الامام السجاد علیه السلام جهاد وامجاد

اشارة

سرشناسه : حسن، حسين حاج
Hasan, Husayn al - Hajj
عنوان و نام پديدآور : الامام السجاد جهاد وامجاد/ تاليف حسين الحاج حسن
مشخصات نشر : بيروت : دارالمرتضي ، ۱۴ق. = ۱۹م. = ۱۳.
مشخصات ظاهري : ص ۲۸۰
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
يادداشت : كتابنامه: ص. ۲۷۳ - ۲۷۱
موضوع : علي بن حسين (ع)، امام چهارم، ق‌۹۴ - ۳۸
رده بندي كنگره : BP۴۳/ح‌۴۳‌الف‌۸
شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۳۱۷۹

الاهداء

إلي الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم)... هذه ورقات متواضعة حبرتها بدم القلب وضوء العين عن حفيدك الإمام السجاد، بقية السيف من أبناء الحسين، أبي الشهداء، الذي تسايرت الركبان بذكره وفضله، أرفعها إليك وأملي يا سيدي منك القبول. عبدك حسين الحاج حسن

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم (وقل رب زدني علماً) [سورة طه: الآية 114] اللّهم ساعدني علي قول الحق بما يسطره قلمي في هذه الرسالة الخالدة، رائد الفكر الإنساني ومهد المعرفة والتي تهدي للتي هي أقوم. (هذا زين العابدين، قدوة الزاهدين، وسيد المتقين، وإمام المؤمنين، شيمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفي، ونفثاته تسجل بكثرة صلاته وتهجده، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها، درت له أخلاق التقوي فتفوقها، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدي بها، وألفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها وحالفته وظائف الطاعة فتحلي بحليتها، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع طريق الآخرة، وظمأ الهواجر دليلاً استرشد به في مفازة المسافرة، وله الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة، وثبت بالآثار المتواترة، وشهد له أنه من ملوك الآخرة). مطالب السّؤول

معالم الحياة العامة في عصر الإمام

عصر الإمام

مني عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) باضطراب سياسي، واجتماعي، واقتصادي، لم يشهده عصر من قبل. فقد شحن بالفتن الفظيعة والأحداث الجسام مما جعله يفقد روح الاستقرار والطمأنينة ويعيش في دوامة من القلق والقتل والتشريد والتجويع. لقد أمعن الحكم الأموي في نشر الظلم والاضطهاد، فأرغم الناس علي ما يكرهون حتي بات كل فرد منهم يعيش علي أعصابه لما يساوره من الهموم والآلام والمصائب التي ينتظرها في كل حين. وسوف نوجز القول عن معالم الحياة العامة في عصر الإمام (عليه السلام) والأحداث السياسية التي داهمت المسلمين والتي عانوا منها أمر الفتن وأخطر الخطوب. كما نتحدث عن معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن معرفة الظروف هذه التي كانت تحيط بالإمام (عليه السلام) تعطينا وضوحاً كاملاً عن مواقف وأهداف وأحداث تعامل معها الإمام في زمنه، ومع أشخاص عاصرهم سواء كانوا ملوكاً أو ولاة أو علماء أو عامة الناس. إن المعرفة التفصيلية لهذه الأمور تساعدنا كثيراً علي فهم شخصية الإمام (عليه السلام).

ملوك عصره

عاصر الإمام (عليه السلام) يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. ومن الولاة: الحجاج بن يوسف الثقفي، وعبيد الله بن زياد، وهشام بن إسماعيل والي المدينة.

الائمة الذين عاصرهم

عاصر الإمام علي (عليه السلام) وله من العمر سنتان، والإمام الحسن (عليه السلام) عشر سنين، ومع الإمام الحسين (عليه السلام) عشر سنين، وكان عمره يقارب السبع والخمسين سنة. وهكذا نري كيف أن الإمام (عليه السلام) فتح عينيه علي صراعات المحن والحروب ومكابدة الإمام علي (عليه السلام) ضد معاوية الذي تمسك بكرسي الحكم غاصباً معانداً؛ وكيف تقاعس أهل العراق عن مناصرة الإمام الحسن (عليه السلام) حتي عقد الصلح مع معاوية مكرهاً. ثم شاهد الإمام بأم عينيه، وهو في ريعان شبابه مأساة أبيه الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وأهل بيته، ورأي مقتلهم واحداً واحداً، ورأي سبي النساء إلي دمشق، وتحمل ثقل القيود ومجابهة يزيد وعبيد الله بن زياد، والأمة التي خذلتهم وتفرجت علي قتلهم ثم عادت فبكت عليهم نادمة تائبة.

الحياة السياسية

اشاره

ساد الحياة السياسية في عصر الإمام (عليه السلام) ألوان من القلق والاضطراب، فقد خيم الذعر والخوف علي الناس وفقدوا جميع أشكال الأمن والاستقرار، مما سبب تفكك المجتمع وشيوع الأزمات السياسية الحادة، واندلاع الثورات المتلاحقة. والسبب الأول والأخير في كل هذه الأحداث المؤلمة يعود إلي طبيعة الحكم الأموي والفساد الذي استشري في البلاد من قبل الملوك والولاة. وقد صور هذا الحكم الفاسد أحد الشعراء فقال: فدع عنك ادِّكارك آل سعدي فنحن الأكثرون حصيَ ومالا ونحن المالكون الناس قسراً نسومهم المذلة والنكالا ونوردهم حياض الخسف ذلاً وما نألوهم إلا خبالا لقد سبب الحكم الأموي الكثير من المصائب والخطوب للكثير من المسلمين وأحدث لهم الفتن والمصاعب التي ألقتهم في أدهي الشرور. من هذه المظاهر البارزة لهذا الحكم الظالم:

الجور والاستبداد

لقد استبد الأمويون في حكمهم الشعوب الإسلامية وجاروا كثيراً، فلم يكن هناك قانون تسير عليه الدولة، وإنما كان حكماً مزاجياً يخضع لمشيئة ملوكهم ورغباتهم، وأهواء وزرائهم وعواطف ولاتهم. وقد وصفه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي فقال: (إن نظام الحكم في عهد ملوك الأمويين لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بـ(نظام الأحكام العرفية)، هذا النظام الذي يهدر الدماء، ويرفع التعارف علي المنطق القانوني، ويهدد كل امرئ في وجوده، وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية، ولحالات خاصة يراد بها الإرهاب، وإقرار الأمن، فقد كان في العهد الأموي هذا النظام السائد، وفي الحق أنه لا يمكننا أن نسمي هذا سلطة قضائية البتة، بل ننكر بكل قوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح إلا في فترات لا تلبث حتي يكون التباين طاغياً، وأكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوي بدون أن تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الأقل مما يشعر باحترام السلطة..) [1] . لقد أصبح الاستبداد السياسي الظاهرة البارزة في الحكم الأموي اتخذ فيه الملوك الأمويون منهجاً خاصاً، انهارت بسببه قواعد العدل السياسي ومبادئ الحرية الاجتماعية.

الارهاب والتجويع

استخدم معاوية أبشع أنواع القتل والإرهاب فدس السم في العسل وغيره، كما سمّ الإمام الحسن (عليه السلام) وكان يقول: إن لله جنوداً من عسل.. ولا يتواني عن الفتك والقتل في أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم وأنصارهم. كتب معاوية إلي عماله كتاباً واحداً إلي جميع البلدان: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاؤه ورزقه) ثم أتبع ذلك بنسخة أخري قال فيها: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره.. وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم علي جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق فيها معروف منهم) [2] .

القضاء علي الحريات العامة

لقد قضي علي الحريات العامة في العهود الأموية ولم يعد لها أي ظل علي واقع الحياة، وبصورة خاصة حرية الرأي والقول، فبات أي فرد من المواطنين لا يستطيع أن يدلي برأيه، وبما يفكر به وبالأخص في ما يتعلق بالولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، فكل من يتظاهر بحبهم والولاء لهم يتهم بالكفر والإلحاد والزندقة. وقد علقت في الساحات العامة في الكوفة مجموعة من جثث رجال الفكر والعلم في الإسلام قد صلبوا أياماً علي الأعمدة بسبب حبهم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كميثم التمّار ورشيد الهجري...

احياء النزعة القبلية

اتبع معاوية سياسة (فرق تسد) بين القبائل العربية حفاظاً علي ملكه وهي السياسة الاستعمارية نفسها، والتي نفذها ولا يزال ينفذها الاستعمار الغربي في بلادنا، وهدف معاوية من هذه السياسة إلهاء القبائل عن حكمه بالمشاكل الداخلية والخلافات القبلية، فكان يثير النزاعات بين مضر وربيعة والأزد... وكان الأنصار يعارضون حكمه علي أساس ديني ويرفضون سياسة الظلم والإرهاب فكان من واجبهم وتكليفهم الشرعي معارضة الأمويين، فجاء معاوية بشاعر البلاط الأموي الأخطل، وهو نصراني، يرد عليهم فهجاهم بقصيدة منها: ذهبت قريش بالمكارم والعلي واللؤم تحت عمائم الأنصار ثم بدأ معاوية بإثارة الضغائن بين الأوس والخزرج القبيلتين العربيتين، المعروفتين بعدائهما القديم. (وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي –الحكم الأموي- وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين، وفاز معاوية وخلفاؤه من بعده، بكونه حكماً بين أعداء هو الذي أشعل النيران العدائية بينهم من حيث لا يشعرون، ووحدهم في طاعته من حيث لا يدرون، وقد دفعهم هذا الوضع إلي أن يقفوا دائماً مع الحاكمين ضد الثائرين ليحافظوا علي الامتيازات الممنوحة لهم، فكانوا يقفون في وجه كل محاولة تهدف إلي الثورة علي النظام القائم وينخذلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصي ما يملكون من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتأكيد علي ولائهم التام للسلطة القائمة) [3] . وبديهي أن الإسلام حارب العنصرية بلا هوادة وجعلها نوعاً من أنواع الجاهلية فقد قال الله تعالي: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوي، كلكم لآدم وآدم من تراب). فكان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من الصحابة المقربين جداً لرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لإخلاصهم في الدين وقربهم من الله تعالي. لكننا نري أن معاوية أثار الجاهلية من جديد بعد أن خبت، وأحياها بعدما ماتت في نفوس المؤمنين. فعمل علي تعميقها وركز علي التفرقة بين العرب والعجم. (استدعي معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما: إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت علي السلف. وكأنهم أنظر إلي وثبة منهم علي العرب والسلطان فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق، وعمارة الطريق. وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب وفرض الجزية والخراج عليهم وإسقاطهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء) [4] .

اقصاء الإسلام

أهمل الملوك الأمويون الشريعة الإسلامية وتنكروا للإسلام فأقصوا جميع نظمه ومبادئه عن المسلمين، ولم يعد لأحكام القرآن أي وجود في أجهزتهم وإداراتهم. يقول نيكلسون: (كان الأمويون طغاة، مستبدين، لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه، وامتهانهم لمثله العليا، ووطئها بأقدامهم..) [5] . لقد جاهر أكثر ملوكهم بالكفر والإلحاد ودفنوا المبادئ الإسلامية ونظمها، فشربوا الخمر وعاثوا في الأرض فساداً وانتقصوا النبي الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وخصوصاً يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وإلحاده وتنكره للمبادئ الإسلامية النبيلة وهو القائل: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل [6] .

القضاء علي الروح الثورية

لم يكتف معاوية بأساليب التفرقة والقتل والترغيب والترهيب في القضاء علي مناوئيه، فلإحكام سيطرته علي الناس ولإضفاء الطابع الديني علي حكمه.. استغل الجانب الديني استغلالاً مشوهاً ومنحرفاً عن هدفه الأصيل ومن هذه الأساليب اختلاق الأحاديث والأساطير والبدع الغريبة عن روح الإسلام. (ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين علي رواية أخبار كاذبة وقبيحة في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تقضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم علي ذلك جعلاً يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ومنهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير. روي أبو هريرة، شيخ المضيرة، عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إن الله ائتمن علي وحيه ثلاثاً: أنا وجبرائيل ومعاوية، وإن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ناول معاوية سهماً وقال له: خذ هذا حتي تلقاني في الجنة؛ وحديث آخر زاد في آخره: (أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها). ثم الأحاديث المختلفة التي تجوّر الظلم منها: (من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية) [7] . ولا ريب أن أبا هريرة من عملاء معاوية المرتزقة فقد انتحل هذا الحديث وانتحل غيره. ومما أضفي عليه من النعوت المختلفة أنه كان كاتباً للوحي. والغريب أنه كيف يأتمن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي كتابة الوحي من رب العالمين مثل هذا الإنسان الجاهلي البعيد كل البعد عن الإسلام، والذي لم يلج في ضميره أي بصيص من نور الهداية والحق، وإنما بقي ملوثاً بأفكاره الجاهلية السوداء. وقد سخر المحدثين التجار والمرتزقة من وعاظ السلاطين ليختلقوا له الأحاديث المزورة والمختلقة ليوهم الناس بها. لكن من يقرأ سيرته بإمعان وتجرد يجده إرهابياً محترفاً لا علاقة له بالمثل الكريمة والصفات الخيرة، ولا قرابة بينه وبين الدين الإسلامي. من تلك البدع التي اخترعها: مذهب الجبر. شجع معاوية علي نشر هذا المذهب لأن ذلك يساعد علي تدعيم ملكه وإضفاء الشرعية عليه إذ أن فكرته تقول: إن كل ما يحدث لنا هو من الله، وإن الملوك والأمراء منصبون من قبل الله علينا - سواء رضينا أم أبينا- وإننا مجبورون في أفعالنا، فكان الرجل منهم يزني ويقول: أنا مجبور علي عملي.. ويسرق ويقول: أنا مجبور علي ذلك.. وهذا ما يعطي تبريراً مزيقاً لكل أحكام الظلم والجور والقتل التي كان يستخدمها الملوك الأمويون أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد...

سياسة التجهيل

إن جهل الناس للأمور يفقدهم المقاييس التي يقيسون بها الأشياء والأحداث، وهذا مما يفيد السلطة الغاشمة، إذ يتيح لها الفرصة بعدم مراقبة الناس لهم ومحاسبتهم علي أخطائهم. وهذه السياسة الغاشمة شجعت الأمويين علي نشر الجهل ولم يهتموا بنشر العلم بين أفراد الأمة، ولم يوضحوا أحكام الله كما هي علي حقيقتها بل حرفوها واختلقوا الأحاديث الموضوعية كما رأينا... فبرز الأدعياء الجاهلون والمرتزقة المحترفون، وتواري العلماء والمؤمنون عن الساحة وأصبح الوضع كما قال أبو العلاء المعري: فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص ووا أسفاً كم يظهر النقص فاضل ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتي ظن أني جاهل فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل هذه السياسة قد فعلت فعلها وأثرت تأثيراً كبيراً في الأمة... (لذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتي بعض من أسلم من أهل الكتاب أن سوقهم قد راج وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام، وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم عن التخلي عنها. حتي لنجد الإمام السجاد يقول في الصحيفة السجادية في دعاء له خاص يوم الجمعة وعرفة: (اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها حتي عاد صفوتك وخلفاؤك مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة) [8] . كل هذه السياسات الخبيثة والمدبرة فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي وضللت قطاعات واسعة من الأمة. حتي التبست أمور كثيرة في أذهان الناس، واختلط الحق بالباطل وأثمرت سياسة معاوية حسب مخططها وآتت أكلها. (فقد علّمت سياسة معاوية المالية وأسلوبه الوحشي، الناس علي الدجل والنفاق والسكوت عن الحق، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصلاً إلي دنيا معاوية وتمسكاً بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروٍّ أو تفكير، وهذا الوضع الشاذ الذي فرض عليهم، أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقاً واقعاً، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم، ولّد عندهم ازدواج الشخصية، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سر المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون علي حكام الجور من الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من الظالمين، وهذا الازدواج في الشخصية صوّرة الفرزدق للإمام الحسين (عليه السلام) حين لقيه في بعض الطريق فسأله عن أهل الكوفة فقال له: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك) [9] .

الوضع النفسي للأمة

اشاره

الحروب المتلاحقة خلال خمس سنوات تقريباً، حروب الجمل وصفين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع الشامية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم ولدت في نفوس أصحاب الإمام علي (عليه السلام) حنيناً إلي السلم والاستراحة. فقد مرت عليهم سنوات وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخري إلي جانب هذا كانوا لا يحاربون جماعات غريبه عنهم، وإنما يحاربون إخوانهم وعشائرهم وأصحابهم الذين تربطهم بهم مودة ومعرفة. ولا ريب أن مثل هذا الشعور بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد الإمام علي إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم، حيث اكتشف زعماء القبائل ومن إليهم أن سياسة أمير المؤمنين لا يمكن أن تلبي مطامحهم التي تزكيها سياسة معاوية في دفع المال وإقطاع الولايات، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه. وقد ساعد علي تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم). ولا يخفي أن الإنسان القبلي عالمه قبيلته، ينفعل بانفعالاتها ويطمح بطموحاتها، ويعادي من يعاديها. فهو كما وصفه أحد الشعراء: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير علي الحجاز واليمن وحدود العراق. فلم يستجيبوا للإمام علي حين دعاهم للخروج ثانية إلي صفين: ولما استشهد الإمام علي (عليه السلام) وبويع للإمام الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة علي أشدها، وخاصة عندما دعاهم الإمام الحسن للتجهيز لحرب الشام، حيث كانت الاستجابة باردة جداً. ثم جهز جيشاً ضخماً إلا أنه كتب عليه الهزيمة قبل ملاقاة العدو وذلك بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه. فقد (خف معه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب حيلة وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم). وكان هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية واعدين بأن يسلموه الحسن حياً أو ميتاً. وحين خطبهم الإمام الحسن ليختبر مدي إخلاصهم هتفوا من كل جانب (البقية البقية)بينما هاجمته طائفة تريد قتله. وفي الوقت نفسه أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل بعشائرهم. ولما رأي الإمام الحسن، أمام هذا الوضع السيء، أن الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال، ورأي أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم، حينئذٍ جنح إلي الصلح بشروطها. هكذا كانت الحال في عهد الإمام الحسن أما حالة الناس أثناء ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وفيما بعدها فقد ازدادت سوءاً أو أصبح الأمر أكثر حراجة: فالذعر والخوف قد أطبق علي الناس، وقل الديانون كما أشار إلي ذلك الإمام الحسين بقوله: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون). وظل الحسين (عليه السلام) يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه حتي سقط شهيداً مخضباً بدمائه الطاهرة علي رمال كربلاء التي شهدت تلك المأساة الدموية التي لم يشهد التاريخ فظاعتها. وحينما استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه تصور الأمويون وعامة الناس أن أهل البيت قد انتهي أمرهم، وأفل نجمعهم، فلا الأمويون يخافونهم، ولا غير الأمويين يرجونهم...إلي جانب هذا لم يجرأ أحد علي الاتصال بهم، والجهل المطبق بالإسلام، فكانت الردة عن أهل البيت (عليهم السّلام) عامة وشاملة. وهذه هي الوضعية الاجتماعية والسياسية التي كان يعيش في ظلها الإمام زين العابدين (عليه السلام). وقد عايشها بوضوح كامل مع عمه الحسن (عليه السلام) ومع أبيه الحسين (عليه السلام) واستمرت هذه الظروف علي أشدها طوال حياته... فكيف يتصرف؟ وكيف يتحرك؟ وكيف تعامل مع الملوك والولاة الظالمين؟ هل يترك الأمور علي ما هي؟ أم يرفع السيف للحرب؟. المعروف عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) أنه لم يرفع السيف في ذلك الوقت ولم يجهز جيشاً للقيام بثورة، إنما اتجه اتجاهات أخري كانت في نظره أجدي في بناء الأمة وإعدادها للوقوف أمام تلك الانحرافات الخطيرة التي حدثت علي نطاق الحكم وفي داخل المجتمع. فما هي الأسباب التي دفعت الإمام (عليه السّلام) إلي الإمتناع عن القيام بالثورة في ذلك الوقت.

الوضع السياسي والاجتماعي للأمة

لقد وصلت الأمة إلي حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن (عليه السّلام). كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل، أضف إلي ذلك: التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلي حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة، فكيف سيكون موقف الإمام (عليه السّلام) لو دعا إلي الثورة؟ ستكون النتيجة حتماً الخذلان والفشل.

عدم وجود قوة كافية و مؤهلة للثورة

لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي علي الإمام القيام بها. وقد أكد (عليه السلام) علي ذلك مراراً، (روي النهدي قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السّلام) يقول: ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا) [10] والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت (عليهم السلام) فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير؟ لا يمكن تصور ذلك أبداً. علماً أن الإمام السجاد (عليه السّلام) كان واقعياً جداً في تصرفاته الحكيمة والدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (عليه السّلام) رأيه بوضوح (عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت علي الحج ولينته، إن الله عز وجل يقول: (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة - يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتُلُوْنَ ويُقْتَلُوْن وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن - ومن أوفي بعهده من الله فاستبشر ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [11] فقال له (عليه السلام): أتم الآية، فقال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) [12] . إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج) [13] . فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث بجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالي سينصرهم حتماً وسينتصر بهم: (التائبون، العابدون... هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه... وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون، ذله أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون... وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وانتصر بهم انتصاراً باهراً بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلي الدرجات الرفيعة والصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.

الاستفادة من التجارب السابقة

لقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم الحوادث التي جرت علي جده أمير المؤمنين وعلي أبيه الإمام الحسين وعلي عمه الإمام الحسن (عليهم السّلام)، وقد رأي خذلان الناس عن نصرة أبيه وحيداً، فريداً، عطشاناً علي شط الفرات هذه التجربة أثرت في نفسه وتعلم منها دروساً واقعية مؤلمة واستخلص عبراً كثيرة في معرفة نفوس الناس وأحوالهم وأسلوبهم، ولم يكن للأئمة المعصومين: علي والحسن والحسين (عليهم السّلام) من سبيل أفضل مما فعلوه مع هذه الأمة، فالأساليب التي اتبعوها والمواقف التي اتخذوها مع الناس لم يكن أمامهم غيرها... ولذلك لم يستجب الإمام زين العابدين لدعوة أهل العراق بالثورة، وقد بيّن ذلك واتخذ موقفاً حاسماً واضحاً تجاههم. نتلمس السبب في خطبته (عليه السّلام) أمام أهل الكوفة بعد مقتل أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) قال" (رحم الله امرءا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا سامعون، ومطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرنا يرحمك الله فإنَّا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا، فقال (عليه السّلام): هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلي آبائي من قبل!؟ كلا! فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيتي معه، ولم ينسني ثكل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وثكل أبي وبني أبي، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال: لا غرو أن قتل الحسين فشيخه قد كان خيراً من حسين وأكرما فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصاب حسيناً كان ذلك أعظما قتيل بشط النهر روحي فداؤه جزاء الذي أراده نار جهنما كما نري في عبارات الإمام السجاد (عليه السّلام): ولم ينسني ثكل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وثكل أبي وبني أبي، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري). هذه الكلمات تحمل بين طياتها المرارة والألم الشديد في كل قطعة من جسم الإمام (عليه السّلام) والغصة ما برحت باقية في حلقه حزناً وكمداً من هذه التجربة المرة جعلته يتخذ موقفاً حاسماً لا مهادنة فيه بأن لا يكرر التجربة التي مرت علي آبائه وأهل بيته يرفض الاستجابة لم يدعوه القيام بالثورة علي الحكم الأموي دون أن يطمئن لأسباب الانتصار.

قسوة الملوك و انحرافهم عن الإسلام

المتتبع للتاريخ يري بوضوح أن من أسباب فشل الثورات التي قامت في عهد الأمويين والعباسيين هو حدوثها في وقت قوة الحكام والولاة لا في زمن ضعفهم. لقد كان الملوك الأمويون وولاتهم في عصر الإمام (عليه السّلام) في أوج قوتهم في ملكهم ويشهد التاريخ بأنهم أشد الناس قسوة وانحرافاً عن الإسلام حيث وصل بهم الأمر إلي رمي الكعبة بالمجانيق وسبي المدينة وقتل ريحانة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم). وملوك عصره هم: يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. وولاة عصره هم: الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله بن زياد وهشام بن إسماعيل والي المدينة. وكل هؤلاء كانوا من الفاسقين، والظالمين، لا يتورعون عن ارتكاب الحرام، ففي عهدهم قتل أشرف الناس أبيّ الضيّم سيد الشهداء، الحسين بن علي، وسبيت المدينة وهدمت الكعبة ورميت بالمجانيق. ويزيد الخمير السكير كان صاحب جوار وكلاب وقرود ومنادمة علي الشراب. والحجاج بن يوسف الثقفي كان ظالماً غشوماً أهلك الحرث والنسل وتطاول علي الصحابة الشرفاء والعلماء الفضاء. هذان نموذجان من النماذج العديدة من الملوك والولاة الذين كان قد عاصرهم الإمام (عليه السّلام) فمثلهم يجب أن تعد لهم العدة الكافية ليقضي علي طغيانهم وجبروتهم، وهذا ما لم يكن متوفراً للإمام زين العابدين (عليه السّلام).

الحياة الاقتصادية في العصر الأموي

اشاره

تدهورت الحياة الاقتصادية في العصر الأموي، في حياة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) تدهوراً فظيعاً، فكانت جميع مرافقها مشلولة ومضطربة إلي أبعد الحدود، فالزراعة التي كانت العمود الفقري في البلاد قد ضعفت كثيراً، وذلك بسبب الفتن والاضطرابات الداخلية، وإهمال الدولة لمشاريع الري، وإصلاح الأرض والنظر في حاجات المزارعين. فنجم عن كل ذلك مجاعة عامة في البلاد أصابت معظم الطبقة العامة من السكان. كما ارتفعت أسعار السلع وخلت معظم البيوت من حاجات الحياة، وأصبحت بطون الناس خاوية وأجسادهم عارية. وقد صور الشاعر ابن عبدل الأسدي حالته الاقتصادية المزرية بقصيدة مدح بها بعض نبلاء الكوفة، طالباً منه أن يسعفه بما تدر به كفه من جميل فقال: يا أبا طلحة الجواد أغثني بسجال من سيبك المعتوم أحي نفساً - فدنك نفسي فإني مفلس، قد علمت ذاك، قديم أو تطوع لنا بسلف دقيق أجره، إن فعلت ذاك - عظيم قد علمتم - فلا تقاعس عني ما قضي الله في طعام اليتيم ليس لي غير جرة وأصيص وكتاب منمنم كالوشوم وكساء أبيعه برغيف قد رقعنا خروقه بأديم وأكاف أعارينه نشيط ولحاف لكل ضيف كريم [14] . فكما نري هذا الشاعر البائس، نهشه الفقر والحرمان، وأماته الجوع يطلب أن يسعفه هذا الرجل الكريم بالطعام ليحيي نفسه من براثن الفقر المدقع. وكانت عامة الناس تعيش حياة بائسة لا تعرف السعة والرخاء، لأن الاقتصاد قد تحول كله إلي جيوب الأمويين وعملائهم.

ترف الملوك الأمويين

انغمس ملوك الأمويين بالنعم والترف، فكان فتيانهم يرفلون بالقوهي [15] والعرشي كأنهم الدنانير الهرقلية [16] ، وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب بأربعماية دينار ويقول: ما أخشنه [17] . وروي هارون بن صالح عن أبيه قال: كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتي يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب - يعني المسك - الذي فيها [18] . وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة قمصان كأنها درج بعضها أقصر من بعض، وفوقها رداء عدني بألفي درهم [19] وقد ذكر المؤرخون الكثير من الأخبار التي تدل علي ترفهم الكبير وتلاعبهم باقتصاد الأمة وثرواتها وبعدهم عن تعاليم الإسلام السمحة العادلة.

هباتهم السخية للشعراء

أسرف الملوك الأمويون الكثير من هباتهم للشعراء، فأجزلوا لهم العطاء ليقطعوا ألسنتهم وينطقوا بفضلهم. فالأحوص، شاعرهم، نال مرة مائة ألف درهم [20] ، كما نال مرة أخري عشرة آلاف دينار، ويشير إلي ثرائه الواسع في شعره فيوّضح إنه لم يكن مكتسباً من تجارة أو ميراث وإنما هو من هبات الأمويين وعطاياهم فقال: وما كان لي طارفاً من تجارة وما كان ميراثاً من المال متلدا [21] . ولكن عطايا من إمام مبارك ملا الأرض معروفاً وجوداً وسؤددا وقال في مدح الوليد بن عبد الملك: إمام أتاه الملك عفواً ولم يثب علي ملكه مالاً حراماً ولا دماً [22] . تخيره رب العباد لخلقه ولياً وكان الله بالناس أعلما فلما ارتضاه الله لم يدع مسلماً لبيعته إلا أجاب وسلّما ينال الغني والعز من نال وده ويرهب موتاً عاجلاً من تشاءما وإن بكفيه مفاتيح رحمة وغيث حيا يحيا به الناس مرهما يقول الشاعر إن من يتصل بالوليد ويكون من عملائه يخفي مساوءه وينشر فضائله متملقاً متكسباً، ينال الغني والثراء العريض، وأما من ينصرف عنه، فإنه ينال الموت المعجل. ومن الطبيعي أن نجد في كل عصر، وخاصة في عصر الإرهاب والتجويع، من يتملق للسلطان لينال الحظوة عنده فيكذب ويخادع ويصانع ليكسب لقمة عيشه.. والأخطل شاعر البلاط الأموي، وبصورة خاصة شاعر عبد الملك بن مروان. روي أحد أساطين الأدب قال: دخل الأخطل يوماً علي عبد الملك بن مروان فمدحه بقصيدة عامرة الأبيات مطلعها (خف القطين) فأعجب بها الملك الأموي أيما إعجاب وقال للأخطل: ويحك! أتريد أن أكتب إلي الآفاق أنك أشعر العرب، فقال: أكتفي بقول أمير المؤمنين، فخلع عليه وأمر بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم، ثم أرسل معه غلاماً فخرج به وهو يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا أشعر العرب. قال الأخطل هذه القصيدة في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق وانتصاره علي مصعب بن الزبير، وفرض عليه موقفه السياسي أن يهجو أعدائه بني أمية، فقال: إلي امرئ لا تعدينا نوافله أظفره الله، فليهنأ له الظفر الخائض الغمرة، الميمون طائره خليفة الله يستسقي به المطر في نبعة من قريش يعصبون بها ما إن يوازي بأعلي نبتها الشجر تعلو الهضاب وحلوا في أرومتها أهل الرَّباء وأهل الفخر إن فخروا حشد علي الحق عيافو الخنا أنف إذا ألمت بهم مكروهة صبروا شمس العداوة حتي يستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا أعطاهم الله جَدا ينصرون به لا جَدّ الاَّ صغير، بعد، محتقر بني أمية قد ناضلت دونكم أبناء قوم، هم آووا، وهم نصروا أفحمت عنكم بني النجار قد علمت عليا معد، وكانوا طالما هدروا يقول الأخطل شاعر البلاط الأموي المتكسب بشعره: إن الأمويين، حشد علي الحق، وعداوتهم قاسية علي من يتمرد عليهم. وقد ناضل الشاعر دونهم الأنصار وهم قبيلتا الأوس والخزرج الذين آووا النبي محمداً في يثرب لما هاجر من مكة. ثم يمننهم ويقول إنه بمدحهم هذا أسكت عنهم بني النجار وهم قوم من الأنصار ومنهم شاعر النبي (حسان بن ثابت) إنه شاعر يبيع كلامه بدنانير الأمويين وهمه الوحيد كسب المال ولا فرق عنده بين الحق والباطل. ولم يكتف بمدحهم بل تكفل أيضاً بهجاء أعدائهم. ومن مدح الملوك إلي مدح الولاة، إلي مدح أكثرهم فجوراً وظلماً وغدراً، هو الحجاج بن يوسف الذي سفك الدماء وقتل الأحرار وهدم الكعبة ورماها بالمجانيق... هذا الوالي الفاجر العاهر مدحه الأخطل بقصيدة عنوانها: (نور أضاء البلاد)، قال فيها: أحيا الإله لنا الإمام فإنه خير البرية للذنوب غفور نور أضاء لنا البلاد وقد دجت ظلم تكاد بها الهداة تجور الفاخرون بكل فعل صالح وأخو المكارم بالفعال فخور فعليك بالحجاج لا تعدل به أحداً إذا نزلت عليك أمور ولقد علمت وأنت أعلمنا به أن ابن يوسف حازم منصور وأخو الصفاء فما تزال غنيمة منه يجيء بها إليك بشير وهذا أيضاً شعر تكسبي هم صاحبه كسب الميل ونيل الجوائر السنية من ملوك بني أمية وولاتهم.

هباتهم للمغنين والمطربين

كما أجزل الأمويون العطاء للشعراء، فقد أغدقوا الجوائز علي المغنين الذين توافدوا عليهم من شتي البلدان. فقد أعطي الوليد بن يزيد معبداً المغني اثني عشر ألف ديناراً [23] واستقدم جميع مغني ومغنيات الحجاز وأغدق عليهم الجوائز الكثيرة [24] من هؤلاء وفد علي يزيد بن عبد الملك معبدٌ ومالك بن أبي السمح وابن عائشة فأمر لكل واحد منهم بألف دينار [25] . وطلب الوليد المفتي يونس الكاتب فذهب إليه وغناه فأعجب بغنائه، فأجازه بثلاثة آلاف دينار [26] وهكذا كما تري كانت تتفرق ثروات الأمة الإسلامية علي المغنين والمطربين والعابثين من أجل نزوات الملوك الرخيصة ورغباتهم الحقيرة. وذلك في وقت أخذ الفقر والبؤس فيه يشد علي خناق المواطنين، ولم يعد للاقتصاد الإسلامي أي وجود في واقع الحياة العامة. ولا يخفي أن هذه صفات الحكم الدكتاتوري الذي يسير وراء الأهواء والعواطف ولا يتقيد بقانون أو دين أو أخلاق.

شيوع الغناء

شاع الغناء في المدينة المنورة حتي أصبحت مركزاً له ومقصداً للمغنين والمغنيات من شتي البلدان. قال أبو الفرج الأصفهاني: إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم [27] وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة، في هذه الأغاني، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشي عنها [28] . وكان العقيق إذا سال، وأخذ المغنون يلقون أغانيهم لم يبق في المدينة مخبأة، ولا شابة ولا شاب، ولا كهل إلا خرج ببصره ويسمع الغناء [29] ومن طريف ما ينقل أنه شهد عند عبد العزيز المخزومي، قاضي يثرب دحمان المغني الشهير لرجل من أهل المدينة علي رجل من أهل العراق فأجاز القاضي شهادته وعدله، فقال له العراقي: إنه يغني ويعلم الجواري الغناء، فقال القاضي: غفر الله لنا ولك، وأينا لا يتغني [30] . وكان فقيه المدينة مالك بن أنس له معرفة تامة بالغناء، فقد روي حسين بن دحمان الأشقر، قال: كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أغني: ما بال أهلك يا رباب خزراً كأنهم غصاب [31] . قال: فإذا خوخةً قد فتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال: يا فاسق أسأت التأدية، ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة، ثم اندفع يغني فظننت أن طويساً قد نشر بعينه، فقلت له: أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال: نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلي غنائه، فدع الغناء، وأطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء. فقلت له: فأعد جعلت فداك، فقال: لا، ولا كرامة، أتريد أن تقول: أخذته عن مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس، ولم أعلم. وسواء أصحت هذه الرواية أم لا تصح، وسواء أوضعها الحاقدون علي مالك أم نقلوها للحط من شأنه، فإن الذي لا ريب فيه أن المدينة المنورة في العصر الأموي كانت مركزاً مهماً من مراكز الغناء في العالم الإسلامي، ومعهداً خاصاً لتعليم الجواري الغناء والرقص.

الغناء و الرقص

كانت تقام في يثرب والمدينة حفلات الغناء والرقص لأشهر المغنين والمغنيات، وربما كانت مختلطة بين الرجال والنساء، ولم توضع بينهما ستارة [32] . روي أبو الفرج قال: إن جميلة جلست يوماً، ولبست برنساً طويلاً، وألبست من كان معها برانس، ثم قامت ورقصت، وضربت بالعود، وعلي رأسها البرنس الطويل، وعلي عاتقها بردة يمانية، وعلي القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص، ومعبد، والغريدي، وابن عائشة، ومالك، وفي يد كل منهم عود يضرب به علي ضرب جميلة، ورقصها، فغنت وغني القوم علي غنائها، ثم دعت بثياب مصبغة، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا، وتمشت ومشي القوم خلفها، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد [33] وكانت عائشة بنت طلحة تقيم احتفالات مختلطة من الرجال والنساء، وتغني فيها عزة الميلا [34] .

تأثر أهل المدينة بالغناء

سمعٍ عمر بن أبي ربيعة صوتاً من جميلة فشق قميصه إلي أسفله فصار قباءاً وهو لا يدري [35] ويزيد بن عبد الملك اشتري المغنية (سلامة القس) من مولاها بعشرين ألف دينار [36] ثم خرج أهل المدينة لتوديعها، وقد ملؤوا رحبة القصر، فوقفت بينهم وغنتهم: فارقوني وقد علمت يقيناً ما لمن ذاق ميتة من إياب والناس وراءها ينتحبون ويبكون كلما رددت هذا الصوت. ويزيد بن عبد الملك اشتري المغنية والراقصة (حبابة) فجعلت تغني عنده، وكان إلي جانبه الذي باعها، وهو من أهل المدينة فعرض لحيته إلي شمعة فاحترقت ولم يحس بها من شدة الطرب. وقد نقل لنا المؤرخون الكثير من النوادر عن شدة تأثر أهل المدينة بالغناء والطرب.

تعليم الغناء في يثرب

كانت يثرب في عهد الأمويين تعج بالمغنيين والمغنيات وكن يقمن بدور فعال في تعليم الغناء للفتيان والفتيات، فانتشر الغناء وانتشر معه المجون والفساد. ومن المؤسف حقاً أن مدينة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) صارت في العصر الأموي مركزاً للحياة العابثة، وكان من المؤمل أن تكون مصدر إشعاع للثقافة الدينية ومركزاً هاماً للتطور الفكري والحضاري في العالم العربي والإسلامي، إلا أن ملوك بني أمية انتوعوا منها هذه الظاهرة الكريمة وأفقدوها زعامتها السياسية والاجتماعية والدينية. ويبدو أن تركيز الأمويين علي تدفق الجواري وإشاعة الغناء في هذه المدينة بالذات القصد منه هو تلهي الشباب بهذه الأمور وإبعادهم عن المطالبة بالخلافة والحكم. فالمال لديهم، والجواري عندهم، ودور الغناء والرقص موجودة للتلهي وإضاعة الوقت، ولماذا الحروب والقيام بالثورة، هكذا كان يفكر الحكم الأموي. إلا أنهم توهموا ذلك حيث قامت الثورات من كل جانب فكانت ثورة التوابين الذين ندموا أشد الندم علي تركهم نصرة الحسين (عليه السّلام). وثورة المختار، وثورة ابن الزبير...

مجون الأمويين

عاش ملوك بني أمية كالقياصرة والأكاسرة، حياة كلها لهو وعبث، فامضوا لياليهم بشرب الخمور وإقامة حفلات الغناء والرقص، وكان أول من آوي المغنين وشجع الغناء من بني أمية يزيد بن معاوية الذي بذل أبوه كل جهد حتي سلمه زمام الحكم. فقد كان يطلب المغنين والمغنيات من المدينة إلي الشام [37] ، ويتجاهر بالفسق والفجور ويشرب الخمر علناً لا يخاف لا من ربه ولا من مجتمعه. ومن مجانهم المعروفين الوليد بن يزيد الذي باع عقله للشيطان وعاش متهتكاً فاسقاً فارغاً من كل القيم الأخلاقية. طلب المغني المعروف ابن عائشة فغناه بصوت رخيم، فطرب الأمير الأموي علي غنائه حتي فقد صوابه. فقال للمغني: أحسنت، أحسنت، ثم نزع ثيابه، فألقاها عليه، وبقي مجرداً إلي أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار، وحمله علي بغله، وقال: اركبها بأبي أنت، وانصرف، فقد تركتني علي مثل (المقلي) من حرارة غنائك [38] . ثم استقدم مغنياً آخر، عطرداً، ولما سمع منه أحد أصواته شق عليه حلة وشيء، ورمي بنفسه في بركة خمر، فما زال بها حتي أخرج كالميت سكراً، ولما أفاق قال لعطرد: كأني بك قد دخلت المدينة، فقمت في مجالسها وقعدت، وقلت: دعاني أمير المؤمنين، فدخلت عليه فاقترح علي فغنيته وأطربته، وشق ثيابه، وفعل، والله لئن تحركت شفتاك بشيء مما جري فبلغني لأضربن عنقك، ثم أعطاه ألف دينار فأخذها وانصرف إلي المدينة [39] . ومن مجانهم أيضاً يزيد بن عبد الملك، فقد طلب ابن عائشة فلما مثل عنده أمره بالغناء، فغناه صوتاً طرب منه حتي ألحد في طربه، وقال لساقيه: اسقنا بالسماء الرابعة [40] هكذا أشاع هؤلاء الملوك الفسق والفجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي وبصورة خاصة في يثرب للقضاء علي قدسيتها، وما تتمتع به من مكانة مرموقة في نفوس المسلمين لكنهم فشلوا لأن كلمة الله هي العليا وأنصار الحق لا يهزمون مهما صادفوا من ظلم وجور وطغيان، بل حمدوا وجاهدوا وأعطوا دروساً في التضحية والفداء ما زالت مشاعل مضيئة علي دروب المجاهدين.

مواقف الإمام من هذه التيارات

اشاره

أمام هذه التيارات الفاسدة المدمرة للأخلاق والقيم الإنسانية، كان موقف الإمام زين العابدين (عليه السّلام) متسماً بالقوة والصلابة والجرأة، فقد سلط عليها أشعة من روحه المقدسة التي تفيض بها الصحيفة السجادية. فهي بحق تربية أخلاقية واجتماعية وسياسية وروحية، وذلك بما حوته من وعظ وإرشاد، وما اشتملت عليه من قيم الإسلام وهدي أهل البيت (عليهم السلام). لقد وقفت الصحيفة السجادية سداً منيعاً لحماية الإسلام وصيانته من ذلك التفسخ الجاهلي الذي أوجده الحكم الأموي فقد نعت علي الأمة ما هي فيه من الانحطاط الفكري والاجتماعي ودعتها إلي الانطلاق والتحرر من ذل المعصية إلي عز الطاعة طاعة الله العلي القدير خالق الكون وواهب الحياة. يضاف إلي الصحيفة السجادية سيرة الإمام التي كانت تحكي سيرة جده الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومواقفه المحقة التي ترشد الضال وتهدي الحائر إلي الطريق القويم. لكن نظراً للحالة السياسية والاجتماعية القلقة والمشحونة بالفتن والحروب والثورات التي كانت تحيط بالإمام زين العابدين ووجوده بين الأمة المظلومة، وبين الملوك والأمراء القساة، الجفاة، المنحرفين عن الإسلام والذين يسومون الناس أنواع البلاء، ففي خضم هذه التيارات كان موقف الأمام (عليه السّلام) صعباً جداً وحرجاً للغاية. ها هي واقعة كربلاء ماثلة أمام عينيه بدمائها ودموعها وأحزانها... وها هي وقعة الحرة واستباحة المدينة يعايش آلامها وأحزان أهلها، وها هي الكعبة تضرب بالنار وبالمجانيق. وهكذا كان أسلوب الحكام والملوك في عهده، أما أنصاره فلا يجد لهم أثراً ولا يجد الرجل الذي يقف معه موقفاً مؤيداً حتي الشهادة. حقاً لقد كان موقف الإمام صعباً جداً حيث يضطر في كثير من الأحيان إلي اللجوء إلي الكعبة فيتعلق بأستارها ويدعو الله دعاءً حاراً خالصاً. كما كان يلجأ في أحيان أخري إلي قبر جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدعوه ويتهجد ويتعبد فتنفرج الأزمات ويجعل الله من بعد العسر يسراً.

الامام مع ملوك عصره

اشاره

كان موقف الإمام السجاد من ملوك عصره موقف الحازم الحاسم الذي لا يساوم ولا يداهن في دين الله وفي شريعة الله، فلم يتقرب من الملوك ولم يمدحهم، بل كان موقفه الحذر منهم والصلابة تجاههم... وفي أكثر الأحيان يسدي النصيحة لهم خدمة للإسلام والمسلمين. كان أكثر ملوك بني أمية احتكاكاً به هو عبد الملك بن مروان وقد عاصر الإمام (عليه السّلام) عشرين سنة اتبع خلالها عبد الملك أساليب ملتوية عديدة:

الترهيب

اتبع عبد الملك مع الإمام أسلوب التهديد والترهيب منها: الاعتقال والتضييق والإرهاب الجسدي. قال الزهري: شهدت علي بن الحسين (عليه السّلام) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلي الشام، فأثقله حديداً ووكل به حفاظاً في عدّة وجمع فاستأذنهم في التسليم والتوديع له فأذنوا فدخلت عليه، والأقياد في رجليه والغل في يديه فبكيت وقلت: وددت أني مكانك وأنت سالم، فقال: يا زهري أو تظن هذا بما تري عليّ وفي عنقي يكريني؟ أما لو شئت ما كان فإنه وإن بلغ بك ومّن أمثالك ليذكرني عذاب الله، ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد ثم قال: يا زهري لا حراث معهم علي ذا منزلتين من المدينة، قال: فما لبثنا إلا أربع ليالٍ حتي قدم الموكلون يطلبونه بالمدينة فما وجدوه. فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعاً، إنه لنازل، ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة. فقدمت بعد ذلك علي عبد الملك فسألني عن علي بن الحسين فأخبره فقال: إنه قد جاءني في يوم فقد الأعوان فدخل علي فقلت: أقم عندي، فقال: لا أحب، ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة. قال الزهري: فقلت: ليس علي بن الحسين (عليه السّلام) حيث تظن أنه مشغول بنفسه، فقال: حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به) [41] وتابع عبد الملك مع الإمام (عليه السّلام) الإرهاب النفسي فأرسل الرسائل والكتب وبعث له الوفود يتوعده ويتهدده بقطع رزقه. من افتراءات عبد الملك علي الإمام: (بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عنده فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبي عليه، فكتب عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال، فأجابه (عليه السّلام): أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقال جل ذكره: (إن الله لا يحب كل خوان كفور) فانظر أينا أولي بهذه الآية [42] . لم تؤثر أساليب عبد الملك مع الإمام (عليه السّلام)، بل زادته صلابة وحزماً والتجاءاً إلي الله تعالي. فكان موقفه الرافض بل وصف عبد الملك استيحاء من الآية بأنه خوان كفور!!...

الترغيب

ولما لم ينفع الترهيب، اتبع عبد الملك مع الإمام (عليه السّلام) أسلوباً آخر وهو الترغيب بالمال والعطايا السخية وإرجاع حقوق أهل البيت (عليهم السلام) المغصوبة، ظناً منه بأن يستدرج الإمام (عليه السّلام) ويستميله إلي جانبه. ولكن هيهات أن ينفع هذا الأسلوب مع أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة والمبدأ الثابت الرصين. روي عن عبد الملك بن عبد العزيز قال: (لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة رد إلي علي بن الحسين (عليه السّلام) صدقات رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وصدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام). وكانت مضمومتين [43] . والآن ماذا علي عبد الملك أن يفعل، فلا الترهيب أثر به علي الإمام المعصوم (عليه السلام) ولا الترغيب، فتركه وشأنه عندما وصل إلي مرحلة العجز.

العجز

عرفنا إن الأساليب التي اتبعها عبد الملك مع الإمام ترهيباً وترغيباً لم تجده نفعاً، ولم تغير موقفه، ذلك أن روحيه أئمة الهدي ومواقفهم ثابتة ومعروفة تجاه الحق. فلم يبق لعبد الملك بن مروان إلا أن يترك الإمام وشأنه ولا يتعرض له. بل أوصي ولاته بترك أهل البيت (عليه السّلام) وشأنهم وعدم التعرض لهم... قال أبو عبد الله (عليه السّلام): لما ولي عبد الملك بن مروان واستقامت له الأمور كتب إلي الحجاج بن يوسف: (أما بعد فجنبني دماء بني عبد المطلب فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها لم يلبثوا بعدها إلا قليلاً والسلام). وكتب الكتاب سراً دون أن يعلم به أحد وأرسل به مع البريد إلي الحجاج وإليه علي الكوفة. وأخبر أن عبد الملك قد زيد في ملكه برهة من دهره لكفه عن بني هاشم وأمر أن يكتب ذلك إلي عبد الملك ويخبره بأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أتاه في منامه وأخبره بذلك، فكتب علي بن الحسين (عليه السّلام) إلي عبد الملك بن مروان يخبره بذلك) [44] .

تعامل الإمام مع الحكام

ورد معنا أن الأسلوب الذي اتبعه الإمام (عليه السّلام) مع الملوك هو الحذر والحزم وعدم المداهنة في دين الله. فكان يجهر بالحق علانية أمام أولئك الملوك فيظهر أخطائهم ويبين لهم عاقبتهم المزرية يوم القيامة، يومئذٍ يكون الملك لله الواحد القهار... فلم يتقرب إليهم الإمام (عليه السّلام) ولم يجاملهم. لكن حينما تكون هناك مصلحة إسلامية ودفاع عن بيضة الإسلام فلا يتواني (عليه السّلام) في تقديم المشورة أو النصيحة، كما كان يفعل جده أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حيث كان يقدم الخبرة والمشورة للخليفتين: ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب مع غصبهم لحقه. لكن مصلحة الإسلام في نظره (عليه السّلام) أهم وأفضل من كل مصلحة. وكان يحل لهما المعضلات في الحكم والقضاء. هكذا كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهكذا فعل حفيده زين العابدين. من هذه الاستشارات التي قدمها الإمام زين العابدين لعبد الملك بن مروان طريقة صك النقود، والرد علي ملك الروم وتفصيل ذلك: (استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخري إلي دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة والقراطيس) [45] . نستشف ذلك من الرواية التالية: (كتب ملك الروم إلي عبد الملك: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة. لأغزونك بجنود مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف، فكتب عبد الملك إلي الحجاج أن يبعث إلي زين العابدين (عليه السّلام) ويتوعده ويكتب إليه ما يقول ففعل وقال (عليه السّلام): (إن الله لوحاً محفوظاً يلحظه في كل يوم ثلاثماية لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك منها لحظة واحدة، فكتب بها الحجاج إلي عبد الملك فكتب عبد الملك بذلك إلي ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة) [46] .

تعامل الإمام مع الولاة

الولاة يمثلون ملوكهم الجبابرة الطغاة فهم نسخة طبق الأصل من ظلمهم وانحرافهم عن الإسلام، بل فاقوا ملوكهم بعض الأحيان في الظلم والجور، كما هو الحال مع الحجاج وعبيد الله بن زياد وهشام بن إسماعيل ومسرف بن عقبة. فكان الإمام (عليه السّلام) يتخذ الموقف نفسه منهم ألا وهو الحذر وعدم المجاملة ذلك كان الطابع العام لسياسته معهم. وفي أغلب الأحيان كان يستخدم الدعاء لدفع كيدهم ورد ظلمهم، فكان هذا الأسلوب مثمراً جداً. عن عمر بن علي، عن أبيه، علي بن الحسين (عليه السّلام): كان يقول: لم أر مثل التقدم في الدعاء، فإن العبد ليس تحضره الإجابة في كل وقت وكان مما حفظ عنه (عليه السّلام) من الدعاء حيث بلغه توجه مسرف بن عقبة إلي المدينة (رب كم من نعمة أنعمت بها علي قلّ عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، وقل عند بلائه صبري فلم يخذلني، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ويا ذا النعماء التي لا تحصي عدداً. صل علي محمد وآل محمد وادفع عني شره فإني أذرأ بك في نحره وأستعيذ بك من شره). فقدم مسرف بن عقبة المدينة وكان يقال لا يريد غير علي بن الحسين (عليه السّلام) فأتاه فلما صار إليه قرّبه وأكرمه، وحباه ووصله. وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك فجزاه خيراً ثم قال: أسرجوا له بغلتي وقال له: انصرف إلي أهلك فإني أري أن قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا ولو كان بأيدينا ما نقوي به علي صلتك بقدر حقك لوصلناك فقال علي بن الحسين (عليه السّلام): ما أعذرني للأمير، وركب، فقال مسرف لجلسائه: هذا الخير الذي لا شر فيه مع موضعه من رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومكانه منه) [47] . وكان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لا يلزم نفسه بالدعاء فقط بل يوصي الآخرين من أهل بيته وخاصته، وأصحابه وشيعته، يوصيهم بالتعرض لنفحات الله عند الوقوع في شدة أو مصيبة. فكان الدعاء عنده سلاحاً ناجعاً ضد الطغاة والظالمين والمنحرفين عن الإسلام من ملوك بني أمية وولاتهم. كتب الوليد بن عبد الملك إلي عامله علي المدينة صالح بن عبد الله المري: أبرز الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - وقد كان محبوساً في حبسه - واضربه في مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) خمسمائة سوط، فأخرجه صالح إلي المسجد واجتمع الناس وصعد صالح المنبر يقرأ الكتاب ثم ينزل فيأمر بضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ دخل علي بن الحسين (عليه السّلام) فأفرج الناس عنه، لهيبته وتقاه حتي انتهي إلي الحسن، فقال له: يا بن عم ادع الله بدعاء الكرب يفرِّج عنك، فقال: ما هو يا بن عم؟ فقال (عليه السّلام): قل وذكر الدعاء... قال وانصرف علي بن الحسين (عليه السّلام) وأقبل الحسن يكررها فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل قال: أري سجية رجل مظلوم أخّروا أمره وأنا أراجع أمير المؤمنين فيه، وكتب صالح إلي الوليد في ذلك، فكتب إليه الوليد وأطلقه [48] . والولاة كانوا يأتمرون بأمر الملوك، فكانوا يؤذون الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ويتفننون في إيذائه، ثم إذا انقلب الزمان عليهم ودارت دائرتهم، فأخرجوا من إمارتهم أو انتصر عليهم غيرهم وتمكن منهم كان جواب الإمام (عليه السلام) الصفح عنهم وعدم التعرض إليهم مع إيذائهم وتهديدهم... (كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين في إمارته، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للنّاس فقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين، فمر به علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان، فتقدم إلي خاصته ألا يعرض أحد منكم بكلمة، وقال له (عليه السّلام): أنظر إلي ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا. فنادي هشام: الله أعلم أين يجعل رسالته) [49] .

سيرة الإمام زين العابدين، صفحات من نور

النسب

هو الإمام المعصوم الرابع علي ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. والمعروف بين المحدثين بابن الخيرتين فأبوه: الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه من بنات ملوك الفرس. جاء ربيع الأبرار للزمخشري (إن لله من عباده خيرتين فخيرته من العرب بنو هاشم. ومن العجم فارس).

امه

اتفقت الروايات علي أن أمه من أشراف الفرس، ولكنها اختلفت في تاريخ الاستيلاء عليها من قبل المسلمين. هي: شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسري. قال فيه أبو الأسود الدؤلي: وإن غلاماً بين كسري وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم

ولادته

جاء في بعض الروايات أن ولادة علي بن الحسين (عليهما السلام) يوم الجمعة ويقال يوم الخميس [50] بين الخامس والعاشر من شهر شعبان [51] سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين من الهجرة [52] .

كنيته

أبو محمد ويكني بـ(أبي الحسن) أيضاً.

القابه

زين العابدين والسجاد وذو الثفنات والبكاء والعابد ومن أشهرها زين العابدين وبه كان يعرف كما يعرف باسمه. جاء في المرويات عن الزهري أنه كان يقول: (ينادي مناد يوم القيامة ليقيم سيد العابدين في زمانه فيقوم علي بن الحسين (عليه السّلام) ولقب بذي الثفنات لأن موضع السجود منه كانت كثفنة البعير من كثرة السجود عليه [53] . أما عن تسميته بالبكاء يروي الرواة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) أنه قال: (بكي علي بن الحسين علي أبيه عشرين سنة ما وضع خلالها بين يديه طعام إلا بكي. وقال له بعض مواليه: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف أن تكون من الهالكين، فقال: إنما أشكوا بثي وحزني إلي الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع أبي وإخوتي وبني عمومتي إلا خنقتني العبرة. وقد روي الرواة كثيراً عن حزنه وبكائه فكان كلما قدم له طعام وشراب يقول: كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعاً، وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشاناًَ. وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد يردد (عليهم) تلك المأساة ويقص عليهم من أخبارها. وأحياناً يخرج إلي السوق فإذا رأي جزاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا بن رسول الله إنا لا نذبح حيواناً حتي نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي عند ذلك ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله عطشاناً. كان يحاول في أكثر مواقفه هذه أن يشحن النفوس ويهيئها للثورة علي الظالمين الذين استباحوا محارم الله واستهزأوا بالقيم الإنسانية والدعوة الإسلامية من أجل عروشهم وأطماعهم وقد أعطت هذه المواقف المحقة ثمارها وهيأت الجماهير الإسلامية في الحجاز والعراق وغيرها للثورة.

امامته

روي الكليني بإسناده عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: (إن الحسين بن علي (عليهما السلام) لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبري فاطمة بنت الحسين (عليه السّلام) فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين (عليهما السّلام) مبطوناً معهم لا يرون إلا أنه لما به فدفعت فاطمة الكتاب إلي علي بن الحسين (عليه السّلام) ثم صار ذلك الكتاب إلينا يا زياد! قال: قلت: ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟ قال: فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلي أن تفني الدنيا والله إن فيه الحدود حتي إن فيه أرش الخدش [54] كما روي المجلسي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: (سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السّلام) عن خاتم الحسين بن علي (عليهم السلام) إلي من صار، وذكرت له إني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قال (عليه السّلام): ليس كما قالوا، إن الحسين أوصي إلي ابنه علي بن الحسين (عليه السّلام) وجعل خاتمه في إصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأمير المؤمنين (عليه السّلام) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليهما السلام)، وفعله الحسن بالحسين (عليهما السلام)، ثم صار ذلك الخاتم إلي أبي بعد أبيه، ومنه صار إلي فهو عندي، وإلي لألبسه كل جمعة وأصلي به، قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي فلما فرغ من الصلاة مد إلي يده فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا الله عدة للقاء الله. فقال: هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي [55] .

اولاده

روي الشيخ المفيد أن أولاد علي زين العابدين (عليه السّلام) خمسة عشر بين ذكر وأنثي. أحد عشر ذكراً وأربع بنات [56] أكبرهم سناً وقدراً الإمام محمد بن علي الملقب بـ(الباقر). أمه فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السّلام) أولدت له أربعة هم: الحسن والحسين ومحمد الباقر وعبد الله وبه كانت تكني. ومما يبدو أن أكبر أولاده محمد الباقر ولد له سنة سبع وخمسين هجرية وكان له من العمر عندما استشهد جده الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ثلاث سنوات. وله من الذكور أيضاً زيد وعمر وأمهما أم ولد. والحسين الأصغر. وعبد الرحمن وسليمان أمهما أم ولد. ومحمد الأصغر وعلي الأصغر وكان أصغر أولاده الذكور. وخديجة وفاطمة وعليّة وأم كلثوم أمهن أم ولد. وأما زيد بن علي الشهيد فقد نشأ في بيت الإمام زين العابدين حفيد الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم. هذا البيت الذي يعد مهد العلم والحكمة. تعلم فيه القرآن الكريم فحفظه واتجه إلي الحديث الشريف فتلقاه عن أبيه حتي أصبح بعد فترة واسع العلم والمعرفة. وبعد أن تركه والده في حدود الرابعة عشرة من عمره تعهده أخوه الإمام الباقر فزوده بكل ما يحتاج من الفقه والحديث والتفسير حتي أصبح من مشاهير علماء عصره ومرجعاً معروفاً لرواد العلم والحديث والحكمة والمعرفة. سافر إلي البصرة عدة مرات وناظر علماءها ومنهم واصل بن عطاء رأس المعتزلة يوم ذاك، ناظره في أصول العقائد. وقد طلبه هشام بن عبد الملك إلي الشام وكان مجلسه حافلاً بأعيان أهل الشام وخاصته، فقال له: بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة، فأجابه زيد بن علي علي الفور: ويلك يا هشام أمكان أمي يضعني؟ والله لقد كان اسحق ابن حرة وإسماعيل ابن أمة ولم يمنعه ذلك من أن بعثه الله نبياً وجعل من نسله سيد العرب والعجم محمد بن عبد الله، إن الأمهات يا هشام لا يقعدن بالرجال عن الغايات, اتق الله في ذرية نبيك. فغضب هشام وقال: ومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوي الله؟ فرد عليه زيد بقوله: إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصي بتقوي الله ولا يصغر دون أن يوصي بتقوي الله. ومضي زيد في طريقه إلي الكوفة ثم إلي البصرة وأرسل رسائله ورسله إلي المدائن والموصل وغيرهما وانتشرت دعوته في سواد العراق ومدنه ولما بلغ أمره هشام بن عبد الملك أرسل إلي واليه علي العراق يوسف بن عمر يأمره بمضايقة زيد ومطاردته وحدثت معركة أصيب فيها زيد فدفنه أصحابه في مجري ماء حتي لا يصلب أو يحرق، لكن ذلك لم يفده. أحدث قتله استياءً عاماً في جميع المناطق الإسلامية وتجدد البكاء علي أهل البيت ولف الحزن كل من يحبهم ويسير علي خطاهم. وممن تحدثت عنهم كتب الأنساب من أولاد الإمام علي زين العابدين عبد الله بن علي الملقب بالباهر: كان فاضلاً فقيهاً روي عن آبائه وأجداده أحاديث كثيرة. روي بعضهم قال: سألت أبا جعفر الباقر: أي إخوانك أحب إليك وأفضل؟ فقال: أما عبد الله فيدي التي أبطش بها، وأما عمر فبصري الذي أبصر به. وأما زيد فلساني الذي أنطق به، وأما الحسين فحليم يمشي علي الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً وكان عبد الله يلي صدقات رسول الله وصدقات أمير المؤمنين [57] وأما عمر فقد كان ورعاً جليلاً وسخياً كريماً تولي صدقات جده (عليه السّلام) واشترط علي كل من يبتاع ثمارها أن يثلم في الحائط ثلمة لكي تأكل منها المارة ولا يرد أحداً عنها، ويروي عنه أنه قال: المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به ولا تقولوا فينا ما ليس بنا إن يعذبنا الله فبذنوبنا وإن يرحمنا فبرحمته وفضله علينا. وأما الحسين بن علي (عليه السّلام) فإنه كان فاضلاً ورعاً يروي عن أبيه علي بن الحسين وعمته فاطمة بنت الحسين (عليه السّلام) التي أودعها الحسين عند خروجه من المدينة إلي كربلاء وصيته، كما روي عن أخيه أبي جعفر الباقر. وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السّلام) [58] . والإمام محمد بن علي زين العابدين المعروف بالباقر عاش سبعة وخمسين عاماً أدرك فيها جده الحسين (عليه السّلام) ولزمه نحواً من أربع سنوات وعاش مع أبيه السجاد بعد جده خمساً وثلاثين سنة وفي طفولته كانت المحنة الكبري التي حلت بأهل البيت في كربلاء واستشهد فيها جده الحسين ومن معه من إخوته وبني عمه وأصحابه (عليهم السّلام) جميعاً وتجرع هو مرارتها وشاهد بعدها جميع الرزايا والمصائب التي توالت علي أهل بيته من قبل الحكام الطغاة الذين تنكروا للقيم والأخلاق وجميع المبادئ الإسلامية وعاثوا فساداً في البلاد ولم يتركوا رذيلة واحدة إلا مارسوها بشتي أشكالها ومظاهرها، في قصورهم الفخمة الأنيقة ونواديهم القذرة الفاجرة. في هذا الجو المشحون بالظلم والقهر والفساد وجد الإمام الباقر (عليه السّلام) وقد علمته الأحداث الماضية مع آبائه وأجداده خذلان الناس له في ساعات المحنة أن ينصرف عن السياسة ومشاكل السياسيين ومؤامراتهم إلي خدمة الإسلام ورعاية شؤون المسلمين عن طريق الدفاع عن أصول الدين الحنيف ونشر تعاليمه وأحكامه فناظر الفرق التي انحرفت في تفكيرها واتجاهاتها عن الخط الإسلامي الصحيح كمسألة الجبر والإرجاء التي روّجها الحكام لمصالحهم الشخصية. لقد فرضت عليه مصلحة الإسلام العليا أن ينصرف إلي الدفاع عن العقيدة الإسلامية فالتف حوله العديد من العلماء والكثير من طلاب العلم والحديث من الشيعة وغيرهم. كان عالماً عابداً تقياً ثقة عند جميع المسلمين، روي عنه أبو حنيفة وغيره من أئمة المذاهب المعروفة [59] . جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: لقد أخبرني رسول الله بأني سأبقي حتي أري رجلاً من ولده أشبه الناس به وأمرني أن أقرأه السلام واسمه محمد يبقر العلم بقراً، ويقول الرواة إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله، وفي آخر أيامه كان يصيح في مسجد رسول الله يا باقر علم آل بيت محمد، فلما رآه وقع عليه يقبل يديه وأبلغه تحية رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) [60] . وقال فيه محمد بن طلحة القرشي الشافعي: محمد بن علي الباقر هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورفعه، صفا قلبه وزكا عمله وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه وعمرت بطاعة الله أوقاته ورسخت في مقام التقوي قدمه، فالمناقب تسبق إليه والصفات تشرف به له ألقاب ثلاثة: باقر العلم، والشاكر والهادي وأشهرها الباقر وسمي كذلك لتبقره العلم وتوسعه فيه.

اخوته

كان للإمام علي بن الحسين (عليهما السّلام) أخوان علي الأكبر، وعبد الله الرضيع. وقد قتل علي الأكبر مع أبيه في كربلاء، ولا بقية له، وأمه كانت آمنة بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وأمها بنت أبي سفيان بن حرب. أما عبد الله الرضيع فأمه الرباب بنت امرئ القيس وقد قتل أيضاً مع أبيه وأخيه يوم الطف [61] .

اخواته

وكان له أختان أيضاً: سكينة وفاطمة، فسكينة أمها الرباب بنت امرئ القيس، وأما فاطمة فأمها أم اسحاق بن طلحة بن عبيد الله. فيكفي في جلالتها كلام الإمام الحسين (عليه السّلام) مع ابن أخيه الحسن بن الإمام الحسن (عليه السّلام) لما جاء إليه خاطباً إحدي ابنتيه: أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله، فلا تصلح لرجل [62] كانت وفاتها في المدينة سنة 117هـ. أمّا أختها فاطمة فيكفي في فضلها كلام الإمام الحسين (عليه السّلام) مع ابن أخيه الحسن بن الإمام الحسن: أختار لك فاطمة فهي أكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أمّا في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار [63] وفاتها في المدينة سنة 117هـ عن أكثر من سبعين سنة.

الي جنة المأوي

اشاره

لقد أجهد الإمام نفسه إجهاداً كبيراً وحملها من أمره رهقاً من كثرة عبادته وعظيم طاعته. أجمع المؤرخون أنه (عليه السّلام) قد قضي معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله حتي وصل بعبادته وتهجده وتخضعه إلي درجة الفناء الكامل في الله... في الوقت نفسه كانت تلاحقه ذكريات كربلاء المؤلمة، وما جري لأبيه سيد الشهداء (عليه السّلام) ولأهل البيت من النكبات الكبيرة والخطوب المريرة. وهل بإمكانه أن ينسي كلما نظر إلي عماته وأخواته فيتذكر فرارهن يوم الطف من خيمة إلي خيمة، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا البيوت. كل هذه الذكريات الأليمة تثير أشد الحزن في نفسه فيحزن ويذرف الدموع الحارة. لقد بكي علي أبيه عشرين سنة حتي قال له مولاه: إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. فقال (عليه السّلام): إنما أشكو بثي وحزني إلي الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة [64] . ومن الطبيعي أن لذلك كله أثراً مباشراً علي صحته التي أذابتها هذه المآسي القاسية. فكان كلما تقدم سن الإمام ازداد ضعفاً وذبولاً.

اغتياله بالسم

احتل الإمام زين العابدين قلوب الناس وعواطفهم فتحدث الناس بإعجاب عن علمه وفقهه وسائر ملكاته، وكان السعيد من تشرف بمقابلته والاستماع إلي حديثه لذلك نراه قد تمتع بشعبية هائلة في عصره. وقد شق ذلك علي الأمويين وأقضي مضاجعهم وكان من أكبر الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك. روي الزهري أنه قال: (لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا) [65] . وقد صمم هذا الخبيث المجرم علي اغتيال الإمام (عليه السّلام) بأي طريقة، ولما آل إليه الملك والسلطان بعث سماً قاتلاً إلي عامله علي يثرب، وأمره أن يدسه للإمام ونفذ عامله ذلك [66] ، وقد تفاعل السم في بدن الإمام، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها، وبقي علي فراش الموت عدة أيام يشكو بلواه إلي الله تعالي، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان، وقد تزاحم الناس لتفقده وعيادته، وهو (عليه السّلام) يحمد الله ويثني عليه أفضل الثناء علي ما رزقه من الشهادة علي يد شر البرية الظالمين الطغاة الذين كان همهم الدنيا الفانية ومباهجها البراقة الزائفة.

وصيته لولده الإمام الباقر

عهد الإمام زين العابدين إلي ولده محمد الباقر (عليهما السّلام) بالإمامة، كما عهد إليه أيضاً بهذه الوصية القيمة فقال له: (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة فقد قال لي: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله) [67] . وأوصاه أيضاً بناقته، فقال له: إني حججت علي ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط، فإذا أنفقت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة، وبارك في نسله) ونفذ الإمام الوصية [68] . والوصية الأخيرة قال فيها (عليه السّلام): (أن يتولي بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتي يواريه في مقره الأخير).

الي جوار جده

اشتد المرض علي الإمام (عليه السّلام) وثقل حاله من تفاعل السم في جسده الطاهر، وأخذ يعاني آلاماً مرهقة، فأخبر الإمام أهله في غلس الليل أن سوف ينتقل إلي الفردوس الأعلي، وأغمي عليه ثلاث مرات، فلما أفاق فقرأ سورة (الفاتحة) وسورة (إنا فتحنا) ثم قال (عليه السّلام): (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين) [69] . وانتقلت روحه الطاهرة إلي خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله، وألطافه تعالي لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلي خالقها بعد كفاح مرير وسمت بألطاف الله وتحيته تاركة إضاءات منيرة علي مفارق كل الدروب في هذه الدنيا بعلومها ومعارفها وعبادتها وتجردها من كل نزعات الميول الشخصية. لقد عمل الإمام (عليه السّلام) طول حياته في سبيل الله فأحب في الله وأبغض في الله وجاهد من أجل رفع كلمة الله بكل ما أوتي من قوة مباركة وعطاء خير.

تجهيزه

نفذ الإمام الباقر الوصية (عليه السّلام) بتجهيز جثمان أبيه، فغسل جسده الطاهر ورأي مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالي، ونظر إلي عاتقه فكأنه مبارك الإبل أيضاً من أثر الجراب الذي كان يحمله علي عاتقه ويوزعه علي الفقراء والمحرومين [70] وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه وصلي عليه الصلاة المكتوبة.

تشييعه

جري للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيراً، فقد شيعه جميع الناس من قريب وبعيد، التفت الجماهير حول النعش الكريم جازعين في البكاء والعويل بكل خشوعٍ وإحساس عميق بالخسارة الكبري. لقد فقدوا بموته عبقرية كبري وخيراً عميماً، فقدوا تلك الروحانية الشفافة التي لم يخلق لها مثيل. ازدحم أهالي يثرب علي الجثمان المقدس فالسعيد من يحظي بحمله، وهذا أحد الفقهاء السبعة في المدينة سعيد بن المسيب لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه. وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولي أشجع، فأجابه سعيد: أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي علي هذا الرجل الصالح في البيت الصالح [71] وما نراه أنه اعتذار مهلهل ذلك أن حضور تشييع جنازة الإمام (عليه السلام) الذي يحمل هدي الأنبياء وكرامة الأوصياء من أفضل الطاعات وأحبها إلي الله تعالي.

في المقر الأخير

وصل الجثمان الطاهر إلي بقيع الغرقد وسط هالة من التكبير والتحميد، فحفروا له قبراً بجوار قبر عمه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والذي استشهد بالطريقة نفسها علي يد معاوية بن أبي سفيان، صاحب القول المأثور (إن لله جنوداً من عسل). وأنزل الإمام الباقر جثمان أبيه إلي المقر الأخير وأنزل معه كنوز العلم والبر والتقوي، وروحانية أجداده المتقين عليهم أفضل الصلاة والسلام. وبعد الفراغ من دفن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) هرع الناس نحو الإمام الباقر يعزونه ويشاركونه في لوعته وأساه والإمام مع إخوته وسائر بني هاشم يشكرون الجموع الغفيرة المعزية علي مشاركتهم في الخطب الجلل والمصاب العظيم الذي حل بهم. وإنا لله وإنا إليه راجعون. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

عبادة الإمام علي زين العابدين

اشاره

قلنا إنه من أشهر ألقاب الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) السجاد وذي الثفنات. فالسجاد علي وزن فعّال تعني كثرة السجود لأنه كان يقضي معظم أوقاته في الصلاة التي قال عنها جده النبي المصطفي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إنها قرة عينه. وأما تسميته بذي الثفنات، كما جاء في الكافي للكليني، إن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة يقطعها في كل سنة من طول سجوده وكثرته. وفي رواية الصدوق أنه كان يقطعها ويجمها وأوصي أن تدفن معه في قبره. جاء في مصادر عدة أنه (عليه السلام) كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وإذا قام إلي الصلاة أخذته الرعدة، ويقول: أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة. ومرة وقع حريق في البيت الذي هو فيه وكان ساجداً في صلاته فجعلوا يقولون: يا بن رسول الله النار، النار، فما رفع رأسه من سجوده حتي أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: نار الآخرة. أجمع الرواة عن كثرة عبادته وصلاته فجاء عن الكليني في الكافي قال: كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة حتي مات ولقب بزين العابدين لكثرة عبادته وحسنها [72] . وعن خشوعه وتقاه. قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كان أبي يقول: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا حركه الريح منه). ومن نظر إليه وهو يصلي يخاله شبيهاً بأبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وبجديه علي بن أبي طالب والنبي محمد الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم). قال أبو حمزة الثمالي: (رأيت علي بن الحسين (عليهما السّلام) يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبه، قال: فلم يسوِّه حتي فرغ من صلاته قال: فسألته عن ذلك. فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه) [73] . وقال الإمام الباقر (عليه السّلام): (كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يصلي صلاة مودع يري أنه لا يصلي بعدها أبداً) [74] . وجاء في المصدر نفسه قال: (كان الإمام السجاد خريطة فيها تربة الحسين إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتي يرفض عرقاً) [75] . وقال الإمام الصادق (عليه السّلام): (ولقد دخل أبو جعفر علي أبيه (عليه السّلام) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد وقد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من السجود وورمت قدماه من القيام في الصلاة. قال: فقال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكر فالتفت إلي هنية من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي (أمير المؤمنين) فأعطيته فقرأ فيها يسيراً ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوي علي عبادة علي بن أبي طالب) [76] . قال الزهري: (كان علي بن الحسين (عليه السّلام) إذا قرأ (ملك يوم الدين) يكررها حتي يكاد يموت) [77] . وكان الإمام السجاد يسجد علي تربة الحسين (عليه السّلام) لأن السجود عليها يخرق الحجب السبع ويقبل الله صلاة من سجد عليها ما لم يقبله من غيرها [78] . ذلك أن الله تعالي فضل تربة سيد الشهداء علي سائر البقاع حتي بيته المعظم. جاء في الحديث: إن أرض الكعبة افتخرت بنسبتها إليه جل شأنه فأوحي إليها الجليل تعالي أني خلقت أرضاً لولاها ما خلقتك ولولا ما تضمنته ما خلقت البيت الذي افتخرت به) [79] . فاسجد علي تربته القدسية فإن فيها الفضل والمزية فنورها يخرق سبع الحجب يفوق نور نيرات الشهب ما سجد الصادق مهما صلي إلا عليها وكفانا فضلا [80] . ولما شاهدته عمته فاطمة بنت علي بن أبي طالب ما ناء به من الجهد في العبادة خافت عليه من أذية نفسه وهلاكها وهو بقية السلف وحمي الأمن ومعقد الآمال ومفزع المستجير فاتت جابر بن عبد الله الأنصاري، وهو خاصتهم وصاحب جدهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فلعله يستطيع أن يخفف العناء والجهد عن الإمام السجاد, فقالت له: يا صاحب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إن لنا عليكم حقوقاً ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً تذكرونه الله تعالي وتدعونه إلي البقيا علي نفسه. وهذا علي بن الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إذ آبا منه لنفسه في العبادة. فأتي جابر باب علي بن الحسين فرأي علي الباب أبا جعفر الباقر (عليه السّلام) فاستأذنه في الدخول علي أبيه. فدخل جابر علي الإمام السجاد (عليه السّلام) وهو في محرابه قد أنضته العبادة فنهض إليه الإمام وسأله عن حاله وأجلسه إلي جنبه. فقال له جابر: يا بن رسول الله أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم؟ فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقال علي بن الحسين: يا صاحب رسول الله: أما علمت أن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتي انتفخ الساق وورم القدم. فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أفلا أكون عبداً شكوراً. فلما نظر جابر إلي علي بن الحسين لا يقبل قول من يستميله عن الجهد في القصد، قال له يا بن رسول الله: البقيا علي نفسك فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف اللأواء وبهم تستمطر السماء. فقال (عليه السّلام) يا جابر لا أزال علي منهاج أبوي متأسياً بهما صلوات الله عليهما حتي ألقاهما. فأقبل جابر علي من حضر وقال: والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب. والله لذرية الحسين (عليه السّلام) أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب وإن منهم لمن يملأ عدلاً كما ملئت جوراً [81] . قد نري أن مثل هذه العبادة غريبة علي الناس العاديين لكنها ليست بغريبة أبداً علي مثل أهل البيت العابدين الزاهدين والطاهرين المنتجبين. والإمام زين العابدين ليس بحاجة إلي الإطراء بكثرة صلاته في اليوم والليلة ألف ركعة [82] ، ولا بمتابعة صيامه الذي قالت عنه مولاته: (ما فرشت له فراشاً بليل قط ولا أتيته بطعام في نهار قط) [83] وإنما ما يجب معرفته أنه (عليه السّلام) كان يقوم بهذه الأعمال العبادية بحق اليقين سواء من ناحية النية المقصورة علي تأهل المولي سبحانه للعبادة، لا من الخوف أو الرجاء كما سلف مثله عن جده أمير المؤمنين وسيد التقيين (عليه السّلام) الذي يقول: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك). فالإمام السجاد يعبد الله تعالي كما يعبده أهل بيته كأنه يراه، ويخافه كأنه ينظر إليه وجلال المهيمن وعظمته متجلية لديه في كل الأحوال. فلا غرو إذاً ما تتحدث به الرواة من الرهبة والخشية التي تلفه عند المثول أمام المولي عز شأنه لأداء فريضة الصلاة فتضطرب أعضاؤه ويصفر لونه ولا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح [84] وإذا قيل له في ذلك يقول (عليه السّلام): أتدرون إلي من أقوم ومن أريد أن أناجي [85] ، إني أريد أن أتأهب للقيام بين يدي ملك عظيم وإذا دخل في الصلاة يصلي صلاة مودع لا يصلي بعدها [86] .

صومه

الصيام من أقوي الوسائل في رياضة النفس وتقوية الإرادة وتعويد النفس علي الصبر. ونوجز القول: هو الرمز العملي بضبط النفس في دين الله. لذلك كان من أركان الدين الإسلامي وطريقاً من طرق الوصول إلي حقيقة التقوي التي هي التعبير العملي عن أخذ المسلم نفسه بالإسلام. قال سبحانه وتعالي: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [سورة البقرة: الآية 183]. والإمام زين العابدين كان شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم. قال الإمام الصادق (عليه السّلام): (كان علي بن الحسين شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم، فأضر ذلك بجسمه فقلت له: يا أبه كم هذا الدؤوب! فقال: أتحبب إلي ربي لعله يزلفني) [87] وأثناء صيامه كان كريماً جداً كثير الصدقات. قال الإمام الصادق أيضاً (عليه السّلام): (إنه كان علي بن الحسين إذا كان اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح وتقطع أعضاؤها وتطبخ فإذا كان عند المساء أكب علي القدور حتي يجد ريح المرقة وهو صائم ثم يقول: هاتوا القصاع، أغرفوا لآل فلان حتي يأتي إلي آخر القدور، ثم يؤتي بخبز وتمر فيكون بذلك عشاؤه) [88] . وروي علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: (سألت مولاة لعلي بن الحسين (عليهما السّلام) بعد موته، فقلت: صفي لي أمور علي بن الحسين (عليه السّلام) فقالت: أطنب أو أختصر؟ فقلت: اختصري، قالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، ولا فرشت له فرشاً بليل قط) [89] .

حجه

أمر الله المسلمين بفريضة الحج من استطاع وكان قادراً علي أدائه. قال سبحانه وتعالي: (ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) [90] والإمام السجاد كان يخرج إلي الحج ماشياً وأحياناً علي ناقته، حج عشرين حجة وما فرعها بسوط. قال سعيد بن المسيب: (كان الناس لا يخرجون من مكة حتي يخرج علي بن الحسين فخرج وخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلي ركعتين سبَّح في سجوده فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه ففزعت منه فرفع رأسه فقال: يا سعيد فزعت؟ قلت: نعم يا بن رسول الله، قال: هذا التسبيح الأعظم). وروي سفيان قال: (أراد علي بن الحسين الخروج إلي الحج فاتخذت له أخته سكينة زاداً أنفقت عليه ألف درهم فلما كان بظهر الحرة سيرت ذلك إليه، فلم يزل يفرقه علي المساكين [91] وكان القراء لا يحجون حتي يحج زين العابدين (عليه السّلام) وكان يتخذ لهم السويق، الحلو والحامض، قال سعيد بن المسيب: (ورأيته يوماً وهو ساجد، فوالذي نفس سعيد بيده لقد رأيت الشجر والمدر، والرحل والراحلة يردون عليه مثل كلامه) [92] . وجاء في حياة الحيوان للدميري قال: (إنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد واصفرّ وخرّ مغشياً عليه، فلما أفاق سئل عن ذلك، فقال: إني لأخشي أن أقول: لبيك، اللهم لبيك فيقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه، وقالوا: لا بد من التلبية، فلما لبي غشي عليه حتي سقط عن راحلته وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب) [93] .

النصوص علي خصوص إمامته

ورد عن محمد بن مسلم، قال: (سألت الصادق، جعفر بن محمد، (عليهما السّلام) عن خاتم الحسين بن علي (عليهما السّلام) إلي من صار؟ وذكرت له أني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ. قال (عليه السّلام): ليس كما قالوا، إن الحسين (عليه السّلام) أوصي إلي ابنه علي بن الحسين (عليه السّلام) وجعل خاتمه في إصبعه، وفوض إليه أمره. كما فعله رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأمير المؤمنين (عليه السّلام) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليه السّلام) وفعله الحسن بالحسين (عليه السّلام) ثم صار ذلك الخاتم إلي أبي (عليه السّلام) بعد أبيه ومنه صار إليّ فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي، فلما فرغ من الصلاة مد إليّ يده فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا الله عدة للقاء الله، فقال: هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السّلام) [94] . وجاء عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) قال: إن الحسين (عليه السّلام) لما حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبري فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين مريضاً لا يرون أنه يبقي فلما قتل الحسين (عليه السّلام) ورجع أهل بيته إلي المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلي علي بن الحسين، ثم صار ذلك الكتاب والله إلينا يا زياد [95] . وروي الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كنت عند الحسين بن علي (عليهما السّلام) إذ دخل علي بن الحسين الأصغر فدعاه الحسين وضمه إليه ضماً، وقبل ما بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت وأمي ما أطيب ريحك، وأحسن خلقك. قال: فتداخلني من ذلك فقلت: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلي من؟ قال: علي ابني هذا هو الإمام ابو الأئمة. قلت: يا مولاي هو صغير السن؟ قال: نعم، إن ابنه محمد يؤتم به وهو ابن تسع سنين ثم يطرق قال: ثم يبقر العلم بقراً [96] . وجاء في المصدر نفسه: سأل رجل الحسين (عليه السّلام): أخبرني عن عدد الأئمة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فقال (عليه السّلام): اثنا عشر، عدد نقباء بني إسرائيل فقال: فسمهم لي؟ فأطرق الحسين (عليه السّلام) ثم رفع رأسه فقال: نعم يا أخ العرب إن الإمام والخليفة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب، والحسن وأنا وتسعة من ولدي منهم علي ابني، وبعد ابنه محمد الخ... [97] . وقد شهدت نصوص كثيرة متواترة علي إمامة السجاد وأنه الحجة علي الأمة بعد أبيه سيد الشهداء (عليه السّلام) فيروي أبو خالد الكابلي عن علي بن الحسين أن أباه الحسين قال له: دخلت علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فرأيته مفكراً فقلت له: مالي أراك مفكراُ؟ قال: إن الأمين جبرائيل أتاني وقال: العلي الأعلي يقرؤك السلام ويقول قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأعظم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي وولايتي وإني لم أقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم ذكر أسماء الأئمة القائمين بالأمر بعد علي بن أبي طالب وهم: الحسن والحسين أولهم ابنه علي وآخرهم الحجة بن الحسن [98] وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر بم يعرف الإمام؟ قال (عليه السّلام): يعرف بالنص عليه من الله تعالي ونصبه علماً للناس حتي يكون عليهم حجة وقد نصب رسول الله علياً (عليه السّلام) وعرف الناس باسمه وعينه لهم وكذلك الأئمة ينصب الماضي من يكون بعده ويعرف الإمام بأن يسأل فيجيب ويبتدئ إن سكت الناس عنه ويخبرهم بما يكون في غد بعهد واصل إليه من رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وذلك بما نزل به جبرائيل من أخبار الحوادث الكائنة إلي يوم القيامة [99] . وتابع الإمام الباقر بقوله: (نحن منبت الرحمة وشجرة النبوة ومعدن الحكمة ومصابيح العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وموضع سر الله في عباده وحرمه الأكبر وعهده المسؤول عنه، فمن أوفي بعهد الله فقد وفي، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده فعرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا نحن الأسماء الحسني التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه بالرأفة والرحمة ووجهه الذي منه يؤتي وبابه الذي يدل عليه وخزان علمه وتراجمة وحيه وأعلام دينه والعروة الوثقي والدليل الواضح لمن اهتدي وبنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ونزل الغيث من السماء ونبت عشب الأرض. وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عرف الله وأيم الله لولا وصية سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه الأولون والآخرون) [100] . ثم إن الإمامة خلافة وهي من المولي سبحانه وسر من أسراره أوحي بها إلي نبي الأمة ليعرفهم القائم من بعده ومن يجب الركون إليه وأخذ معالم الدين منه وقد أودعها المهتمين جل شأنه في ذرية الرسول الأعظم بعد أن طهرهم من الرجس والريب وزكاهم من العيب وارتضاهم أعلاماً لعباده يسلكون بهم لأحب الطريق. كل ذلك لترفع الضغائن وتتم معرفة المعبود تعالي وتعقد صلات التآخي وتتم أنظمة الحياة. وجاء في المصدر نفسه عن الشيخ الطوسي قال: (وفي ليلة وفاته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دعا أمير المؤمنين علياً (عليه السّلام) وقال له: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة ثم أملي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وصيته حتي انتهي إلي بيان الخلفاء من بعده فقال: يا علي سيكون من بعدي اثنا عشر إماماً فأنت يا علي أولهم سماك الله في سمائه علياً المرتضي وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك إلي أن قال: وأنت خليفتي علي أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلي ابني الحسن البر الوصول فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابني الحسين الشهد الزكي المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه علي (سيد العابدين ذي الثفنات) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد الباقر (باقر العلم) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها جعفر الصادق فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه موسي الكاظم فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه الرضا فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد الثقة التقي فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه علي الناصح فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه الحسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد المستحفظ من آل محمد) [101] . إن الوصية أمر محتوم علي كل مسلم يوصي بها قبل وفاته لأشخاص أمناء يثق بهم ويسجل كل ما يهمه أمره لكي ينفذ بعد أم يتوفاه الله عز وجل. والنبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) هو أولي بالمؤمنين من أنفسهم فهل يمكن أن تحضره الوفاة ويبقي ساكتاً دون أن يوصي أمر الخلافة لأناس ثقاة علماء أمناء ينفذون الوصية بحذافيرها كما نص عليها خاتم النبيين والرسل, وكلنا يعلم مدي أهمية هذه الرسالة الإنسانية العظيمة وأهمية نشرها بين عباد الله وشرحها وتعليمها. إنها الرسالة الإلهية التي تصلح شؤون العباد في حياتهم الفردية وفي حياتهم الاجتماعية، كما تصلح شؤون العباد في كل زمان ومكان ومن جميع أمم الأرض. والله سبحانه وتعالي أعلم أين يوضع رسالته فقد كلف الأئمة المعصومين معدن الحكمة ومنبت الرحمة ومصابيح العلم وموضع سره في حرمه الأكبر. هؤلاء قال فيهم الأدباء وتغني بمجدهم الشعراء ونطق بفضلهم العلماء. من هؤلاء قال الشيخ إبراهيم يحيي العاملي من قصيدة مدح بها الإمام زين العابدين قال: ما غاب عن أفق الشريعة كوكب إلا وجاء بكوكب وقاد إن المهيمن ليس يخلي أرضه من حجة متستر أو باد لولا إمام الحق ما بقي الوري والجسم لا يبقي بغير فؤاد كن كيف شئت فقد أصبت هدايتي بهداهم وبلغت كل مرادي ما ضرني أن ضل عن طرق الهدي غيري إذا كتب الإله رشادي من صُدّ عن عين الحياة ومات من ظمأ فلا سقيت عظام الصادي [102] . وإلي هذه الظاهرة أشار الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد كلمة ثمينة حيث قال: (كان الإمام علي بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً فهو أولي بأبيه وأحق بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولي بالإمام الماضي أحق بمقامه من غيره بدلالة آية ذوي الأرحام وقصة زكريا عليه السّلام).

قبسات من أخلاقه و مناقبيته

جاء في طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين (عليه السّلام) كان ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياُ، رفيعاً، ورعاً. وروي الشيخ الصدوق قال: قلت لمحمد بن شهاب الزهري: لقيت علي بن الحسين؟ قال: نعم لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه والله ما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك، فقال لأني لم أر أحداً وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه. وكان الإمام السجاد يقدر العلم والعلماء سواء أكان أحدهم رفيعاً في أعين الناس أم كان غير رفيع ما دام عنده علم ينتفع به الناس، وإذا دخل المسجد يتخطي الناس حتي يجلس إلي جانب رجل متواضع اسمه زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جبير عاتباً: غفر الله لك أنت سيد الناس تتخطي خلق الله وأهل العلم وقريشاً حتي تجلس مع هذا العبد الأسود، فقال له الإمام (عليه السّلام): (العلم يقصد حيث كان) وكأنه يقصد إلي الحكمة القائلة: (الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها) والإنسان في أي زمان لا يهمه القائل بقدر ما يهمه القول الصادر عن أي لسان. أجمع المؤرخون علي أن الإمام زين العابدين قد انصرف إلي العبادة والعلم والدراسة والتعليم لأنه وجد في ذلك غذاء لروحه وسلوة لقلبه وأنساً لنفسه. وإلي جانب انصرافه إلي نشر العلم والفقه كان رحيماً بالناس وجواداً سخياً وخلوقاً حليماً. روي الكليني في الكافي قال: (ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافئ بها صاحبها، ووقف عليه رجل من بني عمومته فاسمعه كلاماً مراً وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي حتي تسمعوا ردي عليه، فمضوا معه وهو يقول: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. فخرج الرجل متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافياً له علي بعض ما كان منه، فقال له الإمام زين العابدين: يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفاً وقلت ما قلت فإن كنت قد قلت ما فيّ فأنا أستغفر الله منه، وإن كنت قد قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك، فأقبل عليه الرجل معتذراً وقال: لقد قلت ما ليس فيك وأنا أحق به. وقال الرواة في مناقبه قال الشبلنجي: (خرج يوماً من المسجد فلقيه رجل فسبه وبالغ في سبه وأفرط، فعاد إليه العبيد والموالي فكفهم عنه وأقبل عليه وقال له: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحي الرجل، فألقي عليه حميصه [103] وألقي عليه خمسة آلاف درهم فقال: أشهد أنك من أولاد المصطفي). ويروي عنه الرواة الكثير عن حلمه وسماحته منها: إن جارية له كانت تحمل إبريقاً وتسكب الماء لوضوئه فسقط من يدها علي وجهه فشجه وسال دمه فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت له الجارية: إن الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال: قد كظمت غيظي. فقالت: والعافين عن الناس، فقال: عفا الله عنك، فقالت: والله يحب المحسنين، فقال: أنت حرة لوجه الله. وعن كرمه (عليه السّلام) روي الواقدي قال: إن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً علي المدينة لعبد الملك بن مروان وقد أساء جوار الإمام ولحقه منه أذي شديد، فلما توفي عبد الملك عزله الوليد بن عبد الملك وأوقفه للناس لكي يقتصوا منه، فقال: والله إني لا أخاف لا من علي بن الحسين، فمر عليه الإمام وسلم عليه وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء، وأرسل له: إن كان أعجزك مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك ويسد حاجتك فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا فقال له هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالته. هكذا كان يعامل الإمام السجاد خصومه، يعاملهم حسب ما تملي عليه أخلاقه العالية وصفاته النبيلة ومناقبه الكريمة. من ذلك ما صنعه مع مروان بن الحكم ألد أعداء أهل البيت وهو الذي أشار علي الوليد بقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، وبقي إلي جانب معاوية يتتبع أهل البيت بالإساءة والأذي وينكل بهم وبشيعتهم بكل ما لديه من وسائل خبيثة. ومع كل ذلك فقد صنع معه كما صنع مع هشام بن إسماعيل وبالغ بالإحسان إليه كما بالغ هو بالإساءة إليه. وذلك يوم ثار أهل المدينة علي الأمويين وضيقوا عليهم ولم يعد لهم ملجأ بها فضاقت الأمور بمروان بن الحكم إلي أبعد حد، مما دعاه إلي استعطاف أبناء المهاجرين والأنصار لأنه لم يجد من يحمي له عيال الأمويين ونساؤهم ويمنع عنهم الثائرون المتربصين الشر بهم في كل حين غير الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) الذي ضم عيال مروان إلي عياله وعاملهم بما كان يعامل به أسرته وعياله. فإذا كان ذلك غريباً وبعيداً عن أخلاق الناس العاديين وطبائعهم فليس بغريب ولا بعيد علي من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة وجعلهم فوق مستوي البشر في مواهبهم وأخلاقهم وجميع صفاتهم وأعمالهم. إن أخلاق الإمام السجاد من أخلاق أبيه الإمام الحسين وأخلاق جديه الإمام علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين وإمام المتقين، ومحمد بن عبد الله خاتم النبيين الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فجده الإمام علي (عليه السّلام) عفا عن مروان الذي قاد الجيوش لحربه في البصرة فبعد أن ظفر به ووقع أسيراً في قبضته تركه وأطلق سراحه مع علمه بأنه سينضم إلي معاوية ويحاربه في صفين وبعد أن استتب الأمر لمعاوية واختاره والياً علي المدينة كان يؤذي الإمام الحسن (عليه السّلام) وكانت مجزرة كربلاء من أغلي أمانيه. ومع كل هذه السيئات وهذه الإساءات عفا عنه بعد أن وقع في قبضة يده. ثم قال حكمته: (إذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلي الظفرين). وجده الأكرم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عفا عن رأس الشرك أبي سفيان بعد أن ظفر به، كما عفا عن زوجته هند بنت عتبة وأحسن إليها بعد عملها الشنيع، عندما شقت بطن الحمزة البطل المؤمن الصنديد واستخرجت كبده ونهشتها بأسنانها وحملتها إلي مكة تتشفي بالنظر إليها. وعفا (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أيضاً عن والد مروان الحكم عندما ظفر به في مكة وقد كان يؤذيه ويسيء إليه بشتي أنواع الإساءة. وبعد أن أظهر الإسلام بعد فتح مكة كان يستهزئ به ويفتري عليه. لكن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) اكتفي بنفيه مع ولده إلي الطائف كما عفا عن جميع مشركي مكة وجبابرتهم الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية المباركة، وعن كل من كان يسيء إليه وقال عندها كلمته المشهورة: (إذهبوا فأنتم الطلقاء) فليس غريباً إذا أحسن الإمام زين العابدين لمن أساء إليه. فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. أما عن كرمه (عليه السّلام) فالروايات كثيرة لا تحصي نذكر بعضاً منها. روي الصدوق عن سفيان بن عيينة أن محمد بن شهاب الزهري رأي علي بن الحسين (عليه السّلام) في ليلة باردة وعلي ظهره دقيق يسعي به إلي جماعة. فقال له: يا بن رسول الله ما هذا؟ أجابه: أريد سفراً أعدوت له زاداً أحمله إلي موضع حريز، قال: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبي عليه الإمام (عليه السّلام) فقال: دعني أحمله عنك فإني أرفعك عن حمله. فقال (عليه السّلام): لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني من سفري ويحسن ورودي علي ما أرد عليه أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فلما كان بعد أيام لقيه ابن شهاب وقال: يا بن رسول الله لست أري لذلك السفر الذي ذكرته أثراً، قال (عليه السّلام): بلي يا زهري ليس هو كما ظننت ولكنه الموت وله استعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام وبذل الندي في الخير. وهكذا كان يعمل دائماً، يطرق بيوت الفقراء وهو مثلهم وأكثرهم كانوا يقفون علي أبواب بيوتهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به وقالوا: جاءنا صاحب الجراب. وروي عنه أبو نعيم أنه كانت بيوت في المدينة كثيرة تعيش من صدقات علي بن الحسين (عليه السّلام) ولا تدري من هو فاعل الخير هذا؟ فلماتوفاه الله فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم، وقالوا: ما فقدنا صدقة السر حتي فقدنا علي بن الحسين زين العابدين. روي الصدوق عن الإمام الباقر أنه كان يعول مائة بيت في المدينة. وكان إذا جاءه سائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي ليوم القيامة ولا يأكل طعاماً حتي يتصدق بمثله. وروي ابن طاووس عن الإمام الصادق (عليه السّلام) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها... ثم يقف بينهم ويقول: ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولي بذلك منا ومن المأمورين ثم يقبل عليهم ويقول: لقد أعتقت رقابكم طمعاً في عفو الله وعتق رقبتي من النار. فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس. وكان يقول: (إن لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار.

مهابته و كراماته

كان الإمام علي زين العابدين مهاباً معظماً عند الناس جميعاً، له مكانة خاصة في قلوبهم ومركز محتوم ومرموق عند الخلفاء والولاة من أي فريق كان. يدخل عليهم ليجلونه ويحترمونه حتي الذين يحقدون عليه. دخل مرة علي عبد الملك بن مروان وكان حاقداً عليه يدبر له المكايد في الخفاء، فلما نظر إليه مقبلاً وعليه مهابة أبيه وجديه، قام إليه وأجلسه إلي جنبه وأكرمه فسأله الناس كيف تم له ذلك وهم يعلمون ما يكن في قلبه من حقد علي الإمام (عليه السّلام) فقال: لما رأيته امتلأ قلبي رعباً. ومرة أخري دخل علي مسلم بن عقبة والي المدينة فلما نظر إليه يتجلي مهابة وعظمة قال: لقد ملئ قلبي منه خيفة. هذا التقدير للإمام السجاد يعود إلي ما تتحلي به شخصيته من صفات خاصة مميزة، فعلم غزير في جميع العلوم والمعارف الإنسانية وأخلاق كريمة ونبل وعفة وشهامة، وكرم وسخاء إلي كل معوز ومحتاج من عدو وصديق، وشجاعة نادرة في أحرج المواقف وأصعبها، وفقه وورع وتقي في سبيل الله، وصبر وكظم الغيظ من أجل رضي الله. ولا ريب أنه من كان مع الله فإن الله معه. جاء في رواية السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فجهد أن يصل إلي الحجر الأسود عند الطواف فلم يقدر عليه من كثرة الزحام فنصب له من كان معه منبراً في ناحية من نواحي الحرم وجلس عليه ينظر إلي الناس حتي يخف الزحام عن الحجر ليلمسه، ووقف حوله أهل الشام. في هذه الأثناء أقبل الإمام علي زين العابدين (عليه السّلام) وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً علي حد تعبير السبكي فطاف في البيت فلما بلغ الحجر انفرج له الناس عنه وأفسحوا له المجال ووقفوا إجلالاً له وتعظيماً حتي إذا استلم الحجر وقبله والناس ينظرون إله واجمين. فلما مضي عنه عادوا إلي طوافهم. هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام تتحرق غيظاً وحسداً. التفت رجل من أهل الشام وسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة. فقال هشام: لا أعرفه!! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق الشاعر حاضراً، فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق ومضي في وسط تلك الجموع المحتشدة يقول علي البديهة: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها: إلي مكارم هذا ينتهي الكرم ينمي إلي ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضي حياءً ويغضيمن مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم من جده دان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت له الأمم ينشق نور الهدي عن نور غرته كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا الله شرفه قدماً وفضله جري بذاك له في اللوحة القلم فليس قولك: من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عمّ نفعهما يُستوكفان ولا يعروهما العدم سهل الخليقة، لا تخشي بوادره يزينه اثنان: حسن الخلق والكرم حمّال أثقال أقوام إذا قدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أريب حين يعتزم ما قال لا قط: إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم عم البرية بالإحسان فانقلعت عنه الغيابة والاملاق والعدم من معشر حبهم دين، وبغضهم كفر وقربهم منجي ومعتصم إن عد أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل: هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا مكا أزمة أزمت والأسد أسد الشري والبأس محتدم لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا يستدفع السوء والبلوي بحبهم ويستزاد به الإحسان والنعم مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بدء ومختوم به الكلم يأبي لهم أن يحل الذم ساحتهم خير كريم وأيد بالندي هضم أي الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أوله نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا والدين من بيت هذا ناله الأمم [104] . لقد كانت هذه القصيدة صفعة قاسية علي هشام نزلت علي رأسه كالصاعقة، تحدي بها الفرزدق سلطان أولئك الحكام الجبابرة المعتزين بملكهم وجيوشهم وأموالهم وقصورهم ولكن فاتهم أن كل ذلك لم يغنهم شيئاً في ذلك الموقف الذي تتدافع فيه الجماهير من كل حدب وصوب متسابقة للمس الحجر الأسود حتي إذا أقبل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وقف له الناس إجلالاً وتعظيماً وأفرجوا له الطريق واستلم الحجر وقبله بكل يسر. ولما قضي الإمام حاجته وترك المكان عاد الناس يتسابقون ويتدافعون؛ هذا وأهل الشام ينظرون إلي هذا المشهد الغريب وينتظرون من يعرفهم بذلك الشاب الذي هابه الناس وعظموه بعد أن تجاهله خليفتهم وظهر مخجولاً أمام أهل الشام، بعد أن كان يزعم لهم أنه هو وأسلافه الأمويون هم آل الرسول الذي أمر الله بمودتهم وما كان يتوقع هذه الصفعة القوية من أبي فراس. يقول الرواة إن هشام بن عبد الملك لما سمع هذه القصيدة غضب علي الفرزدق وأمر بحبسه بمكان يدعي عسفان، بين مكة والمدينة وأوصي بالتضييق عليه، وأضاف الرواة أنه لما بلغ علي بن الحسين امتداحه أرسل له ألف دينار فردها الفرزدق وقال للرسول: إني لم أقل ما قلت إلا غضباً لله تعالي لا للعطاء ولا آخذ علي طاعة الله أجراً. فأعادها الإمام إليه (عليه السلام) وأرسل إليه: نحن أهل البيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده. فقبلها الفرزدق وبقي في حبس هشام مدة من الزمن وأخيراً هجاه بقصيدة قال فيها: أيحسبني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس تهوي منيبها يقلب رأساً لم يكن رأس سيد وعيناً له حولاء باد عيوبها يقول الرواة إنه لما بلغه هجاء الفرزدق أمر بإخراجه من السجن عله يخرس لسانه ويكف عن الهجاء [105] . فرحم الله الفرزدق رحمة واسعة فلقد كان في موقفه مع هشام بن عبد الملك من أفضل المجاهدين في سبيل الله حسبما جاء عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الذي قال: (أفضل المجاهدين في سبيل الله الحمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر).

فضائله

كان الإمام السجاد يتخلق بأخلاق النبوة، فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وهو من الأئمة المعصومين الذين كلفوا تكليفاً شرعياً من الله عز وجل لتقويم الإعوجاج ورفع الظلم عن الناس من قبل الطغاة والظالمين، وهداية الناس عامة إلي ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وخير مجتمعهم ليعيشوا أمة كريمة حرة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتنشر الرسالة الإسلامية كما أرادها رب العالمين وكما نفذها الرسول الأكرم والعترة الطاهرة من بعده (عليهم السّلام) أجمعين. لقد خطا الإمام زين العابدين خطوة أبيه وجديه من قبله وتخلق بأخلاقهم فساعد وضحي وجاهد وصبر وتجرع كثيراً من الويلات والمحن بهمة عالية وإرادة صلبة ونفس كريمة يحسن إلي الجميع حتي الذين أساؤوا إليه. ولم يكتف بالإحسان إلي من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالي. روي ابن طاووس في الإقبال بسند ينتهي إلي الإمام الصادق (عليه السّلام) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها، فيقول لهم: قولوا يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصي عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت له حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح وهو واقف بينهم يبكي ويقول: (ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولي بذلك منا ومن المأمورين). ثم يقبل عليهم ويقول: (لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني إليكم اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعاً في عفو الله وعتق رقبتي من النار) فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتعينهم عما في أيدي الناس. وكان يقول (عليه السّلام): (إن لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار). جاء في مطالب السؤول عن محمد بن طلحة الشافعي قال: (علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) زين العابدين، وقدوة الزاهدين، وسيد المتقين، وإمام المؤمنين، وسمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفاً، وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده وإعراضه عن متاع الدنيا بزهده ينطق فيها، درَّت له أخلاف التقوي فتفوقها، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدي بها، وآلفته أبراد العبادة فآنس بصحبتها، وحالفته وصايف الطاعة فتحلي بحليتها، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع مفازة الساهرة وظمأ الهواجر دليلاً استرشد به في مغارة الشافرة، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرات وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنه من ملوك الآخرة) [106] . وعن سماحته ونبله وعلو أخلاقه جاء في الطبقات الكبري لابن سعد قال إن عبد الله بن علي بن الحسين (عليه السّلام) قال: لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلي الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلي أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال: إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال: يا بني نكله إلي الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتي تصرم أمره. ولم يكتف السجاد بذلك بل أرسل إليه يعرض عليه من الأموال ما يسعه ويسد حاجته، مع أنه كان لا يخاف إلا منه لكثرة ما كان يسيء إليه وإلي أصحابه. وإذا كان ذلك غريباً عن أخلاق الناس وطبائعهم فليس بغريب علي من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة. وللإمام السجاد أبيات من الشعر مشحونة بالعاطفة الدينية، يرشح منها مناجاة قلبية صعّدها الإمام من صدر حنون يفيض مجبة للقاء وجه الله، وشوقاً للدار الآخرة، وزهداً من هذه الدار الفانية وخوفاً من العقاب، وأملاً في الرحمة والثواب. جاء في مستدرك الوسائل عن طاووس اليماني قال: (رأيت في جوف الليل رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: ألا أيها المأمول في كل حاجة شكوت إليك الضر فاسمع شكايتي ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي فزادي قليل لا أراه مبلغي أللزاد أبكي أم لطول مسافتي أتيت بأعمال قباح ردية فما في الوري عبد جني كجنايتي أتحرقني بالنار يا غاية المني فأين رجائي ثم أين مخافتي فإذا كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بتقاه وصدق عبادته، ولذلك سمي بزين العابدين، والمشهور بفقهه وورعه وأعماله الصالحة يقول: إن زاده قليل وأتي بأعمال ردية فيرجو الله، وهو متعلق بأستار الكعبة، أن يقبل رجاءه، ويقضي حاجته؛ فماذا يقول غيره من المسلمين العاديين وماذا نقول نحن اليوم بعد أن انغمس أكثرنا بملذات هذه الدنيا الفانية، وانجرف الكثير منا نحو تجميع المال متلهياً بالحياة المادية الخالصة. فكيف نواجه خالقنا عندما نقف بين يديه يوم الحساب يوم لا ينفع لا مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا جاه ولا عشيرة، إلا من أتي الله بقلب سليم. فحسبنا الله ونعم الوكيل. وجاء في المناقب عن طاووس أيضاً قال: (رأيته يطوف من العشاء إلي السحر ويتعبد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في عرصات القيامة. ثم بكي وقال: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن سولت لي نفسي وأعانني علي ذلك سترك المرخي به علي، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين: جوزوا وللمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي؟) ثم بكي وقال: (سبحانك تعصي كأنك لا تري، وتحلم كأنك لم تعص، تتودد إلي خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم). ثم خرّ إلي الأرض ساجداً فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته علي ركبتي وبكيت حتي جرت دموعي علي خده فاستوي جالساً وقال: (من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟) فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله قال: (هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشياَ، أما سمعت قوله تعالي: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون) والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح) [107] . فالنسب في الإسلام هو العمل الصالح، فمن عمل صالحاً وأطاع ربه استقام أمره وكسب رضي الله عليه، فالله خلق الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وكل الناس سواسية كأسنان المشط ولا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوي. فالمتقون هم أولياء الله من أي جنس كانوا أو أي لون أو أي عرق، فإن الله معهم ما داموا هم معه فهل لنا بهم وبعلي بن الحسين (عليه السّلام) أسوة حسنة؟ وجاء في مستدرك الوسائل عن الأصمعي قال [108] . كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول: (نامت العيون، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم، غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين). ثم أنشأ يقول: يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوي مع السقم قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيّوم لم تنم أدعوك يا رب دعاءً قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود علي العاصين بالنعم قال فاقتفيته فإذا هو زين العابدين). وله (عليه السّلام) حوار مع نفسه حيث يخاطبها كيف تركن إلي الدنيا ألم تأخذ درساً من الماضين قبلها، فأين أجدادنا وآباؤنا وأين الذين فجعوا ومضوا قبلها؟ أليس يكون لها بهم عبرة؟ روي الزهري عنه (عليه السّلام) في المناقب قال: (يا نفس حتامَ إلي الحياة سكونك؟ وإلي الدنيا ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضي في أسلافك؟ ومن وارته الأرض من آلافك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ثم أنشد: فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنها فيها بوالي دوائر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر [109] . وجاء في حياة الحيوان للدميري: قال الزهري: (ما رأيت قرشياً أفضل منه) وقال أيضاً [110] : (ما رأيت أفقه منه). وقال ابن المسيب: (ما رأيت أورع منه). وقال القندوزي الحنفي: (كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عظيم التجاوز والعفو، والصفح، حتي أنه سبه رجل فتغافل عنه فقال له: إياك أعني، فقال الإمام: وعنك أعرض. أشار إلي الآية الكريمة: (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين) [111] . لم يكتف الإمام السجاد بالإحسان إلي من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم المغفرة من الله سبحانه وتعالي. قال في ذلك: (اللهم إن أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إلي فلم أشكره ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره ومن ذي فاقه سألني فلم أوفره ومن عيب مسلم ظهر لي فلم أستره ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره، واجعل ندامتي علي ما وقعت فيه من الزلات وعزمي علي ترك ما يعرض لي من السيئات توبة توجب لي محبتك يا محب التوابين. وقال أيضاً مثل ذلك: اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه فاغفر له ما ألم به مني واجعل ما سمعت به من العفو عنهم وتبرعت به من الصدقة عليهم في أزكي صدقات المتصدقين وأعلي صلات المتقربين، وعوضني من عفوي عنهم عفوك حتي يسعد كل واحد منا بفضلك وينجو كل منا بمنك. ومع كل ما قدم وضحي وأعطي وأحسن يري نفسه مقصراً في حقوق الناس، كان صدره واسعاً جداً يستوعب كل هفواتهم ويتسع لكل انحرافاتهم ويسامح ما كان يتجمع في صدورهم من غش وطمع وحقد. يعاملهم بما عنده هو وليس بما عندهم إن البحر الكبير لا تعكر صفوه بضعة أنهار صغيرة تصب فيه، والجسر المتين يتحمل الكثير من الأثقال مهما كانت كبيرة ويبقي صامداً جامداً علي مدي الدهور. وبائع العطر يتلذذ بما يحمل ويؤنس الآخرين بروائح وروده الجميلة. والنور الساطع يري صاحبه معالم الطريق ويكشف المزالق والعثرات أمام المشاة التائهين. والشجرة القوية العتيقة جذورها ثابتة في الأرض لا تؤثر فيها الرياح مهما كانت عنيفة، يراشقها المارة بالحجارة فتنزل لهم ثمارها بكل رحابة صدر. والغيمة المثقلة بالغيث سوف تسقط بخيراتها العميمة علي جميع بقاع الأرض لا تفرق بين بقعة وأخري.

ما قاله العظماء في سيد الحكماء

أجمع أهل العلم والأدب علي اختلاف ميولهم ونزعاتهم علي أفضلية أهل البيت (عليهم السّلام)، فقد كانوا ينبوعاً فياضاً بالعلم والحكمة، ومنهلاً عذباً للخير والعطاء، ورصيداً هاماً في الأدب والمعرفة. ولم تجتمع الأمة بأسرها علي أفضلية أحد كاجتماعها علي أفضلية أئمة الهدي (عليهم السّلام). ومما يلاحظ أن ما كتبه عنهم كبار العلماء من غير الشيعة أكثر مما كتبه عنهم شيعتهم ومواليهم وهذا دليل واضح أنهم مركز الثقل الذي تركه الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بين ظهراني الأمة، حيث جعلهم حكاماً علي العباد وخلفاء له (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي الناس. هذه العترة الطاهرة تبدأ بأمير المؤمنين (عليه السّلام) وتختتم بالإمام المهدي (عليه السّلام) اثنا عشر خليفة معصوماً. وجدير بنا أن نرجع إليهم آخذين بتعاليمهم، متبعين لأوامرهم، لنحقق ما نصبوا إليه من خير وسعادة. وهذه مختارات من كلمات كبار العلماء في الإمام السجاد علي زين العابدين بن الإمام الحسين (عليهما السّلام). 1 - قال علي بن عيسي الأربلي: (فإنه (عليه السّلام) الإمام الرباني، والهيكل النوراني، بدل الأبدال وزاهد الزهاد، وقطب الأقطاب، وعابد العباد، ونور مشكاة الرسالة ونقطة دائرة الإمامة، وابن الخيرتين [112] والكريم الطرفين قرار القلب، وقرة العين، علي بن الحسين. وما أدراك ما علي بن الحسين: الأواه الأواب، العامل بالسنة والكتاب، الناطق بالصواب، ملازم المحراب، المؤثر علي نفسه، المرتفع في درجات المعارف، فيومه يفوق علي أمسه، المنفرد بمعارفه، الذي فضل الخلائق بتليده وطارفه، وحكم في الشرق فتسنم ذروته، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد، وكرم المحتد، وزكاء الأرومة، وطهارة الجرثومة، عجز عنه لسان واصفه، وتفرد في خلواته بمناجاته، فتعجبت الملائكة من مواقفه، وأجري مدامعه خوف ربه [113] . 2 - وقال الواقدي: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل، وكان إذا مشي لا يخطر بيديه [114] . 3 - وقال سفيان بن عينية: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه [115] . 4 - وقال الإمام مالك: سمي زين العابدين لكثرة عبادته [116] . 5 - وقال نافع بن جبير: إنك سيد الناس وأفضلهم. 6- وقال عمر بن عبد العزيز وقد قام من عنده علي بن الحسين (عليهما السّلام): من أشرف الناس؟ فقالوا: أنتم. فقال: كلا، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً، من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد [117] . وقال أيضاً في موضع آخر: سراج الدنيا، وجمال الإسلام، زين العابدين [118] . وقال الزهري: ما رأيت أحداً أفقه من زين العابدين [119] . وقال طاووس اليماني: (دخلت الحجر في الليل فإذا علي بن الحسين (عليهما السّلام) قد دخل يصلي ما شاء الله تعالي، ثم سجد سجدة فأطال فيها، فقلت: رجل صالح من بيت النبوة لأصغين إليه فسمعته يقول: عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك. قال طاووس: فوالله ما طلبت ودعوت فيهن في كرب إلا فرج عني) [120] . وقال جابر الأنصاري: والله ما رؤي في أولادي الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب (عليه السّلام) والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، وإن منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً [121] .

قبسات من مواعظه

للإمام زين العابدين جولات ناجحات (عليه السّلام) في المواعظ التي تعد من أعظم الأرصدة الروحية، ومن وانجح الأدوية في معالجة الأمراض النفسية التي تؤدي بالإنسان إلي التردي في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة. وقد اهتم (عليه السّلام) كثيراً بوعظ الناس وأثر عنه الكثير من المواعظ التي وعظ بها أصحابه وأهل عصره، وهي لا تزال حية تحذر الناس من الغرور والطيش وتدعوهم إلي سلوك السبيل الحق في حياتهم الفردية والاجتماعية. كما أثرت عنه حكم تهدف إلي تهذيب النفوس وإصلاحها، وتوازن الشخصية الإنسانية وازدهارها، وغرس النزاعات الكريمة التي تقضي علي الأنانية والحسد والبغي والشر والتعدي علي حقوق الآخرين. وله مواعظ هامة تدعو إلي الاتجاه إلي الله تعالي أنبل مقصد وأكرم ملجأ، رحمان رحيم، ينجي الإنسان من كل إثم وشر في هذه الحياة الفانية، ويطلب إليه التزود إلي دار الآخرة التي هي المقر الدائم لكل الخيرين من عباد الله الصالحين. وسوف نعرض لبعض ما روي عنه في ذلك: 1 - قال عليه السلام: (يا بن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان لك الخوف شعاراً، والحزن لك دثاراً. يا بن آدم إنك ميت مبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل، ومسؤول فأعدَّ جواباً..) [122] . يدعو الإمام (عليه السّلام) الإنسان لأن يقيم في أعماق نفسه واعظاً منها يعظها ويحاسبها علي كل ما يصدر منها من زلات وهفوات ذلك أنه مبعوث يوم القيامة، يوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا ما أتي الله من قلب سليم؛ حيث يحاسب كل إنسان علي جميع ما اقترفه في حياته من إثم وشر. وعلي كل إنسان أن يحاسب نفسه فيجعل منها رقيباً عليها، فيزجرها عندما تهوي به المزالق الرخيصة والنزاعات الفاسدة التي تغرق صاحبها في وحول الحياة المادية، وعندها يتزود بخير زاد إلي خير معاد. 2 - ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة التي كان يعظ بها أصحابه قال (عليه السّلام): (أحبكم إلي الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم في ما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم علي عياله، وإن أكرمكم علي الله أتقاكم لله تعالي...) [123] . لقد أهتم الإمام (عليه السّلام) اهتماماً بالغاً بمحاسن الأخلاق لذلك طلب إلي أصحابه أن يتحلوا بأحسن الصفات وأن يقوموا بذخائر الأعمال ثم دلهم علي السبيل الذي ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة من أجل ذلك عليهم أن: أ - يتقنوا أعمالهم ويحسنوها فعلي المؤمن إذا أراد عملاً أن يكمله ويتقنه. ب - يرغبون في ما عند الله وهي من أعظم الذخائر، أما الرغبة إلي غيره تعالي فإنها تؤول إلي الخيبة والخسران. ج - لا يخافوا إلا الله وأن لا يخشوا إلا هو، فمن أراد النجاة من عذابه تعالي عليه أن يشعر قلبه بالخشية من عزته وجلاله، فهي تصد الإنسان من اقتراف الشر أو الإثم. د - أن يوسعوا أخلاقهم تجاه الآخرين لأن بحسن الأخلاق يتميز الإنسان عن غيره ومن فقد أخلاقه فقد إنسانيته. هـ - يتوسعوا علي عيالهم فينفقوا عليهم مما كسبت أيديهم رزقاً حلالاً، وهذا ما يوجب المحبة والمودة والألفة بين أفراد الأسرة، الخلية الأولي في بناء لمجتمع الإنساني. ح- يتقوا الله، فتقواه تعالي هي الميزان الأصيل في الإسلام وقد دعانا الله في آيات كثيرة إلي التقوي التي هي من الإيمان. قال تعالي: (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [124] . وجاء في القرآن الكريم الآية: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمن أراد أن يكون مكرماً عند الله عليه بالتقوي فهي سفينة النجاة وجسر العبور إلي رضوانه عز وجل. 3 - ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة الشاملة لمواضيع عدة مؤثرة. قال عليه السلام: (كفانا الله وإياكم الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين، أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت واتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها، وعلي حطامها الهامد [125] ، وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلي ما في هذه الدنيا ركون من أعدها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها دليلاً من زينتها وتصريف أيامها، وتغييراً نقلاً بها، ومثلا منها). يحذر (عليه السّلام) من الخضوع للطواغيت والظالمين وأتباعهم من المفتونين بحب الدنيا، والمغرورين بزينتها وبهجتها، هؤلاء جميعاً كانوا من المخربين الذين وقفوا عائقاً علي مناهضة الإصلاح الاجتماعي، ونشر الظلم والفساد في الأرض. ويتابع (عليه السلام): (تلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه) يذم الدنيا ويندد بطبيعتها لأنها ترفع الخاملين، وتضع الأحرار والشرفاء، ثم تدفع أقواماً إلي النار، لانحرافهم عن الحق. وإذا كانت طبيعة الدنيا مناصرة الرذائل ومعاكسة القوي الخيرة فالأجدر الزهد فيها، والتجافي عن شهواتها والسعي للظفر بنعيم الآخرة. ثم يتابع الموعظة (عليه السّلام): (وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان [126] ، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها، وتذهلها عن موجود الهدي، ومعرفة أهل الحق إلا قليلاً ممن عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان علي ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتعظ بالعبر، وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعي لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين، فعند ذلك نظر إلي ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة النظر، وأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة، فقد لعمري، استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلون به علي تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق، فاستعينوا بالله، وارجعوا إلي طاعته، وطاعة من هو أولي بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع). أبدي (عليه السّلام) ما كانت تواجهه الأمة في عصره الكثير من ألوان الأسي المرير والفتن المذهلة، وحوادث البدع، وطرق الجور من قبل الحكام الأمويين الذين أغرقوا البلاد بالفتن والظلم والتعسف. فكان وقع تلك الأحداث شديداً علي الأمة، فقد ثبطت القلوب عن نياتها، وأبعدتها عن طريق الحق والرشاد. ثم تابع محذراً (عليه السّلام) (فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة، والقدوم علي الله، والوقوف بين يديه، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلي عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا علي الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، فحثه الخوف علي العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم، الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا إليه وقد قال الله تعالي: (إنما يخشي الله من عباده العلماءُ) [127] فلا تلتمسوا شيئاً في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقل للتبعة، وأدني من العذر، وأرجي للنجاة، فقدموا أمر الله وطاعته، وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته، وطاعة أولي الأمر منكم، واعلموا أنكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً، وهو موقفكم، ومسائلكم، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض علي رب العالمين، يومئذٍ لا تكلم نفس إلا بإذنه). يدعو الإمام (عليه السّلام) إلي طاعة الله تعالي، وطاعة أئمة الحق والهدي الذين يهدون الناس إلي الصراط المستقيم ويهدونهم إلي سبل النجاة، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها، ويحققون لها جميع ما تصبو إليه من العزة والحرية والكرامة. كما دعا (عليه السّلام) إلي التمرد علي أئمة الجور الظالمين وعدم الركون إليهم أو التعاون معهم، لأن التعاون كما أراده تعالي، هو مع البررة الأتقياء وليس مع الفجرة السفهاء. (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) [سورة المائدة: الآية2]. ثم يتابع (عليه السّلام): (واعلموا أن الله لا يصدق كاذباً ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، بل لله الحجة علي خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادماً قد ندم علي ما فرط بالأمس في جنب الله وضع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي الله، ونار تلهّب، تأكل أبداناً، قد غابت عنها أرواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتي لا يجدون حر النار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدو الله علي ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة لله إلي غير قدرته، وسيري الله عملكم ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين) [128] . حث المؤمنين (عليه السّلام) علي تقوي الله وطاعته لأنهما أساس سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فبهما يستقيم سلوكه ويكون محترماً كريماً بين قومه، وعن طريقهما تزدهر حياته ويكسب رضي الله تعالي وسعادته التي ما بعدها سعادة. تعد هذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام (عليه السّلام) ذلك أنها لم تقتصر علي الدعوة إلي الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، وإنما كانت من الوثائق الاجتماعية والسياسية والأدبية. 4 - ومن مواعظه أيضاً: سأله رجل فقال له: كيف أصبحت يا بن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال (عليه السّلام): (أصبحت مطلوباً بثمانٍ: الله يطالبني بالفرائض، والنبي يطالبني بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب) [129] . إذا تأملنا ملياً أبعاد الحياة رأيناها محاطة بهذه الأمور الثمانية، وإذا نظرنا إلي ما حولنا وجدنا أكثر الناس يحتفلون بمباهجها ويهتمون بزينتها ومفاتنها، لكنهم لو تبصروا أكثر وأمعنوا الفكر لصمموا علي الزهد فيها لأنها فانية زائلة لا تدوم. 5 - وفي هذا المجال قال (عليه السّلام) الموعظة التالية: (لو كان الناس يعرفون جملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلي كل حال سوي حالهم، وعلي أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بني مغمور بالجهل ومفتون بالعجب ومعدول بالهوي من باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم) [130] . لو أمعن الإنسان النظر وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيماناً لا يخامره الشك بأن هناك خالقاً للكون ومدبراً له يخضع كل شيء لإرادته وقضائه، وإذا آمن ذلك لوجد برد اليقين في نفسه وعاش آمناً مطمئناً لكثير من المشاكل والمصاعب التي تعترضه في حياته القصيرة الأمد، ولكن هل يعتبر؟ وأني له ذلك وهو يعيش في غمرة الجهل يضله الهوي عن تعلم الحقائق ويبعده عن الوصول إلي الحق.

انوار من تعاليمه

اشاره

أدلي الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بالكثير من التعاليم القيمة الرفيعة التي تدل علي خبرة كاملة لواقع الحياة وعمق بعيد في شؤونها وشجونها؛ كما يرشح من تعاليمه الحكيمة خبرته الواسعة بأحوال الناس وأمورهم ومعاشهم وكل ما يتعرضون له من أمراض نفسية وسياسية ودينية وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

ذم التكبر

التكبر ظاهرة سيئة لأنها باب لكل شر ومصدر لكل رذيلة لذلك ذم الإمام (عليه السّلام) التكبر ونعي علي المتكبر الذي لا يري غيره يستحق الحياة، ومن ثم يقوم بالظلم والاعتداء علي الناس. يقول (عليه السّلام): (عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غداً جيفة). فالمتكبر علي الناس الفخور بنفسه، لو تأمل ذاته قليلاً ونظر إلي بداية تكوينه نطفة، ثم إلي نهاية مصيره، جيفة، لما تكبر علي الناس بماله أو بنيه! ليته تذكر قول الإمام علي (عليه السّلام): (إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق) أو تذكر قول الله عز وجل: (ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون) [131] . المتكبرون صموا آذانهم عن قول الله تعالي رب العرش العظيم: (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) [132] أي لا تمشِ في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطئك مهما شمخت بأنفك، فإنك ضعيف ضعيف وقصير قصير لن تبلغ الجبال طولاً! فاعرف نفسك، وقدر قدرك وزن الأمور بميزان العقل المتنور بنور الإيمان وزيت الحكمة وعبق الرحمة وحسن الإدراك والتقدير. فالله تعال فاطر السماوات والأرض هو العزيز الحكيم ولا يحب كل مختال فخور قال تعالي: (ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور) [133] . فالمتكبر يكرهه عباد الله في الدنيا ويكرهه الله في الآخرة، فهو خاسر الدارين لذلك عد التكبر في الإسلام من الصفات الذميمة التي تفسد المجتمع الإنساني وتورث الفرقة والبغضاء.

الابتهاج بالذنب

قال (عليه السّلام): (إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه). بعض الناس يخطئون مع الآخرين من أهلهم أو أصحابهم أو جيرانهم لكنهم بعد وقوع الخطأ تؤنبهم نفسهم فيتراجعون عن خطئهم ويعتذرون لسوء فعلتهم. والبعض الآخر يرتكبون الأخطاء الكبيرة والذنوب الفادحة ثم يفتخرون بما كسبت أيديهم من الآثام ويتباهون بذنوبهم بلا خجل و لا حياء. هؤلاء قد يكونون من أصحاب السلطة أو الجاه أو أصحاب الثروات الطائلة فلا يأبهون لانتقاد الناس لهم ولا يحترمون حقوق غيرهم، لأنهم يتوهمون أن الجميع بحاجة إليهم وإلي خدماتهم. وإننا نجد منهم الكثير في حياتنا اليوم من الذين خدمهم الحظ وتسلموا مناصب عالية في هذا الزمان البائس. وقد نجد حولهم أنصاراً يحفون بهم ويسترون عليهم عيوبهم، وهم من طينتهم لا يهمهم سوي مصالحهم الشخصية ولذاتهم القريبة المنال. هؤلاء الفئة المخربة في المجتمع، حذرهم الإمام من الابتهاج بذنوبهم لأن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه, وبعد هذا التحذير عمد (عليه السّلام) إلي تعداد الذنوب التي توجب سخط الله وعذابه فحذر منها ليكون الإنسان في سلامة من دينه وآخرته. قال (عليه السّلام): (الذنوب التي تغير النعم البغي علي الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم وترك الشكر، قال الله تعالي: (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) [134] فالبغي علي الناس من الذنوب التي تغير النعم والذنوب التي تورث الندم، قتل النفس التي حرم الله، قال تعالي في قصة قتل قابيل لأخيه هابيل وعجزه عن دفنه: (فأصبح من النادمين) [135] . لقد ترك صلة القرابة والرحم طمعاً بهذه الدنيا الفانية وترك الوصية ورد المظالم وترك الصلاة ومنع الزكاة حتي يحضر الموت (فلات ساعة مندم). والذنوب التي تنزل النقم: عصيان العارف، والتطاول علي الناس، والاستهزاء بهم، والسخر بهم، والذنوب التي تدفع النعم إظهار الافتقار، والنوم علي العتمة [136] ، وعن صلاة الغداة واستحقار النعم وشكوي المعبود. والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب. والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، واتباع الأشرار. والذنوب التي تعجل الفناء: قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والأقوال الكاذبة والزنا، وسد طرق المسلمين، وادعاء الإمامة بغير حق. والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والثقة بغير الله، والتكذيب بوعد الله. والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة، والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين. والذنوب التي تكشف الغطاء: الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة علي الباطل، والبخل علي الأهل والولد وذوي الأرحام وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر والاستهانة بأهل الدين. والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان، وترك الصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتي تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلي الله عز وجل بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرض والماعون وقساوة القلوب علي أهل الفقر والفاقة وظلم اليتيم والأرملة وانتهار السائل ورده بالليل..) [137] . لقد حذر الإمام (عليه السّلام) من اقتراف هذه الذنوب علي اختلاف أنواعها ودرجاتها، والجرائم التي توجب انحراف الإنسان في سلوكه وتبعده عن خالقه، وما ينتج عن ذلك من آثار وضيعة ومضاعفات سيئة في الدنيا والآخرة. والحقيقة أن هذا الحديث وأمثاله هو من المناجم الخصبة في التربية النفسية والسلوك الاجتماعي وتنظيم الحياة في توازنها وعدالتها. ثم استكمال الموضوع في شتي جوانبه وإصابة الهدف الذي يرمي إليه وتحقيق الغاية في إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع، سيما وأن الإمام عاش في عصر تسوده الانحرافات في الدين والأخلاق والآداب، ويسوسه حكام ظالمون طغاة لا يفقهون من الدين إلا اسمه ولا يعرفون من الحق إلا رسمه فكان من واجب الإمام السجاد أن يقوم بدوره الإصلاحي ليقوم الإعوجاج ويصلح ما أفسده الأمويون في رسالة جده يريد أم يكمل الطريق الذي رسمه والده سيد الشهداء (عليه السّلام).

العدالة

إن اكتشاف المؤمنين أمر لازم وضروري في نظر الإمام السجاد وفي أيامنا هذه يري الإنسان نفسه في خضم معارك طاحنة تخوضها الحركات والتيارات السياسية والاجتماعية متآمرة علي الإسلام حيث تسيَّر بطرق خبيثة أقل ما تتصف به اللؤم والدهاء. في هذا العالم اليوم تفتقد الشخصية الإنسانية صفاءها ونقاءها وطهرها، فقد كثر الرياء وتغشي النفاق، وذهبت نصيحة الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) (طوبي لمن تساوت سريرته وعلانيته) أدراج الرياح. في أيامنا هذه أصبحت المسؤولية ثقيلة علي عاتق المؤمنين الرساليين حيث أضحي أول همهم معرفة من يحيطون بهم معرفة كاملة حتي تتوافر الثقة فيما بينهم ثم بعد ذلك يستطيعون أن يعملوا ويجاهدوا في سبيل الله بكل ثقة وطمأنينة وإخلاص... فكيف يمكن أن نتعرف علي المؤمنين المخلصين؟ وكيف نكتشف المندسين المشبوهين؟ هذا ما يبينه لنا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في حديثه التالي حيث يوضح لنا فيه العلامات المميزة لمن آمن واعتقد بالإسلام. قال عليه السلام: (إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته، وهديه، وتمادي في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا، وركوب الحرام منها، لضعف بنيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً له، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من يتأبي عن الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً، فإذا رأيتموه كذلك فرويداً لا يغرنكم حتي تنظروا عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلي عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله... فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتي تنظروا أيكون هواه علي عقله أم يكون عقله علي هواه؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا! ويري أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة، حتي إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطله إلي أبعد غايات الخسارة، ويمد به بعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم عذاباً أليماً. ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في قضاء الله، يري الذل مع الحق أقرب إلي عز الأبد مع العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدي إلي دوام النعيم في دار لا تبيد، ولا تنفد، وإن كثيراً ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي به إلي عذاب لا انقطاع له، ولا زوال، فذلك الرجل تمسكوا به، واتقدوا بسنته، وإلي ربكم توسلوا به، فإنه لا ترد له دعوة، ولا يخيب من طلبه..). استهدف هذا الحديث معرفة العدالة التي تعد من أجل الملكات النفسية لأن بها يتحرر الإنسان من أوضار المادة ومغريات النفس وشهواتها، ويسمو فوق الطين إلي أعلي الدرجات وأنبلها، وبذلك لم يعد عليه أي سلطان من النزاعات الفاسدة كما يستهدف أيضاً أن معرفة الرجل العادل الكامل في ورعه وتقواه ينبغي أن تستند إلي امتحان دقيق وخبرة شاملة لا إلي نظرة خاطفة ورأي سريع. من هذه الصفات التي نستشفها من خلال هذا الحديث: أ - حسن السمت: ليس دليلاً كافياً علي العدالة والتقوي والأناقة في المظهر ليست دليلاً علي حسن الجوهر. ب - إظهار الإصلاح: وهذا لا يعد دليلاً كافياً علي عدالة المسلم. لأنه قد يكون خداعاً ورياءً، واتخذ الدين وسيلة لنيل مآربه وتحقيق أطماعه وشهواته بعد أن عجز عن الظفر بها بسائر الوسائل الأخري. ج - الامتناع عن المال الحرام: وهذا أيضاً ليس دليلاً علي التقوي، فقد يرغم نفسه علي ذلك ويحملها علي تحقيق أغراضه الشخصية التي لا صلة لها بالدين أصلاً [138] . أما الوسائل التي يستكشف بها كمال الورع والثقة في الدين فهي: أ - اتباع أوامر الله، والانقياد الكامل لطاعته تعالي حيث توجه جميع طاقات المؤمن للحصول علي مرضاة الله والتقرب إليه، فالرجل العادل هو العبد الصالح التقي الذي تنبعث عدالته عن فكر وتأمل وإيمان. ب - الزهد في طلب الإمارات الباطلة لأن ذلك من أوثق الدلالات علي العدالة والتقوي. ج - أن يغلب عقل الإنسان شهواته وهواه. يعتبر هذا الحديث من أرقي مراتب العدالة في الفقه والمرجعية [139] . فما هي صفات المؤمن وما هي صفات المنافق؟ لقد بين الإمام زين العابدين (عليه السّلام) صفات المؤمنين وصفات المنافقين بالحديث التالي، قال: (المنافق ينهي ولا ينتهي، ويأمر ولا يأتي، إذا قام للصلاة اعتراض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، يمسي وهمه العشاء، ولم يصم، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر. والمؤمن خلط علمه بحلمه، يجلس ليعلم، وينصت ليسلم لا يحدث بالأمانة للأصدقاء، ولا يكتم الشهادة للبعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياءاً، ولا يتركه حياءاً، إذا زكّي خاف مما يقولون: ويستغفر الله لما لا يعلمون، ولا يضره جهل من جهله) [140] . نستنتج من هذا الحديث أموراً عدّة عن المنافق وعن المؤمن، فمن صفات المنافقين: أ - المنافق يأمر بالمعروف ولا يأتي به، وينهي عن المنكر ولا ينتهي عنه، لأنه لم يكن يؤمن بذلك من أعماق نفسه، فهو يأمر وينهي للخداع والنفاق ليوهم الناس بأنه من خيارهم. ب - إذا قام للصلاة اعترض علي تشريعها، كما أنه إذا ركع في صلاته هوي إلي الأرض، ربض، كالحيوان وأما سجوده فهو غير مستقر فيه، فمثله كمثل الطائر عند نقره الطعام. ج - أشبه ما يكون بالبهيمة التي همها علفها، طعام ونوم وهو كذلك يصبح ويمسي ولا هم له سوي الطعام يعيش ليأكل وينام. أما عن شخصية المؤمن وما تتحلي به من صفات فهي: أ - تتحلي شخصية المؤمن بعنصرين أساسيين: العلم والحلم، فهو عالم وحليم، ومن اجتمعت فيه هاتان الصفتان بلغ أعلي مراتب الكمال في حياته الشخصية والاجتماعية. ب - إذا جالس الناس يتعلم منهم العلم والحكمة، ولا يجلس في مجالس اللهو والبطالة التي تحط من كرامته وتضيع وقته هدراً بلا فائدة. ج - يحفظ لسانه، فإذا نصت لأحد فإنما ليسلم منه، ويأمن شره والاعتداء عليه. فلا يخوض في كل حديث؛ ولا يدخل في مواطن الشبهات متجنباً مجالسة الفاسقين. د - يحفظ السر ولا يفشيه لأحد حتي لأقرب الناس إليه إذا استؤمن علي شيء كتمه. هـ - يعمل باقتناع وإيمان، فإذا قام بعمل لا يعمله رياءً وإنما خالصاً لوجه الله العلي القدير. و - إذا تحمل الشهادة يدلي بها ولا يكتمها مهما كانت النتائج. ز - إذا نعت ببعض الأوصاف الشريفة فلا يغتر ولا يتعالي ولا يخاف أن لا يكون قد اتصف بذلك، بل يستغفر الله لمن أطلق عليه تلك الأوصاف. ح - لا يهتم بمن جهله ولا يقيم له وزناً، لأن الحقيقة سوف تبان وتظهر للعيان. هذه الصفات التي يتحلي بها المؤمن تدل علي سمو ذاته، وكمال شخصيته، وعلو مكانته في الدنيا والآخرة.

افضل الأعمال عند الله

سئل الإمام (عليه السّلام) عن أفضل الأعمال عند الله، فقال: (ما من عمل أفضل عند الله تعالي بعد معرفة الله، ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك شعباً كثيرة، وإن للمعاصي شعباً، فأول ما عصي الله به: الكبر: وهو معصية إبليس حيث أبي، واستكبر، وكان من الكافرين. والحسد: وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرياسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، وحب الثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك... حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنيا بلاء..) [141] . الحقيقة التي تحف بنا وتتملكنا حبنا للدنيا وتهالكنا علي مفاتنها ومغرياتها. فالأخطار التي يمني بها الإنسان من سبب تهالكه علي الدنيا التي تجر له الكثير من المعاصي والآثام، فنتخبط في شر عظيم، وفتن كبيرة وبلاء خطير. لذلك حذرنا الإمام (عليه السّلام) من حب الدنيا وآفاتها الكثيرة التي منها: 1 - التكبر، 2 - الحسد، 3 - حب النساء، 4 - حب الرياسة، 5 - حب الراحة، 6 - حب الكلام: ويعني الكلام فيما لا يعني الإنسان ولا يهمه، 7 - حب العلو: يعني العلو علي الآخرين والتكبر، 8 - حب الثروة: تجميع المال وتكديسه بأي طريقة. هذه الآفات الفردية والاجتماعية قد جعلت الإنسان يسلك طرقات خطرة، ومنعطفات أغرقته في بؤرة من الآثام، وأعمت بصيرته عن رؤية الحق، فبات غريباً عن الإسلام، منبوذاً في مجتمعه وبين قومه.

حقيقة الموت

وصفه الإمام (عليه السّلام) بالنسبة للمؤمنين والكافرين فقال: (الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة، وفك أغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأوطأ المراكب. وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل من منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظمها..) [142] . وردت أحاديث كثيرة متواترة عن الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فإذا حل الموت بالمؤمن فإنه يري الأمر طبيعياً، ويجد بذلك الراحة الكبري لأنه ينتقل إلي نعيم الآخرة، إلي جنة عدن، يتبوأ الفردوس حيث يشاء. وأما الكافر فإذا حل الموت به فإنه يري نفسه في ضيق شديد ويواجه الموت بحسرات وآلام وخوف لأنه ينتقل من الجنة إلي سجن موحش وعذاب دائم.

الزهد

سئل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن الزهد فأجاب: (الزهد عشرة أشياء، فأعلي درجة الزهد أدني درجة الورع، وأعلي درجة الورع أدني درجة اليقين، وأعلي درجة اليقين أدني درجة الرضا [143] ، ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله قوله تعالي: (لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) [144] . حفل هذا الحديث بحقائق هامة من المعرفة التي تنور عقل الإنسان وتشرح صدره للتلقي وفهم معاني الحياة علي حقيقتها، بعض هذه الحقائق العرفانية: أ - إن أسمي درجة الزهد لا تعادل أدني درجة من الورع عن محارم الله الناشئ عن ضبط النفس، والسيطرة عليها. ب - وأرقي درجة من الورع هي أدني درجة من اليقين بالله تعالي الذي هو من أسمي مراحل الإيمان. ج - وأعلي مرتبة من اليقين هي أدني درجة من الرضا بما قسم الله تعالي فإنه جوهر الإيمان. د - حقيقة الزهد حوته الآية الكريمة التي حذرت من الحسرة والأسي علي ما يفوت الإنسان من المنافع في دار الدنيا، كما حذرت من الفرح والابتهاج بما يكسبه الإنسان ويظفر من ملذات هذه الحياة ومفاتنها المادية، التي تؤول إلي تراب.

الحب في الله

دعا الإمام (عليه السّلام) المسلمين عامة إلي التحاب والمودة فيما بينهم خالصة لوجه الله تعالي لا يشوبها شائبة من شؤون المادة التي لا تلبث أن تزول وتتلاشي بوقت قريب. قال(عليه السّلام): (إذا جمع الله الأولين والآخرين نادي مناد يسمعه الناس يقول: أين المتحابون في الله؟ فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: إذهبوا إلي الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم عن العمل الذي جازوا به إلي الجنة، فيقولون: نحن المتحابون في الله، فيقولون: وأي شيء كان أعمالهم؟ فيقولون: كنا نحب في الله ونبغض في الله فيقولون لهم: نعم أجر العاملين). إن الحب في الله هو الحب الأصيل وهدفه في الحياة هو الهدف الشريف والمحب في الله عبد صالح يحب في الإنسان العمل الصالح فلا يأبه لمصلحة دنيوية رخيصة ولا لغاية شخصية دنيئة يهدف من ورائها تحقيق أطماعه الخاصة. والبغض في الله هو كذلك، بغض للانحراف عن الحق وبغض للجهل والضلالة، وبغض للظلم والظلامة. والمبغض في الله غايته التقويم والإصلاح حتي تستقيم الأمور المحقة وتنشر العدالة رايتها علي كافة الربوع الإسلامية. من هنا كان الحب في الله عاملاً موحداً يجمع بين قلوب المؤمنين ويوحد صفوفهم ضد أعداء الله، ويجمعون أمرهم حول هدف واحد يجمع ولا يشتت، ويوحد ولا يفرق لأنه ناشئ عن الإيمان العميق بالله تعالي الذي (يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو علي كل شيء قدير).

من غرر أجوبته

اشاره

هذا غيض من فيض الذي سجله المؤرخون وأهل التراجم والسير من نصائح ومواعظ تعتبر سلماً إلي مرتقي الكمال ومنهجاً حياً لحياة جميع الناس وصلة وصل بين العبد وخالقه. ويعيش المؤمن بوحيها بعيداً عن غوغاء الدنيا وقريباً من الله تعالي. وهذه بعض ما ورد من أجوبة الإمام السجاد عن مسائل وردت عليه جاءت عن تفسير بعض آي الذكر الحكيم أو عن توضيح أمور فقهية تشريعية أو عن قضايا دينية وغيبية لا يحسن الرد عليها إلا أهل البيت، أهل العلم والمعرفة. 1 - سئل (عليه السّلام) عن العصبية فأجاب: العصبية هي التي يأثم عليها صاحبها فيري الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن العصبية أن يعين قومه علي الظلم) [145] . العصبية هي التي فرقت بين العرب في الماضي وما زالت موجودة عند العرب وعند غيرهم في عصرنا الحاضر، عند الدول التي تسمي نفسها متحضرة حيث نجدها بأبشع صورها وأشكالها. ففي أمريكا مثلاً تمثلت العصبية البغيضة بين البيض والسود فصاحب البشرة السوداء محروم من كافة حقوقه التي يتمتع بها المواطن الأمريكي الآخر صاحب البشرة البيضاء. وكل ذنبه أن خَلْقه وشكله يختلفان عن خلق وشكل المواطن الأمريكي الأبيض كل ذلك بسبب العصبية البغيضة التي لا تقيم وزناً للإنسان في إنسانيته وكرامته وحريته. أين هؤلاء من تعاليم الإسلام الإنسانية النبيلة؟ أين هؤلاء من الأخوة التي نادي بها الإسلام وطبقها المسلمون المؤمنون؟ يعتمد الإسلام في ميزانه العادل علي مقياس تشريعي إلهي يقدر ما للمخلوق من حقوق فردية لا ينازعه فيها منازع، ويفرض عليه واجبات عليه تأديتها كاملة غير منقوصة. قال الله تعالي في كتابه العزيز: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) [146] . وقال الرسول الأكرم: (لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أسود وأبيض إلا بالتقوي) فالتقوي في الإسلام هي الميزان فقط. وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في وصيته لمالك الأشتر قبل أن يتجه والياً علي مصر: (...فإن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق). والإمام زين العابدين هو حفيد أمير المؤمنين سار علي خطي أبيه وجده (عليهما السّلام). فقد رفض العصبية لأنها تفرق بين الناس وتوهن العلاقات الاجتماعية في المجتمع الواحد. أما العصبية لقومه عندما يعينهم علي الظلم فيبعدهم عنه ويمنعهم ليكونوا من الظالمين. لكن إذا أحبهم فهذا ليس من العصبية في شيء لأن بالمحبة تعمر الأوطان ويسعد بنو الإنسان ويعيش كل فرد وجماعة بسلم وأمان. 2 - وسئل (عليه السّلام): أي الأعمال أفضل عند الله تعالي؟ فقال (عليه السّلام): ما من عمل بعد معرفة الله ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك شعباً كثيرة وإن للمعاصي شعباً، فأول ما عصي الله به الكبر، وهو معصية إبليس حين أبي واستكبر وكان من الكافرين. والحسد وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، وحب الثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنيا بلاغ ودنيا ملعونة) [147] . والمراد من حب الدنيا الانغماس فيها والتلهي بملذاتها عن عبادة الله تعالي؛ علماً أن فيها ما يحصل به مرضاة الله عز وجل ويبلغ به إلي الآخرة وتدفع به الضرورة والكفاف لكل من عمل عملاً متقناً صالحاً يفيد نفسه ويفيد الآخرين. والمراد من لعن الدنيا عندما تبعد الإنسان عن نيل السعادة وكسب الرحمات الإلهية. وما أكثر الذين يحبون الدنيا في أيامنا هذه فانغمسوا بملذاتها ونسوا نعم الله، وجمعوا المال وبنوا الدور والقصور وعاشوا ليومهم فإذا أتت ساعتهم ندموا وتحسروا، ولات ساعة مندم. 3 - الأخذ بالجوهر وليس بحسن المنظر: سئل عن ذلك (عليه السّلام) فأجاب: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتمادي في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهرة فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من يتأبي عن الحرام وإن كثر ويحمل علي نفسه شوهاء قبيحة فيأتي فيها محرماً. فإذا رأيتموه كذلك فرويداً لا يغرنكم حتي تنظروا عقدة عقله فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلي عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتي تنظروا أيكون هواه علي عقله أم يكون عقله علي هواه وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا ويري أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة حتي إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم! فحسبه جهنم وبئس المهاد فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطله إلي أبعد غايات الخسارة ويمد به بعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً أليماً. بعد أن حذّرنا (عليه السّلام) من هذا النوع من الرجال الذين أحبوا الرياسة الباطلة واخذتهم العزة بالإثم فغضب الله عليهم ولعنهم دعانا لنقتدي بالرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله فقال: ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله وقواه مبذولة في قضاء الله يري الذل مع الحق أقرب إلي عز الأبد مع العز في الباطل ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلي دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد وإن كثيراً ما يلحقه. يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه. يا زهري عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فكبيرهم بمنزلة والدك وتربك منهم بمنزلة أخيك فأي هؤلاء تحب أن تظلم، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره. وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلاً علي أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك، فقل قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح، فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وإن كان تربك فقل أنا علي يقين من ذنبي وفي شك من أمره، فما لي أدع يقيني لشكي. وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل هذا فضل اخذوا به، وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل هذا لذنب أحدثته فإنك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقل أعداؤك وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف علي ما يكون من جفائهم. ثم تابع قائلاً (عليه السّلام): واعلم أن أكرم الناس علي الناس من كان خيره عليهم فايضاً وكان عنهم مستغنياً متعففاً، وأكرم الناس عليهم من كان مستعففاً عنهم وإن كان إليهم محتاجاً فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال فمن لم يزدحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم ومن لم يزاحمهم ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم) [148] . وهذه بعض أجوبته (عليه السّلام) عن فقه الشريعة وتفسير بعض آي الذكر الحكيم. منها: 4 - قال الزهري: دخلت علي علي بن الحسين فقال لي: يا زهري من أين جئت؟ قلت: من المسجد. قال: فيم كنتم؟ قلت: تذاكرنا أمر الصوم، فاجتمع رأيي ورأي أصحابي علي أنه ليس من الصوم واجب إلا صوم شهر رمضان. فقال: يا زهري ليس كما قلتم، إن الصوم علي أربعين وجهاً. فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان وعشرة أوجه منها صيامهن حرام، وأربعة عشر وجهاً منها صاحبها فيها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر وصوم الإذن علي ثلاثة أوجه: صوم التأديب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض. قلت: فسرهن لي جعلت فداك. قال(عليه السّلام): أما الواجب: فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً. وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن يجد العتق واجب، قال عز وجل: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله... فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله..) [سورة النساء: الآية 92]. وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار لمن لم يجد العتق واجب، قال الله تبارك وتعالي: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير) [سورة المجادلة: الآية 2]. وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب لمن لم يجد إلا طعام، قال الله تبارك وتعالي: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) [سورة المائدة: الآية 79]. كل ذلك متتابع وليس بمتفرق. وصيام أذي الحلق واجب، حلق الرأس. قال الله تبارك وتعالي: (فمن كان منكم مريضاً أ, به أذي من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) [سورة البقرة: الآية 196]. وصاحبها فيها بالخيار وإن صام ثلاثاً. وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي. قال الله تبارك وتعالي: (فمن تمتع بالعمرة إلي الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) [سورة البقرة: الآية 196]. من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلي العذاب. 5 - وسئل (عليه السّلام) عن يوم القيامة فقال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، وجمع ما خلق في صعيد واحد، ثم نزلت ملائكة السماء الدنيا وأحاطت بهم صفاً، وضرب حولهم سرادق من النار، ثم نزلت ملائكة السماء الثانية فأحاطوا بالسرادق، ثم ضرب حولهم سرادق من نار، ثم نزلت ملائكة السماء الثالثة فأحاطوا بالسرادق، ثم ضرب حولهم سرادق من نار، حتي عد ملائكة سبع سماوات وسبع سرادقات، وصعق الرجل فلما أفاق قيل له: يا بن رسول الله فأين علي وشيعته؟ قال: علي كثبان المسك يؤتون بالطعام والشراب، لا يحزنهم ذلك) [149] . ولما بيّن (عليه السّلام) أهوال يوم القيامة والقصاص من الظالم للمظلوم قام رجل وقال: يا بن رسول الله إذا كان للمؤمن علي الكافر مظلمة فأي شيء يأخذ منه وهو من أهل النار؟ فقال (عليه السّلام): يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له علي الكافر، فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره. قال: فإن كان للمسلم علي المسلم مظلمة فما يأخذ منه؟ فقال (عليه السّلام): يؤخذ من حسنات الظالم ويدفع للمظلوم وإن لم يكن له حسنات يؤخذ من سيئات المظلوم علي الظالم) [150] . جواب مسدد كامل شامل لا يشوبه شائبة يعبر تعبيراً سليماً عن رأي قائلة، والإمام السجاد كعادته في كل أجوبته، ولا غرو فهو إمام معصوم من جامعة أهل البيت مؤهل بعلوم خاصة علوية تزود بها من أبيه وجديه (عليهم السّلام)، وهكذا كان شأن الأئمة المعصومين الذين أتوا بعده. لقد أوجدهم الله جل شأنه رحمة للعالمين وقيضهم أعلاماً يقتدي بهم ويقتفي أثرهم. فبهم قامت الدعوة الإسلامية وبهم تطورت الحياة الاجتماعية. نتابع سرد بعض أجوبته المسددة والكافية الوافية. 6- سئل (عليه السّلام): لِمَ أوتم النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من أبويه؟ فقال (عليه السّلام): لئلا يوجب عليه حق لمخلوق) [151] . وقيل له: ما أشد بغض قريش لأبيك؟ فقال (عليه السّلام): لأنه أورد أولهم النار، وألزم آخرهم العار) [152] . 7 - وبعد وقعة كربلاء رجع (عليه السّلام) إلي المدينة فوقف عليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله فقال متشمتاً: من الغالب؟ قال (عليه السّلام): إذا دخل وقت الصلاة فأذن وأقم تعرف الغالب) [153] . 8- روي الإمام الباقر (عليه السّلام) أن الزهري، محمد بن مسلم بن شهاب، دخل علي الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كئيباً حزيناً فقال له: ما بالك مغموماً؟ قال: يا بن رسول الله فما امتحنت به من حساد نعمي والطامعين فيَّ ممن أرجوه ومن أحسنت إليه فيخلف ظني. فقال علي بن الحسين (عليه السّلام): احفظ عليك لسانك تملك به إخوانك. قال الزهري: إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي. فقال (عليه السّلام): هيهات، هيهات إياك أن تعجب بذلك وإياك أن تتكلم بما يسبق إلي القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس كل ما تسمعه شراً يمكنك أن توسعه عذراً. وصوم جزاء الصيد واجب. قال الله تبارك وتعالي: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره...) [سورة المائدة: الآية 59]. ثم قال (عليه السّلام): أوَتدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهري؟ فقلت: لا أدري. قال: تقوّم الصيد قيمة، ثم تفض تلك القيمة علي البر، ثم يكال ذلك البر أصواعاً فيصوم لكل نصف صاع يوماً. وصوم النذر واجب وصوم الاعتكاف واجب. وأما الصوم الحرام: فصوم يوم الفطر، وصوم الأضحي وثلاثة أيام من أيام التشريق، وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه، أمرنا به أن نصومه مع شعبان ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس. قلت: جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً كيف يصنع؟ قال: ينوي ليلة الشك أنه صائم من شعبان، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه، وإن كان من شعبان لم يضر. قلت: وكيف يجزي صوم تطوع عن فريضة. قال: لو أن رجلاً صام يوماً من شهر رمضان تطوعاً وهو لا يدري ولا يعلم أنه من شهر رمضان، ثم علم بعد ذلك أجزأ عنه، لأن الفرض إنما وقع علي اليوم بعينه وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم النذر للمعصية حرام، وصوم الدهر حرام [154] . وأما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار: فصوم يوم الجمعة والخميس والاثنين، وصوم أيام البيض، وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء كل ذلك صاحبة فيه بالخيار، إن شاء صام، وأن شاء أفطر. وأما صوم الإذن: فإن المرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها والعبد لا يصوم تطوعاً إلا بإذن سيده، والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): فمن نزل علي قوم فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم. وأما صوم التأديب: فإنه يؤمر الصبي إذا راهق بالصوم تأديباً وليس بفرض، وكذلك من فطر لعلة من أول النهار ثم قوي بعد ذلك أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض؟ وأما صوم الإباحة: فمن أكل أو شرب أو تقيأ من غير تعمد فقد أباح الله ذلك له وأجزأ عنه صومه. وأما صوم السفر والمرض: فإن العامة اختلفت فيه، فقال قوم: يصوم. وقال قوم: لا يصوم، وقال قومٍ: إن شاء صام وإن شاء فطر. وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال. المرض فعليه القضاء في ذلك لأن الله عز وجل يقول: (فمن كان منكم مريضاً أو علي سفر فعدة من أيام أخر) [155] [سورة البقرة: الآية 184]. 9 - ومن تفسيراته لآي الذكر الحكيم قال في تفسير قوله تعالي: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) [سورة البقرة: الآية 179]. (ولكم) ينادي امة محمد. (في القصاص حياة) ذلك أن من هم بالقتل وعرف أنه يقتص منه يكف عن القتل، فكان ذلك حياة للذي هم بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب فلا يجسرون علي القتل مخافة القصاص. (يا أولي الألباب) يا ذوي العقول. لعلكم تتقون: لعلكم ترجعون إلي الخط السليم وتتقون الله تعالي. 10 - قال سعيد بن المسيب: سألت علي بن الحسين (عليهم السّلام) عن رجل ضرب امرأة برجله فطرحت ما في بطنها ميتاً. فقال (عليه السّلام): إذا كان نطفة فإن عليه عشرين ديناراً، وهي التي وقعت في الرحم، واستقرت فيه أربعين يوماً. وإن طرحت وهو علقة، فإن عليه أربعين ديناراً، وهي التي وقعت في الرحم واستقرت فيه ثمانين يوماً. وإن طرحته مضغة فإن عليه ستين ديناراً، وهي التي وقعت في الرحم واستقرت فيه مائة وعشرين يوماً. وإن طرحته وهو نسمة مخلقة، له لحم وعظم، مرتل الجوارح وقد نفخ فيه روح الحياة والبقاء، فإن عليه دية كاملة [156] . لقد ذكر (عليه السّلام) جميع الأحوال التي يمر بها الجنين من النطفة إلي الولادة ولم يترك واحدة منها، ولا غرو فهو إمام معصوم لا يسهي ولا ينسي. وسئل (عليه السّلام): من أعظم الناس خطراً؟ فقال: من لم ير الدنيا خطراً لنفسه [157] . 11 - وعن أبي مالك قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السّلام): أخبرني بجميع شرائع الدين. قال: قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد [158] . فتأمل معي هداك الله إلي هذا الإيجاز وهذه البلاغة وهذا التكثيف في المعني والبعد في الدلالة، والإحاطة الشاملة بتسديد الجواب، والتسلسل المنطقي. فالذي يقول الحق ويعرف حدوده لا بد وأن يحكم بالعدل ويعلم أصوله وقواعده لا بد وأن يفي بالعهد. والذي يفي بالعهد ويحكم بالعدل ويقول الحق لا بد وأن يكون من المؤمنين الصالحين الذين كسبوا رضا الله بأعمالهم الصالحة. وسمعوا قوله تعالي: (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنين) [سورة التوبة: الآية 105].

من روائع حكمه

الحكمة هي ثمرة تجارب طويلة وحصيلة نظر ثاقب في أمور الحياة، وبصيرة نافذة في قضايا الناس وأخلاقهم. والحكمة تأمل هادئ في سعي الإنسان وفي الغاية التي ينشدها والنهاية التي يترقبها، كما هي إحساس دقيق في جميع فروع الحياة البشرية. والحكمة هي إحساس بكل ما تتفتق به الحياة من ولادة أفكار تزهر وتعقد وتثمر علي هذه الأرض التي منها وإليها الإنسان، وهي تأخذ زخماً في النمو والعطاء من إبداع الإنسان وحسن فهمه لأسرار الوجود. تأخذ الحكمة غذائها من الماضي وتتلون بألوان الحاضر وتكون منارة مشعة يستضيء بنور هديها المستقبل. والحكمة في صدر الإسلام، كغيرها من الحكم، دليل واضح علي رقي عقلية العلماء، أوصياء علي الأمة الإسلامية وأمناء علي مسيرتها في طريق الخير والصلاح، ولا سيما الأئمة المعصومين أئمة الهدي الذين أخذوا علي عاتقهم مسؤولية نشر الدعوة الإسلامية وتقويم الانحراف لتسير في الطريق الصحيح الذي رسمه الرسول الأعظم. والعلماء الحكماء هم ورثة الأنبياء منهم الإمام زين العابدين: تدل حكم الإمام (عليه السّلام) علي أصالة في الرأي، وتطور في الفكر، وإبداع في العطاء، وهي تحكي خلاصة التجارب التي ظفر بها الإمام في حياته، ولا تقتصر علي جانب خاص من جوانب الحياة وإنما كانت شاملة لجميع مناحيها. لقد نظر الإمام (عليه السّلام) الحكيم بعمق وشمول إلي جميع شؤون الإنسان فوضع الحلول الحاسمة لجميع قضاياه وشؤونه. وهذه بعض ما أثر عنه من غرر حكمه الحية الخالدة التي يفيد منها كل إنسان في حياته الخاصة والعامة. قال (عليه السّلام): 1 - (من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا) [159] . حكمة رائعة تحكي واقع الأحرار في كل زمان الذين هانت عليهم الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم، نفوسهم أبية ومواقفهم شريفة، فلم يخضعوا للذل والهوان ولم يسكتوا عن الظلم والطغيان بل قاوموا بكل ما لديهم من قوة، وجاهدوا بأغلي ما عندهم بالمال والبنين والأنفس، وكان علي رأسهم أبو الأحرار وسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي كرمت عليه نفسه فاستهان الدنيا وما عليها، ولم يصانع الظالمين، ولم يمالئ المنحرفين بل حمل راية الكرامة الإنسانية، راية جديه، أمير المؤمنين وخاتم النبيين حتي استشهد مرفوع الرأس، موفور الكرامة. الحسين (عليه السّلام) لبس درع الرسالة فوجد في كل حلقة فيه نبضة قلب يتفجر عزيمة، والعزيمة تشع كضوء يتماوج بألف لون. قال الإمام الحسين كلمة ملتزمة تقول: الموت البطولي، الشهادة من أجل الحق، كلمة جده محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) التي كتبها من فوح القرآن، وقالها من بوح جسده ذي القلب السماوي ليعبر الضفة قبالة والده أمير المؤمنين، فريد الدهور في حب الحق الأعلي. لقد قدم الإمام الحسين منهجاً جديداً في ممارسة الحياة، منهج النضال الشريف من أجل صون حياة الإنسان. والإمام السجاد مضي علي خط أبيه يناضل من أجل الحق، ويقول كما قال أخو الأوس لابن عمه عندما لقيه وهو يريد نصرة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال له: أين تذهب فإنك مقتول، فقال: سأمضي وما بالموت عار علي الفتي إذا ما نوي خيراً وجاهد مسلماً وواسي رجالاً صالحين بنفسه وخالف مثبوراً وفارق مجرما فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم كفي بك ذلاً أن تعيش وترغما [160] . 2 - ومن حكمه (عليه السّلام) قوله: (ضل من ليس له حليم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده...) [161] . قد يتعثر الإنسان في خطاه إذا لم يكن له حليم يرشده في المعضلات التي تعترضه في حياته، فيتعثر في خطاه وينزلق في متاهات سحيقة، وقد يذل إذا لم يكن له سفيه يذب عنه ويعضده. 3 - وقال (عليه السّلام): (ويل لمن غلبت آحاده أعشاره). سئل الإمام الصادق عن معني هذا الحديث فقال (عليه السّلام): (أما سمعت الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها) [162] . فالحسنة الواحدة من عملها كتبت له عشراً، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يوم واحد عشر سيئات ولا تكون له حسنة واحدة فتغلب سيئاته حسناته [163] . 4 - وقال (عليه السّلام): (طلب الحوائج إلي الناس مذلة للحياة ومذهبة للحياء، واستخفاف بالوقار، وهو الفقر الحاضر وقلة طلب الحوائج من الناس هو الغني الحاضر...) [164] . إن طلب ما في أيدي الناس خضوع لهم مما يوجب الذل والهوان وذهاب الحياء، وهو دليل ضعف في نفس السائل أما الإنسان العزيز هو الذي يصون نفسه وكرامته ولا يطلب حاجاته إلا من ربه فهو يرزق من يشاء وبيده الخير وهو علي كل شيء قدير. 5 - وقال (عليه السّلام): (الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتر بملكه..) [165] . تصف هذه الكلمة واقع الكريم واللئيم. فالكريم يفرح ويبتهج بما يسديه إلي الناس من فضل وإحسان، إحسان بالمال أو اليد أو اللسان، ذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلي. أما اللئيم الذي لا فضل عنده من هذا فإنه يفخر بما يملكه من الأموال والأمتعة فقط التي سرعان ما تتحول إلي تراب بعد قليل أو كثير. فالذي يبقي ويدوم هو العمل الصالح والكلمة الطيبة والإحسان إلي الآخرين من قلب طيب وروح فاضلة ونفس خيرة، أما المال والمتاع فهو غرض زائل، عمره قصير، يؤول أمره إلي تراب وصاحبه ليست لديه أية صفة كريمة أو نزعة شريفة يعتز بها ويفتخر. 6- وقال (عليه السّلام): (خير مفاتيح الأمور الصدق، وخير خواتيهما الوفاء...) [166] . التحلي بالصدق من أنبل الصفات وأكرمها، والصادق إنسان وقور يعيش بين قومه وأهله محبوباً كريماً. ولا نعرف صفة أفضل تكفل استقرار المجتمع الإنساني وتضمن الثقة بين المواطنين مثل الصدق. لذلك اعتبره الدين الإسلامي أساساً ثابتاً من الفضائل التي تبني عليها المجتمعات في الأمم الراقية. لذلك دعا الله المؤمنين للتخلق به فقال سبحانه مخاطبهم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً) [167] . وقد دعانا الرسول الكريم إلي قول الصدق جميع أعمالنا وأقوالنا وتصرفاتنا فقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلي البر وإن البر يهدي إلي الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتي يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلي الفجور وإن الفجور يهدي إلي النار وما يزال الرجل يكذب ويتحري الكذب حتي يكتب عند الله كذاباً) [168] وقال أحد الشعراء: الصدق في أقوالنا أقوي لنا والكذب في أفعالنا أفعي لنا وخير خواتيم الأمور الوفاء. وأفضل ما تحدث به القرآن الكريم عن الوفاء وصفة تبارك وتعالي ذاته القدسية بالوفاء فقال سبحانه: (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله..) [169] . كما نوه القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فقال تعالي في سورة النجم: (وإبراهيم الذي وفّي) [الآية 37]. وللوفاء شأن يذكر وخبر يؤثر عند أئمة هذه الأمة وأعلامها المؤمنين الصادقين أمثال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي نام في فراش الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مسلماً نفسه للموت في أي لحظة يهاجم بها أعداء الرسول منزله غير آبه بما سيحدث ولو كان الموت، الموت في سبيل إنقاذ رسول الله. إنه الفداء الصادق والوفاء المخلص. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): (إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوفي منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل إلي حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله؟ قد يري الحوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين) [170] . ولهذا أكد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) علي لزوم التجلي بالصدق والوفاء لأنهما من أسمي الصفات التي يشرف بها الإنسان المسلم. 7 - وقال (عليه السّلام): (عجبت لمن يحتمي الطعام لمضرته، ولا يحتمي من الذنب لمعرته) [171] . الجسد وعاء للروح وعلي الإنسان أن يحافظ علي كليهما فالروح الطاهرة النظيفة يجب أن يحضر لها جسد طاهر نظيف والحمية من الذنوب، وما يلحقها من مآثم وعار أولي للمسلم العاقل من الحمية من الطعام المضر للجسد، ذلك أن مضرة الجسد علاجها سهل وموعدها قريب، أما مضرة الروح فإنها تجر الويل والشقاء في دار الآخرة التي هي دار الخلود والبقاء. 8- وقال (عليه السّلام): (إذا قدرت علي عدوك فاجعل العفو شكراً للمقدرة عليه، فإن العفو عن قدرة، فضل من الكرم..). العفو عند المقدرة دليل شرف النفس وسعة حلمها، وهو ضرب من الكرم العظيم، أما الانتقام فإنه ينم عن لؤم وخسة في الطبع والسلوك. 9 - قال (عليه السّلام) في الكلام المسموح والكلام المسموع (ليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله تعالي يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم) [172] . وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله عز وجل يقول: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) [173] كل إنسان مسؤول عن الكلام الذي يتكلم به أمام نفسه وأمام ربه وأمام الناس. لأن الكلمة إذا تكلم بها المتكلم خرجت عن طاعته ولم تبق ملك يده، لكنه قبل التكلم بها يملكها. ورب كلمة أحدثت صلحاً ووفاقاً بين شخصين أو بين شعبين، ورب كلمة جرت حرباً وأعقبها ويلات ومصائب. من هنا كان وصفه تعالي للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة [174] قال تعالي: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة... ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض) [175] فالإسلام حدد الكلام المسموح به الذي يتكلم به الإنسان وذلك فيما يرجع إلي تدبير شؤونه في معاملاته، وسائر أغراضه الأخري المباحة. أما الكلام الذي يهدف منه صاحبه إلي ترويج الباطل وقول الزور فإنه حرام بلا ريب ويحاسب عليه. وكما حدد الإسلام الكلام المسموح حدد أيضاً الكلام المسموع. الكلام الذي يسمعه الإنسان، وهو الكلام الطيب، فاستماع الغيبة منهي عنه واستماع الفحش منهي أيضاً عنه، ذلك أن الإنسان يحاسب علي أحاسيسه القلبية ومشاعره النفسية. وقد سئل الجاحظ عن صفات الإنسان العاقل فأجاب (هو الذي يعلم متي يتكلم وكيف يتكلم ومع من يتكلم). إن الله تعالي أرسل رسله الكرام ليتكلموا وينشروا الدعوة الإسلامية في أرجاء الأرض، وأرسل أئمة الهدي ليتكلموا ويثبتوا الحق ويجاهدوا في سبيل الله. والعلماء في شتي بقاع الأرض عليهم بالكلام ليعلموا الجاهلين وينشروا المعرفة. أما الذي يعلم ولا يعمل بما يعلم هو كالجاهل. لكن هؤلاء الأنبياء والأوصياء والعلماء تكلموا الكلام الطيب، الكلام المفيد الذي يرغب كل إنسان عاقل علي سماعه. والكلام الطيب هو من أثمن ما يلقي علي السمع، بل هو فاكهة الحياة علي حد قول الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حيث قال: (لكل شيء فاكهة، وفاكهة السمع الكلام الحسن). 10 - وقال (عليه السّلام) في الحسد والحقد: (الحسود لا ينال شرفاً، والحقود يموت كمداً..) [176] . يعد الحسد من أقبح الرذائل الخلقية التي تحل في نفس الحسود فتنكد عليه عيشه لأنه يتمني زوال كل ما يشاهد من نعم أسبغها الله علي عباده إلي نفسه وحده فلا يميز بين أخ وصديق أو جار ورفيق. يحب الخير لنفسه دون غيره. وكم نري مثل هؤلاء النموذج الفاسد في المجتمع المادي الصرف حيث تحل الأنانية القاتلة محل المحبة السالمة، وتسود البغضاء والحقد بدل التآلف والإيثار. والحسود فقد الثقة بنفسه واستشعر بالعجز يسيطر عليه ويحول بينه وبين تحقيق غاياته. لذلك نهي الله تعالي عن الحسد وناشد عباده فقال سبحانه: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم علي بعض..) [177] . فلماذا الحسد والتحاسد، فكل إنسان وما تكسب يداه وكل فرد وما يحقق بفضل فكره وجهده واجتهاده من هنا كان التفاضل بين بني البشر. فمن أراد السعادة فليسع إليها فلا عوائق تحول بينه وبينها إذا ما صمم بنية طيبة وقلب سليم (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) [178] وفي موضع آخر من القرآن الكريم أمر الله بالاستعاذة بالله من الحاسد قال سبحانه: (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد) [179] والحقيقة أن الحاسد يستثير منا الشفقة لما يلاقيه من ألم نفساني الذي هو أشد وطأة عليه من الألم الجسدي. فهو قلق دائماً لا يستلذ بطعم العيش، ولا يستمتع بلذة النوم، غريب بين الناس، منعزل عن الأحباب والأصحاب، وهل تحلو الحياة بدونهم؟!. والحسد لا يؤثر إلا في أصحابه كالنار تأكل بعضها البعض إن لم تجد ما تأكله. قال أحد الشعراء: إصبر علي حسد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله فعلي الإنسان أن يستمتع بما يصادفه في حياته من مسرات ويؤدي العمل الذي يجب عليه أداؤه بجد وإتقان دون أي مقارنة بينه وبين من هو أسعد منه حظاً، بل عليه أن ينظر إلي من هو دونه ليدرك فضل الله عليه. وفي هذا المجال قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله وسلّم): (إذا نظر أحدكم إلي من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلي من هو أسفل منه ممن فضل عليه) [180] وعليه أن يدعو فيقول: يا رب: ساعدني علي أن أري الناحية الأخري من الصورة ولا تتركني أتهم أخصامي بأنهم خونة لأنهم اختلفوا معي في الرأي. يا رب: علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي.. وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس. يا رب: علمني أن التسامح هو أكبر مراتب القوة، وأن حب الانتقام هو أول مظاهر الضعف، إنك سميع مجيب. وقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا إنماءً فتصدقوا يزدكم الله). وسئل جعفر بن محمد (عليه السّلام) في التواضع فقال: (رأس الخير التواضع وهو أن ترضي من المجلس بدون شرفك، وأن تسلم علي من لقيت، وتترك المراء وإن كنت محقاً) [181] . وقال الحكماء ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة. وقالوا: التواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها. إن التواضع نعمة إلهية، ونفحة طيبة، وصفة إنسانية نبيلة فطوبي لمن تحلي بالتواضع مع رفعة قدره وسموه ذاته، والجدير بكل من تحلي بهذه الصفة الكريمة أن يكون في الصفوف الأولي من عالمنا هذا المتحضر. وما يجدر الإشارة إليه أننا أصبحنا في عصرنا الحاضر المتحضر نري الكثيرين من أفراد الأمة يتصدرون المجالس ليشار إليهم بالبنان، ويتبجحون في أساليب كلامهم ليظهروا عظمتهم ويرموا بهالة من التقديس والتوقير في نفوس مستمعيهم. والحقيقة أن التقديس منهم براء، والعظمة منهم في عزاء، والمجد والرفعة بعيدان عنهم علي حد سواء. وقال الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (أفضل الرجال من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة) [182] . ومما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) قال: لامه عبد الملك بن مروان لأنه تزوج أم ولد لبعض الأنصار فكتب إليه الإمام (عليه السّلام): (إن الله قد رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم النقيصة، وأكرم به من اللؤم، فلا عار علي مسلم، هذا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قد تزوج أمته وامرأة عبده) [183] . أدعو الله تعالي فأقول: (يا رب إذا أعطيتني مالاً لا تأخذ سعادتي، وإذا أعطيتني قوة لا تطفئ سراج بصيرتي، وإذا أعطيتني تواضعاً لا تأخذ اعتزازي بكرامتي. 11 - وقال (عليه السّلام): لا حسب لقرشي ولا عربي إلا بالتواضع) [184] . من الأخلاق الإسلامية الفاضلة التواضع فهو كما نعلم من القرآن الكريم، نعمة سماوية تحصّن صاحبها بالجلالة والوقار، وتجنبه الوقوع في المزالق والأخطار. لأن المتواضع يكون قد أرضي ربه سبحانه وتعالي وأرضي عباده عز وجل، فكثر محبوه، وقل مبغضوه، وارتاحت نفسه، وصفا عيشه، واستراح من التفكير في اختيار صدور المجالس كما يفعل أهل الكبر والخيلاء في عصرنا الحاضر، بزعمهم أن عنوان الشخص بمجلسه وليس بتقدير جلسائه له. هؤلاء قد نسوا أنه لا رافع لمن وضعه الله سبحانه، ولا واضع لمن رفعه، وكل شيء بمشيئته سبحانه قال تعالي: (اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك علي كل شيء قدير) [185] . والمتواضع لا بد وأن يكون لين الجانب، طيب السيرة، حسن السريرة، مثاباً من الله، محبوباً من عباد الله لذلك دعا الله جل جلاله رسوله الكريم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ليتواضع ويلين جانبه مع الناس. قال تعالي: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..) [186] . ومن عجيب الأمر أن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان من أجمع لدواعي الترفع التي كانت سائدة عند قومه آنذاك، وكان في الوقت نفسه أدناهم إلي التواضع ذلك أنه كان أوسط [187] الناس نسباً وأوفرهم حسباً، وأسخاهم، وأشجعهم، وأذكاهم، وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع. ومن تواضعه أنه كان يرقع الثوب، ويجلس علي الأرض، ويخسف النعل ويجيب دعوة المملوك. قال أنس بن مالك: (كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وقد رأيته يوم حنين علي حمار خطامه ليف) [188] . 12 - البر تحفة: إنه يوصي أحد أبنائه أن يكون مطيعاً له صادقاً صالحاً، براً به فالبر تحفة كبيرة، لأن الله أوصي الابن بأبيه، ولم يوصِ الأب بابنه ولعله بذلك يشير إلي الآية الكريمة: (وبالوالدين إحساناً) فهو يقول (عليه السّلام): يا بني إن الله رضيني لك ولم يرضك لي، فأوصاك بي ولم يوصني بك عليك بالبر فإنه تحفة كبيرة. 13 - وقال (عليه السّلام): (يا بني أنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، فقال: من هم يا أبتاه؟ فقال: إياك ومصاحبة الكذاب فهو بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه يبيعك بأكلة وما دونها، فقال له ولده: وما دونها؟ قال: يطمع فيها ولا ينالها. وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك فيما أنت أحوج ما تكون إليه؛ وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله). يحدد لنا الإمام (عليه السّلام) في حكمه الإصلاحية الاجتماعية كيفية المصاحبة وكيفية التعاطي مع شريحة معينة من الناس كالكذاب والفاسق والبخيل والأحمق والقاطع لرحمه، حيث ينهي أبناءه عن مصاحبة مثل أولئك الناس أو محادثتهم أو مرافقتهم. لأنه يجد الكذاب كالسراب يقرب البعيد ويبعد القريب، والفاسق يبيع صاحبه بأكلة وما دونها. والبخيل يخذل صاحبه وهو بأمس الحاجة إليه، أما الأحمق فإنه يضر بصاحبه وهو يريد منفعته. بينما القاطع لرحمه يجده الإمام ملعوناً في كتاب الله. وفي هذا يكون الإمام (عليه السّلام) قد حدد دور هذه المصاحبة حتي يحصّن المرء نفسه من كل شائبة، وحتي لا يترك مجالاً لأصابع الاتهام بأن تشير نحوه قاصده إياه بما ليس فيه. فالابتعاد عن مثل هؤلاء البشر الفاسدين، هو صون للنفس ووقاية لها من أوبئة معنوية فاسدة تحط من قدرها اجتماعياً وإنسانياً.

افضل الكلمات

1 - سأل رجل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن السكوت والكلام، أيهما أفضل؟ فقال (عليه السّلام): (لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل وانبري إليه شخص فقال له: (كيف ذاك يا بن رسول الله؟..). فأجابه (عليه السّلام): (إن الله سبحانه لم يبعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس) [189] . فيا سبحان الله إنه سليل أهل البيت وابن رسول الله ولا يتكلم إلا بأفضل الكلمات وأحكم الجوابات. 2 - ومن كلماته الحكيمة: قال (عليه السّلام): (من مأمنه يؤتي الحذر، يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول، وإن كان بليغاً مع سوء الاستماع..) [190] . إنها كلمة خالدة رائعة بليغة يعني بها: أ - إن من يقيم حرساً مكثفاً للحفاظ علي حياته كما يفعل الرؤساء والملوك والوزراء، فإن ما يحذرونه يأتي علي الأكثر من أولئك الحراس، فإنهم هم الذين يفتكون بهم كما وقع ذلك كثيراً مع بعض الخلفاء والملوك [191] . ب - إن اللبيب المتفتح يفهم الأمور الغامضة في الحديث من وحي ذهنه وقرائن الأحوال ولا يحتاج إلي الشرح المستفيض والبسط في القول. ج - البيان بعيد عن قلب الجاهل ولا يصل إليه لأنه قد ران عليه الجهل فصده عن فهم الأمور. وقد وصف تعالي هؤلاء: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [192] . د - بلاغة القول وحكمته لا ينتفع بهما مع سوء الاستماع وإنما ينتفع بهما مع الإصغاء. وكما أن هناك فن القول هناك أيضاً فن الإصغاء، فالمتكلم البليغ ليس أفضل من المستمع الفهيم. 3 - وحدة الأديان: سأل رجل الإمام (عليه السّلام) عن الإطار الجامع بين الأديان السماوية، فقال: (قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد..) [193] . هذه القواسم الثلاثة: الحق والعدل والوفاء تشترك فيها الأديان السماوية جميعها لأنها قوام الحياة الاجتماعية وقد رفع شعارها جميع الأنبياء والمرسلين. 4 - من حكم الإنجيل: قال (عليه السّلام) لأصحابه: (مكتوب في الإنجيل، لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولا تعملوا إلا بما عُلّمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزد صاحبه إلا كفراً، ولم يزد من الله إلا بعداً) [194] . لا نفع لعلم محصور في صدر صاحبه، ولا نفع لمال مخزون في خزانة مالكه، وإنه ليس من الحق في شيء أن يعلم الإنسان ولا يعلمه لمن حوله من الناس، فإن ذلك لا يزيده إلا بعداً من الله. 5 - خصال رفيعة: أرفع ما يتصف به المسلم من صفات والتي يكمل بها إسلامه. قال (عليه السّلام): (أربع من كن فيه كمل إسلامه، ومحصت عنه ذنوبه، ولقي ربه عز وجل وهو عنه راض: من وفي لله عز وجل بما يجعل علي نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيا من كل قبيح عند الله وعند الناس وحسن خلقه مع أهله..) [195] . المسلم الذي يتصف بهذه الصفات هو المؤمن حقاً المستكمل إيمانه، الذي يلقي الله وهو راض عنه. 6- صفات المؤمن: قال الإمام (عليه السّلام): (علامات المؤمن خمس: فقال له طاووس اليماني: وما هي يا بن رسول الله؟ قال: الورع في الخلوة، والصدقة في القلة، والصبر عند المصيبة، والحلم عند الغضب، والصدق عند الخوف) [196] . وهذه الصفات الخمس علي المؤمن أن يتصف بها ليكون بذلك من عباد الله الصالحين الذين أترعت نفوسهم بالتقوي وأشعبت عقولهم بالإيمان، وأنتجت أيديهم العمل المتقن الصالح، وملئت صدورهم بوحي العقيدة، ونطقت ألسنتهم بزيت الحكمة. 7 - الصبر: حث الإمام (عليه السّلام) المسلمين علي الصبر فقال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له..) [197] . لا بد لكل إنسان من أن يصادف في حياته خطوباً كثيرة وأحداثاً صعبة تداهمه في كل حين فعليه أن يتذرع بالصبر علي هذه المكاره ويرجئ الأمور إلي الله تعالي، راضياً بما قسم له لأن ذلك من جوهر الإيمان. وقال الحكماء من صبر ظفر، وقالوا أيضاً: الصبر مفتاح الفرج. وما من خطب جلل إلا وحله بيد الله تعالي. فالمؤمن يقتنع بما يصيبه من محن ومصائب ويصبر حتي بإرادة العلي القدير. 8- القناعة: قال (عليه السّلام) في القناعة: (من قنع بما قسم الله فهو من أغني الناس..) [198] . القناعة في الإسلام من أسمي الصفات الإنسانية، والرجل القنوع يستريح من هموم الدنيا ويرجئها إلي الله عز وجل والقناعة كنز لا يفني، ومن قنع بما قسم الله هو من أغني الناس وأعظمهم راحة وأقلهم هماً. لكن هناك من لا يقنع بما وصل إليه بل يجد بكل ما أعطي من قوة للاستزادة والإفادة. من هذه الشريحة الاجتماعية طلاب العلم وطلاب المال فهم دائماً في طلب الزيادة. وقد وصفهم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فقال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال).

تحف من بعض علومه

اشاره

كان الإمام زين العابدين من أوسع الناس علماً، ومن أكثرهم دراسة في جميع العلوم والفنون. وقد ورث هذه العلوم عن آبائه الذين ورثوا علوم النبي المصطفي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ونشروها في جميع أنحاء الأرض فكانت نوراً يهتدي بها جميع الناس من قريب وبعيد. فعلوم الإمام السجاد (عليه السّلام) تعد امتداداً ذاتياً لعلوم آبائه. وقد روي العلماء والرواة عنه ما لا يحصي من العلوم [199] وسوف نعرض بعض علومه ومعارفه، كان يلقيها محاضرات علي العلماء والفقهاء وطلاب العلم من تلامذته.

في رحاب القرآن

كان الإمام السجاد (عليه السّلام) شغوفاً بتلاوة القرآن الكريم لأنه يجد فيه متعة خاصة لا تعد لها أي متعة. قال (عليه السّلام): (لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) [200] . كما كان (عليه السّلام) من أحسن الناس صوتاً في تلاوة القرآن الكريم فلا يكاد يسمعه أحد إلا ويتأثر به، يقول الرواة: (إن السقائين الذين يمرون ببابه كانوا يقفون لاستماع صوته) [201] . ولا ريب أن الإمام السجاد (عليه السّلام) لم يقرأ القرآن الكريم قراءة عابرة، وإنما كان يتلو آياته بتدبر وإمعان، ويتأمل تأملاً هادئاً بما انطوت عليه من كنوز الحكمة وأنوار المعرفة. وهو القائل (عليه السّلام): (آيات القرآن خزائن كلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها) [202] . وعندما يختم القرآن الكريم كان يدعو الله مبتهجاً بهذا الدعاء الشريف: (اللهم إنك أعنتني علي ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً علي كل كتاب أنزلته، وفضلته علي كل حديث قصصته، وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتاباً فصلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته علي نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلاً، وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلي استماعه، وميزان قسط لا يحيف [203] عن الحق لسانه، ونور هدي لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته. ويتابع دعاءه (عليه السّلام): اللهم فإذا أفدتنا المعونة علي تلاوته، وسهلت جواسي [204] ألسنتنا بحسن عبادته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلي الإقرار بمتشابهه، وموضحات بيناته، اللهم إنك أنزلته علي نبيك محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسراً، وفضلتنا علي من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله. اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة، وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل علي محمد الخطيب به، وعلي آله الخزان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك حتي لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيع عن قصد طريقه) [205] . تحدث سليل النبوة عن القرآن المعجزة الكبري فقال (عليه السّلام): إن الله عز وجل أنزل كتابه هذا نوراً يهدي به الضالين إلي الصراط المستقيم ويوضح به القصد لكل المؤمنين ويرشد به الحائرين إلي سواء السبيل. كما جعله سبحانه وتعالي مهيمناً علي جميع الكتب التي أنزلها علي أنبيائه المرسلين وما حدث فيها من تبديل وتحريف من قبل دعاة الضلال والمنحرفين. يُعتبر القرآن الكريم منهجاً عاماً للحياة الحرة الكريمة، ودستوراً شاملاً يفرق بين الحق والباطل (فرقان) ويعرب عن شرائع الأحكام مفصلاً جميع ما يحتاجه الناس تفصيلاً كاملاً لا لبس فيه ولا غموض. إن الذكر الحكيم أنزل وحياً علي الرسول الأمين من رب العالمين بالقسط والعدل بعيداً عن المصالح الشخصية والأغراض الدنيوية الرخيصة. ثم طلب الإمام السجاد (عليه السّلام) من الله تعالي أن يتفضل عليه برعاية كتابه والتسليم لمحكم آياته، والإقرار بمتشابهاته. وأخيراً منح الله سبحانه وتعالي رسوله الأعظم خاتم النبيين عجائب ما في كتابه المعجزة من أسرار، فألهمه القدرة علي شرحه وتفسيره، كما أشاد بأئمة الهدي من العترة الطاهرة الذين رفعهم الله وأعلي درجتهم، فجعلهم خزنة علمه، وقيضهم أعلاماً يقتدي بهم ويقتص أثرهم، وبذلك كله حياة الدين وقوام الصالح العام والسعادة الكبري للناس أجمعين. وهذه نماذج من تفسيراته لبعض آيات من القرآن الكريم: 1 - أثر عنه أنه سئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (ورتل القرآن ترتيلا) [سورة المزمل: الآية4]. فأجاب: بيّنه في تلاوته تبييناً ولا تنثره نثر البقل، ولا تهذه هذي الشعر، قفوا عند عجائبه لتحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. 2 - روي الإمام الصادق (عليه السّلام) عن جده الإمام زين العابدين (عليه السّلام) تفسير الآية الكريمة (يقبل التوبة من عباده، ويأخذ الصدقات) [سورة التوبة: الآية105]. قال (عليه السّلام): ويأخذ الصدقات، إني ضامن علي ربي تعالي أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتي تقع في يد الرب تعالي...وكان يقول: ليس من شيء إلا وكل به ملك، إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله. 3 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (ادخلوا في السلم كافة) [سورة البقرة: الآية208]. السلم هو ولاية الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السّلام) [206] ولا ريب أن عهد أمير المؤمنين، باب مدينة العلم، هو السلم الحقيقي الذي ينعم الناس في ظلاله بالأمن والرخاء والعدل والاستقرار، ولو أن المسلمين دانوا بعهده (عليه السّلام) بعد وفاة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لما أصابهم أي مكروه ولما داهمتهم أية أزمات في حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية والقضائية. لكن أكثر المسلمين آثروا الحياة الدنيا وعزتهم المناصب حتي حدث ما حدث. 4 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (وأشرقت الأرض بنور ربها وجيء بالنبيين والشهداء) [سورة الزمر: الآية69]. فأجاب الإمام بجواب مطول عن أهوال يوم القيامة قال (عليه السّلام): (إذا كان يوم القيامة بعث الله الناس عزلاً، جرداً، مرداً، صعيد في واحد يسوقهم النور، وتجمعهم الظلمة حتي يقفوا علي عتبة المحشر، فيزدحمون دونها، ويمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم، ويكثر عرقهم، وتضيق بهم أمورهم، ويشتد ضجيجهم، وترتفع أصواتهم، وهو أول هول من أهوال القيامة، فعندما يشرف الجبار تبارك وتعالي من فوق العرش، ويقول: يا معشر الخلائق أنصتوا، واسمعوا منادي الجبار، فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم، فتخشع قلوبهم، وتضطرب فرائصهم، ويرفعون رؤوسهم إلي ناحية الصوت مهطعين إلي الداعي، ويقول الكافرين: هذا يوم عسير فيأتي النداء من قبل الجبار: أنا الله لا إله إلا أنا، أنا الحكم الذي لا يجور، أحكم اليوم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد آخذ للضعيف من القوي، ولصاحب المظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، وأثيب علي الهبات ولا يجوز هذه العقبة ظالم. ولا أحد عنده مظلمة يهبها لصاحبها، إلا وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهدكم وكفي بي شهيداً) [207] . ثم يعرض الإمام (عليه السّلام) بصورة شاملة أهوال يوم القيامة بكل ما فيها من مخاوف وكل ما يعاني فيها الإنسان من إرهاق كبير وخطوب فادحة. 5 - وسئل (عليه السّلام) عن معني كلمة (الصمد) فقال: الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء) [208] . 6- وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (واشتروا بثمن بخس دراهم) [209] فقال: بأن الثمن البخس اشتروا به يوسف كان عشرين درهماً [210] . 7 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً) [سورة المائدة: الآية 21] فأجابه بقوله: (إن هابيل تقرب إلي الله تعالي بأسمن كبش كان في حيازته، وتقرب قابيل بضغث من سنبل فقبل الله تعالي من هابيل، ولم يقبل من قابيل، فوسوس إبليس لقابيل، بأن أولاد هابيل سيفخرون علي أولادك ويقولون: بأنهم أبناء من قبل الله قربانه، وتحكم فيه هذا الخيال حتي حسد قابيل أخاه هابيل، وعزم علي قتله لئلا يكون منه نسل، ولم يدر كيف يصنع؟ فعلمه إبليس أن يضع رأسه بين حجرين ويقتله، ففعل ذلك ولم يدر كيف يواريه، حتي جاء غرابان، واقتتلا ثم حفر أحدهما للآخر وواراه، وقابيل ينظر إليه، فقام وحفر لهابيل ودفنه، وأصبح من النادمين، وصار هذا سنة في دفن الموتي. ولما سأله آدم عن أخيه هابيل، قال له: أجعلتني راعياً له؟ ثم جاء به إلي مكان القربان فاستبان له أنه قتله، فلعن قابيل، وأمر بلعنه، وبكي علي ولده أربعين سنة حتي أوحي الله إليه أني واهب لك ذكراً يكون خلفاً عن هابيل، فولدت له حواء غلاماً زكياً مباركاً، وفي اليوم السابع أوحي الله إليه أن سمه (هبة الله) فسماه بذلك [211] . 8- قال عيد بن جبير: سألت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن القربي في الآية الكريمة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي) [212] فقال (عليه السّلام): هي قرابتنا أهل البيت [213] . 9 - روي الإمام محمد الباقر عن أبيه (عليهما السّلام) في تفسير الآية الكريمة: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) [214] . قال: لقد جعل الله تعالي الأرض ملائمة لطباعكم، موافقه لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمأ [215] والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم [216] ، ولا شديدة اللين كالماء، فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم، وقبور موتاكم، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم، وقبوركم، وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم، ثم قال عز وجل (والسماء بناءً)، أي سقفاً من فوقكم، محفوظاً يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال عز وجل: (فأخرج من الثمرات رزقاً لكم) يعني مما يخرجه من الأرض رزقاً لكم (فلا تجعلوا لله أنداداً) أي أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر علي شيء. (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر علي شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالي [217] . حفلت هذه القطعة الكريمة من كلام الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بأروع أدلة التوحيد، فأعطت صورة مشرقة كاملة من سر خلق الله للأرض، فقد خلقها سبحانه بكيفية رائعة فليست صلبة ولا شديدة اللين وذلك ليسهل علي الإنسان العيش عليها والانتفاع بخيراتها التي لا تحصي... إن الأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والبحار والأنهار والمعادن المختلفة الأنواع وغير ذلك، من أعظم الأدلة وأوضحها علي وجود الخالق العظيم الحكيم، قال تعالي: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [سورة القمر: الآية49]. كما استدل الإمام (عليه السّلام) علي عظمة الخالق سبحانه وتعالي بخلقه السماء وما تحوي من شمس وقمر وسائر الكواكب التي تنير هذه الأرض بأنوارها. وكلنا يعلم ما لأشعة الشمس من أثر بالغ في تكوين الحياة النباتية. وما لأشعة القمر من أثر علي البحار في مدها وجزرها، وكذلك الحال بالنسبة لسائر الكواكب فإن لأشعتها هي أيضاً الأثر التام في منح الحياة العامة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض وما نلفت إليه أن هذه الظواهر الكونية لم تكتشف إلا في هذه العصور الحديثة إلا أن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ألمح إليها في كلامه، فكان بلا ريب هو وأبناؤه وآباؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم وساهموا مساهمة فعالة في تكوين الحضارة الإنسانية. ثم أشار الإمام (عليه السّلام) إلي العناية الإلهية في سقوط المطر وكيف يتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة، وذلك لإحياء الأرض، وإخراج الثمرات والطيبات. ولو هطلت هذه الأمطار دفعة واحدة لأهلك الحرث والنسل. قال تعالي: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [218] . بعدما أقام الإمام (عليه السّلام) الأدلة المحسوسة علي وجود الخالق الحكيم دعا إلي عبادته سبحانه وتعالي ونبذ الأصنام والأوهام التي تشل الفكر وتعيق حركة الوعي وتفقد أي قدرة علي تصريف شؤون الحياة وإدارة هذا الكون إدارة حكيمة عادلة. 10 - سأل رجل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن الحق المعلوم الذي ورد في قوله تعالي: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) [219] . فقال (عليه السّلام): (الحق المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين. فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقال (عليه السّلام): يصل به رحماً، ويقوي به ضعيفاً ويحمل له كله أو يصل أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه. وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له: الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء [220] .

في رحاب الحديث الشريف

لا يخفي ما للحديث الشريف من أهمية كبري في العلوم الإسلامية فهو يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، كما يعرض لمعظم الفقه الإسلامي فيذكر الواجب والحرام والمستحب والمكروه والممنوع والمباح ويوضح عموميات كتاب الله ومطلقاته فيقيدها ويخصصها. إلي جانب ذلك يتناول الحديث الشريف آداب السلوك وقواعد الأخلاق وكل ما يسعد الإنسان في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) كان من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام، ورواياته لها أهمية خاصة عند علماء الحديث وبصورة خاصة ما يرويه الزهري عنه. قال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب. وقد روي مجموعة كبيرة من الأحاديث عن جديه الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن أبيه الحسين (عليه السّلام) وغيرهم.. وسوف نورد كوكبة مشرقة من الأحاديث رواها الإمام (عليه السّلام) بسنده عن جده رسول الله(صلّي الله عليه وآله وسلّم). 1 - روي الإمام (عليه السّلام) أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (الإيمان قول وعمل) [221] . لا يخفي أن الإيمان بالله تعالي وبرسله ليس ظاهرة لفظية يردده اللسان وإنما هو عمل وجهاد يترجم ما استقر في دخائل النفس من إيمان عميق. واتحاد القول بالعمل أمر ضروري في نجاح الحياة وتطورها. جاء في كتاب (لأنك حبيبتي) للدكتور أسعد علي قوله: عندما يتحد القول بالعمل ينجبان صبياً يسميانه الصدق. وعندما يتحد القول بالعمل يرزقان بنتاً يسميانها الوفاء، ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. أمر مهم جداً أن يؤمن الإنسان والأمر الأهم أن يترجم هذا الإيمان إلي عمل. 2 - روي (عليه السّلام) أن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان) [222] . فالإيمان يترجم بثلاثة أركان: الأول: الإقرار باللسان الذي يترجم ما انطبع في أعماق النفس. والثاني: أن يعرف القلب [223] الشيء الذي آمن به معرفة تفصيلية فإذا لم تكن هناك معرفة، فإن الإيمان به ينتفي موضوعياً. والثالث: أن يصحب ذلك العمل بالأركان فيترجم أعمالاً صالحة. 3 - وروي الإمام (عليه السّلام) أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلي شيء أفضل من حلم إلي علم) [224] العلم مع الحلم من الصفات الأصيلة التي تتغذي بها شخصية الإنسان فتنمو وتتطور وتزدهر. والعلم والحلم صنوان متلازمان لا يفيد الواحد منهما دون الآخر. فالعصر الجاهلي سمي كذلك لأنه يفتقد إلي الحلم، فقد كان النزق والطيش والحمق تسيطر جميعها علي عامة الجاهليين، كما كانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب، كل ذلك لعدم وجود الحلم والروية. ولما بزغ نور الإسلام أنقذهم من جهلهم وطيشهم وأوصلهم إلي شاطئ الأمان بالحلم والعلم معاً. 4 - وروي الإمام (عليه السّلام) عن أبيه عن جده أمير المؤمنين (عليهم السّلام): أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتي يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت..) [225] . حفل هذا الحديث الشريف بعدة أمور تحذر الإنسان قبل أن يدركه ملاك الموت ويبدأ بالندم وتصعيد الحسرات. أ - فالإنسان يسأل أمام الله تعالي في يوم حشره، يوم الحساب عن أيام عمره كيف قضاها، فهل أفناها في طاعة الله ورضوانه حتي يثاب علي ذلك، أم أنه أنفقها في اقتراف المنكرات وفي معصية الله لينال جزاءه ويكسب رضاه؟ ب - ويسأل أيضاً عن شبابه أفضل أيام حياته وأنشطها، هل انطوت في المعاصي والأعمال المنكرة ليعاقب عليها، أم في طاعة الله والأعمال الصالحة ليثاب عليها؟ ج - ويسأل الإنسان يوم الحشر والنشر عن أمواله، هل اكتسبها بالطرق الحلال المشروعة، وهل أنفقها في ما يرضي الله ليشكر في الدنيا ويؤجر عليها في الآخرة؟، أم أنه اكتسبها بطرق حرام غير مشروعة كأكل المال بالباطل والربا وتجارة المخدرات وغيره، وهل أنفقها في معاصي الله ومحرماته ليعاقب عليها؟ قال تعالي: (كل نفس بما كسبت رهينة) [سورة المدثر: الآية38]. وقال تعالي: (...لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)[سورة البقرة: الآية 286]. وفي نهاية الحديث: يسأل الإنسان يوم الحساب عن محبته لأهل البيت أعلام الهدي وسفينة النجاة وأمن العباد وأنوار الحياة. فهم المجاهدون الأبرار الذين جاهدوا من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم ونشر الرسالة الإسلامية في شتي أنحاء الأرض. فمن أبغضهم فقد أبغض الحق ومن أبغض الحق فقد أبغض الله، ومن أحبهم فقد أحب الحق ومن أحب الحق فقد أحب الله. 5 - وقال (عليه السّلام): كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول في آخر خطبته: (طوبي لمن طاب خلقه، وطهرت سجيته، وصلحت سريرته وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه) [226] . دعا الإسلام إلي التخلق بالأخلاق الحسنة والالتزام بالصفات النبيلة والنبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دعا المسلمين إلي الاتصاف بمحاسن الصفات فأوجز في هذا الحديث الشريف أموراً عدة: أ - التخلق بالأخلاق الحسنة. ب - طهارة النفس والضمير. ج - التحلي بالفضائل النبيلة والآداب العالية. هـ - حفظ اللسان وعدم الخوض في توافه الأمور. ح - إنصاف الناس بالحق والعدل ولو علي نفسه. 6- والأحاديث التي تحض علي مكارم الأخلاق كثيرة منها قوله (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق) [227] . إن التحلي بمكارم الأخلاق من أفضل ما يملكه الإنسان في حياته، فصاحب الخلق الحسن يمتلك محبة الآخرين وتعلو قيمته بين الناس أجمعين في هذه الدنيا. وكذلك في الآخرة فإنه يدخر خير زاد ليوم المعاد. وقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في أهمية الخلق الحسن: أقربكم مني يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون. وقال الشاعر: أحسن إلي الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان 7 - ومن الأحاديث التي تشد المؤمنين إلي بعضهم البعض وتمتن الروابط الاجتماعية بينهم ما رواه (عليه السّلام) عن أبيه عن جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (إن أحب الأعمال إلي الله تعالي إدخال السرور علي المؤمن) [228] . حرص الإسلام كل الحرص علي وحدة المسلمين وتماسكهم ليكونوا وحدة متضامنة علي الخير والشر، من أجل ذلك جعل من أهم برامجه حثه المؤمنين علي إدخال السرور بعضهم علي بعض في أفراحهم وأتراحهم وكل ما يحف بهم من مشاكل في حياتهم. وهذا مما يوجب شيوع الألفة والمحبة والمودة بينهم، ومما يوحد صفوفهم ويمتن العلاقات الاجتماعية بين أفراد مجتمعهم. وللرسول الأعظم أحاديث عدة في هذا المجال منها: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فإذا تداعي عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمي والسهر). وقال أحد الشعراء يوصي بنيه قبل موته: كونوا جميعاً يا بني إذ اعتري خطب ولا تفرقوا آحاد تأبي العصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا فالمؤمن عليه أن يساعد أخاه المؤمن فيؤنسه ويساعده ويخفف عنه مصائبه ويشاركه في كل ما يحتاج إليه، لأن الرابط بينهم هو الإيمان، والأخوة في الإيمان تستدعي المساعدة والمشاركة وإدخال البهجة والسرور إلي قلوب جميع المؤمنين. فهنيئاً لكل من استطاع مساعدة الآخرين من إخوانه في الدين فيكسب محبة الدنيا وسعادة الآخرة. 8- وقال عليه السلام في تمجيد العقل: روي (عليه السّلام) بسنده عن آبائه أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون، في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والرأفة همه، والرحمة قلبه، فلنتأمل هذا التسلسل المنطقي العظيم: جعل العلم أول كل شيء لأنه هو أساس فهم كل الأمور (يخشي الله من عباده العلماء) (والعلماء ورثة الأنبياء) ثم ألحق العلم بالفهم، ما فائدة العلم إذا كان يخزن في الذاكرة بلا فهم ولا وعي ولا إدراك! أبداً، إن فهم العلوم يجعلنا نستفيد منها ونستعملها فيما يسعدنا ويسعد الآخرين. وكم من العلماء العقلاء أنقذوا البشرية وطوروا الحياة الإنسانية إلي الأفضل. والزهد رأسه: وذلك حتي يبتعد الإنسان عن الطمع والجشع والأنانية. والحياء عينه: يكمن الحياء في العين وهو صفة إنسانية تهب الإنسان قيمة وتقديراً. والحكمة لسانه: اللسان هو ترجمان العقل يعبر عنه بكل حالاته فعليه أن ينطق بالحكمة التي هي ميزان العقل وبرهان العطاء. والرأفة همه: القلب الرؤوف هو القلب الحنون الذي يشعر مع الآخرين ويعطف عليهم في المواقف الإنسانية الحقة. والرحمة قلبه: والرحمة صفة إلهية كريمة وصف الرحمن نفسه بها: رحمة الله الكبري التي وسعت كل شيء فالمؤمنون رحماء فيما بينهم يتعاونون ويتآلفون، ويحب الواحد منهم للآخر كما يحب لنفسه. ثم يتابع الحديث (عليه السّلام) فيقول:...ثم حشاه وقواه بعشرة أشياء: باليقين، والإيمان، والصدق، والسكينة، والإخلاص، والرفق، والعطية، والقنوع، والتسليم، والشكر. هذه الصفات العشر تقوي العقل وتزكيه وتكسبه قوة وتألقاً وعطاء خيراً يفيض بهجة وسعادة وهناء. ثم قال له عز وجل: أدبر فأدبر، أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له سند ولا ند، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل، ولا مثيل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الله تبارك وتعالي: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أواخذ، وبك أعطي، وبك أوحد، وبك أعبد، وبك أدعي، بك أرتجي، وبك أبتغي، وبك أخاف، وبك أحذر، وبك الثواب وبك العقاب..) [229] . حفل هذا الحديث الشريف بتمجيد العقل، وتعظيمه وماله من أهمية في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية والدينية. ولذلك منحه الله أفضل الخصائص وأهمها. فهو أفضل الموجودات التي خلقها الله، وقد منحه الله للإنسان وميزه علي بقية المخلوقات والكائنات. ولا يخفي أن وجود العقل، هذه الهبة الإلهية العظيمة، هو شرط من شروط التكليف في الإسلام، فالفاقد عقله هو كالحيوان الأبكم لا يصح أن يتوجه له التكليف. قال بعض الحكماء: (إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب). 9 - وقال (عليه السّلام)، قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (كفي بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمي عليه من نفسه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه..) [230] . من الجهل الأكبر أن يتغاضي الإنسان عن عيوب نفسه ويفتش عن عيوب الآخرين فينتقد ويجرح دون أي وازع أو رقيب. وكان الأولي به أن يراقب نفسه ويصلح أخطاءه ولا يلتفت إلي عورات الآخرين. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس أعين كما أن من عيوب المرء أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه، فيتدخل في شؤونه ويحرجه في قضاياه الخاصة. فلو شاء صديقه لأفضي إليه بسره وعرض عليه ما يعاني، أما أن يكثر من أسئلته عليه فهذا ما يؤذي الجليس ويتحول من صديق حميم إلي عدو لئيم وهو في غني عن ذلك. وقد أخذ هذا المعني شعراء كثيرون وبنوا عليه في قصائدهم منهم الشاعر الفرنسي (لافنتين) الذي سمي قصيدته بعنوان (الخرج) La besace، فيضع عينة علي صدره يضع فيها أخطاء الآخرين وعينة علي ظهره يضع فيها أخطاءه، فيتعامي عنها ولا يراها بينما يتأمل أخطاء غيره فينقدها وينشرها. وكذلك الشاعر أحمد شوقي أخذ المعني نفسه ونسجه في شوقياته. 10 - وقال (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (في الجنة ثلاث درجات، وفي الآخرة ثلاث درجات: فأعلي درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه ويده. والدرجة الثانية لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه. والدرجة الثالثة: لمن أحبنا بقلبه. وفي أسفل الدرك من النار من أبغضنا بقلبه وأعان بلسانه، وفي الدرك الثالث من أبغضنا بقلبه..) [231] . إن محبة أهل البيت (عليهم السّلام) مدعاة إلي الفوز بأسمي الدرجات في الفردوس الأعلي، ومحبتهم تعني محبة الحق في سبيل الله، ومحبة الخير من أجل خير عباد الله، ومحبة الصلاح من أجل كسب رضا الله. كما أن بغضهم من أساب الهلكة والتردي في أسفل درك النار. فبغضهم يعني بغض الحق والبعد عن خط رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وخط الدعوة الإسلامية التي أوكلوا بنشرها والوقوف في وجه كل من عرقل مسيرتها. 11 - وقال (عليه السّلام) قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب. الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله، ويعز من أذله الله، والمستأثر بفيء المسلمين، المستحل له...) [232] . هؤلاء الأصناف الذين لعنهم الله تعالي، ولعنهم كل نبي مجاب، هم المنحرفون عن الحق، والرافضون لكل ما سنه الله في شريعته العادلة. من هؤلاء كان حكام الأمويين الذين ناصبوا العداء لأهل البيت، للعترة الطاهرة، ونشروا الفساد في البلاد والجور والطغيان في بقاع الأرض. لكنهم لم يستطيعوا إطفاء الشعلة المنيرة وإزالة القوة المجاهدة التي تصدت لردع الظلم ورد كيد الظالمين. والشاهد الواضح علي ذلك هو سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السّلام) شهيد كربلاء الذي ضحي بنفسه ودمه الطاهر من أجل إحقاق الحق وتقومي الاعوجاج. وهو القائل: ما خرجت لا أشراً ولا بطراً وإنما خرجت من أجل الإصلاح في أمة جدي. 12 - وهذا حديث شريف من أغني الأحاديث النبوية التي ضمت كنوز العلم الخيرة والحكمة الهادية والعرفان الجميل. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حدثني أبي أن جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (أعبد الناس من أقام الفرائض، وأسخي الناس من أدي الزكاة، وأزهد الناس من اجتنب المحارم، وأتقي الناس من قال بالحق في ما له وما عليه، وأعدل الناس من رضي للناس بما يرضي لنفسه، وأكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت، وأغبط الناس من كان تحت التراب قد أمن العقاب، ويرجو الثواب، وأعقل الناس من يتعظ بتغير الدنيا من حال إلي حال، وأعظم الناس في الدنيا خطراً من لم يجعل للدنيا خطراً، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلي علمه، وأشجع الناس من غلب هواه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقل الناس لذة الحسود، وأقل الناس راحة البخيل، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه، وأولي الناس بالحق أعلمهم، وأقل الناس حرمة الفاسق، وأقل الناس وفاءً الملوك، وأقل الناس صديقاً الملوك، وأفقر الناس الطماع، وأغني الناس من لم يكن للحرص أسيراً، وأفضل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً، وأكثر الناس عقلاً أتقاهم، وأعظم الناس حذراً من ترك ما لا يعنيه، وأورع الناس من ترك المراء، وإن كان محقاً، وأقل الناس مروءة من كان كاذباً، وأشقي الناس الملوك، وأمقت الناس المتكبر، وأشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب، وأحلم الناس من فرَّ من جهال الناس، وأسعد الناس من حالف كرام الناس وأعقل الناس أشدهم مداراة للناس، وأولي الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة، وأعتي الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه، وأولي الناس بالعفو أقدرهم علي العقوبة، وأحق الناس بالذنب السفيه، المغتاب، وأذل الناس من أهان الناس، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ، وأصلح الناس أصلحهم للناس، وخير الناس من انتفع به الناس) [233] . كما تري هذا الحديث الشريف يلقي أضواء علي طبائع الناس واتجاهاتهم وميولهم ومنازعهم، وقد وضع المناهج الحية للإصلاح الشامل للعديد من القضايا النفسية والتربوية والاجتماعية. فهو منجم ثمين من مناجم المعرفة.

جامعة أهل البيت

الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتي أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتي الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتي نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب من الحجاز والكوفة والبصرة وواسط وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة. وقد أحصيت مؤلفات المتخرجين من تلك الجامعة فبلغت ستة آلاف كتاب منها أربعمائة كانت تعرف بالأصول علي لسان محدثي الشيعة، ولعل أكثر محتويات الكتب الأربعة: الكافي ومن لا يحضره الفقيه والوافي والاستبصار مأخوذة منها [234] . وما نلفت إليه أن المهمة التي قام بها الإمامان الباقر والصادق في قيام جامعة أهل البيت هامة جداً وتعني كل فرد من أئمة الشيعة (عليهم السّلام) لكن الظروف التي تهيأت للإمامين المذكورين لم تتهيأ لغيرهما من الأئمة الآخرين (عليهم السّلام) ذلك أن الفترة الزمنية التي قضاها الإمام الباقر قد رافقتها بوادر نقمة عارمة من مختلف الأقطار علي سياسة الأمويين فالجميع أحسوا بسوء صنيعهم وأرادوا التخلص منهم وبصورة خاصة ظلمهم للعلويين الذي كان سلاحاً قوياً بيد خصومهم الطامعين بالحكم. وهذا ما دعاهم ليكونوا أكثر اعتدالاً مما كانوا عليه بالأمس ولما جاء عهد الإمام الصادق كانت الدولة الأموية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني أشد المرارة من الهزائم التي تلحق بها من خصومها العباسيين الذين قوضوا أركانها وتسلموا الحكم بمساعدة العلويين والفرس. في ظل هذه الظروف الخاصة انطلق الإمامان الباقر والصادق (عليهم السّلام) لأداء رسالتهما. وقد تم لهما ذلك بين عهدين: عهد غمرته الكوارث ودوخته الهزائم، وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وزهو السيطرة علي الحكم. فقامت الحكومة الجديدة علي أكتاف العلويين وبمساندة الفرس. هذه الظروف هيأت للإمامين فرصة ذهبية لم تتهيأ لغيرهما من أئمة أهل البيت. لكن يا للأسف! لما استتب الأمر للعباسيين وتسلموا زمام الحكم تستروا بظل أهل البيت وشيعتهم ثم ظهروا علي حقيقتهم فغدروا بأنصارهم ومثلوا أبشع الأدوار وأقبح المؤامرات التي فعلها الأمويون حتي قال أحد الشعراء: يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار إن المشاكل التي كانت تحيط بالأمويين والأخطار المحدقة بهم من كل جانب سمحت لجامعة أهل البيت أن تنمو وتتوسع حتي أصبحت تضم أكثر من أربعة ألاف طالب، لكن ذلك حدث بعد أن مضي علي المسلمين أكثر من قرن لا عهد لهم بفقه يختص بأهل البيت حتي أن الرواة كانوا لا يتجرأون أن يجهروا بحديث لهم سوي ما كان يروي عن طريق الكتابة في الغالب. ذلك أن الأمويين في عز سلطانهم كانوا ينكلون بهم وبكل من يتهم بالولاء لهم، جادين في القضاء علي كل آثارهم. وما نلفت إليه أنه لو أتيح للأئمة بعد الإمام علي (عليه السّلام) أن ينصرفوا إلي الناحية التي اتجه لها الإمامان الباقر والصادق لكان فقه أهل البيت هو الفقه السائد والمعمول به عند عامة المسلمين. ذلك أن فقه الإمام علي بن أبي طالب هو الينبوع الأصيل والغزير وقد كان صاحب الرأي الأول والأخير في الفقه والقضاء بلا منازع ولكن خصومه عملوا بكل ما عندهم من وسائل لطمس آثاره وآثار أبنائه من بعده وكل من ينسب إليهم رأياً أو يروي عنهم حديثاً. لقد شاء الله لجامعة أهل البيت أن تعيش آمنة مطمئنة ولو لفترة يسيرة من الزمن، تلك الفترة التي لا تعد شيئاً ملحوظاً بالنسبة لما تركته من الآثار في شرق البلاد وغربها، فترة لا تتجاوز ثلث قرن من الزمن تقريباً. كما شاء الله سبحانه وتعالي لمذهب أهل البيت وفقههم، فقه الإمام علي بن أبي طالب، الذي أخذه عن الرسول مباشرة بلا واسطة، أن ينسبا إلي حفيدة الإمام جعفر الصادق الذي اشترك مع أبيه في تأسيس تلك الجامعة المباركة ثم استقل بها بعد وفاته (عليهما السّلام). وهذا لا يعني أن له رأياً في أصول المذهب أو فقهه يختلف فيهما عن آبائه وأحفاده، بل إنهم جميعاً (صلوات الله عليهم) يعملون بتعاليم القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

الولاء لأهل البيت

أكد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ضرورة الولاء لأهل البيت والمودة لهم، واعتبر ذلك عنصراً مهماً من عناصر الإسلام. قال (عليه السّلام) لأبي حمزة الثمالي: (أي البقاع أفضل)؟ فحار أبو حمزة في الجواب فقال: (الله ورسوله أعلم). فأجابه (عليه السّلام): (إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً) [235] . وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السّلام) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره، ويحاسب عليها كما يحاسب علي سائر الواجبات الإسلامية، وقد ذهب بعض العلماء إلي أنها شرط في صحة العمل، لا في قبوله، كشرائط الصحة في الواجبات. جاء في أحكام القرآن للجصاص: قال سعيد بن جبير: سألت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن القربي في الآية الكريمة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي) [236] هي قرابتنا أهل البيت [237] فالله سبحانه وتعالي قربهم منه لأنه يعلم أين يضع رسالته، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) في حديث آخر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة ودار الدنيا، فقد وفد عليه جماعة من الشيعة عائدين إياه قالوا له: (كيف أصبحت يا بن رسول الله)؟ فأجابهم الإمام بلطف: (في عافية، والله المحمود علي ذلك. وكيف أصبحتم أنتم جميعاً فانبروا قائلين: (أصبحنا والله لك محبين..). فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفي عند الله قائلاً: (من أحبنا لله أدخله الله ظلاً ظليلاً، يوم لا ظل إلا ظله ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا الجنة، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه الله رزقه من حيث لا يحتسب..) [238] . قسم الإمام (عليه السّلام) المحبة إلي ثلاثة أقسام عند محبي أهل البيت: أ - من أحب أهل البيت لله.. المحبة الحقيقة النبيلة تكون لله وليس لأمر آخر، وأهل البيت المجاهدون في سبيل الله، الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوة من أجل رفع كلمة الله ومن أجل نشر رسالة الله من واجب المؤمنين أن يحبوهم محبة خالصة ومحبة نبيلة وأصيلة، وهذا واجب لا ريب فيه. هؤلاء يدخلهم الله تبارك وتعالي ظلاً ظليلاً يوم لا ظل إلا ظله. ب - ومن أحبهم مكافأة لهم. كيف نحب أهل البيت مكافأة لهم؟ لقد قدموا لنا وللناس جميعاً خدمات جلي في جميع مجالات الحياة فبنشرهم الرسالة الإسلامية وجهادهم من أجل إعلاء كلمة الله أخرجوا الناس من الظلمة إلي النور، من ظلامة الجاهلية وظلم الجاهلين إلي نور الهداية والحياة الإنسانية الحرة الكريمة. فعلي المؤمنين أن يقدموا لهم مكافأة عرفاناً بجميلهم وذلك بإحياء ذكرهم. جاء في الحديث الشريف: أحيوا ذكرنا رحم الله من أحيا ذكرنا. إن إحياء ذكرهم إحياء الحق وتذكير الناس بالجهاد في سبيل الله، وتلقينهم دروساً في التضحية والعطاء والعمل الصالح في حياتهم الدنيا والآخرة. هؤلاء يكافئهم الله بالجنة. ج - ومن أحبهم لغرض دنياه.. حتي الذي يحبهم من أجل مصالحه الشخصية وتحقيق أغراض دنيوية يرزقه الله من حيث لا يحتسب. نخلص من هذا أن محبة أهل البيت واجب شرعي لكل مؤمن ومؤمنة لأنهم نبراس هداية ونور الإسلام والسلام.

سيادة أهل البيت علي الناس

سأل أحدهم الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال له: بماذا فضلتم علي الناس جميعاً وسدتموهم؟ فأجاب (عليه السّلام): إعلم أن الناس جميعاً لا يخلون من أحد ثلاثة: أما رجل أسلم علي أيدينا فهو مولي لنا يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته. وأما رجل قاتلناه، فقتلناه فمضي إلي النار وبقي ماله مغنماً لنا. وأما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر، ولا رابع فأي فضل لم نجزه وشرف لم نحصله)؟ [239] . ما نلاحظه أن الإمام (عليه السّلام) إنما ساق حديثه هذا إلي شخص لا يعترف بفضل أهل البيت (عليهم السّلام)، ولا يقر بسيادتهم المطلقة علي هذه الأمة. وحسبهم فخراً أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وفرض مودتهم علي جميع المؤمنين، وقربهم الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمحكم التنزيل وجعلهم سفينة النجاة وأمن العباد. روي (عليه السّلام) عن آبائه عن جده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن رسول الله قال لأصحابه: (إن الله قد فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة علي بعدي، ونهاكم عن معصيته وهو وصيي، ووارثي، وهو مني، وأنا مني، حبه إيمان، وبغضه كفر..) [240] . فالرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) علي أصحابه، وإنما الله فرضها علي جميع المسلمين. ولا ريب أن السبب في ذلك عظيم اتصال أمير المؤمنين بالله تعالي ومواهبه المتعددة وعبقريته إذ ليس في المسلمين من يدانيه في مآثره وفضائله. قال الجاحظ: (لا يعلم رجل في الأرض متي ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتي ذكرت النجدة والذب عن الإسلام، ومتي ذكر الفقه في الدين، ومتي ذكر الزهد في الدنيا ومتي ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الخصال كلها، إلا علي رضي الله عنه) [241] .

اثر مجزرة كربلاء علي الإمام السجاد

قبل المجزرة

نشأ الإمام زين العابدين في بيت النبوة، بيت الوحي الذي تحمل المحن المتتالية والآلام القاسية والمصائب المؤلمة وكلها كانت في سبيل الله. استقبل الإمام (عليه السّلام) في طفولته المبكرة محنة جده أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يتخبط بدمه في مسجد الكوفة بعد أن طعنه بخنجر مسموم ابن ملجم لعنه الله. وبعدها في سن الشباب عاش محنة عمه الحسن وهو يلفظ كبده من السم الذي دسه إليه معاوية بن أبي سفيان [242] وتجرع في شبابه أيضاً، وهو طريح الفراش من مرض فتك به آنذاك، مصرع أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، ومصرع إخوته وبني عمومته. كما شاهد بأم عينه سبي عماته وأخواته من كربلاء إلي الكوفة ومنها إلي الشام، ورأي رؤوس الأهل والأصحاب الشهداء علي الرماح يتقدمها رأس أبيه المظلوم الذي استشهد من أجل إحقاق الحق.

اثناء المجزرة

كان علي بن الحسين أكبر ولد أبيه، معه (عليه السّلام) بطف كربلاء وقد أنهكه المرض، روي عنه أبو مخنف أنه قال [243] : (إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني، اعتزل أبي في خباء له وعنده (جون) مولي أبي ذر الغفاري يعالج له سيفه ويصلحه وسمعته يقول: يا دهر أف لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل وكل حي سالك سبيل ما أقرب الوعد من الرحيل لما سمعت هذه الكلمات المؤثرة في نفسي خنقتني العبرة، ولزمت السكوت وأيقنت أن البلاء واقع لا محالة. أما عمتي زينب (عليه السّلام) فإنها لما سمعت ما سمعت لم تملك نفسها أن وثبت تجر ذيلها حتي انتهت إليه ونادت بأعلي صوتها: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها أبي وقال: يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان وأوصاها بالصبر وحفظ العيال. وفي اللحظات الأخيرة من حياة أبيه دخل عليه وأوصاه قبيل وفاته بوصاياه وسلمه مواريث النبوة وكانت آخر وصية أوصاه بها: (يا بني أوصيك بما أوصي به جدك رسول الله علياً حين وفاته وبما أوصي به جدك علي عمك الحسن وبما أوصاني به عمك، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله، ثم ودعه ومضي إلي المعركة الأخيرة التي قتل فيها. فيا لها من ساعة محزنة مؤلمة، ويا له من وداع تتفطر له القلوب إنه الوداع الأخير للأخوات والأهل وابنه الوحيد الذي لم يبق غيره من نسله. وداع الحياة الفانية ولقاء الحياة الأبدية الباقية في جنة الخلد مع أمه الزهراء، سيدة نساء العالمين، وأبيه علي أمير المؤمنين وأخيه الحسن المسموم المظلوم، وجده رسول الله خاتم الرسل والنبيين (صلّي الله عليه وآله وسلّم). وعلي بن الحسين هو الذي دفن أباه والقتلي من أهله وأنصاره. ولما دخل الكوفة بعد ذلك، بعد أن نفض يديه من تراب الشهداء الأبرار، ومعه عماته وأخواته اجتمع عليهم الناس فهالهم ذلك المشهد وجعلوا يبكون وينوحون ويندبون، ولما أجهشوا بالبكاء أومأ إلي الناس أن يسكتوا ثم وقف وقد أنهكه المرض فحمد الله وأثني عليه وذكر النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وصللا عليه ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، أنا ابن من قتل صبراً وكفي بذلك فخراً. ومضي يذكر أهل الكوفة بكتبهم ومواعيدهم وبما ارتكبوه من الفظائع حتي ضج الناس بالبكاء والعويل. ولما أدخل علي ابن زياد لعنه الله قال له: من أنت؟ قال: أنا علي بن الحسين، فرد عليه بقوله: أليس قد قتل الله علي بن الحسين، فأجابه الإمام: كان لي أخ يسمي علياً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام: الله يتوفي الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: أبك جرأة علي رد جوابي، وأمر جلاوزته بقتله، فتعلقت به عمته زينب واعتنقته وقالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت والله لا أفارقه فإن أردت قتله فاقتلني معه، فرق لها وتركه. ثم كتب يزيد بن معاوية إلي عبيد الله بن زياد يأمره بإرسال رأس الحسين ورؤوس القتلي مع السبايا إلي الشام، أرسلهم إليه مع مخفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوش، وجماعة من جنده، وكان كما يصفه الرواة مقيداً بالحديد، ولما بلغوا بهم الشام خرج أهلها إلي استقبالهم بأبهي مظاهر الزينة والفرح. جاء في البحار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: خرجت إلي بيت المقدس، فلما توسطت الشام فإذا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علق أهلها الستور والحجب وهم فرحون، والنساء تلعب بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي أري لأهل الشام عيداً لا نعرفه، فأقبلت علي القوم وقلت لهم: يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه، فقالوا: يا شيخ نظنك غريباً، فقلت لهم: أنا صاحب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سهل بن سعد الساعدي وقد رأيت رسول الله وسمعت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك إن السماء لتمطر دماً والأرض لتنخسف بأهلها، فقلت لهم ولم ذاك: فقالوا: هذا رأس الحسين بن علي يهدي من أرض العراق إلي يزيد بن معاوية، فقلت: واعجباه رأس الحسين والناس يفرحون كما أري، من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلي باب يقال له باب الساعات، فبينما نحن في الحديث وإنا بالرايات يتلو بعضها بعضاً، وفارس بيده رمح منزوع السنان عليه رأس الحسين (عليه السّلام) من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ووراءه نسوة علي جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن وقلت: من أنت؟ قالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألك حاجة إلي؟ أنا سهل بن سعد ممن رأي جدك رسول الله، قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يتقدم أمامنا حتي يشتغل الناس بالنظر إليه عن النظر إلي حرم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ففعل وتم له ذلك. ثم دعا يزيد أشراف الشام ووجوهها وأجلسهم حوله وأمر بإدخال الإمام زين العابدين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال، فقال له علي بن الحسين: أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا علي مثل هذه الحالة، فلم يبق أحد ممن كان حاضراً إلا بكي. التفت يزيد إلي علي بن الحسين وقال: أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت، فقال علي بن الحسين: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك علي الله يسير لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يجب كل مختال فخور، فقال يزيد لابنه خالد: فلم يدر خالد ما يقول. فقال له يزيد: قل له ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. فقال له الإمام زين العابدين: يا بن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأبوك وجدك في أيديهم راية الكفار، ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أبشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب. وروي الرواة أن يزيد بن معاوية أمر أحد أنصاره من المرتزقة عنده أن يصعد المنبر وينال من علي والحسين والحسن ويثني علي معاوية فصعد الخطيب المنبر وأفاض في ذلك علي معاوية ونال من علي والحسن والحسين (عليه السّلام)، فقال له الإمام السجاد: ويلك أيها المتكلم أتشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار، ثم التفت إلي يزيد وقال: أتسمح لي أن أصعد هذه وأتكلم بكلمات فيها لله رضا ولهؤلاء الجلوس أجر وثواب، فلم يأذن له يزيد بذلك. فقال له من في المجلس: إئذن له يا أمير لنسمع ما يقول، فرد عليهم يزيد بقوله: إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا الغلام، فقال كما يزعم الرواة: إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً. فلم يزالوا حتي أذن له فصعد المنبر وحمد الله وأثني عليه وقال: أيها الناس لقد أعطينا ستاً وفضلنا بسبع. أعطينا: العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة وفضلنا بأن النبي المختار (صلّي الله عليه وآله وسلّم) منا، والصديق منا، والطيار منا، وأسد الله وأسد رسوله منا والسيدة الزهراء منا وسبطا هذه الأمة منا ثم تابع قائلاً: (أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردي، أنا ابن خير من ائتزر وارتدي أنا ابن من طاف وسعي، أنا ابن خير من حج البيت الحرام ولبي، أنا ابن من حمل علي البراق في الهوا، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، أنا ابن من سعي به جبريل إلي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلي فكان قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلي بملائكة السما، أنا ابن من أوحي الجليل ما أوحي، أنا ابن محمد المصطفي وعلي المرتضي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا: لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وبايع البيعتين وطعن برحمين وهاجر الهجرتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين... ولم يزل يقول ويعدد أنا أنا... مآثر جديه رسوله الله وأمير المؤمنين وأبيه أبي عبد الله الحسين ويذكر ما جري في طف كربلاء حتي ضج الناس جميعاً بالبكاء والنحيب حتي خشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه فأمر المؤذن بالأذان ليقطع حديث الإمام السجاد. فلما قال المؤذن: الله أكبر قال علي (عليه السّلام): لا شيء أكبر من الله، ولما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال الإمام (عليه السّلام): شهد بها لحمي ودمي وبشري وشعري، ولما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت علي بن الحسين إلي يزيد بن معاوية وقال: محمد هذا جدي أم جدك، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟! وأضاف الراوي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال ليزيد: من هذا الغلام؟ فقال: هو علي بن الحسين، وسأله اليهودي عن جده وأبيه وأمه فأخبره بنسبه حتي انتهي إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال اليهودي: يا سبحان الله لقد قتلتم ابن بنت نبيكم بهذه السرعة بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو ترك فينا موسي بن عمران سبطاً من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون الله، وأنتم قد فارقتم نبيكم بالأمس ووثبتم علي ابنه فقتلتموه فسوءة لكم من أمة.

بعد المجزرة

يروي الرواة أن يزيد بن معاوية خيَّر الإمام زين العابدين بين البقاء في الشام أو الرجوع إلي المدينة فاختار الرجوع إليها لأن له فيها ذكريات لا يمكن أن يمحي من ذاكرته ومن ذاكرة التاريخ عرج الموكب علي كربلاء وكان فيها جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم قد شدوا الرحال لزيارة قبر الإمام الحسين فتلاقي الجميع بالبكاء والعويل وأقاموا المأتم واجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة علي الفرات، وبعد أيام مضي الموكب في طريقه إلي المدينة.

الإمام زين العابدين في المدينة

كانت المدينة تترقب أنباء سبط رسول الله بفارغ الصبر عندما خرج إلي الكوفة ملبياً نداء شيعته هناك. ولكن الذي راعها وأخذ منها صوت مناد ينادي: إن علي بن الحسين قد قدم إليكم مع عماته وأخوته، إذاً يا تري أين الإمام الحسين؟ وأين النجوم الزاهرة والصحبة الطاهرة من بني الزهراء وآل عبد المطلب. انتشر الخبر (النعي) في كل الأرجاء حتي بلغ سفح أحد، ثم ارتد إلي البقيع فقباء، وما لبث أن تلاشي مع صراخ النائحين وعويل النائحات، لم تبق مخدرة في المدينة إلا خرجت من خدرها نائحة معولة. وأهل الركب الحزين يشاهدون الجموع التي خرجت لاستقباله. حزنت مدينة الرسول حزناً عميقاً علي العترة الطاهرة وأقامت أياماً بلياليها تشهد المأتم الرهيب لا يعكر صفوها سوي اليتامي والأرامل والثكالي يسعين كل يوم إلي القبور فيبكي لهن الأصدقاء والأعداء. زوجة الإمام علي (عليه السّلام) كانت تخرج إلي البقيع لتبكي أبناءها الأربعة: عبد الله وعثمان وجعفراً والعباس. وتندبهم بندبة حزينة تحرق قلب كل من سمعها، حتي قلب مروان بن الحكم، عدو الطالبيين. والرباب عادت بعد مصرع ابنها إلي المدينة وبقيت تنوح وتبكي سنة حتي ضعفت وماتت. وأما السيدة زينب بطلة كربلاء فدموعها غزيرة جداً لأن اللهيب في قلبها أطفأ تلك الدموع فهبت تطلب ثأراً، لأن هذا الدم المسفوح لا ينبغي أن يضيع هدراً كان وجودها في المدينة كافياً لأن يلهب القلوب المؤمنة بالحق علي الشهداء، ويؤلب الناس علي حكم الطغاة وجورهم، وهذا ما ضايق الحكام الأمويين، فكتبوا إلي واليهم في المدينة. (إن وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر وإنها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومن معها علي القيام للأخذ بثأر الحسين) عندها أمره الطاغية يزيد أن يفرق البقية الباقية من آل البيت في الأقطار والأمصار [244] ولما علمت (عليها السّلام) بالخبر قالت غاضبة: (وقد علم والله ما صار إلينا قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام وحملنا علي الأقتاب فوالله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا). لم تعش السيدة زينب (عليه السّلام) بعد مقتل أخيها الحسين الشهيد وإمام الشاهدين سوي عام ونصف العام، لكنها استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تقلق مضاجع الأمويين وتغيّر مجري التاريخ. لقد ظن حكام بني أمية أن مقتل الحسين يسدل الستار علي الفصل الأخير علي المسرحية الكربلائية وما نحسبه يسدل حتي تتبدل الأرض ومن عليها! الإمام الحسين (عليه السّلام) باق في المهج والأرواح، ومأساة الحسين مأساة إنسانية خالصة تأخذ بلب كل إنسان وتستثير مشاعر جميع الشرفاء. الحسين شهيد وإمام الشاهدين، والشاهدية حضور تام في الذات والمجتمع والكون، تولد منها الشهادة عملاً لذلك الحضور. إن الغمامة المحملة بإيحاءات البحر، ونسمات الفلك فتحت فمها لتقول كلمة الحق، كلمة العودة إلي المنبع، مثلما تئن الأوتار والنايات وتصفر العلائم الموسيقية منسلة من الجسد لتعود إلي قلب الأرض وهي تحدو حول الشمس حداء الصيرورة، وهو في الوقت ذاته نشيد الحب الأكبر والجمال الأعظم والجلال المطلق. كلمة الحسين الشاهدة الملتزمة تقول الموت البطولي كما لم تقله شهادة في تاريخ الأرض، لأنها عبارة جده الرسول الأعظم التي كتبها من فوح القرآن وسوف تبقي ما بقي أنبل إنسان، ولا يستطيع أن يخفيها أو يغيّر مجراها بنو مروان أو بنو سفيان مهما تصنعوا في الظلم والبهتان.

خطبته في المدينة

والناس يزدحمون حول فسطاطه وكان معه بشر بن حذلم، خرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي، ومعه خرقة يمسح بها دموعه. أخرج الخادم له كرسياً فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة، ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، بارئ الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلي، وقرب فشهد النجوي نحمده علي عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الغاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم تابع قائلاً: إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية. أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن أنهما لها وأي قلب لا يتصدع لقتله، وأي فؤاد لا يحن إليه، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم. أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق، والله لو أن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام. عندما سمع الجماهير خطابه هذا أثر في نفوسهم إلي حد بعيد فارتج المكان بالبكاء والعويل وشعر المسلمون بتلك الصدمة العنيفة التي أصابت الإسلام في الصميم. مما أثار في ضمائرهم الهامدة روح النضال والدفاع عن الحق المهدور، ودب في نفوسهم الشعور بالإثم والتقصير، فلم السكوت عن كرامتهم التي أصبحت تداس تحت أقدام يزيد الفاجر والمجرم بعد أن أقدم علي قتل سبط الرسول وريحانته وسبي نسائه. من هنا كانت ثورة التوابين والمختار بن أبي عبيدة الثقفي فقد استماتوا لأخذ ثأر الدم المهدور وذلك للتكفير عن تخاذلهم عن نصرة الإمام الحسين والخضوع للظالمين. ثم استمرت الثورات تقودها روح كربلائية حطمت عروش الأمويين الطغاة وقامت بعدها دولة العباسيين. دخل الإمام زين العابدين المدينة وهو يكفكف دموعه، فرآها موحشة يخيم علي أهلها الحزن والأسي، وديار أهله خالية تنعي سكانها فانصرف عن شؤون الناس ولم يكن يعنيه شيء من الدنيا ومن فيها. فشرع يبكي علي أبيه المظلوم وعلي أخوته وعمومته الشهداء حتي عده المحدثون البكائين. فماذا يعمل؟ أيأخذ بالثأر، أم يصبر وفي العين قذي؟ إن الظروف لا تسمح له بأخذ الثأر وقد شاهد تلك المصيبة الفادحة والمؤلمة في كربلاء، وأدرك أن وقعة الطف الدامية قد كفته أعباء الحرب بإظهارها ضلال الأمويين وظلمهم وطغيانهم. وهنا بعد أن تحمل أعباء الخلافة الإلهية من أبيه وأصبح حجة علي خلقه، آثر الاعتزال والبعد عن الضجيج ليحفظ دمه الذكي ودم شيعته الأبرار. روي الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: (البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعلي بن الحسين (عليهم السّلام). فأما آدم فبكي علي الجنة حتي صار في خديه أمثال الأودية. وأما يعقوب فبكي علي يوسف حتي ذهب بصره وحتي قيل له: (تالله تفتئ تذكر يوسف حتي تكون حرضاً أو تكون من الهالكين). وأما يوسف فبكي علي يعقوب حتي تأذي به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم علي واحدة منهما. وأما فاطمة فبكت علي رسول الله حتي تأذي بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلي مقابر الشهداء فتبكي حتي تنقضي حاجتها. وأما علي بن الحسين فبكي علي أبيه عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكي حتي قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي فقال له: ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحدودب ظهره من الحزن وابنه حي في دار الدنيا وأنا نظرت إلي أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي مضرجين بدمائهم حولي فكيف ينقضي حزني. وكان (عليه السّلام) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جري لأبيه واسرته في كربلاء، وأحياناً كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جري لأهل بيته، فيذهب إلي سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماءً قبل ذبحها، وعندما يسمعهم يقولون: إنا لا نذبح حيواناً قبل أن نسقيه ولو قليلاً من الماء. فيبكي ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله غريباً عطشاناً فيبكون لبكائه حتي ترتفع الأصوات بالنحيب. كان إذا رأي غريباً في الطريق دعاه إلي ضيافته وطعامه، ثم يبكي ويقول: لقد قتل أبو عبد الله غريباً جائعاً عطشاناً في طف كربلاء. إلي غير ذلك من المواقف التي كان يقفها بعد مقتل أبيه في السنين الأولي وذلك ليشحن النفوس بالحقد علي الظالمين ويهيئها للثورة عندما يحين الوقت المناسب. كما ساهمت عمته زينب (عليها السّلام) في هذا النوع من التحرك السياسي. هذا اللون من الحزن المتواصل يثير عواطف الجماهير ويغضبها ويدب فيها النقمة علي يزيد الطاغية وجلاوزته المجرمين. إثر ذلك خيّم علي المدينة جو من القلق ينذر بتفجير الموقف بين حين وآخر لقد استطاع الإمام زين العابدين وعمته العقيلة زينب (عليهما السّلام) تعبئة النفوس للثورة بترديدهما لتلك المأساة والنوح المتواصل الذي ألهب النفوس بانتظار الوقت المناسب للأخذ بالثأر.

مواقف الإمام من الصحابة والعلماء

اشاره

كان موقف الإمام (عليه السّلام) من أصحابه وعلماء أهل زمانه النصح والإرشاد. ومراقبة أعمالهم وتقديم المشورة لهم تجاه أنفسهم وتجاه الأمة، ليصحح الانحراف الذي يحصل عندهم ثم يدلهم علي الموقف الإسلامي الصحيح للحوادث والسلوكيات وتوضيح مفاهيم الشريعة الإسلامية وأصولها حينما تلتبس عليهم الأمور، فيجلي الأمر أمامهم ويوضح لهم حكم الله في المسائل واضحاً جلياً لا لبس فيه، ثم يحذرهم من التقرب من الملوك ومداهنتهم أو تأييد الأشخاص غير المخلصين للإسلام والذين يقومون بثورات لأجل المنصب وكرسي الحكم لا لأجل رفع كلمة الله الواحد القهار وسوف نعطي مثلين علي سبيل الذكر لا الحصر.

موقف الإمام مع الحسن البصري

عمد الإمام إلي تصحيح سلوك العلماء وتقويم أخلاقهم وتوجيه النقد لهم بكل أدب واحترام، فيحاور العالم حتي يعترف بخطئه ويقدم للإمام كل تقدير وتبجيل معترفاً له بالآية الكريمة: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) [سورة آل عمران: الآية24]. (رأي علي بن الحسين (عليه السّلام) البصري عند الحجر الأسود يقص فقال: يا هذا أترضي نفسك للموت؟ قال: لا. قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال فثمَّ دار للعمل؟ قال: لا، قال: فللَّه في الأرض معاذ غير هذا البيت؟ قال:لا، قال: فلم تشغل الناس عن الطواف!؟ ثم مضي. قال الحسن: ما دخل مسامعي مثل هذه الكلمات من أحد قط أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا: هذا زين العابدين. فقال الحسن: (ذرية بعضها من بعض) [245] .

موقف الإمام مع الزهري

كان للإمام (عليه السّلام) مواقف رائعة تجاه الزهري حيث وضح له معالم الدين وحكمة التشريع. (كان الزهري عاملاً لبني أمية فعاقب رجلاً فمات إثر العقوبة فخرج الزهري هائماً متوحشاً ودخل إلي غار، فطال مقامه تسع سنين، قال: وحج علي بن الحسين (عليه السّلام) فأتاه الزهري فقال له الإمام: إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك، فابعث بديّة مسلمة إلي أهله واخرج إلي أهلك ومعالم دينك، فقال له: فرَّجت عني يا سيدي! الله أعلم حيث يجعل رسالته ورجع إلي بيته) [246] . وفي رواية أخري رواها سفيان بن عيينة عن الزهري، يبيّن فيها الإمام للزهري أحكام الله ويفصلها له بصورة واضحة كاملة. من ذلك القول في الصوم أقسامه والواجب منه وغير الواجب وكل ما يتعلق بأحواله. وقد ورد تفصيل ذلك باب سابق.

موقف الإمام من الأمة

اشاره

اهتم الإمام (عليه السّلام) اهتماماً واسعاً كبيراً بشؤون أمته فاتبع أساليب متنوعة وذلك حسب الظروف والأحوال وحسب الجماعات والأشخاص نذكر من هذه الأساليب:

تفقد شؤون الأمة

اهتم الإمام بكل ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية في حياتها المعنوية كما في حياتها المادية. فكان (عليه السّلام) يتفقد شؤون الفقراء والمساكين لأنه كان يحبهم ويشفق عليهم فيجالسهم ويستمع إلي مشاكلهم... وكان يخرج ليلاً يحمل علي ظهره الغذاء والطعام والطحين وكل ما تحتاج إليه العائلة، وقد غطي وجهه لئلا يعرفه أحد، فيطرق باب المساكين باباً باباً ويعطيهم رزق الله... وقد ترك هذا العمل آثاراً علي ظهره، اكتشف بعد وفاته حين غسلوه وكفنوه (عليه السّلام). فكان الإمام بهذا العمل يعيش الهاجس الروحي مع الأمة ويستشعر المسؤولية الكبري تجاهها إذعاناً منه لحديث جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (من أصبح ولم يهتم بشؤون المسلمين فليس بمسلم)... وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلي آثار سود في ظهره فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: كان يجمل جُرُبَ الدقيق ليلاً علي ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة) [247] . وعن شبيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين (عليه السّلام) يُقوِّت مائة أهل بيت بالمدينة، وكانوا يعيشون ولا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون بالليل...

مواجهة المشبهة والملحدين

وكما تصدي الإمام (عليه السّلام) للانحراف الأخلاق لدي الأمة الإسلامية تصدي أيضاً للانحراف العقائدي والفكري الذي طرأ علي فكر بعض قطاعات الأمة من فئات خبيثة منحرفة عن الخط الإسلامي السليم. كان (عليه السّلام) يقاوم هذا الانحراف بكل ما يملك من جهود حتي وصل به الحد إلي الارتياع من هذه الانحرافات في الفكر والعقيدة. فنراه (عليه السّلام) في مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم إذ سمع قوماً يشبهون الله بخلقه ففزع لذلك وارتاع، ونهض حتي أتي قبر رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربه ومما قاله في مناجاته: (إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك فجهلوك وقدَّروك بالتقدير علي غير ما أتت به شبِّهوك، وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك إلهي ولم يدركوك فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن يناولوك بل سوَّوك بخلقك فمن ثمَّ لم يعرفوك. واتخذوا بعض آياتك رباً فبذلك وصفوك فتعاليت ياآلهي عمّا به المشبهون نعتوك) [248] . لقد حارب الإمام زين العابدين المشبهة والملحدين بالدعاء، هذا الأسلوب الذي هو الصفة المميزة له في تلك الظروف هو أسلوب غير مباشر [249] ، وهو المفضل والمؤثر أكثر في التبليغ وقد استعمله النبي إبراهيم الخليل (عليه السّلام) في تذكير قومه بانحرافهم عن عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم التي سرعان ما تزول وتأفل: (فلما جنّ عليه الليل رأي كوكباً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الافلين، فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) [سورة الأنعام: الآية 76-80].

التربية والتثقيف

اتخذ الإمام السجاد جانب الموعظة والإرشاد ركناً أساسياً في مسيرته الحياتية في تبليغ الأمة الإسلامية، فنراه تارة يلقي الخطب والمواعظ بصورة عامة، وتارة أخري نجده يخصص جلسات خاصة ومواعيد ثابتة لأصحابه يوجههم ويؤهلهم ويربيهم لتحمل الأمانة، والتكليف الشرعي، والتزام المسؤولية الاجتماعية، فكان له موعد مع أصحابه في كل يوم جمعة يوعظهم ويذكرهم ويبلغهم ما هم عليه قادمون، وما هم عنه مسؤولون. وقد استخدم الإمام (عليه السّلام) أسلوب الدعاء استخداماً ناجحاً في تربية الأمة وتوجيهها الوجهات الصحيحة في الأخلاق والاجتماع والسياسة والدين، وسوف نعرض في فصل لاحق أثر الدعاء في تربية الأمة وتثقيفها.

تحديد العلاقة مع أهل البيت

اختلف الناس في حبهم وفي بغضهم لأهل البيت (عليهم السّلام) فبعضهم أبغضهم حتي عدهم من الخوارج، والبعض الآخر أحبهم حتي ألههم، وقد تعرض أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) لمثل هذه الحالات، فكان يخطب بين الجموع التي تجتمع تحت منبره وتسمع ما يقول: أشهد أنك أنت الله، وفي الطرف الآخر من يقول: لله درّك كاذباً) [250] . ويروي أنه مر بجماعة كانوا يأكلون في شهر رمضان، فسألهم أعن سفر أم مرض؟ وحذرهم من النار. فأجابوه: أندخل النار وأنت وأنت، فنزل عن دابته وسجد وقال: أنا عبد من عبيد الله... وقد شاهد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فئة من شيعته قد أوغلوا في حبهم حتي أخرجهم عن الصراط السوي وعن خط الإسلام السليم. فتحول الحب لأهل البيت (عليهم السّلام) إلي غلو ثم تأليه وبالتالي إضفاء صفات عليهم ما أنزل الله بها من سلطان. فما كان من الإمام إلا أن يقاومهم بحزم ويجابههم بكل ما يملك من أساليب، فأفهمهم وأرشدهم بأن عملهم هذا هو انحراف عن الإسلام وبعيد كل البعد عن خط أهل البيت (عليهم السّلام)، خط الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حب فيه عيب عليهم ومنقصة لهم. روي ابن شهاب الزهري قال: حدثنا علي بن الحسين (عليه السّلام) وكان أفضل هاشمي أدركناه، قال: (أحبونا حب الإسلام، فما زال حبكم لنا حتي صار شيناً علينا) [251] أي أحبونا حباً يكون موافقاً لقانون الإسلام ولا يخرجكم عنه، ولا زال حبكم لنا حتي أفرطتم وقلتم فينا ما لا نرضي به، فصرتم شيناً وعيباً علينا، حيث يعيبوننا الناس بما تنسبون إلينا. وفي رواية أخري (عن علي بن الحسين (عليه السّلام) قال: يا معشر أهل العراق، يا معشر أهل الكوفة، أحبونا حب الإسلام ولا ترفعونا فوق حقنا) [252] فكلام الإمام واضح تمام الوضوح في الطلب من الشيعة أن يحبوا أهل البيت (عليهم السّلام) حب الإسلام بحيث لا يخرجهم هذا الحب عن إطار الإسلام، وعن صورة الإيمان، وحدود الشريعة الإسلامية ومن يخرج عن هذه الحدود فقد خرج بطبيعة الحال عن الإسلام.

شعره

عرف بعض الحكماء الشعر فقالوا: الشعر إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال. وقال آخرون: الشعر هو الحق ينقله الشعور حياً إلي القلب فالتعريف الأول يصح أن يكون للفن الأدبي بضربيه الشعر والنثر. والتعريف الثاني يخاطب العقل والشعور معاً. فالوزن والقافية والاتصال بالشعور من الشروط اللازمة في قول الشعر. والإمام السجاد قال الشعر صادراً عن عقله وشعوره معاً ونابعاً من تجاربه ومعاناته في الحياة. وكل شعره جاء في المناجاة والأخلاق والدعوة إلي الخير والفخر، والنهي عن الشر والأمر بمكارم الأخلاق. ولا غرو فالإمام زين العابدين (عليه السّلام) من الذين كرسوا حياتهم من أجل الحق والفضيلة وتقويم الانحراف والجهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام. وهذه مقتطفات من شعره: قال في إحدي مناجاته التي ترتعد منها الفرائض: (يا نفس حتي مَ إلي الدنيا سكونك، وإلي عمارتها ركونك أما اعتبرت بمن مضي من أسلافك، ومن رواته الأرض من ألاَّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقابر فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دوائر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر فكم خرمت أيدي المنون من قرون، وكم غيرت الأرض ببلا ئها وغيبت في ترابها ممن عاشرت من البشر وشيعتهم إلي القبور ثم رجعت عنهم إلي عمل أهل الإفلاس. ثم يتابع في نصحه لأهل الدنيا: وأنت علي الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر علي خطر تمسي وتصبح لاهياً أتدري بماذا لو عقلت تخاطر وإن امرءاً يسعي لدنياه جاهداً ويذهل عن أخراه لا شك خاسر فحتي مَ علي الدنيا إقبالك؟ وبمغرياتها اشتغالك؟ وقد أسرع إلي قذالك الشيب البشير، وأنذرك النذير، وأنت ساه عما يراد بك ولاه عن غدك وقد رأيت بأم عينك انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصائب والنكبات. وفي ذكر هول الموت والقبر والبلي عن اللهو واللذات للمرء زاجر أبعد اقتراب الأربعين تربص وشيب قذال منذ ذلك ذاعر كأنك معني بما هو صائر لنفسك عمداً أو عن الرشد حائر فحول نظرك إلي الأمم الماضية والقرون الخالية كيف اختطفتهم عوادي الأيام فأفناهم الحمام، فأمحت من الدنيا آثارهم وأصبحوا رمماً تحت التراب إلي يوم الحشر والحساب. وأضحوا رميماً في التراب وأقفرت مجالس منهم عطلت ومقاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم وأني لسكان القبور التزاور فما أن تري إلا قبوراً ثووا بها مسطحة تسفي عليها الأعاصر ثم يحذر (عليه السّلام) المتكبرين ويعظ الملوك الجبارين الذين نزل بهم ما لا يصد فتعالي الله العزيز القهار، مبيد المتكبرين وقاصم الجبارين الذي ذل لعزه كل سلطان، وباد بقوته كل ديان: مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الأمر قاهر عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكم من عزيز للمهين صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر ويتابع (عليه السّلام) تحذيره للناس عامة من الدنيا ومكائدها، وما نصبت للناس من مصائبها، وتحلت لهم من زينتها وأظهرت لهم من بهجتها ومن شهواتها وأخفت عنهم من مكائدها وقواتلها: وفي دون ما عينت من فجعاتها إلي دفعها داع وبالزهد آمر فجد ولا تغفل وكن متيقظاً فعما قليل يترك الدار عامر فشمّر ولا تفتر فعمرك زائل وأنت إلي دار الإقامة صائر ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها وإن نلت منها غبه لك ضائر وما دام اللبيب علي ثقة من زوال الدنيا وفنائها، فلماذا يحرص عليها ويطمع في بقائها، وكيف تنام عينه وتسكن نفسه وهو يتوقع الممات في جميع أموره!! إلا له، ولكنا نغر نفوسنا وتشغلنا اللذات عما نحاذر وكيف يلذ العيش من هو موقن بموقف عدل يوم تبلي السرائر كأنا نري أن لا نشور، وإنما سدي ما لنا بعد الممات مصادر وبعد الوقوع في الخطايا وانغماسه في الرزايا يبكي علي ما سلف ويتحسر علي ما فاته من دنياه، فيشرع بالاستغفار حين لا ينجيه لا استغفار ولا اعتذار من هول المنية ونزول البلية: أحاطت به أحزانه وهمومه وأبلس لما أعجزته المقادر فليس له من كربة الموت فارج وليس له مما يحاذر ناصر وقد جشأت خوف المنية نفسه ترددها منه اللها والحناجر فتذكر أيها الإنسان الحالة التي أنت صائر إليها لا محالة، فإنك منقول إلي دار البلي ومدفوع إلي هول ما تري: ثوي مفرداً في لحده وتوزعت مواريثه أولاده والأصاهر واحنوا علي أمواله يقسمونها فلا حامد منهم عليها وشاكر فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها ويا آمناً من أن تدور الدوائر ولم تتزود للرحيل وقد دنا وأنت علي حال وشيك مسافر فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي وعمري فان والردي لي ناظر وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت يجازي عليه عادل الحكم قادر تخرب ما يبقي وتعمر فانياً فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر وهل لك إن وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيراً لدي الله عاذر أترضي بأن تفني الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافر روي الزهري قال: كان علي بن الحسين (عليه السّلام) يناجي ربه تعالي ويقول: (قل لمن قل عزاؤه، وطال بكاؤه، ودام عناؤه، وبان صبره، وتقسم فكره، والتبس عليه أمره، من فقد الأولاد، ومفارقة الآباء والأجداد، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد؟ تعز فكل للمنية ذائق وكل ابن أنثي للحياة مفارق فعمر الفتي للحادثات دريئة تناهبه ساعاتها والدقائق كذا نتفانا واحد بعد واحد وتطرقنا بالحادثات الطوارق وفيم وحتي الشكاية والردي جموح لآجال البرية لاحق فكل ابن أنثي هالك وابن هالك لمن ضمنته غربها والمشارق فلا بد من إدراك ما هو كائن ولا بد من اتيان ما هو سابق فما للإنسان والخلود إلي دار الأحزان والهوان، وقد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرحمن، (كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام). فالشباب للهرم، والصحة إلي السقم، والوجود إلي العدم، فلماذا التلهف والندم وقد خلت من قبلنا الأمم: أترجو نجاة من حياة سقيمة وسهم المنايا للخليقة راشق سرورك موصول بفقدان لذة ومن دون ما تهواه تأتي العوائق وحبك للدنيا غرور وباطل وفي ضمنها للراغبين البوائق فأين السلف الماضون وأين الأهلون والأقربون، وأين الأنبياء المرسلون فقد طحنتهم المنون، وفقدتهم العيون وإنا إليهم صائرون. فإنا لله وإنا إليه راجعون. إذا كان هذا نهج من كان قبلنا فإنا علي آثارهم نتلاحق فكن عالماً أن سوف تدرك من مضي ولو عصمتك الراسيات الشواهق فما هذه دار المقامة فاعلمن ولو عمر الإنسان ما ذر شارق فتأمل وتبصر واسأل أين من بني القصور وهزم الجيوش وجمع الأموال، أين ملوك الفراعنة والأكاسرة والغساسنة؟ كأن لم يكونوا أهل عز ومنعة ولا رفعت أعلامهم والمناجق ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا ولا أخذت منهم بعهد مواثق وروي طاووس الفقيه قال: رأيت زين العابدين (عليه السّلام) يطوف بالبيت من العشاء إلي السحر ويتعبد ثم قال: (...إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربي؟ ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المني فأين رجائي ثم أين محبتي أتيت بأعمال قباح ردية وما في الوري خلق جني كجنايتي وحدث عبد الله بن المبارك أنه كان في بعض السنين يساير الحاج إذ رأي صبياً سباعياً أو ثمانياً يسير في ناحية الحاج بلا زاد ولا راحلة فقال له: مع من قطعت البر؟ فقال: مع الباري جل شأنه، فسأله عن راحلته وزاده فأجابه: بأن زاده تقواه وراحلته رجلاه وقصده إلي مولاه سبحانه وتعالي، فكبر في عينه وازداد تعجبه فتشوق إلي استكشاف نسبه فقال: هاشمي علوي فاطمي. وكان هذا يفسر مواهبه الأدبية فسأله عن معرفته بالشعر فاستنشده من شعره فقال: لنحن علي الحوض رواده نذود ونسقي وراده وما فاز من فاز إلا بنا وما خاب من حبنا زاده ومن سرنا نال منا السرور ومن ساءنا ساء ميلاده ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعاده ثم فارقه ولم يشاهده إلا بالأبطح، فرآه جالساً وحوله جماعة يسألونه عما أبهم عليهم من الحلال والحرام وما أشكل عليهم فإذا هو زين العابدين (عليه السّلام) ومما يروي له صلوات الله عليه قوله: نحن بنو المصطفي ذوو غصص يجرعها في الأنام كاظمنا عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلي وآخرنا يفرح هذا الوري بعيدهم ونحن أعيادنا مآتمنا والناس في الأمن والسرور وما يأمن طول الزمان خائفنا وما خصصنا به من الشرف الطائل بين الأنام آفتنا يحكم فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقنا وغاصبنا [253] . ذكر الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [254] علم الأسرار والحقيقة ثم قال أشار إلي هذا رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال: إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يري الحق ذو جهل فيفتننا وقد تقدم في هذا أبو الحسن إلي الحسين وأوصي قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا [255] . وذكر ابن شهر آشوب في المناقب أن الأصمعي قال: كنت أطوف ليلة بالبيت الحرام فإذا شاب ظريف عليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول نامت العيون إلي أن قال: يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوي مع السقم قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيوم لم تنم أدعوك ربي دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود علي العاصين بالنعم [256] . وقال (عليه السلام) مخاطباً الحكام الظالمين: لكم ما تدعون بغير حق إذ ميز الصحاح من المراض عرفتم حقنا فجحدتمونا كما عرف السواد من البياض كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضياً الإله فنعم قاض [257] . وقال (عليه السّلام) ليزيد بن معاوية: لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم وأن نكف الأذي عنكم وتؤذونا والله يعلم إنا لا نحبكم ولا نلومكم أن لا تحبونا قال: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، والحمد لله قتلهما وسفك دماهما. فقال (عليه السّلام): لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد [258] . ومن الأشعار المنسوبة إلي الإمام زين العابدين مقطوعتين من المناجاة المنظومة ذكر أنهما وجدتا بخط بعض العلماء. الأولي: ألم نسمع بفضلك يا منايا دعاءً من ضعيف مبتلاء [259] . غريقاً في بحار الغم حزناً أسيراً بالذنوب والخطاء أنادي بالتضرع كل يومٍ مجداً بالتبتل والدعاء لقد ضاقت علي الأرض طراً وأهل الأرض ما عرفوا دوائي فخذ بيدي إني مستجير بعفوك يا عظيم، ويا رجائي أتيتك باكياً فارحم بكائي حيائي منك أكثر من خطائي ولي هم وأنت لكشف همي ولي داء وأنت دواء دائي وأيقظني الرجاء فقلت ربي رجائي أن تحقق لي رجائي تفضل سيدي بالعفو عني فإني في بلاء من بلاء والثانية: إليك يا رب قد وجهت حاجاتي وجئت بابك يا ربي بحاجاتي أنت العليم بما يحوي الضمير به يا عالم السر علام الخفيات اقض الحوائج لي ربي فلست أري سواك يا رب من قاض لحاجاتي وهكذا كما تري اختلال الوزن والركة في المعني والنظم ظاهرة بوضوح، والذي أراه أن كلا المقطوعتين وما يشبههما من الشعر الركيك من الموضوعات علي الإمام (عليه السّلام)، إذ كيف تنسب للإمام مثل هذه الأبيات المفككة الركيكة التي تخلو من أية مسحة أدبية أو بلاغية، وهو صاحب الشأن الأدبي الرفيع يكفيه فخراً أنه صاحب الصحيفة السجادية التي لم يؤثر في الكلام العربي مثل فصاحتها وبلاغتها. كما نسب إلي الإمام زين العابدين ديوان شعر حافل بالنصائح والمواعظ وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين بخط السيد أحمد بن الحسين الجزائري، وقع الفراغ من كتابتها سنة 1358هـ وقد استنسخها عن نسخة بخط السيد محمد بن السيد عبد الله الشوشتري المتوفي سنة (1283هـ). وقد نشره الدكتور حسين علي محفوظ في مجلة البلاغ العدد الثامن من السنة الأولي ص24 وقال في تقديمه له: (ينسب إلي السجاد (عليه السّلام) 387بيتاً من الشعر جمعها شيخنا المرحوم محمد علي التبريزي المدرس المتوفي سنة (1373هـ) من كتاب التحفة المهدية المطبوع في تبريز سنة 1357هـ وهو القسم الثاني من ديوان المعصومين الذي سماه: الدر المنثور، وقد أهدي إلي صديقنا الباحث الفاضل الكريم مرتضي المدرس نسخة خطية من شرح ديوان السجاد (عليه السلام) مكتوبة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري فيه 29 مقطوعة من بحر الوافر ذوات خمسة أبيات مرتبة علي الهجاء عدتها 145 بيتاً، وإذا صح أن ينسب شيء من الشعر إلي الإمام فالظن كل الظن أن في المضامين إليه من المنظوم ما هو قيد كلماته، ونظم معانيه، واتباع منهجه، ودليل سيرته، واقتداء بهداه..). ولا يخالني الشك في عدم صحة نسبة هذا الديوان إلي الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لا لمعانيه وإنما لركاكة ألفاظه وضعف صياغته. والذي يطالع للإمام ما أثر عنه من غرر الحكم والآداب يجد أن الإمام قد استعمل أفصح الألفاظ وأبلغها، وأعذب الأسلوب وأكثره جاذبية للقارئ. فقد كان (عليه السّلام) من أفصح بلغاء الأمة العربية علي الإطلاق. وما أذهب إليه أنه ليس من نظم الإمام (عليه السّلام) وإنما نظمه بعض المعجبين بمواعظه وحكمه ونسبه إليه. لكن هذا الناظم لا يجيد النظم، فقد صاغ أغلب الأبيات بألفاظ ركيكة تخلو من حسن الديباجة وجمال الأسلوب. ومن آثار الإمام زين العابدين المخطوطة ذكر الدكتور حسين علي محفوظ أن للإمام مصاحف تنسب إلي خطه الشريف توجد في مكاتب شيراز وقزوين وأصفهان ومشهد [260] .

التكافل الاجتماعي

كان الإمام (عليه السّلام) يحث أصحابه وشيعته علي المواساة فيما بينهم والإحسان إلي الآخرين لأن ذلك خير ضمان لوحدتهم واجتماع كلمتهم، وقد أثر عنه وعن الأئمة الأطهار الكثير من النصائح الرفيعة في هذا الشأن وهذه بعض منها: قال (عليه السّلام): 1 - (من قضي لأخيه حاجة قضي الله له مائة حاجة، ومن نفّس عن أخيه كربه نفّس الله عنه كربه يوم القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه علي ظالم له، أعانه الله علي إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعي له في حاجة حتي قضاها له فسر بقضائها، كان كإدخال السرور علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، ومن سقاه من ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري، كساه الله من استبرق وحرير،ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام علي المكسي من الثوب سلك، ومن كفاه ما أهمه أخدمه الله من الوالدان، ومن حمله علي راحلة بعثه الله يوم القيامة علي ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة، ومن كفنه عند موته كساه الله يوم ولدته أمه إلي يوم يموت، ومن زوجه زوجة يأنس بها، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه، ومن عاده في مرضه حفته الملائكة تدعو له حتي ينصرف، وتقول: طبت، وطابت لك الجنة.. والله لقضاء حاجته أحب إلي الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام...) [261] . يحفل هذا الحديث بتعاليم إنسانية رفيعة المستوي تدعو المسلمين إلي التعاون والتضامن والمحبة، مما يمتن أواصر المودة والرحمة والتعاطف بينهم. ويعتبر هذا الحديث وأمثاله من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام، فالمسلم أخ المسلم يشعر معه في أفراحه ويساعده في أتراحه ويعمل من أجل سعادته بكل ما يستطيع بالمال أو اليد أو اللسان وهو أضعف الإيمان. 2 - وقال (عليه السّلام) في المؤاساة والإحسان لضمان وحدة المسلمين: (إن أرفعكم درجات وأحسنكم قصوراً وأبنية [262] ، أحسنكم إيجاباً للمؤمنين، وأكثركم مواساة لفقرائهم، إن الله ليقرب الواحد منكم إلي الجنة بكلمة [263] طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير، بأكثر من مسيرة ألف عام يقدمه، وإن كان من المعذبين بالنار، فلا تحتقروا الإحسان إلي إخوانكم، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره...) [264] . في هذا الحديث الطيب حث الإمام (عليه السّلام) المسلمين ليعملوا علي مواساة الفقراء والإحسان إليهم، وذكر ما يترتب عليه من الأجر الجزيل عند الله. وعد من المواساة الكلمة الطيبة التي يقدمها الإنسان المسلم لأخيه المسلم، فإذا لم يكن لديه مالاً يساعد به المحتاجين فيمكن مساعدتهم بيده، وإذا تعذر عليه ذلك فباستطاعته مساعدتهم ومواساتهم بفكره، بكلمة طيبة تفيدهم وتهديهم وتطيب خاطرهم. وقد عد هذا الأمر واجب شرعي علي المسلمين. 3- وقال الإمام (عليه السّلام): (من بات شبعاناً وبحضرته مؤمن جائع طاوٍ فإن الله تعالي يقول لملائكته: اشهدوا علي هذا العبد، أمرته فعصاني، وأطاع غيري، فوكلته إلي عمله، وعزتي وجلالي لا غفرت له أبداً..) [265] . في هذا الحديث تأكيد صريح علي عاتق كل مسلم تجاه إخوانه في الإيمان، فعليه أن يشعر معهم في محنهم ومصائبهم وحرمانهم في مجتمعهم الظالم الذي كان يحكمه حكام طغاة. كما يمكن أن نعد هذا الحديث وأمثاله مما أثر عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام، ليقضي بصورة جازمة علي الفقر والحرمان في المجتمع الإسلامي. 4 - ولم يكتف الإسلام بحث المسلمين علي مساعدة إخوانهم في الدين، بل يحاسبهم علي تقصيرهم إذا ما حصل. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (من أطعم مؤمناً حتي يشبع، لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين.. وأضاف (عليه السّلام): (من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان، ثم تلا قوله تعالي: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة) [266] . إن إطعام الجائع ودفع السغب عنه ضرورة إسلامية ملحة يسأل عنها الإنسان المسلم ويحاسب عليها، وبصورة خاصة إذا كان الفقير بحاجة ماسة إلي الطعام. فمساعدة المعوزين توطد العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وتحيي في نفوسهم المحبة، مصدر كل خير وعطاء. ثم يمكن اعتبار ما ينفق علي المحتاجين في هذا المجال من الصدقات والصدقة زكاة وهي ركن أساسي من فروع الدين الإسلامي، من هنا كان الواجب الشرعي يقضي علي المسلمين المؤمنين مساعدة إخوانهم وقضاء حوائجهم. 5 - وفي ذلك قال الإمام السجاد (عليه السّلام): (من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقي مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسي مؤمناً من عري، لم يزل في ستر الله وحفظه ما بقيت منه خرقه..) [267] . يحرص الإسلام كل الحرص علي شد أزر المسلمين وتضامنهم صفاً واحداً لدرء الظلم عنهم والوقوف في وجه الظالمين، والمنحرفين، وليس لهم ذلك إلا بمساعدتهم لبعضهم البعض وسد حاجات إخوانهم في الإيمان مهما كانت المساعدات بسيطة. 6ـ صلة الرحم: دعا الإسلام إلي صلة الأرحام وحث المسلمين علي العلم بها وحذر من قطيعتها وذلك لما يترتب عليها من التواصل والمحبة إذا وصلت، ومن المضاعفات السيئة إذا قطعت، والإمام زين العابدين (عليه السّلام) حث علي صلة الأرحام فقال: (من سره أن يمد الله في عمره، وأن يبسط له في رزقه، فليصل رحمه، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول: يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني، فالرجل ليري بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلي سفل قعر في النار..) [268] . لقد تواترت الأخبار عن الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) في الحث علي صلة الأرحام، فالذي يصل رحمه يمد الله في عمره، ويزيد في رزقه ويكسب الأجر الجزيل في الدار الآخرة، وصلة الأرحام توجب تماسك المجتمع وشيوع المحبة والمودة والصفاء بين المسلمين، وذلك من أهم ما يدعو إليه الإسلام. إن هذه المبادئ الإنسانية الرفيعة التي دعا إليها الإسلام ورفع شعارها تمثل الجوهر الحقيقي له، ولو طبقها المسلمون علي واقع حياتهم لأصبحوا سادة الأمم وقادة الشعوب ولساد الأمن والأمان والسلم والسلام علي الدنيا بأسرها. الإسلام دين إنساني يراعي مصالح الإنسان في كل مكان ليعيش عيشة حرة كريمة، ويعمل علي تنوير بصائر الناس ليكسبوا أجر الدارين الدنيا والآخرة. فهل يفقه المسلمون جوهر إسلامهم اليوم؟ وهل يعقلوا أن بعدهم عن الوحدة الإسلامية يعني بعدهم عن الخط الإسلامي الذي رسمه لهم النبي الأكرم في دعوته المباركة؟ إن عزة المسلمين تكمن في تعاونهم علي البر والتقوي، وفي تآلفهم ورص صفوفهم صفاً واحداً ليستطيعوا الوقوف في وجه أعداء الله وأعداء الإنسانية عامة، وهذا أمر سهل جداً لو تنازلوا عن حبهم للمنصب وتعلقهم في هذه الدنيا الفانية. من هنا كان نداء الإسلام لأهل الفضل وما يستحقون من خير وجزاء. ولهذا حثَّ الإمام زين العابدين (عليه السّلام) أصحابه ودعاهم إلي إسداء الفضل وعمل المعروف إلي الناس كافة. قال (عليه السّلام): 7 - (إذا كان يوم القيامة نادي مناد: ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس قبل الحساب، فيقال لهم: إنطلقوا إلي الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم إلي أين؟ فيقولون: إلي الجنة، فإذا سألوهم عما استحقوا ذلك، يقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس، فيقال لهم: إنطلقوا إلي الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم مثل الأول. قيقولون: صبرنا أنفسنا علي طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله عز وجل، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله عز وجل، فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلي الجنة فتسألهم الملائكة عما استحقوا ذلك، وما مجاورتهم لله عز وجل؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتبادل في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين..) [269] . يدعو الإمام (عليه السّلام) في هذا الحديث الشريف المسلمين خاصة إلي إسداء المعروف إلي الناس عامة والتحلي بمكارم الأخلاق التي توجب رفع مستوي الإنسان إلي أرفع الدرجات، وبلوغه ذروة الشرف والكمال التي أرادها له رب العالمين. قال الله تعالي: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..) [270] والأمر بالمعروف حث عليه الإمام زين العابدين فقال (عليه السّلام): (التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي تقاه، فقيل له: ما تقاته؟ قال: يخاف جباراً أن يفرط عليه، أو أن يطغي..) [271] فكما نري أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المبادئ الإسلامية البارزة التي تبناها الإسلام بصورة إيجابية وذلك من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية بين الناس، ويزول الظلم والطغيان عن عباد الله، فلا يبقي منكر ولا اعتداء علي واقع الحياة العامة بين البشر. وقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدي (عليهم السلام) علي ضرورته ولزومه. وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العملية شروط القيام بهذا الواجب الإسلامي الخطير والهام في بناء مجتمع إسلامي عظيم يعيش موفور الكرامة عزيز الجانب.

مؤلفات الإمام زين العابدين

اشاره

إن أول من ألف في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) والعلماء العظام من شيعتهم، فهم الرواد الأوائل في الميدان الأدبي والاجتماعي والديني، الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والمعرفة والحكمة في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية. وما نلفت إليه أن مؤلفاتهم وسائر بحوثهم لم تقتصر علي علم خاص، وإنما تناولت جميع أنواع العلوم التي يحتاج إليها الإنسان، في حياته الخاصة والعامة والتي تفيده في دنياه وآخرته. فقد ألفوا في علوم كثيرة منها: الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، والصرف والنحو، والكلام، والفلسفة والحساب، والتاريخ والفلك... وإلي جانب هذه العلوم وضعوا قواعد هامة في الأخلاق الإنسانية، وآداب السلوك الفردية والاجتماعية وأصول التربية الوطنية. وكان أول الرواد الذي سبق في هذا المضمار رائد الأمة الفكرية والعلمية والأدبية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الذي فتق أبواب العلوم العقلية والنقلية والتربوية وأسس أصولها وقواعدها. يقول العلامة المعروف عباس العقاد: (إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علماً، فوضع قواعدها وأرسي أصولها) [272] . ومن الذين ألّفوا من الأئمة الطاهرين الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقد كانت مؤلفاته نموذجاً فريداً لتطور الفكر الإسلامي وتقدم الحركة العلمية والثقافية في العالم العربي.

الصحيفة السجادية

اشاره

هي من ذخائر التراث الإسلامي، ومن مناجم المباحث البلاغية والأخلاقية والتربوية والأدبية في الإسلام ونظراً لأهميتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد [273] . ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة في السياسة التي أحالت حياة المسلمين إلي جحيم مظلم ليس فيه أي بصيص نور من هدي الإسلام وإشراقه، فالتكتل الحزبي والسياسي الذي سعي وراءه أصحاب المصالح والأطماع الشخصية حيث اختفي أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه السمحة وآدابه الإنسانية وحكمه الخالدة. لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقاً جديدة للوعي الديني، كان المسلمون قد فقدوه، ودعت إلي التبتل الروحي والصفاء النفسي والطهارة والتجرد من الأنانية ونبذ الجشع والطمع وغير ذلك من الرذائل والنزعات الشريرة التي نهي عنها الإسلام، كما دعت الصحيفة إلي الاتصال بالله تعالي خالق الكون وواهب الحياة ومصدر الخير والحق والجمال سبحانه وتعالي أحسن الخالقين.

فرادتها

تمتاز الصحيفة السجادية بأمور بالغة الأهمية ومميزات عديدة، من بينها مايلي: 1 - تمثل الانقطاع الكامل لله تعالي والاعتصام بحبله والتجرد التام من عالم المادة. 2 - لقد كشفت عن معرفة كاملة يتمتع بها الإمام تفيد عن عمق إيمانه بالواحد القهار، ولم يكن ذلك ناشئاً عن عاطفة عابرة أو تقليد قديم، وإنما هو قائم علي العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد أدلي (عليه السّلام) في صحيفته هذه بكثير من البحوث الكلامية التي انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون في ما كتبوه عن واجد الوجود. 3 - احتوت علي كمال الخضوع أمام الله تعالي، وبذلك قد امتازت علي بقية أدعية الأئمة الطاهرين بما فيها من أفانين التضرعات وإظهار التذلل لله تعالي. قال الفاضل الأصفهاني: (إن الله تعالي قد خص كل واحد منهم بمزية وخصوصية لا توجد في غيره، كالشجاعة في أمير المؤمنين وابنه الحسين (عليه السّلام) والرقة والتفجع في أدعية زين العابدين (عليه السّلام) لا سيما أدعية الصحيفة الكاملة، المعروفة بين أصحابنا الإمامية بزبور آل محمد، وأخري بإنجيل أهل البيت) [274] . 4 - لقد فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله تعالي التي وسعت كل شيء. فالإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالي، وعفوه وكرمه. يقول الإمام (عليه السّلام): (إلهي وعزتك وجلالك، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك...). 5 - أكثر ما ورد من أدعية في الصحيفة يصلح برامج للأخلاق الروحية وآداب السلوك والفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان عن عالم المادة. 6- احتوت علي حقائق علمية لم تكن معروفة في عصره، نذكر منها قوله (عليه السّلام): (اللهم وامزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء...). لقد أشار هنا (عليه السّلام) إلي حقيقة علمية اكتشفت في العصور الأخيرة، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة بـ(الكوليرا) إنما تأتي عن طريق الماء، فهو الذي يتلوث بجراثيمها كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلي الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنه يصاب بهذا الداء. هذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا العصر. 7 - إنها تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلي الله والبالغ به إلي أرقي مراتب الكمال، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمي من الاتصال بالله تعالي خالق الكون، وواهب الحياة إلي النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق، وبالأمل بعد القنوط أن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلي عالم الملكوت. 8- تعتبر الصحيفة السجادية ثورة علي الفساد والانحلال الذي كان سائداً في ذلك العصر بسبب السياسة الأموية التي أشاعت المجون والفساد والتحلل بين المسلمين. فجاءت الصحيفة ثورة علي الجمود والتخلف والانحطاط في العصر الأموي. 9 - لقد بلغت أرقي مراتب الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية. فلا نجد كلاماً عربياً بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين (عليه السّلام). قال الدكتور حسين محفوظ: (وعلي الرغم من أنه - الدعاء - المأثور عن الأئمة نثر فني رائع، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور، ونمط بديع من أفانين التعبير، وطرق بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام، والحق إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السّلام) التي لم يرق إليها غير طيرهم، ولم تتسم إليها سوي أقلامهم. فالدعاء أدب جميل، وحديث مبارك، ولغة غنية، ودين قيم، وبلاغة عبقرية، إلهية المسحة، نبوية العبقة..) [275] . وقد اهتمت الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية اهتماماً بالغاً بالصحيفة السجادية، فقد واظب جميع العلماء المسلمين الصالحين علي الدعاء بها في غلس الليل وفي وضح النهار متضرعين بها إلي الله تعالي. ولم تقتصر علي العالم العربي فقط وإنما تعدت إلي غيره من شعوب العالم فترجمت إلي أكثر اللغات الأجنبية، كالفرنسية والإنكليزية والفارسية والألمانية وغيرها. ومما يدل علي مدي أهميتها أن الخطاطين في مختلف العصور الإسلامية انبروا إلي كتابتها بخط أثري في منتهي الروعة وقد حفلت بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلامية. كما عكف العلماء علي دراسة الصحيفة وإيضاح مقاصدها وشرحها. والعلماء الذين قاموا بهذه المهمة زاد عددهم علي السبعين عالم. كل ذلك لأنهم وجدوا في الصحيفة نموذجاً فريداً يستفيد منه كل أديب وباحث فقد كان البارز فيها جمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ وارتياح روحي يبلسم النفوس الحائرة والقلوب الضالة. ومن مظاهر الروعة البلاغية فيها الأطناب والإيجاز حيث تدعو الحاجة. فقد أطنب (عليه السّلام) في وصف الجنة وما فيها من نعم وترف، وقصور جميلة كل ذلك بسبب تشويق الناس إليها وترغيبهم بأعمال البر والخير ليفوزوا بنعيمها. كما أطنب في التهويل من النار وقساوة العذاب وذلك لزجر الناس عن اقتراف الموبقات وإبعادهم عن ارتكاب المنكرات. وهو بهذا يجاري أسلوب القرآن الكريم. وقد نص علماء البلاغة علي أن الأطناب في ذلك من أرقي مراتب البلاغة وأروع صورها.

رسالة الحقوق

اشاره

وما أدراك ما رسالة الحقوق! إنها وسيلة كريمة ليفهم الإنسان نفسه وما فطرت عليه من مواهب خيرة ونزعات إنسانية. هي لعمري سجل المعرفة بكل أنواعها الدينية والعلمية والفلسفية تفيد جميع الناس في كسب علومهم ومعارفهم وتقويم أخلاقهم وسلوكهم وتعمل علي تطوير مجتمعهم في سائر منازعهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية والأدبية والأخلاقية... رسالة الحقوق منبع غزير للعلوم الإنسانية ومنهج عزيز للقيم الأخلاقية ومشرف أعلي علي جميع التطورات الاجتماعية والحضارة البشرية. هي أم الرسالات تنسق تنسيقاً كاملاً بين عقائد المسلم وأعماله ومشاعره وسلوكه فتطلق روحه من عقاب الأوهام والترهات، وتوجه نفسه إلي الأعمال الصالحة والطاقات البناءة وكأنها تربط ربطاً محكماً بين نواميس الكون الطبيعية ومنازع الفطرة البشرية في انسجام تام وتناسق كريم. ولا يخفي أن العمل برسالة الحقوق يهدي المسلم المؤمن إلي عبادة الله متي توجه العبد إلي ربه سبحانه وتعالي، فهي كما وصفها الفقهاء (مشدودة إلي العروة الوثقي لا انفصام لها). ورسالة الحقوق منارة مضيئة تهدي الفرد إلي الطريق القويم فتوقظ ضميره وتحيي شعوره بالعقيدة الإسلامية الواضحة التي لا غموض فيها ولا تعقيد، كما أنها تهدي الناس الذين يعملون بها إلي الخير العام سواء أكانوا شعوباً أم دولاً أم حكومات من شتي الألوان والأجناس فتوطد العلاقات الاجتماعية بينهم علي أسس ثابتة لا تتأثر بالأغراض الشخصية ولا تميل مع الرأي والهوي، ولا غرو فهي مستقاة من المنبع الإلهي الأصيل من كتاب الله الصامت الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). رسالة الحقوق أم الرسالات ومصدر البطولات وملهمة الحضارات تكون للحاكم أساس عدله في حكمه، وللعامل أساس صدقه في عمله، وللمسلم طمأنينة وإيماناً، وللمؤمن بهجة ورضا وللأمة نوراً وحقاً وعدلاً. وحسبها قيمة وفخراً أن غارس بذرتها هو من وحي الرسالة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة، من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.. قال تعالي: (...إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [سورة الأحزاب: الآية33] هو الإمام المعصوم علي زين العابدين (عليه السّلام) الملقب بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته ومع كثرة عبادته كثرة علمه الذي لا ينحصر في هذه الرسالة فحسب فالمجال متسع كثيراً لكل عالم أراد أن يعب من معارفه المختلفة ولكل باحث أحب أن يقتبس من حكمه وأدبه. لقد ترك للإنسانية تراثاً خالداً وبحراً زاخراً بشتي العلوم والمعارف التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته، وهي أشبه بالغيث تحيي النفوس بعد موتها وتبعث علي طاعة الله والبعد عن معصيته؛ وبمقدار ما يبلغ الإنسان من علوم الإمام زين العابدين يبلغ حداً بعيداً من العظمة مع الخالدين. روي أبو حمزة الثمالي قال: (دخل قاضٍ من قضاة أهل الكوفة علي علي بن الحسين (عليه السّلام) فقال له: جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عز وجل: (وجعلنا بينهم وبين القري التي باركنا فيها قري ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين)، قال له (عليه السّلام): ما يقول الناس فيها قبلكم؟ قال: يقولون: إنها مكة. فقال: وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة؟ قال: فما هو؟ قال: إنما عني الرجال، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال: أو ما تسمع إلي قوله عز وجل: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) وقال: (وتلك القري أهلكناهم) وقال: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟ قال: وتلا عليه آيات بهذا المعني قال: جعلت فداك! فمن هم؟ قال: نحن هم، فقال: أو ما تسمع إلي قوله: (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين) قال: آمنين من الزيغ) [276] . فالله سبحانه أعلم أين يضع رسالته فأهل البيت أهل العلم والمعرفة وأهل التقي والدين جاهدوا في الله حق جهاده وعملوا علي نشر العلوم الدينية والأدبية والفلسفية والعملية بكل ما زودهم سبحانه بها من طاقات. والإمام السجاد ورث العلم بكل أنواعه وألوانه عن أبيه وجديه فحفظ كتاب الله وتفقه فيه وعمل علي نشره. روي الطبرسي قال: (لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليه السّلام) في طريق مكة فقال له: (يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت علي الحج ولينه، وإن الله عز وجل يقول: (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [سورة التوبة: الآية 111] فقال علي بن الحسين: إذا رأينا هؤلاء الذي هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج). وجاء في المصدر نفسه: (سئل الإمام زين العابدين عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (عليه السّلام): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل من السكوت. قيل: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، وإنما يبعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت) [277] . وتكلم الإمام (عليه السّلام) فكانت هذه الدرر الثمينة، رسالة الحقوق التي رسم فيها معالم الشخصية الصالحة التي ينشدها الإسلام لقد وضعت حقوق الجوارح من اللسان والسمع والبصر واليد والرجل... إلي الصلاة والصوم والحج... إلي حقوق المعلم والسلطان والمالك... إلي حقوق الأرحام من الأب والأم والأخ... كما رسمت أيضاً حقوق أهل الإسلام وأهل الذمة وطلب إلينا حق رعايتها والعمل في تأديتها لنعالج علي ضوئها مشاكلنا الخاصة والعامة وما يعتور طريقنا من هفوات وأخطاء وتقصير... لقد أرادنا عناصر إنسانية صالحة تحب الخير للجميع وتعمل به وتنبذ الشر وتتجنبه. وقد كتب هذه الرسالة الذهبية (عليه السّلام) وأتحف بها بعض أصحابه، وقد رواها العالم الكبير ثقة الإسلام ثابت بن أبي صفية، المعروف بأبي حمزة الثمالي تلميذ الإمام (عليه السّلام) [278] ، ورواها عنه بسنده المحدث الصدوق [279] ، وحجة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني والحسن بن علي بن الحسين بن شعبة البحراني في تحف العقول [280] .

الدوافع لكتابة رسالة الحقوق

كثر اللهو والطرب وانتشرت دور الميسر ومجالس الغناء طيلة حكم الأمويين، واستقدم ملوكهم الجواري والمغنيين والمغنيات من شتي البلدان إلي مكة المكرمة والمدينة المنورة وأغدقوا عليهم المال بسخاء. كما بذلوا الكثير من المال علي الشعراء لتأييد سلطانهم فاصطنعوا به الأحزاب واستذلوا به الأعداء. وكان عبد الملك بن مروان من أكثر ملوك بني أمية بذلاً للمال في سبيل تأييد سلطانه، وعامله آنذاك الحجاج بن يوسف فلما حاصر الكعبة، وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيب جنده، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال لهم: (يا أهل الشام، قاتلوا علي أعطيات عبد الملك) ففعلوا [281] . وكثيراً ما كان يرد أذي الأحزاب وإخماد الثورات بالمال ينثره علي الناس فينشغلون به عنه. من ذلك ما فعله مع جماعة عمرو بن سعيد الأشدق لما طمع بالشام دونه. فاحتال في استحضاره إلي ديوانه وقتله غدراً، ولما علم أصحابه بمقتله تجمهروا حول دار الخلافة مطالبين بدم زعيمهم، خاف عبد الملك العاقبة فأمر أن يرمي برأس عمرو إلي الناس ومعه المال الكثير، فنفذ ابنه عبد العزيز ذلك، وجعل يلقي بالأموال علي الجماهير المحتشدة. فلما رأي الناس الرأس والأموال انشغلوا بالأموال وتفرقوا [282] . لقد استخدموا المال والنساء وبذلوا علي تلك المجالس والليالي الساهرة بسخاء، ولم يكن يدعوهم إلي هذا السلوك المنحرف والاستهتار الفاضح حبهم لملذاتهم فقط، وإنما كان هدفهم من وراء ذلك إماتة الروح الإسلامية الصحيحة في نفوس الناس ليبعدوهم عن الدين الإسلامي وعن رسالة الأنبياء المرسلين فلا يهمهم بعد هذا أمر الخلافة والمطالبة برفع الظلم والاستهتار فالمال ميسور أمام فراغٍ الشباب والجواري ودور الميسر منتشرة تستهويهم للتلهي وقتل الوقت هدراً. لقد هيأوا الأذهان أيضاً إلي قبول الرأي القائل بأن الخلافة ليست إلا ملكاً كالقيصرية والكسروية، وأن الله تعالي لم ينص علي إمام بعينه كما يري كثير من المسلمين. في وسط هذا المجتمع المريض كان لا بد للإمام السجاد أن يداوي هذه النفوس لتتخلص من أمراضها وتعرف حدودها وترجع إلي الأخلاق الإسلامية السامية التي تعيد للأمة تعاليم الإسلام القومية والسليمة التي كاد الأمويون أن يقضوا علي معظمها بأعمالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وتصرفاتهم التي لا تليق بأمة مرموقة بين الأمم تعرف مكانتها السامية بين الدول المتحضرة أجل لقد تفسخت الأخلاق وتردت حتي أصبحت تهدد بخطر عظيم الأمر الذي دعا الغياري علي الدين أن يهتموا الاهتمام الكبير لصد هذا التيار الجارف، ومن أحري بأهل البيت الذين اختارهم سبحانه وتعالي لردع الظلم عن أعناق المستضعفين، وهداية الناس إلي الحياة الحرة الكريمة. قال محمد صادق الصدر: (وكان أول من لفت الأنظار إلي هذا الخطر المحدق بالناس جميعاً الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقط نشط في جهاده نشاطاً عظيماً منقطع النظير فكان يلقي علي الأمة بآرائه الإصلاحية تارة عن طريق المناجاة، وطوراً عن طريق القلم، وهذه (رسالة الحقوق) أملاها (عليه السّلام) دستوراً عاماً يتضمن كل ما تحتاجه البشرية من حقوق، فلم يترك حقاً من حقوق الله علي عباده، أو حقوق العباد أو حقوق العباد بعضهم علي بعض إلا ذكره ونبه عليه، وقد قدم الأهم فالأهم من هذه الحقوق ببيان رائع، ومنطق لا يقبل الرد ولا أعرف أسلوباً أروع من هذا الأسلوب، وفكراً صالحاً للمجتمع أصلح من هذا الفكر، وهي مواضيع عامة منبعثة عن حاجات المجتمع الإنساني يصلح تطبيقها، والسير علي نهجها في كل زمان، وهي تكفل للناس السعادة والهناء في الدارين) [283] . رسالة إصلاحية يحتاجها الفرد في حياته الخاصة ليصلح أموره ويعرف حدوده، كما يحتاجها المجتمع البشري بكل أفراده وطبقاته، يحتاجها الراعي ليحكم بالعدل وتحتاجها الرعية لتقاوم الظلم والقهر وتعيش حياة كريمة هنية. أما الدوافع التي دفعت الإمام السجاد إلي كتابة هذه الرسالة الخالدة ونشرها فهي دوافع إنسانية أملتها عليه الظروف السياسية والتدهور الأخلاقي والفساد المستشري في البنية الحاكمة. لقد تعلم من أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء الذي خرج (لا أشراً ولا بطراً وإنما ليصلح رسالة جده) النبي المصطفي (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

عرض الموجز لرسالة الحقوق

حق الله

اول هذه الحقوق التي بلغت خمسين حقا (حق الله)

قال الإمام (عليه السّلام): (فأما حق الله الأكبر عليك فإنك تعبده لا تشرك به شيئاً، فإن فعلت ذلك بإخلاص جعل لك علي نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منهما). إن من أعظم حقوق الله تعالي علي عباده أن يعبدوه بإخلاص، ولا يشركوا بعبادته أحداً، لا إله إلا الله محمد رسول الله، الرفض المطلق لكل الألهة التي صنعتها الأيدي البشرية والعقول الضالة، وبمقدار هذا الرفض يتأكد التوجه للإثبات، فالله واحد أحد في ذاته، واحد أحد في صفاته، واحد أحد في خصائصه: (ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير). الإيمان القلبي العميق يطهر القلوب من الزيغ ويحرر العقول من الرق والتبعية، أما عبادة غير الله من الأصنام والأزلام والأوثان فإنها ذل وعبودية، وقضاء علي كرامة الإنسان وعزته. والإيمان بالله يفرض علي الإنسان أن ينظر إليه سبحانه وتعالي نظر الربوبية المطلقة التي تملك الحياة كما تملك الموت، وتملك الأعمار كما تملك الأرزاق. قال تعالي: (اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك علي كل شيء قدير) [284] . التوحيد بالله وعدم الشرك به أساس من الأسس التي لا تقبل المساومة وقد حسم القرآن الكريم هذه القضية فقال تعالي: (إن الله لا يغفر أن يشرك به وغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [285] . والإمام زين العابدين جعل في هذه الرسالة أكبر حقوق الله علي الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئاً، وفي مقابل هذه العبادة بإخلاص تكون كفاية الله له لأمري الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يشعر بالسعادة النفسية والاطمئنان القلبي في الآخرة، وفي رحاب الله يفوز بالخلود الأبدي ورضوان الله أكبر ما يتوق إليه الإنسان ويسعي من أجله.

حقوق الجوارح - من عرف نفسه فقد عرف ربه - حق النفس

(وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله عز وجل فتؤدي إلي لسانك حقه وإلي سمعك حقه وإلي بصرك حقه وإلي يدك حقها وإلي رجلك حقها، وإلي بطنك حقه، وإلي فرجك حقه، وتستعين بالله علي ذلك). تركزت دعوة الإمام (عليه السّلام) إلي إصلاح النفس البشرية إصلاحاً ربانياً شاملاً كي تؤدي دورها المطلوب في طاعة الله تعالي وإعانة عباد الله لأن منها المنطلق لعملية الإصلاح الشاملة فمتي صلحت النفس صلح غيرها واستقام. ولذا ورد الحث من الإمام (عليه السّلام) لأن يقف الإنسان موقف الحذر واليقظة، والمراقب والمحاسب يترصدها في ميولها وحركاتها فيحاسبها في كل خطوة من خطواتها ليحملها علي الحق في طاعة الله تعالي ويدفعها نحو الخير. وهذا ما عناه النبي الأكرم في حديثه الشريف عندما أرسل سرية من الجيش إلي القتال في سبيل الله، ولما رجعوا قال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ فقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): الجهاد الأكبر: جهاد النفس. ومعني جهاد النفس أن يلزمها المرء بأحكام الإسلام فلا ينحرف لميل أو هوي ولا يميل لمصلحة شخصية ذاتية علي حساب الدين فيضعف أمام المحرمات، ويتهاون بترك الواجبات فيجعل للشيطان عليها سبيلاً. وذكر الإمام أن لكل جارحة في بدن الإنسان حقاً عليه فبدأ باللسان آلة النطق.

حق اللسان

(وأما حق السان فإكرامه عن الخني، وتعويده علي الخير، وحمله علي الأدب، وإجمامه إلا لموضع الحجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها وبعد شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله وحسن سيرته في لسانه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). من المعروف أن اللسان آلة النطق والمترجم عن العقل هو من أهم الجوارح في بدن الإنسان، كما أنه من أخطرها علي حياته، سلاح ذو حدين، بأحدهما نساهم في توفير السعادة لنا ولمجتمعنا وبالآخر نقضي علي سعادتنا ونجلب الخراب والدمار للعباد والبلاد. والإنسان يسمو أو يهان بمنطقه، فإن تكلم بكلام طيب صان نفسه من الزلل وعاش محترماً بين أهله وأفراد مجتمعه، وإن تكلم بكلام خبيث أهان نفسه وبات محتقراً مهاناً. فالإمام (عليه السّلام) يطلب للإنسان أن يكون صالح النطق، لا فحش ولا لغو ولا عبث، بل نظيف اللسان مهذب الكلام. قال تعالي: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) [286] . لقد دعا الإمام الحكيم (عليه السّلام) الإنسان إلي السيطرة علي لسانه وإلزامه بمراعة الأمور التالية ليعزز مكانته ويرفع من شأنه: أ - البعد عن الخني - أي الفحشاء - لأنها توجب مهانة الإنسان. ب - حملة علي التكلم بالكلام الطيب الذي يرفع إلي الله تعالي. ج - إمساكه عن الكلام إلا لموضع الحاجة من أمور الدين والدنيا. د - تعويده علي مقالة الخير وما ينفع الناس. هـ - إبعاده عن الخوض في فضول القول الذي لا يعود عليه وعلي الناس بالخير. والكلمة الطيبة في الإسلام صدقة، قال تعالي: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذي والله غني حليم) [287] .

حق السمع

(وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلي قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً، أو تكسب خلقاً كريماً، فإنه باب الكلام إلي القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني علي ما فيها من خير أو شر ولا قوة إلا بالله...). جهاز السمع هو التركيب البديع للإنسان أبدعها الله تعالي كي يصل بها إلي مرضاته فيسمع بها المسموح وكل ما يصلح النفس ويهذبها. إنه الجهاز الذي ينقل المعلومات إلي الدماغ فيبدل كيان الإنسان ويحوله من حالة إلي حالة فإذا سمع فكرة رسالية قيمة وتفاعل معها تحوله إلي إنسان صالح يحب الخير ويعمل به. أما إذا سمع فكرة هدامة ملوثة بالإلحاد فقد تحوله إلي مجرم يعمل المحرمات دون أي رادع أو وازع. فمجالس الانحلال الخلقي والمفسدين في الأرض منعها الإسلام وحرمها لأنها ستنقل إلي القلب عن طريق الأذن ما يفسد خلق الإنسان ويجره إلي الهاوية. ولذا نهي الله عن ذلك بقوله تعالي: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً) [288] . كما أن الله مدح الذين يستمعون إلي دعاة الخير والمحبة والإيمان قال تعالي: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا...) [289] . فعلينا جميعاً أن نصغي إلي كلمة الحق ونعمل بها ونقبل الحقيقة مهما كانت قاسية ومرة من أي إنسان وفي أي زمان. وأن نجعل الجهاز السمعي بريداً صالحاً لنقل الآداب الكريمة والفضائل الحسنة والمزايا الحميدة لتكون من صفاتنا وخصائصنا.

حق البصر

(وأما حق بصرك فغضه عما لا يحل لك، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً فإن البصر باب الاعتبار). إن للبصر حقاً علي الإنسان، وهو حجة علي النظر إلي ما حرمه الله الذي هو مفتاح الولوج في اقتراف الآثام، فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له. والإنسان مسؤول أمام الباري عز وجل عن بصره إذا انطلق في غير رحابه وحدوده المسموح بها. قال تعالي: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) [290] . والفائدة التي يستفيدها الإنسان من نعمة البصر يعود إليه بالذات فإذا نظر إلي آثار الماضين وتأمل كيف كانت معيشتهم وأحوالهم وأخذ من ذلك كله العبرة والعظة يكون نظره نعمة له يستفيد منها في تصحيح مساره في الدارين الدنيا والآخرة. أما إذا استعمل بصره في الحرام والمنكرات فإن الإسلام يعد ذلك خيانة لهذه الأمانة العظيمة وانحرافاً عن الخط السليم، فكم من نظرة أورثت صاحبها حسرة دائمة لأنها استعملت في غير المجال المسموح بها. فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له وعليه أن يستفيد ببصره علماً يهذب به نفسه، وينفع به مجتمعه. من هنا أمر الله المؤمنين من عباده بغض الأبصار عن الأشياء المحرمة. قال تعالي: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكي لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...) [291] . والحقيقة أن البصر نعمة كبري لا يعرف قيمتها إلا من فقدها فهي تكشف للإنسان معالم طريقه فتعرفه علي كل أمور حياته وتطل به علي مباهج الدنيا وجمالاتها. فهل يرعي الإنسان هذه النعمة حق رعايتها ويصونها من التجاوز والابتذال؟

حق الرجلين

(وأما حق رجليك فأن لا تمشي بهما إلي ما لا يحل لك ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك ولا قوة إلا بالله) [292] خلق الله الرجلين للإنسان نعمة عظيمة يسعي بهما إلي قضاء حوائجه لينال الأهداف البعيدة التي تتطلب حركة ومشياً لكن عليه أن يستخدم هذه النعمة في طاعة الله ومعونة عباده. فقد يقطع المسافات الطويلة من أجل إعانة فقير وقضاء حاجة إنسان مؤمن ينفس عنه كربه. وقد يقطع الصحراء ليؤدي فريضة الحج التي أوجبها الله علي القادرين من عباده، وقد يسعي برجليه للجهاد في سبيل الله والدفاع عن حقوق عباد الله المؤمنين ضد الطغاة المغتصبين. كما يستطيع برجليه أن يعتدي علي اعراض الناس وأموالهم ويفسد بين المتحابين منهم أو يقتل مسلماً من عباد الله الصالحين دون حق. فبهما يمكنه تحصيل الحسنات كما أن بهما يستطيع أن يكتسب المحرمات. والسعيد من الناس من تتحرك قدماه في طاعة الله ورضوانه، ينظر مواطن الثواب فييمم وجهه نحوها، ويدرك مواطن الشر فيجنب قدميه عنها. والمؤمنون يعرفون أن هذه الأرجل ستشهد عليهم يوم الحساب إذا انحرفوا عن الخط الإسلامي السليم. قال تعالي: (اليوم نختم علي أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) [293] . فهنيئاً لمن عرف مواقع أقدامه أين تقع فاختار لها طاعة الله وابتعد بها عن معاصي الله.

حق اليدين

(وأما حق يدك فأن لا تبسطها إلي ما لا يحل لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ولا تقبضها مما افترض الله عليها ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها، وبسطها إلي كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل ووجب لها حسن الثواب من الله في الآجل...). وعرض الإمام (عليه السّلام) لليدين وما عليهما من حقوق، فمن حقهما أن لا يبسطهما في ما حرمه الله تعالي. فمن امتدت يده إلي أموال الغير سمي عند الله والناس سارقاً ويترتب عليه آثار الفعل الشنيع فيقام عليه الحد في تشريع الله وتأخذه أعين الناس بالازدراء والتصغير لأنه وسم بميسم السارق الوضيع. ومن امتدت يده إلي أجساد الغير اعتداءً منه واعتداداً بقوته يؤدب في قانون الإسلام المثل بالمثل. وليس في قانون الإسلام التسلط علي الضعفاء فالكل سواسية أمام العدالة الإسلامية وصاحب الحق هو سيد الموقف فاليد يجب أن تكون في إطارها المحدد لها وهذا ما بينه الإمام في رسالته الخالدة، حيث يعاقب المعتدي من الله في الآجل ومن الناس باللائمة في العاجل، وهذه اليد جعل لها حقاً أن لا تبسط إلي ما لا يحل لها ولا يجوز لها أن تقبض عن إعطاء الحق إلي أصحابه ولا تقوم بمساعدة المساكين وقضاء حاجة المحتاجين. اللهم ساعدني لتكون يدي أمينة عفيفة في الدنيا لا تهمل ما عليها من الواجبات لتنال شرف العاجل وثواب الآجل في الدار الآخرة.

حق البطن

(وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاءً لقليل للحرام، ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال، ولا تخرجه من حد التقوية إلي حد التهوين، وذهاب المروءة، وضبطه إذا همَّ بالجوع والظمأ فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلي التُخم مكسلة، ومثبطة، ومقطعة عن كل بر وكرم، وأن الري المنتهي بصاحبه إلي السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة..) [294] . يدلي الإمام (عليه السّلام) في هذه الفقرات بحقوق البطن علي الإنسان وهي عديدة منها: أ - أن لا نجعل البطن وعاءً للحرام فنتغدي بمال مغصوب حرام وما ينتج عن ذلك من مضاعفات سيئة مما يؤدي بنا إلي الانحراف عن الطريق القويم. ب - الاعتدال في الأكل وعدم الإسراف في تناول العديد من المآكل الدسمة والمتنوعة حتي الإصابة بالتخمة، فعلي المسلم الاقتصاد في تناول الطعام الحلال، لأن التخمة تسبب الإصابة بالكسل والابتعاد عن البر والكرم؛ كما أنها تعطل جميع القوي العقلية، بالإضافة إلي ما تحدثه من أضرار صحية كالإصابة بضغط الدم والسمنة ومرض السكر وغير ذلك من الأمراض الأخري. والإسلام لم يحرم الطيبات إذا كانت من باب الحلال بل يبيحها للمسلمين دون إفراط ولا تبذير. إن شهوة البطن إذا أرسل لها العنان فإنها تقود صاحبها إلي ارتكاب الموبقات وتفتح أمامه شهوة الجنس والشبق وهاتان الشهوتان الطعام والجنس يستتبعهما الرغبة في تحصيل المال والبحث عنه بشتي الطرق دون الالتفات إلي الحرام منه أو الحلال. من هنا نستطيع أن نقدر حكمة الصوم التي بينها الإسلام علي لسان الأئمة المعصومين. وندرك الأبعاد الحقيقية التي تجعل الصائم رقيق الشعور مرهف الحس تجاه الفقراء والمعوزين فيخفف عنهم آلامهم ويغدق عليهم من يده الكريمة لا يريد منهم لا جزاء ولا شكوراً. ثم إن المسلم لا يهتم بطعامه إلا ليقوي به علي الحياة والعمل في خدمة نفسه وخدمة عباد الله ونشر العدل والحكمة في التوجه إلي الله تعالي. أما الملحد أو الكافر لا يهمه سوي بطنه وما يتغذي به من أشهي المأكولات. ولذلك نري كيف ذم الله الكافرين وشبههم بالأنعام قال تعالي: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوي لهم) [295] . والإسلام أحل للإنسان الكثير من الطيبات وحرم عليه الخبائث ووضع له حدوداً مرسومة لا يجوز له أن يتعداها. والذي حرمه الإسلام من الأطعمة والأشربة فإنما حرمه أما لخبثه أو لإفساده وإخلاله بالروح الإنسانية فأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وأنواع المسكرات والمخدرات كلها من المحرمات التي تتقزز النفس منها لما تجر علي صاحبها من الضرر والمهانة.

حق الفرج

(وأما حق فرجك فحفظه مما لا يحل لك، والاستعانة عليه بغض البصر، فإنه من أعوان الأعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهدد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوة إلا به...). الحياة الجنسية في الإسلام تتركز علي العفة والفضيلة، وصيانة النفس من اقتراف الزنا والفحشاء، والطرق التي يتوقي بها الإنسان من الانزلاق في شهوات منكرة وتحجبه عن اقتراف مثل هذه الجرائم فهي كما أدلي بها الإمام (عليه السّلام): أ - غض البصر عن المحارم لأن النظر هو العامل الأول للوقوع في الحرام، وقد عبروا عنه في بعض الأخبار بزني العين. ب - الإكثار من ذكر الموت، ذلك أنه يزهد الإنسان في طلب الملذات ويطفئ من جذوته حب الشهوات، كما أن ذكر الموت يقضي علي هيجان الشهوة الجنسية. ج - التخويف من عقاب الله العظيم فإنه من عوامل القضاء علي جريمة الزنا. والإسلام لا يريد القضاء علي الشهوة الجنسية لأن ذلك يفوت الكثير من المنافع التي لا يمكن تحقيقها بدونها فإذا ماتت غريزة الجنس في الإنسان انقرضت السلالة البشرية وانعدم الوجود الإنساني وانتهي دور الإنسان كخليفة الله علي الأرض عمارة ورقياً وحضارة. لكن الإسلام يعمد إلي تهذيب هذه الشهوة وضبطها وردها إلي حد الاعتدال إذا أرادت الخروج عما وضعت من أجله، وقد تبلغ ذروتها في سن المراهقة. إن العلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة منعها الإسلام وعاقب عليها كما حاربت هذه العلاقة كل الأديان وعدتها من أكبر الخطايا وأعظمها لما في هذا التعدي من ظلم وما له من انعكاسات سيئة علي الفرد وعلي المجتمع. الزنا جريمة شرعية وأخلاقية وانحراف عن السنن الطبيعية والآداب الاجتماعية. ولذلك نهي الله تعالي عن الاقتراب من هذه الفاحشة ويحرمها علي المؤمنين قال تعالي: (ولا تقربوا الزني إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) [296] وقال تعالي أيضاً: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين) [297] . ولما كان الزني من المحرمات فقد فتح الإسلام أمام الإنسان سبيلاً شرعياً محبباً رغب فيه ودعا إليه المسلمين إلي ممارسته ألا وهو الزواج الشرعي الذي يلتقي الرجل والمرأة علي أساسه وينشأ منه أسرة شرعية طاهرة وهذا أشرف حل جعله الإسلام من أجل القضاء علي الرذيلة والانحراف. فالمسلم مطالب أمام الله وأمام الناس بحفظ فرجه عما لا يحل له وقد مدح الله الحافظين لفروجهم وقرنهم بالمسلمين المؤمنين والصادقين الصابرين والصائمين. قال تعالي: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصديقين والصديقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) [298] . وبعد حقوق الجوارح باشر الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بحقوق الأفعال فشرحها وبين حدودها.

حقوق الأفعال

حق الصلاة

(فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلي الله، وأنك قائم بها بين يدي الله، فإذا علمت ذلك كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام الذليل، الراغب، الراهب، الخائف، الراجي، المسكين، المتضرع، المعظم من كان بين يديه، بالسكون والإطراق وخشوع الأطراف، ولين الجناح، وحسن المناجاة له في نفسه، والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك، واستهلكتها ذنوبك ولا قوة إلا بالله..). هذه صورة الصلاة كما يريدها الله وكما يحب أن يكون عليها صاحبها، صورة العبد الكادح إلي ربه، الوافد عليه، صورة الإنسان الضعيف الصغير، يقف بين يدي الله العزيز الكبير. صورة توحي بعظمة الباري عز وجل فيها التوبة والإنابة والخضوع والخشوع. إنها لقاء الشوق والمحبة يعترف المصلي لخالق الكون بالربوبية والإلهية بكل أوصافها: العلم والقوة والرحمة والحكمة والعزة... الصلاة هي قربان كل تقي وعمود الدين ووجهة يعرج بها المسلم إلي الله ويسأل عنها يوم القيامة، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها... والإمام زين العابدين (عليه السّلام) أعطانا لوحة جميلة في التعليم والتوجيه، يريد أن يصلنا بالله ومن خلال هذه الصلة يعلمنا الأدب مع عزته وجلاله. فعلي المسلم أن يصلي بسكينة ووقار، خاشع الأطراف، حسن المناجاة، لا يشغل فكره بأي شأن من شؤون الدنيا، وعليه أن يسأل الله العلي القدير لينقذه من التبعات والخطيئات، وفك رقبته من النار، فعلي المصلي أن يكون راغباً في ثواب الله، راهباً من عذابه، متضرعاً خاشعاً، خائفاً، فلا يترك لليأس مدخلاً إلي قلبه ولا يترك للرجاء أن يقف مانعاً عن التوجه إلي الله والازدياد من الأعمال الصالحة. فعلينا أن نؤدي صلاتنا بشروطها وآدابها وخشوعها وأن نؤديها بفاعليتها وروحانيتها وسموها لتكون هذه الصلوات محطات من أجل الوصول إلي رضا الله وطاعته.

حق الصوم

(وأما حق الصوم فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله علي لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار وهكذا جاء في الحديث (الصوم جُنّة من النار) [299] فإن سكنت أطرافك في حجبها رجوت أن تكون محجوباً وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب، فتطلع علي ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله، لم تأمن أن تخرق الحجاب، وتخرج منه، ولا قوة إلا بالله..). الصوم هو من العبادات المهمة في الإسلام، هو رياضة روحية يتجرد الإنسان فيه من كل شهوات الدنيا ليحلق في أجواء من الصفاء والروحانية. تتجسد في الصوم المساواة بين جميع المسلمين يجمعهم شهر رمضان المبارك ويوحد نفوسهم ومشاعرهم، وهو لا يعني الامتناع عن الطعام والشراب فحسب بل هناك وراء ذلك ما هو أعمق وأدق. فعلي الصائم أن يمسك لسانه عن الكذب وقول الباطل، ويمسك سمعه عن سماع الغيبة، وفرجه مما لا يحل له، وبطنه عن تناول الحرام، وبهذا يكون الصوم (جنة) من النار ومنجي من عذاب الله وعقابه. أما إذا تعدت هذه الجوارح والأعضاء وظائفها الشرعية وانحرفت عن خطها السوي فإنها توصل بصاحبها إلي ما لا تحمد عقباه.

حق الصدقة

(وأما حق الصدقة فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك، ووديعتك التي لا تحتاج إلي الأشهاد، فإذا علمت ذلك، كنت بما استودعته سراً أوثق بما استودعته علانية، وكنت جديراً أن تكون أسررت إليه أمراً أعلنته وكان الأمر بينك وبينه فيها سراً علي كل حال، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بأشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنها أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليه. ثم لم تمنن بها علي أحد لأنها لك فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون مثل تهجين حالك منها إلي من مننت بها عليه لأن ذلك دليلاً علي أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتّن بها علي أحد ولا قوة إلا بالله..). لقد رغب الإسلام بكل الصدقات والهبات والتبرعات والمسلم إذا عاش مع الناس بحاجاتهم وقضاياهم وتفاعل معهم عاطفياً وعملياً سوف يتحول إلي عنصر عطاء. والعطاء إذا خرج عن نفس طيبة يتحسس بآلام الناس وينفس عنهم كربتهم ويرفع عنهم عوزهم سوف يتحول العمل إلي عبادة تعادل الصلاة والصوم. لذلك أكد الإمام علي الصدقة واعتبرها ذخراً عند الله للمتصدق وهو إنما يقدمها لنفسه، فإنه يجدها حاضرة يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون. كما أكد الإمام (عليه السّلام) علي ضرورة إعطاء الصدقة في السر، وأن تكون خالية من المن لأن ثوابها يعود علي منفقها ولا يضيع عند الله تعالي وهي لا تحتاج إلي الأشهاد ولا إلي الوثائق وكلما كانت سراً كانت أكثر ثواباً وأبعد عن الظهور والكبرياء، أما إذا أعطيت جهاراً وأمام الملأ من الناس فإنها تخرج عن هدفها المحدد لها وهو التوجه نحو الله والتماس رضاه. قال تعالي: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذي لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [300] . ونظراً لأهمية الصدقة في السر فقد كان الإمام (عليه السّلام) يعول مائة بيت في يثرب، وهم لا يعلمون من هو الذي يعيلهم.

حق الهدي

(وأما حق الهدي فأن تخلص بها الإرادة إلي ربك والتعرض لرحمته وقبوله ولا تريد عيون الناظرين دونه، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفاً ولا متصنعاً وكنت إنما تقصد إلي الله واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير كما أراد يخلقه التيسير، ولم يرد بهم التعسير، وكذلك التذلل أولي بك من التدهقن [301] لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما، ولا مؤونة عليهما، لأنهما الخلقة، وهما موجودان في الطبيعة ولا قوة إلا بالله...). الهدي من فريضة الحج تمتاز بطابعها السياسي العبادي وهو ما يذبحه حجاج بيت الله الحرام من الأنعام في مكة أو في مني وقد أكد الإمام (عليه السّلام) علي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالي غير مشفوع بأي سبب آخر ومظاهر فاسدة كالرياء وطلب السمعة لأن الله تعالي يتقرب إليه باليسير من الأعمال لا بالعسير وبالتذلل لا بالتكبر. والحاج يهرق دماً ضحية تعبيراً عن تتويج تلك الأعمال العبادية المأمور بها بثورة دامية ينفذها المسلم إذا احتاج هذا الدين دماءً طاهرة من أجل الجهاد في سبيل الله. والهدي يرمز إلي العطاء الكريم والفداء العظيم والمسلم علي استعداد دائم لهذا العطاء والفداء.. يقدمه خالياً من كل الشوائب التي تفسد قبوله. ثم بيّن لنا الإمام قاعدة إسلامية هامة وهي اليسر استمدها من القرآن الكريم. قال تعالي: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر...) [302] . ومن حقوق الأفعال تحدث (عليه السّلام) عن حقوق الأئمة.

حقوق الأئمة

حق الأئمة

(فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة، وأنه ابتلي فيك، بما جعله الله له عليك من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه [303] وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لإعطائه الرضي ما يكفَّه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازه [304] ولا تعانده فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك [305] فعرضتها لمكروهه، وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقاً أن تكون معيناً له علي نفسك، وشريكاً له في ما أتي إليك، ولا قوة إلا بالله..). ومن الشؤون الدينية إلي الشؤون السياسية. ففي التشريع الإسلامي الحاكم هو الله جل جلاله، فهو الذي يملكنا تكوينياً من أنه خلقنا وصورنا وأخرجنا إلي عالم الوجود. قال تعالي: (إن الحكم إلا لله) [306] وقد اختار سبحانه رسلاً كراماً حملهم أمانة تبليغ الرسالة الإسلامية، فهم ينقلون إرادة الله وينفذون أوامره ونواهيه. لقد تولوا المهمتين: التبليغ والتنفيذ. فالرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قام بإبلاغ الناس بوحي الله المتجسد في القرآن والسنة وكان الحاكم المطلق الذي نفذ هذه الأحكام فأعلن الحروب وفتح البلاد ونظم الجيش وحكم في الحدود وهكذا كانت السلطة بيده ولا يجوز مخالفته. ولأنه كان يعلم أن الله سبحانه سيختاره إلي جواره كما اختار الأنبياء من قبله أبلغ الأمة عن الخليفة بعده وعينه باسمه وأشار إليه بأوصافه فكان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) نص عليه صريحاً بأمر من الله في حديث المنزلة وحديث الدار. قال تعالي: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم..) [307] . وقد تأكد حديث تعيين الإمام علي (عليه السّلام) في حديث الغدير الذي بلغه النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) للأمة في حجة الوداع ثم تتابعت السلسلة الطاهرة من أهل البيت فكانوا اثنا عشر إماماً مع الإمام علي (عليهم السّلام). آخرهم الإمام الحجة محمد ابن الحسن العسكري الذي شاءت حكمة الله أن يغيب عن الأبصار وإن كان حاضراً في الأمصار. وهناك شروط ومواصفات من اجتمعت فيه كان الحاكم الذي يقوم في تدبير شؤون الأمة الإسلامية. وأهم هذه الشروط: 1 - الإيمان: علي الحاكم أن يكون مؤمناً يعتقد بالشريعة الإسلامية أصولاً وفروعاً، عقائداً وأحكاماً. 2 - العدالة: فلا يترك واجباً ولا يرتكب حراماً دون عذر شرعي، لأن الفاسق يجعل نفسه حجة بأيدي الأشرار والفاسقين، وبهذا يطعن بالشريعة الإسلامية ويقتدي به أصحاب المصالح الشخصية. 3 - العلم: علي الحاكم في الإسلام أن يكون أعلم الناس بالشريعة لأن وظيفته القيادية تحتم عليه حفظها وبيانها، وشرحها لا يكون إلا علي أيدي العلماء الفقهاء. قال الإمام علي (عليه السّلام): (ألا وإن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه). إن القيادة الشرعية الصالحة التي تهتم بشؤون المسلمين وتحافظ علي كرامة الناس وعزتهم هي التي تقلب مفاهيم الناس وتحولهم إلي أعضاء صالحين يتمسكون بالفضيلة وينشدون الخير. فإن كان الحاكم ورعاً تقياً صالحاً عالماً انعكس ذلك علي مجتمعه كله فتسود الفضيلة وينتشر العدل ويعم الرفاه. أما إذا كان غاضباً فاسداً فاسقاً منحرفاً انعكس ذلك علي مجتمعه فانتشر الفساد وساد الظلم واضطربت أمور الناس. وما نراه اليوم من مظالم وما نعيشه من نكبات واستغلال واستعباد، كل ذلك نتيجة للانحراف عن الإسلام. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) في رسالته المباركة وضع الحاكم أمام واجبه ومسؤولياته ويضع المواطن أمام واجبه أيضاً فإذا أخطأ الحاكم الظالم عليك إرشاده بأيسر الطرق بحيث تخرج عن تبعة ما يلحقك من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حق المعلم

(وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، والمعونة له علي نفسك في ما لا غني بك عنه، بأن تُفرِّغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتذكي له قلبك، وتجلي له بصرك، بترك اللذات ونقص الشهوات، وأن تعلم أنك في ما ألقي إليك رسوله إلي من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته، والقيام بها عنه إذا تقلدتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله..). المعلم من أكرم رجال الأرض الذين ساهموا في نشر العلم وفك عقال الجهل، إنه صانع الفكر والحضارة، ينير دروب السالكين للوصول إلي الحقيقة وشاطئ السلامة. لقد ارتفع عن الأنانية البغيضة ليفتح قلوب الآخرين المغلقة ويزرع في نفوسهم حب الخير ونداء التقدم وثورة التحرير، يدفع طلابه نحو الأمجاد العظيمة في كل مجالات العلم والأدب والأخلاق. وبالعلم والأخلاق قامت الحضارات الإنسانية. فله أياد بيضاء علي الإنسانية عامة، وعلي المتعلم خاصة. وقد أشاد الإمام (عليه السّلام) بمكانة المعلم فأثبت له حقوقاً علي المتعلم وجعله مسؤولاً عن رعايتها والقيام بها. وهذه الحقوق هي: 1 - احترام المعلم وتعظيمه وتقدير عطائه لما له من عظيم الفضل علي المتعلمين في تنوير طريقهم وإنقاذهم من ظلام الجهل وظلم الجاهلين. 2 - توقير مجلسه واعتماد الحشمة والأدب فيه. 3 - حسن الاستماع لمحاضراته والإقبال عليها بجدية واهتمام. 4 - تفريغ العقل وتحضير الفهم وإذكاء القلب وإجلاء البصر ومن الطبيعي أن طالب العلم إذا لم يقبل علي معلمه برغبة واهتمام فإنه لا يستفيد في مدرسته أو جامعته. 5 - ترك اللذات والابتعاد عن الشهوات لأنهما شرطان أساسيان في تحصيل العلوم عامة، والدينية خاصة. فطالب اللذات لا يحصل غالباً علي شيء من العلوم. 6- علي المتعلم أن ينشر جميع العلوم والمعارف التي تلقاها عن أستاذه لأن ذلك واجب شرعي عليه في استمرار رسالة العلم ونشره بين جميع الناس. هذه الأصول التربوية التي دعا إليها الإمام تمثل التربية السليمة التي يجب علي طلابنا اليوم الاقتداء بها لأنها تعاليم علمائنا الأبرار الذين قدموا للبشرية كل خير وصلاح وتعاليم الإسلام العظيم الذي دخل إلي القلب والروح فقلب الموازين وغير المفاهيم الجاهلية ونقل الناس من الظلام إلي النور فصاغهم صياغة ربانية خالصة.

حق المالك

(وأما حق سائسك بالملك فنحوٌ من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك، تلزمك طاعته في ما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله، ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق، فإذا قضيته رجعت إلي حقه، فتشاغلت به، ولا قوة إلا بالله..). اهتم أهل البيت (عليهم السّلام) بالرق وعملوا كل ما لديهم علي فك رقاب العبيد، ولو أنهم تولوا قيادة الأمة بعد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مباشرة لقضوا علي الرق بشتي صوره ولم يبق أي أثر له. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) تمشياً مع خط الإسلام في تحبيذ العتق أعتق الألوف من العبيد. قال سيد الأهل: (فهو يشتري العبيد لا لحاجة به إليهم ولكن ليعتقهم، وقالوا: إنه أعتق مائة ألف [308] . لقد عمل الإمام (عليه السّلام) علي إنقاذ الإنسان من العبودية وعامل الأرقاء كما يعامل أبناءه باللطف والرحمة واللين فلم يجعل الرق يحمل العبودية والذل، عملاً بقول جده أمير المؤمنين: (إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق). وقد تعرض الإمام (عليه السّلام) إلي حق المالك علي رقه، فأوجب طاعته إلا أن يدعو مولاه إلي معصية الله فلا طاعة له.

حق الرعية

(فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم، وذلهم، فما أولي من كفافه ضعفه وذله حتي صيره رعية، وصير حكمك عليه نافذاً، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله، بالرحمة والحياطة والأناة [309] ، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضله هذه العزة والقوة التي قهرت بها، أن تكون لله شاكراً، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه ولا قوة إلا بالله..) [310] . نظر الإمام (عليه السّلام) إلي الحكومات القائمة في عصره فرأي الطواغيت والفراعنة وأنصاف الآلهة الذين توصلوا إلي كرسي الحكم بالقوة والقهر فقتلوا ونهبوا وأجرموا دون وازع من دين أو رادع من ضمير، لقد تجردوا من إنسانيتهم ولبسوا ثياب الذئاب الكاسرة وحكموا علي أشلاء الناس وجماجم البشر فكان فرعون وهامان ويزيد وابن زياد والوليد والحجاج...واليوم في عالمنا المعاصر يوجد أمثالهم ممن يسومون الناس بالذل والهوان ويحاسبونهم علي التهمة والظن كل ذلك في سبيل الحفاظ علي عروشهم ومصالحهم. هؤلاء الطواغيت يدّعون الحكم باسم الإسلام، والإسلام منهم بريء كل البراءة، إنهم عبء علي الإسلام والمسلمين، تولوا عروشهم الدنيئة بمعونة أسيادهم المستعمرين، والإسلام لا يعترف بشرعية حكمهم ولا يسمح للشعب أن يتقيد بما يأمرون وينهون. علي الحاكم في الإسلام أن يكون كالأب الرحيم علي رعيته يرعاهم ويتفقد شؤونهم ويعيش آمالهم وآلامهم، عليه أن يتمثل بوصية أمير المؤمنين لمالك الأشتر عندما ولاه علي مصر. جاء في الوصية: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ في الدين أو نظير لك في الخلق! تفرض منهم الزلل، وتعرض لهم العلل ويؤتي علي أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضي أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك...). والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يوصي الحكام برعاية الشعوب والرحمة بها، والحياطة لشؤونها، والأناة في التصرف في أحوالها، وقد وضعهم وجهاً لوجه أمام الله كي يقوموا بأداء شكر هذه النعمة التي استطاعوا من خلالها أن ينفذوا حكم الله وإرادته ويجعلوا كلمته هي العليا.

حق المتعلمين

(وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم في ما آتاك من العلم، وولاك من خزانة الحكمة فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبده، الصابر المحتسب الذي إذا رأي ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه، كنت راشداً، وكنت لذلك آملاً معتقداً، وإلا كنت له خائناً ولخلقه ظالماً، ولسلبه عزه متعرضاً). حث الإسلام علي العلم ودعا إليه وأمر بطلبه ولو كان في أبعد البلاد وأقصاها. وقد رفع الله المؤمنين والمتعلمين درجات. قال تعالي: (...يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) [311] . وعن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: (ما أخذ الله علي أهل الجهل أن يتعلموا حتي أخذ علي أهل العلم أن يعلموا). فنشر العلم أمر ضروري وواجب علي المعلمين وذلك حتي يقضي علي الجهل وتمنع البدع وتستقيم الأمور في الحياة. وكما أخذ الله علي الجاهل أن يتعلم أخذ علي العالم أن يبذل علمه. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يوجه حديثه إلي المعلم فيقول له: إن الله سبحانه وتعالي بما أعطاك من العلم جعلك محط حاجة طلابه فإن أحسنت فيما توليت وقمت بما يدعوك إليه الواجب من نشر العلم وبذله للمتعلمين، فالله تعالي فيما رزق العلماء من العلم والحكمة، قد جعلهم خزنة عليها، فإن بذلوه إلي الناس فقد قاموا بواجبهم وأدوا رسالتهم وإلا كانوا خائنين وظالمين وتعرضوا لنقمة الله وسخطه.

حق المملوكة أو حق رعيتك بملك النكاح

(وأما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم أن الله جعلها سكناً ومستراحاً، وكذلك كل واحد منكم يجب أن يحمد الله علي صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله، ويكرمها ويرفق بها، وإن كان حقك عليها أغلظ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت، ما لم تكن معصية، فإن لها حق الرحمة، والمؤانسة، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لا بد من قضائها، وذلك عظيم ولا قوة إلا بالله..). أوصي الإسلام بالزواج الشرعي وحدد مواصفات المرأة ومواصفات الرجل كي يستمر الزواج ويعطي ثماره التي يرغبها. ففي مقام الدعوة إليه قال تعالي: (وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إِنْ يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم) [312] . وقال تعالي أيضاً: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [313] فالمراة سكن للرجل وهدوء وراحة ضمير من هنا قول الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (فأن تعلم أن الله جعلها سكناً ومستراحاً وأنساً وواقية). وقال تعالي: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). فالمرأة تستر عيوب الرجل وعوراته كما تسترها الثياب، وكما أن الإنسان يختار من الثياب المناسب واللائق به وهذه نعمة يجب علي كل منهما أن يؤدي شكرها. يقول الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله علي صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها..). هذه المعاشرة الحسنة تتجسد في مسيرة المرأة المسلمة والرجل المسلم علي حد سواء ولكل منهما الأجر والفضل وعلي الزوجة أن تطيع زوجها وتحافظ علي شؤونه وما ملكت يداه ولا تعصي له أمراً إلا إذا كان فيه معصية لله فعندما تسقط طاعته. (إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

حق رعيتك بملك اليمين

(وأما حق رعيتك بملك اليمين فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله، ولا خلقت له سمعاً ولا بصراً، ولا أجريت له رزقاً، ولكن الله كفاك ذلك بمن سخره لك، وائتمنك عليه، واستودعك إياه لتحفظه فيه، وتسير فيه بسيرته فتطعمه مما تأكل، وتلبسه مما تلبس، ولا تكلفه مما لا يطيق، فإن كرهته خرجت إلي الله منه، واستبدلت به، ولم تعذب خلق الله، ولا قوة إلا الله..). ملك اليمين هم العبيد والإماء الذين تحت يد إخوانهم من بني البشر، وقد جهد الإسلام منذ يومه الأول في سبيل تحريرهم وإخراجهم من ذل الرق والعبودية إلي عز الانطلاق والحرية. وهذا الإمام زين العابدين ما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان الكثير من العبيد. وهذه الوصية منه (عليه السّلام) تمثل موقفاً رائعاً من مواقفه. لقد نظر الإمام (عليه السّلام) إلي المملوك نظرة رحيمة مستمدة من جوهر الإسلام وواقعه، فالمملوك كالحر هو من صنع الله، خلق له السمع والبصر، وأجري له الرزق كما صنع ذلك للحر، فليس للمالك أن يتكبر عليه، أو يحمله فوق طاقته. وليعلم المالك أن الله سبحانه سخره له وائتمنه عليه واستودعه إياه فحق له أن يحفظ الأمانة والوديعه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يعذب خلق الله. وهذه لفتة كريمة من الإمام كي يعود المالك إلي ضميره وعقله.

حقوق الرحم

اشاره

وفي استعراضه للحقوق وجه الإمام (عليه السّلام) نظرة صائبة نحو الأرحام وأدلي بحقوقهم.

حق الأم

(فحق أمك أن تعلم أنها حملتك، حيث لا يحمل أحداً أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً، وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك، فرحة موبلة [314] محتملة لما فيه مكروهها، وألمها، وثقلها وغمها حتي دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلي الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعري، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحي وتنعمك لبؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء [315] . وثديها لك سقاءً، ونفسها لك وقاءً، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها علي قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه..). الأم: هذه الكلمة العذبة، الطيبة التي تفيض عطفاً وحناناً، وحباً وإخلاصاً، وتضحية وإيثار. وإنها تمثل العطاء بمدلوله الإسلامي الإنساني فيها تتجسد كل معاني الخير، ومن نفسها تقدم أعلي ما عندها راغبة في العطاء، تقدم سعادتها وراحتها وقلبها ونفسها وكل ما تطاله يدها دون منٍّ ولا جزاء. حملت وليدها وهناً علي وهن وأطعمته من ثمرة قلبها وروته من صدرها، فكانت تضعف ليقوي وتبذل ليشتد. لقد أشغلت سمعها وبصرها ويدها ورجلها وبشرها وجميع جوارحها، كل ذلك قدمته راغبة لئلا يتأذي أو يتضرر وليدها. وبعد الحمل والخروج إلي عالم النور لم تكتف الأم الحنون عن تقديم عطاياها بل سلكت مسلك الإيثار بأجمل صوره وأجلها، فبذلت جميع طاقاتها للحفاظ عليه والسهر علي راحته إلي أن يكبر ويأخذ طريقه في الحياة والإمام زين العابدين في رسالته الكريمة شرح واقع الحال عندها ودفع الولد إلي شكرها علي ما قدمته من جميل وهذه كانت وصية الله في كتابه الكريم. قال تعالي: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً علي وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) [316] . ما أعجز الإنسان عن أداء حقوق أمه، وإذا قدم لها جميع الخدمات والمبرات لما أدي أبسط شيء من حقوقها (فيا رضا الله ورضا الوالدين).

حق الأب

(وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره علي قدر ذلك، ولا قوة إلا بالله..). أولي الإسلام ركنا الأسرة اهتماماً كبيراً، وأما حق الأب علي الولد فهو كبير أيضاً كحق الأم. فالأب يسعي في تحصيل لقمة العيش له ولأسرته فيبذل جهداً كبيراً يتحمل مشقات كثيرة من أجل إسعاد أولاده. الأب يمثل الأصل والابن يمثل الفرع، ولا وجود للفرع دون الأصل لأنه السبب في وجوده ونموه وازدهاره. وما نراه اليوم أن الفرع قد يطغي علي الأصل، فيري الابن نفسه أكبر من أبيه وأكثر فهماً وتطوراً فيتطاول علي الوالدين وينال من كرامتهما ناسياً أنه من تربية أيديهما ونتاج فضلهما وثمرة لوجودهما. هذا النوع من الأنباء هو الإنسان عاق منحرف ابتعد عن الصواب وغفل عن وصية الله له التي تحث الأولاد علي طاعة الوالدين واحترامهما. قال تعالي: (وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) [317] . والإسلام دعا إلي تمتين روابط الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة فالولد البار يقوم بأداء حق الوالدين ويطيعهما ويوفر لهما كل أسباب الرضا فلا يفحش في الكلام لهم ولا يغلظ وإنما المعاملة بالعطف والرقة وخفض الجناح والكلام الطيب ولئن كانت الكلمة الطيبة صدقة فإنها في حق الوالدين أكبر من الصدقة وأنبل. ورد في أحكام القرآن لأبي بكر ابن عربي الأندلسي ج2 ص35، أن شيخاً قال أبياتاً يعتب فيها علي ولده قرأها علي النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهي: غذوتك مولوداً وقد كنت يافعاً تعل بما أحني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردي نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليك مدي ما فيك كنت أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل فلما سمع النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) هذه الأبيات قال للولد: (أنت ومالك لأبيك).

حق الولد

(وأما حق ولدك فتعلم أنه منك، ومضاف إليك، في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب، والدلالة علي ربه، والمعونة علي طاعته فيك وفي نفسه فمثاب علي ذلك، ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذور إلي ربه في ما بينه وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه ولا قوة إلا بالله..). الولد قطعة من الكبد بل هو الكبد كله. قال أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن (عليهما السّلام): (ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي، حتي كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) والولد هو امتداد لحياة أبيه، واستمرار لوجوده هو بعضه بل هو كله. من هذا المنطلق يبادر الأب إلي الحفاظ علي أولاده فيقوم بإعالتهم من مأكل ومطعم وكساء. وهذا العمل هو جزء كبير من الواجبات المطلوبة من الوالد. ولم يقتصر واجبه عند هذا الحد من الواجبات المادية بل عليه واجب أكبر في تربية أولاده تربية إسلامية فاضلة، فيغرس في أعماقه النزعات الكريمة، ويعوده علي العادات الحسنة ويجنبه الرذائل ويقيم له الأدلة علي الخالق العظيم الذي يملك كل شيء وبذلك يكون قد أدي واجبه نحو أسرته ونحو مجتمعه فالأسرة الصالحة لبنة في بناء مجتمع صالح وإن أخفق فهو مسؤول أمام الله تعالي، ومعاقب علي ذلك. والإمام زين العابدين يبين أن القضية ليست نتاج فحسب بل هي مسؤولية وحساب فالولد يعيد وجود أبيه فإن كان صالحاً براً تقياً نسب إلي أبيه، وإن كان شقياً طالحاً نسب أليه أيضاً فالإمام (عليه السّلام) يستثير في الوالد مكامن العز ويحرك في نفسه حب الاستمرارية في الحياة فإن أحسن تربيته يكون قد حقق لنفسه السمعة الطيبة والأحدوثة الحسنة، من هنا كان القول المأثور: (الولد سر أبيه).

حق الأخ

(وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحاً علي معصيته، ولا عدة للظلم بحق الله [318] ، ولا تدع نصرته علي نفسه، ومعونته علي عدوه، والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه، والإقبال عليه في الله، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له، وإلا فليكن الله آثر عندك [319] ، وأكرم عليك منه..). الإسلام كدين إنساني اجتماعي جاء ليشد أواصر القربي ويقوي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فشرع قانون الأخوة الإسلامية، الأخوة في الله، فمهما تباعدت البلاد ونأت الديار نجد المسلم العربي يفرح للقاء أخيه الهندي أو الإيراني أو المصري أو السوري أو العراقي أو الجزائري... أو أي أخ من بلد عربي مسلم آخر. وذلك تحت ظلال الأخوة الإسلامية (وإنما المؤمنون إخوة). هذه الأخوة تتوثق أكثر إذا انضمت إليها أخوة النسب فإنهما تتآلفان وتتساندان في طريق الحق والإيمان، لكن أخوة النسب لا يقيم لها الإسلام وزناً إذا لم تكن ضمن الخط الإسلامي وفي طريق تقوي الله. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يلقيننا درساً من دروس الإسلام في التربية الاجتماعية فبلغت أنظارنا أن الأخ يد لأخيه وعز ومنعة وقوة له، هو سنده في الملمات وشريكه في السراء والضراء وله من الحقوق مايلي: 1 - أن لا يتخذه سلاحاً علي المعاصي (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) ولا يستعين به علي ظلم الناس والاعتداء عليهم بغير حق. 2 - أن يرشده إلي سبل الخير ويهديه إلي طريق الرشاد. 3 - أن يعينه علي (الوسواس الخناس) ويحذره منه، ويخوفه من عقاب الله تعالي، يوم لا ينفع لا مال ولا بنون إلا ما أتي الله بقلب سليم. 4 - أن ينصحه في أمور آخرته ودنياه، فإن أطاعه وانقاد للحق فذاك، وإلا فليعرض عنه، ولا يتصل به لأنه عصي الله وليكن سبحانه وتعالي أكرم عليك منه وآثر لديك.

الحقوق العامة

حق المنعم عليك بالولاء

(وأما حق المنعم عليك بالولاء فتعلم أنه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذل حق الرق ووحشته إلي عز الحرية وأنسها، وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية، وأوجدك رائحة العز، وأخرجك من سجن القهر، ودفع عنك العسر، وبسط لك لسان الإنصاف، وأباحك الدنيا، فملكك نفسك، وحل أسرك، وفرغك لعبادة ربك، واحتمل بذلك التقصير في ماله، فتعلم أنه أولي الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك، وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكافأنك في ذات الله فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك). كان الرق سائداً في المجتمع الجاهلي ولما جاء الإسلام عمد إلي ترغيب الناس في تحرير العبيد وتخليصهم من نير الاستعباد، وقد شجع النبي الأكرم والأئمة الأطهار من بعده علي تحرير الرقيق بشتي صوره وأشكاله. فتسابقوا جميعهم (عليهم السّلام) إلي عتق العبيد فالإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أعتق ألف مملوك من كد يمينه وعرق جبينه، وحفيده الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كانت إحدي خصائصه عتقه للعبيد حيث كان يشتريهم ويقوم بتعليمهم وتهذيبهم ثم يحررهم لوجه الله، فكان العبد عنده لا يستقر أكثر من ستة أشهر إلي سنة. إن هذا التصرف العظيم ينطلق من قاعدة أساسية وهي إرادة الحرية لجميع الناس وينسجم مع نظرة الإسلام إلي كون الناس أحراراً والرق حالة طارئة يجب أن تزول، وقد جعل تحرير العبيد كفارة لبعض الذنوب. فعلي الإنسان الذي عادت إليه حريته أن يشعر بهذه النعمة الكبيرة التي تمت علي يد هذا المنعم الذي أطلق سراحه وأعتق رقبته. وليعلم أن تحريره نعمة تفرض عليه الشعور بأن هذا المنعم هو أولي الناس به بعد أهله وأرحامه في حياته وموته، لأنه أطلقك من سجن العبودية وملكك نفسك وفرغك بعبادة ربك واحتمل ذلك التقصير في ماله لذلك لا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.

حق المولي

(وأما حق مولاك، الجارية عليه نعمتك، فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه، وواقية وناصراً، ومعقلاً، وجعله لك وسيلة، وسبباً بينك وبينه، فالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك، فإن لم تخفه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه، ولا قوة إلا بالله..). دعا الإمام (عليه السّلام) المسلمين إلي مراعاة حقوق أرقائهم فإن الله قد جعلهم عليهم وكلاء، فاللازم عليهم مراعاة حقوقهم، ومعاملتهم معاملة كريمة، والإحسان إليهم بكل ما يمكن إحسانه، فإن فعلوا ذلك وقاموا به فإن الله يجازيهم علي ذلك ويجعل إحسانهم إليهم وقاية لهم من النار في الآخرة لما يحققونه من أجر وثواب.

حق صاحب المعروف

(وأما حق ذي المعروف عليك، فأن تشكره وتذكر معروفه وتنتشر له المقاله الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية. ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته وإلا كنت مرصداً له موطناً نفسك عليها..) [320] . فاعل المعروف رجل خيّر طابت نفسه وسخت كفه حتي أصبح فعل الخير سجية من سجاياه، يبادر إلي فعله عندما يعلم به دون سؤال ولا التماس طلب. يقوم بعمله هذا وهو يشعر بلذة وارتياح نفسي. وحسن هذا المعروف أن يبقي طي الكتمان لا يعرف به إلا صاحبه أما إذا أراد صاحب المعروف أن يكسب شهرة بمعروفه طمعاً بتحقيق مصالح شخصية ومآرب خاصة فإنه لا يستحق المدح ولا الثناء ويذهب معروفه باطلاً مهما كان كبيراً. قال تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذي كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صنوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون علي شيء مما كسبوا) [321] . أما إذا كانت نفوس أهل الخير طاهرة تريد الخير لوجه الله تعالي فعلي المحسن إليه تقديم الشكر لهم ونشره بين أفراد المجتمع حتي يتسابق أهل الخير إلي الخيرات فيما بينهم. ثم من واجب المحسن إليه أيضاً المبادرة بالدعاء إلي من أحسن إليه اعترافاً منه بالجميل ثم يترقب الفرص المناسبة ليرد لهم إحسانهم وجميلهم عند استطاعته.

حق المؤذن

(وأما حق المؤذن فأن تعلم أنه مذكرك بربك، وداعيك إلي حظك، وأفضل أعوانك علي قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك، فتشكره علي ذلك شكرك للمحسن إليك وإن كنت في بيتك متهماً لذلك، لم تكن لله متهماً في أمره، وعلمت أنه نعمة من الله عليك، لا شك فيها فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها علي كل حال، ولا قوة إلا بالله..). الله أكبر.. نشيد من أناشيد السماء يرتله المؤمنون علي هذه الأرض المباركة فينعش قلوبهم المفعمة بالإيمان ويحرك فيها الصلة بالله تعالي. بهذا النشيد الرباني تحطمت عروش السلاطين الظالمين وزالت دول الجبارين الفاسدين إلي غير رجعة. بهذا النشيد السماوي نشط المجاهدون الأبطال وأحرزوا الانتصارات الباهرة، وفتحوا الفتوحات الزاهرة، وأرشدوا الناس إلي الحياة الحرة الكريمة. (أشهد أن لا إله إلا الله) شهادة وجدانية تتجسد في رفض كل الآلهة البشرية ما عدا الله الواحد الأحد وله الحكم والمحيي والمميت. وأشهد أن محمداً رسول الله: شهادة إقرار أن محمداً رسول من الله المبلغ لكلامه المتلقي منه الوحي والبيان. إنه المبلغ عن الله أحكامه ولا يجوز التوجه إليه عن الطرق الأخري المخالفة له. حي علي الصلاة: الصلاة التي ترفع بالمصلي إلي أرقي درجات الكمال والفضيلة، وهي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر وتبني الإنسان ليعيش عزيزاً كريماً عظيماً. حي علي الفلاح: يريد الله لعباده المؤمنين أن يتسلموا مقاليد الحياة ويقودوا العالم نحو الخير والصلاح. حي علي خير العمل: تجعل المسلم يتفاعل مع أحكام الله وتشد عزيمته إلي المسيرة الحياتية الكريمة. والرافع لهذا النشيد السماوي هو المؤذن المذكر بالله تعالي والمحرك لهذا الإنسان نحو الصلاة فحق له أن يشكر ويحسن إليه.. هذه هي وصية الإمام (عليه السّلام) إلي المسلمين ليحسنوا إلي الذي يعلمهم بدخول وقت الصلاة وهي من أهم الفرائض الدينية في الإسلام.

حق إمام الجماعة

(وأما حق إمامك في صلاتك فأن تعلم أنه تقلد السفارة في ما بينك وبين الله، والوفادة إلي ربك، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك هم المقام بين يدي الله، والمسألة له فيك، ولم تكفه ذلك، فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك، وإن كان آثماً لم تكن شريكه فيه، ولم يكن لك عليه فضل، فوقي نفسك بنفسه، ووقي صلاتك بصلاته فتشكر له علي ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله..). صلاة الجماعة فيها أجر كبير وسر دقيق وبالخصوص إذا كانت خلف إمام اكتملت فيه شروط الإمامة. وصلاة الجماعة لها دلائل عدة منها: المساواة بين المسلمين فلا يفضل شخص علي آخر مهما كان مركزه وظروفه، فمن سبق إلي المكان يكون أحق به. وتدل أيضاً علي وحدة المسلمين في الكلمة والموقف، فالجميع ينضمون تحت لواء التوحيد لله والطاعة لرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كما أنها تدل علي حسن النظام في الإسلام، فالصفوف كلها خلف إمام واحد ينوب عنهم في قراءة الفاتحة والسورة ويبلغ مرادهم. والجميع يثقون بعدالته وتقواه والتزامه بمنهج الإسلام. ولإمام الجماعة فضل كبير علي المؤمنين به، وذلك لما يترتب من الثواب الجزيل علي الجماعة. وقد تضافرت الأخبار باستحباب صلاة الجماعة وأنه كلما ازداد عدد المصلين جماعة ازداد ثوابهم وتضاعف أجرهم. ومن المعلوم أن ما يظفر به المأموم من الثواب الجزيل إنما هو بسبب إمام الجماعة الذي تقلد السفارة في ما بين المأموم وبين الله تعالي فهو مندوب عن المصلين يحمل أفكارهم ومشاعرهم بين يدي الله يخاطبه عنهم. وبذلك فقد تحمل الإمام عنهم أعباء القراءة في حين أن المأموم لم ينب عنه بشيء. ولهذه الجهة وغيرها فحق له الشكر وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في رسالته الكريمة هذه ذلك إن قصّر أثم هو دونك ولحقته جريرة ذنبه دونك فبصلاته وقي صلاتك وبنفسه وقي نفسك من النار فهو المسؤول والمحاسب عنك فحق له الشكر والثناء.

حق الجليس

(وأما حق الجليس فأن تلين له كنفك وتطيب له جانبك وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تفرقه في نزع اللحظ إذ لحظت وتقصد في اللفظ إلي إفهامه إذا نطقت، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار، ولا تقوم إلا بإذنه ولا قوة إلا بالله). راعي الإسلام جميع الآداب الاجتماعية ومنها أدب المجالس فمن أدب الجالسين أن يفسحوا للقادم إليهم مهما كان ضيق المكان ليشعروه بالتقدير والاحترام عملاً بقول الله تعالي: (ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم..) [322] . ومن أدب الداخل إلي المجلس أن يجلس حيث يجد فراغاً ملائماً طبقاً لقول الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (إجلس حيث انتهي بك المجلس) ومن أدب الجالسين بعضهم مع بعض أن يشعروا أنفسهم باحترام بعضهم البعض فلا يتكلم أحدهم بخشن الكلام أو وهو غير ملتفت إلي مخاطبه أو بعبارات نابية. لأن المجالس في الإسلام لها آدابها واحترامها، والإمام زين العابدين يتحفنا من هذه الآداب بما يلي: 1 - أن يلين الجليس جانبه لجليسه ولا يتلفظ بكلام فيه غلظة وشدة تنفر منها الطباع. 2 - أن يطيب له جانبه وذلك بتقديره وتكريمه. 3 - أن ينصفه إذا خاض معه الحديث ولا يظهر الاستعلاء عليه. 4 - أن لا يبالغ كثيراً في أمره. 5 - أن يقتصد بإفهامه عندما يوجه إليه الكلام. 6- إذا جاء قبله فعليه الاستئذان منه إذا أراد القيام وإذا جاء بعده فهو بالخيار في المقام. قال الإمام (عليه السّلام): (وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ولا تقوم إلا بإذنه). ما نلفت إليه أن هذه الآداب لو طبقها المسلمون علي واقع حياتهم لسادت المحبة والوئام في ما بينهم وزالت الحزازات التي تفرق بينهم وتباعد بين جماعاتهم.

حق الجار

(وأما حق الجار فحفظه غائباً، وكرامته شاهداً، ونصرته ومعونته في الحالين جميعاً، لا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف، كنت لما علمت حصناً حصيناً، وستراً ستيراً، لو بحثت الألسنة عنه لم تتصل إليه لانطوائه عليك، لا تستمع إليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة، ولا تحسده عند نعمة. تقيل عثرته وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..). اهتم الإسلام بالجار اهتماماً بالغاً وجعل له حقوقاً كثيرة تنطلق من حب التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان. والله تعالي أوصي بالإحسان إلي الجار. قال تعالي: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب) [323] . وقد تضافرت الأخبار عن أئمة الهدي (عليه السّلام) بالوصاية والعناية في أمور الجار وذلك لإيجاد التضامن الاجتماعي بين المسلمين. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): (وأوصانا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالجار حتي ظننا أنه سيورثه) وحتي لو كان الجار كافراً فرض له الإسلام حقوقاً. قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد. فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار، وحق القرابة وحق الإسلام. والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار. والجار الذي له حق واحد، الكافر له حق الجوار. ولهذا يتوجه الإمام زين العابدين(عليه السّلام) في رسالته ليلقي الأضواء الكاشفة علي حقوق الجار. وهي: 1 - أن يحفظ الجار جاره في حال غيابه، فلا يستغل غيابه للنيل منه والاعتداء علي كرامته. 2 - أن يكرمه في حال حضوره وينصره ويعينه في حال غيابه. 3 - أن لا يتتبع أي عورة أو منتقصة له ولا يبحث له عن سوءة وعليه أن يحفظ له حريمه ومعايبه وإن عرف بشيء من ذلك ستره ضمن أسراره. 4 - أن لا يستمع لحديثه اختياراً بدون علمه ولا يجوز له أن يسترق السمع ليأخذ منه ما لا يرضي، لأن الإسلام يريد من الجار أن يمتنع عن كل ما يعكر صفو الود والوفاق ويلتقي المسلم مع المسلم بقلب طاهر ووجه باسم دون أن يكون هناك أي حذر يسيء الظن. لأن ذلك يفرق بين الناس والإسلام يدعو إلي الإلفة والتضامن ورص الصفوف. 5 - ومن حق الجار أن لا يسلم جاره عندما تنزل به شدة أو تلم به مصيبة بل عليه أن يعينه بنفسه وماله وما ملكت يداه وإذا حصلت له نعمة فليفرح معه ولا يحسده عليها. 6- الحلم عنه إذا بدرت منه بادرة سوء، وعدم مقابلته بالمثل. 7 - صد من يشتمه أو يذكره بسوء. 8- يعيش معه بترفع وإباء فيصفح عنه إذا زل أو أخطأ ويحلم عليه حتي يرجع إلي رشده، ولا يصدق أية وشاية أو كلمة سوء ممن يريد أن يلقي بينهما العداوة والبغضاء. لقد دعانا الإمام زين العابدين لنتمسك بتعاليم الدين الإسلامي العظيم وشريعته الكريمة حيث لا نجد دعوة في العالم تتبني ما تبناه الإسلام في حق الجار ولا نظن أن هناك شريعة أعطت للجار من الحقوق ما أعطاه الإسلام.

حق الصاحب

(وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلاً وإلا فلا أقل من الإنصاف، وأن تكرمه كما يكرمك، ونحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلي مكرمة، فإن سبقك كافأته، ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك نصيحته وحياطته، ومعاضدته علي طاعة ربه ومعونته علي نفسه في ما لا يهم به من معصية ربه ثم تكون عليه رحمة، ولا تكون عليه عذاباً، ولا قوة إلا بالله..). ليست الصحبة في الإسلام تعارفاً عابراً وجاذبياً بل لها حقوقها التي يجب مراعاتها علي كل صاحب تجاه صاحبه. فالصاحب يكتسب من صاحبه عاداته وأخلاقه، وتقاليده وأفكاره، وكما قال المثل: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. وقد أمر الإسلام باختيار الأصحاب الذين يقربونه من الله ويعينونه عند الضيق. وعلي الإنسان أن يتمهل في اتخاذ الصديق كما عليه أن يتمهل في تركه. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): (لا تصحب إلا عاقلاً تقياً ولا تخالط إلا عالماً زكياً ولا تودع سرك إلا مؤمناً وفياً). وقد حدد الإمام زين العابدين حقوق الصاحب علي صاحبه وهي: 1 - أن تكون المصاحبة علي الفضل والمعروف وليس لغايات خاصة. 2 - أن يحفظ كل منهما صاحبه في حضوره وفي غيابه. 3 - أن تقوم المصاحبة علي المودة الصادقة والإخاء الصافي والمحبة الخالصة. 4 - أن يقدم كل صاحب لصاحبه النصيحة ولا يقصر به عما يستحق من المساعدة. 5 - أن يعضد كل منهما صاحبه علي طاعة الله تعالي والتجنب عن معاصيه فيعينه في دنياه وفي آخرته. 6- أن تكون الصداقة نعمة ورحمة فلا يغير علي صاحبك سلطة تسلمها أو مال حصل عليه.

حق الشريك

(وأما حق الشريك فإن غاب كفيته، وإن حضر ساويته، ولا تعزم علي حكمك دون حكمه، ولا تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، وتنفي عنه خيانته في ما عز وهان فإنه بلغنا إن يد الله علي الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوة إلا بالله). لقد أباح الإسلام الشركة في العقود وعمل بها المسلمون وقد حدد الفقهاء شروطها وذكروا موانعها. واختيار الشريك أمر هام ذلك أن العاقل يعرف كيف يختار الشريك الأمين التقي، الورع الذي يخاف الله فإذا كان الشريك بهذه المواصفات من الأمانة والعفة والنزاهة عندئذٍ يأتي دور التربية الإسلامية التي تنبه الشريك كيف يجب أن يعامل شريكه. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) تحدث عن صفات الشريك وواجباته تجاه الشريك الآخر منها: 1 - إذا غاب عليه أن يكفيه في عمله وينوب عنه في أداء حقه وإذا حضر معه عليه أن يساويه بنفسه فلا يتميزعنه. 2 - فلا يمضي رأياً دون رأيه ولا ينفذ ما يريده دون علمه، بل عليه مشاورته وأخذ رأيه فيما يقدم عليه من عمل يكون مشتركاً بينهما حتي يتحمل مسؤولية كاملة نحو ماله. 3 - علي الشريك أن ينفي تهمة الخيانة عن شريكه فلا يتهمه بعد أن كان مصدر ثقة ولا يتصرف إلا ضمن موازين الشرع والحق. ذلك أن نفي الخيانة هي مرحلة مهمة للود والصفاء بين الشركاء. فالثقة أهم شرط في دوام الشركة، وما نجده من الاختلاف بين الشركاء إنما كان في أكثر الأحيان نتيجة عدم التكافؤ بين الشريكين، ففي حين يكون أحدهما مؤمناً يكون الآخر مستهتراً أو فاسقاً، أو أنه مستبد برأيه فلا يعطي لشريكه الفرصة للتعبير عن رأيه. ولو عمل الشركاء بنصائح الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لما وقع الخلاف بينهم ولنجحوا في شركتهم وحققوا هدفهم.

حق المال

(وأما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله، ولا تنفقه إلا في حله، ولا تحرفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه، وسبباً إلي الله، ولا تؤثر به علي نفسك من لعله لا يحمدك، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك ولا يعمل فيه بطاعة ربك، فتكون معيناً له علي ذلك، وبما أحدث في مالك، أحسن نظراً لنفسه فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة، وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة، ولا قوة إلا بالله). لا يخفي ما للمال من دور هام في ترفيه الإنسان وسعادته. هو وسيلة لقضاء حاجات الإنسان وليس هدفاً مقصوداً بذاته والإسلام لا يدعو الناس إلي الابتعاد عن لذات الحياة ولا يحارب المال، فالله جعله والبنين زينة حياة الإنسان. (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). كما أنه يكره الفقر والمسكنة ويجعل اليد العليا خير من اليد السفلي التي تمتد لتأخذ. لكن المال سلاح ذو حدين ويعود نفعه أو ضرره لجهة استعماله. فصاحبه يمكن أن يسعد به ويمد الإنسانية بأروع المشاريع، كما يمكنه أن يحول هذا المال إلي سيف قاطع يحول سعادة الإنسان إلي شقاء ودمار. وما نراه اليوم من أكثر المتمولين الذين أمدهم الله بالمال، يحولون هذا المال إلي معصية الله، حيث يستعملونه في سائر المحرمات كالخمر والقمار والربا وحفلات اللهو وغير ذلك من الأعمال المنكرة التي مجها الإسلام وعاقب عليها. والإسلام يشجع علي إنفاق المال في سبيل الله، فيصرف علي الفقراء والمحتاجين ويتصدق به علي المعوزين من إخواننا المسلمين وغير المسلمين. وذلك عملاً بقول الله عز وجل: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذي لهم أجرهم عند ربهم...) [324] . والذي ينفق المال بهذه الطريقة في سبيل الله لا مناً ولا أذي يكسب رضا الله وتعود الفائدة عليه. قال تعالي: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم..) [325] . ولا يخفي أن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم من أبرز مصاديق الإحسان الذي يتبرع به الإنسان به الإنسان علي الفقراء، من هنا سأل سائل الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنا لنحب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال الإمام (عليه السّلام): تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها علي نفسي وعيالي وأصل بها وأحج وأعتمر. قال الإمام: ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة.. فإن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم أبرز مصاديق الإحسان المحض الذي يتبرع به الإنسان علي الفقراء والمحتاجين. والإسلام يريد أن يكون المال الذي يجنيه الإنسان من الطرق الشرعية المحللة، لذلك وضع طرقاً لاكتساب المال إذا تجاوزها الإنسان لم يكن المال شرعياً. من هنا يوضح الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حيث يقول: (وأما حق هذا المال فأن لا نأخذه إلا من حله) ينفق في الوسائل المحللة والمشاريع الخيرية التي يثاب عليها كإنشاء المستشفيات ومعاهد التعليم وتأسيس المكتبات العامة وما شابه ذلك من المشاريع التي تفيد كافة الناس. أما إذا جمعه صاحبه وادخره لورثته، فإن أنفقوه في طاعة الله فقد كسبوا رضي الله دونه وذهبوا بالغنيمة وإن أنفقوا في معصية الله فإثمه عليه لإعانته إياهم علي المعاصي والحرام، وباء هو بالحسرة والخسران. من هنا قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (ولا تؤثر به علي نفسك من لعله لا يحمدك وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركك ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معيناً له علي ذلك..) [326] .

حق الغريم

(وأما حق الغريم المطالب لك فإن كنت موسراً أوفيته وكفيته، ولم ترده، وتمطله، فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (مطل الغني ظلم) وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول، وطلبت منه طلباً جميلاً، ورددته عن نفسك رداً لطيفاً، ولم تجمع عليه ذهاب ماله، وسوء معاملته، فإن ذلك لؤم، ولا قوة إلا بالله..). جاء الإسلام ونظم كل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا تنظيماً شاملاً ليكون جسر عبور سليم له إلي الآخرة. هذا التنظيم شمل جميع المعاملات واستوعب جميع ما يجري في الحياة من أبواب التجارة كالبيع والشراء، وأبواب الزراعة والجعالة، وأبواب الإجارة والسبق والرماية، وأبواب الشركة والمضاربة والوديعة، إلي آخر أبواب المعاملات. هذه المعاملات نظمها الإسلام حسب الأصول هادفاً منها تمتين العلاقات بين المسلمين وتوثيق الروابط الاجتماعية من هذه المعاملات كان القرض وهو من الأمور المستحبة التي نادي بها الإسلام بعد أن حرم الربا وكل ما يسلب الفقير ماله. والقرض قربة إلي الله تعالي يوطد الصلة بين الأخوة ويزرع المحبة في قلوبهم لأنه يفك أسر المحتاج وينقذه من ضيق يضنيه ويغنيه عن أرباب المال المستغلين. والقارض أعطي للمستقرض فرصة واسعة حتي يؤدي دينه فلم يحصرة بأجل معين أو يضغط عليه في الوفاء. بل عليه أن يرد المعروف لصاحبه ولا يسوف في الأداء. أما إذا لم يتوفر مال القرض فعلي أربابه أن يراعوا أحوال المستقرض حتي تتيسر الأمور. قال تعالي: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلي ميسرة..) [327] . وقد أشار الإمام زين العابدين أن علي المستدين أن يتلطف إلي أرباب المال ويقابلهم بالكلمة الطيبة ويردهم رداً جميلاً (فإن كنت موسراً أوفيته وكفيته ولم ترده وتمطله) ثم يتابع الوجه الآخر: (وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول) إن لم ترضه بأداء الدين. وإذا لم يسلك الدائن هذا السبيل فإن ذلك لؤم.

حق الخليط

(وأما حق الخليط فأن لا تغره ولا تغشه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاصه عمل العدو الذي لا يبقي علي صاحبه وإن اطمأن إليك استقصيت علي نفسك وعلمت أن غبن المسترسل رباً، ولا قوة إلا بالله..). الخليط كالشريك والجليس وليس عابر سبيل فعليك أن تحافظ عليه ولا تغشه عملاً بقول الرسول الأعظم (من غشنا فليس منا) فالغش لعامة الناس أمر سيء ومرذول فكيف به للخليط كما لا يجوز لك تكذيبه لأن ذلك يعد من الطعن فيه وعدم الثقة. ومن شروط المخالطة أن يكون الخليط قوي الإيمان، صادق اللهجة محباً للحق ملتزماً بأوامر الله تعالي؛ وإلا كان الخليط منحرفاً عن الحق سيئاً لا يقيم وزناً لدين أو إيمان، فالبعد عنه خير من الاقتران به، لأن من يكون مسلكه كذلك فإنه يضل صاحبه ويحرفه عن جادة الاستقامة والقرآن الكريم للذين يتخذون خليلاً غير صالح. قال تعالي: (ويوم يعض الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً) [328] . والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يحذرنا من اتخاذ المغفل والمخادع خليلاً ويطلب إلينا أن لا نعيبه ولا ننقصه لأن ذلك ليس من فعل الخلطاء بل هو من فعل الأعداء، لأن العدو هو الذي يتحين الفرص للنيل من عدوه.

حق الخصم

(وأما حق الخصم المدعي عليك فإن كان ما يدعيه عليك حقاً لم تتفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدعيه باطلاً رفقت به وردعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه وبه يشحد عليك سيف عداوته لأن لفظة السوء تبعث الشر والخير مقمعة للشر ولا حول ولا قوة إلا بالله..). النظم الإسلامية من أرقي ما جاءت به الشرائع في العالم فأين هي القوانين الوضعية المنحرفة من القوانين الإلهية المنزهة؟ وقد تعرّض الأئمة الصالحين والفقهاء العالمين للقضاء فحللوا مسائله وحددوا مواصفات القاضي وآدابه وبينوا المنهج الذي يكون عليه القضاء. والإمام زين العابدين يريد في رسالته هذه أن يدخل إلي أعماق النفس ليحررها من الشذوذ ويعود بها إلي طاعة الله ورسوله. فيذكر الإنسان الذي أقيمت عليه الدعوة. فإن كانت صادقة من صاحبها فعليه أن لا يبطلها ويبطل الحق الذي تعلق بها، فيرده إلي أهله. كما عليه أن يحاسب نفسه في هذا الموقع فيخاصمها إن جنحت به عن الحق فيحكم بالحق دون أن ينظر إلي الشهداء كي يدلوا بشهاداتهم عليه، لأن ذلك هو حق الله ولا يجوز للمسلم أن ينقض حقاً من حقوق الله. أما إذا أراد أن يأخذ أموال الناس بالباطل من خلال فصاحة لسانه فإنه سيحاسب علي فعله الشنيع ويعاقب علي تصرفه الضال. ذلك أن كل حق يأخذه من الناس في غير موضعه إنما هو قطعة من النار تحرقه يوم القيامة. إن من يأكل أموال الناس بالباطل إنما يجني علي نفسه لأنه سوف يقف أمام حاكم عادل لا يحتاج إلي بينة أو شهود، لأنه يعلم ما في السرائر وما تكنه الصدور أما إذا كانت الدعوي الموجهة ضدك باطلة فالإسلام يأمر أن يرده بالرفق والموعظة الحسنة التي ترده إلي دينه وتحرك فيه إيمانه الذي يربطه بخالقه، ولا يجب أن نستعمل اللغط واللجاج لأن ذلك لا ينفع ولا يقطع الدعوي من مجاريها بل ربما يجني علي الشريف الشر والغم.

حق المدعي عليه

(وأما حق الخصم المدعي عليه، فإن كان ما تدعيه حقاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوي، فإن للدعوي غلظة في سمع المدعي عليه، وقصدت قصد حجتك بالرفق وأمهل المهلة وأبين البيان وألطف اللطف ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة إلا بالله..). لقد شدد الإسلام علي منع الترافع إلي الظلمة الذين انحرفوا عن العدل والحق وسلكوا طرقاً فاسدة يتبرأ منها الدين. وعن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلي أهل الجور ولكن انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه حكماً بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه). والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يعطينا درساً مفيداً في كيفية الترافع وكيف نقدم حجتنا. فإذا كان المدعي عليحق في دعواه، فأوصاه أن يتجنب الكلمات النابية مع خصمه، بل يقابله بالبيان الواضح والحجة الظاهرة والكلمة الطيبة، كما عليه تجنب القيل والقال لأنهما لا يجديان شيئاً، ولا يرجعان حقاً بل ربما يذهب ذلك بالحق ويضيع ويخرج عن الهدف الرئيسي الذي من أجله كانت الدعوة.

حق المستشير

(وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين فإن اللين يؤنس الوحشة وإن الغلظ يوحش موضع الأنس. وإن لم يحضرك له رأي، وعرفت له من يثق برأيه، وترضي به لنفسك دللته عليه، وأرشدته إليه فكنت لم تأله [329] خيراً ولم تدخره نصحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله..). ورد عن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمة المعصومين الحث علي الاستشارة وعدم الاستقلالية في الرأي. فعلي المستشير أن يقف علي عقول الآخرين ليدرك وجوه الحسن والقبح فيها. ورد عن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وقال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها). فالاستشارة يجب أن تكون من رجل اجتمعت فيه شروط أهلته لذلك أولها وأهمها: العقل، يعقل الأمور ويحلها بروية بعيداً عن الميل والهوي. والشرط الثاني: الالتزام الديني، أن يكون ملتزماً إسلامياً، ورعاً تقياً حتي لا يقوده انحرافه إلي مخالفة الحق والصواب. والشرط الثالث: المعرفة والخبرة. فإذا اجتمعت فيه هذه الشروط حق له أن يستشار وحق للناس أن يسمعوا له. أما إذا فقدت هذه الشروط فإن الاستشارة قد تسبب الضرر. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يطلب من المستشير علي المشير أن يؤدي نصيحته له بلطف ولين لا شدة فيه، لأن الشدة تنفر منها الطباع وتستوحش منها القلوب، وإن عرف من يثق برأيه فليدله عليه، ويرشده له وبهذا يكون قد أدي واجبه اتجاهه وأسدي إليه خيراً ومعروفاً.

حق المشير

(وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ولا تدع شكره علي ما بدا لك من أشخاص رأيه وحسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر، والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوة إلا بالله..). من الآداب الإسلامية التي يعلمها الإسلام لاتباعه، أدب المشاورة والوقوف علي آراء الآخرين في القضايا التي يبغي حلها، فالإسلام في الوقت الذي يجعل للإنسان الاستقلالية في الرأي والاعتدال بالنفس يأمره أن يقرن رأيه برأي غيره ثم يوازن بين كل هذه الآراء ليري وجه الصواب. والعاقل يختار أسلم الطرق وأنفعها وهذا ما يحصل عند الذين يملكون التجارب في الحياة والممارسة في حل مشاكل الناس عامة. أما حق المشير علي المستشير فلا يتهمه في رأيه ولا يزهد في نصيحته وإذا اتهمه في رأيه فإنه غير ملزم بالأخذ به وإذا تطابق الرأيان فيجب أن يحمد الله ويقبل رأيه مقروناً بالشكر، كما عليه أن يرد هذا الموقف بموقف مماثل له فتشير عليه إذا فزع إليك.

حق المستنصح

(وأما حق المستنصح فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة علي الحق الذي تري له أنه يحمل، ويخرج المخرج الذي يلين علي مسامعه، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه، وليكن مذهبك الرحمة، ولا قوة إلا بالله..). يريد الإمام زين العابدين أن يعطي درساً للمستنصح كيف يكون الأسلوب الذي تصاغ به النصيحة؟ وكيف يكون الحديث؟ فيطلب إلينا أن نقابل المستنصح بمر الحق والصراحة القاسية إذا لزم الأمر ولا نسايره بما يتفق مع حاجاته ورغباته وكل شخص وله أسلوبه الذي يجب أن نتعامل معه، فالعالم له أسلوبه الخاص به والجاهل له أسلوبه والعامل له أسلوبه والأمي له أسلوبه والأستاذ له أسلوبه والتلميذ له أسلوبه فكل واحد من هؤلاء له خطابه الخاص يخاطب به. ثم إن من حق طالب النصيحة أن تؤدي إليه بما يستطيع حمله وتقبله. وكما قال الرسول الأعظم: خاطبوا الناس علي قدر عقولهم. والنصيحة يجب أن تقدم بأسلوب مرن وسلس لئلا يشق علي المستنصح ذلك فيرفض النصيحة. وكم من نصيحة رفضت لأنها لم تستوف شروطها الموضوعية وكم من رجل صالح مخلص أصيب بخيبة أمل في رد النصائح التي أسدي بها إلي الآخرين وذلك لقساوته وعدم دراسته لحالة الطرف الآخر فتذهب عندها نصيحته أدراج الرياح.

حق الناصح

(وأما حق الناصح فأن تلين له جناحك، ثم تشرئب له قلبك [330] ، وتفتح له سمعك، حتي تفهم عنه نصيحته، ثم تنظر فيها، فإن وفق فيها للصواب حمدت الله علي ذلك وقبلت منه، وعرفت له نصيحته، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته، ولم تتهمه، وعلمت أنه لم يألك نصحاً إلا أنه أخطأ إلا أن يكون عندك مستحقاً للتهمة، فلا تعبأ بشيء من أمره علي كل حال. ولا قوة إلا بالله..). الناصح هو إنسان حكيم صقلت فكره التجارب وأكسبته الأيام خبرة واسعة أما لتجربة قام بها بنفسه أو لخبرة اكتسبها من ناصحين مخلصين. فمن حقه علي السامع أن يصغي إليه لأنه يحمل له الإخلاص ويلقنه لباب الود الذي فيه نجابة. ومن حق الناصح أيضاً علي المستنصح أن يكون معه لين الجانب متواضعاً، فيتوجه إليه بقلب متفتح يستمع الحديث ويحلله بوعي ودقة فلا يحوج الناصح إلي الإعادة والتكرار. وبعد الاستماع الجيد بالسمع والقلب ينظر فيما يعرض عليه من النصيحة فيقومها بإمعان ويحللها بموضوعية، فإن رأي وجه الصواب قد اكتمل فيه معالم الصحة فذلك توفيق من الله تعالي، يجب أن يحمده عليه ويقبله منه ثم يقبل النصيحة ويحفظها. وأما إذا عرضها علي نفسه وحللها ولم يجدها موافقة للصواب فإن كان ممن يتهم عنه أما لدينه أو أمانته وإخلاصه له فيجب عندها أن يرحمه ويستر عليه، ذلك أنه لم يقصر اتجاهك وإنما قد أخطأ عن غير عمد ففسر الأمر تفسيراً مخالفاً للواقع. أما إذا كان متهماً عندك لأنه لم يستقص كل جوانب الموضوع أو أنه لا يريد لك الخير والفلاح فعليك أن تهمله ولا تعبأ بشيء من أمره بل تكله إلي الله فهو الذي يتولي الحساب.

حق الكبير

(وأما حق الكبير فإن حقه توقير سنه، وإجلال إسلامه. إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه، وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه إلي طريق، ولا تؤمه في طريق [331] ولا تستجهله، وإن جهل عليك تحملت وأكرمته بحق إسلامه مع سنه، فإنما هي حق السن بقدر الإسلام، ولا قوة إلا بالله..). لقد سن الإسلام آداباً اجتماعية رائعة لا تقاس ولا من أي وجه بالآداب التي أفرزتها الحضارة المادية. وذلك من أجل بناء مجتمع أصيل تسود فيه المحبة والاحترام والتقدير فاحترام الشيخ الكبير واجب احترامه إذا كان من أهل الفضل والسابقة في الإسلام. أما مظاهر تكريمه فقد عرضها علينا الإمام (عليه السّلام) وهي: 1 - ترك مقابلته عند الخصام وفي المسائل التي توجب الجدل. 2 - إذا سار معه في طريق فلا يسبقه أو يتقدم عليه. 3 - إذا خفي علي الشيخ بعض المسائل فلا يظهر جهله فيها. 4 - وإذا اعتدي عليه الشيخ فليتحمله ويكرمه من أجل إسلامه وكبر سنه. هذه الآداب التي دعا إليها الإسلام ونفذها أئمة الهدي (عليهم السّلام) توطد العلاقات الاجتماعية بين الناس وتصفي قلوبهم وتطهر نفوسهم، إنها آداب إنسانية يمدح فاعلها في الدنيا ويؤجر ويثاب في الآخرة.

حق الصغير

(وأما حق الصغير فرحمته، وتثقيفه، وتعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر علي جرائر حداثته، فإنها سبب للتوبة والمداراة له، وترك مماحكته فإن ذلك أدني لرشده..) [332] . الطفولة صورة ملائكية في الطهارة والبراءة وقد تظهر في عينيه الصافيتين وفي حركاته العفوية وفي جوارحه الناصعة؛ وفي كلماته البيضاء. والطفل كالعجين بين يدي مربيه يستطيعان صوغه رجلاً صالحاً عظيماً وبعيداً عن كل سوء وغش، رجلاً عقائدياً يؤثر الحق ويدافع عنه في كل آن. أما إذا أهمل الوالدان تربية ولدهما فسوف تسود الصفحة البيضاء وتتحول القوة الإيجابية إلي قوة سلبية تخرب وتهدم وتعتدي علي الآخرين بغير حق. قال سيد البلغاء والحكماء أمير المؤمنين في وصيته لولده الحسن (عليهما السّلام): (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته). والإسلام يعتبر الطفل أمانة بين يدي والديه كما يعتبره أمانة في يد المجتمع المتمثل بالشارع والمدرسة والجامعة فعلي هذه العناصر جميعاً رحمة هذا الطفل الطري العود وقد أعلن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حقوق الصغير علي الكبير التي تعد من ركائز التربية الإسلامية وهي: 1 - رحمة الصغير والعطف عليه وعدم استعمال الشدة والقسوة لأنهما يخلقان فيه العقدة النفسية ويوجبان انحرافه عن الخط السليم. 2 - تعليمه وتثقيفه وفتح آفاق المعرفة أمام عينيه. 3 - الرفق به وإعانته في كل ما يحتاج إليه. 4 - الستر علي جرائر حداثته وعدم نشرها. 5 - مداراته وترك مخاصمته لأن ذلك أفضل لرشده. هذه الأصول التربوية التي أعلنها الإمام (عليه السّلام) توجب صلاح النشء وتهذيبهم وإصلاح المجتمع وترقيته إلي الأكمل والأفضل.

حق السائل

(وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة، وقدرت علي سد حاجته، والدعاء له في ما نزل به، والمعاونة له علي طلبته، وإن شككت في صدقه، وسبقت إليه التهمة، ولم تعزم علي ذلك لم تأمن من أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدك عن حظك ويحول بينك وبين التقرب إلي ربك، تركته بستره ورددته رداً جميلاً. وإن غلبت نفسك في أمره، وأعطيته علي ما عرض في نفسك منه، فإن ذلك من عزم الأمور..). في الواقع السؤال ذل ولم يسمح به الإسلام إلا في أوقات الضرورة التي يتوقف عليها حفظ النفس من الهلاك. يد المسلم عزيزة مترفعة تأبي أن يتصدق أحد عليها. والإسلام دعا إلي العمل الجاد والكفاح الشريف وعدّ الكاد علي عياله كالمجاهد في سبيل الله. والمسلم الكريم يكسب قوته بعرق جبينه وكد يمينه من صنوف الموارد المحللة التي تؤمن العيش الرغيد. ولا يخفي أن الأرزاق بيد الله يرزق من يشاء وبغير حساب ولكن علي الإنسان السعي والتحصيل والعمل الجاد، وبعد ذلك يأتي دور الله عز وجل في الإنجاح والتوفيق. وعلي المؤمن أن يسأل مؤمناً مثله لأن السؤال إلي غير أهله مذلة ومهانة. وفي هذا قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) مخاطباً المؤمن: (ماء وجهك جامد يقطره السؤال فانظر عند من تقطره). والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يعلم المسؤول كيف يجب أن يتعامل مع السائل، يعلمه كيف يواجه الموقف بنفس راضية فيقول: وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة. وأما إذا شك المسؤول في صدق السائل فلا يقابله بالجفاء بل يعامله بالعقل والورية والكلمة الطيبة، فلعل الوسوسة والشك إنما هما من الشيطان الذي يوسوس في صده ويمنعه عن ممارسة الخير وفعله وإذا لم يستطيع مقاومته وحال بينه وبين العطاء فلتكن كلمة المواساة والستر عليه وليكن الرد الجميل اللين.

حق المسؤول

(وأما حق المسؤول فحقه إن أعطي قبل منه ما أعطي بالشكر له والمعرفة لفضله وطلب وجه العذر في منعه وأحسن به الظن وأعلم أنه إن منع فماله منع، وإن ليس التثريب في ماله، وإن كان ظالماً فإن الإنسان لظلوم كفار..). يتعرض الإمام هنا إلي حق المسؤول الذي أعطي وبذل ووهب والذي يمر بأشكال مختلفة ووجوه متعددة فتارة غني مترف وأخري فقير مسكين، وتارة كريم سخي وأخري بخيل غني والمسؤول يعطي عن طواعية ويشعر مع المحتاج همومه وآلامه ويمد يده ليقدم ما منحه الله من خير وعطاء. فمن أوليات حقوق السائل أن يقابل المسؤول بالشكر والدعاء له فيما إذا أكرمه وأعطاه، وإذا منعه فليحسن الظن به. أما الإنسان القادر الذي يمنع السائل مع القدرة علي عطائه فإنما يحجب ماله عن نفسه ويحرمها منه لأن الله قد أعد للمتصدقين الثواب الجزيل والأجر العميم.

حق من سرك الله به

(وأما حق من سرك الله به وعلي يديه، فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولاً ثم شكرته علي ذلك بقدره في موضع الجزاء، وكافأته علي فضل الابتداء، وأرصدت له المكافأة، وإن لم يكن تعمدها حمدت الله وشكرته، وعلمت أنه منه، توحدك بها [333] ، وأحببت هذا إذا كان سبباً من أسباب نعم الله عليك، وترجو له بعد ذلك خيراً، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت، وإن كان لم يعتمد، ولا قوة إلا بالله..). إن المسلم الذي يلتزم بالأخلاق الإسلامية يعيش مع الناس بأخلاق الرسل المصلحين والأئمة الطاهرين، فيصفح عنهم زلاتهم ويستر عوراتهم، ويبتسم في وجوههم، ويتواضع لهم ويتجنب إهانتهم وإذلالهم. والإمام زين العابدين يرتفع بنفسية المسلم عن الإساءة إلي أخيه المسلم ليدخل في عداد العاملين علي مسرته وانشراحه ومن يبادر إلي إدخال السرور علي قلوب الناس هو من خيار الناس فقد أسدي إلي أخيه يداً بيضاء فالواجب يقضي عليه بأن يقوم بشكره، ويذكر إحسانه. ولا يخفي أن إدخال السرور علي قلب المسلم يجعله يشعر أنك تهتم بسعادته كما يضفي جواً من الود والمحبة والصفاء...لكن هذا السرور يجب أن يتخذ الطريق الشرعي المباح دون ما يكون محرماً كما هو الحال عند بعض المتهاونين بالدين والمستهزئين بغيرهم. أما إذا أقدم من سرك لله مختاراً فعليك شكره علي هذه النعمة وإذا جاءت مسرتك عن يديه صدفة فإن الله تعالي هو الذي منَّ عليك بمثل هذه النعمة وعليك أن ترجو له الخير لأنها علي أي حال عند صدرت عنه وكان سبباً لهذه النعم. وبالشكر تدوم النعم. والحمد الله رب العالمين الذي منّ علينا بنعم لا تحصي.

حق من أساء القضاء

(وأما حق من أساء القضاء علي يديه بفعل أو قول فإن كان تعمدها كان العفو أولي بك، لما فيه من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق فإن الله يقول: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل... إلي قوله من عزم الأمور) [334] وقال تعالي أيضاً: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير الصابرين) [335] . وهنا يتعرض الإمام (عليه السّلام) للقضاة فيقول: إذا جاروا علي أحد بقول أو فعل، وكان ذلك عن عمد، فالأولي الصفح والعفو عنهم عملاً بالآداب الإسلامية العالية التي حثت علي العفو عن المسيء أما إذا صدرت الإساءة منهم عن خطأ فلا ينبغي مؤاخذتهم لأنهم لم يتعمدوا الظلم والجور.

حق أهل الملة

(وأما حق ملتك عامة فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلي نفسه وإليك فإن إحسانه إلي نفسه إحسانه إليك، إذ كف عنك أذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك، وأنصرهم جميعاً بنصرتك، وأنزلهم جميعاً منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أَتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخال بما يجب للأخ علي أخيه..). لقد كرّم الإسلام الإنسان من أي ملة أو أصل كان ودعا إلي كرامته واحترامه عملاً بقوله تعالي: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) [336] . فهذا التكريم من الله للإنسان يفرض بأي حال تكريم الإنسان للإنسان، والمسلم من واجبه تكريم المسلم الآخر، وللمسلمين حقوق عامة عليهم جميعاً رعايتها وهي حسب ما أعلنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام): 1 - إضمار السلامة وترجمتها بدرجة أعلي من السلامة والمودة والإخاء. 2 - علي المسلم أن ينشر للمسلمين جناح الرحمة فلا يستعلي عليهم ولا يأخذهم بالعنف بل يعفو عنهم عملاً بأمر الله: (وأن تعفوا أقرب للتقوي ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون خبير) [337] . 3 - أن يرفق بمسيئهم ولا يقسو عليه وذلك لإصلاحه وتقويمه. 4 - أن يعمل علي تآلفهم ووحدة كلمتهم ورص صفوفهم. 5 - أن يشكر كل محسن منهم علي إحسانه ويشجعه علي هذه الظاهرة الكريمة التي تعود فائدتها علي المجتمع بأسره. 6- أن يعمل علي نصرتهم عندما تدعو الحاجة إلي الدفاع عن حقهم. 7 - أن يحترم الجميع ويعطي كل واحد منهم قدره فينزل كبيرهم بمنزلة والده، وصغيرهم بمنزلة ولده، وأوسطهم بمنزلة أخيه. ولا ريب لو أن كل مسلم طبق هذه الحقوق علي واقع حياته لكانوا يداً واحدة قوية تجاهد في سبيل الحق وتنتصر بإذن الله تعالي ولما وصلنا إلي ما وصلنا إليه اليوم من التفرقة والتخاذل والخسران.

حق أهل الذمة

(وأما حق أهل الذمة فالحكم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم وأجروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به علي نفسك في ما جري بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله، والوفاء بعهده، وعهد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حائل فإنه بلغنا أنه قال: (من ظلم معاهداً كنت خصمه)، (فاتق الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله..). فهذه خمسون حقاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جل ثناؤه علي ذلك ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين..). لقد رعي الإسلام أهل الذمة، اليهود والنصاري، من الذين دخلوا في ذمة الإسلام فعاملهم بالحسني كما عامل سائر المسلمين فمارسوا حرياتهم الفكرية والعملية والدينية وعاشوا بأمن ورخاء واستقرار ضمن شروط معينة ودخلوا في عهد مع الإسلام عندما أرادوا أن يبقوا علي دينهم. وبموجب هذا العهد أصبحوا أهل ذمة تجري عليهم أحكام معينة. ومن واجباتهم: 1 - دفع الجزية ويرجع تقديرها للإمام وهي عبارة عن قدر معين من المال يدفعه اليهودي والنصراني عن نفسه في ظل حماية الإسلام له وهي تسقط عن النساء والصبيان والعاجزين والمجانين. 2 - أن لا يقوموا بأي عمل ينافي الأمان للدولة الإسلامية مثل إمداد المشركين أو العزم علي حرب المسلمين لأن ذلك كان ينقض العهد ويخالفه. 3 - أن لا يؤذوا المسلمين بسرقة أموالهم والتعرض لنسائهم وإيواء المشركين والتجسس لهم فإن فعلوا شيئاً من ذلك كان نقضاً لعهدهم. 4 - أن لا يتظاهروا بالمنكرات كالزني وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر علناً لأن المجتمع الإسلامي مجتمع نظيف يرفض المنكرات المحرمة ويعاقب عليها، فلا يسمح لأي إنسان أن يتعامل بها جهراً لأنها تؤدي إلي الاستهانة بالدين. 5 - أن يجري عليهم ما يجري علي المسلمين. فإذا التزم أهل الذمة بهذه الشروط كانوا في ذمة الله وذمة رسوله لا يجوز ظلمهم والتعدي عليهم وتجاوز أموالهم وأعراضهم. ويقضي بينهم وبين المسلمين بحكم الله. من هنا حذر الإمام زين العابدين أن ينقض هذا العهد أو ينحرف عنه المسلمون فنبه أن يتقبل فيهم ما قننه الله وشرعه لهم من أحكام، والوفاء بحقوقهم والحكم فيهم بما أنزل الله وعدم الاعتداء عليهم بغير حق. هذه هي رسالة الحقوق الخالدة التي حبرها قلم الإمام السجاد من فوح القرآن وبوح فكره وأفاض بها علي الأمة الإسلامية التي كابد في إنقاذها من جور الحكام الطغاة واستبداد الملوك القساة ومترديات الجاهلية الأولي. في هذه الرسالة رسم الإمام (عليه السّلام) معالم الشخصية الإنسانية الصالحة التي يتبناها الإسلام ويفتخر بها كل مسلم لما من فوائد خاصة بكل إنسان ومنافع عامة لإصلاح المجتمع من الانحرافات الأخلاقية والدينية وإرجاعه إلي الخط الإسلامي السليم الذي رسمه جده المصطفي الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم). إنها رسالة يتيمة في موضوعها وفريدة في أسلوبها تضمنت حقوق المسلمين كما تناولت حقوق أهل الذمة بموضوعية كاملة والآداب الإسلامية شاملة والأخلاق الإنسانية عامة يريد من خلالها الإمام أن يساهم في صنع الشخصية الإسلامية السليمة التي تعمل في سبيل الله وتحب وتبغض في الله وتساعد بلا أذي أو من عباد الله. فعلي جميع المسلمين رعاية هذه الرسالة العظيمة والعمل في تأديتها ليعالجوا علي ضوئها جميع ما يعترض حياتهم من مشاكل وأزمات ويعيشوا عيشة كريمة وعناصر صالحة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتحب الخير وتعمل به وتكره الظلم وترفضه بكل ما لديها من وسائل مناسبة. هذه هي رسالة الحقوق الخالدة والكريمة ذات المضامين العالية نسأل الله سبحانه وتعالي الهداية للعمل بها خالصة لوجه الكريم وينفعنا بها في الدارين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي نبينا محمد وآله الطاهرين المعصومين

پاورقي

[1] الإمام الحسين، ص339.
[2] ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين/ عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص70 وما بعدها.
[3] ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص100.
[4] المصدر نفسه، ص103.
[5] الإمام الحسين، ص64.
[6] من قصيدة لابن الزبعري.
[7] المصدر السابق، ص112.
[8] المصدر السابق، ص112.
[9] المصدر نفسه، ص124.
[10] بحار الأنوار، ج46، ص143.
[11] سورة التوبة: الآية 111.
[12] سورة التوبة: الآية 112.
[13] الكافي الكليني، ج5، ص26.
[14] حياة الحيوان للجاحظ، ج5، ص297.
[15] القوهي: الثوب من الخز الفاخر.
[16] الأغاني، ج1، ص310.
[17] طبقات ابن سعد، ج5، ص246.
[18] الأغاني، ج9، ص262.
[19] الأغاني، ج17، ص89.
[20] الأغاني، ج9، ص172.
[21] الأغاني، ج9، ص8.
[22] الأغاني، ج1، ص29.
[23] الأغاني، ج1، ص55.
[24] الأغاني، ج5، ص111.
[25] الأغاني، ج4، ص10.
[26] الأغاني، ج4، ص400.
[27] الأغاني، ج8، ص244.
[28] العقد الفريد، ج3، ص233.
[29] العقد الفريد، ج3، ص245.
[30] الأغاني، ج6، ص21.
[31] الأغاني، ج4، ص222.
[32] الشعر والغناء في المدينة ومكة، ص250.
[33] الأغاني، ج8، ص227.
[34] الأغاني، ج10، ص57.
[35] الأغاني، ج8، ص206.
[36] الأغاني، ج8، ص343.
[37] الأغاني، ج8، ص343.
[38] الأغاني، ج8، ص324.
[39] الأغاني، ج3، ص226.
[40] الأغاني، ج3، ص307.
[41] بحار الأنوار، ج46، ص123.
[42] المصدر نفسه، ص 95.
[43] المصدر نفسه، ص119.
[44] بحار الأنوار، ج46، ص119.
[45] البداية والنهاية لابن كثير، ج9، ص104.
[46] بحار الأنوار، ج46، ص133.
[47] بحار الأنوار، ج46، ص122.
[48] بحار الأنوار، ج46، ص114. عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص189 طبع النجف.
[49] المصدر نفسه، ج46، ص94. عن الطبري ج8، ص61.
[50] إعلام الوري للشيخ الطبرسي، ص256.
[51] مطالب المسؤول لمحمد بن طلحة الشافعي، ص203.
[52] الإرشاد للشيخ المفيد، ص237.
[53] أعلام الوري، ص256.
[54] الكافي، ج1، ص241 وما بعد.
[55] البحار، ج11، ص6.
[56] الإرشاد، ص244، قارن بالفصول المهمة لابن الصباغ والطبقات لابن سعد.
[57] الإرشاد للمفيد.
[58] المصدر نفسه.
[59] راجع طبقات ابن سعد.
[60] سيرة الأئمة الاثني عشر، ص198.
[61] ولد حمله الحسين (عليه السّلام) نحو جماعة عمر بن سعد قائلاً لهم: لم يبق لي سوي هذا الطفل الرضيع فاسقوه، فقد جف اللبن من ثدي أمه، فاختلف الجند فيما بينهم، منهم من قال: اسقوه، ومنهم من قال: لا تسقوه فقال ابن سعد لحرملة بن كاهل الأسدي: اقطع نزاع القوم، فرماه حرملة بسهم بنحره فذبحه، فبسط الحسين سيد الشهداء كفه تحت نحر الطفل، فلما امتلأت دماً رمي به نحو السماء وقال: رب هون علي ما نزل بي أنه بعين الله. اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح. ثم عاد به إلي المخيم وقيل طرحه بين القتلي من أهل بيته.
[62] اسعاف الراغبين: 21.
[63] ادب الطف 1 / 164.
[64] زين العابدين للمقرم، ص363. عن الخصال، ج1، ص131.
[65] حياة الإمام الباقر، ج1، ص51.
[66] الصواعق المحرقة، ص53.
[67] زين العابدين للقرشي، ص421.
[68] زين العابدين للقرشي، ص421.
[69] زين العابدين للقرشي، ص422، عن روضة الكافي.
[70] حياة الإمام محمد الباقر، ج1، ص54.
[71] حياة زين العابدين، ص423.
[72] باب الخشوع في الصلاة، ص300.
[73] علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج1، ص231.
[74] المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص150.
[75] المصدر نفسه.
[76] المصدر نفسه.
[77] وسائل الشيعة، ج4، ص814، باب تكرار الآية.
[78] مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص251. ومصباح التهجد للشيخ الطوسي، ص510. ومستدرك النوري، ج1، ص248.
[79] عن كامل الزيارة، ص268.
[80] المقبولة الحسينية للشيخ هادي كاشف الغطاء، ص89.
[81] أمالي الشيخ الطوسي، ص47. وبشارة المصطفي، ص80.
[82] الخصال، ج2، ص101.
[83] علل الشرائع، ص88.
[84] الكافي، ج3، ص119.
[85] حلية الأولياء، ج3، ص133.
[86] علل الشرائع، ص88.
[87] المناقب، ج4، ص155.
[88] المصدر نفسه.
[89] علل الشرائع للشيخ الصدوق، ص232.
[90] سورة آل عمران: الآية 97.
[91] كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص78. والحرة: أرض ذات حجارة.
[92] المناقب، ج4، ص136.
[93] حياة الحيوان، ج1، ص139.
[94] البحار: ج46، ص17، عن أمالي الصدوق، ص144. وراجع أيضاً أئمتنا لعلي محمد علي دخيّل، ص260.
[95] البحار: ج 1، ص18. عن الكافي للكليني، ج1، ص303.
[96] البحار: ج2، ص19. عن كفاية الأثر، ص318بتفاوت. وأئمتنا، ص261 عن كفاية الأثر أيضاً.
[97] كفاية الأثر، ص318.
[98] الإمام زين العابدين لعبد الرزاق الموسوي المقرم، ص34. عن كفاية الأثر، ص311 لعلي بن محمد بن علي الخزار القمي.
[99] المصدر نفسه عن معاني الأخبار للصدوق، ص35. [
[100] الإمام زين العابدين للمقرم عن المختصر للحسن الحلي، ص128.
[101] المصدر السابق عن الغيبة للشيخ الطوسي، ص 105. ومختصر البصائر، ص39.
[102] أعيان الشيعة، ج5، ص551.
[103] الحميصة: هي ثوب خز أو صوف معلم.
[104] راجع طبقات الشافعية، ج1، ص153.
[105] راجع أيضاً الأغاني، ج20، ص40.
[106] مطالب السؤول، ص202.
[107] المناقب، ج4، ص151.
[108] مستدرك الوسائل، ج2، ص143.
[109] المناقب لابن شهرآشوب: ج4، ص152.
[110] حياة الحيوان، ج1، ص139. ونور الأبصار، ص162.
[111] الصواعق المحرقة، ص120.
[112] ابن الخيرتين: لقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) (إن لله تعالي من عباده خيرتان: فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس). راجع: وفيات الأعيان، ج2، ص431.
[113] كشف الغمة، ص209.
[114] البداية والنهاية، ج9، ص104.
[115] المناقب، ج2، ص258.
[116] بحار الأنوار، ج11، ص18.
[117] كشف الغمة، ص199.
[118] أعيان الشيعة، ج4، ص44.
[119] زين العابدين لسيد الأهل، ص43.
[120] الفصول المهمة، ص201.
[121] بحار الأنوار، ج11، ص19.
[122] تاريخ اليعقوبي، ج3، ص46.
[123] زين العابدين للقرشي، ص61. عن روضة الكافي، ص158.
[124] سورة المائدة: الآية112.
[125] الهامد: البالي.
[126] لعل الأصح ورهبة السلطان.
[127] سورة فاطر: الآية25.
[128] تحف العقول، ص252 وما بعدها. وأمالي المفيد، ص117. وروضة الكافي، ص138.
[129] زين العابدين للقرشي، ص50.
[130] البيان والتبيين، ج1، ص84. وزهر الآداب، ج1، ص102.
[131] سورة الشعراء: الآية88.
[132] سورة الإسراء: الآية37.
[133] سورة لقمان: الآية18.
[134] سورة الرعد: الآية11.
[135] سورة المائدة: الآية31.
[136] العتمة هي وقت صلاة العشاء.
[137] معاني الأخبار للصدوق، ص78.
[138] زين العابدين للقرشي، ص75 عن الاحتجاج، ج2، ص175.
[139] زين العابدين للقرشي، ص75 عن سفينة النجاة.
[140] بحار الأنوار، ج17، ص315. وسائل الشيعة، ج11، ص272. وتحف العقول، ص280.
[141] أصول الكافي: باب ذم الدنيا.
[142] معاني الأخبار للصدوق، باب136.
[143] أصول الكافي، باب ذم الدنيا.
[144] سورة الحديد: الآية57.
[145] كشف الغمة، ص207.
[146] سورة الحجرات: الآية10.
[147] أصول الكافي في باب ذم الدنيا وزين العابدين للمقرم، ص152. وأئمتنا لعلي محمد علي دخيّل، ص304.
[148] زين العابدين للمقرم، ص160.
[149] بحار الأنوار، ج3، ص242.
[150] زين العابدين للمقرم، ص145.
[151] كشف الغمة، ص207.
[152] أعيان الشيعة، ج4، ص527. وكشف الغمة، ص207.
[153] زين العابدين للمقرم، ص370.
[154] صوم الوصال: أي يصوم يوماً وليلة. وصوم الصمت: أن ينوي أن يصوم ساكتاً، وصوم الدهر: محرم لأنه يتضمن صيام الأيام المحرمة كالأعياد.
[155] الخصال، ص 527.
[156] المناقب، ج2، ص259.
[157] فضائل الإمام علي للشيخ محمد جواد مغنية، ص219.
[158] الخصال، ص113.
[159] تحف العقول، ص278.
[160] أعيان الشيعة، ج4، ص186. وتاريخ الطبري، ج3، ص280.
[161] زين العابدين للقرشي، ص101.
[162] سورة الأنعام، الآية 160.
[163] معاني الأخبار للشيخ الصدوق مخطوط في مكتبة السيد الحكيم، زين العابدين للقرشي، ص 101.
[164] زين العابدين للقرشي، ص104.
[165] المصدر نفسه.
[166] زين العابدين للقرشي، ص106.
[167] سورة الأحزاب: الآية70.
[168] رواه مسلم.
[169] سورة التوبة: الآية111.
[170] نهج البلاغة، ج1، ص88. والجُنَّة: الوقاية. اتخذوا الغدر كيساً: أي عدوه من باب التعقل وحسن الحيلة. الحوَّل القُلَّب: البصر بتحويل الأمور وتقليبها، أي أنه يصرف الحيلة ولكنه لا يفعلها خشية الله تعالي. والحريجة: التحرج أي تجنب الآثام خشية الله سبحانه وتعالي.
[171] زين العابدين للقرشي، ص107. والمعرة: العار والفضيحة.
[172] سورة الإسراء: الآية 36.
[173] سورة الإسراء: الآية 36.
[174] راجع زين العابدين للقرشي، ص111.
[175] سورة إبراهيم، الآية 24-26.
[176] زين العابدين للقرشي، ص108.
[177] سورة النساء: الآية32.
[178] سورة الملك: الآية 15.
[179] سورة الفلق.
[180] رواه البخاري.
[181] نهاية الأرب للنويري.
[182] العقد الفريد، ج2.
[183] عيون الأخبار للدينوري، ص8.
[184] تحف العقول، ص67. وراجع الكافي في باب الطاعة والتقوي.
[185] سورة آل عمران: الآية 26.
[186] سورة آل عمران: الآية 159.
[187] أوسط: أعلي وأحسن الأمور أوساطها أي أعلاها.
[188] نهاية الأرب للنويري.
[189] الاحتجاج، ص172.
[190] زين العابدين للقرشي، ص69.
[191] المتوكل الخليفة العباسي غدر به حراسه من الأتراك.
[192] سورة الأعراف: الآية 179.
[193] الخصال، ص109.
[194] أصول الكافي.
[195] الخصال، ص203.
[196] الخصال، ص245.
[197] أصول الكافي، ج2، ص89.
[198] وسائل الشيعة، ج11، ص304. والفصول المهمة، ص187.
[199] الإمام زين العابدين لباقر شريف القرشي، ص5.
[200] البحار، ج46، ص107.
[201] أصول الكافي، ج2، ص616.
[202] المصدر نفسه، ص602.
[203] لا يحيف: لا يميل.
[204] الجواسي: جمع جاسية وهي الغليظة والمراد غلاظ الألسنة.
[205] أصول الكافي، ج2 ص602.
[206] تفسير البرهان، ج1، ص129.
[207] تفسير البرهان، ج2، ص95.
[208] سورة التوحيد: الآية 9.
[209] سورة يوسف: الآية 20.
[210] مجمع البيان، ج5، ص221.
[211] تفسير البرهان، ج1، ص280.
[212] سورة الشوري: الآية42.
[213] أحكام القرآن للجصاص، ج3، ص475.
[214] سورة البقرة: الآية22.
[215] الحمأ: شدة حرارة الشمس.
[216] تعطبكم: أي تهلككم.
[217] عيون أخبار الرضا، ج1، ص137.
[218] سورة الحجر: الآية21.
[219] المعارج، الآية24.
[220] وسائل الشيعة، ج6، ص69.
[221] الخصال، ص53.
[222] المصدر نفسه، ص165. وتاريخ بغداد، ج1، ص255.
[223] القلب يعني العقل.
[224] الخصال، ص5.
[225] المصدر نفسه، ص231.
[226] أصول الكافي، ج2، ص156.
[227] المصدر نفسه، ج2، ص99.
[228] الإمام زين العابدين لباقر شريف قرشي، ص8.
[229] الخصال، ص396-397.
[230] أصول الكافي، ج2، ص46.
[231] زين العابدين للقرشي، ص12.
[232] الخصال، ص308.
[233] زين العابدين للقرشي، ص16.
[234] سيرة الأئمة الإثني عشر،ص202.
[235] الإمام زين العابدين، ص202.
[236] سورة الشوري: الآية42.
[237] أحكام القرآن، ج3، ص475.
[238] الفصول المهمة، ص192.
[239] غرر الآثار ودور الآثار للديلمي، ص80. راجع زين العابدين للقرشي، ص99.
[240] ينابيع المودة، الباب41.
[241] ثمار القلوب للثعالبي، ص67.
[242] أمه هند آكلة الأكباد وقد استعمل معاوية السم في العسل مع كثير من خصومه، وهو القائل: (إن لله جنوداً من عسل).
[243] راجع طبقات ابن سعد.
[244] بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطئ.
[245] بحار الأنوار، ج46، ص132 عن المناقب، ج3، ص297.
[246] المصدر السابق، ص132.
[247] الإرشاد للمفيد، ج2، ص153.
[248] الإرشاد للمفيد، ج2، ص153.
[249] أسلوب نعبر عنه (إيَّاك أعني واسمعي يا جارة).
[250] دراسات في نهج البلاغة للشيخ محمد مهدي شمس الدين.
[251] بحار الأنوار، ج46، ص73، عن إرشاد المفيد، ص271.
[252] حلية الأولياء، ج3، ص137.
[253] راجع زين العابدين للمقرم عن مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص255. وبحار الأنوار، ج11، ص26.
[254] المناقب، ج3، ص268.
[255] سورة المائدة: الآية67.
[256] زين العابدين للمقرم، ص258.
[257] المناقب، ج2، ص252.
[258] بحار الأنوار، ج11، ص42.
[259] هذه الأبيات نسبها السيد حسن النوري في الصحيفة السجادية الرابعة إلي الإمام (عليه السّلام).
[260] مجلة البلاغ العدد السابع السنة الأولي، ص59.
[261] ثواب الأعمال، ص81.
[262] تفسير البرهان، ج1، ص44. والقصور يعني في الجنة.
[263] راجع سورة إبراهيم: الآية24-26.
[264] تفسير البرهان، ج1، ص44.
[265] زين العابدين للقرشي عن عقاب الأعمال، ص30.
[266] سورة البلد: الآيات 12 - 14. والسغبان: الجائع.
[267] المؤمن، ص19 للحسين بن سعيد الأهوازي من مخطوطات السيد الحكيم تسلسل 196، وقد قامت بتحقيقه ونشره مدرسة الإمام المهدي في قم (عج) سنة 1404هـ وقد ورد الحديث تحت رقم 159، ص62. راجع زين العابدين للقرشي، ص81.
[268] البحار واللسان الذلق: اللسان الفصيح.
[269] تاريخ اليعقوبي، ج3، ص46.
[270] سورة آل عمران: الآية 110.
[271] طبقات ابن سعد، ص2135.
[272] عبقرية الإمام علي للعقّاد.
[273] حياة الإمام زين العابدين، ص116. عن الذريعة في تصانيف الشيعة، ج15، ص18.
[274] الصحيفة الخامسة السجادية، ص13-14.
[275] مجلة البلاغ العدد السادس من السنة الأولي، ص 56.
[276] الاحتجاج، ج2،ص312.
[277] المصدر السابق، ص315.
[278] الكشي- الخصال.
[279] من لا يحضره الفقيه الخصال.
[280] المصدر السابق.
[281] راجع التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، ج1، ص83.
[282] نفسه، ص84.
[283] رسالة الحقوق لمحمد صادق الصدر،.ص36.
[284] سورة آل عمران: الآية26.
[285] سورة النساء: الآية 48.
[286] سورة إبراهيم: الآية 24-25.
[287] سورة البقرة: الآية 263.
[288] سورة النساء: الآية 140.
[289] سورة آل عمران: الآية 193.
[290] سورة الإسراء: الآية 36.
[291] سورة النور: الآية 30و31.
[292] الأصح أن يقال: حاملتاك وسالكتان بك.
[293] سورة يس: الآية 65.
[294] اقتصد في الأمر: اعتدل. والتخمة: ثقل تسببه كثرة الأكل. المكسلة:ما يدعو إلي الكسل. مثبطة: ما يعوق ويشغل.
[295] سورة الحج: الآية 23.
[296] سورة الإسراء: الآية 32.
[297] سورة النور: الآية 3.
[298] سورة الأحزاب: الآية 35.
[299] جُنّة: أي وقاية من النار.
[300] سورة البقرة: الآية 262.
[301] التدهقن: التكبر والتجبر.
[302] سورة البقرة: الآية 185.
[303] أي لا تخاصمه.
[304] لا تعازه: لا تعارضه.
[305] عققت نفسك: آذيتها والعقوق: نكران الجميل.
[306] سورة الأنعام: الآية 57.
[307] سورة آل عمران: الآية 144.
[308] زين العابدين لسيد الأهل، ص 7.
[309] الحياطة: الحماية والصيانة.
[310] الأصح: مما أنعم عليه.
[311] سورة المجادلة: الآية11.
[312] سورة النور: الآية32.
[313] سورة الروم: الآية21.
[314] موبلة: مواظبة ومستمرة.
[315] الحواء: ما يحتوي الشيء ويحيط به.
[316] سورة لقمان: الآية 14.
[317] سورة الإسراء: الآية24.
[318] ورد في نسخة أخري: (للظلم لخلق الله).
[319] أثر عندك: أفضل وأولي.
[320] الضمير في عليها عائد إلي المكافأة.
[321] سورة البقرة: الآية 264.
[322] سورة المجادلة: الآية 11.
[323] سورة النساء: الآية 36.
[324] سورة البقرة: الآية 262.
[325] سورة البقرة: الآية 272.
[326] راجع نهج البلاغة لأمير المؤمنين هناك بحث عن المال في طرق كسبه وطرق إنفاقه.
[327] سورة البقرة: الآية280.
[328] سورة الفرقان: الآية 27.
[329] لم تأله: أي لم تقصر.
[330] الأصح: بقلبك.
[331] لا تؤمه في طريق: أي لا تتقدمه.
[332] الجريرة: الذنب أو الخطأ والمماحكة: المخاصمة بلا وجه.
[333] توحدك بها: اختصك بها.
[334] سورة الشوري: الآية 41-43.
[335] سورة النحل: الآية 126.
[336] سورة الإسراء: الآية 70.
[337] سورة البقرة: الآية 237.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.