اعلام الهداية (الإمام علي بن الحسين زين العابدين) علیهما السلام

اشارة

المؤلف: لجنة التأليف
الكمية: 5000 نسخة
الطبعة: الاولي\par طبع في سنة: 1422\par المطبعة: ليلي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أعطي كلّ شيء خلقه ثم هدي، ثم الصلاة والسلام علي من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) وعلي آله الميامين النجباء. لقد خلق الله الانسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه. وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له علي خلقه، وأعانه بما أفاض علي العقول من معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها. وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخري. قال تعالي: [ صفحه 8] (قُلْ إنّ هُدي الله هو الهُدي) [الأنعام (6): 71]. (والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) [البقرة (2): 213]. (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل) [الأحزاب (33): 4]. (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلي صراط مستقيم) [آل عمران (3): 101]. (قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتَّبع أ مّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدي فمالكم كيف تحكمون)[يونس (10): 35]. (ويري الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل اليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلي صراط العزيز الحميد) [سبأ (34): 6]. (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هديً من الله) [القصص (28): 50]. فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الانسان النزوع إلي الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلي الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف علي طريق الكمال، ومن هنا قال تعالي: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)[الذاريات (51): 56]. وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة؛ إذ كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلي قمّة الكمال. وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال؛ لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة والهوي الناشئ منهما، والملازم لهما. فمن هنا احتاج الانسان ـ بالإضافة إلي عقله وسائر [ صفحه 9] أدوات المعرفة ـ الي ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية؛ كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته. ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الانسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة. وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلي مدي العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله علي خلقه، لئلاّ يكون للناس علي الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد)[الرعد (13): 7]. ويتولّي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في: 1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الانعام (6):124] و (الله يجتبي من رسله من يشاء)[آل عمران (3):179]. [ صفحه 10] 2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية الي البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ علي الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (كان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[البقرة (2): 213]. 3 ـ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالي: (يزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمة) [الجمعة (62): 2] والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالي: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) [الاحزاب:(33): 21]. 4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية. والتي تسمي العصمة. 5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّي إدارة شؤون الاُمة علي أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة [ صفحه 11] الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطي بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً علي مسيرة القيادة وانقياد الاُمة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها. وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين. وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ علي مدي العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي: 1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي علي عناصر الديمومة والبقاء. 2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف. 3 ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة. 4ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء. 5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته (صلي الله عليه وآله). [ صفحه 12] ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري: أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر. ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال؛ علي يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول(صلي الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته. ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم علي الرسول (صلي الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم؛ لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال علي قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها علي مرّ العصور، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها. وتجلّي هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول(صلي الله عليه وآله) بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض». وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم(صلي الله عليه وآله) بأمر من الله تعالي لقيادة الاُ مّة من بعده. إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للاسلام بعد عصر الرسول (صلي الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلي أعماق الاُمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله)، [ صفحه 13] فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون علي توعية الاُمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول (صلي الله عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمة جمعاء. وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم علي نهج الرسول العظيم وانفتاح الاُمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء علي الله وعلي مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلي تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود. وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّي ضربوا أعلي أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ علي الحياة مع الذلّ، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير. ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسي الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق. إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (عليهم السلام) الرسالية تبدء برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه وأنار الأرض بعدله. [ صفحه 14] ويختص هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وهو المعصوم السادس من أعلام الهداية والرابع من الأئمة الأثني عشر بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) والذي جسّد الاسلام المحمّدي بكل أبعاده في حياته الفردية والاجتماعية في ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فحقق القيّم الاسلامية المُثلي في الفكر والعقيدة والخلق والسلوك وكان نبراساً يشعّ ايماناً وطُهراً وبهاءً للعالَمين. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر الي كلّ الاخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلي عالم النور، لا سيما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالي. ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل الي الله تعالي بالدعاء والشكر لتوفيقه علي إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير. [ صفحه 17]

الامام زين العابدين في سطور

هو الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وجدّه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله(صلي الله عليه وآله)، وأوّل من أسلم وآمن برسالته، وكان منه بمنزلة هارون من موسي، كما صحّ في الحديث عنه [1] . وجدّته فاطمة الزهراء بنت رسول الله(صلي الله عليه وآله) وبضعته، وفلذة كبده، وسيّدة نساء العالمين كما كان أبوها يصفها. وأبوه الإمام الحسين (عليه السلام) أحد سيِّدَيْ شباب أهل الجنّة، سبط الرسول وريحانته ومن قال فيه جدّه(صلي الله عليه وآله): «حسين منّي وأنا من حسين»، وهو الذي استشهد في كربلاء يوم عاشوراء دفاعاً عن الإسلام والمسلمين. وهو أحد الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) الذين نصّ عليهم النبيّ(صلي الله عليه وآله) كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، إذ قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش» [2] . وقد ولد الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في سنة ثمان وثلاثين للهجرة، [ صفحه 18] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين. وعاش سبعة وخمسين سنة تقريباً، قضي ما يقارب سنتين أو أربع منها في كنف جدّه الإمام عليّ(عليه السلام)، ثمّ ترعرع في مدرسة عمّه الحسن وأبيه الحسين(عليهما السلام) سبطي الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله)، وارتوي من نمير العلوم النبوية، واستقي من ينبوع أهل البيت الطاهرين. برز علي الصعيد العلمي إماماً في الدين ومناراً في العلم، ومرجعاً لأحكام الشريعة وعلومها، ومثلاً أعلي في الورع والعبادة والتقوي، واعترف المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليّته، وانقاد الواعون منهم إلي زعامته وفقهه ومرجعيّته. كان للمسلمين عموماً تعلّق عاطفي شديد بهذا الإمام، وولاء روحي عميق له، وكانت قواعده الشعبية ممتدّة في كلّ مكان من العالم الإسلامي، كما يشير إلي ذلك موقف الحجيج الأعظم منه، حينما حجّ هشام بن عبد الملك [3] . لم تكن ثقة الاُمّة بالإمام زين العابدين(عليه السلام) ـ علي اختلاف اتجاهاتها ومذاهبها ـ مقتصرة علي الجانب الفقهي والروحي فحسب، بل كانت تؤمن به مرجعاً وقائداً، ومفزعاً في كلّ مشاكل الحياة وقضاياها، بوصفه امتداداً لآبائه الطاهرين. ومن هنا نجد أنّ عبد الملك بن مروان قد استنجد بالإمام زين العابدين(عليه السلام) لحلّ مشكلة التعامل بالنقود الرومية إبّان تهديد الملك الروماني [ صفحه 19] له بإذلال المسلمين [4] . وقد قدّر للإمام زين العابدين أن يتسلّم مسؤولياته القيادية والروحية بعد استشهاد أبيه (عليه السلام) فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الأول، في مرحلة من أدقّ المراحل التي مرّت بها الاُمة وقتئذ، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الاُولي، فقد امتدّت هذه الموجة بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعقائدي، فزلزلت عروش الأكاسرة والقياصرة، وضمّت شعوباً مختلفة وبلاداً واسعة إلي الدعوة الجديدة، وأصبح المسلمون قادة الجزء الأعظم من العالم المتمدّن وقتئذ خلال نصف قرن. تعرضت الاُمة الإسلامية في عصر هذا الإمام (عليه السلام) لخطرين كبيرين: الخطر الأول: هو خطر الانفتاح علي الثقافات المتنوعة، والذي قد ينتهي بالاُمة إلي التميّع والذوبان وفقدان أصالتها، فكان لابدّ من عمل علمي يؤكّد للمسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيّتهم التشريعية المتميّزة المستمدة من الكتاب والسنّة. وكان لابدّ من تأصيل للشخصية الاسلامية، وذلك من خلال زرع بذور الاجتهاد. وهذا ما قام به الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول(صلي الله عليه وآله) وأخذ يحدّث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية، من تفسير وحديث وفقه وتربية وعرفان، وراح يفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين. وهكذا تخرّج من هذه الحلقة الدراسيّة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين، [ صفحه 20] وكانت هذه الحلقة المباركة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس الفقه الإسلامي وكانت الأساس لحركة الفقه الناشطة. الخطر الثاني: هو الخطر الناجم عن موجة الرخاء والانسياق مع ملذّات الحياة الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة، وبالتالي ضمور الشعور بالقيم الخلقية. وقد اتّخذ الإمام زين العابدين(عليه السلام) من الدعاء أساساً لدرء هذا الخطر الكبير الذي ينخر في الشخصية الإسلامية ويهزّها من داخلها هزّاً عنيفاً ويحول بينها وبين الاستمرار في أداء رسالتها. ومن هنا كانت «الصحيفة السجادية» تعبيراً صادقاً عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه علي الإمام(عليه السلام) إضافة إلي كونها تراثاً ربّانياً فريداً يظلّ علي مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظلّ الإنسانية بحاجة إلي هذا التراث المحمّدي العلوي، وتزداد إليه حاجة كلّما ازداد الشيطان للإنسانية إغراءً والدنيا فتنةً له [5] . [ صفحه 21]

انطباعات عن شخصية الإمام زين العابدين

اشاره

اتّفق المسلمون علي تعظيم الإمام زين العابدين(عليه السلام) وأجمعوا علي الاعتراف له بالفضل، وأنّه علم شاهق في هذه الدنيا، لايدانيه أحد في فضائله وعلمه وتقواه، وكان من مظاهر تبجيلهم له: أنّهم كانوا يتبركون بتقبيل يده ووضعها علي عيونهم [6] ، ولم يقتصر تعظيمه علي الذين صحبوه أو التقوا به، وإنّما شمل المؤرخين علي اختلاف ميولهم واتّجاهاتهم، فقد رسموا بإعجاب وإكبار سيرته، وأضفوا عليه جميع الألقاب الكريمة والنعوت الشريفة.

اقوال و آراء معاصريه فيه

عبّر المعاصرون للإمام(عليه السلام) من العلماء والفقهاء والمؤرّخين بانطباعاتهم عن شخصيّته، وكلها إكبار وتعظيم له، سواء في ذلك من أخلص له في الودّ أو أضمر له العداوة والبغضاء، وفيما يلي نبذة من كلماتهم: 1 ـ قال الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري: ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل عليّ بن الحسين(عليه السلام)... [7] . [ صفحه 22] 2 ـ كان عبد الله بن عباس علي تقدّمه في السنّ يجلّ الإمام (عليه السلام) وينحني خضوعاً له وتكريماً، فإذا رآه قام تعظيماً ورفع صوته قائلاً: مرحباً بالحبيب ابن الحبيب [8] . 3 ـ وُصِف محمّد بن مسلم القرشي الزهري بالفقيه، وأحد الأئمّة الأعلام وعالم الحجاز والشام [9] وقد كان علي خطّ غير أهل البيت(عليهم السلام) ولكنّه أدلي بمجموعة من الكلمات القيّمة أعرب فيها عمّا يتصف به الإمام(عليه السلام) من القيم الكريمة والمُثل العظيمة، وهذه بعض كلماته: أ ـ ما رأيت هاشمياً مثل عليّ بن الحسين... [10] . ب ـ لم أدرك في أهل البيت رجلاً كان أفضل من علي بن الحسين [11] . ج ـ... ما رأيت أحداً أفقه منه [12] . 4 ـ سعيد بن المسيّب: وهو من الفقهاء البارزين في يثرب، وقال عنه الرواة: إنّه ليس من التابعين من هو أوسع منه علماً [13] ، وقد صحب الإمام(عليه السلام) ووقف علي ورعه، وشدّة تحرّجه في الدين، وقد سجّل ما رآه بهذه الكلمات: أ ـ ما رأيت قطّ أفضل من عليّ بن الحسين(عليه السلام) وما رأيته قطّ إلاّ مَقَتُّ نفسي... [14] . ب ـ ما رأيت أورع منه... [15] . ج ـ كان سعيد جالساً وإلي جانبه فتيً من قريش، فطلع الإمام(عليه السلام) فسأل [ صفحه 23] القريشيّ سعيداً عنه، فأجابه سعيد: هذا سيّد العابدين [16] . 5 ـ زيد بن أسلم: وكان في طليعة فقهاء المدينة، ومن مفسِّري القرآن [17] ، وقد أدلي بعدّة كلمات بشأن الإمام(عليه السلام) منها: أ ـ ما جالست في أهل القبلة مثله [18] . ب ـ ما رأيت مثل عليّ بن الحسين فيهم (أي: في أهل البيت) [19] . ج ـ ما رأيت مثل عليّ بن الحسين فهماً حافظاً [20] . 6 ـ حماد بن زيد: وهو من أبرز فقهاء البصرة، اُعتبر من أئمّة المسلمين [21] ، قال فيه: كان عليّ بن الحسين أفضل هاشميٍّ أدركته [22] . 7 ـ يحيي بن سعيد: وهو من كبار التابعين، ومن أفاضل الفقهاء والعلماء [23] ، وقد قال: سمعت عليّ بن الحسين وكان أفضل هاشمي رأيته [24] . 8 ـ لقد تعدّي الاعتراف بالفضل للإمام(عليه السلام) إلي أعدائه ومبغضيه، فهذا يزيد بن معاوية وبعد أن ألحّ عليه أهل الشام في أن يخطب الإمام(عليه السلام) أبدي مخاوفه منه قائلاً: إنّه من أهل بيت زُقّوا العلم زقّاً، إنّه لا ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان... [25] . [ صفحه 24] 9 ـ عبد الملك بن مروان: وهذا عدوّ آخر يقول للإمام (عليه السلام):... إنّك لذو فضل عظيم علي أهل بيتك وعصرك، ولقد اُوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلاّ من مضي من سلفك... [26] . 10 ـ منصور الدوانيقي: وهذا عدوّ آخر أيضاً لأهل البيت(عليهم السلام) قد أشاد بفضل الإمام(عليه السلام) في رسالته إلي ذي النفس الزكية بقوله: ولم يولد فيكم (أي في العلويّين) بعد وفاة رسول الله(صلي الله عليه وآله) مولود مثله (أي مثل زين العابدين) [27] .

آراء العلماء و المورخين فيه

1 ـ قال اليعقوبي: كان أفضل الناس وأشدّهم عبادة، وكان يسمّي: زين العابدين، وكان يسمّي أيضاً: ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود... [28] . 2 ـ قال الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر: في ترجمة الإمام(عليه السلام): كان عليّ بن الحسين ثقةً مأموناً، كثير الحديث، عالياً رفيعاً... [29] . 3 ـ قال الذهبي: كانت له جلالة عجيبة، وحقّ له والله ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمي؛ لشرفه وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله... [30] . 4 ـ قال الحافظ أبو نعيم: قال: عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) [ صفحه 25] زين العابدين ومنار القانتين، كان عابداً وفيّاً وجواداً صفيّاً... [31] . 5 ـ قال صفيّ الدين: كان زين العابدين عظيم الهدي والسمت الصالح... [32] . 6 ـ قال النووي: وأجمعوا علي جلالته في كلّ شيء... [33] . 7 ـ قال عماد الدين إدريس القرشي: كان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين أفضل أهل بيت رسول الله(صلي الله عليه وآله) وأشرفهم بعد الحسن والحسين عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وأكثرهم ورعاً وزهداً وعبادة [34] . 8 ـ قال النسّابة الشهير ابن عنبة: وفضائله (عليه السلام) أكثر من أن تحصي أو يحيط بها الوصف [35] . 9 ـ قال الشيخ المفيد: كان عليّ بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً، وقال: قد روي عنه فقهاء العامّة من العلوم ما لا يحصي كثرة، وحُفِظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء... [36] . 10 ـ وقال ابن تيمية: أمّا عليّ بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً... وله من الخشوع وصدقة السرّ وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف [37] . 11 ـ قال الشيخاني القادري: سيّدنا زين العابدين عليّ بن الحسين بن أبي طالب اشتهرت أياديه ومكارمه، وطارت بالجوّ في الجود محاسنه، عظيم القدر، رحب الساحة والصدر، وله الكرامات الظاهرة ما شوهد بالأعين الناظرة [ صفحه 26] وثبت بالآثار المتواترة... [38] . 12 ـ قال محمّد بن طلحة القرشي الشافعي: هذا زين العابدين، قدوة الزاهدين، وسيّد المتقين، وإمام المؤمنين، شيمته تشهد له أنّه من سلالة رسول الله(صلي الله عليه وآله) وسمته يثبت مقام قربه من الله زلفاً، وثفناته تسجّل له كثرة صلاته وتهجّده، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها، درّت له أخلاق التقوي فتفوّقها، وأشرقت له أنوار التأييد فاهتدي بها، وآلفته أوراد العبادة فآنس بصحبتها، وحالفته وظايف الطاعة فتحلّي بحليتها، طالما اتّخذ الليل مطيّة ركبها لقطع طريق الآخرة، وظمأ الهواجر دليلاً استرشد به في مسافة المسافرة، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنّه من ملوك الآخرة... [39] . 13 ـ قال الإمام الشافعي: إنّ عليّ بن الحسين أفقه أهل المدينة [40] . 14 ـ قال الجاحظ: وأمّا عليّ بن الحسين فلم أرَ الخارجي في أمره إلاّ كالشيعي، ولم أرَ الشيعي إلاّ كالمعتزلي، ولم أرَ المعتزلي إلاّ كالعامي، ولم أرَ العامي إلاّ كالخاصي، ولم أجد أحداً يتماري في تفضيله ويشك في تقديمه... [41] . 15 ـ قال سبط ابن الجوزي: وهو أبو الأئمّة وكنيته أبو الحسن ويلقب بزين العابدين وسمّاه رسول الله(صلي الله عليه وآله) سيد العابدين... والسجاد؛ وذي الثفنات، والزكي والأمين، والثفنات: ما يقع علي الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين فكان طول السجود قد أثّر في ثفناته [42] . [ صفحه 27]

مظاهر من شخصية الإمام زين العابدين

الحلم

كان الإمام من أعظم الناس حلماً، وأكظمهم للغيظ، فمن صور حلمه التي رواها المؤرّخون: 1 ـ كانت له جارية تسكب علي يديه الماء إذا أراد الوضوء للصلاة، فسقط الإبريق من يدها علي وجهه الشريف فشجّه، فبادرت الجارية قائلة: إنّ الله عزّوجلّ يقول: (والكاظمين الغيظ) وأسرع الإمام قائلاً: «كظمت غيظي»، وطمعت الجارية في حلم الإمام ونبله، فراحت تطلب منه المزيد قائلة: (والعافين عن الناس) فقال الإمام(عليه السلام): «عفا الله عنك»، ثمّ قالت: (والله يحبّ المحسنين) فقال (عليه السلام) لها: «إذهبي فأنت حرّة» [43] . 2 ـ سبّه لئيمٌ فأشاح(عليه السلام) بوجهه عنه، فقال له اللئيم: إيّاك أعني... وأسرع الإمام قائلاً: «وعنك اُغضي...» وتركه الإمام ولم يقابله بالمثل [44] . 3 ـ ومن عظيم حلمه (عليه السلام): أنّ رجلاً افتري عليه وبالغ في سبّه، [ صفحه 28] فقال(عليه السلام) له: «إن كُنّا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك...» [45] .

السخاء

أجمع المؤرِّخون علي أنّه كان من أسخي الناس وأنداهم كفّاً، وأبرَّهم بالفقراء والضعفاء، وقد نقلوا نوادر كثيرة من فيض جوده، منها: 1 ـ مرض محمّد بن اُسامة فعاده الإمام (عليه السلام)، ولمّا استقرّ به المجلس أجهش محمّد بالبكاء، فقال له الإمام(عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام: كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمام(عليه السلام): هي عليّ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتي دفعها له [46] . 2 ـ ومن كرمه وسخائه أنّه كان يطعم الناس إطعاماً عامّاً في كلّ يوم، وذلك في وقت الظهر في داره [47] . 3 ـ وكان يعول مائة بيت في السرّ، وكان في كلّ بيت جماعة من الناس [48] .

تعامله مع الفقراء

تكريمه للفقراء

كان(عليه السلام) يحتفي بالفقراء ويرعي عواطفهم ومشاعرهم، فكان إذا أعطي سائلاً قبّله، حتي لا يُري عليه أثر الذلّ [ صفحه 29] والحاجة [49] ، وكان إذا قصده سائل رحّب به وقال له: «مرحباً بمن يحمل زادي إلي دار الآخرة» [50] .

عطفه علي الفقراء

كان(عليه السلام) كثير العطف والحنان علي الفقراء والمساكين، وكان يعجبه أن يحضر علي مائدة طعامه اليتامي والأضراء والزمني والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، كما كان يحمل لهم الطعام أو الحطب علي ظهره حتي يأتي باباً من أبوابهم فيناولهم إيّاه [51] وبلغ من مراعاته لجانب الفقراء والعطف عليهم أنّه كره اجتذاذ النخل في الليل؛ وذلك لعدم حضور الفقراء في هذا الوقت فيحرمون من العطاء، فقد قال(عليه السلام) لقهرمانه وقد جذّ نخلاً له من آخر الليل: «لا تفعل، ألا تعلم أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) نهي عن الحصاد والجذاذ بالليل؟!». وكان يقول: «الضغث تعطيه من يسأل فذلك حقه يوم حصاده» [52] .

نهيه عن رد السائل

ونهي الإمام(عليه السلام) عن ردّ السائل؛ وذلك لما له من المضاعفات السيّئة التي منها زوال النعمة وفجأة النقمة. وأكد الإمام(عليه السلام) علي ضرورة ذلك في كثير من أحاديثه، فقد روي أبو حمزة الثمالي، قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلمّا فرغ من صلاته نهض إلي منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّي سكينة، فقال لها: «لا يعبر علي بابي سائل إلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم جمعة»،فقال له أبو حمزة: ليس من يسأل مستحقاً، فقال(عليه السلام): «أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه، [ صفحه 30] ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم، أطعموهم، إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً فيتصدّق منه، ويأكل منه هو وعياله، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً مستحقّاً، له عند الله منزلة اجتاز علي باب يعقوب يوم جمعة عند أوان إفطاره، فجعل يهتف علي بابه: أطعموا السائل الغريب الجائع من فضل طعامكم، وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله، فلمّا يئس منهم وغشيه الليل مضي علي وجهه، وبات طاوياً يشكو جوعه إلي الله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وعندهم فضلة من طعامهم، فأوحي الله إلي يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلي ولدك، يا يعقوب أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي وقرّبهم إليه وأطعمهم وكان لهم مأوي وملجأ، أما رحمت عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا؟! أما وعزّتي لأنزلنّ بك بلواي، ولأجعلنّك وولدك غرضاً للمصائب. فقال أبو حمزة: جعلت فداك متي رأي يوسف الرؤيا؟ قال(عليه السلام): في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآله شباعاً وبات السائل الفقير طاوياً جائعاً» [53] .

صدقاته

اشاره

وكان من أعظم ما يصبو إليه الامام زين العابدين(عليه السلام) في حياته الصدقة علي الفقراء لإنعاشهم ورفع البؤس عنهم، وكان(عليه السلام) يحثّ علي الصدقة؛ وذلك لما يترتّب عليها من الأجر الجزيل، فقد قال: «ما من رجل تصدّق علي مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشيء في تلك الساعة إلاّ استجيب له» [54] . ونشير إلي بعض ألوان صدقاته وجميل خصاله: [ صفحه 31]

التصدق بثيابه

كان(عليه السلام) يلبس في الشتاء الخزّ، فإذا جاء الصيف تصدّق به أو باعه وتصدّق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر ويتصدّق بهما إذا جاء الشتاء [55] ، وكان يقول: «إني لأستحي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت الله فيه» [56] .

التصدق بما يحب

كان يتصدّق باللوز والسكَّر، فسئل عن ذلك فتلا قوله تعالي: (لن تنالوا البرّ حتي تنفقوا ممّا تحبّون) [57] . وروي أنّه كان يعجبه العنب، وكان صائماً فقدّمت له جاريته عنقوداً من العنب وقت الإفطار، فجاء سائل فأمر بدفعه إليه، فبعثت الجارية من اشتراه منه، وقدّمته إلي الامام، فطرق سائل آخر الباب، فأمر(عليه السلام) بدفع العنقود إليه، فبعثت الجارية من اشتراه منه وقدّمته للإمام، فطرق سائل ثالث الباب فدفعه الإمام إليه [58] .

مقاسمة أمواله

وقاسم الإمام أمواله مرّتين فأخذ قسماً له، وتصدّق بالقسم الآخر علي الفقراء والمساكين [59] . [ صفحه 32]

صدقاته في السر

وكان أحبّ شيء عند الإمام(عليه السلام) الصدقة في السر، لئلاّ يعرفه أحد، وقد أراد أن يربط نفسه ومن يعطيهم من الفقراء برباط الحبّ في الله تعالي، وتوثيقاً لصلته بإخوانه الفقراء بالإسلام، وكان يحثّ علي صدقة السرّ ويقول: «إنّها تطفئ غضب الربّ» [60] . وقد اعتاد الفقراء علي صلة لهم في الليل، فكانوا يقفون علي أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا وقالوا: جاء صاحب الجراب [61] . وكان له ابن عم يأتيه بالليل فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول له العلوي: إنّ عليّ بن الحسين لا يوصلني، ويدعو عليه، فيسمع الإمام ذلك ويغضي عنه، ولا يُعرّفه بنفسه، ولمّا توفّي(عليه السلام) فقد الصلة، فعلم أنّ الذي كان يوصله هو الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) فكان يأتي قبره باكياً ومعتذراً منه [62] . وقال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السرّ حتي مات عليّ بن الحسين [63] . وكان(عليه السلام) شديد التكتّم في صلاته وهباته، فكان إذا ناول أحداً شيئاً غطّي وجهه لئلاّ يعرفه [64] . وقال الذهبي: إنّه كان كثير الصدقة في السرّ [65] . [ صفحه 33] وكان(عليه السلام) يجعل الطعام الذي يوزّعه علي الفقراء في جراب ويحمله علي ظهره، وقد ترك أثراً عليه [66] .

ابتغاؤه مرضاة الله

ولم يكن الإمام(عليه السلام) يبتغي في برّه وإحسانه إلي الفقراء إلاّ وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة، ولم تكن عطاياه وصدقاته(عليه السلام) مشوبة بأيّ غرض من أغراض الدنيا. قال الزهري: رأيت عليّ بن الحسين في ليلة باردة وهو يحمل علي ظهره دقيقاً، فقلت له: يابن رسول الله! ما هذا؟ فأجابه(عليه السلام): «اُريد سفراً، اُعدّ له زاداً أحمله إلي موضع حريز». فقال: هذا غلامي يحمله عنك، فامتنع الإمام من إجابته، وتضرّع الزهري إليه أن يحمله هو بنفسه عنه، إلاّ ان الإمام أصرّ علي ما ذهب إليه، وقال له: «ولكنّي لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسّن ورودي علي ما أردُ عليه، أسألك بحق الله لمّا مضيت لحاجتك». وانصرف الزهري عن الإمام، وبعد أيام التقي به، وقد ظنّ أنّه كان علي جناح سفر ولم يعِ مراده فقال له: يابن رسول الله، لست أري لذلك السفر الذي تركته أثراً. فأجابه الإمام(عليه السلام): «يا زهري، ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدُّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل الندي في الخير» [67] .

العزة والإباء

ومن صفات الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) العزّة والإباء، [ صفحه 34] فقد ورثها من أبيه الحسين سيّد الشهداء(عليه السلام) الذي تحدّي طغاة عصره قائلاً: «والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد» [68] . وقد تمثّلت هذه الظاهرة الكريمة في شخصيّة الإمام زين العابدين(عليه السلام) في قوله: «ما أحبّ أنّ لي بذلّ نفسي حمر النعم» [69] . وقال في عزة النفس: «من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا» [70] . ويقول المؤرخون: إنّ أحدهم أخذ منه بعض حقوقه بغير حق، وكان الإمام(عليه السلام) بمكّة، وكان الوليد بن عبد الملك حينئذ متربّعاً علي كرسي الخلافة وقد حضر موسم الحج، فقيل له: لو سألت الوليد أن يردّ عليك حقّك؟ فقال لهم كلمته الخالدة في دنيا العزّ والإباء: «ويحك أفي حرم الله عزّوجلّ أسأل غير الله عزّوجلّ؟! إنّي آنف أن أسأل الدنيا من خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟!» [71] . ومن عزّته: أنّه ما أكل بقرابته من رسول الله(صلي الله عليه وآله) درهماً قطّ [72] .

الزهد

لقد اشتهر في عصره(عليه السلام) أنّه من أزهد الناس حتي أنّ الزهري حينما سُئل عن أزهد الناس قال: عليّ بن الحسين [73] . ورأي(عليه السلام) سائلاً يبكي فتألّم له وراح يقول: «لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا [ صفحه 35] ثمّ سقطت منه لما كان ينبغي له أن يبكي عليها» [74] . وقال سعيد بن المسيب: كان عليّ بن الحسين(عليه السلام) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد رسول الله(صلي الله عليه وآله) وحفظ عنه وكتب، وكان يقول: «أيّها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنـّكم اليه تُرجعون... يابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد اُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلي قبرك وحيداً، فردّ اليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك... فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الله عزّوجلّ لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها أيّهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وعرّف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلاّ بالله، فازهدوا فيما زهّدكم الله عزّوجلّ فيه من عاجل الحياة الدنيا... ولا تركنوا إلي زهرة الدنيا وما فيها ركونَ من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنّها دار بُلغة، ومنزل قلعة، ودار عمل، فتزوّدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرّق أيّامها، وقبل الإذن من الله في خرابها... جعلنا الله وإيّاكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لآجل ثواب الآخرة، فإنّما نحن به وله...» [75] .

الانابة إلي الله تعالي

إنّ اشتهار الإمام بلقب زين العابدين وسيّد الساجدين ممّا يشير إلي وضوح عنصر الإنابة إلي الله والانقطاع اليه في حياة الإمام وسيرته [ صفحه 36] وشخصيّته. علي أنّ أدعية الصحيفة السجّادية هي الدليل الآخر علي هذه الحقيقة، فإنّ إلقاء نظرة سريعة وخاطفة علي عناوين الأدعية يكشف لنا مدي التجاء الإمام إلي الله في شؤون حياته، فما من موقف إلاّ وللإمام فيه دعاء وابتهال وتضرّع، هذا فضلاً عن مضامين الأدعية التي يكاد ينفرد بها هو(عليه السلام) في هذه الصحيفة المعروفة وغيرها، لقد ذاب الإمام في محبّة الله وأخلص له أعظم الإخلاص، وقد انعكس ذلك علي جميع حركاته وسكناته. وممّا رواه المؤرخون: أنّه اجتاز علي رجل جالس علي باب رجل ثريّ فبادره الإمام قائلاً: «ما يقعدك علي باب هذا المترف الجبار؟ فقال الرجل: البؤس (أي: الفقر)، فقال له(عليه السلام): قم فاُرشدك إلي باب خير من بابه وإلي ربّ خير لك منه...» ونهض معه الرجل إلي مسجد رسول الله(صلي الله عليه وآله) وعلّمه ما يعمله من الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن وطلب الحاجة من الله والالتجاء إلي حصنه الحريز [76] .

سيرته في بيته

كان الإمام زين العابدين(عليه السلام) من أرأف الناس وأبرّهم وأرحمهم بأهل بيته، وكان لا يتميّز عليهم، وقد اُثر عنه أنّه قال: «لَئن أدخل إلي السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا [77] أحبّ اليَّ من أن أعتق نسمة» [78] . وكان يبكر في خروجه مصبحاً لطلب الرزق لعياله، فقيل له: إلي أين [ صفحه 37] تذهب؟ فقال: أتصدّق لعيالي قبل أن أتصدّق. ثم قال: من طلب الحلال، فإنّه من الله عزّوجلّ صدقة عليهم [79] . وكان (عليه السلام) يعين أهله في حوائجهم البيتية، ولا يأمر أحداً منهم فيما يخصّ شأناً من شؤونه الخاصة، كما كان يتولّي بنفسه خدمة نفسه خصوصاً فيما يخصّ إلي شؤون عبادته، فإنّه لم يك يستعين بها أو يعهد إلي أحد في قضائها.

مع أبويه

وقابل الإمام المعروف الذي أسدته إليه مربّيته بكلّ ما تمكّن عليه من أنواع الإحسان، وقد بلغ من جميل برّه بها أنّه امتنع أن يؤاكلها فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاح قائلين: أنت أبرّ الناس وأوصلهم رحماً، فلماذا لا تؤاكل اُمّك؟ فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً: «أخشي أن تسبق يدي إلي ما سبقت إليه عينها فأكون عاقّاً لها» [80] . ومن برّه لأبويه دعاؤه لهما، وهو من أسمي القواعد في التربية الإسلامية الهادفة، وهذه مقاطع من هذه اللوحة الخالدة من دعائه(عليه السلام): «... واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين... وألهمني علم ما يجب لهما عليّ إلهاماً، واجمع لي علم ذلك كلّه تماماً، ثم استعملني بما تلهمني منه، ووفّقني للنفوذ فيما تبصرني من علمه... اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الاُم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة [ صفحه 38] الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتي اُوثر علي هواي هواهما، واُقدّم علي رضاي رضاهما، واستكثر برّهما بي وإن قلّ، واستقلّ برّي بهما وإن كثر، اللهمّ خفّض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألِن لهما عريكتي، واعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقاً وعليهما شفيقاً... اللهمّ اشكرلهما تربيتي، وأثبهما علي تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري... اللهمّ لا تُنسني ذكرهما في أدبار صلواتي، وفي إناً من آناء ليلي، وفي كل ساعة من ساعات نهاري... اللهمّ صلّ علي محمد وآله، واغفر لي بدعائي لهما، واغفر لهما ببرّهما بي...» [81] .

مع أبنائه

أمّا سلوك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) مع أبنائه فقد تميّز بالتربية الإسلامية الرفيعة لهم، فغرس في نفوسهم نزعاته الخيّرة واتّجاهاته الإصلاحية العظيمة، وقد صاروا بحكم تربيته لهم من ألمع رجال الفكر والعلم والجهاد في الإسلام. فكان ولده الإمام محمد الباقر(عليه السلام) أشهر أئمّة المسلمين، وأكثرهم عطاءً للعلم. وأمّا ولده عبد الله الباهر فقد كان من أبرز علماء المسلمين في فضله وسمّو منزلته العلمية. أمّا ولده زيد فقد كان من أجلّ علماء المسلمين، وقد برعَ في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنّي حقوق المظلومين المضطهدين، وقاد مسيرتهم الدامية في ثورته التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الاسلامي، وساهمت مساهمة إيجابية وفعّالة [ صفحه 39] في الاطاحة بالحكم الاُموي [82] . وزوّد الإمام (عليه السلام) أبناءه ببعض الوصايا التربوية لتكون منهجاً يسيرون عليه، قال (عليه السلام): 1 ـ «يا بُنيّ، اُنظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا تُرافقهم في طريق» فقال له ولده: من هم؟ قال(عليه السلام): «إيّاك ومصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب، يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب. وإيّاك ومصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك. وإيّاك ومصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله، وأنت أحوج ما تكون إليه. وإيّاك ومصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك. وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله...» [83] . 2 ـ قال (عليه السلام): «يا بُنيّ، اصبر علي النائبة، ولا تتعرّض للحقوق، ولا تجب أخاك إلي شيء مضرّته عليك أعظم من منفعته لك...» [84] . 3 ـ وقال(عليه السلام): «يا بُنيّ، إنّ الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرني منك، واعلم أنّ خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودّة إلي التفريط فيه، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلي العقوق له» [85] . [ صفحه 40]

مع مماليكه

وسار الإمام(عليه السلام) مع مماليكه سيرة تتّسم بالرفق والعطف والحنان، فكان يعاملهم كأبنائه، وقد وجدوا في كنفه من الرفق ما لم يجدوا في ظلّ آبائهم، حتّي أنّه لم يعاقب أمَةً ولا عبداً فيما إذا اقترفا ذنباً [86] . وقد كان له مملوك فدعاه مرّتين فلم يجبه، وفي الثالثة قال له الإمام برفق ولطف: «يا بُنيَّ، أما سمعت صوتي؟» قال: بلي...، فقال له(عليه السلام): «لِمَ لَمْ تُجبْني؟» فقال: أمنت منك، فخرج الإمام وراح يحمد الله ويقول: «الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني...» [87] . [ صفحه 43]

نشأة الإمام زين العابدين

اشاره

لقد توفّرت للإمام زين العابدين(عليه السلام) جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحد سواه، وقد عملت علي تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأول من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول(صلي الله عليه وآله) ثقته، وجعلهم قادة لاُمّته واُمناء علي أداء رسالته. نشأ الامام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه [88] ، ومنذ الأيام الاُولي من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يتعاهده بالرعاية ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية. كما عاش الإمام(عليه السلام) في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبي(عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله(صلي الله عليه وآله) وسبطه الأول، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمام(عليه السلام) طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد [ صفحه 44] الشهداء الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام) الذي رأي في ولده علي زين العابدين(عليه السلام) امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه علي بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته. لقد ولد الإمام زين العابدين(عليه السلام) في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (36 هـ) [89] يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام علي(عليه السلام) لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة الي الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (94 أو 95 هـ). وهناك من المؤرخين ذكر أنّه ولد في سنة (38 هـ) وفي مدينة الكوفة حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبط(عليه السلام) مع أهله عن أبيه(عليه السلام) في هذه الفترة بشكل خاص [90] .

امه

اسمها «شهربانو» أو «شهر بانويه» أو «شاه زنان» بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس [91] ، وذكر البعض أنّ اُمه قد أجابت نداء ربّها أيّام نفاسها فلم تلد سواه [92] . [ صفحه 45]

كناه

أبو الحسن، أبو محمّد، أبو الحسين، أبو عبد الله [93] .

القابه

«زين العابدين» و «ذو الثفنات» و «سيّد العابدين» و «قدوة الزاهدين» و «سيّد المتّقين» و «إمام المؤمنين» و «الأمين» و «السجّاد» و «الزكي» و «زين الصالحين» و «منار القانتين» و «العدل» و «إمام الاُمّة» و «البكّاء»، وقد اشتهر بلقبي «السجاد» و «زين العابدين» أكثر من غيرهما. إنّ هذه الألقاب قد منحها الناس للإمام عندما وجدوه التجسيد الحيّ لها، والمصداق الكامل لـ: (وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) [94] ، وبعض الذين منحوه هذه الألقاب لم يكونوا من شيعته، ولم يكونوا يعتبرونه إماماً من قبل الله تعالي، لكنّهم ما استطاعوا أن يتجاهلوا الحقائق التي رأوها فيه. لقد ذكر المؤرّخون ما يبيّن لنا بعض العلل التأريخية لجملة من هذه الألقاب المباركة: 1 ـ روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري أنّه قال: كنت جالساً عند رسول الله(صلي الله عليه وآله) والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال(صلي الله عليه وآله): «يا جابر، يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادي مناد ليقم (سيّد العابدين) [ صفحه 46] فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام» [95] . 2 ـ كان الزهري إذا حدّث عن عليّ بن الحسين(عليه السلام) قال: حدّثني «زين العابدين» عليّ بن الحسين، فقال له سفيان بن عيينة: ولِمَ تقول له زين العابدين؟ قال: لأنّي سمعت سعيد بن المسيب يحدّث عن ابن عباس أنّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) قال: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين زين العابدين؟ فكأنـّي أنظر إلي ولدي عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب يخطر (يخطو) بين الصفوف» [96] . 3 ـ وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «كان لأبي في مواضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتّين، في كلّ مرة خمس ثفنات، فسمّي ذا الثفنات لذلك» [97] . 4 ـ كما جاء عنه عن كثرة سجود أبيه: ما ذكر لله عزّوجلّ نعمة عليه إلاّ وسجد، ولا دفع الله عنه سوءً إلاّ وسجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ وسجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمّي بالسجّاد [98] . [ صفحه 47]

مراحل حياة الإمام زين العابدين

اشارة

تنقسم حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) ـ كما تنقسم حياة سائر الأئمة(عليهم السلام) ـ الي مرحلتين متميّزتين: 1 ـ مرحلة ما قبل التصدّي للإمامة والزعامة. 2 ـ مرحلة التصدّي وممارسة القيادة حتي الشهادة. لقد عاش الإمام زين العابدين(عليه السلام) في المرحلة الاُولي من حياته في ظلال جدّه الإمام أمير المؤمنين، وعمّه الإمام الحسن المجتبي وأبيه الإمام الحسين سيد الشهداء(عليهم السلام) مدة تناهز العقدين ونصف العقد، حيث قضي في كنف جدّه الإمام علي(عليه السلام) ما يزيد قليلاً عن أربع سنوات، وما لا يقل عن سنتين لو كانت ولادته سنة (38 هـ). بينما قضي عقداً آخر من حياته في كنف عمّه وأبيه(عليهما السلام) حيث استشهد عمّه الإمام الحسن السبط(عليه السلام) سنة 50 هجرية. كما قضي عقداً ثانياً في ظلّ قيادة أبيه الحسين السبط(عليه السلام) وهي الفترة الواقعة بين مطلع سنة (50 هـ) وبداية سنة (60 هـ). لقد عاش الإمام زين العابدين(عليه السلام) فترة المخاض الصعب خلال المرحلة الاُولي من حياته وقضاها مع كل من جدّه وعمّه وأبيه(عليهم السلام)، واستعدّ مراحل حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام)) [ صفحه 48] بعدها لتحمّل أعباء الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه والصفوة من أهل بيته وأصحابه في ملحمة عاشوراء الخالدة التي مهّد لها معاوية بن أبي سفيان وتحمّل وزرها ابنه يزيد المعلن بفسقه والمستأثر بحكم الله في أرض الإسلام المباركة. وأمّا المرحلة الثانية من حياته الكريمة قد ناهزت ثلاثة عقود ونصف عقد من عمره الشريف، وعاصر خلالها كُلاًّ من حكم يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان، ثم اغتالته الأيدي الاُموية الأثيمة بأمر من الحاكم وليد بن عبدالملك بن مروان واستشهد في (25) من المحرّم أو ما يقرب منه سنة (94) أو (95) هجرية عن عمر يناهز (57) سنة أو دونها قليلاً [99] فكانت مدّة إمامته وزعامته حوالي (34) سنة. وفي هذه الدراسة نقسّم المرحلة الثانية من حياة هذا الإمام الحافلة بأنواع الجهاد الي قسمين متميزين من الكفاح والجهاد: الأوّل: جهاده بعد ملحمة عاشوراء وقبل استقراره في المدينة. الثاني: جهاده بعد استقراره في المدينة. وعلي هذا التقسيم سوف ندرس حياته ضمن مراحل ثلاث: المرحلة الاُولي: حياته قبل استشهاد أبيه(عليه السلام). المرحلة الثانية: حياته بعد استشهاد أبيه وقبل استقراره في المدينة. المرحلة الثالثة: حياته بعد استقراره في المدينة. [ صفحه 49]

الامام زين العابدين من الولادة الي الإمامة

اشاره

وتتضمّن استعراض عصر الإمام(عليه السلام) وحياته قبل كربلاء، أي من الولادة حتي استشهاد أبيه(عليه السلام) من سنة (38 أو 36 هـ) إلي سنة (61 هـ). لقد عاصر الإمام زين العابدين(عليه السلام) في مرحلتي الطفولة والفتوّة حكم معاوية بن أبي سفيان الذي تميّز بالاضطراب أولاً، ثمّ تلاه القمع في العراق، والتأزّم في الحجاز، وإقصاء السُنّة وظهور البدعة. ولقد استشهد الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) في الكوفة في شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، فيما كان يعبّئ الناس لحرب جديدة مع معاوية، وإثر استشهاده(عليه السلام) بايع أهل العراق ولده الإمام الحسن المجتبي(عليه السلام) خليفة عليهم، إلاّ أنّ قلوب أغلب المبايعين لم تكن تصدّق ألسنتهم، فلا ينتظر من المتظاهرين بالتشيّع في الكوفة وفي جيش الإمام عليٍّ(عليه السلام) ـ الذين آذوه إلي الدرجة التي تمنّي فيها غير مرّة الموت ـ أن يكون سلوكهم مع ولده الحسن(عليه السلام) أفضل ممّا كان معه. وكانت الكوفة في السنوات الأخيرة من عمر الإمام عليّ(عليه السلام) تضمّ مختلف الاتجاهات والجماعات، فكان هنالك اللاهثون وراء السلطة، [ صفحه 50] الطامعون في أن يوليهم الخليفة الجديد منصباً ما والمسلمون الجدد الذين دفعتهم الآمال الكبيرة إلي الإعراض عن مدنهم والتوجّه إلي عاصمة الخلافة علي أمل الحصول علي عمل يحقّق رغباتهم، والانتهازيون من الموالي الذين تحالفوا مع هذه القبيلة العربية أو تلك لتغطّي علي تآمرهم؛ إذ لا يجرؤون علي التحرّك دون غطاء عروبي. لقد تقوّم المجتمع الكوفي وقتذاك بهذه الجماعات التي وجّهت قدرتها لإيجاد العراقيل والعقبات أمام حركة الإمام الحسن السبط(عليه السلام) عندما اشترط قيس بن سعد بن عبادة بيعته للإمام الحسن(عليه السلام) بمحاربة أهل الشام، لكنّ الإمام اضطرّ إلي الصلح مع معاوية بعد أن كشفت أكثر قوات الإمام ما كانت تضمر من أهداف تآمرية علي شخص الإمام، والمخلصين من أصحابه بإنضواء بعضهم تحت لواء معاوية، وبثّهم الإشاعات التي أسفرت عن التخاذل المقيت، حتي كتب من كتب منهم إلي معاوية بتسليمهم إمامهم وقائدهم إلي معاوية. لقد امتازت الفترة الواقعة بين سنة (41 هـ) وسنة (60 هـ) بتشديد القهر والقمع علي أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في العراق، ويتبيّن من خلال تعامل معاوية مع زعماء هذه المنطقة ـ الذين كانوا يلتقونه بين الحين والآخر ـ الدرجة التي بلغها سخطه علي أهل العراق. وقد انكفأ السياسيون العراقيون ـ الذين خدعوا في حرب صفّين وسلّطوا أهل الشام علي مقدراتهم ـ في بيوتهم إبّان حكم معاوية، لكنّهم كانوا ينتظرون أن تسنح لهم فرصة جديدة للتحرك. ومن جهة اُخري لحق بالمسلمين المخلصين ـ الذين نشأوا علي التربية الإسلامية النقية وارتفعوا عن المنظار القومي والقبلي أو نظروا من خلاله [ صفحه 51] بالشكل الذي لم يضرّ بدينهم ـ أذيً أكبر ممّا لحق بالطائفة الاُولي، إذ كانوا يرون في عهد معاوية ـ الذي امتدّ نحو عشرين عاماً ـ اندراس سنّة النبيّ(صلي الله عليه وآله). لقد ظهرت البدعة وساد النظام الملكي عوضاً عن الخلافة، واستلم مقاليد اُمور المسلمين أفراد اُسرة قامت بكلّ ما بوسعها من أجل القضاء علي الإسلام والمسلمين، حتي أنّ ولداً غير شرعيّ من آل ثقيف يصبح ـ وبشهادة بائع خمر ـ أخاً لمعاوية [100] . وخلافاً لصريح القرآن الكريم لقد بثّ معاوية الجواسيس بين الناس ليحصوا عليهم أنفاسهم، ونسخ الوفاء بالعهد والإيمان، فقتلوا حجر بن عديٍّ بعد كلّ الضمانات التي أعطوها له، وبمؤامرة نسج خيوطها معاوية دسّت جعدة بنت الأشعث بن قيس السمّ لزوجها الإمام الحسن المجتبي سبط رسول الله(صلي الله عليه وآله). إلي عشرات الممارسات الاُخري المخالفة لصريح القرآن وسنّة النبيّ(صلي الله عليه وآله) التي كان يتّسم بها ذلك العهد. فكانت النتيجة أنّه لم يبقَ أيّ مظهر اسلاميٍّ للحكومة الإسلامية في الشام والعراق اللّذين كانا يمثّلان أخطر مركزين في الدولة آنذاك، كما اقتصر فقه المسلمين علي الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وما يسمّي بالجهاد، وكان المتديّنون المخلصون يتألّمون بشدّة لتفشّي البدع، فكانوا يتربّصون الفرص التي تتيح لهم إقصاء ما ابتدعه معاوية في عصره باسم الإسلام. [ صفحه 52]

الوضع السياسي في العراق عند موت معاوية

وعندما مات معاوية اعتبر الفريقان المتنفّذان في العراق أنّ الفرصة باتت مؤاتية: أ ـ فريق أهل الدين الذين عاشوا آلام المسلمين وأحزنهم غياب سُنة النبيّ(صلي الله عليه وآله)، وكانوا يستهدفون القضاء علي النظام الملكي وإعادة الحكومة الإسلامية كما كانت في عصر الخلفاء السابقين علي الأقل. ب ـ السياسيون المحترفون اللاهثون وراء السلطة الذين كانوا يرومون وضع حدّ لتحكّم الشام بالعراق. وفي الأيام التي كان العراق فيها يغصّ بالأحداث الخطيرة كان للأجواء في الشام طابع آخر. كان يزيد في قرية حوارين [101] عندما هلك والده معاوية، فعاد بمساعي والي الشام «الضحّاك بن قيس» إلي دمشق ليعلن نفسه خليفة للمسلمين، وأسرع إلي محاولة تبديد مخاوفه من الأشخاص الذين سيعارضونه، فكتب في الأيام الاُولي من خلافته رسالة إلي حاكم المدينة طلب منه فيها أن يأخذ البيعة له من الحسين بن عليّ(عليه السلام) وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وكان واضحاً من البداية أنّ الحسين(عليه السلام) لن يبايع يزيد، واعتبر ابن الزبير نفسه خليفة، إلاّ أنّ الناس تجاهلوه، ولم يكن لابن عمر أيّ دور في الأوضاع، فلن تحقّق بيعته أو عدمها أيّ ضرر بخلافة يزيد، من هنا فإنّ يزيد لا يخشي إلاّ [ صفحه 53] الحسين بن عليّ(عليه السلام) ويتعجّل أن يتبيّن موقفه. وفي تلك الفترة كان من الطبيعي أن يختار العراق ـ الذي كان يتحيّن الفرص ـ ابن بنت النبيّ(صلي الله عليه وآله) قائداً له ليحقّق أهداف المؤمنين المخلصين والسياسيين المحترفين في آن واحد، باعتباره الشخص الوحيد الذي يمكنه إحياء سنّة النبيّ(صلي الله عليه وآله) والقضاء علي البدع، وأنّه الوحيد القادر علي استقطاب قلوب الناس بشرافة نسبه وجلالة قدره وكرامة نفسه وتقواه، وهو الأشدّ رفضاً للظلم، ولهذا السبب رفض مبايعة يزيد. ومن هنا تشكّلت المجالس وانعقدت الجماعات في الكوفة فكانت النتيجة أن وُجّهت الدعوة إلي الحسين بن عليّ ابن بنت النبيّ(صلي الله عليه وآله) في الحجاز لينتقل إلي العراق، وتضمّنت الدعوة المؤكدة بأنّ أهل الكوفة علي اُهبة الاستعداد لقتال الأمويّين الذين غصبوا الحكم تحت راية الحسين(عليه السلام). وقد بعث الحسين(عليه السلام) ابن عمّه مسلم بن عقيل إلي الكوفة ومعه إجابات الإمام الحسين(عليه السلام) علي رسائل الكوفيين. وقد التف الكوفيّون حول ابن عقيل ورحّبوا به وأكّدوا له مرّةً اُخري استعدادهم لخوض الحرب ضدّ طُغاة الشام تحت قيادة الحسين، فأرسل إلي الحسين(عليه السلام) رسالة أوضح فيها أنّ في الكوفة مئة ألف رجل يتعهّدون بمناصرة الإمام مشدّداً علي ضرورة إسراع الإمام في التحرّك إلي العراق. والمدهش أنّ رسائل بعثت في تلك الأيام من الكوفة إلي الشام تؤكّد ليزيد أنّه إذا أراد الكوفة فإنّ عليه أن يبعث عليها حاكماً مقتدراً، لأنّ حاكمها النعمان بن بشير أظهر ضعفاً في تعاطيه مع الأحداث. [ صفحه 54] وقد تباحث يزيد في هذا الأمر مع مستشاره الرومي السيرجون، الذي أشار عليه بتعيين عبيد الله بن زياد حاكماً علي الكوفة، وبوصول ابن زياد الي الكوفة تخلّي أهلها عن مسلم، وأتاحوا لابن زياد قتله مع مضيّفه هانئ بن عروة، ومن جهة اُخري كان الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وعدد من أنصاره في الطريق إلي العراق، والإمام زين العابدين (عليه السلام) يرافق والده في كل هذه الظروف العصيبة حتي وصلوا العراق [102] .

النص علي إمامة زين العابدين

لقد نصّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) علي إمامة اثني عشر إماماً من أهل بيته الأطهار، وعيّنَهم بذكر أسمائهم وأوصافهم، كما هو المعروف من حديث الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري وغيره عند العامّة والخاصّة [103] . كما نصّ كلّ إمام معصوم علي الإمام الذي يليه قبل استشهاده في مواطن عديدة بما يتناسب مع ظروف عصره، وقد كان النصّ يكتب ويودع عند أحد سرّاً، ويجعل طلبه دليلاً علي الاستحقاق، ونلاحظ تكرّر هذه الظاهرة في حياة أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) بالنسبة لابنه زين العابدين(عليه السلام) تارة في المدينة واُخري في كربلاء قبيل استشهاده. وممّا روي من النصّ علي إمامة ولده(عليه السلام) ما رواه الطوسي، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): أنّ الحسين لمّا خرج الي العراق دفع الي اُمّ سلمة زوجة [ صفحه 55] النبيّ(صلي الله عليه وآله) الوصيّة والكتب وغير ذلك وقال لها: «إذا أتاك أكبر وُلدي فادفعي إليه ما قد دفعتُ إليك». فلما قُتل الحسين(عليه السلام) أتي عليّ بن الحسين(عليه السلام) أُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين(عليه السلام). وفي نصٍّ آخر: أنّه(عليه السلام) جعل طلبها منها علامة علي إمامة الطالب لها من الأنام فَطلبها زين العابدين(عليه السلام) [104] . وروي الكليني عن أبي الجارود عن الإمام الباقر(عليه السلام): أنّ الحسين(عليه السلام) لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبري فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين(عليه السلام) مريضاً لا يرون أنّه يبقي بعده، فلمّا قُتل الحسين(عليه السلام) ورجع أهل بيته الي المدينة دفعت فاطمة الكتاب الي عليّ بن الحسين(عليه السلام) [105] . وسوف نلاحظ في احتجاج الإمام(عليه السلام) مع عمّه محمد بن الحنفيّة أنّه قال له: «إنّ أبي صلوات الله عليه أوصي إليّ قبل أن يتوجّه الي العراق وعهد إليّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة» [106] .

الامام زين العابدين يوم عاشوراء

إنّ أشدّ ما كان يحزّ في نفوس أهل بيت الرسالة ومحبّيهم ما رواه حميد ابن مسلم، وهو شاهد عيان بعد ظهر اليوم العاشر من المحرّم إثر استشهاد [ صفحه 56] الإمام الحسين(عليه السلام) إذ قال: لقد كنت أري المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها من ظهرها حتي تغلب عليه فيُذهب به منها. ثمّ انتهينا إلي عليّ بن الحسين(عليه السلام) وهو منبسط علي فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة، فقالوا له: ألا تقتل هذا العليل؟ فقلت: سبحان الله أيقتل الصبيان؟! إنّما هذا صبيٌ وإنّه لما به، فلم أزل حتي دفعتهم عنه. وجاء عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض... من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهن، فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً [107] . وهكذا شارك الإمام زين العابدين(عليه السلام) أباه الحسين السبط(عليه السلام) في جهاده ضد الطغاة ولكنه لم يرزق الشهادة مع أبيه والأبرار من أهل بيته وأصحابه، فإنّ الله سبحانه كان قد حفظه ليتولّي قيادة الاُمّة بعد أبيه(عليه السلام) ويقوم بالدور المعدّ له لصيانة رسالة جده(صلي الله عليه وآله) من أيدي العتاة العابثين وانتحال الضالّين المبطلين ومن التيارات الوافدة علي حضيرة الإسلام التي أخذت رقعتها بالاتّساع والانتشار السريع. [ صفحه 59]

الامام زين العابدين من كربلاء الي المدينة

الامام زين العابدين بعد ملحمة عاشوراء

اشارة

ذكر المؤرّخون عن شاهد عيان أنّه قال: قدمت الكوفة في المحرّم من سنة احدي وستّين، منصرف عليّ بن الحسين(عليه السلام) بالنسوة من كربلاء ومعه الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر اليهم، فلمّا اُقبل بهم علي الجمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين، ويلتدِمنَ [108] ، فسمعت عليّ بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل وقد نهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلي عنقه: «إنّ هؤلاء النسوة يبكين فمن قتلنا؟!» [109] . وعندما أدخلوا الإمام السجاد(عليه السلام) علي ابن زياد سأله من أنت؟ فقال: «أنا عليّ بن الحسين»، فقال له: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال عليّ(عليه السلام): «قد كان لي أخ يسمّي عليّاً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليّ بن الحسين(عليه السلام): (الله يتوفّي الأنفس حين موتها)، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه [110] . [ صفحه 60] فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: ياابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا اُفارقه فإن قتلته فاقتلني معه، فقال لها عليّ(عليه السلام): اسكتي يا عمّة حتي اُكلّمه، ثمّ أقبل عليه فقال: أبالقتل تهدّدني ياابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟ ثمّ أمر ابن زياد بعلي بن الحسين(عليه السلام) وأهل بيته فحملوا إلي دار بجنب المسجد الأعظم، ولمّا أصبح ابن زياد أمر برأس الحسين(عليه السلام) فطيف به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها، ولمّا فرغ القوم من الطواف به في الكوفة ردّوه إلي باب القصر [111] . ثمّ إنّ ابن زياد نصب الرؤوس كلّها بالكوفة علي الخشب، كما أنّه كان قد نصب رأس مسلم بن عقيل من قبل بالكوفة. وكتب ابن زياد إلي يزيد يخبره بقتل الحسين(عليه السلام) وخبر أهل بيته [112] كما بعث إلي عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة ـ وهو من بني اُمية ـ يخبره بقتل الحسين(عليه السلام). ولمّا وصل كتاب ابن زياد إلي الشام أمره يزيد بحمل رأس الحسين(عليه السلام) ورؤوس من قتل معه إليه، فأمر ابن زياد بنساء الحسين(عليه السلام) وصبيانه فجُهِّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين(عليهما السلام) فغُلّ بغِلٍّ إلي عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرؤوس مع مجفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن، وحملهم علي الأقتاب، وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفار، فانطلقوا بهم حتي لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس، فلم يكلّم عليّ بن الحسين(عليه السلام) أحداً منهم في الطريق بكلمة حتي بلغوا الشام [113] . [ صفحه 61]

سبايا آل البيت في دمشق

خضعت الشام منذ فتحها بأيدي المسلمين لحكّام مثل خالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان، فلم يشاهد الشاميّون النبيّ(صلي الله عليه وآله) ولم يسمعوا حديثه الشريف منه مباشرةً، ولم يطّلعوا علي سيرة أصحابه عن كثب، أمّا النفر القليل من صحابة رسول الله(صلي الله عليه وآله) الذين انتقلوا إلي الشام وأقاموا فيها فلم يكن لهم أثر في الناس، فكانت النتيجة أنّ أهل الشام اعتبروا سلوك معاوية بن أبي سفيان وأصحابه سنّة للمسلمين، ولمّا كانت الشام خاضعة للإمبراطورية الرومية قروناً طويلة، فقد كانت حكومات العصر الإسلاميّ أفضل من سابقاتها بالنسبة للشاميّين. ومن هنا ليس أمراً عجيباً أن نقرأ في كتب التأريخ أنّ شيخاً شامياً دنا من الإمام السجاد(عليه السلام) عند دخول سبايا آل محمّد(صلي الله عليه وآله) الشام وقال له: الحمد الله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم. فقال له الإمام(عليه السلام): يا شيخ أقرأت القرآن؟ فقال الشيخ: بلي. فقال له الإمام(عليه السلام): أقرأت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربي)؟ فقال الشيخ: بلي. فقال له الإمام(عليه السلام): فنحن القربي، يا شيخ! ثمّ قال له: فهل قرأت (وآتِ ذا القربي حقّه)؟ قال: قد قرأت ذلك. قال(عليه السلام): فنحن القربي يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: (واعلموا أنّما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربي)؟ [ صفحه 62] قال: نعم. قال الإمام(عليه السلام): نحن القربي. يا شيخ! هل قرأت (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)؟ قال الشيخ: بلي. قال له الإمام(عليه السلام): نحن أهل البيت الذين اختصّنا الله بآية الطهارة. قال الشيخ: بالله إنّكم هم؟! قال الإمام(عليه السلام): تالله إنّا لنحن هم من غير شكٍّ وحقِّ جدِّنا رسول الله(صلي الله عليه وآله) إنّا لنحن هم. فبكي الشيخ ورمي عمامته، ثمّ رفع رأسه إلي السماء وقال: اللهمّ إنّي أبرأ اليك من عدوّ آل محمّد [114] . وذكر المؤرّخون أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسين(عليه السلام) وقد قُتل الحسين بن عليّ(عليه السلام) استقبله ابراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: يا عليّ بن الحسين، من غلب؟ وهو مغطٍّ رأسه وهو في المحمل، فقال له عليّ بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذّن ثمّ أقم [115] . لقد كان جواب عليّ بن الحسين(عليه السلام) أنّ الصراع إنّما هو علي الأذان وتكبير الله تعالي والإقرار بوحدانيّته وليس علي رئاسة بني هاشم، وأنّ استشهاد الحسين والصفوة من أهل بيته وأصحابه هو سبب بقاء الإسلام المحمّدي وثباته أمام جاهلية بني اُميّة ومن حذا حذوهم ممّن لم يذوقوا حلاوة الإيمان والإسلام. [ صفحه 63]

الامام في مجلس يزيد

اُدخل رأس الحسين(عليه السلام) ونساؤه ومن تخلّف من أهله علي يزيد وهم مقرّنون في الحبال وزين العابدين(عليه السلام) مغلول، فلمّا وقفوا بين يديه علي تلك الحال تمثّل يزيد بشعر حصين بن حمام المرّي قائلاً: نفلِّقُ هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما [116] . فردّ عليه الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) بقوله تعالي: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك علي الله يسير لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلَّ مختال فخور) [117] . وتميّز يزيد غضباً، فتلا قوله تعالي: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) [118] . وينقل المؤرّخون عن فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قولها: فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فأخذت بثياب عمّتي زينب وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون. فقالت عمّتي للشامي: كذبت والله ولؤمت والله، ما ذاك لك ولا له! فغضب يزيد وقال: كذبت إنّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت! قالت: كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها، فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين [ صفحه 64] أبوك وأخوك! قالت: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كُنت مسلماً، قال: كذبتِ يا عدوّة الله! قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحيي وسكت. فعاد الشاميّ فقال: هب لي هذه الجارية، فقال يزيد: اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً [119] . ويبدو أنّ اعتماد يزيد لهجة أقلّ قسوة وشراسة من لهجة ابن زياد في الكوفة يعود إلي أنّ الأخير كان يريد أن يدلّل علي إخلاصه لسيّده، بينما لا يحتاج يزيد ذلك، ولعلّ يزيد أدرك أنّه قد ارتكب خطأً كبيراً في قتله الحسين(عليه السلام) وسبيه أهل بيت النبوّة، من هنا فإنّه أراد تخفيف مشاعر السخط تجاهه. وفي تلك الأيام أوعز يزيد إلي خطيب دمشق أن يصعد المنبر ويبالغ في ذمّ الحسين وأبيه(عليهما السلام) فانبري اليه الإمام زين العابدين(عليه السلام) فصاح به: «ويلك أيّها الخاطب، إشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار». واتّجه الإمام نحو يزيد فقال له: «أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضيً، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب...». وبهت الحاضرون وعجبوا من هذا الفتي العليل الذي ردّ علي الخطيب والأمير وهو أسير، فرفض يزيد إجابته، وألحّ عليه الجالسون بالسماح له فلم يجد بُدّاً من إجابتهم فسمح له، واعتلي الإمام أعواد المنبر، وكان من جملة ما [ صفحه 65] قاله: «أيّها الناس، اُعطينا ستاً، وفُضِّلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأن منّا النبيّ المختار محمّداً(صلي الله عليه وآله) ومنّا الصِّدِّيق ومنّا الطيّار ومنّا أسد الله وأسد الرسول(صلي الله عليه وآله) ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الاُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة». وبعد هذه المقدّمة التعريفية لاُسرته أخذ(عليه السلام) في بيان فضائلهم، قائلاً: «فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكّة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدي، أنا ابن خير من انتعل واحتفي، أنا ابن خير من طاف وسعي، أنا ابن خير من حجّ ولبّي، أنا ابن من حُمل علي البراق في الهواء، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، فسبحان من أسري، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلّي فكان قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلّي بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي اليه الجليل ما أوحي، أنا ابن محمّد المصطفي، أنا ابن عليّ المرتضي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا: لا إله إلاّ الله. أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله(صلي الله عليه وآله) بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقاطع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين. أنا ابن المؤيّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشي من قريش أجمعين، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم [ صفحه 66] المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله، وبستان حكمة الله،... ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب. أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول(صلي الله عليه وآله)، أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكي عليه الجنّ في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء». ولم يزل الإمام يقول: أنا أنا حتي ضجّ الناس بالبكاء، وخشي يزيد من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه، فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فكرياً إذ عرّف الإمام نفسه لأهل الشام وأحاطهم علماً بما كانوا يجهلون. فأوعز يزيد إلي المؤذّن أن يؤذّن ليقطع علي الإمام كلامه، فصاح المؤذن «الله أكبر» فالتفت إليه الامام فقال له: «كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله»، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمام(عليه السلام): «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي»، ولمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله التفت الإمام إلي يزيد فقال له: «يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنـّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت: أنـّه جدّي فلمَ قتلت عترته [120] »؟! ووجم يزيد ولم يجر جواباً، فإنّ الرسول العظيم(صلي الله عليه وآله) هو جدّ سيّد العابدين، وأمّا جدّ يزيد فهوأبو سفيان العدوّ الأوّل للنبيّ(صلي الله عليه وآله)، وتبيّن لأهل الشام أنّهم غارقون في الإثم، وأنّ الحكم الاُمويّ قد جهد في إغوائهم وإضلالهم، وتبيّن بوضوح أنّ الحقد الشخصيّ وغياب النضج السياسيّ هما السببان لعدم [ صفحه 67] إدراك يزيد عمق ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ممّا أدّي إلي توهّمه بأنّها لن تؤدّيَ إلي نتائج خطيرة علي حكمه. ولعلّ أكبر شاهد علي هذا التوهّم هو رسالة يزيد في بدايات تسلّمه الحكم لواليه علي المدينة والتي أمره فيها بأخذ البيعة من الحسين(عليه السلام) أو قتله وبعث رأسه إلي دمشق إن رفض البيعة. وفي سياق الحديث عن حسابات يزيد الخاطئة نُشير أيضاً إلي عملية نقل أسري أهل البيت(عليهم السلام) إلي الكوفة، ومن ثمّ إلي الشام، وما تخلّل ذلك من ممارسات إرهابية عكست نزعته الإجرامية، ولم يلتفت يزيد إلي خطورة الجريمة التي ارتكبها إلاّ بعد أن تدفّقت عليه التقارير التي تتحدّث عن ردود الفعل والاحتجاجات علي قتله ريحانة رسول الله(صلي الله عليه وآله)، ولذلك حاول أن يلقي مسؤولية الجريمة البشعة علي ابن مرجانة، قائلاً للإمام السجاد(عليه السلام): لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكن الله قضي الله ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنْهِ كلًّ حاجة تكون لك [121] . والتقي الإمام السجاد(عليه السلام) خلال وجوده في الشام بالمنهال بن عمرو، فبادره قائلاً: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ فرمقه الإمام بطرفه وقال له: «أمسينا كمَثَل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، أمست العرب تفتخر علي العجم بأنّ محمّداً منها، وأمست قريش تفتخر علي سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيته مقتولين مشرّدين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون» [122] . [ صفحه 68] وعهد يزيد إلي النعمان بن بشير أن يصاحب ودائع رسول الله(صلي الله عليه وآله) وعقائل الرسالة فيردَّهنّ إلي يثرب [123] وأمر بإخراجهنّ ليلاً خوفاً من الفتنة واضطراب الأوضاع [124] . [ صفحه 69]

الامام زين العابدين في المدينة

اشاره

بدأت ردود الفعل علي مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) بالظهور مع دخول سبايا أهل البيت(عليهم السلام) إلي الكوفة. فبالرغم من القمع والإرهاب اللذين مارسهما ابن زياد مع كلّ من كان يبدي أدني معارضة ليزيد، فإنّ أصواتاً بدأت ترتفع محتجّةً علي الظلم السائد. فعندما صعد ابن زياد المنبر وأثني علي يزيد وحزبه وأساء إلي الحسين(عليه السلام) وأهل بيت الرسالة «قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وقال له: يا عدوّ الله إنّ الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه يابن مرجانة، تقتل أولاد النبيّين وتقوم علي المنبر مقام الصدّيقين؟! فقال ابن زياد: عليّ به، فأخذته الجلاوزة فنادي بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمائة فانتزعوه من الجلاوزة، فلمّا كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه وصلبه» [125] ، ومع أنّ هذه المواجهة انتهت لصالح ابن زياد لكنّها كانت مقدّمة لاعتراضات اُخري. وظهرت في الشام أيضاً بوادر السخط والاستياء، الأمر الذي جعل يزيد ينحو باللائمة في قتل الحسين(عليه السلام) علي ابن زياد، إلاّ أنّ أشدّ ردود الفعل كانت تلك التي برزت في الحجاز، فقد انتقل عبد الله بن الزبير إلي مكة في الأيّام الاُولي من حكومة يزيد، واتّخذها قاعدة لمعارضته للشام، وقام بتوظيف [ صفحه 70] فاجعة كربلاء للتنديد بنظام يزيد، وألقي خطاباً وصف فيه العراقيّين بعدم الوفاء، وأثني علي الحسين بن عليّ(عليه السلام) ووصفه بالتقوي والعبادة. وفي المدينة ألقي الإمام زين العابدين(عليه السلام) خطاباً في أهلها لدي عودته من الشام والعراق، يقول المؤرّخون: إنّ الإمام(عليه السلام) جمع الناس خارج المدينة قبل دخوله اليها، وخطب فيهم قائلاً: «الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلي، وقَرُب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة. أيّها القوم، إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة. أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن مِن أجله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انْهمالِها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون. يا أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟! أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأ نّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق. والله، لو أنّ النبيّ تقدّم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها [ صفحه 71] وأفظعها وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام» [126] . لقد جسّد هذا الخطاب ـ علي قصره ـ واقعة كربلاء علي حقيقتها مركّزاً علي المظلومية التي لحقت بأهل البيت(عليهم السلام) في قتل الحسين بن عليّ(عليه السلام) من جانب، وأسرِ أهل بيته من جانب آخر، بالإضافة إلي المظلومية التي لحقتهم بعد واقعة الطفّ، إذ حملت رؤوس الشهداء بما فيهم سيّدهم الحسين(عليه السلام) فوق الأسنّة من بلد إلي بلد. وعقّب الإمام زين العابدين(عليه السلام) ـ بلمحة سريعة ومعبّرة ومؤثّرة ـ واصفاً ما لقيه آل البيت من السبي والتشريد والتعامل السيّء والمهين، وهم أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة، وهم قادة أهل الإيمان وأبواب الخير والرحمة والهداية. وأنهي الإمام خطابه بوصف في منتهي الدقّة عن عظمة الجرائم التي ارتكبها جيش السلطة الاُموية في حقّ أهل البيت(عليهم السلام)، فإن الرسول(صلي الله عليه وآله) لو كان يأمر هؤلاء بالتمثيل بأهل البيت وتعذيبهم؛ لما كانوا يزيدون علي ما فعلوا، فكيف بهم وقد نهاهم عن التمثيل حتي بالكلب العقور؟! وكيف يمكن توجيه كلّ ما فعلوه وقد أوصاهم النبيّ(صلي الله عليه وآله) بحفظه في عترته، ولم يطالبهم بأجر للرسالة سوي المودّة في قرباه؟! فالإمام زين العابدين(عليه السلام) حاول في خطابه هذا تكريس مظلومية أهل البيت لاستنهاض الروح الثورية في أهل المدينة، وتحريك الوعي النهضوي ضدّ الظلم والجبروت الاُموي والطغيان السفياني. ولم تكن الأوضاع هادئة في المدينة في هذه السنة التي كانت تحت [ صفحه 72] إدارة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأوضح شاهد علي اضطراب الأوضاع في المدينة هو استبدال ثلاثة ولاة خلال عامين، واستبدل يزيد الوليد بن عتبة بعثمان بن محمد بن أبي سفيان [127] . وأراد عثمان أن يدلّل علي كفاءته في إدارة المدينة ويكسب رضا وجوهها عن يزيد وعنه فأرسل وفداً من أبناء المهاجرين والأنصار إلي دمشق، ليشاهدوا الخليفة الشابّ عن كثب وينالوا نصيبهم من هداياه، إلاّ أن الوفد رأي في سلوك يزيد ما يشين ويقبح. ولما رجعوا إلي المدينة أظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القِيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه. وقال عبد الله بن حنظلة: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّي به. فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل علي خلع يزيد وولّوه عليهم [128] .

ثورة أهل المدينة

إنّ نقد الوفد المدني ليزيد لم يكن هو الدليل الوحيد عند أهل المدينة علي انحراف يزيد وتنكّره للإسلام وجوره وطغيانه، بل إنّهم كانوا قد لمسوا جور يزيد وعمّاله علي البلدان الإسلامية وفسقهم وشدّة بطشهم واستهتارهم [ صفحه 73] بالحرمات الإلهية التي لا مجال لتأويلها، إذ كيف يمكن تأويل ما ارتكبه من القتل الفظيع في حقّ الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنة وما اقترفه من السبي لأهله وحُرَمه؟ وكيف يمكن تأويل ما أظهره من شربه للخمور التي حرّمها الله بالنصّ الصريح؟! هذا، فضلاً عن حقد الاُمويين علي الأنصار، والذي لم يتردّد الاُمويّون في إظهاره لهم، ومن هنا لم يتلكّأ أهل المدينة في اخراج عامل يزيد عليها، فحاصروا بني اُمية وأتباعهم، وكلّم مروان بن الحكم ـ وهو العدوّ اللدود لآل الرسول (صلي الله عليه وآله) ـ الإمام زين العابدين(عليه السلام) في منح الأمان له، فاستجاب الإمام (عليه السلام) لهذا الطلب تكرّماً [129] وإغضاءً عن كلّ ما ارتكبه هذا العدوّ في حقّ أهل البيت(عليهم السلام)، في دفن الإمام الحسن(عليه السلام) وفي الضغط علي الإمام الحسين(عليه السلام) من أجل أخذ البيعة ليزيد. ولمّا بلغ أمر الثورة إلي مسامع يزيد أرسل مسلم بن عقبة ليقضي علي ثورة أهل المدينة ـ وهي مدينة رسول الله(صلي الله عليه وآله) ومهبط وحي الله ـ وزوّده بتعليمات خاصّة تجاههم قائلاً له: اُدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأبحها ـ أي المدينة ـ ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند [130] وأمرهُ أن يُجهِز علي جريحهم ويقتل مدبرهم [131] . وصل جيش يزيد إلي المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها استبسل فيه الثائرون دفاعاً عن دينهم، واستشهد أغلب المدافعين بمن فيهم عبد الله بن [ صفحه 74] حنظلة ومجموعة من صحابة رسول الله(صلي الله عليه وآله) ونفّذ قائد الجيش أوامر سيّده يزيد، وأوعز إلي جنوده باستباحة المدينة، فهجم الجند علي البيوت وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، كما أسروا آخرين. قال المؤرّخ ابن كثير: أباح مسلم بن عقبة ـ الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الاُساري، فقال: عجّلوه لها، فضرب عنقه، وقال: اُعطوها رأسه، ووقعوا علي النساء حتي قيل: إنّه حبلت ألف أمرأة في تلك الأيام من غير زوج. قال المدائني، عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنّه قال: كان القتلي يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممّن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف [132] . وحدث مرةً أن دخلت الجيوش الشامية أحد البيوت، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه، فقالت: إنّه ليس لديها مال، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط [133] . ثمّ نصب كرسيّ لمسلم بن عقبة، وجيء بالاُساري من أهل المدينة فكان يطلب من كلّ واحد منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبد مملوك ليزيد بن [ صفحه 75] معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء [134] . وكلّ من كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ علي القول بأنّه عبدٌ لله ـ سبحانه وتعالي ـ كان مصيره القتل [135] . وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته اُمّ سلمة زوج رسول الله(صلي الله عليه وآله) ـ مع محمد بن حذيفة العدوي، فطلب اليهما أن يبايعا، فقالا: نحن نبايع علي كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال مسلم: لا والله لا اُقيلكم هذا أبداً، فقدّمهما فضرب أعناقهما. فقال مروان بن الحكم ـ وكان حاضراً ـ: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما؟! فنخس مسلم مروان بالقضيب في خاصرته، ثمّ قال له: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلاّ برقة. (أي لقُتِلْتَ) [136] . ثمّ جيء بآخر فقال: إنّي اُبايع علي سنّة عمر، فقال: اقتلوه، فقتل [137] . واُتي بزين العابدين(عليه السلام) إلي مسلم بن عقبة، وهو مغتاظ عليه فتبرّأ منه ومن آبائه. فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلي جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلي السيف إلاّ شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه. [ صفحه 76] فقيل لعليّ بن الحسين(عليه السلام): رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟ قال: «قلت: اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه». قيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا اُتي به إليك رفعت منزلته؟ فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً، ولم يبايع الإمام(عليه السلام) ليزيد كما لم يبايع عليّ بن عبد الله بن العباس، حيث امتنع بأخواله من كندة، فالحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة قال: لا يبايع ابن اختنا إلاّ كبيعة علي بن الحسين [138] . وذكر المؤرّخون: أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتي خروج جيش مسلم من المدينة [139] . وجاء الحديث من غير وجه: أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلي عليّ بن الحسين(عليهما السلام) فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك... [140] . وواضح أنّ البيعة إذا ما عرضت بشرطها الاستعبادي علي الإمام(عليه السلام) فإنّه سيستمرّ علي نهجه الرافض، وأنّ معني الرفض هنا إنّه يتضرّج بدمائه الزكية، وهذا يعني دخول صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات [ صفحه 77] الاُموية القمعية التي سوف تزلزل أعمدة الكيان الحاكم. وبعد انتهاء الأيام الدامية علي مدينة الرسول(صلي الله عليه وآله) قال مسلم بن عقبة: اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجي عندي في الآخرة [141] . كان مسلم في تلك الأيام قد تجاوز التسعين من عمره، أي انّه كان قريباً جداً من حتفه وقد هلك بُعيد وقعة الحرّة وقبل أن يصل إلي مكة، وكان من الذين لم يحملوا من الإسلام إلاّ اسمه، ووظّفوا ظاهر القرآن والحديث لتسويغ جرائمهم، فقد كان من المخلصين لمعاوية بن أبي سفيان، وفي صفّين كان يقود معسكر معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الشرعي للمسلمين، ألا وهو الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام) [142] . ولعلّه لم يسمع حديث الرسول(صلي الله عليه وآله) الذي جاء فيه: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» [143] . ولعلّه قد سمع هذا الحديث، لكنّه لمّا وجد من يعتبر نفسه خليفة للنبيّ(صلي الله عليه وآله) قد تجرّأ علي قتل ابن بنت النبيّ(صلي الله عليه وآله) وسبي بناته من مدينة إلي اُخري، دون أن يعترض عليه أحد، فمِمّ يخشي هو إن اعتدي علي مدينة النبيّ(صلي الله عليه وآله)؟! وبعد أن قمع بوحشيّة ثورة أهل المدينة وأجهض انتفاضتهم؛ توجّه مسلم إلي مكة التي أعلن فيها عبد الله بن الزبير ثورته علي الحكم الاُموي، [ صفحه 78] لكنّه لقي حتفه في الطريق، فتسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الاُموي بناءً علي أوامر يزيد، وعندما وصل أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها [144] . وفي الوقت الذي كانت فيه مكّة تحت حصار الجيش الاُموي لقي يزيد حتفه، فعقد قائد الجيش الاُموي ـ الذي لم يكن وقتذاك يعرف زعيمه الذي يقاتل معه ـ مفاوضات مع ابن الزبير أعرب له فيها عن استعداده لقبول بيعته شريطة أن يرافقه إلي الشام، إلاّ أنّ ابن الزبير رفض الشرط، فعاد الحصين وجيشه إلي الشام.

انشقاق البيت الاموي

مات يزيد في ربيع الأول من سنة (64 هـ) وهو في سنّ الثامنة والثلاثين من عمره في حُوّارين، وكانت صحيفة أعماله في مدّة حكمه ـ الذي استمر ثلاث سنوات وبضعة أشهر ـ مُسودّة بقتل ابن بنت النبيّ وأسر أهل بيت الوحي وحرائرالرسالة إلي جانب القتل الجماعي لأهل المدينة وهدم الكعبة المشرّفة. وبعد موت يزيد بايع أهل الشام ولده معاوية، إلاّ أنّ حكمه لم يستمر أكثر من أربعين يوماً، إذ أعلن تنازله عن العرش، ومات بعدها في ظروف غامضة، فانشقّت القيادات المؤيّدة لبني اُمية علي نفسها إلي كتلتين: كتلة أيّدت زعامة مروان بن الحكم، وقد مثّل هذا الاتجاه القبائل اليمانية بقيادة حسّان الكلبي، بينما أيّدت قوي القيسيّين بقيادة الضحّاك بن قيس الفهري، [ صفحه 79] عبد الله بن الزبير. وإبّان خلافة يزيد القصيرة امتدّت؛ أيدي الكلبييّن تدريجياً إلي مراكز السلطة، فمارسوا ضغوطاً شديدة علي القيسييّن،الأمر الذي أزعج الضحّاك كثيراً فانتهز الفرصة بعد موت يزيد ليبايع ابن الزبير ـ وهو من العرب العدنانية ـ واشتبك الكلبيّون والقيسيّون في «مرج راهط» [145] في معركة أسفرت عن انتصار الكلبيّين، فأصبح مروان بن الحكم خليفة، واستقرّت الأوضاع المضطربة في الشام نسبيّاً.

تزايد المعارضة للحكم الاموي

صعّد عبد الله بن الزبير معارضته للشام التي بدأها بعد موت معاوية، حيث كان قد دعا الحجازييّن لمبايعته كخليفة للمسلمين، فاستجابت له الأكثرية الساحقة منهم، وشهد العراق من جديد تحرّكات ضد الحكم الاُموي. ويبدو أنّ الذين دعو الإمام الحسين(عليه السلام) إلي العراق عبر الرسائل المتوالية ورحّبوا بممثّله اليهم ثمّ تخلّوا عنه وعن الحسين(عليه السلام) بتلك الصورة المخزية ندموا علي موقفهم المُذلّ ذاك، لكن هل الذين تحرّكوا ضدّ الشام كانوا نادمين جميعاً؟ الجواب: كلاّ، فليس جميع الذين تحركوا بعد موت يزيد كانوا يحملون همّ الإسلام، فقد كان هناك من يريد إخضاع الشام للعراق وإعادة عاصمة الخلافة إلي العراق. وعلي أيّ حال، فقد أعلن المتديّنون والسياسيّون معارضتهم ضد حكم [ صفحه 80] الشام، لكنّهم لم يحققوا شيئاً يذكر [146] علي صعيد إسقاط الحكم علي المدي القريب، فقتل سليمان بن صرد قائد التوّابين، ورجع من بقي من جيشه إلي الكوفة، وفي تلك الغضون أظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي دعوته حاملاً شعار يا لثارات الحسين (عليه السلام). بدأ المختار بإعداد الشيعة للثورة بعد فشل ثورة التوّابين، وكان يعرف جيداً أنّ أيّ تحرّك شيعي يقتضي زعامة من أهل بيت الرسالة(عليهما السلام)، وأنّ الانطلاق ينبغي أن يتمّ باسمهم ومَن أفضل من عليّ بن الحسين(عليه السلام)؟ وإن رفض الإمام الاستجابة لذلك فليس أمامه غير محمد بن علي بن أبي طالب وهو عمّ الإمام السجاد(عليه السلام). من هنا كاتب المختار الإمام زين العابدين(عليه السلام) وعمّه معاً، أمّا الإمام(عليه السلام) ـ فلم يعلن عن تأييده الصريح له، لكنّه(عليه السلام) أمضي عمله عندما ثأر من قتلة أبيه الحسين(عليه السلام). أمّا عمه محمد بن الحنفيّة فقد أجاب علي سؤال الوفد الذي جاء من الكوفة ليستفسر عن مدي شرعية الانضواء تحت راية المختار قائلاً: أما ما ذكرتم من دعاء مَن دعاكم الي الطلب بدمائنا فوالله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه [147] . وفهم الوفد تأييد ابن الحنفية لحركة المختار وهكذا استطاع المختار أن يستقطب كبار الشيعة مثل ابراهيم بن مالك الأشتر وغيره. [ صفحه 81] وأرسل المختار رأسَيْ عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد إلي الإمام فسجد(عليه السلام) شكراً لله تعالي وقال: «الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزي الله المختار خيراً» [148] . وقال اليعقوبي: ووجّه المختار بالرأس الخبيث (أي: رأس ابن زياد) إلي الإمام عليّ بن الحسين، وعهد إلي رسوله بأن يضع الرأس بين يدي الإمام وقت ما يوضع الطعام علي الخوان بعد الفراغ من صلاة الظهر، وجاء الرسول إلي باب الإمام، وقد دخل الناس لتناول الطعام، فرفع الرجل عقيرته ونادي: يا أهل بيت النبوّة! ومعدن الرسالة،ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومعي رأس عبيد الله بن زياد... ولم تبق علوية في دور بني هاشم إلاّ صرخت [149] ، ويقول المؤرّخون: إنّ الامام زين العابدين(عليه السلام) لم يُرَ ضاحكاً منذ أن استشهد أبوه إلاّ في اليوم الذي رأي فيه رأس ابن مرجانة [150] . وعن بعض المؤرّخين: أنّه لمّا رأي الإمام رأس الطاغية قال: «سبحان الله، ما اغتّر بالدنيا إلاّ من ليس لله في عنقه نعمة، لقد اُدخل رأس أبي عبد الله علي ابن زياد وهو يتغدّي» [151] .

سنوات المحن والاضطرابات

كانت الفترة الممتدّة بين عامي (66 و 75 هـ) بالنسبة للشام والحجاز [ صفحه 82] والعراق فترة محن واضطرابات، فلم يتحقّق في هذه المناطق الهدوء والأمن. وشهد الحجاز هجوم قوات عبد الملك علي مكة ومقتل عبد الله بن الزبير، إلاّ أنّ نصيب العراق من الاضطرابات كان أكبر من المنطقتين السابقتين. ويمكن القول بجرأة أنّ ما لحق بأهل العراق كان هو النتيجة الطبيعية لدعاء سبط الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) عليهم، إذ رفع الإمام الحسين(عليه السلام) يده بالدّعاء في كربلاء وقال: «اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا...» [152] . وانتقم الله تعالي من أهل العراق الذين كذّبوا الحسين بن عليّ (عليه السلام) وخذلوه بواسطة رجل ارهابي مستبد هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان «لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب امور لا يقدر عليها غيره» [153] . واتّخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حرٍّ ولا برد، وكان يعذّب المساجين بأقسي ألوان العذاب وأشدّه، فكان يشدّ علي يد السجين القصب الفارسي المشقوق، ويجر عليه حتي يسيل دمه. يقول المؤرّخون: إنّه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهنّ ستّ عشرة ألف مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد [154] واُحصي في سجنه ثلاثة وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَين ولا تبعة [155] ، وكان يمرّ علي أهل السجن فيقول لهم: إخسأوا فيها ولا [ صفحه 83] تكلِّمون [156] . وقد كان يسخر من المسلمين الذين يزورون قبر النبيّ(صلي الله عليه وآله) ويقول: تباً لهم، إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله [157] . وعهد عبد الملك بن مروان بالملك من بعده إلي ولده الوليد، وأوصاه بالإرهابي الحجّاج خيراً، وقال له: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك علي من ناواك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناسَ إذا متُّ إلي البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا... [158] . ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتي الساعات الأخيرة من حياته، إذ لم يبق بعدها إلاّ لحظات حتي وافته المنيّة، وكانت وفاته في شوال سنة (86 هـ) [159] وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته [160] . [ صفحه 85]

استشهاد الإمام زين العابدين

وتقلّد الوليد أزمّة الملك بعد أبيه عبدالملك بن مروان، وقد وصفه المسعودي بأنّه كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً [161] ، حتّي طعن عمر بن عبد العزيز الاُموي في حكومته، فقال فيه: إنّه ممن امتلأت الأرض به جوراً [162] . وفي عهد هذا الطاغية الجبّار استشهد العالم الإسلامي الكبير سعيد بن جبير علي يد الحجّاج بن يوسف الثقفي أعتي عامل اُموي. وقد كان الوليد من أحقد الناس علي الإمام زين العابدين(عليه السلام) لأنّه كان يري أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان مع وجود الإمام زين العابدين(عليه السلام). فقد كان الإمام(عليه السلام) يتمتّع بشعبية كبيرة، حتّي تحدّث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه وفقهه وعبادته، وعجّت الأندية بالتحدّث عن صبره وسائر ملكاته، واحتلّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظي برؤيته، ويتشرّف بمقابلته والاستماع إلي حديثه، وقد شقّ علي الاُمويين عامّة هذا الموقع المتميّز للإمام(عليه السلام) وأقضّ مضاجعهم، وكان من [ صفحه 86] أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك [163] الذي كان يحلم بحكومة المسلمين وخلافة الرسول(صلي الله عليه وآله). وروي الزهري: عن الوليد أنّه قال: لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا [164] . فأجمع رأيه علي اغتيال الإمام زين العابدين(عليه السلام) حينما آل اليه الملك، فبعث سمّاً قاتلاً إلي عامله علي يثرب، وأمره أن يدسّه للإمام(عليه السلام) [165] ونفّذ عامله ذلك، فسَمَتْ روح الإمام العظيمة إلي خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوي. وقام الإمام أبو جعفر محمد الباقر(عليه السلام) بتجهيز جثمان أبيه، وبعد تشييع حافل لم تشهد يثرب نظيراً له؛ وجيء بجثمانه الطاهر إلي بقيع الفرقد، فحفروا قبراً بجوار قبر عمّه الزكيّ الإمام الحسن المجتبي(عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (صلي الله عليه وآله) ـ وأنزل الإمام الباقر(عليه السلام) جثمان أبيه زين العابدين وسيّد الساجدين(عليه السلام) فواراه في مقرّه الأخير. فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً [ صفحه 89]

نظرة عامة في مسيرة أهل البيت الرسالية

للوصول إلي التصور الصحيح عن المسيرة الرساليّة لأهل البيت(عليهم السلام) الرسالية لابدّ أن نجيب علي الأسئلة التالية: 1 ـ ما هي الرسالة الإسلامية؟ 2 ـ وما هي الأخطار التي كانت تواجهها؟ 3 ـ وما هي التحصينات التي كان ينبغي اتّخاذها ضد تلك الأخطار. وقبل الإجابة نقول: هناك نظرتان أساسيتان للكون ولموقف الإنسان منه. النظرة الاولي: أن الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة. والإنسان في الكون هو الأمين والخليفة لا الأصيل والمتحكم؛ لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود بما فيها نفس الإنسان. والإنسان إنّما يقوم بأعباء الخلافة والأمانة. وهذه الخلافة والأمانة تستبطن ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير. والأمين لابد له أن يطبّق علي الأمانة التي استؤمن عليها قرارات المالك. فلابد للإنسان إذن أن يكون رهن أوامر ذلك المليك القدير. [ صفحه 90] والجزء الآخر لهذه النظرية الأساسية: أن المسؤولية تستبطن الحساب والثواب والعقاب. وهما يستبطنان وجود عالم آخر وراء هذا العالم لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة. وحينئذ لا يكون الإنسان قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، وعلي مستوي أهداف كبيرة لا يستطيع هو أن يستنزفها؛ إذ تكون أوسع من عمر الإنسان في هذه الدنيا. وإذا أصبحت البشرية علي مستوي الأهداف الكبيرة ـ لأنها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها إلي أكثر من حدود هذه الدنيا الفانية ـ حينئذ تستطيع أن تقوم بأعباء تلك الأهداف الكبيرة. والحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية بكلّ شُعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية إلي تجسيد كامل للعلاقة مع الله سبحانه وتعالي في تفاعل الإنسان في كلّ مجالاته الحيوية والكونية. والنظرة الثانية: هي أن يري الإنسان نفسه أصيلاً في هذا الكون، وأن هذا الكون غير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار. وحينما تتركز في نظره هذه الأصالة وهذا الاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية بقي عليه هو أن يتحمل المسؤولية بنفسه. فهو بدلاً من أن يشعر بأنه مسؤول ومراقب أمام جهة عُليا تضعه أمام أهداف كبري في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، هو يصنع لنفسه المسؤولية. وحينما يتحمّل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، أي تمام المحتوي الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وانحراف. وحينما يريد الإنسان أن يحدد لنفسه مسؤولياته؛ فإنّما يحددّها علي ضوء أهدافه التي سوف يحددها علي ضوء ما يراه من الطريق الذي يريد سلوكه. [ صفحه 91] وحيث ان طريقه محدود في نطاق المادة فسوف تكون الأهداف علي مستوي الطريق المحدود... وحينئذ سوف يخسر القيم الأخلاقية ويتولد عن ذلك ـ طبعاً ـ ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية. وجاء الإسلام لِيربي الإنسان علي النظرية الاولي بحيث تصبح جزءً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه وفكره وعواطفه وتنعكس علي كل مجالات تصرفه وسلوكه مع الله سبحانه وتعالي ومع نفسه ومع الآخرين. ولا بدّ للإسلام حينئذ أن يهيمن علي هذا الإنسان، وعلي كل طاقاته وعلاقاته ليستطيع أن يربيه؛ وكلما كانت الهيمنة أوسع نطاقاً كانت التربية أكثر نجاحاً. فإنّ الأب قد لا ينجح في تربية ابنه لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته؛ لأن هذا الابن هو ابنه وابن المجتمع أيضاً مادام يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات، وقد يقيم معه علاقات في الحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع أيضاً. ومن الطبيعي أن يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد. اذن فالتربية الكاملة لا تتحقق إلاّ إذا هيمن المربي علي الإنسان هيمنة كاملة، علي كل علاقاته الاجتماعية مع غيره بحيث يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، فيصير شخص واحد هو الأب وهو المجتمع. وحينئذ يصبح هذا مربّياً كاملاً. وهذا ما صنعه رسول الله(صلي الله عليه وآله) حين هيمن علي العلاقات الاجتماعية لأنه تزعّم المجتمع بنفسه، فأنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه ووقف يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الاطار الاجتماعي: علاقة الإنسان مع نفسه وعلاقته مع ربّه وعلاقته مع عائلته وعلاقته مع بقية أبناء مجتمعه. ولهذا [ صفحه 92] صارت كل هذه الأمور تحت هيمنته وبهذا استكمل الشرط الأساسي للتربية الناجحة [166] . وبالرغم من أن النبي(صلي الله عليه وآله) قد مارس عملية التغيير الشاملة للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه، لكن الطريق لم يكن قصيراً أمام عملية التغيير الشاملة هذه، بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام، فكان علي النبي(صلي الله عليه وآله) أن يبدأ بإنسان الجاهلية فتنشئه إنشاءاً جديداً ويجعل منه الإنسان الإسلامي الذي يحمل النور الجديد ويجتثّ منه كلّ جذور الجاهلية ورواسبها. وقد خطا الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله) بعملية التغيير هذه خطوات مدهشة في برهة قصيرة جدّاً [167] حتّي وأنتجت التربية النبوية انتاجاً عظيماً وحققت تحوّلاً فريداً. ولكن الاُمّة الإسلامية ـ ككل ـ لم تكن قد عاشت في ظل عملية التغيير هذه إلاّ عقداً واحداً من الزمن علي أكثر تقدير، وهذا الزمن لا يكفي عادةً في منطق الرسالات العقائدية والدعوات التغييرية ليرتفع الجيل الذي عاش في كنف الرسالة عشر سنوات فقط إلي درجة من الوعي والموضوعية والتّحرر من رواسب الماضي والاستيعاب لمعطيات الرسالة الجديدة استيعاباً يؤهله للقيمومة علي الخط الرسالي وتحمّل مسؤوليات الدعوة الي الله تعالي علي بصيرة تامّة ومواصلة عملية التغيير الشاملة بدون قائد رساليّ. بل ان منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمرّ الاُمّة بوصاية عقائدية فترة أطول من الزمن تهيؤها للارتفاع إلي مستوي تلك القيمومة [168] . [ صفحه 93] وباعتبار أن الاسلام كان يريد تحقيق أهدافه كاملة كان ينبغي أن يستمر تطبيقه علي يد الرسول(صلي الله عليه وآله) نفسه فيمتدّ به العمر حتي يستكمل كلّ الشروط اللازمة للتربية الشاملة في فترة زمنية كافية أو يوكل أمر تطبيق الإسلام إلي من يخلفه من القادة الأكفاء الذين بلغوا درجة العصمة في مستواهم العقائدي والفكري والعملي ليصونوا أمر التربية من أي انحراف أو انهيار. اذن منطق العمل التغييري علي مسار التاريخ كان يفرض علي النبي(صلي الله عليه وآله) أن يصون تجربته من أيّ ضعف أو اندحار، وذلك من خلال استمرار الوصاية علي التجربة الانقلابية الجديدة وهكذا كان فقد تمثّلت مهمّة صيانته للتجربة الفتيّة في أهل بيته المعصومين(عليهم السلام) الذين أعدّهم بنفسه إعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً ليكونوا قادرين علي مواصلة عملية التغيير الشاملة بالشكل المطلوب، والمنسجم مع أهداف الرسالة الكبري.

الاخطار التي كان يواجهها الإسلام

لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّدْ فكرياً من خلال الممارسة والتطبيق وتتبلور مفاهيمه عبر التجربة المخلصة، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة التي تتطلبها التجربة، فلا بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلي استلهام مسبّقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلي نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة من رسالات السماء التي يجب أن تمتد مع الزمن وتتعدي كل الحدود الوقتية والاقليمية والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته ـ التي تشكل الأساس لكلّ ذلك الإمتداد ـ تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من [ صفحه 94] الزمن حتي تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار [169] . وقد برهنت الأحداث بعد وفاة الرسول(صلي الله عليه وآله) علي هذه الحقيقة وتجلّت بعد نصف قرن أو أقلّ من خلال ممارسة جيل المهاجرين الذين لم يُرَشَّحوا من قبل الرسول(صلي الله عليه وآله) لإمامة الدعوة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة عليها. ولم يمض ربع قرن حتي بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامي فاستطاعوا أن يتسلّلوا إلي مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج ويشغلوا القيادة غير الواعية ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الاُمّة وجيلها الطليعي الرائد علي التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحولت الزعامة إلي ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدرات الناس وأصبح الفييء والسواد بستاناً لقريش، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية [170] .

مضاعفات الانحراف في القيادة الإسلامية

وهكذا واجه الإسلام بعد النبي(صلي الله عليه وآله) انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها النبي(صلي الله عليه وآله) للمجتمع الإسلامي والاُمّة الإسلامية. وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمّة في الدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الاشياء من المفروض أن يتسع ليتعمق بالتدريج علي مرّ الزمن؛ اذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة، وكلما تحققت مرحلة من الانحراف؛ مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب. فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلي خط منحن طوال [ صفحه 95] عملية تاريخية زمنية طويلة المدي يصل به إلي الهاوية فتمر التجربة الإسلامية للمجتمع والدولة لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ومن كل صوب، وتصبح عاجزة عن مواكبة الحدّ الأدني من حاجات الاُمّة ومصالحها الإسلاميّة والإنسانيّة. وحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة بعد مدي من الزمن لانهيار كامل. إذن الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية لقيادة المجتمع كان من المفروض أن تتعرض كلّها للانهيار الكامل؛ لأن هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية؛ تصبح عاجزة عن حماية نفسها؛ لأن التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار علي مسرح التاريخ، كما أن الاُمّة ليست علي مستوي حمايتها؛ لأن الاُمّة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو اليها فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدي من الزمن كنتيجة نهائية حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها.

مضاعفات انهيار الدولة الإسلامية

ومعني انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلي عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصي الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للاُمّة، لكن الاُمّة تبقي طبعاً، حين تفشل تجربة المجتمع والدولة، لكنها سوف تنهار أمام أول غزو يغزوها، كما انهارت أمام الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية. وهذا الانهيار يعني: أن الدولة والتجربة قد سقطت وأن الاُمّة بقيت، [ صفحه 96] لكن هذه الاُمّة أيضاً بحسب تسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار كاُمّة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه؛ لأن هذه الاُمّة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله) زعامة التجربة وبعده عاشت الاُمّة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي يحملها الغازي إلي بلاد الإسلام. ولم تجد هذه الاُمّة نفسها قادرة علي تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما اُهينت كرامتها وحُطِّمتْ ارادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد اخضاعها لزعامتها القسريّة. إن هذه الاُمّة من الطبيعي أن تنهار بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الاُمّة وتذوب الرسالة والعقيدة أيضاً وتصبح الاُمّة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً علي مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الإسلام نهائياً [171] . لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة الدولة والاُمّة والرسالة بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين اُوكِلت لهم مهمة صيانة التجربة والدولة والاُمّة والرسالة جميعاً. ويتلخص دور الأئمّة الراشدين الذين اختارهم الله ونص عليهم الرسول(صلي الله عليه وآله) لصيانة الإسلام وتطبيقه وتربية الإنسانية علي أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين بعد أن كانت التجربة الإسلامية تشتمل علي عناصر ثلاثة باعتبارها [ صفحه 97] عملية تربية تتكوّن من (فاعل) هو المربي ومن (تنظيم) تقدّمه الشريعة ومن (حقل لهذا التنظيم) وهو الاُمّة [172] . والانحراف الذي بدأ يغيّر هذه العناصر الثلاثة انطلق من افتقاد المربي الكفوء للاُمّة بوفاة سيد المرسلين(صلي الله عليه وآله). وكان انهدام هذا العنصر كفيلاً بهدم العنصرين الآخرين إذ لم يكن مَن جاء بعد النبي(صلي الله عليه وآله) لقيادة التجربة كفوءاً لقيادتها كالنبي نفسه علماً وعصمةً ونزاهةً وقدرةً وشجاعةً وكمالاً، وإنّما تزعّمها مَن لم يكن معصوماً ومنصهراً في حقيقة الرسالة ولم يكن مالكاً للضمانات اللازمة لصيانتها من الانحراف عن الخط الذي رسمه رسول الله(صلي الله عليه وآله) لهذه الاُمّة، ذلك الانحراف الذي لم يتصور المسلمون مدي عمقه ومدي تأثيره السلبي علي الدولة والاُمّة والشريعة جميعاً علي طول الخط؛ إذ لعلّهم كانوا قد اعتبروه تغيير شخص لا تغيير خط. والخطّان الرئيسان اللذان عمل الأئمّة عليهما وكان عليهم أن يوظّفوا نشاطهم لهما هما: 1 ـ خط تحصين الاُمّة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، واعطائها من المقومات القدر الكافي لكي تبقي واقفة علي قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت. 2 ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وارجاع القيادة إلي موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية ولتتلاحم الاُمّة والمجتمع مع الدولة والقيادة الرشيدة [173] . أما الخط الثاني فكان علي الأئمّة الراشدين ان يقوموا بإعداد طويل [ صفحه 98] المدي له، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان ما يوصله إلي كماله اللائق. ومن هنا كان رأي الأئمّة في استلام زمام الحكم أن الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر بل يتوقف ذلك علي اعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته ايماناً مطلقاً يعيش أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه للاُمّة من مصالح أرادها الله لها. وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافي مع كل الظروف القاهرة وكان يمارسه الأئمّة(عليهم السلام) حتي في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تهيئ الإمام لخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد. إن هذا الدور وهذا الخط هو تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً للاُمّة نفسها بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها وذلك بايجاد قواعد واعية في الاُمّة وايجاد روح رسالية فيها وايجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في الاُمّة [174] . واستلزم عمل الأئمّة(عليهم السلام) في هذين الخطين قيامهم بدور رسالي ايجابي وفعّال علي طول الخط لحفظ الرسالة والاُمّة والدولة وحمايتها باستمرار. وكلما كان الانحراف يشتد؛ كان الائمّة يتخذون التدابير اللازمة [ صفحه 99] ضد ذلك وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمّة إلي تقديم الحلّ ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددّها. فالأئمّة(عليهم السلام) كانوا يحافظون علي المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي إلي درجة لا تنتهي بالاُمّة إلي الخطر الماحق لها [175] . ومن هنا تنوع عمل الأئمة(عليهم السلام) في مجالات شتي باعتبار تعدد العلاقات وتعدّد الجوانب والمهام التي تهمهم كقيادة واعية رشيدة تريد تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء. فالأئمّة مسؤولون عن صيانة تراث الرسول(صلي الله عليه وآله) الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في: 1 ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله والمتمثلة في الكتاب والسنة الشريفين. 2 ـ الاُمّة التي كوّنها ورباها الرسول الكريم بيديه الكريمتين. 3 ـ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده النبي محمد (صلي الله عليه وآله) أو الدولة التي أسسها وشيّد أركانها. 4 ـ القيادة النموذجية التي حققها بنفسه وربّي من يكون كفوءً لتجسيدها من أهل بيته الطاهرين. لكنّ عدم امكان الحفاظ علي المركز القيادي الذي رُشّح له الأئمّة المعصومون من قبل رسول الله (صلي الله عليه وآله) وانتُخِبوا لاستلامه ولتربية الاُمّة من خلاله لا يحول دون الاهتمام بمهمة الحفاظ علي المجتمع الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار بالقدر الممكن الذي يتسنّي لهم بالفعل [ صفحه 100] وبمقدار ما تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم. كما أن سقوط الدولة الإسلامية لا يحول دون الاهتمام بالاُمّة كاُمّة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة الهية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام. وعلي هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل الأئمّة جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ومن حيث درجة ثقافة الاُمّة ومدي وعيها وايمانها ومعرفتها بالأئمّة(عليهم السلام) ومدي انقيادها للحكام المنحرفين ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي والدولة الإسلامية ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ومن حيث نوع الأدوات التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم. فللأئمّة(عليهم السلام) نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً ـ كثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد بن معاوية ـ إن كلّفهم ذلك حياتهم، أو عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة. وكان للأئمّة(عليهم السلام) نشاط مستمر في مجال تربية الاُمّة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهمة نشر الوعي والفكر الإسلامي وتصحيح الأخطاء المستجدة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية الوافدة المنحرفة أو التيارات السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يستخدمها الحاكم المنحرف لدعم زعامته، كما [ صفحه 101] قدّموا البديل الفكري والأخلاقي والسياسي للزعامة المنحرفة والذي كان يتمثل في زعامة أهل البيت الأطهار المشروعة، وتصعيد درجة معرفة الاُمّة لهم والإيمان بهم والوعي اللازم تجاه إمامتهم وزعامتهم. هذا فضلاً عن نزول الأئمّة(عليهم السلام) إلي ساحة الحياة العامة والارتباط بالاُمّة بشكل مباشر والتعاطف مع قطاع واسع من المسلمين؛ فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها ائمّة أهل البيت(عليهم السلام) علي مدي قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرد الانتماء لرسول الله(صلي الله عليه وآله)؛ وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلي رسول الله(صلي الله عليه وآله) ولم يكن يحظي بهذا الولاء؛ لأن الاُمّة لا تمنح علي الأغلب الزعامة مجاناً ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الاُمّة ومشاكلها وهمومها. وهكذا خرج الإسلام علي مستوي النظرية سليماً من الانحراف إن تشوّهت معالم التطبيق، وتحولّت الاُمّة إلي اُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر واستطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها علي المدي البعيد كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي. وقد حقق الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الكتلة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا علي تنمية وعيها وايمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار واسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد علي صمودها في خضمّ المحن وارتفاعها إلي مستوي جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل علي صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار. [ صفحه 102]

مراحل حركة الأئمة الطاهرين

وإذا رجعنا إلي تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) والظروف المحيطة بهم ولاحظنا سلوكهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلي مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر. فالمرحلة الاولي من حياة الأئمّة(عليهم السلام) وهي (مرحلة تفادي صدمة الانحراف) بعد وفاة رسول الله(صلي الله عليه وآله) تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليهم السلام) فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء علي القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة علي الرسالة الإسلامية نفسها. وبالطبع إنهم لم يهملوا الاُمّة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الاسلامي والاُمّة المسلمة فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم. وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتي الإمام الكاظم(عليه السلام) وتتميز بأمرين أساسيين: 1 ـ أما فيما يرتبط بالخلافة المزيّفة فقد تصدي هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم طبقة من المحدّثين والعلماء (وهم وعّاظ السلاطين) لهم وتقديم التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية علي زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الاولي أن يكشفوا زيف خط الخلافة وأن يُحَسِّسوا الاُمّة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله). 2 ـ وأما فيما يرتبط ببناء الكتلة الصالحة الذي اُرسيت دعائمه في المرحلة الاولي فقد تصدي الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلي تحديد [ صفحه 103] الاطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اُؤتمن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) عليه والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية الإمامية وتربية عدة أجيال من العلماء علي أساس الثقافة الإسلامية الإمامية الناصعة في قبال الخط العُلمائي الخلفائي (وهو خط وعاظ السلاطين). هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق المذهبية التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره. والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا في زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض خطوط المعارِضة للسلطة ولاسيما بعض الخطوط الثورية منها التي كانت تتصدي لمواجهة من تربَّع علي كرسيّ خلافة الرسول(صلي الله عليه وآله) بعد ثورة الإمام الحسين(عليه السلام). وأما فيما يخص المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) بدءً بشطر من حياة الإمام الكاظم(عليهم السلام) وانتهاءً بالإمام المهدي(عليه السلام) فإنهم بعد وضع التحصينات اللازمة للكتلة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً واخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أن قيادة أهل البيت(عليهم السلام) أصبحت بمستوي تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلي حظيرة الإسلام الحقيقي، مما خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّة(عليهم السلام)، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم. وأما فيما يرتبط بالكتلة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطها فقد عمل الأئمّة(عليهم السلام) علي دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار واعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة اُخري، وكان يقدّر الأئمّة أنهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين زيفهم [ صفحه 104] ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للاُمّة الإسلامية. ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم ارجاع الناس اليهم وتدريبهم علي مراجعتهم في قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسول(صلي الله عليه وآله) عن تحققها وأملت الظروف عليهم الانصياع اليها. وبهذا استطاع الأئمّة(عليهم السلام) ـ ضمن تخطيط بعيد المدي ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الاُمّة عن الإسلام الصحيح وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الالهية بشكل كامل. فالذي جعل الاُمّة لا تتنازل عن الإسلام هو أن الإسلام قُدّم له مثل آخر واضح المعالم، أصيل المُثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، وقُدّمت هذه الاطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمّة من أهل البيت المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. إن هذه الاطروحة التي قدّمها الأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) للإسلام لم تكن تتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت(عليهم السلام) فقط، بل كان لها صدي كبير في كل العالم الإسلامي، فالأئمّة الأطهار كانت لهم اطروحة للإسلام وكانت لهم دعوي لإمامتهم، وهذه الدعوي وان لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الاُمّة الإسلامية ولكن الاُمّة بمجموعها تفاعلت مع هذه الاطروحة التي تُمَثّل النموذج والمخطط الواضح الصحيح الصريح للإسلام في كل المجالات العامة والخاصة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً وعبادياً... مما جعل المسلمين علي مرّ الزمن يسهرون علي الإسلام ويقيمونه وينظرون اليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي كانوا يعيشونه من خلال الحكم القائم [176] . [ صفحه 105]

ملامح عصر الإمام زين العابدين

تبيّن بوضوح من خلال البحوث السابقة أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) قد عاش أقسي فترة من الفترات التي مرّت علي القادة من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّه عاصر قمّة الإنحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله). وذلك أنّ الانحراف في زمن الإمام زين العابدين(عليه السلام) قد أخذ شكلاً صريحاً، لا علي مستوي المضمون فقط بل علي مستوي الشعارات المطروحة أيضاً من قبل الحكّام في مجال العمل والتنفيذ، وانكشف واقع الحكّام لدي الجماهير المسلمة بعد مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الاُمّة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية. وقد عاصر الإمام(عليه السلام) كلّ المحن والبلايا التي وقعت أيّام جدّه أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) إذ ولد قبل استشهاد الإمام عليّ(عليه السلام) وتفتحت عيناه وجَدّه(عليه السلام) في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ثمّ عاش مع عمّه الإمام الحسن(عليه السلام) في محنته مع معاوية وعُمّالهِ وعملائه، ومع أبيه الحسين(عليه السلام) وهو في محنته الفاجعة إلي أن استقلّ بالمحنة وجهاً لوجه، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأي جيوش بني اُميّة تدخل مسجد رسول الله(صلي الله عليه وآله) في المدينة وتربط خيولها في المسجد، هذا المسجد [ صفحه 106] الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها إلي العالم أجمع، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الإمام زين العابدين(عليه السلام) كثير من الذلّ والهوان علي يد الجيش الاُموي الذي أباح المدينة والمسجد معاً، وهتك حرمات النبيّ(صلي الله عليه وآله) فيهما جميعاً. وكان القتل هو أبسط الوسائل التي استعملت في ذلك العصر مع المعارضين، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب علي الأشجار وتقطيع الأيدي والأرجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي. وانغمس الاُمويون في الترف، وقد ذكر المؤرّخون نوادر كثيرة من ترفهم وتلاعبهم باقتصاد الاُمّة وثرواتها [177] ، حتي بالغوا في هباتهم للشعراء وأجزلوا العطاء للمغنّين [178] ، وسادت حياة اللهو والعبث والمجون في كثير من أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في مكّة والمدينة، وعمدت السلطات الاُموية إلي إشاعة ذلك فيهما لإسقاط هيبتهما من نفوس المسلمين. لقد شاع الغناء في مدينة الرسول(صلي الله عليه وآله) بشكل يندي له جبين الإنسان المؤمن بالله وبرسوله، حتي صارت مركزاً له. قال أبو الفرج: إنّ الغناء في المدينة لا يُنكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم [179] . وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشي عنها [180] !!. وكان العقيق إذا سال وأخذ المغنّون يلقون أغانيهم لم تبق في المدينة [ صفحه 107] مخبّأة ولا شابة ولا شابّ ولا كهل إلاّ خرج ببصره ليسمع الغناء [181] . نعم غدت المدينة في ذلك العصر مركزاً من مراكز الغناء في الحاضرة الإسلامية وأصبحت معهداً متميزاً لتعليم الجواري الغناء [182] بينما كانت الشريعة الإسلامية قد حاربت اللهو والمجنون ودعت الإنسان المسلم الي حياة الجدّ والاجتهاد والكدح من أجل إعمار حياته الدنيا وحياته الاُخري بالصالحات واستباق الخيرات وتسلّق قمم الكمال والحرص علي أثمن لحظات عمره في هذه الحياة وصيانتها من الضياع والخسران. أمّا الحياة العلمية في عصر الإمام زين العابدين(عليه السلام) فقد كانت مشلولةً بما حوته هذه الكلمة من معني، إذ كان الخط السياسي الذي سارت عليه الدولة الاُموية منذ تأسيسها يرتكز علي مجافاة العلم، وإقصاء الوعي والثقافة من حياة المسلمين، وجرّهم الي منحدر سحيق من الجهل؛ لأنّ بلورة الوعي العام وإشاعة العلم بين المسلمين كان يهدّد مصالحهم ودوام ملكهم القائم علي استغلال الجهل والغفلة التي روّج لها من تقمّص الخلافة بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله). أمّا الطابع الخاصّ للحياة الأدبية فتعرفه ممّا جري علي لسان شعراء ذلك العصر، فهو لم يمثّل أيّ مشكلة اجتماعية من مشاكل ذلك العصر علي كثرتها، كما أنّه لم يمثّل أيّ جدٍّ في الحياة العقلية والأدبية، وإنّما كان شعراً قَبَليّاً يحكي فيه كلّ شاعر ما امتازت به قبيلته من كرم الضيافة ووفرة المال والعدد، كما غدا الأدب سوقاً للهجاء المرّ والتنابز بالألقاب [183] . [ صفحه 109]

تخطيط الإمام زين العابدين و جهاده

اشاره

نجد في سيرة الأئمّة(عليهم السلام) العديد من الأدلّة التي أوضحوا من خلالها للناس سبب الاختلاف في أساليبهم في قيادة الحركة الإسلامية من إمام لآخر. فالإمام السجاد(عليه السلام) قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكّة: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت علي الحجّ ولينه، و (إنّ الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) [184] فأجابه الإمام(عليه السلام): إقرأ بعدها: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين)، ثمّ قال(عليه السلام): إذا ظهر هؤلاء ـ يعني المؤمنين حسب مواصفاتهم في الآية ـ لم نؤثر علي الجهاد شيئاً [185] . وبهذه الإجابة حدّد الإمام(عليه السلام) بشكل صارم سياسته ولون كفاحه، ووجهة حركته في عصره، ومن ثمّ الأسباب الموجبة لذلك المسار، فإنّ عدوله عن الكفاح المسلّح والمواجهة العسكرية للحكم الاُموي لم تأتِ حبّاً في الحياة ونعيمها كما تصوّر عبّاد البصري، وإنّما جاء ذلك لأنّ مستلزمات العمل العسكري الناجح غير متوفرة، ولأنّ النتائج من أيّ تحدٍّ للسلطان في تلك الظروف تكون عكسيّةً تماماً. [ صفحه 110] وبعد ملحمة كربلاء مباشرةً تبنّي الإمام السجاد(عليه السلام) وكرائم أهل البيت كزينب واُمّ كلثوم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ سياسة إسقاط الأقنعة التي كان الاُمويون قد غطّوا وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها، وحمّلوا الاُمّة كذلك مسؤوليتها التأريخية أمام الله والرسالة. ومن هنا نلاحظ بوضوح أنّ الخطب والتصريحات التي صدرت عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) وعقائل أهل البيت(عليهم السلام) في العراق قد انصبّت علي مخاطبة ضمائر الناس كمجموع، وإلفات نظر الناس إلي جسامة الخطر الذي حاق بهم، وإلي حجم الجريمة التي ارتكبتها بنو اُمية بحقّ رسالة الله تعالي. وفي الشام ركّزت كلمات الإمام السجّاد(عليه السلام) علي التعريف بالسبايا ذاتهم، وأنّهم آل الرسول(صلي الله عليه وآله)، ثمّ فضح الحكم الاُموي وتعريته أمام أهل الشام الذين أضلّهم عن رؤية الواقع. وقبل دخوله المدينة عمل الإمام السجاد(عليه السلام) علي إثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وتوجيهه الي محنة الرسالة التي تمثّلت في فاجعة الطفّ، فقد كان خطابه الذي ألقاه بالناس يستبطن هذه المعاني. ولقد أعطت تجربة كربلاء مؤشّراً عملياً علي أنّ الاُمّة المسلمة في حالة ركود وتبلّد ممّا جعل الروح الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنّها كانت معدومة نهائياً، ومن أجل ذلك فإنّ السجاد(عليه السلام) ـ باعتباره إمام الاُمّة الذي انتهت إليه مرجعية الاُمّة ـ أخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار، ولذلك مارس دوره من خلال العمل علي تنمية التيار الرسالي في الاُمّة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، والعمل علي رفع مستوي الوعي الإسلامي والإنفتاح العملي في قطاعات الاُمّة المختلفة، وخلق قيادات متميزة تحمل الفكر الإسلامي النقي، لا الفكر الذي يُشيعه الحكم الاُموي. [ صفحه 111] ولهذا النهج مبرّراته الموضوعية، فإنّ قوي الانحراف عبر سنوات عديدة من سيطرتها علي مراكز التوجيه الفكري والإجتماعي توفّرت علي صنع أجيال ذائبة في الانحراف، الأمر الذي أصبح فيه من المتعذّر علي التيار الإسلامي السليم مواجهتها، بالنظر لضخامة تلك القوي، وتوفّر الغطاء الواقي لها من مؤسسات وقدرات؛ ولتعرّض التيار الإسلامي ذاته للخسائر المتتالية. ومن هنا، فإنّ أمر تكثيف التيار الإسلامي وإثرائه كمّاً وكيفاً مسألة لا تقبل التأجيل، ما دام أمر بقاء الرسالة حيّة ـ فكراً وعملاً ـ متوقّفاً علي بقاء سلامة هذا التيار في كيان الاُمّة وقواعدها الشعبية، طالما لم يتسنّ له تسلّم المرجعية العامة في الإدارة والحكم. ولقد نجحت خطط الإمام(عليه السلام) علي شتّي الأصعدة وحسبما خطّط لها، وفيما يلي مصداقان عمليان علي ذلك: ففي المجال الإجتماعي أثمرت خطّة الإمام(عليه السلام) حيث حظي بإجلال القطّاعات الواسعة من الاُمّة وولائها، والمصادر التأريخية مجمعة علي ذلك. قال ابن خلّكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه ينظر إلي الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب «رضي الله عنهم»، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلمّا انتهي إلي الحجر تنحّي له الناس حتي استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال:أنا أعرفه،فقال الشامي:من هذا يا أبافراس؟فقال: [ صفحه 112] هذا ابْنُ خَيرِ عِبادِ اللهِ كُلِّهِمُ هذا النَّقيُّ التَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ مُشتَقَّةٌ مِن رَسولِ اللهِ نَبْعَتُهُ طابَتْ عَناصِرُهُ والخِيمُ والشِيَمُ الله شَرَّفَهُ قِدْماً وعَظَّمَهُ جَري بِذاك لهُ في لَوحِهِ القَلَمُ مِنْ مَعشَر حُبُّهُمْ دينٌ وبُغْضُهُمُ كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجيً ومُعْتَصَمُ أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقابِهِم لاِوَّلِيَّةِ هذا أوْ لَهُ نِعَمُ؟ [186] . إنّ هذه الحادثة توضّح أنّ الإمام(عليه السلام) كان قد حظي بولاء جماهيريٍّ حقيقيٍّ واسع النطاق، بشكل جعل ذلك الولاء يتجسّد حيّاً حتي في أقدس ساعة، وفي موقف عباديّ مشهود، فما أن تلتقي الجماهير الكثيفة بإمامها الحقّ؛ حتي توسّع له، لكي يؤدّي مناسكه دون أيّة مضايقة عفوية منها، بالرغم من أنّ الاُمّة تدرك عداء الحكم الاُموي لأهل البيت(عليهم السلام) وما يترتّب علي ذلك [ صفحه 113] العداء من موقف تجاه أنصار أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم. وحقّق النشاط العلمي للإمام(عليه السلام) غاياته المتوخّاة، فالمسجد النبويّ الشريف ودار الإمام(عليه السلام) شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام(عليه السلام) طلاّب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها، لا في المدينة المنورة ومكّة المكرمة وحدهما، وإنّما في الساحة الإسلامية بأكملها، حتي استطاع أن يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميّزة، وتخرّج منها قادة فكر ومحدّثون وفقهاء. إنّ انفصام عري الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وتَشَتُّت قُواهم كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام زين العابدين(عليه السلام) باتّجاه استجماع القوي وتكميل الإعداد من جديد، وقد كان هذا الهدف بحاجة إلي إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبثّ العزم في النفوس. وقد تمكّن الإمام زين العابدين(عليه السلام) بعمله الهادئ والمنظّم أن يشرف علي تكميل هذه الاستعادة، وعلي هذا الإعداد بكل قوّة وبحكمة وبسلامة وجدّ. وقد أطلق الإمام(عليه السلام) نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك. ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعدّدة:

الجهاد الفكري والعلمي

من المعلوم أنّ الفكر السليم هو أحد مقوّمات كلّ حركة سياسية صحيحة، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون علي علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الاُولي لِصدّ [ صفحه 114] الأنظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعي علي طول التأريخ في إبعاد الناس عن الحقّ والتعاليم الأصيلة. وقد قام الإمام زين العابدين(عليه السلام) بأداء دور مهمّ في هذا الميدان، حيث تصدّي للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث [187] فأمر برواية الحديث وحثّ علي ذلك، وكان يطبّق السنّة ويدعو إلي تطبيقها والعمل بها، وقد روي عنه قوله(عليه السلام): إنّ أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ [188] . وفي الظروف التي عاشها الإمام(عليه السلام) ـ حيث كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره واُصوله والذي تمثّل في حفظة القرآن ومفسّريه ـ كانت الدعوة إلي الاعتصام بالقرآن من أهم الواجبات آنذاك، ولقد قام الإمام زين العابدين(عليه السلام) بجهد وافر في هذا المجال. قال(عليه السلام): «عليك بالقرآن، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها علي قدر آيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: إقرأ وارق، ومن دخل الجنّة لم يكن في الجنّة أعلي درجة منه، ما خلا النبيّين والصدّيقين» [189] وكان يقول: «لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي» [190] . كما كان يسعي في تمجيد القرآن عملياً وبأشكال مختلفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن [191] ، كما كان يرشد الاُمّة من خلال تفسيره للقرآن [ صفحه 115] الكريم [192] . وبذل الإمام(عليه السلام) جهوداً جبّارةً لتثبيت قواعد التوحيد الإلهي وتشييد أركانه عبر الاستدلال علي ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين، والردّ علي الأفكار المنحرفة التي غذّاها الحكّام ـ مثل فكرة الجبر الإلهي ـ بهدف التمكّن من السلطة والسيطرة التامة علي مصير الناس والهيمنة علي الأفكار بعد السيطرة علي الأفواه والأجسام، وقد ذكرنا أنّ الإمام(عليه السلام) قال لابن زياد الذي أراد أن ينسب قتل عليّ بن الحسين إلي الله: «إنّ الله يتوفّي الأنفسَ حين موتها»، فالإمام تحدّي الحاكم في مجلسه حين ردّ علي الانحراف العقائدي بتلك الصراحة، وبيّن الفرق بين التوفّي للأنفس واسترجاعها ـ الذي نسبه القرآن إلي الله تعالي حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ـ وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور. وفي جوابه(عليه السلام) عن سؤال: أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ قال(عليه السلام): «إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد... ولله فيه العون لعباده الصالحين»، ثمّ قال(عليه السلام): «ألا من أجور الناس من رأي جوره عدلاً، وعدل المهتدي جوراً» [193] . وهكذا تصدّي الإمام(عليه السلام) لعقيدة التشبيه والتجسيم [194] ، وفكرة الإرجاء [195] . وعلي صعيد الإمامة والولاية أعلن الإمام(عليه السلام) عن إمامته بنفسه بكلّ وضوح وصراحة ومن دون أيّة تقيّة أو سريّة، وقد تعدّدت الأحاديث [ صفحه 116] المصرّحة بهذا الإعلان، منها قوله(عليه السلام): «نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله علي العالمين، وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجّلين وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء... ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها، ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلي أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها، ولو لا ذلك لم يعبد الله» [196] . وقال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي: قال لي عليّ بن الحسين(عليه السلام): «إلي مَن يذهب الناس؟» قال: قلت: يذهبون ها هنا وها هنا، قال: «قل لهم يجيئون إليّ» [197] . وقال له أبو خالد الكابلي: يا مولاي، أخبرني كم يكون الأئمّة بعدك؟ قال: «ثمانية لأنّ الأئمّة بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله) اثنا عشر إماماً، عدد الأسباط، ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع، وثمانية من ولدي...» [198] . والإنحراف الذي حصل عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) لم ينحصر في إقصائهم عن الحكم والولاية فقط، بل انتهي إلي الجهل بأحكام الشريعة التي كان الأئمّة هم المرجع الواقعي والصحيح للتعرّف عليها. فالإمام ليس وليّاً للأمر وحاكماً علي البلاد والعباد فحسب، وإنّما هو مصدر يرجع اليه لفهم الشريعة وتبيين أحكامها، باعتبار معرفته التامة بالشريعة الخاتمة وارتباطه الوثيق بمصادرها الحقيقيّة. وكما أقصي الحكّام أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) عن الحكم والولاية؛ حاولوا كذلك نفي مرجعيتهم الدينية والعلميّة وإبعاد الناس عنهم، لذلك اهتمّ الأئمّة [ صفحه 117] وأتباعهم بإرشاد الناس إلي هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينهلوا منه، وكان اهتمام الإمام السجاد(عليه السلام) بليغاً بهذا الأمر حتي قال(عليه السلام) لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية: «يا هذا، لو صرت إلي منازلنا لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أيكون أحدٌ أعلم بالسنّة منّا» [199] . وقال(عليه السلام): «إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، لا يُصاب إلاّ بالتسليم، فمن سلّم لنا سَلِم، ومن اقتدي بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه ـ ممّا نقوله أو نقضي به ـ حَرَجاً كفر بالّذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم» [200] .

الجهاد الاجتماعي والعملي

إنّ أهّم أهداف القادة الإلهيّين هو إصلاح المجتمع البشريّ بتربيته علي التعاليم الالهية، ولا بدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك، فعليه: 1 ـ أن يربّي جيلاً من المؤمنين علي التعاليم الحقّة التي جاء بها الدين والأخلاق القيّمة التي ينبغي التخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً علي الخير. 2 ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله، ويحضر بين الناس، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه، ويبلغهم رسالات الله. 3 ـ أن يقاوم الفساد الذي يبثّه الظالمون في المجتمع بهدف شلّ قواه، وتفريغه من المعنويات، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة علي الحقّ والخير. [ صفحه 118] كان للإمام(عليه السلام) نشاط واسع في كلّ هذه المجالات، بحيث يعدّ ـ بحقٍّ ـ في صدر قائمة المصلحين الالهيين بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني اُمية علي الاُمّة وعلي مقدّراتها وجسم الخلافة الإسلامية التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه تحت عنوان الخروج علي الإسلام. ويمكن الحديث عن أوجه نشاطه(عليه السلام) العملي في الجانب الإجتماعي علي عدّة أوجه منها:

الاخلاق والتربية (علي مستوي الامة و أتباع أهل البيت)

ضرب الإمام زين العابدين(عليه السلام) أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة وفي سيرته مع الناس، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات. فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية، والشرف السامق، والقدرة علي جذب القلوب وامتلاكها، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وأناة وهدوء. فالصبر الذي تحلّي به وتجلّي لنا من خلال ما تحمّله في مأساة كربلاء أكبر شاهد علي عظمة صبره. ومثابرته ومداومته علي العمل الإسلامي بارزة للعيان، وهذا الفصل يمثّل جزءاً من نشاطه السياسي والإجتماعي الجادّ. وحديث مواساته للإخوان والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام بالبذل والعطاء والإنفاق ممّا اشتهر عند الخاصّ والعامّ. وحُنوّه وحنانه علي العبيد وعلي الأقارب والأباعد بل علي أعدائه وخصومه ممّا سارت به الركبان. [ صفحه 119] وأخبار عبادته وخوفه من الله جلّ جلاله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ملأت الصحف حتي خصّ بلقب «زين العابدين» و «سيّد الساجدين». وسنتحدّث عن بعض ذلك فيما بعد بإذنه تعالي، كما أنّنا أشرنا إلي جانب بسيط جدّاً من ذلك سابقاً.

الاصلاح والدولة

لقد شاع عند بعض المؤرّخين أنّ الأئمّة من أبناء الحسين (عليهم السلام) قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلي الإرشاد والعبادة والإنقطاع إلي الدنيا [201] . ويدلّلون علي قولهم هذا بتأريخ حياة الإمام السجاد(عليه السلام) ودعوي انعزاله عن الحياة الإسلامية العامة، ويبدو أنّ سبب هذه التصوّرات الخاطئة لدي المؤرّخين هو ما بدا لهم من عدم احتدام الأئمّة بعد الحسين(عليه السلام) علي عمل مسلّح ضد الوضع الحاكم مع إعطائهم الجانب السياسي من القيادة معنيً ضيّقاً لا ينطبق إلاّ علي عمل مسلّح من هذا القبيل. إنّ ما يقال من أنّ الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) من أبناء الحسين(عليه السلام) اعتزلوا السياسة وانقطعوا عن الدنيا فهو زعم يكذّبه وينفيه واقع حياة الأئمّة الزاخرة كلّها بالشواهد علي ايجابية المشاركة الفعّالة التي كانوا يمارسونها. فمن ذلك علاقات الإمام زين العابدين(عليه السلام) بالاُمّة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق والتي كان يتمتّع بها علي طول الخط [202] ؛ فإنّ هذه الزعامة لم يكن ليحصل عليها الإمام(عليه السلام) صدفةً أو علي أساس مجرّد الانتساب إلي [ صفحه 120] الرسول(صلي الله عليه وآله) بل علي أساس العطاء والدور الايجابي الذي كان يمارسه الإمام في الاُمّة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم؛ فإنّ الاُمّة لا تمنح ـ علي الأغلب ـ الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الاُمّة في مختلف مجالاتها، وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ علي رسالتها. ومع أنّ مزاولات الإمام (عليه السلام) الدينية كلّها من صميم العمل السياسي وخاصّةً في عصره حيث لم يُسمع نغمُ الفصل بين السياسة والدين بعد، نجد في طيّات حياة الإمام(عليه السلام) عيّنات واضحة من التدخّلات السياسية الصريحة، فهو كما يبدو من النصوص الصادرة عنه تجده رجلاً مشرفاً علي الساحة السياسية، يدخل محاورات حادّة، ويتابع مجريات الأحداث، ويدلي بتصريحات خطيرة ضد الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الاُمّة وإليك بعض النماذج علي ذلك: 1 ـ قال عبد الله بن الحسن بن الحسن: كان عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخّر مسجد النبي(صلي الله عليه وآله) بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدّثا ليلة، فذكروا جور من جار من بني اُميّة والمقام معهم، فقال عروة لعليّ: يا عليّ إنّ من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فكان منهم علي ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رُجي له أن يسلم ممّا أصابهم. قال: فخرج عروة، فسكن العقيق. قال عبد الله بن الحسن: وخرجت أنا فنزلت سويقة [203] . [ صفحه 121] أمّا الإمام(عليه السلام) فلم يخرج، بل آثر البقاء في المدينة طوال حياته؛ لأنّه كان يعدّ مثل هذا الخروج فراراً من الزحف السياسي وإخلاءً للساحة الاجتماعية للظالمين، يجولون فيها ويصولون [204] . ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) [205] ـ كان تدبيراً سياسياً منه أو من قبل الحكّام لإبعاد الإمام(عليه السلام) عن الحضور في الساحة السياسية والاجتماعية، لكنّه(عليه السلام) لم يخرج وظلّ يواصل مسيرته الجهادية. 2 ـ قال(عليه السلام): «إنّ للحق دولة علي العقل، وللمنكر دولة علي المعروف، وللشرّ دولة علي الخير، وللجهل دولة علي الحلم، وللجزع دولة علي الصبر، وللخرق دولة علي الرفق، وللبؤس دولة علي الخصب، وللشدّة دولة علي الرخاء، وللرغبة دولة علي الزهد، وللبيوت الخبيثة دولة علي بيوتات الشرف، وللأرض السبخة دولة علي الأرض العذبة، فنعوذ بالله من تلك الدول ومن الحياة في النقمات» [206] . وإذا كانت الدولة في اللسان العربي هي الغلبة والاستيلاء ـ وهي من أبرز مقومات السلطة الحاكمة ـ فإنّ الإمام(عليه السلام) يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية في سائر القضايا الحيوية والطبيعية التي يهتمّ بها ويفكّر في إصلاحها. فمن يا تري؟ ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره (عليه السلام)؟ وهل التعوّذ بالله تعالي من دولة السلطان يعني أمراً غير رفض وجوده والتنديد بسلطته؟ وهل يتصوّر السياسي أن يكون له حضور أقوي من هذا في مثل [ صفحه 122] ظروف الإمام(عليه السلام) وموقعه وضمن تخطيطه الشامل في قيادة حركيّة الإسلام؟ وهل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعي أنّه ابتعد عن السياسة أو اعتزلها؟.

مقاومة الفساد

وإذا كان من أهم واجبات المصلح وخاصةً المصلح الإلهي مقاومة الفساد ومحاربة المفسدين في الأرض؛ فإنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) قام بدور بارز في أداء هذا الواجب. وقد تميّز عصره(عليه السلام) بمشاكل اجتماعية من نوع خاص، وقد تكون موجودة في كثير من العصور، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً ومكثّفاً، كما أنّ الإمام(عليه السلام) قام بمعالجتها باُسلوبه الخاصّ، ممّا أعطاها صبغة فريدة تميّزت في جهاد الإمام(عليه السلام) وأهمها مشكلة الفقر العام ومشكلة الرقّ والعبيد. وسنعرض لهما في فصل قادم إن شاء الله تعالي. [ صفحه 123]

ظواهر فذة في حياة الإمام زين العابدين

اشاره

تميّزت حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفرة في حياة آبائه الطاهرين وأبنائه الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) إلاّ أنّها برزت في سيرته(عليه السلام) بشكل أكثر وضوحاً وأوسع دوراً، ممّا دعانا إلي تسليط الضوء عليها أشدّ من غيرها، وهي: أ ـ ظاهرة العبادة. ب ـ ظاهرة الدعاء. ج ـ ظاهرة البكاء. د ـ ظاهرة الإعتاق. فإذا سبرنا حياة الأئمّة (عليهم السلام) وجدناهم ـ كلّهم ـ يتميّزون في هذه المظاهر علي أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) تجلّت بقوة، حتي كان (عليه السلام) فريداً في كلّ منها.

ظاهرة العبادة في حياة الإمام

أجمع معاصروا الإمام زين العابدين(عليه السلام) علي أنّه كان من أعبد الناس وأكثرهم طاعة لله تعالي، ولم ير الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بهر [ صفحه 124] بها المتّقون والصالحون، وحسبه أنّه وحده الذي قد لُقّب بزين العابدين وسيّد الساجدين في تأريخ الإسلام. أمّا عبادته(عليه السلام) فكانت ناشئة عن إيمانه العميق بالله تعالي وكمال معرفته به، وقد عبده لا طمعاً في جنّته ولا خوفاً من ناره، وإنّما وجده أهلاً للعبادة فعبده، وشأنه في ذلك شأن جدّه أمير المؤمنين وسيّد العارفين وإمام المتّقين، وقد أعرب (عليه السلام) عن عظيم إخلاصه في عبادته بقوله: «إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطامع إن طمع عمل وإلاّ لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عذابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل...». فانبري إليه بعض الجالسين فقال له: فبم تعبده؟ فأجابه عن خالص إيمانه: «وأعبُدُه لما هو أهله بأياديه وإنعامه» [207] . ولقد مَلأ حبّ الله تعالي قلب الإمام(عليه السلام) وسخّر عواطفه فكان مشغولاً بعبادة الله وطاعته في جميع أوقاته، وقد سُئلت جارية له عن عبادته فقالت: اُطنب أو أختصر؟ قيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قطّ، وما فرشت له فراشاً بليل، قطّ [208] . لقد قضي الإمام(عليه السلام) معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله، مشغولاً تارةً بالصلاة، واُخري بالدعاء. [ صفحه 125]

عبادة الإمام

وضوؤه

الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الاولي للصلاة، وكان الإمام(عليه السلام) دوماً علي طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً: «أتدرون بين يدي مَن أقوم؟!» [209] .

صلاته

اشاره

أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ كما في الحديث الشريف، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام(عليه السلام) فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلي الله تعالي، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال: «أتدرون بين يدي من أقوم، ومن اُناجي؟!» [210] ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته.

تطيبه للصلاة

وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته [211] . [ صفحه 126]

لباسه في صلاته

وكان الإمام(عليه السلام) إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب [212] ، مبالغة منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.

خشوعه في صلاته

كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلي الله جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه بالله تعالي، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلي الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يري أنّه لا يصلّي بعدها أبداً [213] . وتحدّث الإمام الباقر(عليه السلام) عن خشوع أبيه في صلاته فقال: «كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنـّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه» [214] . ونقل أبان بن تغلب إلي الإمام الصادق(عليه السلام) صلاة جدّه الإمام السجاد(عليه السلام) فقال له: إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادق(عليه السلام): «والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه...» [215] . وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتي [ صفحه 127] يرفض عرقاً [216] أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه [217] ، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأي الإمام قد صلّي فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: «ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه» [218] .

صلاة ألف ركعة

وأجمع المترجمون للإمام(عليه السلام) أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة [219] ، وأنّه كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين [220] ونظراً لكثرة صلاته؛ فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي (عليه السلام) دفنت معه [221] .

كثرة سجوده

إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده كما في الحديث الشريف، وكان الإمام(عليه السلام) كثير السجود لله تعالي خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلي الصحراء فتبعه موليً له فوجده ساجداً علي حجارة خشنة، فأحصي عليه ألف مرّة يقول: «لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً» [222] . [ صفحه 128] وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مئة مرّة: «الحمد لله شكراً»، ثمّ يقول: «يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا الجود الذي لا ينفد أبداً، يا كريم، يا كريم» ويتضرّع بعد ذلك ويذكر حاجته [223] .

كثرة تسبيحه

وكان دوماً مشغولاً بذكر الله تعالي وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح الله بهذه الكلمات: «سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقوته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده» [224] .

ملازمته لصلاة الليل

من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام(عليه السلام) صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر [225] إلي أن انتقل إلي الرفيق الأعلي.

دعاؤه بعد صلاة الليل

وكان(عليه السلام) إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وإليك بعض مقاطعه: «اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي علي مرّ الدهور وخوالي الأعوام [226] ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهي له بآخرية، واستعلي ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده [227] ولا [ صفحه 129] يبلغ أدني ما استأثرت من ذلك أقصي نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات وتفسّخت [228] دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله الأوّل في أوّليّتك، وعلي ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات [229] إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم [230] الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء [231] به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي...». «اللهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها علي مَن عصاك، وتوعّدت بها علي من صدف [232] عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعضٌ، ويصول [233] بعضُها علي بعض، ومن نار تذر [234] العظام رميماً [235] ، وتسقي أهلها حميماً [236] ، ومن نار لا تبقي علي مَن تضرّع اليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر علي التخفيف عمّن خشع لها واستسلم اليها، تلق سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال [237] وشديد الوبال [238] » [239] . [ صفحه 130] وذبل الإمام(عليه السلام) من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة [240] التي تميلها الريح. وقال ابنه عبد الله: كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلي فراشه [241] . وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك لكنّه(عليه السلام) أصرّ علي شدّة تعبّده حتي يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبت كم هذا الدؤوب (يعني الصلاة)؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «أتَحَبّبُ إلي ربّي» [242] . وقال جابر بن عبدالله الأنصاري للإمام(عليه السلام): ياابن رسول الله! أما علمت أنّ الله تعالي إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدي رسول الله (صلي الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يَدَع الإجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي واُمي ـ حتي انتفخ ساقه وورم قدمه، وقد قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال(صلي الله عليه وآله): أفلا أكون عبداً شكوراً؟». فقال له جابر: ياابن رسول الله، البُقْيا علي نفسك، فإنّك من اُسرة بهم يستدفع البلاء، وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تُستمطر السماء...» فأجابه الإمام(عليه السلام): «لا أزال علي منهاج أَبَوَيَّ متأسِّياً بهما حتي ألقاهما...» [243] . [ صفحه 131]

صومه

وقضي الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينما سئلت عن عبادته: «ما قدّمتُ له طعاماً في نهار قطّ» وقد أحبَّ الصومَ وحثَّ عليه إذ قال (عليه السلام): «إنّ الله تعالي وكّل ملائكة بالصائمين» [244] ، وكان(عليه السلام) لا يفطر إلاّ في يوم العيدين وغيرهما ممّا كان له عذر. وكان له شأن خاص في شهر رمضان، أنّه لم يترك نوعاً من أنواع البِرّ والخير إلاّ أتي به، وكان لا يتكلم إلاّ بالتسبيح والإستغفار والتكبير، وإذا أفطر قال: «اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت» [245] . وكان(عليه السلام) يستقبل شهر رمضان بشوق ورغبة لانّه ربيع الأبرار، وكان يدعو لدي دخول شهر الله تعالي بدعاء نقتطف منه بعض الفقرات، قال(عليه السلام): «الحمد لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله؛ لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا علي ذلك جزاء المحسنين. والحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصّنا بملّته، وسَبَّلَنا [246] في سُبُلِ إحسانه، لنسلكها بمنّه إلي رضوانه... والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام... اللّهم صلّ علي محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا علي صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتي لا نُصغي بأسماعنا إلي لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلي لهو، وحتي لا نبسط أيدينا إلي محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلي محجور، وحتي لا تعي بطوننا إلاّ ما أحلَلْت، ولا تنطق ألسنتنا [ صفحه 132] إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطي إلاّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين وسُمعة المسمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي فيه مراداً سواك... اللهمّ اشحنه [247] بعبادتنا إيّاك، وزيّن أوقاتنا بطاعتنا لك، وأعنّا في نهاره علي صيامه، وفي ليله علي الصلاة والتضرع اليك والخشوع لك والذلّة بين يديك حتي لا يشهد نهاره علينا بغفلة ولا ليله بتفريط. اللهمّ واجعلنا في سائر الشهور والأيام كذلك ما عمّرتنا...» [248] . وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) في كلّ يوم من أيام شهر رمضان يأمر بذبح شاة وطبخها... فإذا نضجت يقول: «هاتوا القصاع» ويأمر بأن يُفرَّق علي الفقراء والأرامل والأيتام حتي يأتي علي آخر القدور ولا يبقي شيئاً لإفطاره، وكان يفطر علي خبز وتمر [249] . ومن مَبَرّات الإمام(عليه السلام) في شهر رمضان المبارك كثرة عتقه وتحرير أرقّائه من رقّ العبودية، علي أنهم كانوا يعيشون في ظلاله محترمين، فكان يعاملهم كأبنائه، وكان(عليه السلام) لا يعاقب أمةً ولا عبداً إذا اقترفا ذنباً، وإنّما كان يسجّل اليوم الذي أذنبوا فيه، فإذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وأظهر الكتاب الذي سجّل فيه ذنوبهم، ويقول: «ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين! إنّ ربّك قد أحصي عليك كلّ ما عملتَ، كما أحصيت علينا ما عملناه، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، [ صفحه 133] فاعف واصفح، كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عَفُوّاً، وبك رحيماً ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً... كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناه إلاّ أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفي بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) [250] . وكان يلقّنهم بتلك الكلمات التي تمثّل انقطاعه التامّ إلي الله تعالي واعتصامه به، وهو واقف يبكي من خشيته تعالي ويقول: «ربِّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعف عنّا فإنّك أولي بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنَخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا فإنّك أولي بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كَرُمتَ فأكرِمني، إذ كنت من سُؤّالك وجُدْتَ بالمعروف فأخلطني بأهل نوالك يا كريم...». ثم يُقبِلُ عليهم بوجهه الشريف وقد تبلّل من دموع عينيه قائلاً لهم بعطف وحنان: «قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي؟ وممّا كان منّي من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل...» وينبري العبيد قائلين له: قد عفونا عنك يا سيّدنا، فيقول لهم: «قولوا: اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق». فيقولون ذلك، ويقول بعدهم: «اللهمّ آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي» فإذا كان يوم عيد الفطر [ صفحه 134] أجازهم جائزة سنيّة تغنيهم عمّا في أيدي الناس [251] .

دعاؤه

دعاؤه في الأسحار

وكان الإمام(عليه السلام) يناجي ربّه ويدعوه بتضرّع وإخلاص في سحر كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بالدعاء الجليل الذي عرف بدعاء أبي حمزة الثمالي؛ لأنّه هو الذي رواه عنه، وهو من غرر أدعية أهل البيت(عليهم السلام) وهو يمثّل مدي إنابته وانقطاعه إلي الله تعالي كما أنّ فيه من المواعظ ما يوجب صرف النفس عن غرورها وشهواتها، كما يمتاز بجمال الاُسلوب وروعة البيان وبلاغة العرض، وفيه من التذلّل والخشوع والخضوع أمام الله تعالي ما لا يمكن صدوره إلاّ عن إمام معصوم. وقد احتلّ هذا الدعاء مكانة مهمّة في نفوس الأخيار والصلحاء من المسلمين، إذ واظبوا علي الدعاء به، وممّا قاله الإمام (عليه السلام) في دعائه: «إلهي، لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلاّ بك؟ لا الذي أحسن استغني عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك... بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني اليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت. الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني... أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ اُناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيت كرمك طمعت... [ صفحه 135] يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، فوعزّتك يا سيّدي لو نهرتني ما برحتُ [252] من بابك ولا كففت عن تملّقك [253] لما انتهي إليّ من المعرفة بجودك وكرمك... اللهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلتُ قد صلُحت سريرتي [254] وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك. سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني... إلهي، لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك [255] من بين الأشهاد ودللت علي فضايحي عيون العباد وأمرت بي إلي النار وحلت بيني وبين الأبرار؛ ما قطعتُ رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي... ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذلّ موقفي، واغفر لي ما خفي علي الآدميّين من عملي، وأدم لي مابه سترتني، وارحمني صريعاً علي الفراش، تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفَضَّل عليّ ممدوداً علي المغتسل يقلّبُني صالح جيرتي، وتحنّنْ عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت [ صفحه 136] الجديد غربتي، حتي لا أستأنس بغيرك...» [256] . وكان الإمام(عليه السلام) يتأثّر إذا انطوت أيام شهر رمضان؛ لأنّه عيد أولياء الله تعالي، وكان يودّعه بدعاء جليل نقتطف منه ما يلي: «السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً، وأفْجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه. السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ [257] . السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصر أعان علي الشيطان. السلام عليك وعلي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشدّ شوقنا غداً إليك. اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر [258] من خطايانا، وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا، واجعلنا من أسعد أهله به، وأجزلهم قسماً فيه، وأوفرهم حظّاً منه...» [259] .

حجه

اشاره

وكان يحثّ علي الحج والعمرة بقوله: حجّوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم» [260] . [ صفحه 137] وقال(عليه السلام): «الحاج مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله» [261] . وقال(عليه السلام): «الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة» [262] . وكان(عليه السلام) يدعو إلي تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت الله الحرام ويقول: «استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافِحوهم، وعظّموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب» [263] . وحجّ(عليه السلام) غير مرّة ماشياً كما حج أبوه وعمّه الحسن(عليهم السلام)، وحج علي ناقته عشرين حجّة وكان يرفق بها كثيراً. وقال ابراهيم بن عليّ: حججتُ مع عليّ بن الحسين فتلكّأتْ ناقته فأشار اليها بالقضيب، ثم ردّ يده، وقال: «آه من القصاص...» [264] . وكان الإمام(عليه السلام) إذا أراد السفر إلي بيت الله الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء؛ لأنّهم كانوا يتزوّدون منه العلوم والمعارف والحكم والآداب، وقال سعيد بن المسيب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلي مكّة حتي يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب [265] . واذا انتهي الإمام إلي إحدي المواقيت التي يحرم منها؛ يأخذ بعمل سنن [ صفحه 138] الإحرام، وإذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفرّ لونه واضطرب ولم يستطع أن يلبّي، فاذا قيل له: ما لك لا تلبّي؟ قال: «أخشي أن أقول: لبيك، فيقال لي: لا لبيك». وإذا لبّي غشي عليه من كثرة خوفه من الله تعالي، ويسقط من راحلته، ولا يزال يعتريه هذا الحال حتي يقضي حجّه [266] . وكان الإمام(عليه السلام) إذا أدّي مناسكه في البيت الحرام؛ أقبل علي الصلاة تحت ميزاب الرحمة. ورآه طاووس اليماني في ذلك المكان قائماً وهو يدعو الله ويبكي من خشية الله، فلمّا فرغ من صلاته قال له طاووس: رأيتك علي حالة من الخشوع ولك ثلاثة اُمور، أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنّك ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، الثاني: شفاعة جدّك، الثالث: رحمة الله. فأجابه الإمام(عليه السلام) قائلاً: «يا طاووس، أمّا أنّي ابن رسول الله(صلي الله عليه وآله) فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالي يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) [267] ، وأمّا شفاعة جدّي فلا تؤمنني؛ لانّ الله تعالي يقول: (ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضي) [268] وأمّا رحمة الله فالله يقول: (إنّ رحمة الله قريب من المحسنين) [269] ولا أعلم أنّي محسن» [270] . وقال طاووس: رأيت عليّ بن الحسين يطوف من العشاء إلي السحر ويتعبّد، فإذا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «الهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (صلي الله عليه وآله) في عرصات القيامة» ثم بكي وقال: «أما وعزّتك وجلالك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك [ صفحه 139] متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني علي ذلك سترك المرخي به عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي...». ثم خرّ إلي الأرض ساجداً، فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته في حجري، فوقعتْ قطرات من دموعي علي خدّه الشريف فاستوي جالساً، وقال بصوت خافت: «من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟». فأجابه طاووس بخضوع وإجلال: أنا طاووس ياابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون؟ أبوك الحسين بن عليّ واُمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله. فأجابه الإمام(عليه السلام): «هيهات هيهات يا طاووس، دع عنك حديث أبي واُمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالي: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ ما تقدّمه من عمل صالح» [271] .

دعاؤه في يوم عرفة

وكان الإمام(عليه السلام) في عرفات يقوم بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، وكان يدعو بدعاء جليل وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وفيما يلي بعض المقتطفات منه: «الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ لك الحمد بديع السماوات والأرض [272] ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء ليس كمثله [ صفحه 140] شيء، ولا يعزب [273] عنه علم شيء، وهو بكلّ شيء محيط، وهو علي كلّ شيء رقيب. أنت الله لا اله إلاّ أنت الأحد المتوحّد الفرد، وأنت الله لا اله إلاّ أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر، وأنت الله لا اله إلاّ أنت العليّ المتعال الشديد المحال [274] . أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك، وعجزت الأفهام عن كيفيتك، ولم تدرك الأبصار موضع أينيّتك، أنت الذي لا تُحدّ فتكون محدوداً، ولم تمثل فتكون موجوداً، ولم تلد فتكون مولوداً. لك الحمد حمداً يدوم بدوامك، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك، ولك الحمد حمداً يزيد علي رضاك، ولك الحمد حمداً مع حمد كلّ حامد. ربّ صلّ علي محمد وآله صلاةً زاكيةً لا تكون صلاةٌ أزكي منها، وصلّ عليه صلاةً ناميةً لا تكون صلاةٌ أنمي منها، وصلّ عليه صلاةً راضيةً لا تكون صلاةٌ فوقها... ربِّ صلِّ علي أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك، وخلفاءَك في أرضك، وحججك علي عبادك، وطهّرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة إليك والمسلك إلي جنّتك. اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك، بعد أن وَصَلْت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلي رضوانك، وافترضت طاعته، وحذّرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره والانتهاء عند نهيه، وألاّ يتقدّمه متقدّم ولا يتأخّر عنه متأخّر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسّكين، وبهاءُ العالمين. وانزع من قلبي حبّ دنيا دنية تنهي عمّا عندك، وتصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك، وتذهل عن التقرّب منك، وزيّن لي التفرّد بمناجاتك بالليل والنهار، وهب لي عصمة تدنيني من خشيتك، وتقطعني عن ركوب محارمك، وتفكّني من أسر العظائم، وهب لي التطهير من [ صفحه 141] دنس العصيان، وأذْهِب عنّي درن الخطايا، وسربلني [275] بسربال عافيتك. ولا تكلني إلي حولي وقوّتي دون حولك وقوّتك، ولا تخزني يوم تبعثني للقائك، ولا تفضحني بين يدي أوليائك، ولا تنسني ذكرك، ولا تُذهب عنّي شكرك... واجعل رغبتي إليك فوق رغبة الراغبين، وحمدي إيّاك فوق حمد الحامدين، ولا تخذلني عند فاقتي إليك. اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك، ورهبتي عند تلاوة آياتك، واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك، وتجرّدي بسكوني إليك وإنزال حوائجي بك ومنازلتي إيّاك [276] في فكاك رقبتي من نارك، وإجارتي ممّا فيه أهلها من عذابك، ولا تذرني في طغياني عامهاً [277] ولا في غمرتي [278] ساهياً حتي حين، ولا تجعلني عظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر، ولا فتنةً لمن نظر، ولا تمكر بي فيمن تمكر به، ولا تستبدل بي غيري... واجعل قلبي واثقاً بما عندك، وهمّي مستغرقاً لما هو لك، واستعملني بما تستعمل به خالصتك، وأشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك... وصن وجهي عن الطلب إلي أحد من العالمين، وذبّني عن التماس ما عند الفاسقين ولا تجعلني للظالمين ظهيراً ولا لهم علي محو كتابك يداً ونصيراً...» [279] .

دعاؤه يوم عيد الأضحي

كان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يستقبل يوم عيد الأضحي بالابتهال إلي الله والتضرّع إليه، طالباً منه أن يتفضّل عليه بقبول مناسكه وسائر طاعاته [ صفحه 142] وعباداته، وأن يمنحه المغفرة والرضوان، ومن دعائه في هذا اليوم المبارك: «اللهمّ هذا يوم مبارك ميمون والمسلمون فيه مجتمعون. اللهمّ إليك تعمّدت بحاجتي، وبك أنزلتُ اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإنّي بمغفرتك ورحمتك أوثق منّي بعملي، ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ علي محمد وآل محمد، وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها، وبتيسير ذلك عليك، وبفقري إليك، وغناك عنّي، فإنّي لم أُصِبْ خيراً قطُّ إلاّ منك، ولم يصرف عنّي سوءاً قط أحد غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك. اللهمّ فصلّ علي محمد وآل محمد، ولا تخيّب اليوم ذلك من رجائي، يا من لا يُحفيه سائل [280] ولا ينقصه نائل، فإنّي لم آتك ثقةً منّي بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم وسلامك، أتيتك مقرّاً بالجرم والإساءة إلي نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ثمّ لم يمنعك طول عكوفهم [281] علي عظيم الجرم أن عدت [282] عليهم بالرحمة والمغفرة. اللهمّ إنّ هذا المقام [283] لخلفائك [284] وأصفيائك ومواضع اُمنائك [285] في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها [286] وأنت المقدّر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يُجاوز [ صفحه 143] المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنّي شئت...» [287] .

ظاهرة الدعاء والمناجاة في حياة الإمام

قال تعالي: (قل ما يعبؤا بكم ربّي لولا دعاؤكم فقد كذّبتم فسوف يكون لزاماً) [288] . قال السيد ابن طاووس رضوان الله تعالي عليه في مقام بيان ما تفيده الآية المباركة: فلم يجعل لهم لولا الدعاء محلاًّ ولا مقاماً فقد صار مفهوم ذلك أنّ محل الإنسان ومنزلته عند الله جلّ جلاله علي قدر دعائه وقيمته بقدر اهتمامه بمناجاته وندائه [289] . وفي ضوء هذه الحقيقة القرآنية نجد أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) كان يدعو الله تعالي ويناجيه في كلّ آن وعلي كلّ حال، مجسّداً فقره المطلق إلي الله جلّ جلاله، وهو ما يستبطن قدر الإمام ومكانته باعتبار أنّ المقام عند الله تعالي علي قدر دعائه ومناجاته أو علي قدر إدراكه لفاقته وحاجته إلي الله عزوجلّ، والعمل بما يقتضيه هذا الإدراك من انقطاع تامّ إلي الله تعالي والإعراض عن كلّ ما سواه. ونقتطف هنا بعض النصوص الشريفة من أدعية ومناجات الإمام(عليه السلام) التي تبيّن ذروة حالات اليقين والغني التي يمكن أن يصلها الإنسان إذا رسّخ في عقله وقلبه حقيقة (أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالي) فلا يتعلّق قلبه بغيره سبحانه، ولا يرجو شيئاً من سواه تعالي، ولا يحبّ شيئاً غيره ويعمر [ صفحه 144] أوقاته كلّها بذكره تعالي والعمل بطاعته: قال(عليه السلام): «اللهمّ صلّ علي محمّد وآله، واجعل سلامة قلوبنا في ذكر عظمتك، وفراغ أبداننا في شكر نعمتك، وانطلاق ألسنتنا في وصف منّتك، اللهمّ صلّ علي محمّد وآله، واجعلنا من دعاتك الداعين إليك، وهداتك الدالّين عليك، ومن خاصّتك الخاصّين لديك يا أرحم الرحمين» [290] . إنّه الانقطاع التامّ والكامل فكراً وذكراً وسلوكاً وخُلقاً لله جلّ جلاله. وقال(عليه السلام) مناجياً الله جلّ جلاله: «كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك؟! وكيف اُؤمّل سواك والخلق والأمر لك؟! أأقطع رجائي منك وقد أوليتني ما لم أسأله من فضلك أم تفقرني إلي مثلي وأنا اعتصم بحبلك؟! يا من سعد برحمته القاصدون، ولم يشق بنقمته المستغفرون، كيف أنساك ولم تزل ذاكري؟! وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي؟!» [291] . لقد انقطع(عليه السلام) إلي الله عزوجلّ كأعظم ما يكون الإنقطاع، فلم يأمل في جميع اُموره غيره معتقداً بأنّ الأمل بما في يد غيره سراب. وناجي ربّه عزوجل بقوله(عليه السلام): «إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك [292] ، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف [293] عوائدك [294] ، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك. إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي ونشري [295] . [ صفحه 145] جلّلتني [296] نعمك من أنوار الإيمان حللاً، وضربت عليّ لطائف برّك من العزّ كللاً [297] ، وقلّدتني مننك قلائد لا تحلّ، وطوّقتني أطواقاً لا تفلّ [298] ، فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن ادراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلي شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...» [299] . وهكذا يعلّمنا الإمام(عليه السلام) كيف نشكر الله تعالي علي ما أولانا من جزيل النعم، وأنّ الانسان مهما بالغ في شكره فإنّه عاجز وقاصر عن أداء الشكر. وقال(عليه السلام): «اللهمّ احملنا في سفن نجاتك، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك، واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نيّاتنا في معاملتك، فإنّا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلاّ أنت...» [300] . وهكذا طلب(عليه السلام) من الله تعالي أن يخلص نيّته في معاملته ويبلغه أعزّ أمانيه وهي ابتغاء رضوانه جلّ جلاله. وقال(عليه السلام): «... إلهي فَاسْلُك بنا سُبُلَ الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار [301] إليك يسارعون، وبابك علي الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم [ صفحه 146] المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب [302] ، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلي لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصي مقاصدهم حصّلوا. فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك مُني نفسي، وإليك شوقي، وفي محبّتك ولهي [303] ، وإلي هواك صبابتي [304] ، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي [305] وراحتي، وعندك دواء علّتي، وشفاء غلّتي [306] ، وبرد لوعتي [307] ، وكشف كربتي [308] » [309] . وهكذا انقطع(عليه السلام) إلي الله جلّ جلاله، وتعلّقت به روحه وعواطفه، فلم يبصر غيره، ولا يجد شافياً لغلّتهِ سواه. وقال(عليه السلام): «إلهي كسري لا يجبره إلاّ لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلاّ عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكِّنُها إلاّ أمانك، وذلّتي لا يعزّها إلاّ سلطانك، واُمنيّتي لا يبلّغنيها إلاّ فضلك، وخلّتي [310] لا يسدّها إلاّ طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوي رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغلّتي لا يبرّدها إلاّ وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي إليك لا يُبله إلاّ النظر إلي وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك» [311] . لقد أبدي الإمام(عليه السلام) فقره وفاقته إلي الله سبحانه، وقد هام(عليه السلام) بحبّ [ صفحه 147] سيّده ومولاه خالق الكون وواهب الحياة، فعقد جميع آماله عليه ورجاه في قضاء جميع اُموره كأعظم ما يكون الرجاء.

تجليات العرفان الإلهي

وقال(عليه السلام): «إلهي ما ألذّ خواطر الإلهام بذكرك علي القلوب، وما أحلي المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك! فأعذنا من طردك وإبعادك، واجعلنا من أخصّ عارفيك وأصلح عبادك وأصدق طائعيك وأخلص عبّادك» [312] . حقاً إنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) سيّد الموحّدين وزعيم العارفين بالله، ولم تكن عبادته تقليداً، وإنّما كانت ناشئة عن كمال معرفته بالله تعالي، وقد أعرب في النص المذكور عن كمال بغيته ألا وهو الإخلاص في عبادته سبحانه وتعالي. وقال(عليه السلام): «إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء [313] والملاء [314] والليل والنّهار والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنِسنا بالذكر الخفيّ، واستعملنا بالعمل الزكيّ والسعي المرضيّ. أنت المُسبّح في كلّ مكان، والمعبود في كلّ زمان، والموجود في كلّ أوان، والمدعوّ بكلّ لسان، والمعظّم في كلّ جنان [315] ، وأستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير اُنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك...» [316] . [ صفحه 148] ويأخذنا الذهول حينما نقرأ هذا النصّ السجّادي الذي أعطانا فيه صورة واضحة متميّزة عن تضرّعه وتذلّله أمام الله سبحانه الذي لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء. إنّ المعرفة الحقيقية بأنّ الإنسان فقير إلي الله تعالي ـ كما جسّدته النصوص السابقة ـ تجعله يلتجئ إليه تعالي دائماً، ومن هنا نجد أنّ للإمام السجاد(عليه السلام) أدعية في أوقات وحالات متعدّدة بالإضافة إلي ما أوردناه، فله (عليه السلام) دعاء في الصلاة علي محمّد وآله، وفي الصلاة علي حملة العرش، وفي اللجوء إلي الله تعالي، وفي طلب الحوائج، وعند المرض، وفي مكارم الأخلاق، ولجيرانه، ولأوليائه، ولأهل الثغور، وفي الإستخارة، وفي التوبة، وإذا نظر إلي الهلال، وفي يوم عيد الفطر، وفي التذلّل، وعند الشدّة، وعند ذكر الموت، وفي الرهبة، وفي استكشاف الهموم. وتجلّي من خلال الفصول السابقة أنّ سيرة الإمام زين العابدين(عليه السلام) جمعت له روح الثورة ضدّ الطغيان والحماس الجهادي إلي جانب المعرفة الإلهية الحقّة وشدّة التعبّد لله جلّ جلاله، فكانت سيرته(عليه السلام) توضيحاً للإجابة عن التساؤلات التي تثار عن إمكانية الجمع بين الدعاء والمناجاة من جهة والروح النهضوية والتضحوية من جهة اُخري. ولعلّ منشأ تلك التساؤلات هو توهّم البعض أنّ تفرّغهم للجهاد الأكبر ومجاهدة النفس والرياضات الشرعية والممارسات العبادية يغنيهم عن القتال والعمل الثوري والروح الجهادية باعتبارها جهاداً أصغر، إذ يغفلون عن حقيقة هي: أنّ القيام بالجهاد الأصغر هو أحد المحاور الأساسية للعمل بالجهاد الأكبر في إطاره الأوسع، وأنّ ترك الجهاد ناشئ في معظم الحالات عن هزيمة خفيّة في أحد ميادين الجهاد الأكبر، فالتلازم بين شدّة التقيّة [ صفحه 149] وشدّة البأس أصيل، إذ يعبّر عن حقيقة شمولية الشريعة والدين الالهي الحنيف لكافة أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. فالمعرفة التوحيدية والنهضة صفتان واضحتان جسّدهما أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، إذ لم تخل سيرتهم أبداً من اجتماعهما، ويتّضح ذلك من خلال التمعّن في مناجاتهم(عليهم السلام) وخطبهم في ميادين الحرب ومواقفهم ضد الحكّام المنحرفين، ونلحظ ذلك عند الإمام السجّاد(عليه السلام) في روحه الجهادية الناهضة التي لاحظناها من خلال تصريحاته في الشام وفي مجلس يزيد بن معاوية وهو الأسير المكبّل بالسلاسل، والردّ الحاسم منه في دار الإمارة بالكوفة علي من هدّده بالقتل بقوله: «أبالقتل تهدّدنا وإنّ كرامتنا الشهادة» [317] إنّ هذه الروح هي التي نطقت بأدعية الصحيفة السجادية وبالمناجاة الخمس عشرة [318] ، وفي هذا خير شاهد علي اجتماع روح الحماسة وروح الدعاء والمناجاة والعبادة. وهذه الحقيقة أدّت بدورها إلي أن تَحمل أدعية الإمام(عليه السلام) جوانب سياسية، وجهادية، واجتماعية، وأخلاقية، إلي جوار جوانبها العقائدية والمعرفية والعبادية، فكانت ذات أهداف تغييرية شاملة. لقد كانت للأدعية السجادية أبعاد فكرية واسعة المدي بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلي البتّ فيها بنص قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة تيارات الإلحاد كالتشبيه والجبر والإرجاء وغيرها ممّا كان الاُمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام والرجوع إلي الجاهلية الاُولي. وفي حالة القمع والإبادة ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار وتتبّع آثارهم [ صفحه 150] وخنق أصواتهم كان قرار الإمام زين العابدين(عليه السلام) باتّباع سياسة الدعاء أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمَن طريقة وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوي أداة اتّصال سرّية مكتوبة هادئة موثوقة [319] .

ظاهرة البكاء في حياة الإمام

تختلف دواعي البكاء عند الإنسان،فقد يبكي شوقاً إلي المحبوب، وقد يبكي اعتراضاً وصرخةً في وجه النظام الغشوم، ومن هنا يمكن تفسير وفهم ما جاء من: «أنّ البكاء علي الإمام أبي عبد الله الحسين وسيّد الشهداء(عليه السلام) من عوامل السعادة الخالدة والزلفي إلي المهيمن سبحانه». ولم يزل خاتم الأنبياء محمّد المصطفي(صلي الله عليه وآله) يبكيه في بيته وفي المسجد وحده تارة ومع أصحابه تارة اُخري، ويجيب من يسأله قائلاً: «أخبرني جبرئيل بقتل ولدي الحسين في جماعة من أهل بيته وأراني التربة التي يقتل فيها» [320] . مضافاً إلي ما في البكاء عليه من التعريف بالقساوة التي استعملها الاُمويون ولفيفهم، ومن هنا كان الأئمّة يحثّون شيعتهم علي عقد المحافل لذكر حادثة الطفّ واستدرار الدموع لكارثتها المؤلمة، وأكثروا من بيان الاُجور المترتّبة عليه إلي حد بعيد. وغير خفيّ أنّ إكثار الإمام زين العابدين(عليه السلام) من البكاء علي أبيه سيّد الشهداء طيلة حياته لم يكن لمحض الرقّة والعاطفة، بل إنّه(عليه السلام) لاحظ به غاية سامية وهي تعريف الأجيال المتعاقبة الواعية لهذا الخَطْب الجليل وهو (عليه السلام) [ صفحه 151] شاهد حال بما جاء به الاُمويّون من القساوة والفظاعة وخروجهم عن الدين والشريعة وتنمّرهم تجاه العدل والمروءة والإنسانية... لقد بكي علي أبيه المدّة التي عاش فيها حتي قال له مولاه: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فقال: (إنّما أشكوا بثّي وحزني إلي الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة» [321] . وقال له آخر: أما آنَ لحزنك أن ينقضي؟ فقال (عليه السلام): «ويلك لقد شكا يعقوب إلي ربّه في أقلّ ممّا رأيت حين قال: (يا أسفي) ولم يفقد إلاّ ابناً واحداً وهو حيّ في الدنيا وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي» [322] . وكان(عليه السلام) إذا أخذ الإناء لِيشرب الماء تذكّر عطش أبيه ومن معه فيبكي حتي يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك يقول: «كيف لا أبكي وقد مُنِع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع» [323] . وكثيراً ما كان يحدّث أصحابه بفوائد الحزن في مصابهم والبكاء علي ما انتابهم من المحن فيقول: «أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين حتي تسيل علي خدّه؛ بوّأه الله في الجنة غرفاً» [324] فكان صلوات الله عليه بإدامته البكاء علي أبيه يؤجِّج في الأفئدة ناراً لما ارتكبه اُولئك الطغاة من الجرائم والمآثم، يأبي الحنان البشري أن يكون صاحبها إنساناً فضلاً عن أن يقود اُمّةً أو يرأس رعيّةً، وفضلاً عن أن يكون خليفة في دين أو متبعاً في دنيا. وحيث لم تسعه المجاهرة بموبقات من اغتصبهم الخلافة الإلهية وجرّ [ صفحه 152] إليهم الويلات ونكّل بهم؛ اتّخذ (عليه السلام) البكاء طريقاً لتنبيه الناس بتلكم الجرائم، وهذا منه أكبر جهاد ناجع في تحطيم عرش من أهلك الحرث والنسل وعاث في البلاد فساداً وخبالاً، فكان بكاؤه متمّماً للنهضة المقدسة. وقد سبقته إلي هذا الجهاد الأكبر جدّته الصدّيقة الزهراء(عليها السلام) وحاولوا إسكاتها معتذرين بأنّ نفوسهم لا تطيب بطعام ولا شراب وعزيزة الرسول(صلي الله عليه وآله) تنوح الليل والنهار فلم تهدأ عن البكاء، فاضطر سيّد الأوصياء(عليه السلام) إلي إخراجها إلي البقيع بعد أن بني لها بيتاً من جريد النخل سمّاه «بيت الأحزان»، فإنّ الغرض تعريف الاُمّة من كان مستحقاً للخلافة الإلهية وقد اغتصبت منه. فالبكاء يوجب إلفات نظر الناس إلي الأسباب الباعثة عليه، وبهذا التفحّص تتجلي لهم الحقيقة ويسطع بصيصٌ مِنْ أَلَقِ الحَقِّ المحجوب بظلم الجائرين... [325] . لقد كان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها الإمام السجّاد(عليه السلام) وسيلة لإحياء ذكري كربلاء، كما استعمل أساليب اُخري: منها: زيارة الحسين(عليه السلام) والحثّ عليها. قال أبو حمزة الثمالي: سألت عليّ بن الحسين عن زيارة الحسين(عليه السلام) فقال: «زره كلّ يوم، فإن لم تقدر فكلّ جمعة، فإن لم تقدر فكلّ شهر، فمن لم يزره فقد استخفّ بحقّ رسول الله(صلي الله عليه وآله)» [326] ! [ صفحه 153] ومنها: الاحتفاظ بتراب قبر الحسين(عليه السلام) للسجود عليه [327] . ومنها: أنّه(عليه السلام) كان يتختّم بخاتم أبيه الحسين(عليه السلام) [328] .

ظاهرة الإعتاق في حياة الإمام

العتق ظاهرة فريدة جاءت بها الشريعة الإسلامية، وقد اعتني بها الأئمّة الأطهار إعتناءً تاماً، إلاّ أنّ تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) بالخصوص بشكل ليس له مثيل في تأريخ الإمامة، فهو أمر يسترعي الإنتباه والملاحظة الفاحصة. وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عاشها الإمام(عليه السلام) وقمنا ببعض المقارنات بين أعماله (عليه السلام) والأحداث التي كانت تجري من حوله والظروف التي اكتنفت عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمام(عليه السلام)؛ اتّضحت الصورة الحقيقية لأهدافه(عليه السلام) من ذلك. فيلاحظ أولاً: أنّ أعداد الرقيق والعبيد كانت تتواتر علي البلاد الإسلامية، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل علي أثر توالي الفتوحات. ثانياً: كان الاُمويون ينتهجون سياسة التمييز العنصري، إذ كانوا يعتبرون الموالي شبه الناس [329] . ثالثاً: أنّ الجهاز الحاكم علي الدولة الإسلامية ابتداءً من الخليفة نفسه ومروراً بالاُمراء والوزراء وانتهاءً بموظّفي الدولة كانوا لا يمثّلون الإسلام، وإنّما كانوا بالضدّ والنقيض مع أحكامه وأخلاقه وآدابه وإن كانت تلهج [ صفحه 154] ألسنتهم باسمه وتلعق بشهاداته. رابعاً: أنّ انتشار العبيد والموالي وبالكثرة الكثيرة ومن دون أيّ تحصين أخلاقي أو تربية إسلامية كان يؤدّي إلي شيوع البطالة والفساد، وهو ما ترمي إليه الدولة الظالمة. ويلاحظ فيما يتّصل بالإمام(عليه السلام): 1 ـ أنّ الإمام(عليه السلام) كان يشتري العبيد والإماء ولكن لا يُبقي أحدهم عنده أكثر من سنة واحدة فقط، وهذا يعني أنّه كان مستغنياً عن خدمتهم، فكان يعتقهم بحجج متعدّدة وفي مناسبات مختلفة. 2 ـ أنّ الإمام(عليه السلام) كان يعامل الموالي ـ لا كعبيد أو إماء ـ بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يعزّز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ويحبّب اليهم الإسلام وأهل البيت(عليهم السلام). 3 ـ أنّ الإمام(عليه السلام) كان يعلّم الرقيق أحكام الدين ويغذّيهم بالمعارف الإسلامية، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالمعلومات التي تفيده في حياته ويدفع بها الشبهات ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح. 4 ـ كان الإمام(عليه السلام) يزوّد من يعتقه بما يغنيه، فيدخل المجتمع ليزاول الأعمال الحرّة كأيّ فرد من الاُمّة، ولا يكون عالةً علي المجتمع. فالإمام(عليه السلام) كان يستهدف إسقاط السياسة التي كان يزاولها الاُمويون في معاملتهم للرقيق، فقد حقّق عمل الإمام(عليه السلام) النتائج التالية: أ ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله وإمائه الذين وقعوا في الأسر، وتلك حالة استثنائية، ومع أنّ الإسلام كان قد أقرّها لاُمور يعرف بعضها من خلال قراءة التأريخ الإسلامي، إلاّ أنّ الشريعة وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم الحرية، وقد استفاد الإمام(عليه السلام) من كلّ الظروف والمناسبات [ صفحه 155] لتطبيق تلك الطرق، وتحرير العبيد والإماء، ففي عمل الإمام(عليه السلام) تطبيق للشريعة الإسلاميّة. ب ـ إنّ الرقيق المعتَقين يشكّلون جيلاً من الطلاّب الذين تربّوا في بيت الإمام(عليه السلام) وعلي يده بأفضل صورة، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة والصدق والإخلاص وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة. فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكلّ ذلك في قرارات نفوسهم، في شعورهم أو لا شعورهم، وينقلونه إلي الأجيال اللاحقة، وفي ذلك حفظ للإسلام المحمدي الذي كُلّف أهل البيت(عليهم السلام) مسؤولية حفظه وإيصاله إلي الأجيال اللاحقة. ولا ريب أنّ الإمام(عليه السلام) لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس فلابدّ أنّه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم أو عرقلة لعمله أو رقابة شديدة في أقل تقدير، بينما كان حُرّاً في هذا المجال عن طريق توظيف ظاهرة طبيعية وعادية وهي شراء الرقيق وعتقهم في ذلك الظرف الذي كان يستساغ فيه مثل هذا العمل. ج ـ لقد استقطب الإمام(عليه السلام) ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين، إذ لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام(عليه السلام) ولا بُعد فيه إذا لاحظنا مَنْ يُعتَقُ مع من يرتبط به من أعضاء اُسرته وعائلته وأقربائه الذين سوف يوجدون ويرتبطون به عاطفياً وعقائدياً وسياسياً بشكل طبيعي. [ صفحه 159]

من تراث الإمام زين العابدين

اشاره

لم يذكر التأريخ أنّ الأئمّة من أهل البيت(عليه السلام) قد درسوا عند أحد أو تتلمذوا عند شخصية علمية سوي ما ورثوه من آبائهم الكرام عن النبيّ(صلي الله عليه وآله). وقد تميّزوا بعلومهم الزاخرة ومعارفهم الباهرة والتي ظهر شيء منها في الأوساط التي اكتنفتهم ونقل لنا بعض ما ظهر منهم. كما أجمع المؤرّخون علي أنّ الأئمة المعصومين(عليهم السلام) كانوا من أوسع الناس علماً وأكثرهم دراية في أكثر من مجال علمي. إنّ الإمامة والقيادة الرشيدة للاُمّة الإسلامية وللإنسانية المفتقرة إلي الهداية الربّانية تتطلّب إحاطة الإمام بكلّ علم يرتبط بمجال عمله ودائرة مسؤوليته، وقد أثبت أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هذه الحقيقة بشكل عملي قد سجّله التأريخ لنا بكلّ وضوح، ممّا أدّي إلي إثارة التيارات المخالفة لخط أهل البيت(عليهم السلام) ولا سيما الخلفاء الذين كانوا يرون الأئمّة أنداداً لهم لا يضاهيهم ند ولا شريك باعتبار تفوّقهم علماً وعملاً، وانتهت هذه الإثارات إلي السعي لاختبار الأئمّة(عليهم السلام) في أكثر من مجال وفي أكثر من عصر، بحيث سُجّلت هذه الاختبارات في التأريخ الإسلامي ودخلت مصادر التأريخ، ولم تترك مجالاً للريب في جدارة الأئمّة من أهل البيت للقيادة الربّانية، باعتبار ما أثبتوه للاُمّة [ صفحه 160] بكلّ وضوح وحقّقوه من مرجعيّتهم العلمية علي مختلف الأصعدة لكلّ من حاول اختبارهم وأراد الاطّلاع علي واقع عملهم. وقد جاء في نصوص الأحاديث الشريفة أنّ المؤمن ينظر بنور الله، وهو تعبير آخر عمّا جاء في قوله تعالي: (واتّقوا اللهَ ويعلِّمكم الله) [330] ، فلا بُعد فيما يعتقده الشيعة الإماميّة في أئمتهم(عليهم السلام) من أنّهم مُلهمون بإلهام إلهي وتعليم ربّاني، وقد ورّثهم الرسول(صلي الله عليه وآله) علمه وأدبه وكماله، وهم أهل بيت الوحي والرسالة، فهم أجدر من غيرهم بوراثة العلم والكمال الربّاني المُتَبلورَين في شخصيّة الرسول(صلي الله عليه وآله) القيادية وفي شخصيّة كلّ إمام من أهل البيت(عليهم السلام) الذين عيّنهم الرسول (صلي الله عليه وآله) بأمر من الله لتلك المهمّة الكبري والمسؤوليّة العظمي، وقد قال تعالي: (وما ينطق عن الهوي إن هو إلاّ وحيٌ يوحي) [331] . إنّ العلماء الذين تتلمذوا علي الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) ورووا عنهم بعض معارفهم خير شاهد علي سعة علوم الأئمّة وتميّزها عن علوم غيرهم ممّن عُرفوا بالعلم والدراية. ويمكن أن نصنّف بعض ما روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) إلي علوم القرآن والحديث والفقه والأخلاق والسيرة والتأريخ والعقائد، بالإضافة إلي ما أفاضه في طيّات أدعيته ووصاياه واحتجاجاته في علوم النفس والاجتماع والتربية والعرفان والإدارة والاقتصاد إلي غيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية. ونعرض بإيجاز صورة عن معارفه وعلومه التي سجّلها لنا التأريخ. [ صفحه 161]

في رحاب القرآن الكريم

اشاره

القرآن الكريم هو الوحي الإلهي الخالص والمعجزة الخالدة لنبوّة سيّد المرسلين وشريعة خاتم النبيّين والينبوع الثرّ لكلّ علم ومعرفة، وعنه قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): «إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» [332] . وقد شغف الإمام زين العابدين(عليه السلام) كآبائه الكرام ـ بشكل ملفت للنظر ـ بالقرآن الكريم وعلومه، وتمثّل ذلك في سلوكه اليومي وأدعيته واهتماماته، تلاوةً وتدبّراً وتفسيراً وتعليماً وعملاً، بما لا يدع مجالاً للريب في أنّ الإمام(عليه السلام) كان هو القرآن الناطق والتجسيد الحيّ لكلّ آيات القرآن الباهرة والمعجزة الإلهية الخالدة. وها نحن نعرض بعض ما يشير إلي مدي اهتمام الإمام(عليه السلام) بالقرآن العظيم من خلال دعائه عند ختم القرآن بالإضافة الي ما مرّ في البحوث السابقة. قال (عليه السلام): «اللهمّ إنّك أعنتني علي ختم كتابك الذي أنزلته نوراً، وجعلته مهيمناً علي كلّ كتاب أنزلته، وفضّلته علي كلّ حديث قصصته، وفرقاناً فرّقت به بين حلالك وحرامك، وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتاباً فصّلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته علي نبيّك محمّد صلواتك عليه وآله تنزيلاً، وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة [ صفحه 162] باتّباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلي استماعه، وميزان قسط [333] لا يحيف [334] عن الحقّ لسانه، ونور هديً لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضلّ من أمّ قصد سنّته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلّق بعروة عصمته. اللهمّ فإذا أفدتنا المعونة علي تلاوته، وسهلت جواسي ألسنتنا [335] بحسن عبادته، فاجعلنا ممّن يرعاه حقّ رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلي الإقرار بمتشابهه وموضّحات بيّناته، اللهمّ إنّك أنزلته علي نبيّك محمّد (صلي الله عليه وآله)، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسّراً وفضّلتنا علي من جهل علمه، وقوّيتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله. اللهمّ فكما جعلت قلوبنا له حملةً وعرّفتنا برحمتك شرفه وفضله فصلّ علي محمّد الخطيب به وعلي آله الخزّان له، واجعلنا ممّن يعترف بأنـّه من عندك حتي لا يعارضنا الشكّ في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه» [336] . إنّ القرآن هو معجزة الإسلام الكبري، وقد تحدّث سليل النبوّة في هذا المقطع عن بعض معالمه وأنواره وهي: 1 ـ إنّ الله تعالي أنزل القرآن الكريم نوراً يهدي به الضالّ، ويرشد به الحائر، ويوضّح به القصد. 2 ـ إنّ الله تعالي جعل القرآن الحكيم مهيمناً ومشرفاً علي جميع كتبه التي أنزلها علي أنبيائه، فهو يكشف عمّا حدث فيها من التغيير والتبديل والتحريف من قبل المنحرفين ودعاة الضلال. [ صفحه 163] 3 ـ إنّ الله تعالي فضّل كتابه العزيز علي كلّ حديث عرض فيه قصص الأنبياء وشؤونهم، فقد تناول الذكر الحكيم بصورة موضوعية وشاملة أحوالهم وشؤونهم واقتباس العبر منهم. 4 ـ إنّ القرآن الكريم باعتباره منهجاً ودستوراً عامّاً للحياة يفرّق بين الحلال والحرام، ويعرب عن شرائع الأحكام، ويفصّل جميع ما يحتاجه الناس تفصيلاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموضاً. 5 ـ إنّ الله تعالي كما جعل كتابه الحكيم نوراً يُهتدي به في ظلم الضلالة والجهالة كذلك جعله شفاءً من الأمراض والعاهات النفسية، وذلك لمن آمن به وصدّقه. 6 ـ إنّ الذكر الحكيم ميزان عدل وقسط، ليس فيه ميلٌ عن الحقّ، ولا اتّباع لهوي، وإنّ من تمسّك به واعتصم؛ فقد سلك الطريق القويم الذي لا التواء فيه، ونجا من الهلاك. 7 ـ طلب الإمام(عليه السلام) من الله جلّ جلاله أن يتفضل عليه برعاية كتابه والتسليم لمحكم آياته والإقرار بمتشابهاته. 8 ـ إنّ الله تعالي قد منح نبيّه العظيم فهم عجائب ما في القرآن الكريم وعلّمه تفسيره، كما أشاد بأئمّة الهدي من عترة الرسول(صلي الله عليه وآله) الذين رفعهم الله عزّوجلّ وأعلي درجتهم، فجعلهم خزنة علمه والأدلاّء علي كتابه.

نماذج من تفسير الإمام زين العابدين

كان الإمام(عليه السلام) من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم، وقد استشهد علماء التفسير بالكثير من روائع تفسيره، ويقول المؤرّخون أنّه كان صاحب مدرسة [ صفحه 164] لتفسير القرآن، وقد أخذ عنه ابنه الشهيد زيد في تفسيره للقرآن [337] كما أخذ عنه ابنه الإمام أبو جعفر محمد الباقر(عليه السلام) الذي رواه عنه زياد بن المنذر [338] الزعيم الروحي للفرقة الجارودية. وهذه نماذج من تفسيره(عليه السلام) لكتاب الله العزيز. 1 ـ روي الإمام محمد الباقر عن أبيه(عليهما السلام)، في تفسير الآية الكريمة: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) [339] ، أنّه سبحانه وتعالي جعل الأرض ملائمةً لطباعكم، موافقةً لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمأ [340] والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم [341] ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنّه عزّوجلّ جعل فيها من المتانة [342] ما تنتفون به، وتتماسكون عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم، ثمّ قال عزوجلّ: (والسماء بناءً) أي سقفاً من فوقكم، محفوظاً يدير شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثمّ قال عزوجلّ: (وأنزل من السماء ماءً) يعني المطر ينزله من عل ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وأوهادكم [343] ثم فرّقه رذاذاً ووابلاً وهطلاً [344] لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة [ صفحه 165] واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم، ثم قال عزوجلّ: (فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم) يعني ممّا يخرجه من الأرض رزقاً لكم (فلا تجعلوا لله أنداداً)أي أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر علي شيء (وأنتم تعلمون) أنّها لا تقدر علي شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم تبارك وتعالي [345] . وحوت هذه القطعة الذهبية من كلام الإمام زين العابدين(عليه السلام) أروع أدلة التوحيد وأوثقها، فقد أعطت صورة متكاملة مشرقة من خلق الله تعالي للأرض، فقد خلقها بالكيفية الرائعة التي ليست صلبة ولا شديدة ليسهل علي الإنسان العيش عليها، والانتفاع بخيراتها وثمراتها التي لا تحصي، فالأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والمعادن والبحار والأنهار وغير ذلك من أعظم الأدلة وأوثقها علي وجود الخالق العظيم الحكيم. كما استدل الإمام(عليه السلام) علي عظمة الله تعالي بخلقه السماء وما فيها من الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تزوّد هذه الأرض بأشعتها. إنّ أشعّة الشمس لها الأثر البالغ في تكوين الحياة النباتية، كما أنّ أشعة القمر لها الأثر علي البحار في مدّها وجزرها، وكذلك لأشعة سائر الكواكب، فإنّ الأثر التام في منح الحياة العامّة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض، وهذه الظواهر الكونية التي لم تكتشف إلاّ في هذه العصور الحديثة، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) ألمح إليها في كلامه، فكان حقّاً هو وآباؤه وأبناؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم، وساهموا في تكوين الحضارة الإنسانية. [ صفحه 166] وأعطي الإمام(عليه السلام) صورة متميزة عن الأمطار، وأنّها تتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة، وذلك لإحياء الأرض وإخراج ثمراتها، ولو دام المطر ونزل دفعة واحدة؛ لأَهلك الحرث والنسل. وبعدما أقام الإمام الأدلّة المحسوسة علي وجود الخالق الحكيم؛ دعا إلي عبادته وتوحيده ونبذ الأصنام والأنداد التي تدعو إلي انحطاط الفكر وجمود الوعي، لأنّها لا تضرّ ولا تنفع ولا تملك أيّ قدرة في إدارة هذا الكون وتصريف شؤونه. 2 ـ فسّر (عليه السلام) الآية الكريمة: (اُدخلوا في السلم كافّة) [346] بقوله: «السلم هو ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)» [347] ولا شك أنّ ولاية الإمام أمير المؤمنين وباب مدينة علم النبيّ(صلي الله عليه وآله) هي السلم الحقيقي الذي ينعم الناس في ظلاله بالأمن والرخاء والاستقرار، ولو أنّ المسلمين كانوا قد دانوا بهذه الولاية بعد وفاة النبيّ(صلي الله عليه وآله) لما داهمتهم الأزمات في حياتهم السياسية والاجتماعية. 3 ـ روي الإمام الصادق(عليه السلام) عن جدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) [348] أنّه قال: «إنّي ضامن علي ربّي تعالي أنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتي تقع في يد الربّ تعالي»، وكان يقول: «ليس من شيء إلاّ وكّل به ملك، إلاّ الصدقة فإنّها تقع في يد الله تعالي» [349] . 4 ـ سأل رجل الإمام زين العابدين(عليه السلام) عن الحقّ المعلوم الذي ورد في قوله تعالي: (والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم) [350] ، فقال (عليه السلام): [ صفحه 167] «الحقّ المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين»، فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقال(عليه السلام): «يصل به رحماً، ويقوّي به ضعيفاً، ويحمل له كلّه، أو يصل أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه» وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له: الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء [351] . 5 ـ فسّر الإمام(عليه السلام) الآية الكريمة: (فاصفح الصفح الجميل) [352] بأنّه العفو من غير عتاب [353] .

في رحاب الحديث الشريف

للحديث الشريف أهمية بالغة في العلوم الإسلامية، فقد بُني معظم الفقه الإسلامي عليه، فإنّه يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، فيذكر أنواعها من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، كما يذكر أجزاءها وشرائطها وموانعها وسائر ما يعتبر فيها، ويعرض لعمومات الكتاب ومطلقاته فيخصّصها ويقيّدها، وبالإضافة إلي ذلك يتناول آداب السلوك وقواعد الأخلاق، ويعطي البرامج الوافية لسعادة الإنسان وبناء شخصيته. وقد كان الإمام زين العابدين(عليه السلام) في عصر التابعين من أعظم الرواة وأهمّهم فضلاً عن كونه أحد مصادر بيان الأحكام والمعارف الإلهية باعتقاد الشيعة الإمامية باعتبار أنّ أحاديث الأئمّة(عليهم السلام) هي أحاديث رسول الله(صلي الله عليه وآله)، وقد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): «علّمني رسول الله ألف باب من [ صفحه 168] العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب» [354] وأيّد التاريخ هذا المعني فيما روي عن عليّ(عليه السلام) من العلوم والمعارف وأقرّت الصحابة بفضل عليّ وبمرجعيّته العلمية هو والأئمّة من بنيه، ولا غرو في ذلك بعد أن جعلهم الله أبواب الهدي وسفن النجاة كما صحّ عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) أنّه قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» [355] . والنصوص التي وصلتنا عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) قد صرّح في بعضها بأنّها عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) أو عن جدّه أمير المؤمنين، هذا فضلاً عمّا رواه عن أبيه الحسين(عليه السلام). وقد اعتني أئمّة الحديث بأحاديثه اعتناءً فائقاً باعتباره الرائد العلمي في عصر التابعين، ولولا مدرسته العلمية وجهوده التثقيفية المباركة؛ لاندرست أعلام الدين في عصر طغت فيه الميوعة ورُوِّجَت فيه الشهوات، واُريد للاُمّة الإسلامية أن تعود إلي جاهلية جهلاء. [ صفحه 169]

في رحاب اصول العقيدة و مباحث الكلام

كان الإمام(عليه السلام) في زمانه وحيد عصره في الإجابة علي الأسئلة العقائدية المعقّدة ولا سيّما ما تعرضت له الاُمّة الإسلامية من تيارات فكرية مستوردة أو دخيلة تحاول زعزعة كيان العقيدة الخالصة كمباحث القضاء والقدر والجبر والإختيار التي ظهرت بوادرها في حياة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذت بالنمو والانتشار بحيث شكّلت ظاهرة فكرية تستدعي الانتباه وتتطلّب العلاج. وبرز الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) علي الصعيد العلمي بروزاً جعله مناراً يشار إليه، وآمن به المسلمون جميعاً حتي قال الزهري عنه: ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين ولا أفقه منه. وقد اعترف بهذه الحقيقة حكّام عصر الإمام من خلفاء بني اُميّة ـ وهم لا يعترفون بالفضل لمن يطاولهم في الخلافة والسلطان ـ حتي قال عبد الملك ابن مروان للإمام زين العابدين(عليه السلام): ولقد اُوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلاّ من مضي من سلفك. ووصفه عمر بن عبد العزيز بأنّه سراج الدنيا وجمال الإسلام. وممّا ورد عنه في القضاء والقدر أنّ رجلاً سأله: جعلني الله فداك، أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ فأجابه(عليه السلام): «إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير جسد لا تحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصلحا، كذلك العمل والقدر، فلو لم يكن القدر واقعاً علي العمل لم يعرف الخالق من المخلوق، وكان القدر شيئاً لا يحسّ، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر؛ لم يمض ولم يتمّ ولكنهما باجتماعهما، ولله [ صفحه 170] فيه العون لعباده الصالحين» ثم قال(عليه السلام): «ألا إنّ من أَجور الناس من رأي جوره عدلاً وعدل المهتدي جوراً، ألا إنّ للعبد أربعة أعين: عينان يبصر بهما أمر آخرته، وعينان يبصر بهما أمر دنياه، فإذا أراد الله عزوجل بعبد خيراً؛ فتح له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما العيب، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه» ثمّ التفت إلي السائل عن القدر فقال: «هذا منه، هذا منه» [356] . وقال (عليه السلام) في بيان استحالة أن يوصف الله تعالي بالمحدودية التي هي من صفات الممكن: «لا يوصف الله تعالي بالمحدودية عظم الله ربّنا عن الصفة، وكيف يوصف بمحدودية من لا يُحَدّ، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير» [357] ؟

الامام زين العابدين ينص علي الأئمة من بعده و يبشر بالمهدي

1 ـ روي(عليه السلام) عن جابر بن عبدالله الأنصاري حديثاً طويلاً جاء فيه: أنّ رسول الله(صلي الله عليه وآله) أشار إلي سبطه الحسين قائلاً لجابر: «ومن ذرّيّة هذا رجل يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً...» [358] . 2 ـ وقال(عليه السلام) عن المهديّ(عليه السلام): «إنّ الإسلام قد يُظهِرهُ الله علي جميع الأديان عند قيام القائم» [359] . 3 ـ وقال(عليه السلام): «إذا قام القائم؛ أذهب الله عن كلّ مؤمن العاهة وردّ اليه قُوَّتَه» [360] . [ صفحه 171] 4 ـ وذكر(عليه السلام) أنّ سنن الأنبياء تجري في القائم من آل محمد(صلي الله عليه وآله): فمن آدم ونوح طول العمر، ومن إبراهيم خفاء الولادة واعتزال الناس، ومن موسي الخوف والغَيْبة، ومن عيسي(عليه السلام) اختلاف الناس فيه، ومن أيّوب الفَرَج بَعد البلوي، ومن محمّد(صلي الله عليه وآله) الخروج بالسيف [361] . 5 ـ وقال عن خفاء ولادته علي الناس: «القائم منّا تخفي ولادته علي الناس حتي يقولوا لم يولَد بَعد ليخرجَ حينَ يخرج وليس لأحد في عنقهِ بيعة» [362] . 6 ـ وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي [363] قال: دخلت علي سيّدي عليّ بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) فقلت له: يابن رسول الله! أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودّتهم، وأوجب علي خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله). فقال لي: «يا أبا كنكر! إنّ اُولي الأمر الذين جعلهم الله أئمّة الناس وأوجب عليهم طاعتهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ثم انتهي الأمر إلينا»، ثم سكت. فقلت له: يا سيّدي! روي لنا عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «لا تخلو الأرض من حجّة لله علي عباده» فمن الحجّة والإمام بعدك؟ قال: «ابني (محمّد) واسمه في التوراة (باقر) يبقر العلم بقراً، هو الحجّة والإمام بعدي، ومن بعد محمّد ابنه (جعفر) اسمه عند أهل السماء (الصادق)». فقلت له: يا سيّدي فكيف صار اسمه: (الصادق)، وكلّكم صادقون؟ [ صفحه 172] فقال: «حدّثني أبي عن أبيه أنّ رسول الله قال: «إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسموه الصادق، فإنّ الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراءً علي الله وكذباً عليه، فهو عند الله (جعفر الكذّاب) المفتري علي الله، المدّعي لما ليس له بأهل، المخالف علي أبيه، والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله». ثم بكي عليّ بن الحسين بكاءاً شديداً، ثمّ قال: «كأنـّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه علي تفتيش أمر وليّ الله، والمغيّب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلاً منه بولادته، وحرصاً علي قتله إن ظفر به، طمعاً في ميراث أبيه حتي يأخذه بغير حقّه». قال أبو خالد: فقلت له: يابن رسول الله وإنّ ذلك لكائن؟ فقال: «أي وربّي إنّه المكتوب عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله)». قال أبو خالد: فقلت: ياابن رسول الله ثمّ يكون ماذا؟ قال: «ثمّ تمتد الغيبة بوليّ الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده، يا أبا خالد! إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كلّ زمان، لأنّ الله تعالي ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، اُولئك المخلصون حقّاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلي دين الله سرّاً وجهراً». وقال(عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج» [364] . [ صفحه 173]

في رحاب الفقه و أحكام الشريعة

كانت الحلقة الدراسية التي أسّسها الإمام زين العابدين(عليه السلام) حلقة حافلة بصنوف المعرفة الإسلامية، وكان يفيض فيها الإمام من علومه وعلوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم علي الفقه والاستنباط، وقد تخرّج من هذه الحلقة الدراسية عدد كبير من فقهاء المسلمين. واستقطب الإمام عن هذا الطريق الجمهور الأعظم من القرّاء وحملة الكتاب والسُنّة حتي قال سعيد بن المسيّب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلي مكّة حتي يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب. وعلم الفقه بالمعني المعروف فعلاً هو العلم بأحكام أفعال المكلّفين علي ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، وكان الإمام هو المرجع الوحيد في عصره لإعطاء تفاصيل الأحكام الشرعية، وتعليم طريقة استنباطها من مصادرها الإسلامية، والمربي الفذَّ الذي تخرَّج علي يديه فقهاء المدينة، وكانت مدرسته هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهيّة. وقد قال عنه الزهري: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه [365] وعدّه الشافعي أفقه أهل المدينة. وروي المؤرّخون: أنّ الزهري كان يعترف بالفضل والفقه للإمام عليّ ابن الحسين(عليهما السلام) وكان ممّن يرجع إليه في ما يهمّه من الأحكام الشرعية، ورُوي أنّه رأي في منامه كأنّ يده مخضوبة، وفسّرت له رؤياه بأنّه يبتلي بدم خطأ، وكان في ذلك الوقت عاملاً لبني اُميّة، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة، [ صفحه 174] ففزع وخاف من الله، وفرّ هارباً فدخل في غار يتعبّد فيه، وكان الإمام(عليه السلام) قد مضي حاجّاً إلي بيت الله الحرام فاجتاز علي الغار الذي فيه الزهري، فقيل له: هل لك في الزهري حاجة؟ فأجابهم إلي ذلك، ودخل عليه فرآه فزعاً خائفاً، قانطاً من رحمة الله، فقال(عليه السلام) له: «إنّي أخاف عليك من القنوط ما لا أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدية مسلّمة إلي أهله، واخرج إلي أهلك ومعالم دينك». فاستبشر الزهري وقال له: فرّجت عنّي يا سيّدي، الله أعلم حيث يجعل رسالته في مَن يشاء [366] . ودخل الزهري مع جماعة من الفقهاء علي الإمام زين العابدين(عليه السلام) فسأل الإمام الزهريّ عمّا كانوا يخوضون فيه فقال له: تذاكرنا الصوم فأجمع رأيي ورأي أصحابي علي أنّه ليس من الصوم واجب إلاّ شهر رمضان. فنعي عليهم الإمام(عليه السلام) قلّة معلوماتهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين، وبيّن لهم أقسام الصوم قائلاً: «ليس كما قلتم، الصوم علي أربعين وجهاً، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها صومهنّ حرام، وأربعة عشر وجهاً صيامهنّ بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم الإذن علي ثلاثة أوجه، وصوم التأدّب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض». وبهر الزهري وبقية الفقهاء من سعة علم الإمام(عليه السلام) وإحاطته بأحكام الدين، وطلب منه الزهري ايضاح تلك الوجوه وبيانها، فقال(عليه السلام): «أمّا الواجب فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً، وصيام شهرين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، واجب، قال الله تعالي:(ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلي أهله ـ إلي قوله ـ: فمن لم يجد [ صفحه 175] فصيام شهرين متتابعين) [367] . وصيام شهرين متتابعين في كفّارة الظهار [368] لمن لم يجد العتق. قال الله تعالي: (والذين يُظاهرون من نسائهم ثم يعودون لِما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا) [369] . وصيام ثلاثة أيام: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفّارة أيمانكم إذا حلفتم) [370] ، كل ذلك تتابع وليس بمفترق. وصيام أذي الحلق (حلق الرأس) واجب، قال الله تبارك وتعالي:(فمن كان منكم مريضاً أو به أذيً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) [371] ، وصاحبها فيها بالخيار بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو نسك. وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي، قال الله تبارك وتعالي:(فمن تمتع بالعمرة إلي الحّج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملة) [372] . وصوم جزاء الصيد واجب، قال الله تبارك وتعالي:(ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً) [373] » [374] . [ صفحه 176] ثمّ قال(عليه السلام): «أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهريّ؟» فقال: لا أدري، قال(عليه السلام): «تقوّم الصيد قيمة ثمّ تفضي تلك القيمة علي البُرّ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعاً، فيصوم لكلّ نصف صاع يوماً. وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب [375] . وأمّا الصوم الحرام فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحي، وثلاثة أيام من أيام التشريق [376] وصوم يوم الشكّ اُمِرنا به ونُهينا عنه، اُمرنا أن نصومه من شعبان ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشكّ فيه الناس». والتفت الزهري إلي الإمام(عليه السلام) قائلاً: جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً كيف يصنع؟ قال(عليه السلام): «ينوي ليلة الشك أنـّه صائم من شعبان، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه، وإن كان من شعبان لم يضرّ». وأشكل الزهري علي الإمام: كيف يجزي صوم تطوع عن فريضة؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «لو أنّ رجلاً صام يوماً من شهر رمضان تطوعاً وهو لا يدري ولا يعلم أنـّه من شهر رمضان ثمّ علم بعد ذلك أجزأ عنه، لأنّ الفرض إنّما وقع علي اليوم بعينه». ثمّ استأنف الإمام حديثه في بيان أقسام الصوم قائلاً: «وصوم الوصال حرام [377] ، وصوم الصمت حرام [378] ، وصوم النذر للمعصية حرام، وصوم الدهر حرام. وأمّا الصوم الذي صار صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس والاثنين [ صفحه 177] وصوم الأيام البيض [379] وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان ويوم عرفة ويوم عاشوراء، كلّ ذلك صاحبه فيه بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر. وأمّا صوم الإذن فإنّ المرأة لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذن زوجها، والعبد لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن سيّده، والضيف لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن مضيّفه، قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): فمن نزل علي قوم فلا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذنهم. وأمّا صوم التأديب فإنّه يؤمر الصبيّ إذا راهق تأديباً وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلّة أول النهار، ثمّ قوي بعد ذلك أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثمّ قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض. وأمّا صوم الإباحة فمن أكل أو شرب أو تقيّأ من غير تعمّد أباح الله ذلك وأجزأ عنه صومه. وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة اختلفت فيه، فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالتين جميعاً، فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء في ذلك، لأنّ الله عزّوجلّ يقول: (فمن كان منكم مريضاً أو علي سفر فعدّة من أيّام اُخر...)» [380] . وانتهي هذا البحث الفقهي الذي ألقاه الإمام علي العلماء والفقهاء،وقد كشف عن مدي إحاطة الإمام بأحكام الشريعة وفروع الفقه، فقد فرّع علي الصوم هذه الفروع المهمّة التي غفل عنها العلماء، ومن الجدير بالذكر أنّ فقهاء الإمامية استندوا إلي هذه الرواية في فتاواهم بأحكام الصوم. [ صفحه 178]

حقائق علمية في الأدعية السجادية

بالرغم من أنّ الصحيفة السجادية وُظّفت أدعيتها لتربية الإنسان وترشيد حركته الفردية والاجتماعية ولكنّها تضمّنت جملة من الحقائق العلمية التي تنبئ عن إحاطة الإمام بالحقائق العلمية وشموخ مقامه العلمي ـ كما تضمّنت خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ودعاء عرفة للإمام الحسين(عليه السلام) قسماً كبيراً من العلوم والمعارف ـ فيما يرتبط بتركيبة الإنسان الجسمية وكيفية خلقه أو كيفية خلق أنواع الكائنات الاُخري الأرضية والسماوية. قال(عليه السلام): «سبحانك تعلم وزن السماوات، سبحانك تعلم وزن الأرضين، سبحانك تعلم وزن الشمس والقمر، سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء» [381] . كلّ ذلك في عصر لم تكن مثل هذه المفاهيم مطروحة في الأوساط العلمية في دنيا الإسلام أو غيرها. وأشار(عليه السلام) إلي إمكانية وجود الجراثيم في المياه والأطعمة في دعائه لأهل الثغور، داعياً علي الأعداء: «اللهمّ وامزج مياههم بالوباء، وأطعمتهم بالأدواء» [382] . وتجد في كثير من أدعيته (عليه السلام) إشارات واضحةً إلي أمثال هذه الحقائق العلمية. [ صفحه 179]

ادب الإمام زين العابدين

إنّ الإمام السجّاد توفّر علي نتاج فنّيّ ضخم يجيء ـ من حيث الكمّ ـ بعد الإمام عليّ(عليه السلام) كما يجيء ـ من حيث الكيف ـ متميّزاً بسمات خاصة، وفي مقدمة ذلك أدب الدعاء الذي منحه السجاد(عليه السلام) خصائص فكرية وفنّيّة تفرّد بها [383] . اتّجه الإمام في أدبه الخاصّ إلي نقد الأوضاع المنحرفة، وإلي بناء الشخصية الإسلامية في المستويين الفردي والإجتماعي، بحيث يمكن القول بأنّ أدبه كان تجسيداً للحركة الإسلامية مقابل الأدب الدنيوي الذي بدأ ينحرف مع انحرافات السلطة، وينحدر إلي ما هو عابث ومظلم ومنحرف([i]). وجاء في الصحيفة السجّادية الجامعة نقلاً عن الأصمعيّ أنّه قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلة، فإذا شابّ ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان وهو متعلّق بأستار الكعبة ويقول: «نامتِ العيون وغارتِ النجومُ وأنت الملكُ الحيّ القيّومُ، غلّقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حُرّاسها، وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين». ثم أنشأ يقول: يا من يُجيبُ دعاء المضطرّ في الظُلَمِ يا كاشفَ الضرّ والبَلوي مع السَقَمِ قد نام وفدُك حول البيت قاطبةً وأنت وحدك يا قيّومُ لم تنَمِ أدعوك ربِّ دعاءً قد أمرتَ به فارحم بكائي بحقّ البيتِ والحَرمِ إن كان عفوك لا يرجوهُ ذو سَرَف فمن يَجُودُ علي العاصينَ بالنِعَمِ؟ [ صفحه 180] قال: فاقتفيته فإذا هو زين العابدين(عليه السلام). كما جاء فيها عن طاووس اليماني أنّه قال: رأيتُ في جوف الليل رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: «ألا يا أيّها المأمول في كلّ حاجة شكوتُ إليك الضُرّ فاسمع شكايتي ألا يا رجائي أنت كاشف كُربتي فهب لي ذنوبي كلّها واقض حاجتي فزادي قليل لا أراه مبلّغي أللزادِ أبكي أم لبُعد مسافتي أتيتُ بـأعمال قباح ردية فما في الوري خلقٌ جني كجنايتي أتحرِقُني في النار يا غاية المُني فأين رجائي منك، أين مخافتي؟ قال: فتأمّلته فإذا هو عليّ بن الحسين(عليهما السلام). ومن أدبه المنظوم أيضاً ما ذكره أحمد فهمي محمد في كتاب الإمام زين العابدين عن فضل أهل البيت(عليهم السلام) ومكانتهم: لنحن علي الحوض روّاده نذود ونسقي وراده وما فاز من فاز إلاّ بنا وما خاب مَن حبّنا زادُه ومن سرّنا نال منّا السرور ومن ساءنا ساء ميلاده ومن كان غاصبنا حقّنا فيوم القيامة ميعادُه

احتجاجات الإمام زين العابدين

إنّ فن الاحتجاج والمناظرة العلمية فنّ جليل لما ينبغي أن يتمتّع به المناظر من مقدرة علمية وإحاطة ودقّة ولياقة أدبية. وقد تميّز أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بهذا الفنّ، واستطاعوا من خلال هذا المجال إفحام خصومهم وإثبات جدارتهم العلمية بنحو لا يدع مجالاً للريب في أنّهم مؤيّدون بتأييد ربّاني، وكما عبّر بعض [ صفحه 181] أعدائهم: أنّهم أهل بيت قد زُقّوا العِلمَ زقّاً. وقد جمع العلاّمة الطبرسي جملةً من احتجاجات المعصومين الأربعة عشر: الرسول(صلي الله عليه وآله) والزهراء(عليها السلام) والأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) في كتابه المعروف بالاحتجاج، ونشير هنا إلي بعض احتجاجات الإمام زين العابدين(عليه السلام). 1 ـ جاء رجل من أهل البصرة إلي عليّ بن الحسين(عليه السلام) فقال: يا عليّ بن الحسين! إنّ جدّك عليّ بن أبي طالب قتل المؤمنين، فهملت عينا عليّ بن الحسين دموعاً حتي امتلأت كفّه منها، ثمّ ضرب بها علي الحصي، ثم قال: «يا أخا أهل البصرة، لا والله ما قتل عليّ مؤمناً، ولا قتل مسلماً، وما أسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام، فلمّا وجدوا علي الكفر أعوانا أظهروه، وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمّد(صلي الله عليه وآله) أنّ أصحاب الجمل وأصحاب صفّين وأصحاب النهروان لعنوا علي لسان النبيّ الاُمّي، وقد خاب من افتري». فقال شيخ من أهل الكوفة: يا عليّ بن الحسين! إنّ جدّك كان يقول: «إخواننا بغوا علينا». فقال عليّ بن الحسين(عليه السلام): «أما تقرأ كتاب الله (وإلي عاد أخاهم هوداً) فهم مثلهم أنجي الله عزّوجلّ هوداً والذين معه وأهلك عاداً بالريح العقيم» [384] . 2 ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة علي عليّ بن الحسين(عليه السلام) فقال له: جعلني الله فداك، أخبرني عن قول الله عزوجل:(وجعلنا بينهم وبين القري التي باركنا فيها قريً ظاهرةً وقدّرنا فيها السير سيروا [ صفحه 182] فيها لياليَ وأيّاماً آمنين) [385] . قال له(عليه السلام): «ما يقول الناس فيها قبلكم؟». قال: يقولون إنّها مكّة. فقال(عليه السلام): «وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكّة». قال: فما هو؟ قال(عليه السلام): «إنّما عني الرجال». قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال(عليه السلام): «أو ما تسمع إلي قوله عزوجل:(وكأيّن من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) [386] وقال:(وتلك القري أهلكناهم لمّا ظلموا) [387] وقال:(واسئل القرية التي كنّا فيها والعِيرَ التي أقبلنا فيها) [388] أفيسأل القرية أو الرجال او العير؟ قال: وتلا عليه آيات في هذا المعني. قال: جعلت فداك! فمن هم؟ قال: نحن هم. فقال(عليه السلام): «أو ما تسمع إلي قوله:(سيروا فيها لياليَ وأيّاماً آمنين)؟». قال(عليه السلام): «آمنين من الزيغ» [389] . 4 ـ وروي: أنّ زين العابدين(عليه السلام) مرّ بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمني، فوقف(عليه السلام) عليه ثم قال: «أمسك، أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم، أترضاها لنفسك فيما [ صفحه 183] بينك وبين الله إذا نزل بك غداً؟». قال: لا. قال: «أفتحدّث نفسك بالتحوّل والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلي الحال التي ترضاها؟» قال: فأطرق مليّاً ثم قال: إنّي أقول ذلك بلا حقيقة. قال: «أفترجو نبيّاً بعد محمّد(صلي الله عليه وآله) يكون لك معه سابقة؟». قال: لا. قال: «أفترجو داراً غير الدار التي أنت فيها ترد اليها فتعمل فيها؟». قال: لا. قال: «أفرأيت أحداً به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟ إنّك علي حال لا ترضاها ولا تحدّث نفسك بالانتقال إلي حال ترضاها علي حقيقة، ولا ترجو نبيّاً بعد محمّد، ولا داراً غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها، وأنت تعظ الناس»، قال: فلمّا ولّي(عليه السلام) قال الحسن البصري: من هذا؟ قالوا: عليّ بن الحسين. قال: أهل بيت علم، فما رُئِي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس [390] . 5 ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت عليّ بن الحسين(عليه السلام) يحدّث رجلاً من قريش قال: لمّا تاب الله علي آدم واقع حوّاء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلاّ في الأرض، وذلك بعد ما تاب الله عليه، قال: وكان آدم يعظّم البيت وما حوله من حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشي حوّاء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحلّ، ثمّ يغتسلان إعظاماً منه للحرم، ثمّ يرجع إلي فناء البيت. [ صفحه 184] قال: فولد لآدم من حوّاء عشرون ذكراً وعشرون اُنثي، فولد له في كلّ بطن ذكر واُنثي، فأول بطن ولدت حواء «هابيل» ومعه جارية يقال لها: «أقليما»، قال: وولدت في البطن الثاني «قابيل» ومعه جارية يقال لها: «لوزا»، وكانت لوزا أجمل بنات آدم، (قال): فلمّا أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال: اُريد أن اُنكحك يا هابيل لوزا، واُنكحك يا قابيل أقليما. قال قابيل: ما أرضي بهذا، أتنكحني أخت هابيل القبيحة، وتنكح هابيل اُختي الجميلة؟ قال: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل علي لوزا وخرج سهمك يا هابيل علي أقليما زوّجت كلّ واحد منكما التي خرج سهمه عليها، قال: فرضيا بذلك فاقترعا، قال: فخرج سهم هابيل علي لوزا اُخت قابيل، وخرج سهم قابيل علي أقليما اُخت هابيل، قال: فزوّجهما علي ما خرج لهما من عند الله، قال: ثمّ حرّم الله نكاح الأخوات بعد ذلك». قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم. قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم! قال: فقال عليّ بن الحسين: «إنّ المجوس إنّما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله». ثمّ قال له عليّ بن الحسين(عليه السلام): «لا تنكر هذا، إنّما هي الشرايع جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له؟! فكان ذلك شريعة من شرايعهم، ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك» [391] . 6 ـ روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «لمّا قتل الحسين بن عليّ(عليه السلام) أرسل محمّد بن الحنفية إلي عليّ بن الحسين(عليه السلام) فخلا به ثم قال: [ صفحه 185] يابن أخي! قد علمت أنّ رسول الله كان جعل الوصيّة والإمامة من بعده لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ثمّ إلي الحسن، ثمّ الي الحسين، وقد قتل أبوك(رضي الله عنه) وصُلّيَ عليه ولم يوص، وأنا عمّك وصنو أبيك، وأنا في سنّي وقدمتي أحقّ بها منك في حداثتك، فلا تنازعني الوصيّة والإمامة ولا تخالفني. فقال له عليّ بن الحسين(عليه السلام): «اتق الله ولا تدّعِ ما ليس لك بحقّ، إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين، يا عم! إنّ أبي صلوات الله عليه أوصي إليّ قبل أن يتوجه الي العراق، وعهد إليّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله(صلي الله عليه وآله) عندي، فلا تعرض لهذا فإنّي أخاف عليك بنقص العمر وتشتت الحال، وإنّ الله تبارك وتعالي أبي إلاّ أن يجعل الوصيّة والإمامة إلاّ في عقب الحسين، فإن أردت أن تعلم فانطلق بنا إلي الحجر الأسود حتي نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك». قال الباقر(عليه السلام): «وكان الكلام بينهما وهما يومئذ بمكّة، فانطلقا حتي أتيا الحجر الأسود، فقال عليّ بن الحسين(عليه السلام) لمحمّد: إبدأ فابتهل إلي الله واسأله أن ينطق لك الحجر ثمّ سله، فابتهل محمّد في الدعاء وسأل الله ثمّ دعا الحجر فلم يجبه، فقال عليّ بن الحسين(عليه السلام): «أما إنّك يا عمّ لو كنت وصيّاً وإماماً؛ لأجابك». فقال له محمّد: فادع أنت يابن أخي، فدعا الله عليّ بن الحسين(عليه السلام) بما أراد ثمّ قال: «أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لمّا أخبرتنا بلسان عربيّ مبين مَن الوصيّ والإمام بعد الحسين بن عليّ»، فتحرّك الحجر حتي كاد أن يزول عن موضعه، ثمّ أنطقه الله بلسان عربيّ مبين فقال: اللّهمّ إنّ الوصية والإمامة بعد الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلي عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وابن فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه وآله)»، فانصرف محمّد وهو يتولّي [ صفحه 186] عليّ بن الحسين(عليه السلام) [392] . وعن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين(عليهم السلام) قال: «نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله علي العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المحجّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك السماء أن تقع علي الأرض إلاّ بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض ولو لا ما في الأرض منّا؛ لساخت الأرض بأهلها». ثمّ قال: «ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلي أن تقوم الساعة من حجّة الله، ولو لا ذلك لم يعبد الله».

من غرر حكم الإمام و مواعظه

قد عرفت أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) لم يترك مدينة جدّه الرسول(صلي الله عليه وآله) بل بقي مرابطاً فيها مشغولاً بتربية الاُمّة تربية فكرية وأخلاقية، وكان كلّ جمعة يعظهم ويحذّرهم من الدنيا وحبائلها ومكائدها التي جعلت كثيراً من أهل عصره في أسرها، وممّا قاله في التحذير من الدنيا والتزهيد فيها [393] . 1 ـ «كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين، أيّها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها وعلي حطامها [394] الهامد [395] وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذّركم الله منها، [ صفحه 187] وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلي ما في هذه الدنيا ركون من أعدّها داراً وقراراً [396] ، وبالله إنّ لكم ممّا فيها عليها دليلاً من زينتها وتصريف أيامها [397] وتغيير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، إنّها لترفع الخميل وتضع الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه». 2 ـ الوصيّة بالتقوي والإنابة الي الله تعالي والتحذير من معونة الظلمة: «فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولّونه فيها، لعلّ نادماً قد ندم علي ما قد فرّط بالأمس في جنب الله، وضيّع من حقّ الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه، فإنّه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وإيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم». 3 ـ موالاة أولياء الله عزّوجلّ: «وأعلموا أنـّه من خالف أولياء الله ودان بغير دين الله واستبدّ بأمره دون أمر وليّ الله في نار تلتهب، تأكل أبداناً قد غابت عنها أرواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتي لا يجدون حرّ النار، فاعتبروا يا اُولي الأبصار، واحمدوا الله علي ما هداكم، واعلموا أنـّكم لا تخرجون من قدرة الله إلي غير قدرته، وسيري الله عملكم ثم تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدّبوا بآداب الصالحين». 4 ـ «إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كلّ خليط [398] وخليل، ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون. ألا وإنّ العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا، الآخذ للموت اُهبته، الحاثّ علي العمل قبل فناء الأجل ونزول ما لا بدّ من [ صفحه 188] لقائه، وتقديم الحذر قبل الحين، فإنّ الله عزّوجلّ يقول:(حتي إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعونِ لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت) [399] ، فلينزل أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلي الدنيا، النادم علي ما فرّط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته». 5 ـ «واعلموا عباد الله أنّه من خاف البيات تجافي عن الوساد، وامتنع من الرقاد، وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا، فكيف؟ ويحك يابن آدم من خوف بيات سلطان ربّ العزّة، وأخذه الأليم، وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا بالليل والنهار، فذلك البيات الذي ليس منه مَنجي، ولا دونه ملتجأ ولا منه مهرب، فخافوا الله أيّها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوي، فإنّ الله يقول:(ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدِ) [400] ، فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها، وتذكّروا ضرر عاقبة الميل إليها، فإنّ زينتها فتنة وحبّها خطيئة. 6 ـ «فاتّقوا الله عباد الله وتفكّروا، واعملوا لما خلقتم له فإنّ الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سديً، قد عرّفكم نفسه، وبعث إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه، فيه حلاله وحرامه وحججه وأمثاله، فاتّقوا الله فقد احتجّ عليكم ربّكم فقال:(أَلَمْ نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) [401] ، فهذه حجّة عليكم، فاتّقوا الله ما استطعتم، فإنّه لا قوة إلاّ بالله ولا تكلان إلاّ عليه، وصلّي الله علي محمد نبيّه وآله». 7 ـ «إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة، ولكلّ واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، لأنّ الزاهدين في الدنيا اتّخذوا الأرض بساطاً، والتراب فراشاً، والمدر وِساداً، والماء طيباً، وقرضوا المعاشَ من الدنيا تقريضاً، اعلموا أنّه من اشتاق إلي الجنّة [ صفحه 189] سارع الي الحسنات وسلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار؛ رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها ولم يكرهها، وإنّ لله عزّوجلّ لعباداً قلوبهم معلّقة بالآخرة وثوابها وهم كمن رأي أهل الجنّة في الجنّة مخلّدين منعّمين، وكمن رأي أهل النار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أيّاماً قليلة فصاروا بعقبي راحة طويلة، أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تجري دموعهم علي خدودهم، وهم يجأرون إلي ربّهم [402] ، يسعون في فكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء بررة أتقياء، كأنهم القِداح [403] قد براهم الخوف من العبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضي، وما بالقوم من مرض أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم مِن ذِكر النارِ وما فيها». ومن غـرر كلماتـه (عليه السلام) [404] . «الخير كلّه صيانة الإنسان نفسه». «الرضي بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين». «من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا». «من قنع بما قسم الله له فهو من أغني الناس». «لا يقلّ عمل مع تقويً، وكيف يقلّ ما يتقبّل»؟ «قيل له: من أعظم الناس خطراً [405] ؟ فقال(عليه السلام): «من لم يرَ الدنيا خطراً لنفسه». وقال بحضرته رجل: اللّهمّ أغنني عن خلقك، فقال(عليه السلام): «ليس هكذا، إنّما [ صفحه 190] الناس بالناس، ولكن قل: اللّهمّ أغنني عن شرار خلقك». «اتّقوا الكذب، الصغير منه، والكبير، في كلّ جدّ وهزل، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ علي الكبير». «كفي بنصر الله لك أن تري عدوّك يعمل بمعاصي الله فيك». وقال له رجل: ما الزهد؟ فقال(عليه السلام): «الزهد عشرة أجزاء، فأعلي درجات الزهد أدني درجات الورع، وأعلي درجات الورع أدني درجات اليقين، وأعلي درجات اليقين أدني درجات الرضا، وإنّ الزهد في آية من كتاب الله: (لكي لا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)» [406] . «طلب الحوائج إلي الناس مذلّة للحياة ومذهبة للحياء واستخفاف بالوقار وهو الفقر الحاضر، وقلّة طلب الحوائج من الناس هو الغني الحاضر». «إنّ أحبّكم إلي الله أحسنكم عملاً، وإنّ أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإنّ أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشية لله، وإنّ أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإنّ أرضاكم عند الله أسْبَغكم [407] علي عياله، وإنّ أكرمكم علي الله أتقاكم». «يابني، اُنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، إيّاك ومصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب، وإيّاك ومصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك، وإيّاك ومصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإيّاك ومصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله». «إنّ المعرفة وكمال دين المسلم تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وحلمه، وصبره، وحسن خلقه». [ صفحه 191] «ابن آدم، إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحذر لك دثاراً [408] ، ابن آدم إنّك ميّت ومبعوث وموقوف بين يدي الله جلّ وعزّ، فأعدّ له جواباً». «لا حسب لقرشيّ ولا لعربيّ إلاّ بتواضع، ولا كرم إلاّ بتقويً، ولا عمل إلاّ بنيّة، ولا عبادة إلاّ بالتفقه، ألا وإنّ أبغض الناس إلي الله من يقتدي بسنّة إمام ولا يقتدي بأعماله». «المؤمن من دعائه علي ثلاث: إمّا أن يدّخر له، وإمّا أن يعجّل له، وإمّا أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه». «إنّ المنافق ينهي ولا ينتهي، ويأمر ولا يأتي، إذا قام إلي الصلاة اعترض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، يمسي وهمّه العشاء ولم يصم، ويصبح وهمّه النوم ولم يسهر، والمؤمن خلط عمله بحلمه، يجلس ليعلم، وينصت ليسلم، لا يحدّث بالأمانة للأصدقاء، ولا يكتم الشهادة للبعداء، ولا يعمل شيئاً من الحقّ رياءاً ولا يتركه حياءاً، إن زُكّي خاف ممّا يقولون، ويستغفر الله لما لا يعلمون، ولا يضرّه جهل من جهله». «كم من مفتون بحسن القول فيه، وكم من مغرور بحسن الستر عليه»؟ «ربّ مغرور مفتون يصبح لاهياً ضاحكاً، يأكل ويشرب وهو لا يدري لعلّه قد سبقت له من الله سخطة يصلي بها نار جهنم». «إنّ من أخلاق المؤمن الإنفاق علي قدر الإقتار، والتوسّع علي قدر التوسّع، وإنصاف الناس من نفسه، وابتداؤه إيّاهم بالسلام». «ثلاث منجيات للمؤمن: كفّ لسانه عن الناس واغتيابهم، وإشغاله نفسه بما ينفعه لآخرته ودنياه، وطول بكائه علي خطيئته». «نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودّة والمحبة له عبادة». [ صفحه 192] «ثلاث من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله [409] ، وأظلّه الله يوم القيامة في ظلّ عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: من أعطي الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يُقَدِّم يداً ولا رجلاً حتي يعلم أنّه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتي يترك ذلك العيب من نفسه، وكفي بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس». «ما من شيء أحبّ إلي الله بعد معرفته من عفّة بطن وفرج، وما]من[شيء أحبّ الي الله من أن يسأل». «افعل الخير إلي كلّ من طلبه منك، فإن كان أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن بأهل كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلي يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره». «مجالس الصالحين داعية إلي الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة الأمر تمام العزّ، واستنماء المال تمام المروّة، وإرشاد المستشير قضاء لحقّ النعمة، وكفّ الأذي من كمال العقل وفيه راحة للبدن عاجلاً أو آجلاً». وكان عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إذا قرأ الآية:(وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها) [410] يقول: «سبحان مَن لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلاّ المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم بأنّه لا يدركه، فشكر عزّوجلّ معرفة العارفين بالتقصير عن معرفته، وجعل معرفتهم بالتقصير شكراً، كما جعل علم العالمين أنّهم لا يدركونه إيماناً، علماً منه أنّه قدّر وسع العباد فلا يجاوزون ذلك». «سبحان من جعل الاعتراف بالنعمة له حمداً، سبحان من جعل الاعتراف بالعجز عن الشكر شكراً». [ صفحه 193]

رسالة الحقوق

اشاره

تكفّلت رسالة الحقوق تنظيم أنواع العلاقات الفردية والاجتماعية للإنسان في هذه الحياة بنحو يحقّق للفرد والمجتمع سلامة العلاقات، ويجمع لهما عوامل الاستقرار والرقيّ والازدهار. «لقد نظر الإمام الحكيم (عليه السلام) بعمق وشمول للإنسان، ودرس جميع أبعاد حياته وعلاقاته مع خالقه ونفسه واُسرته ومجتمعه وحكومته ومعلّمه» [411] وكلّ من يرتبط به أدني ارتباط. ويمكن أن نقول: إنّ تنظيم العلاقات الاجتماعية علي أساس تعيين مجموعة الحقوق بشكل دقيق هو الرصيد الأول للنظام الاجتماعي الإسلامي، وهو المبني المعقول للتشريعات الإسلامية عامّة، فإنّ الذي يفهم بعمق هذه الرسالة ويدرس بدقّة حقوق الخالق وحقوق المخلوقين بعضهم تجاه بعض يتسنّي له أن يفهم أسرار التشريع الإسلامي وفلسفة الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لتنظيم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً. إنّ العدالة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإدارية لن تتحقّق ما لم يُطبّق نظام الحقوق بشكل دقيق أوّلاً، وتنظّم الأحكام والتشريعات علي أساس تلك [ صفحه 194] الحقوق، وفيما نعلم أنّ الإمام(عليه السلام) قد سبق العلماء والقانونيين جميعاً في دنيا الإسلام بل في دنيا الإنسان في هذا المضمار الذي علي أساسه ترتكز اُصول الأخلاق والتربية ونظم الاجتماع. وقد كتب الإمام زين العابدين(عليه السلام) هذه الرسالة العظيمة واتحف بها بعض أصحابه، ورواها العالم الكبير ثقة الإسلام ثابت بن أبي صفيّة المعروف بأبي حمزة الثمالي تلميذ الإمام(عليه السلام) كما رواها عنه بسنده المحدّث الصدوق في كتابه «الخصال» وثقة الإسلام الكليني في «الكافي» والحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني في «تحف العقول» وهي من المصادر القديمة الموثوقة. والإمام(عليه السلام) قبل بيانه للحقوق يشير إلي أنّ هناك حقوقاً محيطةً بالإنسان، ولا بد له من معرفتها، ثمّ يبيّن أكبر الحقوق وهو ما يرتبط بالله سبحانه بالنسبة لعبده، ثمّ يفرّع عليها حقوق الإنسان المفروضة من الله تجاه نفس الإنسان، فيبيّن أنواع علاقة الإنسان بنفسه من خلال المنظار الآلهي، ثمّ ينتهي الي أنواع العلاقة بين الإنسان وبيئته التي تشتمل علي قيادة ومقودين ورعاة ورعية، مع بيانه لأنواع الأئمّة والمأمورين ودرجاتهم، ثمّ يبيّن سائر العلاقات مع الأرحام والاُسرة وأعضائها، ثمّ من تشتمل عليه الاُسرة من الموالي والجواري، ثمّ سائر ذوي الحقوق كالمؤذّن والإمام في الصلاة والجليس والشريك والغريم والخصم والمستشير والمشير والمستنصح والناصح والسائل والمسؤول والصغير والكبير.. حتي ينتهي إلي من يشترك مع الإنسان في دينه من بني الإنسان، ثمّ حقوق من يشترك مع الإنسان في الإنسانية وفي النظام السياسي الذي يخضع له وإن لم يكن من أهل ملّته ودينه. [ صفحه 195] وفيما يلي نصّ الرسالة كما وردت في الخصال [412] :

عرض إجمالي للحقوق

اشارة

«اعلم، أنّ لله عزّوجلّ عليك حقوقاً محيطة بك في كلّ حركة تحرّكتها، أو سكنة سكنتها، أو حال حلتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها، أو آلة تصرّفت فيها، فأكبر حقوق الله تبارك وتعالي عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقّه الذي هو أصل الحقوق، ثمّ ما أوجب الله عزوجل عليك لنفسك من قرنك إلي قدمك علي اختلاف جوارحك، فجعل عزّوجلّ للسانك عليك حقّاً، ولسمعك عليك حقّاً، ولبصرك عليك حقاً، وليدك عليك حقّاً، ولرجلك عليك حقّاً، ولبطنك عليك حقّاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثمّ جعل عزّوجلّ لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقّاً، ولصومك عليك حقّاً، ولصدقتك عليك حقّاً، ولهديك عليك حقّاً، ولأفعالك عليك حقّاً. ثمّ تخرج الحقوق منك إلي غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، فأوجبها عليك حقوق أئمّتك، ثمّ حقوق رعيّتك، ثمّ حقوق رحمك، فهذه حقوق تتشعّب منها حقوق، فحقوق أئمّتك ثلاثة، أوجبها عليك حقّ سائسك بالسلطان، ثمّ حقّ سائسك بالعلم، ثمّ حقّ سائسك بالملك، وكلّ سائس إمام. وحقوق رعيتك ثلاثة، أوجبها عليك حقّ رعيتك بالسلطان، ثمّ حقّ رعيتك بالعلم، فإنّ الجاهل رعية العالم، ثمّ حقّ رعيّتك بالملك من الأزواج وما ملكت الأيمان، وحقوق رعيّتك كثيرة متّصلة بقدر اتّصال الرحم في [ صفحه 196] القرابة، وأوجبها عليك حقّ اُمّك، ثمّ حقّ أبيك، ثمّ حقّ ولدك، ثمّ حقّ أخيك، ثمّ الأقرب فالأقرب والأولي فالأولي، ثمّ حقّ مولاك المنعم عليك، ثمّ حقّ مولاك الجارية نعمته عليك [413] ، ثمّ حقّ ذوي المعروف لديك، ثمّ حقّ مؤذّنك لصلاتك، ثمّ حقّ إمامك في صلاتك، ثمّ حقّ جليسك، ثمّ حقّ جارك، ثمّ حقّ صاحبك، ثمّ حقّ شريكك، ثمّ حقّ مالك، ثمّ حقّ غريمك الذي تطالبه؟ ثمّ حقّ غريمك الذي يطالبك، ثمّ حقّ خليطك، ثمّ حقّ خصمك المدّعي عليك، ثمّ حقّ خصمك الذي تدّعي عليه، ثمّ حقّ مستشيرك، ثمّ حقّ المشير عليك، ثمّ حقّ مستنصحك، ثمّ حقّ الناصح لك، ثمّ حقّ من هو أكبر منك، ثمّ حقّ من هو أصغر منك، ثمّ حقّ سائلك، ثمّ حقّ من سألته، ثمّ حقّ من جري لك علي يديه مساءة بقول أو فعل عن تعمّد أو غير تعمّد، ثمّ حقّ أهل ملّتك عليك، ثمّ حقّ أهل ذمّتك، ثمّ الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرّف الأسباب. فطوبي لمن أعانه الله علي قضاء ما أوجب عليه من حقوقه، ووفّقه لذلك وسدّده.

تفصيل الحقوق

حق الله

فأمّا حقّ الله الأكبر عليك: فأن تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت بالإخلاص جعل لك علي نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة.

حق النفس

وحقّ نفسك عليك: أن تستعملها بطاعة الله عزّوجلّ. [ صفحه 197]

حقوق الاعضاء

1 ـ وحقّ اللسان: إكرامه عن الخني، وتعويده علي الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالناس، وحسن القول فيهم. 2 ـ وحقّ السمع: تنزيهه عن سماع الغيبة، وسماع ما لا يحلّ سماعه. 3 ـ وحقّ البصر: أن تغضّه عمّا لا يحلّ لك وتعتبر بالنظر به. 4 ـ وحقّ يدك: أن لا تبسطها إلي ما لا يحلّ لك. 5 ـ وحقّ رجليك: أن لا تمشي بهما إلي ما لا يحلّ إليك، فبهما تقف علي الصراط، فانظر أن لا تزلّ بك فتردي في النار. 6 ـ وحقّ بطنك: أن لا تجعله وعاء للحرام، ولا تزيد علي الشبع. 7 ـ وحقّ فرجك: أن تحصنه عن الزنا، وتحفظه من أن يُنْظرَ إليه.

حقوق الأفعال

1 ـ وحقّ الصلاة: أن تعلم أنّها وفادة إلي الله عزّوجلّ وأنت فيها قائم بين يدي الله عزّوجلّ، فإذا علمت ذلك قمت مقام العبد الذليل الحقير الراغب الراهب الراجي الخائف المستكين المتضرّع المعظّم لمن كان بين يديه بالسكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك، وتقيمها بحدودها وحقوقها. 2 ـ وحقّ الحجّ: أن تعلم أنّه وفادة إلي ربّك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك. 3 ـ وحقّ الصوم: أن تعلم أنّه حجاب ضربه الله علي لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك. [ صفحه 198] 4 ـ وحقّ الصدقة: أن تعلم أنّها ذخرك عند ربّك عزّوجلّ، ووديعتك التي لا تحتاج الإشهاد عليها، فإذا علمتَ ذلك كنتَ بما تستودعه سرّاً أوثق منك بما تستودعه علانيةً، وتعلم أنّها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة. 5 ـ وحقّ الهدي: أن تريد به وجه الله عزّوجلّ، ولا تريد به خلقه، ولا تريد به إلاّ التعرض لرحمة الله ونجاة روحك يوم تلقاه.

حقوق الأئمة

1 ـ وحقّ السلطان: أن تعلم أنّك جعلت له فتنة، وأنّه مبتل فيك بما جعله الله عزّوجلّ له عليك من السلطان، وأنّ عليك أن لا تتعرّض لسخطه فتلقي بيدك الي التهلكة، وتكون شريكاً له فيما يأتي إليك من سوء. 2 ـ وحقّ سائسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، وأن لا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتي يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدوّاً، ولا تعادي له وليّاً، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس. 3 ـ وأمّا حقّ سائسك بالملك: فأن تطيعه ولا تعصيه إلاّ فيما يسخط الله عزّوجلّ، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

حقوق الرعية

1 ـ وأمّا حقّ رعيّتك بالسلطان: فأن تعلم أنّهم صاروا رعيّتك لضعفهم [ صفحه 199] وقوّتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عزّوجلّ علي ما آتاك من القوّة عليهم. 2 ـ وأمّا حقّ رعيّتك بالعلم: فأن تعلم أنّ الله عزوجل إنّما جعلك قيّماً لهم فيما آتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تفجر عليهم زادك الله من فضله، وإن أنت منعت النّاس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقّاً علي الله عزّوجلّ أن يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلّك. 3 ـ وأمّا حقّ الزوجة: فأن تعلم أنّ الله عزّوجلّ جعلها لك سكناً واُنساً، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقّك عليها أوجب فإنّ لها عليك أن ترحمها، لأنّها أسيرك وتطعمها وتكسوها، فإذا جَهِلتْ عَفوتَ عنها. 4 ـ وأمّا حقّ مملوكك: فأن تعلم أنّه خلق ربّك وابن أبيك واُمّك ولحمك ودمك، لم تملكه لأنّك صنعته دون الله، ولا خلقت شيئاً من جوارحه ولا أخرجت له رزقاً، ولكنّ الله عزّوجلّ كفاك ذلك، ثمّ سخّره لك وائتمنك عليه واستودعك إيّاه، ليحفظ لك ما تأتيه من خير إليه فأحسن إليه كما أحسن الله إليك، وإن كرهته استبدلت به، ولم تعذِّب خلق الله عزّوجلّ، ولا قوّة إلاّ بالله.

حقوق الرحم

1 ـ وحقّ اُمّك: أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً، ووَقَتْك بجميع جوارحها، ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعري وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها [ صفحه 200] إلاّ بعون الله تعالي وتوفيقه. 2 ـ وأمّا حقّ أبيك: فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره علي قدر ذلك، ولا قوّة إلاّ بالله. 3 ـ وأمّا حقّ ولدك: فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة علي ربّه عزّوجلّ، والمعونة له علي طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب علي الإحسان إليه، معاقب علي الإساءة إليه. 4 ـ وأمّا حقّ أخيك: فأن تعلم أنّه يدك وعزّك وقوّتك، فلا تتّخذه سلاحاً علي معصية الله، ولا عدّة للظالم لخلق الله، ولا تدع نصرته علي عدوّه والنصيحة له، فإن أطاع الله وإلاّ فليكن الله أكرم عليك منه، ولا قوّة إلاّ بالله. 5 ـ وأمّا حقّ مولاك المنعم عليك: فأن تعلم أنّه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذلّ الرقّ ووحشته إلي عزّ الحرية واُنسها، فأطلقك من أسر الملكة، وفكّ عنك قيد العبودية، وأخرجك من السجن، وملكك نفسك، وفرّغك لعبادة ربّك، وتعلم أنّه أولي الخلق بك في حياتك وموتك، وأنّ نصرته عليك واجبة بنفسك وما احتاج إليه منك، ولا قوّة إلاّ بالله. 6 ـ وأمّا حقّ مولاك الذي أنعمت عليه: فأن تعلم أنّ الله عزّوجلّ جعل عتقك له وسيلةً إليه، وحجاباً لك من النار، وأنّ ثوابك في العاجل ميراثه إذا لم يكن له رحم مكافأة بما أنفقت من مالك وفي الآجل الجنّة.

حقوق عامة الناس والأشياء

1 ـ وأمّا حقّ ذي المعروف عليك: فأن تشكره وتذكر معروفه وتكسبه [ صفحه 201] المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عزوجل، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانيةً، ثمّ إن قدرت علي مكافأته يوماً كافيته. 2 ـ وأمّا حقّ المؤذِّن: أن تعلم أنّه مذكّر لك ربّك عزّوجلّ، وداع لك إلي حظّك، وعونك علي قضاء فرض الله عليك، فاشكره علي ذلك شكرك للمحسن إليك. 3 ـ وأمّا حقّ إمامك في صلاتك: فأن تعلم أنّه قد تقلّد السفارة فيما بينك وبين ربّك عزّوجلّ، وتكلّم عنك ولم تتكلّم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وكفاك هول المقام بين يدي الله عزّوجلّ، فإن كان به نقص كان به دونك، وإن كان تماماً كنت شريكه، ولم يكن له عليك فضل فوقي نفسك بنفسه وصلاتك بصلاته فتشكّر له علي قدر ذلك. 4 ـ وأمّا حقّ جليسك: فأن تلين له جانبك، وتنصفه في مجازاة اللفظ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه، ومن يجلس إليك يجوز له القيام عنك بغير إذنك، وتنسي زلاّته، وتحفظ خيراته، ولا تُسمعه إلاّ خيراً. 5 ـ وأمّا حقّ جارك: فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتّبع له عورة، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلّمه عن شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرةً كريمةً، ولا قوّة إلاّ بالله. 6 ـ وأمّا حقّ الصاحب: فأن تصحبه بالتفضّل والإنصاف، وتكرمه كما يكرمك، وكن عليه رحمةً، ولا تكن عليه عذاباً، ولا قوّة إلاّ بالله. 7 ـ وأمّا حقّ الشريك: فإن غاب كفيته، وإن حضر رعيته، ولا تحكم دون حكمه، ولا تعمل رأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، ولا تخونه فيما عزّ أو هان من أمره، فإنّ يد الله تبارك وتعالي علي الشريكين ما لم يتخاونا، ولا [ صفحه 202] قوّة إلاّ بالله. 8 ـ وأمّا حقّ مالك: فأن لا تأخذه إلاّ من حلّه، ولا تنفقه إلاّ في وجهه، ولا تؤثر علي نفسك من لا يحمدك، فاعمل فيه بطاعة ربّك، ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع السعة، ولا قوّة إلاّ بالله. 9 ـ وأمّا حقّ غريمك الذي يطالبك: فإن كنت موسراً أعطيته، وإن كنت معسراً لرضيته بحسن القول، ورددته عن نفسك ردّاً لطيفاً. 10 ـ وحقّ الخليط: أن لا تغرّه، ولا تغشّه ولا تخدعه، وتتّقي الله تبارك وتعالي في أمره. 11 ـ وحقّ الخصم المدّعي عليك: فإن كان ما يدّعي عليك حقّاً كنتَ شاهده علي نفسك ولم تظلمه، وأوفيته حقّه، وإن كان ما يدّعي باطلاً رفقت به، ولم تأت في أمره غير الرفق، ولم تسخط ربّك في أمره، ولا قوّة إلاّ بالله. 12 ـ وحقّ خصمك الذي تدّعي عليه: إن كنت محقّاً في دعوتك أجملت مقاولته ولم تجحد حقّه، وإن كنت مبطلاً في دعوتك اتّقيت الله عزّوجلّ وتبت إليه وتركت الدعوي. 13 ـ وحقّ المستشير: إن علمت أنّ له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلي من يعلم. 14 ـ وحقّ المشير عليك: أن لا تتّهمه فيما لا يوافقك من رأيه، فإن وافقك حمدت الله عزّوجلّ. 15 ـ وحقّ المستنصح: أن تؤدّي إليه النصيحة وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به. 16 ـ وحقّ الناصح: أن تلين له جناحك، وتصغي إليه بسمعك، فإن أتي الصواب حمدت الله عزّوجلّ، وإن لم يوافق رحمته ولم تتّهمه، وعلمت أنّه [ صفحه 203] أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلاّ أن يكون مستحقّاً للتهمة فلا تعبأ بشيء من أمره علي حال، ولا قوّة إلاّ بالله. 17 ـ وحقّ الكبير: توقيره لسنّه، وإجلاله لتقدّمه في الإسلام قبلك، وترك مقابلته عند الخِصام، ولا تسبقه إلي طريق ولا تتقدّمه، ولا تستجهله، وإن جهل عليك احتملته وأكرمته لحقّ الإسلام وحرمته. 18 ـ وحقّ الصغير: رحمته في تعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له. 19 ـ وحقّ السائل: إعطاؤه علي قدر حاجته. 20 ـ وحقّ المسؤول: إن أعطي فاقبل منه بالشكر والمعرفة بفضله، وإن منع فاقبل عذره. 21 ـ وحقّ من سرّك لله تعالي ذكره: أن تحمد الله عزّوجلّ أوّلاً ثمّ تشكره. 22 ـ وحقّ من أساءك: أن تعفو عنه، وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّ انتصرت، قال الله تبارك وتعالي:(ولمن انتصر بعد ظلمه فاُولئك ما عليهم من سبيل) [414] . 23 ـ وحقّ أهل ملّتك: إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم، وتألّفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم، وكفّ الأذي عنهم، وتحبّ لهم ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن يكون شيوخهم بمنزلة أبيك، وشبّانهم بمنزلة إخوتك، وعجائزهم بمنزلة اُمّك، والصغار بمنزلة أولادك. 24 ـ وحقّ أهل الذمّة: أن تقبل منهم ما قبل الله عزّوجلّ، ولا تظلمهم ما وفوا لله عزّوجلّ بعهده. [ صفحه 204] وقد تصدّي جملة من العلماء [415] والقانونيّين لشرح هذه الرسالة الفريدة وبشتّي اللغات وعلي مختلف المستويات، وإن شئت التفصيل والاستضاءة بأنوارها ـ أكثر ممّا مرّ ـ فراجعها. [ صفحه 205]

في رحاب الصحيفة السجادية

اشاره

لقد خطّط القرآن الكريم لثورة ثقافية عظيمة، وكانت آياته الاُولي تبشّر بحركة كبري في عالم العلم والمعرفة، حيث ابتدأ الوحي الربّاني بالأمر بالقراءة أمراً مؤكدّاً والإشارة بنعمة التعليم الإلهي والاهتمام بظاهرتي القلم والكتابة في التعليم وتدوين المعرفة ونقلها وتطويرها وتطوير الإنسان من خلال تكامل المعرفة وتطوّر العلوم. والرسول الأمين وإن عرف عنه بأنّه لم يتعلّم القراءة والكتابة المتعارفة ولكنّه قد حثّ علي طلب العلم ونشره وتدوينه بإلهام إلهي، وبالرغم من أنّ الجهاز الحاكم الذي خلف الرسول (صلي الله عليه وآله) أصدر قراراً بمنع تدوين حديث الرسول (صلي الله عليه وآله) وبذلك وجّه ضَربةً كبيرةً للثقافة الإسلامية المتمثّلة في أحاديث الرسول الأعظم، لكنّها قد تدوركت بعد أن خلّفت مضاعفات كبيرةً لا زال العالم الإسلامي والإنساني يدفع ضريبتها حتي يومنا هذا بعد أن لمسوا تلك المضاعفات الكبري التي ترتّبت علي مثل هذا القرار. وأمّا الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانوا قد أدركوا في وقت مبكّر مضاعفات منع التدوين والنكسة التي سوف يصاب بها العالم الإسلامي بل الإنساني، فبادروا إلي التدوين وشجّعوا أصحابهم علي عملية التدوين [ صفحه 206] بالرغم من أنّه كان ذلك يشكّل تحدّياً للسلطات آنذاك، لأنّ حفظ الشريعة والدفاع عنها يعدّ من أعظم الأهداف التي جُعل الأئمّة المعصومون حُرّاساً لها أمناء عليها. فالأئمّة الأطهار(عليهم السلام) هم الروّاد الأوائل الذين خطّطوا لمسيرة الاُمّة الثقافية، وفجّروا لها ينابيع العلم والحكمة علي هدي الكتاب الحكيم وتعاليم الرسول العظيم، ولم يقتصر النشاط الثقافي للأئمّة(عليهم السلام) علي جانب خاص، وإنّما تناول أنواع العلوم وشتي مجالات المعرفة. فالإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو رائد هذه النهضة العلمية والفاتح لأبواب العلوم العقلية والنقلية والمؤسس لاُصولها وقواعدها، وقد اعترف بهذه الحقيقة جملة من العلماء الكبار وألّف السيّد حسن الصدر كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» فأثبت فيه تأريخياً صحة هذه الدعوي. وممّن اعترف بذلك الاُستاذ عباس محمود العقّاد في كتابه «عبقرية الإمام عليّ» قائلاً: إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علماً، فوضع قواعدها واُسس اُصولها. وقال العلاّمة ابن شهر آشوب في كتابه «معالم العلماء»: الصحيح أنّ أوّل من صنّف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ سلمان ثمّ أبو ذر ثمّ الأصبغ بن نباتة ثمّ عبيد الله بن أبي رافع، ثمّ صنّفت الصحيفة الكاملة. فالصحيفة السجّادية من ذخائر التراث الإسلامي ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق والأدب في الإسلام، ومن هنا سمّيت بــ «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمد» [416] . [ صفحه 207]

مميزات الصحيفة السجادية

1 ـ إنّها تمثّل التجرّد التام من عالم المادّة والانقطاع الكامل إلي الله تعالي والاعتصام به، والذي هو أثمن ما في الحياة. 2 ـ إنّها تكشف عن كمال معرفة الإمام(عليه السلام) بالله تعالي وعميق إيمانه به. 3 ـ امتازت الصحيفة السجادية علي سائر أدعية المعصومين(عليهم السلام) بتكرار الصلاة علي محمّد وآل محمد لأنّه من الأرجح أن هذه الأدعية اُنشئت في أعقاب واقعة كربلاء التي كان منشؤها يزيد الذي كان هو وأبوه وجدّه ومن ورائهم بنو اُمية يسعون في إطفاء النور المحمّدي(صلي الله عليه وآله). والأرجح ان الإمام كان يريد من خلال هذه الأدعية تكريس مبادئ الإسلام وترسيخها في النفوس في مواجهة المساعي الاُموية الهدّامة. 4 ـ فتحت الصحيفة للإنسان المسلم أبواب الأمل والرجاء برحمة الله الواسعة. 5 ـ كما فتحت للمناظرات البديعة مع الله تعالي باباً مهمّاً يتضمّن أنواع الحجج البالغة لاستجلاب عفو الله وغفرانه، مثل قوله(عليه السلام): «إلهي إن كنتَ لا تغفر إلاّ لأوليائك وأهل طاعتك فإلي من يفزع المذنبون؟! وإن كنتَ لا تُكرِم إلاّ أهل الوفاء لك فبمن يستغيث المُسيئون؟!». وهكذا قوله: «إلهي إنّي امرؤ حقير وخطري يسير وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة...». 6 ـ تضمّنت الصحيفة برامج أخلاقية روحية وسلوكية مهمّة لتربية الإنسان، ورسمت له اُصول الفضائل النفسية والكمالات المعنويّة. [ صفحه 208] 7 ـ احتوت علي حقائق علمية لم تكن معروفةً في عصره. وقد أشرنا إلي بعض منها [417] . 8 ـ كما تصدّت الصحيفة لمواجهة الفساد الفردي والإجتماعي والسياسي في عصر أشاعت فيه السياسة الاُموية الفساد الأخلاقي والخلاعة والمجون بين المسلمين، فكانت الصحيفة خير وسيلة للإصلاح في أحلك الظروف التي اتّبع فيها الاُمويون سياسة القمع والإرهاب. 9 ـ والصحيفة بعد هذا هي منجم من مناجم البلاغة والفصاحة وينبوع ثرّ للأدب الإسلامي الهادف، فهي لا تفترق عن «نهج البلاغة» في هذا المضمار. 10 ـ وقد ضمّن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أدعيته ـ التي تمثّلت في الصحيفة الكاملة وسائر الأدعية التي وصلت عنه وجُمعت مؤخّراً في ما سمّي بــ «الصحيفة الجامعة» ـ منهاجاً كاملاً للحياة الإنسانية الفريدة، ولم يترك الإمام جانباً ممّا تحتاجه الاُمّة الإسلامية إلاّ وتعرّض له وعالجه باُسلوبه الفذّ وبلاغته البديعة.

الدور التأريخي للصحيفة السجادية

قلنا: إنّ المسلمين في عصر الإمام زين العابدين(عليه السلام) واجهوا «خطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بدّ من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما: أحدهما: الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين علي ثقافات متنوّعة [ صفحه 209] وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، وكان لا بدّ من عمل علي الصعيد العلمي يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنّة، وكان لا بدّ من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير والممارس الذكيّ الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كلّ ما يستجدّ له من حالات. كان لا بد إذن من تأصيل للشخصية الإسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد، وهذا ما قام به الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول (صلي الله عليه وآله)... وأمّا الخطر الآخر: فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل، لأنّ موجات الرخاء تعرّض أيّ مجتمع إلي خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الآخر، وبما تضعه هذه الصلة أمام الإنسان من أهداف كبيرة، وهذا ما وقع فعلاً، وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ليتّضح الحال. وقد أحسّ الإمام عليّ بن الحسين بهذا الخطر، وبدأ بعلاجه، واتّخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، وكانت الصحيفة السجادية من نتائج ذلك، فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما اُوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة علي أساليب التعبير العربي وذهنية ربّانية تتفتّق عن أروع المعاني وأدقّها في تصوير صلة الإنسان بربّه ووجده بخالقه وتعلّقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبّر عنه ذلك [ صفحه 210] من قيم خلقية وحقوق وواجبات. أقول: قد استطاع الإمام عليّ بن الحسين بما اُوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جوّاً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشدّه إلي ربّه حينما تجرّه الأرض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية، لكي يظلّ أميناً عليها في عصر الغني والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة علي بطنه. وهكذا نعرف أنّ الصحيفة السجّادية تعبّر عن عمل إجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه علي الإمام، إضافةً إلي كونها تراثاً ربّانياً فريداً يظلّ علي مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب وتظلّ الإنسانية بحاجة إلي هذا التراث المحمّدي العلوي، وتزداد حاجةً كلّما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنة» [418] .

سند الصحيفة السجادية

ينتهي سند الصحيفة إلي الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) وإلي أخيه الشهيد زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وقد ذكرت سلسلة السند في مقدمة الصحيفة، وحظي هذا السند بالتواتر، وما زال العلماء يتلقّونها موصولة الإسناد بالإسناد. قال السيّد محسن الأمين العاملي: «وبلاغة ألفاظها ـ أي الصحيفة ـ وفصاحتها التي لا تباري وعلوّ مضامينها وما فيها من أنواع التذلّل لله تعالي والثناء عليه والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه أقوي شاهد علي صحّة نسبتها، وإنّ هذا الدرّ من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك [ صفحه 211] المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلي اشتهارها شهرةً لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلي منشئها صلوات الله عليه وعلي آبائه وأبنائه الطاهرين، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة إلي زين العابدين (عليه السلام) وقد كانت منها نسخة عند زيد الشهيد ثمّ انتقلت إلي أولاده، وإلي أولاد عبدالله بن الحسن المثنّي، كما هو مذكور في أوّلها، مضافاً إلي ما كان عند الباقر (عليه السلام) من نسختها، وقد اعتني بها عامّة الناس فضلاً عن العلماء اعتناءً بروايتها وضبط ألفاظها ونسخها، وواظبوا علي الدعاء بأدعيتها في الليل والنهار والعشي والإبكار» [419] .

شروح الصحيفة السجادية

عكف العلماء علي دراسة الصحيفة السجّادية وشرحها وإيضاح مقاصدها، وقد اُلّفت في ذلك مجموعة من الكتب القيّمة ذكرها شيخ المحقّقين الشيخ آغا بزرك الطهراني في موسوعته المعروفة بــ «الذريعة إلي تصانيف الشيعة». وقد أحصي ستّة وستين شرحاً لها.

وصف الصحيفة بــ «الكاملة»

1 ـ ذكروا أنّ سبب تسمية هذه الصحيفة بـ «الكاملة» هو أنّ لدي الزيدية نسخة ناقصة من هذه الصحيفة تصل إلي نصفها، ولذلك عرفت هذه الصحيفة بالكاملة [420] . 2 ـ وذهب البعض الي أنّ السبب في إطلاق هذه الصفة علي الصحيفة [ صفحه 212] هو كونها تمثّل مجموعة كاملة تنتظم حاجات العبد من الله تعالي في أغلب الموارد وحول أغلب المتطلّبات [421] .

الصحيفة السجادية الجامعة

قال جامعها: ويستفاد من ديباجة نسخ الصحيفة السجّادية المتداولة أنّ عدد أدعيتها «75» دعاءً إلاّ أنّ عدد الأدعية الموجودة فيها الآن برواية محمد ابن أحمد المطهّري هي «54» دعاءً. وقد اُلّفت صحائف اُخري جمعت أدعيته (عليه السلام) وذكر في بعضها تلك الأدعية الساقطة. ثمّ ذكر خمس صحائف اُخري، ومن هنا بادرت مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) إلي جمع أدعيته وتنظيمها بالشكل الذي حافظ علي سلامة ترتيب الأدعية الموجودة في الصحيفة الكاملة المتداولة. قال: ولمّا كانت الصحيفة الكاملة تعدّ من المتواترات لاختصاصها بالإجازة والرواية في كلّ طبقة وعصر لذلك جُمعت بعض أسانيدها وإجازاتها المتكثّرة، ورُتّبت شجرة للأسانيد علي غرار شجرة الأنساب مع ترجمة أكثر رواة السند المتداول للصحيفة الكاملة، وعمل لها مجموعة من الفهارس الفنيّة اللازمة فازدانت بها جمالاً وكمالاً. وللتحقّق ممّا قلناه من أنّها «مجموعة كاملة تنتظم حاجات العبد من الله تعالي» يجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة إلي الخطوط العريضة علي الفهرس الموضوعي لهذه الصحيفة الجامعة [422] . [ صفحه 213]

الموضوعات العامة للصحيفة الجامعة

1 ـ أدعيته (عليه السلام) في التحميد والتوحيد والتمجيد، وفيها (8) أدعية. 2 ـ أدعيته في الصلوات، وهي (14) دعاءً. 3 ـ دعاؤه لنفسه وخاصّته. 4 ـ أدعيته في الصباح والمساء، وفيها (8) أدعية. 5 ـ أدعيته في المهمّات والكربات والاستعاذة، وفيها (6) أدعية. 6 ـ أدعيته في الاعتراف والاستغفار، وفيها (9) أدعية. 7 ـ أدعيته في طلب الحوائج وقضائها، وفيها (5) أدعية. 8 ـ أدعيته إذا اعتُدي عليه، وفيها دعاءان. 9 ـ أدعيته في الأمراض والبلايا، وفيها (3) أدعية. 10 ـ دعاؤه في الاستقالة. 11 ـ دعاؤه في الاستعاذة من الشيطان. 12 ـ أدعيته في الحذر، وفيها دعاءان. 13 ـ أدعيته في الاستسقاء، وفيها دعاءان. 14 ـ أدعيته في مكارم الأخلاق، وفيها دعاءان. 15 ـ أدعيته في الحزن والشدّة، وفيها (4) أدعية. 16 ـ أدعيته في العافية، وفيها دعاءان. 17 ـ أدعيته فيمن دعا لهم، وهم: الأبوان والولد والجيران والأولياء وأهل الثغور وجملة من الأشخاص. 18 ـ أدعيته فيمن دعا عليهم. 19 ـ أدعيته في الفزع إلي الله، وفيها دعاءان. [ صفحه 214] 20 ـ أدعيته في الرزق وقضاء الدين، وفيها (4) أدعية. 21 ـ أدعيته في التوبة، وفيها دعاءان. 22 ـ أدعيته في التهجّد، وفيها (15) دعاءً. 23 ـ أدعيته في الإستخارة، وفيها (3) أدعية. 24 ـ دعاؤه في الإبتلاء. 25 ـ دعاؤه في الرضا. 26 ـ دعاؤه عند النظر إلي آيات الله. 27 ـ دعاؤه عند رؤية الهلال. 28 ـ أدعيته في الشكر، وفيها دعاءان. 29 ـ أدعيته في الاعتذار من التبعات، وفيها دعاءان. 30 ـ أدعيته في طلب الرحمة وذكر الموت، وفيها (7) أدعية. 31 ـ دعاؤه في طلب الستر والوقاية. 32 ـ دعاؤه عند ختم القرآن. 33 ـ أدعيته في الأشهر الثلاثة، وفيها (34) دعاءً. 34 ـ أدعيته في الأيام المباركة، وفيها (8) أدعية. 35 ـ دعاؤه في الملتزم. 36 ـ أدعيته لدفع الأعداء، وفيها (10) أدعية. 37 ـ أدعيته في الاحتجاب والرهبة، وفيها دعاءان. 38 ـ أدعيته في التضرّع والتذلّل، وفيها (8) أدعية. 39 ـ أدعيته لكشف الهمومودفع المصائبوالاحتراز، وفيها(11) دعاءً. 40 ـ أدعيته في المناجاة، وفيها (39) دعاءً. 41 ـ أدعيته في الاستجابة والقنوت، وفيها (3) أدعية. [ صفحه 215] 42 ـ أدعيته في السجود، وفيها (10) أدعية. 43 ـ أدعيته في الأيام، وفيها (36) دعاءً. 44 ـ أدعيته في الزيارات، وفيها دعاءان. 45 ـ أدعيته في مطالب الدنيا والآخرة، وفيها (3) أدعية. 46 ـ أدعيته عند الطعام، وفيها (3) أدعية. 47 ـ أدعيته في صدر الموعظة وآخرها، وفيها دعاءان. 48 ـ أدعيته إذا خرج من منزله أو آوي إلي فراشه أو طلي بالنورة. 49 ـ دعاؤه عند محاكمته محمد بن الحنفيّة إلي الحجر الأسود. 50 ـ دعاؤه الذي فيه الاسم الأعظم. [ صفحه 217]

مدرسة الإمام زين العابدين

إنّ حالة الجمود الفكريّ والركود العلميّ التي أصابت الاُمّة الإسلامية بسبب سيطرة بني أميّة علي الحكم كانت تستدعي حركة فكرية اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين كي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانبري إلي تأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية بما بدأه من حلقات البحث والدرس في مسجد الرسول (صلي الله عليه وآله) وبما كان يثيره في خطبه في صلوات الجُمَع اُسبوعيّاً. أخذ الإمام (عليه السلام) يحدّث بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وأخلاق، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم علي التفقّه والاستنباط. وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهية وشخصيات علمية [423] . ونلمس من خلال ما ورد عن الإمام (عليه السلام) من أحاديث ترتبط بالعلم والعلماء أنّه قد خطّط لهذه الحركة العلمية تخطيطاً بارعاً، فهو بالإضافة إلي [ صفحه 218] تفرّغه للتعليم ـ بالرغم من جميع الهموم والآلام التي تركتها له واقعة الطفّ الأليمة وما تلاها من حوادث مؤلمة في العالم الإسلامي ـ نجده يشيد بفضل العلم ويحثّ المستعدّين للتعلّم حثّاً أكيداً قولاً وعملاً، وتكريماً من جهة، كما نجده يرسم للمتعلّمين آداب التعلّم، ويبيّن حقوق المعلّم والمتعلّم، ويرغّبهما في تحمّل هذا العبء ببيان ثواب التعلّم والتعليم، بحيث استطاع أن يجمع عدداً كبيراً من طلاّب المعرفة الذين عُرفوا بالقرّاء باعتبار أنّ قراءة القرآن وحفظه وتعليم تفسيره كانت هي المحور في التعلّم والتعليم حينذاك، ولم يكن للحديث أو السيرة أو الفقه تدوين وتأليف باعتبار الحظر الذي أوجدته السلطة بعد غياب الرسول (صلي الله عليه وآله)، فلم يكن الخط العام في صالح هذه الحركة الفكرية. ومع كلّ هذا نلاحظ احتفاء القرّاء والفقهاء والعلماء بالإمام بنحو لا نجد له نظيراً في غيره من العصور، فإنّ القرّاء كانوا لا يفارقونه في حضر أو سفر حتي قال سعيد بن المسيّب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلي مكّة حتّي يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب [424] . قال (عليه السلام) مشيداً بفضل العلم وثوابه وأهمّيته: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إنّ الله تبارك وتعالي أوحي إلي دانيال: إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للإقتداء بهم، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء» [425] . «طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلاً علي رطب ولا يابس [ صفحه 219] من الأرض إلاّ سبّحت له الأرضون السبع» [426] . وكان (عليه السلام) يكرم طلاّب العلوم ويرفع منزلتهم ويرحّب بهم قائلاً: «مرحباً بوصيّة رسول الله (صلي الله عليه وآله)». وكان إذا نظر إلي الشباب وهم يطلبون العلم أدناهم إليه وقال: «مرحباً بكم أنتم ودايع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين» [427] . وقد لاحظنا ما جاء في رسالة الحقوق من الإشادة بفضل العالم وحقوقه علي المتعلّمين من التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وعدم رفع الصوت عليه والدفاع عنه وستر عيوبه وإظهار مناقبه وعدم مجالسة أعدائه وعدم معاداة أوليائه. كما نلاحظ تأكيده علي عدم كتمان العلم وعدم التجبّر بالنسبة للمتعلّمين وحسن الإتقان في فنّ التعليم وعدم ابتغاء الأجر المادّي علي التعاليم. كلّ هذا يشير إلي تخطيط واضح في سلوك الإمام (عليه السلام) لايجاد حركة ثقافية واسعة وتأسيس تيّار ثقافي يتسنّي له أن يقف أمام التيّارات المنحرفة والتخطيط الاُموي الذي لم يرق له تفتّح الوعي الإسلامي عند أبناء المسلمين. وقد خرّجت مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كوكبةً من العلماء الفقهاء والمفسّرين الذين سطعت أسماؤهم في العالم الإسلامي، وإليهم يعود الفضل في دفع عجلة الإحياء العلميّ في ذلك العصر الرهيب وما تلاه من عصور. ونشير فيما يلي إلي الأسماء اللاّمعة في هذا الصدد: 1 ـ 3 ـ وفي مقدمتهم الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) وأخواه: زيد [ صفحه 220] والحسين ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ (عليهم السلام). 4 ـ أبان بن تغلب بن رباح، أبو سعيد البكري الجريري: كوفيّ المولد والنشأة، وكان نابهاً ومقدّماً في كلّ فن، من قرآن وحديث وأدب ولغة ونحو، وتتلمذ عند الأئمّة الثلاثة: السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام)، وكان يقول له الإمام الباقر (عليه السلام): «اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإنّي اُحبّ أن يُري في شيعتي مثلك» وألّف أبان في تفسير غريب القرآن وفي فضائل أهل البيت كما روي ما يناهز ثلاثين ألف حديث عن أئمّته (عليهم السلام) [428] . 5 ـ إسماعيل بن عبد الخالق: وجه من وجوه أصحاب الأئمّة وفقيه من فقهائهم، وأدرك الإمام الصادق (عليه السلام) وروي عنه وعن الإمام الباقر والسجّاد أيضاً [429] . 6 ـ ثابت بن أبي صفيّة: وهو أبو حمزة الثمالي، عالم جليل ورع تقيّ، تربّي بآداب أهل البيت وحمل علومهم ومعارفهم، وأجمع المترجمون علي وثاقته وأنّه كسلمان الفارسي في زمانه، وكانت الشيعة ترجع إليه في الكوفة لإحاطته بفقه أهل البيت (عليهم السلام). 7 ـ رشيد الهجري: من أبطال الإسلام وأعلام الجهاد، وقد صلبه الاُمويّون من أجل عقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام). 8 ـ زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، كان يتولّي صدقات رسول الله(صلي الله عليه وآله)، وكان جليل القدر كريم الطبع زكيّ النفس كثير البرّ. 9 ـ سعيد بن جبير، أبو محمد مولي بني والبة: كوفي تابعي نزل مكّة وهو من أعلام المجاهدين، وكان من أبرز علماء عصره في التفسير والفقه [ صفحه 221] وأنواع العلوم، واستشهد بأمر الحجّاج في شعبان (95 هـ). 10 ـ سعيد بن المسيّب المخزومي: من كبار التابعين، وقال فيه الإمام زين العابدين (عليه السلام): إنّه أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأفصحهم في زمانه، وكان يبجّل الإمام كثيراً [430] . إنّ هؤلاء بعض تلامذته والرواة عنه، علي أنّ الإمام (عليه السلام) كان يربّي الموالي بشكل ليس له نظير، وكلّ من أعتقه الإمام يمكن أن يعدّ ممّن تربّي علي يد الإمام، فلا ينحصر تراث الإمام فيما كتب وما روي عنه فقط، بل يمكن أن يتّسع لكلّ عمل تربوي صدر عن الإمام وبقيت آثاره في المجتمع الإسلامي ولو كان متجسّداً في سلوك هؤلاء الموالي وأفكارهم واتجاهاتهم.

پاورقي

[1] صحيح مسلم: 7 / 121.
[2] إثبات الهداة: 2 / 320 حديث 116.
[3] اختيار معرفة الرجال: 129 ـ 132 ح 207، والجاحظ في البيان والتبيين: 1 / 286، الأغاني: 14 / 75 و 19 / 40، وابن خلكان في وفيات الأعيان: 2 / 338 ط ايران.
[4] انظر: دراسات وبحوث للعاملي: 1 / 127 ـ 137.
[5] السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في مقدمته للصحيفة السجادية.
[6] العقد الفريد: 2 / 251.
[7] حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل: 1 / 126.
[8] تأريخ دمشق: 36 / 147، وتذكرة الخواص: 324.
[9] تهذيب التهذيب: 9 / 445. [
[10] الأغاني: 15 / 325.
[11] شذرات الذهب: 1 / 105.
[12] شذرات الذهب: 1 / 105.
[13] تهذيب التهذيب: 4 / 85.
[14] تأريخ اليعقوبي: 3 / 46.
[15] العبر في خبر من غبر: 1 / 111.
[16] الفصول المهمة: 189.
[17] تهذيب التهذيب: 3 / 395.
[18] حياة الإمام زين العابدين: 1 / 129 عن تأريخ دمشق: 12 / ق1 / الورقة 19.
[19] حياة الإمام زين العابدين: 1 / 129 عن تأريخ دمشق: 12 / ق1 / الورقة 19.
[20] طبقات الفقهاء: 2 / 34.
[21] تهذيب التهذيب: 3 / 9.
[22] تهذيب اللغات والأسماء، القسم الأول: 343.
[23] حياة الإمام زين العابدين (دراسة وتحليل): 1 / 130 عن تهذيب التهذيب.
[24] المصدر السابق عن تهذيب الكمال م7 / ق2 / الورقة 336.
[25] نفس المهموم: 448 ـ 452 ط قم عن مناقب آل أبي طالب: 4 / 181 عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي: الخطبة بدون المقدمة، والمقدمة عن الكامل للبهائي: 2 / 299 ـ 302 وانظر حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 1 / 175.
[26] بحار الأنوار: 46 / 75.
[27] الكامل للمبرد: 2 / 467، العقد الفريد: 5 / 310.
[28] تاريخ اليعقوبي: 3 / 46.
[29] تأريخ دمشق: 36 / 142.
[30] سير أعلام النبلاء: 4 / 240.
[31] حلية الأولياء: 3 / 133.
[32] وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل: 280.
[33] عن تهذيب اللغات والأسماء: ق1 / 343.
[34] عيون الأخبار وفنون الآثار: 144.
[35] عمدة الطالب: 193.
[36] الإرشاد: 2 / 138 و 153.
[37] منهاج السنّة: 2 / 123.
[38] الصراط السوي الورقة 19.
[39] مطالب السؤول: 2 / 41.
[40] رسائل الجاحظ: 106.
[41] عمدة الطالب: 193 ـ 194.
[42] تذكرة الخواص: 324.
[43] أمالي الصدوق: 168 ح 12 والارشاد: 2 / 146، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 157، تاريخ دمشق: 36 / 155 وابن منظور في مختصره: 17 / 240، وسير أعلام النبلاء: 4 / 397، ونهاية الارب: 21 / 326.
[44] مناقب آل أبي طالب: 4 / 171، والبداية والنهاية: 9 / 105.
[45] الإرشاد: 1 / 146 عن نسب آل أبي طالب للعبيدلي النسّابة م 270 هـ.
[46] الإرشاد: 2 / 149، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 163 وراجع: البداية والنهاية: 9 / 105، وسير أعلام النبلاء: 4 / 239.
[47] تأريخ اليعقوبي: 2 / 259 ط بيروت.
[48] مناقب آل أبي طالب: 4 / 166 عن الباقر(عليه السلام) وعن أحمد بن حنبل، وكشف الغمة: 2 / 289 عن مطالب السؤول عن حلية الأولياء، وفي الكشف: 2 / 312، عن الجنابذي، ولكن فيه: 2 / 304 عنه أيضاً عن الصادق(عليه السلام) قال: كان يعول سبعين بيتاً.
[49] حلية الأولياء: 3 / 137، وعنه في مناقب آل أبي طالب: 4 / 167.
[50] كشف الغمة: 3 / 288 عن مطالب السؤول للشافعي عن حلية الأولياء للاصفهاني.
[51] مناقب آل أبي طالب: 4 / 166 و 167 عن الباقر (عليه السلام).
[52] بحار الأنوار: 46 / 62.
[53] علل الشرائع: 1 / 61 ب 42 ح 1 ط بيروت.
[54] وسائل الشيعة: 6 / 296.
[55] تأريخ دمشق: 36 / 161.
[56] مناقب آل أبي طالب: 4 / 167 عن حلية الأولياء: 3 / 136 ـ 140.
[57] مناقب آل أبي طالب: 4 / 167.
[58] المحاسن: 2 / 361 طبعة المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)، وفروع الكافي: 6 / 350.
[59] مناقب آل أبي طالب: 4 / 167 عن حلية الأولياء: 3 / 140، وجمهرة الأولياء: 2 / 71، وخلاصة تهذيب الكمال: 231.
[60] مناقب آل أبي طالب: 4 / 165 عن الثمالي والثوري، وفي تذكرة الحفاظ: 1 / 75 واخبار الدول: 110 ونهاية الإرب: 21 / 326، وكشف الغمة: 2 / 289 عن مطالب السؤول عن حلية الأولياء. وفي الكشف: 2 / 312 عن الجنابذي عن الثوري عنه(عليه السلام) كان يقول: إنّ الصدقة تطفئ غضب الرب. بدون قيد السّر.
[61] مناقب آل أبي طالب: 4 / 166.
[62] كشف الغمة: 2 / 319 عن نثر الدرر للآبي.
[63] حلية الأولياء وعنه في مناقب آل أبي طالب: 4 / 166 وكشف الغمة: 2 / 290 عن مطالب السؤول عن الحلية: 4 / 136 وفي البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 114، وصفة الصفوة: 2 / 54، الإتحاف بحب الأشراف: 49 والأغاني: 15 / 326.
[64] مناقب آل أبي طالب: 4 / 166 عن الباقر(عليه السلام).
[65] تذكرة الحفّاظ: 1 / 75.
[66] تأريخ اليعقوبي: 2 / 303 ط بيروت.
[67] علل الشرائع: 1 / 27 وعنه في بحار الأنوار: 46 / 65 ـ 66.
[68] وقعة الطف: 209.
[69] الكافي: 2 / 109 و 111 والخصال: 1 / 23 وعن الكافي في بحار الأنوار: 71 / 406 ومعه بيان المؤلف في صفحة كاملة.
[70] بحار الأنوار: 78 / 135.
[71] بحار الأنوار: 46 / 64 عن علل الشرائع: 1 / 270 ط بيروت.
[72] مجالس ثعلب 2: 462، وعنه في حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 1 / 81. وفي مناقب آل أبي طالب: 4 / 175 عن نافع: شيئاً، بدل: درهماً.
[73] بحار الأنوار: 46 / 62 عن علل الشرائع: 1 / 270 ط بيروت.
[74] كشف الغمة: 2 / 318 عن نثر الدرر للآبي، والفصول المهمّة: 192.
[75] الكافي: 8 / 72 ـ 76، وتحف العقول: 249 ـ 252.
[76] حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) دراسة وتحليل:1 / 93.
[77] قرموا: اشتدّ شوقهم إلي اللحم.
[78] بحار الأنوار: 46 / 67 عن الكافي: 2 / 12.
[79] بحار الأنوار: 46 / 67 عن الكافي: 2 / 12.
[80] الكامل للمبرد: 1 / 302، وشذرات الذهب: 1 / 105، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 176 عن أمالي النيشابوري.
[81] الصحيفة السجادية، دعاؤه لأبويه.
[82] حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل: 55 ـ 56.
[83] اُصول الكافي: 2 / 376، والاختصاص: 239، وتحف العقول: 279، والبداية والنهاية: 9 / 105.
[84] البيان والتبيين: 2 / 76، العقد الفريد: 3 / 88.
[85] العقد الفريد: 3 / 89.
[86] اقبال الأعمال: 1 / 443 ـ 445 باسناده عن التلعكبري عن ابن عجلان عن الصادق(عليه السلام) وعنه في بحار الأنوار: 46 / 103 ـ 105. و 98 / 186 ـ 187.
[87] الإرشاد: 2 / 147، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 171 وفي تأريخ دمشق: 36 / 155.
[88] إشارة لقوله تعالي: (في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار). النور (24): 36 ـ 37.
[89] الإرشاد: 2 / 137، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 189، والإقبال: 621، ومصباح الكفعمي: 511، والأنوار البهية: 107 قال: سنة 36 يوم فتح البصرة.
[90] تاريخ أهل البيت، لابن أبي الثلج البغدادي م 325: 77.
[91] رغم أنّ أغلب المؤرخين متفقون علي أنّ اُم الإمام السجاد (عليه السلام) هي ابنة الملك يزدجرد إلاّ أن هناك من يعتبر ذلك مجرد اُسطورة، راجع زندگاني علي بن الحسين(عليه السلام) للسيد جعفر الشهيدي. والإسلام وايران للشهيد مطهري: 100 ـ 109 وحول السيدة شهر بانو للشيخ اليوسفي الغروي في مجلة رسالة الحسين(عليه السلام): 24 / 14 ـ 39، والثابت أن اُمّ الإمام السجاد(عليه السلام) سبيّة من سبايا الفرس، ولا يثبت أكثر من هذا.
[92] سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام): 2 / 189، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) الطبعة الاُولي 1414 هـ.
[93] حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل: 390.
[94] الفرقان (25): 63.
[95] إحقاق الحق: 12 / 13 ـ 16، والبداية والنهاية لابن كثير: 9 / 106.
[96] علل الشرائع: 1 / 269، والأمالي: 331 وعنهما في بحار الأنوار: 46 / 2 الحديث 1 و 2.
[97] علل الشرائع: 1 / 273 ومعاني الأخبار: 65 وعنهما في بحار الأنوار: 46 / 6.
[98] علل الشرائع: 1 / 272 وعنه في بحار الأنوار: 46 / 6 ح 10.
[99] المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 310، بحار الأنوار: 46 / 8 ـ 15.
[100] راجع: ترجمة سُمّية أم زياد في هامش وقعة الطف: 211 و 212.
[101] قرية تقع بين تدمر ودمشق.
[102] اقرأ أخبار هذه الأحداث مسندة موثقة في: وقعة الطف لأبي مخنف: 70 ـ 141، تحقيق محمد هادي اليوسفي الغروي.
[103] راجع: منتخب الأثر: 97، الباب الثامن، والإرشاد وإعلام الوري بأعلام الهدي: 2 / 181، 182، النصوص علي الأئمة الاثنا عشر، قادتنا: 5 / 14، وإثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: 2 / 285، النصوص العامة علي الأئمة، وإحقاق الحقّ وملحقاته ج1 ـ 25.
[104] الكافي: 1 / 242 / 3، والغيبة للطوسي: 118 الحديث 148، واثبات الهداة: 5 / 214 ـ 216.
[105] الكافي: 1 / 241 / 1، واثبات الوصيّة: 142، وإعلام الوري: 1 / 482 ـ 483.
[106] الاحتجاج: 2 / 147، احتجاجات الإمام زين العابدين(عليه السلام).
[107] الإرشاد: 2 / 112، وانظر وقعة الطف لأبي مخنف: 256، 257.
[108] التدمت المرأة: ضربت صدرها في النياحة، وقيل: ضربت وجهها في المآتم.
[109] الأمالي للطوسي: 91.
[110] الإرشاد للمفيد: 244، ووقعة الطف: 262، 263.
[111] مقتل الخوارزمي: 2 / 43 مرسلاً، واللهوف علي قتلي الطفوف: 145.
[112] الكامل في التاريخ للجزري: 4 / 83، وإنّ أوّل رأس حمل في الإسلام هو رأس عمر بن الحِمق الخزاعي الي معاوية.
[113] عن طبقات ابن سعد في ذيل تاريخ دمشق ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام): 131، وأنساب الأشراف: 214، والطبري: 5 / 460 و 463، والإرشاد: 2 / 119 واللفظ للأخير.
[114] مقتل الخوارزمي 2: 61، واللهوف علي قتلي الطفوف: 100، ومقتل المقرم: 449 عن تفسير ابن كثير والآلوسي.
[115] أمالي الطوسي: 677.
[116] الارشاد: 2 / 119 و 120، ووقعة الطف لأبي مخنف: 168 و 271، والعقد الفريد: 5 / 124.
[117] الحديد (57): 22 ـ 23.
[118] الشوري (42): 30.
[119] الإرشاد: 2 / 121، ووقعة الطف لأبي مخنف: 271، 272.
[120] نفس المهموم: 448 ـ 452 ط قم عن مناقب آل أبي طالب: 4 / 181 عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي: الخطبة بدون المقدمة. والمقدمة عن الكامل للبهائي: 2 / 299 ـ 302، وانظر حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 175 ـ 177.
[121] تاريخ الطبري: 5 / 462، والارشاد: 2 / 122.
[122] اللهوف في قتلي الطفوف: 85 مرسلاً ورواه ابن سعد في الطبقات مسنداً عن المنهال بن عمرو الكوفي في الكوفة وليس الشام، والخبر أكثر من هذا وإنّما هذا مختصر الخبر.
[123] الطبري: 5 / 462، والارشاد: 2 / 122 وعنهما في وقعة الطف لأبي مخنف: 272.
[124] عن تفسير المطالب في أمالي أبي طالب: 93، والحدائق الوردية: 1 / 133.
[125] الإرشاد: 2 / 117 وعنه في وقعة الطف لأبي مخنف: 265، 266.
[126] اللهوف: 116، بحار الأنوار: 45 / 148 ـ 149.
[127] تأريخ الطبري: 5 / 479، 480.
[128] الطبري: 5 / 480 وعنه في الكامل في التأريخ: 4 / 103.
[129] تأريخ الطبري: 4 / 485، والكامل في التأريخ: 4 / 113.
[130] الطبري: 5 / 484 وعنه في الكامل.
[131] التنبيه والاشراف: 263 ط. القاهرة.
[132] البداية والنهاية: 8 / 220، وتأريخ الخلفاء: 233. أمّا الطبري فلم يذكر إلاّ إباحة القتال والأموال ثلاثة أيام: 5 / 491 وترك ذكر الفروج وتبعه الجزري في الكامل.
[133] تاريخ ابن عساكر: 10 / 13، المحاسن والمساوئ: 1 / 104.
[134] تاريخ الطبري 5 / 493 و 495 وعنه في الكامل في التاريخ: 4 / 118 وفي مروج الذهب 3: 70، الكامل في التاريخ 4: 118، والبداية والنهاية 8: 222. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي 2: 251: كان الرجل من قريش يؤتي به فيقال: بايع علي أنّك عبد قنّ ليزيد، فيقول: لا. فيضرب عنقه.
[135] الكامل في التأريخ: 4 / 118، مروج الذهب: 3 / 70.
[136] تأريخ الطبري: 5 / 492 وعنه في الكامل في التاريخ: 4 / 118.
[137] تأريخ الطبري: 5 / 493، الاخبار الطوال: 265.
[138] النظرية السياسية لدي الإمام زين العابدين، محمود البغدادي: 273. المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) ـ الطبعة الاولي سنة 1415هـ.
[139] كشف الغمة: 2 / 319 عن نثر الدرر للآبي (ق 4 هـ) عن ابن الأعرابي.
[140] الإرشاد: 2 / 152.
[141] تأريخ الطبري: 5 / 497 وعنه في الكامل في التاريخ: 4 / 123.
[142] وقعة صفين: 206 و 213 وفي الإصابة: 3 / 493 ـ 494.
[143] البداية والنهاية: 8 / 223، رواه عن النسائي، وروي مثله عن أحمد بن حنبل. اُنظر أحاديث اُخري عن هذا الموضوع في كنز العمال، كتاب الفضائل الحديث 34886، ووفاء الوفاء: 90، وسفينة البحار: 8 / 38، 39 عن دعائم الإسلام.
[144] تأريخ الطبري: 5 / 498 وعنه في الكامل في التأريخ: 4 / 24 عن الكلبي عن عوانة بن الحكم، ثم روي أخباراً عن ابن عمر تحاول نسبة الحرق إلي أصحاب ابن الزبير خطأً، في محاولة لتبرير يزيد الشّرير.
[145] منطقة في شرق دمشق.
[146] زندگاني عليّ بن الحسين: 92 =حياة الإمام علي بن الحسين(عليه السلام).
[147] تاريخ الطبري: 6 / 12 ـ 14 برواية أبي مخنف. وابن نما الحلّي في كتابه: شرح الثأر روي عن والده: أنّه قال لهم: قوموا بنا إلي إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلمّا دخلوا عليه وأخبروه خبرهم الذي جاؤوا لأجله قال لعمّه محمّد: يا عمّ، لو أن عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب علي الناس مؤازرته، وقد وليّتك هذا الأمر فاصنع ما شئت. فخرجوا وهم يقولون: قد أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية، كما روي عنه في بحار الأنوار: 45 / 365.
[148] رجال الكشي: 127 ح 203 وعنه في. المختار الثقفي: 124.
[149] تأريخ اليعقوبي: 2 / 259 ط بيروت.
[150] المصدر السابق.
[151] العقد الفريد:5 / 143.
[152] تاريخ الطبري: 5 / 451 وعنه في وقعة الطف: 254 وقريباً منه في الإرشاد: 2 / 110، 111. وليس فيه: سنين كسنيّ يوسف، ولا غلام ثقيف.
[153] حياة الحيوان: 167.
[154] حياة الحيوان: 1 / 170.
[155] معجم البلدان: 5 / 349.
[156] تهذيب التهذيب: 2 / 212.
[157] شرح النهج: 15 / 242 عن كتاب: افتراق هاشم وعبد شمس للدبّاس. وقد ورد الخبر قبله في الكامل للمبرّد: 1 / 222. وفي سنن أبي داود: 4 / 209 والبداية والنهاية: 9 / 131 والنصائح الكافية لابن عقيل: 11 عن الجاحظ، وفي رسائل الجاحظ: 2 / 16.
[158] تاريخ الخلفاء: 220.
[159] البداية والنهاية: 9 / 68.
[160] مروج الذهب: 3 / 96.
[161] مروج الذهب: 3 / 96.
[162] تأريخ الخلفاء: 223.
[163] هناك من المؤرّخين من يري أنّ هشام بن عبد الملك هو الذي دسّ السمّ للإمام (عليه السلام)، راجع بحار الأنوار: 46 / 153، ويمكن الجمع بين الرأيين فيكون أحدهما آمراً والآخر منفّذاً للجريمة.
[164] راجع: حياة الإمام زين العابدين: 678.
[165] بحار الأنوار: 46 / 153 عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 194.
[166] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 117 ـ 122، طبعة دار التعارف.
[167] بحث حول الولاية: 15، طبعة دار التعارف.
[168] المصدر السابق: 59.
[169] بحث حول الولاية: 57 ـ 58.
[170] المصدر السابق: 60 ـ 61.
[171] راجع: أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 127 ـ 129.
[172] أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 122.
[173] المصدر السابق: 59.
[174] أهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف: 131 ـ 132 و147 ـ 148.
[175] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 144.
[176] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 79 ـ 80.
[177] حياة الإمام زين العابدين دراسة وتحليل: 665.
[178] الأغاني: 1 / 55، 4 / 400، 5 / 111.
[179] الأغاني: 8 / 224.
[180] العقد الفريد: 3 / 233.
[181] العقد الفريد: 3 / 245.
[182] راجع: الأغاني: 2 / 226، 3 / 307، 4 / 222، 6 / 21، 7 / 316، و 332، 8 / 227، 10 / 57. والشعر والغناء في المدينة ومكة: 250.
[183] حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل: 672 ـ 673.
[184] التوبة (9): 111.
[185] من لا يحضره الفقيه: 2 / 141، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 173 باختلاف يسير في الألفاظ.
[186] القصيدة طويلة وهي مذكورة في كثير من المصادر التأريخية والأدبية، اُنظر: وفيات الأعيان لابن خلّـكان: 6 / 96، الإرشاد للمفيد: 2 / 150، 151 عن محمّد بن اسماعيل بن جعفر الصادق(عليه السلام) وراجع غيرهما من المصادر في أوائل الفصل الأوّل من الباب الأوّل.
[187] كانت عملية منع الحديث ـ تدويناً ورواية ـ قد بدأت بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله) مباشرة.
[188] المحاسن: 221 ح133.
[189] تفسير البرهان: 3 / 156.
[190] بحار الأنوار: 46 / 107.
[191] المصدر السابق: 70، ب5، ح45.
[192] الاحتجاج: 312 ـ 319.
[193] التوحيد للصدوق: 366.
[194] كشف الغمة: 2 / 89.
[195] جهاد الإمام السجاد: 107.
[196] أمالي الصدوق: 112، الاحتجاج: 317.
[197] تأريخ دمشق: الحديث 21.
[198] كفاية الأثر: 236 ـ 237.
[199] نزهة الناظر: 45.
[200] إكمال الدين: 324، الباب 31، الحديث 9.
[201] نشأة الشيعة والتشيّع، للشهيد السيّد محمد باقر الصدر.
[202] قد أشرنا إلي حادثة استلام الإمام(عليه السلام) للحجر بعد أن انفرج الحجيج له، راجع الصفحة 111 من الكتاب.
[203] مختصر تأريخ دمشق: 17 / 21.
[204] جهاد الإمام السجاد(عليه السلام): 154.
[205] لاحظ تنقيح المقال: 2 / 251.
[206] تأريخ دمشق: 41 / 410، مختصر ابن منظور: 17 / 255.
[207] حياة الإمام زين العابدين: 187 نقلاً عن تفسير الإمام الحسن العسكري.
[208] الخصال: 488.
[209] نهاية الإرب: 21 / 326، سير أعلام النبلاء: 4 / 238.
[210] الخصال: 2 / 620.
[211] بحار الأنوار: 46 / 58.
[212] بحار الأنوار: 46 / 108.
[213] حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام): 190.
[214] وسائل الشيعة: 4 / 685.
[215] المصدر السابق.
[216] تهذيب الأحكام: 2 / 286 ح1146.
[217] بحار الأنوار: 46 / 108.
[218] علل الشرائع: 88، بحار الأنوار: 46 / 61.
[219] تهذيب التهذيب: 7 / 306، نور الأبصار: 136، الإتحاف بحب الأشراف: 49، ومصادر اُخري.
[220] بحار الأنوار: 46 / 61، الخصال: 487.
[221] الخصال: 488.
[222] وسائل الشيعة: 4 / 981.
[223] وسائل الشيعة: 4 / 1079.
[224] دعوات القطب الراوندي: 34.
[225] عن صفة الصفوة: 2 / 53 وكشف الغمة: 2 / 263.
[226] خوالي الأعوام: مواضيها.
[227] أمده: غايته.
[228] تفسخت: أي تقطّعت وتمزّقت وبطلت، فإنّك فوق نعت الناعتين.
[229] الوصلات: وُصلة ـ بالضم ـ وهي ما يتوصل به إلي المطلوب، يعني أنّه قد فاتتني الأسباب التي يتوصل بها إلي السعادات الاُخروية إلاّ السبب الذي هو رحمتك فانه لا يفوت من أحد، لأنّها وسعت كلّ شيء.
[230] عِصَم: جمع عصمة، وهي الوقاية والحفظ.
[231] ما أبوء: أقرّ وأرجع.
[232] صدف: خرج وأعرض.
[233] يصول: من الصولة بمعني الحملة.
[234] تذر: تترك.
[235] رميماً: بالياً.
[236] حميماً: ماء شديد الحرارة.
[237] النكال: العقوبة.
[238] الوبال: الوخامة وسوء العاقبة.
[239] الصحيفة الكاملة السجادية: الدعاء 32.
[240] الإرشاد: 272، روضة الواعظين: 1 / 237.
[241] بحار الأنوار: 46 / 99.
[242] المصدر السابق: 46 / 99.
[243] مناقب آل أبي طالب: 4 / 161، 162.
[244] دعوات الراوندي: 4.
[245] فروع الكافي: 4 / 88.
[246] سبّلنا: أدخلنا.
[247] أي: املأه بعبادتنا إيّاك.
[248] الصحيفة الكاملة السجادية: الدعاء 44.
[249] بحار الأنوار: 46 / 72.
[250] سورة النور (24): 22.
[251] بحار الأنوار: 46 / 103 ـ 105.
[252] بَرحَ المكان ومنه: زال عنه.
[253] تملقك: التودّد اليك.
[254] سريرتي: نيّتي.
[255] السَيْب: العطاء.
[256] راجع: مفاتيح الجنان «الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي».
[257] مضّ: آلَم.
[258] انسلخ الشهر: مضي.
[259] راجع: الصحيفة السجادية «الدعاء في وداع شهر رمضان».
[260] وسائل الشيعة: 8 / 5.
[261] فروع الكافي: 4 / 252.
[262] من لا يحضره الفقيه: 2 / 208 ح 2168.
[263] بحار الأنوار: 99 / 386 مع اختلاف في اللفظ.
[264] الفصول المهمة: 189.
[265] حياة الإمام زين العابدين: 227.
[266] نهاية الإرب: 21 / 326.
[267] المؤمنون (23): 101.
[268] الأنبياء (21): 28.
[269] الأعراف (7): 56.
[270] بحار الأنوار: 46 / 101.
[271] مناقب آل أبي طالب: 4 / 163، 164، وبحار الأنوار: 46 / 81.
[272] بديع السماوات والأرض: مخترعها لا عن مثال سابق، أو أنّ السماوات والأرض بديعة، أي عديمة النظير.
[273] لا يعزب: لا يغيب.
[274] المحال: الأخذ.
[275] سربلني: قمّصني، والسربال: القميص.
[276] منازلتي ايّاك: أي مراجعتي.
[277] عامهاً: العَمَه في البصيرة كالعمي في البصر.
[278] ولا في غمرتي: أي إغمائي وغفلتي، ناظراً إلي قوله سبحانه: (فذرهم في غمرتهم حتّي حين). المؤمنون (23): 54.
[279] الصحيفة الكاملة السجادية: الدعاء 47.
[280] لا يحفيه سائل: أي لا يستقصيه في السؤال، إذ كلما سأله شيئاً فما بقي عنده فهو أكثر منه بكثير، بل لا نسبة بينهما، لنهاية أحدهما ولا نهاية الآخر.
[281] عكوفهم: إقامتهم ومواظبتهم.
[282] أن عُدْتَ: أي عن أن عدت، وحذف مثله قياسي، و «أن» مصدرية يعني العود.
[283] إنّ هذا المقام: أي مقام صلاة الجمعة أو العيد.
[284] لخلفائك: أي الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، يعني هم المستحقّون لذلك، وأن يكون أزمّته بأيديهم، فامّا يجعلونه لأنفسهم كما في زمن حضورهم وبلد شهادتهم وأمنهم من الضرر، أو يأذنون لمن يرونه أهلاً له عموماً أو خصوصاً، كما في زمن غيبتهم أو تقيّتهم، وفي غير بلد حضورهم.
[285] ومواضع اُمنائك: نصب عطف علي «هذا المقام«، و «لخلفائك» متعلق بهذا «المقام»، أو خبر له.
[286] قد ابتزوها: الابتزاز والبزّ: السلب والنزع وأخذ الشيء بجفاء وقهر، والعائد للدرجة أو للمواضع أو للمقام باعتبار اكتساب تأنيث الدرجة.
[287] الدعاء: 48 من الصحيفة الكاملة السجاديّة.
[288] الفرقان (25): 77.
[289] فلاح السائل للسيد ابن طاووس: 26، طبعة مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية في قم المقدسة.
[290] الدعاء الخامس من الصحيفة الكاملة.
[291] مناجاة الراجين.
[292] طَولك: فضلك.
[293] ترادُف: تتابع.
[294] عوائدك: جمع عائدة وهي المعروف والمنفعة.
[295] نشري: يعني هنا بسط الحديث بالمدح.
[296] جَلّلتني: غطّتني، وغمرتني.
[297] كللاً: كلل جمع الكُلّة وهي بيت أو خيمة رقيقة تُضرب للمبيت تمنع من الذباب والبَعوض وإنّما ذلك لأرباب النعمة.
[298] لا تُفلّ: لا تثلم.
[299] مناجاة الشاكرين.
[300] مناجاة المطيعين.
[301] البدار: السباق.
[302] المآرب: جمع مأرب ومأربة أي الحاجة.
[303] ولهي: تحيّري من شدّة الوجد.
[304] صبابتي: شوقي.
[305] الرَوح: الفرح والراحة.
[306] غلّتي: عطشي الشديد.
[307] لوعتي: حرقة حزني وهواي ووجدي.
[308] كرْبتي: همّي وغمي.
[309] مناجاة المريدين.
[310] خلّتي: حاجتي وفقري.
[311] مناجاة المفتقرين.
[312] مناجاة العارفين.
[313] الخلاء: المكان الفارغ الذي ليس فيه أحد.
[314] الملاء: اجتماع الناس.
[315] جَنان: القلب.
[316] مناجاة الذاكرين.
[317] نفس المهموم، المحدّث القمي: 408.
[318] راجع الفصل الخاصّ بتراثه(عليه السلام).
[319] جهاد الإمام السجّاد: 224 ـ 225.
[320] كشف الغمة: 2 / 7 ـ 12.
[321] أعيان الشيعة: 1 / 636، سيرة علي بن الحسين (عليه السلام) بكاءه علي أبيه.
[322] المصدر السابق.
[323] بحار الأنوار: 46 / 108 عن مناقب آل أبي طالب: 4 / 179 و180 وعن حلية الأولياء: 3 / 138.
[324] راجع: ثواب الأعمال: 83.
[325] الإمام زين العابدين للسيّد الموسوي المقرّم: 360 ـ 365، نشر دار الشبستري للمطبوعات. وفي النص مقاطع أخذها من مصادر اُخري ذكرها في الكتاب.
[326] جهاد الإمام السجاد: 220.
[327] بحار الأنوار: 46 / 79، باب 5، ح75.
[328] نقش الخواتيم للسيد جعفر مرتضي: 11.
[329] مختصر تأريخ دمشق: 17 / 284.
[330] البقرة (2): 282.
[331] النجم (53): 3 ـ 4.
[332] راجع مصادر وأسانيد ونصوص هذا الحديث الشريف والمتواتر عند الفريقين في الأعداد 4 إلي 9 من مجلة رسالة الثقلين، وحديث الثقلين، طبعة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، مصر: 9.
[333] القسط: العدل.
[334] لا يحيف: لا يميل.
[335] جواسي: جمع جاسية وهي الغليظة، والمراد غلاظ الألسنة.
[336] الصحيفة السجادية: من دعائه في ختم القرآن (42).
[337] حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام): 2 / 32.
[338] حياة الإمام الباقر: 1 / 11، نقلاً عن الفهرست للشيخ الطوسي: 98.
[339] البقرة (2): 22.
[340] الحمأ: شدّة حرارة الشمس.
[341] تعطبكم: أي تهلكم.
[342] المتانة: ما صلب من الأرض وارتفع.
[343] الأوهاد: الأرض المنخفضة.
[344] الهطل: المطر الضعيف الدائم.
[345] عيون أخبار الرضا: 2 / 125 ـ 126. طبعة مؤسسة الاعلمي ـ بيروت.
[346] البقرة (2): 208.
[347] تفسير البرهان: 1 / 129.
[348] التوبة (9): 105.
[349] تفسير البرهان: 1 / 441، تفسير الصافي: 2 / 372 ـ 373.
[350] المعارج (70): 24 و 25.
[351] لآلئ الأخبار: 3 / 3، وسائل الشيعة: 6 / 69.
[352] الحجر (15): 85.
[353] وسائل الشيعة: 5 / 519.
[354] بحار الأنوار: 22 / 470.
[355] المصدر السابق: 23 / 119.
[356] التوحيد للشيخ الصدوق: 366 ـ 367 منشورات جامعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، الطبعة السادسة.
[357] حياة الإمام زين العابدين: 304.
[358] معجم أحاديث الإمام المهدي (عج): 3 / 190.
[359] المصدر السابق: 3 / 191.
[360] المصدر السابق: 3 / 193.
[361] معجم أحاديث الإمام المهدي (عج): 3 / 194.
[362] المصدر السابق.
[363] في الكني والألقاب للشيخ عباس القمي: 1 / 60 قال: «قال الفضل بن شاذان: ولم يكن في زمن عليّ بن الحسين(عليه السلام) في أول أمره إلاّ خمسة أنفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيّب، محمد بن جبير بن مطعم، يحيي بن اُم الطويل، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر. ثم قال: وفي خبر الحواريّين أنّه من حواري عليّ بن الحسين(عليه السلام) وقد شاهد كثيراً من دلائل الأئمة(عليهم السلام).
[364] الاحتجاج: 2 / 48 ـ 50 احتجاجات الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام).
[365] راجع ترجمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) من تاريخ دمشق، تحقيق محمد باقر المحمودي: 27.
[366] تأريخ دمشق: 36 / 16، بحار الأنوار: 46 / 7.
[367] النساء (4): 92.
[368] الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر اُمّي.
[369] المجادلة (58): 3 ـ 4.
[370] المائدة (5): 89.
[371] البقرة (2): 96.
[372] البقرة (2): 196.
[373] المائدة (5): 95.
[374] المقنعة، الشيخ المفيد: 363.
[375] الاعتكاف إنّما يجب بعد مضي يومين منه فيتعيّن اليوم الثالث، وكذلك يجب بالنذر وشبهه.
[376] أيام التشريق: هي أيام مني وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر.
[377] صوم الوصال: وهو أن يصوم الليل والنهار، وحرمته حرمة تشريعية.
[378] صوم الصمت: هو أن يمسك الإنسان فيه عن الكلام، وقد كان الكلام محرّماً علي الصائم في الشرائع السابقة، كما أعلن القرآن ذلك في قصة مريم، قال تعالي: (إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن اُكلِّم اليومَ إنسيّاً)إلاّ أنّه نسخ في الشريعة الإسلامية المقدسة.
[379] الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وسمّيت لياليها بيضاً لأنّ القمر يطلع فيها من أولها الي آخرها. جاء ذلك في مجمع البحرين (مادة: بيض).
[380] فروع الكافي: 1 / 185، الخصال: 501 ـ 504، تفسير القمّي: 172 ـ 175، المقنعة: 58، التهذيب: 1 / 435.
[381] الدعاء 51 من الصحيفة الثانية التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي.
[382] دعاءه لأهل الثغور في الصحيفة الكاملة أو الجامعة.
[383] تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: 353.
[384] الاحتجاج للطبرسي: احتجاجات الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[385] سبأ (34): 18.
[386] الطلاق (65): 8.
[387] الكهف (18): 59.
[388] يوسف (12): 82.
[389] الاحتجاج 2: احتجاجات الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[390] الاحتجاج للطبرسي: احتجاجات الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[391] الاحتجاج: احتجاجات الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[392] الاحتجاج: احتجاجات الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[393] تحف العقول لابن شعبة الحرّاني: 182 ـ 184 / ط. مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
[394] الحُطام: القشر، والمعني: أنّ ما فيها من مال كثير أو قليل يغني ولا يبقي.
[395] الهامد: اليابس.
[396] القرار: ما قُرّ فيه أي فعل فيه السكن أو السكون.
[397] تصريف أيامها: تحوّلها من وجه إلي وجه.
[398] خليط: مُخالط، مُجالس.
[399] المؤمنون (23): 99 و 100.
[400] ابراهيم (14): 14.
[401] البلد (90): 8 ـ 10.
[402] يجأرون إلي ربّهم: يتضرّعون اليه تعالي.
[403] القِداح: مفردها قِدْح وهو السهم قبل أن يُنصل ويُراش.
[404] كل ما جاء تحت هذا العنوان نقلناه عن تحف العقول 200 ـ 205.
[405] خطراً: قدراً وشرفاً.
[406] الحديد (57): 23.
[407] أسبغكم: أوسعكم.
[408] الدثار: ما يتغطّي به النائم.
[409] في كنف الله: في حرزه ورحمته.
[410] ابراهيم (14): 34.
[411] حياة الإمام زين العابدين: 477.
[412] الخصال: 564 ط. مؤسسة النشر الإسلامي.
[413] والظاهر تصحيفه، والصواب كما سيأتي في تفصيله(عليه السلام) هذه الحقوق (حقّ مولاك الجارية نعمتك عليه).
[414] الشوري (42): 41.
[415] منهم العلاّمة السيد حسن القبانچي فقد شرحها في جزئين كبيرين باسم: شرح رسالة الحقوق.
[416] حياة الإمام زين العابدين: 373 ـ 374.
[417] راجع فصل: من علوم الإمام (عليه السلام)، حقائق علميّة في الأدعيّة السجّادية.
[418] نقلاً عن مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر علي الصحيفة السجّادية الكاملة.
[419] حياة الإمام زين العابدين: 375، وراجع شجرة طرق أسانيد الصحيفة السجادية المطبوعة في مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) بإشراف السيد الأبطحي.
[420] حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام): 190.
[421] حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) السيد جعفر شهيدي: 191.
[422] راجع مقدمة الصحيفة السجّادية الجامعة.
[423] راجع مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية.
[424] من مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية.
[425] اُصول الكافي: 1 / 35.
[426] حياة الإمام زين العابدين: 23.
[427] الدرّ النظيم: 173.
[428] راجع ترجمته بالتفصيل في حياة الإمام زين العابدين: 522 ـ 527.
[429] المصدر السابق: 529.
[430] راجع تفصيل البحث عن رواة حديث الإمام وتلامذته (حياة الإمام زين العابدين: 517 ـ 587).

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.