الامام السجاد عليه السلام قدوة و أسوة

اشارة

سرشناسه : مدرسي، محمد تقي، 1945- م.

Mudarrisi, Muhammad Taqi

عنوان و نام پديدآور : الامام السجاد عليه السلام قدوه و اسوه/محمدتقي المدرسي .

مشخصات نشر : تهران: دارالمحبي الحسين عليه السلام، 1388.

مشخصات ظاهري : 88 ص.؛م.س. 11/5 x 16/5

شابك : 978-964-427-0901

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ قبلي: مكتب العلامه المدرسي، 1410ق. = 1369.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : علي بن حسين (ع)، امام چهارم، 38 - 94ق.

رده بندي كنگره : BP43/م4الف8 1388

رده بندي ديويي : 297/954

شماره كتابشناسي ملي : 1950880

تمهيد

وأنا أقرأ حياة الإمام السجاد (ع)، حاولت أن أرسم في ذهني صورة متكاملة عن شخصيته وما كدت أنتهي من ذلك حتي تذكرت آيات الذِّكر التي ترسم صورة عباد الله الصالحين. عندما نتدبر في تلك الآيات، يوسوس الشيطان في أنفسنا. هل إنها تحدِّثنا عن بشر أمثالنا أم عن ملائكة خُلقوا من نور قدرة الله؟. أم أنها روائع أدبية؟. حاشا لله تعالي أن تكون في كلمات الله ذرة من المبالغة. أوليست المبالغة كذباً؟. والكذب من الباطل الذي لا يأتي كتاب الله الكريم. ونحن نعرف الحقيقة تماماً حينما نتلو قصص الأنبياء والأئمة وندرك أن تمثيل تلك الصورة المشرقة التي تعكسها الآيات عن حياة عباد الله الأبرار أنه حقيقة واقعة، ونَفهم أننا مدعوُّون لاتِّباعهم فيها.. وبهذا بالذات تكمن حكمة الولاية حيث أمرنا الله أن نبتغي الوسيلة إليه سبحانه عبر ولاية أوليائه. وأن نطلب منه الهدي كما هدي الذين أنعم عليهم، وأن نركع مع الراكعين. ونكون مع الصادقين، ونرجو الإلتحاق بركب الصالحين. إن ولاية أولياء الله تجعلنا نتلمس سيرة حياتهم النيِّرة، وحين نتعرف عن كثب عليهم نتحصن ضد وساوس الشيطان الذي يوحي إلي أوليائه أن تمثيل صفات القرآن هذه مستحيل، أو

أنها إنما ذُكرت تشجيعاً، أو هي روائع أدبية بليغة. إن هذا الوسواس أعظم مكائد الشيطان في إغواء البشر عن معارج الكمال الإلهي.. ولا يقضي عليه شيء مثل دراسة حياة الأنبياء والأئمة والصدِّيقين باعتبارهم بشراً أمثالنا أنعم الله تعالي عليهم ورفعهم إليه مقاماً محموداً. ومنذ ثلاث وعشرين عاماً أنعم الله عليّ بالتأليف عن حياة الأئمة الهداة، عبر مناسبات نادرة. لذلك لم أُوفق لإكمال سلسلة قدوة وأسوة.. حول النبي وأهل بيته الكرام صلوات الله عليهم أجمعين. واليوم حيث وفقني الله سبحانه لكتابة تدبُّراتي في القرآن، والتي سميتها (من هدي القرآن) أعود إلي هذه السلسلة عسي الله تعالي أن يوفقني هذه المرة لإتمامها. ولكن كنت أتساءل: ماذا أسمِّي هذه السلسلة التي بقي منها أربعة أجزاء من أصل أربعة عشر جزءاً. وأخيراً وقعت علي اسم مناسب وهو: (النبي وأهل بيته قدوة واسوة). وحيث إن القرآن هدي للمتقين، وحياة الأئمة تمثيل للقرآن فقد جاء الاسم مناسباً لذلك، كما أنه تناغم مع اسم كتابي (من هدي القرآن) ولكن ازدادت حيرتي عندما وقفت علي شاطئ بحر زخار ماذا اغترف منه وأقدمه للأخوة القرَّاء، وقد كتبت من المذكرات حول حياة الإمام (ع) ما تكفي لكتابة مجلد كبير. بيد أني حكمت علي نفسي بالكتابة المختصرة، وهنا يكمن سبب حيرتي ماذا أختار من حياته التي لا يتسع قلم مثلي لاستيعابها. وهكذا أستميحكم عذراً لو وجدتم قصوراً أو تقصيراً واسعَين في الحديث عن حياته الكريمة، واعتبروا هذه الدفاتر مدخلاً إلي الكتب المفصلة عن حياته. وأسأل الله تعالي أن يوفقني لذلك، وأن يحفظ عملي من شوائب الرياء والسمعة والأشر والبطر، ويتقبله ويحصنه من الإحباط بالعُجب والذنب، إنه ولي التوفيق.

لمحة عن الإمام

اشاره

تتملَّكنا الدهشة عندما نستمع إلي الوحي يأمرنا

بالولاية، ونتساءل: ما هذا التأكيد المتواصل، وما هذه التعابير البالغة أمراً وتحريضاً وترغيباً؟. يقول الله سبحانه: [أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ] (النساء/59). وتتكرر أوامر القرآن بالطاعة لأولي الأمر الشرعيين والتسليم لأمرهم، والنهي عن طاعة الطغاة والجبابرة وضرورة الكفر بهم أكثر من مئة مرة، بصيغ مختلفة، وضمن سياقات شتي، كلها تهدف إلي ترويض النفس البشرية علي الطاعة والانضباط.. ويقول سبحانه وتعالي: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء/65) وتتواصل آيات الذكر لتؤكد علي الرجوع إلي الله ورسوله عشرات المرات وبتعابير شتي: [أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً] (النساء/60). وهكذا العديد من الآيات تنهي وبشدة بالغة من التحاكم إلي الطاغوت وتأمر باجتنابه. ويقول ربُّنا سبحانه وهو ينهي مئات المرات عن الشرك ويعتبره ظلماً عظيماً لايغفره الله تعالي أبداً، يقول: [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] (الزمر/65). فما هو الشرك؟ أليس هو عبادة الأصنام؟ أليس أتخاذ الأرباب من دون الله شركاً، كما اتخذ اليهود والنصاري الأحبار والرهبان أرباباً؟.. وهكذا نجد أن الولاية الإلهية محور آيات الذكر وروح توحيد الله تعالي، والسبيل إلي رضوانه، والطريق إلي جنَّاته. فلماذا كل ذلك؟. إن شرح حكمة ذلك يقتضي كتباً مفصلة. ولكننا نختصرها في كلمات نرجو أن يسعفنا فيها تدبُّر القارئ الكريم، وآفاق ثقافته الإسلامية. أولاً: أمام الإنسان سبيلان: سبيل الله الذي يهديه إلي الجنة والرضوان، وسبيل الشيطان الذي يحمله إلي سواء الجحيم. ويتَّجه كل سبيل إلي جهة، ولكل

جهة إمام، ولكل إمام صفات وأسماء، ولكل أمة تابعة صبغةٌ وشرعةٌ ومنهاجٌ! والصراع الأبدي الذي لا هدنة فيه ولا مداهنة ولا حلول وسط، أنه الصراع بين سبيل الله وسُبُل الشيطان. وقد قال سبحانه: [يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (المائدة/15-16). وولاية الله سبحانه، وتولي أوليائه، واتِّباع الإمام المختار من عنده، والإنخراط في حزب الصالحين، كلُّها بلا ريب الولاية الإلهية. فكيف لا تتواصي بها رسالات الله ورُسله وأوصياؤهم. ثانياً: حكمة وجود الإنسان فوق هذا الكوكب ابتلاؤه ليَعلم هل يَصدق أم هو من الكاذبين؟. هل يُخلص أم يكون من المنافقين؟. ولا يُبتلي البشر بشيء كما يبتلي باتِّباع القيادة الإلهية ورفض جبابرة المال وطغاة السلطة، أو تدري لماذا؟ إن في ضمير الإنسان كبراً لابد أن يتغلب عليه حتي يصبح من أهل الجنة. وإن لم يتخلص منه باجتهاده وجهاده في الدنيا، فإنه سوف يخلص منه بنار الجحيم في الآخرة، لأنه لايدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر. ومحتوي الكبر النزعة السخيفة نحو ادِّعاء الربوبية. ولو تسني لأي إنسان ما تسني لفرعون لما امتنع عما قاله: [أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَي] (النازعات/24). وإنما يتطهر القلب عن الكبر إذا أُمر بطاعة مَن ليس بأكثر منه مالاً وولداً. إطاعته بسبب أمر الله. وهكذا كانت الفتنة الكبري للناس عند ابتعاث الرسل، إذ كيف يطيعون بشراً من أمثالهم؟. وقد حكي الله تعالي عنهم بقوله: [أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ] (القمر/24). ويتساءل البسطاء: لماذا

امتحن الله تعالي خلقه بطاعة الأنبياء وطاعة أوصيائهم، وقد اختارهم من أوساط الناس؟. ويمضي المتسائل قائلاً: أولم يكن من الأفضل أن يزوِّدهم الله سبحانه بقوي خارقة وبأموال وبنين حتي تسهل طاعة الناس لهم؟ كلا.. لأنه عندئذ كانت تبطل حكمة الإبتلاء، ولم تكن تصبح طاعتهم تطهيراً للنفوس من الكبر، وبالتالي لم يكن المطيعون لهم يزكَّون بذلك إعداداً لدخول الجنة التي هي مأوي عباد الله الخالصين من دنس الشِّرك والكبر. وهكذا يبين هذه الحكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إذ يقول: «ولو أراد الله أنْ يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رداؤه، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُه لَفعل. ولو فعل لَظلت له الأعناق خاضعة، ولخفَّت البلوي فيه علي الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للإستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم» [1] . ويضيف الإمام (ع) في ذات السياق قائلاً: «ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه - حيث بعثهم - أن يفتح لهم كنوز الذُّهبان ومعادن الْعُقيان، ومغارس الجنان، وأنْ يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الارض لَفعل. ولو فعل لَسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولَما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها. ولكن الله سبحانه جعل رُسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما تري الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنيً، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذيً» [2] . وبعد بيان مفصل حول حكمة الاختبار في فصل زخارف الدنيا عن أولياء الله يقول سلام الله عليه: «ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبَّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم. فالله الله في عاجل

البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنها مصيبة إبليس العظمي، ومكيدته الكبري، التي شاور وقلوب الرجال مشاورة السموم القاتلة» [3] . وهكذا حرَّض الوحي علي التسليم للأنبياء وأولي الأمر من خاصتهم، وجعل فيه ثواباً عظيماً. وجاء في حديث مأثور عن النبيِّ (ص)، أنه قال: «إنّ أوثق عُري الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وتولّي أولياء الله، وتعادي عدوَّ الله» [4] . وروي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله: «مَن أَحبنا لا لِدُنيا يصيبها منّا، وعادي عدوَّنا لا لشحناء كانت بينه وبينه، أتي الله يوم القيامة مع محمد وإبراهيم وعليّ» [5] . وكما يتحدي الإنسان بالولاية نزعة الكبر وادِّعاء الربوبية في ذاته، يتحدي بها نزعة الطمع وشهوات الدنيا، لأن من يطيع أولياء الله يحاربه طغاة الأرض والمترفون في الدنيا بشتي وسائل الحرب، بالدعاية المضادة وبالتضييق الإقتصادي، وبالأذي الجسدي، وحتي بالتشريد والقتل. ولأن الولاية كانت امتحاناً عظيماً للإنسان، جُعلت شرطاً بقبول الأعمال، حيث إن هدف سائر الطاعات تذليل النفس البشرية المتفرعنة والمتجبرة. وتذليلها لطاعة ربها، وتطهيرها من عبودية الله عن دنس الكبر والشرك والشك. وهذا الهدف يبلغ قمته بالولاية، حيث يخضع البشر لبشر مثله لا يتميز عنه بجاهٍ عريض، ولا بثروة واسعة وإنما يأمره الله تعالي بذلك، وهذا ما تأباه النفس أشد الإباء. وقد سأل بعضُهم أن يَنزل عذابُ الله الواقع لكي لا يؤمن بالولاية. وها نحن نقرأ معاً أحاديث في فضل الولاية، لنعرف مدي فضلها وكيف أنها قطب الرحي في تعاليم الوحي. جاء في حديثٍ مفصلٍ عن أمير المؤمنين (ع) في إجابته لأسئلة زنديق: «إن الإيمان قد يكون علي وجهين: إيمان بالقلب، وإيمان باللسان كما كان إيمان المنافقين علي عهد رسول الله (ص) لمَّا

قهرهم السيف وشملهم الخوف، فإنهم آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فالايمان بالقلب هو التسليم للرب، ومن سلَّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره - كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد، كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، لم يرد بها غير زخرف الدنيا، والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلي سبيل النجاة وطريق الحق» [6] . ولذلك لم يقبل الله سبحانه طاعة عبد لم يقبل الولاية مهما اجتهد في العبادة والطاعة. هكذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع)، إذ قال: «مرّ موسي بن عمران برجل رافع يده إلي السماء يدعو فانطلق موسي في حاجته فغاب عنه سبعة أيام، ثم رجع إليه وهو رافع يَديه يدعو ويتضرع ويسأل حاجته، فأوحي الله عزَّ وجلَّ إليه: يا موسي لَو دعاني حتي يسقط لسانه ما استجبتُ له حتي يأتيني من الباب الذي أمرته به» [7] . فولاية الإنسان صبغة أعماله، إنْ خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرّ. لذلك جاء في الحديث المأثور عن رسول الله (ص)، فيما رواه أبو سعيد الخدري: «لو أنّ عبداً عبد الله ألف عام ما بين الركن والمقام، ثم ذُبح كما يذبح الكبش مظلوماً، لَبعثه الله مع النفر الذين يقتدي بهم، ويهتدي بهداهم، ويسير بسيرتهم إن جنة فجنة، وإن ناراً فنار» [8] . وهكذا الولاية تكون وجهة المجتمع، وعليها يكون الحساب والجزاء. فقد روي عن الإمام علي (ع) عن النبي (ص) عن جبرئيل (ع) عن الله عزّ وجلّ، قال: «وعزتي وجلالي لأُعذبنَّ كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر

ليس من الله عزَّ وجلَّ، وإن كانت الرعية في أعمالها برَّة تقية، وَلأَعفونَّ عن كل رعية دانت بولاية إمام عادل من الله تعالي وإن كانت الرعية في أعمالها طالحة مسيئة» [9] . فَضمنَ إطار الولاية الإلهية لابد أن نعرف شخصية الإمام السجاد (ع) وأبعاد حياته. إنه لم يكن كسائر الأنبياء والأئمة. ولا يكون خلفاؤهم من الصدِّيقيين والعلماء الربانيين طُلاب حكم وسيطرة، أو قادة حركات سياسية كالتي نفهمها. لا، ولكنهم سعوا جاهدين من أجل تطهير قلوب الناس من الجبت، ومجتمعاتهم من الطاغوت. ولكن ذلك لم يكن حكمة حياتهم الأولي حتي نقول: إنهم قد فشلوا في تحقيق ذلك، وإنما كانت الحكمة الأولي ابتلاء الناس، حيث قاموا بتلاوة وحي الله وبتعليم الناس وتزكيتهم. وقد قال ربُّنا سبحانه: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] (الجمعة/2). بلي، كان من الأهداف السامية لبعثة الرسل، ونهضة اوصيائهم، وقيام أوليائهم، إعداد الناس للقيام بالقسط. ولا أقول قيامهم بالقسط بين الناس، لأن ذلك يوحي بالوكالة في ذلك، وهذا ما ينفيه الوحي ببلاغة نافذة. فاستمع إلي قول ربِّك العزيز: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد/25).

الامام السجاد وريث الأنبياء

ولأن الإمام زين العابدين (ع) ورث عن جده النبي المصطفي (عليه وآله الصلاة والسلام) دور الأنبياء، فإن الحكمة الأولي لإمامته هي ذات الحكمة الأولي في رسالة الأنبياء، ابتلاء الناس بعد دعوتهم إلي الله، وكانت سائر الأهداف السامية - كإقامة القسط ونصرة المظلومين - في امتداد تلك الحكمة، أي أنها تتفرع منها

وتأتي بعدها. ولقد تسنَّت لسائر أئمة الهدي (ع) الظروف للقيام بتلك الأهداف المتدرجة، وبالذات الهدف السياسي، كما فعل الإمام علي (ع) عندما نهض بأعباء الحرب ضد قريش مرتين، مرة في عهد النبي وتحت لوائه، ومرة بعد النبي وتحت لواء الرسالة الحنفية وبرفقة أصحاب النبي (ص). وهكذا نجله الإمام الحسن (ع). حيث نهض هو الآخر بأعباء الحرب ضد معاوية، ثم أوقف الحرب لمصلحة المسلمين. وكذلك الإمام الحسين (ع) حيث قاوم معاوية بالسبل السلمية، وقام ضد ابنه يزيد بالسيف حتي استُشهد مظلوماً. وهكذا قام سائر الأئمة بأدوار سياسية، وبوسائل غير مباشرة، وبدرجات مختلفة. بينما الظروف العامة كانت تناسب تمخض الإمام السجاد (ع) تقريباً في الدعوة الربانية، حسبما نبين ذلك في مناسبة أخري إن شاء الله تعالي. وبذلك كانت حياة الإمام السجاد قطعة مشرقة بنور ربِّه.. وكانت تجلياً باهراً للإيمان الخالص بالله، وللهيام الشديد بالله، وللعبادة والتبتل. وحينما نقرأ معاً صفات الإمام علي لسان نجله الإمام الباقر (ع)، نعرف ماذا تعني ولاية الله، وولاية أوليائه، ولماذا التأكيد عليها، وكيف كانت حياة السجاد شلال نور إلهي. يقول نجله الإمام الباقر (ع): «كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين (ع). كانت له خمسمائة نخلة. فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزَّ وجلَّ، وكان يصلي صلاة مودِّع يري أنه لا يصلي بعدها أبداً، ولقد صلَّي ذات يوم فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوِّه حتي فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك أتدري

بين يدي مَن كنت؟. إنَّ العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه. فقال الرجل: هلكنا، فقال: كلاَّ.. إن الله عزَّ وجلَّ متمم ذلك بالنوافل وكان (ع) لَيخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علي ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل علي ظهره الطعام أو الحطب، حتي يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول مَن يخرج إليه. وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه. فلما توفي (ع) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع). ولما وُضع (ع) علي المغتسل نظروا إلي ظهره وعليه مثل رُكَبِ الإبل. مما كان يحمل علي ظهره إلي منازل الفقراء والمساكين. ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضي وتركه، وكان يشتري الخزَّ في الشتاء، إذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه، ولقد نظر (ع) يوم عرفة إلي قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير الله تسألون في مثل هذا اليوم، إنّه ليُرجي في هذا اليوم لِمَا في بطون الحبالي أنْ يكون سعيداً؟. ولقد كان (ع) يأبي أن يؤاكل أُمَّه، فقيل له: يابن رسول الله أنت أبرُّ الناس وأوصلَهم للرحم، فكيف لا تؤاكل أمَّك؟ فقال: إني أكره أنْ تسبق يدي إلي ما سبقت عينها إليه. ولقد قال له رجل: يابن رسول الله إني لأحبُّك في الله حبّاً شديداً، فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت لي مبغض. ولقد حج علي ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، فلما نفقت [10] أمر بدفنها لئلا يأكلها السباع. ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت: أُطنب أو اختصر؟ فقيل لها: بل اختصري، فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قط.

ولقد انتهي ذات يوم إلي قوم يغتابونه فوقف عليهم، فقال لهم: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم. وكان (ع) إذا جاءه طالب علم فقال: مرحباً بوصيِّ رسول الله (ص). ثم يقول: إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلَيه علي رَطب ولا يابس من الأرض، إلاّ سبَّحت له إلي الأرضين السابعة، ولقد كان يعول مئة أهل بيت من فقراء المدينة. وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامي والأضرار والزّمني والمساكين الذين لا حيلة لهم. وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمل له إلي عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتي يبدأ فيتصدق بمثله. ولقد كان تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته، وكان يجمعها، فلما مات دُفنت معه. ولقد بكي علي أبيه الحسين (ع) عشرين سنة، وما وضُع بين يَديه طعام إلاّ بكي، حتي قال له مولي له: يابن رسول الله أَمَا آن لِحُزنك أن ينقضي؟. فقال له: ويحك، إن يعقوب النبيَّ (ع) كان له اثني عشر ابناً فغيَّب الله عنه واحداً منهم، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيّاً في الدنيا وأنا نظرت إلي أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟» [11] . وقد زخرت كتب التاريخ بكرامات الإمام [12] ولا عجب فإن إماماً هذه صفاته، يكرمه الله بفضله، أولم يكرم الله عباده الصالحين باستجابة دعواتهم؟ وقد قال سبحانه: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر/60). فكيف لا يستجيب لمن ذاب في حب ربه حتي خشي عليه الهلاك من شدة العبادة. ولننظر معاً في الرواية

التالية ثم نقيسها بما نعرفه من قصص القرآن حول الصالحين من عباد الله، نري أنهما نبعان من عين واحدة. عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي، قال كل واحد منهما: كنت أسيح في البادية مع القافلة، فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة، فإذا أنا بصبي يمشي، فقلت: سبحان الله بادية بيداء وصبي يمشي؟. فدنوت منه وسلَّمت عليه، فردّ عليَّ السلام. فقلت له: إلي أين؟. قال: أريد بيت ربِّي. فقلت: حبيبي، إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنَّة. فقال: يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنّاً مني مات؟ فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي. فقلتُ: ما أري شيئاً من الطعام معك؟ فقال: يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك إنساناً إلي دعوة فتحمل من بيتك الطعام؟. قلت: لا، قال: الذي دعاني إلي بيته هو يطعمني ويسقيني. فقلت: ارفع رجلك حتي تدرك [13] فقال: عليَّ الجهاد، وعليه الإبلاغ. أما سمعت قوله تعالي: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ] (العنكبوت/69). قال: فبينما نحن كذلك إذ أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة، فعانق الصبي وسلَّم عليه. فأقبلتُ علي الشاب وقلت له: أسألك بالذي حَسَّن خلقك مَن هذا الصبي؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فتركت الشاب وأقبلت علي الصبي، وقلت: أسألك بآبائك مَن هذا الشاب؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر،، يأتينا كلَّ يوم فيسلِّم علينا. فقلت: أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: بل أجوز بزاد، وزادي فيها أربعة أشياء. قلت: وماهي؟ قال: أري الدنيا كلها بحذافيرها مملكة الله، وأري الخلق كلهم عبيد الله وإماؤه وعياله، وأري الاسباب والأرزاق

بيد الله، وأري قضاء الله نافذاً في كل أرض الله. فقلت: نعم الزاد زادك يا زين العابدين، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة، فكيف مفاوز الدنيا؟ [14] . وقصة مشابهة يرويها حماد بن حبيب الكوفي القطان فيقول: انقطعت عن القافلة عند زبالة [15] فلما أجنَّني الليل أويت إلي شجرة عالية. فلما اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل عليه أطمار بيض تفوح منه رائحة المسك. فأخفيت نفسي ما استطعت. فتهيأ للصلاة، ثم وثب قائماً وهو يقول: يا من حاز كل شيء ملكوتاً، وقهر كل شيء جبروتاً، أولج قلبي فرح الإقبال عليك، وألحقني بميدان المطيعين لك، ثم دخل في الصلاة. فلما رأيته وقد هدأت أعضاؤه، وسكنت حركاته، قمت إلي الموضع الذي تهيأ فيه إلي الصلاة، فإذا أنا بعين تنبع. فتهيأت للصلاة، ثم قمت خلفه، فإذا بمحراب كأنه مثل في ذلك الوقت فرأيته كلما مر بالآية التي فيها الوعد والوعيد يرددها بانتحاب وحنين. فلما أن تقشع الظلام وثب قائماً وهو يقول: يا من قصده الضالون فأصابوه مرشداً، وأَمَّه الخائفون فوجدوه معقلاً، ولجأ إليه العابدون فوجدوه موئلاً. متي راحة مَن نصب لغيرك بدنه، ومتي فرح من قصد سواك بِنيِته؟ إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً، ولا من حياض مناجاتك صدراً، صلِّ علي محمد وآله وافعل بي أولي الأمرين بك يا أرحم الراحمين. فخفت أن يفوتني شخصه وأن يخفي علي أمره، فتعلقت به فقلت: بالذي أسقط عنك هلاك التعب، ومنحك شدة لذيذ الرهب، إلاّ ما لحقتني منك جناح رحمة وكنف رقة، فإني ضال. فقال: لو صدق توكلك ما كنت ضالاً، ولكن اتبعني واقفُ أثري. فلما ان صار تحت الشجرة أخذ بيدي وتخيل لي أن الأرض تمتد من

تحت قدمي، فلما انفجر عمود الصبح قال لي: أبشر فهذه مكة، فسمعت الضجة ورأيت الحجة، فقلت له: بالذي ترجوه يوم الآزفة يوم الفاقة، مَن أنت؟ فقال: إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [16] . ألم أقل لك إنه كان ومضة نور وشلاَّل إيمان، وقبساً من وهج الرسالة؟.. كان الظلام يخيم علي طرقات المدينة وقد أوي الناس إلي بيوتهم، والسماء تمطر ورياح الشتاء الباردة تعصف.. فيقول: الزهري: رأيته (ع) يمشي وعلي ظهره دقيق. فقلت يابن رسول الله، ما هذا؟. قال (ع): أريد سفراً أعد له زاداً أحمله إلي موضع حريز. فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبي (ع). فقال الزهري: أنا أحمله عنك فأني ارفعك (وأجلُّك) عن حمله. فقال علي بن الحسين (ع): لكني لا أرفع نفسي (ولا أجل نفسي) عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي علي ما أرد عليه. وأضاف الإمام قائلا: أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فانصرف عنه. فلما كان بعد أيام قال له يابن رسول الله لست أري لذلك السفر الذي ذكرته أثراً. قال: بلي يا زهري!. ليس ما ظننت، ولكنه الموت، وله استعدّ، وأضاف الإمام لبيان هدف حمله تلك البضاعة في الليل إلي بيوت الفقراء: إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام، وبذل النفوس في الخير [17] . إن جذور شخصية الإمام زين العابدين تمتد في أفق معرفته بالله تعالي، ويقينه باليوم الآخر، ووعيه للسرعة الخاطفة التي تبتلع ساعات الليل والنهار من عمر البشر، وتزاحم الواجبات عليه!. حينما يسأله رجل كيف أصبحت يابن رسول الله؟ يقول: أصبحت مطلوباً بثمان: الله يطلبني بالفرائض، والنبي (ص) بالسنّة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتِّباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح،

والقبر بالجسد. فأنا بين هذه الخصال مطلوب [18] . إنه كان مثلاً رائعاً للآية الكريمة: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَي جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (آل عمران/191). لقد أحبَّ الله حتي فاضت علي شفاهه روافد الحب في صورة ابتهالات ومناجاة سجَّل التاريخ جزءاً بسيطاً جدّاً منها في صحيفته المعروفة ب_ (السجادية).. فلنستمع معاً إلي هذه الرائعة التي تبهر الأبصار: «فقد انقطعتْ إليك هِمَّتي، وانصرفتْ نحوك رغبتي. فأنتَ لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسُهادي، ولقاؤك قرة عيني، ووصلك مُنَي نفسي، وإليك شوقي، وفي محبتك وَلَهي، وإلي هواك صبابتي، ورضاك بُغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي، وعندك دواء علتي، وشفاء غُلتي، وبردُ لوعتي، وكشفُ كربتي، فكن أنيسي في وحشتي، ومُقيل عثرتي، وغافر زلتي، وقابل توبتي، ومجيب دعوتي، ووليّ عصمتي، ومغني فاقتي، ولا تقطعني عنك، ولا تبعدني منك، يا نعيمي وجنتي، ويا دنياي وآخرتي، يا أرحم الراحمين» [19] . فأيُّ قلبٍ مفعم بالإيمان هذا الذي يفيض بهذه الكلمات المضيئة؟!.. وأي فؤاد ملتهب بالشوق إلي الله، متيم بحب الله، يشع بهذه المناجاة؟. إنّه قلب ذلك الإمام الذي كانت الصلاة أحب الأمور إليه. وكان الذكر شغله الشاغل والعبادة صبغة حياته! فقد دخل علي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فاستعظم عبد الملك ما رأي من أثر السجود بين عينَي علي بن الحسين (ع)، فقال: يا أبا محمد لقد بيَّن عليك الإجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسني، وأنت بضعة من رسول الله (ص) قريب النسب وكيد السبب. وإنك لذو فضل عظيم علي أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أُوتيتَ من الفضل والعلم

والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك ولا قبلك، إلاّ مَن مضي من سلفك.. وأقبل يُثني عليه ويطريه.. قال: فقال علي بن الحسين (ع): «كلّما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه. فأين شكرُه علي ما أنعم يا أمير المؤمنين؟. كان رسول الله (ص) يقف في الصلاة حتي تورّمت قدماه، ويظمأ في الصيام حتي يُعصب فوه، فقيل له: يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول (ص) أفلا أكون عبداً شكوراً؟. الحمد لله علي ما أولي وأبلي، وله الحمد في الآخرة والأولي. والله لو تقطعت أعضائي، وسالت مقلتاي علي صدري، لن أقوم لله جل جلاله بشكر عَشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه الَّتي لا يحصيها العادُّون، ولا يبلغ حدّ نعمة منها علي جميع حمد الحامدين، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره، في ليل ولا نهار، ولا سر ولا علانية. ولولا أن لأهلي عَلَيَّ حقاً، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عَلَيَّ حقوقاً لا يسعني إلاّ القيام بها حسب الوسع والطاقة حتي أؤديها إليهم، لَرميتُ بطرفي إلي السماء، وبقلبي إلي الله، ثم لم أرددهما حتي يقضي الله علي نفسي وهو خير الحاكمين». وبكي (ع) وبكي عبد الملك وقال: شتان بين عبد طلب الآخرة وسعي لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته، ماله في الآخرة من خلاق. ثم أقبل يسأله عن حاجاته وعما قصد له فشفّعه فيمن شفَّع، ووصله بمال [20] . وعندما يراه طاوس في أخريات الليل يطوف بالبيت الحرام يري منه عجباً حتي يشفق عليه فلنستمع إليه، يروي قصته: رأيته يطوف من العشاء إلي السَّحر ويتعبد، فلمّا لم يَرَ أحداً رمق

السماء بطرفه، وقال: «إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابُك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني، وتريني وجه جَدِّي محمد (ص) في عرصات القيامة». ثم بكي وقال: «وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهلٌ، ولا لعقوبتك متعرضٌ، ولكن سوَّلت لي نفسي، وأعانني علي ذلك سترُك المرخَي به عَلَيَّ. فالآن من عذابك من يستنقذني؟. وبحبل مَن أعتصم إنْ قطعتَ حبلك عني؟. فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يَديك، إذا قيل للمخفِّين جوزوا، وللمثقَلين حُطُّوا. أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أَحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطايايَ ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربِّي؟!». ثم بكي وأنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المني فأين رجائي ثم اين محبّتي أتيتُ بأعمالٍ قباحٍ زَرِيَّةٍ وما في الوري خلق جني كجنايتي ثم بكي وقال: «سبحانك تُعصَي كأنك لا تري، وتحلم كأنك لم تُعص تتودّد إلي خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم». ثم خر إلي الارض ساجداً. قال: فدنوتُ منه وشلتُ برأسه ووضعتُه علي ركبتي وبكيتُ حتي جرت دموعي علي خده، فاستوي جالساً وقال: «مَن الذي أشغلني عن ذكر ربِّي؟» فقلتُ: أنا طاووس يابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن علي وأُمك فاطمة الزهراء،و جدك رسول الله (ص)؟! قال: فالتفت إليّ وقال: «هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً. أما سمعتَ قوله تعالي: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ

وَلاَ يَتَسآءَلُونَ] (المؤمنون/101)؟. والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عملٍ صالح» [21] . ولأنه أحب الله فوّض إليه أمره وسلّم له أشد التسليم، وهو (ع) يروي عن نفسه القصة التالية فيقول: «مرضتُ مرضاً شديداً، فقال لي أبي: ما تشتهي؟ فقلتُ: أشتهي أنْ أكون ممَّن لا أقترح علي الله ربِّي ما يدبِّره لي. فقال لي: أحسنتَ، ضاهيتَ إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حيث قال جبرئيل: [22] هل من حاجة؟. فقال: لا أقترح علي ربِّي، بل حسبي الله ونعم الوكيل» [23] . وهكذا أحبه الله تعالي وأكرمه ورفع شأنه، وأجري علي يديه تقديره، وألزم الناس ولايته. والقصة التالية تعكس مدي حب الله سبحانه للإمام زين العابدين (ع): والقصة يرويها طائفة من عُبَّاد البصرة وفقهاءها وهم ثابت البناني، وأيوب السجستاني، وصالح المري، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار. وننقل فيما يلي نص ما جاء في هامش كتاب بحار الأنوار (ج 46، ص 50) عن هؤلاء الْعُبَّاد بالترتيب: أولاً: ثابت البناني: من التابعين وقد ترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء (ج 2، ص 318 إلي ص 333) فقال: ومنهم المتعبد الناحل، المتهجد الذابل، أبو محمد ثابت بن مسلم البناني، وذكر أنه أسند عن غير واحد من الصحابة منهم: ابن عمر، وابن الزبير، وشداد وأنس وأكثر الرواية عنه. وروي عنه جماعة من التابعين منهم: عطاء بن أبي رياح، وداود بن أبي هند، وعلي بن زيد بن جدعان، والأعمش، وغيرهم. ثانياً: أيوب السجستاني: من التابعين. قال أبو نعيم في حلية الأولياء، وقد ترجمه في (ج 3 من ص 3 إلي ص 13): ومنهم فتي الفتيان، سيد العبّاد والرهبان، المنوَّر باليقين والإيمان. السجستاني أيوب بن كيسان. كان فقيهاً محجاجاً،

وناسكاً حجاجاً، عن الخلق آيساً، وبالحق آنساً. أسند أيوب عن أنس بن مالك، وعمرو بن سلمة الجرمي. ومن قدماء التابعين، عن أبي عثمان الهندي، وأبي رجاء العطاردي، وأبي العالية، والحسن، وابن سيرين وأبي قلابة. وذكره الأردبيلي في جامع الرواة (ج 1، ص 111) فقال: أيوب بن أبي تميمة، كيسان السجستاني العنزي البصري، كنيته أبو بكر مولي عمار بن ياسر، وكان عمار مولي، فهو مولي مولي. وكان يحلق شعره في كل سنة مرة، فإذا طال فَرَق. مات بالطاعون بالبصرة سنة 131. ثالثاً: صالح المري: هو ابن بشير، وصفه أبو نعيم في الحلية (ج 6، ص 165) بقوله: القارئ الدرِي، والواعظ التقي، أبو بشير صالح بن بشير المري، صاحب قراءة وشجن ومخافة وحزن. يحرك الأخيار، ويفرك الأشرار. اسند عن الحسن، وثابت، وقتادة، وبكر بن عبد الله المزني، ومنصور بن زاذان وجعفر بن زيد، ويزيد الرقاشي، وميمون بن سياه، وأبان بن أبي عياش، ومحمد بن زياد، وهشام بن حسان، والجريري، وقيس بن سعد، وخليد بن حسان في آخَرِين. رابعاً: عتبة الغلام: هو الحر الهمام، المجلو من الظلام، المكلوء بالشهادة والكلام، قال عبيد الله بن محمد: عتبة الغلام هو عتبة بن أبان بن صمعة، مات قبل أبيه. وسئل رباح القيسي عن سبب تسمية عتبة بالغلام فقال: كان نصفاً من الرجال، ولكنّا كنّا نسميه الغلام لأنه كان في العبادة غلامَ رهِان، استشهد وقتل في قرية الحباب في غزو الروم، ترجمه مفصلاً أبو نعيم في الحلية (ج 6، ص 226 إلي 238). خامساً: حبيب الفارسي: قال أبو نعيم في الحلية (ج 6، ص 149): أبو محمد الفارسي من ساكني البصرة، كان صاحب المكرمات، مُجاب الدعوات، وكان سبب إقباله علي الآجلة وانتقاله

عن العاجلة، حضوره مجلس الحسن بن أبي الحسن، فوقعت موعظته من قلبه.. وتصدق بأربعين ألفاً في أربع دفعات. سادساً: مالك بن دينار أبو يحيي، وصفه أبو نعيم في الحلية بقوله: العارف النظَّار، الخائف الجبَّار.. كان لشهوات الدنيا تاركاً، وللنفس عند غلبتها مالكاً، وقد أطال في ذكره (ج 2، من ص 357 إلي ص 389).

استجابة دعائه

عن ثابت البناني قال: كنت حاجّاً وجماعةَ عٌبَّاد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار. فلما ان دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث. ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألونا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها، فَمُنعنا الإجابة، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتيً قد أقبل، قد أكربته أحزانُه، وأقلقته أشجانُه، فطاف بالكعبة أشواطاً، ثم أقبل علينا فقال: يا مالك بن دينار، ويا ثابت البناني، ويا أيوب السجستاني، ويا صالح المري، ويا عتبة الغلام، ويا حبيب الفارسي، ويا سعد، ويا عمر، ويا صالح الأعمي، ويا رابعة، ويا سعدانة، ويا جعفر بن سليمان، فقلنا: لَبَّيك وسعدَيك يا فتي. فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمان؟. فقلنا: يا فتي علينا الدعاء وعليه الإجابة. فقال: ابعدوا من الكعبة، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمان لأجابه. ثم أتي الكعبة فخر ساجداً فسمعته يقول في سجوده: سيدي، بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث، قال: فما استتم الكلام حتي أتاهم الغيث كأفواه الْقُرَب، فقلت يا فتي: من اين علمت أنه يحبك؟ قال: لو لم يحبني لم يستزرني، فلما استزارني علمتُ أنّه يحبني، فسألتُه بحبه لي فأجابني، ثم ولي عنّا وأنشأ يقول: من عرف الرب فلم يُغنه معرفةُ الرب فذاك الشقي ما

ضرَّ في الطاعة ما ناله في طاعة الله وماذا لقي ما صنع العبد بغير التقي والعزُّ كلُّ العزِّ للمتَّقي فقلت: يا أهل مكة من هذا الفتي؟. قالوا: علي بن الحسين (ع) بن علي بن أبي طالب. وعن المنهال بن عمرو في خبر قال: حججت فلقيت عليَّ بن الحسين (ع)، فقال: ما فعل حرملة بن كاهل؟. قلت: تركته حيّاً بالكوفة؛ فرفع يديه ثمَّ قال (ع): اللهمَّ أذِقْهُ حَرَّ الحديد، اللهمَّ أذِقْهُ حَرَّ النار. فتوجّهت نحو المختار، فإذا بقوم يركضون ويقولون البشارة أيّها الأمير، قد أُخِذَ حرملةُ، وقد كان تواري عنه، فأمر بقطع يديه ورجليه وَحرْقه بالنار. وكان زين العابدين (ع) يدعو في كلِّ يوم أن يريه الله قاتل أبيه مقتولاً، فلمّا قتل المختارُ قَتَلَة الحسين صلوات الله وسلامه عليه بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قِبَلِه إلي زين العابدين، وقال لرسوله: إنّه يصلّي من اللّيل، وإذا أصبح وصلّي صلاة الغداة هجع، ثمَّ يقوم فيستاك ويؤتي بغدائه، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه، فإذا قيل لك: إنَّ المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين علي مائدته، وقل له: المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك: يابن رسول الله، قد بلّغك الله ثارك. ففعل الرَّسول ذلك: فلمّا رأي زين العابدين (ع) الرأسين علي مائدته خرَّ ساجداً وقال: «الحمد لله الّذي أجاب دعوتي، وبلّغني ثاري من قتلة أبي، ودعا للمختار وجزّاه خيراً» [24] . وحينما نعرف جانباً من شخصية الإمام زين العابدين (ع) ومدي تفانيه في ذات الله عزَّ وجلَّ وذوبانه في تيار حبِّه سبحانه، وخلوصه من شوائب المصلحة المادية، نعرف - حينئذ - جانباً من حكمة الولاية، وذلك التأكيد الشديد عليها في

نصوص الإسلام. فمثل ولاية الإمام السجاد تصلح نفس الإنسان وتتسامي في معارج الكمال، وإن ولاية الأنبياء والأوصياء تصبغ شخصية المجتمع المؤمن بصبغة الإيمان، وتيسر له العمل بتعاليم أولياء الله تعالي، والسعي وراء تمثيل شخصياتهم الإلهية، كما أن تلك الولاية تسقي روضة حب الله في أفئدتهم، وتصونها من الذبول، لأن حب أولياء الله يفيض من حب الله كما تفيض الروافد من نبعٍ زخَّار، بل إن حب أولياء الله هو انبساط لحب الله، وأمثلة له وشواهد عليه!. وكيف يمكن أن يدَّعي أحد أنه يحب الله ثم لا يحب من هام في حب الله حتي بلغ ما بلغه الإمام زين العابدين (ع) من العبادة والتهجد؟! أولم يقل ربُّنا العزيز: [قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله] (آل عمران/31). فلنغترف من نبع حب الله فيضاً، وذلك بِحُبِّ أوليائه أكثر مما مضي، حتي نطهِّر أفئدتنا من أهواء الدنيا ومن أدران حب أهلها اللئام.

ميلاده و عصره

اشاره

كان الإمام زين العابدين (ع) في قلب الأحداث السياسية التي ساهمت في تكوين الأمة الإسلامية، ورَسْمِ ملامحها التاريخية.. لقد ولد (سلام الله عليه) في بيت جدِّه علي أمير المؤمنين (ع)، من نجله الكريم الإمام الحسين (ع)، عندما كان الإمام يخوض صراعاً مريراً مع أعداء الإسلام المتستِّرين في الجمل وصِفين والنهروان، وكان والده الحسين (ع) قائداً في جيش الإسلام - يومئذ - كما كان مضطلعاً مع والده بإدارة أمور المسلمين.. ولا ريب أن تلك الأحداث الرهيبة التي لازالت أصداؤها تدوي في واقعنا حتي اليوم، ساهمت في صنع شخصية الوليد الكريم الذي استقبله بيت الإمامة في عام (35) للهجرة الكريمة، عندما كانت الأمة الإسلامية تعيش غلياناً انتهي بمقتل الخليفة الثالث، وما أعبقه من فتنة بني أمية في

المطالبة بدمه.

ام السجاد

جاء في كتب التاريخ أن والدة الإمام السجاد (ع) هي (شهر بانو) بنت آخر ملوك الفرس، من سلسلة الساسانية (يزدجرد). وكانت الأمبراطورية الفارسية كأي نظام جاهلي آخر قائمٍ علي الطبقية والظلم والعدوان، فلما أشرق نور الإسلام تهاوت كما تتهاوي شجرة منخورة أمام إعصارٍ عنيف، وانهزم الأمبراطور من بلد إلي آخر حتي قُتل غيلةً في خراسان، وبقيت عائلته في تلك البلاد حتي فتحت علي عهد عثمان في عام (32) وجيء بهم إلي المدينة المنورة، فلما مثلوا أمام الخليفة الثالث وحضر كبار الأصحاب، أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) إلي الخليفة بإكرامهم ورغّبه في ذلك بذكر حديث الرسول (ص): «أكرموا عزيزَ قومٍ ذَل». ولعل الحكمة في ذلك كانت استمالة الشعوب التي لم تزل تحترم قيادتها وكرماءها، لكي لاتبقي بينهم وبين قبول الإسلام حواجز الحقد والضغينة. فلما تريث الخليفة في ذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع): «اعتقتُ منهم لوجه الله حقي وحق بني هاشم». وتبعه في ذلك الأنصار والمهاجرون، فلم ير الخليفة بدّاً من قبول الأمر، فأشار الإمام أمير المؤمنين (ع) بأن تُترك كلُّ واحدةٍ لاختيار الزوج المناسب، فاختارت إحدي بنات يزدجرد الحسين (ع)، بينما اختارت الثانية الحسن، وقيل محمد بن أبي بكر. فحملت شهر بانو في تلك السنة. وفي منتصف شهر جمادي الأولي لعام ثلاث وثلاثين من الهجرة ولدت ابنها البكر، وماتت وهي في نفاسها، فتكفلته واحدة من أمهات الأولاد عند الإمام الحسين (ع)، فنشأ زين العابدين في كنفها، وكان يزعم الناس أنها أُمه بينما كانت مولاته [25] . وفي السابعة من عمره استُشهد جدُّه الإمام أمير المؤمنين (ع) في محراب مسجد الكوفة. وبعد أشهر عاد أهل البيت إلي المدينة حيث ترعرع علي بن الحسين

(ع) في ربوعها المضوَّعة بعطر الرسول (ص)، فلما بلغ السابعة عشر اغتيل بالسم عمَّه الإمام الحسن المجتبي (ع). وعاش الإمام السجاد (ع) يمارس في ظلال والده الإمام الحسين (ع) دور الريادة في مواجهة الردة الجاهلية الأموية. وبالرغم من قلة المعلومات التي تفصّل طبيعة هذه المواجهة المتسمة بالهدوء وربما السرّية، فإن ما بقي لنا من خُطب الإمام الحسين (ع) ضد معاوية، وكتبه النارية الموجهة إليه، وما رافق عهد معاوية من انتفاضات بقيادة أصحاب الرسول الموالين لأهل بيته عليه وعليهم صلوات الله، أقول: إن ما بقي لنا من ذلك يُعطينا صورة كافية للحالة السياسية التي عاشها الإمام السجاد أيام والده (ع)، حينما كان في مقتبل العمر.

بعد عاشوراء

ومهما كانت قوة الحركة السياسية في عهد معاوية، فإنها كانت ناراً تحت رماد الهدوء السياسي الذي فرضه معاوية علي الساحة بدهائه المعروف وبوسائله المختلفة من توزيع الأموال والمناصب ثمناً لسكوت الطامعين، وتوزيع العسل المسموم علي الأحرار. وقد اشتهر عنه القول: إن لله جنوداً من عسل.. وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية. ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان، داهية العرب، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة. فبعد شهادة السبط الشهيد (ع) انتفضت مدينة الرسول، وخلعت يزيد بن معاوية، وقام عبد الله بن الزبير بمكة يطالب بالخلافة، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد، ثم بقيادة المختار. وهكذا أصبحت الثورات والإنتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية، واسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد. ولذلك فإننا نستطيع أن نسمي عهد الإمام السجاد (ع)، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والإنتفاضات. بيد أن

الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تحركها، وإلاّ فان ضررها يكون أكبر من نفعها. أوليست الثورة بذاتها حالة تمرد علي النظام وتعكِّر جو الأمن، وتُثير الإضطراب، وتُريق الدماء؟ وبلي، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها. فلأنها تخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلي نور النشاط والعقل والعدالة، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد الله الابرار. ولأنها تزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والإعتداء، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف.. ومن هنا ركزت نصوص الوحي علي هدف الثورات ضمن تعبير «القيام لله» وحيث قال ربُّنا سبحانه: [قُلْ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ] (سبأ/46). وقال عزَّ وجلَّ: [قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ] (النساء/135). وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين (ع)، بحاجة إلي هوية وصبغة، وروح، وقيم، لكي تتكرس في ضمير الأمة، ولا تصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشي.. ولكي تتخذ مساراً رساليّاً مستقيماً، ولا تصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد الله بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بابشع صورة. فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد. ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت (ع)، حتي أنه ترك الصلاة علي جدهم النبي (ص)، لكي لا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله ! فمن أجل ألا تصبح

الحالة الثورية مطية لكل من يهوي السلطة أو يبحث عن مجد مثل ابن الزبير، جاء الإمام السجاد (ع) يعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية، وصبغتها الإلهية، وروعتها التي تمثلت في قيم الوحي، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة الله تعالي. ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد (ع). ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام (ع) أو لأنه شاهدَ مثلاً وقائع الطف الفظيعة، فاصطبغت شخصيته بها. ولم يملك إلاّ البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة. أجل، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة، ولكن الإمام المعصوم (ع) يقوم بواجبه الإلهي، وليس بما تمليه حالته النفسية. والشاهد علي ذلك أن الإمام زين العابدين (ع)، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب (ع). وما أدراك ما رسالة عاشوراء!. إنها رسالة الجرح الثائر، والدم المنتصر، والألم المتمرد، والإنتفاضة التي لا تهدأ. أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد، فقالوا له: مرنا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك، لنأخذن يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا. ولكنه قال لهم: «مسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا». وها نحن نستمع معاً إلي فقرات من تلك الخطبة الثائرة: أومأ إلي الناس فسكتوا، فحمد الله وصلَّي علي النبيِّ، ثم قال: «أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أُعرِّفه بنفسي. أنا عليُّ بن الحسين بن علي، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، أنا ابن من هُتك حريمه، وانتُهب ماله، وسُلب نعيمه. فبأية عين تنظرون بها رسول الله (ص) إذا قال لكم: قتلتم عترتي، وهتكتم حرمي، فلستم

من أمتي» ثم بكي (ع) [26] . وعندما أُدخل أسيراً علي ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر علي الخط الرسالي وإلي الأبد، تحدَّاه الإمام (ع) وقال له: «سوف نَقف وتَقفون، ونُسأل وتُسألون، فأيّ جواب تردُّون، وبخصام جدِّنا إلي النار تُقادون» [27] . فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام (ع): «أأنت تهددني بالقتل؟. أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتُنا من الله الشهادة»؟. وكان موقفه من الطاغية يزيد، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلاّ وارتكبها في سني حكمه القصيرة، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلاً أعلي في الجهاد بالكلمة الرافضة. ومرة أخري حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّي له الإمام السجاد (ع) قائلاً: « ويلك يا هذ الخاطب، اشتريت مَرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مقعدك من النار». ثم التفت إلي يزيد واستأذنه بصعود المنبر، فلم يجد يزيد بدّاً من ذلك فلما تشرف به المنبر ألقي تلك الخطبة البليغة التي لايزال صداها يدوّي في الآفاق إلي اليوم.. وإلي أبد الآبدين. وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّي له الإمام (ع) وقال: «يا حجاج، عمدت إلي بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته، كأنك تري أنّه تراث لك. إصعد المنبر وانشد الناسَ أن لايبقي أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردَّه» [28] . وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية، وربما إلي الأبد. إنما كانت بحاجة إلي صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلي أهدافها القيّمة، وهكذا اتَّجه الإمام (ع) إليها. فزعم السذج من الناس أن ذلك

كان مزاجاً شخصيّاً . كما زعموا في مثل ذلك في الأنبياء. فمنهم من قال: إن تضحية إبراهيم وصبر نوح، ووحدة موسي وزهد عيسي وخُلق محمد عليهم جميعاً صلوات الله، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل الله (ع) إنما كانت سمات شخصياتهم، وحالاتهم المزاجية، ناسين أن الله تعالي أعلم حيث يجعل رسالته، وأنه لا يجعل رسالته إلاّ حيث تقتضي حكمته. وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم. حتي ولو افترضنا جدلاً أن نبيّاً وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّي سلوكه وعمل بمنهاجه، بلا اختلاف قليل أو كثير. وكالأنبياء يكون الأئمة، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه. وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد (ع). الذي كانت حياته قمة في العبادة والضراعة، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد، من أمثال: الزهري، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد الله السبيعي، وآخرين.. وهكذا رسمت صحيفة السجاد (ع) منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز علي الجانب الروحي، علي أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة (ع)، إلاّ أن الحاجة إليه كان في عهد الإمام زين العابدين (ع) أشد، ولذلك كان التركيز عليه أعظم. ولكن السؤال: كيف اضطلع الإمام بهذه المهمة؟. وأي منهاج اتَّبعه لبلوغ هذا الهدف العظيم؟

منهاج الإمام في التربية الروحية

ممَّا لاشك فيه أن أئمة الهدي هم مشاعل الحق للأجيال في كل عصر ومصر، ولكن لأن الظروف مختلفة من جيل لآخر، ومن مصر لمصر ثان، ولأن الله قد ختم بالمصطفي رسالاته، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين، فإن حكمته اقتضت أن تكون سيرة كل واحد منهم متميزة بهدي ومنهاج، ليكون مجمل سيرهم المتنوعة

ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة.. وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (ع) الإيمانية هي المنهاج المتناسب كليّاً وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد حيث حبانا الله سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلي المزيد من الروح الإيمانية حتي لاتخرج الحركة عن مسارها الديني، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل الله. فماذا كانت سيرته، وماهو برنامجه؟ أولاً: كان عباد الله المخلصون دعاة إلي الله بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه. وكانت حياة الإمام السجاد (ع) لوحة إيمانية نقية، وقد تحدثنا عنها في فصل آخر. وقال عنه جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الشهير: ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (ع). ثانياً: تربية جيل من العلماء الربانيين الذين ربوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين. وهكذا تماوجت تعاليم الإمام عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقي في بحر واسع.. وكان في هؤلاء الرجال العرب والموالي،ولكلٍّ قصة وتاريخ. فَدَعْنا نتزود من عبق سيرة حواري الإمام (ع) الذين كان أكثرهم من التابعين: ألف: كان سعيد بن جبير من أولئك التابعين الذين اقتبس من الإمام زين العابدين (ع) روح الإيمان.. كان مثلاً في العبادة والإجتهاد كان يسمي ب_ (بصير العلماء) ويقرأ القرآن في ركعتين، وبلغ من علمه أنه اشتهر بين العلماء أنه ما علي الأرض أحد إلاّ وهو محتاج إلي علمه [29] . واستشهد سعيد علي يد طاغية العراق الحجاج. ويقول الإمام الصادق (ع): «إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين، فكان علي يثني عليه. وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ علي هذا الأمر، وكان مستقيماً»

[30] . ومن خلال حوار ساخن جري بينه وبين جزار بني أمية الزنيم نعرف مدي استقامة هذا العالم الرباني. ذكر أنه لما دخل علي الحجاج بن يوسف قال له: أنت شقي بن كسير. قال: أُمي كانت أعرف بي، سمتني سعيد بن جبير. وقيل إنه سأله كيف يفضل أن يقتله؟ قال: اختر لنفسك، قال وكيف ذلك؟. قال: لأنه لاتقتلني بقتلة إلاّ وأقتلك بها يوم القيامة. باء: وكان عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الذي يكني ب_ (أبي إسحاق) من ثقاة الإمام السجاد (ع) وبلغ من عبادته أن قيل عنه لم يكن في زمانه أعبد منه، حيث كان يختم القرآن في كل ليلة. وقد صلي اربعين سنة صلاة الفجر بوضوء صلاة العتمة، وكان محدثاً لا أوثق منه في الرواية عند الخاص والعام [31] . جيم: وكان الزهري عاملاً في بلاط الأمويين، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة، فارتاع لذلك فخرج علي وجهه هائماً، واعتكف في غار تسع سنين، فرآه الإمام السجاد (ع) وهو في طريقه إلي الحج، فقال له: «إني أخاف عليك من قنوطك مالا أخاف عليك من ذنبك. فابعث بِدِيَةٍ مسلّمة إلي أهله، واخرج إلي أهلك ومعالم دينك». فقال له: فرّجتَ عني يا سيدي، الله أعلم حيث يجعل رسالته. ورجع إلي بيته، ولزم علي بن الحسين (ع). وكان يعد من أصحابه. ولذلك قال له بعض بني مروان: يا زهري . ما فعل نبيك، يعني علي بن الحسين [32] . ومن هذه الرواية نعرف كيف كان الله يهدي الناس بالإمام حتي يصبح عامل بني أمية من كبار العلماء المعروفين عند كل الفرق الإسلامية كالزهري. دال: وكان سعيد بن المسيب بن حزن من كبار التابعين الذين ربَّاهم أمير المؤمنين

(ع)، والتزم خط آل البيت (ع) حتي كان من صفوة أصحاب الإمام السجّاد (ع). وعنه قال: «سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدم من الآثار» [33] . وقد قال رجل لسعيد يوماً: ما رأيت رجلاً أورع من فلان (وذكر اسم رجل من الناس) فقال له سعيد: فهل رأيت علي بن الحسين؟. قال: لا، قال سعيد: ما رأيتُ رجلاً أورع منه [34] . ومثل هؤلاء طائفة كبيرة من كبار علماء الإسلام الذين أخذوا عن الإمام الزهد والتقوي، والتفسير والحكمة والفقه، حتي قال الشيخ المفيد: إنه روي عنه الفقهاء من العلوم مالا يحصي كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ماهو مشهور بين العلماء.. وقال ابن شهر اشوب: قلَّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه: قال علي بن الحسين، أو قال زين العابدين (ع) [35] . وكان شديد الإحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي، ويري أنهم وصية رسول الله (ص).. وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدي والورع قبل أن يتلقوا من منطقه العلم والمعرفة، ومن لايستلهم نور الله من تلك الطلعة الربانية، من العين التي تفيض من خشية الله، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود، من ذلك اللسان الذي لايني يذكر الله عزَّ وجلَّ.. وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور الله تبارك وتعالي. يذكر عبد الله بن الحسن فيقول: كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلي خالي علي بن الحسين (ع). فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته، إما خشية لله تَحدث في قلبي لما أري من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه [36] . وكانت

الفتوحات الإسلامية تطوي كل يوم بلداً جديداً، وتضم إلي الجسد الإسلامي عضواً جدياً، ولكنها كانت بحاجة إلي زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الأُمة الواحدة. وقد تصدي الإمام زين العابدين (ع) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية وبسبل شتي. فقد كان شديد الإحترام للموالي، وهم المنتمون إلي سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام، بعد فتح البلاد لها، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً. وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (ع). كما كان الإمام يتبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهية في أفئدة ثلة مختارة منهم.. حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثم يُعتقهم ويزوِّدهم بما يوفر لهم الحياة الكريمة، فيكون كل واحد منهم ركيزة إعلامية بين بني قومه.. ولنقرأ معاً أخلاق الإمام في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم، فإن تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلي جانب التوجيه المباشر. روي عن عبد الرزاق (أحد الرواة) أنه قال: جعَلت جارية لعلي بن الحسين (ع) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية علي وجهه فشجّه. فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] (آل عمران/134) قال: كظمت غيظي، قالت: [وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ] (آل عمران/134) قال لها: عفا الله عنك، قالت: [وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]، (آل عمران/134) قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله عزَّ وجلَّ [37] . هكذا كان يتعامل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم ان لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان، فكيف لا يؤثر فيهم ذلك الخلق الرفيع؟. ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستويً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار، تقول الرواية: كان عنده (ع) قوم أضياف، فاستعجل خادماً

له بشواءٍ كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه علي رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال عليٌّ للغلام وقد تحير الغلام واضطرب: «أنتَ حرٌّ، فإنك لم تعتمده»، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه [38] . وكان له مولي يتولّي عمارة ضيعة له، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً. فغاظه ما رأي من ذلك وغمّه، فقرع المولي بسوطٍ كان في يده وندمَ علي ذلك، فلما انصرف إلي منزله أرسل في طلب المولي فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه، فظنّ أنّه يريد عقوبته، فاشتد خوفه، فقال له علي بن الحسين: «قد كان مني إليك مالم يتقدَّم مني مثلُه، وكانت هفوة وزلَّة، خذ ذلك السوط واقتصَّ مني». فقال: يا مولاي والله إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي، وأنا مستحق للعقوبة. فكيف اقتصُّ منك؟! قال: «ويحك اقتصّ»؟ قال: معاذ الله أنتَ في حلٍّ وسعة، فكرَّر عليه ذلك مراراً والمولي يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص قال له: «أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك» [39] . هذه نماذج من الخلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (ع) مع الموالي. وقد كان أسلوب عتق الإمام لهم متميزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب. فقد روي ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال، بسنده عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كان علي بن الحسين (ع) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له، ولا أَمَة. وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه. فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤذك أتذكر ذلك؟

فيقول بلي يابن رسول الله. حتي يأتي علي أخرهم ويقررهم جميعاً ثم يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصي عليك كلَّ ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح، فإنه يقول: وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، وهو ينادي بذلك علي نفسه ويلقنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول: «ربَّنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت، فاعف عنَّا فإنك أولي بذلك منَّا ومن المأمورين. إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم». ثم يقبل عليهم فيقول قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم من سوء ملكة فإني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل؟. فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت. فيقول لهم قولوا: اللهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنَّا وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق. فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين ربَّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي. فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس. وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً إلي أقل أو أكثر. وكان يقول: إن لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف عتيق من النار، كُلاًّ قد استوجب النار. فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثلما

أعتق في جميعه. وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار. وما استخدم خادماً فوق حول. وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتقوا كذلك. ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الْفُرج فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال.

دور الإمام في الاعلام الرسالي

اشاره

الإعلام الرسالي هو الجهر بالقيم التي يدعو إليها الوحي. ولعل الكلمة المرادفة له في المنطق الإسلامي «الأذان». وإذا كانت الدعوة إلي الله هي الركيزة الأولي لرسالات الله، فإن الإعلام جانب أساسي منها. ولقد كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدةً من أعظم الإثارات الإعلامية. أولم يقل السبط الشهيد أنا قتيل العبرة؟. أولم يتواتر عن أئمة أهل البيت (ع) فضلُ البكاء علي الحسين (ع) وزيارة قبره، والدعاء تحت قبته؟. وهذا الدور الإعلامي الذي كان الهدف من استشهاد الإمام الحسين (ع) اضطلع به الإمام زين العابدين (ع)، ومعه البقية العائدة من كربلاء، وبالذات عقيلة الهاشميين زينب الكبري (ع). وبقي الإمام (ع) خمساً وثلاثين سنة قائماً بهذا الدور حتي رسَّخ في ضمير الأمة قواعدَ الإعلام الحسيني المبارك علي النحو التالي: ألف: كان أول وأعظم هدف لوسائل الإعلام الحسيني، إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف، لتبقي راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة، ولتكون شعلة متقدة في أفئدة المؤمنين، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة، وتدعوهم إلي الإجتهاد والإيثار، وليقولوا علي مدي العصور: يا ليتنا كنَّا معك فنفوز فوزاً عظيماً، وليكونوا أبداً جنود الحق المتفانين في سبيل الله لكي لا تتكرر فاجعة الطف مرة أخري؛ أو ليكونوا.

إذا وقعت مشاركين فيها بسهم واق، ومدافعين عن الحق بكل قواهم. ومن هنا نجد الإمام زين العابدين (ع) واحداً من البكَّائين الخمسة في عداد آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. لقد بقي باكياً بعد واقعة الطف ثلاثاً وثلاثين عاماً، ما وُضع أمامه طعام إلاّ وخنقته العبرة وقال: لقد قتل ابن بنت رسول الله جائعاً، فإذا جيء إليه بشراب انهالت دموعه فيه وقال: لقد قتل ابن بنت رسول الله عطشاناً. وإذا مرّ علي جزّار استوقفه وسأله: هل سقي الشاة ماءً، ثم طفق يبكي ويقول: لقد قتلوا سبط رسول الله ظامئاً علي شط الفرات. وقد ضج لبكائه مواليه وأهل بيته. قال له أحد مواليه مرة: جُعلت فداك يابن رسول الله، إني أخاف أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو حزني إلي الله، وأعلم من الله مالا تعلمون. إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة [40] . باء: ولم يكن البُكاء الرسالة الوحيدة التي حملها الإمام زين العابدين (ع) إلي التاريخ، فقد كانت رسالة الكلمة الثائرة هي المشكاة الصافية التي تشع من خلالها رسالة الكلمة. فمنذ الأيام الأولي لملحمة كربلاء عملت كلماتُ آل البيت (ع) وفي طليعتهم الإمام السجاد والصديقة زينب الكبري (ع) في هدم جدار الصمت والتردد والخوف، في الكوفة، وفي الشام، ثم في المدينة المنورة. وحينما فرّق عامل يزيد «الأشدق» أهل البيت في البلاد الإسلامية خشية انتفاضة أهل المدينة حسب بعض الروايات التاريخية، رُفِعَ لظُلامة الحسين (ع) في كل حاضرة منبر وجهاز إعلامي مقتدر. ومن أشهر خطب الإمام (ع) تلك الرائعة التي أوردها في مسجد الشام، والتي تحتوي علي منهاج المبنر الحسيني الذي لو اتَّبعناه، لكان أبلغ أثراً وأنفذ

في أفئدة الناس. وها نحن نتدبر في مفردات هذا المنهج قبل أن نستوحي معاً نص الخطاب: ألف: حدد الإمام أهداف المنبر إذ قال للخاطب الذي سبقه إلي المنبر: اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مقعدك من النار.. وتوجه إلي يزيد وقال له: أتأذن أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضاً ولهؤلاء الجلساء نفع وثواب. إذاً لابد أن تكون توجيهات الخطيب خالصة لوجه الله، وأن يبحث عما يرضي الله، حتي ولو أسخط الطغاة، وأن ينطق بما ينفع الناس لا بما يضرهم. باء: ثم بدأ الحديث بذكر الله سبحانه، وحذَّر الناس عقابه، وذكَّرهم بالموت والفناء، ولا أبلغ من الموت موعظة ولا من الفناء رادعاً. وجاء في بعض الروايات أن الناس قد أجهشوا بالبكاء عندما أكمل الإمام (ع) حديثه عن الآخرة، مما جعل قلوبهم خاشعة تستقبل ما بيَّنه بعدئذ من البصائر السياسية. جيم: وبيَّن الإمام (ع) خطه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلي سيد المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين (صلَّي الله عليه وعليهم اجمعين)، وأسهب في بيان صفاتهم التي هي المثل الأعلي في اليقين والإستقامة والجهاد. دال: وأشهر الإمام (ع) ظُلامة السبط الشهيد، وحملها راية حمراء تدعو الضمائر الحرة إلي الجهاد من أجل الله وفي سبيل نصرة المظلومين.. وهذه هي أشد محاور المنبر الحسيني: إثارةً للعواطف وتهييجا لكوامن الحزن والأسي. هاء: وبعد أن أمر يزيد بأن يقطع عليه المؤذن حديثه لم يترك الإمام (ع) المنبر كما كان معهوداً، وإنما استوقفه عند الشهادة الثانية وحمّل يزيد مسؤولية قتل والده، مما يعني - في لغة العصر - وضع النقاط علي الحروف. فلا يكفي للخطيب الحسيني أن يشير من بعيد إلي الحقائق السياسية، بل لابد أن يصرّح بها بوضوح حتي

يتبصر الناس وتتم الحجة عليهم. وهكذا استطاع الإمام السجاد (ع) عبر هذا المنهاج الرائع أن يزلزل عرش يزيد زلزالاً حتي تنصَّل من جريمته النكراء، وتوجه إلي الجماهير الغاضبة التي كادت تبتلعه قائلاً: أيها الناس، أتظنون أني قتلت الحسين، فلعن الله مَن قتله عبيد الله بن زياد عاملي بالبصرة [41] . اما خطاب الإمام (ع) الذي ينبغي أن يُتخذ مثلاً للخطَب الحسينية، فهو التالي: «أيها الناس أحذركم الدنيا وما فيها، فإنها دار زوال، قد أفنت القرون الماضية، وهم كانوا أكثر منكم مالاً، وأطول أعماراً. وقد أكل التراب جسومهم، وغيَّر أحوالهم. أفتطمعون بعدهم، هيهات هيهات، فلابد من اللحوق والملتقي. فتدبَّروا ما مضي من عمركم وما بقي، فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل وفروغ الأمل، فعن قريب تؤخذون من القصور إلي القبور، وبأفعالكم تحاسبون. فكم - والله - من فاجرٍ قد استكملت عليه الحسرات، وكم من عزيز قد وقع في مهالك الهلكات، حيث لا ينفع الندم، ولا يُفات من ظَلم.. ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربُّك أحداً [42] . قالوا: فضج الناس بالبكاء لبالغ أثر مواعظه في أنفسهم ثم قال: «أيها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع: أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلنا بأن منَّا النبيَّ المختار محمداً، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأمة. مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أيها الناس! أنا ابن مكة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حَمل الرُّكن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدي، أنا ابن خير من انتعل واحتفي، أنا ابن خير من طاف وسعي، أنا ابن

خير من حجَّ ولبَّي، أنا ابن من حُمل علي الْبُراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلي فكان قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلَّي بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحي، أنا ابن محمد المصطفي، أنا ابن علي المرتضي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا: لا إله إلا الله. أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول الله بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجر الهجرتَين، وبايع البيعَتين وقاتل ببدر وحنَين، ولم يكفر بالله طرفة عَين. أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وافضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين. أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، المجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشي من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله علي المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه. سمحٌ، سخيٌّ، بهيٌّ، بهلولٌ، زكيٌّ، أبطحيٌّ، رضيٌّ، مقدامٌ، همامٌ، صابرٌ، صوام، مهذبٌ، قوامٌ، قاطعُ الأصلاب، ومفرقُ الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جَناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنَّة وقربت الأعنَّة طحن الرحا، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكيٌّ مدنيٌّ خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أحديُّ شجريٌّ مهاجريٌّ. من العرب سيدها، ومن الوغي ليثها، وارث المشعَرين وأبو السبطَين: الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي

طالب. ثم قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء... فلم يزل يقول: أنا أنا، حتي ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد (لعنه الله) أن يكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام. فلما قال المؤذن: الله أكبر قال علي: لا شيء أكبر من الله، فلما قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلما قال المؤذن: اشهد أن محمداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلي يزيد فقال: محمد هذا جدِّي أم جدُّك يا يزيد؟. فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فَلِمَ قتلتَ عِترَته؟ قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلَّي صلاة الظهر» [43] .

الدعاء مدرسة و منبر

لقد بعث الله تعالي إلينا رسالته، تري كيف نستجيب له. ونرد إلي ربِّنا الرحمن التحية؟. نردُّها بالدعاء. فإنه منهج حديث العبد مع ربِّه عزَّ وجلَّ، كما أن الوحي ذروة حديث الرب مع عباده. والدعاء مخ العبادة، ولباب التواصل، وجوهر الصلاة. وكل دعاء حميد إلاّ أن الله تعالي أنعم علينا بأن هدانا لتعلم أدعية أوليائه، وبما أورثنا من أدعية النبيِّ وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام. ويبدو أنها جميعاً أدعية تَوارثها عباد الله من الأنبياء، ومن ثم من الوحي الإلهي؛ أولا أقل هي تجليِّات الوحي علي أفئدة الهداة من عباد الله المقرَّبين، وانعكاسٌ لمعارف الوحي علي قلوبهم الزكية وألسنتهم الصادقة. فالأدعية المأثورة - إذاً - هي الوجه الآخر للوحي، وهي ظلاله الوارفة، وأشعته المنيرة، وتفسيراته وتأويلاته. وهكذا كانت الأدعية كنوز المعارف الربانية، وتلاد الحكم التي لاتنفذ، وفي طليعتها أدعية الصحيفة السجادية التي جمعت من كلمات الإمام زين العابدين (ع). فإلي ماذا كان يهدف

الإمام من تلك الأدعية؟. لا ريب أنها كانت شعاعاً من قلبه المنير بالإيمان، وفيضاً من فؤاده المتقد بحب الله، وكانت كلماتُها تتزاحم علي شفاه رجل كاد يذوب في هيام ربِّهِ، ولم تكن تَكَلُّفاً منه. بلي، قد حققت أهدافاً عديدة أبرزها تعليم عباد الله كيف يدعون ربَّهم العظيم، وكيف يتضرعون إليه، ويتحببون إليه، ويلتمسون رضاه. ويتوافون علي أسمائه الحسني.. وكيف يطلبون منه حوائجهم، وماذا يطلبون؟. وهذا الهدف الرباني تفرّع بدوره إلي عدة أمور حياتية يذكرها المؤرخون عادةً عند بيان حكمة الصحيفة السجادية، ونحن نشير إليها باختصار شديد. أ: أن الضغوط كانت بالغة الشدة في عهد الإمام السجَّاد (ع) إلي درجة أن عقيلة الهاشميين زينب الكبري (ع) أصبحت لفترة، وسيطة في شؤون الإمامة بين الإمام والمؤمنين. وفي مثل تلك الظروف العصيبة كان من الطبيعي أن يبث الإمام بصائر الوحي وقيم الرسالة عبر الأدعية التي مشت في الأمة ولا تزال كما يمشي الشذي عند نسيم عليل!! ب - والإمام كثائر رباني لم يدع معارضة الطواغيت والوقوف بوجه الفساد الذي أوجدوه بسبب الظروف الصعبة، بل عارضهم بالأدعية التي لم تستطع أجهزة النظام برغم قوتها صد الإمام عنها. وهكذا أتم الله سبحانه الحجة علينا، كي لاندع الوقوف بوجه الطغاة بأية وسيلةٍ ممكنة، حتي في أشد العصور إرهاباً وقمعاً. ج: وكانت الأدعية - إلي ذلك - وسيلة تربية الناس علي التقوي والفضيلة والإيثار والجهاد وذلك بما تضمنت من مفاهيم متسامية، ومواعظ ربانية، فكان النخبة من أبناء الأمة يتغذون عليها كما يتغذي النبات الزاكي من أشعة الشمس. فإن حركات المعارضة تحتاج إلي زخم ثوري يدفع أبناءها قُدُماً في طريق المعارضة كالنشرات السرية والجلسات الخاصة، والشعارات والبيانات، فإن تلك الصحف المطهرة كانت غذاءً

رساليّاً لتلك النخبة المؤمنة في مواجهة النظام الأموي. ولا تزال أدعية الإمام (ع) التي جمعت في الصحيفة السجادية، لاتزال هذه الأدعية ذلك الزخم الإيماني الذي يوفر لنا الروح الإيمانية في الأيام العصيبة. ولا أظن - بعد القرآن - أنَّ كتاباً يكون تسلية لفؤاد المحرومين، وثورة في دماء المستضعفين، ونوراً في افئدة المجاهدين وهدي علي طريق الثائرين كالصحيفة السجادية، فسلام الله علي تلك النفس الزكية التي فاضت بها، وسلام الله علي من تبتل بها مع كل صباح ومساء.

الشعر منبر سيار

تناغم الحياة ينعكس في ضمير الإنسان بحبك أوزان الشعر ومعانيه البديعة. وكانت العرب في الجاهلية وفي العصور الإسلامية الأولي، بالغة الإهتمام بالشعر. وقد مدح ربُّنا سبحانه في سورة الشعراء أولئك المؤمنين منهم الذين ينتصرون للمظلوم. وقد اهتم أئمة الهدي (ع) بالشعر كمنبر سيار يمشي بين الناس بانسياب. كما أن الطغاة بدورهم استخدموا الشعراء مطية لإعلامهم المضلَّل. وقد قيل إن الإمام زين العابدين (ع) نظم الشعر. واشهر ما ينقل عنه تلك الرائعة التي يقول فيها: نحن بنو المصطفي ذوو غصص يجرعها في الأنام كاظمنا عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلي و آخرنا يفرح هذا الوري بعيدهمُ و نحن أعيادنا مآتمنا والناس في الأمن والسرور، وما يأمن طول الزمان خائفنا وما خصصنا به من الشرف الطائل بين الأنام آفتنا يُحْكَم فينا، و الحكم فيه لنا جاحدُنا حقَّنا و غاضبنا [44] . ونسب إليه ابن شهر اشوب في المناقب قوله: لكم ما تدَّعون بغير حَقٍّ إذا مِيز الصحاحُ من الْمِراضِ عرفتمْ حقَّنا فجحدتمونا كما عرف السواد من البياضِ كتابُ الله شاهدُنا عليكم وقاضينا الإله، فنعم قاض [45] . أما تأييده للشعراء المدافعين عن الحق، فنعرفه من خلال قصة مع الفرزدق

الذي كان محسوباً علي بلاط الأمويين، إلاّ أنه كان ينتمي تاريخيّاً إلي البيت العلوي. فلما وجد فرصة فاضت قريحته بالرائعة المعروفة. فلما غضب عليه هشام بن عبد الملك والسلطة الأموية واعتقل، بادر الإمام بجائزته. وبقي إلي آخر حياته يعيش في ظل الإمامة الإسلامية حسبما يذكر بعض المؤرخين. أما رائعته وقصتها. فهي التالية: رواها السبكي في طبقات الشافعية بسند متصل إلي ابن عائشة عبد الله بن محمد عن أبيه، قال: حج هشام بن عبد الملك فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلي الحجر فيستلمه فلم يقدر عليه، فنُصب له منبرٌ وجلس عليه ينظر إلي الناس ومعه أهل الشام، إذ أقبل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر تنحَّي له الناس حتي يستلمه، فقال رجل من أهل الشام مَن هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟. فقال: هشام لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق: ولكني أعرفه. قال الشامي: من هو يا أبا فراس؟. فقال الفرزدق (وقد توافقت روايتا سبط ابن الجوزي والسبكي إلاّ في أبيات يسيرة، وهذا ما ذكراه): هذا الذي تَعرف البطحاءُ وطأتَهُ و البيت يعرفه و الْحِلُّ و الحَرمُ هذا ابنُ خير عبادِ الله كُلِّهمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ يكادُ يَمْسِكُه عِرفانُ راحَتِه ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يَستلمُ إذا رأتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها إلي مَكارمِ هذا يَنتهي الكرَمُ إنْ عُدَّ أهلَ التُّقي كانوا ذوي عددٍ أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ بِجَدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا وليسَ قولُك مَنْ هذا بِضائِرهِ أَلْعُرْبُ تَعرف مَن أنكرتَ والعجَمُ

يُغضي حَياءً ويُغْضَي مِنْ مَهابَتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلاّ حينَ يَبتسمُ يُنْمَي إلي ذروةِ العزِّ التي قَصُرَتْ عنها الأكفُّ وعن إدراكِها القدَمُ من جدَّه دان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت له الأممُ ينشقُّ نورُ الهدي عن صَبْحِ غُرَّتِهِ كالشمس تَنْجابُ عن إِشرافِها الظُّلَمُ مشتقَّةٌ من رسولِ الله نبعتُه طابتْ عناصرُه والْخيمُ والشِّيَمُ الله شرَّفَهُ قِدْماً وفضَّله جري بذاك له في لوحِهِ القلَمُ كِلتا يَديهِ غياثُ عمَّ نفعُهما يَستوكَفانِ ولا يَعروهما العدَمُ سهلُ الخليقةِ لا تُخشي بوادرهُ يَزينه اثنانِ حُسْنُ الْخُلقِ والكرَمُ حمَّالُ أثقالِ أقوامٍ إذا فُدِحوا رحبُ الفِناء، أريبٌ حين يَعتزمُ ما قال: لا، قطُّ إلاّ في تشهّدهِ لولا التشهدُ كانتْ لاؤه نَعَمُ عَمَّ البريةَ بالإحسان فانقشعتْ عنه الغيابةُ لا هلقٌ ولا كَهَمُ مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ دين، وبُغضُهُمُ كفرٌ، وقربهمُ ملجاً ومُعْتَصَمُ لا يَستطيع جوادٌ بَعْدَ غايتِهم ولا يُدانيهمُ قومٌ وإن كَرُمُوا همُ الْغُيوثُ إذا ما أزمةٌ أزمتْ والأسْدُ أُسدُ الشري والرأي مُحْتَدِمُ لا يُنقص العسرُ بَسْطاً من أَكُفِّهِم سِيَّانِ ذلك إن أَثْرَوْا وإنْ عُدِمُوا يَستدفع السوءُ والبلوي بحُبِّهِمْ ويُستربُّ به الإحسانُ والنّعَمُ مَقّدَّمٌ بعدَ ذِكَرِ الله ذِكْرُهُمُ في كلِّ بَدْءٍ، ومَختومٌ بِهِ الْكَلِمُ يَأبَي لهمْ أن يَحُلَّ الذمُّ ساحتَهم خيمٌ كريمٌ، وأيدٍ بالنَّدي هُضُمُ أيُّ الخلائقِ ليستْ في رقابهمُ لأَوَّلِيَّةِ هَذا أولُهُ نَعَمُ مَن يَعُرِفِ الله يَعْرِفْ أَوَّلِيَّة ذا أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَمُ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فبعث إليه علي بألف دينار فردها وقال: إنما قلت ما قلت غضباً لله ولرسوله، فما آخذ عليه أجراً. فقال علي: نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما أعطينا، فقبلها الفرزدق

وهجا هشاماً فقال: أَيحسبني بين المدينة والتي إليها قلوبُ الناس يَهوي مُنِيبُها يًقَلِّبُ رأساً لم يكن رأسَ سَيْدٍ وعَيناً له حولاءَ بادٍ عُيوبُها فأُخبر هشامُ بذلك فأطلقه. ولكنه قطع راتبه من الديوان، وكان ألف دينار سنويّاً، فاشتكي إلي الإمام فأعطاه أربعين ألف دينار وقال له: لو كنت تحتاج إلي أكثر لأعطيتك. فعاش الفرزدق أربعين عاماً ثم مات رحمه الله تعالي.

رسالة الحقوق

يبحث بعض الناس عن الدرجات العلي في الإيمان ويتساءلون: كيف نجتهد حتي نصبح مؤمنين حق الإيمان؟. لمثل هؤلاء كتب الإمام زين العابدين (ع) رسالة الحقوق التي تشرح واجبات المؤمن ومسوؤلياته تجاه الخالق والناس، وتحدِّد - بالتالي - طبيعة العلاقة القائمة علي أسسٍ متوازنةٍ وعادلةٍ، وقد استهلّت الرسالة بما يلي: «إعلم - رحمك الله - أن لله عليك حقوقاً محيطةً بك في كل حركة تحرَّكتها، أو سكَنة سكَنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلَّبتها، أو آلة تصرفت بها؛ بعضُها أكبر من بعض. وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه عليك نفسك من قرنك إلي قدمك، علي اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقّاً، ولسمعك عليك حقّاً، وللسانك عليك حقاًّ، وليدك عليك حقّاً، ولرجلك عليك حقّاً، ولبطنك عليك حقّاً، ولفرجك عليك حقّاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال. ثم جعل لأفعالك عليك حقوقا: لصلاتك عليك حقّاً، ولصومك عليك حقّاً، ولصَدَقتك عليك حقّاً، ولهدْيِك عليك حقّاً، ولأفعالك عليك حقّاً. ثم تُخرج الحقوق منك إلي غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجَبُها عليك حقُّ أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رَحِمك» [46] . ويستمر الإمام (ع) في بيان هذه الحقوق وفروعها، ويبيَّن من خلالها العلاقة المثلي بين الانسان وبين الخلق والخالق. وسوف نستوحي من دراسة رسالة الحقوق البصائر التالية:

أولاً: أن حديث الإمام (ع) كان موجهاً للصفوة من أهل الإيمان، الذين نشروا الكمال وسعوا إليه سعيه، لذلك تجد الحقوق المذكورة في هذه الرسالة تجمع بين الحقوق الواجبة والأخري المندوبة. بل إن أكثرها من النوع الثاني. ثانياً: إن هذه الرسالة وأمثالها مما نجده عند أئمة أهل البيت (ع) في صيغة رسائل أو وصايا مفصَّلة، والتي جمعها العالم الكبير الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه الفذ (تحف العقول) كانت بمثابة دروس مركَّزة في التربية الرسالية توارثها الصالحون من أولياء أهل البيت (عليهم السلام) بهدف بناء القدوات المثلي والطليعة المتميزة من أبنائهم ليكونوا شهداء علي الناس. وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلي العودة إليها في مناهج التربية، وبالذات في الحوزات العلمية التي هي الامتداد الرسالي لخط أهل البيت النبوي (ع). ثالثاً: إن هذه الرسالة تحافظ علي توازن الشخصية الإيمانية وتصونها من التطرف نحو جانب من الشريعة وإهمال سائر الجوانب؛ فلابد أن تتسع صدورنا لكافة أبعاد الشريعة، وضمن برامج محددة نجدها في مثل رسالة الحقوق. وكلمة أخيرة: إن هذه الرسالة تعكس البصيرة القرآنية ذات الشمول والعمق والدقة التي تتناسب ومقام الإمامة لسيد الساجدين (ع)، والتي يعجز عن مثلها أي فقيه أو عالم إن لم يكن متصلاً برافد الرسالة الذي لا ينضب. فسلام الله علي من أرسلها، وبارك الله لمن استجاب لها.

كراماته و شهادته

استفاضت كتب الأثر بالحديث القدسي الذي ينطق عن ربِّ العزة بالقول: «عبدي أطعني تكن مثْلي (أو مَثلي) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون». وكتاب الله العزيز حافل بأمثلة واقعية من تاريخ الأنبياء والصالحين الذين استجاب الله دعاءهم بما أعجز الناس. أليس طوفان نوح وسفينته، ونيران إبراهيم التي جعلها الله تعالي برداً وسلاماً،

وعصا موسي التي ألقاها فجعلها الله ثعباناً مبيناً، وحديث عيسي في المهد صبيّاً، واستجابة دعاء إبراهيم ثم زكريا حينما رزقهما الله أولاداً وقد بلغا من الكبر عتيّاً. أليس كل ذلك من كرامة الله لأوليائه المخلصين؟. فلماذا يصعب علي البعض تصديق كرامات أولياء الله الآخرين، كما يصدقون بكرامات أولياء الله السابقين؟. أوليس الحديث النبوي الشريف يقول: «علماء أُمّتي كأنبياء بني إسرائيل»؟. فكيف تصدق المعجزة علي عهد بني إسرائيل بنص القرآن، ولا تأتي الكرامة علي يد أهل بيت الرسول؟. وهذا علي بن الحسين (ع)، الذي قرأنا معاً بعض صفاته، أَيعزُّ علي الله سبحانه أن يجري علي يدَيه الكرامات؟ ومَن أولي بها ممن كان علي مثل تلك الصفات، قوَّامَ الليل، صوَّام النهار، بكّاءً، سجّاداً، إلخ... ونحن إذ نقتطف من تاريخه (ع) نزراً يسيراً من كراماته، فلكي نزداد يقيناً بأن ربَّنا سبحانه يستجيب دعوة المخلصين من عباده الذين جأروا إليه بكل كيانهم وأبعاد وجودهم.. ثم نزداد للأئمة من أهل البيت (ع) حبّاً، فإن حُبَّهم نجاةٌ من النار ووسيلةٌ إلي الله عزَّ وجلَّ. 1- من كراماته (ع)، أن الله ألهمه من علمه عبر رؤيا شاهد فيها رسول الله (ص)، ما أظهر كرامته وفضله. والقصة كما يلي: روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لمّا وُلِّيَ عبد الملك بن مروان الخلافة كتب إلي الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلي الحجاج بن يوسف. أما بعد: فانظر دماء بني عبد المطلب فاحقنها واجتنبها، فإني رأيت آل ابي سفيان لما ولعوا فيها لم يلبثوا إلاّ قليلاً، والسلام. قال: وبعث بالكتاب سرّاً. وورد الخبر علي علي بن الحسين (ع) ساعة كتب الكتاب وبعث به إلي الحجاج،

فقيل له: إنّ عبد الملك قد كتب إلي الحجاج كذا وكذا، وإن الله قد شكر له ذلك، وثبَّت ملكه وزاده برهة. قال: فكتب علي بن الحسين (ع): بسم الله الرحمن الرحيم إلي عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من علي بن الحسين بن علي. أما بعد: فإنك كتبت يوم كذا وكذا، من ساعة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بكذا وكذا. وإن رسول الله (ص) أنبأني وخبَّرني. وإن الله قد شكر لك ذلك وثبَّت ملكك وزادك فيه برهة. وطوي الكتاب وختمه وأرسل به مع غلام له علي بعيره، وأمره أن يوصله إلي عبد الملك ساعة يقدم عليه. فلما قدم الغلام أوصل الكتاب إلي عبد الملك، فلما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها إلي الحجاج، فلم يشك في صدق علي بن الحسين (ع) وفرح فرحاً شديداً، وبعث إلي علي بن الحسين (ع) بوقر راحلته دراهم ثواباً لما سرَّه من الكتاب» [47] . 2- وكذلك قصته مع أبي خالد الكابلي، ويرويها الإمام الباقر (ع) كالتالي: «كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً (وهو ابن الإمام علي، وعم الإمام السجاد عليهما السلام). وما كان يشك في أنه إمام حتي أتاه ذات يوم، فقال له: جعلت فداك إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً، فأسألك بحرمة رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) إلاّ أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته علي خلقه؟. قال: فقال: يا أبا خالد حلّفتني بالعظيم. الإمام عليٌّ بن الحسين (ع) عَلَيَّ وعلَيك وعلي كلِّ مسلم. فأقبل أبو خالد لَمَّا أن سمع محمد ابن الحنفية، وجاء إلي علي بن الحسين (ع) فلما استأذن عليه أُخبر أن ابا خالد بالباب، فأذن له.

فلما دخل عليه ودنا منه، قال: مرحباً يا كنكر. ما كنت لنا بزائر ما بد لك فينا؟. فخر أبو خالد ساجداً شاكراً لله تعالي مما سمع من علي بن الحسين (ع)، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتي عرفت إمامي. فقال له علي (ع): وكيف عرفت إمامك يا ابا خالد؟. قال: إنك دعوتني باسمي الذي سمَّتني به أمي التي ولدتني. وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد ابن الحنفية عمراً من عمري ولا أشك أنه إمام، حتي إذا كان قريباً سألته بحرمة الله تعالي وحرمة رسوله (ص) وبحرمة أمير المؤمنين (ع) فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام عَلَيَّ وعلَيك وعلي جميع خلق الله كلهم. ثم أذنت لي فجئت فدنوت منك وسمَّيتني باسمي الذي سمَّتني أمي، فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته عَلَيَّ وعلي كلِّ مسلم» [48] . 3- ويذكر الشيخ الطوسي القصة التالية أيضاً: خرج علي بن الحسين (ع) إلي مكة حاجّاً حتي انتهي إلي وادٍ بين مكة والمدينة، فإذا هو برجل يقطع الطريق، قال: فقال لعلي إنزل. قال: تريد ماذا؟. قال: أريد أن أقتلك وآخذ ما معك. قال: فأنا أُقاسمك ما معي وأُحِلُّك. قال: فقال اللص: لا. قال: فدع معي ما أتبلّغ به. فأبي. قال: فأين ربك؟. قال: نائم. قال: فإذا أَسَدانِ مُقبلان بين يَديه فأخذ هذا برأسه وهذا برجلَيه. قال: زعمتَ أنّ ربك عنك نائم [49] . 4- ومن كراماته صلوات الله وسلامه عليه، ما ظهر عند وفاته. فلقد توفي الإمام بعد أن دس إليه الأمويون السم في عام (94) في شهر محرم في اليوم الخامس والعشرين، وقيل في اليوم الثامن عشر. وفي تلك السنة توفي طائفة من الفقهاء حتي سميت

سنة الفقهاء. ولست استبعد أن يكون النظام الأموي في عهد الوليد بن عبد الملك قد دس السم إلي المعارضين وفيهم كبار الفقهاء من أمثال سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير. وجاء في التواريخ أنه توفي في تلك السنة عامة فقهاء المدينة [50] . وهل يعقل أن يموت كل الفقهاء في سنة واحدة صدفةً، علماً بأن المعروف أن الإمام السجاد (ع) استشهد متأثراً بالسم الذي دسه إليه عبد الملك بن مروان في ظروف غامضة. وكيفما كان الأمر فقد ظهرت عند وفاته كرامات منه (ع)، فقد أُغمي عليه فبقي ساعة ثم رفع عنه الثوب ثم قال: «الحمد لله الذي أورثنا الجنة نتبوَّأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين» ثم قال: «احفروا لي (قبراً) وابلُغوا إلي الرسخ (الثابت من الأرض) ثم مد الثوب عليه فمات» [51] . وظهرت بعد وفاته الكرامة التي ينقلها سعيد بن المسيّب، وبها نختم هذه الصفحات المشرقة بحياة الإمام زين العابدين (ع). فقد روي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعبد الرزاق، عن معمر، عن علي بن زيد قال: قلت لسعيد بن المسيب إنك أخبرتني أن علي بن الحسين النفس الزكية وأنك لا تعرف له نظيراً؟. قال: كذلك، وما هو مجهول ما أقول فيه. والله ما رؤي مثله. قال علي بن زيد: فقلتُ: والله إنّ هذه الحجة الوكيدة عليك يا سعيد فلم لم تصلِّ علي جنازته؟. فقال: إنّ القرّاء كانوا لايخرجون إلي مكة حتي يخرج علي بن الحسين (ع). فخرج وخرجنا معه ألف راكب، فلمّا صرنا بالسقيا نزل فصلّي وسجد سجدة الشكر.. وفي رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كان القوم لايخرجون من مكة حتي

يخرج علي بن الحسين سيد العابدين. فخرج (ع) فخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلَّي ركعتين فسبَّح في سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر إلاّ سبَّحوا معه، ففزعنا. فرفع رأسه وقال: يا سعيد أفزعت؟ قلت: نعم يابن رسول الله. فقال: هذا التسبيح الأعظم. حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (ص) أنه قال: لا تبقي الذنوب مع هذا التسبيح، فقلت: علمنا. وفي رواية علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أنّه: سبح في سجوده فلم يبق حوله شجرة ولا مدرة إلاّ سبّحت بتسبيحه، ففزعت من ذلك وأصحابي. ثم قال: «يا سعيد إن الله جل جلاله لما خلق جبرئيل ألهمه هذا التسبيح فسبَّحت السماوات ومن فيهن لتسبيحه الأعظم. وهو إسم الله جلَّ وعزَّ الأكبر. يا سعيد أخبرني أبي الحسين، عن أبيه، عن رسول الله (ص) عن جبرئيل، عن الله جلَّ جلالَه أنه قال: ما من عبد من عبادي آمن بي وصدّق بك وصلَّي في مسجدك ركعتين علي خلاء من الناس إلاّ غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». فلم أَرَ شاهداً أفضل من علي بن الحسين (ع) حيث حدثني بهذا الحديث. فلما أن مات شهد جنازته البر والفاجر، وأثني عليه الصالح والطالح، وانها لو يتبعونه حتي وضعت الجنازة فقلت: إن أدركت الركعتين يوماً من الدهر فاليوم هو. ولم يبق إلاّ رجل وامرأة، ثم خرجا إلي الجنازة، وَثبْتُ لأصلِّي فجاء تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض، وأجابه تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض، ففزعتُ وسقطتُ علي وجهي، فكبر من في السماء سبعاً ومن في الأرض سبعاً وصُلِّي علي علي بن الحسين صلوات الله عليهما ودخل الناس المسجد فلم أدرك الركعتين ولا الصلاة علي علي

بن الحسين صلوات الله عليهما، فقلت: يا سعيد لو كنت أنا لم أختر إلاّ الصلاة علي علي بن الحسين، إن هذا لهو الخسران المبين، فبكي سعيد، ثم قال: ما أردت إلاّ الخير ليتني كنت صلّيت عليه، فإنه ما رؤي مثله [52] .

پاورقي

[1] نهج البلاغة (المعجم المفهرس ص 68).

[2] المصدر: (ص 70).

[3] المصدر: (ص 70).

[4] بحار الأنوار: (ج 27، ص 57).

[5] المصدر: (ص 56).

[6] المصدر: (ص 57).

[7] أي باب الطاعة للنبي وأوصيائه المصدر: (ص 180).

[8] المصدر: (ص 180).

[9] المصدر: (ص 201).

[10] نفقت الدابة ماتت (القاموس).

[11] بحار الأنوار: (ص 61 - 63).

[12] سوف نذكر بعضاً منها في خاتمة الكتاب.

[13] يعني ارفع رجلك - أو رحلك - عن المركوب، واركب مطيتي حتي تدرك الحج.

[14] قصة إبراهيم - بحار الأنوار: (3 / ج 36).

[15] زبالة: اسم موضع بطريق مكة.

[16] المصدر: (ص 40 - 41).

[17] المصدر: (ص 49).

[18] في رحاب أئمة أهل البيت: (ج 3، ص 234).

[19] مفاتيح الجنان: (ص 124).

[20] بح: (ص 57).

[21] قصته في المسجد الحرام مع طاووس.

[22] قال له ذلك عندما همّ الطغاة رميه في النار عبر المنجنيق.

[23] المصدر: (ص 67).

[24] بحار الأنوار: (ج 46، ص 51 - 53).

[25] اعتمدنا في بعض ما ذكرنا علي رواية مأثورة عن الإمام الرضا (ع) في بحار الأنوار (ج 46، ص 8) حيث ذكر ان حادثة أسر بنات يزدجرد كانت في عهد عثمان خلافاً لبعض الروايات التي تري أنها وقعت في عهد عمر، وهي بعيدة عن السياق التاريخي لمجمل الأحداث كفتح خراسان وتاريخ ولادة الإمام زين العابدين وما أشبه.

[26] ناسخ التواريخ: (ج 2، ص 140).

[27] المصدر: (ص 141).

[28] عوالم العلوم: (ج 18، ص 179).

[29] المصدر: (ص 280).

[30] المصدر: (ص

182).

[31] عوالم العلوم: (ج 18، ص 281).

[32] المصدر: (ص 282).

[33] بحار الأنوار: (ج 46، ص 133).

[34] عوالم العلوم (ج 18، ص 283).

[35] في رحاب أئمة أهل البيت: (ج 3، ص 196).

[36] المصدر: (ص 196).

[37] المصدر: (ص 198).

[38] المصدر: (ص 199).

[39] المصدر.

[40] المصدر: (ص 209).

[41] المصدر: (ص 209).

[42] المصدر.

[43] ناسخ التواريخ: (ج 2 في حياة الإمام زين العابدين ص 241).

[44] بحار الأنوار: (ج 45، ص 138 - 139).

[45] في رحاب أهل البيت: (ج 3، ص 249).

[46] في رحاب أئمة أهل البيت: (ج 3، ص 216).

[47] بحار الأنوار: (ج 46، ص 44).

[48] المصدر: (ص 46).

[49] المصدر: (ص 41).

[50] المصدر: (ص 154) نقلاً عن تذكرة الخواص: (ص 187) (طبعة إيران) وعن تاريخ ابن عساكر.

[51] المصدر: (ص 153).

[52] المصدر: (ص 149 - 150).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.