود - بمعناه الرفيع - أمام الناس علي صفحة القرطاس، حتي يعلم الناس، كل واحد بمفرده من صفوف الناس، صلاة يبدع بها ذاته، و يخلص ركبتيه من سجود العبيد، و يرفع جبينه الي شموخ محرر من ذل العبيد. تلك هي اللحظة الكبيرة - لحظة نقل الصلاة من عب المصلي، الي أعباب العلاء - لحظة جعل الركبتين تحسان انهما - و هما تلمسان التراب - تشربان السحاب. لقد ابتدع الامام اللحظة الكبيرة هذه، و قررها نهجا من النهوج الفاعلة في حياة الأمة التي ينقصها العلم الصحيح، و الفهم الصحيح... منذ زمن قد طال - أفلتت من أيدي الأئمة سياسة الأمة، و اضحت بين أيد لا يهمها من أمر الشاة غير امتصاص ضرعها، و جز صوفها، و مص دم فصيلها، ثم الفتك بها في ساعات [ صفحه 233] العربدات... ان القصور في الشام، بين يدي يزيد بن معاوية، تشهد للسيادة العاهرة المطلية بحميا الخمور، و ألوان التهتك و الفجور... اما الأمة المجردة من أوليائها، فهي التي ترقص هناك - وحدها - بفقرها، و جهلها، و عريها، و قبلياتها المفككات. من للأم النقية - غير ابنها الصحيح - يتولي أمرها و يحميها من الضيم؟ و الامامة المشتقة من صدر الأم - لغة، و شوقا، و صدقا، و حسا أصيلا - هي بنت الرسالة المؤمنة و المقتنعة بايمانها بأن الأمة - وحدها - هي ملاذ الانسان، و خلود الله في الانسان... و لن تخلد أمة علي وجه الأرض اذا تملص الله منها... انها - ساعتئذ - أرض يباب، و خراب خراب - ان الله باقة المثل، و ان كذبة واحدة، تأكلها الأمة - تشتتها علي وجه الأرض شذرا شذرا - انها هكذا تبددت قبيلة اليهود، تتملك الله - بالكذب، و الحقد، و الرياء - قبيلة اليهود. ان اللحظة التي تناول الامام فيها قلما و راح يجره علي لوحة القرطاس، هي التي قفزت به الي قدسية العبادة، و قدسية الابداع. ان الجوهر المتحومل في جهاز الامام علي بن الحسين، بدأ الآن يتفجر من مجاريه... اما سجوده الكبير، و صلواته العريقة، فانه وظفها كلها في مهماتها الجليلة، بنقلها من مسارب الذات، الي بحبوحة الدائرة الوسيعة الشاملة قضايا أمة بأسرها، تمتد من الساعة، الي قيام الساعة، في عمرها المديد - فالأمة خلود كما يشاء الفهم المطلق - و رسالة جده النبي هي خلود في شأوها [ صفحه 234] المطلق - و امامته المرتبطة بجده الامام علي، هي امتداد الخط المطلق - اما المهمة فهي بذل أنيق متواصل، في سبيل أمة تحرمها السياسة من عناية الأولياء. أما التعويض فهو الملي‌ء بالوشي العفيف، يأخذه بعينه، و سمعه، و لبه، كل فرد من أفراد الأمة: أكان صغيرا أم كبيرا - ذا شأن أم و ضيعا - حاكما حليما أم ظالما غشوما - صديقا للأمة و دودا، أم عدوا لدودا... كل ما يتعلق بشأن الأمة أصابه بسهم، و علم، و فهم، و نصيحة... و هكذا - باسم السجود، و باسم الصلاة - سجد عن الأمة كلها، و صلي لها، و هو يعلمها السجود، و يعلمها الصلاة... اما الكلمات فهي مرصوفة رصفا أنيقا، كأنها من نهج البلاغة منتقاة - يزينها الرصف، و يزينها البيان، و يمرح بها الحق، و تغفو فيها عفة الجنان، و ترقص بها موسيقي، كأنها نغم الوجد، أو لوعة الوجدان - اما الصدق فيها، فليس له الي الخيال مجال، بل الي التحلي به تقديم المثال... تلك هي كلماته في صحائفه البيض، و في تعريفه الأبيض عن الحقوق و الموجبات. و تلك هي القيمة الجليلة التي حولت الصلاة معه من تقليد الي تنضيد، و من نهج ضيق الي رهج رشيق، و من مسارب الذات لي مفاسح الذات... في تلاعب فني أدبي، يحمل الرمز من مسلسل الرمز، و يوشي به عاتق الميزان - انه الأدب الرفيع في ساحاته البليغة، يسحب الكلمة من مغالقها الأنيقة، كأنه القيم في توسيع الحروف، و زرع المعاني في مفاصلها الرشيقة - كأنه الوريث [ صفحه 235] الأمين لأجهزة الضبط في خزائن الارث المليئة بعقود الجوهر - كأنه المتخطي درجات الفكر في الزمان و في المكان - كأنه وصلة عصر قديم كان زاهيا بالعلم، و الدرس، و الكشف عن جوهر الانسان، ينقل عنه و منه الايمان بالله الباسط ظله فوق اللابدايات و اللانهايات، و خلف المجردات العتيقة، و خلف أي مكان و أي زمان - كأنه اولي المسؤول عن أمة لها يوم أول في تذوق الحق، و ليس لها غد ينئها عن راحة الرحمان... انها الأمة العظيمة، أمة جده العظيم، و هي المتربعة في حقول الطيب، و ليس لها أن تغيب من بال الزمان، الا أن تتعدي حدود المكان، و تنشر الطيب علي أمم الأرض، و تجني السلام مربوطا بحبال الوئام... تلك هي مهماته الكبيرة، طالت بها قامته الصغيرة، و استراحت مزاياه... هنا يجدر بنا التبسط قليلا بالتلميح: لم تنجل تماما شخصية الامام زين‌العابدين، و لا أشرقت علينا مزاياه، الا حين اعتنق قضية الأمة و ابتكر خطوط مهماته من أجلها. أن يسوس الأمة مباشرة بطرق دستورية - شرعية يفرض فيها الأحكام و الموجبات، و يسن من خلالها القوانين الملزمة، فتلك - لعمري - هي الخسارة التي منيت بها الامامة في اجتماع السقيفة - و ها هو العهد الأموي لتبليغ الخسارة، و تجميد الامامة في مركز رمزي لا شأن له في توجيه السياسة و تصدير الأحكام... هنالك ترضية زهيدة يحصل عليها كل امام بمفرده، يخصصه بها بيت المال في الدولة، يصرفها الامام علي شؤونه المعيشية - العائلية الخاصة... [ صفحه 236] انها منحة كل عهد بمفرده، تضوءل أو تغزر بنسبة ما يرتئي الحاكم، و بمقدار ما تعتبر شعبية المتشيعين فاعلة في معارضة الحكم و عرقلته في بسط السيطرة... لم يهدأ الصراع أبدا بين الخطين: خط الامامة المغلوبة علي أمرها، و خط المتسللين علي كرسي الحكم بطرق ماهرة و قاهرة هي الآن في يد الأمويين في الظرف الراهن... انه من الواقع أن نقول: خسر خط الامامة كرسي السياسة، و لكنه لم يخسر مركزه المحترم في الأمة - حسبه من ذلك عدم تمكن الغير من سلبه حقوق القربي، فالبيت بأجمعه هو بيت النبي الذي محض الأمة بالرسالة، و جمعها بالدين، و شدد عليها الوصية بتسليم الزمام من بعده لأهل بيته الذين هم - وحدهم - أئمة... من هنا أن الاحترام المقدس أصبح فرضا علي الجميع، و من جيل الي جيل - بنوع انه من العار علي الخصوم أن يتملصوا من احترام يفرضه الواجب، و الحق، و الواقع الصريح. يتبين من كل ذلك أن شخصية الامام - بدورها - هي التي تضمن لمركز الامامة احتراما يتعدي ما هو مفسوح لها بين يدي حاكم، كل ما في جعبته خطط يتحايل بها لمحو الخصم من الساحة العريضة، فيخلو أمامه الجو، و يحلو له قصب السكر. أن لباقة الامام، و مرونة الامام، أو فلنقل: عبقرية الامام، هي التي تجنب الميزان من الانحطام، و تقوي الكسب في معركة ليس فيها الا رصيد أعزل، و هو رصيد معنوي، سرعان ما ينتهكه [ صفحه 237] خصم يهزأ بالقيمة، و يتصلب بالبهتان. و لكن للرصيد المعنوي قيمة لا يجوز - في أغلب الأحيان - أن يستهان بها، و هي التي تلقط بها امامنا زين‌العابدين، و جعل لها زبدا يرغي، كأنه تعبير عن جبروت البحر... و الحقيقة أن الزبد انفجاج من جبروت البحر، تتحدث به الأمواج و هي تلبي صيغة الأعصار. تسلح برصيده الامام - و هو المنقوش به نقشا سخيا - و ربطه بالأمة ربط قضية بقضية - و توحدت مهماته و انصبت كلها في القضية. كأنه الوحيد في كرسي الحكم، يسوق التوجيه بصراحة التوجيه. و التوجيه وحده هو حاجة الأمة لرفع مستواها الي موازاة الصلاة... و ليست الصلاة أقل من شوق يحضر المشتاق لملاقاة المشتاق اليه... و ليست الأمة الا المشتاقة الي صفاء و نقاء، يعززان فيها الصدق، و الحق، و الاباء. العلم وحده يزين الطلب، و يملأ الفكر و النفس بمآرب الروح، و يرفض الظلم، و يأبي الخسف في الميزان - و التقوي هي مخافة الله في عباده، و هي عاتق الميزان... فأين هو الحاكم لا ينهد؟ اذا أزاح الله من مهجة الانسان؟ تلك هي الصلاة في نهج الامام، راح يخط حروفها: ساعتين ساعتين في ركعتين ركعتين كل يوم - ثم ينهض بها الي طواف في شوارع الناس، يهجي‌ء لهم حروفها في تركيب المقاطع [ صفحه 238] - و يلحنها لهم بصوته العذب الموقع علي سلالم القرآن... لا ليسمعها - وحده - المريض، أو الكسيح، أو المهيض الجناح... بل ليسمعها - باذنه - الشبعان النائم في معجن التخمة، و الريان الحاجز النهر في جراره - و التقي المسكين المصلوب علي عتبة قاضي المدينة، و الحاكم الغارق في خوابي الاثم، و الكافر الهارب من عين ربه، و الأمة لا يوحدها النور و لا تجمعها اليقظات... أية نبرة في صوته لم تتكحل بالعذوبة، و لم ترقص بالحركات؟ و أي حرف من دعائه لم يثقل بالعلم، و الحق، و الذل، اللطيف المروي بالتقوي و حلاوة الوجدان؟ فكيف لأي سامع أن يهرب من وقع تواشيحه؟ حتي و لو كان حاكما طرد الله من ضميره و مزق القرآن؟.. و هكذا كان أدب الامام، و أسلوب الامام، و قاعدة الفن الرفيع عند الامام: مناجل مناجل، حصدت له - من كل الحقول - حزما حزما من الاجلال، و الحب، و الوقار، مشي بها في مهابة عز لها النظير، لها فعل السحر علي المأخوذين، و هنا فقط - مع الامام - يصح نعت السحر: بالحلال. بمثل هذا السحر جبلت قصيدة الفرزدق في ساحة الكعبة - رشق بها الخليفة هشام بن عبدالملك، الذي تجاهل اسم الامام: هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أولياء الله قد ختموا يغضي حياء و يغضي من مهابته فلا يكلم الا حين يبتسم [ صفحه 239] و بهذا السحر الذي كان في بداية اشعاعه أخذ المهرج في الكوفة عبيدالله بن زياد... و بدلا أن يحز رأس الامام، و يعجن بدنه بوطء النعال... أنعم عليه بالحياة، و أحاله الي الشام حتي يتبصر يزيد بأمره... و بهذا السحر أيضا أخذ الطاغية العربيد - يزيد - فاتهم ابن زياد بكفرين: لانه مثل برأس الحسين - و لانه ذلل ابن الحسين... و أمر النعمان بن بشير بان يشد قافلة التكريم، يحمل فيها الامام ابن الحسين الي يثرب، حيث سيجلو ابن الحسين جوهرة نفسه، و يمسحها بكآبة روحه، و يختصر اسمه ب - زين‌العابدين - [ صفحه 241]

رسالة الحقوق

و رسالة الحقوق؟ انها - بحد ذاتها - تؤلف صلاة طويلة جدا، صلاها الامام زين‌العابدين بمالا يحصي من أفعال السجود لأجل تعليم الأمة كيفية ضبط انسانها بما يترتب عليه من حقوق و موجبات. لقد جعلها بحثا كثير الاقتضاب، حصره بمقدمة صغيرة تبين أهمية العمل من أجل صيانة الأمة بصيانة انسانها و توجيهه التوجيه الصحيح - و بتفصيل قليل التوسع وزعه في خمسين عنوانا، يحتل كل واحد منها اشارة خفيفة الي المضمون. بحكم الطبع، ان كل عنوان بمفرده يحتاج الي شرح وسيع، و ذلك ما لم يكن في طاقة الامام القيام به، لانه من تخصة علم النفس و علم الاجتماع، و ذلك يتطلب مجلدات من البحث و التدقيق، و لم يكن الوقت موفورا للامام حتي يتفرغ للقيام به. الا أن مجمل عناوين الرسالة يشير - و لو بشروحها المقتضبة - الي كون صاحبها عالما اجتماعيا متمكنا، يربط علمه برسالة منزلة لضبط أمة لا يكون لها وزن لها ان لم تكن مؤمنة باله كريم، يغمرها بالمثل، و كل مقومات الجمال. و الحقيقة أن لا قيمة للرسالة العظيمة الا متفاعلة في أمة [ صفحه 242] عظيمة... تلك هي حقيقة الارتباط، ارتباط حلول الجوهر في جهازه الضمني - و الرسالة هي للانسان الذي يعيها و تبنيه. و الا، فكل شريكين بلا التحام الي انهدار حزين. أول عنوان في الرسالة كان: حق الله - اما الشرح الكبير فكان في التلميح الصغير: بان التوحيد من حق الله علي الانسان - و فقط التوحيد - انها بديهة من البديهيات، علي العقل أن يدركها و يقطع بها مجالات الشرح الطويل - اما الفلسفة، فلتنم تحت حبال المجرات حتي تحصي عدد النجوم. و ثاني عنوان في الرسالة كان: حق النفس - اما الشرح و التحليل فكون النفس خلجة من خلجات الحياة، و هي روح الله في المخلوق... و طاعة الخالق حق عليها في الشكر الرفيع... انها بديهة ثانية تختصر دونها شروح الفلسفات. ثم ان النفس هي الانسان الذي هو: - لسان... ما أطيبه يعبر عن النفس بالصدق و نصاعة البيان. - و سمع... لايجوز أن يرهقه غير الحق، و الابتعاد عن سماع الكذب و الأراجيف. - و بصر... يري الجمال منزها من كل شناعة. - و قدم... تمشي فقط علي دروب الخير [ صفحه 243] لأن الشر يحطمها. - و يد... تمتد الي العمل الشريف لأن القبح يبريها. - و بطن... لا يجوز أن يمتلي‌ء الا من حلال الدنيا و الا فهو بيت الداء. - و رحم... تحضن النسل لحفظ خيط الحياة، تطيبها العفة و تقرحها الفحشاء. و علي الانسان أن يذكي نفسه: بالصلاة، و الصوم، و الصدقة، و حق الهدي: - الصلاة... تقربه من الله في خشوع دائم - - الصوم... جلوة البدن مما يغشاه من تخمة تعرقل فاعلية الصحة فيه و هو - أيضا - تحضير الارادة لتحمل الجوع و التحفز لمشاركة الفقراء تخفيفا من غائلة العوز عنهم ما أمكن... - الصدقة... و من أجلها صدقة السر - فهي تداخل روحي فاعل في تقديم المعونة، من دون تعريض المحتاج اليها لذل الطلب. - الهدي... و هو ترويض العابد بزيارة الأماكن المقدسة التي هي تذكير له بأن الله عز [ صفحه 244] و جل هو الحال فيها لانه حقيقة المصدر. أما الانسان فهو المصنف في الأمة الي مراتب، اما المرتبة الأولي فهي مرتبة الأئمة. و قد اعتبر الامام أن مركز الامامة مركز ينضوي فيه كل مسؤول في السياسة، و الحكم، و التعليم، و التوجيه، و الادارة... و خصص كل واحد منهم بالطاعة، و المحبة، و الاحترام، حتي يوفي كل واحد منهم مسؤوليته، بما يلزمها مر الصدق و الوفاء - اما الحاكم - بنوع خاص - اذا أساء و لم يخلص لمركزه الكبير. فأوصي الامام أن يؤخذ أمره بالروية، و أن لا يجابه بالعصيان، لأنه المقتدر في الانتقام، و يكون وقع الضرر منه علي الرعية فادحا و مؤلما... ان الله - لحمكة منه - يتولي أمره و يصلح - مع الوقت - من شأنه، و لا بد من نصائح يقدمها له الغيورون الفاهمون، تعدل من غلوائه، و تعيده الي حقيقة الرشد. أما الحقوق فهي التي كانت بساط العرض: - علي الحاكم أن يكون غيورا علي الأمة و أن تحليه التقوي، و المعرفة، و الحق، و العدل، و صدق الايمان. - و علي المعلم - صائغ الفكر و الحضارة - نزاهة القصد، و لين الطبع، و صحة الوجدان. - و علي المؤذن و امام الجماعة، حسن [ صفحه 245] التوجيه في تبليغ الاشارة. - و علي الأب و الأم تزيين القلب بالمحبة المؤمنة، و الرعاية الحكيمة و التربية الصالحة. لأن الأبناء أجيال الأمة. - و علي الأبناء تكريم علة وجودهم و تلك هي فضيلة الوفاء. - و علي المولي أن يكون كريما مع من يتولي عليه و يسبغ عليه المعروف. - و علي المنعم عليه بالحرية أن يحفظ الولاء لمن حرره من ذل العبودية. - و علي الجار أن يحفظ حقوق الجيرة بالمودة، و الستر، و الألفة. - و علي الجليس أن يتحلي بآداب السلوك. - و علي الصديق أن لا يخون الصداقة و لا يبيعها بالمال، ان في ذلك ذلا و غدرا... - و علي الشريك في الأعمال أن لا يخون الشراكة، و يبقي عفيفا في تعاطيه الشريف. - و علي صاحب المال أن يعتبر المال انتاج جهد شريف لا ربي فيه و لا تزوير و الا فالتصدق به أولي. [ صفحه 246] - و علي الدائن و المدين صدق الأخذ و صدق القصد بالرد و ما عدا ذلك فالتسامح هو الأولي. و هنالك حقوق عديدة متشابهة، عالجها الامام زيادة في الحيطة و التبصر: كالمستشير، و المستنصح، و الناصح، و الكبير في السن، و الصغير في العمر، و السائل و المسؤول... اما حقوق الملة فهي المحصورة بتأمين السلامة لها، و وفرة الاحسان، حتي تبقي في اضطراد نموها الخير المؤمن... اما حقوق أهل الذمة، فان ما قبل الله منهم وسع لهم الذمة في التمتع بالحرية، و الطمأنينة، و الرخاء. تلك هي رسالة الحقوق - قدمها الامام للناس في سبك بسيط و بري‌ء. و بالكلام الكثير الايجاز. اما الشرح الوسيع فانه كان هناك حيا في التطبيق الذي يشهد له بانجاز كل ما يقوله و يبشر به تطبيقا علي الذات... لقد آمن ايمانا مطلقا بالله، و كان هو - الخاشع الأمثل في حضرة الله... اما رسالة الحقوق فلقد بدأها بحق الله، و عجنها بتقوي الله. و عززها بكل ما تقوله رسالة الله في تبيان كل الحقوق و الموجبات، يضبط بها كل شاردة و كل واردة في شؤون الأمة التي هي مستودع الرسالة، و جهازها الحي. ما شبع الامام من الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و اغاثة الملهوف، و القيام بالاحسان، و عيادة المرضي، و لملمة اليتيم، و التصدق بالسر، و التفتيش عن المعسرين، و الرفق [ صفحه 247] بالجواري و العبيد، و تحريرهم... منذ أن عرف أن غزالة أمه بالرضاعة - هي جارية، هب الي تحريرها و تزويجها لانشاء البيت السعيد... و لقد أحب جارية عنده لطيب عنصرها، فحررها و تزوجها. لقد كانت الأمة - في نظره - ساحة الرسالة الفيحاء، يذود عنها بالغالي و الرخيص، و يحميها من الفساد، و يدعوها الي التكاتف و التعاضد و صلة الأرحام، و يمنعها من كل شي‌ء يذللها و يبعد عنها المكرمات: فلا و شاية، و لا عمالة، و لا كذب، و لا طمع، و لا مسكر يضيع اللب، و لا فجور يرتكب المحرمات، و لا أية آفة تفرط المجمتمع و تقلل من لحمته و من مداه... انه الاجتماعي المؤمن بالحق، و العدل، و الوفاء، و الصبر علي المكاره، و هو المؤمن بالعلم محققا كل حضارة الأمة و جامعها في طرق الصواب. و لقد كان جوهر رسالة الحقوق هذه محصورا حصرا مطلقا بمصلحة الأمة و سلامتها، حتي ان الحكم الذي لم يأنس اليه الامام، و كان يخاف من طغيانه و أثقال جبروته، أحاطه باهتمام خاص، و أولاه حقوق السيادة التي يتمتع بها في الوقت الراهن، حتي يتحاشي غدره و فتكه، و يجنب الأمة من توسيع البلاء... و تلك كانت مرونته الحكيمة، يخدم الأمة بها، و يجتاز معها الساعات العصيبة المشحونة بالأكدار و المخاطر. لا شك في انه الامام الكثير اللطف، و الحكمة، و الروية، تلفه العواصف السوداء بحوملات سياسات رديئة الاعصار، يقوم [ صفحه 248] بها رجال سود الطباع: مثل يزيد، و ابن زياد، و مروان بن الحكم، و ذلك الأشرس من ذئب - الثقفي ابن يوسف الحجاج - و ينجو منهم - مع الأمة - في آخر المطاف، و علي رأسه حبيكة بيضاء، سداها و لحمتها: مهابة - و وقار - و خلود في الذكر و شعاع قدسي المنار [ صفحه 249]

الصحيفة السجادية

دلالك أيها الامام - لقد محضتنا بصحيفتك السجادية مضمومة بثلاثة أبعاد: - بعد الهي - روحي ناهد القبب و ممشوق السحاب - و بعد رسالي - سياسي - اجتماعي الحق، و العدل، و الصواب. - و بعد بلاغي - فني الآداء، عابق بكل شذا يسلسله التراب. بثلاثة أبعاد رزمت الصنيع و جعلته وحدة متلازمة و متماسكة، لا ينفك واحد منها حتي يعتري الصنيع كله ذل أخرس، يبهته و يفقده: الجلال، و القصد، و الرونق... - ان في البعد الأول ردهات الجلال الذي هو اطار الصنيع. - و ان في البعد الثاني روعة القصد الذي هو [ صفحه 250] جوهر اللب و عماد القضية. - و ان في البعد الثالث رونق المغزل و بهجة المكوك في تطريز الأوشحة الملتف بها: رمزان عظيمان، لا تليق الا بهما سدانة الكلمة، و أناقة الفن. لزام علينا - قبل أن ندخل في أي شرح و تفصيل - أن نلم بهيكلية الصحيفة: انها سفر نفيس، تشبه تماما صاحبها، فحجمها صغير كقامته القصيرة، الا أن ذخرا رفيع الطول يوسعها بالمعاني الجليلة، و هو يرفعها الي ضخامات القبب، كما هو شأن صاحبها بالذات: سكب عليها - من شق غزارته النحيلة - هذا العميق المشع من مهابة تهتاج بها عيناه، و ينفسح بها جبينه. لا يزيد عدد صفحات الصحيفة عن مئة و عشرين صفحة، و هي بكاملها موزعة علي أدعية رخيمة، يحصيها كتاب بين يدي بأربعة و خمسين دعاء، يأخذ كل واحد منها عنوانا خاصا، و حجما معينا من الصفحات، يتراوح من صفحة واحدة حتي يبلغ احدي عشرة صفحة في دعاء عنوانه: «في يوم عرفة». ان الكتاب - بكامله - يؤلف الصحيفة السجادية، ان كل دعاء - بمفرده - قائم بذاته في استقلالية مجردة... و سرعان ما يربطك التأمل الخاشع بخيوط ترتبط بها شبكة المعاني، تمتد من أول دعاء حتي آخر دعاء، من دون أن تلمحها كيف تنساب من مسافة الي [ صفحه 251] مسافة... كأن القصد الأنيق هو الذي يربطها علي نول خفي الخيط و باهر المكوك. ان الاكتشاف الذكي هو الدليل الي خطوط الارتباط. و عندئذ فانك تري أن الأدعية القائمة علي ذاتها المنفردة، انما هي تساند جزئي - تضافري، يتمم الواحد منها منعة الآخر، في لملمة وحدة الصنيع - تماما كما يقوم كل عمود من أعمدة الهيكل لتتم عليها جميعها وحدة السقف المتين. ليست الأدعية - اذا - مجرد آنية خزفية، ننتجها و نزين بها رفوفا في بيوتنا... انما هي تسلسل ارتباطي بوحدة موضوعية في خدمة قضية معينة الأهداف، و جليلة المصير... لماذا لا نقول بتحديد آخر: انها عملية وصل قضية وجودية - رسالية - اجتماعية، بقضية أساسية - رسالية أصيلة، تمكن من تنزيلها في قرآن، نبي الأمة و رسولها الأمين محمد. ان الصحيفة التي انقطع المام زين‌العابدين لها، و جرد فكره، و قلبه، و بيانه، من أجل تنزيلها في نطاق الحرف... انما هي مفروعة من اسم لا أصل له غير القضية... انها قرآن آخر، تفصيل مفروع منه، و مشروح باحدي غزاراته، و مطلي بأبعاد مراميه، و مغتن من مخازن ثرواته - و مدبج بالكلمة الأنيقة المصوغة اطارا فخما لحول قدسية معانيه. انها القضية - علي كل حال - و لا قيمة لفكر، أو صيغة، أو مقال، ان لم تكن له [ صفحه 252] قضية، تطيب له البوح، و النهج، و حجم المنال... ان القضايا في الحياة تحرس الحياة، و تصونها، و تعين لها العمر، و عمق العين، و أبعاد الخلود... و ان لم يكن الله في معناه العزيز و المحيط، لب القضايا في جوهر الحياة، لما جاز لنا اعتبار ذواتنا من أبناء الحياة... لأن و عينا الله فينا، هو مجرد امتصاصنا المثل الجميلة، و الصفات الكريمة المتمثلة في ايماننا به جامعا لهذه المثل و هذه الصفات - و عندما يتنكر المجتمع لهذه المثل، و لهذه الصفات - فهو الزائغ عن الله، و الكافر بالنعم التي هي مرصودة به، و لن يكون لهذا المجتمع - بالذات - الا الامحاق، و هل تكون الجحيم الموصوفة بحدة نارها من غير هذا الامحاق؟ و بالمعني الصحيح - ان القضية، قضية الأمة التي من أجلها انبثق الوحي، و انجدلت سور القرآن، هي ذاتها التي اجترحت يوم الغدير، و تقدست في نهج الامامة، و هي التي شربت دم الحسين و اعتبرته بذلا سخيا... و هي ذاتها القضية، كان لها اندفاق قدسي الهبات علي شخصية الامام علي بن الحسين، نقلته من كل عتمات السر، و فاضت به علي مشارف الاعلان، فاذا به علم من الأعلام، يمتشق الحسام و ليس في يده أي حسام، الا حكمة طرزها بالحرف، و حماها بالله، و وهجها بالفن. انها قضية أمة تعينت لها - في الرسالة و في الامامة - أهداف [ صفحه 253] الصيانة، حتي تستقيم لها دروب العز... و لكن الذين تسابقوا الي ضفاف الحياض، ما همهم من امتهان الشجرة الا اقتطاف الثمرة... اما الرياض كلها فالي وقود جهنم... ان الامامة - وحدها - تعرف قيمة البستان، و ان حنين الامامة - وحده - هو المستشعر بأنين البنين... و هكذا انطلق الامام مستنجدا بيراعته يبريها و يخط بها حروف البيان... فالأمة المرمية في الأزقة - انما هي الآن بحاجة الي من يتداركها الي يقظات ترشدها الي سواء السبيل. [ صفحه 255]

صياغة الصحيفة

اشاره

ليس علينا من حرج اذا نقول: لم يكن صنيع الامام شديد الحاجة الي الأفكار يملأ بها صحيفته و يعرضها للعيان - فالأفكار التي هي مصدر غناها هي ذاتها التي فاضت بها دفتا القرآن، و هي ذاتها رصيد دفق سماوي الحق، توحدت به أمة كانت مفروطة تحت غفلات الزمان... أجل - لا الأفكار، و لا الرسالة، و لا المبادي‌ء المتينة كانت تنقص الامام من أجل تحبير صنيعه، ان ما كان يحتاج اليه الصنيع، هو تخطيط صياغي تنام الفكرة فيه و لا تصحو الا حين تستدعيها غمزة الفن، و لحظة الابداع - و عندئذ فان الفكرة ذاتها الحالة هناك في سور القرآن، هي في ولادة ثانية جديدة الحق و جديدة التبيان، و في صنيع ثان جديد الانبثاق، و جديد اللمعان... ان الأساليب - عند خسوف الشمس - تستعيد بهجة الشروق... و العقل، و الحق، و الصواب، هي القوي الصاعدة علي درجات السلالم. و تم التخطيط في قالبه البديع - تم عندما كان الامام في محراب الألم، و محراب الحزن - بدأه في الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد - فلنتذكر ذلك - و زاد عليه ريشة عنقائية الصدر، بين [ صفحه 256] يدي من كان يمثل في الشام بعنق مشكوك برأس حسام - فلنهمز قليلا من قناة التاريخ حتي تتجدد أمامنا قباحة الهمجية - و أتمه في يثرب، بعد خلوة مصت لياليه، و مصت حزنه الأجرب، ثم مسحته بكآبة الروح، و أسبغت عليه جلالة الفن... و امتثل الصنيع - بعد تنشيط طاقات النفس و الروح - قبة خلف قبة، كل واحدة قائمة بذاتها - هكذا رحنا نظن - و لكن عطشا مزروعا في كل قبة علي حدة، كان يشد الي الثانية حتي يرتوي... و اذا بنا في واقع المسلسل، يتجمع العطش فيه و يتدور، و يشتد الطلب علي سده، و لن يخفف العطش الا اللمح، لمح القصد السارح في لباقة العرض.

العرض

و كان العرض كثير البراءة، علي موسيقي أنيقة، تأخذ كل دعاء منه اليك لأناقة وقعه، قبل أن يستوقفك تفتيش عن مقصده و مراميه - حتي اذا تمكنت منك أسرار المعاني، أدركت أن العمل موزع من مكامنه، ليصيب منه - كل فرد من أفراد الناس - ما يصليه في علنه أو في سره - فالعمل كله أدعية، و كل دعاء بحد ذاته، انما هو صلاة يوجهها الانسان الي ربه: اما شكرا علي نعمة قد نالها، لا يتمكن أحد من ادامتها عليه غير الخالق الذي أسبغها - و اما التماسا لنعمة يسعد بها في وجوده، و لا أحد - أيضا - يتمكن من انالته اياها غير موزع الخيرات من خزائنه العميمة. [ صفحه 257] حدان - لا أكثر - تركزت عليهما الأدعية: الأول هو الله - عز و جل - مصدر الوجود، و رب الحياة، و باري‌ء الأكوان... و الحد الثاني هو الأمة أو مجتمع الانسان. و بالتالي: علي هذا الانسان الاتصال الدائم بخالقه و ولي نعمته، حتي يحمده و يسبحه، و يشكره علي افاضة الخير عليه و هو في حضنه الكريم. و راح الامام الي استغراق في تعريف عظمة الخالق، و الي توسع في وصف قدرته و جليل ارادته، و الي كونه المصدر المطلق لكل عناصر الوجود - فلا أحد قبله، و لا أحد بعده، فهو التوحيد الشامل البدايات، و النهايات، و كل أنواع الصيرورات... اما الانسان فهو المخلوق الأوحد الذي ابتدعه بارادته الحتمية، و ميزه بجهاز جسدي متكامل، أبرز ما فيه عقل يستوعب العلم، و الفهم، و الارادة و نعمة الادراك، حتي ينطق، و يعقل، و يتطور، و ينجب، و يبني المجتمع الذي هو التعبير الأوفي عن مجد الله في فحوي الحياة. ما قصر الامام في الزلفي لله، و لا من تنويع الحمد علي آلائه وجدواه - لا ليسمعه الله، و يجزيه علي عمق خضوعه و فرط تقواه... بل من أجل أن يجسد العزة الالهية في عين و ذهن كل فرد من أفراد المجتمع - مهما تكن مرتبة هذا الفرد في النضيد الاجتماعي. ان الأمة جمعاء بحاجة ماسة للتمرس بمعرفة الله، لا ابتغاء [ صفحه 258] لكشوفات فلسفية تعيي فلسفات الأرض كلها عن احتوائها في نصاعة التحديد... بل تعرفا اليه - عز و جل - مستودعا لا ينضب من المثل العليا، و الصفات الكريمة التي هي - وحدها - تبني الانسان، و كل مجتمعات الانسات... يكفي أمير الشعراء - شوقي - بيت واحد من الشعر يوجز به خلود الأمم: انما الأم الأخلاق ما بقيت فاذا همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ليس الله العزيز الجليل بحاجة الي أمم تدعي انها تدركه في مدارج الفلسفة، و لا تعيشه في مراجع الوجدان... و لن تجمع الأرض علي سطحها أمما لا تعيش الله الموصوف بانه خير و جمال، و بانه حق، و صدق، و عدل، و عفة، و اناقات خصال... أي اله يتمكن من بناء مجتمع الانسان: بالكذب، و الفحش، و البهتان؟ لا بل أي شر تعمر به فسحات الجنان؟ و أي جيحم لا ينعزل اليها الشيطان؟ لا تبني الأفاعي و لا الأبالسة السود مجتمع الانسان... و لن يبنيه الا الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر... ان الله - اذا - هو في ساحات الحق، و هو الذي يحرس الحياة، و يزرع فيها أمة من أمم الانسان... و الله - ساعتئذ - هو الحي القيوم، لا يغفل شأن الانسان قيمة في جبروته، و نبرة في خلوده... و من ضمن الوعد الكبير المقطوع، يكون الانسان حيا في ذمته العظيمة، و خالدا في باله الأعظم... يتعهده و يكفكفه [ صفحه 259] بالضم، و تسديد الخطوات - فاذا صدق فان النجاح ثوابه - و اذا كذب فان العذاب جزاؤه... ان النعيم كفاف الصالحين... و ان الجحيم مآل الخاطئين... اما التوبة فهي رجاء التائهين، تردهم الي صراط، و تخلصهم من عذاب، و هكذا فان الله رحمن رحيم يبني أمته و هو يعلمها - تلقائيا - كيف تتأصل بالحق، حتي تكون الحياة نعيما لها في الاستحقاق العزيز. بهذا التوجيه الراجح بالعقل و الايمان كان الامام يتمم عمليات الرص في أدعيته المتسلسلة، حتي تصليها الأمة كلها و هي ساجدة معه في محراب التقوي البانية مجتمع الانسان - سيصليها المتعبون، و المرضي، و المحرومون، و المظلومون، و الفقراء، و المضطهدون... و سيصليها - أيضا - الشباعي، و الراغدون، و الآمنون، و كل أفواج المؤمنين... و لن يرتاح حتي يصليها الناهبون، و الكذابون، و المجرمون، و الكفرة المارقون، و زناديق الفلسفات، و المراؤون، و الخداعون، و الراقصون فوق القبور، و بين خوابي العهر، و الخمر، و الميسر... ان الندامة - وحدها - تردهم الي حق مبين... و لشد ما ينبغي أن يصليها المتربعون فوق كراسي الحكم و هم لصوص في ثياب الأمراء. يدوسون العدل، و يشربون دم الأمة، و لا يتاثمون!!! يا ويلهم من حكم القضاء، سيعلمهم ان الدنيا حقيرة اذا تعرت من بهجة الضمير، و ان الأمة لا تداس، بل تساس: بالعدل، و العلم، و الحق، و النبل، تساس... لأنها ضمير الله في جذع الحياة، و سر [ صفحه 260] المجد في اعطاف الخلود... أما الله الخلوق الكريم المخرج الانسان من نطفة حقيرة الي نعمة وفيرة، فان له الحمد الذي لا تنتهي حروفه في التسبيح و التمجيد... لا لانه بحاجة الي التمجيد - فالتمجيد هالة من هالاته المتلألئة من نوره الابهي - بل لأن التمجيد صياغة حرف ينطق به الانسان في حضرة من علمه ما لم يعلم، و أنزل عليه قرآنا و شاه بالسم محمد... يا للأمة - باسم محمد - تدرك الله، و تدرك النور الذي وسعها الي سماء لن يذوب منها سناء محمد... ألا يكفي الأمة أن تمجد الله - كل يوم - و هي تقول: صلي الله علي محمد و علي آل محمد. اما البيت، فليكن له جمع الدراري، حمدا لمن نشر الدراري لآلي في الفضاء... و يا للأمة - أيضا - تخشع في ترددات الذكر، من دون أن تنسي أن آل البيت صاغوا قدسية الرمز في التمجيد الرفيع المتنورة به ضلوع السماوات. تلك هي مقولة الصحيفة السجادية، و هذا هو كل اطارها. سيكون لنا شوق الي موجز ملموم منها، يوضح قصد صائغها، و يعين مقدار حصته الغنية في ايلاء الأمة بعضا من اهتماماته بها، علي قدر ما أفسح له العصر الهارب الآن من حكم الأمويين، و العالق في كماشة أخري هي التي تلوح بها قبضة السفاح. [ صفحه 261] البعدان: الالهي و الرسالي لا يؤلف البعد الالهي عند الامام الا اشارات و ملامح عن قوة سرمدية شاملة تغلف كل مظاهر الكون، و هي - بدورها - غير محتاجة الي أي تعريف و تحديد، لأن المطلق هو كل اطارها في مسافات الزمان. اما التمجيد فهو حصتنا نحن الذين ابتدعنا الله من لطفه، و ميزنا عن كل مخلوقاته، بالعقل و النطق و العزم. هذا هو محور الصحيفة السجادية: لا تحدد الله العزيز و الجليل الا قوة مطلقة، لا بد للانسان من الخشوع لها خشوعا مدركا انها مصدره الشامل في حقيقته الوجودية، و ان كل تحقيق حياتي - اجتماعي، انما هو ارتباط نسبي بهذا الادراك الحي. من الله الي المجتمع - و ليس المجتمع عند الامام الا الأمة بأكملها - و من المجتمع الي الله، يدور مكوك الأدعية ذهابا و ايابا حتي تتم - في النتيجة - حياكة السجادة التقية التي هي فنه الخاص به في تعهد أمة يفوته أن يتداركها - مباشرة - بفروض التصويب و التسديد، ليكون له أن يقدم لها - مداورة، بلباقة و فن صياغة - ما تستعيض به، في صحيفته، من توجيه تربوي مصيب يرافقها كلما شدت عليها محن زاغت بها عن خطوط الصواب. لقد كان الدعاء الأول، و عنوانه: «التمجيد لله» فاتحة الصحيفة، لأن الله هو «أول بلا أول كان قبله، و الآخر بلا آخر يكون بعده» و لانه «ابتدع الخلق ابتداعا» و اخترعهم علي مشيئته [ صفحه 262] اختراعا - «ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، و يجزي الذين أحسنوا بالحسنيي» انسياقا مع الآية31 من سورة النجم. و جاء الدعاء الثاني و عنوانه: «الصلاة علي محمد و آله» ترسيخا لعملية الحمد لله الذي من علينا بمحمد الأمين علي الوحي... و هكذا - من دعاءين - تحددت وجهة الأدعية كلها، تمجيدا لله العظيم مبتدع الخلق، و شكرا له من أمة محضها بوليها الأمين محمد. و راح التمجيد في الدعاء الثالث و عنوانه: «الصلاة علي حملة العرش» يظهر عظمة الله بمقاييسنا نحن البشر المتأثرين بما يقع تحت عيوننا من مظاهر العظمة التي يبدو بها أسياد العروش علي الأرض. و لكن حملة العرش عنا هم في تعبير آخر يشهد أن عظمة الله لا حدود لها مع «اسرافيل صاحب الصور، الشاخص الذي ينتظر الاذن و حلول الأمر، فينبه - بانفخة - صرعي رهائن القبور» - «و ميكائيل و جبريل الأمين علي الوحي» - «و خزان المطر و زواجر السحاب، و الذين بصوت زجره يسمع زجل الرعود،... و مشيعي الثلج و البرد... و الموكلين بالجبال فلا تزول... و الذين عرفوا مثاقيل المياه، وكيل ما تحويه لواعج الأمطار و عواجلها». هذا هو الله الذي يليق به التمجيد... انه باري‌ء الأكوان و سيد الأحكام و مطلق العناصر من خزائن الفضاء، و المبددها بين [ صفحه 263] أبعاد المجردات... لم يحدده الامام من ضلوع الفلسفات، بل بكل مظهر لا يدحض من مظاهره البادية للعيان. و علي هذا الطراز راح الامام ينسج التمجيد لله الذي لا يليق الا له التمجيد، و صولا الي الدعاء الثامن و عنوانه: «دعاء في الاستعاذة» - و الاستعاذة هي بالله من كل الآفات و المعاصي - فلنسمعه يقول: «اللهم اني أعوذ بك من هيجان الحرص، و سورة الغضب، و غلبة الحسد، و ضعف الصبر، و قلة القناعة، و شكاسة الخلق، و الحاح الشهوة، و ملكة الحمية، و متابعة الهوي، و مخالفة الهدي... و ايثار الباطل علي الحق، و الاصرار علي المآثم... أو أن ننطوي علي غش أحد... و نعوذ بك من سوء السريرة». لقد عين الامام الله مصدرا لكل صفة و خلة و مكرمة لا يصلح الا بها مجتمع الانسان - فالله هو الدين كله، و كل الشرائع التي انصاغت منها دساتير الأمم، منذ أن تلملمت علي وجه البسيطة جماعات الانسان. و هكذا فان الله - في الدعاءين: التاسع و العاشر: «في الاشتياق، و اللجوء الي الله» - هو القوي و نحن الضعفاء، لا قوة و لا استعانة لنا الا به... ليكون الدعاء الثاني عشر: «في الاعتراف: بمنتهي الجزم بأن عصيان الله يجر علينا الويل و الدمار، و ليس من شي‌ء يردنا اليه الا الندامة و التوبة... اما الدعاء الرابع عشر - و عنوانه: «الظلامات» - ففيه دعوة الحاكم الظالم الي التوبة [ صفحه 264] و الابتعاد عن الظلم، و الا فان الله مصغ الي طلب المظلومين: «و خذ يا الله، ظالمي و عدوي، عن ظلمي بقوتك، و افلل حده عني بقدرتك، و اجعل له شغلا فيما يليه، و عجزا عما يناديه»... «اللهم، فكما كرهت الي أن أظلم... فقني من أن أظلم» - «اللهم لا تفتني بالقنوط من انصافك، و لا تفتنه بالأمن من انكارك... و عرفه عما قليل ما أوعدت الظالمين». اما الدعاء السادس عشر: «في الاستقالة» - فهو صلاة ممتازة، قوامها اقرار بضعف الامام و كثرة معاصيه التي لم يستقل منها بعد - و ذلك من أجل أن يحمل كل واحد ما حتي يدرك انه معرض لارتكاب الأخطاء، و عليه أن يندم عليها، و الله غفور رحيم... و هذا فن في انزال النفس منزلة المخطي‌ء حتي يكون - هو - قدوة في تعليم المجتمع اصلاح الذات، عن طريق التوبة و طلب الغفران. و في الدعاء السابع عشر - «دعاء علي الشيطان» - حملة عنيفة علي الأشرار الذين يمثلون كل المعاصي التي لا يرتكبها الا الشيطان فلنسمعه في صلاته يقول: «اللهم اشرب قلوبنا انكار عمله، و ألطف لنا في نقض حبله، اللهم و اهزم جنده و ابطل كيده، و اهدم كهفه، و ارغم أنفه» و لشد ما يكون هذا الدعاء موجها - بنوع خاص - الي كل المتربعين في دسوت الحكم، يذللون الناس بالظلم و التعدي، حتي بتنعموا هم بخيرات الأمة، من دون أن يوزعوها بالعدل و المساواة - و في الدعاء العشرين - «في مكارم [ صفحه 265] الأخلاق» - باقات حلوة تتغني بالمكارم و حسن الصفات التي يجب أن تتحلي بها الأمة حتي يستقيم لها العيش الكريم، و هي غمز من قناة الحاكم الظالم حتي يهتم - بدوره - باصلاح سريرته، و الاعتناء بالأمة و رعايتها، حتي لا تهرب منها هذه الصفات... فلنسمعه بشوق يطلب من الله: «استعملني يا الله بما تسألني غذا عنه... استفرغ أيامي فيما خلقتني له... هب لي معالي الأخلاق... و اعصمني من الفخر... و عبدني لك... و لا تفسد عبادتي بالعجب... و أجر للناس علي يدي بالخير، و لا تمحقة بالمن... و سددني لا أعارض من غشني بالنصح... و أن أشكر الحسنة، و أغضي عن السيئة». و في الدعاء السابع و العشرين - «لأهل الثغور» - استنزال غضب الله علي كل من يتنكر للاسلام الذي هو دين الوحي و التوحيد، و ها هو يهددهم بهذا الدعاء الي الله: «أقلم أظافرهم... و شتتهم... و ضيعهم عن سبلهم... و أرعبهم... و عقهم نساءهم... و يبس أصلاب رجالهم» - حتي تعلو شوكة الدين، و يتهيب المتنكرون لدين الله - حتي و لو كانوا مسلمين و تنكروا لاسلامهم، فان الله يجازي المارقين الكافرين. و في الدعاءين الثامن و الثلاثين و التاسع و الثلاثين - «في الاعتذار و في طلب العفو» - نفحات مكررة من رسالة الحقوق التي هي فروض ثمينة في علم الاجتماع... يقول: «أعتذر من كل من عمل معي معروفا و لم أشكره عليه... و من أخطأ الي فأرجو يا [ صفحه 266] الله أن تعفو عنه... و اذا أخطأت أنا ليه فعوض عليه أنت عني، و اغفر لي، فأنت أهل لأن يعتز بك الصديقون، و لا ييأس منك المجرمون». اما الدعاء السابع و الأربعون - «يوم عرفة» - فهو نهاية المطاف في الأدعية الجليلة التي تثبت المسلم الصادق في تمجيد الله، و الاقرار به الها قديرا جامعا كل شي‌ء تحت ارادته الشاملة... أن عرفة جبال تزار في الحج... و في عرفة يدعو الامام دعاء مستفيضا من أجل اصلاح الأمة، و اصلاح السياسيين في كل حين و في كل جيل، حتي يكونوا خير من يقوم في تثبيت الأمة علي كل الركائز الاجتماعية الصحيحة التي هي المدي الصادق في تأليف المجتمع الممتاز المتحلي بالصفات الكريمة. [ صفحه 267]

البعد البياني

هناك صنيعان قام بهما الامام زين‌العابدين، وفاهما حقهما من الاستفاضة و تمام التبليغ - اما الصنيع الأول فكان رسالة الحقوق: انها تتحلي بالبساطة و الموضوعية، و تكتفي بهما علي فصاحة بريئة لا تلتجي‌ء الي زخرف و أناقة بيانية، فهي موجهة الي كل فرد من أفراد الناس. ان تفهم كل فرد ما عليه من حقوق و موجبات هو الغاية و القصد، و ليس من حاجة الي استعمال علم البديع، و التلاعب بالصور البيانية و المجازية، و أي شكل من أشكال الخيال، لاتمام هذا الغرض و ايصاله الي المفاهيم، و الا فان الزخرف الكلامي يغرق القصد في متاهة لا ينجو منها الا نخبة قليلة لا تمثل السواد الأعظم من الأمة المؤلفة من العمال، و الفلاحين، و الصناع، و الكادحين... من هنا نقول: ان رسالة الحقوق - بانشائها العادي البسيط، و بيانها الموضوعي السهل الآداء - جاءت بأصدق ما يمكن أن يؤديه عالم اجتماعي في تنوير أمة ينقصها صدق السياسة و وضوحها المبدئي. اما الصنيع الثاني - و كان «الصحيفة السجادية» - فهو طراز آخر صنفه وضع الأمة المأخوذة بسياسة ضاغطة لا تألو جهدا حتي [ صفحه 268] تبسط سيادتها علي جميع بقاع الأرض التي تحيا فوقها طبقات الأمة، و تجني منها أود عيشها، و أنماط سعادتها... ستحاول تلك السياسة تحقيق مبتغاها، و لو بالتجني علي حريات الغير: بالقهر، و الارهاب، و التهديد، و التنكيل، و كل أنواع الاضطهاد... اما الامامة المرتبطة بعهود رسالية - مبدئية - نبوية - روحية، فانها - أبدا - في مجال الدفاع عن قضية وجودية - حياتية، لا تنفصل عن الأمة، بل هي الأمة كلها بجوهرها المطلق، و وجودها الحي. بهذا المبدأ المتين الترسيخ في ايمان الامام زين‌العابدين، كان لجوؤه الي ابتكار صنيع يؤديه للقضية، يكون بمثابة توجيه مركز، تستفيد منه الأمة في اصلاح أمورها، و ارشادها الي طرق الصواب، و ارشاد القيمين علي مغالق الحكم حتي لا يتمادوا في الظلم و ارهاق الرعية... انه عمل تعويضي في الوقت الراهن، و انه توجيه روحي ستحتاجه الأمة في كل غد من أجيالها الصاعدة، تتعتم فيه مسالكها في طريقها الممشية بأنواع الزيغ. من هنا أن العمل كان موجها توجيها ملون الأبعاد، أملته ظروف سياسية لا تسمح للامام بتوسيع صدره في الساحات... فعمد الي السجود و الصلاة، يناجي بهما رب الأرض و رب السموات... كما و ان هذا اللون الرفيع من المناجاة، لا يتمكن من رفض سماعه لا الكفرة و لا الأتقياء، لا المظلومون و لا الظالمون... و لا حتي الباغون المتعدون علي حياض العباد: [ صفحه 269] فالتقي يسمعه بارتياح النفس، و الكافر يسمعه بتبكيت الضمير، و بخوف من سوء المصير... و المظلومون يأخذونه بصبر مؤمن و راحة في البال... اما الظالمون الباغون فانهم المتأملون بالعاقبة الوخيمة، و المأخوذون بالزجر المقدس، يترصدهم عند فوهة القبر و في لحظات العبور. و كانت الصلوات محشوة بالتوريات الخفية، يزينها الفكر الأنيق، و المعني المنزل في تجاويف الكلمات، و كان الفن مزروعا في سياسة الأسلوب، يصوغ الصور و يرتلها علي موسيقي تنبض بها ضلوع الحروف، في فصاحة و بلاغة تخففت بهما جلالات الخيال، و أناقات التعبير، كأن الله - جل جلاله - هو المصغي اليها، و هو المهيمن فيها كما كان مهيمنا في كل آية من سور القرآن... [ صفحه 271]

الخاتمة

فيها أيها الامام سبحان الله فيك - كيف لونك بالحرف - و كيف اندمج في مآتيك و كيف أشرقت به - و كيف أشرق فيك! و كيف وسعك الفن! و كيف وسعك الخيال! فكنت أسلوبا رفيعا - و كنت سجودا ذكيا و كنت صلاة مقدسة الحروف! و كنت قضية مدموجة بقضية! و كن قرآنا مدغوما بقرآن! و كنت وجها كريما مشعا! [ صفحه 272] و كنت مدرسة جديدة لنشر الحق بالحرف الجديد تكشف الباغي بانه في ضلال أكيد - و ان الله هو مجمع الصفات الكريمة - و ان الأمة هي المستودع الكريم - تتخبأ لها منح الحياة - و لا تثمر الا منها و لها كل الهبات - و كل قدسية الله النازلة في آيات - و لا تقدم الا لها مجامع الصلوات - و لا تطيب الا من أجلها السجدات - و لا ترتفع الا لها تحت قبة الله قباب السموات

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.