جعفر ايها الصديق: روايه

اشارة

سرشناسه : سيد، كمال، 1336-

عنوان و نام پديدآور : جعفر ايها الصديق: روايه/ كمال السيد

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاريان، 1422ق. = 1380.

مشخصات ظاهري : ص 160

شابك : 964-438-313-3

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ سوم: 1424ق. = 2004م. = 1382

يادداشت : چاپ چهارم: 1426ق. = 2006م. =1385

موضوع : جعفربن محمد(ع)، امام ششم، 80- 148ق.

رده بندي كنگره : BP45/س 9ج 7

رده بندي ديويي : 297/9553

شماره كتابشناسي ملي : م 80-16987

في البدء

إنها المرة الاولي ان اقدم مخطوطة عمل الي صديق قبل تقديمها الي الطبع و قد دفعني الي ذلك هاجسان: خشيتي من ان هذا الاثر لن يلقي اهتماما من القراء، فقد اكتنف الغموض كثيرا من جوانبه؛ اضافة الي محاولتي في اختبار الرواية لدي اقرب المقربين الي نفسي والذي أبثه - عندما تسنح فرص اللقاء - همومي و ما يموج في صدري. و هكذا وجدت نفسي اقدم المخطوطة اليه، و بالطبع لم اعرف بعد ذلك ماذا حصل، فقد غاب عني اسابيع ثم فاجأني و معه لفافة اوراق، قدمها صامتا ومضي كعادته في الغروب عندما يبدو حزينا دونما سبب واضح. [ صفحه 6] قلبت الصفحات و استغرقت في القراءة فاذا بي اجده يغوص في عمق الرواية ليستخرج منها الغموض كما يستخرج الغواص لآلئه من قاع المحيط، و وجدت في تلك الاوراق المتناثرة دراسة ربما فاقت في اهميتها الرواية، ذلك انها رسمت بوضوح معالم تاريخية عجزت الرواية عن تصويرها. و عندما التقيته ابديت له حماسي في نشر ما كتبه فقابل ذلك بفتور واصر اصرارا عجيبا في الا اكتب اسمه ابدا. ثم تساهل قليلا فوافق علي ان ارمز لاسمه فقط، و ها أنذا اقدم بكل اعتزاز هذه الرواية داعيا القراء الكرام الي مطالعة ما كتبه

«A. H» لهم من وراء حجاب. كمال السيد [ صفحه 7]

مقدمة

كانت المياه تتدافع ببطء بدا النهر من شرفة القصر ثعباناً يتلوي بكسل. الصمت يهيمن فوق المكان ما خلا طنين ذبابة لا تفتأ تجثم فوق أنف «النمرود» كان يطردها المرة بعد الأخري ولكن... دون جدوي التفت إلي رجل من «آل محمد» و قال متأففا: - لم خلق الله الذباب؟ أجاب الرجل و كان قد ذرف علي الستين: - ليذل به الجبابرة. فبهت الذي كفر؛ و هيمن الصمت مرة أخري... ما خلا طنين ذبابة كانت تجثم فوق أنف «النمرود» المرة بعد الأخري. [ صفحه 9]

جعفر ايها الصديق 01

أمواج السراب تتلاطم في الأفق البعيد؛ و قد بدت بيوت المدينة قوارب صغيرة تبدو و تختفي كطيوف باهتة. كان يمشي علي مهل غير مكترث بشواظ الشمس و هي تلفح الأشياء باللهب؛ و جسمه يتصبب عرقاً غزيراً تحت و طأة الظهيرة العظمي، و المياه المالحة تفرّ من مسامات جسد معذّب بالحر والصوف. غير ان «ابن المكندر» لم يكن ليعبأ بكلّ ذلك و كانت تعتريه نشوة تستغرق كيانه كلّه، ما تزال روحه تطوف في عوالم من نور، و نفسه تهيم في تلال من ضوء سكري بخمرة سماوية عجيبة؛ إنّه لم يشعر بالسعادة كما يتشرّبها الآن، منذ ترك الدنيا لأهلها و لاذ بعالم شفّاف؛ تحسّر علي أيامه الخالية يوم كان منهمكاً في العمل و الكدّ في عالم يموج بالفتن، بالثورات المشتعلة كحرائق مجنونة. امّا الآن فإنّه يعيش سعيدا، يشعر بأن روحه تسبح بين النجوم، تطوف في عوالم من نور. [ صفحه 10] كان «ابن المكندر» مستغرقاً في أحلامه عندما وقعت عيناه علي منظر مثير؛ تمتم مبهوتاً: - أجل.. أجل انّه بعينه أبو جعفر؛ الرجل الذي بقر العلم. ولكن ماذا يفعل في هذه الظهيرة المحرقة؟!

انه عائد من بستان له في هذه النواحي.. ولكن أليس من الأفضل أن يخلد و هو في هذه السن إلي العبادة و يدع الدنيا.. و هو الآن من الموت قاب قوسين أو أدني؟! اشتعلت في أعماقه فورة من غضب صوفي، و حث الخطي إلي حيث وقف أبو جعفر، عند ساقية صغيرة. كان الرجل القرشي يتصبب عرقا غزيراً و هو يواجه شمس تتدفّق لهباً. همس ابن المكندر بصوت مسموع: - والله لأعظنّه. توقف «ابن المكندر» عند ضفاف الساقية و قد بدت في تلك الظهيرة تتلوّي تحت وطأة الشمس الغاضبة، هتف رجل غارق في الصوف: - أصلحك الله! شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علي مثل هذه الحالة في طلب الدّنيا!! ألا تخشي أن يجيئك الموت و أنت علي هذه الحالة؟ [ صفحه 11] أجاب الذي بقر العلم: - والله لو جاءني الموت علي هذا الحال؛ جاءني و أنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك و عن الناس، و انما أخاف الموت إذا جاءني و أنا علي معصية. جفّف ابن المكندر جبينه و قد تصفّد عرقاَ من الحرّ و الخجل... أدرك في تلك اللحظة شيئاَ غفل عنه زمناً مليّاً... العمل عبادة.. طاعة لله. العمل طريق الحرّية و الخلاص من الجنّة و النّاس. رفع ابن المكندر رأسه و كان قد أطرق مليّاَ: - رحمك الله أبا جعفر أردت أن أعظك فوعظتني. وانطلق رجل غارق في الصوف فيما راح الرجل الذي بقر العلم يبقر بطن الأرض و يعلّم الإنسان أن العمل محراب عبادة لا استغراق في الدنيا؛ هكذا قال جدّه من قبل.. ما تزال كلماته في القلوب. و قد مضي قرن و أطلّ قرن جديد

و التاريخ يشعل الحوادث هنا و هناك... توفي عامر بن واثلة و كان آخر من رأي النبي و سمع كلماته، و توفي عمر بن عبدالعزيز مسموماً لأنّه غصن يتطهّر في شجرة ملعونة طلعها كأنّه رؤوس الشياطين. [ صفحه 13]

جعفر ايها الصديق 02

باتت المدينة تلك الليلة تترقّب؛ فلقد استوي «هشام» علي عرش دمشق؛ و قد وصل خاله «المخزومي» والياَ جديداَ عليها و علي أم القري؛ و المهمّة معروفة «ثارات قديمة». «الأحول» لن ينسي كلمات قالها «الفرزدق» ماتزال تصفعه تمرغ كبرياءه في الوحل. دخل «زيد» بطوله الفارع و قد بدا وجهه المضي ء مشوبا بحزن عميق؛ كقمر لفته غيمة من رماد؛ كان «يحيي» يدرك ما يموج في أعماق أبيه من هموم يعجز «رضوي» عن حملها. ألقي «زيد» بنفسه فوق البساط و تساند إلي الجدار، فتح المصحف الذي لا يكاد يفارقه و تأمل أول آية، راحت الكلمات تنساب من بين شفتيه و في شرايينه كنهر هادي ء: - «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض» التفت إلي ابنه: [ صفحه 14] - انما نزلت فينا و فيمن كان قبلنا ليحيي الله هذه الأرض... أردف بحزن: - من أحب الحياة ذل.. يا بني لوددت أني أحرقت بالنار ثم أحرقت و ان الله أصلح لهذه الامة أمرها. تساءل يحيي و قد اكتشف طريق أبيه: - متي الرحيل؟ - غدا أو بعد غد... إن هشاما لن يكف عني و لا عن غيري من بني عمومتك.. سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا. تداعت صور قديمة كانت تومض و تنطفي ء كبروق سماوية، كان أبوسفيان يعذب المسلمين في رمضاء مكة و يقود الجيوش لاحتلال المدينة، و يفري كبد حمزة بحقد،

و جاء ابنه معاوية ليسرق منبر النبي (صلي الله عليه و آله) في وضح النهار ثم ينز عليه يزيد فيعيث في الأرض الفساد، و يمزق صدر الحسين و يهتك ألف عذراء و يحرق الكعبة. و ها هو «الأحول» يقتفي خطي الأجداد؛ ولكل زمن ذريعة. كان أبوسفيان يتميز غيظا؛ يعض علي نواجذه لأن محمدا يسب الآلهة... و هي التي تحرس قوافل قريش! و جاء معاوية رافعا قميصا لعثمان، و كان يزيد يريد الناس عبيدا فانبري الحسين و قد أعلنها صرخة: لا، و صبغ بدمائه الأرض. [ صفحه 15] و لما جاء هشام قلب عينه الحولاء باحثا عن غريم قديم فوقعت علي زيد لأن امه من بلاد بعيدة.. من وراء النهر و قد جاءت علي قدر. و كان لابد من ذريعة؛ و فوجي ء الناس بادعاء «القسري» بأنه أودع أموالا للدولة لدي «زيد». نهض زيد و قد انقطعت به السبل و نظر إلي الافق البعيد فلاحت له حمرة كجراح نازفة فاتخذ طريقه إلي ابن أخيه. نهض جعفر إجلالا لرجل تنافس هامته الجبال. تبادل الرجلان نظرات تتحدث بلغة عميقة عجزت الحروف أن تنهض بها. تمتم زيد: - و كيف يودعني مالا و هو يشتم آبائي؟! أدرك جعفر أن عمه يشير إلي كربلاء، فقال بحزن: - يا عم إن رضيت أن تكون المصلوب بالكناسة فشأنك! و سادت فترة صمت، كانا يصغيان خلالها إلي صهيل فرس غاضبة تشق بعنف مياه الفرات. و نهض «زيد» و بوصلة القدر تشير إلي بقعة مدماة علي شطآن الفرات. تمتم جعفر و هو يشيع عمه بنظرات دافئة: - ويل لمن يسمع نداءه فلا يجيبه. [ صفحه 17]

جعفر ايها الصديق 03

نشر المساء ستائره، و غمر الليل بظلمته الأشياء

يمنحها الغموض و الأسرار، و بدت النجوم قلوبا واهنة تنبض من بعيد. بدا جعفر مهموما ينوء بجبال الحزن و قد مضت علي رحيل عمه إلي الكوفة شهور، و للكوفة ذكريات حزينة يمتزج فيها الدم بالغدر والثورة بالخيانة. حتي لكأن أبناء علي لم يخلقوا إلا للذبح؛ و لقد نفخ علي في أبنائه روح الإباء منذ أن هتف علي شاطي ء الفرات بصفين: «الموت في حياتكم مقهورين و الحياة في موتكم قاهرين»، و غدا بنوهاشم و بنو أمية نقيضان لا يجتمعان فوجود أحدهما يعني فناء الآخر، و كيف تجتمع النار بالماء و كيف تعيش الفراشات في ريح السموم، و كيف يصالح علي معاوية، و كيف يبايع الحسين يزيدا، و كيف يطيق زيد حياة يرسمها هشام؟ أضاءت في أعماقه صور كالنجوم.. كان هشام يبدو فيها ضئيلا [ صفحه 18] كذبابة.. و هو يتطلع برعب و حقد إلي أبناء علي... أشرق مشهد يكاد يضي ء التاريخ، يوم نزا هشام علي منبر الخلافة و حانت لحظة الانتقام؛ كان أول شي ء فعله أن استدعي أباه الذي بقر العلم. و ذهبا يطويان المسافات إلي دمشق، أراد هشام أن يستعرض امامهما ابهة ملكه، أن يعوض عن إحساسه بالمهانة بكل ما يحيطه من قلاع و جنود، أن يطعلهما علي كنوزه من الذهب و الفضة، أن يقول لهما أنه قد اوتي ملكا عظيما. أوقفهما ثلاثة أيام علي أبواب القصر، أراد أن يقهر هما، أن يظهر تفوقه، فأعد لهما مشهدا. كان هشام متربعا علي سرير الملك، و في حضرته علية القوم وقادة الجيوش، و في يد كل منهم قوس و هم يرشون سهامهم نحو هدف في آخر البلاط. ناول هشام محمدا قوسا وراح ينظر بعينه الحولاء متشفيا: -

يا محمد إرم مع أشياخ قومك هذا الغرض. أجاب أبو جعفر و قد اكتشف ما يرمي إليه: - اني قد كبرت عن الرمي فاعفني. حانت لحظة الثأر. إذن سوف يجعل من شيخ العلويين نادرة يتندر [ صفحه 19] بها.. سوف تطيش سهامه هنا وهناك وسط قهقهة الآخرين، هتف منتشيا: - كلا.. لابد أن تشارك قومك في الرمي. أمسك أبو جعفر القوس، وضع سهما في كبده ورمق الهدف بنظرات ثابتة، و حانت لحظة الإنطلاق.. هتف أحدهم مأخوذا و هو يتأمل السهم في قلب الهدف: - يالها من رمية! أخذ أبو جعفر سهما آخر و سدده باتجاه الهدف فأصاب نصل السهم الأول و انطلقت السهام العلوية يتبع بعضها بعضا حتي تكاملت تسعة أسهم. نسي هشام حقده، نسي كل أهدافه أو رآها تتهاوي أمام سهام رجل من قريش، هتف الأحول مدهوشا: - أجدت يا أبا جعفر.. أنت أرمي العرب و العجم.. و أردف و هو يقوده إلي سرير الملك: - يا محمد لا تزال العرب و العجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك... لله درك.. من علمك هذا الرمي؟ و في كم تعلمته؟ أجاب أبو جعفر بأدب الأنبياء: - تعلمته أيام حداثتي ثم تركته. [ صفحه 20] تساءل هشام و قد انتبه إلي وجود جعفر: - ما أظن أن في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي... أيرمي جعفر مثل رميك؟! أجاب أبو جعفر و هو يسدد سهما من نوع آخر: - نحن أهل بيت نتوارث الكمال و التمام اللذين أنزلهما الله علي نبيه في قوله تعالي: اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا». أفاق هشام و هو يحس لسع الكلمات؛ فهتف بغضب مكبوت:

- من أين ورثتم هذا العلم و ليس بعد محمد نبي و لا أنتم أنبياء؟! - ورثناه عن جدنا علي و قد قال: «علمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح عن كل باب ألف باب». انسحب هشام إلي نفسه و قد رفع راية الهزيمة، و اجتاحته آلاف الشكوك و الهواجس، انه ليس أمام رجل أعزل كما كان يتصور؛ إنه أمام حسين آخر؛ أمام رجل يحمل كل ملامح علي... علي الذي ما يزال يخطف سنا سيفه الأبصار. اشتد بريق النجوم و نهض جعفر يطوف أزقة المدينة، يحمل معه صرارا فيها دراهم و دنانير لمن عصف بهم الدهر، فولاة الامور هذه الأيام يحلبون الدر فإن نفد حلبوا الدم، و الناس لا حول لهم و لا قوة. [ صفحه 21]

جعفر ايها الصديق 04

وجد زيد نفسه يمضي وحيدا لكأن قدرا عجيبا جاء به إلي الكوفة عاصمة المجد المندرس؛ و كان رجل كوفي يقود بعيره و يحاور صاحبا له، و لم يكن زيد ليكترث لشي ء لولا أن تناهت إلي أذنيه كلمة كان قد سمعها من قبل. قال صاحب الجمل المحمل بتمر «هجر» إنه يمضي إلي «الكناسة»، شي ء ما جعله ينشد إلي تلك البقعة من أرض الله، و تذكر كلمات قالها ابن أخيه «جعفر». كانت الشمس قد توسطت كبد السماء، و الجو حارا في تلك الظهيرة الملتهبة؛ و قد لجأ الكوفيون إلي منازلهم فرارا من الحر، فبدت الكوفة مقفرة كمدينة مهجورة. فجأة ظهرت إمرأة عجوز عليها ثياب بالية، كانت نظراتها الزائغة تتجه إلي حمل البعير. سار الموكب العجيب رجل و بعير، و رجل حجازي دفعته الأقدار إلي مدينة غدرت بأجداده، و امرأة عجوز تنظر بانكسار. [ صفحه 22] أوقف صاحب البعير بعيره،

راح يعدل حمله و يشير إلي ثقوب في العدل محدثا صاحبه بشأنها.. اهتزت سفينة الصحراء لتمضي في رحلتها، فسقطت تمرتان، برقت عينا العجوز أملا و هي تسرع نحوهما، وضعتهما في خرقة و استأنفت نظراتها إلي الجمل لكأنها تتمني أن تحدث ثقوبا جديدة فيه. تساءل زيد أي فقر رهيب أخرج هذه البائسة في هذه الظهيرة الجهنمية. أراد أن يكتوي بالنار أكثر فهتف: - ماذا تفعلين يا أمة الله؟! ربما أرادت أن تبدد كل ما قد يعلق بذهن الإنسان من شكوك؛ فقالت بصوت يشوبه حزن عميق: - إن لي سبع بنات لا أجد ما أطعمهن به. كان للكلمات أثر الصاعقة، وقفز قلبه يتلفت يمينا و شمالا، يبحث عن قيم حملها جده من السماء، و عن قيم مودعة في طينة الإنسان منذ خلق الله آدم. كانت العجوز تنظر إلي رجل غريب عليه سيماء النبوات؛ تري من يكون هذا الغريب! هل رأيت غيمة في السماء مشحونة بالبروق مخزونة بالرعود؟ [ صفحه 23] تنوء بما تحمله من دموع ثقال، فإذا اندلعت الصواعق انهمر المطر غزيرا؛ هكذا بدا زيد في تلك اللحظات، انفجرت آلامه دفعة واحدة، شعر بأنه يهوي من الثريا يتقطع إربا إربا فوق بقعة مضمخة بالدماء منقوعة بالأحزان، فتدفقت عيناه دموعا كغيوم حزينة، هتف و هو يمضي وحيدا: - أنت و أمثالك سيخرجونني غدا و يسفكون دمي. هل سمعته المرأة و هو يتمتم بذلك؟ هل أدركت هوية هذا الحجازي الذي جاء الكوفة علي قدر؟! لقد مضت تتبع البعير تؤمل نفسها في تميرات تسقط من الحمل تحملها إلي بطون جائعة. والخيول العربية تغير علي شواطي ء بحر الخزر من أرمينيا إلي طبرستان و تتوغل في بلاد ما وراء النهر حتي «فرغانه»،

و السفن ذات الصواري تفتتح «سرقوسة» في جزيرة صقلية؛ وسيل الغنائم يتدفق إلي قصر جاثم في دمشق يحكمه رجل أحول. و تذكر زيد كلمات قالها علي في الكوفة ذات يوم: - ما جاع فقير إلا بما متع به غني. [ صفحه 25]

جعفر ايها الصديق 05

صرخ هشام بغضب و هو يذرع البلاط بعصبية! و كانت عيناه لا تستقران علي شي ء: - ماذا يفعل هذا الأحمق؟ ودّ لو يسحق رأس يوسف بن عمر واليه الجديد علي الكوفة، توقف عند كاتبه و قد برقت عيناه بالغدر: - اكتب إليه: انك لغافل عن زيد بن علي الغارز ذنبه في الكوفة يبايعه أهلها غير عابي ء بك و لا بجندك، فإذا أتاك كتابي فألح في طلبه واعطه الأمان واقتله. وانطلقت فرس مجنونة تحمل معها هواجس و شكوك و رعب قديم متوارث منذ أن كان «الطريد» يجوب سكك «الطائف». سماء الكوفة مكفهرة و جبال السحب السوداء تتراكم بعضها فوق بعض تنذر بالصواعق والرعود، كان كل شي ء غارقا في السكوت ما [ صفحه 26] خلا سنابك خيول الدوريات، تجوب الأزقة بحثا عن رجل يدعي «زيد». و في بيت غارق في السكينة جلس زيد و قد أحدق به رجال من الكوفة و رجال من بني هاشم دخلوا المدينة في هيئة تجار. همس أحدهم قلقا: - لقد انكشف أمرنا كما يبدو. - أجل؛ خيول الدوريات تجوب الأزقة. - الخير فيما وقع.. لابد من التعجيل بالثورة. - ولكنا لم نستكمل قوتنا بعد. قال يحيي و قد أمسك بخيط الحديث: - ماذا تنتظرون؟ لقد بايع أربعون ألف... و جاءت وفود التأييد من المدائن و البصرة و واسط، و الموصل و خراسان والري و جرجان والجزيرة.. و قد أفتي

أبوحنيفة بوجوب النصرة والخروج علي اللص المتغلب المتسمي بالخليفة! و بايع الفقهاء. أضاء البرق لحظة، و انفجر صوت الرعد مدويا كأنه يعلن بدء الثورة. كانت ليلة شديدة البرودة و الرياح عاتية. ارتفعت بيارق الثورة تبشر بعهد جديد، و انطلقت صرخات الثائرين و توهجت شعل النار، واستيقظت الكوفة علي شعار النبي [ صفحه 27] «يا منصور أمت» شعار حكاه الأجداد للأحفاد يوم كان «مسلم» يدور في أزقة الكوفة وحيدا، و يوم ثار «المختار» بعده بأعوام، وها هو حفيد الحسين يرفع صوته مناديا يا منصور أمت، و لكن الذين غدروا بمسلم، و طعنوا الحسين لم يغادروا منازلهم كأنهم لم يبايعوا بالأمس، لم يأت من الأربعين ألف سوي مئتان. والتفت زيد يمينا و شمالا فلم يجد سوي الوعود الفارغة و طنين الكلمات الجوفاء، الكلمات التي تفتقد العزم و الإرادة، فتمتم بحزن: - فعلوها حسينية. و وجد الرجل الذي يدعو إلي الرضا من آل محمد أن الطرق قد أقفلت بوجهه، و لم يبق سوي طريق واحد، طريق مرشوش بالدماء، طريق ينتهي إلي كربلاء. كان عليه أن يقاتل بمئتين ألوفا، بل نظاما مدججا بالسلاح، لم يتردد لحظة، فانطلق كعاصفة غاضبة و سقطت «جبانة الصيادين» ثم انعطف باتجاه «الكناسة» فسقطت هي الأخري. كان يوسف بن عمر ما يزال يرقب من فوق التلال سير المعارك و معه الألوف. فكر زيد في لحظات مصيرية ان قواته التي أنهكها القتال لن تصمد بوجه آلاف الجنود المتمركزين فوق التلال. فانعطف بقواته إلي [ صفحه 28] أعماق الكوفة علها تستيقظ أو تنفض عن نفسها خوفا قديما، علها تتطهر من غدر موروث. و في «جبانة كندة» حدث أول صدام مع جيش الشام، و حدثت المعجزة لقد انتصرت

الفئة القليلة المؤمنة علي الكثرة الخاوية من الأيمان، و تقدمت قوات زيد باتجاه المسجد الأعظم، و قريبا من باب «عمر بن سعد» حدث صدام آخر رهيب انتهي بهزيمة جيش الشام. و في «باب الفيل» دوت نداءات الثورة: - يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلي العز و إلي الدين و الدنيا. و أثبت الثائرون تفوقهم في القتال، و أخيرا اجتمع أهل الكوفة و خرجوا من منازلهم لا لينصروا زيدا، و لكن لمشاهدة ما يجري من ملاحم. غير «يوسف بن عمر» خططه القتالية كلها و أدرك ان فرسانه لن يصمدوا في وجه فرسان زيد. و جاء دور الرماة الذين أخذوا مواقعهم فوق سطوح المباني، و انهمرت السهام كمطر عنيف. جنحت الشمس للمغيب؛ ربما حياء من رجل يعشق النهار، أو لتدع الظلام يلقي بكلاكله بين المتقاتلين. و في تلك اللحظة أصاب سهم أعمي جبهة زيد مؤذنا بغروب شمس الثورة. [ صفحه 29] دوت الآلام في رأسه؛ آلام لا يطيقها كائن بشري. فانسحب الثائر الكبير إلي بيت «حران» في سكة «البريد». قال الطبيب بعد أن تفحص السهم النابت: - إذا انتزعته مت. قال الرجل الذي جاء الكوفة علي قدر: - الموت أيسر علي مما أنا فيه. أمسك الطبيب كلاباً لينتزع السهم، و كان يدرك تماما أنه سينتزع الروح العظيمة التي دوّخت بعنفوانها عالما راكدا كنبع فوار في بركة آسنة. أغمض زيد عينيه، انطلقت روحه في الأعالي. و ظل جسده ممددا تبحلق فيه عيون حياري، فهذا الرجل مطلوب من كلاب الحكم حيا أو ميتا؛ وارتسم سؤال كبير: أين ندفنه؟ و أين نواريه؟ قال أحدهم: - نلبسه در عين و نلقيه في اليم. قال آخر: بل نحتز رأسه و نلقيه

بين القتلي. اعترض يحيي و قد تمثلت أنفاسه روح أبيه: - لا والله لا تأكل لحم أبي الذئاب. سادت فترة صمت، كان المطر خلالها ينهمر هادئا كسماء تنتحب. [ صفحه 30] همس أحدهم؛ و قد أضاءت في ذهنه فكرة: - نحمله إلي «العباسية» فندفنه فيها. انفلق الصبح؛ فانطلق رجال في غبش الفجر يحملون نعش الثورة فرآهم عبد نبطي. كانت الأرض التي قصدوها وفيرة المياه، لم يضيعوا وقتهم؛ حفروا للجسد المطلوب حفرتين. و أودعوه التراب، فاحت رائحة طين معطور. ولكي يحكموا الأمر و يطمئن بالهم أجروا الماء فوق القبر ليتحول زيد إلي نهر.. نهر يروي للبحر قصة الثورة و الدم و الشهادة. [ صفحه 31]

جعفر ايها الصديق 06

ما بالها الكوفة تذبح أبناءها، ترمي أفلاذ أكبادها للذئاب، همس الثائر الذي لم يبلغ العشرين بعد: - ليتني ذهبت مع أبي... كان يشعر بالاختناق رغم انفتاح الصحراء؛ الحصان يسير الهويني، ينقل خطاه علي هون؛ لم تفلح النسمات الخفيفة ان تبدد الضيق الذي يحسه الفتي العلوي. لكأن بنو مروان يسممون حتي الهواء. نظر إلي ورائه حيث المدينة المشهورة بالغدر، فألفاها قد غابت، لقد ابتلعتها الصحراء أدار بصره في الجهات، لم يكن هناك سوي تموجات الرمال تمتد لتلامس زرقة السماء في الافق البعيد؛ و لاحت للفتي تحت أشعة الغروب الواهنة طرق القوافل، فهذا طريق يشير إلي الحجاز، طريق عريض مهدته قوافل الحجيج، و ذاك طريق يقود إلي [ صفحه 32] خراسان، إلي بلاد بعيدة حيث تشرق الشمس. وقف في مفترق الطرق، كان يتأمل المكان و قد غمرته حالة من الاستغراق؛ لعله كان يفكر أي الطريقين يسلك. لامست الشمس رمال الصحراء، بدت بلونها القرمزي جرحا يفور. فجأة ظهرت سفينة الصحراء وسط القرص، و

قد نشرت ظلالها في بطن الوادي. شعر «يحيي» بنسمة فرح، لعل هذا القادم يحمل أخبار الوطن.. أخبار الأحبة و الأهل و الديار، و ظل الفتي في مكانه، و تطلع الحصان إلي الجمل.. صهل عاليا، أراد أن يقول: إنني أعشق الحرية، و ظل الجمل معتصما بالصمت كعادته، ربما قال في تمتماته: الصحراء تحتاج إلي الصبر. اقترب راكب الجمل من راكب الحصان و عرف كل صاحبه، و تناثرت كلمات السلام كرياحين ربيعية، و قال الفتي: - من أين أقبلت؟ - من الحج. - و أخبار الأحبة و الديار؟ - المدينة حزينة.. حزينة من أجل زيد، لقد بكاه الجميع، و كان [ صفحه 33] ألوعهم ابن عمك جعفر. سكت يحيي، اشتعلت مشاهد قديمة في ذاكرته يوم دخل مع أبيه الشهيد علي عمه محمد الرجل الذي فجر ينابيع العلم؛ تمتم بأسي: - كان عمي محمد أشار علي أبي بترك الخروج.. قال لا تترك المدينة، كان يخشي عليه عاديات الزمان، و أردف و هو يحدق في الشمس التي أوشكت علي المغيب: - فهل سمعت ابن عمي جعفر يذكرني؟ أجاب القادم من الحجاز و كان رجلا من ثقيف: - أجل سمعته يذكرك. - بم ذكرني؟ - لا أحب أن استقبلك بما سمعته. - أنا لا أخشي الموت.. هات ما قاله جعفر. - سمعته يقول: انك تقتل و تصلب، كما قتل أبوك و صلب. اعترته قشعريرة و قد تذكر أباه علي الصليب. قال بصوت متهدج: - «يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب». و مرت لحظات صمت، كان يحيي يحدق في الأفق المصبوغ بلون الدم، قال بصوت يشوبه حزن عميق: [ صفحه 34] - يا متوكل ان الله أيد

هذا الأمر بنا و جعل لنا العلم و السيف، و خص بنو عمنا بالعلم وحده. تساءل راكب الجمل: - جعلت فداك اني رأيت الناس إلي ابن عمك جعفر أميل منهم إليكم. - انه دعا الناس إلي الحياة، أما نحن فدعوناهم إلي الموت. - يابن رسول الله هم أعلم أم أنتم؟ و أطرق الفتي لكأنه يبحث في الأرض عن شي ء، و قال بعد صمت: - كلنا له علم، غير انهم يعلمون كلما نعلم، و لا نعلم كلما يعلمون. غابت الشمس، و تناثر رماد خفيف في فضاء الكون.. قفر الفارس، و قد غمرته فرحة اللقاء، و بركت سفينة الصحراء؛ و انسابت كلمات الصلاة كنهر هادي ء يتدفق علي هون، و تناثرت تمتمات الدعاء، و قد تألقت النجوم في صفحة السماء. تطلع القادم من موسم الحج إلي فتي لم يبلغ العشرين بعد، يحمل معه ميراث أبيه الشهيد، السيف و العلم، همس في نفسه؛ تري في أي بقعة سوف يصلب هذا الفتي؟ جعفر أيها الصديق ليتك أخبرتني. رفع يحيي رأسه و كان مستغرقا في الصلاة: [ صفحه 35] - اعلم ان قوله حق.. أخذه من آبائه. و نهض إلي حيث وقف الحصان، فاستخرج من الرحل صحيفة مطوية، شمها، وضعها علي جبينه و انسابت دمعتان، شعر انه يقبل وجه أبيه الشهيد، تمتم بصوت مخنوق: - والله يا متوكل لولا ما ذكرت من قول ابن عمي انني أقتل و أصلب ما دفعتها إليك... و هي أمانة لديك حتي توصلها إلي ابني عمي.. - محمد و إبراهيم؟! - أجل.. فهما القائمان بالأمر بعدي.. حانت لحظة الوداع.. و أدرك القادم من موسم الحج أن يحيي قد يمم وجهه شطر خراسان.. حيث تطلع الشمس. نهض

راكب الجمل يشيع الفارس الذي سلك الطريق إلي خراسان حتي انطوي في الظلام. [ صفحه 37]

جعفر ايها الصديق 07

عثرت الكلاب علي جسد الشهيد؛ زيد راقد في أعماق النهر، لم تتركه الكلاب يغفو بسلام، انتشلته من بين أحضان الام الدافئة.. من بين حنايا الطين المعطور. و ارتفع الصليب في «الكناسة»، فصل الرأس عن الجسد العاري، و تمر الأيام مريرة ثقيلة، و في الليالي يشاهد العابرون حلقات تتألق بضوء غريب، تتألق حول المصلوب. و منذ ذلك اليوم شهدت مواسم الحج رجالا؛ يسيحون في الشرق يحملون كلمات لها لون الشمس و دف ء الربيع، منذ أن هوي زيد و لون وجه الأرض، أودعها بذرة طيبة، يوم هتف في الجموع الثائرة: - أدعوكم إلي الرضا من آل محمد. و استيقظت الكائنات و الكلمات الحالمة تسافر في شرق الأرض. و شهدت المدن و القري من «الحميمة» إلي «المدائن» ف_«الري» و [ صفحه 38] «سرخس» و «الجوزجان» و «الطالقان» و «ارغوي» من أرض خراسان رجالا لهم زي التجار، و يحملون معهم كلمات الخلاص من ليالي الظلم. و كانت الكلاب تطلق نباحها عاليا، و قد فاحت عطور الربيع القادم من وراء رياح الزمهرير، و نبحت الكلاب ثلاثة من التجار يسيحون في وديان الأرض التي تشرق منها الشمس. قال حاكم تلك الأرض و كان اسمه سعيد: - من أنتم؟ - تجار. - فما هذا الذي يذكر عنكم؟ - و ما ذكر عنا أيها الأمير؟ - دعوة إلي الرضا من آل محمد. - أيها الأمير! ان لنا في أنفسنا و تجارتنا لشغل عن مثل هذا. سكت الأمير و هو يحدق فيهم. قال تاجر: - انما نحن عابر و سبيل لا نفقه في الدنيا غير البيع و

الشراء، فإن شئت عدنا من حيث جئنا. - أجل عودوا من حيث جئتم. [ صفحه 39] و اختفي التجار في جبال خراسان، و كانت الكلاب تنبح، أصابها مس من الجنون، و استيقظ الأمير بعد فوات الأوان؛ و قد اختفي التجار، بلعتهم أرض الشرق، و كانت الكلمات تسافر، تعبر الجبال و تطوي الوديان، و فاحت روائح الربيع القادم من وراء ألف ليلة من ليالي البرد. و تزايد عدد التجار، و شهدت «الحميمة» من أرض «البلقاء» تجارا يفدون علي رجل من بني العباس. قال الرجل و كان الليل في هزيعه الأخير: - هذا أوان ما نأمل و نرجو، لقد مضت مئة من التاريخ، و انه لم تنقض مئة سنة علي أمة قط إلا أظهر الله الحق و أبطل الباطل. و تلا الرجل بخشوع متكلف: - «أو كالذي مر علي قرية و هي خاوية علي عروشها، قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه». وسكت الذي قال انه امام ثم قال: - انطلقوا أيها النفر فادعوا الناس في رفق و ستر فاني أرجو الله أن يتمم أمركم و يظهر دعوتكم. [ صفحه 41]

جعفر ايها الصديق 08

كان موسم الحج ذلك العام عاصفا بالرياح و الحوادث، خلع التجار أزياءهم و ارتدوا ثياب الاحرام، و قد ورد مكة شاب من خراسان في مهمة سرية و حوله أنصار يحوطونه من بعيد. كما وردت «جميلة» و حولها شلتها من المغنين و المغنيات؛ فاحتفل بها أهل مكة، و هم يستعيدون أغنيات العشق و البادية و الفراق. ضاعت الروائح علي الكلاب و تعطلت أنوفها و قد بدأت مناسك الحج الأكبر. و في جنح الظلام و في بطن الوادي التقي التجار علي

حذر. لم يطل انتظار التجار كثيرا، فقد وصل إبراهيم (الإمام) و جلس بين دعاته. مرت لحظات صمت مهيب، و كان الجميع يرهفون آذانهم. ربما تبعهم كلب. قال تاجر و قد ضجر من السكوت: - قد حملنا إليك مالا. [ صفحه 42] - كم هو؟ - عشرة آلاف دينار. - سلموها إلي عروة. و أردف إبراهيم و هو ينظر إلي الشاب الخراساني بإعجاب: - اني قد رأيت أن أولي هذا الأمر هناك أبا مسلم. لقد جربت عقله، و اني لأرجو أن يسوق إلينا الملك، فعاونوه. و تناثرت كلمات الإنصياع: - سمعا و طاعة للإمام. نهض إبراهيم و تلفت حواليه قبل أن ينصرف؛ و تفرق المجتمعون. و أقفر ذلك المكان من الوادي و هيمن صمت مهيب يقطعه عواء ذئب بعيد، لعله يتأوه من زمهرير الليل. انطوت مناسك الحج و قد شهد الناس منافع لهم، و غادرت قوافل الحجيج مكة. و عادت «جميلة» إلي وطنها في الشمال، و قد حف بها ناس من أهل مكة و المدينة، و كان الحادي يقود القافلة، و الإبل تهوي في بطون الأودية كنغمات حالمة. و عرج بعض «التجار» علي يثرب، فهذه المدينة ما تزال تتذكر جراحا قديمة، ربما أفاد منها التجار؛ و كان أكثرهم حماسا فتي [ صفحه 43] خراسان، كان يرتدي حلة بيضاء، بيضاء كقمم «الطالقان». كان همه أن يلتقي رجالات في المدينة، رجالات من آل محمد. و أيسر شي ء علي المرء أن يهتدي إلي منزل جعفر بن محمد، فالأصابع تشير إليه. فضل أبو مسلم الذي بدا ذلك الصباح أكبر من عمره بكثير أن يأتي فردا.. بدا في الأربعين و هو قد ناهز الخامسة و العشرين، في عينيه تموج أمنيات عظيمة...

أن يحكم الأرض التي تطلع منها الشمس. و أخيرا وصل؛ ألفي الباب مفتوحا، و وجد من يقوده إلي حيث جلس جعفر بن محمد، لم يجد صعوبة في تعرفه، فقد كانت العيون ترنو إلي وجه أزهر، يتألق في جبينه ضوء عجيب، رقيق البشرة أسود الشعر قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهرا له إشراق، و قد تلألأ خال في خده الأيمن، و هو في هيئته ينبي ء عن رجل ربعة ليس بالطويل و لا بالقصير. تقدم أبومسلم و لم يتمالك أن انحني ليقبل ذلك الجبين. فاحت رائحة ذكرته برائحة الربيع في ربوع خراسان عندما تتفتح ورود النسرين و تينع أزهار النرجس، و اتخذ القادم من خراسان مكانه قرب رجل من آل محمد، قال جعفر و هو يلمس ثيابا ناصعة: [ صفحه 44] - ما رأيت اليوم أشد بياضا و لا أحسن من هذه. أجاب أبو مسلم و قد ارتاح لهذه المجاملة: - يا سيدي هذه ثياب بلادنا و قد جئتك منها بهدية. التفت جعفر إلي غلامه: - يا معتب اقبضها منه. و مرت اللحظات كان جعفر يطيل فيها النظر إلي ضيفه حتي إذا استأذن و غادر المنزل، هتف جعفر: - إن صدق الوصف و قرب الوقت؛ فهذا الرجل هو صاحب الرايات السود التي تطلع من خراسان، و هتف بغلامه: - يا معتب الحقه فاسأله عن اسمه و هل هو عبد الرحمان؟ و انطلق الغلام، و سادت فترة صمت، و قد برقت في الذهن نبوءات قديمة عن ملاحم ورايات تطلع من خراسان، عن سيوف و جماجم و زلازل، و عاد الغلام: - أجل يا سيدي؛ اخبرني ان اسمه عبدالرحمان؛ و قال انه سيعود تحت جنح الظلام، فلديه أمر

هام. غمر الليل المدينة و أقفرت الأزقة من العابرين، و بدت الكوي المضيئة ينابيع من نور. كان عبدالرحمان يشق طريقه نحو منزل دخله في الصباح فعاد [ صفحه 45] إليه في المساء. كان يدرك أن ظلام بني مروان لن تزيله إلا جذوة من آل محمد، من بني علي؛ لهذا طرق المنزل. جلس عبدالرحمان في حضرة جعفر كما يجلس الجندي في حضرة القائد؛ و شعر القادم من خراسان انه أمام رجل عظيم.. رجل لو أراد أن يلوي الأقدار لأمكنه ذلك. همس عبدالرحمان بشي ء من الحذر: - اني دعوت إليك الناس في خراسان فهم شيعة لك، و أنت أحق الناس بهذا الأمر من غيرك. نظر جعفر إلي السماء المرصعة بالنجوم و قال: - ان ما توحي إليه غير كائن لنا، حتي يتلاعب به الصبيان من بني العباس. و شعر عبدالرحمان بالذعر فهذا الرجل تتكشف له الحجب، يخترق أستار الزمن، يعرف ما يدور و يجري، و لعله يعرف أيضا ما يحوكه التجار في الظلام و تلك الرحلات السرية بين خراسان و الحميمة، لهذا فضل أن يغادر البيت علي عجل، بل يغادر المدينة بأسرها. [ صفحه 47]

جعفر ايها الصديق 09

انطوي قرن و ربع من تاريخ، النار تسري تحت الرماد، اشتعلت ثورة في الجوزجان، أشعلها يحيي بن زيد؛ ظل يقاتل وحيدا حتي قتل، و ارتفعت خشبة الصليب تحمل جسدا مضمخا بجراح الأنبياء؛ فيما راح الرأس يطوف المدن الغريبة حتي إذا وافي المدينة القي في أحضان أم ثكلي كان اسمها ريطة، من ذرية علي. قالت و هي تتأمل رأس الذبيح: - شر دتموه عني طويلا، و أهديتموه إلي قتيلا، صلوات الله عليه و علي آبائه بكرة و أصيلا. أظهر التجار حزنهم، ارتدوا

ثياب الحداد، و فرك بعضهم يديه جذلا، فصليب في الكوفة و صليب في «الجوزجان» و ما بينهما بحر ستثور أمواجه و تغرق الفراعنة. و انطلق التجار صوت المدينة يبحثون عن صلبان جديدة، وليكن [ صفحه 48] محمد بن عبدالله بن الحسن المهدي الموعود الذي بشرت به الكتب! و في ليلة شتائية و رياح كانون تعصف بعنف اكتمل شمل التجار في منزل ذي النفس الذكية، و جاء أبو عبدالله يشق طريقه في الظلام والعاصفة. نهض الجميع، و اتخذ الرجل الهاشمي العلوي مكانه بين أخوين أحدهما من أم عربية و الآخر من بربرية. كانت العيون تتجه إلي محمد بن عبدالله شاب يذكر بالنبي الامي، و كان إلي جانبه أخوه إبراهيم ليس بينهما في المكان شبر و في الزمان أربع سنين سويا. كان الجمر في الموقد ما يزال متوقدا يرسل ضوءا واهنا و دفأ. قال ابن الحسن و قد استوي جعفر في الجلوس: - يا أبا عبدالله! ان لنا شيعة في خراسان مئة ألف. قال الذي عنده علم الكتاب: - مئة ألف!! - بل مئتي ألف.. و قد بايعوا ولدي محمد فماذا تري؟ توهجت نبوءات قديمة: - و متي صاروا لك شيعة يا أبا محمد؟ هل تعرف أحدا منهم باسمه و نسبه؟ [ صفحه 49] -... - كيف يصيرون شيعتك و أنت لا تعرفهم و لا يعرفونك؟ -... - أأنت وجهتهم إلي خراسان؟ أم أنت أمرتهم بلبس السواد؟ تحركت الوساوس فقال بعد صمت طويل: - لقد حملك الحسد لابني. أجاب سليل الحسين: - علم الله أني أوجب علي نفسي النصح لكل مسلم، فكيف أدخره عنك فلا تمني نفسك الأباطيل، فلقد جاءني مثل الذي جاءك، و أدرف و قد

اشتعلت النبوءات: - ان هذه الدولة ستتم لهذا. و سرت قشعريرة في جسد أبي العباس و قد لامست يد جعفر منكبه. و التفت الذي عنده علم من الكتاب إلي شماله حيث جلس ابن البربرية و هتف مهموما: - ثم يتلاعب بها الصبيان من ولد هذا. و سادت المكان لحظات صمت.. لحظات عجيبة لكأنها خارج الزمان. [ صفحه 50] أطرق الجميع يحدقون في الأرض و قد انطفأ الموقد، و سادت ظلمة الليل. نهض الصادق و قد فضح ما تضمره الأيام، و نهض رجل يشيعه، همس مبهورا و قد وصلا عتبة الباب: - أتدري ما قلت يا أبا عبدالله؟! - أي والله و انه لكائن. و أردف و هو يشير إلي صاحب الرداء الأصفر؟ - تعني أبا جعفر؟ - أجل.. انه سيقتل محمدا. هتف الرجل مأخوذا: - يقتل محمدا؟! - نعم سيقتله في «أحجار الزيت» ثم يقتل أخاه إبراهيم. و انصفق الباب و ظل الرجل مبهوتا لا يدري ما يقول. [ صفحه 51]

جعفر ايها الصديق 10

مضي التاريخ يشعل الحوادث هنا و هناك. سقطت قبرص في قبضة المسلمين. و خلع الوليد من الخلافة، و قتل في «قصر النعمان» في «تدمر» حيث أسرت «زنوبيا» من قبل. و جاء إلي الحكم «الناقص» فطعنه الطاعون و مات. حتي إذا مر عام ظهر «الحمار» يمتطي حصانا و يغير علي دمشق ينتزع الخلافة، و قد خلعت دمشق ثوب العواصم. و كان التجار ما انفكوا يجوبون المدن بين «الحميمة» و الأرض التي تطلع منها الشمس. حتي إذا ثارت عشائر اليمانية في الشام و خرجت «الحرورية» في الجزيرة، و ثار العلويون في الكوفة، و ظهرت القلاقل في الأندلس، و حمل قسطنطين الخامس علي الشمال الإسلامي فيغتصب

«مرعش»، و عاثت الأباظية في مكة، و غرقت «قبرص» في بحر [ صفحه 52] الروم؛ و ضربت الزلازل بيت المقدس؛ و اجتاح الطاعون «البصرة»، و ارتفعت الرايات السود في الأرض التي تطلع منها الشمس، دوت سورة القدر. و شمت الكلاب رائحة البراكين؛ فانطلقت خيول البريد تنهب المسافات تحمل صيحة الاستغاثة: - أري تحت الرماد و ميض جحر و يوشك أن يكون له ضرام و قلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام؟ صرخ الحمار كمن لدغته عقرب: - بل أيقاظ نحن! تعالي نباح الكلاب و هي تقتفي الأثر من دمشق إلي «الحميمة» من أرض البلقاء. كان «إبراهيم» جالسا عندما دهمته الكلاب، و أوثقته كتافا و حمل مخفورا إلي قصر في «حران» عاصمة الحمار. رمق الحمار غريمه بغيظ: - ما هذه الجموع التي خرجت بخراسان تطلب لك الخلافة؟ أجاب الأسير: [ صفحه 53] - لا علم لي بذلك؛ انما تريد التجني علينا. سكت الحمار، كان قد اكتشف كل شي ء، ولكن بعد اشتعال الحريق. هتف بيأس: - خذوه إلي السجن. الليل في «حران» حالك السواد، ارتدت الأشياء فيه أقنعة غامضة تنذر بالخطر. بدا مروان في قلب الظلمة شبحا خائرا؛ ريشة في مهب الاعصار القادم من الشرق؛ ها هي الأقدار تعصف بعنف، و قد آن للأبناء أن يجنوا ثمار بذور قديمة؛ و الشجرة الملعونة تهتز من الجذور، قد اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. صفق الحمار بيديه، فحضر رجال غلاظ، بدوا كتماثيل منحوتة من الصخر، زادهم الليل البهيم وحشة. كانوا عصبة، الخناجر تبرق في قبضاتهم. وقفوا ينتظرون شارة الحمار. من يرهف السمع في تلك الليلة الموحشة لأمكنه أن يصغي إلي سخرية القدر، كيف يمكن لخناجر معقوفة

في الظلام أن تطفي ء وهج آلاف السيوف في ربي خراسان. [ صفحه 54] انسل الرجال الغلاظ إلي حيث سجن «إبراهيم». تبادلوا كلمات مقتضبة حول مهمتهم في قلب الليل. فتح السجان الأبواب بعد ما تأكد من هويتهم، أحدث دخولهم ضجة وضوضاء، و أرهف المحبوسون أسماعهم. قدر بعضهم الداخلين بعشرين شرطي، و قال آخرون أنهم أكثر، و قال أحدهم: كلا انهم عصبة أولي قوة و أولي بأس شديد. استمرت الجلبة في زنزانة الرجل العباسي، ثم هدأ كل شي ء. عاد الصمت مهيمنا علي المكان الموحش حيث يتعطل الزمن لا شي ء عن الماضي سوي الذكريات، و لا شي ء عن المستقبل سوي أمنيات، و لا معني للحاضر إلا في كلمات. و في اليوم التالي قال السجان: إن الشمس قد أشرقت و إن أحد السجناء قد مات، و جاء رجال يشبهون الموتي حملوا الميت إلي مثواه. قال رجل سجين: - لقد خنقوه. ضحك أحدهم ساخرا لأن الأمر لا يحتاج إلي توضيح. [ صفحه 55]

جعفر ايها الصديق 11

أسفر التجار عن هويتهم، نزعوا لثاما اختبأوا و راءه أعواما، بركت الإبل، و انتفضت الخيل، و تألقت السيوف في الأرض التي تطلع منها الشمس؛ و ارتفعت رايات سود. استيقظت «الكوفة» في الهزيع الأخير من الليل، استيقظت مبهورة بما يجري، كانت ما تزال مسلوبة مغلوبة، راحت تبحث عن ثوب العواصم، ثوبا أضاعته قبل ألف شهر. هناك في درب الخلالين رجل يدعي أبو سلمة، رجل من «همدان»، كان يعمل بصمت، فلا تشم الكلاب في منزله سوي رائحة الخل، أما الهاربين اللذين فرا من الحميمة فلم يشعر بهما أحد. و ذات ليلة و قد أشرقت «سورة القدر»، جلس خمسة نفر في منزل في درب الخلالين بالكوفة، قصاب و خلال

و رجل يبيع توابل هندية و هاربين تبحث عنهما كلاب الحمار. [ صفحه 56] قال ابن البربرية و قد عضه الجوع: - لحم مساور و خل أبي سلمة و ابزار يقطين و طابت المرقة تمتم مساور - لقد اخترت لكم أطيب ما في الضأن، و قال يقطين و قد فاحت رائحة التوابل: - و هذه الابزار. و رمق أبو سلمة ابن البربرية و هو يشير إلي آنية فيها خل. ظل الخامس صامتا، لكأنه يصغي إلي قعقعة السيوف القادمة من خراسان. كان «ابن البربرية» أكثر شهية من أصحابه، قد انفتحت نفسه علي الطعام و الكلام. هاهي السيوف تبرق في المدن الخراسانية و قد ثارت «هراة» و «بوشنج» و «الطالقان» و «نسا» و «ابيورد» و «طوس» و «نيشابور» و «سرخس» و تمردت «بلخ» و «كش» و «نسف». تذكر ابن البربرية نبوءة أفصح عنها الصديق جعفر ذات يوم: - مروان خاتم بني أمية. آن للمدن أن تتطهر من كل الآثام القديمة، انبعث جواد الحسين [ صفحه 57] من أعماق الفرات يقاتل؛ يطلق صهيلا عاليا، يوقظ المدن الخائفة، يبشر بالفجر القادم من وراء آلاف الليالي. و في «حران» التي تقمصت ثوب العواصم كان مروان الحمار يشعر بالاعياء بعد هزيمة ساحقة في «الزابين». حران غارقة في الظلام ما خلا قصر وحيد بدا في تلك الظلمة الرهيبة ساحرا مهزوما. «الحمار» يذرع البلاط؛ يعبث بلحيته؛ لا يدري ماذا يفعل؛ الأرض تهتز تحت قدميه بعنف، و البركان الذي انفجر في الأرض التي تطلع منها الشمس يرسل حممه، فيحرق قصورا، و يشتت جنودا. مروان ما يزال يدور في أروقة قصره المنيف. كحمار السواقي، توقف عند نافذة صغيرة؛ ألقي نظرة علي بوابة القصر فرأي حارسين

قد غلبهما النوم كمن يغرق في بحر لا قرار له. شعر«الحمار» انه يغرق في لجة سحيقة من اليأس، لم يعد هناك من أمل، عليه أن يرحل، ولكن إلي أين؟ و السيوف الخراسانية تطارده والمدن تسقط الواحدة تلو الأخري. هتف بإسماعيل و كان أخا للقسري: - لبيك يا أميرالمؤمنين! رمق مروان مستشاره: [ صفحه 58] - لقد أرسلت وراءك لأعرف رأيك في أمر عزمت عليه. - علام أجمعت يا أميرالمؤمنين؟ - علي الرحيل. - إلي أين؟ - إلي الروم.. اصطحب أهلي و ولدي و من تبعني من أصحابي و ألجأ إلي ملك الروم؛ حتي إذا تكامل جندي و تكثف أمري حاربت عدوي. سكت الحمار؛ كان ينتظر الجواب، هيمن صمت مهيب؛ كان المستشار يعالج هما في أعماقه و استيقظت في نفسه شهوة الانتقام، فقال بمكر: - كيف تلجأ إلي أهل الشرك... و الروم معروفون بالغدر. - فماذا تري إذن؟ - أري أن تقطع الفرات، و تدور في مدن الشام، فإن لك في كل مدينة جنودا، ثم تتجه إلي مصر، أكثر أهل الأرض مالا و خيلا و رجالا. و تكون الشام أمامك و أفريقيا خلفك، فإن كان النصر حليفك عدت إلي الشام، و إن تكن الأخري فإن أفريقيا واسعة نائية. تكاثفت الظلمة فوق الأرض، و قد مر ألف من شهور مشحونه بليالي الزمهرير، و لم يبق سوي ليلة واحدة، هاهو الحمار يمعن في [ صفحه 59] الفرار بعد المعركة الأخيرة، لم يبق إلي جانبه سوي غلامه، أضحت فلوات أفريقيا حلمه في النجاة. انطوي النهار و الفارسان يمعنان في الفرار؛ حتي إذا حل الظلام كانا قد وصلا شواطي ء النيل. ظهر القمر في الأفق، كان يرسل أشعته الفضية فوق أمواج

النهر، و هو يشق طريقه صوب البحر غير عابي ء بملك شريد لا يملك من كل سلطانه العريض سوي درع و حصان و سيف مهزوم. قال الغلام و قد رأي قاربا في الشاطي ء: - ألا نستقل هذا القارب يا سيدي فنعبر النهر؟ ترك الحمار حصانه يرتاد الماء، و كذا فعل الغلام. و اتجها صوب القارب؛ طلب صاحب القارب أجرا فهز الغلام رأسه موافقا. انطلق القارب يشق طريقه بوهن، وساد صمت مخيف، ما خلا صوت المجذاف و هو يشق صفحة «النيل» في رتابة مملة. قال صاحب القارب و قد أراد أن يكتشف هوية الرجلين: - لعلكما تريدان قرية بوصير؟ أجاب الغلام بغير اكتراث: - نعم... حاول آخر ملوك الشجرة الملعونة في القرآن أن يبقي عينيه [ صفحه 60] مفتوحتين، ولكنه و جد نفسه ذليلا، كان يرفع جفنيه بصعوبة في كل مرة، و كان وزنهما يزداد حتي غديا كالجبال، و شعر الحمار في تلك اللحظات انه لم يعد شيئا، فأغمض عينيه و استسلم للنوم... و عندها أدرك أن النوم قد غلب بني أمية. هاهو ذاهل عما يجري حوله؛ حتي إذا ارتطم القارب بالشاطي ء هب مروان مذعورا و هو يمسك بمقبض سيفه. ترجل الحمار و سار خطوات باتجاه الشاطي ء حتي إذا وجد بساطا رمليا مناسبا ألقي بدرعه و اتخذه و سادة واستغرق في نوم ثقيل؛ و لم يستيقظ الحمار فقد انصرمت أيامه و أدركته السيوف لتمزقه؛ و انطوت آخر ليلة في سورة القدر. [ صفحه 61]

جعفر ايها الصديق 12

الوقائع عالم متزلزل، يموج بالناس و تموج الناس به، عالم يزخر بالبروق و الرعود و الأمطار، عالم تعصف به الريح من كل مكان؛ أما الحقائق فعالم آخر، عالم ثابت ثبات الجبال، و

هادي ء كالبحيرة، عالم رائق كالنور، مفعم بالسكينة و الطمأنينة و السلام، فإذا عاش المرء في عالم الوقائع عاش قلقا، نهبا للهواجس، و المخاوف؛ يتحول نومه إلي أرق طويل، و تنقلب حلاوة الحياة إلي شعور عميق بالمرارة. أما الإنسان الذي يحيا في عالم الحقائق المشرقة، فيصبح ابن تلك البيئة المدهشة بثباتها، و صفائها، و إشراقها؛ و هكذا عاش جعفر؛ كانت الأرض تهتز تحت قدميه بعنف... فالجيوش القادمة من الشرق تحمل رايات سود و تبشر بدولة جديدة شعارها الرضا من آل محمد. و آلاف المؤامرات و الدسائس تحاك في الظلام. و باتت الأشياء تهتز، و العقائد تتزلزل في النفوس، و لم يعد هناك من ثبات، فقد [ صفحه 62] ضرب الزلزال كل شي ء. جلس وارث النبوات في محرابه؛ كان ضوء الغروب قد تسرب من كوة صغيرة فبدت كشلال من نور يغمر أرضية الحجرة المفروشة بحصير منسوج من خوص النخيل. الصمت يغمر المكان، ما خلا تمتمات دعاء ينساب بحزن. شيئا فشيئا انسحب الضوء و انطفأت الكوة المضيئة، و انبثق الظلام لكأنه يتسرب من كل أجزاء الحجرة؛ من الجدران؛ من السقف؛ حتي من الكوة نفسها، لكأنه كان يترقب رحيل الشمس. كانت رياح كانون القارسة تجوس المدينة دخل «معتب» بهدوء يمشي علي أطراف أصابعه، لم يكن يريد أن يعبث في السكينة التي تغمر الحجرة؛ كان همه أن يوقد السراج و يعود لشأنه تاركا سيده في استغراقه المهيب. ارتفعت دقات حذرة علي الباب. رفع «الصديق» رأسه و ألقي نظرة علي «معتب»، خف الغلام ليعرف من يكون القادم في هذا الليل و البرد. عاد معتب و خاطب سيده بإجلال: - إنه سدير يا سيدي... سدير الصيرفي.. و معه رجل ملثم.. و يبدو

أنه ليس من أهل هذه الديار. [ صفحه 63] أجاب سليل محمد: - ليدخلا. جلس سدير في حضرة رجل ليس علي وجه الأرض مثله. تمتم معرفا ضيفه: - إنه رجل من شيعتك يحمل إليك رسالة من أبي سلمة الخلال. أخرج الرجل الملثم رقعة مطوية بعناية و سلمها إلي سليل النبوات. الكلمات القادمة من الكوفة، تحمل معسول الوعود... فقلد آن للخلافة أن تعود إلي أصحابها، و آن لوارث علي أن يعود إلي عاصمة أبيه. رفع ابن علي عينيه و خاطب معتبا: - ادن مني السراج. تساءل سدير في نفسه: ألم يكن الضوء كافيا؟ لم تطل حيرة الصيرفي و ارتسمت فجأة إمارات الدهشة تعلو وجهه و تشف من عينيه. قرب سليل النبوات الرسالة من شعلة السراج. التهمت النار الرسالة و احترقت، و أضحت تلك الوعود المعسولة مجرد رماد. هتف الرجل الملثم: [ صفحه 64] - والجواب؟ نظر الصديق إلي رماد الرسالة. - هذا جواب كتابه. كان السراج ما يزال يبعث النور، و شيئا من الدف ء. نهض الرجل الملثم و غادر الحجرة بصمت. لم يطق سدير الصمت، فقال بلهجة يشوبها عتب: - يا أباعبدالله ما يسعك القعود. - و لم يا سدير؟ - لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك. - يا سدير و كم أن يكونوا؟ - مئة ألف. - مئة ألف؟! - نعم؛ بل ما مئتي ألف. قال الذي ينظر إلي الحقائق لا الوقائع: - لو كان عندي عدد أصحاب النبي في بدر لنهضت. كان نور السراج ينعكس علي وجه سدير و قد ارتسمت علامات استفهام علي جبينه و قد ماجت في أعماقه تساؤلات لا حصر لها؛ و هذه الآلاف المؤلفة في خراسان، و تلك الرسائل التي

تأتي من [ صفحه 65] الكوفة؛ و تذكر يوم جاء مبعوث أبي مسلم يقول إنه دعا إليه الآلاف و قد آن له أن يرفع اسمه عاليا في أرض خراسان و في أرض الإسلام «اني قد أظهرت الكلمة و دعوت الناس إلي موالاة أهل البيت فإن رغبت فلا مزيد عليك». تذكر سدير كيف ألهبت الكلمات الحماس في نفسه، أثارت الامنيات الخضراء، و كيف كانت العيون تتطلع إلي ابن محمد، تري هل سيشعل نار الثورة في مدينة جده؟ تذكر كيف التفت الصديق إلي مبعوث الخراساني قائلا: - قل له ما أنت من رجالي و لا الزمان زماني. تساءل سدير في أعماقه كيف يطيق «أبوعبدالله» كل هذا الصمت و قد انفجر الزلزال في الأرض التي تخرج منها الشمس، كيف يطيق كل هذا السكوت، و صرخات الخراسانيين تملأ الخافقين تدعو إلي الرضا من آل محمد؟ نظر أبوعبدالله إلي صاحبه الحائر، أراد أن يعلمه أن هذا الزمن هو زمن الصمت، فقال بصوت فيه نبرات الأنبياء: - كونوا لنا دعاة صامتين. - يا سيدي و كيف ندعو إذا و نحن سكوت؟ أجاب الذي عنده علم الكتاب: [ صفحه 66] - تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله و تعاملون الناس بالصدق والعدل، و تؤدون الأمانة، و تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و لا يطلع الناس منكم إلا علي خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا إليه. و نهض سدير و قد أضاءت السبل أمام عينيه، أدرك أن تغيير العالم يبدأ من أعماق النفس، ذلك «ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم». [ صفحه 67]

جعفر ايها الصديق 13

عندما يغمض الإنسان عينيه، تستيقظ عشرات الوحوش الكاسرة،

تنفلت من أسارها، فتضج الغابة المظلمة بالعواء، فإذا الإنسان خائف يترقب، لم يعد شيئا أمام تلك الوحوش المفترسة؛ و كيف له أن يقاوم عشرات الضباع و الذئاب و الخنازير، و هكذا فر الإنسان بعيدا، لقد استحال العالم إلي غابة مخيفة. وضع ابن البربرية رأسه علي وسادة ناعمة، و تمدد في فراشه الوثير فراش انتزعه من ملوك عصفت بهم الأيام، يده ما تزال تمسك بمقبض سيف قاس، آلاف الخطط و المؤامرات تتراكض في رأسه كخيول مجنونة. برقت في ذهنه عشرات الوجوه، كانت ذات يوم وجوها صديقة، أما الآن فقد تغير كل شي ء و بدت الصورة مقلوبة تماما، أضاء وجه محمد ثم إبراهيم و برقت صورة جعفر الصادق، ثم ظهر أبو سلمة، ثم سيطر وجه أبي مسلم، و تتابعت الصور والوجوه، [ صفحه 68] حتي إذا أغمض عينيه هدأت الخيول و انطفأت المشاهد و ولج ابن البربرية عالم الأحلام فنام في عالم اليقظة و استيقظ في عالم النوم. كان جالسا القرفصاء لما جاءته عجوز شمطاء لم تترك من أصباغ الزينة شيئا إلا و دهنت به وجهها، رمت الأغلال والسلاسل فطوقت بها عنقه ثم انتزعته من مكانه و راحت تركض؛ و وجد نفسه يركض خلفها مبهور الأنفاس، راحت العجوز المدهونة بأصباغ الزينة تخوض به أنهارا من دم وقيعانا من أوحال، شعر بالإختناق و غدا صدره قفصا من حديد قضبانه صدئة؛ صرخ فهب من نومه مذعورا و ألفي نفسه في فراشه الوثير و إلي جانبه سيف بدا كثعبان متحفز. جفف جبينه المتصفد عرقا رغم برودة الجو؛ الرياح تعوي خارج القصر كذئاب جائعة. راح يحدق في الظلام، فتراءت له أشباح كان يعرفها، أشباح لها صور آدمية، كانت تتطلع إليه؛ بعضها

يبكي و بعضها يبتسم ساخرا، و بعضها يتهدد و يتوعد، و كان هناك وجه لرجل قد ناهز الستين، وجه عجيب له نور القمر و سكينة الحمائم و عمق البحر، و هدوء النخل، شعر بأن نظراته تخترق جلده و تنخر عظامه، فتمتم حانقا: - هذا الشجي المعترض في حلقي. منذ أعوام مات الإنسان، و انتفض الخنزير القابع في الأعماق [ صفحه 69] المظلمة.. مزق ظلمات ثلاث وراح يعربد، تدفقت أنهار من دم عبيط. مرت سنوات و سنوات، و قد حصدت السيوف بني «مروان» فغدو كعصف مأكول، مزقتهم الأيام شر ممزق و صاروا أحاديث... حكايات يرويها الأجداد للأحفاد عن الظلم الذي لا يدوم. ولكن ما دهي هذا السيف الذي برق في الأرض التي تطلع منها الشمس، لماذا لا يعود إلي غمده و قد وضعت الحرب أوزارها، ما الذي دهي طاحونة الموت لا تفتأ تدور و تدور كمن أصابها مس من الجنون؟ ما تزال العجوز الشمطاء المتبرجة بكل أصباغ الزينة تركض تجرجر وراءها ابن البربرية، تخوض به أنهار من دم لم يتغير لونه... [ صفحه 71]

جعفر ايها الصديق14

دار الزمن دورته؛ و ما انفك التاريخ يشعل الحوادث هنا و هناك. قتل أبو سلمة؛ اغتاله رجال ملثمون في قلب الظلام؛ لقد انتهي دوره بإعلانه الإمامة الهاشمية، و كان يقلب أمره علي خطرين. ماتت رابعة العدوية، براها العشق الإلهي فثوت فوق جبل الطور قبل أن تبلغ الأربعين. الرجل القادم من خراسان ينساق إلي الموت و كان بالأمس يذيق الناس مرارته، كانت الجماجم تتساقط من حوله؛ جماجم من مختلف الشعوب فالمجد للسيف، حتي إذا خمدت الأنفاس و سكنت الأجراس و مضي علي التاريخ قرن و ثلث دوت ساعة القصاص و كانت العنكبوت

تنسج بيتا هو أهون البيوت. قال ابن البربرية و قد استوي علي عرش نهض علي الجماجم: - الحق أبا مسلم ورده إلي.. انني لم أعد أطمئن له... [ صفحه 72] سكت قليلا و أردف بمكر: - انك تعرف كيف سترده يا جرير. - أجل يا أميرالمؤمنين. ارتدي جرير فراء الثعالب؛ فبدا ناعم الملمس. ركب الثعلب البريد و راح يعدو انه يعرف كيف سيجر الثور إلي عرين الأسد، كان ذيل الثعلب يتوهج في أشعة الغروب عندما لاحت له فرقة خراسان يتقدمها ألف فارس. نمق الثعلب كلمات معسولة أتقنها في الطريق لكأنه أصبح «دمنة». همس دمنة و قد غمر الظلام كل الأشياء: - أيها الأمير، أجهدت نفسك، و أسهرت ليلك و أتعبت نهارك، في نصرة مواليك، حتي إذا استحكم لهم الأمر، و توطد لهم السلطان و نلت امنيتك فيهم تنصرف علي هذه الحال، فما تقول الناس؟ ألا تعلم أن ذلك مطعنة عليك، و مسبة في حياتك و بعد وفاتك؟ قال «شتربه»: انني لا آمنه علي نفسي. قال «دمنة»: كيف و هل يغدر المرء بأخيه؟ سكت «شتربه» خدعته كلمات معسولة و استشار جنده، قالوا: - لا تذهب. قال شتربة و قد سقط في بيت العنكبوت: [ صفحه 73] - أخبرني المنجمون انني لا أقتل إلا بالروم. فركت العنكبوت يديها، اهتزت الخيوط، لقد سقطت الفريسة إذن و حانت لحظة الانقضاض. منذ سقوط دمشق و ثوب العواصم تتنازعه المدن، ارتدته حران أعواما و الكوفة عاما و الأنبار سنين معدودة، حتي استوي ابن البربرية علي العرش، خلعت الأنبار ثوب العواصم فارتدته مدينة «الرومية» مدينة بناها «كسري أنو شروان» يوم نزلت سورة الروم. و جاء أبومسلم حتي إذا ورد «الرومية» أوجس قلبه

خيفة و تذكر نبوءة المنجمين، تمتم مع نفسه مطمئنا: - إن معي ألف فارس. عانق الأسد «شتربه» و قال: - كدت تمضي من قبل أن أراك ، و أفضي إليك بما أريد فادخل قصرك و اخلع عنك ثياب السفر. و ولج الأسد بيت العنكبوت، و جثم حول القصر ألف فارس. و عندما حانت لحظة الانقضاض قال الأسد لذئابه: - اكمنوا حتي إذا جاء «شتربه» وصفقت لكم فاخرجوا إليه و مزقوه. و هكذا حاكت العنكبوت خيوط بيت واهن. [ صفحه 74] جاء الرجل الذي بني مجد غيره علي الجماجم، جرده حارس من السيف، بان الغيظ علي «شتربه» و دخل البلاط غاضبا: - يا أميرالمؤمنين لقد أخذوا سيفي. - اجلس لا عليك. كان الأسد و شتربه وحدهما؛ هكذا تصور الثور المسكين، قال الأسد و قد كشر عن أنيابه: - ما أردت برحيلك إلي خراسان قبل لقائي؟ قال «شتربه»: - لأنك وجهت ورائي إلي الشام من يحصي الغنائم أفلا تثق بي؟ - انني لأعرف ماذا تريد يا خبيث. قال أبومسلم مستعطفا: - يا أميرالمؤمنين أنسيت انني وطدت لكم الملك؟ قال الأسد بغيظ وحقد: - يابن الخبيثة لقد ارتقيت مرتقي صعبا، انني أعرف دسائسك. انهار «شتربه». عرف أن دمنة قد أوقع به فقال: - لا تدخل علي نفسك الغيظ بسببي فاني أصغر قدرا من ذلك. صفق ابن البربرية فانبرت ذئاب تحمل الموت الأحمر، ألقي أبو مسلم بنفسه علي قدم السلطان و لكنه لم يحصل إلا علي رفسة قذفته [ صفحه 75] بعيدا وانقضت الذئاب تمزقه وشتربه يصيح: - اما من سلاح يحامي به المرء عن نفسه. و لما خمدت أنفاس الثور أمر الأسد أن يلفوه ببساط. قال «دمنة»: -

و الآن أيها الملك هيي ء ألف صرة في كل صرة ثلاثة آلاف درهم. و أحدق ألف فارس بالقصر و قد برقت السيوف، فإذا صرار الدراهم تتساقط من نوافذ القصر و معها رأس كان ذات يوم هو الرأس، و ترجل الفرسان يجمعون صرار الدراهم فيما ظل رأس أبي مسلم يحدق في الفراغ. فقد غلب بريق الفظة بريق الحديد. [ صفحه 77]

جعفر ايها الصديق 15

المدينة التي أضاءت العالم منذ قرن بدت حزينة هذه الأيام، فقد انصرم الشتاء، و الغيوم تعبر السماء كسفن تائهة، و تهامس الناس في المساجد و الأسواق و هم يتأملون السحب و هي تتجمع ثم تتبدد، تمزقها الرياح بعنف قبل أن تغمر الأرض الظامئة بحبات المطر. - انه القحط. - أجل القحط. في مواسم القحط تتغير الحياة... و تنبعث من أعماق النفوس الآدمية صفات لا عهد للمرء بها، يخرج الخوف رأسه، يطل من عينين حزينتين، تستيقظ كوامن القلق من المستقبل، يسرع الأثرياء خطاهم إلي الأسواق يشترون ما يحتاجون و ما لا يحتاجون، ترتفع الأسعار، و يتأوه الفقراء يضربون كفا بكف، تتزلزل الثوابت و تغادر البسمات الوجوه، ليضرب الوجوم بكلا كله الثقيلة. و ربما غامر [ صفحه 78] بعضهم بالصيد في الفيافي البعيدة بحثا عن شي ء يشبع به صغاره الجياع. كانوا ينظرون إلي الطيور نظرات طافحة بالحزن، يتمنون أن يظفروا ببعضها لتنقذهم من عضة الجوع، ان للمدن أعراسها و أحزانها، و يبقي القحط جرحا غائرا في أعماقها تتذكره دائما بشي ء من المرارة و الأسف. و أصعب ما في القحط أنه يغير طبائع الناس، يوقظ فيهم غرائز مدفونة في ظلمات ثلاث، فإذا بالإنسان يتحول إلي كائن جديد، حيث تخلع المدن الزراعية أثوابها و يتهامس ابناؤها في شؤون

الصيد و التجارة. و في كل ذلك تستيقظ الأنا مدمرة كوحش كاسر لا يعرف شيئا غير نفسه. و في المدينة كان هناك قلب ينبض بطمأنينة في زمن الخوف، ينبض بالسلام في زمن الرعب، قلب يكاد يستوعب الوجود بأسره. و في المساء و قد آبت الكائنات إلي أوكارها، و غمر الظلام الأزقة، سأل القلب الكبير غلاما له يدعي معتب: - ألدينا قمح؟ و شعر معتب بالغبطة لأن لديه الوفير: [ صفحه 79] - أجل يا سيدي لدينا ما يكفينا ستة شهور. و تألم القلب؛ فالناس يعصرها الجوع و حبوب القمح مكدسة في أكياس القلق و الخوف من المستقبل. - اعرضه في السوق يشتريه الناس. - و نحن يا سيدي؟! - اشتر لنا شعيرا و اخلط به طعامنا فاني أكره أن نأكل جيدا و يأكل الناس رديئا. و لما اشتد الظلام و بدت النجوم ينابيع تتدفق بالأمل؛ أخذ «الصديق» كيسا مليئا بأرغفة الخبز، كان يجتاز الأزقة الغارقة في الظلام، حتي وصل بيوتا خاوية علي عروشها فيها مساكين عضهم الجوع فناموا، و راح الرجل الذي يحمل الخبز يضع عند رؤوسهم أرغفة من لباب القمح. و في الصباح وجد المساكين أرغفة من قمح طيب، فتبادلوا نظرات تساؤل؛ حتي إذا ازدادت حيرتهم نظروا إلي السماء الزرقاء و أدركوا أن قلبا يشبه السماء صفاء و طهرا و اتساعا هو الذي حمل إليهم الخبز و الشبع. والتفت الرجل ذي القلب السماوي إلي غلامه و هو يحمل أكياس القمح إلي السوق: [ صفحه 80] - الحكرة في الخصب أربعون يوما و في الشدة و البلاء ثلاثة أيام، فما زاد علي الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، و ما زاد علي ثلاثة أيام في

العسر فصاحبه ملعون. و انطلق معتب كمن يفر من لعنات تلاحقه. [ صفحه 81]

جعفر ايها الصديق 16

تكتسب الأشياء جمالها من أعماق النفس، فهي جميلة أخاذة حالمة عندما تكون النفس في صفاء مطمئنة آمنة، و ربما بدت ذات الأشياء قلقة خائفة عندما تكون النفس الإنسانية في خوف و قلق، و قد تكون باهتة لا معني لها بل لا وجود سوي ضبابيات كالحة، عندما تشعر النفس انها لم تعد ذات قيمة فالرحيل و شيك.. هكذا كانت حالة «المعلي» ذلك الصباح. كان يسير متعثرا إلي السوق و قد تأخر علي غير عادته، اجتاحته رغبة عارمة في الفرار إلي الصحراء، لم تعد الحياة ذات قيمة في زمن الرعب، و السيف الذي قام باسم أبناء علي غدا يطاردهم في حاضرة جدهم، و المعلي بين نارين، بين أن يتلبس ثوب. الاسخريوطي فيدل علي ابن مريم، و بين أن يذوق حر السيف الغاشم يبطش به أعوان ابن البربرية الذي [ صفحه 82] تلقب بالمنصور. كان غارقا في هواجسه فلم ينتبه إلي حفيد محمد يناديه من قريب: - اغد إلي عزك. قال المعلي و هو يبثه لواعجه: هممت أن أدع السوق. - قال الصديق: - إذن يسقط رأيك و لا يستعان بك علي شي ء. - يا سيدي! اريد أن أتفرغ للعبادة. - لا تدع التجارة فتهون... اسع علي عيالك و إياك أن يكونوا هم السعادة عليك. شعر المعلي بالكلمات تنفذ في أعماقه تعيد بناء ما تحطم فيها من صروح و أعمدة؛ فمضي إلي دكانه لا يلوي علي شي ء. و شيئا فشيئا تناسي المعلي همومه و قد غمرته ضوضاء السوق، فهناك قافلة كبيرة تريد الانطلاق إلي مصر، فهي تبتاع من أمتعة تحملها إلي شمال أفريقية.

و رأي المعلي رجلا يعرفه فناداه من قريب: - يا مصادف! [ صفحه 83] رفع مصادف رأسه و نظر إلي المنادي و هتف: - هذا ما كنا نبغي.. أين كنت سائر اليوم؟! - تأخرت عند السوق علي غير عادتي.. و لكن أخبرني ماذا تفعل هنا؟ أجاب مصادف: - أعطاني سيدي ألف دينار و قال لي: تجهز حتي تخرج إلي مصر فإن عيالي قد كثروا؛ و استدرك قائلا: - أشر علي يابن خنيس في المتاع. وراح المعلي يرشد مولي الصادق في ما ينبغي له أن يبتاع إلي مصر. و قبل أن تتوسط الشمس كبد السماء شعر المعلي بيد غليظة تهزه بشدة و صوت فظ يأمره: - أجب الأمير. أدرك المعلي أن الساعة آتية لا ريب فيها، و قد آن له أن يودع السوق و الحياة؛ فمضي مع الشرطي طائعا إلي حيث يريد. قال والي المدينة و هو يلوح بسوطه مهددا: - أعرف انك تخفيهما عني... أردف بنبرة فيها فحيح الأفاعي: [ صفحه 84] - إذا لم تدل عليهما فستخرج من هنا دون رأس. و عرف المعلي بان رأسه مطلوب منذ أن اختفي محمد و إبراهيم عن الأنظار، ما يزال ابن البربرية يبحث عنهما، و يدس كلابه هنا و هناك عله يعثر عليهما، فالبيعة القديمة ما تزال تؤرقه تحيل لياليه إلي أرق طويل. قال المعلي و قد عرف كيف يربح الصفقة الأخيرة في حياته: - والله لو كانا تحت قميصي ما كشفته عنهما. صرخ الوالي بقائد الشرطة: - ماذا تنتظر أيها الأبله؟. و هوي سيف غاشم ليطيح برأس هدته الهموم. هناك في أعماق الإنسان ما يشبه البركان.. انه يفور في الأعماق دون أن يشعر به أحد، و

ربما انتابت البركان فورة غضب فإذا قشرة الأرض تنفلق و إذا بالحمم تتشظي في الفضاء، هكذا بدا «ابن محمد» و هو يأخذ طريقه صوب قصر الوالي. حتي الشرطة خذلتهم أيديهم و أرجلهم؛ فالبركان الثائر يتقدم باتجاه الوالي و اندفعت الحمم مدمرة غاضبة: - لقد قتلت مولاي و أخذت مالي؛ أما علمت أن الرجل ينام علي الثكل و لا ينام علي الضيم. [ صفحه 85] و وجد الوالي نفسه مخذولا أمام رجل يحمل بين جوانح صدره قبسا من ثورة الحسين: - أنا لم أقتله يا أباعبدالله... قتله السيرافي قائد شرطتي.. فإن شاء أهل المقتول القصاص فليفعلوا. و اقتيد قائد الشرطة مثل كلب ذليل إلي نهايته، كان يصيح يريد أن يدرك أشياء لا يفهمها: - يأمرونني بقتل الناس فاذا قتلتهم قتلوني!! و تهامس الناس: لو كان النمرود بلا كلاب بلا شرطة ما قال لإبراهيم أنا أحيي و أميت و لما قال فرعون أنا ربكم الأعلي. و عاد البركان إلي بيته، ما يزال الغضب السماوي متفجرا و ليس هناك من شي ء يتسع لعمق الكلمات سوي السماء اللامتناهية، و رفع ابن محمد يديه يشكو من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، و ترددت في الفضاء دعوات الأنبياء: - اللهم اني أسألك بنورك الذي لا يطفي. و بعزائمك التي لا تخفي. و بعزك الذي لا ينقضي و بنعمتك التي لا تحصي. و بسلطانك الذي كففت به فرعون عن موسي. اكفني داود بن علي الساعة الساعة انك قريب سميع الدعاء. [ صفحه 86] أضاءت في السماء النجوم؛ تألقت كقلوب تنبض بالأمل.. لقد استجيبت دعوة العبد الصادق و قد هلك النمرود؛ و غرق فرعون و جنوده؛ و سمعت الصيحة في قصر داود. [ صفحه

87]

جعفر ايها الصديق 17

عادت القافلة و قد فصلت العير عن مصر.. عادت تحمل الربح الوفير، و تحمل من عطور مصر الشي ء الكثير. و كان مصادف يشعر بالفرح فقد نجح في مهمته و ربحت تجارته، و امتزجت فرحته بالربح بفرحة لقاء الأحبة و الديار. دخل مصادف و وجه يطفح بشرا، كان يحمل كيسين ملئا ذهبا، قال و هو يناولهما سيده: - هذا رأس المال و هذا ربحه.. لقد ربحت تجارتنا يا سيدي. رد الإمام مستفهما: - و كم هما؟ - ألفا دينار. - ان هذا الربح لكثير!! ماذا صنعت حتي ربحت هذا الربح؟! [ صفحه 88] كان مصادف يتوق إلي هذه اللحظة ليحدثه عن تفاصيل رحلته إلي مصر فقال: - اشترينا متاعنا من سوق المدينة و كان فيه ما حمله تجار اليمن و مكة، و انطلقنا إلي مصر حتي إذا وصلنا قريبا منها إذا بقافلة من تجارها تستقبلنا في الطريق؛ و كان المكان محطة للقوافل، فأناخت النوق؛ تلتقط أنفاسها من رحلة مضنية. غابت الشمس و توارت خلف التلال و حل الظلام و اشتعلت مواقد النار هنا و هناك في تلك الأرض؛ تساءل تجار مصر عما تحمل قوافلنا من المتاع، حتي إذا عرفوا ما فيه برقت عيونهم دهشة، فسأل بعضنا عن سر دهشتهم فقال أحدهم: - انه متاع العامة و ليس في مصر منه شي ء. و قال آخر: - ما أوفر حظكم، أنتم قوم سعداء. و في الصباح انفصلت عير مصر، وراح بعضنا ينظر إلي بعض. قال قائل: - لا تبيعوا متاعكم حتي يربح الدينار دينارا. و برقت العيون اصرارا و لهفة. شعر الصديق بقلبه يتلوي ألما فاعتصم بالصمت، فيما ظل مصادف [ صفحه 89] يروي حكايته: -

و هكذا دخلنا مصر، فاهتز سوقها من أقصاه إلي أقصاه، و أحاطنا التجار من كل صوب، فلم نكن لنساوم علي قيمة المتاع؛ كانوا ينصرفون ثم يعودون فلا يجدون سوي الاصرار كانت مقاومتهم تتضاءل شيئا فشيئا حتي سلموا لنا؛ و هكذا ربح الدينار دينارا.. فهذه ألف دينار رأس المال و هذه ألف دينار ربحه. طافت غيمة رمادية جبين وارث النبوات؛ قال بحزن مرير: - سبحان الله! تتحالفون علي قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلا ان يربح الدينار دينارا!؟ أخذ ابن محمد كيسا واحدا و قال بحزن: - هذا مالنا.. لا حاجة لي بالربح. أطرق مصادف يفكر حائرا، و سمع سيده يقول: - يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال. تذكر مصادف أشياء في رحلته لم يكن يأبه لها، تذكر و ميض العيون و هي تبرق طمعا في الربح الوفير، تذكر همسات التجار في قلب الظلام لكأنهم يتآمرون. تذكر توسلات الناس في أسواق مصر و قد آلمهم ارتفاع السعر؛ تذكر كل تفاصيل رحلته، و أدرك عندها انه لم يربح شيئا سوي لوم سيده، فألقي نظرة ازدراء علي كيس فيه ألف [ صفحه 90] دينار ذهبي يخطف بالأبصار. و دوت في أعماقه كلمات قالها سيده ذات يوم: - كم من طالب للدنيا لم يدركها و مدرك لها قد فارقها... ما الدنيا؟ هل الدنيا إلا أكل أكلته أو ثوب لبسته؟ و نهض مصادف ينفض عن ثوبه غبار الرحلة و يغسل عن نفسه أدران تجارته؛ و أدرك انه لم يخسر شيئا ذا قيمة، بعد أن ربح نفسه التي بين جنبيه. و لم يكد فجر اليوم التالي ليطلع حتي كانت الألف دينار تتناثر فوق بيوت الفقراء. [ صفحه 91]

جعفر ايها الصديق 18

مكة

تموج بالحجيج و قد أقبلوا من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم في أيام معدودات. و قد بدا الحج ذلك العام عجيبا، فقد جاء رجل يحمل في هيئته ملامح النمرود. فكيف لبي نداء إبراهيم و جاء؟! هل جاء ليقول ان النمرود لم يمت بعد، و أن فأس إبراهيم تحطم أصناما حجرية، أما النمرود فلا، انه يعرف من أين تؤكل الشاة. خلع ابن البربرية ثيابا بيضاء ليرتدي حلته السوداء المخيفة، وارتدي الوزراء أزياءهم المزينة بكل ما يعرض ابهة الملك والصولجان. و جاء أحدهم يحمل جوهرة نادرة ليست لها في مكة نظير. قال الوزير: - انظر يا أميرالمؤمنين ما أجملها و أبهاها! [ صفحه 92] ألقي ذو الرداء الأسود نظرات متفحصة، و ومضت في ذهنه ذكريات قديمة، برقت كمن يكتشف شيئا: - هذا جوهر فاخر انني أعرفه. سكت قليلا و أردف: - انه لهشام بن عبدالملك، و هو عند ابنه. قال الوزير: - ولكن لم يبق من أولاده أحد. - كلا، بقي منهم ابنه الأصغر... ألقي نظرات ذات مغزي: - انه في مكة إذن... لن يفلت من يدي هذه المرة. حاكت العنكبوت نسيجا لبيت واهن: - سوف اصلي غدا بالناس في المسجد الحرام.. فأغلق الأبواب جميعا وافتح بابا واحدا فقط... لا تترك أحدا يخرج منه إلا بعد أن تعرف من يكون. بدت الكعبة وسط الجموع الحائرة سفينة وسط الأمواج البشرية، حامت أسئلة فوق الرؤوس كأسراب من الغربان التائهة. قليلون جدا هم الذين أدركوا لم أغلقت الأبواب، وانتشر الحراس. [ صفحه 93] هناك رؤوس مطلوبة إذن، فما زال للشجرة الملعونة أغصان لم تقطع بعد. تمتم ابن هشام و قد أدرك سوء حظه: - البعرة تدل علي البعير و

الاثر يدل علي المسير... ليتني لم أبعها في مكة؛ ولكن ماذا أفعل و قد ضاقت بي السبل. لعن في نفسه معاوية و مروانا: - ها نحن نجني ما زرعه الأجداد من شجر من زقوم. كان يهذي مع نفسه كمن أصابه مس من الجنون. كان أخشي ما يخشاه أن يعرفه أحد، كل الناس حاقدون علي بني امية و حق لهم ذلك، لقد عاثوا في الأرض الفساد و قهروا العباد و خربوا البلاد. تذكر ما فعلوه في السنين الخوالي يوم صلبوا زيدا في الكوفة و يحيي في أرض الجوزجان. شعر بالرعب يخنق أنفاسه و قد قفز قلبه إلي حنجرته وراح يدق بعنف كطبل مجنون. الناس يخرجون من الباب أفواجا أفواجا و لسوف يبقي وحيدا يلوذ هنا و هناك حتي يمسكوا به كجرذ مذعور. ارتدي وجهه قناع الخوف حتي كاد يصيح خذوني. [ صفحه 94] و جاء رجل من جهة الكعبة يسعي. قال بلطف و قد رأي حيرته: - يا هذا! أراك متحيرا فمن أنت؟ لم يجد ابن هشام بدا من الاعتراف؛ فلعل النجاة في الصدق: - ولي الأمان؟ - ولك الأمان. - أنا محمد بن هشام بن عبدالملك؛ فمن أنت؟ - محمد بن زيد بن علي. و كاد سليل الشجرة الملعونة أن يغشي عليه من الموت فقال منهارا: - عندالله أحتسب نفسي. فقال سليل الحسين: - لا بأس عليك فأنت لست بقاتل زيد و لا في قتلك درك بثأره، سأسعي في خلاصك. و أطرق مفكرا و قد ومضت في ذهنه فكرة: - ولكن اعذرني في مكروه أتناولك به و قبيح قول أخاطبك به يكون فيه خلاصك. فقال المذعور و قد برقت عيناه أملا: - افعل ما بدا

لك. [ صفحه 95] قاد العلوي أمويا من بقايا الشجرة الملعونة إلي زاوية. حانت لحظة العمل، رفع طرفا من ثوبه و غطي رأسه ثم أمسك به من ياقته وراح يجره بعنف إلي الباب حتي إذا وصل إلي الوزير، و كان منهمكا في تفحص الوجوه و الأسماء هتف و هو يلطم الاموي: - يا أباالفضل ان هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة أكراني جماله و قد هرب مني و أكري جماله بعض قواد الخراسانية ولي عليه بذلك بينة. ليس هناك ما يجعل الوزير يرتاب أو يشك، فلم يكن ليخطر علي باله أن علويا يزخر بالجراح والعذابات يعمل في خلاص أموي قاتل. ابتسم الوزير متوددا و أمر شرطيين باصطحابه عبر الباب. و شعر الاموي المطلوب بأن ثقلا ينزاح عن صدره، و لكن ماذا سيفعل هذا العلوي الطيب مع الشرطيين. ابتعد الأربعة عن المسجد؛ هتف العلوي و هو يهز صاحبه بشدة: - يا خبيث تؤدي إلي حقي؟ قال الرجل المذعور: - نعم يابن رسول الله. التفت ابن زيد إلي الشرطيين: [ صفحه 96] - عودا إلي الربيع و ابلغاه امتناني. عاد الشرطيان أدراجهما. كان الاموي ينظر مشدوها إلي رجل من أبناء علي؛ دوت في أعماقه حقيقة كبري: - الله أعلم حيث يجعل رسالته. لم يتمالك الأموي نفسه فعانق العلوي و قبل جبينا مشرقا. دس الاموي يده في جيبه و استخرج جوهرة نادرة و قدمها إلي رجل أنقذه من موت محتم: - شرفني يا سيدي بقبولها. قال العلوي و قد تألقت آلاف الفضائل في عينيه: - انا أهل بيت لا نقبل علي المعروف ثمنا. سكت قليلا و أردف: - و قد تركت لك ما هو أعظم من هذا دم زيد

بن علي؛ فانصرف راشدا... و وار شخصك حتي يرجع هذا الرجل فانه مجد في طلبك. وجد الاموي نفسه عاجزا عن الكلام، فنظر إليه بامتنان وانصرف. وافترق الرجلان، فيما ظل «الشيخ» الغارق في السنين و الحوادث مشدوها. [ صفحه 97]

جعفر ايها الصديق 19

أصبحت المدينة التي كانت مضيئة قبل أكثر من قرن خائفة تترقب فقد انطوي موسم الحج و مضت أيامه المفعمة بالأمن، ليعود الرعب يلقي بكلا كله فوق الأرض. منذ أعوام، وابن البربرية الذي أضحي ملكا جبارا يبحث عن رجل حسني يحمل اسم النبي و قلب علي، اختفي فجأة و لم يعد له من أثر. الملك الجبار يخشي الذي غاب عن الأنظار، و سرت الهمسات في الليالي المظلمة تتحدث عن محمد بن عبدالله الذي غاب، ليظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. كانت المدينة خائفة تترقب فالجبار قادم إليها و شيكا. و لم يكن حجه هذا العام إلا «مكاء و تصدية». الذين يعرفون ابن البربرية في الأيام الخوالي دهشوا لما رأوه [ صفحه 98] غارقا في ابهة الملك، و قد بدا في حلله السوداء جبارا في الأرض. و خيل «للقراء» انهم يرون النمرود جاء يبحث عن أخ لإبراهيم. حل «النمرود» في المدينة، و غمر الخوف منازلها. ولكن من أين حصل ابن البربرية علي كل هذا الجبروت في الأرض؟! منذ الأزمنة السحيقة والجبابرة يولدون في النفوس الخائرة.. النفوس التي تسكنها فئران خائفة. لكأنهم علي ميعاد مع الشعوب في لحظات الرعب.. الرعب الذي يذر قرنيه عندما تستيقظ الغريزة و تغفو الروح و يخبو عنفوانها المتوهج. و هكذا خلع ابن البربرية رداءه الأصفر ليرتدي السواد من هامته إلي أخمص قدميه، لقد عرف كيف يبني جبروته في

النفوس المذعورة. وجد ابن البربرية نفسه يضحك في أعماقه و هو يتأمل الحشود تستقبله بابتسامات رسمها التملق و الإملاق؛ تمتم في نفسه: - جوع كلبك يتبعك.. و أردف ساخرا: - و ربما يعبدك. و تمر الأيام والحشود لا تنفك تزور الخليفة، تبارك له انتصاراته [ صفحه 99] السابقة و اللاحقة، تساءل بمرارة: - مالي لا أري «الصادق» أم كان من الغائبين؟! نظر النمرود إلي وزيره، قال الوزير في خضوع: - أنا آتيك به. بلع الجبار ريقه بمرارة، و أقسي شي ء علي الجبابرة أن يجدوا بين الناس من لا يأبه بهم و لا يرهب جبروتهم. و جاء رجل من أقصي المدينة يسعي، فسلم و جلس، كان ربعة و في وجهه المضي ء خال، و نبع من الطمأنينة يتدفق في قسماته الهادئة، ينبي ء أن القلب يخفق بهدوء و سلام. - أمر عجيب!!! تساءل الحراس و هم يتطلعون إلي رجل أعزل إلا من عصا يتوكأ عليها. قال ابن البربرية في عتب متكلف: - لم لا تغشانا كما يغشانا الناس. و انقلبت الغين خاء في آذان المذعورين فبدالهم أنهم سمعوا النمرود يقول: لم لا تخشانا كما يخشانا الناس؟! قال الرجل الذي يحمل ميراث الأنبياء: - ليس لنا من أمر الدنيا ما نخافك عليه، و لا عندك من أمر الآخرة [ صفحه 100] ما نرجوه منك... لا أنت في نعمة فنهنيك و لا في نقمة فنعزيك. أجاب مراوغا: - تصحبنا لتنصحنا. قال الصديق و قد تفجرت الحكمة من جوانبه: - من أراد الدنيا لا ينصحك، و من أراد الآخرة لا يصحبك. ساد الوجوم الوجه القاسي، و بذل طاقة جبارة في دفن أحقاده القديمة. و نهض حفيد إبراهيم عائدا من حيث أتي

بعد أن حطم بعصاه الوثن البشري. [ صفحه 101]

جعفر ايها الصديق 20

عندما يحطم الخنزير القابع في الأعماق قيوده و سلاسله، فلن يبقي أمام الإنسان سوي الاختباء بعيدا، لن يبقي منه أثر له سوي أهاب باهت لصورة بشرية مشوهة، سوف تفقد العينان صفاءهما الفطري ليحل مكانهما بريق مخيف و سوف يتخلي القلب عن دفئه ليتحول إلي كتلة من الرصاص. لقد تحول «ابن البربرية» إلي وحش كاسر يدمر كل من يقف في طريقه. المدينة ما تزال خائفة تترقب، فالجبار لما يزل يبحث عن محمد بن عبدالله و عن أخيه؛ و قد أعيا الكلاب البحث عنهما. انطوي ثلث من الليل، الشرطة تجوب الأزقة و تقتحم منازل لم تغف بعد. اشتدت ظلمة الليل و بدت النجوم عيونا ترقب ما يجري في [ صفحه 102] الأرض المظلمة حتي إذا طلع الفجر جاءت الكلاب مسعورة تنبح ثمانية رجال، سبعة شباب و شيخا طاعنا في السن. وقف النمرود يستعرض اسراه بغيظ. هتف الشيخ ببسالة: - ما هكذا عاملنا اسراكم يوم بدر. برقت في الذاكرة بيعة قديمة، ما تزال تطارده تقض مضجعه، تسلب من عينيه حلاوة النوم، تتحول إلي كابوس يطارده عبر الليالي. أشرقت الشمس... غمرت المدينة بالأضواء و سري دف ء ناعم في البيوت؛ و قد أزفت ساعة الرحيل، الظل الثقيل ينحسر عن المدينة، غير أنه سرق معه الشمس فالمدينة زمهرير. و تهامس الناس بأخبار مقلقة. لقد أخذ الجبار معه ثمانية من ذرية الحسن، و رجلا من ذرية الحسين. عبر الركب أرض الحجاز متوغلا في الصحراء من تخوم العراق. و في واحة علي الطريق و قد غمر الظلام صعيد الأرض و أضني المسافرين السفر، تسلل فارسان كانا يتبعان ركبا فيه أبوهما و أبناء عمومتهما.

زحفا في الظلام بين حنايا الرمال الناعمة إلي حيث حشر ثمانية [ صفحه 103] رجال من ذرية الحسن، كان هم محمد و إبراهيم إنقاذ أبيهما، همس محمد و قد آلمه منظر أبيه و هو ينوء بالسلاسل و بثمانين من السنين: - يا أبت! يقتل رجلان من آل محمد خير من أن يقتل ثمانية.. أجاب الشيخ و قد اشتعلت في أعماقه ثورة: - ان منعكما الجبار أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين. ليس هناك من خيار سوي الثورة، انها ميراث الحسين إلي أبناء أخيه. لقد وجه ابن البربرية نفسه فجأة فوق العرش، فنظر إلي الحضيض الذي كان يزحف فيه فرآه هاوية سحيقة مالها من قرار.. من أجل هذا راح يتشبث بالعرش بالصولجان، و رأي نفسه إذا سعل اهتز القصر و مادت الأرض بأهلها، فقال و قد نفخ الشيطان في روعه: - انما أنا سلطان الله في الأرض. و جاءت الكلمات تنضح علوا في الأرض و فسادا لكأنها أصداء بعيدة لكلمات قيلت قبل عشرات القرون في «منف» عندما صدح «منفتاح» علي شطآن النيل: - أنا ربكم الأعلي. و يوم قال النمرود في بابل: [ صفحه 104] - أنا أحيي و أميت. وصل الركب قرية صغيرة تدعي «بغداد»، حيث يمرق دجلة تتدافع أمواجه كشريط من التاريخ؛ في الأرض التي نبتت فيها النخيل كرموش حورية غافية؛ عندما يصب نهرا «بطاطيا» و «الصراة». و هكذا و مضت في ذهن النمرود أن يبني جنته، ستكون لها أسوار شاهقة و أبواب و بروج مشيدة. [ صفحه 105]

جعفر ايها الصديق 21

استيقظت قرية صغيرة علي شاطي ء «دجلة» حيث يلتقي نهر «الصراة» لتجد نفسها في قلب التاريخ. و شهدت الأرض المكتظة بالنخيل آلاف العمال

و البنائين و المهندسين، لقد ولدت العاصمة بغداد. كان الحجاج بن ارطاة، يحمل في رأسه أجمل مدن الشرق. أحضر آلاف العمال كرات من القطن المنقوع بالنفط لترسم دائرة كبيرة يمتد محيطها إلي أكثر من عشرة آلاف ياردة، و في لحظة واحدة شبت النار في الكرات لترسم دائرة من نار و دخان. كان «النمرود» يراقب باستمتاع اشتعال النار حيث ستنهض الأسوار العالية. أشار كبير المهندسين إلي مركز الدائرة: - و هنا سينهض قصر الذهب؛ ليكون الخليفة قطب الدائرة [ صفحه 106] و مركزها. و اتخذ النمرود مجلسا يطل علي المكان، فكان يراقب السفن و هي تحمل حزم القصب و البردي؛ والعمال و هم يحفرون خندقا دائريا يحيط بالسور و قد تركت أربعة معابر تؤدي إلي بوابات المدينة الأربع. ثلاثة أشياء و مضت في ذهن النمرود و هو يبني جنته علي شطآن دجلة: أن يبني سجن كبير نصفه في الأرض و نصفه الآخر في الفضاء و أن يكون قريبا من القصر. أن يحفر نفق طويل يمتد من القصر إلي خارج الأسوار. أن تكون الأسواق خارج المدينة. أدرك كبير المهندسين نوايا النمرود، فالفصول القادمة فصول تزخر بالدماء و جماجم الضحايا و أنات السجناء. و سيكون النفق السري الذي يمتد اثني عشر ميلا عربيا منفذا للفرار عندما ينقلب علي الساحر سحره. و لم يخف علي الحجاج بن ارطاة كبير المهندسين غاية الخليفة من إصراره علي بناء الأسواق خارج المدينة، فقبل عشرين سنة كان رجال يرتدون هيئة التجار يجوسون خلال المدن من «الحميمة» إلي [ صفحه 107] الأرض التي تطلع منها الشمس. كانوا يرتادون الأسواق و يتظاهرون بالبيع و بالشراء، و لكنهم كانوا يتعاطون تجارة سرية بضائعها كلمات و رموز.

لهذا خشي النمرود أن يأتي «تجار» آخرون. جنحت الشمس للمغيب و انطلق كبير المهندسين إلي مكانه المفضل في ربوة عالية علي شاطي ء دجلة من جهة الشمال، وراح يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر، فتخيل انبعاث المنائر و القباب تغمرها أشعة شمس الغروب. كان يعرف ان مشكلته تكمن في عقلية هذا الحاكم الذي لا يحمل عن المدينة صورة سوي أن تكون معسكرا كبيرا له و لجنوده، فالقصر قلعة قوية و النفق السري شريان حياة، و الأسوار العالية بروج مشيدة علها تصد عنه حملات الموت. حتي القبة التي ستعلو القصر، سيعلوها فارس بيده رمح طويل! غابت الشمس؛ توارت خلف ذري النخيل، فبدت متقدة بلون يشبه توهج الجمر في مواقد الشتاء. عاد كبير المهندسين و هو يفكر فيما يتوجب فعله في صباح غد. [ صفحه 109]

جعفر ايها الصديق 22

مسجد الكوفة يموج بالناس و الأخبار؛ الجموع تملأ فناء المسجد و قد تشكلت حلقات و دوائر، اختلطت الأصوات فلا يسمع المرء سوي همهمة بشرية، و قد زخر الفضاء بمختلف الأصوات، و بدا المسجد جامعة كبري. في وسط الضجة كان الناس يصغون إلي أخبار المدن البعيدة، قتل محمد عند «أحجار الزيت» علي مشارف «المدينة المنورة» و تألقت في الأذهان نبوءات قديمة عن نفس زكية يراق دمها في أحجار الزيت. و قد شبت نار الثورة في البصرة، أشعلها شقيق له يدعي «إبراهيم» و لكن رياح القدر كانت تعصف بعنف و سقط الفارس في «باخمري» علي بعد ثلاثين ميلا جنوب الكوفة. و شعر النمرود بالارتياح فانطلق إلي «بغداد» الصبية الجميلة التي تغتسل علي شواطي ء دجلة. [ صفحه 110] شعر النمرود أن رأسه فارغ من الهموم، فلقد ابتلعت الأرض خصمين لدودين طالما أرقاه في الليالي. بدت

بغداد من بعيد جنته الموعودة، و ضاعفت ابهة الملك وحشود الجنود و الحراس من شعوره بأهميته، و كاد أن يهتف وسط الجموع: - أنا ربكم الأعلي. ولكنه استدرك ذلك فقال: - انما أنا سلطان الله في الأرض. و خشعت أبصار الذين أشركوا. استقل «النمرود» زورقا ملكيا و قد بدت شطآن دجلة المكتظة بباسقات النخيل كرموش صبية استيقظت توّاً من النوم. و شعر النمرود بنشوة حالمة «و دخل جنته و هو ظالم لنفسه» قال: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» «و ما أظن الساعة قائمة». رسي القارب في مرفأ هادي ء؛ و كانت بعض القوارب الصغيرة تنقل آخر هبات هذه الأرض من لباب القمح، كانت الأسوار قد نهضت قليلا، و كان عمال البناء ينوءون بحمل لبنات مكعبة الشكل تزن الواحدة منها مئتي رطل، و كان أبوحنيفة منهمكا في ضرب اللبن وعده، فلأن يحمل أسوار بغداد علي ظهره أيسر من نهوضه [ صفحه 111] بالقضاء. كان قصر الذهب الذي يتوسط المدينة قد أوشك علي الانتهاء، و قد بدا بقبته الخضراء كائنا خرافيا انشقت عنه الأرض. أشار كبير المهندسين إلي تمثال فارس يحمل رمحا طويلا يتربع فوق القبة كأنه يشير إلي جهة من الجهات. أبدي النمرود دهشته عندما عرف أن هذا التمثال يدور حول محوره فيشير برمحه إلي جهة ما.. كان الخليفة يحاول إخفاء رغبته بتفقد السجن الذي يقع إلي الجنوب من القصر، و أدرك المهندس رغبة الخليفة فتقدم في «سكة» تؤدي إلي «المطبق». نزل الخليفة عدة درجات في سلم ضيق نحو الأعماق المظلمة. أخفقت المشاعل في تبديد الظلمة الرهيبة، كانت الأقبية و الزنازين و الدهاليز غارقة تماما في الظلام؛ و كان الخليفة يتفقد المكان باهتمام فاق اهتمامه بالقصر

و المدينة و حتي الأسوار. بدا المطبق في تلك الساعة وحشا مخيفا يتربص بضحاياه. مر الزمن بطيئا كسلحفاة كسول، و الخليفة يتفقد الأنفاق الغارقة في الظلام. توقف أمام زنزانة منفردة تشبه بئرا محفورا في سرداب. [ صفحه 112] كانت المشاعل ما تزال تتوهج تحاول أن تبدد ظلمات تتراكم بعضها فوق بعض؛ بدت ظلال الخليفة والحراس الغلاظ مردة تتراقص علي الجدران الصخرية القاسية. اكتمل حفر الخندق الذي يحيط بالمدينة، و أضحي مستعدا لاستقبال مياه الفرات المتدافعة عبر قناة «كرخايا». كل شي ء يمضي علي ما يرام و قد ولدت غانية الشرق. [ صفحه 113]

جعفر ايها الصديق 23

من أصعب الأشياء أن يروض المرء وحشا مسه طائف من الجن! لقد استيقظ الخنزير القابع في الأعماق المظلمة وفر الإنسان بعيدا يلوذ في الكهوف و المغارات. جيوش النمرود تحصد الرؤوس في باخمري، والمدينة تصادر البيوت و المنازل و الضياع. و كانت الأوامر تقضي بإحضار كل من بلغ الحلم من أبناء علي و فاطمة. كانت الكوفة تترقب مذبحة كبري؛ فالنمرود يبني مجده علي جماجم الضحايا وقضم العظام الآدمية. و تمر الأيام مريرة قلقة مدمرة حتي إذا أطل محرم الحرام من سنة 146 تحفز الخنزير للفتك، و خرج الحاجب يهتف بأبناء علي و قد جي ء بهم من المدينة: - أين هؤلاء العلوية؟ [ صفحه 114] وأردف و هو يستعرض عشرات الوجوه: - ليدخل من ينوب عنكم علي أميرالمؤمنين. مرت لحظات؛ كان الصمت يهيمن علي المكان. نهض رجل قد ذرف علي الستين؛ كان يتوكأ علي عصا، في عينيه بريق لنبوات غابرة، لكأنه موسي قد جاء إلي فرعون انه طغي. هتف النمرود بحقد: - أأنت الذي يعلم الغيب؟ أجاب الشيخ بوقار ورثه عن أبيه محمد: -

لا يعلم الغيب إلا الله. صر النمرود علي أسنانه: - أنت الذي يجبي إليه الخراج؟ أجاب الشيخ و هو يحاول ترويض الوحش: - بل إليك يا أميرالمؤمنين. سكت النمرود و قد و مضت في رأسه فكرة شيطانية؛ قال باستعلاء: - أتدرون لم أحضرتكم؟ -... - أردت أن أهدم ربوعكم و أروع قلوبكم و أعقر نخلكم [ صفحه 115] و أترككم بالسراة.. لا يقربكم أحد من أهل الحجاز و أهل العراق فانهم لكم مفسدة! أجاب الشيخ و قد عرف كيف يهدي ء من جنون الوحش: - يا أميرالمؤمنين! ان سليمان أعطي فشكر، و إن أيوب ابتلي فصبر، و ان يوسف ظلم فغفر، فاقتد بأيهم شئت. هدأ الخنزير قليلا، تمدد قليلا و أخرج الإنسان رأسه من الكهف: - أعد علي ما قلت! - ان سليمان أعطي فشكر، و ان أيوب ابتلي فصبر، و ان يوسف ظلم فغفر. هتف الخليفة مأخوذا: - مثلك فليكن زعيم القوم لقد عفوت عنكم. غمر الصمت المكان؛ و خرج الإنسان من أعماق الكهف بعد أن غط الخنزير في نوم عميق: - حدثني الحديث الذي حدثته عن آبائك عن رسول الله صلي الله عليه و آله؟ قاد الشيخ الإنسان الخائف الي بقعة يغمرها الضوء: - حدثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلي الله عليه و آله قال: «صلة الرحم تعمر الديار و تطيل الأعمار و إن كانوا كفارا». شعر الإنسان بالدف ء فالتمس المزيد: [ صفحه 116] - ليس هذا أعني. - حدثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «الأرحام معلقة بالعرش تنادي: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني». - ليس هذا أعني. -

حدثني أبي عن آبائه.. عن رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ان الله عز و جل يقول: «أنا الرحمن خلقت الرحم و شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته و من بتها بتته». - ليس هذا. - حدثني أبي...: «ان ملكا من الملوك كان بقي من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه فجعلها الله ثلاثين سنة». استلقي الإنسان في غمرة الضوء و الدف ء و هتف بارتياح: - هذا ما أردته.. أي البلاد أحب إليك؟ فوالله لأصلن رحمي. هتف الشيخ و قد خفق قلبه لموطن آبائه: - المدينة. و عاد الخائفون إلي ديارهم و كفي الله المؤمنين القتال؛ والذين شهدوا اللقاء حيرتهم ابتسامة الوحش؛ منذ أعوام و هم لا يرون غير أنياب مكشرة تريد قضم المزيد من العظام الآدمية. [ صفحه 117]

جعفر ايها الصديق 24

وقف أبوحنيفة ينتظر الإذن بالدخول؛ ولكن دون جدوي؛ غير ان النعمان يدرك أي نبع من العلم يتدفق خلف الحجرات، و أي كوكب دري يغمر بنوره ما بين الخافقين؛ لهذا وقف ينتظر باصرار رغم حرارة الجو في هذا القيظ اللاهب، و جاء رجال من الكوفة فدخلوا و دخل أبوحنيفة؛ و استقر المجلس بالوافدين. حاول النعمان أن يعدل من جلسته، ولكنه وجد نفسه يجلس كتلميذ في حضرة معلمه، و وجد نفسه ينظر مشدوها إلي رجل من آل محمد. تساءل عن بواعث هذه الهيبة التي تعتريه لهذا الشيخ! لقد قابل الخلفاء و الأمراء و واجه المنصور فلم يشعر بقيد أنملة من ذلك، تري من أين يستمد جعفر كل هذا الجلال؟! و كاد أبوحنيفة أن ينسي الأمر الذي جاء من أجله. هناك في [ صفحه 118] الكوفة من يشتم الصحابة، و هو لا يتحمل ذلك أبدا.

لملم ثوبه متحفزا للحديث و كان المجلس خاشعا في حضرة الصديق جعفر. قال النعمان بأدب: - يابن رسول الله لو أرسلت إلي أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب رسول الله، فاني تركت فيها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم! قال الصديق: - انهم لا يقبلون مني. هتف النعمان: - و من لا يقبل منك و أنت ابن رسول الله؟! قال ابن محمد: - أنت أولهم؛ دخلت بغير إذني و جلست بغير أمري و تكلمت بغير رأيي، و قد بلغني أنك تقول بالقياس؟ أجاب النعمان مؤكدا: - نعم؛ أقول به. - ويحك يا نعمان أول من قاس إبليس حين أمر بالسجود لآدم فأبي، و قال: «خلقتني من نار و خلقته من طين». [ صفحه 119] و بدا النعمان متحفزا للدفاع عن مذهبه. سأل الصديق صاحبه و هو يحاوره: - أيهما أكبر يا نعمان القتل أم الزنا؟ - القتل. - فلم جعل الله في القتل شاهدين و في الزنا أربعة؟ أيقاس لك هذا؟ - لا. - فأيهما أكبر البول أم المني؟ - البول. - فلماذا أمر في البول بالوضوء و أمر في المني بالغسل.أيقاس لك هذا؟ - لا. - أيهما أكبر الصلاة أم الصوم. - الصلاة. - فلم وجب علي الحائض ان تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ - لا. - فأيهما أضعف الرجل أم المرأة؟ - المرأة. [ صفحه 120] - فلم جعل الله للرجل سهمين في الميراث و للمرأة سهم؟ أيقاس ذلك؟ - لا. كانت الحقائق تشرق و كانت الأباطيل تتبدد كضباب في ضوء الشمس. الصمت يغمر المكان بالجلال، دخل خادم يحمل طبقا مليئا بالرطب، ثم أسرع بالخروج ليحضر الماء. سأل الإمام صاحبه: -

و قد بلغني أنك تقرأ آية من كتاب الله «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» و تقول: انه الرطب و الماء البارد في اليوم الصائف. - نعم. - لو دعاك رجل و أطعمك و سقاك ثم امتن عليك ما كنت تنسب إليه؟ أطرق النعمان و قال مهزوما: - البخل. تساءل الصديق: - أفبخل علينا. بدت ملامح الحيرة علي وجه النعمان فتساءل عن النعيم: [ صفحه 121] - فما هو إذن؟! - حبنا أهل البيت. و طافت في فضاء الحجرة الطينية آية مفعمة بالجلال: «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا». و امتدت الأيدي إلي رطب جني، و إلي مياه باردة، و قال رجل من أهل البيت و هو يرفع يديه حمدا: - اللهم هذا منك و من رسولك. هتف النعمان ملدوغا: - يا أباعبدالله أجعلت مع الله شريكا؟ و تمتم ابن رسول السماء بآية: - «و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله». و شعر أبوحنيفة بدوي الإنهيارات في أعماقه، انه في حضرة رجل ليس علي وجه الأرض نظير له، و انبثق عزم في نفسه علي أن يتتلمذ علي يديه و ينهل من فيض علمه، فالنعمان لم يزل في أول الطريق. [ صفحه 123]

جعفر ايها الصديق 25

مياه دجلة تتدافع بانتظام يشبه تتابع لحظات الزمان؛ و نسائم منعشة تهب من ناحية الشاطي ء تداعب سعفات النخيل، و كان ضوء البدر ينعكس علي صفحة المياه المتكسرة. أوي أهل القصر إلي النوم و انطفأت بعض القناديل؛ فيما ظلت مشاعل الحراس تتوهج في الأبواب العالية. انتصف الليل و أخفق الظلام في قهر الأرق الذي داهم «النمرود»، بدا السرير الوثير في عينيه تابوتا، فوثب كأنه يفر

من الموت. استخرج مفاتيح يحتفظ بها في مخبأ سري، و غادر الغرفة، و لم ينس أن يحمل معه قنديلا فضيا، اجتاز بعض الأروقة منحرفا باتجاه الشمال؛ توقف أمام باب حديدي له قضبان يشبه أبواب الزنازين؛ أدار المفتاح في القفل و دفع الباب إلي الداخل، نزل عدة درجات في سلم ملتو. [ صفحه 124] كانت الظلمة متكاثفة و القنديل يرسم دائرة من الضوء صغيرة. وضع القنديل علي رخامة داخل القبو، و قد ظهرت عدة أبواب حديدية صغيرة متباعدة. فتح أحد الأبواب، ظهرت آلاف الصرار المليئة بدنانير الذهب، و كانت الجواهر منضودة علي رفوف من الرخام، مر بيده علي صرار الذهب، لكأنه يتمسح ببريقه الذي يخطف الأبصار؛ يستمد منه العزم و القوة و السلطان، لا أحد يعرف كم هي سواه، فيها أربعة عشر ألف ألف دينار من ذهب، و فيها ستمئة ألف ألف درهم من فضة. انسل خارج الخزانة و أعاد إغلاق الباب بعناية، فهنا يسكن المارد الاصفر. وقف أمام باب آخر و تردد في فتحه؛ ولكنه وجد نفسه آخر الأمر يدير المفتاح في القفل، و صدر صوت ينم عن انفتاح الباب. سقط ضوء القنديل علي منظر رهيب. كانت رائحة الكافور تملأ المكان، و كانت رؤوس آدمية في مختلف الأعمار، بعضها مغمض العينين و بعضها يحدق في الفراغ، لكأنها تبحث عن القاتل. و كانت هناك رقاع تتدلي من آذان القتلي فيها أنسابهم و أعمارهم. رغبة عارمة اجتاحته لأن يلقي نظرة إلي رأس محمد بن عبدالله، [ صفحه 125] اقترب أكثر حتي أصبح الرأس في دائرة الضوء تماما، بدا الرأس غافيا و كانت رقعة كبيرة تتدلي من أذنه اليمني؛ لم يجد صعوبة في قراءة الكلمات لأنه كان قد

كتبها بنفسه: محمد بن عبدالله بن الحسن المثني بن الحسن بن علي بن أبي طالب من ذرية فاطمة بنت رسول الله، ولد علي رأس مئة من الهجرة، قتل في أحجار الزيت، و عمره خمس و أربعون سنة، و كان مقتله لخمس بقين من رجب. و مضت في ذاكرته حوادث ما تزال متوهجة ببريق عجيب رغم مرور عشرين سنة. تذكر تلك اللحظة التي شد فيها علي يد محمد يبايعه علي الثورة، و قد دوي حديث نقله الرواة: «ان المهدي من ذريتي اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي». تذكر جعفر بن محمد ذلك الصديق كيف رفض البيعة قائلا: انه ليس بالمهدي، و انه المقتول في أحجار الزيت، يقتله ذو الرداء الأصفر؛ همس صاحب الرداء الأصفر و قد صبغ رداءه بالسواد مبهورا: - جعفر أيها الصديق لست نبيا فمن أنبأك بهذا؟! و لو أرهف اذنه لسمع كلمات تجيب: - أنا فرع من تلك الزيتونة. [ صفحه 126] كان منظر رأس إبراهيم إلي جانب رأس أخيه يثير الحزن؛ يفجر الصخر. أفلتت دمعة من الإنسان علي الرغم من إرادة النمرود. و كانت رقعة من الاذن تقول: إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من ذرية فاطمة بنت رسول الله. ولد سنة 97 للهجرة. قتل في قرية باخمري القريبة من الكوفة. و كان مقتله لخمس بقين من ذي القعدة و له من العمر ثمانية و أربعون سنة. أطال النظر إلي عيني إبراهيم، لقد كاد هذا العلوي أن يعصف بملكه و هو يهزم الجيوش العباسية في البصرة و باخمري. هاهو الآن مجرد رأس في قبو تتراكم فيه الظلمات. حانت منه التفاتة إلي رؤوس صغيرة لأطفال في

عمر الزهور، ما تزال عيونهم تحدق... تستفهم التاريخ. ارتاع النمرود في أعماقه؛ هل كان عليه أن يحصد كل هذه الرؤوس الصغيرة و الكبيرة من أجل تثبيت دعائم عرشه؟ هل كان يبحث عن المهدي من ذرية فاطمة قبل ظهوره كما فعل فرعون قبل آلاف السنين يوم كان يبحث عن موسي فامتلأت خزائنه بجماجم الأطفال؟ [ صفحه 127]

جعفر ايها الصديق 26

هل حطمت الشياطين أصفادها و الأغلال فانطلقت تعربد و تدمر و تجدف بكلمة الكفر. خلع «المفضل» نعليه و قد ولج البقعة المقدسة بين «القبر» و «المنبر»، جلس يتأمل، فلعل نفسه تستعيد طمأنينتها في هذه الروضة. كانت شمس الأصيل تتهادي في الأفق و ترسل أشعتها الذهبية عبر الكوي و النوافذ فتملأ مسجد النبي بالنور و السكينة و الجلال. امتعض «ابن المفضل» و هو يري رجلا يقتحم تلك السكينة؛ ليس هناك من لا يعرف «ابن أبي العوجاء». تساءل ابن المفضل و هو يراقب الرجل و قد اتخذ مجلسه قريبا. كادت السكينة تعود مرة أخري إلي المكان لولا رجل آخر يلج المسجد ويتجه صوب ابن أبي العوجاء، و يجلس في حضرته جلسة [ صفحه 128] المريد في حضرة الساحر، وجد المفضل نفسه يصغي إلي حديث الرجلين، قال ابن أبي العوجاء و هو ينظر إلي قبر آخر الأنبياء: - لقد بلغ صاحب هذا القبر ذروة المجد. اجاب صاحبه: - كان و لا شك فيلسوفا ادعي المنزلة الكبري، و جاء بالمعجزات العظمي فبهر بذلك العقول، فلما دخل الناس في دينه أفواجا قرن اسمه باسم ناموسه، فإذا اسمه يتردد في كل بقاع الدنيا في كل يوم خمس مرات. أمسك ابن أبي العوجاء خيط الحديث: - دع ذكر محمد فقد تحير فيه عقلي و حدثني

في الأصل الذي يمشي به، و ليس هناك من أصل، فالأشياء موجودة هكذا منذ الأزل لا صنعة فيها و لا تقدير و لا صانع و لا مدبر، و علي هذا كانت الدنيا و لم تزل و ما تزال و ما يهلكنا إلا الدهر. لم يتحمل المفضل أكثر من هذا، انفجر في أعماقه بركان هائل، و وجد نفسه ينتفض و قد امتلكته ثورة الغضب: - يا عدو الله ألحدت في دين الله و أنكرت الذي برأك فسواك فخلقك. رمق ابن أبي العوجاء الرجل الثائر باستخفاف: [ صفحه 129] - يا هذا ان كنت من أهل الكلام كلمناك، و إن كنت من أصحاب جعفر الصادق فما هكذا يخاطبنا، و لقد سمع منا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا. التزم ابن المفضل جانب الصمت و غادر المكان إلي خارج المسجد، و همس بحزن: - انهم يلحدون حتي في بيوت الله. كان المفضل يسير غير ملتفت إلي شي ء، قد أضحت المرئيات أمام عينيه سرابا، قدماه تقوادنه إلي منزل رجل ذرف علي الستين، رجل تخاصره الذئاب من كل صوب، و تنفخ علي نوره الأفواه المتحلبة من لحوم الأنبياء تريد إطفاء جذوة تستمد وهجها من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية. سأل سليل النبوات و قد رأي علي سيماء صاحبه امارات حزن عميق: - ما بك يا مفضل؟ أجاب و قد شعر بروحه تغتسل في نبع بارد: - يؤلمني يا سيدي كفر هؤلاء الدهريين.. ابن أبي العوجاء و أصحابه.. - لا تغتم يا مفضل، لكل أجل كتاب.. لألقين عليك من حكمة [ صفحه 130] الباري في خلق العالم و السباع و الطير و الهوام و كل ذي روح من

الأنعام و النبات و من الشجر المثمر و غير ذات الثمر و الحبوب و البقول المأكول من ذلك و غير المأكول، ما يعتبر به المعتبرون و يسكن إلي معرفته المؤمنون و يتحير فيه الملحدون، فبكر علي غدا. هتف المفضل و قد غمرته الفرحة: - أتأذن لي أن أكتب ما تشرحه؟ - افعل يا مفضل، الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتي بينت للناس جميع ما تحتاج إليه. حتي إذا مرت أربعة أيام، ولد كتاب تشهد فيه الكائنات أن لا إله إلا الله الخالق الباري ء المصور له الأسماء الحسني. [ صفحه 131]

جعفر ايها الصديق 27

تكاثفت الظلمات فوق الأرض، تراكمت بعضها فوق بعض، وبدت النجوم في أغوارها البعيدة عيونا تبحلق في قلب الليل. لم يأو «النمرود» إلي فراشه تلك الليلة، بدا مهموما، عيناه الحمراوان تشتعلان ببريق مخيف؛ الحراس الذين رأوه في الشرفة ظنوا ان حملات الخزر و اجتياحهم تفليس في أرمينيا و سبيهم المسلمين قد أقضت مضجعه، أو ربما أقلقه خلع ابن أخيه عيسي بن موسي من ولاية العهد و عقدها لابنه محمد، و ربما فكر في القلاقل التي حدثت في «أفريقيا» و تمرد الجند في تلك الأصقاع. ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن النمرود لا يفكر في مثل هذه الامور، و حتي لو فكر فيها فلن يسهر الليل من أجلها، لقد دانت له الدنيا بأسرها، و خضت له العباد و البلاد، ان ما يؤرقه هو رجل واحد ما يزال يقاوم، ما يزال يتحدي، و أصعب شي ء علي الطاغية أن يري امة [ صفحه 132] بأسرها تركع ما خلا رجل واحد يرفع جبينه عاليا حتي ليكاد يلامس الشمس. انه لا يكاد يحصي عدد المرات التي أراد فيها قتله

و التخلص منه، هاهي خزائن قصره تزخر بجماجم الكثيرين من العلويين، أما جعفر فقد أخفق السيف مرات و مرات... وقف أمامه عاجزا، لقد مرت عشرة أعوام علي حكمه و تساقطت الرؤوس بالعشرات. و في كل مرة أراد قتله فيها يتراجع في آخر لحظة. تري ما هو السر في ذلك؟! و مضت في ذاكرته حادثة بعيدة يوم أرسل إلي واليه علي المدينة و أمره فيها أن يحرق عليه المنزل. كانت خطة محكمة؛ فقد اشتعلت الحرائق في منتصف الليل و حاصرت النيران المنزل و لم يعد هناك طريق للنجاة؛ ولكن ماذا حصل؟ لقد شاهده الجلاوزة جميعا يخرج سليما يخترق ألسنة النار المجنونة و يهتف: - أنا ابن أعراق الثري! أنا ابن إبراهيم خليل الله. لشد ما يمقت هذا الشيخ العلوي، انه يبني مجده في القلوب، يذكره الناس في كل مكان فيذكرون فيه أشياء جميلة، يقصده الناس من كل حدب و صوب؛ يحجون إليه كما يحجون إلي البيت العتيق. شعر النمرود بضآلته و هو يفكر باغتياله بالسم، كان يود الإطاحة [ صفحه 133] برأسه، لكي يستمتع بدوي الإنهيار، أما سلاح معاوية ففيه جبن لا يستسيغه و لا ينسجم مع نفسيته؛ ولكن ما الحيلة و هو يخفق المرة بعد الاخري، عليه أن يسرع و إلا فات الأوان. و في قلب الليل انفتحت البوابة الجنوبية لبغداد، و خرج فارس ملثم يحمل معه صندوقا يحوي مادة مستوردة من عاصمة الروم.. مادة كان يستوردها معاوية و يدوفها مع العسل، فيدسها إلي من يشاء و يطلب من أهل الشام أن يؤمنوا و هو يدعو علي خصومه بالموت. و أوي النمرود إلي فراشه، في الهزيع الأخير من الليل. كانت النجوم تشتد سطوعا و الليل

يشتد ظلمة، و رأي النمرود نفسه في عوالم الطيف يغرق في عين تفور دما عبيطا، و كان صدره يضيق و يضيق، و كان يتشبث باحثا عن منفذ للخلاص ولكن دون جدوي، و دوت صرخات استغاثة يائسة فهب من فراشه مذعورا و كانت النجوم ما تزال تسطع في الظلام. [ صفحه 135]

جعفر ايها الصديق 28

كان شوال من ذلك العام حزينا، و قد انطوي عيد الفطر و انطوت معه فرحة الصائمين. رياح شباط الباردة تجوس أزقة المدينة، و السحب الداكنة تسد الافق حيث تغيب الشمس. و في منزل تظلله سعفات النخيل كان الحزن قد رمي بكلا كله كغراب جاثم. الشيخ الذي بلغ الثامنة و الستين تحاصره الحمي، جبينه الزاهر يتصفد عرقا رغم النسائم البادرة؛ لقد أزفت لحظة الرحيل، فالدنيا برد و ظلام. القلوب المؤمنة تبكي؛ تذرف الدموع كالشموع، و الفراشات تبحث عن النور في زمن الزمهرير و صرير الريح. فتح الشيخ عينيه و قد أطلت الروح بعد غيبوبة تريد أن توصي العالم قبل الوداع، التفت إلي ابنه موسي: [ صفحه 136] - يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة. و غابت الروح هنيئة ثم عادت من جديد: - اعطوا ابن عمي «فلانا» سبعين دينارا! هتفت جارية بصوت مخنوق: - أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد قتلك؟! قال الشيخ بصوت واهن فيه صدي للرحيل: - أتريدون ألا أكون من الذين قال الله فيهم: «والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب». سكت قليلا و التفت إليها: - نعم يا سالمة ان الله خلق الجنة و طيب ريحها، و لا يجد ريحها عاق و لا قاطع رحم. و أغمض الشيخ عينيه للمرة

الأخيرة و تمتمات الدعاء تنساب من بين شفتيه كنبع هادي ء؛ و انبعثت في قلب الظلام أنات مفجوعة و شهقات بكاء مرير؛ و كان موسي كاظما حزنه و قد غمر قلبه نور سماوي، و تألقت عيناه بانعكاسات الضوء فوق غلالة من الدموع الصامتة، و بدا في سنيه العشرين، و هجا من نبوات غابرة. هبت ريح باردة؛ و تراكمت غيوم رمادية في السماء و ادلهمت الآفاق، و قد غمرت المدينة ظلمة موحشة. [ صفحه 137] جاء الوالي يحفه حراس غلاظ، كسا وجهه القاسي حزن متصنع، و سأل عن وصية الراحل. ألقي نظرة متفحصة لمعرفة الوصي فوجد شيئا عجيبا؛ ان الوصي ليس رجلا بعينه. لقد أوصي جعفر بن محمد إلي خمسة أولهم الخليفة نفسه و ثانيهم الوالي من المدينة ثم ولديه عبدالله و موسي و زوجته حميدة! و شعر الوالي بأن ثقلا ينزاح عن صدره، لأن الصادق لم يوص إلي رجل بعينه. استدعي الوالي لدي عودته إلي القصر كاتبه و أمر أن يسطر رسالة عاجلة إلي بغداد؛ جوابا علي رسالة كان الخليفة قد أرسلها قبل أيام و فيها: «إن كان جعفر بن محمد قد أوصي إلي رجل بعينه فقدمه و اضرب عنقه». و وقف النمرود في بغداد عاجزا، فقد تمكن الصادق مرة أخري من ترويض الوحش القابع في الأعماق؛ و منعه من ارتكاب جريمة أخري. الظلام يغمر المدينة؛ و لم تشرق الشمس في اليوم التالي، فلقد حجبتها الغيوم و هي تتكاثف في الافق حيث تطلع الشمس، و جاء رجل مقرور يلتمس الدف ء عند قبر النبي، هتف و هو يبكي: [ صفحه 138] - إلي من أمضي؟ إلي المرجئة؟ إلي القدرية؟ إلي الزيدية؟ إلي الحرورية؟ و تمر الأيام و

الشمس ما تزال تحجبها غيوم و غيوم... حتي إذا انطوي شباط و تبددت الغيوم؛ أشرقت شمس جديدة و قد نهض «موسي» و أخذ الكتاب بقوة. [ صفحه 141]

ماوراء السطور

-«ابن المنكدر» محمد أحد المتصوفة. ترك العمل والتكسب وانصرف إلي العبادة، و الحادثة مسجلة في كتب التاريخ كالإرشاد للشيخ المفيد. رويت عن الإمام الصادق عليه السلام. والحادثة وقعت مع الإمام الباقر عليه السلام و هو محمد بن علي زين العابدين، و كنيته أبو جعفر، و امه بنت الحسن بن علي. لقب بالباقر لتبقره في العلم، أي: توسعه فيه، تابعي جليل القدر روي عنه ابنه جعفر الصادق و الأعمش و الأوزاعي وابن جريج و الزهري و غيرهم، و هو خامس الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، ولد بالمدينة و توفي بالحميمة و دفن بالمدينة، و عمره 54 سنة أو 57 سنة. الاعلام 7 / 153 - وفيات الأعيان 4 / 174 البداية و النهاية 9 / 309 تذكرة الحفاظ 1 / 124 - اليعقوبي 2 / 320 -توفي عامر بن واثلة سنة 100 ه_، كنيته أبو الطفيل، شاعر كنانة و أحد فرسانها؛ حمل راية علي بن أبي طالب في بعض وقائعه، كان شديد الحب لعلي عليه السلام و يقدمه علي سائر الصحابة. كتب إليه معاوية يلاطفه و يدعوه؛ و قال له ذات يوم: كيف وجدك علي خليلك أبي الحسن؟ فأجاب: كوجد ام موسي علي موسي، و أشكو إلي الله التقصير. [ صفحه 142] التحق بالمختار الثقفي في ثورته علي بني امية في العراق مطالبا بدم الحسين عليه السلام، و اختفي عند مصرع المختار سنة 67 ه_، ثم اشترك فيما بعد في ثورة القراء سنة 83 ه_ وعاش بعد ذلك إلي أيام عمر

بن العزيز، توفي بمكة، و يعد آخر من توفي من الصحابة، و كان قد أدرك النبي صلي الله عليه و آله و روي عنه تسعة أحاديث. طبقات ابن سعد 5 / 457 - الإصابة 4 / 696 الاعلام 4 / 26 - الأغاني 13 / 159 -توفي عمر بن عبدالعزيز سنة 101 ه_ و كان قد تولي الخلافة سنة 99 ه_، اشتهر بعدله و صلاحه و زهده، أبطل سب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام علي المنابر، و كانت سنة سنها معاوية بن أبي سفيان، أزال بعض مظالم بني امية و منها إعادته «فدك» إلي أبناء فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله، فكر في اخريات حياته بخلع يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد، فدس له السم و توفي بعد أيام في دير سمعان من أرض معرة النعمان. و يعد عمر بن عبدالعزيز استثناء في سياسة بني امية القائمة علي البطش و القسوة و سفك الدماء. الاعلام 7 / 315 - ابن الأثير 5 / 70 دولة الإسلام للذهبي 1 / 52 [ صفحه 143] -تولي هشام بن عبدالملك الخلافة سنة 106 ه_ و كان مصابا بعاهة الحول. الفرزدق بن غالب الشاعر المعروف، ارتجل قصيدة في موسم الحج أحدثت دويا في وقتها، و كان ذلك عندما أراد هشام بن عبدالملك (قبل أن يصبح خليفة) و كان أميرا علي الحاج أن يستلم الحجر الأسود فعجز لشدة الزحام، فجلس علي كرسي و حوله جنود الشام، و راح يراقب الجموع الغفيرة، و في الأثناء جاء علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يريد استلام الحجر الأسود، فأفسحت له الجموع و شق طريقه إلي الحجر؛ و هنا تساءل أهل

الشام عن هوية هذا الرجل قائلين من هذا؟ و كان الفرزدق الشاعر حاضرا فأنشد قصيدته جوابا لسؤالهم: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم و قد زج الشاعر في السجن لقاء ذلك. رضوي: جبل بالقرب من مكة. زيد بن علي الثائر الشهيد؛ ينتهي نسبه إلي [ صفحه 144] علي بن أبي طالب عليه السلام، قال عنه أبوحنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه و لا أبين. كان هشام يحقد عليه فسجنه خمسة أشهر، أعلن ثورته في الكوفة و رفع شعاره المعروف: الدعوة إلي الرضا من آل محمد، لقي مصرعه شهيدا سنة 122 ه_، حيث صلب في «الكناسة» خارج الكوفة، و طافوا برأسه المدن، توفي عن 43 سنة؛ و في القرن الثالث الهجري أسس أتباعه دولتهم في اليمن و ثبتت أركانها رغم تعاقب القرون حتي انتهت في الستينيات من القرن العشرين. مروج الذهب 3 / 206 - مقاتل الطالبيين 127 - ابن خلدون 3 / 209 وفيان الأعيان 1 / 333 - الطبري 7 / 160 -هجر: منطقة عراقية تكتظ بأشجار النخيل و هي مشهورة بمحصولها من التمور. -الكناسة: محلة خارج الكوفة صلب فيها كثير من الثوار و في طليعتهم زيد الشهيد. -في سنة 121 ه_ غزا مروان بن محمد شواطي ء بحر الخزر من أرمينيا حتي طبرستان. و في ما وراء النهر غزا نصر بن سيار أمير خراسان و عقد معاهدة سلام مع أمير «فرغانة». [ صفحه 145] و في البحر المتوسط وجه أمير أفريقيا عبيدالله بن الحبحاب حملة بحرية بقيادة حبيب بن أبي عبيدة الفهري فيغزو صقلية و يصل «سرقوسة». و

في هذا العام اشتعلت ثورة زيد بن علي. الأعلام 3 / 98 - وفيات الأعيان 1 / 333 مروج الذهب 3 / 206 بردكلمان 3 / 322 -يعود ظهور التحرك العباسي إلي مرحلة مبكرة، و تقريبا إلي مطلع القرن الثاني الهجري و كان «الدعاة» يجوبون المدن في العراق و خراسان تحت غطاء التجارة، و قد أفادوا كثيرا من ثورة زيد الشهيد و استغلوا شعاره في «الدعوة إلي الرضا من آل محمد» في كسب الرأي العام الإسلامي. الأخبار الطوال / 332. -أخفي الثوار جسد الشهيد زيد و حفروا له قبرا في منطقة العباسية خارج الكوفة، بعد أن غيروا مجري نهر هناك، ثم أعادوا تدفق المياه فوق القبر كإجراء احتياطي، ولكن عبدا نبطيا دل علي قبره، فنبش الجثمان الطاهر و احتز رأس الشهيد و صلب جسده في الكناسة أربع سنين، أي حتي وفاة هشام بن عبدالملك، و عندما تولي الوليد الخلافة أمر بإحراق الجثمان و نثر رماده في المياه. ابن الأثير 5 / 229 / 247 [ صفحه 146] -حدث اللقاء في العراق و كان يحيي بن زيد قد اختفي بعد إخفاق ثورة أبيه الشهيد و توجه إلي خراسان، و في الطريق يلتقي متوكل بن هارون فيسلمه يحيي ميراث أبيه عن جده و المعروف بالصحيفة السجادية. مقدمة الصحيفة «الحميمة» إحدي مدن الشام (أرض البلقاء) و قد اتخذها إبراهيم الإمام مركزا له، و كانت في الأصل ضيعة أقطعها عبدالملك عليا بن عبدالله بن عباس؛ و قد انتبه مروان الحمار متأخرا إلي نشاط العباسيين و تم إلقاء القبض علي إبراهيم الإمام حيث لقي حتفه مخنوقا في السجن. الأخبار الطوال / 358 -جميلة السلمية: مولاة لبني سليم، نبغت في الغناء

و وضعت ألحانا موسيقية تهافت الناس علي سماعها؛ خرجت مرة إلي الحج فخرج معها جمع غفير من المغنين و المغنيات و الشعراء و أشراف القوم، و لما وصلت مكة استقبلها كبار المغنين و الشعراء و الأشراف و جموع من الشباب؛ و كانت أحيانا تجلس للغناء مع جواريها فتغني و تضرب علي العود، و تضرب الجواري علي ضربها، و كانت عيون المستمعين تهمل دموعا. نهاية الارب 5 / 40 - أعلام النساء 1 / 211 - الأعلام 2 / 135 [ صفحه 147] -أبو مسلم الخراساني (عبدالرحمن): من أهل خراسان في إيران، حمل لواء الدعوة لبني العباس و اجتاح بجيوشه معاقل الامويين، كان داهية جبارا سفاكا للدماء، و كان إلي جانب ذلك فصيحا بالعربية و الفارسية، و لم ير ضاحكا و لا مازحا و لا خجلا و لا قطوبا و لا عبوسا، قتل في حروبه و مؤامراته أكثر من ستمائة ألف، من العرب و غيرهم و لم يسلم منه و من بطشه القضاة و العلماء و الشعراء، و كانت نهايته علي يدي المنصور سنة 137 ه_ و كان عمره آنذاك 37 سنة. ابن خلكان 3 / 145 - الطبري 7 / 198 - مروج الذهب 3 / 290 تاريخ بغداد 10 / 207 - ابن النديم / 483 اثبات الوصية / مادة جعفر الصادق ص 186. -يحيي بن زيد الشهيد: امه ريطة بنت أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية أحد الأبطال الشهداء، فر إلي خراسان بعد مصرع أبيه سنة 122 و أشعل الثورة فيها سنة 125، خاض معارك ضارية ضد الامويين إلي أن سقط شهيدا في قرية في «الجوزجان» حيث ظل مرفوعا علي الصليب سبعة

أعوام أي حتي ثورة أبي مسلم الخراساني؛ و كان عمره حين استشهد 22 سنة. الأعلام 9 / 179 - مقاتل الطالبيين / 152 - مروج الذهب 2 / 225 [ صفحه 148] -محمد النفس الزكية ابن عبدالله بن الحسن (المثني) بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، لقب بالمهدي و بالنفس الزكية، ولد و نشأ بالمدينة، و لما بدأ الانحلال في دولة بني امية اتفق رجال من بني هاشم علي بيعته سرا وفيهم المنصور و أخوه أبوالعباس السفاح. و عندما ظهرت دولة بني العباس تواري محمد و أخوه إبراهيم عن الأنظار و شدد المنصور في إلقاء القبض عليه، فساق أباهما عبدالله الملقب بالمحض و بعض أقاربهما و عذبهم حتي ماتوا في سجن الكوفة بعد سبع سنين، و إثر ذلك ثار محمد في المدينة و أخوه إبراهيم في البصرة، و نجحت ثورة إبراهيم و تمكن من الاستيلاء علي مناطق عديدة من بينها البصرة و الأهواز و فارس، و زحف باتجاه الكوفة و كاد أن يعصف بحكم بني العباس و لكن سرعان ما دارت عليه الدوائر فسقط شهيدا في قرية باخمري قريبا من الكوفة. البداية و النهاية 10 / 86 مروج الذهب 3 / 294 مقاتل الطالبيين / 315 - ابن خلدون 3 / 190 -ابن البربرية: أبوجعفر المنصور، عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب. امه بربرية تدعي سلامة و كانت ام ولد، بويع بالخلافة بعهد من أخيه الأصغر [ صفحه 149] السفاح. و قد تولي السفاح الخلافة قبل أخيه لأن امه عربية؛ و يعتبر مؤسس دولة بني العباس، و هو أول من عهد إلي مواليه بالمسؤوليات و قدمهم علي العرب،

و أول من دق أسفين الفرقة بين أبناء علي بن أبي طالب و أولاد العباس، و كان أمرهم قبل ذلك واحدا. استعان بأبي مسلم الخراساني في قمع ثورة عمه عبدالله بن علي، فلما قضي عليها قتل أبا مسلم و استعان بعيسي بن موسي و كان ولي عهده في القضاء علي ثورتي محمد و إبراهيم ابني عبدالله بن الحسن، فلما تم له ذلك خلعه من ولاية العهد و أرغمه علي التنازل عنها لابنه محمد الذي لقبه بالمهدي و لم يعهد بالخلافة إلي ابنه جعفر و هو أكبر أبنائه لأنه كان مصابا بالصرع. ولد المنصور سنة 95 ه_ و توفي سنة 158 ه_. اليعقوبي 2 / 364 - مروج الذهب 3 / 307 البداية و النهاية 10 / 61 -حدث اللقاء سنة 126 أو 127 ه_ و ذلك بعد خلع الخليفة الاموي الوليد بن يزيد و قتله، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الدعوة العباسية ترجع إلي عهد مبكر، يكون الإمام الصادق عليه السلام قد أدرك قبل غيره نوايا بني العباس من وراء بيعتهم محمد ذوالنفس الزكية في تلك الفترة من الزمن. [ صفحه 150] -الوليد بن يزيد بن عبدالملك: امه بنت محمد بن يوسف الثقفي، أخ الحجاج الجلاد المعروف، انهمك في اللهو و الغناء و كان يضرب بالعود و يوقع بالطبل و يمشي بالدف علي طريقة أهل الحجاز. قتل في قصر النعمان بن بشير و كان قد لجأ إليه و كان عمره يومئذ 38 سنة. الاعلام 9 / 248 الطبري / حوادث سنة 126 ه_. مروج الذهب 3 / 335 - ابن خلدون 3 / 227 -«زنوبيا »: ملكة تدمر القديمة، خاضت حروبا مدمرة ضدالرومان، انتهت باحتلال تدمر

و أسرها. -«الناقص»: يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان لقب بالناقص لأن سلفه كان قد زاد في رواتب الجيش زيادة أعجزت بيت المال، فلما تولي يزيد الخلافة إثر قتل سلفه ألغي تلك الزيادة. توفي سنة 126 بالطاعون بعد حكم دام خمسة أشهر. مروج الذهب 3 / 335 - ابن خلدون 3 / 227 -«الحمار»: مروان بن محمد بن الحكم، لقب بالحمار لصبره علي مكاره الحروب، آخر ملوك بني امية، دعا الناس إلي خلافته و هو في أرمينيا سنة 126 و زحف بجيشه إلي [ صفحه 151] دمشق و دخلها فاتحا و استولي علي العرش سنة 127 و في عهده ظهرت علائم الانحلال في الدولة الاموية رغم سعيه في الحؤول دون سقوطها، لقي مصرعه في قرية بوصير في مصر، و بموته انتهت دولة بني امية. ابن الأثير 5 / 119 - البداية والنهاية 10 / 242 ابن خلدون 3 / 196 -إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس زعيم الدعوة العباسية في مرحلتها السرية، سكن «الحميمة»، و في عهده نشط دعاة بني العباس في دعوتهم، و هو الذي عين أبا مسلم زعيما للدعوة في خراسان. القي القبض عليه و تمت تصفيته في السجن و كان عمره 49 سنة. مروج الذهب 3 / 243 - الطبري 7 / 294 -أبو سلمة الخلال: حفص بن سليمان الهمداني، لقب بالخلال لسكناه في درب الخلالين بالكوفة، كان في مقدمة الدعاة لبني العباس، و كان حلقة الوصل بين خراسان و الحميمة، و لما دخلت جيوش أبي مسلم الخراساني الكوفة سلم الرئاسة لأبي سلمة و دعي وزير آل محمد، و هو الذي أعلن بدء الخلافة الهاشمية دون تسمية

الخليفة، و كان يفكر بإسنادها إلي العلويين، فراسل كلا من [ صفحه 152] الإمام جعفر الصادق عليه السلام و عبدالله بن الحسن المثني (المحض)، و عمر الأشرف بن علي زين العابدين، و عندما انكشف أمره اعتذر إلي أبي العباس السفاح الذي دخل الكوفة و بويع بالخلافة، فتظاهر بقبول اعتذاره غير أنه أو عز إلي أبي مسلم بتصفيته، فأرسل الأخير إليه من كمن له في قلب الظلام فقتل في طريق عودته إلي منزله. وفيات الأعيان 2 / 195 - البداية والنهاية 10 / 55 مروج الذهب 3 / 270 -ترددت الإشارة إلي سورة القدر، و هي تعبير عن الآية الكريمة في السورة المباركة: (ليلة القدر خير من ألف شهر...) و هي المدة التي حكمها الامويون، و يذكر بعض المفسرين أنها نزلت في رؤيا رآها النبي صلي الله عليه و آله؛ إذ رأي قردة تنز علي منبره فاغتم لذلك. عندما استولي مروان الحمار علي الخلافة نقل عاصمته إلي حران. لم يتوفر التاريخ علي وثيقة تؤيد هذه الرؤيا، ولكن حياة المنصور في الحقبة التي تسلم فيها مقاليد الحكم تكشف عن جانب «الطاغية» في أعماقه و عن استغراق [ صفحه 153] لاحدّ له في تقديس المال و الثراء. وقف يوما في عرفة قائلا: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه و تسديده و تأييده؛ و حارسه علي ماله أعمل فيه بمشيئته و إرادته و أعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم و إذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني». لقد كان المنصور في غاية البخل؛ و عندما استمع الناس إلي هذه الخطبة تهامسوا فيما بينهم: أحال أميرالمؤمنين بالمنع علي ربه! و تكشف دمويته

هذه الكلمات عندما أمسك بسيفه و قال: أيها الناس ان بكم داء هذا دواؤه (و هز سيفه) و أنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به. تاريخ الخلفاء 364 - العقد الفريد 4 / 185 -رابعة العدوية: رابعة بنت إسماعيل من أهل البصرة.. ام الخير، امرأة صالحة لها شعر صوفي يعبر عن الحب الإلهي، توفيت في القدس و لها من العمر أربعون سنة. أعلام النساء 1 / 430 - البداية والنهاية 10 / 186 [ صفحه 154] - لقي أبومسلم الخراساني مصرعه علي يد المنصور سنة 137 ه_، و في تلك الفترة وضع ابن المقفع كتابه المشهور (كليلة و دمنة)، و قد أثار ذلك المنصور فحقد عليه و عد ذلك عملا تحريضيا ضده، و قد أوعز الأخير إلي واليه علي البصرة سفيان بن معاوية بقتله و كان سفيان يحقد هو الآخر علي ابن المقفع. فراح يتفنن في تعذيبه حتي أنه كان يقطع أوصاله و يلقيها في النار أمام عينيه إلي أن مات. الفهرست / 118 - البداية و النهاية 10 / 96 - كليلة و دمنة / المقدمة - شتربه: إحدي شخصيات كتاب كليلة و دمنة. - «الرومية»: مدينة بالقرب من «المدائن» عاصمة الامبراطورية الفارسية، كان كسري أنوشيروان قد بناها لتكون معسكرا لأسراه من الرومان. المعلي بن خنيس: من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، لقي مصرعه في نوبة من نوبات البطش التي اجتاحت المدينة و صودرت أمواله، و كان اتهامه الوحيد انه لم يدل علي ابني عبدالله محمد النفس الزكية و إبراهيم، قتله داود بن علي حاكم لمدينة المنورة. الطبري 9 / 147 - الاعلام 3 / 8 [ صفحه 155] - حج المنصور

في خلافته مرتين؛ الاولي سنة 140 ه_ والثانية في سنة 144 ه_، و حج في سنة 158 غير انه مات قبل أن يصل مكة في مكان يدعي «الأبطح» علي بئر ميمون و ذلك يوم السبت السادس من ذي الحجة سنة 158 ه_. الأخبار الطوال / 385 - محمد بن زيد الشهيد: أصغر أبناء زيد، كنيته أبوجعفر، امه ام ولد من بلاد السند، كان في غاية الفضل و نهاية النبل، تزعم ابنه محمد بن محمد بن زيد ثورة أبي السرايا في عهد المأمون العباسي و وقع أسيرا، تعجب المأمون من صغر سنه، توفي في مرو مسموما علي يد الأخير و لما يبلغ العشرين بعد. عمدةالطالب / 275 ط انصاريان. - «مكاء و تصدية»: اصطلاح قرآني؛ عاب فيه القرآن علي العرب حجهم في العهد الجاهلي، إذ كانوا يصفرون و يصفقون في طوافهم حول الكعبة. [ صفحه 156] - ذكر عبدالله بن الحسن المثني (المحض) المنصور بمعركة «بدر» عندما وقع العباس بن عبدالمطلب أسيرا في قبضة الجيش الإسلامي و قد أمر النبي صلي الله عليه و آله بفك قيوده و معاملته معاملة حسنة. - منف (منفيس): عاصمة الفراعنة في مصر، و (منفتاح) الفرعون الذي طارد سيدنا موسي عليه السلام، عثر علي جثته سليمة (مومياء) في مقبرة عادية علي سواحل البحر الأحمر، و هو الآن في متحف القاهرة. بدأ العمل ببناء بغداد سنة 145 ه_ و انتقل إليها المنصور سنة 146 ه_ قبل الانتهاء من بنائها، بنيت بشكل دائري، بلغ محيطها 10808 إلي 13000 م، اشترك في البناء 100000 عامل، و انتهي البناء فيها سنة 149 ه_، و هي تقع بين مقابر قريش (الكاظمية) شمالا، و براثا و الكرخ من

الجنوب الغربي و دجلة من الشرق، و نهر الفرات من الجنوب. الفخري لابن الطقطقي / 161 [ صفحه 157] - كان أبوحنيفة قد رفض تعيينه قاضيا علي المدينة، ولكن المنصور جعله يقبل بعمله في بناء بغداد، فتولي القيام بضرب اللبن و عده. تاريخ بغداد 1 / 71 - الطبري 7 / 619 «المطبق»: سجن بغداد الرهيب، بدأ العمل به مع بدء العمل في بناء بغداد، و كان من معالمها الأساسية، يقع في القسم الجنوبي من بغداد. تاريخ بغداد 1 / 77 -حدث الاعتقال بعد إخفاق ثورتي محمد النفس الزكية و شقيقه إبراهيم؛ و كان المنصور علي و شك أن يرتكب مذبحة كبري، و لكن الإمام الصادق قد وفق في محاورته باسلوب هادي ء أنقذ فيه عشرات العلويين من الذبح. الامام جعفر الصادق / المستشار عبد الحليم الجندي - كان المنصور يحتفظ بجماجم قتلاه من أبناء علي عليه السلام في خزانة خاصة، و لم يطلع عليها أحد، و عندما عزم علي الحج في سنة 158 استدعي ريطة زوجة ابنه و ولي عهده [ صفحه 158] محمد المهدي و سلمها مفتاح الخزانة و شدد علي عدم فتحها إلا بعد عودة زوجها ليفتحاها معا، و قد ذعر الخليفة المهدي لدي رؤيته منظر الجماجم و كان فيها جماجم لأطفال صغار. الطبري / ج 7 - المفضل بن عمر: من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، أملي عليه الإمام الصادق علوما في الطبيعة و عجائب الخلق و هو الكتاب المعروف بتوحيد المفضل. - عبدالكريم بن أبي العوجاء: خال معن بن زائدة الشيباني؛ من زنادقة العصر العباسي و ملحديهم، اعدم سنة 161 ه_، صادفه الإمام الصادق في موسم الحج فسأله: - ما جاء بك؟ -

عادة الجسد و سنة البلد و لنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق (حلق الرؤوس) و رمي الحجارة (الجمرات). فقال الإمام عليه السلام: أنت بعد علي عتوك و ضلالك يا عبد الكريم؟ و عندما أراد ابن أبي العوجاء أن يفتح موضوعا للجدل، قال الإمام و هو ينفض رداءه: - لا جدال في الحج. [ صفحه 159] ثم أردف حاسما: - ان يكن الأمر كما تقول: (نظريته في عبثية الخلق) و ليس كما نقول (المعاد و الآخرة و الحساب) نجونا و نجوت، و إن يكن الأمر كما نقول و ليس كما تقول نجونا و هلكت. فسكت عبدالكريم و هو يشعر بالهزيمة. الإمام الصادق / المستشار عبدالحليم الجندي -أقدم المنصور سنة 147 ه_. علي خلع ابن أخيه عيسي بن موسي من ولاية العهد و عقدها لابنه محمد و لقبه بالمهدي، و في هذه السنة اجتاح الخزر الأراضي الإسلامية في أرمينيا و دخلوا مدينة تفليس و قاموا بسبي المسلمين فيها. الطبري 7 / 474 - تاريخ بغداد 10 / 8 -حاول المنصور تصفية الإمام الصادق أكثر من مرة، و قد سجلت كتب التاريخ لقاءات متشنجة بين الرجلين، و كانت محاولاته مباشرة و غير مباشرة، منها إضرام حاكم المدينة المنورة النار في منزله عليه السلام، و من المرجح أن يكون المنصور قد دس إليه السم ليتخلص منه، خاصة و قد تصاعدت نغمة التهديدات التي كان المنصور يطلقها حياله، و كان الإمام عليه السلام يقول له: لا تعجل! لقد بلغت الرابعة و الستين [ صفحه 160] و فيها مات أبي و جدي. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار رسالة المنصور إلي والي المدينة والتي تتضمن تصيفة وصي الإمام أدركنا هواجس المنصور جراء وجود الصادق عليه السلام

علي قيد الحياة. و هناك إشارات تاريخية تصرح بتصفية الإمام الصادق عليه السلام بالسم. بحارالأنوار ج 47 ص 182 -توفي الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في شوال سنة 148 ه_ شتاء سنة 765 م. - كان الصادق عليه السلام ربع القامة (بين الطول والقصر) أزهر الوجه، حالك الشعر (الشديد السواد) جعد، أشم الأنف (ارتفاع قصبة الأنف و حسنها وانتصاب الأرنبة؛ أنزع رقيق البشرة دقيق المسربة (الشعر وسط الصدر) علي خدّه خال أسود و كان اسمه جعفر؛ مكتوب في خاتمه «الله خالق كل شي ء». بحارالأنوار 47 / 9 - 10.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.