الامام الباقر عليه السلام نجي الرسول

اشارة

عنوان كتاب:الامام الباقر عليه السلام نجي الرسول/ سليمان كتاني
وضعيت نشر و پخش و غيره :بيروت: دارالهادي، ۱۴۲۸ق = ۱۳۸۵
مشخصات ظاهري:۱۷۴ ص
زبان متن نوشتاري يا گفتاري و مانند آن:عربي
محل و شماره بازيابي:كتابخانه مجلس شوراي اسلامي۱۲۸۳۶۷۷
شناسگر ركورد:610135

تمهيد

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد الله، و الصلاة و السلام علي محمد و آله بعد كربلاء: لقد ظن الأمويون، بما فيهم الممسكون منهم بزمام الحكم، و سائر من يدور في فلكهم: أن استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام، و خيرة أهل بيته، و صفوة أصحابه في كربلاء، عام 61 للهجرة، سوف يطوي، أو هو قد طوي بالفعل صفحة تاريخ البيت الهاشمي، الذي أفل نجمه، و خبت ناره، و انقطع صوته وصيته، حتي أكل الدهر عليه و شرب. و قد حلت محلها صفحة تاريخ البيت الأموي، فليكتب فيها أهل هذا البيت و أعوانهم و أزلامهم ما شاؤا فلم يعد ثمة من يراقب أو يحاسب. ليسجل لهم التاريخ سجل عنفوان الجبارين، و كل زهو المترفين، و خيلاء العتاة و المتسلطين. و ليكتب علي كل جبين أولئك المستضعفين، الفقراء، السذج منهم و البسطاء ما شاء من ألم و شقاء، و من حرمان و بلاء، و اضطهاد و عناء. فقد أصبحت الدنيا مستوسقة لبني عبد شمس، و الأمور مسقة ، و لم يعد للبيت الهاشمي، و خصوصا آل أبي‌طالب، أي دور فاعل في نطاق التحدي لحكم هؤلاء الجبارين. هكذا ظنوا، أو هكذا خيل لهم. [ صفحه 6] قالوا لحمامة سعدهم (النحس): خلالك الجو فبيضي و اصفري و نقري ما شئت أن تنقري لكن ظن الأمويين هذا لم يقعدهم عن مواصلة التصدي و التعدي، بسبب و بدون سبب، علي رموز البيت الهاشمي، بهدف أن تبقي الأمة صغيرها و كبيرها مستشعرة الرهبة من أن تحدث نفسها بأي تقرب، أو مراودة، ولو علي مستوي الحياة العادية مع أهل هذا البيت، الرمز، و المثل الأعلي. و مرت فترة مريرة و كريهة أمكن للأمويين أن يلمسوا خلالها لدي رموز البيت العلوي عزوفا عن مناهضة حكمهم بأسلوب العنف و الحدة في هذه الفترة علي الأقل - فلم يجدوا بعد أي مبرر لمواصلة ذلك المستوي من القسوة الظاهرة، التي كانت تعود عليهم بسلبيات كبيرة، كانوا يحبون تحاشيها و التخلص منها. و وجدوا أن بامكانهم افساح المجال لأئمة أهل البيت ليعيشوا حياة عادية و رتيبة، ولكن في نطاق الرقابة القوية و الفاعلة. و لينصرفوا لمتابعة صراعاتهم مع الآخرين من خوارج و غيرهم... و هكذا كان.

مسيرة الانحراف

و في المجال الآخر: كان الأمويون يملكون حوافز قوية، و اندفاعا طاغيا لقيادة مسيرة الانحراف. و كانت لديهم كل القدرات التي تهي‌ء لهم الفرصة لقيادة هذه المسيرة، و تغذيتها، و تنشئتها، و حمايتها بالقوة العسكرية، و السياسية، و السلطوية، و الترويح لها اعلاميا، بل و حتي التنظير لها، و التلبيس علي الناس، و خداعهم، بها فكريا و عقيديا، إذا لزم الأمر. و كان لهذه المسيرة ما يكفيها أيضا من الدوافع الغريزية، و الشهوية، و من الطموحات الباطلة و اللامشروعة لدي جمهور لم يترب تربية صالحة، [ صفحه 7] و لم يمتلك من الوعي العقيدي، و الشرعي ما يحصنه من الاندفاع بقوة طاغية في هذا الاتجاه أو ذاك، دون أي شعور بالمسؤولية، أو بتأنيب الضمير، و دون أن يكون لديه أية كوابح أخلاقية، أو رقابة وجدانية مؤثرة. و ذلك لأنّ دعوة بني‌أمية و كل أطروحتهم هي الدنيا، و كل ما فيها من ملذات، و زبارج و بهارج، تروق لهذا الانسان و تهيمن علي مشاعره.

سياسات موروثة

و مما تهيّأ لبني أمية أن يحققوا مآربهم، ما ورثوه عن سلفهم من سياسات بدأت تؤتي ثمارها، و تظهر تبعاتها و آثارها الكبيرة و الخطيرة، علي الحياة الفكرية و الثقافية، و العقيدية للناس، و علي كل الواقع السياسي، و الاجتماعي، و التربوي، و غيره. هذه السياسات التي كان أهمها اقصاء الاسلام، و كل ما هو شرع و دين عن حياة الناس، فكان أن انحسرت كل معالمه و آثاره الحقيقية عن مختلف المواضع و المواقع علي امتداد مساحة الدوة الاسلامية، في طول البلاد و عرضها. فقد ورثوا عن سلفهم سياسات بدأوها منذ وفاة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، مثل: المنع من السؤال عن معاني القرآن. و المنع عن كتابة و رواية حديث و سيرة الرسول. و منع كبار الصحابة من مغادرة المدينة المنورة، خوفا من نشر العلم، و من أمور أخري. بل و منع الناس من العمل بالسنن النبوية، حتي انهم كانوا لا يطيقون أن يروا الناس يكثرون من الصلاة في المسجد أو من الطواف حول [ صفحه 8] الكعبة الشريفة، فمنعوهم من ذلك الا من الشي‌ء اليسير. و في المقابل أفسحوا المجال أمام مسلمة أهل الكتاب و القصاصين المتأثرين بهم ليثقفوا الناس، بترهاتهم من الاسرائيليات التي كانوا يمزجونها بكثير من الخيالات الباطلة و الزائفة. هذا بالاضافة الي محاولات متكررة للحط من شأن النبي (ص) نفسه، و التأثير علي قداسته في النفوس. مع كثير من الأصرار علي تضخيم مقام الخلافة و الخليفة الي حد تفضيل الخليفة علي جميع الأنبياء و المرسلين. ثم اعطاؤهم الحاكم حق التشريع و التلاعب بأحكام الله سبحانه و تلبيس أحكام الجاهلية بلباس الدين و الاسلام. ناهيك عن امعانهم الوقح في سياسات التمييز العنصري و الفئوي، و القبلي. الي غير ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه.

نتائج و آثار

و قد كانت لهذه السياسات نتائج مرة، حيث تمكنت من تدمير البنية الفكرية، و العقيدية، الثقافية و التربوية الاسلامية بصورة عامة تدميرا كاملا، أو كادت. و أصبحت الأمة تعيش غربة حقيقية عن الاسلام و عن القرآن و أحكامه، و عن رسومه و أعلامه. و عن عهد امامة. و في عهد الإمام الباقر عليه‌السلام، كان قد مضي علي هذه السياسات حوالي قرن من الزمن. طويت فيه أربعة أجيال من الناس لينشأ جيل جديد أشد ايغالا في البعد عن هذا الدين. و عن نبيه الكريم، و قرآنه العظيم. [ صفحه 9] و إذا كان علي عليه‌السلام الذي استشهد في سنة أربعين للهجرة يقول: لم يبق من الاسلام الا اسمه، و من الدين الا رسمه. و إذا كان حذيفة بن اليمان، الذي توفي قبل علي عليه‌السلام بحوالي خمس سنوات يقول: فابتلينا حتي لا يستطيع الرجل منا أن يصلي الا سرا. فكيف تكون الحال في سنة مئة أو بعدها؟! ان التاريخ يجيبنا علي هذا السؤال فيحدثنا: أن بني‌هاشم الي أن مضت سبع سنين من امامة الباقر ما كانوا يعرفون كيف يصلون، و لا كيف يحجون. مع أن الهاشميين كانوا أقرب الناس الي مصدر المعرفة و العلم بالدين و الصلاة هي الواجب التي يمارسه كل مسلم خمس مرات علي الأقل في كل يوم. فاذا كان هؤلاء يجهلون حتي أبسط الأحكام، فكيف تكون حال غيرهم ممن يعيشون في أطراف الدولة الاسلامية، و ليس لهم تاريخ في الاسلام، و لا شأن علمي في أمور الدين و الشريعة. و إذا كان الجهل قد انتهي بهم الي هذا المستوي، فكيف بالمسائل التي يقل التعرض لها، أو الابتلاء بها؟!.

الانجاز الحقيقي للامام الباقر

و قد كان الانجاز الكبير، و المهم جدا للامام الباقر عليه‌السلام هو في هذا المجال بالذات. فانه قد بقر العلم لهذه الأمة، و لم يترك بابا من أبواب الفقه و الشريعة، و لا مجالا في شتي مناحي المعارف. و لا شأنا من شؤون العقيدة، و الأخلاق، و التربية، و السياسة، و السلوك، و غير ذلك مما تحتاج اليه الأمة الا و سجل فيه و في أدق تفاصيله و جزئياته النظرية و التطبيقية كلمة الاسلام الهادفة، و المرشدة الي طريق الحق، و الخير، و الهدي. ثم جاء بعده ولده الإمام الصادق البار الأمين عليه‌السلام ليكمل [ صفحه 10] المسيرة و يتابع رسم الطريق، لكل الأجيال، و علي امتداد العصور، و الدهور. و كان الإمام السجاد قبلها هو الذي استطاع بسياسته الفضلي، و بطريقته المثلي أن يهي‌ء المناخ المناسب لنشوء مدرستها سيما التي استقطبت المئات من رواد العلم بل الآلاف. اذ من البديهي: أن هذا الامتداد القوي و العميق لم يكن ليحصل لو لم يسبقه تخطيط و اعداد عملي واسع في نطاق ترسيخ قواعد فكرية و اجتماعية و خلقية أو الاستفادة من ظروف سياسية أصبحت مؤاتية فأرسيت القاعدة العقيدية و الفكرية الصلبة، التي قام عليها ذلك البناء الشامخ لمدرسة استطاعت أن تلهب في العالم الاسلامي، جذوة طالما عمل الحكام و المتسلطون علي اطفائها و قد تركت بصماتها علي كل قضية، و في كل موضع و موقع، في شتي مجالات الحياة.

هذا الكتاب

أما هذا الكتاب الذي بين يدي القاري‌ء الكريم «الامام الباقر، نجي الرسول» تأليف الأديب الكبير، الفذ الأستاذ سليمان كتاني. فقد وفقت لقراءة بعض فصوله، فوجدته الكتاب الزاخر بالصور الحية، الغني باللفتات و اللمحات، الذي يختزن في ايحاءاته القوية قدرة علي النفوذ الي أعماق المشاعر و الخواطر، شاءت ذلك أم أبت. و لا غرو فإن مؤلفه أديب بارع محلق، استطاع بجرأته، و باتزانه أن يقتحم الساحة بوعي و ثبات، و شموخ و شمم، ليمارس حريته في الفكر و في القول، وفق قناعاته الراسخة، رغم كل ما يعترض طريقه من أشواك تلامس قدميه، لتؤذي روحه و ترهق مشاعره. انه الرجل الذي اعتصر الفكرة في الكلمة، لتتقاطر منها فتكون [ صفحه 11] العذب الزلال الصافي، الذي يأرج طيبا، و يتفاوح عطرا، و يتماوج نقاء دون أن يفقد أسلوبه قوته و رصانته و أصالته. و صفاءه كذلك. ان هذا الكتاب ليس تاريخا لشخص، بل هو استشراف عام لواقع أمة، من خلال انسان عاش قضاياها، و وعاها بقلبه، و أحس بما تعانيه من نصب و وصب، بروحه، و بأعمق مشاعره. فانطلق ليبلسم جراحها، و يداوي كلومها، و يبث فيها روح الحياة، و يزرع فيها بذور الخير و العطاء في عمق وجدانها، و في صفوة و خالص وجودها. انه الإمام الباقر، باقر علوم الأولين و الآخرين، صلوات و سلامه عليه. 7 / ج / 2 / 1416 ه. ق. 31 / تشرين أول سنة 1995 م. ش. جعفر مرتضي العاملي [ صفحه 13]

الي مكتبة أهل البيت العامة في النبي شيت

نعم النداء نداؤكم الي تناول حياة و سيرة الإمام الباقر بدراسة تظهر كم هو جليل في الحقل العلمي الذي رهن عمره كله في خدمته و تركيزه أساسا لكل تقدم و فلاح تنشدهما الأمة العربية. الحق يقال أن الإمام الباقر كان تصميما بالغ الأهمية بنقل الأمة، بما فيها الامامة، الي حيّز من الحركة الفاعلة، و التي هي وحدها الناقلة المجتع - برّمته - الي الفهم، و الصواب، و التحقيق. أن العقيدة الاسلامية، بكل ما فيها من حق، و خير، و تبشير بمعروف، هي التي تشدد علي طلاب العلم يشرحها طاقات هداية، و يعمقها - في الحجي - نورا، و يرسخها سجايا. ستكون سيرة الإمام - إذ تتوضح ملامحها و أهدافها - معبرة عن العقيدة بالذات، و هي التي تتطلبون أنتم تخصيص دورة عنها تكون مضمومة الي العمل المطلوب. ان السيرة و الدورة هما في انضمام يشمل كامل حياة الامام، فإذما نتوفق في تظهير السيرة، تكن قد أتينا - ضمنا - علي الدورة المطلوبة، و السيرة المنشودة. أرجو أن أكون قد لبيت نداءكم الكريم بكتاب جديد عن الإمام المالي‌ء حيزا وسيعا من بالي، و عساها مكتبتكم العامة تمتلي‌ء بما هو نفيس من سيرة الإمام، كما و أن مدينتكم الصغيرة النبي شيت تستحق أن تجمع [ صفحه 14] الي موائدها كل المشتاقين الي ترويض النفس بالقراءات الغنية، و اقبلوا شكرا صادقا مع مؤلفي الجديد و عنوانه: الإمام الباقر نجي الرسول. بكل اخلاص سليمان كتاني [ صفحه 15]

الكلمة الأولي

أيها الإمام الباقر يا نجي الرسول أيها البحار المدعو الي الغوص الكبير. من أنت واقفا علي شاطي‌ء ممدود؟. تأخذ اليمّ بجفنين غارقين في نصف نعاس، فوق عينين غائرتين في ضجيج من مدي!!! هل أنت تستشرف أعماق اللجج، بقدمين حافيتين مغروزتين في حيز من رمل؟ بينما هي اللجج أبعاد غائرات، تعلو بها و تهبط محامل الموج! أم انك الواقف المطرق، تتبصر بحوملات الأثقال، بكشح ضامر مركوز فوق ساقين من وصب؟ انما الأثقال كالجبال الراسيات، تتماسك بها مجادل الماء من الأعلي الي الأسفل، في عملية من توحيد ادراج المتون بأعماق السكون!. ولكنك أنت المستشرف و ان تكن مطرق الرأس و مغمض العينين من دون أن توهن و من دون أن تهاب، و أنت المتبصر المتبصر، ولن تدهي بارتياب!. فالخط خطك مبنيا علي مقالب الأدراج، ليس له الا التقصي عن كل باب تعرقل الضوء عنه غلطة المزلاج! فالأبواب - في الشرفات الزاهية - هي في انفتاحاتها علي المطلات الرخية، تحمل النور الي أرجاء القصور، [ صفحه 16] و لا تحرمها من دعابات الصبا و مناجياته الندية!. انها الأبواب المحكمة في تركيز فواعدها علي المدرجين! تلبي في مدرجها الأول - انفتاحا علي تموجات النور، و انعطافات النسيم، و تستعصي انقفالا - في مدرجها. مدرجها الثاني - عندما تلج عليها الغضبتان: غضبة الاعصار، و غضبة اللص في ادلاجه المارق الخارج من عب شيطان. هنيئا لك أيها النجي البحار خط عريض شددت العزم منه في الغوص المقعر، انه الخط المجدول في مضامين الانضباط، وقعت عليك الآن مجالاته في مدي الغرف و الجمع و التفجير، و هكذا رحت تبقر الأرض في سبيل استخراج كنوزها المتسترات، و رحت تشق مياه اليم تكشيفا عن الدر الهاجع في قعر العباب، و كذلك الجو فوق رأسك، و هو الوسيع بمهابة ربك الأعلي من كل علو، و الأجدي من أي صواب، فانك رحت اليه - تقيا، تقيا - تفتق تحت كرسي ملكوته آيات و آيات، جمعها في قرآنه من فيض ربه في الرحاب، نبيك الكريم الذي هو جدك البعيد المرامي و العزيز الصفات، لتكون قوتا لأمته الغرثي، و لكل أمم الأرض جمعاء، يوم تسمو بها الآيات من حضيض الذل، و الجهل، و الحيف الي الجنان السموات. و خطك العريض، يا حلقة في الخط العريض، هو من أتقي و أنقي و أبقي ما انشد في عرض الخطوط، فهو تمثيل الصيانة، و الحصانة، و المتانة في خط يرسخه العرض كي يشرق به طول الامتداد. جدان لك يا ابن زين‌العابدين، سهرا ليلا عريضا لا يقاس بالسنين، علي ضوء الرسالة المنزلة من خلف حلقات السنين، و هي الوحيدة التي وجداها تجمع الأمة إلي حقيقة الوجدان.... و ما كاد يطلع عليهما فجر السهر، حتي كانت بين أكفهما خيوط الزنار مجدولة علي خصر أمة تعبت كثيرا من لهاث الهجير!. [ صفحه 17] ليس الزنار يا سيدي المصداق، و أنت ربطة فيه، الا حبل الامامة، انه الحبل المفتول علي مغزل الرسالة، في كل نسلة منه حرف من روح آية.... أما المراس، و أما المران المشتق من لحظات القراءة، فإنهما في حقيقة الضم الي رجاحة الرهان؛ فالإمامة تعب آخر في حقيقة السهر المجدي لنقل الخط العريض المكثف إلي امتداد مثمر، تنبض به خفقات الصدور - و إنها الامامة في لقاحات الوعي، تكسبها الممارسات علما جديدا، و سهرا عتيدا، من أجل دفع الأمة - بالانسان - الي يقظات وسيعة، لا يحققها الا العلم، و الفهم، و صدق الرشاد، و انها الرسالة - جهد جليل و سديد - تتماسك بها الأمة و تبني بها خلودا مجتمعيا كريما تتمتن به بنية الانسان. و انها الامامة بتحديدها الحصري، و تركيزها البنيوي، و تسديدها المعنوي، فإن الزمان أعجز من أن يحصي لها النبضات - أو بالأحري المبتكرات - لأنها اكتمال المجتمع في الفرد، و انبثاق الفرد من حفيظة الأمة التي هي مجتمع حي و متكامل، تعززه الرسالة بالعلم الصحيح، و الصدق الوحيد الصحيح... كل ذلك، في مطلق شموله، هو تبشير و عزم الرسالة في تحقيقها منهجها العظيم، ليكون الانسان متينا في حضن الحياة الكريم. انها الصفات، و المميزات، و الانجازات في مجمع التجريد سيقوم بها امام بعد امام، في منطلق التمثيل و التحديد، و اماما عن امام ستتم لها - في المجتمع - روعة الترسيخ، و روعة التركيز... و عندئذ، فالأمة كلها وحدة ايمان، و وحدة حق، و وحدة اخراج. لن يكون الزمن الآتي وقفا علي قرعات الثواني علي عقارب الساعات، انما يكون رهنا بلمسات النهي، تختلج بها أجنة الأرحام، فتلد أجيالا جديدة، وسع لها العلم جنبات الحق، و جنبات الخير، و جنبات [ صفحه 18] الشمم! ستكون الصفات الكريمة هذه حميمية في رزم الشمائل، لأن المعنيين بالتعهد الرصين، يتولون زرعها في خلايا النفوس، و في طويات الضمائر. ذلك هو الخط المرسوم في خلوات الريادة، أصابك منه أيها الإمام الباقر سهم بهي؛ فأنت للعلم السني، تفتش عنه في مخابئه، حتي يتكثف و يتفجر، و هو وسيع في حقول الامتياز، تحتاجه الأمة كيفما اتجهت بها الخطوات، و من دون التحامه فيها، لا قرار لها و لا ثبات، فهي بحاجة اليه، شرط أن يكون نظيفا من كذب و رياء، و هكذا كان لك أن تصدق: في الحديث، و في الفقه، و في نباهة التفسير، و أن تحفظ الآيات الكريمة سنادا لك في قولة الحق و ايقاظ الضمير؛ أما العلم الآخر، فانك سعيت اليه تجمعه من حيث نامت عليه الظنون: فالكيمياء، و الفيزياء، و الطبابة، و الحساب، و كل الحواشي الرياضية و الهندسية فانها المتوافرة في خزائن جدودك الأعلين، تنام علي تمددات بكر، تفاعل بها آباؤك و أجدادك الأقدمون. انهم - بزخمها الهندسي - العلمي الفاعل، خططوا و بنوا بيوتهم، و قصورهم، و شوارع مدنهم، و صناعاتهم، و زراعاتهم... فكانت لهم - علي سبيل المثال - بابل، و نينوي، و شنعار، و الشام، و مكة، و الكعبة المكرمة، و سد مأرب، و قصر الخورنق، و الحدائق المعلقة... و لقد كان لهم أن نظفوا الأرض ما بين النهرين - دجلة و الفرات - من و حول الطمي الخانق، كما حرروا - في ما بعد - أرض مصر من طمي النيل - و كان لهم - علي سبيل التذكير أن نقلوا الي أثينا، و روما، و جندبسابور، ما علم الغير هناك تركيز الحضارات، اقتداء بما حققه العلم، و الفن، و الأسبقية المتحضرة في دنيا سومر، و كامل البقاعات العربية المصطفة علي عرض التخوم. ليست زهيدة أيها الإمام الباقر حصة لك تقوم بها في سبيل جمع العلم من أوتاده و نشره علي اعطاف الأمة التي استفاقت من استكانتها و لما تنشغف بعد. ان الجامعة الوسيعة التي ألهب تياراتها جدك المستهيم [ صفحه 19] بتأجيج الحق و النبل في عالم الانسان، هي في شوقك الحثيث بأن توضح معالمها، و تأخذ منها ما يقوم جهدك، و يسدد عزمك في المثابرة و التوسع، لتكون لك في يثرب مدرسة فرعية و مشتقة من الجامعة الأصيلة تستكمل مواردها الفكرية و الروحية، سواء بسواء، بينما تكون العلوم فيها قواعد نور تفسر الخطوط و تركزها علي مناهجها الأصيلة. ان تلقيح الفكر بسنابل العلم المدبج، يوسع موائد الأمم، و يطهر حضاراتها. و ينمي الخير في الانسان، و يشهي المعروف و يعقم المنكر. شكرا لك أيها السيد الإمام الباقر، تأخذ الي عاتقك ما أوكل اليك. فالمدرسة التي تعهدتها في يثرب، هي فرع من جامعة، تنال منها النور و تكمل لها الحدث. ان ابنك الإمام الصادق، سيستوفي منك، و بين يديك، شروط الإمامة، في حقيقة المثابرة و صحة المران، و سيكون له امتداد آخر في التذكير، و التوسيع، و التحقيق، عسي الأمة تستنير - مع طالع الأيام - لتجد أن العلم اذ ما يعتم عليه، تيبس مواردها، و تحصد - هي الأمة - جوعا لا يكون له اسم غير الهوان!!! [ صفحه 21]

المقدمة

ان في الكلمة الأولي الموجهة الي السيد الجليل الإمام الباقر ما يشدد الظن بأن الرجل العظيم الذي هو محمد بن علي بن الحسين بن أميرالمؤمنين الإمام علي (ع) هو حلقة متينة من حلقات السلسلة المتدرجة علي خط الامامة، و هي في خلدي: مجتمع و أم و حقل صيانة. لقد أشار اليه اللمح - كما سيشير التبسط في التوضيح المحلل و المعلل - بأنه رائد من الرواد الكبار، عرف كيف يعالج القضايا الفكرية - الحياتية - المصيرية، و كيف يحيطها بالتعهد و الدراية حتي يستقيم لها حق و أود، و يستمرّ بها نقاء و رواء. ان الخطوط التي لمحتها هذه الكلمة، بما قدمته من رموز أو مضامين، تكتفي بالتدليل الي أن هموم الإمام في سياسة الأمة قد انحصرت - بنوع مميز - في التدريس و ايصال العلوم، بكافة حقولها، الي الأذهان، و بذلك يكون الحاكم قد اطمأن بأن الحكم هو له وحده في بسطة السلطات، و تعهد الأحكام، و ادارة الدولة... غير أن الحقيقة الصارخة تصرح بأن السياسة الصالحة لن تنال مجتمعا من مجتمعات الانسان ما لم يحدد معالمها: الفهم و الوعي و الادراك. ان الثقافة وحدها هي القمينة بامتصاص المعايير المبذولة في التوجيه و التهذيب و صدق الانصياع، و لن يكون غير الاقتناع ملما بوضوح البث، و تلك هي الثقافة العامة التي تعين [ صفحه 22] المضامين و توضح الأهداف. ان المجتمع - في الرفاهية تلك - هو المسترشد بالحق، و المستنير باليقين، و عندئذ - و لا شك بصحة الافتراض - فالحاكم هو المنبوذ إذا تاهت به قدمه عن الدائرة المستنيرة، ان في الصواب شمسا تدل اليه، شرط أن يقوم العلم و الفهم بجلوة العين من قذاها. ليس للبحث الآن مجال للتوسع فيه و تعزيزه بالشروح الناطقة، سيكون لنا - و نحن نغوص في سيرة إمامنا الباقر - ما يجعلنا نأخذ منه - بالتدريج - مصداقية القول و مصدقية الاتجاه، و ها نحن نلمح مسبقا عنه بأنه ابتعد عن السياسة التي يخوضها الحاكمون و هم علي الكراسي المدبجة بذهب و تارج و صولجان، وراح إلي بهو خاص له، و الي مسجد مشرع الأبواب، لجده النبي الرسول، يجمع التلاميذ المتشوقين الي المناهل، يسكب في أذهانهم و ألبابهم، قطرات قطرات، مما أدخره في خزائن نفسه من علم، و نور، و حق و صواب. لقد صدق الحاكمون الرجل و ما كذبوه في تنازله لهم عن سياسة تخولهم حق التصرف بالأرزاق و الأعناق، و من العجب العجاب أنهم لمحوا تخطيطا عنده لغد تتقدس فيه الأرزاق و تتحرر فيه الأعناق، ولو كان لهم أن يلمحوا، لما كان لهم أمس من ضياع، و غد من غباء، أو يوم من ظلم بلا فجر من رجاء. منذ الزمن الأول، و الجزيرة العربية تتلملم علي تسوقات النداء، و تحققت لها علي يد النبي العظيم آيات النداء، و تنزلت لها الآيات و التمت في كتاب راحت تقرأ فيه كل ما هو موزع علي جدولين: جدول للحق، و جدول للباطل. و هو وحده المعروف، و هو وحده المرجو في لمة الشمل لمقابلة الفجر و استقبال الأشعة، و الباطل هو الشر، و هو وحده في سحنة المنكر، و هو وحده المخزي في تفتيت الجماعات ورميها في بؤرة الخيبة. وراحت الجزيرة كلها تقرأ أيضا في الكتاب: أن العلم وحده منبت [ صفحه 23] السنابل، و صانع الطحين، و مرويه في عملية العجن، و مرققه علي لوحة الفران، و مشهيه خبزا علي المائدة الكبري التي هي الأمة المثلي الصالحة لأن تكون هديا لكل أمم الأرض. أترانا وصلنا الي الدرب الذي اختطه الإمام الباقر في تنحيه، عن السياسات المعوجة الضائعة عن تعهداتها السليمة؟! ولكن العلم الذي راح الإمام الآن الي معالجة شؤونه، انما هو - أساسا - من مسؤولية المتولي ادارة الأمة في جميع شؤونها الحياتية، المادية و الروحية علي السواء، و ذلك ما فات الأمة منذ ما يقارب العشرة عقود... لقد تربت لها الخطوط الامامية للقيام بكل ما يلزم من تعهدات، و كان العلم من أجلها في البروز و التعهد، لقد قام الإمام الباقر بتنشيط مدرسته الباقرية باعتبارها استئنافا لنشاطات أخري كان لأبيه الإمام زين‌العابدين أن عمد إليها سدا لفراغ رماه فيه حزنه الكبير علي أبيه الحسين سيد المستشهدين! و إنها ذاتها المدرسة الأولي التي رسم أساستها ركيزة الأئمة الإمام علي أميرالمؤمنين. و لا الإمام علي تمكن من تتميم التعهدات المرتبطة بخط الامامة، و قد لبعت بها دعابات السقيفة... ثلاث سنوات عجاف شلت عهد الإمام و ألقته صريعا علي بوابة المسجد، يختزن العلم كي يفهم المتخبئين خلف حيطان الجريمة، بأن الشر ليس نصف الكلمة، ليكون الخير نصفها الآخر - و كذلك الاذعان ليس نصف الكتاب، ليكون العصيان نصفه الآخر!!!. فالخير و الشر ليسا الكلمة البهية... انما الخير وحده هو الكلمة البهية و العصيان و الاذعان ليسا الكتاب المرجا، انما الإذعان وحده هو الكتاب المرجا. لقد ألهيت كثيرا مدرسة الإمام علي (ع) عن تركيز ذاتها، و توسيع فروعها، و هكذا بقيت نائمة في ردهة الانتظار أما الإمام الحسن، و قد عاد من الكوفة إلي يثرب، بعد أن لملم الأمة و رأب صدعها من الانفراط، فإنه [ صفحه 24] لجأ الي مدرسة أبيه ينشط تياراتها النائمة علي مهد الإمام الصريع، ولكنها تخدرت بالسم ذاته الذي انتقعت به عروقه الزكية... إنه الشر الذي هو نصف الكلمة عند معاوية، عطل به - هذا المعاوية - خيرا يتمرس به الإمام الثاني بادعانه لكل ما جاء في آي الكتاب. وحده الإمام الحسين - بعد مقتل أخيه الحسن بالسم - وسع المدرسة الطالبية و مهرها بالدم، ليكون العنفوان - بدوره - مادة من مواد التعليم: كالحساب و كل العلوم الرياضية، و كالجغرافيا و كل السهوب الهندسية، و كالفيزياء و كل المعادلات الكيميائية، و كالفقه و كل المفازات الفلسفية، و كالطبابة و كل اسعافاته الوقائية. أما الأخلاق، و ما يشوهها من المآرب، و الغايات، و ربط الدنيا بأحزمة لا هي من عزاء، و لا هي من رجاء، فانها بقيت وحدها حصة المتلاعبين بالكلمة، يفتتونها حروفا، و يجمعونها أهواء لا هي خير و لا هي شر، بل هي عقدة الداء! هو الإمام الباقر، يترصع لنا الآن فيه الرصيد. يبدو أنه لم يصطبر علي الأيام حتي تنقاد له من تلقاء ذاتها، بل أنه تعجلها بذكائه و طول أناته، و بفيض من نباهة، و حكمة، ورواء، فجاءت طيعة بين يديه، مفسحة له في الانصباب علي تركيز و توسيع المناهل التي تحتاجها الأمة حتي تتخلص - رويدا رويدا - من عطش فيه من الذل أكثر مما فيه من الحريق!!!. لقد قلنا - منذ لحظات - ان من في يدهم الأمر، علي عهد الباقر، قد أرضاهم انصراف الإمام إلي مهمة التدريس، و توسيع مدرسته بالفروع العلمية، و منها الجليل النادر: كالفيزياء و الكيمياء، و دروس الأشياء، و كالحساب، و الطب، و الجغرافيا، و ما شابهها من هندسة و رياضيات. الي جانب علوم أخري تتنشط بها البصائر و الضمائر، كعلم الحديث، و التفسير، و الفقه، و الفلسفة. [ صفحه 25] إنها رائعة مدرسة الإمام الوسيعة و المريدة، يملأها من عمره بالساعات الطوال المجهدة، و تحتل من مضامين فكره، و روحه، و دمه و أعصابه، ما يجعلها قطعة من وهج حي متحرك، تنبض بها سقوف المسجد و حيطان المسجد، و كل الحصر الممدودة في صحن المسجد. لقد لذّ للولاة هؤلاء، ولو كانت أسماؤهم هكذا مكرورة: مروان بن الحكم بن العاص، أم عبدالملك بن مروان، أم سليمان بن عبدالملك، أم يزيد أخوه الذي هو غير يزيد بن معاوية، أم ابن عبدالملك الأخير الأحول و البخيل و المشهور بهشام... أجل، لقد لذّ لهم كلهم أن يرمقوا الإمام غارقا في زنزانته المدرسية، تاركا لهم وحدهم الحكم و الولاية، من دون أي ازعاج أو أي تشويش يتلاعب بساحات أو بزواريب يثرب، كما تلاعبت بها - منذ حين - ثورة الحرة. هنالك وال واحد - يا للنعمة - و هو من ذات الأرومة، طابت فيه السجية، و لانت في صدره العريكة، دخل المسجد و الإمام فيه نصف رابض علي حصير، يلقي الدرس و يعطفه من تفسير الي تيسير، و حوله صفوف من فتيان، و من كهلان، و حتي من شيوخ، و كلهم رضوان و كلهم ركع يصغون. لقد بهر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بالدرس الخارج من بين الثنايا كأنه قطعة من صلاة، مع أنه حديث منقول من شفة الي شفة كانت تطرح السؤال علي شفة الرسول. إنها نبذة قد يبدو أنها تقريظ لما يوقم به جهد الامام، ولكنها ليست لأكثر من التدليل عن صدق المواهب فيه، و هي الطائعة بين يديه، في روعة البث و روعة الأسلوب، و هي ذاتها - في صدق دفقها، و عمق مداها - تجمع له احترام الناس و ثقتهم به. و من هنا أن الولاة أنفسهم - و قد كرهوه - و منهم الظالم و منهم المستبد، و منهم الكافر العاتي، ولكنهم كلهم [ صفحه 26] سكتوا تحت ظل عينيه، لأن في عينيه قبسا شبيها بما كانت تشع به عين الرسول. أظن المقدمة - و قد تداخل بها العرض - قد أوصلتنا بوضوح الي مبتغانا - و ها نحن نقرع الباب ليكون لنا سماح في الدخول الي المحراب السني. خطوة خطوة سنلملم الدرب في الولوج، معصومين باحترام متين، و نحن نسدد النظر اليه: منذ أن أطلت به عينان ناعستان بالضوء الخفي، الي أن تعمض جفناه علي المدي الآخر المنور، و قد وسعته بالعلم، و اضاءته بالفهم جهود له متنسكة للحق، و بالحق مقبورة. [ صفحه 29]

خطوط عريضة

اطلالة الشبيه

إيه يا أم‌عبدالله، يا أيتها الصديقة المفطومة عن كل عيب و رجس. لقد نقل اليك أبوك الإمام الحسن اسم جدتك فاطمة. فطابت فيك المزايا الناطقة، كما طيبك الفوح المقدس. فهنيئا لك هذا الفيض تتلملمين به و تنجبين بكرك عبدالله، و قد نطق به البهاء الذي أخذ به جده الإمام الحسين فلقبه بالباهر. و ها أنت اليوم تبتهلين بوليدك الثاني، و قد شع به سناء مختوم بأكثر من آية، مما جعلك مع هذا الصباح الشهي، تسجدين سجدة السر بين يدي عمك الامام، راجية اليه أن يكون قربك في خشوع الذات، و ينتقي لهذا الوليد الجديد اسما نجيا، يكون مشتقا من هذه الملامح و من مثل هذا الضياء. لقد لباك الإمام تنادينه بصوت من مهجة مفتونة بمهجة، و هفا اليك بشوق مبلول بحنين الصلاة، و لما اجتباه الطفل اليه، وقف مشدوها يقرأ الخطوط الدقيقة المنثورة علي جبينه كأنها شعيرات من لموع النجمة الزهراء، تخفرها من فوق قمة الراس دويرات دويرات من شعر مجعد، كأنه حلقات من درع محبوك بالزرد، بانتظار وقعة تحصل في الساحة المجهولة! أما عيناه الصغيرتان فكانتا مطبقتين علي فحوي عميق كأن النور فيهما هو المخبأ تحت رقاقات من كسل، تنم عنه زوايا أربع، في كل [ صفحه 30] واحدة منها اهتزازات خفيفة كأنها خلجة من هدآت الضحي، أو حبوة من حبوات الأمل، ليكون علي الوجنتين مطاف آخر لموجات سخية باللطف النجي الراضي بذاته، من دون أن تجتذبه الا بسمة خفيفة نادرة، أو نجوي ذكية حائرة... هنالك شفتان يضج عليهما شوق ممتاز و ملهوف الي حزن ثري، كأنه صاعد من كبد تأبي أن ينز عليها ذوب الزعفران. لقد أخذت يا فاطمة الأم بما بدا من الإمام العظيم، و هو مستغرق في قراءة الوجه النائم علي البحبوحة... و لكنك أخذت - بشكل حميم - عندما رأيته يجبي الأرض بركبتيه و يثلمها بالسجود المكفوف بالرضا المؤمن. سكرت بما شهدت من الوله الصامت المتحرك الحي، و غرقت - من جديد - في غفوة منسولة من الجو المبارك، يسبح فيه طفل مقمط بوشيجة من حلم و خيال. ولكن الوقت الذي طال علي تهيبات السكون، قطعت من هدأته، نأمه نجية، نزلت في أذن فاطمة اليمني و هي تضم الطفل الي صدرها بالزند اليسار - و سمعت قول الإمام - كأنه النجوي الهابطة من خلف الغمام: كثيرا ما وشوشنا جابر بن عبدالله الأنصاري يا فاطمة. بأن واحدا من أبنائنا يميزه شبه بجدي الرسول. و بعد غوص آخر - غاصه الإمام في التقاسيم - عادت فاطمة تسمعه يقول: فلنسمه بالباقر. سيبقر العلوم و يفجرها حقا و هدي. [ صفحه 31]

الباقر

لقد تعجل الإمام الحسين علي أم‌الوليد الجديد. و علينا نحن المتنصتين الي كل نأمة نأمت بها الأحداث، و تناقلتها ألسنة التاريخ، ليكون لنا - في معرض الاصغاء المصفي - رأي مستخلص من صدق الوقائع، و موقف مبرأ من افتراءات الدس المبثوث بين حروف يهمس بها، في بعض الأحيان، صائغو التاريخ!. قلت: لقد تعجل الإمام علينا بإفاضة اسمين علي الوليد الجديد... لا شك أن الشبه بجده الرسول قد أكسبه الاسم الكبير. و هو اسم محمد، أما أن يكون الباقر منذ الآن، أي قبل أن يفتح عينيه علي النور، و قبل أن تثغثغ شفتاه بحرف من حروف العلم الذي سيفجره فهما و حقا و تسبيحا، فان ذلك هو مما تعجل به الامام: علي الأم، و علينا، و علي الطفل بالذات، و لما يفتح عينيه بعد علي مساحات النور. علي الشبيهين بالرسول أن يكونوا - علي الأقل - مثل الرسول طاقة تفجر العلم حسبما تطلب منهم نوعية التفجير!. عفوك يا حسين. فأنت الأدري بالمضامين. و أنت الأصغي الي همس المسافات الجائلة في دوائر الأبعاد... بالأمس، و ليس الأمس لديك دولابا تكر عليه الثواني و تذوب في بحيرات الزبد، بل هو تركيز الغد في هنيهات الأمس، ليكون للزمن الآتي جذر مغروس في كل يوم عشناه في عمرنا، علي أن نكون قد ملأناه - هذا اليوم المعاش - في ذواتنا، بكل ما [ صفحه 32] هو حق في الحياة، و بكل ما هو نور و صواب. هكذا هي الأبعاد تحت عينيك أيها الامام، زرعها في باحات نفسك جدك الرسول منذ أن كنت في المسجد طفلا تعلو ظهره و هو فوق المنبر يوزع علي الناس: عينيه، و يقينه، و لهاثه... كنت تغمر - بباعيك - رأسه الأوسع من فضاء - ولكنك كنت تشعر و أنت صغير - بأنك بهي كالفضاء و بهيج بهيج كعيني جدك، و هما تغوران في عمق الفضاء. لقد مكنك جدك الرسول - و أنت طفل - من استطلاع الغد. و جعله جذوة في يومك المفعم منك بالخير و العطاء. من هنا كان لك بالغد - لا سيما إذا كان فسيحا في صدر الزمان - اهتمام مميز بالنشاط و التركيز، باعتباره المدي الزمني الصالح و الكافي للاهتمام بالقضايا الكبيرة، الفكرية - العقائدية - الروحية، و التي تنال منها الأمم القوية مناعتها، و حضارتها، و كل مقوماتها الحياتية الراشدة في المجتمع الانساني المتمكن في الوجود. ليس بدعا أيها السيد أن تري أبعاد الخطوط، فجدك العظيم، و هو المطوي في يقين أبيك و طويته الأنيقة، هو الذي مهد لك كيفية حفر الخطوط، و أهمية قراءتها بعين تكشف الأبعاد و تستجليها... و الأبعاد، هي الخطوط العريضة، و المرسومة علي اللوح العريض، فالرسالة - مثلا - هي خط طويل و خط عريض. و كذلك هي الأمة المخصوصة بالرسالة. و كذلك أيضا هي الامامة المرتبطة بالرسالة و بالأمة بشكل وثيق. و اللوح العريض هو الغد المسلوخ من طينة الأمس، يتطيب بها الزمان، و يطول عمره بما يتجمع اليه من الأعراف السليمة المضخمة بالمناخات العقلية و الروحية، و التي لا يعيش بغيرها وجود الانسان، أو بالأحري وجدانه العفيف. [ صفحه 33] ان الفصل المفتوح الآن أمامنا، و عنوانه: خطوط عريضة، هو في تخصيص البحوث و اضاءاتها بالجلاء عن كل ما قرأه الحسين في تقاسيم حفيد له، ليس في محياه الندي سوي براءة مثلي، قد تتخبأ خلفها سمات منثورة في شبه شعيرات نحيلة، جاءت بها، في الخفاء من الأب و من الأم، سليقة خلقية مشطورة الي بطانة الرحم، عاش بها الجنين، و بها نما، و بها تلوّن. فليكن لنا من مثل هذا النوع من التلميح ما نستضي‌ء به إذا اقتضت حاجة، و من جملة التلميح أيضا أن نذكر أن للطفل المسمي الآن محمد الباقر ثلاثة جدود علي خط أبيه: الإمام الحسين، و الإمام علي، و النبي الرسول... و له ثلاث جدات علي ذات الخط الأبوي: شهزنان سيدة الأميرات، و فاطمة الزهراء، سيدة النساء، و الأمينة خديجة سيدة المخلصات، و إن المولود الجديد لن يرتبط بخط الامامة قبل ثمان و ثلاثين سنة، أربع منها لا تزال مرهونة بجده الإمام الحسين، و قد قضاها مهموكا بتعبيد الطريق الممدود بين مكة و كربلاء الكوفة، و أخيرا مشاها - خطواته المرسومة - و مهرها بدمه الأزهي من الأرجوان، بعد أن سلم ابنه عليا مقاليد الامارة، مسجلا علي صفحة التاريخ ما يسمي برفض الذل، و تمجيد العنفوان. لقد تكحلت عينا محمد الباقر - علي مدي عشرة أيام متعاقبة في ساحات كربلاء - باثمد أحمر، لم يفارقها مدي العمر. بعد أربع و ثلاثين سنة من هذه اللحظة المصبوغة بنبل الدم، أغمض عينيه ذلك الذي لقبه جده الرسول بزين‌العابدين، و انتقلت خلافة الرسول إلي فتي مفتوح الجبين، اشهب الصفات، أصهب، نقل إليه جده الرسول شوقا من أشواقه الميممة بالعلم الوسيع، و العلم الرفيع، و العلم المنيع - لقد حمل إليه لفحة الشوق البليغ، رجل صحابي سجد [ صفحه 34] طويلا بين يدي الرسول، و تبارك كثيرا بلثم بناناته - انه جابر بن عبدالله الأنصاري. لقد أطال الله بعمره حتي شاهد الفتي، فاحتضنه، و اشبعه لثما - و هو يقول له: «جدك الرسول يقرئك السلام، فأنت شبيه به، و لقد ألح علي لأبلغك بأنه لقبك بالباقر». [ صفحه 35]

جابر الأنصاري

انه جابر بن عبدالله الأنصاري... تعرفت إليه بعد إن سمعته يتكلم في جلستين كلاما قصيرا، فاكبرت الكلمة الصغيرة في فمه لا يسكن أبدا صداها. كانت الجلسة الأولي في بيت الإمام زين‌العابدين: دخل جابر و الإمام ساجد يصلي، فوقف خلفه في خشوع طويل، و انتظار بلا ملل - ولكن الإمام الغائص في السجود، كانت صلاته أطول من حزنه علي أبيه الحسين شهيد كربلاء. و انتهت الصلاة - بعد وقت طويل - مبلولة بدم أحمر! تقدم الزائر جابر و سجد بين يدي المزور المبرور، و هو يقول: يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالي خلق الجنة لكم و لمن أحبكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟! البقاء علي نفسك يا سيدي، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء، و بهم تستكشف الأدواء. لقد كان كلام جابر بعيد الغور. لقد قصد اسكات حزن يضني، و ابقاء إمام مسؤول عن رعية... أما الجلسة الثانية فهي التي رأيناه فيها منذ لحظات، ينقل وصية الرسول الي حفيده ابن زين‌العابدين: [ صفحه 36] «جدك الروسل يقرئك السلام، فأنت شبيه به، و لقد ألح علي لأبلغك: بأنه لقبك بالباقر». ان في التبليغ شهادة تفصح بأن حامل التبليغ ضليع بمقاصد الرسول. و أنه نعم المبلغ و نعم الضليع... فهل يكون لي أن أصيب من مقاتله، أو بالأحري، بعضا من فضائله و مواهبه إذا قلت فيه مثل هذه النبذات؟: انما هو جابر: صحابي صادق و ممتاز. أنه أروع ممن جاء علي صف الأنصار. و هو شيخ وقور مديد العمر. بري‌ء كأنه طفل. وديع كأنه حمامة. ذو رأي و حكمة كأنه زهير بن أبي‌سلمي. ثابت كأنه صنديد. ينقصف السيف في يمينه... ولكنه لا يرميه. قبضة السيف تعشق كفه... و هكذا البسمة تعشق ثغره... و يري الأبعاد كلها... و يشهد لكل واحد منها بكلمة قصيرة. فاذا ما قالها صمت و تبسم. عايش الرسول العظيم. [ صفحه 37] و أخذ منه قوت عمره... يا للرسالة نزلت في روعه زرعا... ألا نراه: زرع في الأمس، ما يعيش به اليوم؟ [ صفحه 38]

الرسالة

و الرسالة - انها خط من خطوط الطول، ليكون لها - من مداها - ظل يتألف منه خط العرض. أما خط الطول فمعناه غوص في عالم الروح، و استنجاد بقوي الفكر، و استغراق يوجه الشوق الي مجالات اليقين، و استغاثة بالخيال يقرع أبواق اليقين المفتوحة علي سرمد بهائي يستنير به انسان الأرض. ان الله مخبوء في الرسالة تبسط للانسان كل ما أفرغه عليها الغوص في كنه الوجود الممدود علي كف الخالق الذي هو كل روعة الوجود. ان الله في حرف الرسالة: فهو الوجود و كل الوجود، و هو الجمال و كل الجمال، و هو الكمال، و هو الحق، و هو الخير، و هو - وحده - المثال و المآل. أما الخط العريض فمعناه انتقال الرسالة من حالة الغوص الكبيرة الي حركة التبشير الصغيرة، و هي الموجهة الي الإنسان. ان الغواصين هم أولئك القلائل النادرون، يتناولون الغوص وصولا الي يقين يوجهون به الانسان و يبنونه أمة راشدة، و مجتمعا سليما... انهم المنتهون الي يقين بأن الله هو المهيمن علي الوجود: فإذ لا يري، تتأكد رؤيته المليئة به. فالفكر يدركه، و ما يقع تحت العين أو ما يفوتها، يدركه. و ما يلمحه الخيال أو ما لا يلمحه الخيال، يدركه، كما و إن انتفاء الفراغ يدركه. [ صفحه 39] و كل ما يغيب عن العين، و عن الأذن، و عن الحس، و عن مطلق المسافات، يدركه... فليكن المصدر، وليكن اليقين. وليكن الوحيد، و في مطلق الحال فليكن الدين. ولكن الغوص الذي غرق فيه الأمين محمد، أكان خمسا و عشرين سنه في عب غار، أم كان - علي مدي العمر - في قلب مجتمع الجزيرة المشحونة بالنار، و بالغبار، و بعدد لا يحصي من مئات القبائل السائبة بين خطوط النار و زحمات الغبار، انما هو غوص كان مميزا عن أي غوص ساح فيه الأسبقون. و لم يكن الأسبقون - في مطلق الحال - من غير سلسلة من خط الجدود، كانوا ينطلقون أفواجا و أفواجا من خطوط النار في قلب الجزيرة، و من خطوط الغبار، ليكون لهم التحام بكل الأرض المفتوحة أمامهم علي عرض الشمال امتدادا من شاطي‌ء المتوسط، علي طول السهول المكفوفة بالجدار العالي المنتصب بامانوس، و زغروس و البختياري، انصبابا - مع دجلة و فرات - في الخليج المشترك، بشاطئيه العربي و الفارسي... ها هي الأرض التي كانت تتقبل الأفواج العربية المصفوفة علي طول الجنوب - إنها الأرض اللبنانية - الفلسطينية - الأردنية - الشامية - العراقية المجموعة باسم الهلال الخصيب. لقد عين الخصب الاسم و كتبه أيضا - بحرف من حروف الأبجدية الفينيقية الكنعانية، و هم فوج من الأفواج المنتقلة و النازلة في الأرض، و المنصهرة فيها. و المشتركة مع الراسخين من أبنائها المنتجين في ذلك الوقت - علما، و فلسفة، و حضارة، و الذين كان منهم غواصون في كنه الوجود، و في الاقرار بخالق في يده وحدة الكون، و نهاية المآل، إن ما جاء في التوراة، و في المسيحية الحديثة مصداق لما فاضت به الفلسفة في الأرض السورية - الآكادية - السومرية، و هي التي اخلتط فيها: البابليون و الآشوريون و الأموريون و الآراميون و الكنعانيون الفينيقيون، ما عدا هؤلاء السابقين الذين لم يلمحهم التاريخ. [ صفحه 40] و كذلك وصل فيض هذه الفلسفة العريقة، فاصاب منه كل الجوار القريب و البعيد: أكان من الفرس و هم كتف شرقي ملصوق بكتف غربي، أم كان في غربي البحر البارز بجزيرة قبرص التي انتقل منها الغيث إلي من هم المسمون بالأغارقة اليونان و من أقاربهم رعيل الرومان، بحيث علمتهم جميعهم - قبرص - بري المجذاف و شد السفينة... أم كان في المقلب الآخر الساجد بفراعنته تحت اقدام النيل - إله مصر - و قد حررته من طميه هندسة نشأت في أرض ما بين النهرين تخلصت بها الأرض من طمي دجلة و الفرات. لم تغب الفلسفة تلك عن استيعاب الأمين محمد، و هي فلسفة قد اشترك فيها كل أجداده هؤلاء و انغمروا بعبابها و هي التي حفرت في يقينه حفرها السليم، و نزلت ذكرا استشهاديا في حروف رسالته، و لم يقتنع الا بمؤداها التوحيدي المؤمن بإله قادر رحيم جبار... ولكنه - في النتيجة الملموحة - راح الي رسالته يكيفها و يشبعها بكل ما يلائم انسان بيئته بنت أرض الجزيرة المشوية بالجفاف - إن الانصباب هذا علي توجيه الرسالة و تلقيحها بالملائمات هو الذي ميز غوصه، و ميز عمقه، و عين مداه، مع العلم أن هذا التلقيح المقسط، لم يخرج الرسالة عن جوهرها التوحيدي - الإنساني- الأصيل -، بل شدها بجاذبية عالمية مفتوحة، لمت الوسيع من مجتمعات الأرض الي الحضن الاسلامي الرحيم. لقد كانت الحاجة ملحة في الجزيرة الي كتاب يلملم قبائلها بين حروفه، فإنسان الجزيرة كانت تطارده الفوضي فوق فسحات الرمال: فهو عداء لا يستقر به شبع. و لا يستريح عليه نظام. من هناك كان له نزوح يكشفه التجوال، و يفرضه الترحال... أما الأمين محمد، فهو الغواص الململم الانسان الي كينونة أخري تلحمه بذاته - و من ثم - بوعي القيمة [ صفحه 41] الإنسانية فيه، ليتمكن من الجلوس الي مائدة يبسط عليها طعامه و شرابه... من هنا ان الغواص قد تمكن منه عمق الغوص، فجمع الكتاب و وفي الرسالة، و انضوي الي الأفق الغائر فيه: رسولا و نبيا!!!. لم يكن لنا من هذه البسطة الموجزة الا محاولة تبيانية عن مدي تعب طويل رهن الرسول الكريم جهد العمر من أجل تحقيقة لرفع قيمة الانسان في الجزيرة، فيكون له مجتمع صالح، و أمة ملمومة بالحق و الهدي. لقد رأي النبي العظيم أن تعبه قد أثمر. و إن الرسالة التي تثبت بها الكتاب قد حركت الوعي النائم في الغفلة المشلولة، و ها هو المجتمع يفيق الي حقيقته المفروضة في الوجود. و لن يلزمه الا عقود من السنين معدودة، يتمرس فيها - بالتدرج - علي حقيقة الوعي، و حقيقة السير، و حقيقة جلوة العين من رمدها المزمن!. لقد أصبح تخليص الأمة من كل ما كان يضنيها من معوقات، همه الكبير، حتي لا يهرق التعب من دون أن تستفيد الرمال من الدم المهراق. لقد كان يتمني الرسول أن يعيش أكثر من مئة سنة حتي تتم بين يديه حلقات التدرج في تمتين الوعي و تنظيم البلوغ... ولكن الأشواق لا ترويها الأحلام، و لا يشبعها فرط التمني... و هذا ما كان يلج علي الرسول بأن يأخذ الحيطة و يبني بها جدار وقاية لرسالة يجب أن تصان حتي تستمر - هي - بالصيانة. ان الأمة بالذات قد أنجبت عبر تخطيها غياهب القرون و دهاليز الحقب، رجلا منها، مصمدا من مساحتها، و من مسافاتها المسحوبة من مشقات الدروب: انه ثمالة الكأس التي شربتها، و انه قبضة الرماد الناتجة من حريق أوصالها فوق المحطات التي بلغتها في مشيها الحافي، و انه الجذوة النابتة من حريق كل عواسجها التي اقتلعتها من حقول التجارب!!!. [ صفحه 42] ان الأمة بالذات - يناجي نفسه الرسول الهلوع علي أمة ستعود إلي خيباتها إن لم تعالجها الرسالة قاطعة بها الليل الطويل - هي التي تستحثه الآن في تعجيل تمتين الحيطة، بانشاء جدار حريز، يؤمن لها الصيانة القائمة علي حفظ الرسالة في اسطواناتها المقدسة، و يجهزها بصف منيع من الحراس الأولياء، يعززهم العلم، و الفهم، و الرشد، و السياسة الممرنة و المتمرسة بالعفاف. لم يجد الرسول الكريم. و النبي العظيم، و الغواص الغارق في لهاث الجهد، و الحريص علي أمة شتتها الضيم فوق مساحات الحريق قبائل قبائل، تستمطر سرابا و تشرب دمع السراب!!!. أجل، لم يجد الرسول اليقظان في هلعه، الا تنظيما يطال الغد الكبير زارعا فيه نتاج اليوم القصير المحتاج الي مران أصيل و مراس طويل - و سياسة حكيمة تصون الرسالة، و تصون الأمة، و توثق الغد بصدق الذمام ... ان الإمامة هي هذا التنظيم و هي زنار الأمان. [ صفحه 43]

الخط العريض

ليس اللقب الكبير تقمط به الوليد الجديد و هو في حضن أمه فاطمة، غير غزل من مغازل النجوي المدقوقة علي مكوك الخط العريض. و الخط العريض هو ذاته الزنار الذي سلخ الرسول العظيم خمسا و عشرين سنة من عمره اختلاء عميقا في عب غار، من أجل أن يغزله عريضا و متينا، يزنر به خصر الأمة، فيشتد حقواها و تمشي منيعة بانسانها السوي، فوق الدروب. و ليس الخط العريض غير الرسالة بالذات ملفوفة بنعمة ربها للهداية، و مكفوفة بزنار عفيف للوقاية و الدراية، حتي تعبر خطوط المزالق الي وصول منزه و سليم. في الاختلاء المنزه تقبل النبي العظيم هبوط الرسالة. و قبل أن يخوض دروب التبليغ و مشقاتها الجسيمة، كانت له خلوات جانبية تحصل في زوايا بيته المطهر، علي وشوشات يغمرها ظلام الليل ، و مهابات السكينة، و همسات التأمل... من يمكنه أن يفترض أن مثل هذه الاختلاءات الطويلة، لم تكن تحصل بين رجلين تجمعها و اشجتان: واحدة من عقل و روح و أدب، و أخري من هم واحد و وثاقة في الحسب؟ ينام في صدر الرجل الأول و خلف عينيه لغز لا بد منه من أن يتفجر و يتفسر، و تنام في بال الرجل الثاني روعة اللغز، علي مخافة أن تهرق الروعة (ان اللغز لم يتفجر و يتفسر. [ صفحه 44] من هنا أن الرسول الكريم ما وسع عباءته الا ليضم الي جنبه رفيقا له كأنه فلقة منه... سيكون لهما فراش واحد ينامان فيه إذا أعوت عليهما ريح من زمهرير... سيختلي به لتقويم كل خطوة قبل أن يتعثر بها الدرب الطويل... سيفجر به و معه لغزا تنام فيه رسالة تحضن الأمة و ترفعها الي سماء... سيزوجه من ابنته فاطمة، و هي فلذة من كبده، حتي يكون له - منهما - ذرية تثقف الأمة بالرسالة، و تحفظها الي يوم بعيد. ليست قليلة اختلاءات الرجلين العظمين، و هما: النبي العظيم و علي العظيم الآخر، و هي ليست المفترضة، بل المؤكدة الحصول، لأن الارتباطات الواقعية، و كل الأحداث المصيرية التي حصلت، و يمكن حصولها علي الأرض - تشير الي أن الخلوات تلك ما كانت تتم الا للتدارس في الأمور الكبيرة، و اتخاذ القررات الحازمة، في سبيل جعلها تسير في خدمة الخط الذي هو - الي حد عريض - خط الرسالة - ان الرسالة بالذات، و النبي الكريم هو المدعو الي تمزيق الغلف عنها، لم يكن له أن يقوم بخطوة واحدة في سبيل نقلها الي الأذهان، الا بعد اختلاء طويل بمن يثق به، يتم فيه الدرس و التخطيط، و اتخاذ القرارات. فلنسأل واقعة بدر، أو واقعة أحد، أو واقعة خيبر أو تلك المشهورة بواقعة الأحزاب... أية واقعة منها لم تدرس في خلوة، و لم يمش اليها بقرار؟. بديهي أن لا نلجأ الي ما يثبت لنا أن عليا كان في كل حين من الأحيان، نعم الرفيق، نعم الأمين، و نعم الوفي، و نعم المستشار... ولكن القول هنا ليس لاثبات الإمام علي بأنه فارس المضمار، بل يتجه القصد الي النبي العظيم بالذات، بأنه لم يكن ليتناول أي بند من بنود قضاياه الملمة بشؤون الحياة و مراميها القصية، الا بعد أن يشمل هذا البند بالدرس و التمحيص في خلواته مع نفسه و مع الأخص من مستشاريه، ليتم - علي مهل - اتخاذ قرار الدفاع عنه بالكيفية المطلوبة، فاذا كان له هذا التصرف ازاء أية واحدة من آيات كتابه المأخوذة علي انفراد. فكيف يكون [ صفحه 45] شأنه في توضيب التصرف الملي‌ء الاحتراز، عندما يتخوف من أفواج المقتحمين علي تشويه كل الكتاب بما فيه من سور قبب، و بما فيه من حروف آيات؟... انه الكتاب... انها الرسالة... انها مجتني العمر علي مدي الدهور، و مدي الحقب... انها لمامة شمل الأمة، و انها زنارها الواقي من الانفراط. لقد كانت الأمة - في حساب النبي العظيم - مهبط آماله، و هالة أحلامه - و ما كان له أن يرجو اثابة من ربه إذا تثبطت به الهمة عن كفكفة الأمة بأفياء الرسالة، لتكون هديا لأمم الأرض، و مثالا لكل واحدة منها: في الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، فاذا تعثر بها الفهم و غابت عن مراميها، فما أتعسها - أمة - تخيب بها حروف الآيات، و تضيق عليها فتحات السور، ليكون - هو النبي - كئيبا كئيبا ستثقل عليه بلاطة الرمس، بينما تشتاقه فساحت الجنان!!!. كل ما في الأمر أن هذا كله كان واردا في تحسب الرسول، و لقد ازدادت وطأة التحسب في باله، عندما راح يشعر بأن الأجل يدنو منه و بين يديه محفة مسحوبة من عمق الظلال! و الأمة التي سيتركها - وحدها - و يغمض عينيه و يغيب؟! من غيره سيغمرها بعين فيها مثل هذا العطف، و فيها مثل هذا النصيب؟! صحيح أنه جهزها بالرسالة، و صحيح أيضا أنه لفلفها بالكتاب... ولكن الرسالة - و هي حشو الكتاب - ليست مطلقا: لا آيات و لا حروف آيات... انما هي في تفتيق كل آية من حروفها الصامتات و في تعويهما بالروح حتي تضج بها الحياة، و تلتحم بها الكلمات، و تنطق بها السمات... ان في كل حرف من حروف الآيات ظلا مسحوبا من غور، و غورا مشقوقا من فضاء!!!. و اثر ما يهبط الرسول من وقوفه و يغيب! فمن هو الواقف بعده؟ يمشي بالأمة فوق الدروب، و هو يفسر لها المعاني النائمة بين حرف و حرف من حروف الآيات!!! و بعد أن يصمت الرسول؟ من يخلص الكلمة [ صفحه 46] من صقيع الموت، غير العارف - مثله - أن الحرارة هاجعة في الكلمة، و لن يكون لها سريان الا بعملية من وصل حرف بحرف، فينتفي الهذيان و تنتشي السور... أليست - هكذا - بزغة الضوء انبجاسا، اذ يلمس السلب و جنة الايجاب؟. و الأمة - في ظن الرسول - لن ينهض بها رجاء، لا اليوم و لا في أي غد آت، ما لم ينورها العلم و الفهم الموسع... و عندئذ، فالكتاب، بكل ما بين دفتيه، هولها في مدارج الادراك، ينقلها - حثيثا - الي استطلاعات أخري، يخف عنها مضيض الجهل، و يقوي فيها و ميض العرفان... و للعرفان الذائب في حقيقة المعرفة و حقيقة الوجدان، معونات و معونات، تشفع بالانسان إلي سمو في السلوك، و الي شبع في المزايا، و كلها تبني الأمة و ترجحها في كفة الميزان. و العلم؟ من ينقله و يوسع أدراجه إلا الباحثون و المنقبون الفاهمون؟ ان فيه - وحده - الإلمام بكل شأن من شؤون الحياة، و علي الأمة أن تنهل منه، و بقدر ما تنهل يبهو بها التحصيل. و الأمة - بالتفصيل - بحاجة إلي العلم يعلمها أن تزرع و أن تحصد،... و أن تبني اهراءات تخزن فيها - ليوم القحط - ما تحصد. و هي بحاجة اليه يعلمها أن تقرأ، و ان تكتب، و أن تفهم ما تقرأ و ما تكتب. و هي بحاجة اليه يعلمها الفصل بين الحق و الباطل، فلا تأكل رغيفها الا عن صينية الأول، و تنبذه عن صينية الثاني، لأن الحق تأكله فتصفو عينها، أما الرغيف الآخر فسم يهري‌ء الأحشاء!. و هي بحاجة الي علم يعلمها كيف تمشي علي الموج فلا تغرق، و علي اللفح فلا تحرق، لأن في الموج زبدا يعدله المجذاف، و في اللفح حزاما يلطفه اليقين. و هي بحاجة الي علم يعلمها جمع الخيط من نسالته، ثم غزله، ثم [ صفحه 47] نسجه علي مكوك تبرع في بري عوده، فيكون لها - من جهد يدها - عباءتان: واحدة تلبسها في يوم الهجير، و ثانية في يوم الزمهرير. و هي بحاجة الي علم يعلمها كيف تحصي خطواتها فوق الدروب، و عبر البحار و عبر الرمال، و عبر المجاهل و الحدود... لأن في ذلك كله هندسة ترتب لها شد نعالها نحو الأقاصي، و ترسم بها جغرافية الأرض و مناخاتها، حتي تعرف متي تذهب، و كيف تجول، و متي تؤوب - و تعلمها علي المدي الطويل: كيف ترقق المجذاف، و كيف تنجد السفينة... أما الأرقام فسيكون لها - تحت عينيها - رصف علي اللوح يرقص به علم الحساب... أما الفلسفة، و الفقه، و ميسرات التفسير، و تفتيق الألغاز النائمة بين الحروف، فإن المنطق - وحده - يعلمها الخشوع لكل آية من آياته البينات. و هي بحاجة - بشكل مطلق - الي علم يعلمها كيف تطبب أجسامها فلا تنهشها الأدواء، و عقولها فلا تشعثها الترهات، و أن توسع مداركها بعلوم الفيزياء، و معادلات الكيمياء، ليكون لها شبه اطلاع علي ما يحصل حولها في خضم الوجود، من تفاعلات يأخذ بعضها بركاب بعض، كأنها من نهاية تحصل و الي بداية تعود، مع أنها تبدو مزيجا من نهايات و بدايات لا حدود لها غير السرمد. ان علوم الكيمياء بمعادلاتها التي لا تحصي، تفسر اتحاد العناصر بعضها ببعضها الآخر، علي مقادير معينة الأحجام و الأوزان، تعجنها الأرض بأمواه السحاب، و تشويها الشمس بدفقات أخري من نار و ضياء... و هكذا يبدو الوجود كله في سلسلة سرمدية من معادلات، ليس لها أم باثداء غير الكيمياء، و ليس للوجود - بشكل مطلق، بكل ما فيه من عناصر تتماوج و تتخارج بها المعادلات - الا تأمل خاشع أمام القوة العظيمة و المقدسة، و الممسكة بكل هذه العناصر، تملأ بها مدارج اللامنتهي في [ صفحه 48] هذا الوجود... و ان الله - وحده - هو مصدر العلم المجرد، تمسح به الأمة عينيها حتي تستنير. هكذا نري أن كل ما تحتاجه الأمة لبقائها و اطراد نموها قد جعله النبي الكريم هما من همومه الدائمة، و أحاطه بعناية مدروسة، تنال منها الأمة - لا في يومها الحاضر و حسب - بل في كل يوم من أيامها الطويلة التي يجهزها لها الغد. ان الاختلاءات المعمقة بالدرس، مع الذات، و مع علي شقيق الروح و رفيق العمر، كان لها رصيد مميز بالتحسب، و الاحاطة، و بعد الرؤية، و صوابية العرض. لقد رأي النبي الكريم أن الأمة التي جمعها بجهده و سهره، سيضنيها الانفراط ان لم يتعهدها الفهم، و العلم، و السياسة الصادقة و الحكيمة، و كلها مدارج مدارج، لا يأخذ منها الا الذكاء، و المران، و التمرس الفاعل. الفهم نتاج العلم الصحيح، و العلم أوسع من المحيطات، و هو لا يستوعب الا نذرا فنذرا مع المدي الطويل الذي يبدو أنه لا ينتهي، و الأمة التي يليق بها عز الخلود، فلتوسع له حلقات المدارس، و لتملأ موائدها من ثراء حقوله، سيكون لها - بعد كل قرن من قرون السنين - ما يدل اليها بأنها صادقة في تلمساتها، و أنها حية في تعهداتها، و أنها بالحق و النبل تستعين و تستقيم. أما السياسة الصادقة و الحكيمة، فهي المتجردة من حقيقة الفهم المؤمن بأن الحياة هي الخير المروي بالجمال، و بأن السائس هو العفيف الذي لا طمع فيه، و لا بخل، و لا جشع، و لا ظلم، و لا عيب، و لا نكد و هو الانسان الصحيح المميز بالخلق المغلف بنعمة الخالق... ان السياسة تلك هي افراز الحق المكثف في رجل يمثل رأس الدولة في رعاية الأمة، و السير بها في سبيل المراقي: بعدل، و مساواة، و حق، و نظافة، [ صفحه 49] و استقامة... ان المران الطويل، و التمرس المصحح برفقة خلف لمخلوف صادق في عهدة الإدارة، يضمنان وصول جدارة القيادة من رجل إلي رجل عن طريق تسلسل الخلافة التي تكون صدقا موصولا بصدق... و ها هي الأمة - و الحالة تلك - ترتدي في كل مرة عباءة جديدة من دون أن تشعر أنها غيرت زيها، و هي تمشي علي ذات الطريق. و تم الرأي في الاختلاء الرزين علي تعهد الأمة تعهدا مركزا علي اثني عشر اماما، يكون ركنهم الخليفة الأول، و هو الإمام علي متمرسا تمرسا كاملا بالمخلوف الذي لا يزال يرعي الأمة. [ صفحه 50]

الامامة

لقد اكتسبت الامامة مع الوقت معاني كثيرة لا شأن لنا الا بواحد منها و هو الخلافة - أما المخلوف فهو النبي لكريم بعد أن تحمله السحب الي الرفيق الأعلي، تاركا للأمة رسالة طرية العود، ستكون - من دون شك محتاجة الي مدربين يتعدونها بالرعاية حتي يمتن عضلها، و تتوضح مقاييسها، و تنجلي معالمها الناهدة بها من الأغوار. ان في البحث السابق تلميحا مقصودا عن أهمية الرسالة و عن كيفية انبثاقها من جهد الأمة و من ثقل معاناتها في الحياة، عبر المديد من الحقب... و ها هو الذي تجمعت إليه هذه المجاهيد يدرك أن الرسالة انبثقت من واقع الأمة الراهن، و من حاجتها الضاغطة الي لم شعثها من انفراط قبائلها، و توحيدها في جدلة واحدة تنهض بها الي الصف الاجتماعي المنظم. لقد أصبح لنا شبه اطلاع من اشارات البحوث الواردة في مضامين ما مر بنا حتي الآن - علي أن الرسول الكريم هو الطاقة الفاعلة و المستمرة في تجهيز الجزيرة بكل مقوماتها الحياتية و الفكرية و الروحية علي السواء. لقد قبلت - بعد جهد مضن و مرير - ما قدمه لها اليوم، و ها هي تظهر به - في الساحة المحترمة - أمة ملمومة علي ذاتها: دينها التوحيد في ظل رسالة هي [ صفحه 51] جوهر التوحيد، و عليه أن يجهز لها ما يجب أن تقبله في الغد، من مقومات ضابطة، تحفظ بها كينونتها الجديدة، و استمراريتها النامية بالتنظيم العاقل الواقي من ردة عقيمة تردها الي الأمس الذي كان شاردا بها من غيهب الي غيهب!. لم يغب زعماء سياسة الأمس عن عينه المبصرة، فإنهم هم ذواتهم لا يزالون بين يديه يختالون فوق الساحات المذنبة بغرورهم الأصفر، أنه يلمحهم يقرأون الحروف، ولكن الرمد في عيونهم هو الذي يقرأ، و هل تصح قراءة بيضاء بعين يقرحها رمد؟!. و هكذا الأمة كلها المدعوة الي أن تقرأ: لقد تحرك الشوق الكامن فيها، و دفعها الي أن تقرأ. ولكن الجهل الهاجع فيها - من مخلفات ساسة الأمس - لا يوضح لها ما تقرأ. نذر قليل من فهم ما قرأته الأمة في الكتاب فعل في الأمة فعله العجيب، فكيف يكون الشأن لو ازداد هذا النذر من الفهم الي ضعفين، أو الي عشرة، أو الي مئة من الأضعاف؟ ان للأمة - في نسبة مثل هذا المقدار من التفهم - مقادير أخري كثيرة البهاء، تجعلها في مكانة جلي من القوة و الصفاء... انه حلم النبي في دفع الأمة - بالرسالة - إلي هداية أمم الأرض وزفها الي الجنان. لن يهدأ في الرسول جهد مكدود و مقدود من عزمه و بعد نظره، ولن تحرم الأمة من وسيع يومه و مديد غده، فالعدة التي حضرها ستجعل اليوم فتيلة الغد، و الغد زجاجة المصباح، تغرف منه الأمة نورها الوضاء. كل شي‌ء جاهز في التحسب الرزين، فالإمامة التي كل معناها - خلافة - هي في أمتن ما تكون، فعلي - وحده - أساس المحراب، و هو - وحده - سقفه و سناده، و بهاؤه... انه الإمام الخليفة، إذ تحمل السحب المخلوف إلي السقوف العلية، تاركة للأرض من ينور لها الممرات، [ صفحه 52] و من يفتح لها الكتاب و يعلمها فتح الكتاب. سيكون من علي نسل من القراء الخلفاء، و سيكون الأبناء عديدين في التدرج المبارك، و سينتخب منهم الأنسب للتخريج - اماما عن امام - في خلافة تصل الفرع بالأصل، فارضة علي كل ولي منهم تلبية حاجة الأمة، و كيفية ابتكار سدها بأي نوع من الممكنات، و هكذا فان الأمة ستناديهم الي حاجاتها فيلبون لها الحاجات... سيلبونها - كل بدوره - في بقر العلم إذا انكسف منه عنهم شعاع - سيبلونها بوصلة الخيط إذا انقطع الخيط من غزل قميص تلبسه في العراء، سيبلونها بازالة الضيم إذا ارتجفت بالظلم أنملة القضاء... و سيلبونها كلما اتجهت اليهم برجاء فلا يسكت واحد منهم عن تلبية الرجاء. إنهم اثنا عشر في الخط المرصوص في تواصل الخيط، حتي إذا انتهي بهم الخط، تكون الأمة قد اكتفت في تدرجها و احتاطت بالتأمل و التكامل المليئين من نور الرسالة، و هي كلها - عندئذ - خليفة الرسول العظيم، و راسخة في الرسالة: ثقافة، و حضارة، و نورا، و إيمانا... إنها الأمة التي كان يحلم بها النبي العطوف، لتكون في الأرض جنته المثيلة بالجنان الزاهيات. ولكن الرسول العليم، كان يرسم هلعه الكبير علي أمة لم يتمكن - هو بالذات - من ترميم كل ثلمة فيها، فاكتفي بالنهج أن رسمه علي اللوح، و نفذه بمن فهموه و لبوه، ليبقي حاضرا في الذهن: بأن الأمة إذ ما تستوعب الرسالة بكاملها، و تطبق نهجه بحذافيره، تصل - من دون ريب - إلي نظافة مثلي تحضرها لأن تكون وسيعة المعاهد و النوادي، و نادرة المحاكم و السجون. ان الأمة الآن تصغي إلي صوت جابر بن عبدالله الأنصاري يبلغ الفتي [ صفحه 53] اليافع محمدا و هو الشبيه بجده الرسول، بأنه مدعو إلي تلبية حاجة الأمة في يثرب، مدينة الأنصار، و هي المحرومة من العلم، حتي يتأهب و يوسع الأبواب لمعهد يمد الطلاب فيه بمعلومات عن علم الحساب، و الفلسفة، و التفسير، و الجغرافيا، و الطب، و الكيمياء... ألا نراه سيلبي عندما يتطلب منه أن يلبي؟!. [ صفحه 54]

الأمة

انه هو - بحثنا السابق و عنوانه «الإمامة» - يسوقنا الآن إلي بحث آخر بعنوان «الأمة»: هنالك كلمات أربع، يشتق بعضها من بعض، بمعناها و مبناها، و جميعها يكتسب معني الحضانة، فالإمامة، و الأم، و الإمامة، و الأمومة، يجمعها إلي بعضها توضيب واحد من العطف، و الحنو، و الالتزام، و يفصلها عن بعضها حجم متفاوت المؤديات: فالأم تحضن عدة أبناء يحرضها عليهم عطف الأمومة، - و الامامة أم أخري دافئة الأضلاع، تحتاط بعدة أولياء يحترقون بلهيب رسالة - أما الأمة فهي كنه الأمومة، و مجموعة الأرحام في مجتمع انساني نما في جغرافية من جغرافيات الأرض تضبط كل واحدة منها حدود أرضية (صخرية، أو صحرواية، أو مائية بحرية.) أو انفتاحات تمتد بها و تطول، ولكنها توصلها - في النتيجة - إلي تخوم تنكفي‌ء بها الي ذاتها في العمل و التفاعل و تنظيم الاكتفاء. لكل مجتمع من هذه المجتمعات البشرية عادات و أنماط بيئوية مسحوبة من مناخات أرضه، لتبقي مكرورة و مسطورة في التقاليد المنحفرة في سليقة أبنائه و سجاياهم، منذ آلاف السنين، و قد يستمر هذا الحفر في النفوس الي ألوف أخري من الأمداء، من دون أن ينفعل أي مدي منها بأي تطوير أو أي تحوير... لا يقصد البحث احاطة تامة بتحديد الأمة تحديدا عليما و موثقا [ صفحه 55] بماهياتها المرتبطه بالحياة، و بكل ما يتعلق بعلم الاقتصاد، و علم الجغرافيا، و علم الاجتماع، ان لذلك اختصاصات مطولة، سيشير اليها امامنا الباقر عندما يشرع أبواب جامعته في يثرب. فيشرق علم، و يشرق صواب. يكفينا من التحديد ايجاز يشير الي أن الأمة كائن حي، و هي ضرورة حتمية لنشأة الانسان، أما قيمة انسانها فانها تتوفر غالبا من نسبة ما تتنشط به الأمة من فاعليات متحركة منها، تكون مددا و ذخرا لهذا الانسان، تدفعه لتحقيق معين، يجهز به أحلامه و أمنياته، أو فلنقل: طموحاته التي تكبر بالجهد و المثابرة. سيكون العلم - وحده اذ يتيسر - نواة الجهد في لولب المثابرة، لا الحظ المقرظ، و لا الجهل النائم في عين ضب!!. ها هي الأمة المتربعة فوق مساحاتها الطويلة و العريضة، تتطابق عليها المواصفات الواردة في متن هذا البحث: انها الجزيرة العربية، و قد أنجبت فتاها العظيم المؤمن بها طاقة فاعلة في حيز وجوده، و بأنها هي التي انتجبته من صميم ضلوعها و من صميم معاناتها الطويلة في ردهات الزمان، و من حاجاتها الملحة الي كل تطوير و تحوير يوجه انسانها توجيها آخر يحرره من صباغاته المزمنة، و من عاداته و تقاليده المترسبة فيه من قبلية جاهلية أنتجتها المساحات السائبة بين الحرات و الأحقاف و الرمول السائلة في وهج الدهناء و ربعها الخالي، ليكون له - من و احاته - قسط مندي، يربطه بحقيقة الانتاج الانساني الموجه بالعلم و الرشد و الفهم الحي. لقد أدرك النبي الغائص في لجج التأمل و عباب الوحي، أن الأمة الملقوطة بصمت يابس، هي أمته بالذات، و هي الخارج منها و المنتسب اليها، و هي له في الذخر و في الشح، فاذا كان لها أن تقبله فهو الحي بها و الجائل بها فوق المساحات، أو إذا كان له منها ذلك العكس الحزين، فهو المهدور الي زوايا الأمس، و رسالته هي الخائبة المشلولة في العتمات!!!. [ صفحه 56] و انصب النبي الشبعان من نعم الغوص، ينجي أمته من الاستغراق في عتمة الريب، مقدما لها حروفا تؤلف منها كلمة الحق تمشي بها إلي رصف الذات في مجتمع سيقرأ اسمه مكتوبا علي اللوح. و لبته الأمة - كما سبق و قلنا - و ان تلبية كثيرة الاجتزاء، و راح يتنقل بها عبر الانفتاحات ذاتها التي كانت تعبرها في كل ماضيها السحيق، حاملا أمامها رسالة تسهل العبور: لا الي الجوار المألوف و حسب، بل الي أمم أخري، غريبة اللغات، و بعيدة الحدود، و قد استهوتها الرسالة بما فيها من حب و مساواة و مؤاخاة، و من ايمان بالله ينشر الطمأنينة في الروح، و يبلسم النفس بالرجاء و العزاء... ان في الرسالات السماوية جاذبيات مشتركة، تجعل أكثر من أمة واحدة تدين بها و بها ترتل صلواتها. كان التطرق الي هذا الموضوع من أجل الاشارة الي أن ايمان النبي العظيم كان بليغا بالأمة التي هي أمته في الجزيرة العربية، و أن حبه و اخلاصه لها هما المفروضان في التحتيم، و أن الرسالة و الامامة هما لها في التنزيل و التنظيم، أما العلم فهو الذي يترقبها تحتازه فينجيها من جهل يشل نهضات الأمم. ان الامامة المنظمة شددت علي العلم يبتدي‌ء بتفجيره امام يشعر بأنه حاجة مستمرة لنجاح الأمة و الرسالة اللتين تركهما الجد الكبير و الغيور، في بال كل امام يلتهب بالرسالة و بحب الأمة التي هي أمة محمد. [ صفحه 57]

آل البيت

انهم - بالتخصيص - علي و فاطمة و الحسن و الحسين. انهم البيت الذي «شاءه الله ليذهب عنهم الرجس و يطهرهم تطهيرا». لماذا هذا البيت تتخصص له النظافة و الطهارة؟ و ليس سواه من البيوت التي يعمر بها مجتمع الجزيرة؟ أليست الأمة كلها الآن هي بيت النبي، يشمله بحبه و بولهه، و يسكب عليه كل حرف من حروف نجاواه؟. ولكن البيت الذي أعده النبي هو - في وسيع خلده، و رحيب جنانه - بيت الأمة بالذات، ينظفه من الرجس، يرويه بالطهر، ليكون - في المطلق - هالة مثلي، تنسج كل الجزيرة بيوتها علي طرازه المنقي، و المصفي، و المروي بالجمال... انها الامة بالذات، ينثر عليها النبي الكريم، في كل لحظة من اللحظات، ألغازا و رموزا و آيات، حتي يكون لها - أبدا - ما يشغلها عن غزل الترهات، بتفتيق الألغاز من مخائبها، و حل الرموز من أصفادها، و تسديد التبصر بالآيات و أبعاد مراميها... لو أبصرت - فعلا - هذه الأمة كم هو عظيم هذا النبي المرتفع من عتمات ليلها، ليخلصها من كل عتمة تتكسر فيها زجاجة المصباح!!! لما كان لها أن تفوت لحظة واحدة في الاصغاء اليه، لأن في اطاعته جدوي تتخبأ في عتمة اللغز أو في لطوة الرمز، ولكنها - في غد أو ما بعد غد - تنكشف الجدوي عن لؤلؤة يحتاجها العقد الذي ستزين الأمة به - في الغد - جيدها. [ صفحه 58] ان حائط بيت الأمة الذي راح النبي الي بنائه كان في رهصه الأول، أي في أول مدماك من مداميك الأساس، و لم يجد للزواية الركيزة الا حجرا مسحوبا من مقلع الصوان... و مقالع الصوان في جزيرة الرمل مرذولة، لا لأنها المكفولة في تحقيق المتانات، بل لأنها ليست سهلة - كالرمل - في جبلة الطين، و صلبة تحت مجسة الشاقوف، و يهرب منها البناؤون، ففي خشونتها ما يقطع الخيط و يقرض الازميل!. و لكن النبي المتين ببنائه النفسي - الروحي - النبوي، كان يفضل بناء أمته بناء متينا لا رجس فيه و لا أي من عهن، يدعمه الطهر في المسارات المنزهة، و يرمقه التاريخ بعين من غد لا يرقي اليه غير المرسخين بالصدق، و العفاف، و النزاهة المثلي، و كلها مزايا، تهيمن عليها و تفرضها متانة في العقل، و متانة في الرصد، و متانة في اللب، و متانة في الروح. لم يجد النبي الكريم في تجواله الميقن بالحق غير علي في فتحة الباب، و كشفة المقلع، فتناوله بباعيه العريضين الي صدره الأمتن، و جدله جدلا بابنته فاطمة الزهراء، ليكون من البناء المرجو فرع مطيب بالحسنين... يوما بعد يوم. و يتعدي أساس البيت رهصه الأول... سيكون علي رأس الزاوية... لأن الصوان في عملية التأسيس كلزوم ما يلزم... أليس حيفا علي النبي - و قد احتضن الأمة كلها - و استنجد الله من أجلها حتي ينجيها من رجس ذميم يمرغها فيه اختناقها بحبال قبلياتها؟!! أجل، أليس حيفا - عليه - و قد اعتبر الجزيرة كلها قبيلة واحدة في مناعة الإسلام أن يلتقط بعلي، و يغسله من رجسه، و يمسحه بأفاويه الطيب، و يلفلفه مع ذريته الطالبية بوشاحات الخلافة علي أمة المسلمين، لا لأي سبب من الأسباب، بل لأنه يلبس العباءة الخشنة المنسوجة علي المكوك الطالبي!!!. [ صفحه 59] حرام علي القلم أن يؤلف من الكلمة سهما يشير بالحيف الي نبي المسلمين: فهو المتكلم بلسان الحق، و لسان التنزيه... أما علي، فان المزايا التي هي جمع باقات في غزل عباءته، قد عينت لحمته بنبي المسلمين ... سيلبث طالبيا يجري في عروقه دم الجدود، و من أبهاهم شيبة الحمد. أما العبقرية التي امتصت الرسالة و دمجتها بسجاياه، فهي التي شددت الموصلة في اتجاهها نحو لملمة القطب. و قطب علي أوسع بكثير من قبلية... انه فضاء من قيم تأخذ بها أمم عديدة من أمم الأرض، و تتحضر. أما أن يأخذ النبي عليا الي صدره في عيد الغدير، مشيرا اليه بأنه نعم الولي. و نعم الخليفة، و نعم الضمانة للأمة في كنف الاسلام... فيا عجباه، و يا عجب التاريخ يكتبه الصدق و المنطق، و يا عجب السماء، و يا عجب التراب المنهال علي أضرحة الأولياء و الأنبياء الصادقين... لو أنه لم يفعل!. ان هتاف النبي معلنا نظافة أهل بيته من الرجس، و تطيبهم بالطهر بصيغة المطلق، كان اشارة من اشاراته الأنيقة - كأنها السبابة الممتدة من كفه نحو علي بأنه الطاهر القادر علي سياسة أمة بتخليصها من كل رجس، و تطهيرها تطهيرا - ان المولعين بالحق يتمكنون من نشر راياته، و لن يكون لخفاش قول في سطعة النور. لقد كان اعلان النبي بطهارة أهل بيته، رمزا معلقا علي رأس بنان من بناناته الناطقات. و ان تعليق سياسة الأمة بخيط منضد علي مغزل مستقيم، معناه أن امامة اثني عشر هي الخيط الممدود و المنقي من النسالات و من العقد، و هو المنقول علي المغزل الصحيح. و لا يشتد الا به الحبل السليم... ان الغزال هو علي بمغزله القويم، و ان الغزالين من بعده - علي مدي محترم من محطات السنين - هم من خطه في مهلة التدريج، و هم المتناوبون علي ضبط النسيج - و هم المصطفون حول فوهة البئر، يقدسون الحبل و الدلو [ صفحه 60] الغارف من القعر ريا لا رجس فيه و مطهرا تطهيرا. لماذا لا يكون لنا هذا التيقن؟ بأن الرسول - و قد ألم بآيات الكتاب - هو العليم بما يجول في الضمائر، و بما ينام في طيات الصدور!!!. ان يكن لنا أنه نعم العليم و نعم الفهيم، فما هذا الجهد يبذله: تارة في التصريح، و طورا في التلميح، و أحيانا كثيرة في الاشارات المصبوبة في الألغاز المطوية في الرموز؟!!!. و لكن النبي العظيم الفهيم العليم، قد سكب كل قرارته في الواقع الناجز المعلن عن ذاته: انه لك أيتها الأمة الملمومة من شعاب الأمس، كتاب فاقرئيه، و نهج فارسميه في صفحة الضمير، و ما لم تفهمي الكتاب بمحجريك، فأي نفع لذراعيك في حمل الكتاب؟!. و ما لم تحفري النهج الجديد بأصغريك، فأي نهج لقدميك تعودان بك الي الرمل في هاتيك السهوب؟!!. سيكون لك - يا أمتي - أن تقرئي الكتاب بعين كعين علي، و أن ترتسمي بنهج قد ارتسم به الإمام علي... فعلي هو الكشاف بالعين الوسيعة، و كذلك هو النهاج في المرامي المنيعة... فليكن الذين يقطعون بك الطريق، من معدنه و من لونه، و من فسحة عينه... سيكون لك يا أمتي عن الطريق السوي شرود!!!. و لكن العلم الذي ستتوسع به الخطوط العريضة عبر التجارب الطويلة و المريرة. سيرشدك الي نهج علي، و هو المشحون بصدق المزايا!!!. ان المزايا - وحدها - في كتابي، سيقرأها عليك من هم امتدادي في خط علي... فانتظري الغد - يا أمتي و تثبتي به نظيفا من الرجس، مليئا بالعلم، و الحق، و النزاهات المطهرة تطهيرا. [ صفحه 61] ألا فليكن لنا رؤية و تجرد و اتزان كلما وجهنا الظن نحو صف الامامة... سيكون لنا من التجرد المحرر من الهوي أن نراه خطا عريضا و بهيا، تنمو به روعة الاسلام، بحيث تنزهه الطالبية فيه من دون أن نعتبرها الا وصلة جليلة و مطهرة، تدفع الروعة تلك الي حقيقة التكامل و صفوة الانتظام. ليست الطالبية الملتحمة في بهجة الصف من غير الطالبية المتدهن بها الرسول الغارق في بحار السور... الا فليحترم تواصل الموج في معارج أليم أي من واقف علي الشط، يسبر الغور بعصا عرجاء لا بمجذاف مطيب. لقد قدم الرسول نفسه للأمة و ما بخل عليها لا بعرقه، و لا بدمه، و لا بروحه، و لا بكل ما في جوهره من طالبية عريقة بالمكرمات. فأي بذل نفيس لا يحسب له في وصلة البذل، و هو يقدم للأمة حبلا طويلا من أصلابه المتمرسين به في مدراج القرآن، ليكونوا - من بعده - معاول و مساند، يتعهدون المسيرة و يتحملون مواقع الضيم، و يرقون بها الي التحقيق المعين في مقاطع الآيات؟!. أجل - انهم طالبيون، ولكنهم من الصنف المتصلب بالممارسات - أبا عن جد - و هي الممارسات التقية لا تلك الموسومة بالقبلية... ليكونوا خير من يتمكن من ايصال الأمة الي المراحل المشتهاة... و لقد سخا عليهم جدهم الرسول، و محضهم كل حبه، و كل أشواقه المديدة، حتي لا يخيبوا في عمليات التمثيل المشقوق في ضلع الرسالة... لقد جعلهم القصد لحمة في التسلسل، و لحمة في الشوق و البث، و لحمة في الاستحالة... لقد استحال كل واحد منهم شبها بجده الأعلي، ان الشوق اليه، [ صفحه 62] و الخشوع الكامل، أمام ذاكره، و التقيد المطلق بمضامين كتابه، و شمهم بالشبه، سواء أكانوا قد ولدوا بين يديه فامتصوه بأعينهم، و مسامعهم، و كل حجاهم كالامام علي، و الحسن، و الحسين. فاستحال كل واحد منهم شبيها به: في تصرفه أو في تحدثه، أو في تفرده بصياغة المواقف و النهوج، أم كانوا قد ولدوا بعد انتقاله الي المجال الرحيب... حسب الإمام علي بن الحسين من جده الرسول يحصل علي شبهين: واحد، أغرقه في لقب «زين‌العابدين» و آخر لأحد أبنائه كان مرسوما في خطوط ملامح الوجه، لقد أخذ بهذه الملامح الشبيهة بالرسول الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري... يا طالما نزلت في هذه الأذن الذكية انطباعات رضية حملها هدا الأنصاري و راح يرشها علي المؤمنين، كأنها ثواب لهم، لأنهم صدقوا الوحي يحمله يقين الرسول. و أطاعوا كل همسة همس بها بال الرسول... يا لمحمد الباقر يهمس باسمه جده الرسول. [ صفحه 63]

الامام الحسين

انه في الوقت الحاضر امام المسلمين، و سيد البيت، يرعي فيه كل الوشائج... بالأمس نادته فاطمة بنت أخيه الحسن حتي يبارك طفلا لها وفد جديدا الي الحضن الامامي، لقد توسمت فيه كثيرا من البشائر، و لقد باركه جده الإمام و سجد الله تعالي طويلا أمام ملامحه البهية، و لقد سمعناه ساعة تلك يطلق عليه اسم «محمد الباقر». في البيت الآن امامان يستظلان عيني السيد: واحد منهما في الثانية و العشرين من عمره، يدرجه أبوه لاستلام الامامة بعد أن يكون قد سقاها - هو الحسين - كل صبيب دمه! ان اسمه الآن علي بن الحسين، و قد وجهه الإمام منذ عشرة أيام لزيارة عمه ابن‌الحنفية الموجود حاليا في اليمن، أما زين‌العابدين فهو هاجع في اسم علي الي ما بعد أن يشوي ضلوعه و قيد الحزن، و يشرب الآسي من عينيه، دمعهما الأحمر!. أما الإمام الثاني فهو الذي يفرض الآن أوامره علي جده الحسين المتربع أمامه في بهو الدار في يثرب. ان الصغير البالغ ثلاثا من عمره، يلف من الوراء عنق الحسين بدراعيه الطريتين، من دون أن تمنعه الثرثة من اعتلاء الكتفين المحدوبتين أمام غنجه، و من الهبوط عنهما الي الحضن المكفوف بزندين يأخذه بهما الجد غمرا و جسا. انها حالة من حالات الهيام المتحكم بالمشاعر، تستبد الآن [ صفحه 64] بالحسين، و هي ترجعه - بالذكريات - الي عهد طفولته الغنية بالمداعبات و الثغثغات كان يهرقها هرقا علي جده الرسول، في أية ساعة من الساعات كان يلقاه فيها: في زوايا البيت، أم فوق الأريكة الممدودة في صحن الدار، أم في لولب من لوالب الزاروب المؤدي الي بوابة المسجد، أم في المسجد بالذات حيث كان الرسول يعتلي منبرا مشدودا من لبن الطين، و يحدث الناس - من فوقه - عن الجنان الفسيحة التي تنتظر المؤمنين الصالحين. ولكن الرسول قد ترك فجوة كبيرة في بال فتاه الحسين، عندما غافله و غاب خلف طيات الفضاء!!! لقد فتش عنه كثيرا ابن الست سنين، و لم يجد أمامه غير طيف محجوب خلف هالات و هالات، لا يكاد يدنو منها حتي تنشق و تذوب، ليبقي - وحده - غارقا في جفوة الفقدان، كأن الجو كله الذي ينام فيه ملفوف يعتمة سميكة لا نجمة فيها، و لا قمر ولو بقرن ضئيل من شعاع!. بعد نصف ساعة تعب الفتي الصغير من حفيف ثغثغاته، و استدفأ حضن جده الحسين، و أغمض عينيه ونام، و كذلك أغمض الحسين جفنيه علي ضناه الكبير و هو يقول: يا طفلي المندي بالعبير كم يكون عمرك عندما تصحو عيناك من قطب النوم، فلا تجد حضن جدك الحسين يهفو عليك، كما كان يهفو علي الرسول!!!. نم الآن يا طفلي ملفلفا باسم جدك الذي يقرئك السلام. ان لك غدا تعي به ما هو موكول اليك، أما ما هو موكول الي، فالغد الآتي سينشره عليك. [ صفحه 65]

حزن كربلاء

في ليلة ظلماء انسحب آل البيت من يثرب نحو محارم الكعبة في مكة المكرمة. لقد ضاق الإمام الحسين ذرعا من الوليد بن عتبة و الي مدينة يثرب، يأتيه كل يوم بعد يوم، طالبا اليه مبايعة بالخلافة ليزيد بن معاوية. ان تواتر الأخبار يرجح أن الوليد بن عتبة - و ان يكن حربيا من بني‌سفيان - كان يعطف علي الحسين، و يحاول أن ينجيه من أية أذية يهدده بها يزيد، ان لم يسارع الي مبايعته بالخلافة. لقد كان الحسين مدركا فداحة الورطة، لهذا راح يماطل الوالي بوعد حائر بين الرفض و القبول حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا، و أما الداهية مروان بن الحكم - و قد اكتشف ما يجول من ضعف في عزيمة الوالي - فانه بادر الي تنبيهه بأن سرعة التنفيذ لا تنجي عنق الحسين من القطع، أكثر مما تنجي الوالي من الإقالة... لم يغب دهاء مروان عن فطنة الحسين، فحزم أهل بيته في هذه الليلة الصامتة، و انسحب الي مكة، ففي محارم الكعبة متسع من الوقت للتبصر و التدبر. جل ما حصل بعد الانسلال من يثرب: عزل الوليد بن عتبة من الولاية. تعيين مروان بن الحكم واليا مكانه. نجاة الحسين من ضغوط المبايعة، و حصوله علي وقت يتخذ فيه حقيقة القرار. [ صفحه 66] أما الحاشية في سري الليل، فكان نجمها طفل تجاوز قليلا الثلاث سنوات، و كان يأبي أن ينام الا في حضن جده الذي راح يعلمه رصد النجوم!. و حزن كربلاء؟ انه الحزن الكبير تحيي به الأجيال - في كل سنة - عاشوراءها بتطييب ذكري الحسين، أما كربلاء فهي الأرض التي اختيرت لامتصاص دم الشهيد. لقد تراءي لي أن هذا الحزن قد ابتدأ يمشي خطواته البليغة مذ انسل الحسين من يثرب الي مكة، ثم من مكة الي كربلاء - أما الذين تلبسوا وطأة الحزن العريض و أودعوه الأجيال لتخليد ذكراه، فانهم علي بن الحسين، و قد انتقلت اليه الامامة، و معه لفيف آل البيت، لا سيما الفتي محمد الباقر، و قد بدأت ترتسم في باله كل خطوط المجالات البعيدة و التي تشير الي أن أسباب حصول مثل هذا الحزن المرير ليست صدفة كربلائية بصورة الحصر، انما هي نتيجة كمون ترسبي في ذهنيه الجزيرة التي اختطفت الرسالة من صدر نبيها. و سدت آذانها توا عن التعهدات المقدسة لحمايتها و استمراريتها فاعلة!. لقد أكمل الإمام ابن الحسين مسيرة أبيه المتلزمة، من كربلاء المصبوغة بالدم، الي شام يزيد الذي فجر وريد من اقتبل الامامة، و لم يرض عمن يزور الخلافة!!! و لقد كتب عليه أيضا أن يرجع من الشام الي الكوفة، و حزينا حزينا من واقصة، عبر كل محطات الصحراء المشوية بالشمس، الي يثرب، حيث اكتملت امامته الساجدة، و اتصفت بزين‌العابدين. أحببت أن أسمي الخط الذي انطلق من يثرب و العائد الي يثرب، بالخط الجغرافي، و بدا لي أن أرسمه رسمة جغرافية وبدون مقياس، تسهيلا لتصوره و الاطلاع عليه... سيكون للامام الباقر - بعد ما يقارب [ صفحه 67] الأربعين سنة - أن يتولي الامامة و الجامعة اللتين سكب فيهما جهده أبوه الإمام زين‌العابدين، و أن يوسع المناهل و المسالك في علوم الفيزياء، و الكيمياء، و الفلسفة، و أن يقرنها كلها - بنوع خاص - بخرائط الجغرافيا، و بمساطر ضبط المساحات و المسافات، و تنزيلها في الواقع الحي. ان الخريطة التالية هي تصميم الخط الجغرافي الذي مشاه الحسين مع كل مرافقيه، بعد سنة بالتقريب من انسلاله من يثرب: خريطة دب القوافل من يثرب، الي مكة، الي الكوفة، ثم رجوعا من الشام - عبر واقصة - الي يثرب: [ صفحه 68] ان المدة التي انعكف بها الحسين في محارم الكعبة لم تتعد السنة الا قليلا، علي ما أظن، ولكنها كانت بعيدة في جناها و مؤادها، لقد تبسطت له كل أمور الأمة، و كل شؤونها المادية و الروحية و المستقبلية علي السواء، ان الرسل الذين أوفدهم للاستطلاع و الاستكشاف قد بادروه كلهم بالرسائل و الافادات، و لم يترك - هو بدوره - رسالة واردة أو افادة وافدة، الا و وفاها بالدرس و التمحيص... من اليمن انهالت عليه الرسائل، و من الكوفة و البصرة جاءه سيل منها يعد بالألوف، و من القبائل المشرورة فوق فسحات الحجاز دفقت عليه رسائل التأييد، و من الشام - حتي - تلملمت اليه رسائل تشكو الظلم السفياني و تلوح بالمناصرة: و كشف الدرس الصحيح و التمحيص الموزون كل ما جاء في هذه الرسائل البالغة في عددها اثني عشر ألفا - علي ما قيل... فقط، مئات قليلة منهم يحملون سخاء الطبع و يجلون القضايا من شرعة الانسان - و مئات قليلة أخري يفضلون الطالبين، لأن منهم الرسول و الآخر عليا... و مئات قليلة تربط الرسالة بالامامة للتخلص من بني‌سفيان... أما الكثرة الساحقة فان وعيا متفاوت الحجم و الوزن و القيمة يوزعهم فوق الرقاع، يفتشون عن عون و حماية و لا يجدونهما الا في ظل شيخ قرشي أو زعيم مجرب!!! أما الرسالة، أما الامامة، أما القضايا الكبيرة التي يتوسع بها العقل، و الفهم و الادراك في مجتمع الانسان، فكلها - كالحريات - تدوسها العبوديات باقدامها المفلطحة، ليبقي الانسان كما هو الكبش في القطيع: يكسر الراعي قرنه، ساعة يعطش الساطور الي لحسة من دمه!!!. جل ما أدركه الحسين انتهي به الي اتخاذ القرار الصارم المبني علي مثل هذه الحيثيات التي راح يتغني بها في سره و في جهره و هو في محبسه [ صفحه 69] بين الرسائل المنثورة فوق الأرض، و الافادات المرزومة فوق طراريح المقاعد: - ما جاء جدي الرسول الا من هذه الأمة... و من أجلها استنزل الوحي و صاغ الكتاب. - و من أجل صيانة الرسالة في صيانة الأمة و الدفع بها الي الصعود، شد الامامة و جعلها - حصرا بالرسالة و بالأمة - أداة رعاية و أداة بلوغ. - و لن يكون للرسالة شأن، و لا للأمة وصول، ما لم يكشف العلم جوهر الرسالة، و ما لم تستنر الأمة، بجوهر العلم. - أولا و آخرا هو الانسان في حقيقة المجتمع، فليتعزز بكل ما يحرره من الجهل، و العي، و معاني العبوديات... العلم وحده يحقق الأمة الواعية و المجتمع المنيع، و يمحو الذل، و ينمي الكرامات من عنفوان الانسان، و يمتعه بالرشد الصافي، و يعين له لون الحريات. - ان الصفات الكريمة، و كذلك، هي المزايا المحصنات، تبني الأمة، و تصون المجتمع، و تنشر كل ما في الرسالة من آيات بينات. - يا لجدي محمد، يملي علي الآن كل عزم كان يطوف فوق فسحة جبينه و علي أرنبة أنفه... - سأرفضك يا يزيد من خلافة تنجسها... أما الأمة فلتشهد أني أبذل دمي من أجلها حتي تتعلم: أن الجبن ذل، و أن القبول بالذل يبيد الأمم... و أن العنفوان هو ابن الكرامة و الاباء - و هو علم جليل باهر و هو الذي يحيي الأمم. كان الحسين مغمض العينين عندما انتهي من ترنيم قراره، و لما فتحهما وجد أمامه في الباب: عليا ابنه واقفا في اطراقة صامتة، و حارس دارهم أسعد الهجري، مطرقا أيضا بصمته الخاشع، و ما بينهما الفتي [ صفحه 70] الصغير محمد، و عمره أربع سنين. آخذا بيمناه كف الهجري و بيسراه زند أبيه... الا أنه كان مشدوها يصغي، و كأنه فهم كل ما أصغي اليه. تبسم الحسين و هو يستوعب الثلاثة المراقبين، و قبل أن يفتح ذراعيه كان الفتي محمد قد انضم اليه، وجده الحسين يسأل: - هل فهمت كل ما سمعت يا ابن جدك الرسول؟. و سريعا ما جال صدي صوته في جو المكان:. - و هل يمكن أن لا أفهم نبرة يهمس بها جدي حسين؟. غمر الحسين حفيده، و تبسمت في عينيه دمعتان هادئتان و هو يقول لابنه علي ثم لأسعد الهجري: - تحضره يا علي، ألم تسمعني الآن أنقل اليك حوض الامامة؟! و أنت أيها الهجري المسكين السابح في قرارت نفسك، ارزم الحوائج و تأهب للسفر... سنترك مكة ليلعب بها كيفما يريد و اليها عمرو بن سعيد بن العاص... و سنترك محارم الكعبة، ليكمل الرقص فيها - علي هواه - عبدالله بن الزبير... و عندما ينتهي الهزيع الأول من هذا الليل نغذ السير نحو الكوفة، حيث ينتظرنا طيف الإمام علي علي بوابة المحراب. لم تكن الرحلة التي قام بها الحسين من مكة حتي الكوفة في العراق مجرد نزهة للترفيه عن النفس، انما هي - بحد ذاتها - مشقات مضنيات. تشويها الشمس بدفقات من سعير، و تمط بها المسافات من ليل ساهر بالنجوم، الي ليل لا يداعبه نسم... و تبقي المحطات علي طول الطريق، توفر للمسافرين بعض متعة، و نوعا آخر من راحة يستأنف بها نمط المسير. ان التوقف مع الحسين في بعض المحطات الممدودة بين مكة و الكوفة ممتع بدوره، وفائق الأهمية، بنسبة ما يوضح لنا القصد من اقامة [ صفحه 71] الرحلة، و بنسبة ما حضرت الرحلة من انطباعات في نفس فتي عمره أربع سنين - يطوف في قسماته شبه بجده الرسول - ان شوقا نادرا و مبكرا كان يوسع فيه مجالات الفهم و الاستيعاب: ها هو، في الرحلة القاسية، لا يفارق جده الحسين، يصغي اليه و الي كل من يحاروه عند التوقف للاستراحة فوق محطات الطريق. لم يكن له - مثلا - أن يلم من الحوارات بأبعادها و مراميها الواسعات، الا أنها كانت تترك ظلا - في عينيه - له من وطأتها و فرة اللون. (1) في أول محطة بلغتها القافلة النازحة من مكة - قبل منتصف الليل - ألقي القوم رحالهم، مع نهوض الشمس... انها محطة «التنعيم». بلغ المحطة علي ظهر جمل أغبر واحد من بني أعمام الحسين - عبدالله بن جعفر ترجل و عانق الحسين و هو يلهث في لهفة القول. - أستعطفك بالرجوع الي محارم الكعبة... ففي الكوفة تلقي مصرعك!!!. و بسرعة لا تلهث أجابه الحسين: - ان خمسين سنة مرت علينا بعد عمر بن خطاب قد صاغت قدري، فلا تلهث علي يا ابن‌العم!! رعاك الله من مشفق حبيب!!!. كان الفتي الصغير بعيدا خطوتين عن صدر جده الحسين... سمع الحوار القصير ففرك أذنيه، و أغمض عينيه... و بعد أن فتحهما لم يجد الرجل اللاهث الا دامعا، يعتلي جمله و يرحل... و دنا من جده ليقول: من هو عمر بن الخطاب يا جدي؟ يظهر أنني لن أحبه!!!. [ صفحه 72] (2) في المحطة الثانية و تدعي «الصفاح» لحق بالقافلة عون و محمد ابنا عبدالله بن جعفر، و قد استحصلا من الوالي علي مكة - عمرو بن سعيد بن العاص - علي صك أمان للحسين يعود به آمنا الي مكة، قال عون: - هذا هو صك الأمان يا عم. رمق الحسين الصك بزاوية عينه، من دون أن يمد اليه يدا و قال: - جدنا الرسول هو الذي قدم لنا و للأمة جمعاء صكوك الأمان! و لقد بدي‌ء بتمزيقها منذ العهد الأول علي يدي أبي‌بكر! أما هذا الذي في يدك يا عون، فليس صك أمان... بل هو صك ارتهان و امتهان!!!. أليس لنا أن نرفض صكا كاذبا توارثه عن أبي‌بكر بنو حرب و والي مكة ابن العاص؟!!. لاذ الرجلان بصمت حزين - دخل الحسين باب المخيم - لحق به الفتي الصغير، تلقط بعباءته و عينه تسأل - رمقه جده و احتضنه إلي صدره... بعد لحظات محسومات، دخل عون، و محمد - مزقا علي قدمي الحسين صك الأمان و سجدا لله تعالي بين يديه و هما يشهدان: - نحن معك و لك أبد الدهر، نمزج دمنا بدمك في تقديم الشهادة. (3) و في المحطة الثالثة و تدعي «محطة ماء العرب» كان الحسين منهمكا مع رجاله بتعبئة القرب سدا لعطش الطريق، و اذ بالفتي الصغير يتقدم نحوهم مع رجل جاء يسلم علي الحسين. يبدو أن الحسين كان يعرفه منذ وقت طويل، و لما لمحه بادر اليه مرحبا: - أرحب بعبدالله بن مطيع العدوي. لك من حسن الرأي و سداد [ صفحه 73] الحكمة ما يجعلني أصغي اليك. و بادر ابن‌مطيع بالجواب: - من أنا يا ابن‌بنت الرسول حتي تصغي الي؟. - ولكني أجرؤ و أقول: لا تكمل الطريق... لن يكون لك من محبة القوم، درع تقيك!!!. لا الخوف، و لا الرعب، و لا الجهل يا سيدي ينشي‌ء بطلا يحميك!!!. و بعد تأمل رهيب أجاب الحسين: - انها أمة جدي يا ابن مطيع... جئت أعلمها كيف ترفض ذلا يغذي فيها الخوف و الرعب و الجهل المميت!!!. سأقرأ عليها فصلا من فصول الكتاب، يعزز في نفسها مجد العنفوان، فلا ترضي أبدا أن تسلم سيفا لمن ينحر فيها شمخة العنفوان!!!. سمع الجواب ابن‌المطيع، و انحني يقبل الطفل، و قد رآه مبهورا بشفتي جده الحسين ثم انفتل راجعا يوجه الكلام نحو السيد:. - يا للعظمة، تتخطي حدود الوجل... لتعيش - بكرا - في عين الزمان!!!. (4) و في هذه المحطة المدعوة «بطن العقبة» تمت مقابلة قصيرة بين الحسين و كان رابضا تحت بلاس الطيب، يعد البلاس كم فيه من خطوط مشدودة في انشائها ظلا فوق رأسه، يقيه من وطأة الشمس، و بين [ صفحه 74] رجل دخل الطنب، و هو يدعي أنه يعرف كم هو عدد الخيوط التي يشتد بها بلاس الطنب، و طفق يقول: ابن‌لوذان - عندي نصيحة لك يا سيدي الحسين، ألا تسمعها؟. الحسين - سأخذها من فم عمرو بن لوذان بن عكرمة - هاتها. ابن‌لوذان - لا يبدو أن في خاصرة الجو غيمة تمطر، فهلا تعدل عن المجازفة!!! و سريعا ما أجاب الحسين: - ان المجازفة - يا ابن عكرمة - أن نعدل عن المجازفة!! ان ارادة الله هي الفاعلة. و هي التي تعصر الرمال. و تفجر منها دفق الفرات!!!. عصر ابن عكرمة عينيه، و ضغط أذنيه، و انسحب... بينما كان الفتي الصغير يرتمي في حضن جده و هو يقول: - جدي... كيف يكون دفق الفرات؟. (5) و في المحطة المدعوة «العذيب» جاء الحسين وفد من وجهاء الناس، علي رأسهم الشاعر الكبير الطرماح بن عدي، ودار بينهم و بينه هذا الحوار: - نحن أربعة آلاف، تقدر أن تضرب بهم ساعة تأمر. رفع الحسين رأسه بشموخ و قال: لا أطلب ارهاقكم بلا جدوي... لو أنكم تصوير واف لحجم الأمة، [ صفحه 75] لكانت اختفت منذ زمن بعيد هذه الذئاب من حول الحظيرة!!! اجمدوا الآن و ابقوا خميرة من الخمائر... ان غدا كبيرا سيأتي بعد أن أثبت رفضي!!!. و بعد لأي و تأمل قال الطرماح: - ألا تظن أن جبلي أجأ و سلمي. يا سيدي، يتمكنان من حمياتك في ساعة المحنة؟!. و بشموخ آخر فيه كثير من كمد. قال الحسين: - انه قلبك الكبير أيها الشاعر... ولكن للأمة مطلبا آخر... تشتري به حقيقتها مني... و لا تشتري سلامتي الصغيرة... افهمني يا طرماح... و رو شعرك من أطيب المناهل. انسحب القوم و الحسين يشيعهم طويلا و باعتزاز... و لما رجع الي المخيم، و جد فتاة الصغير متربعا فوق الحصير، و هو غارق في التفكير... فسأله جده. - بماذا تفكر؟ أجاب الفتي جده، من دون أن يرفع رأسه اليه: بجبلي الطرماح... أجأ و سلمي... و احد باسم رجل. و آخر باسم امرأة. و هفا عليه الحسين، و هو يقول في سره: سيكون لك يا فتاي. أن ترسم جغرافية القمم. و هيكلية الإنسان. [ صفحه 76]

ساحات كربلاء

و جاء دور كربلاء - انها المحطة الأخيرة للاستراحة الكبيرة التي نامت فوق أوشحة المسرح. لقد تم فيها التخييم لعشرة أيام من بداية محرم، بعدها تقوضت الخيام و انشلت خشبات المسرح... و أما الستارات، فانها تلك التي تضرجت بعقيق و عندم و مرجان!!! و بقيت منشورة علي صفحات الجو تتفيأ بها - منذ ذلك الحين الي كل حين - حروف مفتوتة من ضلوع كل ألياذة تسقيها البطولات النادرة عبير الدم. لقد انتثرت الخيام، كأنها المصنفة الجيوب، خلف الخشبة العريضة المنصوبة في صدر المكان، هكذا تمثلها الخيال من الواقع الذي اندمجت به: - مخيم وسيع كان يلتم فيه الركب المرافق للحسين - لم يكونوا فيلقا لحرب، أو قوادا لجيش... بل انهم أهل و أربطة وفاء؟ رافقوا السيد، حتي إذا ما ناله ضيم شربوا معه نكد الضيم سواء بسواء. لقد كانوا معدودين بمئة أو ما يزيد قليلا، و كلهم أوفياء مخلصون، كمحمد ابن العم عبدالله بن جعفر مع أخيه عون، أو كمتفان آخر، زوج دلهم المشهورة بحبها لآل البيت، و اسمه زهير بن القين. - و مخيم ثان - أضيق قليلا من الأول - كان يتلطي فيه الحريم، و الأطفال، و المرضي: مثل علي بن الحسين و قد طرحه - مريضا - اسهال [ صفحه 77] عنيف قرب زوجته فاطمة بنت الحسين لتعتني به... في هذا المخيم النسائي انحجب الفتي الصغير - محمد الباقر - و لم يسمح له أبدا بالظهور أمام جده، لأن كربلاء كلها معدودة - منذ أن خيم فيها الركب - ساحة حرب. - و مخيم ثالث كان ينحشر فيه محضر و الطعام، و بين أيديهم ظروف و قرب الماء، و مواعين أخري مليئة بالمؤن. - و مخيم رابع يتسع للخيول و الجمال و البراذين، مع سائسيها، أما الأعلاف فكانت حشو أكياس و أخياش في مخيم ملاصق. تبقي الساحة الكبيرة، فهي الممتدة أمام المخيمات و ما حواليها، لقد - تحولت كلها الي ميدان حرب، تساقطت فيه - علي أبواب المخيم الأول - نبال و سهام، كأنها حبال من ضرام. لقد كان التحدي مريرا قام به عمر بن سعد بن أبي‌وقاص قائد جيش مؤلف من ثلاثين ألفا لإسكات جيش آخر، قابع - كما رأينا - خلف قلاع الخيام! انه حصار ذميم، قوامه التخويف و الترهيب و التذليل، لدفع المحاصرين للركوع و الاستسلام!!! ولكن الحسين، و قد اتخذ القرار الأعصي، فانه نزل الي ساحات البراز و دفقات الصراع، شامخ الرأس، مديد الباع. لا يأخذ منه النبل مساحة جرح حتي يلثم الجرح بفم و هو ينادي: أين هي النبال كلها، و أين هي السهام. لا توسع الجروح - في جسدي - و لا تغمرني بالدم!!! ان الجروح مساحتي - يا أمتي - تعلو بك الي. و أنا فوق القمم، و تنجيك من فرط الغباء. و من فرط السقم... [ صفحه 78] ان جدي النبي - يا أمتي - بانتظارك. و بانتظاري، ليوم الزهو، تتلبسينه. و ترفلين - به - بين الأمم!!! يا للفتي محمد الباقر - و قد نقب بلاس المخيم بسبابة يده اليمني - يري جده الحسين في اليوم العاشر من أيام البراز، يسقط أرضا، و هو كله - من قمة رأسه حتي أصابع قدميه - مساحة حمراء من دم... قذف البلاس و ارتمي في ساحة الدم... و تقاذفت بنفسها أمه فاطمة، وراءه معولة... و اعولت أخت الحسين، زينب... و كل النساء اعولن وهن يزحفن علي الرمل... و قام أبوه علي من فراش المرض، و لحق به و هو يجر قدميه فوق لطخ الدم!!!. ولكن الجيش المتدفق الي ساحة الميدان، لملم الأطفال، و المريض، و النادبات، و جعلهم حزما حزما... و توجه بهم الي قصر الوالي عبيدالله بن زياد!!!. أما رأس الحسين فهو المقطوع عن الكتفين و عن الوريدين الملونين الآن بزرقة الموت، و قد أصبح مشكوكا برأس الرمح، يرقصون به فوق الرمل الأحمر الملطخ بهمجية الراقصين. [ صفحه 79]

سبابة الباقر

لقد ظنوا أنهم لا يتمكنون من تقويض المخيم في كربلاء الا بعد انشاء المذبحة!!! و لقد أنشأوا - فعلا. جحيم المذبحة، و لم يتركوا رجلا واحدا من النازلين في المخيم علي رمق من حياة!!! لقد عدوهم واحدا واحدا، فبلغ عددهم مئة و تسعة و ثلاثين جثة مضرجة بالدم! بعدئذ هجموا علي البلس فمزقوها، و قطعوا الحبال، و قوضوا الأوتاد، و موهوا الأطناب!!!. يا للمسرحية البلهاء - يقوم بتمثيلها - فوق خشبة منصوبة في فسيح العراء - حاكم اسمه خليفة محمد، في يده شريعة منسولة من مناجم الحق و من منزهات القضاء، و بين يديه فيالق جيش، و معدات حرب، و رفاصات منجنيق، و سيوف، و رماح، و نبال، و سهام، و جمال مصبرة علي العطش، و خيول مطهمة للنزال، و حتي رفوف من حمام مطوق زاجل، و قرود مدربة علي الرقص لعاري، و ببغاوات مفصحة النطق، و أفواج من الصقور الصاقرة، و من البزاة المجهزة للانقضاض. أجل... ما باله هذا الخليفة الحامل كتاب الحق، و رسالة التجميع حول الحوض المطهر، لا يصون الأمة و يحميها من الحيف و هدر الدم!!! فليكن له من الزعم ما يبرر أوامره بتقويض مخيم كل مناعته بلس مشدودة علي أوتاد.!!!... ولكن عدل السماء و عدل القيمة الحاصلة في حضارة [ صفحه 80] الانسان، لا تجيز لحاكم - مهما تدنت فيه مراتب الوعي و مراتب الوجدان - ان يستبد ببلس المخيم، و يخنق كل من ينزل فيه من انسان و من حيوان!. لم يكن علي قائد الجيش البالغ ثلاثين ألفا، و هو يطوق مخيما في كربلاء، لا ينزل فيه أكثر من مئة و ثمانين من النساء، و الأطفال، و المرضي المهازيل، و الرجال العزل، أن يتصرف كما تصرف، و أن يفعل ما فعل!!! لو أنه لم يكن الأحمق و الأجرم، لجاء ولف القوم ببلس خيامهم، و ساقهم علي رواحل خيولهم و جمالهم، الي سجن ممدود في أقبية بعض القصور التي شادها الحاكم الذي يرعي الرعية بالعدل و الروية... سيحاكم القضاء اقوم، و سيعلمهم كيف يكونون المؤمنين الصالحين، لا المجرمين العاصين الهاربين من وجه العدالة، و النازلين في قلعة خلف مخيم... أما بلس المخيم في كربلاء، فلم يثقبها: لا نبل أعور، و لا سهم من عماء، و لم توقص عنقا واحدا من أعناق أوتادها، لا يد من جريمة و لا جريمة من فيض غباء، انها لا تزال حية صامدة في عين الزمان... ثقب واحد - فقط - أحدثته سبابة الباقر في بلاس من بلس المخيم المطل علي الساحة الهارب منها رجاء و عزاء و ضياء... سيدخل من هذا الثقب - بالذات - شعاع آخر، تستنير به الأمة في يثرب، بعد ثلاثة عقود جديدة يستلم فيها محمد بن زين‌العابدين زمام إمامة مقهورة، لا تجد أمامها من سبيل، غير تفجير العلم لمحو الجهل، و تبديد الحيف، و الظلم، و الاساءات!. سيكون توسيع جامعة آل البيت، بعلم الفيزياء، و الكيمياء، و الجغرافيا، و ما شابهها من علوم الفلسفة، و الفقه، و الطب، و الحساب، ما يحرك الفهم، و المدارك، و القابليات المتحفزة في الذهن و البال... ستكون سبابة الباقر - و ان عمرها الآن أربع سنوات - شعاعا ناعما و ضئيلا [ صفحه 81] في لحظات الضحي، ولكنه سيكون مؤججا و سخيا عندما يبلغ ساعات الظهيرة. سيكون الباقر - بعد الآن - قد عانق جده الكبير مساحات خلوده في أمة جده النبي: اماما في ظل امام. ان في الفصل الجديد الآتي وصلة البحث و تتمة الكلام. [ صفحه 85]

امام في ظل امام

امتداد الخط

ان الخط الممتد هو خط الرسالة عبر الخط العريض المتفرع منه و هو خط الامامة. لقد رأينا في القسم السابق من هذا الكتاب، و عنوانه «خطوط عريضة» أن النبي العظيم هو ركيزة الرسالة المستوحاة من واقع الأمة التاريخي في أمس حاجاتها الي مقومات روحية - فكرية - انسانية - اجتماعية، تضبط شؤونها الحياتية - المصيرية، و تنطلق بها الي التأسيس، و التركيز، و الفلاح. و هكذا اتضح لنا من البحوث الواردة في هذا القسم أن الرسالة هي الحاح مطلبي - رسالي، تتكيف به أمة عريقة في الوجود الانساني المتشبث برمالها العربية، و بانفتاحاتها الجغرافية علي جميع المقالب الأربعة من حواليها و المليئة بالجاذبيات السخية، و بجميع أنواع المغريات. ستوظف الرسالة هذه الأرض المطروحة في أحضان الشمس الوسيعة، و ستمغنطها بحرارتها المخزونة في أحشائها منذ انفراج النور، و ستنبه في خاطرها بأنها حضن أمومي وسعته - بالأفواج البشرية - آلاف الحقب. وحده النبي أدرك أن علي الجزيرة العربية - مثلما قدمت للجوار أفواجا بشرية تمازج بها هذا الجوار واحتواها - أن تتابع اليوم مسيراتها التدفقية، و تقدم مددا رساليا كامل الحضور تستفيد منه الأمة الخالدة في توارثها و امتدادها الخالدين، و وحده أدرك أهمية هذه الرسالة، و رجاحة دورها في التحضير الانساني الناشط الذي يلملم هذه الأمة من متاهاتها [ صفحه 86] المزمنة، و يسترجعها الي الحقيقة الواعية و المؤمنة بقيمة المجتمع الفاعل عندما يكون مرصوصا بالعلم و الفهم، و الايمان بخالق يزين الروح بالتقوي، و يعالجها بالخلق الصادق و النهج المستقيم. كان القسم السابق - برمته - تلميحا موجها لتبيان قيمة الرسالة في معالجتها شؤون الأمة معالجة مبثوثة في جميع الخطوط العريضة المتفرعة منها: فالأمة، و الأمومة، و الإمامة التي رفض - بعض منهم - حجم حروفها فاستبدلها «بالخلافة» هي كلها متشابهة و منطلقة من الخط الرسالي - و هي بحوث من أجل حماية الخط و رعايته، و الانطلاق به الي نصاعة الديمومة و وجاهة التحقيق. لم يكن هم النبي محصورا في التفتيش عن نقطة دم تجري في عروق من يخلفه حتي تصح الخلافة، و تصفو السلالة التي ستتربع فوق أريكة العرش - بل كان الهم ملتهبا بعزم الرسالي المتشوق الي رائد تتجانس حروف اسمه مع حروف آيات الرسالة، و يحمل من معانيها مقالع روحه، و مدارج فكره، و يسمو بها و هي تسمو فيه: مرانا، و مراسا، و انحفارا غائرا في عمق النفس، و طويات السليقة. لقد وجده النبي - هذا الرائد - نائما تحت السقوف العالية من بيته المصمود في القبة الزاهرة، انه هو العلي البطل المسند رأسه فوق الوسادة ذاتها الممدودة فوق الفراش المنسل منه الرسول الهارب من فتك الأقربين الحاملين رغوة الدم، لأنه يحمل اليهم رسالة يأبون أن يتناولوها من يده - ولو منورة... علي هو المفتش عنه بحرارة الشوق الذائب في حروف الرسالة، لا لأن يكون خليفة - بحروف الكلمة الصغيرة الملطخة بأمجاد العروش - بل لأن يكون اماما منبثقا من مجادل الرياديين، حتي تشرئب من فوق منكبيه رسالة بهية تبهو بها أمة العرب، و فيها تقتدي أمم الأرض. هكذا فنلكن [ صفحه 87] مقتنعين - أبدا - بأن النبي ما كان مفتشا عن خليفة يمتد به اسمه، بل عن امام تحيا فيه أجواء الرسالة، و تستضي‌ء بها أرجاء الأرض. و هكذا أيضا فلنظن مع النبي: بأن الرسالة لن تعيش الا في أشواق الامامة، و أن الامامة لن تكون حرزا الا إذا انبثقت من ضلع الرسالة، كما ينبثق الجنين من رحم أمه المروية بألام الحنين. من هنا أن الامامة مرتبة تنظيمية، تعب النبي علي تنظيمها و تزنير الرسالة بها جدارا صامدا في حقول الاحتراز، و لقد متن هذا الجدار بمداميك المران، و وثقه - صلبا - بمراس منور بعلم، و فهم، و ادراك. لقد طال مران علي بين يدي الرسول حتي بدا كأنه انشطار منه، و هو يصغي الي انزلاق آيات الرسالة من شفتيه، أو الي صدي انهمارها من موقي عينيه، أو الي حفيف الاشارات المتهافتة عن راحتي كفيه. لا شك أن المراس يزيد الكسب، و يلون الكاسب بالغني الفريد، و كذلك المراس يتصلب بالمران و يغدو في مساهمة فاعلة، لا تخطي‌ء و لا تريب. و طال أيضا مران الحسن و الحسين بين يدي جديهما الرسول في فترات الطفولة، و بين يدي أبيهما الإمام في ادراج الفتوة و الرجولة، فكان لكل واحد منهما - من وحي ما حفرت فيهما مركزات الرسالة - تصرف فذ و مبتكر، جعل الحسن - في وطأة الأحداث - يحقن دم الأمة و يرتق صدعا فيها كاد يردها الي جاهلية قبائلية تنسيها أن نبيا منها أنجب رسالة تلملم الأرض كلها و تلفلفها بالجنان... و جعل الحسين - في مدي عشرة أيام - ينشي‌ء الياذة البطولة و العنفوان، باذلا دمه الأحمر في رفض الذل، و رفض الامتهان، مبديا للأمة: أن عزة النفس - وحدها - تحيي الانسان. أما الآن و سيرة امامنا الباقر لا تزال معنا في مراحلها الأولي - فاننا نراه قد شد زناره علي خصره الصغير، وراح الي حضن أبيه المتسلم جديدا [ صفحه 88] امامته المتذوقة مرارة الألم و فداحة الأحزان. سيكون له من الآن و صاعدا - علي مدي ثلاثين سنة - أن يشاهد أباه زين‌العابدين، كيف ينام، و كيف يقوم، و بين يديه كتاب يغوص فيه و يستخرج منه ياقوتا و مرجانا... سيقرأ معه الآيات، و سيستمع اليه يرتلها بالسجود و الابتهال، و سيصغي اليه يفسرها بمعانيها و مقاصدها البينات... ففيها العلم حتي يذوب الجهل من كل عين غبية... و فيها الفقه حتي تتبصر النفس بحقيقة قضاياها... و فيها الكشف عن شموس نيرات، حتي تمتلي الحياة من عين باريها... و فيها الحق، و العدل، و الخير، و الحب، و السماح، حتي تتقطع حبال التعدي و الاجرام، و حتي يموت - جوعا - كل رجس، و كل ذئب، يتلطي خلف السياج، و حتي تعم بطاحات الأرض خيرات السماء، و حتي تشملها طمأنينة عاقلة تمحو الخنزير من ذهنية الانسان... و فيها - بنوع شامل مطلق - أمر بالمعروف، و نهي عن المنكر، حتي تنمو الأمة بالنرجس و الخزامي و تصفو مخابزها من خدر الزؤان. ليس قليلا ما سيجنيه الفتي، و قد خلا من تحت عينيه جده الحسين، ليعيش في كل ذهنه النامي: بالتأمل، و التفقه، و التمرس، و المران. ستكون البحوث كلها - و ان وردت مجزأة الالمام في القسم السابق تحت عنوان «خطوط عريضة» - من ضمن ما سيختزنه في حقول الاطلاع، يغذي به تدرجه الواصل به الي مسؤوليته الامامية، عندما تحين ساعات الوصول... انه الآن - في قمصان أبيه - امام في ظل امام. [ صفحه 89]

من الكوفة الي الشام الي يثرب

لقد رأينا كيف اهتزت خشبة المسرح في كربلاء عندما ثقب الفتي الصغير محمد الباقر، باصبعه الطرية، بلاس المخيم، و مد عينه من الثقب، و شاهد الرقص... و لم يكن يدري ما هو الرقص، و لا كيف يلهو به الراقصون... ولكنه، بعد أن جنت به الدنيا بأحلامها الشوهاء، قذف البلاس و ارتمي في الساحة المخبولة، يسأل الجريمة ذاتها: - ما هذا الذي تفعلين؟ و قهقهت بوجهه تلك المأفونة الشمطاء، و صفعته بالجواب: - عبيدالله بن زياد - حاكم الكوفة، و حاكم الساحة في كربلاء، سيشرح لك - أيها الفتي الغر - ما معني الرقص، و ما معني الجهاد... و انتفل الراقصون صوب الخيام يعرون أوتادها من قمصانها السوداء، و يسوقون النساء و الأطفال سبايا محزومين بالأمراس، أما الفتي، فهو الواقف الآن محزوما بخصر أمه فاطمة في القاعة الفسيحة من قصر الحاكم عبيدالله بن زياد. منذ هذه اللحظة - و عبيدالله يتناول السبايا فردا فردا بعينه المزمومة، و أنفه المسطوم - بدأت عين الفتي تستدير عدستها و تتغور، و راحت أذنه تتكوف و تتنصت و تتقعر... ليس للصدمات - في النفوس الذكية - الا أن تحفر صداها في جدار الصدر و تتسور... [ صفحه 90] لم يطل المقام تحت عين الحاكم، و بعد تهديد بسحب عنق علي بن الحسين، ورش دمه علي أكتاف الحريم و الأطفال، مما أهلع السبايا، لاسيما الفتي المصغي محمد، عاد الحاكم و أرجأ تنفيذ الجريمة الي الخليفة يزيد، بعد أن أمر شمر بن ذي الجوشن بحزم السبايا وسوقهم الي الشام حتي ينظر الأمير بشأنهم و يتدبر. رتب قائد الحملة شمر الجوشني قافلة لا شك أنها كان مميزة بحقارة توحي بأنها تليق ببقية تقيأتها مسرحية كربلاء. عدة أحصن مجللة ببرادع مخططة كالأبراد، كانت تعتليها حاشية القيادة، و بعض جمال محملة بالمؤن و قرب الماء كانت تنقل زاد الطريق الطويل الممتد من الكوفة عبر واقصة حتي صحراء تدمر، و اتجاها مكدودا لا يرتاح الا في واحات الشام، أما الحمير، و البراذين المسودة تحت وطأة الشمس، و المحررة من البرادع و الأجلال، فكانت تحمل السبابا من النساء و الأطفال، و ليس بينهم إلا رجل واحد، في مستهل الثالثة و العشرين من عمره اسمه - فقط - مع ابن ذي الجوشن: علي ابن الحسين. لقد سأله يزيد، و هو ينقل السبايا و يصفهم في قاعة القصر في الشام، ملصوقين بالجدران: - من يكون - من الزمرة - هذا الناجي وحده من تحت السيوف؟ فأجاب ابن ذي الجوشن ببراءة الذئب يمسح بيده شفيته من لطخ الدم: - اسمه علي بن الحسين... لم يتلقط بعنقه: لا نبل و لا سهم، و لم تغتسل بوريده نصلة السيف... لأن هزالا عنيفا من اسهال مستبد: عزله الي ما بين الحريم، فسلمت أمعاؤه من البقر الأحمر... [ صفحه 91] و قاطعه الأمير، و في نبرة صوته رجفة من ضمير: - لا تكمل يا شمر... و دعني قليلا أتبصر... فكوا أغلال القوم. خذوا الأسيرات ألي غرف القصر و ألبسوهن ثياب الأميرات. أما أنت أيها الامام، فلك ما تريد... الا أن تطلب ارجاع رأس أبيك اليك... سيقودك النعمان بن بشير - ساعة يحلو لك - الي يثرب... فعد اليها... ولكن... لا تتجاوز هناك الحدود... أرجو أن تودعني بكلمة. و أجاب الإمام بصوته الخافت: - كلمتي الوحيدة أيها الأمير: لا تؤذ الرعية... لعل جدي النبي... يغفر. قاد النعمان بن بشير قافلة آل البيت الي يثرب. - أما الفتي محمد، فانه التصق بأبيه المأخوذ بحزن النفس، التصاق القشرة بقضيب البيلسان... لم يبك... لم يتأوه... لم تنقر شفتيه - بين الحين و الحين - الا كلمتان: «جدي الحسين»... أنا لا أحسبه الا استوعب الفجيعة كلها، بكل أبعادها، و كل مآسيها... لقد وهبه الله سبابة في كفه نابتة من رهافة: لا هي من اللمس... و لا هي من دوحة الحس... و لا هي من دفقة الأحلام.. انما هي من سبيكة روحية ذابت علي قضبان المشاعر... و هي من اختباء النهي في الخلايا النائمة في عب الضمائر. [ صفحه 92]

و في يثرب

(1) انها مدينة الأنصار، و هي المدينة المنورة، لقد تنورت بلجوء النبي الكريم اليها هاربا من ملاحقة الكفار. لقد كفكفته المدينة و هي تستظل عينيه الواسعتين، ففاضت عليها منهما دفقة الأنوار... تلك هي حكايتها التي لا ينتهي من حفرها في أذن التاريخ أهل آمنة - أم النبي الحبيب - و هي المسلوخة من بني‌النجار. لقد اعتادت هذه المدينة المطوية علي حناياها الشهية أن تنعش ذاتها بالشهوة ذاتها، و أن تشرب ضوءها بعدسة عينها، و أن تأخذ الحق، و تشتبك به فلا تتركه حتي ولو حولوه صليبا و عليه صلبوها. لم تخذل هذه المدينة النبي و عانقته عندما ساقه الله اليها. انها هي التي ساندته و آزرته، و ضربت معاولها في الأرض و حفرت له أساسات المسجد، و طيبت حنجرة بلال فرنم آيات الرسالة من فوق أول مئذنة هتفت بآذان الجزيرة: حي علي الصلاة، حي علي الفلاح، الله أكبر... و عندما تعبت عين الرسول من بث النور في ساحات الجهاد، أغمضها في الغفوة المستنيرة، فتناولته هذه اليثرب المعتقة كخمور الأندرينا، و أنامته في أدراج الضريح، و لا يزال النور مسكوبا علي أدراج الضريح. [ صفحه 93] و فتحت يثرب دفتي صدرها للحسنين الوافدين من الكوفة حتي يتدبرا أمرا شاءه الله أن يكون مقضيا... و عندما ارتشف الحسن نقطة السم، لفلفته يثرب بقميص الذكر، و أدرجته قرب أمه فاطمة الزهراء في حنوات البقيع... لقد ماتت فاطمة من فرط الحنين، و لا يزال المثوي الحنون حتي الآن مبلولا بدفقات الحنين... و ها هي يثرب - في اللحظة المرة - لا تدري كيف تذرف الدمع، و لا كيف تنسي الالتياع، و علي بن الحسين، يقف علي أبواب زواريبها المترنحة، يتفل أمامها قلبه المسفوح علي أبيه الحسين.. لقد أدركت يثرب - و هي تصغي الي حزن الراجعين من خريطة كربلاء - أن صورة الحزن أصبحت حية تتحرك في الخواطر، و أن الحسين انفتل انبثاقا آخر، و أصبح رقعة من مساحة يتسع بها الزمان الملتف بجوهر الحدث... و أية قيمة للزمان ان لم ينغرس في المكان و تخرج منه ألوان السماء؟. يا للحسين - تقول الآن يثرب، و قد احتضنت النبي و امتصته رسالة حية في ألغازها و رموزها الناطقات؟ - يا له، يفسر أباه عليا وجده النبي، و يبذل دمه حتي تتلون بالحياة تقاسيم الصور... ستكون الرسالة حية به، يوم تحتويه الأمة معني من المعاني الكبيرة التي ترفض الحقارات الذليلة، و تعشق الحق يفسره العلم الصحيح الواسع، و تنظم حواشيه حلقات الحجي. (2) و انطوت العائلة في يثرب بأفراد بافرادها الباقين و الناجين من تحت رزء الفجيعة. لقد عفا عنهم يزيد، عشيق الشام، وردهم مخفورين بالنعمان بن بشير، ذلك الذي ربط معاوية بقميص عثمان - ردهم الي يثرب، مدينة [ صفحه 94] النور، و مدينة آمنة أم‌النبي، و مدينة الأنصار... ردهم الي البيت القديم في يثرب، فانطووا فيه بيتا ينام تحت ظلين: ظل كأنه القوس الممتدة من سقف المسجد الملاصق الي ما خلف بهاء المجرات، و ظل ناعم وارف، تغمر الساحة به - أمام بوابة البيت - شجرة آراك غرسها النبي الحبيب - في ساعات اللهيب - حتي تتفيأها ابنته فاطمة مع رفيقها بالصدق و الطهر علي، و مع ابنيهما النجيبين الحسنين. في هذا البيت - بأقاليمه الخمسة - تفتقت حروف اللغز المبارك، و حصلت عملية اذهاب الرجس، و مسح البيت بالطهر المطهر. هنالك بستان ممتدد خلف البيت بخمسمائة شجرة من باسقات النخيل، راح يعتاش بها أهل البيت بقيادة الإمام الجديد المتسلم مهماته الجليلة. الي هذه النخيلات كان يتجه الإمام زين‌العابدين ليسجد كل يوم بصلواته المناجية رب العالمين، و الي جنبه فتاه محمد المتيقظ علي كل بادرة كانت تحصل أمامه بكل جديد نابت تحت عينيه. لقد بدأ التدرج ينبت سنابله في الظل الطري: سؤال من هنا و لمح من هناك، و كانت تتوضح فيهما آفاق تنبسط بها الأبهاء. (3) و الحزن... انه العميم في يثرب - تجمعت به و جاءت كلها الي محارم البيت تشاركه بدمعها الأحمر، و تغرق معه في مهابات التأمل... لم تخف يثرب من الدمع يقرّح عينها و أجفانها، ولكنها استعذبته يجلو النفس فيها و يجللها بنقاوة الايمان. صحيح إنها خسرت اماما حسينيا بهيا، ولكنها ستجده في حقيقة الذكر، و حقيقة النهج، حيا في مهجتها، يعلمها كيف تنتصر علي الذل و الضيم برفضها الحاكم يرهقها - بهما - و هو المتولي شؤون الرعية... [ صفحه 95] انه الآن يعلمها حقيقة العلم: أن العدالة و الاستقامة موهبتان مستنيرتان بالحق يجلوه العلم، و الفهم، و نقاوة الوجدان، و أن البيت الذي ينجب مثل الحسين هو المتسلسل في حقل المواهب النبيلة المتشددة بالحق المتمرس بحقيقة الرهان... انه بيت الرسالة ينطق بها نبي طاهر العين، و طاهر اللب، و طاهر الخميرة، و ها هي مقاصده الطاهرات الزاهيات، يجاهر بها علي مفسرة به كأنه كل الحق. المجدول في مسلسل الآيات... ليس الحسن الا اماما مسطرا بنهي البصيرة، و ليس الحسين غير صوت آخر، يصغي ضمير الكون الي عمق صداه، و ها هو البيت يستمر مشدودا بهذا العلي الثاني الذي شاهد عاشوراء أبيه تزفر زفر الجحيم - ليس علي أبيه - انما علي حاكم غبي جرده الجهل من العلم، و من الحق، و من اعطاف التبصر، فارتكب الجريمة الشنعاء!!. كل يثرب جاءت تشارك أهل البيت، و استهامت بالمشاركة: تارة دمعا لا تقدر أن تحتجزه المقلة، و طورا انسكابا في تأمل و صمت يشهدان لها بالتأهب الضمني لحسن التبصر في القضايا الكبيرة التي تخفف من قيمتها في المجتمع كل المتاهات المبتعدة عن احتياز العلم، و عن الاعتصام بالحق و الصواب. جابر بن عبدالله الأنصاري تبصر به النبي طويلا، و تمني عليه أن يعيش في يثرب كما تعيش الخمائر في أشواق الطحين، و تمني له أيضا أن لا يرمي من يده عصا الشيخوخة الا بعد أن تقع عينه علي فتي من صلبه شبيه به - هو الرسول - خلقا و خلقا، و أسرع هذا الصحابي معكزا علي عصاه العتية، يشارك الآتين من كربلاء مصبوغين بحزن الفجيعة... شاقه أن يري الحزن لا يستقر في النفس الا ويبنيها بناء جديدا، فيه من التصبر و التبصر ما يضاعف الايمان بالرشد، و يشدد البطولة في تحمل البلية... شاقه أن يشاهد المعتدي عليه لا ييأس من معونة ربه، و لا يحقد الا علي الجهل العفن القائم في سريرة المعتدي. [ صفحه 96] وقف هذا الصحابي الذي استطابته عين النبي، خلف الإمام علي بن الحسين الذي لا يزال فتيا في امامته الملقوطة بفداحة الحزن، و لم يبادره الا بعد انسلاخه من سجوده الطويل، و الدمع الأحمر يحفر قناة في وجنتيه الذابلتين - قال له ما معناه: - سيدي الامام، لماذا تحمل نفسك مما يضني جسمك الهزيل؟ الأمة بحاجة اليك يا سيدي. ترعاها بجهدك المتعافي. لا بحزنك المتمادي... سمع الفتي النجيب محمد، مقالة الشيخ الوقور - و هو من الخلف مطرقا يصغي، فاتجه اليه يأخذ يده و هو يقول: - بالأمس يا عم رجوت أبي مثلما رجوته أنت الآن: أن يخفف عن نفسه عناء يهزله و يضني جسمه. فجدي الحسين قد غاب - و ترك عليك يا أبي صدق المناب... أبي يا عم لم يصغ الي - عساه يصغي اليك. تناول الشيخ الفتي بين ذراعيه، و تفرس به مليا ثم قال: - أنت حكايتي الطويلة يا ابني، أخبرت جدك الحسين بها. فسماك باسم محمد. أنت شبيه بجدك النبي يا محمد - لقد كلفني أن أقرئك السلام. بعد أن أقولك لك: انه لقّبك بالباقر. - الأمة بحاجة يا ابني لمن يبقر لها العلم. فتستنير به في مشوارها الطويل، و تنجو من جهل يعتم عليها المسير. [ صفحه 97] و أجاب الفتي بكل اتزان: - سأستعين بأبي الإمام و ألبي جدي العظيم. - سأستعين بك في تركيز مقاصد جدي الرسول... منذ هذه الساعة المليئة بالفهم و العزم، كتم الإمام علي بن الحسين حزنه في عبه، و اتجه نحو المسجد يوسع فيه مقاعد الدرس - يا لجامعة أهل البيت يركزها اليوم امام تلوّن اسمه و أضحي: زين‌العابدين. [ صفحه 98]

زين‌العابدين

(4) منذ ما يقارب الخمس أو الست سنوات و الإمام الصغير محمد يتنقل فوق الأرض في يثرب، لا زاروب من زواريبها العتيقة الا و أصبح يشعر: أن خطوات العابر فيها - ناعمة - كأنها لمس فراشة، و خفيفة، كأنها من الحلم مسروقة، هي للامام الصغير الذي يمشي كأنه الغافي، و بين تجاعيد شعره مهابة تطل علي جبينه كأنها دهشة رشيقة الظل، و هي به مستورة. هكذا بدا لي أن أصف خطوات هذا الإمام و هو في صغره، مع العلم أنه سيمشي بها ذاتها في كبره، علي فارق شكلي لا جوهري، سيعينه: نمو القدم، و تضخم الساق، و بدانة الجسم، أو تطور صحي آخر، يلون القيافة و يدق فيها جديدا من ميسمه. دائما هي الخطوات السليمة و الصحيحة و البريئة، تحمل شكلها، و صدقها، و لونها مع الصغار، صافية و خالية من التصنع و الدجل... مع نوع من التأكيد ان نوعية الخطوة التي تألفها و تحفظها قدم الانسان، هي تعبير دقيق عن نسبة الصحة في بدنه، مقرونة بالعوامل النفسية - السليقية - العقلية النائمة كلها في شخصيته المهيأة للبروز. ان خطوات الانسان - و هو يمشي - هي المكيفة بما هو مخبأ في ذاتية صاحبها من مزايا و صفات، لو صح تعهدها و استدرارها، لنطقت بالحقيقة [ صفحه 99] الكامنة في تلك الخلية. ان يكن البحث هذا بحاجة الي تعليل فلسفي - نفسي، أو فيزيائي أو كيميائي له ضلع من ضلوع المعادلات... فما أحرانا ننتظر أمامنا الصغير حتي تشتد خطواته، و تمنن ضلوعه و فقراته... و ساعتئذ فهو المدعو الي تجهيز الجامعة العلمية في مسجد يثرب بمواد الفلسفة، و الفيزياء، و الكيمياء، و علوم الأشياء، و الهيئة، و الحساب، و الهندسة... سيقدم لنا مثل هذا التعليل الموجه - هو بذاته - من فوق منبر جامعة المسجد، إذا تصبرنا الي ذلك الوقت و انتظرنا... (5) و خطوات الإمام الصغير، أكثر ما كانت تشد به - باكرا من كل صباح - نحو الدار التي يسكنها صديقه الشيخ الجليل جابر بن عبدالله. لست أدري إذا كانت الصداقة بين الناس تغطي بعضا منهم بمثل هذا النوع من الشغف المصقول، و الذي يأخذ كلا من الشيخ الأنصاري، و هذا الفتي النجيب المطوي في ذاته كما ينطوي النور في زجاجة المصباح. لقد كان هذا الشغف، عند الشيخ المسن: يأبي عليه - لحظة يدخل عليه الإمام الصغير - الا أن يأخذ يده، يقبلها و هو ساجد، و في عينيه دمعتان لا تنحدران و هو يقول: - كيف لي أن لا أتصرف هكذا بين يدي من هو شبيه بسيدي الرسول؟. أما الإمام الصغير - بعد عجزه عن اقناع الشيخ بالاقلاع عن مثل هذه الوتيرة - فانه راح بدوره يجلس ازاءه، طابعا علي متن كفه قبلة يعمقها الوقار، و رأسا كان يبدأ بالحوار. لقد كان الحوار ثمينا هذا الصباح، بدأ بطلب مقتضب، ولكنه مغلف [ صفحه 100] ببعد روحي و فكري و نفسي مشتاق الي استكشاف عن الحقائق الكبيرة الدائرة فيها نوازع النفس، وارادة الله المصبوبة في كنه الحياة و أزلية الوجود. أما الشيخ الوقور المتقبل الطلب بكل ما فيه من أبعاد، فانه كان ينطوي الي نفسه و يتناجي بالصمت المقدس الجائل في خلده: - يا للشبيه الذي تجاوز عمره الصغير المحدود الآن بعشر سنين. الي عمر آخر كأنه أوسع من عشرة دهور.. أتراه يقرع أبواب المطلق، اذ يطلب مني كشفا عن حواشي المطلق؟. لقد كان الطلب محصورا بتوجيهه الي رجل ربط عمره كله بعمر النبي في رفقة لم تنقطع... انه كشف شامل عن كل ما يعرفه هذا الصحابي الممتاز عن حياة الرسول ، ألم يخصه الرسول - دون سواه - بنقل الوصية الي حفيد له متحدر من صلبه، و شبيه به، طالبا اليه أن يكون واحدا في خط الامامة موكولا اليه أن يلبي الأمة بأشد ما تحتاجه الأمة: و هو تفجير العلم الذي به تستنير... لقد عين الإمام الصغير حيثيات الطلب، و قيد الشيخ بالجواب عليه، لأنه كان المخصص بحمل الوصية. لقد شعر الصحابي الكريم بثقل الطلب، و أدرك مليا أن الإمام الصغير الذي هو الآن في تمام حضوره، هو الممثل الممتاز لجده الرسول،و أنه فرض ارادته بنوع من طلب و لا بد من أن تلبي الارادة بنوع من أنواع الخضوع. و لقد أدرك الإمام الصغير - بدوره - أن السيد الجليل الغارق أمامه بصمت الخاشع المتأمل، يحضر كل قواه الفكرية و الروحية و الذهنية لتقديم الجواب الوسيع و الطويل و المجهد، لهذا رأي أن يخفف عنه حجم العناء فقال: [ صفحه 101] - أنا أعرف يا عمي الكبير أن طلبي لا يكتمل الجواب عليه... لا بوقت طويل و لا بوقت قصير. لقد لمح لي أبي الإمام عندما التمست منه - أمس - ان يعرفني الي حقيقة جدي الرسول. فكان جوابه: (انما جدك الرسول هو ضلع من ضلوع الشمول... رويدك... خذه علي مهل - بما يمليه عليك اللمح المتبصر - كلما احتكت عينك بحرف من حروف الآيات المدرجة في كتابه الكريم... لقد أكبرت الجواب و احترمته يا سيدي، لهذا فاني سأكتفي منك. بأن تقدم لي بعضا من لمحك حتي أشترشد و أنهض الي القيام بما هو موكول الي... لقد بلغتني - أنت يا سيدي - ما هو موكول الي... ألم يطيبك جدي بعلم و بيان توسع بهما الطريق أمام قدمي المستعدتين للعبور؟ سآتيك مع كل صباح ينجلي به الغد، حتي نفي - أنت و أنا - نذرا وعدنا به جدي الرسول. قال الإمام الصغير مقالته هذه و انسحب خفيفا كالطيف، أما الشيخ المجلل بالوقار فانه تماسك بركبتيه الساجدتين، و رأسه مغمور بهالة كأنها من فيض المناجاة. (6) لم يعد الإمام الصغير يعرف كم صباحا مر عليه مع صديقه السجاد مثله في حضرة جده الغائب المالي‌ء جو المكان. كان الشيخ - وحده المسترسل بقول كأنه الهدل، و كان الفتي - وحده - المصغي الي هطل كأنه النهل. لا بدع... فالصدق و الحق - كالشوق و التوق - وحدهما - في زينة النفس يملآن فيها الفراغ. [ صفحه 102] لك يترك الشيخ شيئا من الحواشي، و هي المنبثقة - أبدا - من دائرة الجوهر، الا ولمسها في تطوافها الصادق: تكلم عن جدود النبي في أمة الجزيرة، و هم الأبعدون، شبه الملموحين، مع الذين أصبحوا معروفين في حقبات التاريخ... و راح يهاجر معهم زرافات زرافات، ثم أفواجا أفواجا، الي كل جهة من جهات الجوار، و لا سيما الجوار المشدود بأرض الشام و العراق، و أرض البصرة و الكوفة، أو الأرض التي ترضع من أثداء النيل... لقد امتزجوا بالأرض التي حلوا بين ظهرانيها، و اشتركوا مع القدامي فيها بالعمران و الانتاج، و أدوا قسطهم مما أحرزوا من فهم و علم، حققوا بهما أبجديات و حضارات. و تكلم عن الجدود الأقربين، و من أميزهم الهاشميون الطالبيون و المطيبون بظهور النبي. هنا ابتدأ الكلام الحميم: عن الأب، و عن الأم، و عن الولادة، و عن الفتوة، و عن السلوك المتفرد بالمزايا و الصفات، و عن الزواج، و عن الانجاب، و عن تعلق الأمين محمد بعلي كما يتعلق السحاب بالغمام، و عن تحسسه بارتجافات ممغنطة و منزوفة من تأودات الروح و عوالم الغيب، و عن الاختلاء في غار حراء كأنه تفجير التأمل و استرفاد التخيلات. لا شك في أن الأحلام كلها قد استنزلت من عوالمها و راحت تتجسد في الحروف الموسعات، و راحت الرسالة تفتش عن الدروب لتملأها بالتنزيل الهابط من علو السموات ... و ابتدأ الصراع بين حق تنتصر به قيمة الانسان، و باطل تنحط به قيمة الانسان. من مكة الي يثرب تم الذهاب، و من يثرب الي مكة تم الآياب... من هناك - هروبا - الي هنا، و من هنا - رجوعا - الي هناك، تم النصر بسواعد الأنصار، و قرت عين الرسالة و تحقق الاسلام. [ صفحه 103] هنا استفاض حديث الشيخ و التهب ببطولات الأمس، وراح يتكلم عن صدق الأنصار باقتناعهم بروعة الرسالة... و تكلم عن كل الوقائع الحربية التي حصلت بين المدافعين عن الرسالة و المتنكرين لها، لا سيما معركة أحد، و الخندق، و خيبر، و قينقناع... و استفاض الحديث عن دخول المنتصرين مكة، و تحطيم أصنام الكعبة، و تحرير الجزيرة من عبادة الأوثان. هنا توقف الشيخ قليلا ليفهم امامه الصغير المستغرق في الاصغاء، أن كل ما عرضه حتي الآن هو حاصل تمهيدي و تحضيري يعين قيمة الرسالة من خلال الجهود الطويلة و الثقيلة، و المهج العزيزة و المبذولة، من أجل الانتصار بها رسالة يقوم بها - وحدها - مجتمع الانسان... و لقد رأي أنه من الضرورة أن يحيط الإمام علما بها، حتي يلم بكل الشؤون. هنا ابتدأ الفاصل الثاني و قد ارتدي ثوبا أجل و أوسع: تناول المجتمع و أهمية المجتمع، و تناول الجزيرة و تاريخ الجزيرة مع كل ما فيها من رمال، و واحات، و قبائل، و حبال أطناب، و توقف مليا علي كل حرف من حروف الرسالة، و كم هي - وحدها - الناطقة بجهود الرسول و نبوة محمد... و تكلم عن الامامة المرصوفة علي المتانات النادرة، تركيزا علي عبقرية فذة اسمها «علي»، و وصولا الي تحقيق باهر مختوم بانتصار المهدي المنور بالحق في مجتمع الانسان... سيكون المهدي، و هو الإمام الأخير المرتجي، اندماجا حضاريا في مطلق مجتمع من مجتمعات الانسان فوق الأرض، يحققه العلم الوسيع بالحق، و الفهم، و العدل، و النظافة المثلي التي تحرزها حقيقة الانسان. أما العلم المطلوب في ايصال المجتمع الي حقيقته الناصعة، و نزاهته الجلي، فهو الذي تبشر به الرسالة و تحتويه من دون شرح و لا تفصيل، و هو الذي يتوسله المجتمع، بعد أن يكون الباطل المخيم تحت أوتاد [ صفحه 104] الجهل قد ضرب سنانيره في المجتمع و كاد يشل أوصاله... و عندئذ فان المعاناة الطويلة من جرة أذياله، هي التي تحضر الانتفاضات الرصينة للتخلص من رعونانه و غباواته المستهجنة... سيكون العلم - وحده - ملفوفا بالرسالة، في تحقيق الثقافات المنتصرة علي الجهل و الظلم، و مص الدم من كل وريد تنبض به مهجة الانسان في مجتمع الانسان. لم يرد الشيخ الا أن يختم حديثه بهذا القول: - أرجو أن تأخذ مني عذري يا سيدي، فأنا ما قصدت أن أرشدك، بل أن أطلعك، بأن كل ما قلته في مسمعك هو جزء زهيد مما ستحيط به في مطلع الغد جدك النبي، يا امامي الصغير، هو الذي زرعك في الامامة... لو لم تكن لها ما زرعك... الأمة ذاتها - في حاجتها الي العلم - ستفتش عنك - حتي تجدك... و لن تجدك ان لم تكن أنت في الحجم الوسيع الذي يعبي ضلوع الدائرة... و ليست الأمة الا الدائرة، و هي المؤلفة من كل فرد فيها، و من كل يوم لها، و من كل عمر تطول به فسحة الغد... و لن تكون الدائرة الا في متانتها، و الا... فانها - من لحظة الي لحظة - هي المنهارة. العلم وحده يا امامي الصغير، يحضر الركائز، و يمتن الخيطان التي ستنفتل حبالا، و من يوم الي يوم أطول، تشتد الحبال و تنشد بالقبضان. عندما يتسع العلم و يزهو، و تتملكه الأمة و يغدو في موعدها المثقف، يكون قد حان الوقت لانتصار الحق و التعبد له... ان الأمة كلها - في الوقت ذاك - ترفض أن تري في ساحاتها العريضة حاكما يرنو اليها و فوق صدغه نقطة سوداء. [ صفحه 105] تفوه الشيخ بمثل هذا النهج و هو كأنه الحالم... ثم تحول نحو الفتي و لفه بعينيه و أكمل: - لو أن الأمة بلغت هذه السوية الرهيفة لما ريعت عينك برؤية جدك الحسين ممزقا فوق الرمال.. ألا تقول الآن معي: ان الجهل هو معتم البصائر. و ان العلم هو المزين الضمائر. لقد وصاك جدك الرسول بالعلم الكبير، لا بالعلم الصغير... فالعلم الصغير هو الذي تتزين به وحدك. أما الكبير فهو الذي يربو اليوم ليكبر به الغد الذي يتألف منه الدهر، و الذي هو بحجم الرسالة التي هي الأمة في حقيقتها العظيمة. خذ العلم - بهذا الحجم - اليك، و فتش عنه اذ يفتش عنك و هو يأبي الا أن يجدك. - و العلم ذاته سيفتش عنك حتي تفجره للناس - و لو أجهدك - فاطلبه قبل أن يطلبك. فتش عن حملة له في مصر و جنديسابور فلك فيها أهل أوفياء... نالوا من جدك سماء، و لن يمنعوا عنك استجابة النداء. و أيضا فاطلبه من الهند ... و من الصين.... و من كل رجا من الأرجاء... حتي من الاغريق، فهم الذين انتقلت إليهم - من جدودك الأقدمين - تلك الحضارات. فالعلم حق... و هو كالنور هبة من الله... و لن يحجز النور... تحت مكيال... [ صفحه 106] ما تلفظ الشيخ بالكلمة الأخيرة، حتي انحدر خفيفا خفيفا برأسه علي ركبتيه الساجدتين،،، و غلفه الصمت: بعد لحظات صارمة، أدرك الإمام الصغير أن صمتا ساجدا تناول الشيخ الي جده الحسين، و جده الرسول... بعد أن أدي الوصية و وفي النذر... (7) ما كانت يثرب تعرف الحزن الطويل المعصور من ألم النفس، الا بعد أن أغمض النبي عينيه و اندمج في حقيقة الذكر. لقد حفرت له تحت مئذنة المسجد جدثا موصولا بالقبة التي تخفق كل يوم بالنجوي العلية، و هكذا الحزن نورها - هذه اليثرب - حتي غدت به كأنها ذوب من العشق المقدس. و عندما غرق علي في فجوة الجرح المدمي، عجنت يثرب حزنا بحزن حتي لا ينتسي الحزن الرفيع... و لما انصبغ الرمل في كربلاء بالصبيب من دم الحسين، هبت الي بقيع الغرقد توقظ الاثنين: فاطمة الزهراء بنت الرسول، و ابنها الحسن المؤمم، و هو يتلمظ الثمالة في كوبه المسموم، و حزمت - يثرب - الثلاثة المطهرين، فصارت ضلوع الحزن خمسة يلامس بعهضا بعضا في مردات الحنين... يا لك - يثرب - و الحزن يغرقك الآن في عمق التأمل، و قد صمت شيخ من أبنائك الميامين المعمرين اسمه جابر بن عبدالله الأنصاري، بعد أن تفوه - طويلا طويلا - بحب الرسول. ها هو اليوم يصمت بعد أن زرع الأشواق كلها في لب الشبيه بجده، حتي يتقن العلم الصغير، و يبني به دوحة العلم الكبير... [ صفحه 107] ان الأمة جمعاء يا جابر تدرك أنك حملت وصية و عرفت كيف تزرعها في الأذن الذكية و الوفية... فكيف ليثرب - و قد مارست روعة الأحزان - و هي الثقيلة عندما تكون شقا من قضية، أن لا تبكيك و أنت منها العريق في ادراج الرسالة. [ صفحه 108]

العلم الكبير و العلم الصغير

(1) منذ أكثر من سنتين و الإمام الصغير في رفقة الشيخ الكبير، يجالسه، و يتذاكر العلم و الشرح بشغف و اشتياق، ولكن اشتياقه - في الجلسات الأخيرة - راح يسوح به الي اصغاءات يغشاها كثير من ذهول، و كان بدوره - هذا الذهول - يأسر الشيخ فيضاعف الجهد من تظهير الصور. انها الجلسة الأخيرة - بالتمام - و قد أذهلتنا أيضا، تمتمتها شفتاه المشتاقتان. و لثمتا الصمت. و منذ هذه اللحظة الكبيرة تلبس الذهول وجه امامنا الصغير، علي أن لا يفارقه كل العمر. لقد كان هذا الذهول - في المبتدأ - نوعا من التبصر في صدق القضايا الكبيرة تدعو الإمام الي تفهمها و الغوص في مخارجها المتشابكة الخطوط، و ها هو الآن - هذا الذهول - يمزجه الفتي بحزن يحرك الدمع حتي يغزو المآقي، و هو كأنه الحزن ذاته، يصف الإمام الصغير مع الباكين في يثرب قرب أبيه زين‌العابدين، و لما تنشف بعد عيناه علي الشهيد العظيم أبيه الحسين... و ها هو - هذا الذهول الأصيل - يتدرج و يتدرج، حتي يستحيل الي مهابة مطبوعة بوقار... ان العلم الذي دعاه جابر الي أن يفيضه علي المجتمع، هو الذي سيكون ألوان هاتيك المهابة، و عمق ذاك الوقار. [ صفحه 109] (2) ولكن الإمام الفتي، و ان تصورناه - تجاه فقدانه الشيخ الشبعان من رفقة جده الرسول، غارقا في حزن لا يجوز أن يصمت... الا أن حزنه هذا كان في عكس ما نتصور: فهو لديه - الآن - ذهول عميق، تأبي النفس الا أن تنغمر به، كأنه الفرح، تنتعش به الذات في تجلياتها الصادقة و الصافية. ان هذه التجليات بالذات، هي التي نقلت الشيخ. الي ذهن الفتي، و انسكبت فيه - به - عندما تكلم لا عندما صمت... نقلته روحا و لا بدنا... نقلته أريج الزهر لا ورقه... نقلته حركة لا همودا... نقلته ضراما لا رمادا... نقلته اتصالا بالرسول لا انفصالا... نقلته انفتاحا بالرسالة لا انكبابا في الجهالة... نقلته علما صغيرا يزهي النفس، ثم علما كبيرا يزهي الأمة بالمعارف و المطارف، لا بغاء يحقر الذات، و يطيل عمر الذئب و الضب، و الخفاش في مجتمع الانسان. بهي هو جابر في ذهن فتاه النجيب... لقد وصله بجده الرسول وصلة حياة تنعش القلب، و العقل، و كل خلايا النفس، و كل طويات السريرة... فحرام نعتبر الشفة التي تكلمت: ماتت اذ صمتت، فهي حية بما نبست، و ذلك معناه: لغو وجود كلمة الموت في قاموس الحياة... أما الشفة - و لم تنقشها كلمة - فهي التربة المعقمة، فلا الموت تعرف، و لا الحياة تطالها برشة من اكسيرها المحيي. علي مدي بضع و عشرين سنة - في ما بعد - كمرحلة اعدادية سبقت تسلم الإمام مسؤولياته المعنية له في فسحة العمر، راح الإمام يمضغ كل حرف من حروف الكلمة التي صبها الشيخ الصامد الآن في خلية الذهن، علي أن يركز كل ما يشتق منها في خلية الضمائر، جنبا الي جنب مع كل المجتنيات المنبثقة منها: علما، و فنا و اداء، و فيض أرخيات. فالمضمار [ صفحه 110] الطويل في حياة الأمة، و مجالات الاختيار، هي التي تعين حجم القصعة المسكوبة فيها وجبات الطعام، و لن يلونها - بالخير - رغيفا شهيا، الا العلم الآتي من مناجم الروح، كأنه الرشد المشطور من لمسات الخمائر، أو كأنه تفجير الحق تحمله الآيات المولعات بهمسات الضمائر. كل ما قاله الشيخ المالي‌ء فسحة البال، مضمخا بضمير الرسول ينظم القوالب لمحاصيل الغد، كان هم الفتي في التحليل، و التعليل، و توسيع الردهات لمدي الاستيعاب... لن يكون الزمان، ان لم نلقحه بأنباض المكان الخافق بروح الانسان. (4) لقد كان كل ما قاله الشيخ في مستوي الهمس، لا يفسر المعاني، بل اليها يشير، فشأنه كالعناوين يلقي الواحد منها صغيرا في صدر المقال، يحمل الاشارة الملغزة، و علي المقال مهمة التفسير، و مشقة التطويل... من هنا كان الفتي يتلقف الاشارات، من دون أن يرهق صاحبه المسن بشرح مستفيض، مكتفيا بها - ما أمكن - لأن الكشف المطلوب عن حياة النبي، و عن كل المرامي المرصودة في مضامين الرسالة، لا يكفيه عمر، و لا دهر، حتي يتم شرحه و استيعابه... ان المجالات الفسيحة في مجتمع الانسان، هي التي تستعين بالتحقيقات الرخية، ترجحها حقا، و خيرا، و أضاميم من جمال - تنبهات العقل، و تيقظات النفس، و كل الأحاسيس الباطنية تزرعها الحياة في عمق الطوايا... انها كلها هي المكتشفة، كلما امتد أمام المشاة طول الطريق، و هي التي تتوضح فيها البينات: بأن الرسالة التي انتشي بها نبي المسلمين، هي من الحياة بنت الحياة، و هي بنت الظلال المفيئة، يطول بها الوروف بقدر ما يطول بها الخطو فوق الممرات. [ صفحه 111] ان الفتي الذي سمي - قبل أن تلمح عينه النور بعشرات السنين - بالباقر، هو من التيقظ الفكري و الروحي، في سوية مرموقة، جعلته، يحاور الشيخ الوقور، مكتفيا منه بالاشارات النائمة في حروف العناوين، علي أن يأخذها - مع الوقت الطويل - بالدرس و التنقيب... سيكون الغد كريما جدا، بتفسيح الهنيهات، يدخل فيها العلم - بخطواته المضيئة - ينورها رويدا رويدا، حتي تستفيق - في لواعجها - مهامس الآيات. (5) العلم الكبير و العلم الصغير... و أدرك الإمام الصغير أن العنوان الملفوف بضلعين هو ذاته الوصية. يحملها اليه - من جده الرسول - مبلغ أداها ثم انطوي الي الحق الرفيع... يا للعنوان.. ما أوسعه في فسحة المضامين، و ما أروعه صغيرا كحبة الحنظل في اجاصة مر الصحاري، تعانقها الرمول المنداة بالأشواق، و إذا بها - مع كل صباح شهي الفجر - تتمدد جذورا، و تتماشق ساقا، و تتفرع أغصانا، و انساما، وافياء، و أفنانا، و أطيابا غنية. انه العلم الصغير، مجبيا من ضلوع المعرفة - يتناوله الفرد في المجتمع - و يوسع به خلايا ذهنه و جيوب روحه، و آفاق عزمة في التصعيد و الادراك، ليكون له قسط في الجلوس بين الملتمين حول المائدة التي تولمها الحياة لأبنائها الأحياء. أما العلم الكبير فهو دائرة أخري تنمو و تتوسع بالأفراد المرتادين حياض العلم، فيزدان به المجتمع، و يصلب عوده، و تبهو مداركه، و تصفو أحلامه، و تتوضح تحقيقاته، و آماله، و أمانيه الكبار. العلم الصغير هو زينة الفرد في طاقاته المحدودة - انه ثقافته الخاصة علي قدر معين - قد يوسعها الاستيعاب و يبرز بها الي نوع من عبقرية، [ صفحه 112] ولكنها تبقي في نطاقها الفردي محصورة في مميزاتها الفذة من دون أن تبلغ الوزن الواصل الي حدود المطلق. أما العلم الكبير فهو ذلك المؤلف من كل طاقات الأفراد الذين يحتويهم المجتمع عاديين و متفوقين علي السواء، ليكون له، من التفافهم في دائرة الحوض، قوة محزومة من ضلوع المعرفة التي هي شمول العلم الوارد من جميع فروع الاختصاصات التي لا يتمكن من احتوائها الفرد، مهما توافرت و تضافرت طاقاته، بينما يكون المجتمع هو المنيع بمجموع أفراده، و هو المتمكن من مثل هذا الاحتواء المعزز بنوع من الشمول. أولا و أخرا هو المجتمع في لوالب الحركة و عمليات التحريض: فاذا تشدد به العزم و تحركت فيه بوادر اليقظات، فانه الي مسيرة ناشطة تخلصه من شلل الركود، و تدفعه الي مجالات التنقيب و الاستنارة، أما التحقيق فزيادة تنمو علي مهل في عدد الأفراد الموفورة لهم السبل السعيدة... بقدر ما يزداد عدد المثقفين تزداد - بالمقابل - مناعة المجتمع بمداركه الرخية. هكذا يتعزز العلم الصغير، ليتوسع - بدوره - العلم الكبير. أما العلم الصغير فطاقات منثورة، و أما العلم الكبير فوحدة مجموعة في وحدة الاطار. أما وحدة الاطار فهي الحق النابت من واقعه الأصيل، من حقيقة المجتمع، من سعيه الصادق، و الصريح، من روعة الحق الذي هو علم وسيع، و معرفة مضيئة، و كشف حثيث و أمين عن جوهر الحياة في لب الانسان تصدق به مجتمعاته فوق رحاب الأرض. و العلم الصغير منوعات متعددة الاختصاصات و ملونة المواهب، يتطلبها المجتمع و يوزعها علي مناكب الأفراد، و الموزعين فوق أرجائه، حتي تتسدد من مجموعهم كل حاجاته و جميع أغراضه... أما المران و المراس، و الملازمات الوفيرة، فهي التي يكسبها الفن ثقافة عاشقة تميزها بالخبرة الأنيقة المتمكنة من الصدق المصيب. لكل فرد في المجتمع جناح [ صفحه 113] خاص يعمل فيه بنوع من خيط و مكوك يكمل بهما - بين يديه - توضيب النسيج، أما النسيج فهو القميص الذي سليبث يرتديه المجتمع علي أمل أنه سيزيد - مع طالع الأيام - متانة و زهوا. الحاكم بدوره هو فرد بيده خيط مبروم علي مغزل، و أمام صدره نول يلعب بين سداه و لحمته مكوك يشهد للحاكم بأنه بارع و رشيق بتمريره بين تشابك الخيطان... و الا فان المجتمع هو الخائب بارتدائه قميصا لا يستر عريا... انها الحتميات تقول: لن يكون علم كبير ان لم يجمع أنواله علم صغير صادق. و لن يكون كذلك علم صغير ناجز، ان لم يمهد له المجتمع المركز، بسط الشوق، و التوق، و يؤججها بلواعج النفس و يقظات الضمير... (6) لقد كانت الوصية صغيرة مقتضبة، و في منتهي البساطة، لقد سكبها حاملها الشيخ جابر في اذن حفيد الرسول، بهذا المعني: (أنت شبيه بجدك يا سليل النبوة - فهو يقرئك السلام. و يسميك بالباقر - فقم بمهمة تفجير العلوم حتي تستقيم لأمة جدك النبي طوالع الأيام). لم تكن الوصية بأوسع من هذه الاشارات، ولكن الإمام الصغير راح الي دوحة نفسه يستفسرها عن تراكيب الاشارات ذاتها التي كان الالهام يستمطرها علي الرسول من مجادلها البعيدة الأغوار، يسوقها الفن الي بيادر الفهم حتي تتناولها المدارك و تمضغها علي مهل فتنهل من أزبادها متطلبات الأيام. لقد أدرك الإمام الصغير، بعقله المشع و يقينه المتبصر، و بنوع [ صفحه 114] خاص، بتنقيبه الملح عن الحروف كيف ترقص بها المعاني، من لون الي لون، كلما تغير بها رصف الاشارة. لقد لاحظ الإمام الصغير أن جده الرسول هو - وحده - أبرع من يصوغ اشارة، و أن كل آية من آيات كتابه هي من ذات الصياغة، و من أروع ما تتجلي به اشاراته في سكبها المشرع، انها تكتسب معني جديدا و لونا جديدا من اللحظة ذاتها التي تطرح - هي - فيها... انها للانسان، و في كل جيل من أجياله الصاعدة، تفسر حاجاته، و تتلون بها كما يتلون الضوء بما تصطبغ به زجاجة المصباح. ما أخذ الإمام الصغير الوصية الا و اعتبرها اشارة تحمل ألغازها و أبعاد مراميها، و لقد أدرك مليا أن الوصية الي احتكت بلبه، هي من نوع الآيات التي تتدرج بها ميادين السور. و بعد التبصر و الاصغاء الي تأودات الحروف في ملامح الأبعاد، توضح له أن الأمة التي اهتاجت بها الأشواق الي كتاب تقرأ فيه كل ما يعلمها كيف تمشي خطوات سليمة فوق المفارق في الدروب هي التي من الله عليها بالكتاب، و ها هو بين يديها - هذا الكتاب - و هو ملي‌ء بالاشارات الناطقة بالآيات، و ما عليها الا أن تتعلم القراءة حتي تشع في عينيها أضواء حميمة تنقلها من غيهب الجهل الي بهجات البصيرة. (7) ما علي الأمة الا أن تتعلم... يا للوصية في حروفها الصغيرة و في بساطتها المنيرة... كيف تطرح الأغمار علي البيادر، و تدعو الأمة كلها الي المفتوت من خيرات السنابل... ان الأمة كلها هي المدعوة الي الغرف الثمين، بكل ما فيها من واحات ضئيلة و حرات ثقيلة، بكل ما فيها من قبائل مشرورة، يشتتها التفتيش عن المراعي فلا تجدها الا في الأحقاف هزيلة يابسة... بكل ما [ صفحه 115] فيها من مدن تظن أنها في مظلة من عمران، بينما هي في جاهلية لا تعرف كيف تصل حرفا بحرف من حروف الهجاء حتي تؤلف الجملة المفيدة... مكة وحدها، في عمرها القديم و شوقها المقهور، حاولت أن تؤلف جملة مقروءة، فبنت الكعبة و كستها بمئات من الأوثان. ولو لم يعلمها نبي من صلبها أين عليها أن تضع الحجر الأسود في مكان الاشارة الرامزة الي هالة التوحيد، لبقيت حتي الآن - ربما - ساجدة تحت أقدام صنمية... ولكن النبي العظيم حطم أمام مكة و أمام يثرب، و أمام القبائل كلها المشرورة فوق مساحات الجزيرة، كل الحجارات المنحوتة بازميل أعور، و نجي الأمة كلها من الاشارات السقيمة التي من لون الأسود العنسي. و ها هو الآن يوصي واحدا من أحفاده بأن يحدب علي الأمة و يعلمها القراءات الوسيعة، لأن القراءات - وحدها - تنجيها من الجهالات و الوثنيات، و المجاعات، و من الموت البطي‌ء، و من الذل الذي يحنط لروح بالمهانات. لقد سبق للشيح جابر أن لمح أمام الإمام الصغير عن قصد جده الرسول من احاطة الأمة بعلم وسيع لا بد منه في ضبط مسيراتها في خضم الوجود، و هو الذي سيخلصها من أسباب التردي بقدر ما تنهل من موارده في يقظاتها المتعاقبة. أما العلم الوسيع فليس أبجدية واحدة، بل انه عدة أبجديات، سيكون له أن يبتدي‌ء بوصلة حرف بحرف... انه ساعتذ الأبجدية البسيطة، يعلم كل فرد من أفراد الأمة كتابة اسمه الذاتي، مقرونا باسم أبيه، و اسم أمه، و اسم القبيلة التي تحسبه راعيا من رعيان نعاجها، أو فارسا من فرسانها الذين يذودون عن الحوض. ستبقي الأبجدية هذه هزيلة جدا، الي أن تعي الأمة أن الفرد فيها هو [ صفحه 116] أكثر من رقم و أكثر من و شم يدقه شيخ القبيلة علي كل زند من زنود أفراده العبدان... و هو أكثر من اسم يتباهي به بطل كعنترة، و في كفه رمح طويل السنان... عندما تعي الأمة أنها ليست الا مجموعة أفراد، و أن كل فرد فيها هو طاقة من طاقاتها الفاعلات، فساعتئذ يعززها الادراك أن مناعتها هي في كل شؤونها الحياتية علي الاطلاق، و في كل طموحاتها الي كل تحقيق و كل رجاء، و لن يكون لها منها منال متكامل الا بتحقيق قيمة الفرد، و تعزيزه طاقة مترابطة بكل طاقاتها المتشابكة... فكل فرد فيها هو الأمة ذاتها. أليست الأمة - في تعريفها الكامل و الشامل - هي النساج و الحداد و الصانع؟ و المفكر و الفنان و المبدع، و الزارع و الحاصد و الفران؟ و حامل المعول و حامل المسطرة و حامل القلم؟ و السائس و المخطط و المعلم؟ أليست الأمة كلها فصائل فصائل، أو مدارج مدارج، في هرمها المتنامي من بسطات الأساس حتي النقطة المتناهية في عب السحاب؟ أليس لكل فرد في الأمة محل في شدة المسند، كما لكل حصاة في بسطة المدماك في الهرم المتعالي متكأ من صلابة يصمد بها خلود البناء؟. من هنا يكون علي الأمة الواعية أن تمهد لرفع سوية الفرد و تعزيز طاقاته الفهمية و الادراكية، و لن يكون لها الا التماس العلم يوسع لها آفاق المعرفة بأبجدياته المنوعة الفروع، و قراءاته المتعددة الأصوات. فالعلم الذي تحتاجه الأمة ليس هو في أبجديته البسيطة التي تعلمنا قراءة أسمائنا، و قراءة تباهينا بمسلسل الأنساب، انما هو في أبجدياته المتعددة و المتفرعة و المتطورة تطورا مدهشا، مع كل لحظة من لحظات العمر؛ فالأمة - في محض وجودها - هي تسلسل معارف و مهارات، في الزراعة و الصناعة و كل مجالات الاقتصاد، و الفرد فيها هو الشبكة المترابطة بكل ما لها من أغراض، و لن تنتهي المهارات، و كذلك ستتزايد الأغراض، و سيطورها [ صفحه 117] الفن الي كل جديد تفرضه الاستقصاءات و عزيمة الاختبارات... من هنا أن العلم الصغير الذي تحققه الثقافات الفردية ستتوزع منشوراته علي كل مهنة من المهن التي يحتاجها مجموع الأمة في يمومها الحاضر و في يومها الآتي... و لن تكون المهن الا وسيعة الأرجاء... فالزراعة - مثلا - هي المنوعة في الأرض مع تنوع الفصول و المناخات، و تنوع الأساليب و المهارات و النشاطات و المختبرات... و كذلك ستكون الصناعات و التجارات، و كل مهمات تعزيز الاقتصاد، بالاضافة الي الشؤون العظيمة الأخري التي هي جوهر الأمة و مداها الكبير في الوجود... إنها قضاياها الفكرية و الروحية و الكشفية عن الحقائق التي تربطها الحياة بوجود الانسان، و لا بد من التدرج الي استيضاحها في حقيقة الرضوخ لمن هو مصدر الحق و مصدر المثل الكريمة و التقية التي لا ينهض كريما و عزيزا الا بها مطلق مجتمع من مجتمعات الانسان. كل ما ذكر من هذه الأغراض سيكون مجزءا و موزعا منها علي مجموعة أفراد الأمة، و سيكون الجزء موازيا لطاقة كل واحد بمفرده، و اذ ما يبرع الفرد بانجازه يصبح كل ثقافته الخاصة... ستجمع الأمة في سجلاتها الصادقة مجموعة البارعين في كافة حقولها المتحركة بجميع أفرادها المتخصصين و المثقفين بالعلم الصغير الشامل التنويع - و علي مهل أنيق و رتيب - ستمزج الأمة مجهوداتهم المختارة، و تستخرج منها عجينة جديدة تخبزها رغيفا يسمن بها علمها الكبير. غدا... و ليس اليوم... راح الإمام الصغير يتابع تخيلاته و تأملاته و تحليلاته، و يستخرج منها المعاني و الصور... غدا - و ليس اليوم - يكون للأمة تمتع بعلم ينمو صغيرا ثم يكبر رويدا رويدا الي أن يصبح احتراما تزين به سجلاتها التي لا تزال ضائعة في الردهات العتيقة. لن يكون لها - بين ليلة و ضحاها - اتقان الكتابات، و القراءات، و تنقيح السجلات و تدبيجها بالرسوم... ان ذلك رهن بتخطيط فيه كثير من أضواء [ صفحه 118] السموات... جدي - وحده - أدرك ما تأخرت الأجيال عن ادراكه في قديمها الصامت... و سيكون لي، من تنفيذ وصية جدي، بداية يركز عليها الغد آماله المعهودة... أصبحت أدرك ما هو موكول الي كامام مسؤول عن رسالة و عن رعية... و أصبحت أدرك ما معني تفجير العلم حتي يتسهل فهم الرسالة و تنظيم أمور الأمة التي هي مجموع الرعية... لن يكون لي أن أفجر البحر، بل أن أسهل الوصول الي شطأنه السخية، فأنا طاقة صغيرة من طاقات الأمة، و سأوسع دلوي بقدر ما أوسع عزمي حتي يكون غرفي من العباب أغزر... أما الدلاء فعلي عن أفتش عنها و أوفرها لكل عزوم يناديه ارتفاع الموج ... أليس هكذا يبدأ تحقيق العلم الصغير بتوزيع أليم في أفواه القرب؟ و هي التي سيحترزها خزان الأمة و يغتني بها في اطاره الأكبر؟. اثناهما - العلم الصغير و العلم الكبير - يغذيهما شط واحد، و غرف من بحر واحد، هو بحر العلم الذي هو معرفة منوعة الألوان و الأزباد، ولكنها، في النتيجة الصامدة، وحدة في تأليفها ثقافات الأفراد... و هكذا فان الأمة هي مجموعة هذه الثقافات التي تعزز بها ثقافتها الشاملة. و من هنا يحتاج العلم الصغير الي التنوع الذي يبدو و كأنه لا ينتهي... فالزراعة، و الصناعة، و التجارة، و علوم الاقتصاد، و الحساب، و الهندسة، و كل العلوم الأخري التي يترابط بعضها ببعض و يشتق منها علم الجغرافية، و التاريخ، و التعدين، و التنظيم، و ادارات الحكم، و ضبط السياسة، و معالجة الفكر بالتأليف و البحث و التحقيقات الفلسفية... انها كلها المواد الكثيرة المهمات، تحتاجها كلها الأمة في تنظيم معاولها، و ترتيب أمورها... و هي التي سيتناولها العلم الصغير فيتثقف بها و تغتني بمجموعها الأمة في علمها الكبير. و تابع الإمام الصغير نجاواه: لقد شرح لي جدي بلسان الشيخ جابر، كيف أفتش عن العلوم و موادها في كل بقعة من البقاع التي تأصلت [ صفحه 119] ببمارستها، و هكذا سأنهج. فالأمة بحاجة ملحة الي علوم الفيزيا و معادلات الكيميا و أرقام الحساب، و الي تفهم التاريخ، و أنواع الجغرافيات، و تحديد المساحات و خطوط الهندسات، و الي اكتشاف المعادن المدفونة في جوف الأرض، و الي فلسفة و فقه و طب، و كلها توفر للأمة صحة العقل و صحة القلب و صحة الروح، و هي جميعها ثقافات توسع العلم الصغير في اطارات العلم الكبير. أصبحت الآن أعلم أن الغد الكبير و الوسيع هو الذي يفتح المصاريع علي الأبهاء، و هو الذي يصحح الخطوط و يخففها من عقد الأخطاء... فالمعارف كلها هي محاولات يحركها اليقين المستعين بالممارسات المؤمنة يصدق العزم المزروع في عمق النفس التي هي جوهر اللب في الانسان، و التي هي سر من أسرار الطويلة . لقد قلت و لقد عنيت: ان الغد هو الذي يأتي و يحقق الأمنيات، لا اليوم الذي خرست نبضاته... سأستعين بالجامعة التي بسط مقاعدها جدي الإمام علي في ردهات المسجد، و قد نقشت حيطانه لجدي الرسول مهجة الأنصار... سأفتح في كل ردهة نافذة صغيرة أضيئها بمادة علمية ولو هي الآن بنور شمعة تنوس بها الضآلة... ولكن الغد الآتي بالشوق الملح سيضاعف جدلات الفتائل، لتأخذ من أعطيات الضوء ما ينير عتمات يثرب و يبقيها دائما قاعدة منورة... أتراها تصمت ثرثرات الجهل و تترك للجامعة مهلا ينمو بها الغد الطويل الذي ستستنير به الأمة يتوسيع معارفها و مداركها و ممارساتها المشتاقة؟. (9) صدقا نقول: لقد عزم الإمام الصغير علي تجهيز العمل الكبير و تنفيذ الوصية بكل ما تتستر به من بعد و عمق و الحاح. [ صفحه 120] لقد أدرك أنه فرد، و أنه طاقة محدودة لا يملك بحر العلم حتي يفجره في اللحظات المريدة... ولكنه سيبدأ بتسهيل السبل الي ارتياده من شطأنه تاركا للأجيال توسيع مجالاته و تنظيم مجانيه. صحيح أنه اعتبر ذاته طاقة فردية محدودة، ولكن ارادته و بنيته الفكرية، و الروحية، و الشبهية بجده الرسول، أبتا عليه الا و لوجا عميقا يطل به الي كل ما هو موكول اليه... و هكذا فانه لم يعالج فرعا من الفروع العلمية التي راح يفتش عن مدارجها، حتي يوسع بها ردهات الجامعة تحت سقوف المسجد، الا ونال منها رذاذا تجلي في طلعته - مع الأيام - مهابة ملونة بوقار تماسكت به امامته العليمة، و جعلته اطلالة من فوق منبر، تحلق، حوله أربعة آلاف من الطلاب المريدين العلم الصغير الذي سيصير كبيرا... إذا الأمة عرفت كيف تصنع الكثير من مثل هذه القوارير، و تخزن العطر فيها، فيطيب لها الغد الشهي، أو فنلقل: ذلك الغد الأكبر. علي مثل هذا النوع من الاستيعاب المشهي، تضافرت معارف امامنا الصغير، علي طول المدة التي مرت عليه في ظل الإمام الكبير زين‌العابدين، حتي إذا ما استدعاه أبوه لاستلام زمام الامامة - لأن الارادة المرقومة علي اللوح العريض هي الملباة بالرضوخ المؤمن - توجه امامنا المشدود بالعزم السديد الي سجادات أبيه المنقوشة بركبتيه المطهرتين، و بسط عليها كل ما جناه من علم و قصد يتم بهما تنفيذ وصية ترتفع بها سوية أمة لم يردها نبيها البصير الا كبيرة و جليلة و هادية. لقد بلغت معارفه - في كثير من الفروع العلمية التي توسعت بها ردهات المسجد في يثرب درجة تؤهله لأن يكون موسوعة... و لقد رأيناه - فعلا - مريدا و لجوجا في التقصي عن كل ما يزيده علما و فهما و اطلاعا، و هو في حوار لا يتعب مع الشيخ الوقور جابر، يستفهمه عن كل ما تلقنه [ صفحه 121] من رفقة النبي الكريم و العليم... و لقد نقل اليه الشيخ الغيور كل ملامح جده، و كل مقاصد الرسالة، و كل ما تتبطن به آيات النبوة التي فيها كل حق و كل خير و كل علم و كمال... و شرح له المقاصد و النهوج المقدمة لفلاح الأمة، مع كل ارتباطاتها بتاريخها القديم، و حاضرها الضائع عن حقيقة الفهم، و مستقبلها المحتاج الي علم ينور لها الدروب... و لقد لمح له عن معني الأمة، و معني الرسالة، و معني الامامة، و معني السياسات الجاهلة التي تغرق الأمة كلها في المزيد من النكد. و لقد مررنا بفصل سابق في هذا الكتاب عنوانه: خطوط عريضة - و كان لا بد من الاحاطة بها بعض الاحاطة في بسطة التعريف عن النبي العظيم و عن مقاصده القريبة و البعيدة في تقديم الرسالة مكفكفة بفيض من رموز و اشارات تجلي بها كل حرف من حروف آيات الكتاب... و كان لا بد من تعزيز أهمية البحوث بالتطرق الي تحليل و تعليل يقدمها المنطق حول النهوج المرسومة لصيانة رسالة لا بد من ترسيخها في النفوس حتي تصبح فاعلة... ان النهوج هي التي كانت محللة و معللة، و كانت بمجموعها متفرعة من القصعة الكبري التي هي الأمة، و التي هي بمعني الأمومة المحتاجة الي نظام امامي ممتن بالدرس و الفهم و المران المتزن بالرسالة، حتي إذا ما يمر جيلان أو ثلاثة علي الأكثر، تجد الأمة ذاتها في انضباط منتظر، لا تضيع عنه و لا تتعثر. انها ذاتها هذه البحوث التي تفرد بها الفصل المشار اليه في هذا الكتاب، قد آحرزها باكرا - في علمه و اطلاعه - امامنا المميز - و بشكل معمق و موسع... و انه لمن الحظ الميمون لهذا الكتاب أنه - بدوره - قد استوحي معانيها من سيرة الإمام بالذات، و هو جالس بين يدي الشيخ الأنصاري، يقرأ في عينيه حكايا جده الرسول ملفوفة بمطارف الالهام. [ صفحه 123] الباقر بعد أن سجد الإمام زين‌العابدين آخر سجدة فوق التراب - و غاب - تسلم الإمام الصغير قيادة السفينة. انه بحار أنيق عزيز السارية. وجه السفينة - وحده - في عرض. العباب ان المسجد في يثرب - و هو في العالم الاسلامي كله - أول محراب أصبح أول جامعة علمية باسم أهل البيت، فجر فيها كل طاقاته الموهوبة. امام عباب جلله بمها بات العلم. نبي المسلمين، و بشفتيه الطاهرتين هجأ حروف اسمه: الباقر [ صفحه 125]

سجادات الإمام

بالحقيقة - لم يصل الإمام الي استلام مسؤولياته الامامية و هو فرد عادي، ان نطاقه أوسع بكثير من ذلك، فهو ممثل أمة و موجه أجيال، و هو بشكل مميز - منتدب للقيام بدور ريادي حصره في دائرة جليلة لا يتمكن من ملئها الا الموهوبون الطليعيون. باكرا جدا باشر الإمام بلملمة طاقاته الذاتية، و سريعا ما أدرك ثقل ما هو منتدب اليه: انه - أولا - امام، بكل ما للامامة من معاني محصورة بها منذ الأساس. ولكن الامامة الآن، بعد أن مر عليها خمسة عهود، ابتداء بجده علي، و وصولا اليه بالتمام، هي بأمس الحاجة الي تدبر جديد، تلمس به حقيقتها المعهودة... صحيح أن جوهر الامامة ما تغير و لن يتغير: فهو غاية مرسومة لضبط أمور الأمة في عب الرسالة التي تضبط - بدورها - كل شؤون الأمة... ولكن أمور الأمة لا يتم ضبطها ما لم تتدخل الامامة بتخليص عين الأمة من غشاوات الغباء، و تلقينها فن القراءة... - (انه التدبر الجديد الذي حمله الشيخ جابر من فم الرسول الي حفيده الباقر، ليكون اماما مهتما بتعليم الأمة، حتي تحظي الامامة بخطوطها العريضة). [ صفحه 126] و انه - ثانيا - ممثل أمة و موجه أجيال... و ممثل الأمة هو ذاته الامتداد من مكفكف الأمة بالرسالة و آيات الكتاب، الي خطوط النخبة الموكول اليها الاصغاء الي تمتمات الحروف و قراءة الاشارات... أما موجه الأجيال، فهو المومأ اليه بسبابة النبي الرائية، بأن يوضح للأمة خطوطها العريضة، و ليس لها من الميسور - الا العلم يبتدي‌ء صغيرا، و لا يكبر الا بعد أن تلتهب - باحتوائه - خطوات السنين... انه للأمة - كبيرا فاعلا - كلما تقدمت به الأجيال، و استضاءت به المنجزات العريقة. - و هذا أيضا هو خط التدبر الجديد، و علي الامامة أن تحصر كل جهد الي تحقيق العلم و تركيز قواعده... فلا سياسة، و لا ادارة، و لا أي نهج يصيب مغانم الأمة، ما لم تتعلم الأمة الأمة قراءات صحيحة تقرأ فيها: عافيتها، و نموها، و كل الحقائق التي ترتفع بها الي سوية انسانية مرموقة. و حصر الإمام همه بالتجرد لمهمة نشر العلم، باقتناعه التام بأنه وحده الموصول الأمة - رويدا رويدا - الي سبلها المرقومة في سجل الهدي، و قاموس الحضارة... و ان الويل و الخيبات التي أصابتها في العهود المنصرمة، سبتقي هي اياها، و علي ازدياد، في ظل سياسات أمية و عتيقة، لا تعرف الأمة كيف ترفضها، و لا كيف تجلس من اعوجاجاتها، أكانت أموية - حربية - عفانية رقص بها يزيد منها، أم مروانية - حكمية - هشامية ستنتهي بعبد الملك بن مروان، بعد أن حقن شرايين الحجاج الثقفي بدماء مئة و عشرين ألف قتيل... أم ستكون - كما تبدو الاشارات - عباسية سيهول بفداحتها السفاح و منصور الدوانيقي... و انصب الإمام - بعد أن تسلم مقاليد الامامة - علي تحصينها و تزويدها بكل ما يضبطها في الخط الريادي، تاركا للسياسيين التقليديين خطوطهم البائسة، يتلاعبون بها علي هواهم، - مطمئنين - من دون أن [ صفحه 127] يكون من الإمام ألا تدخل ناعم و وقور، يرجوهم به أن لا يزينوا أحكامهم الا بالعدل الرسالي. علي مدي ما يقارب أربعة عقود، كانت ردهات المسجد في يثرب، تصغي - لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية - الي علم جديد اسمه علم الجغرافيا، نقب عنه الإمام الذي هو الآن باسم الباقر، لقد وجد له حملة أخذوا جزء منه في مصر مترجما عن الكتب السريانية، بواسطة الجغرافيا البطليموسية، و وجد أيضا من أخذ في مصرعن طريق الأقباط علوم الفيزياء و الفلسفة الاغريقية، و علم الهيئة، و علم الكيمياء؛ و لقد وسع أيضا فروع جامعته و مباحثها، مما جعل الوالي عمر بن عبد العزيز يقدر هذه الجهود الكبيرة التي يقوم بها الامام، و يقوم بتوسيع رقعة الجامعة في المسجد بحيث بلغت أربعين ألف ذراع. الامام وحده كان يقوم بتدريس و شرج لكل العلوم القديمة و الحديثة فأدخلها ردهات المسجد، بعد أن تعمق في قوانينها و مؤدياتها، و لم يفته. أن يدرس التاريخ، و الهندسة، و الحساب، و الطب و علوم الكيمياء التي سيطورها ابنه الإمام الصادق و سيقرع أبواب المعادلات فيها، مع تلميذه العظيم النابغة جابر بن حيان، علي أمل أن يتحقق الطموح و تنجح المحاولة برفع قيمة المعادن الرخيصة الي مصاف الذهب... ان القيمة العلمية تبقي - وحدها - أعز ما يحصل عليه العلماء في مجتمع الانسان، و هي الأبهي من لموع الذهب. نعود نقول جازمين: ان السجادات التي ورثها الإمام الباقر عن أبيه الإمام زين‌العابدين، هي التي استمرت تزدان بمعادلات الوقار... انها الآن تعكس مهابات العلم علي الوجه الذي أراده النبي سنيا. ان المسجد الذي توسعت ضلوعه، لم يبق مسجدا - فقط - بل أصبح - أيضا - جامعة علمية من الطراز الرفيع. [ صفحه 128]

جامعة في يثرب

كأني بالجزيرة العربية قد ولدت ولادة جديدة يوم انسحب الطريد الشريد من شعاب مكة تشد به الهجرة الي يثرب. و كأني بالرجل الثاني تتفتح أزاهير روحه و هو ينام في فراش الهارب في الليل حتي يغطي انسلاله في العتمة التي سينبلج منها نور آخر تستنير به يثرب و يخلد فيه اسمها كالشمس. عند انبثاق الفجر اكتشف المجرمون المتآمرون علي حياة النبي أن الطريدة هربت من بين أيديهم و اندغمت بعتمة الليل، أما البطل المغطي الانسحاب فهو العلي، و ما شأنهم معه، و علي كتفيه عباءة رثة، مرقوعة بعشر رقع؟. حمل العلي فواطمه الثلاث و امتطي الصبح و لج به المسير. علي أبواب يثرب تم الالتقاء الكبير، و اندمج القوم بأهلهم من بني النجار، و احتك سلك بسلك، كأن للنور سلكين - إذا يتلامسان - ينبلج الضياء... و هكذا شاء الله أن يحتك نور الوافدين الي يثرب بمعدن الصفاء الهاجع فيها... منذ هذا الحين انغمرت يثرب بالنور و اكتسبت اسم «المدينة المنورة». أسخي ما تنورت به يثرب كان في التحام حروف الآيات فوق أرضها المطهرة. هكذا انطلق الأنصار منها حاملين نورا و هداية، في حقيقة [ صفحه 129] المؤازرة التي اندفقت تحرر الجزيرة كلها من الكسل الرابض في قواعد أصنامها المتربعة في كل زاوية من زوايا كعبتها المتحجرة بالرمز اليابس.. انطلاقا من يثرب تمت حركة الدورة الحياتية - الفكرية - الروحية التي اغتسلت بها كل الجزيرة العربية و التي ستغتسل بها أمم في الأرض، علمتها الرسالة كيف تعلي مئذنة الصلاة و الحمد فوق كل مسجد شبيه بأول مسجد شبعت جدرانه من الصدي المائج من فم الرسول في يثرب. لقد كان المسجد في يثرب أول جامعة جمعت الناس، لا لتعلمهم - فقط - كيف يسجدون، و كيف يصلون، بل كيف يأكلون - أيضا - و كيف يشربون، و كيف ينامون، و كيف يسيرون، و كيف يفكرون، و كيف ينهجون... ان في القرآن و في آياته المسموعة، كل علم، و كل حق، و كل خير، و كل غاية... فليأخذوا منه ما يستنيرون به، و ليستزيدوا قدر ما يتمكنون و قدر ما يحتاجون... ان في الرموز المطوية فيه آيات أخري مخبآت، تستحث العقل حتي يغوص خلف ما يتخبأ في المبهمات. ان تشغيل العقل بكل ما فيه من طاقات في بنية الانسان، هو من جملة المقاصد البعيدة المنثورة في حبكة القرآن. تلك هي حصة يثرب من الطريد الوافد اليها، حاملا معه هدية لها من ثقلين بنت بهما أول مسجد تنورت به أرضها، و أول مئذنة ترفعت بها سماؤها، و أول جامعة توسعت فيها مداركها... يا للأساس المدرج علي الأمتنين المتلاصقين في وحدة المنهج. الكتاب - بكل ما فيه من حق و نور و علم - هو الأمتن الأول، أما الأمتن الثاني - و المشتق منه كما يشتق الشعاع من دائرة القرص - فهو طاقة انسانية معبرة عن حقيقة الجوهر، تطيبت اسلاكها بطبيعة المصدر، فاندمجت به لأنها منه في واقع الانبعاث. ان أهل البيت هم الثقل الثاني في التصاق الجذر بنواة صاعدة منه، [ صفحه 130] واصلة ما اختبأ منها تحت التراب، بما نما منها فوق التراب... لقد كان علي تلك النواة الانسانية النابتة من هجعة النور في أسلاك الطوية... ألحت عليه عين النبي، و انسكبت فيه كما ينسكب الفن في مسطرة المهندسين، لضبط الخطوط في استقامة السطور الطويلة. علي هو المسطرة المرقمة بالاستقامات السديدة و الهاجعة بين كل حرف و حرف من الحروف المزروعة في حقول الكتاب. علي المسطرة هذه يكون الجهد في ربط المساحات بنوعية المسافات... أما الحقيقة المتوخاة فهي التي ستجدها الأمة في غدها الآتي و قد بناها الحق، و العلم، و حقيقة الرشد، و ألمعية الصواب. ما خبأ النبي عليا مكانه في الفراش حتي تتم له النجاة، بل حتي تتم للرسالة و الأمة سبل الحياة. لا لعمري، فان في القصة الطريفة لبا تتلقط به نباهة الذات: فانغلال علي في فراش الرسول، معناه اندماج تجسيدي تظهيري لقيمتين جليلتين وحدتهما حركة الروح و انطباعات الحفيظة. ألم يقل النبي بعينيه و شفتيه: علي مني و أنا منه، فمن أحبه فقد أحبني... الهم وال من والاه و عاد من عاداه... انه النهج النابت من عبقرية الفن، لالقاء الرسالة النابعة من جهود الروح و عمق المعاناة، بين يدي قيادي أصيل مقتدر علي تحمل التبعات. لقد وجد النبي الحريص علي كل حرف من حروف كتابه، أن عليا هو الطاقة الأرجح في كفة الميزان، و عليه - وحده - ترتيب قاعدة الهرم حق تبلغ الأمة غدها الكبير، و تنال حظوتها فوق الأرض بين عنقود الأمم. علي هو الأساس المطلق، و لن يكون أحد غيره رأس الزاوية، لأنه الفاهم الأول المستجيب، و الممرن الأندر المستطيب، و لن تكون القيادة الفاعلة الا من مثل هذا الجوهر الأصيل... و الا... فان الأمة تنام نومة أهل الكهف حتي يمن عليها الدهر - بعد طول التجارب و زحمة المعاناة - [ صفحه 131] بطاقة أخري يكون للأمة فيها المثيل. و بقي العلي في الخط الجانبي - بعد أن أغمض النبي عينه عن الخط الأمامي و خسر نداؤه رجاء التلبية - و بقيت يثرب في قاعدة التركيز، تصغي الي صوت المعين في صدر الامامة التي ركزها - قبل أن يغفو - عقل النبي. و بقيت يثرب - أيضا - مدينة منورة، و توسعت بوابة المسجد فيها حتي أضحي المسجد - مع الوقت - جامعة تغص بالطلاب. لقد تولاها الإمام علي في بعض الفترات الهادئة... و غذاها قليلا الإمام الحسن عندما انسحب من الكوفة و هو تعب يطلب النقهة... و صمتت بها الأيام مع الإمام الحسين الذي راح ينقش الدرب - بدمه - بين مكة و مخيمات كربلاء... أعار الجامعة هذه - كثيرا من الاهتمام - الإمام زين‌العابدين بعدما حجب حزنه في قلبه علي أبيه الحسين. ان الإمام الصغير محمد الباقر، هو المتربع الآن فوق الحصير، بين يدي أبيه لامام، ينهل الدروس نهلا شهيا... انه الشبيه بجده الرسول، ورنة صوت الصحابي اليثربي جابر بن عبدالله لاتني تدغدغ مسارب أذنيه بصدي الوصية الجليلة. لا شك أن شوق جده الرسول يدعوه لأن يأخذ العلم من هذه الواحة التي يتعهد أفانينها الآن أبوه الإمام الطاهر السجاد، و يفجره بين يدي الأمة المحتاجة الي العلم المفسر و المدخر، و هو الذي ستذوب من فرط بهائه كل العتمات. [ صفحه 135]

عهد الباقر

دراسة

اشاره

من الاصابة تناول عهد الباقر بنوع من شبه دراسة تتناول الامامة منذ البداية حتي الوصول اليه:

نظرة عامة

انه خامس عهد من عهود الامامة المشتقة - لغة - من الأم التي هي - بالضبط - الأمة بمعناها الوسيع. لقد سبق لنا في هذا الكتاب ان تتطرقنا الي تلميحات وافية عن هذه المواضيع الكبيرة التي استقطبت كل اهتمامات النبي الكريم، مما حداه الي التبكير في تنسيق القوالب الصائنة مسيرات الأمة في خطوطها الصاعدة الي كل تحقيق يضمن لها المستقبل الزاهر. لقد كانت الرسالة أولي البواكير المستنزلة من سموات الوحي مصبوبة في بوتقات قوالب، أما الامامة فهي المشتقة من ضلوع الحنين الهاجع في لب الرسالة، ليكون زفرة منها تعالج به كل لمسة يهددها بها ذيل عقربي. انها الأمة - في استغراقات النبي و استلهامات الرسالة - لولاها لما انطلي غار حرائها بأضواء فضائها، و لما انسكبت في حروف الكتاب آيات سمائها. فلتكن الامامة غلاف الرسالة، تصون الأمة في كل خطوة من خطواتها، و توصلها الي المحجات الأمينة المليئة بالقسط و العدل، و نلك هي الهداية تزين مجتمعات الانسان، و تلك هي أهداف الرسالة تملأ الأرض بالنزاهات الجنان. [ صفحه 136] سيكون الإمام علي أول عنقود في عريشة الكرمة المرزومة باثنتي عشرة دالية حاليات القطوف، كل دالية تأخذ من ربضات الجذور مساقها الي رواق طيب الشمس، و عفيف الظل، حتي إذا ما انقضي - مستتبا - عهد الامامة، من جيل الي جيل، تكون الأمة كلها في المجالات المرسخة بالمران الموزون بالعلم الوسيع المزين بالايمان، و آيات الشمائل. تلك هي الامامة في مداها المتنامي، ربط النبي بها أمته رباط الاحتراز، طرفه الأول مشدود بآيات الرسالة واسمه علي، و طرفه الأخير محرر من زوغات العقد و اسمه المهدي، و هو وصول الأمة المفترض الي تكامل اجتماعي متين الثقافة، لا يبقي محتاجا الي من ينهاه عن ارتكاب المنكر، فمرور اثني عشر عهدا ممرسا في الحق، و العلم، و الصدق العفيف، قمين بأن يجعل الأمة المثقفة تعيش المعروف و تجهل ما هو المنكر. أنا لا أحب أن أقول: لقد خيبت الأمة احتراز النبي، و لم تلبه رأسا في تنفيذ احترازه... فالأمة كلها قد احتضنت نبيها و اعتنقته في امتصاص الرسالة. لقد رأيناها - جموعا جموعا - تمشي وراءه في عيد الغدير المعروف بحجة الوداع، و ان لم يكن لها - في تلك اللحظة - ألا تفهم سليفي بري‌ء تنادي به بأعلي صوتها: الله أكبر، الله أكبر... أجل، لم تخيب الأمة نبيها المشغوفة به... و خيبته الفئة القليلة التي لم ترد أن تفلت من يدها مقاليد الحكم، و أساليب ربط القبائل بخيطان الزعامات... فليكن لها أن تري كل اشارات النبي الي عليه المميز، وليكن لها أيضا أن تسمعه يقول: (و ان تولوا عليكم عليا - و لا أراكم فاعلين - تجدوه هاديا مهديا، يأخذ بكم الي الصراط المستقيم) - فانها ستتجاهل، و هي تضمر في سرها: وليكن للامارة شيخها الصديق و لتكتف - بعلي و باثني عشريتها - تلك الامامة. [ صفحه 137] تلك حقائق بينات لا يني يسردها التاريخ، يتعلق بها المنطق... أما احتراز النبي الباقي للأمة كلها في حقيقة التسجيل: بأنها لن تدرك شأوا، حتي ولو عاشت عشرات الحقب، ما لم يأخذها العلم الوسيع الي مجالاته الوثيقة، و في ذلك الحين، فقط - يصل بها الوعي المتكامل الي الصراط المستقيم. لم يصل خط الامامة الي استلام الولاية و لا في أي وقت من الأوقات المرسومة، حتي يمهد للأمة مجالات الوعي المتنامي بها الي الرقي المنشود... و بقي كل امام مختبئا في خليته الرمزية، تسانده الرعية مساندة مجزوءة، ضمنت له عند القيمين علي الحكم احتراما تفاوتت مقاديره. أما الفئة القليلة فهي بعض المحترفين السياسيين المتزعمين المأخوذين بجمع المغانم، انهم هم ذواتهم في كراسي السيادة، لا يعلمون الأمة الا التمادي بالخضوع، و التلاشي بالخنوع. لقد اعتصم كل امام من الأئمة الأربعة الذين سبقوا امامنا الباقر، في خلية مقهورة... لقد كانت عهود الثلاثة الأولين بشكل - خاص - كأنها عهد واحد: عهد استشارات، و محاولات، علهم يتمكنون من رأب الصدع، و تحويل الصراع من جادة الي جادة، من جادة الزعامة القبلية العتيقة، و هي المستميتة في سبيل الحصول علي المغانم، عن طريق الوصول الي كرسي الحكم الذهبي اللون، و الشهي الاغراءات، الي جادة الرسالة القويمة بالحق و الهدايات، و التي هي - وحدها - قد حققت أمة، و هي تستردها رويدا رويدا من غياهب الثرثرات... انه صراع أليم و مميت بين القديم و الجديد، القديم الهائج بعنعناته الزعامية، و جهالاته الأمية، و الجديد الرسالي، بطروحاته الفكرية الروحية، [ صفحه 138] و قراءاته التي لم يرد أن يفسر حرفا من حروفها ذلك الحاكم المتزعم المعمي بغباوة التقليد... ان الأمة بدورها - و هي التي ترزح تحت وطأة الصراع - لم تتعلم بعد كيف تتركب حروف القراءة ... عندما تلتحم تحت عينيها مسلسلات الحروف، تخرج من شفتيها - كلمة بعد كلمة - جملة تتألف منها قولة الحق في تحويل الصراع الي الجادة التي يكون - فيها - حق، و خير، و نبل، و صراط مستقيم.

مع الإمام علي

لقد حاول الإمام علي أن يعلم الأمة - و هي التي لم يفته مطلقا أنها مركز الثقل، و أن لها - وحدها - أن تتحكم بتوجيهات الصراع - بعض قراءات عامة لا بد لأي مجتمع من مجتمعات الانسان من أن يحيط ببعض معانيها و مراميها. و هكذا راح يشرح: ما هو الحق، و العدل، و الخير، و النبل، و كلها - للمجتمع المشتاق - ضلوع الصراط المستقيم. ولكن العلم - في حقيقة الفهم - هو ممارسات تطبيقية عملية، أكثر مما هو شروحات كلامية - نظرية، و انه لا يؤخذ في المجتمع الوسيع الا من مجال الي مجال، و تلك هي عين النبي العليم، تربط فهم الرسالة بخط امامي يمتد باثني عشريته الي ما ينوف عن ثلاثة أجيال، تنال الأمة - من مداها - رسوخا ثقافيا تعيشه الأمة بعد أن يصير دما من دمها، و روحا من روحها، و عصبا من أعصابها القاطعة بها كل الدروب. لم يتمكن الإمام علي - و هو ركن الامامة - من تطبيق ما هو أصيل من مبادئه العبقرية، الا تطبيقا قصيرا، ما كاد يلمح، حتي انغرزت في خاصرته نصلة مسمومة، حقن بها الصراع جولة للباطل، كسرت زجاجة المصباح. [ صفحه 139]

مع الإمام الحسن

أتراها كانت المحاولة الثانية - يقوم بها الإمام الحسن - أقل من أمثولة لم يتمكن من شرحها، أكثر مما تمكن من تطبيقها أمام عين الأمة و واقعها الذي لم يفهم بعد ما هي القراءة، و لا ما هي روعة التطبيق... لقد حاول الإمام الحسن شرح ما اقتنع به خط الامامة: بأن الأمة التي تشقها الخلافات القبلية، و الزعامات الصنمية، و التهرجات الوثنية... تهدر دمها في عتمة الجهل، و تعمي عينها بعجاج الغبار، و تفقد وزنها في كفة التحقيق، بينما الوعي يجمعها الي وحدتها النامية بمعادلات الانتاج. ولكن الإمام لم يتمكن من اسماع شروحاته، لأن الصراع الذي ولدته الأنانيات الجاهلية، قد حطم - من أمامه - البوق، و شوه المذياع، فعمد الي التطبيق الحي، فتوقف عن القتال الي السلم، و كان بمكنته أن يحرك القبائل، و أن لا يقطع حبل الفتائل... و كانت الأمة - بدورها - غير مؤهلة لقراءة ما كتبه الحسن في صفحة السلم الذي يحقن دمها من هدره في فراغ لا ينتج حبا، و لا ينمي زرعا، بل يولد حقدا يتسلح به المتزعمون لبسط سلطانهم علي العباد.

مع الإمام الحسين

أما الإمام الثالث... فيا شوق الأجيال الأبية الي دمه الثمين... تتمششه، لتستخرج منه طعم الاباء في جعب النبل، و نوع الرفض في حقائب العنفوان... انه الحسين، مشي الحجاز كله بقدميه لحافيتين، و أوصاله المقهورة ... مشي الامامة كلها فوق أرض الجزيرة، مشي اليمن، مشي [ صفحه 140] يثرب، مشي مكة، مشي غار حراء، مشي خطوط النار في دائرة الربع الخالي، حيث خاط قمصانه المشوية بلهيب السطوع، مشي الخطوط كلها في تمدد الصحراء بين مكة تصلي ركوعها بين يدي من خشع الكعبة و رفع قبابها الي مآذن السماء، و بين الكوفة تعطش كربلاؤها، و لا تريد أن تشرب الا إذا جاءها الفرات - من تلقاء ذاته - تخشعا اليها حتي تطيبه مناهل الكوثر... لو سبق للأمة أن تعلمت القراءات في جامعاتها المفتوحة منذ ثلاثة عهود لكان لها - مع الحسين - أن تفهم ما يشرح لها عن معني المشي فوق كل الدروب التي مشاها الإمام الحسين - انه يشرح لها أن الدروب كلها في سبل الحياة، لا يدرك طولها و لا عرضها، و لا و عورتها، الا المشاة المعانون و طأة المشقات، و انهم هم الذين يمارسونها، و يذللون و عوراتها ، و يؤهلون جوانبها بأظلال مفيئة، و أنفاس تطيبها الرياحين. ان المشاة أنفسهم يحققون الخير، و الحق، و النبل، بعد أن يمشوا الي مواردها، و يتعلموا القراءات، و المقارنات بين ما يحقر الذات الانسانية، و بين ما يعززها بالكرامات، بين ما يحققها مجتمعا قويا - بانتاجه - و ما يفرطها الي ضعف، و مذلة، و هوان... ان العلم - وحده - يكون من حصة المشاة، بفضل الممارسات، و هو الذي علم الحسين رفض الجور و الظلم، و التعسف بمقدرات الأمة، من أجل تعليمها - بنوع من القدوة الرافضة - ان العنفوان هو حقيقة الانسان، في مجتمع الانسان، فاذا عمت المجتمع معاييره التقية، تواري من تلقاء ذاته الثعلب المرتاغ، و تحلت بلون الشمس عناقيد الكرمة المدلاة علي جذوع العرائش... و ما أطيب الحسين شهيدا يجسد القدوات حتي يمرع الجني، و تثمر المواعيد التي تنتظرها الأمة التي لا تموت منها الأمنيات، و لا الرغبات، و لا الانتظارات، و لا احترازات النبوة. [ صفحه 141]

مع الإمام زين‌العابدين

أما الإمام علي بن الحسين فان الأمة كلها بما امتد منها الي الكوفة و مخيمات كربلاء، لم تعرف كيف تمت صياغة اسمه بمعادلات عجيبة و لطيفة، حولت فيه حزن النفس من غبار كربلائي عجنته الهمجية بلعاب الكواسر، الي دموع حفارة في عمق اللواعج، فاندفق الألم - من الأغوار السنية - مزاهر مزاهر، توشي الأرض بالصلوات البكر، فان الخشوع الوسيع هو الذي يصفي الانسان من مخالبه، و أظافره، و يدغمه عطرا بسموات. انه زين‌العابدين، ما احتوته يثرب حتي امتصته أدعية يزينها التقي بفهم، و علم، و بعد، فكري و روحي... انه أدب محبوك كما تحبك السجاجيد التي كانت تنام عليها في ايران أمه الأميرة شاهزنان قبل أن يتعرف اليها الإمام الحسين، و يقدم لها سجادة أخري هي سجادة الاسلام. ولكن الهارب من شام يزيد منحورا بكل كراماته، ما التجأ الي خليته اليثربية حتي ينام في مخبأ... انما جاء يصوغ أدبا علي وزن أدب جده في نهج‌البلاغة، و راح يدور به في يثرب، يعلم الناس كيف يتخلصون من رجس النفس، و يعشقون الحق موصولا بسماء. لقد راح ينقل نفسه الي كل يثرب، و يشرحها ورعا، و يطبقها قولا و نهجا. لقد كان الإمام زين‌العابدين مدرسة نقالة، ساعة في ردهات بيته العتيق، و ساعتين في بستانه الناهض بالنخيل، و أكثر من عشر ساعات في المسجد، و في رفقته في أغلب الأحيان - فتي تنام في عينيه دموع حمر، ولكن شيئا آخر، تحت جعادة شعره الأشعث، ما كان يريد أن يسفكها الا إذا نقعت غليلا، أوشفت عليلا... فعلا - لقد قصد الإمام زين‌العابدين تعليم كل يثرب الصلاة [ صفحه 142] الرائعة، و بنوع خاص، فن الصلاة في مقاصدها البيعدة... ولكن الواقع - أيضا - فليوصف: فيثرب بالذات - و هي بين يديه - لم يتمرس بالقراءة فيها الا قليل قليل من مثل جابرالأنصاري، أما الأغلبية كلها فسجايا جميلة تعشش فيها البراءات، و هي تلمس حيطان المسجد - للتبرك - من دون أن تعرف كيف تكتب اسمه، أو تدرك كنهه. أربعة هم الموصولون حتي الآن بخط الامامة المحجوزة، انهم احتراز النبي العظيم في بناء الأمة و استمرارية نشوئها من ساعة الصفر الي الساعة المنتظرة، ولكن الأربعة جميعهم و ان كانوا من صفوة النخبة فان الأمة لم تعرفهم الا بأسمائهم المسموعة، لا برموزهم المقروءة، لأن مدرسة واحدة لم تشأ في يثرب، و لا في غير يثرب، اللهم الا المسجد الذي سيوسعه الباقر... لقد بناه اليثربيون ببراءاتهم المعهودة، و نعمت البراءات لو تم لها التعهد المرسوم... ولكن التعهد لم يحصل، لأن القراءة لم تحصل. ثم أي واحد من الأربعة المنخوبين لادارة الأمة، و تعهدها علي المجال الطويل لم يحجز في خلية ملغية و منسية، ثم تمكنوا من شطبه بلعقة سم. لقد كانت المعركة الكربلائية عاشوراء الحسين، و بدلا من أن يخطفه السم، خطفته الهمجية...

عقدة الحكم

هل هي بسيطة عقدة الحكم في أمة لم تتعلم - بعد القراءة؟ انه هذيان الأمة في واقعها ذاك، يسير بها من محطة الي محطة، تتألف منها - بالنتيجة - مجموعات الكوارث... لقد ابتهجت الأمة بأن الله - بعد لأي عسير - قد من عليها بالكتاب، و عندما قدم لها - من خط بيده آيات الكتاب - لائحة باثني عشر نقيبا [ صفحه 143] يعلمونها قراءة الحروف و تخليصها من المبهمات، قال له من يحسبون أنفسهم الأولياء: - قدك قسطا في كتاب... فنحن لها - قراءات الحروف - و فك الرموز، و حل المعميات... انهم لها أولئك الزعماء الأميون، لا يتركون بقعة، حتي في الدهناء - الا و يزرعون فيها مدرسة تعلم القراءة، و جامعة توضح القراءات، و كلية تخطط لتنشيط الزراعات و الصناعات، و الاختراعات، و ربط الأمة بأفرادها الأولياء... لماذا لم يدرك الزعماء أن الأمة وحدة اجتماعية نامية بمجهودها الانساني، و أن الصدق و الحق، و العدل، و تحقيق الانتاج، هي معاولها في السمو المنشود؛ و أن الثقافات - وحدها - هي في حقيقة التحضير!! ألم يدع الزعماء هؤلاء، بأن لهم اتقان القراءات؟ فلماذا لم يقرأ - أي واحد منهم - هذه الحقائق منشورة في كل صفحة، لا بل في كل آية من آيات الكتاب؟. ثم - لماذا أخذوا الكتاب؟ و لا يبدو أنهم فتحوه... بل فتحوه و ما قرأوه... أيكون ذلك منهم حتي يقال فيهم: انهم الملهمون، لأن كتابا عظيما يحملون؟. أظنها خلف ظهورهم هذه الزريعة... و الا لما حطموا أنيات المائدة، و قد قدمها لهم الرسول في اثني عشر مسندا تثري بها فخامة الدار... وحده جاء الحكم في سياسات القبائل، يستدر لعاب الزعماء في زعاماتهم لجاهلية، و لن يعرفوا كيف يثقفون الأمة، لأنهم غير مثقفين!!! أما الأمة، فمهما يكن قسطها من درجات الثقافة، تبق بحاجة ملحة الي [ صفحه 144] حاكم مثقف و صادق، يدير شؤونها في كل المعارج: قسط، و عدل الي صراط مستقيم. أما الثقافة فهي أبدا مطلب أساسي، يشمل الأمة من خلال ثقافة الفرد، فتتوزع المواهب، و تتهذب مزايا، و تتوسع المعارف. لم يكن في العصيان الا هذيان و روغان... و لو أن الاذعان قدتم كما رسمه الذهن الصافي، و وشته البصيرة الرائية، لكان للأمة نمو، و هدايات، و أضواء، و أبجديات، و كثير واضح من القراءات.

و الباقر

لقد جاء دوره في استطلاع الوتائر و تدبير المصائر، و تحويل الليل من غسق تموت فيه الأحلام الي اشارة من ضوء يعقبها فجر جديد، و معالجات جديدة، تتغير بها الأوضاع الراهنة و التي هي استمرار الرواسب، و قتل المواهب، و نشر الذعر في الأبدان و الأرواح... - ألا أن الأمة تستدعيني يا جدي الرسول، فأنت المزروع في طوايانا كما هو الفجر مزروع في أسارير الظلمات، و لن يكون للفجر الا تلويح بالظهور - كما لن يكون لايحاءاتك في ضمائرنا الا تفسير ملبي... لقد سميتني - بلسان جابر - باسم الباقر - سأكون الباقر المفجر العلم يا جدي، سأكون بين يديك: - نجي الرسول - [ صفحه 145]

نجي الرسول

اشاره

انها فرص سعيدة تلك التي توافرت لإمامنا الصغير يربو في حضن أبيه زين‌العابدين، و هاتف يقرع أذنيه كأنه ناقوس من ذهب الجنة، يحرك أوتار روحه، و عزائم لبه، و هو يردد في خلده: - العلم العلم يا حفيد جدك الرسول خذه الي صنجك، و فجره - يا نجي الفجر - علي الأمة تفجيرا. فالأمة و الامامة صنوان في المعني الكبير: طحين راكد ما لم يلتهب بأشواق الخمير. إنها فرصة سنحت - لا شك - سربلته بالباقر... و قد تكون أيضا بنت معاناة لا تزال حوملة في وجدانه، منذ كان عمره أربع سنين عندما ثقب - بسبابة كفه - بلاس المخيم في كربلاء، و شاهد بعينه المقروحة جده الحسين يعجن الرمل بدمه المفجور!!. و تعززت الفرصة و اندمجت بايمانه عندما تم له احتكاك خاشع باهر، بشيخه الهاجع في ضميره كما يهجع الفجر خلف القمم الكبيرة... ان الشيخ جابر بن عبدالله الأنصاري، و هو شمعة هادئة النور، لملمت فتيلتها من رفقة النبي و هو يغزل للجزيرة قمصانا جديدة. لقد اقتنع الإمام و هو برفقة الشيخ جابر، بأن العلم طاقات غزيرة، لا يمكن أن يستوعبه الفرد الا لماما، و هو الي نمو، و تطور، و اتساع، عن [ صفحه 146] طريق الاختزان، و التمرس، و المران: فالحاضر يتسع بقرعات الأمس، و كذلك الغد بما احتواه اليوم، ولكنه - ما لم يرتفع موجا - ينطفي‌ء زبدا، و تيبس دونه سجدة الشطآن. و لشد ما أدرك أن أمته، و هي أمة أبيه و أجداده الي أجيال عديدة قبل جده الرسول، هي التي تعاني هبوطا فاضحا في حرارات العلم، و ليس لها الا تقاليد قبلية بالية، يستصرخها الزعماء التقليديون الي عنجهيات رثة تثبتهم في دسوت الحكم، و أبواق السياسة... أما الرسالة - و هي الأطروحة الثمينة التي هبطت لتنقذ، و تبدل، و تطور - فانها، و ان قبلت: آية، و تسليما، و دينا، قد جمدت في قوالبها، و استدعيت الي السير في ركاب القافلة التي هي: شيخ، و زعيم، و قبيلة... لا نبوة، و رسالة، و امامة... أما النبوة، فان السماء قد وهجتها، فليترك لها وهج السماء - أما التوصية بأهل البيت، فلهم يعود قبولها أو رفضها، و لن يكون ذلك قبل أن يغمض الرسول عن الأرض جفنا، و وقتذاك فلا شي‌ء يضيره... أما الامامة، فما عساها تكون عين الاحتياط في احتكارها الي مدي الترسيخ، و جعلها في عب علي سنادا و ثيرا؟ أليس التجاهل أغنم منها؟. سبب واحد لا أكثر وجده الإمام الباقر خلف عصيان القوم نبيهم، و خلف تماديهم في أساليب الجفاء أو فلنقل: في أفانين العداء... لقد قسموا الأمة كلها الي خطين متنافسين علي امتلاك الأرض و امتلاك الهواء. فالأرض و السماء هما لبني حرب، و ليستا لبني أبي العلاء... فلينقرض بنو طالب و ينتهي العناء... أما السبب الواحد الذي أحاط الأمة كلها بهذا البلاء، فهو في غيبة العلم عن الساحة العامة، و في جهل القراءات التي هي سياسات فهيمة و حكيمة و تقية، تعرف الحرف، و الرقم، و ضبط الحساب، و تعرف الفيزيا، [ صفحه 147] و الكيميا، و الهندسة، و كل المعادلات، و تعرف الزراعات، و الصناعات، و التجارات، و ما هي الأرباح، و ما هي الخسارات، و ما هي البحور، و ما هي الشطآن، و ما هي الأفلاك، و ما هي الأرض، و ما هي السموات، و ما هي الأمم، و من هو الانسان، و ما هي العلوم، و ما هي الثقافات... العلم وحده يكون في حقيقة المعرفة، و حقيقة التحليل، و التعليل، و المقارانات: بين ما هو حق يبني المجتمع، و ما هو شر يفتته - و عندئذ تدرك الأمة أن النبي جاءها من علاء ليبنيها أمة راشدة و هادية، و أن العلم المرسخ في لبدة الأجيال هو الذي ينيرها و ينميها في رحاب الرشد، و في أحضان الهداية. و انما المجتمع ترسيخ، و نمو، و ظل ثقافات. أليست هكذا نظرة النبي الي تركيز الأمة في حضن الرسالة و احاطتها بزنار الامامة. إنها بدهيات و حتميات، أحاط بها الإمام بعد أن كشفت له أن الطالبيين و علي رأسهم الإمام علي، خسروا جولاتهم الامامية التي رسمها الرسول، و ذاقوا الموت و التنكيل، و لن يكون تشبث الخط - من بعدهم - برسالة الامامية، الا ملاقيا ما هو بانتظاره من أنواع التعذيب و التنكيل... أما أن تعرف الأمة أنهم من أجلها يعانون و يبذلون الروح و لا يبالون... فتلك أطروحة انموذجية قام بتسجيلها جده الحسين، و هي بانتظار من يشرحها حقا، و يظهرها انتصارا لقضية الأمة المفتشة عن الاباء: يرفض الذل، و يعشق العدل، و يثبت القسط بين الناس، و يقدس الحريات... و تلك نغمات ثرية، لن يحفرها في التسجيل الا التثقف الذي رسم الوصول اليه جده الرسول في تنسيقه خط الامامة. كل ذلك ألم به الإمام و هو في استقراءاته مع الشيخ جابر، و مع أبيه الإمام الساجد، و مع نفسه الغارقة في بحور التأمل... لقد دله الغوص الي كل ماهية من الماهيات، وسع بها معارفه تحضيرا لاستلام المهمات. فالامامة التي فرضها جده الرسول، انما هي - بحد ذاتها - علم، و اطلاع، و احاطة، و فوق ذلك فانها واصلة اليه الآن بلون جديد فيه الكثير من [ صفحه 148] الاستحثاث علي نشر العلم، و تكثيف الجهود، تعويضا عما يناهز قرنا من السنين، خسرت به الأمة جولة تحضيرية كان علي أئمة أربعة أن يرفعوا بها ثقافاتها الي سوية مرموقة توضح بها خطوط الصواب. لقد فهم الإمام أن التعويض علي الأمة لا بد منه فهي أبدا في الانتظار. و أدرك أيضا أن ثمانية من الأئمة لا يزالون في حقول الانتظار. سيكون لهم ثمانية عهود طويلة سيملأونها بالجهود النفيسة علي مدي قد يمتد الي ثلاثة أجيال، و ربما - إذا طاب الجو - الي أربعة، و هي مسافة كافية لترسيخ العلوم و حفر الثقافات التي توصل الأمة الي الصواب المرتجي - و الهدي المنتظر. و هكذا راح أيضا يحسب الامام: لقد رشحني جدي الرسول - و أنا لمحة من وحيه - لأن أبقر العلم و أنيله الأمة حتي تستنير به و تجمعه لها رصيد هداية... و هل يكون لي ألا أفعل؟ فأنا رأس ثمانية تنتظرهم الأمة في سلسلة الوعد. فان لم نهرع - منذ الآن - الي تلبية ذكية، فاننا جميعنا المهدورن... و بالتالي... فان الأمة هي المهدورة. الي أن يتم لها و لنا هذا الرهان. [ صفحه 149]

الرهان

اشاره

لم يتم وضوح لأي تصميم من التصاميم التي كان يعتزم علي اتخاذها أي امام من الأئمة السابقين، كما تم للتصميم الذي اعتمده امامنا الباقر - ان الواقع الراهن، بظروفه و عوامله الراهنة، قد ألم بها و احتواها بذكاء و فير، و هي التي وضحت له الخط، و سددت له العزم، و قومت له الدرب لا تمام الوصول. فلنشر قليلا و باقتضاب الي هذا الواقع الراهن، في عوامله الراهنة: من حيث هي محرضات تمكن من درسها، و استيعابها، و استدراجها للوصول الي هدف جليل.

واقع الرسالة

عشر سنوات كانت كافية لاقتبال الرسالة دينا شمل الجزيرة كلها و مسحها بمساحة الاسلام. و في عيد الغدير الذي تمت فيه حجة الوداع، كانت الأمة كلها بين يدي الرسول تسجد خاضعة و هي تنادي: الله أكبر، الله أكبر، لبيك لبيك يا نبي المسلمين... و عندما أغمض نبي المسلمين عينيه في مدينة يثرب صمتت شفاه التلبية ضمن جدران السقيفة... لماذا؟.

واقع الأمة

إنها ذاتها الأمة التي أنجبت نبيها و تقبلت رسالته دينا... انها عظيمة [ صفحه 150] في سليقتها البريئة، و لو لم تكن بريئة و عظيمة لما أنجبت نبيا. لأن لها من الشوق ما أكسبها قرآنا... و لأن لها من المغنم ما خشعها اسلاما... ولكن... ما بالها - بعد ست و ثمانين سنة من هجرة الرسول، يدخل المصلون المسجد في الشام و يصلون القرآن بين يدي من يدعي أنه خليفة النبي و هو يصلي القرآن صلاة مقلوبة: إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد... لماذا لم ترفض الأمة المصلية رجلا يمثلها و هو يرفض دينها؟.

واقع الامامة

و الامامة؟ و هي ترتيب و تخطيط لعدة أجيال قادمة بعودها المرتقبة و المركزة علي نمو ذهني - فكري روحي، تحققه العلوم و الثقافات، بالتدرجات الحضارية، يتعهدها أئمة منتدبون، و مدربون برسالة النبي الذي هو روح الأمة، و شوقها الهاجع فيها منذ مئات الحقب، و هو الذي التمع فيه الوحي، و انبجست من بين شفتيه حروف الرسالة - و لم يفصلها - بتاتا عن توضيب الامامة توضيبا تعهديا لضبط شؤون الأمة القاصرة و الوارثة كل مهانات الأمس، و الغائبة بين طيات جاهلية؟. لقد رتب النبي الكريم جدارا من وقاية و دراية، و حصنه بركن متين و حريز و لم يكن له اسم غير علي، و منذ زمن طويل و هو يشدد اليه الوصاية، و يوجه اليه أصبع الاشارة... أما الزعماء و النقباء البارزون، فانهم أهملوا الوصاية، و تجاهلوا الاشارة، و موهوا علي الأمة كلها بأنهم هم أركان الأمس، و أركان الغد، و أركان الادارة... و لم يحصل الاذعان، و حصل العصيان، فلماذا؟. [ صفحه 151]

واقع السياسة

ان السياسة فن يتناول الأمة في جميع شؤونها المادية و الروحية علي السواء، ليكون لها انضباط، و نمو، و تطور... ولكن الجزيرة لم تتقن هذا الفن، و بقيت كل معالجاتها السياسية قبلية بدائية، لا تعرف كيف تهتم بقضية الفرد و انمائه اجتماعيا، حتي جاءتها الرسالة تبشرها بالحق، و العدل، و المساواة، و اعتبار الفرد قيمة انسانية - اجتماعية، لا يتميز عن غيره الا بنسبة ما تطيبه التقوي. هكذا انضبطت السياسة، و توحدت الأحكام، و اتخذت توجيهها الاجتماعي العادل، تحت ريادة من سن لها كل الشرائع، و تعهدها بكل المقومات النابعة من حاجات الأمة و مصالحها بالذات. و لم ينس هذا المشترع العظيم أن يشمل الغد باهتمامات بعيدة النظر، تجعله مستمرا في التحقيق المتصاعد بالأمة الي كل حيز حضاري مرموق. لقد انضبط الغد بخط من حكم موجه، يضمن استقرار الأمة و استمراريتها في النشوء المنضبط علي الصراط المستقيم، و لقد ثبت الامامة علي ركن كعلي، و كانت الوجبة المثالية التي سيتلقفها الغد، و يبذلها علي الأمة صوابا و هداية. ان كل ما كان مبنيا علي جهد النبي، و مرويا بعرق النبي، و مرئيا ببعد نظر النبي، تناولته سقيفة بني ساعدة و مرغته بالهذيان، و رمته في زواريب يثرب، كأنه خيال حلم به النبي و هو يغفو تحت سقف آخر، تجمع فيه كل أهل البيت. لقد حصل كل هذا... فلماذا؟. [ صفحه 152]

واقع أهل البيت

انه الواقع الجليل - جللتهم به الرفقة الحميمة، و القرابة الملتهبة باللواعج المطهرة بالحب، و الصدق، و الحدب الكبير... يا للروابط المتينة، تجمعها الأرض في قوالب الطين، و تسكب فيها السماء أثيرا من ملكوت، فاذا الوجود كله انسان يحلم بالنعمي التي تطير به الي جنان. و أهل البيت - بيت النبي - هم الذين ظللهم - و النبي - سقف واحد، ما اندمجت جذوعه الا بشوق واحد مضمخ بطهر أطيب من فتيت المسك - انهم أربعة جمعهم النبي في حوضه، و محضهم حبا يعيشون به و لا يموتون. لقد دل اليهم بأنهم المطهرون من كل رجس، و أن الأمة كلها بمثل هذا الطهر فلتبن بيوتها، و اعمارها، و أجيالها... و ان لم تفعل فالرجس يعميها. و اغمض النبي عينيه تاركا أهل بيته - من بعده - وعدا للأمة، و ذكرا، و ذخرا... ولكن السقيفة التي راحت تسهر ليلا حزينا علي غياب النبي، صاغت قرارها قبل أن تغيب نجمة الصبح: - لن نسمح لأحد من أهل البيت بالوصول الي كرسي زعامة: لن يتشهي طالبي كرسي زعامة قبل أن نسقيه نقطة سم: أما الخلافة فهي لنا ... حتي ولو كنا رجسين... أما الامامة - حتي ولو كانوا مطهرين - فلتبق لهم مقهورين: فليكتفوا بالامامة... علي أن يبقوا صامتين: انه تهديد صاغته و نفذته السقيفة... أما الأمة فقد ألهيت بالقبلية... أما الامامة فلم ينجها - لا القهر و لا الصمت - و بقي السم يندس في ماء شرابها... و بعد مئة سنة لا نزال نسأل: لماذا هذا الواقع الراهن لا يتبدل و لا يتغير؟. [ صفحه 153] من هذا الاستعراض الذي تم الجواب عليه مشروحا شرحا كافيا في متن هذا الكتاب، بني امامنا الباقر تصميمه الحازم و هو يقول: - أية قيمة للرسالة، أبو بالأحري، للإمامة؟ و اثنتاهما في عملية واحدة في التساند، و التكامل، من أجل الوصول الي الأمة و رفع مستواها المادي و الروحي علي السواء؟. أي شي‌ء هي الرسالة، ان لم تكن هي ذاتها الأمة، و قد خلعت قميصها البالي و استبدلته بالجديد النظيف؟. أن يحاول الهرمون استبقاءها في رثاثتها المعهودة فتلك - لعمري - رثاثة أخري يأباها منطق الحياة و جوهرها النامي بحقيقة الانسان. ان الأمة - في نظرة الرسالة - هي الخلية الكبري لكل مجتمع من مجتمعات الانسان، و هي البوتقة الصالحة في مداها الموسع بالتفاعلات الانسانية النابضة بحقائق الوجود، لانماء المواهب، و المدارك، و الحقائق، و كلها هبات عقلية - ذهنية - روحية، تلون حضارات الانسان، و تزينها بصفات خلقية مبرورة، تخشع المجتمع كله في حضرة اله الخلق، و تجعله مبدعا في كل ما ينتج، و عفيفا في كل ما يشتاق اليه، و مؤمنا بكل ما هو حق، و عدل، و صفاء... الأمة الأمة، تقول الرسالة بكل ما فيها من حق وحدب، و رجاء... علموها - ثقفوها - وسعوها بالفهم - حتي تكون لكم حصنا و مجنا... و الا فانها قطعة رثة من قميص عتيق، تهلهلها ريح جاهلية، و تشويها هبات السموم... أي شي‌ء نترجي من الواقع الراهن - يتابع هجسه الإمام الباقر - طالما أن الامامة لم تتمكن من سد الثغرات المميتة، و طالما لا يزال القميص [ صفحه 154] الرث علي عري الأمة، تزيد من رثاثته فئة التقليديين المستنقعين في بؤرة جاهلية... ستبقي الرسالة هكذا محجوزة ضمن الغلاف. و ستستمر الأمة هاجعة أسيرة عريها في زوايا الكهوف. أما القبائل المشرورة كلها من مكة الي سائر الحرات و الأحقاف، فليس لها الا أن تتابع اجترار السلاسل في أقدامها المطلية بالرماد... تبقي الامامة - و قميصها عفاف طالبي - و ازارها رسالة نبوية، و مطلبها شوق علوي - بانتظار أن تنتصر لها الأمة و تنجيها من التهديد المبيد... ولكن الأمة لن تأتي الي النصرة المرجوة... و أولا و اخرا هي المرجوة - ما لم تستعن الامامة المعزولة إلي زوايا الصمت، بعزم وحيد لا مناص من اعتماده، و هو تزويد الأمة بعلم، وسيع، مجرد، يثقفها رويدا رويدا، و هو الذي سيرسخها في ادراك ما ينجيها من العبوديات، و هو الذي سينميها انسانا واعيا: ما هو الحق فيهيم به، و ما هو الخير فيشتد اليه، و ما هو الصواب فيعانقه ارتياضا، و ما هو الشر فيرفضه امتعاضا... علي كل ذلك كان رهان الامام، و ما علينا الا أن نراه نهاجا كبيرا ينشر علما، و يوسع جامعة. [ صفحه 155]

النهج

لم يكن نهج الإمام الا مركزا تركيزا متينا علي اقتناعه الصامد بأن العلم - وحده - هو الذي يسير بالأمة الي مراتب التقدم و الفلاح. و كان الإمام يعرف تمام المعرفة، أن العلم لن يقوم بهذه المعجزات الا عندما يستحيل - في المجتمع - ثقافة حية، و يقينا فاعلا، و بحبوحة من حق، و خير، و معروف، انه - ساعتئذ - تلك الطاقة العقلية - الذهنية - النفسية - الروحية التي حلم جده الرسول بايصال أمته إلي اغتمار بها، لتكون أمة هادية لكل أمم الأرض. سيكون نهج الإمام محصورا في مواردها و مصادرها، و هكذا سيكون التجرد للعلم من دون أن يهتم بأي غرض سواه، اقتناعا منه، بأن لكل غرض من أغراض الحياة اختصاصا معينا يقوم به حتي يوفيه حقه من الاتقان، و اقتناعا منه - أيضا - بأن مطلق غرض من الأغراض، لن يصيبه حظ سعيد إلا إذا نقحه العلم، و زينه بالفهم الصحيح. سيكون للعلم أن يفهمنا: لماذا نأكل، و لماذا نشرب، و لماذا نمشي فوق الدروب - و ان يعلمنا كيف نزرع، و كيف نجني مواسمنا، و متي علينا أن نخزنها في اهراءات - و هو الذي يعلمنا كيف نصنع الاهراءات - أما الكراسي التي يجلس فوق متونها الحاكمون، فالعلم ذاته هو الذي يرشدهم الي تنجيدها بزهر البيلسان، و أن لا يسقيها الا عصير الحق، و العدل، و ذوب التقي، و زلال من كوثر الجنان. [ صفحه 156] سيشرح العلم للأمة و للحاكمين: أن الضمير في الانسان و علي الأخص في طوايا الحاكمين، هو العنصر الكمين فيه، و هو النجي النجي، لا ينعشه و يحييه، و يبهيه الا الحق المعصور في لب الانسان، و التقي المسكوب في عبه، و الزلال المصفي في رقعة الوجدان. هكذا هو النهج في أنماط الامام، تزين به صريحا أمام الأمة حتي تشاهده - يوما بعد يوم - يقدم لها ما يثقفها فتنجلي به: عقلا، و حسا، و عينا، و أذنا... و اختال به نزيها - تحت عين الحاكم المتولي، حتي يراه رابضا فوق منبر جامعي، يعالج العلوم كلها، و يوضحها بالشرح، و بحقيقة التجرد، فيرتاح باله بأن السياسة باقية له - وحده - لا يشاركه بها، لا المزاحم، و لا المتجني، بل المتمني علي الريح السماوية أن تنسل، مع خطوات الدهر - نسمة نسمة - الي الأذهان، فتزهو العقول، و تسلم الأبدان، و تستقيم الأمة علي ميزان يرجحها: ثقافة، و نظارة، و نقاء وجدان. من هنا يكون ابتعاد الإمام عن حقول السياسة، و عن الالتجاء الي محاولات معددة الأشكال، و منوعة الأحجام، للوصول الي ملاقطها، دليلا قاطعا علي مجافاتها و قلة احترامها، باعتبارها - مع المتلقطين بها - غير صالحة لادارة أمة واعية و مستوعبة كل مصالحها... فالحكم فن من الفنون العالية، ركيزته الحب، و الفهم، و الحدب علي الأمة من خلال الاطلاع، و الاختصاص، و الممارسات الحكيمة، هذا ما لم يتصف به مطلق زعيم ادعي أنه خليفة نبي المسلمين. أما الاطلاع، و الاختصاص، فهما الطاقتان الهزيلاتان في دوائر الأمة، هزالا بائسا، و لن يجعلهما حلقتين متينتين في سلسلة الحكم القابض علي مقدرات أمة، الا العلم الموزع المعرفة علي المطلعين، [ صفحه 157] و المتخصصين، و المتمرسين في معالجات القضايا المتعلقة بصميم المجتمع الانساني العظيم. هكذا يتضح نهج الإمام و هو يقرر جازما: إذا كان العلم الوسيع هو المقرر بناء الأمة، عبر بناء كل فرد من أفرادها الذين هم خيطانها، و حبالها، و أوتادها... و عبر بناء كل حاكم من حكامها الذين هم المدبرون، و السائسون، و الموجهون المستنيرون و الصادقون... أليس من الضرورة الماسة و القاطعة، أن يتجرد لخدمة العلم، و تركيزه، و توسيعه، و الإلمام به: أولياء متخصصون، ينقطعون اليه، و يتنسكون في محرابه، و يفتحون له الأبواب، و كل الأشرعة، لأنه الطاقة العظيمة و الوحيدة التي تطوق العقل بأسلاك النور، و ترفعه الي مهابات سماوية؟. أليست الأمة العظيمة، في مجتمعها الانساني العظيم، هي الدائرة العظيمة التي لا يبني لها الأبراج العالية الا العلم الرفيع؟. انه تقرير النهج: بأن الإمام الباقر هو المتخلي عن كل شي‌ء من متاع الدنيا، و هو المنضوي الي مسجد جده الرسول، و هو الموسع مدارجه السنية في يثرب، و هو الذي جعلها مدارج جامعة. [ صفحه 158]

الجامعة

منذ أن بني المسجد في يثرب و هو جامعة لأهل البت، يفتحون أبوابه لجميع المصلين بين يدي نبيهم الرسول، و مثلما كان جامعة للصلاة، كان أيضا زوايا وردهات لأخذ الدروس، و الشروحات و الأحاديث، و الاستفسارات، أكان ذلك علي عهد الرسول أم فيما بعد مع الإمام علي، و الإمام الحسن، و الإمام الحسين. لقد كان المسجد في المبتدأ مقاما للصلاة، ثم خليطا من عدة أجنحة: للدروس البسيطة، أو للتبسطات الفلسفية، أو للاستفسارات الفقهية، أو للتداول في الشؤون الفكرية و السياسية، الي ما هنالك من مستلزمات حياتية - تربوية بدأ اليثربيون يشعرون أنهم بحاجة اليها. ولكن الأئمة الثلاثة الأولين ما توفرت لهم الهنيهات المستقرة حتي يركزوا ردهات المسجد علي الخطط الموزونة و المرسومة، فكثيرا ما ألهي الإمام علي عن سكب طاقاته العلمية و الفكرية و النهجية في صدور طلابه المريدين الذين كانوا ينتظرونه في ردهات المسجد. يكفيه من اهدار طاقاته الفكرية و الروحية و الجسدية، و حجبها عن زوايا المسجد: يوم الجمل و أيام النهروان. أو السفسطات و المماحكات التي حبلت بها مومياء صفين... ألا يكفيه ابعاد عن خطوطه الامامية البعيدة الرؤية الي مسافات الغد انسحابه الي الكوفة لاستجماع قواه المبعثرة بين يثرب يخنقها زفير [ صفحه 159] الصمت، و مكة يعود اليها لهاث من صدر هبل... و هكذا، رويدا رويدا، طاله ابن‌ملجم بظبة مسموفة... و كذلك جاء القاصدون تمويه الخطوط فلفلفوا الإمام الحسن بخيانة قائد جيشه عبيدالله بن العباس، فعكف الإمام علي الصمت، و لم يلجأ الي عسكرة القبائل صونا لمقدرات الأمة من الانهيار بهدر الدم، و رجع الي يثرب يفتح في مسجدها غرفة يدرس فيها فلسفته المقهورة... و قبل أن يلمع في الغرفة تلك نقش جامعي، تسربت الي كوبه نقطة سم يبسته علي فراشه في زاوية البيت... الحسين وحده ما أراد أن يدخل المسجد الا دخول الفاتحين، و هكذا لم يطق أن يقدم دروسه ضمن غرف لها جدران، بل في العراء العريض راح يلقيها حتي يتلقفها الوسيعان: المكان و الزمان، و حتي يكون الرفض الذي هو العنفوان، مادة اكسيرية تتلقح بها كل الفروع العلمية، بما فيها الكيميا أم المعادلات، و لب السر في جميع التحويلات، و التطويرات، و التخميرات. لقد كان لاستشهاد الحسين فعله التخميري في نفس الإمام علي بن الحسين: تناوله حزنا عنيفا، راح يفيض علي كل شعاب روحه ، ثم تحول - بقوة ذلك الاكسير - الي مدي آخر من صلوات بكر يزدان بها الرضوان بأدب يزهي النفس بانتاج نهجي يعلم الصبر علي المكاره و هو يرذلها في دوائر الحاكمين تصنفهم كواسر من أبالسة مرذولين. هنالك شي‌ء له قيمة الترجيح، أظنه قد عجل في أحداث التحويلات النفسية التي تحلي بها الإمام علي بن الحسين، و هي احتكاكه بابنه محمد الباقر، و بالانصاري جابر ابن عبدالله، و هما يرجوانه - بحرارة - أن يذيب حزنه علي أبيه الحسين في دائرة الاهتمام بأمر الرعية، فيكون له - من ذلك - مرضاة الله في خضوع لمشيئته، و تلبية ماسة للقيام بمهام [ صفحه 160] الامامة... ان هذا الرجاء المزدوج نجده واردا في بعض صفحات من هذا الكتاب، و هو الذي لباه الامام، وراح ينشي‌ء أدب الأدعية التي وصفته بزين‌العابدين - ان في بسمته أيضا - غلالة من حزن لا تزال موصوفة. ولكن بريقا آخر كان يسوح في عينيه - من بعد الي بعد - كلما حوله صوب ابنه محمد، و هو جالس القرفصاء - علي الحصير - بين طلاب راحوا يملأون قاعة الدرس في المسجد المرحب بالامام العائد - و لو من كربلاء - حتي يوسع بالعلم النفيس جميع ردهاته. لم يبلغ الفتي محمد الباقر السابعة عشرة من عمره - كما أتوقع - حتي اتسعت في المسجد زاوية أخري من زواياه المقدسة، راح الفتي يمسحها بعلم الحساب و علم الجغرافية البطليموسية، و بشي‌ء من علوم الفيزيا، و الميكانيك، و بشذرات عجيبة من علوم الكيميا... تاركا لأبيه الإمام التبسط بالفلسفة، و الحديث، و الفقه، و نباهة التفسير. لقد أدرك - مليا - الإمام زين‌العابدين، أن العلوم هي نفحة سنية من نفحات الرسول، أوحي الي حفيده بأن يفجرها علي الأمة المحرومة من عطاياها، بعد أن جردوها من جدواها بتعطيل فعل الامامة التي شدها الرسول - خصيصا لافاضتها علي الأمة نورا و هداية. علي مدي عقدين تقريبا، أضحي المسجد أوسع من معهد تدريسي عادي، لقد راح يغص بالطلاب الوافدين من مكة، و واسط، و اليمن، و الكوفة، و كل الحجاز، لقد زاره في الفترة الأخيرة وال من الولاة الموصوفين بالعلم و التقوي، اسمه عمر بن عبدالعزيز، فأدهشه ما رآه في المسجد من علم، و تخصص، و تجرد، و تفان عفيف، فأمر بتوسيع مدارجه، بحيث أضحت رقعة أرضه تنوف عن أربعين ألف ذراع. لقد نال الصدق، و الاخلاص، و وضوح الرؤيا، جائزة وسعت المسجد من معهد عادي الي جامعة... و هكذا أغمض الإمام زين‌العابدين عينن قريرتين و هو يترك الجامعة في عهدة من ركزها تركيزا علميا صادق التوجيه باسم أهل البيت. [ صفحه 161] و علي مدي عقدين تلوا غياب الإمام زين‌العابدين، و الإمام يسخو علي الجامعة يتفتيشه الدؤوب و المخلص عن كل مادة علمية يعرفها العصر: كالطب، و الهندسة، و التاريخ، و رصد النجوم، و التعدين، و كشف المساحات... فإنها كلها أصبحت في خزائن الجامعة ، يدرسها - أولا - ثم يشرحها هو بذاته لطلابه المريدين و المتشوقين. كيف اتفق - يقول السؤال المتحرج - للعهد الذي لم ينج. من اثم وال اسمه يزيد، أن ينجو من سلسلة ولاة ما طاب منهم لا اثنان علي مدي يقارب الأربعين سنة، و هما معاوية بن يزيد يرفض الحكم موروثا عن أبيه الخليع... و عمر بن عبدالعزيز، ليس له من جدوده المروانيين، لا خيط باطل كمروان بن الحكم، و لا خلاعة تفرد بها يزيد بن عبدالملك، شارب الطلي، و شارب الدماء، و مولي الحجاج علي جماجم العباد... بل تفرد بصنج من ذهب، نقش عليه صلاة تقية، و سيرة ذكية، عرفت الحق، و نادت بالصواب... أما الباقون فحلقات من المروانيين، ما حكموا، بل ظلموا، و فحشوا، و انتهوا ببخيل أحوال، هو هشام بن عبدالملك... بديهي أن يكون الجواب علي السؤال المتحرج مشروحا بهذا الشكل: ان العهد مع الإمام زين‌العابدين هو المتكامل بعهد الابن الإمام الباقر، و هو العهد الواحد الذي طالت اقامته في يثرب، و توضحت معالمه ورؤاه في جامعة المسجد. لم يكن له الا ترسيخ العلم من مأرب - لأنه هو الذي يرسخ ثقافة الأمة، و يوضح لها الخطوط الرشيدة، و عندئذ فالحاكم النبيل هو الذي يغطي الساحة لأن الأمة تكون قد أصبحت تعرف كيف ترفضه ان لم يكن نبيلا. لقد تبني العهد المتلملم علي ذاته قضية بناء الأمة بقوتها الذاتية المتدرجة اليها من محصلاتها الثقافية، ولن يكون لها ذلك بين مساء [ صفحه 162] و صباح، بل هو ابتداء من لحظة الصدق و امتداد - مع التوافر الحي - الي قبضة من عقود السنين... و هكذا فلينم الحاكمون قريري العيون فوق كراسيهم، لأن العهد لا يطمع بحكم لم تنله بعد هاتيك الثقافة... لقد قدم العهد ضمانة للحاكمين - في عدة مناسبات متتالية - تقول لهم: ليس للعهد مطمع بحكم يحضره الحقد و أخذ الثأر بصفوف قبلية، و هذا ما كان لون واقعة الحرة في يثرب، و لون انتفاضة التوابين في البصرة و الكوفة، و حتي لون الثورة التي توسعت و انتصرت بقيادة المختار الثقفي... فانها كلها - بلا استثناء - لم يخطط لها الإمام زين‌العابدين و لم يتصل بها بتاتا ذلك الرائي الآخر المؤسس فروع العلم في المسجد، لأن العلم لم يخطط لها وعيا مثقفا يشمل الأمة و يعبر عن رفضها حكما يجزي‌ء الأمة قبليات قبليات، و لا يوحدها فهما و وعيا، و تقريرا مصيريا يعتز بها الغد المنور. صحيح ان ذلك كان شكلا من تقية قام بها العهد لتحاشي تعدي الحاكمين، ولكنه - بالقوت ذاته - لم يكن كرمي لعيونهم المعمية بمجد كاذب، ينيلهم الثراء طافحا في الغباء... فلينالوا الآن ثراءهم، و ليبق لهم - إذا أرادوا - فيض الغباء، علي أمل أن يتركوا للعهد فسحة التركيز في جامعة المسجد، و غدا، أو بعد غد يشرق يوم آخر علي الأمة، تأخذ منه نضجا في قدورها فتفرقة طعاما علي الحاكمين، تتثقف بها سياساتهم، و تنجلي عيونهم من الغباء الذي تثيره أقدام الجهل مع أقدام القبلية. جل ما كان يتمناه الإمام الباقر اطالة عمر الجامعة حتي يمتن التركيز و تتوضح الاشارات اليها، فيكثر طلابها و يكونون نقلة علم، و حملة أقلام، و أساتذة مدارس و جامعات تحتاجهم الأمة موزعين فوق رحابها. جليل أن تنشأ جامعة في يثرب، ولكن الأجل الأجل، أن تتعانق المدارس و الجامعات في كل مدن الأمة، و فوق كل مجالاتها المترقبة يقظة [ صفحه 163] الفكر، و حركة العمران، و تلك هي الانتصارات الزاحفة نحو فذوذية التحقيق في مؤاده العلمي - الثقافي المرتجي. ان العلم الصغير و العلم الكبير هما في جناحيهما المتلازمين في عملية نقل الفرد الي عمارة الأمة، و نقل الأمة الي القيمة الرفيعة المدافعة عن سلامة الفرد في اعتباره حجرا كبيرا في قلعة سورها. لم يكن الإمام الباقر متخوفا من يد الحكم تعرقل مسعاه، فاحترازه من الحكم قد بناه علي طمأنته بأن السياسة ليست مطلقا من مبتغاه، و هذا هو الذي كان يرضي الحكم في ذلك الحين فيغل يده عن الأذية. ثم ان الإمام الباقر كان يري أن الحاكم في ذلك الوقت بالذات، لم يكن له أن يتلهي بفتح الثغرات - لا سيما و ان الجو مشحون بالنقمة عليه - يكفيه ما يدور في الخفاء من استعدادات انتفاضية انقلابية، يحضرها في الجانب القبلي الآخر، بنو العباس... ولكن الإمام الباقر كان يري أيضا - بحدسه المصيب و علمه الموزون - أن الفئتين المالئتين ساحات الأمة، سيكون لهما من التحفظ و الترقب ما يجعلهما الي وقت طويل - رهناء انتظار الساعة الملائمة لتحقيق الغلبة... الي أن يتم ذلك يكون له - هو الإمام - تركيز آخر، تنطلق به الجامعة الي تحقيق هي الأمة بحاجة اليه في ابتعاد الفئتين المتعاديتين عن المسعي السليم. أما بنو العباس، فان الإمام يتمني لو يصدقون إذا تيسر لهم الحكم، و تسلموا مقاليده، و أن يعودوا الي الاذعان و يطيعوا رغبات الرسول في تمكين خط الامامة من الاطلاع بمهماته المرسومة - لكانت الأمة هي الواصلة سريعا الي تعميم العلم، و اعتباره - كالنور و الهواء - هبة من الله لعباده، و حاجة كالماء و الطعام - لقيام الحياة بأود أبنائها. ولكن الإمام كان خفيف التفاؤل بهم لأنهم لا يسعون الي الحكم الا [ صفحه 164] بخط قبلي تقليدي عتيق، لا بنهج رسالي واضح المعالم و بارز الخطوط... انهم يدجلون - علي ما يبدو - و يموهون، ولن يكون الدجالون من الصادقين. هذا هو الجواب الكامل علي السؤال المتحرج... ولكن الإمام لم يسلم من نقطة سم، وجهتها التهمة الي هشام بن عبدالملك... بعد أن فجر العلم، علي مدي ثمانية و خمسين عاما تاركا للأمة و لابنه الإمام جعفر الصادق تابعة العمل الكبير الذي لم تشهد الأمة تصميما مثله منذ ذلك الوقت الي مثل هذا الحين. سيبقي الإمام الباقر فذا في تفجيره العلوم، و احاطة مثلي بمؤديات لا تقوم بغيرها نهضة من نهضات الأمم. [ صفحه 165]

الاحاطة

سيكون لنا وقوف بالغ الاحترام، يخشعنا في حضرة الإمام معبئا كل مواهبه باحاطة علمية و فكرية و روحية منوعة المواد، و مرجحة الأوزان، و كلها طاقات مجهدة، لا يتناول الفرد طاقة واحدة منها الا و يجهده بها و لها التفرغ و الاختصاص. أما امامنا الكبير فقد تناولها مرزومة في باقة واحدة - باسم العلم - و راح يستجليها طاقة طاقة، و يستدرجها لغزا لغزا، بالدرس و التنقيب، حتي إذا ما استسلمت اليه الواحدة تلو الأخري، هب الي تلاميذه يشرحها لهم: بشفتيه، و عينيه، و بنانات كفيه العفيفتين. هكذا تناول مادة الحساب، و الهندسة، و الاقتصاد، و مادة الفيزياء، و الكيميا، و مطالع النجوم، و علم الجغرافيا، و التاريخ، و دوران الأفلاك، و بناء الأجسام، و الطبابة، و المداوة - و الي معالجة الفكر و الروح بالفلسفة، و ما يفترع منها من علم فقه، و علم حديث، و علم أصول و اجتهاد. علي كل هذه العلوم و هذه الأبحاث، بني و وسع جامعته في يثرب، مجهدا نفسه - وحده - بالدرس و الشرح و التلقين، مع الساعات الأولي للفجر، و مع تراسلات أشعة البدر ما زال مهلا و مضيئا، علي مدار خمسين سنة من عمره القصير. لقد ناف عدد تلاميذه علي أربعة آلاف من المتخصصين البارزين في علم الفقه، و علم الحديث، و علم الأصول، شأن أبان بن تغلب، وزرارة [ صفحه 166] بن أعين، و محمد بن مسلم... مع التنويه الكبير بما أحرزته الجامعة من تأسيس متين في علم الكيميا، أم المعادلات العجيبة، مما تفرد به في حقل الاختصاص، ابنه الإمام جعفر الصادق مع تلميذه النابغة جابر بن حيان الذي عكف عل اجهاد المعادلات علها تستجيب و تتوصل الي إلهاب المعادن الرخيصة، و تحولها الي لمعان ذهبي يخطف الأبصار. هكذا عرف العلماء في الغرب قيمة مدرسة الإمام الصادق الموروثة عن أبيه الإمام الباقر، و قدموا دراسة وافية عنه، و وصفوا الجامعة في يثرب بأنها نشاط باقري عز نظيره في تلك الأيام الخالية من النشاطات العلمية الراجحة التحقيق، لقد ترجم الي العربية هذا الكتاب النفيس بشهادته للإمام الصادق و أبيه الإمام الباقر، الدكتور نور الدين آل علي، و فيه توضيح واف لما أقول. إن جهود الإمام الباقر - كما يبدو و بوضوح - قد جعلته ملما بكل مادة علمية أخذها علي عاتقه بالدرس و الاحاطة، ثم بالشرح و التعليم و لقد أكسبته احاطة بها، كأنه المتفرغ و المتخصص في كل واحدة منها علي انفراد. ولكن هذه الاحاطة - بدورها - لم تكن غرضا يشبعه، و يكتفي به، اذ يصل اليه، بل انه كان يسعي اليه كوسيلة قائمة بذاتها، تبتدي‌ء الآن به، كما كان مخططا أن تبتدي‌ء بجده الإمام علي، ثم عندما يصل الدور إليه - تمر عليه فتتكامل استئنافا لمؤداها، الي أن تناولها - من بعده - بذات المفعول و بذات الايمان، من تصل اليه لمتابعة الخط الامامي الذي عينه جده الرسول، و نوره بالمهدي المنتظر. كل احاطة علمية فردية - مهما تبلغ دائرة تحصيلها الذاتي من عمق و اتساع - تبق حسيرة مخنوقة، ما لم يتسع بها الشمول الي المدي الجماعي، و هي تتكيف به اندماجا تفاعليا مستغرقا في حقيقة الذات، و في [ صفحه 167] حقيقة التعبير عن متطلبات تلح بها حاجات الحياة في المجتمع الانساني... و العلم ذاته هو حاجة اجتماعية يفرض تحقيقها المجتمع ذاته، في استدعاء الفرد للقيام بها و تحريكها فاعلة ملبية. و لن تفعل ان لم تشمل الكثرة الساحقة في تأليفها الندوة الاجتماعية الناشطة، و عندئذ فالعلم هو المجتمع المحقق ذاته بذاته، بتحريض ناتج من ارداته المشتاقة، و هو - ساعتئذ - تلبية صادقة تتحول تلقائيا الي تدرج ثقافي يتمرس به المجتمع، و هو يرتب أود معاشه في محيطه المتلازم به شأنا مصيريا - أنانيا - انمائيا، يتميز بعز و رفاهية تعين قدرها تلك الثقافة الناتجة من التضافر العلمي، و من مقدار تمكن المجتمع من تعميمه و تنشيطه فاعلا فعله المتكامل. و لا يفعل العلم فعله المتكامل الا في المجتمع المندمج به اندماجا، عضويا، و هكذا هو - في المجتمع - من بيئته، و حاجاته، و مناخاته، و جميع شؤونه الفكرية، و الروحية، و الحياتية: فهو فلسفته، و أدبه، و سياسته، و جغرافيته، و زراعاته، و صناعاته، و تجاراته، و نهجه في التصرف... و كلها الي تطوير، و تصويب، و تعديل، و تنسيق، و تثقيف، و بالتالي الي تنمية انسانية و حضارية ترتفع به من سوية الي سوية أخري، لا تحققها الا الثقافات الصحيحة، و المثاليات المرتفعة بقيمة الانسان. و العلم الصحيح المركز علي حاجات الانسان في مجتمعه القائم به، هو التماس صادق التعبير، و الا فهو عنجهية فردية تنتج غرورا في النفس متقزما في ادعائه، و لا ينتج - أبدا - ثقافة مرجوة. و ليست الثقافات - في مطلق الحال - أقل من انتاج جماعي، يتهذب به الفرد الذي يستدعيه المجتمع الواعي الي دوائره المحصنة... سيكون المجتمع بناء الفرد، و سيكون الفرد - أبدا - هو المستدعي الي انشاء القلعة التي تمتن به، و بها يعتز. [ صفحه 168] ذلك كله هو مبتغي الإمام الباقر، في انباثقه من أشواق جده الرسول، و من واقع الأمة التي تستدعيه - بكل ما هو واقع راهن فيها - الي انتفاضات هادئة ورصينة، تمشي كما يمشي النور الي بري الظلمات، من دون تعثر بالوعورات التي هي حفر في الدروب يغطيها الهشيم. العلم الكامل وحده - هو الطاقة الفاعلة في احداث الانتفاضات الهادئة و المنتصرة علي البؤس، و الظلم، و الفقر، و الجهل، و السياسات الهمجية... و العلم المتكامل هو المتمادي في نضجه التخميري الكامن في معادلاته الثقافية، و هي التي تتناول المجتمع في تهذيب خلاياه، و تنظيفه من هشيم الريب. هنا محط آمال الإمام الباقر: ابتداء مصمم علي تركيز العلم، و نشره، و تعميمه... لأن الأمة هي بحاجة الي منشورا، و معمما، و فاعلا فيها فعل الخمير. فاذا صحت الآمال، و استقامت لها الأشواق في التنفيذ المرجي، و حسب الخطط المرسومة، فالأمة هي علي الدرب الأمين، تنظفه - رويدا رويدا - ثقافاتها من تراكمات الهشيم. أما إذا تعكرت السماء و ادلهمت بها أعاصير... فان علي الشاطي‌ء ما هو مغروز كعمود منارة، يشير الي جامعة لا يتمكن من محوها الدهر... انها في يثرب تذكر الأمة: بأنها لن تنال من الفلاح شأوا، ما لم تنشر في كل رحب من رحابها جامعة تغص بالعلم و الطلاب. الامام الباقر هو الضوء الكبير المنثور فوق السارية. و هو عميد الجامعة و انه القدوة... و انه نجي الرسول...

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.