الامام الحسن علیه السلام الكوثر المهدور

اشارة

عنوان كتاب:الامام الحسن الكوثر المهدور : دراسه ادبيه تظهيريه الكتاب الذي احزر الجايزه الاولي في مسابقه التاليف عن الامام الحسن عليه السلام/ سليمان كتاني
وضعيت نشر و پخش و غيره :بيروت: دارالهادي، ۱۴۲۸ق = ۱۳۸۵
مشخصات ظاهري:۱۹۱ ص
زبان متن نوشتاري يا گفتاري و مانند آن:عربي
محل و شماره بازيابي:كتابخانه مجلس شوراي اسلامي۱۲۸۳۶۸۵
شناسگر ركورد:609970

الي اللجنة الكريمة

شكرا للجنة الكريمة - لقد أفسحت مجالا في الاطلاع علي سيرة رجل كريم الأرومة، و زكي النفس، و عميق الغوص في قضايا مجتمع الانسان
كم هي الآن - مجتمعاتنا العربية - بحاجة الي نهجه في التطبيق، لكان السلام العاقل هو الذي يجمعها الي تحقيق مثالي، نظيف العقل و الروح و الكف، و يبنيها بناء التوحيد العظيم الذي حققته أرقي مجتمعات الأرض
أصبحت أؤمن أننا الآن بحاجة الي الحسن - الي الامام الحسن - الي الرجل العظيم الزكي الذي هو الحسن
المؤلف سليمان كتاني

[ صفحه 7]

فاتحة

أيها الامام المجتبي
ضاء اسمك يا الحسن
و الاسم لك
جادت به عليك عين المصطفي
و قلب له كريم النفخ و الشفة و اللسان.
و عقل بعيد الغوص و المدي و المجال
و خيال مدغوم الاسراء بالمعراج
تقودني الآن الي عتبة لك خطوات تهدج الريح بها، في حنين، كأنه شفع من وتر دون أن يتعثر بها نجم خفقت به الليالي الأفكة فقطعت عنه موصول الشعاع
انها خطواتي الصغيرة الصغيرة،
تنقلت بي الي العتبات الكبيرة الكبيرة،
وقفت بها - في فترات من قبل - علي عتبات ثلاث، فاذا خلف كل واحدة منها محراب له عميق، و له عطر، و له سقف مد فوق السماوات.
لقد كانت العتبة الأولي مؤدية الي رحاب أبيك، و هي ملفوقة بالرضوان.
و كانت الثانية مبلولة بالشذا النهلان بالطهر، و هي منقوشة لأمك الصديقة

[ صفحه 8]

تجمعها مريم ينت عمران زنانير مبتولة عن المثيل.
و كانت الثالثة لجدك ابن‌عبدالله، ذلك الذي وصل الشطان بميازيب السحب و أغدق عليها همرات السلام.
هي ذاتها هذه الخطوات، أتراني أدرك، و أنا أهمزها الآن اليك - كم أنت السيد الكريم، و كم أنت الوارث العظيم، و كم هي الأجيال لا تزال حتي الآن بحاجة اليك:، ترتق لها المفاصل، و تفك عن أوراكها عقد المعاضل، بنهج كأنه ممزوج من بلاغة أبيك في الادراك، و عجينة أمك في تحمل القذي، و مرامي جدك الي عجن الانسان و خلقه من جديد في علمية التسليم و التوحيد.
اتراني أصيب اذ أشبهك بنهر الكوثر؟ أم أنك لا تزال ترفل في ظلال هي منه أسخي و أوفر؟
و لكن الذين كانوا مدعوين الي تناول المنهل، و بدلا من أن يتذوقوه، هدروه فيا لظي الحلق اليك، أيها الكوثر المهدور.

[ صفحه 9]

المقدمة

انني مدعو للدخول الطيك أيها السيد الكريم، و ها اني أهفو الي قلمي حتي يطيب فيقرع الباب عليك. عفو المسافات يا سيدي فانها لا تزال هي التي تهفو اليك هفو الريح في الفضاء - و بابك لم يقفل حتي يقرع - فهو هو ذاته في صدارة المحراب، لأنك أنت المسافة التي ليست لأن يقطع اليها، بل لأن توصل بها المسافات.
هكذا انوصلت بك المواعيد، و انفتلت بك عهدا في وصلة الصباح بالصباح، و دمج الضياء بالضياء، و فبدوت كأنك الوصال المبني لاستلام الساحات دون أن توهي - هي - بفك الارتباط.
أتكون أنت منتدبا؟ أم أنك انبثاق من مهجة الرسالة التي هي زرع الحق في الانسان، و رفعه الي مدار الكون، و السير به الي سناء يجعله انسانا سويا.
ألم تكن هي رسالة جدك، لقد أنزلت اليه في غار حراء من خلواته العميقة الموصولة الارجاء، من استغراقاته المديدة المندمجة الذات التي هي مصدر المصادر في معانقة الحق، من جهاد العمر كله من أجل التبليغ، من أجل جعل الاشارة تحيا في المشار اليه، من أجل جعل الانسان ينمو بالحق المزروع فيه والذي هو - وحده - نصيبه في الوجود، من أجل جعل الله مثلا في

[ صفحه 10]

النفوس الشريفة المبنية للرحاب، من أجل، جعل الانسان محررا من أي اخطبوط يخبي‌ء أصابعه في عثانين الأصنام، من أجل امتداد العمر بالانسان حتي لا يبقي:ما أن يولد في الليل حتي تتناوله الغفوة قبل تباشير الصباح.
لقد نجح الجد العظيم في بعث الرسالة، و في حفرها المتين في قرآن، و في نقلها البليغ الي الانسان، في تسجيلها علي لوحة الزمان. و ها هي الأجيال لا تزال موصولة به كما لا يزال هو موصولا بالمصدر الذي به تم الاتصال.
و لكن الرسالة التي بلغ بها الجهد الي حقيقة الزرع، و حقيقة العلوق، و من ثم الي حقيقة الانطلاق، انما هي وصلة في الحياة، و لا بد لها من تركيز يدفع بها من ثقل الي ثقل، كما هي الحياة بالذات، لاتني تتلقط بكل شوق يتنقل بها من وصال الي وصال.
و كنت أنت المجتبي - قبل أن تبصر النور كنت المصطفي - انه الشوق في جدك تتناوله الغيرة علي مجهود يلزمه الدفع الطويل حتي يبقي مستمرا، يلزمه الدفع الذي لا ينتهي، فهو ليس حكرا علي عمر واحد يأتيه اجل، انما من أجل بناء الاجيال التي تأتي دون أن تصرمها الآجال انما هو في الحقيقة المطلقة مجهود تشبث يحقيقة رزم الانسان حتي ينتصر الانسان. أما القيم علي هذا المجهود فهو الذي لا يعرضه الموت للغياب أكثر مما يبقيه في ساحة الصراع عن طريق توارث الصفات، من سلف الي خلف، و هي هذي الصفات الموفورة تخفظ المجهود في خطه الممدود.
تلك هي العصمة أيها الامام، جمع اليك حدودها جدك البعيد المدي، فاذا هي لك في كني توافرت فيها الصفات، كأنها قنوات تستقي منها. فأنت أبومحمد، و أنت الزكي، و أنت السبط، و أنت الريحانة في الجنة، و أنت الامام قمت أم قعدت، و أنت السيد، و أنت المجتبي.
انها القنوات التي و شمت بها.، لتكون اليها مشدود الالتزام، كأنها فعل من أفعال التحضير، أو عملية من عمليات التخمير، تلبسها ثوبا يتباهي به فلا يخلع، و تلتزم بها قميصا يمتصه عريك الي عظمك، و تمشي بها كأنك طود له

[ صفحه 11]

جذور في الأرض و رياحين مورقة في الفضاء و تترمد بها فتخرج علي الوشم الذي يخلد به طير العنقاء.
بالاضافة الي ذلك، فأنت المسحوب نقطة من الخط الطويل، لا لأن يقطع الخط بل لأن يبقي له - بك - حال الوصل: وصل الأبناء بالآباء، و الآباء بالأجداد - انها كريمة سلالة الأجداد، ثبت طويلا عليها وجود الانسان المهيأ للتلقط بكل قبس يشع علي ضمير الانسان. من قصي - الي عمرو العلا - الي عبدالمطلب - الي الذي نمت في حضنه، و رشفت الشوق من عينه - الي أمك الصديقة التي حضنتك في أحشائها ستة أشهر لا أكثر، و لم تقبل أن تكون أما لك وحدك، بل أما أيضا لأبيها - و لا يصل الرزم الي أبيك حتي نلمح أنه سيد من الأسياد هو قطب من الأقطاب، و نور للعقل، و ركن من أركان الاسلام.
من مثل ذلك كله كان تحضيرك للسهر علي الارث المجيد، و لم يكن لغيرك قدم في الساحة العريضة، و التي هي الآن عريضة تحت عين جدك المتوسعة المأخوذة بكل هذه الابهاء، و التي صدق رصيده فيها و صدق حسه، و صدقت رغائبه،و تطلعاته،و تحسباته - فكنت أنت الذي ضاءت به الاشارة.
هذا هو الاطار الذي أعد لأن ينزل فيه الامام الحسن بن علي، لتكون له منه الحدود، كل الحدود، فهل صدق الزمان في سيره، و تمكن هذا الامام من التلبية، تنفيذا لكل ما أوكل اليه؟
انه ليخطي‌ء الظن في أن مدي الرسالة المطروحة الآن علي هذا الانسان الذي يتدرج تدرجا بطيئا الي مثال هو مقيد بزمان، بل أنه مدي يتناول بدايته من الحقيقة المستمرة التي تلقطت بها هذه الرسالة الي الحقيقة المستمرة التي لا ينقطع بها الاستمرار في ثبوت الحق في الحياة - انه المدي الذي يتعدي الوقت في الزمان الي المسافات التي يطول بها الزمان، كما و أنه يتعدي الفرد في وجود الانسان الي القيمة المستمرة و المحققة وجود الانسان.
ان الطرح الذي ابتدأ بابن عبدالله محمد كان نتيجة تولد الشوق الكبير من الاحتكاك الملتهب بالجوهر - جوهر الحقيقة المكنونة في قلب اللسرمد - فكان

[ صفحه 12]

هذا الطرح بداية موصولة بالحق الذي ليس له بداية و الذي به و منه وجود الانسان، ثم ان الطرح هذا و ان يكن قد قام به فرد معين، فانه يتجاوزه - اذ تخلو منه الساحة - الي سواه ليصبح هذا الطرح ذاته ملك الانسان، لذلك هو مخصص له و موجه اليه، و منوط به، ما دامت الحياة مستمرة لا بوجود الفرد بل بوجود الانسان، لذلك فان رسالة محمد لا تزال هي فاعلة حتي اليوم.
و الامام الحسن، لقد عين مسبقا لأن تنتقل اليه القيمومة و سيحاول أن يلتزم بها ما دامت له الأنباض في الحياة، و سيتركها الي الغير مربوطة بنهج سيكون لها في مجال الديمومة.
ها هو يقف حائرا علي المفارق التي وقف عليها جده اللاهث المدثر، و أبوه التعبان من صروف الدهر، و ها هو قد راحت يده تلوح بالاشارات الهادية الي حقيقة السير علي الدروب المعوجة بالانسان أتراه قد نجح في تقويم المسالك.
و ان يكن قد عاش في ذلك الحين المغمور بالعلي و التنكر لاكتشاف حقيقة الذات،فانه أول من أشار الي حقيقة السلوك في الدرب الصحيح المؤدي الي حقيقة البناء. لقد كان بناء الانسان في نهجه موقوفا بتوسيع الدروب لا بتضييقها، ببناء المجتمع الكبير و القوي، لا بتفتيته و توزيعه علي كل قبيلة من القبائل فيصبح عدة مجتمعات بالضعف توهي - بازالة أسباب الداء قبل أن تنقلب هذه الأسباب بدورها الي مسببات جديدة تتعمق بها أسباب الانهيار.
لقد ابتدأت الرسالة بهذا الربط المتين، و كان أساسها هو التوحيد، و لقد حققت به الانفتاح، و الانضمام، و الالتمام، و الانصهار، و تحقيق الجني و الازدهار، و لكنها في اللحظة التي وصلت فيه الي الامام - كانت قد رجعت بها الأورام الي الداء القديم الذي يفتك بهذا الانسان، و يوزعه الي ألف وحدة فوق ألف أرض، أي شي‌ء سواها كان يفصل مكة عن يثرب، و الكوفة عن البصرة؟ و أي شي‌ء غيرها في صفين فصل الفرات عن الفرات و وسع هوة الفراق بين الشام و العراق؟

[ صفحه 13]

و جاء الامام الحسن بنهج كأنه الابتكار، يحقن الدم بالصلح الأبيض حتي تزول الأورام، فتلتقي قدم بقدم و حسام بحسام، حتي يكون للمجتمع العظيم قلب واحد وزند واحد يلعب بالسيف أمام الشمس و تخفق به راية الحق براية الاسلام.
لقد غاب الحسن و بقي له المنهج حتي تستقيم به مناهج الأمة في حقيقة الاسلام، فما هو هذا المنهج، منهج الامام؟

[ صفحه 17]

اطر و ملامح‌

حروف مبعثرة

أيها الامام - يا أبامحمد - أيها التقي الذي مشي حافيا فوق الرماد - أيها السبط الذي ارتبطت به الأواصر و انتهت اليه مفاصل الحقب، كأنك همزة الوصل بين ثقل و ثقل، في حوملة تمتزج فيها البدايات بالنهايات.
أيها الزكي الذي تحمل لعب النار في المصهر، فطابت به خميرة الطهر، وصفا رماده.
أيها اللون الجديد المشرب بلون الورود المتدلية فوق الجدران العالية، كأنها امتداد لبحور الجنان، تشرب الكوثر بدعج العين، و تفيض بك الملامح الي حدود الرسالة التي لا يرتعش بها الا ابن نبي.
أيها الأذن التي اصغت الي الحفيف فغارت بها الأنغام الي القمر الذي التهب بالصمت و الوعد و فيض التمني.
- 2 -
و أخيرا، أيها المجتبي، أيجوز لي أن أقول - اذ اختصرتك بوصف - اني وصلت اليك؟.
منذ زمن طويل و أنا أسعي الي المبتغي - ولم يكن لي أبدا أن ألمحك الا بعد

[ صفحه 18]

أن تطول اغاضة عيني، كأنك طيف تخف خطواته مع كل دغشة ندية تحلم بها المقاطع المارجة بأفواج الرياحين. ربما يكون لي من هنا أن اكتشفت شوق جدك العظيم اليك و هو يشمك و يقول: أنت ريحانتي الندية - كأنك هكذا قد ولدت شعرا في باله.
- 3 -
كنت مرة اصلي بين يدي أبيك المنحني أمام عرش الحق، و كنت - من فرط التهيب مغمض العينين. و لكني أبصرته كيف تناولك من حضن أمك البتول، ليعرضك - ملفوفا بخرقة صفراء - علي جدك الرسول، حتي يعطيك اسما تمشي به علي صفحة الأرض. فأخذك بين يديه، ورمي عنك الوشاح الأصفر - لون الزعفران، لون الأكباد المشحونة بالبغض و الحقد و التشقي، لون العروق الشاحب فيها الدم - و أزرك بثوب كان قد نسجه لك في لياليه الراعشة، و المفتشة عن مكوك تعيش عليه حقيقة الغزل، ثم اصطفي لك الاسم المورق من ضفاف الجنان.
- 4 -
لقد أسري بي الخيال في مرة من المرات التي ينبت فيها ريش جديد لطير يشبه العنقاء - زرت فيها بيتا لحارثة بن النعمان، و هو بيت في المدينة يثرب، مشترك الحيطان، حيث كان يقيم، في جناح منه، جدك الرسول، و في جناح آخر أبواك الجميلان، علي و فاطمة - و فيما رحت اتيمن بلمس الجدران، سمعت امرأة، عرفت، اسمها من نبرة الطهر في صوتها، لقد كانت رنمة الصوت لأسماء بنت عميس، و هي تقول: لهفي علي فاطمة، لم تتمكن خاصرتها النحلية من حمل ابنها البكر أكثر من ستة أشهر - و كنت أنت بالذات أيها اللطيف - و كنت الشبية الفريد بعيسي بن مريم، تتركان - عن ستة أشهر، لا عن تسعة - مخامل الرحم، الي عالم لم تتصلب لكما اليه بعد متانة الجسد. و لكن عيسي لم يترك حنوة من حنوات الأرض الطاهرة، لا في صيدا و صور، و لا في الناصرة و لا في أورشليم أو بيسان أو جرزيم، الا ووزع عليها قدميه

[ صفحه 19]

السابحتين، وزرع مواسم الناردين، كما فعلت أنت بالذات، عندما تمكنت منك الأشواط فلم تترك ساحة محرورة الا حاولت ربطها بأخواتها من الساحات في عمليات كنت تستنبتها و تنقلها من حقيقة الرؤيا الي حقيقة الاحتراز، عن طريق التروي و الابتكار.
- 5 -
كنت في ذات أمسية أستريح من عناء، و كان رفيقي، و أنا ملق رأسي الي وسادة، كتاب يحدث عنك، لم تأخذني حروفه، لأنها كانت يابسة بحبرها الضئيل - كانت يابسة البيان، لأنها كانت يابسة الحس، و ان نطقت حتي بالحقيقة - من هنا ينقلب لحاء الشجرة الي قشرة يباس، اذ تنقطع عنها العصارة الصاعدة و النازلة في آن، و من هنا كان الطهر في أمك البتول مخزونا في روحها لا في مجري الدم في عروقها ليكون الحب في القلب المروي بالحس و النبل و براءة الفهم، قبل أن يكون دسما في غدة يترابط بها قفص الصدر.
رغم ذلك فاني لم ألق الكتاب من يدي، بل رماني هو في غفوة أغرقتني في حلم. ها اني، و أنا مغف أتذكر القول: «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها». ها هي الآية، كأنها تنزل الي أذني من أعلي مئذنة، انها مسحوبة من سورة الأحزاب: «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.».
و اختلطت أمامي المشاهد ها اني أسمع النبي الكريم يباهل أسقف نجران علي أهل بيته، و هم علي و فاطمة و الحسنان.
ثم رأيتني أطوف الأزقة في يثرب، و سريعا ما وجدتني علي الزاوية الشرقية من المسجد أصغي الي حديث يتفوه به البراء بن عازب، كأنه يتباهي بشهادة تبرع بها ألف مرة: رأيت النبي، و الحسن علي عاتقه يقول: «اللهم اني أحبه فأحبه». و ما كدت أدير رأسي الي الزاوية الثانية حتي سمعت محدثا آخر يدعي أبابكرة، كأنه يشهد أيضا للمرة الألف: «رأيت رسول الله علي المنبر، و الحسن

[ صفحه 20]

ابن علي الي جنبه، و هو يقبل علي الناس مرة و عليه أخري و يقول: ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.».
و من طرف الساحة، الي هناك، قيل لي أنه حبر الأمة عبدالله بن عباس: كان أيضا في معرض الرواية عما سمعه من فم الرسول: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس.» و من الطرف المقابل سمعت من قيل عنه أنه زيد بن أرقم، يروي عن النبي: «اني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي:أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء الي الأرض و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.»
أما الصوت الذي سمعته فقطع عني حومة الحلم، فانه كان لأبي هريرة شيخ المضيرة... لقد كان الاسناد عنه أنه كان اذا رأي الامام الحسن مقبلا يتسارع اليه و يقبله في سرته لأنه رأي الرسول هكذا يفعل. لو أن التقبيل صدق و محبة، لطابت شفة الذئب و لدغة الثعبان.
- 6 -
ذكرتني قصة ابي‌هريرة بقصة سوادة بن قيس - انها قصة تقبيل السرة، قيل: عندما اشتد المرض علي النبي، بعد أن رجع من حجة الوداع، اراد أن يجمع الجزيرة بمثال حي عن المحبة و التسامح و الغفران،فعرض ذلك علي كل من بعودونه معلنا أنه يتمني أن يقتص منه كل من اساء هو اليه و لتكن واحدة بواحدة عملية الاقتصاص - فانبري اليه سوادة بن قيس مدعيا أنه لقي منه مرة ضربة سوط علي بطنه، فلنسمع الي ما من حوار:
- النبي الكريم - اين انت يا بلال؟ ناول سوادة السوط المعلق في الجدار.
- بلال - هاك السوط يا سوادة.
- سوادة - اكشف عن بطنك يا رسول الله.

[ صفحه 21]

- النبي الكريم - هاك بطني يا سوادة.
و رمي سوادة السوط من يمينه و انحني ساجدا يقبل سرة النبي بشفتين ملتهبتين بالجمال و النبي العظيم ليقول:
- اللهم اعف عن سوادة كما عفا عن نبيك محمد -.
- 7 -
في الحيز المكنون في وجداني ظن لم يكذبه حتي اللحظة شعوري: لم يكن لجدك الرسول أيها الامام أن يفرق بين ابيك البليغ في نهجه، و ابي‌بكر في طويته، ولكنه كان الغارق في الشوق العظيم الي تحضير القيمة في الانسان.
لقد كانت وعرة كل المسالك، و لقد كان لها البذل السخي من الدموع و الاعراق و الدماء النازفة من الاوصال، و لقد كان التوحيد السبيل الأمثل في لملمة المجتمع و ربطه بالانسان المدرك، و لن يكون الادراك بغير التمرس بالحق و المعرفة، في تغطية بليغة المدد، يترادف فيها الصدق و البراءة و العدالة و المساواة، تحت ظل من جناح يخفق بالحب و التقوي و نبل الحس و الشعور، هيهات لهذا البساط من الروعة و الجمال، من اين له ان يبقي متين النسج من دون خيط حبيك الفتل وصامد المكوك! من هنا كان للنبي المشرف علي الساحة الكبيرة، والتي هي الآن ممدودة من لملمة جهوده، ان يضمن التركيز في قاعدة تتصارع عليها الاجيال دون أن تفرطها. اعتقد بأن اناطة القضية الكبيرة برجل يكون المسؤول الأول عن مجهود عريق التحقيق و بعيد المرمي في بناء المجتمع، و بناء الطاقة التي هي وحدها الانسان، لامر جليل الأهمية في جمع الصفات و جعلها تتضافر في حبكها لتحمل المسؤولية الكبيرة و العظيمة والجليلة. من هنا يكون لهذا المسؤول المتين المنكبين بناء خاص كما هو بناء الرياضيين المتمكنين، يبدأ باكرا في التحضير النفسي - العقلي - الروحي، دون أن ينتهي التحضير، في ممارسة اصيلة الحس و الفهم و المؤدي، هادفة المران - انها الامامة كما يشير اليها القصد - انها تمالك الصفات المتنامية في المسؤول المحضر لاستقبال العصمة المتمكنة من حفظ الرسالة المبنية لصيانة الانسان الذي هو عماد المجتمع العظيم الذي يكون

[ صفحه 22]

هو بدوره سياج هذا الانسان، و مصدر المدد له في البقاء و الاستمرار فلتشهد هذه الآية من سورة المائدة: «اليوم أكملت لكم دينكم، واتممت عليكم نعمتي،ورضيت لكم الاسلام دينا». انها الآية التي نزلت في غديرخم، حيث تمت المبايعة للامام علي ذلك الذي تفتحت عينه علي ولادة الرسالة، و من حيث كانت له الرفقة المرموقة، و من حيث كانت له المساهمة في الاعداد و التمكن.
- 8 -
لا اريد أن تشط بي الاهواء الي غير الاستقراء في متابعة درس الاحداث في مسيرتها من غير ردها الي اسباب و مسببات، و عرضها علي محك التعليل و ترك الحكم فيها الي المنطق.
اليس حدثا عبور الخلافة عن الامام علي ثلاث مرات متتالية و هو الموحي له بها،كما يؤكدون، و هو الموجه و المعد لها، كما يشهد له الاستحقاق، و هو المشارك البطل في تدعيم ركائزها، كما يدل اليه السيف و البطولة في الساحات.
و لكن... اتكون الرسالة ملك الموصي حتي يعين من يريد قيما عليها؟ أية رسالة علي صفحة الارض كانت ملكا للذي طرحها، و قدمها و ربطها بعقله و روحه اعصابه، و بري بنودها، وصان نحوتها، و بني جدرانها و سقوفها؟.
انما هي ملك المجتمع الذي يقبلها فتثبت او يرفضها فتنكفي‌ء الي سكون، و انما هو المجتمع هو الارض الخصبة التي تقدم الذخر حتي يتم العلوق، و النمو،والزخم، و الانطلاق.
لم يقبل المجتمع بتنفيذ الوصية، فمن حقه أن يقبل، مثلما هو من حقه أن يرفض.
يا ليته كان يدرك القصد و المرمي من طرح الوصية، لكان له أن يحترم

[ صفحه 23]

الموصي و الموصي له في آن واحد، بدلا من أن يعود الي القبلية فيسحبها هكذا من وأدها.
اليست الردات مرضا من الوهم المزمن، يصيب مجتمعات الانسان ويرميها في المعاناة المؤلمة، الي أن يعود العقل الي ردة معكوسه سليمة يمليها وعي جديد، و ادراك مشع، هما من الحياة مدد في الزخم و نعمة من كرم الله وجوده؟
- 9 -
و القبائل في الجزيرة انهم مادة العرب - جمعتهم الارض، وشتتهم الارض - لقد كان لهم أن يفعلوا حيث تنكروا للقبلية التي كانت ترميهم في حقول مصفرة يقتاتون منها بالطفيليات.
عندما تصبح القبائل جمهورا واحدا في الوعي، يكون قد ولد فيهم الانسان في قيمومة الفهم والادراك، وصولا الي تحقيق المجتمع المنيع الباحث في جوهر الحق.
اتكون رسالة الاسلام تلبية للاعجة شوق هاجعة في الطوايا؟ نادتهم فانسحبوا اليها، كما ينسحب العطش بالغزلان خلف كل سلك تلمع فيه لهثة ماء؟.
و كان التوحيد باسم الله الذي «لا تراه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الايمان» و كان السؤال من ذعلب اليماني موجها الي الامام علي عن رب علي، و كان الجواب، و كان التوحيد مربوط الايمان بالذي يري، و بالذي بسط الحياة علي كف الازل، من لا بداية تلحظ، الي لا نهاية تدرك، من حيث يكون الانسان في ولادة دائمة، يكتشف ذاته مزروعا في صدر الحياة - بلا شأن - الي أن يجد شأنه في المجتمع الذي يبنيه صاعدا لائقا بعزته و كرامته كأنسان.

[ صفحه 24]

- 10 -
كان قميص عثمان منسوجا قبل أن يولد - يا له من قميص، بدلا من أن يستر عريا،كشفه - و لكنه كان مشغولا علي نول تلعب فيه ريح سموم، و أن تكن قد هبت عبر الفدافد المحروقة باللفح - فليس هذا الوهج هو الذي اندفق علي هذا النول بوطأة النار، بل أن البلية المسعورة برجم الحمم، هي في القبلية التي لا تنام الا علي القلي المحروق بنبات الحمض! يا له من نول فصلت عليه الجزيرة كل قمصانها القديمة، فهلهلتها الريح الي ألف سهم.
ايها الامام المجتبي - كانت لك المحاولة البارعة وانت تتسلم المركز المسنود بمثل هذا العود - و لكن الولاء هو الذي كان معوورا - و بدلا من أن تنجح بعملية حقن الدماء، و جعلها في اللحمة الممدودة و المشدودة، هوت بك مفاصل الارض، لتبقي لك فيها ريح لطيفة تذكرها - اذ تعود بها دورة الي الحق - بأن السبيل الأمثل الي العزة في الانسان، هو ربط المجتمع بوحدة انسانه بوعي هوله في تحقيق المجال.

مع البداية

بهذه الصفحات المعدودة و عنوانها «حروف مبعثرة» أحببت أن أستهل هذا الكتاب عن الامام الحسن. تشكل هذه الحروف المبعثرة رؤوس أقلام لمواضيع تظهر فيها بعض الملامح الملفوفة بأوشحة من رموز، مشيرة الي الأطر التي أحاطت بسيرة الامام، و لقد عنونتها بحروف مبعثرة، لأن مهمة الامام بالذات لم تتحقق لها جوانب الجمع و الارتباط علي سياق رتيب، بل تشعثت بها المفارق في لوالب من الأحداث قطعتها عن خطها و بترت خطواتها فجعلتها تتوقف عن السير في طريق قد اعوج، لتعود فتقحمها - من جديد - في طريق آخر، رسمت خطوطه بقدمين مسحوبتين من حقيقة الساحة، و من حقيقة رمالها و غبارها،و أورام مفارقها، و من مساحاتها بالذات التي كان قد جمعها الجهد و الجهاد: من أطراف اليمن، الي كل المطارح المنهوكة من أرض

[ صفحه 25]

الحجاز، الي الكوفة و البصرة و السهول المطروحة في أحضان دجاجة و الفرات الي الغوطة التي ينز عليها بردي، الي الشاطي‌ء المكشوف و الملفوف بالارض التي ولد فيها عيسي المغتسل العماد بنهر الأردن... كل هذه المساحات أصبح الآن يهددها التقاطع، وراح يتلازج بها عكر ممزوج الوحل بالكبريت - فما هو هذا الوحل الذي راحت تتلازج به ساحة الاسلام، و ما هو هذا الكبريت الذي راحت تصفر به أوصال الجهاد؟!.
من المعلوم أن رسالة الاسلام هي أطروحة بكر، نقلها النبي محمد من جهده العزيز الامتثال لا نتشال الجزيرة من عتمات ليس فيها أكثر من سرج شحيحة لا تكفي شيئا في اظهار معالم الطريق - هنالك انسان يقفز قفزا في اليالي، يفتش عن واحة، و ما أن يطلع عليه النهار حتي يفتش عن ظل - و ذلك هو التفتيش المضني، والذي هو أقل من حرمان. الا أن هنالك انسانا - أيضا - بتحلي بالذكاء، هو وديعة ربه في الحياة، و ان أي جهد يبذل في سبيله، يخلصه رويدا رويدا من متاهات تضنيه و تقصيه عن حقيقة البحث في الشؤون الكبيرة التي تجعله - عن حق - انسانا راشدا.
فلنختصر - لقد أثمر الاهتمام العظيم - لو أنه لم يكن مغروفا من حقيقة الفهم،و صدق العزم، و عمق الرؤيا، لما كان ليثمر. و ها هي الأطروحة، لنها في الرسالة، انها في الكتاب الجديد الذي لم يكن الا ليحلم به هذا الانسان حتي يجمع به موارد فكره، و موارد عيشه، و مواد دفاعه عن نفسه، و عن حقه في الوجود. انه نظام حياتي - فكري روحي - مالي، و هو ثوري في حقيقة التنوير،و التطوير، والتحقيق. و لقد قبله هذا الانسان المشتاق - بعد لأي، بعد تردد، بعد رفض.... و لكنه أخيرا قبله وراح يتذوقه كأنه طعم جديد لجنة كان يحلم بها حتي اكتشفها مزروعة في روحه، و في خياله، وفي وجدانه.
قلت - قبله كتابا، ولكنه راح يسمع منه،، أكثر مما يقرأ، فهو لم يتعلم القراءة بعد الا قليلا - هنالك أعداد وفيرة من أمثال هذا الانسان، لا تزال تشردها الجهالات في عمه طويل. عندما ينقلب هذا العمه الي ثقافات، تكون قد فعلت الرسالة ال جديدة، وطابت بانسانها الجديد.

[ صفحه 26]

و لكنها فعلت - لقد بدأت تفعل - ستستمر تفعل - و لن تنتهي تفعل، لأنها بنيت هكذا لأن تفعل، لأنها من الحياة: جهد، و بذل، و عقل و، تصميم. أليست من هنا فاعليتها؟ و هي كذلك، فهل يمكن أن يكون الاهتمام بها أقل شأنا منها حتي تبقي متمادية في الفعل المتطور فتتأصل و تنقش في النفوس و في الوجود؟.
سيكون الاهتمام بها من أجل استمرارها في حقيقة الفعل، ضلعا جديدا من ضلوع الأطروحة التي انشغلت بها الرسالة؛ فكيف رسمت حدود هذا الاهتمام والتنامي؟ و تلك مهمة جديدة نبتت من صلب الرسالة ذاتها، لأنها منها في مادة الوصل و الارتباط - فكما أن الرسالة جليلة بهذا المقدار، فمن المحتم أن تكون مهمة الصيانة جليلة بالمقدار ذاته، واستطرادا أقول: كيف رسمت حدود هذا الاهتمام، و هل رسمت فعلا حدود المهمة؟.
ان الذي يصون الرسالة اليوم هو صاحب الأطروحة الحاضر - فهو الذي قدم الرسالة، و هو الذي تعهدها، و هو الذي دفعها الي الساحة، و هو الذي لا يزال يدفعها، و هو الذي - أيضا - ينتظر خلو الساحة منه؛ فمن تراه يعين خلفا له يتناول مهمة السهر عليها؟ انه من الجحود أن يهمل المجتمع العظيم الذي رفعت من شأنه هذه الرسالة. لست أنتظر أن أجد حريصا علي الرسالة أبلغ ما باريها - أتراه أعد الاعداد الكافي ذلك الذي سيتناول منه و عنه عملية الدفع و التكميل و التصعيد؟.
حري به أن يفعل - كثرهم الذين حوله - أكانوا مهاجرين، أم صاحبيين أم من الأنصار الفاعلين - لقد أعدتهم الرسالة اعدادا مجيدا، وان متفاوتا في الفهم و الصلابة و الادراك، أما تعيين القيم المتفرد، و ان يكن - في الدلالة اليه - تعرض لاحراج، فلا مندوحة عنه، و لن يكون عن طريق القرعة، بل بتخصيصه باعداد نفسي - عقلي - روحي طويل الأمد، يجلوه الاحتكاك،

[ صفحه 27]

و الاختبار، و بعد في النظر،و تحضير مشتق من الرسالة، و من الغيرة عليها،و من تفهم مراميها و مرآئيها في الحياة، فهل حصل هذا الاعداد من قبل الرسول؟
أول ما تمتد الاشارة الي رجل فذ، كان ربيب الرسول - لمع اسمه في الجزيرة، و في جميع أنحاء العالم الاسلامي - منذ ذلك الوقت الي اليوم - انه علي، فهل سيمثل أصبع الرسول اليه؟ انه ابن عمه، و لقد حضنه في بيته، و كان ثاني فرد في الجزيرة يعتنق الاسلام، و زوجه من ابنته فاطمة التي كانت متفردة بحبه، و التي حصر ذريته بابنيها الحسن و الحسين، وأفرد لهما حبا خاصا دغمهما بالجنة.... أيكون كل ذلك حاضرا و محسوبا في الاعداد المنتظر التنفيذ؟ و هل هو - بحد ذاته - اشارة الي التخصيص و التعيين، تعيين علي، و من بعده يناط الأمر علي التوالي، بالذرية التي تبقي وحدها في المجال؟.
كثر هم الذين لمحوا الاشارة، و لقد كانت، عريضة و عريضة، الي درجة لا يحتاج معها الي نص يزيد وضوحها، و يثبت حدودها، وينقلها من حالة العرض الي معني الفرض،و لكنهم كانوا كثرا - بالوقت ذاته - اولئك الذين لمحوها و حجبوا العين عنها،و لم يريدوا أن يفتشوا لها عن نص يثبتها، فهي - بالنسبة اليهم - تخصيص يحرمهم من حق المشاركة في تحمل المسؤوليات الجسام، فالانتخاب، من هذا القبيل هو المفسح في المجال لتقديم البارزين في طاقاتهم المهيأة، و الأنسب منهم هو الذي يكون له التعيين.
و غاب الرسول عن الساحة، و مع اللحظة الأولي من غيابه - و هو مسجي تتم علي جسده الطاهر عملية الغسل - و قبل أن تحصل عملية الدفن، و قبل أن تنشف العين من دموعها حتي تري أين هي الطريق، و قبل أن يمهد التمهل دربا للتبصر.. قبل كل شي‌ء من هذا، تم السباق الي دار السقيفة، و تم الحجز علي كل نظرية في التعيين المسبق، وفي التخصيص المقفل،و حسما لكل اعتراض يحصل، تم تعيين أبي‌بكر الصديق أول خليفة للاسلام.
من البديهي أن نحكم أن عملية كهذه هي عملية تعيين لا عملية

[ صفحه 28]

انتخاب، فلانتخاب هو استشارة الجماهير، و الاستشارة هي وعي معزز بثقافة. لست أظن أن انتخابا واحدا من هذا النوع قد حصل في تعيين أي خليفة من خلفاء الاسلام، لا بد أنه كان يصل بمبايعات مقهورة و مهدور فيها الدم! لم ينتخب - اذا أبوبكر، بل جاء نتيجة تمثيل خفيف جدا، قام علي صراع بين بعض الصحابة و بعض الأنصار، و لم يحصل أبدا علي اجماع، و بهذا يكون رفض التعيين وقوعا في تعيين ممهد لخلاف.
ان الفئة الثانية الممثلة بعلي، والتي لم تستشر - كانت مقتنعة بالتعيين الذي أشارت اليه ارادة النبي - فهو تعيين مربوط بجوهر الرسالة، و هو تعبير عن مركز ديني، قبل أن يكون تعبيرا عن مركز دنيوي، بمعني أنه دين قبل أن يكون دولة، و هو دولة بعد أن تصلح بالمثل التي تقدمها الرسالة أساسا في كل شرع. انه دين قبله أن يكون سياسة - و هو سياسة عندما تعززها الرسالة بالهدي والرشد، و هي تعيين منبثق من جوهر الرسالة، أكان مثبتا بنص، أم مشارا اليه بتلميح، انه جوهر الرسالة، أما الانتخاب، فلتبن الرسالة - أولا انسانا يتوصل الي حقيقة الانتخاب. لاتزال الرسالة في أول الطريق - و هي التي توفقت و خلقت انسانا - و لكنه لم يصل بعد الي السوية المؤهلة، فلتبق هي الآن في المرحلة التي تؤهل الانسان و تحضره للوصول الي حقيقة الانتخاب.
تلك هي النظرية التي قسمت الي خطين: واحد يريد الشوري، أو الانتخاب المفروض - و ثان يتعلق بالتعيين الذي تحضره التقوي، و تؤهله للقيادة و تبتعد به الجماهير عن انقسامات قبلية، لم تكن يوما واحدا في مصلحة الأمة المشردة - هنا و هناك - قبائل علي صفحة الأرض!.
ذلك هو نصيبك من الساحة التي راحت تغرق من جديد بوحل قديم لا يخصب، و بكبريت ليس فيه نسمة أو بلة - أيها الفتي الصغير. لقد مات جدك و هو ينظر اليك و هو مستعجل لأن يسلمك المهمة - أتراك تستعد منذ الآن لاستلام المهمة، فتحيا أنت في عين جدك التي لا تزال هي تحيا في الرسالة؟!.

[ صفحه 29]

المهمة

و المهمة - أنها رسالة الاسلام - ليس في قصدي أن أحددها، بل أن أتناول منها ما يشدد ضلوع البحث الذي هو الآن في متناول الاشارة. من هنا ان المهمة الجليلة هذه، و التي هي قضية الوجود، أو بالأحري قضية الانسان، ليس يطالها التحديد بأوسع مما يحصرها الاسناد بأنها مصدر من مصادر الشمول، و ضلع من ضلوع الكون، محضرة لأن تبتدي‌ء بالأنسان، ومهددة بالخبو اذ تخمد جذوة العقل في الانسان. انها - بالفعل - قضية الانسان، فهي رسالة منزلة الحروف لهدي الانسان، والسير به قدما في الدوائر المدركة حقيقة الكون، و المتلقطة بكل سبب من الأسباب التي تنتقل بالانسان من الجهل الي الوعي و الادراك و التحقيق الانساني، في قبس من نور يشع بالحق،و ينعكس بالجمال، ويتحلي بالمثل التي تبني المجتمع العظيم بناء صادق المفعول،و صامد التركيز.
ان التحديد فيها،و كمهمة، يقوم - اذا - في التدليل الي مؤدياتها. يكفيها التلميح انها جمعت في غار فتحت فيه كوي تدلت منها حبال من الشوق الذي يولد فيه ولادة دائمة: الانسان، وفكر الانسان و عقل الانسان، وخيال الانسان، و كل الأماني الكبيرة في ضمائر الانسان؛ و يكفيها التبصر انها نزلت في قرآن، لم يقرأه الانسان الأمي في المحيط الذي نزل فيه، بل أخذه الي وعيه و جنانه حفظا كأنه التسجيل - بل و أخذته الأجيال في امتدادها الانساني المجتمعي، وطوقت به وجودها الحياتي،و بنت عليه كيانها الحضاري،و راحت به الي ديمومة فاعلة واعية بالحق،و راشدة بالمثل، داعية الي المعروف، و ناهية عن المنكر.
أتكون زهيدة هذه القضية في كل مجالاتها في التحقيق؟ و أي شي‌ء هو الزهيد فيها:ولادتها في غار؟ و لكنها فتحت الغار علي الأغوار - كذلك بالتمام كانت ولادة عيسي في مزود - ولكن الطفل الذي تدفأ بأنفاس الحملان، هو الذي حملته البراءة الي اكتشاف الحق المزروع في روع الانسان... كما في

[ صفحه 30]

مزدود، كذلك في غار، كانت ولادة جديدة، كانت ولادة الاسلام، و في المزود كما في الغار، و كان حبك الزنار الذي لا يزال أطول زنار تزنرت به كرة الأرض، و جمعها كلها في وحدة الاسلام.
ليست زهيدة - اذا - هي القضية التي تلقي حروفها ابن‌الغار. لقد انتشل بها انسان الجزيرة من غيبوبة طويلة الي ديمومة في الحق، و بدلا من أن يكون لهذا الانسان تعلق بألف عثنون لألف صنم، داس عنه ابن‌الغار كل الثعانين، و قدمه واحدا، حرا، كريما، الي الحضن الواحد الذي هو رب العالمين، ليلتقي به الجمع و التوحيد، و تتنزه به الصفات الكريمة التي بها تبني المجتمعات - و هل بغير التوحيد يثبت الانسان و يزدهر مجتمع الانسان؟.

رب المهمة

عفوك اللهم، يا أيها الخالق الذي ناجاك الامام علي «بان العيون لا تراك بمشاهدة، و تدركك القلوب بحقائق الايمان» أنت الرب، والاسم لك في الربوبية - فأنت الباسط الكون: لففته بالمجرات، و أنرته بالشموس، لتكون أنت المجرات،و أنت الشموس، في الدائرة التي تبتدي‌ء باللابداية، و تنتهي باللانهاية - أنت الغار الذي حفرته في حنوة من حنوات مكة، و أنت الذي رفعته الي حيث لا ينتهي غور - و أنت الذي نزلت علي عبدك و رسولك محمد حرفا، ناطقا، محرور الشوق والعين و الخيال؛ فأنت الرب، و أنت الاله، و أنت الكل في الاتصال، و أنت الانسان في الانسان الذي يحمله الوجد اليك.
بهذه اللمحة من وجدان رغبت أن أفتتح حصتي في البحث عن المهمة الجليلة التي تتوسع برسالة الاسلام، و التي يكون النبي الكريم محمد ركيزة من ركائز الأداء فيها لتصبح منسوبة اليه،و ليكون - بالتالي -أول من امتثل بها امتثالا واعيا،و فاهما، و مدركا،و ملبيا، وليصبح - بالنتيجة - أحق من يملكها و يملك حدودها، و يملك سنتها، و حق الدفاع عنها. هو الذي دخل الغار فهو المغور -و هو الذي نزل عليه الوحي، فهو المتقبل - و هو الذي ناء بالحمل، فهو

[ صفحه 31]

المتحمل - و هو الذي حمل التبليغ، و هو المبلغ - و هو الذي التهبت أوصاله،فهو المدثر - و هو الذي تقدم الي ساحات الصراع، فهو المصارع - و هو الذي بشر بالحق، فهو الهادي - و هو الذي جمع القوم، فهو الموحد - و هو الذي مات في سبيل تحقيق الرسالة، فهو الخالد. انه - اذا - هو الأحق بتخصيص و تعيين من يقدر أن يعتني بالرسالة، رسالته.
ولكنه لم يوص الا من أجل الحفاظ علي الرسالة، لأنه كان يدرك أن الرسالة التي هي بين يديه انما هو قيم عليها، و لن تكون رسالة ما لم يشتغل بها ضمير الانسان، و وجود الانسان، و حقيقة الله في الانسان، فهي رسالة لا يملكها الا الانسان، و لا تعيش الا في تحقيق وجود الانسان.. أما الوصية بتعيين قيم عليها فهي من ضمن حدود الرسالة التي زرعت جديدا في وعي انسان لم يتحل بعد بالتمرس، فهو انسان مسحوب بتلابيبه من غفوة طال مكوثها تحت الرماد: في جاهلية مشرورة القبائل تحت أقدام الأصنام، و مسحوبة الأذيال في رعي شحيح النبت والجني، محروق الظل، و مسعور الاوار.
أي شي‌ء كان لهذا الانسان المفتش لاهثا عن واحات يرزع فيها وجوده؟ فلنسأل المساحات العريضة التي كان يزرعها بقدميه الحافيتين، تنتقل به من فروسية موهومة، يحقق بها بطولة التعدي و الغزو، علي عزم لا يهدأ الا بعد الأخذ بالثأر في استشارات مريضة قوامها استنزال الفأل من نجوم الليل، و التيمن باللات، و العزي، و مناة، لتكون له بنية عائلية مؤسسة علي الوأد في الحفر السوداء.
لا لعمري، و لم تكن الواحات أمامة مظللة بسماء، لأنها كانت مفرقة علي الساحات العريضة دون أن يجمع ما بينها الا وازع خفيف من عقل، ووازع خفيف من روح. ليس للتنظيم في مجتمعات الانسان الا المعرفة كضابط له، و هي التي يقدمها العقل النامي بسبل الحق، و ها ان الحق قد جاء مفتون السبل لقد نزل في كتاب لهذا الانسان المفتش عن كتاب.

[ صفحه 32]

منذ أن اندلعت علي الجزيرة السنة الحرات، وانسان الجزيرة يفتش عن كتاب يلطف له الأجواء من قي‌ء الرماد، و كالغزلان الهائمة خلف كل رجرجة من سراب، كانت تناديه الواحات، دون أن يتسع فيها لقدميه مكان طويل الظل أو غزير الندي، ليبقي له التوق اليها مقصورا علي مسارب كانت تتناولها أفواج القبائل النازحة بالتفتيش عن الظل، و النسمة، و الماء. بتفتيشها هذا، و بنزوحها عن الصدر الأم كانت تجد الواحات، خلف خليج العقبة - مثلا - مشرورة علي طول الشواطي‌ء، وفي أحضان السهول و الوهاد، و حول كل ضفة من الضفاف، ابتداء من السهول المفروشة حول الأردن، الي التي يباركها بردي و يمدها بالزلال، الي تذلك التي تنداح برفارفها انبساطا في أحضان الرافدين.
لقد كان كل ذلك تشتيتا و تنزيحا للقبائل، و سلخا عن الصدر الذي أنجب و ربي، ليكون لكل موجة نازحة حوملة حول المكان الذي راحت تخيم فيه و تبني عليه كياناتها الجديدة.
منذ زمن بعيد كان يحصل ذلك، قبل الأراميين و الأموريين - مثلا - قبل الأشوريين و البابليين و الكلدانيين و الكنعانيين و الفينيقيين والأكاديين -قبل موسي و حامورابي و سرجون... انه الزمن الغائر في التاريخ، ذلك الزمان الذي كان يقذف بالقبائل العربية الي كل جوار فيه واحة، و فيه نسمة و فيه ظل، و فيه تربة مخصاب غير محروقة بزفت و كبريت - من هنا كانت العروبة المفتوحة الأرجاء - يمينا و شمالا - ضمن حدود مبصومة بصما بخطوات العروبة الجغرافية المجال، باتصال الأرض و لو علي حساب الحرات و الاحقاف و الربع الخالي، و التاريخية المدي علي ذمة امتداد الشموس في الزمان.
و جاءت الرسالة من أجل الانسان التائة المفتش عن كتاب يقرأ فيه حقيقة وجوده،ويجد فيه واحة راسخة البحبوحة يجمع فيها واحاته المشرورة و المهددة أبدا بالنشف.
و كانت العبقرية مصدرا فذا في عملية التوحيد - ها هي القبائل كلها تنجدل الآن في الحبل الوا حد الذي يزنر الانسان حيث يوجد هذا الانسان -

[ صفحه 33]

أكان في الفدافد المشوية بأنفاس الحرات، أم في الواحات المنتعشة بأنسام الصبا، انه الآن انسان واحد في مجتمع واحد، يسخو عليه التوزيع في مساواة واحدة لا يضنيها الطمع و الجشع أو الظلم و البهتان.
ذلك هو الأساس في الرسالة التي طرحت، و التي طابت بها عملية التنظيم. أخذتها الجزيرة بكل قبائلها، فحطمت بها أصنامها، و محت بها قبلياتها، ومشت بها الي تحقيق ذاتها، وروت بها كل و احاتها التي كانت تعطش أبدا الي الري الصحيح، و جمعت بعها انسانها المشرد عبر التاريخ فوق البطاح التي ما ذاقت الا نادرا طعم الخصب في التراب.
ألم تنجح الرسالة في طرح ذاتها علي الانسان الذي قبلها و حقق بها أشواقه التي جعلته أمة هادية لكل الأمم؟ فهل لهذه الرسالة أن تنتسب الي غير صاحبها العظيم محمد؟ و هل لغير محمد بالذات أن يهتم بنشوئها والحفاظ عليها، بتعيين وصي، أمين قادر علي متابعة السير بها قدما، دون أي تراجع عن التحقيق العظيم المرجو لها في مجال الترسيخ، و من أجل هذه الأمة الناشئة حديثا لتحتل مكانتها تحت الشمس؟.

القيمومة

لم يكن القصد في البحث السابق تجريد انسان الجزيرة من عباءاته التي كان يرتديها في لياليه الساهرة، بالنجوم، فالأرض ذاتها هي التي حاكت له تلك العباءات من لون رمالها، و من نسج مساحاتها المرمية الأطراف و هي التي متنت قدميه بالعدو و صبغت عينيه بكحل من سواد لياليها يتقي به، في بعض ساعات النهار، وطأة الشمس و زفير اللهب. من هنا كانت له قيلولات يجمع فيها عقله، وروحه و خياله، في مناجاة للحقيقة الهاجعة في لبه، يهمزها لتهمزه الي لقاء، ومن هنا - أيضا - كان له التهيؤ - و ان بطيئا - مربوطا بانتظار.
لم تتربع الأصنام في مكة حجارة نحتت هكذا بلا دليل، بل انها حملت من قيلولات ذلك الانسان ما يجعلها فكرا مفتشا عن رمز: فالصخرة البيضاء

[ صفحه 34]

المربعة في الطائف - مثلا - و التي هي «اللات»، انما هي لتمثيل الصيف المعذوذب بالهدوء و طيب الجني، لتكون «العزي» عبارة عن ثلاث شجرات في وادي نخلة يتدلي من أغصانها ما تنوء به من تمر، دلالة الي الخصب الذي تفرشة في التراب لمسة الحياة - أما الطريق العريضة و المحروقة في آن، و التي تخط الوصل الرائع بين مكة و يثرب، فهي التي يتربع عليها الحجر الأسود، اله الجزيرة «مناة» في رمز مسحوب المهابة من عمق الليل و لونه، ليدل الي الموت الملفوف بالقضاء و القدر.
ما وني هذا الانسان يجمع ذاته في قيلولاته الطويلة، لم تكن له هذه القيلولات الا لقاء بين فكره و روحه و استعداداته للبحث و التحقيق. و حتي قفزاته الكشافة و المستمرة فوق الأرض، و التي كانت تنتقل به من جوار الي جوار و من واحة الي واحة - مع اليمنيين و الحميريين، و الغساسنة، و المناذرة المخميين، والهاشميين الطالبيين القرشيين، أو الأزديين و البكريين - حتي النيل، حتي الأرض من أفريقيا المطلة علي المحيط، حتي الشواطي‌ء المتوسطة التي تخفرها صيدا، و جبيل و أوغاريت... كانت كلها - هذه القفزات - دليلا علي استعداده لأن يكون كشافا عن حقيقته كانسان، وبحاثا عن شؤون الحياة التي تربطه بالكون.
انما هو هذا الانسان - ابن‌الجزيرة العربية بحراتها، و واحاتها علي السواء، برمالها، وغبارها، و لياليها، و شموسها و امتدادها في الزمان، باستمرارها و ترابطها بالزمان و المكان - فلنجزم أن الانسان المجتمعي هو ابن الأرض كلها التي نشأ فيها، و امتص أثداءها، ابن أمسها الطويل حتي يكون ابن يومها الحاضر، و يومها الذي يأتي دون أن يفقد معني الاتصال، انما جسده هو المجبول من كل عناصرها المجتمعة من كل حجم المكان و وسع الزمان في التلاحم المتمكن من انشاء الانسان - انما هو تعبير عن هذا الشوق المجموع التنائج، و الذي تصاغ منها عظمة المجتمع و بالأحري عظمة الانسان.
ان القيلولة التي انسحب بها الفتي الأمين محد الي غار مزروع في حنوة

[ صفحه 35]

من حنوات مكة، كانت من الصنف الفريد. لقد تجمعت فيها - علي مهل - كل قيلولات الجزيرة، في عملية استعراضيه كشافة عن حقيقة الانسان فيها عن جميع محاولاته في التحقيق، عن جميع أشواقه المتعثرة و هو يجتاز المكان و يطويه الزمان - لقد رافق كل القبائل في كل مسيراتها: رافق الأراميين - مثلا - ينتقلون الي الشمال، و يساعدون في بناء مدينة حلب و الشام - رافق الكنعانيين الذين رماهم التجوال الي شواطي‌ء المتوسط حيث ساهموا ببناء صيدا و صور، و نحتوا الحجارة في قصور رأس شمرا، و أتموا صك حروف الأبجدية في سيناء - رافق الكلدانيين و البابليين و الأشوريين و هم يمتطون صهوات الخيل نحو الكوفة و البصرة والمدائن من أرض العراق.
لم يكن زهيدا ما وفرته له القيلولة في غار حراء، و لقد كان أكرمها سخاء عليه اتصاله بالخط المربوط بالجدود - انهم هم الذين كان يؤول اليهم الاهتمام بأمر الانسان في الجزيرة عن طريق سياسة تتلقط بكل أموره الحياتية، ففي أيديهم كانت السقاية و الرفادة، و الحجابة، و الندوة، و القيادة - فهم القرشيون من بني هاشم - هكذا كان خطهم في الاهتمام بأمور الناس: من قصي، الي عبدمناف، الي هاشم الثريد المكني بعمرو و العللاء، الي عبدالمطلب المكني بشيبة الحمد، و الذي كان مثله يعتزل في غار حراء ثم يأتي ليفرق العطايا علي بني قومه الذين سموا كلهم قرشيين أي مهتمين هم بدورهم بحاجات الناس.
قبل أن يخرج محمد من قيلولته في غار حراء، كان قد جمع الي صدره كل شؤون الانسان، و كل أشواقه في الوجود الي الحق، ليصوغ منها وحدة المجتمع الأصيل في رسالة واحدة القصد و النهج و التطبيق، مبنية علي جوهر الحقيقة في الوجود الانساني.
تلك هي الرسالة العظيمة الجامعة والموحدة و هذاك هو العظيم الذي تلقاها من مصدر الحق، و مصدر الشمول، ليكون هو وحده صاحب الحق المطلق في القيمومة عليها.

[ صفحه 36]

القصد من القيمومة

اذا يليق القول بأن القيمومة علي رسالة الاسلام هي من حق الرسول العظيم، فان ذلك يعني أيضا بأن الرسالة هي ملك المجتمع الذي قبلها، و راحت تفعل فيه، فهي ليست ملك الذي قدمها أكثر مما هي - بالتالي - ملك الذي قبلها فتجسدت فيه. انها الحقيقة التي تقدمها الحياة في مجتمعات الانسان. و لكن القيمومة هنا لا يتجرد منها الا معني واحد: و هو الاهتمام بأمر الرسالة اهتماما مطلقا،حتي يبقي لها الاستمرار بالنسبة الي قيمتها العظيمة في بناء مجتمع الانسان، ومن حيث تكون و تبقي فاعلة في حقيقة الملازمة. أما قيمتها الفاعلة فهي في تقديمها المثل الجميلة، ومن أبهي نتائجها توحيد المجتمع، و توحيد مناهجه المستقاة من مصدر واحد فاعل. ان الذي جمع الرسالة بكل حروفها، انما هو - بالذات - ذلك الذي سقاها دمه، و روحه، و فكره، و غوصه الكبير المندغم بالحق و الخير و الجمال، و هو الذي تلحمه بها غيرته عليها حتي تستمر في حقيقة الملازمة الفاعلة و المتأججة بالشوق الذي لا يشتهي سواه مجتمع الانسان.
من هنا يليق القول بأن الرسول العظيم هو القيم الأول علي رسالة هو قدمها...بل انما هي منه في التحام رائع، واتصال بليغ الاندغام. أما القيمومة عليها، من بعده، فهو الذي يعينها قبل أن يرحل، و يبين حدودها و مدي فاعليتها، حتي تأتي من لون الرسالة بالذات: قيمة و فاعلية، و ملازمة، و مدي استمرار، و من هنا - أيضا - بمعني التزكية، سيبقي هو أبدا القيم الكبير الذي لا ينتهي دوره علي الرسالة التي هي باسمه تبقي فاعلة الي المدي الذي لاينتهي، ما زال للانسان مجتمع يستمر، و ان تخسر حرفا من حروف اسمه الكبير، تخسر - بالمقابل - ضلعا من توازنها، تلمح بوادره في خلل يطرأ علي بنية المجتمع، و علي سلامة المسالك التي يعود اليها وعر، أو أشوك من هشيم.
أما القيمومة - و الي من تسند؟ فذلك هو تحسب الرسول، اذ يدعوه

[ صفحه 37]

الرفيق الأعلي، فيغمض عينيه عن معانقة الشمس، و يسبل يديه عن التلويح بالاشارة، ان الذي تسند اليه القيمومة هو الذي يكون مسحوبا من ضلع الرسالة،من حقيقة الوجد و حقيقة الشوق فيها، و هو الذي يكون قد تم له فهمها و تعشقها، فاندغمت به. انه الأدري به الآن، وهو لا يزال جفنه يرف بالحق، وأذنه تخفق بالدوي الأعظم - انه هو الذي يعينه من حرصه علي الرسالة، حتي لا تدب اليها رعشة من وهن... حرام - بعد التحقيق العظيم - أن تتعثر بالرسالة رجفة تثنيها عن حقيقة الطريق!.
بهذا التحسب المحق، و بهذا الحق المتحسب، و كان النبي الكبير أن يلمح بالقيمومة الي الامام علي المهيأ لها، علي أن تكون من بعده للفتي المحسوب من شباب الجنة الامام الأول الذي نزل عليه اسم الحسن.

اين هي المهمة

فلنفصل الآن بين المهمة و القضية - فالقضية - هي الأساس، أما المهمة فهي عمل يقوم في الحفاظ علي القضية. و للاهتمام بها - شأنا حياتيا اجتماعيا - في النظرة المصيبة في البقاء، و الاستمرار، و الديمومة، ان القضية - اذا -هي الرسالة التي بذل في سبيلها ما جعل الانسان الجديد يعتنقها في وعي جديد.
من هذا المنطلق نقول: لقد تحققت الرسالة في جميع مبادئها، وغاياتها، و وضوح مراميها - لقد وضعت خطواتها علي جميع الدروب التي أخذ يسلكها الانسان الجديد، لقد تم كل ذلك تحت عين المصطفي، و من ضمن عشر سنوات أرختها الهجرة، و ها نحن الآن في السنة العاشرة، أي في السنة التي تمت فيها حجة الوداع، في هذه اللحظة بالذات، لحظة اغماضة عين القائد المشرف علي الساحة يأتي دور المهمة، دور انتقال القيادة من يد الي يد، حتي تبقي المسيرة في خطها النامي. و لكن اليد التي انتقلت اليها أثقال المهمة لم تكن هي التي دل اليها حرص الرسول، و كانت الخلافة من نصيب أبي‌بكر الصديق بدلا من علي بن أبي‌طالب، الذي عليه لفاقه الرضوان.

[ صفحه 38]

و نالت الغفوة بدورها جفني أبي‌بكر، وها هي الدرة المشهورة بيد عمر بن الخطاب، يسوط بها ظهور أولئك الذين يعصون أوامر الله بعدم الانصياع لعمل الخير، والبر، والمعروف، في اتيان المنكر - انها الرسالة، لا تزال فاعلة في مجالها المكشوف، دون أن تعمق ذاتها فتصبح في الدم و في البان.
و بدورها الدرة تنفتل الي خنجر في يمين أبي لؤلؤة، غلام المغيرة يغيبه في صدر ابن‌الخطاب، ذلك الصدر الذي ما توسع الا بمناهج الاسلام.
و انتقل الدور الي عثمان بن عفان، و لكنه كان - و هو يجمع القرآن الي دفتين تقيانه من الغفلة والنسيان - غافلا عن اعادة صناعة نول قد حطمه الرسول العظيم، و نجي الأمة من الأحلاف الكاذبة التي كانت تفرق الجزيرة بدلا من أن تجمعها - انها صناعة القمصان: فهي لم تلبس أبدا في عري، بل عرت دائما من لباس. علي هذا النول حيك قميص عثمان، و اجتاز به الدنيا و أثقالها، و أوزاها: الي ذمة الرحمن.
و بعد اثني عشر عاما طواها كلها - بأيامها و لياليها، و ثقل الثواني فيها - و صل الدور الي الامام علي فجاء يعالج الحكم باعادة تحطيم الأنوال البائسة و تمزيق القمصان التاعسة، وحفر الله في الصدور، وزرع الحق في المهج، و تلوين الدروب بالخطوات الحافية - جاءه ابن‌ملجم، وهو لم يخلع قميصه البالي!و لكن الأنوال لم ينفع بها التحطيم: فهي لا تزال منقوشة في البال، و أبولؤلؤة هو هو خلف الحيطان المطمورة بالرمال، خطواته منتعلة بسماكة الكبريت، و خنجره مسنون بالسم، و مشحوذ علي الصدأ
من أبي‌بكر الصديق، الي التاسع عشر من رمضان، مسافة تقارب ربع قرن. أتراها كانت كافية لجلوة الامام الحسن حتي يقوم بالمهمة التي وصلت اليه.

الجلوة

سيكون لنا البحث في الجلوة الأساس التي اجتلي باه الامام الحسن: و كان بها المجتبي. تمهيدا، فلنطرح سؤالا: ما هو الجمال؟.

[ صفحه 39]

و لكن الجمال، قبل أن يكون تحديدا، و تفصيلا،و شروطا، و مواصفات - هو أن تراه بعينك، و حسك،و خيالك - بعقلك أنت، و قلبك أنت، و وجدانك أنت، و لحظة ئذ يكون لك الادراك المشع بالجمال الذي هو كل ما فيك من ادراك للحق الذي هو لك، و الذي هو اطارك. أما أنت، فانك لست الفرد الصغير ذا العين التي ترتج جائلة في محجرك، بل أنت الانسان المجتمعي الذي حقق فعل الوجود في الكون، و امتلأ بالشوق الحي الذي يعبر عنه المجتمع الحي. ان المجتمع - و النظرة هذه - هو الذي يحدد الجمال تحديدا نسبيا، بالنسبة اليه،و تحديدا مطلقا، بالنسبة اليه أيضا - لأن كل نسبة فاليه، و كل مطلق فاليه أيضا - لأنه بالفعل يكون هو - المجتمع بالذات - هو الذي عين الجمال جماله، ولن يكون الحق الا جمالا، و لن يتجلي الحق علي غير الذي يسعي اليه، و ان المجتمع الذي لا يقدر أن يسعي الي الحق لهو المجتمع المتنكب الذي لم يجد دربا بعد الي لمح الدفع الذي يبنيه.
هذ هو المجتمع المقصود بناؤه، المقصود سحبه من الغفلات العجاف، المقصود جمعه ضمن الدائرة العظيمة التي هي ملعبه في المكان و الزمان. ما خار عزم النبي العظيم، ولا ضمر شوقه، ولا تقزم خياله - فليكن لهذه الأمة العظيمة مجتمعها العظيم، ليكون لها الانسان العظيم، فليكن منها نبيها، ومن شوقه الرهيف قرآنها، و منها و لها سنتها و شرائعها و شعائرها، نابتة منها و لها، من ايمانها بالحياة، من ديمومتها في اعتناق الحق، ومن تجرؤها لبناء حقيقة انسانها... فلتكن منها النبوة، ومنها القاعدة، وفيها الاستقرار، وعنها الانطلاق بالهداية الي جميع الأمم حولها، حتي تجمعهم اليها روابط انسانية تمتن التفاعل الموحد النظرة الي الحق و الخير و الجمال.
أراني أشرت باقتضاب الي مصدر جليل كانت منه فاعلية ممتازة في جلوة الامام الحسن. ها هو في السابعة من عمره عندما ترك جده فراشه علي الأرض، الي دثار من نور الحق، انه اليوم يتذكره في كل لحظة تتقدم به الي واحة التمييز، و الي استجلاء المعاني و فك الرموز - ان الشعاع الذي كانت

[ صفحه 40]

تتراسل به عين الجد اليه، وهو طفل يلثغ بالحروف، كان نورا يتدفق اليه، كأنه نوع من شموس لا ثقل فيها للظي. انه يجد في كل يوم يأتي وصفا و تفسيرا - أكثر عمقا و أشد بهاء - لكل تصرف كان يداعبه به الرجل المهيب؛ لم ينس أنه كان يرتحله - دون أن يزجر - و هو فرق منبر في المسجد يخطب في الناس، و يعلمهم كيف لهم أن يتصلوا بالحق، و دون أن يهربوا من التعب الذي به سيلهثون اذ يجاهدون، لأن لهاثهم بالذات، هو الذي سيد ربهم علي صدق المسير. و أدرك الحسن أخيرا أن قبول الجد - و هو في المسجد - بأن يعتلي الحفيد ظهره، دون أن يصد أو يزجر، لم يكن فقط سماحا له بالدلع، أو فرط محبة ليس لها أن تصد و تزجر، أو ميعانا بعاطفة قد ترتد علي صاحبها بشحوب المهابة - انما العظيم بالوصول الي التفسير: أن الرجل الكبير، لم يكن فقط لينحني أما البراءة، مناديا لها بارتحاله، بل متهيبا له أمام الساجدين بين يديه لجمال الحق، بأن الأبناء هم زينة الدنيا، بأن الحب الوسيع يبنيهم للأمة معاول معاول، بأن الأمة جمعاء تناديهم من عالم الأصلاب الي عالم الأرحام، حتي يخرجوا بناة لها، بزنود تناديها الأرض في العمارة المرصوصة بمداميك البناء: «تناكحوا، تناسلوا، حتي أباهي بكم الأمم يوم القيامة» و ها هو الآن، مثال للأبوة المحبة و المدركة، و الراضخة لتحمل مسؤولية الانجاب، و ان لم تكن المسؤولية الجليلة الآن ملقاة علي من هما من صلبه - دما، و حبا، و ايمانا - علي ذي الفقار، و فاطمة الزهراء، ابنته و أمه في آن، بالطهر و الحنان.
أما التفسير الذي كان يرميه طويلا في ساحة عريضة من ساحات التأمل و التهيب، هو أن اعتلاءه ظهر جده، و هو فوق منبر الصلاة، و هو دعوة من الجد القدير، في ايماءة من الضوء ما يخفيها عن العيان، ومن القصد ما يجعلها في عيان يطويه الليل الي صباح يغرق في تباشيره. تلك هي عملية باهرة و ماهرة من عمليات المبايعة، انه هو - الرجل العظيم - أول من يبايع، و أول من يدعو الناس الي المبايعة، انه يعرض ابنه الحسن من فوق كتفيه، و يدل اليه يزنديه، و عينيه، و بشموخ من فوق كتفيه، و سيقول عنه بأنه من أهل البيت،و أنه سيد أهل الجنة، و أنه من بين الذين طهرهم تطهيرا، والذين هم أحد

[ صفحه 41]

الثقلين، والذين هم المطيبون، وهم الذين يبرزون علي الخط الموصول بالأجداد، وانهم هم الذين يردون عليه الحوض - و الحوض الآن هو الأمة جمعاء - الأمة المستيقظة من هجعتها، و الأمة المجموعة بوعيها - لقد جمعتها الرسالة، و هو الذي جمع الرسالة، وهو و علي، هما أبوا هذه الأمة التي هي أرث الأجيال، والحسن و الحسين هما - بالتتالي - خلفان تتم بهما عملية الربط بالخط الضابط في المسيرة - أليس الحسن من هنا سيتناول التركيز؟ و من هنا سيبدأ بالمسيرة؟.

[ صفحه 45]

المراحل

وصلة البحث

فليكن لنا - قبل أن نستهل القسم الثاني من هذا الكتاب - تؤطئة توضح القصد من الدخول في فصل جديد عنوانه «المراحل».
بالحقيقة، ان القسم الثاني من هذا الكتاب لا يخرج في مؤداه عن أن يكون امتدادا لكل ما جاء في القسم الأول الذي هو «أطر و ملامح» - فالمراحل التي سيمر بها الامام الحسن، منذ خلو الساحة من جده الرسول، الي الساعة ذاتها التي ارتحل فيها - هو الحفيد - الي الحضن الرفيق، كانت كلها أطرا له، و ملامح عنه، تلونت بكل ما جناه من الاختبار في الحياة، لم يتمكن من جعل نفسه - و بالتالي - من جعلنا معه نفيد منها في مدار التطبيق، الا نزرا يسيرا، قد يصبح جدا وفيرا عندما تدرك الأجيال الصاعدة كنهه الوسيع.
و من الحقيقة أيضا أن نشير الي أن القطعة الأخيرة من البحث السابق و عنوانها «الجلوة» - لا تمنع عن الحسن حصول جلوات متلاحقة و مستمرة في كيانه النفسي - العقلي - الروحي. انما كان تفهمه لمقاصد جده الكبير عاملا بليغا في تحضيره القادر علي الاستيعاب، وفي تمتين منكبيه لتحمل المسؤولية الجسيمة التي يجب أن تكون في موازاة الرسالة التي بلغتها شفة لم يمكنها أن تنتسب الا الي أهل البيت. أما الجلوات المتتابعة و السريعة التلاحق، فهي التي يمشي اليها الآن في هذا القسم الثاني من هذا الكتاب «المراحل»، مشيا وئيدا. من

[ صفحه 46]

مرحلة الي مرحلة سيمشي: من ابن‌سبع سنوات، الي أن ينتهي به الشوط - مع أمة التي كان يفرك و جنتيه بملامس كفيها، فيشعر أن جنان النعيم كلها ليس لها مثل هذا النعيم - و تموت أمة بين يديه، فيأبي أن يصدق أن في الجنة الموعودة قطعة أوسع و أخشع من مثواها الصغير في البقيع.
لقد انتقلت به خطواته - من قبل - و هي صغيرة بعد، الي حيث يلقي رأسه الصغير في حضن أبيه الكبير الذي هو الآن - في تصوره - في المركز الذي حضره له جده الذي غاب و هجر.. ولكن قدميه الصغيرتين ترتطمان بالحفر التي تصونت بها دار السقيفة، سقيفة بني ساعدة - و يركض ملتاعا... في الزاوية الصامتة وجد أباه و أمه التي لم يكن قد أجهز الحزن عليها بعد - و هما يجتران - علي مهل - أذي لا يقدر أن يتحمله الا من تطيبت نفسه بنفحة من نفحات نهج البلاغة.
في مثل هذه التنقلات الوئيدة ستزداد، رويدا رويدا جلوة الحسن. فليكن لنا أن نجده متأملا وجه أبي‌بكر الصديق الذي احتل المركز الذي كان منتظرا أن يملأه أبوه، فاذا هو الصديق فيه... فليكن لنا أن نرافقه الي مواجهة الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، بدلا من أبيه أيضا في استلام دفة السفينة..فليكن لنا كذلك انتقال ثالث في المواجهة الي الخليفة عثمان بن عفان الذي تولدت في حضنه الثورة الجديدة التي قضت عليه و نقلت الي أبيه ورما أبيض، لابد أنه تثاقل علي الرجل الجليل في كل ما عاناه في ادارة الناس، أكان في معركة الجمل، أو في في معارك النهروان، أم في صفين، مما أدي به أخيرا الي السقوط صريعا فوق الساحة التي مشت فوقها رجلا مثل ابن‌ملجم.
ستكون للامام الحسن مشاهدات غزيرة المادة لهذه المسرحيات التي مرت فصولا من أمامه، و سيكون لكل مشهد منها حفر معين في نفسه و، جلوة جديدة مضافة الي كل من الجلوات السابقات. فلننظر اليه كيف يجتاز هذه «المراحل»

[ صفحه 47]

بخطوات متأملة، صاغت منه غواصا و جوالا يعرف كيف يغوص، و يعرف كيف يمشي.

السقيفة

ليت الاجتماع هذا الذي حصل في السقيفة، قبل أن ينقل جثمان الرسول الي مقره الأخير - ليته حصل في الكعبة، و في دار الندوة بالذات، وفي ظل القواعد التي كان يتربع فوقها العدد الكبير من الأصنام، لكان الاجتماع هناك يحظي بتمثيل قبلي أوسع بكثير مما حظي به في حضن سقيفة لبني ساعدة، جمعت عدة ممثلين فقط، من مجموع القبائل.
ما هو رجاؤك أيها الرسول الكريم في أمة سحبتها من كل قبلياتها الي قبيلة واحدة تنادي باله واحد، لا بألف اله! ولقد ناديتها، و سمعت منك النداء. في مدي عشر سنين فقط، من سني الهجرة، ابتداء القرار، و انتهي القرار، لم يبق في الجزيرة كلها قبيلة واحدة تركع بين يدي صنم لها، لقد انجدلت كلها جدلا غزيرا، وجاءت من أطراف الأرض تبايع الذي ألبسها لباس الحق، و لباس التوحيد، و لباس الرشد، و الهداية، و العدل، والمساواة، - لباس الانسان الجديد الذي اكتشف - في نفسه - قيمة الانسان.
منذ السنة الأولي بدئت تبني المساجد المتطاولة بماذنها التي تصرخ بالناس:
كونوا واحدا لاله واحد يعلمكم كيف يبني التوحيد النفوس، في ظل من خير، و ظل من معروف، و في كره عابس بوجه المنكر - و في السنة الثانية ولد للناس شهر كريم سمي رمضان الصوم: انه مدرسة الاسلام في التركيز علي اهزال الجسد اذا ما حاولت أن تستبد به شهوة من شهوات الدم - علي أن يكون معني الصوم ابتعادا قاسيا عن الموبقات التي تتغذي منها الفواحش، وهي قواضم من أنواع الجرذان، تقرض الحبال، وتفكك الرزم في المجتمع الذي لا يبني الا علي الحق، و العدل، و التطيب بالفضائل، وكلها مآثر في المجتمع النظيف المبني علي الحب، والوفاء و الولاء. من هنا كانت - من رمضان - أمثولة صدقات

[ صفحه 48]

الفطر، و زكاة المال، و انعاش الفقراء، و كل من يخسرون معينا لهم في الحياة:
كالأرامل، و الأيتام، و المشردين، و الذين تصيبهم أمراض و عاهات.
و في السنة الخامسة ولدت فريضة عظيمة المعني، و بعيدة المقصد و المرمي - انها فريضة الحج الي البيت العتيق - لا لأنه حجارة يابسة ليست لها ريشة من فن - بل لأنها تمثيل لبيت الأمة المزروعة في صدر المكان، وصدر الزمان - انه البيت الذي بناه خط الأجداد، عبر آلاف السنين، انه بيت نقشته أشواق القبائل كلها، مزهوة في الاجتماعات الواحدة الطويلة فيه، و لا لتعبد الأصنام، بل لتحضرها كلها للانحناءة أمام الذي سيفرطها الي غبار، و يجمع منها الحجر الأسود، حتي تشاركه كل القبائل بحمله علي منديل، و وضعه في المكان الأعلي و المصون بالايمان، و الموسوم بالاشارة الي الله الواحد الممثل التجسيد في حجر.
ذلك هو الحج الي البيت في التذكير أن الأمة جمعاء، هي وحدها التي يجمعها الرباط، رباط الحاضر بالماضي، ورباط الحاضر بالآتي، في ظل الرسالة الجديدة التي قلبت المفاهيم الي وحدة مامحت الماضي، بل طورته و لونته بمجالات الحب و المؤاخاة، و هي كلها آفاق جديدة مفتوحة أمام فكر و نفس الانسان.
و في السنة السادسة كان غزو الحديبية، ليتلوه صلح الحديبية، و هو صلح ربط الهاشميين - الطالبيين بالسفيانيين الأمويين، و امتنعت بتوحيدهم قريش - و في هذه السنة تم انتشار الاسلام بكتب وجهت الي هرقل قيصر الروم، و الي المقوقس أمير مصر، و الي النجاشي ملك الحبشة، و الي كسري ملك فارس - ان الهداية التي تتنور بها الرسالة هي للنشر علي عالم الانسان؛ كذلك هي الشمعة المضيئة لتنير، لا لتوضع تحت مكبال... ان السنة السادسة هذه، كانت متينة الانجاز، لأن القبائل كلها مشت طريق التوحيد، ولفها التسليم و الاذعان.
لم يكن قليلا ما أنجزته الرسالة علي السنوات العشر من الهجرة، فالموضوع من الكتاب لم يأخذها كلها في عرض احصائي و تاريخي، و اكتفي - من

[ صفحه 49]

السرد الضئيل - بالاشارة الي أن التحقيق العظيم الذي حصل، انما كان نتيجة توحيد القبائل كلها حتي تم للرسالة الانتصار، و لقد قدمت السنة العاشرة فصل الختام في حجة الوداع، وفي خطبة الوداع، فليكن لنا، بخطبة الوداع، ربط باجتماع السقيفة التي هي الآن في المجال.
كثرهم الذين قالوا بأن خطبة الوداع خلت من وصية تخصص الخلافة بشخص علي - و كثر أيضا هم الذين قالوا بانهم سمعوا الوصية - هنا و هناك - بتمام العكس، فأهل البيت هم المشار اليهم، بتمام القصد، و بوضوح الكلام، فليكن للفئة الأولي عذر بأنها لم تتسمع الي وصية خصت بالامام، و لكنها لا تقدر - في تغافلها - أن لا تري أن للامام مركزا شديد الالتصاق بالنبي، و لا يجوز أن يقابل ذلك بعدم الاهتمام - فعلي هو الريب في البيت، و هو الأمين علي المكرمات، و هو الرفيق في كل المهمات و الملمات، وهو المساعد الممتاز في كل عملية من عمليات الكفاح، وهو الذي شارك في الدفاع بسيفه المشهور: ذي الفقار، و بزنده المفتول: لا فتي الا علي، و بقوله المسبوك في نهج‌البلاغة، وفي الرفقة الطويلة و المديدة الاتصال، و في كونه رفيقا و زوجا لفاطمة الزهراء، ابنه الرجل الفريد الذي خصها بحب فريد.
سيان اذا: سمعت الوصية أم لم تسمع، و لم تكن - في رأيي، بحاجة لأن ينطق بها، فهي في المكنون أبلغ، و بغير الحروف لهي الأفصح، و لها - - في النية المخبؤة في العين، و في القلب، و في الضمير، وفي مجري الأحداث، وفي الخطوات المحفورة في الساحات شكل الدلالات في التعبير عنها: بأنها وصية مخصصة برجل موثوق به، و مرزومة له رزما أنيقا و مدروسا ومقصودا، فالرسالة ذاتها، لا يمكن أن تتابع سيرها، علي الخطوط الطويلة بدون من يتداركها و هي في ذمة الجهاد و الصراع.
جليل أمر السقيفة، يذعرها غياب الرسول، ليطل لها الخوف علي الرسالة التي هي الآن ركن أساس في تلمس الانسان حقيقة بدت للعيان و هو - بها - راح يؤرخ وجوده المجتمعي الناهض من عتمة النسيان.

[ صفحه 50]

و لكن الأمر الجليل هذا، لم يسنده حسن التصرف، و لم يجمع الرأي الذي صوبته الرسالة، و قومته مناهج الرسالة، و غاياتها، و مراميها - فالرسالة التي جمعت انسانها من كل قبلياته، لا يصح الآن أن تملأ فراغا بغير هذا الانسان ذاته - و بدلا من أن يستدعي علي لمل‌ء هذا الفراغ، كان له أن يستعبد،حتي عن الاستشارة.
لا يجوز أن يحسب هذا الكلام دفاعا عن علي، ليست القضية - بتاتا - قائمة علي هوي، انما هي مبنية - مسبقا - علي نظرة مختصة بالرسالة: من أين كان لها أن تنجح، و كيف كان لها أن تثبت و تستمر - نجحت بالتوحيد،و لن تعيش لحظة واحدة بالتفرقة، من هنا صح سحبها من القبلية حتي تثبت أركانها، ولن تعاد اليها فتحصل زعزعتها، فتخسر منذ الآن - قبائل الجزيرة - ارتباطا بعروبة تخسر قيمة الانسان - لا بل فلتتعزز جميع هذه القبائل بعروبة مجردة من كل عصبياتها المهدورة القيمة، ليكون لها في الاسلام وحدة جامعة و واعية بالحق، تبرزها أمة هادية للأمم، مما يجعلها في حقيقة الصف المتحضر الذي تؤخذ منه القدوة في بناء المجتمع الصحيح المبني علي الصواب في حقيقة بناء الأسرة الانسانية التي تعززها روابط متينة مشدودة بالحق و الرشد و العدل و الجمال.
تلك كانت نظرة الرسول الذي برأ الرسالة التي يتزاحم الغياري علي صيانتها الآن في اجتماع السقيفة. لا أيها الأسياد، أكنتم من الأنصار، أم من أهل الصحابة، ليست الخلافة كرسيا للتوازن الطائفي بين قبيلة و قبيلة، و ليست مركزا محصنا لتثبيت الزعامة، و السيادة، وجني المغانم و الرفاه، انما هي - في الأساس - تأدية بليغة لبناء الانسان الذي يكون عماد الأمة، و ليس لها الآن - و الآن بالذات - محيد عن تثبيتها في الاعتبار بأنها سياج للرسالة الطرية العود، و لا يجوز أن يتسلمها أي كان، بل المعد لها اعداد مربوطا بها تمام الربط.
لم يخصص الرسول الكريم عليا بهذا المركز الممتاز لأنه طالبي بل لأنه أكثر من طالبي، لكونه لماحا رائعا لكل ما يتعلق بشؤون الانسان، و ما تحققه المثل

[ صفحه 51]

في تنشئة الانسان - و لهذا تعلق به، و ضمه الطي رفقته الطويلة، و خصة بابنته فاطمة التي لمح فيها ذات البناء النفسي ليكون له منها ذرية تسهر علي صيانة الرسالة و صيانة الأمة، و هذه هي الأمانة.
لقد كان التحضير المدروس هذا تجنيبا للأمة من الوقوع في عمليات انتخابية لابد أن تستيقظ فيها القبلية التي لم تمح بعد من النفوس، و يحصل الانشقاق المخيف الذي لم يكن له غير خزي سخيف.
فيما بعد عندما يحين الوقت الثمين - عندما تكون قد حققت الرسالة فعلها في الانسان - عندئذ يصح أن تلتئم النخبة - تلك التي لا قبلية فيها، بل هي القبائل كلها في واحد واع - حي لتعيين من هو الأنسب و المهيأ لأن يكون المتولي سياسة الأمة المثقفة و المحضرة لأن تكون سيدة نفسها في تثبيت مركزها العظيم فوق الأرض أرضها و تحت عين الشمس.
لقد عين اجتماع السقيفة أبابكر الصديق - للخلافة - قد عينه البكريون التيميون لا الطالبيون - خط السفيانيين الأمويين، لا خط الهاشميين، و لقد وعي ذلك الامام علي، دون أن يدرك الفتي الحسن عمق الخطر في يقظة القبلية التي لا يمكن أن تحرس الرسالة، بل تهددها بالانقسام. سيكون للحسن - رويدا رويدا - هذا اللمح، و سيتعلم معالجة الداء عن أبيه بالذات - أبيه الذي رضخ للواقع، وراح يعالجهة بصمت.

ابوبكر الصديق

أعز علي أن أقع في هواك من أن أهبط الي قلاك - فأنت أول خليفة أسندت، اليه قيادة الأمة، و أول ضلع في صدر الاسلام، تسلم الراية و تمتع بالزمام، و لقد طاب علي فمك قول يلهج بالرسالة، و يتمنع بها - ان الرسالة هذه هي التي أنت مهدت لها النزول الي الساحات التي قضمت من نعليك و أنت
تهاجر معها في الزمان و في المكان، من ليلي الي ليل، و من مخبأ الي مخبأ:فأنت

[ صفحه 52]

أول المهاجرين، و أول الصحابيين.
يا أيها الرفيق الجليل القدر، و يا أيها اللماح صدق المرامي و المغازي - ما من نية واحدة من نوايا الرسول، و فاتك فهمها و ادراكها، فهلا لمحت قصده في التشديد علي حب علي، و أبرازه في الساحات، و الاعتماد عليه في الملمات؟هلا لمحت حبه الوحيد لفاطمة، كيف يغدقه عليها و علي ابنيها اللاعبين أمامك حتي في ساحة المسجد؟ هلا لمحت - من هنا - التخصيص و التعيين، و أدركت المعني، بأنه لا يجوز استدعاء القبائل الي أية مبايعة - فليكن الاقتصاد في التعيين المركز، لا العودة الي القديم البالي الذي يرد القبلية الي تثبيت وجودها من جديد - ان التعيين هو ابتداء الحصر بالقيادي، المتمرس طويلا بالرسالة، لا بالتفتيش عنه بين زعماء القبائل، لتبقي الأساليب ذاتها: مبايعة لا تفهم، و قبلية تستدعي علي فوضي.
أضن أنك أدركت ذلك أيها السيد، و أظن أنك لم تطق الحصر و التعيين. أنت صديق حميم لعصر بن الخطاب، وهو لا يطيق الحصر و التعيين... لا شك أنه نقل اليك ذلك، فهو الشهير بقوله: (لا تجتمع نبوة و خلافة في بيت واحد) - من هنا كان لابن الخطاب حزم و جزم، ومن هنا - أيضا - كان استعجالك في قبول الخلافة عن طريق طرح المبايعة، حتي لا تتصل بالطالبيين، لا من أجل انالة الأمة حقا من حقوقها الكبيرة، ولن تصل اليها قبل أن يرزمها الوعي و النضج الي صراط مستقيم.
من هنا ان الذين بايعوك، ما شد بهم الي هواك، هذا الذي هو كل معناك، انما هو حقد قديم موروث عن تناحر القبائل فيما بينها، نتيجة تصارعها في الرعي حول كل تربة فيها عشبة للكلأ - انما هو، بالفعل، قد تجسد في التصرف، لتكون أنت - والله أعلم ان كنت تدري أو لا تدري - أول البادئين بتجريد الهاشميين من القيادة و الرفادة و السقاية - ألم يكن الصراع هكذا بين السفيانيين الأمويين و الهاشميين الطالبيين؟ فكما كانت تفصل بين الانتماءين،

[ صفحه 53]

قيادة عن رفادة، أو حجابة عن سقاية، فلتفصل الآن نبوة عن خلافة، دون أن تكونا مجموعتين في الخط الواحد الذي حصل الزعامة و منعها بالنبوة.
نحن الآن - أيها السيد الجليل، و يا أيها الشيخ الصديق - تفصلنا عنك في الزمان أربعة عشر قرنا، دون أن تنفصل عنا فضيلة مارستها أنت بالذات فبنت، أو غلطة حصلت آنذاك أيضا فأنبتت معاناة وقعت فيها الأمة و لا نزال نعاني منها، و لا يزال يصلنا بها الواقع و المصير، و الارتباط الدائم الموصول المكان بالمكان، و الزمان بالزمان، و الحاضر بالماضي و بالآتي.
عفو الله، وجل من له أن يقاضي، فان الخطأ الذي يقع فيه الفرد - فليكن من هو هذا الفرد - أكان في مركز الحكم، أو مركز الصدارة في الحكم - فان المسؤول الأساس عن كل خطأ في حصوله، انما هي الأمة في مجموعها: من تمرسها في الحياة، من عاداتها، و تقاليدها، و تنكبها عن الصدق في السير - فان كنت قد رضيت الوصول الي الخلافة عن طريق انعاش القبلية التي و أدها الرسول الكريم - بلا حزن عليها و لا تأسف - فانك تكون بحاجة الي طلب الغفران! و تكون الأمة مدعوة الي صبر آخر يمكنها من انجاز ذاتها من جديد في محاولة فهم الرسالة التي أعدتها اعدادا جميلا يتزن رويدا رويدا بالمراس و المران.
ثلاثة: يا سيدي، ورابعهم قلم يكتفي أن يرسم الآن فيك، جاؤوك، لا ليفرضوا عليك قودا - -بل حتي يؤازروك:
- رجل متين المنكبين، قلع المزلاج ورمي بحجارة الحصن علي بني خيبر، و هو متين العقل، و متين النهج، و متين الحجة و متين الصلة بالقرآن و بالاسلام، و يجمعك به أنه من بني قريش، علي فاصل رهيف كحد السيف - انه من بني‌طالب. جاءك متناسيا أنه الصفة التي تتصف بها أنت الآن، و بايعك بها، حتي ينعم لك فيها هذا الجلال.
- و امرأة نحيلة كأنها شفرة رمح، أو كأنها وتر يظن أنه مرخي، و لكنه مشدود الي قيثارة تطن عليها ريح صرصر، ريح مقلوعة من جوف صنج من نحاس...

[ صفحه 54]

لقد ظننت أنا - و هي كذلك - أنها تعبير عن ثورة لم تنضج بعد، فاكتفت بوشاح من زهر طوقت به عنقها و هي تمشي الي الجهاد... جاءتك تطالب بما ورثها أبوها من فدك - فلم ترد أنت اليها طلبتها، بحجة أن الأنبياء لا يورثون، و نسيت أنهم: اذ يولدون - بحكم الطبع - يورثون.
و فتي لم يبلغ الثامنة بعد - جاءك متعلقا بذيل أمه فاطمة الزهراء، بنت النبي الذي كانت صحبتك له سببا لهجرتك عن مكة، و أساسا رائعا لاسلامك الذي تمثله الآن بعده في الخلافة، و ابن العظيم علي الذي هو رفيقك في كل ساعات الجهاد. أما الحسن، هذا الفتي، فليقول لك، و هو الملفوح بشمس الطريق اليك: كانت لنا شجرة الآراك قرب بيتنا المحروق بالشمس، و ليس لنا سواها في ظل، و لقد اقتلعوها، و أنت تدري من،و اقتلعوا معها كل ما لنا من في‌ء -من يردها لنا؟.
و جاءك مرة أخري و أنت تخطب من علي المنبر، فقال لك: أنزل عن منبر أبي.
و نظرت اليه،و دمعت عيناك و قلت: انه لمنبر أبيك حقا - ولفك هو بعينيه المفتشتين عن كل جلوة يتبصر بها في الغد الآتي!.

فاطمة الزهراء

و فاطمة الزهراء - ليس لها في التاريخ صفحة تقرأ فيها سطورا - بل أنك لتقرأ بضع كلمات، اذ طاب سمعك لها، تجد أن عليها نتفا أرجة، يتوضع بها الجو، دون أن تراها العين كيف تموج بالأنس و بالعطر اللذين هما فوح بلا جسم يؤخذ بلمس، و بلا لون تشربه حدقة.
كل ما ذكره التاريخ علي ألسنة النسابين يحصره عمود واحد:
- أبوها الأمين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي.
- أمها الطاهرة خديجة بنت خويلد بن أسد القرشي.
أخواتها ثلاث و هي رابعتهن و صغيرتهن النحيلة.

[ صفحه 55]

- ربي البنات الأربع بدون أخ لهن يسندنه و يسندهن «بالحب الأخوي».
- ماتت الأم و فاطمة صغيرة فغرقت في حضن أبيها.
- خصها أبوها بحب عامر و فريد.
- جاءها عدة طالبين للزواج، منهم أبوبكر الصديق، و عمر بن الخطاب، فلم تحصل استجابة من قضاء الله.
- طلبها للزواج ابن عم أبيها - علي - ربيب البيت، فتمتم جبريل بالبشري. - حضنت أباها كأنها أمة، و اشتهرت بكونها أم أبيها، و بأنه بضعة منه، و بأنها مع زوجها و ابنيها أهل البيت،و بأنهم المطهرون،و بأنهم من أهل الجنة،و بأنهم هم الذين يردون عليه الحوض.
- سكنت بيتا، بعد الزواج، لحارثة بن النعمان، مشترك الحيطان، و خلف الحائط الثاني كان ينام أبوها.
- ولدت الحسن و الحسين و ابنة هي الثالثة، ثم خطفها الموت عن عمر لم يتجاوز العشرين حزنا علي أبيها الذي غاب قبلها بعدة أشهر.
- حصر بها ارث أبيها، و بابنيها ميراث آخر، دمغ بالامامة.
- تفوهت بخطاب واحد، في باحة المسجد، بوجه الخليفة أبي‌بكر الصديق، تطالب فيه بنحلة هي - فدك - خصها بها أبوها، فقطعت عنها بعد أن طوي أباها الغياب.
- من صفاتها:
- اسمها - فاطمة: أي مفطومة عن النار هي و ذريتها
- البتول: أي تعذر من يماثلها بالطهر.
- الحوراء: أي لم تحض و لم تطمث..
الصديقة: أي الصادقة في تكوينها الروحي و المادي علي السواء
- الزهراء: ربما المشتقة من الأزهرين: الشمس و القمر، و من اجتماع النورين: علي و فاطمة.
تلك هي فاطمة في التاريخ، ولقد اجتهدت الأسانيد المتكررة في ابراز ذلك مع اشارات بالشرح و التعليل يبقيان يابسين علي مضغ و اجترار مملين.

[ صفحه 56]

و الحقيقة أن فاطمة هي تنزيل في خاطر الرسول - ما أن أخذها عن صدر أمها خديجة الي حضنه الأبوي، حتي شعر بأنها الشوق الهائم في روحه منذ اللحظة التي تجسد هو فيها من تربة الأرض - هكذا بنيت أوصاله علي شفافية من الوجد ترنحت به الآن،و هذه الطفلة بين يديه، يقرأها قراءة مستجيبة الي كل أحاسيسة المتأثرة بهذا النوع من البراءة، و النعومة، و الأنوثة الفريدة الملامح.
انها وحدها - فاطمة - دون أي طفل في الوجود، قد فعلت في أبيها، ما قد فعله الانبعاث، لكأنها هبطت عليه مبزغا من تلك المبازغ التي كان يستنير بها كل وجوده الشفاف، حتي لكأنها تجسيد لجبرائيل، يتقبل منها الوحي المنعش المملوء بالعذوبة، و الأمل الموصول بالغد الأكبر - انها بين يديه سر ينطوي فيه حبه لخديجة أمها، تلك الشمعة التي تذوب في حبه، و ينطوي فيه حنينه المشتاق الي آمنة - أمه - تلك التي أهزلها الفقر و لم تناوله ثديها، فاستعاروا له أمين غيرها: ثويبية، و حليمة السعدية، و ما كان لهما الا أن تعمقا حفر الشوق في قلبه الي أمه الكبيرة التي نزلت في جدثها، قرب مكة، في الأبواء، و هو بعمر ست سنين، و لم ينعم برؤياها أكثر من ستة أيام - أجل، ان فاطمة - بين يديه - سر ينطوي فيه أيضا هذا المبهم المتلاعب في أحاسيسه المتزاحمة فيه الي تحقيق كل عظيم لا يزال هاجعا الي غد تستيقظ فيه أحلامه، و أمانيه، و آماله.
لقد انعكس كل ذلك في تصرفه مع حبيبته فاطمة، فكانت تنمو بين يديه كأنها الزنبقة البيضاء - كأنها عطره، أو الطيب الذي يحب أن يتطيب به - كأنها الأمل الذي لا يجوز له الا أن يكبر - كأنها العذوبة التي لا يسمح لها الا أن تتمسح دائما بالجمال - كأنها الشوق المطهر بنار ليس فيها رماد - كأنها الأم يطهرها الحب، و تغسلها الأمومة بماء الورد و كل أزهار الجنان.
كيف يقال عن فاطمة الزهراء أقل من هذا؟ و هي في عين أبيها أوسع من سماء...من هنا هجي اسمها و لونه بالصفات: فهي بلا اثم، و لن تدخل قصاص النار، و لهذا: فهي فاطمة، وهي البتول، و هل في الأرض كلها الا مريم تماثلها بالطهر و العفاف؟ و هي الحوراء لأنها منسوجة من شفافية الطهر و الجمال، و لا شي‌ء فيها ينضح بغير العبير الزلال، و هي الصديقة، و هلي أبهي

[ صفحه 57]

من عينيها المعجونتين بقلبها البكر، و طهرها الشفاف؟ و هي الزهراء، و هل الأزهران أبهي منها و أنقي؟.
يا للنبي العظيم! يري ما لم ير، يربط الأيام، بعضها ببعضها الآخر، فلا دابر يموت، و لا حاضر يفني، ان الغد العظيم هو الذي يولد، و هو الذي يبقي، و الرسالة التي هي لأجل هذا الانسان، انها مولودة من أمسه الدابر، و من يومه الحاضر، الي الغد الزاهر الذي لا يجوز له أن ينطفي.
و فاطمه الزهراء، والتي هي نصيبه الأوحد في المجال، و في الاستمرار، و في تمام الصفات، انما هي منه في الخط النزيه، و هي منه لمتابعة الأشواط - انها للغد الذي يأتي: فلا تفني اللحظة الواحدة في الرقاص الذي تخلد عليه عقارب الساعة - ستكون مبنية للغد الآتي، و ستكون نيرة أيضا بالتحامها الرائع بالنير الآخر الذي هو الآن يربو تحت ابطه - فعلي هو الذي سيربط الثواني برباط الزمان، و سيكون له في المكان قاعدة تحيا بالزمان.
قلت: أن النبي اللماح رأي ما لم ير، و لكنه - فيما بعد - أصبح يري هذا الذي قد شقت عنه الحجب. ان أول اللماحين المقاصد كان علي - و فاطمة بالذات كانت تشعر بالحنان المهيج،و هي تنتقل - بين يديه - من كف الي كف، كأنها اللعبة الراقصة علي الزهو و الدلال،و كانت تشعر، و هي تغرق في عينيه تسبح فيهما علي أنوثة فيها عبق مجنون البوح والفوح - و لما امتلأت به حبا و فهما و صدقا،و ما قدرت الا أن تتبناه، كأنه وصلة من قبلها،و فيض من مناغمها، و لفح في عروقها،و أو توأم لها في الكيان - و لما دقت ساعته الأخيرة وانخسفت ثوانيها عن النبض، جنت بأحزانها، و غرقت في حسرات من الدمع لم تمهلها أكثر من بضعة شهور... ولما أدركت أنها أضحت في حالة التلاشي طفت علي ثغرها بسمات ناعمات، لأنها أصبحت جاهزة للقاء أبيها.
في الساعة التي انتقلت بها فاطمة الي جلال السكون، كان الحسن و الحسين - وهما في الثامنة و السادسة من العمر - يلمسان لمسا حزينا ثوب أمهما المسجاة في فراشها،و هما يشعران بحفيف هابط اليهما حول السرير: أنتما

[ صفحه 58]

ريحانتي - و أنتما سيدا أهل الجنة - و أنتما امامان، قمتما أم قعدتما و أنتما ميراثي، و من أهل البيت المطهر تطهيرا.

عمر بن الخطاب

و أنت، يا أميرالمؤمنين، كنت - ليس فقط من أبلغ اللماحين، بل - من أخطر اللماحين، و لكن - اسمح لي يا سيدي أن ألمح أيضا: أنك لم تبن، من لمحك، تقاك، و أكثر مما بنيت منه دهاك - و الخطر الخطر لم يكن من فيض تقاك، بل كان من فرط دهاك! تلك ملمة لم تقع فيها أنت وحدك بالذات، بل العصر كله آنذاك - و بئس ما كان لها من التعدية الي العصور الآتية من عصور الاسلام!.
مهما يكن من أمر، فأنت العظيم بما أفاض عليك الاسلام من الورع و التقي،و كلها قيم فيك و شمتك و شما علي الصفحات المجيدة من تاريخ الاسلام،و أحصتك من بين الصحابيين الأولين، و المهاجرين الثابتين في الأمانة لحقيقة الرسالة التي تم لك بها اعتناق و التحام، و تم بها و منها اقرار لك بأنك الحريص عليها، و الصائن لها،و بأنك تستحق فيها مركز الخلافة.
أيكون هذا جزاء علي كل ما لمحت من حقيقة الاسلام، عظمة الاسلام،و روعة التوحيد في الاسلام؟ و لكن لمحك هذا - و هو العظيم الأجل - لم يسم مثله لمحك الثاني. أجل يا سيدي،و أنك لمحت نية الرسول كريم، وهي يغرف الشوق غرفا الي ابنته فاطمة،و كيف ينظر اليها بالمنظار البعيد،و كيف يغلفها بهذا الجمال،و بهذه القدسية، و بهذه الروعة المسحوبة من العمق،و من الجلال.
من المؤكد أنك لمحت و فهمت و أدركت أن النبي الكريم لم يعطف علي أهل بيته أكثر مما يعطف علي أبناء أمته، و ان ذريته ليست فقط محصورة بعلي و الحسن والحسين، بل أن الأمة جمعاء هي ذريته التي تدوم له في حقيقة خط البقاء و ان الرسالة - وحدها - هي الباقية، و الواقية،و الحريصة في الحياة. أما

[ صفحه 59]

أن تكون الوصية في أهل بيته، بأن منهم المستخلفين، فذلك معناه، ان العناية هي التي أنعمت عليه بالتخصيص، و أن الرسالة تستحق الاعداء النفسي المتين، و ان الأقربين منه هم الذين يمكن الاعداد منهم و فيهم، فمه تحت العين، و تحت اليد التي تستقيم منها الاشارة، و في حنوة الصدر الذي يخفق فيه القلب، و أمام كل المشاهدة التي يتم فيها الاستغراق المدرج أمام بسطات العقل، و الروح، والخيال و انهم - بلا شك - هم المتأثرون،و هو وحده المؤثر، و انه هو المريد، و المشترع، و باذل الذات و انه وحده المخطط، و المنفذ، و الصادق في بعد النظر و حقيقة المرمي. لهذا كله كان منه لفاطمة شوق مفطوم، وأجل ما فيه، قصد محتاط بأن لا يوقع المجتمع الجديد في تقسيم يفتته من بعده، دون أن يلحمه أي انتخاب للخلافة يعرض علي جماهير لم ينضجوا بعد - فكما أنه هو الذي قدم الرسالة، فانه أيضا هو الذي يصطفي قيما عليها تعهدها،و يرسخ خطاها الي أن يأتي الترسيخ بيوم آخر يصح فيه انتقاء واع و انتخاب راشد.
أما الأمل الكبير، بأنه سيطاع، فلأن الذين حوله، هم الذين ساعدوه و أحبوه، و هم الذين به يؤمنون، و بهديه يأتمون، و قرآنه يقرأون، و باسمه يجتمعون.
الا أن الوصية وحدها - ياسيدي - ما نفذت - كأنك ما سمعت و ما لمحت. و علي، الموصي له بالخلافة - كان رفيقك، و كنت تراه مجللا بالجهاد - و فاطمة الزهراء - كنت تراها غارقة في عيني أبيها، كأنها قلبه في مقلتيه - والحسن والحسين،كنت تراهما يدرجان في المسجد، و يعتليان ظهر النبي،و هو يخطب في الناس، ليصبح الحسن كأنه مئذنة فوق كتفيه.
لماذا أنا الآن ألمح أن الذي استتر فيك هو الذي به تصرفت - و المستتر فيك هو الموروث القديم،و انك انت هو الذي نبذته اذ بعثت انسانا جديدا. ليست الرسالة اليوم ترفض أن تجتمع في البيت الواحد نبوة و خلافة - فعلام ينسب اليك القول: «لا تجتمع النبوة و الخلافة في بيت واحد» - قلت ذلك عشية اغماضة

[ صفحه 60]

عين الرسول. كأن اجتماع السقيفة، سقيفة بني‌ساعدة، و كان فيه ابعادك عليا عن الخلافة، و تعيينك أبابكر لها - كنت أنت في تلك اللحظة محسوبا لها، لأنك كنت الوجيه المقتدر - و لكنك أنت الذي قدمت الصديق عليك، حتي يتحمل هو بداية رشق السهام...
لست أدري ما الفرق بين النبوة و الخلافة، أتكونان مركز و كرسيين؟ أم انهما مركز واحد لتحصين الرسالة؟ فأيه قسمة هي الآن بين بني‌هاشم و بني‌قريش؟ و لكنك بهذا الوحي المستتر تصرفت،و ما تمعنت، حتي عادت اليك الخلافة بوصية من أبي‌بكر بالذات،و هو علي فراش الموت، فقبلت الوصية التي لم تقبلها أنت من النبي بالذات، لعلي بالذات -.
حتي الخلافة - سيدي - و أنت تخلف بها الرسول الذي أحببت، و به آمنت - قد أبدلت لها الاسم بالامارة،و ابتداء من عهدك، صار «الخليفة» أميرا للمؤمنين - أقول: أيكون ذلك منك، لأن النبي المخلوف ينتمي الي الطالبيين الهاشميين؟.
لا أقبل أن يكون في الكلام تجريح لك يا سيدي، كما و أني لا أحب أن يكون كله دفاعا عن علي، فأنت بالذات أحببت عليا بقدر ما أجللته، و لسوف تستيقظ فيك شهامة مرسومة فيك و مرشوقة بالنبل، عندما نحاك عن الجهاد و الكفاح اللذين أنت لهما في الميزان، ذلك الوغد ابولؤلؤة بضربة من خنجر أسود، فلم تر أنت أن تترك الأمة تتعثر بالتفتيش عمن يستلم كرسي امارتك، لأنك - في تلك الساعة بالذات - أدركت أن جمهرة القبائل لم يتسن لها بعد أن تستشير وعيها في تعيين المتمكن من قيادتها، فتداركتها بلجنة سداسية تنتقي واحدا من اثنين: اما عليا، و ما عثمان و، و ان يكن قد انزلق عنك تلميح مغموز به عن الأول الي الثاني،و هذه - أيضا - أموية سفيانية حسبت عليك في المجال المستتر الذي ما كنت قد انتصرت تماما عليه.
ما عدا ذلك - فعمر بن الخطاب الذي ترك الكرسي لعثمان بن عفان و هو

[ صفحه 61]

أمير للمؤمنين، قد عبأ العشر سنين من عمره بما وصف بالأعمال الجليلة: لقد وصل الجزيرة، أطرفها بأطرافها، و ربط بالعروبة كل ما وصلت اليه العروبة، و عززها بفتح الشام،و العراق، و بيت المقدس، و المدائن، و مصر و برقة - و لقد أنشأ الدواوين،و بني الكوفة، و البصرة، و الفسطاط، و المسجد الحرام في مكة...
ان الأعمال الجليلة أو التي وصفت بالجلال - انما هي لتشهد عليه بالشخصية المنفصمة - نال الاسلام شطرا منها فاصطبخ بهذا التقي،و كانت الاستقامة مما لفحته به الرسالة الجديدة، و كان ميله الي خطوط العدل رشحا لذيذا منها - و نالت القبلية المتأصلة في فكره و روحه و دمه، كل الشطر الآخر منها. فما استترت مقاصده،و لا صفا العدل بين يديه في التصرف، فجاءت عروبتة قديمة التأدية في التعبير و راحت ترجح في مقاعد السلطة و النفوذ، سلطان زعامة علي زعامة في «أرستقراطية» شوهت قديما صفحة العروبة اذ حصرتها في بداوة مقفلة عن أي انفتاح شريف الاطلالة و عريض الجبين، و ما جاءت الرسالة الكبيرة الا لتجعل هذا الانفتاح كريم الراية في تعبير انساني يشهد أن للعروبة وجها قديم الحضور في الساحات العريضة، و هو انما كان حضورا بناء في وجود المجتمعات وجودا انسانيا محققا حضارات زها بها صدر العالم القديم - انها حضارة وجودية في عروبة الأكاديين و البابليين و الأشوريين و الأراميين و الأموريين و الكلدانيين و الكنعانيين و الفينيقيين الأبجديين - و كانت عروبتهم - جميعا - عروبة رسالية منفتحة الحضارة، كما جاءت في هذا اليوم بالذات رسالة الاسلام العربية الانتماء، لتكون توحيدا، و لتكون نورا و هداية ما قدرت أن تنتسب اليها العروبة الباقية في أمراضها القبلية، بينما نشرتها العروبة الصحيحة و السليمة هداية للأمم، و راحت تجمعهم تحت رايتها مجتمعات انسانية تتضج رويدا رويدا بصحة العقيدة و نقاوة الاسلام.
اني أشك كثيرا بعروبة عمر بن الخطاب، انها ليست هي العروبة التي أحيا وجودها نبي الاسلام، و بثها انفتاحا علي العالم و علي أمم الأرض، و بثها وعدا كريما يحرز التباهي و الافتخار، بما ضمنها من حب و انفتاح و سماح - ان

[ صفحه 62]

العروبة هذه، هي شوق الانسان الي الاستزادة الدائمة من خزانات الخير، يتصل بها الانسان بالانسان في الحقول التي تجمع بها مجتمعات الانسان وحدتها، و طمأنينتها، و استقرارها، و كل مثلها المناقبية الحافظة لها الصدر و الوجه و الجبين.
لو أن ابن‌الخطاب هكذا تثقف، لكانت له الوصلة العريضة المندمجة بالامام علي،و لكان قلدة ساحة الاسلام بدلا من أن يعزله الي الزاوية و يغلفه بالانفراد لقد قدر علي ذلك لأن عروبته المريضة بقبلياتها عي التي كانت تملك الساحة و تسلمه الزمام.
فوق كل ذلك - كان عمر بن الخطاب الداهية الذي لم يشتهر له دهاء - أظنه هو الذي علم عمرا بن العاص، و المغيرة بن شعبة، كيف يكون الدهاء، و علم معاوية بن أبي‌سفيان كيف يغير معالم الخطوط قبل أن يسير عليها،و كيف ينقل التخوم وء الحدود للأشياء تاركا دونها غبارا يشير الي سواها.
سيكون عمر الحسن عشرين حولا عند انتقال الحكم الي عثمان، و لقد تمكن من مراقبة ابن‌الخطاب كيف أوصل الحكم - بلباقة مكتومة - الي الخط السفياني حارما منه الخط الهاشمي،و سيبقي له أيضا برج المراقبة مفتوحا علي عهد عثمان الذي لم يزه أبدا قمصيه.

نبذة في الواقع

لقد كانت القبائل في المبتدأ تنقسم الي خطين كبيرين: العدنانية و ما يلتف اليها من مضر و ربيعة،و القحطانية و ما ينتسب اليها من كهلان و حمير - و كانت البطون و الأفخاذ مشتدة الأواصر بقريش و خزاعة و بني‌تميم.... و شبيان و بكر و بني وائل... و غسان و الأزد و الخزرج... و كلب و تنوخ و قضاعة. ان الحبل طويل لو يطلب الموضوع عرضه. ان هذا الحبل الطويل من القبائل، ما كان ينجدل لعمران الأرض، بل كانت تقطعه الفوضي و عدم تنظيم أسباب العيش، لتتلهي القبائل كلها بتحصيل عيش لم يكون

[ صفحه 63]

ليستقيم أوده من دون الاستعانة بالغزو و التعدي،و كان الكل - تقريبا - سواء بسواء. لقد كانت الهجرات الطويلة و المستمرة و القديمة العهود - وحدها - منجاة من هوان يتذمر منه وجود الانسان. من هنا كان التصاق كل فرد بقبيلته صونا له، يأتيه من تضافر القوي للوقوف بوجه أي تعد يأتيه من قبيلة ثانية تفتش مثله عن تأمين العيش الذي يشح علي الجميع. كان للقبيلة الكثيرة العدد ذلك الحظ الأوفر بالغلبة، و تثبيت المكانة، و الحصول علي الزعامة... قريش - مثلا - و هي فخذ من مضر و بطن من عدنان، و كانت سيدة مكة بالنسبة الي عدد فروعها،و منهم بنوطالب الهاشميون و بنو حرب الأمويون.
و لكن - لا العدنانية و لا القحطانية، بكونهما جامعتين لمختلف أعداد القبائل و البطون و الأفخاذ، كان لهما أن تحولا دون وقوع صراع مرير ضمن فخذ واحد من أفخاذها،و هذا ما كان يحصل في قريش بين الهاشميين الطالبيين و السفيانيين الأمويين، أو بالاختصار بين الهاشميين و الأمويين.
تلك كانت حالة الانسان في الجزيرة، لما جاء محمد بن عبدالله الطالبي - الهاشمي - القرشي - المضري - العدناني، و بسط علي الجزيرة ظل الرسالة المحمدية التوحيدية، بحيث لم يعد هنالك لا قحطانية أو عدنانية، ولا مضرية أو كهلانية، و لا هاشمية أو أموية - بل وحدة انسانية منظمة علي أسس من مثل تجمع في الحق و المعروف و العدل و المساواة - لقد أصبح الفرد امكانية و انسانية تدافع عنه الأمة المنتمي اليها، لا القبيلة المفككة و المشرذمة بعدم التنظيم. ان الانتماء الي واحد هو بدون شك و بلا أي جدال - غير الانتماء الي ألف قبيلة يوزعها التناحر في ألف مجال.
لثقد صح كل ذلك، ولقد تحقق علي الأرض، و أصبحت القبيلة اسما للانتماء به الي الأمة، لا مرجعا للانطواء به الي التفرد. لقد كان الجهد منصبا علي تجريد القبيلة من معناها القديم، و من مفعولها الرجعي البائس، لتكون النتائج خروجا حضاريا تعززه النظرة الواعية في تكوين الجماعة و لهما في الشمل المتين. لقد انتهت الرسالة الي الحيز الجميل، و كانت الخطط كلها مرسومة

[ صفحه 64]

لمتابعة المناهج في حقول الاتمام و الملاحقة، و رصف الحجارة في البناء.
و لكن الذي حصل عند اغماضة عين الرسول، لم يكن بالحسبان. لقد كان التصرف بلا روية، و كان الاسراع باعلان أبي‌بكر الصديق خليفة للرسول نذيرا بتقسيم الصف الواحد، و اعادة القبلية الي حقولها العتيقة - و فعلا قد انقسم الصف بين فئة تؤمن بالتخصيص و التعيين في أمور الخلافة،و فئة ترفض التخصيص و التعيين، و تسرع - مغتنمة فرصتها - الي تعيين خليفة يتستر بشرعية الانتخاب،علي أن تأتي فتسنده المبايعات التي تتألب لها مجموعات القبائل.
ستظهر النتائج و خيمة مع مرور الوقت، ستحتاج كل فئة الي حشد طاقاتها المساندة في الميدان: سفيانيون أمويون من جهة، ومن ينتمي اليهم من لفيف القبائل، و طالبيون هاشميون من جهة ثانية، و من ينتمي اليهم أيضا من مناصرين... كلهم ستلفهم الساحات في صراع يلهي الأمة جمعاء عن سيرها المحقق و المجلي.
ماذا يفيد تفنيد الأخطاء غير أخذ العبر منها تحرزا من الوقوع بمثلها - وها اننا نتساءل: لماذا اعتنق الاسلام أبوسفيان و ابناه يزيد و معاوية، و طلحة و الزبير و سعد بن عبادة و ابن‌عمه بشير بن سعد الخزرجيان،و عويم بن ساعدة و معمر بن عدي الأوسيان طالما أن كل واحد منهم لا يريد أن يفقه معني الاسلام.
لست أدري الآن - بعد مضي عقد و ثلث العقد علي اجتماع السقيفة - كيف اختلط هكذا الحابل بالنابل،و كيف عادت تنتعش القبائل و البطون و الأفخاذ، و راحت من جديد تبني مواقفها،و تنتقل بالمناصرة و البطون و الأفخاذ، و راحت من جديد تبني مواقفها، و تنتقل بالمناصرة من ساحة يشح فيها الفي‌ء، الي ساحة أخري تعزر فيها الغنائم!.
و لكن - لماذا التعجب؟ طالما اننا نعرف أن ابدال حرف بحرف في كلمة، أو حذف حرف منها، يغير من معالمها،و يقلب الي عكس مداليلها. فلنجرب ذلك بابدال ميم بهاء من كلمة «ملاك» - أو حذف نون من كلمة «نرجس»... و بئس الملاك يستحيل هلاكا أو شيطانا رجيما - و يا ضوع

[ صفحه 65]

النرجس المطيب، يستحيل رجسا يذللنا الي جحيم؟.
و الرسالة الطرية المطروحة علي البساط الكبير؟ لماذا نحذف حرفا صغيرا من حروف مناهجها، طالما أننا قدسناها،و قدسنا ناهجها، و اجتمعنا بها و لها.ان اتمام لمحة صغيرة لمح بها الرسول الكريم، كان كافيا لحفظ الكلمة الكبيرة المؤلفة من وحدة الصف، و وحدة القبائل، و وحدة الأمة ورصها في صفها العريض، و ما كانت الطاعة لتضير و هي فعل ايمان بالرسول،و بصدق ما يقول،و هي - بحد ذاتها - نبل و شهامة، و حب مشبع بنسيان الأحقاد، و جمع لكلمة تستقيم حروفها في حضن جامعها الحريص علي اتمام معناها.
و لكن الحرف الصغير هذا قد أسقط من الكلمة، لا بل نقل من تدرجه في تأليف الكلمة - لقد كانت «الياء» بعد «الباء» فأزيحت الي ما بعد «اللام» في كلمة «قبيلة» فرجعت الي معناها القديم - قبلية - - و هي الداء، و هي الوباء... فالقبيلة هي أساس تأليف الاجتماع الذي يجمع قبيلة الي قبيلة في خط النمو و البناء - أما القبلية فهي أستدعاء القبيلة الي تعصب و صراع ضد قبيلة ثانية مزاحمة لها في الجوار.
لقد قرر ابن‌الخطاب نقل حرف من الكلمة... و ابتدأ التحضير لبني أمية ضد بني‌هاشم، و كيف يكون التحضير بغير استدعاء القبائل و أيقاظها من نومتها،ورصها لدعم الصف؟ أين هم بنوقيس، و بنوأسد، و بنوتميم، و بنوبكر، و بنو تغلب، و بنو تيم الله؟ أين هم الأوسيون و الخزاعيون، و الخزرجيون؟ فليتفرقوا، و ليختلطوا من جديد و لينطلقوا الي فتح مبين - ان الساحة اليوم مقسومة أمام كل اللاعبين - و الخلافة الآن حلم اللاعبين. لماذا يكون لها أبوبكر و لا يكون لها طلحة أو الزبير - و كيف يحق لسعد بن عبادة أن يزاحم عليها أبابكر؟ فليبطش اذا - خالد بن الوليد بسعد بن عبادة حتي تنطفي‌ء نار المزاحمة.
و كانت أخيرا لأبي‌بكر، بمعونة حتي زعماء الأنصار الأوسيين و الخزرجيين، شأن أسيد بن خضير،و عويم و بن ساعدة،و معن بن عدي.

[ صفحه 66]

هكذا رجعت تنتعش القبلية، و عادت تبني المخططات للاستعانة بها مخلوطة أوراقها،و ذلك صبيحة انتقال الحكم الي عثمان بن عفان.

عثمان بن عفان

لقد ثلث عثمان بن عفان الاثنين اللذين سبقاه، دون أن يكون لعلي في ما بينهم أكثر من تعلة، لقد تم لهم - بنجاح - افراده و ابعاده. انما الخطة قد عولجت ليكون لها هذا المؤدي. ابتدأت بمحاولة فيها من التصميم بقدر ما فيها من العجم و السبر و الزوز، و كان المصمم - كما لمحنا - عمر بن الخطاب، فرمي الي الساحة أبابكر، وراح يراقب كيف تسير الأحداث في مجراها الجديد،و يسندها بكل ما هو ناجح فعال.
لقد كانت التقوي تشع من أبي‌بكر - انها مسحة حلوة مسح بها النهج، و هي هالة تمنطقت بها - منذ اللحظة الأولي - رسالة الاسلام. و هذا هو الحصن الذي تحصنت به الخلافة الأولي في المحاولة البكر.
و عاد الدور الي ابن‌الخطاب، بموت الشيخ المسن، فقبل المتابعة بعد التجربة التي منعت الخط و ركزته و، وراح من جديد يمتن الأساس، و يفتش له عما يدعمه و يدفعه الي ثبات. و بنهج مدروس أخذ يعين رجاله المنتخبين لمل‌ء المراكز الحساسة في الحكم، و لم يكن ليتساهل مع أي واحد منهم اذا لم يتحل بالتقوي و النظافة والصلاح. و لكن... هنالك وفرة كريمة من هؤلاء الرجال المؤهلين و المتحلين بهذا المعدن الكريم.. كانوا موجودين بين الطالبيين،و لم يكن لعمر أن يشد اليهم، الا نادرا، في التعيين، وكان للأمويين ميل بارز.
و انتقل الدور الي عثمان بن عفان. لقد كان لابن الخطاب فرس تمكنت من بلوغ الي قصب الرهان و هي تقضم لجامها - أما الفرس التي اعتلاها عثمان ورمي بها الي الساحة المكشوفة، فكانت بلا لجام. ماذا قلت؟ أليس التحديد هذا هو التحديد الذي يشمل سياسة العصر؟ أليس الوصول الي عثمان بن

[ صفحه 67]

عفان، هو وصول الي كشف نوايا، ما استترت بها اللباقة حينا، حتي أتاها حائك أرعن، فنشرها قميصا ما بلي خيطه حتي اليوم...! لقد كان الوصول الي عثمان، وصولا الي حد السيف، بين فبيلة و قبيلة، أو بين فخذ و فخذ، أو بين بطن و بطن، من كل قبائل العرب: من عصر الراشدين، الي عصر الأمويين، الي عصر العباسيين، الي عصر الانتقاليين الي الأندلس، و هلم جرا يمينا و شمالا - من مكة، الي يثرب، الي اليمن - الي العراق - الي الشام و فلسطين و مصر - و كل أرجاء المغرب. لقد كان وصول الحكم الي عثمان بداية الشرارة التي أحدثت الحريق المريع، و كانت الأمة جمعاء وقودا له! ليتني ما أدركت أنه بهذا التحديد كانت مصيبتنا الكبري،و ليت عمر بن الخطاب قد اقتنع في تلك اللحظة التاريخية، ان التخصيص أو التعيين كان خشبة الخلاص للأمة، و منجاة للقبائل من تسليمها حبال الشد التي راحت - من شد الي شد تختنق بها.
فلنتبسط قليلا و بايجاز، و لنستعد قراءة الأحداث و نحن نسترق الخطي خلفها، ليكون لنا لمح كيف تنقلت تلك الأحداث، منذ اللحظة التي غاب فيها الرسول، الي الساعة المأفونة التي اشتعلت فيها الثورة علي عثمان، و لفته قميصا علي صدر الزمان.
- 2 -
غاب الرسول بعد أن ترك رسالة فعلت فعلها الكبير في انشاء التوحيد و الاسلام - جمع القبائل كلها في قبيلة واحدة هي الأمة - ربطها بالأرض و بالتاريخ: الأرض التي هي ركيزة النشوء، وهي أرض الأمة، و مرماها الوسيع في التفتيش عن كل أود لها فيه سبل العيش، و فيه كل المضامين في تحقيق التطور و الارتقاء و البلوغ.. والتاريخ الذي هو مداها الطويل في الزمن، وفيه اثبات الحق في الوجود، وفيه حقيقة الاستمرار الموصول بالأرض، وهو سجلها الوحيد الذي تحيا فيه،و تأخذ منه الافادة والعبر.
لقد ترك هذا كله في عهدة قبضة من الرجال حوله، أفهمهم أنه لم

[ صفحه 68]

يتركهم قبل أن أتم لهم دينا هو لهم في متابعة السير في الصراط المستقيم، و لقد أوصل اليهم - علي مدي وجوده الفصير بني ظهرانيهم، بالقدوة، والاشارات،و التلميح - كيف يمكن أن تساس الأمة التي أيقظها هو من سباتها الطويل - كيف يمكن التغلب علي كل ما هو مرض و تخلف و جوع و عطش و تشتيت و حرمان - لقد لمح لهم كثيرا، قبل أن يغيب، أن الوحدة هي كل العمل، و كل الدين،و كل الايمان - و لمح أن القبلية، لا القبيلة - هي مرض الأمة المزمن - و لمح أن الذي يتأهل لاستلام الادارة بعده، هو الذي ينهج بنهج الرسالة التي جمعت القبائل من صراعاتها و ضغائنها، و انتصرت بعا في عملية التوحيد - و لمح أن تعيين الخلف هو عملية اراحة الأمة من نزول الي الساحة الكثيرة الغبار، نتيجة التمام القبائل فيها الي مبايعة - و لمح كثيرا الي هذا الخلف: بتهذيب أنيق لمح، بعطف كبير لمح، باشارات بليغة لمح، بعينيه و يديه لمح،و أكثر ما به لمح: استعطافه، و تشوقه، و تمنيه أن يكون لأهل بيته حب كريم يخصصون به، فهم عترته و أهله المطيبون.
- 3 -
و جاء دور الخليفة الأول - لقد لا حظنا كيف أنه نبت نبتا علي الساحة، دون أن يستشار المخصص لها، اكان التخصيص بنص، أم كان باشارات و تلميحات. و لكن المخصص هذا، و الذي هو فعلا من أهل البيت، وهو الآن رب البيت الذي يدرج فيه فتيان لا يزالان قاصرين - ترك منهمكا بعملية غسل الرسول، بعملية تحضير دفنه، بمؤاساة نفسه الحزينة، بمؤاساة زوجته المفجوعة بموت ابيها...كل شي‌ء كان يشغله عن مراقبة حدث، لم يكن له الآن أن يحسبه يحدث، و لكنه في هذا الوقت الحرج قد حدث - في اجتماع السقيفة قد حدث - بحضور اشهر الصحابيين و اشهر الانصار قد حدث... و كانت الامارة مركزا للتنازع، و كان البت سريعا، و كان الفرض اسرع، و كان ابن الخطاب الموجه الاقدر: من الصحابة الامير، و للانصار الوزارة - و تمت قسمة الحكم، و تمت التولية، ولما يتم الدفن بعد،و ها أن أبابكر الصديق هو الخليفة.

[ صفحه 69]

لماذا كل هذا؟ ان البداهة التي تلمح، هي التي تحبيب لأن ابن‌الخطاب لم يقتنع ابدا بأن الخلافة تأتي بالتعيين أو التخصيص، بل بالانتخاب - و نسي أنه الآن هو أول من يعين، و نسي أن مجلس الشوري الذي سيشتق التعيين منه هو الذي - في ما بعد - سيحدثه بالتعيين، و نسي أن المعين هو المطروح في الساحة للمبايعة، وأن المبايعة هي التي تحرك القبائل و تجدلها بكل عماءاتها و عنعناتها،و قديمها الذي اهترأت به الساحات - و نسي أن الرسالة التي تحب الجماهير - و هي لهم في كل حال - قد جمعتهم مرة واحدة و لن تستدعيهم الآن الي اثبات وجود لم يستنر بعد - و نسي أن التعيين أو التخصيص أو أي شي‌ء بمبناه - هو حصر المسؤولية بالمسؤول حصرا يرفعه الي مستوي الرسالة، و لهذا يجب أن يكون معدا تمام الاعداد، واعداده هذا يكون كفيلا بنقل الصفات الي معد آخر، يتم به الخط الذي يكون مرسوما للامامة. لم نسمع أن النبي الكريم فصل ذلك أو افرد له شروحا - و لكنه عين له الاهمية بقوله لابنيه من علي و فاطمة: «انتما امامان قمتا أم قعدتما» و لقد نسي ابن‌الخطاب أيضا هذا التلميح،و نسي أن المعد الأول لتحمل المسؤولية من بعده - بكل اشارة و كل تلميح - انما هو علي بالذات.
اننا الآن نستعرض قناعة ابن‌الخطاب، و لقد نفذ بموجب قناعته، و لهذا شدد، و بكل روية و قصد، علي تنحية علي عن الخط، لقد اسرع - و ثبت أبابكر في الخلافة - و بحكم الطبع لم يستشر علي.
ثلاث سنوات لم تكتمل، و احس الخليفة الأول بقرب الاجل،فأوصي بالخلافة لعمر بن الخطاب - و هكذا صارت الخلافة رد جميل لمولية - و قبل الوصية ابن‌الخطاب - بلا شوري و بلا انتخاب - بوصية صريحة - اصرح من التعيين. امتد به العمر عشر سنين في كرسي الخلافة، لقد حقق الجليل فيها، و لقد كان يشعر في قرارة نفسه أنه نجي الامة من عبودية التعيين و التخصيص، و من حصر الدين والدنيا في بيت واحد،و هكذا بقيت النبوة لبيت علي دون أن يصل الي يمينه صولجان. هل كان يدري ابن‌الخطاب أن الصولجان لم يكن ليطيب في يمينه لو أن النبوة التي خرجت من البيت لم تمسحه بقبس كشف له معالم

[ صفحه 70]

الطريق؟!... لست اظنه جحد ذلك، ولكن نظرته في التأسيس لم تمتثل لحقيقة الواقع - واقع الجزيرة آنذاك - فتصرف كأن المجتمع بين يديه هو المؤهل الرافض، وهو السيد المستنير، مع أن النظرة هذه في اسلوب التخصيص لا تستنكف من مريد معين مصقول، يقوم بالاعباء الجليلة و هو بها بصير.
- 4 -
و انتقل الحكم بترجيح توصية، الي عثمان بن عفان من عمر بن الخطاب - و ها هي المواجهة - لم يتورع ابن‌عفان - ورث الحكم - صحيح، كأن الحكم وراثة وصلت اليه. لهذا لم يتورع، وراح يستبد، وراح يؤسس، وراح يدعم الاساس. هل من أمل بعد لأهل البيت في الوصول الي كرسي حكم هو الآن - عثمان متربع فيه؟ فليقض نهائيا علي أي أمل - من هذا النوع - يحتل به بنوهاشم عقر الدار. أن الدار و ما فيها لبني عبد شمس، لبني سفيان، لبني حرب، لبني أمية، اليس عثمان الآن هو السليل في الركيزة؟ أية ضغينة في الامس لا يكون لها اليوم ايتار قوس؟ أنه يري الآن أن سلفيه في الحكم لم يتصرفا التصرف الكافي بالقضاء المبرم علي آمال علي بالوصول، أما هو - عثمان - فبكل حزم سيتصرف.
حتي الشوارع و الازقة سينظفها من اتباع علي، اكان في مكة، أم في المدينة، أم في اليمن، أم في الكوفة و البصرة، أم في مصر. أما الشام - بنوع خاص - فستكون ركيزة متينة للانطلاق و القضاء علي من تحدثه نفسه بالوقوف بوجه بني امية - هنالك معاوية، لقد زرعه ابن‌الخطاب حاكما علي الشام، أنه هناك - فليرسخ له الكرسي - انه حاكم الشام فلتوسع له الادارة و الارض - فلتكن موسعة بالاردن - فليعزل عن فلسطين عبدالرحمن بن علقمة و لتنضم الي معاوية و لتنسحب حمص من عيمر بن سعد الانصاري، و لتضم أيضا الي معاوية - و ليغرق معاوية بالحرير و الخز و الديباج - و ألم يصفه عمر - من قبل: بأنه كسري العرب - و سيكون معاوية حقيقة، كسري العرب، وعلي يديه سيتم القضاء علي كل أمل لعلي،و به سيورق كل عز لبني أمية - و ستأتيه المساندة: من هنا

[ صفحه 71]

و هناك ستأتيه المساندات: سيعزل عن الكوفة سعد بن أبي‌وقاص،و يولي مكانه وليد بن عقبة، و ستكون الكوفة بستان بني قريش - و قريش الآن هي كل بني أمية - أما وليد بن عقبة، فليكن سكيرا، فليكن خليعا - اليس بمثله يكون التحكم المذل في رقاب الناس! فليتغذ علي و اناس علي، من المثل التي يباهون بها، وليكن - بالمقابل - سواد الكوفة طعمة لبني حرب...
أما عبدالله بن ابي‌سرح - أخوة بالرضاغة - و الذي هدر دمه النبي، لأنه كذاب و دجال - فليتول الآن حقول مصر، مصر البقرة الحلوب حسبما وصفها - في ما بعد - عمرو بن العاص.
أما رجال علي - الناس الطيبون - الاتقياء الطاهرون - فلعذاب جهنم، لأي عذاب من عذابات عثمان معرضون، أنهم الآن المضطهدون... أي معني لأبي‌ذر الغفاري؟فليشرد أبوذر، و لينف الي الجحيم الربذة أبوذر، و ليمت في منفاه أبوذر...و لينف أيضا عمار بن ياسر - اليس ابن‌ياسر من طينة أبي‌ذر؟؟.
هذا قليل من كثير مما ارتجل عثمان و هو في كرسي الخلافة، في سبيل توجيه الحكم و حصره في بني‌أمية. أن معاوية - في نظره - هو رجل الساعة، و هو المؤهل الوحيد لاستلام الزعامة، و استلام الامارة، و استلام الملك.
و لو أن ثورة قد تولدت - فعلا من عنجهية عثمان، فقضت علي عثمان! الا أنها وصمة تلوث بها كاهل خلافة ليس من حقها أن تخطي‌ء و تجني علي كل المؤمنين، كما و أن المغانم التي جناها عثمان، و منها غزو آذربايجان و ارمينيا و طبرستان. وفتح جزيرة قبرص التي هي امتداد الارض علي الشاطي‌ء الذي سكنه الجدود الممتدون من الجزيرة - بنو كنعان - قبرص التي كان يسمع من حمص صياح ديكتها و نباح كلابها.
اقول - أن هذه المغانم الثمينة بتوسيع نشاطات الامة، و لملمة اطرافها. بعضها الي البعض الآخر، و لم تواز خسارة جسيمة حلت - و ستحل علي ابلغ -

[ صفحه 72]

بالامة، و تؤخرها عن بلوغ كل مجد عظيم، لو أن اللحمة الرائعة بقيت لها، و لم تنفسخ الي عدة معسكرات تنتاحر جميعها تناحرا عميقا و مبيدا. أن صراعا أوصل معاوية الأموي الي كرسي الملك، زعزع اللحمة و فسخ الأمة بين الشام و العراق و الجزيرة، و تركها اشلاء تتلهي باشلاء، وصدعها تصديعا، و كان لها من كل قبيلة همجية جديدة تضرم النار و توهجها بكبريت منها و بوحل منها أيضا يتلازج ثم ينشف الي سحب من غبار، و ستبقي الحزازات و الضغائن تتغذي بمواليدها و فصلانها كما تتغذي مواليد العناكاب باماتها. كأنها - هذه الامات - هي الصيد الجديد الذي وقع في احبولة النسيج، حتي يدول عصر أموي و يولد عصر عباسي فيشويه و يزدرده امويا، ثم يلتوي علي ذاته فيلتهمها التهاما تركيا - تتريا - مغوليا اصفر! يا للمسافات تلتهمها ثوانيها القارضة، و يا للاستعدادات النفسية يغرقها اللاوعي في فوضاها.
اصبحت الآن أيها الحسن - وعثمان بن عفان أمام مقاضاه الزمان - بعمر يتجاوز الثلاثين أنه نضجك أيها السيد الكريم،و أنه لمحك الذي ستأخذ عنه - أفلست الآن في الساحة المعكورة؟! سينزل اليها أبوك - ايكون لك أن تساند خطواته في تفتيشها عن الطريق؟!

غمزة

لست اظنه مات - عثمان بن عفان - ان شرارة تلقطت بقميصه، سيكون منها لقاح نار تجعل يباسا كل اخضر! ان الشرارة الآن قد تناولتها الشام، لتبني بها ثأرا لعثمان - لقد عاش الآن عثمان في الشام - أليس معاوية المزروع فيها، هو المنتظر موعدا موقوتا و مخبؤا في قميص؟!.
انها الساعة الذهبية المعلقة في جداز القبة الحمراء - بعذا الهباء ستبقي تدق ثوانيها في تأليف الوقت المرهون و المصبوغ بالدهاء.
ان الحكم هو حلية اللازورد الصافي و الشفاف - الضارب الي حمرة الدم المنتوف من مهجة الملك و عرنين المجد - و هو فطيرة اللوزينج التي تفترشها مرقوقة

[ صفحه 73]

موائد الملوك استدرارا للعاب يسيل علي الشفاه المدهونة بالقرمز
قتل عثمان ليعيش طويلا في بال معاوية بن ابي‌سفيان بن حرب بن أمية من أجل احياء ثأر مدرع ببغض للأقربين بني‌هاشم - فلتجتمع القبائل المساندة، من كل حدب و صوب - و لتوجه كلها - لا لتحرير الشام، و ربطها بمداها المصدد الي أرض الرافدين - بل لشحن الصدور بالاحقاد التي عاشت بها طويلا - قبل محمد - قبائل اليمن، و قبائل الحجاز.

الامام علي - المنحي

العفو منك أيها االامام، ها هو البحث في موضوع هذا الكتاب، قد خطا خطوات طويلة حتي الآن - و ان قلقة - و هو يرمي باسمك، هنا و هناك، علي شح و تقتير، كأن اسمك هكذا يبني بالحروف البسيطة المهملة. لا يا سيدي - ان اسمك ليحاط بهالة يبهو بها، و ان الوصول اليك هو الوصول الي لب الموضوع الذي يقرأه الآن قلم يبحث عن حقيقة الصراع في وجود الانسان.
أنت من القطع النادر أيها السيد المهيب، و أنت شوق الله في الانسان، و شوق الوجود في الانسان، و شوق الدساتير الي اختصارها في المثل المعباة بقيمة الحياة في وجود الانسان. فلنأخذ الآن اليك حديثنا و هو يفسر - بك عنك - حقيقة ما لمسته الأجيال فيك من روعة هي لك دائما في صلابة مجتمع الانسان.
جل ما يهمنا أن نعرف من حدودك أنك ربيت في بيت الرسول الكريم - ليس المهم أن نحدد أنه اجتذبك اليه و هو بعمر الخمس و العشرين أو أكثر، و أنت بعمر الأربع أو أقل، المهم أنه تناولك الي حضنه و هو في حالة من التأمل و الاستغراق ترفعة الي مستوي آخر، عزيز الصنو في وجود الانسان. انه الغواص الكبير في أسرار الكون و الوجود، و هو اللماح الأكبر في استكشاف الطوايا المخبوءة في العين، و في الاسارير المتلألئة في وجه الانسان - لا شك أنه قرأ السر الذي هو فيك، جوالا في عينك، و محفورا علي لوحة جبينك،

[ صفحه 74]

فامتشقك اليه حساما تحسن جلوته، و يطيب حده - لا ليضرب الهامات، بل ليقيم به حدا لأي شعاع يستهيم به الضوء لمحو العتمات. الم تكن مهمة محمد مبنية علي استطلاع الأغوار من مخباتها المكنونة في ضمير الحق، و المطوية في وجود الانسان؟
والجزيرة؟ و انسان الجزيرة؟ و أرضها الممدودة علي فدافد و حرات و احقاف؟ و تاريخها المسحوب من اطراف الزمان، كأنه شلو من الساعات، لا تلتحم ثوانيها علي تأليف شي‌ء من الزمان و ربطه بالمكان! ألم يكن كل ذلك من همه في كيفية خلق الانسان الجديد، تنداح به الجزيرة - علي فهم و ادراك - و تلم به شعثها، و تؤجج به شوقها، و تعبد خطوط السير بين فدفد و فدفد، أو بين واحة و واحة، حتي تتم المسيرة علي الدروب الموصلة الي العزة و المنعة والكرامة.
ما من شك في ذلك، ليكون انتقاء محمد فتي يربيه في كنفه، ملحوظا فيه القصد الكبير في مساندة اخراج الرسالة التي يستعد الآن لتبليغها. ان الرسالة هذه لتحتاج الي نيرين، عزيزين في الصفات، و متينين في التركيب النفسي الممتاز، اكثر مما تحتاج الي أقرباء موصولين برابطة الرحم و الدم - و ان صادف أن الفتي هو مربوط أيضا بصلة كهذه، فهو ابن عم. لهذين السببين، ملتقيين علي صدفة، ثم علي التزام، نشأ الفتي في الحضن الكريم تحت عين زوجة المربي - خديجة الطاهرة الذيل - مع اخوات أربع درجن في البيت الواحد، لتكون صغراهن -فاطمة - رفيقة بالتربية، و رفيقة بالزواج، يرتبط بها علي ارتباطا منخوبا و مقررا في خدمة الهدف الذي تعين، الآن رسالة. ان فاطمة، و قد سبق التلميح عنها، هي التي لفها اللمح ذاته من حيث قراءة عينها، و تلمس أسارير تطفو علي وجهها، و جبينها، و صدغيها و لون أنوثة فيها غائصة في براءة فريدة النوع و شهية النكهة و المذاق. ان فاطمة هذه لم تغرق في بال ابيها لأنها فلذة من كبده، بل لأنها سر ولادة في كينونته المربوطة بالاشواق -انها النضج في معني الأموية المطهرة التي يجب أن تكون رحما قدسية الانجاب - هكذا لمحها أبوها - و هكذا تبناها منفردة من بين أخواتها، لتكون له وحده منجبة لميراث مضموم الي الجزيرة المشتاقة الي رسالة لفتها و تلفها في المكان و الزمان.

[ صفحه 75]

- 2 -
أتكون هذه كلها حدود علي؟ انها حدوده، ولكن التفسير هو المضفي حدودا اخري تفيضه علي الحدود الأساس، و تنتقل به الي مقاييس تجد حدودا لها في كل زمان يأتي متزنا بالحق، و مخفورا بالصفات و المثل، و موشوما بالجمال، من هنا فلنسأل: هل صدق اللمح - لمح النبي؟ و متي و كيف بدأ اللمح يصدق؟
دون أن يعتمد التسلسل في الأحداث يمكن القول: بدأ علي يصدق لمح النبي فيه منذ اللحظة التي كان ينسحب فيها محمد الي غار حراء - كيف كان يراقب الانسحاب، و كيف كان يتأمله و يفهمه،و ينحني أمام جلال معناه - اظنه كان في التاسعة من عمره - و بالتدريج، مع اعلان البعث، و مع العزم الأكيد علي التبليغ، و مع صعوبة التبليغ، و مجابهة المبلغين الرافضين... كان هو أول الفاهمين، و أول المدركين و المذعنين، و أول المبشرين المساعدين، و أول المتحملين، و المدافعين و المتلقين صدود المتصدين... و كان الهروب الي المخابي‌ء حول مكة، و كانت الهجرات الي الحبشة و الي يثرب... و ما وني يتحمل مثل هذه الضغوط كلها، و بالرفقة الملازمة دون أي انقطاع، و كان الاندفاع الي ساحات الصراع، و كان امتشاق الحسام المسنون الشفرة علي مشحذ، أو المسنون اللسان علي عزم، و منطق، و حجة و، و بيان... لقد كان لها كلها عزم الفتي - و من معركة الي معركة، و من خندق محفور الي ساحة مكشوفة، تم النصر، ثم ابلاغ الرسالة، وتمت قراءة القرآن، و كان لها جميعها: بطلا صنديدا، و محققا مجيدا، و قارئا مستجيبا - مما جعله شريكا في التحقيق، و بليغا مسلوخ النهج من حقيقة النهج، بما قدمه - بدوره - من آيات بينات، كانت تظهر تباعا في كلامه الذي انجمع منه فكره في نهج‌البلاغة.
تلك هي الملامح التي لمحها محمد، وحقق علي صدقها فيه... و ما انتهي اللمح،بل جاءت موصولة به روافد أخري وسعتها عين النبي، و جاءت نهجا مكملا لمناهجه الموصولة بدفع الرسالة أبدا الي الامام. فهذا الرجل علي

[ صفحه 76]

- البليغ النهج، و الصادق السيرة والقصد، و البعيد العين في الرأي و التبصر، و الملم بأسرار النفس، و معاني الوجود، و الخاشع أمام مهابة الخالق، و المدرك كمال الصفات، و المبني من صفوة الحق - انما هو الانسان الأقرب من ردهات الكمال التي يلزم أن يتدرج اليها الانسان، وصولا الي المرتبة الجليلة التي يجب أن يتأسس عليها و بها مجتمع الانسان. تقديرا من النبي لعلي، و أثابة له، قال: أنا مدينة العلم و علي بابها - علي مني و أنا من علي - من أحب عليا فقد احبني، و من أبغضه فقد أبغضني - اللهم وال من والاه و عاد من عاداه - فاطمة بضعة مني، أهل بيتي هم المطهرون - ابناي هذان هما والدي، و هما أمامان قاما أم قعدا.
ان يكن هذا الكلام قد ورد علي لسان الرسول، فما اصدقه بحق علي، و ما أمرأه علي قبله - و ان لك يكن قد قيل، فما احق عليا به لأن يخصص له... و لقد خصص له، و حتي و ان لم يرد باشرات اللسان، فبكل آيات المعاني والبيان... أي رجل مثل علي، مثل سيفه، مثل صدره، مثل صدقه، مثل نبله:، مثل حدبه الوسيع، و مثل نهجه البليغ، يمكن أن يرث الجهد، و يمتد بالرسالة التي لم تأت الدهور الطويلة بمثلها في خدمة الانسان - هذا الانسان الغافي و الفاقد كثيرا من قيمة الانسان؟!
- 3 -
هكذا كانت مصداقية اللمح، و من هنا كانت موصولة بهذا اللمح روافد أخري، انما هي - هذه الروافد - القاء مهمة تتميم الرسالة، و متابعة الاهتمام بها -للقيام علي صيانتها، و دفع استمرارها - علي الكاهل المتين الذي اكتشف الرسول حقيقتة، منذ أن وقعت عليه عينه الكشافة ان القاء المهمة علي كاهل هذا الفرد، معناه تسليم هذا الفرد وكالة عامة تنقل اليه جميع الصلاحيات - و صلاحية النبي الكريم في الرسالة هي أنه جامعها، و مسؤول عنها و صاحب السلطتين فيها: السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية. لقد نزل التشريع في القرآن، أما التنفيذ الذي هو الآن يجريه، فعلي هذا الكاهل الجديد أن يجريه

[ صفحه 77]

من بعده، بدعامة يقدمها له هذا التعيين أو التخصيص الناتج من صدق اللمح، و من حقيقة التبصر، و بعد النظر في القضايا المصيرية التي هي من وزن الرسالة التي اصابت في جمع أمة عظيمة هجع بها الدهر هجعة طويلة حتي أفاقت، و لكن جفنها لايزال مقطوبا بأثقال النعاس.
ان التعيين هذا هو - في الأساس - بمعني تشكيل الحكم و حصره بواحد، دون الالتجاء - فيما بعد - الي عمليات استشارية انتخابية، و تستيقظ فيها القبلية في القبائل التي تتألف منها الجزيرة العربية، كما و أن حصر الحكم و ربطه - مسبقا - بواحد، و هو أيضا خطير الدلائل و النتائج، فكما أن الحاضر قد ارتبط به، فان الغد كذلك قد اتصل اليه الربط - و المعني الجليل و الخطير في ذلك هو تثبيت نظام مكفوف بالرسالة، و من صلب الرسالة، و من نهج الرسالة و صوابيتها في الضبط، من حيث يكون المستنير بها معصوما - ضمنا - بها، و تلك هي الامامة التي تتصل بها - علي التوالي - كل امامة تنتقل اليها هكذا كل الصفات، متوارثة في الخط الذي ابتدأ و لا ينتهي الا بنضج المجتمع الذي توحده المعرفة، و تشرق به الصفات.
انها أحلام النبي العظيم في تكوين الأمة العظمية، و التبصر لها بالغد الكبير الذي ستطاله الرسالة بالتحقيق. أن التعيين هذا، و المنوه عنه، هو - اذا - تشكيل الحكم و حصره بالامامة. انه بالاساس، ديني - أي من لون الرسالة - و دنيوي - أي من لون الاهتمام بأمور الأمة، و طرق معيشتها، و تحصيل أرزاقها - والدين و الدنيا هما في نظام الامامة موحدا الربط - فالدين يقدم الايمان معززا بالمثل التي تبني الاخلاق، و الدنيا هي الحصول علي الزغيف، و كيفية اكله بنظافة العين،و الكلف، و القلب، و الشفة، و اللسان.
- 4 -
كل ذلك كان من لمح النبي، و من تبصر النبي، و من تأكيده علي غد لابد أن يأتي اذ تتطبق له الأحكام المصيبة و الصيرورات الواسعة العين، و الناضجة

[ صفحه 78]

الطموح، الصادقة اللب - و كلها مطوية عليها الرسالة، و لقد مرت كلها باللمح علي عينه.
و مات الرسول - فلنقل انه مات - و لكن الكفر الأصيل لا يموت، فهو حي في المجتمع، يتوارثه عن انسان، أو فلنلون القول: امامة عن امامة، في توارث الصفات حين تصير فاعلة، والتي تستمر بها - في الرباط مجتمعات الانسان. مات الرسول - اذا - و جاء دور تطبيق لمحة من لمحاته، فيما يختص بالخلافة المربوطة أصلا و شمولا بالرسالة.
لم يلمح اجتماع السقيفة كل ما لمحه الرسول، أو لمحت اليه كلماته و اشاراته - و التجأ الي تصرف سريع يعطيه حقا تقليديا في انتخاب الرئاسة. لقد كان الاجتماع هذا مسوقا بشعور ضمني - لم يفصح عنه الا بيان خفيف الاشارة - بأن القبول بخلافة علي هو تكريس الخلافة باهل البيت وحدهم، و هي من حق جمهور القبائل، دون قيد أو شرط. فكما أن الرسالة هي للجمهور، فمن حق الجمهور أن يتصرف بها، ويعين لها القائد، من اجماعه عليه - هكذا كان لهم الحق المبرر في أن يتصرفوا بابعادها عن دائرة الاحتكار أما أن يدرسوا فلسفة انظمة الحكم - أما أن ينظروا الي الرسالة الجديدة كيف يجب أن يتهيأ لها الحكم الذي يديرها و يرعاها في مجالات الصيانة والتنفيذ - فهذا ما لم يرد بتاتا في التعليل و التنفيذ.
لقد كان للقبيلة نظام و دستور - رئيسها هو المتقدم بالسن - انها رئاسة السن - والقبائل عديدة في الجزيرة، و الرؤساء كذلك هم عديدون، وكان نظام القبيلة - كأنه ملوكي - مستبدا بربط الأفراد بالسيد الأول ربطا مستبعدا، و كان المجتمع كله وحدات عديدة لا يلمها التجمهر بقدر ما يفسخها التناحر، والتباغض، و التقاتل - بحيث يكون الفرد امكانية ضئيلة، يرمي بها الي الساحة رمي الحصاة، تحقيقا لغزو فيه من التعدي ما يزيد حقدا علي حقد، و ضغينة الي ضغينة - و كلها عوامل تفتيت في المجتمع الذي تبنيه وحدته الواعية و الراشدة ان نظام رئاسة السن قدم للجزيرة أبابكر الصديق، و لم يقدم له

[ صفحه 79]

الامام علي، تلبية للنظام الجديد الذي حلم به الرسول نظام الامامة - فنظام الامامة - في حلم النبي، و في اقتراحه تقديمه الي التظهير - و هو غير النظام الملكي المستبد، وغير نظام رئاسة السن الذي ترفضه الرسالة - انما هو نظام مؤسس علي اختيار الصفات الملبية للرئاسة الجامعة مصلحة الأمة - لقد عينت الرسالة الجديدة مصلحة الأمة و كذلك قد اقترحت لها نظاما جديدا من صلبها، و من لحمتها، من معدنها، علي أن تكون الصفات المتوارثة هي لها دائما في المجال. و بحكم الطبع - فان الامامة تسقط من تلقاء ذاتها، اذ تخسر ركيزتها من الصفات المخزونة لها في الرسالة، و التي منها يأتي المدد.- 5 -
أتكون ارادة المجتمع هي التي نحت عليا عن الحكم؟ ولم تقبل به في مركز القيادة؟ و لماذا لا نسلم بالحقيقة، طالما انها حصلت علي الأرض؟ و ان الرسالة أيضا - و قد الغت رئاسة السن، كنظام بائد، كان يفرق، و أبدا لم يجمع - أقامت لها رئيسا الي الأبد، و هو النبي الكريم، و مشت به الي الزعامة المقدسة، و الي سن الدستور المحفور علي لوحة الزمان. ان هذه الرسالة بالذات، كثيرا ما كان يعصاها المجتمع، من حين الي حين، لأنها لم تفعل فيه بعد، تمام الفعل، انها له - ذا تفعل - و ليست له بعدم الفهم - من هنا: ان المجتمع هو المقرر - و هو القابل - و هو الرافض.

الامام علي - الخليفة

لم تصل اليك امامة، و وصلت اليك خلافة - كأنها انتظرتك لتصبح أهلا لها بالسن - يا ابن الستين... لقد ذابت دعابتك، و اندغمت الآن بنضج الكهولة، و استسلمت فيك مهابة العمر خضوعا أمام سلطات المبايعات، تأتيك من هنا و هناك، و هي تطلبك الي حقيقة الانتداب لتسلم أمور المسلمين. هنيئأ

[ صفحه 80]

للبصرة، و هنيئا للكوفة تستقلان بك بطلا من أبطال التوحيد، و قطبا من أقطاب الجهاد، و سيفا من السيوف المفلولة التي أصبحت تكتفي بالنصل دلالة علي أنه عتيق هو السيف، ما فل الا من شدة الثبت في ساحات القراع، لا من روعة النصر في حلبات الصراع!
يا لها من خلافة وصلت اليك من طرف الميدان، بعد خمس و عشرين حجة، بعد ثلاث محطات مهترئة بالمبايعات لرؤساء السن، تحت زحمة القبائل المتسابقة الي اعتلاء ذوات الخفاف، مجرورين من أطراف الفدافد و الأحقاف، لطرح مبايعات ليس فيها غير رجوع الي الوراء: من بني أسد - رجوعا الي بني غيان «كانت قبيلة غيان في الجاهلية و لما اسملت أبدل الاسم لها البني الكريم، فصارت تعرف ببني أسد» - و من عبدالله - رجوعا الي عبد العزي - و من راشد - رجوعا الي غوي.
لقد أعددت للامامة أيها السيد، للنظام الجديد الذي اقترحته الرسالة الجديدة - لقد بايعتك الرسالة كلها في الامامة: أكانت ناطقة في غدير خم، أم معلنة باللمح و الاشارات، لقد بايعتك الرسالة من خلف الفدافد و الحرات، من أبعد منها - من قلب الواحات الممتدة من خلف سيناء، من خلف القدس، و تلال اريحا، و سهول بيسان - من خلف غوطة الشام، و من كل بستان حول بردي، و من كل بسطة أرض يرويها هنا دجلة و الفرات، و يرويها هناك نيل مصر - من كل أرض وصل اليها من قبل الزمان مد القبائل، مما مهد اليوم للرسالة أن تمد اليها فعلها و زخمها. لقد أعدتك الرسالة الجديدة للمهمة الممتازة، وصولا اليها، بفعل الوصاية، لا بمماحكات المبايعة... فكيف عادت و وصلت اليك بهذا الشكل، هذه الخلافة؟!
بحكم الطبع، أنت لم تردها ملوثة بدم عثمان، و لقد اوجزت ذلك بالوصف في خطبتك «الشقشقية» فلنستمع قليلا اليك: «و انه ليعلم أبوبكر - أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السبيل، ولا يرقي الي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا،و طفقت ارتئي بين أن أصول بيد

[ صفحه 81]

جذاء، أو أصبر علي طخية عمياء يهرم فيها الكبير، و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربه، فرأيت أن الصبر علي هاتا احجي، فصبرت و في العين قذي، و في الحلق شجي اري تراثي نهبا، حتي مضي الأول لسبيله فادلي بها الي فلان بعده (ابن‌الخطاب) فصبرت علي طول المدة و شدة المحنة، حتي اذا مضي لسبيله، جعلها في جماعة زعم اني أحدهم فيالله و للشوري متي اعترض الريب في مع الأول منهم، حتي صرت اقرن الي هذه النظائر!».
أما الي ابن‌عفان، فقد وجهت القول: «الي أن انتكث فتله واجهز عليه عمله، فما راعني الا و الناس الي كعرف الضبع.... فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة «أي أصحاب الجمل» و مرقت أخري (أي أصحاب النهروان) و قسط آخرون (أي جار عليه أصحاب صفين).
هكذا وصلت اليك مشقوقة الثوب، مقرحة، منهوكة، مبعثرة - لا كوفتها مكوفة بحقيقة الجهد، و لا بصرتها مجموعة تحت عين البصيرة، و لا مكة فيها الا مفتشة عن كل ذرة غبار تعيد بها عجن اصنامها، و لا يثرب لها، تصغي الي الكلمة تهبط من فوق منبر المسجد، ولا دجلة و الفرات الا ليغسلا الأرض من دم، بدلا من أن يكون عطر الأرض و ملحها، أصبح زنخا يمجه الذوق، و الأنف، و العقل،و اللب، و كل بصيرة في الانسان.
- 2 -
ماذا نقول لك أيها الامام، أو فلنرضخ معك للواقع و نقول، أيها الخليفة؟ لقد الحت عليك جمهرة من القبائل أن تتسلم الزمام و لو مدبوغا بهذا العكر، ولو مهزوما بمبايعات مريضة مردودة الي وباء - قبلت بعد تردد، و تلكؤ، و طول تصبر، وامعان روية - و لكنك قبلت - لأن القبول هو فرض من فروض الواقع - ان المجتمع هو الذي يفرض، مخطئا يفرض، و مصيبا يفرض، واعيا يفرض - و مغفلا يفرض...! و المجتمع هو ارتباط الفرد فيه علي الصيرورة المشتركة و التي لا مناص من الدخول فيها، و القبول بها، ثم العمل

[ صفحه 82]

علي تزكيتها أو تصويبها بقدر الامكان. هذا - أولا و آخرا - كل ما حداك علي القبول برمي ذاتك - و لو بعد لأي الي الميدان.
لقد كنت المتأفف، و لكنك نزلت. و لقد كنت المستنكف، و لكنك أيضا نزلت، ولكن نزولك لم يعن أنك قبلت أكثر مما عني انك رحت الي المحاولة، محاولة رد الاعتبار الي المركز الكبير، بجعله يعود رويدا رويدا الي مجراه اللامح المسنود بنظافة الايمان و التقوي، و العدالة، و المساواة - و كلها مزاياك -اننا الآن، و اليوم، و غدا، نثق بك، لأنها مزاياك - لأن كل آية من آياتك أنت، في نهج‌البلاغة، هي شرح لمزاياك، وهي - ان تكن بليغة - فلأن الرسالة هي كل ثقافتها، فهي - بالنسبة الي القرآن الكريم - أبعاض منه، نقول ذلك انعاشا لذكري ذلك الذي أوصي لك بالخلافة في غدير خم، و اغدق عليك رضوان ربه و ربك، و لفك اليه بأخوة جمعت كل القبائل - فيما بعد - بوحدة الاسلام، و وحدة المجتمع، و وحدة المصير.
و ابتدأت المحاولة برفض كل مساومة تؤخر الرسالة عن مسيرتها القويمة. فهنالك الشام - و الشام مهبط لطيف الظل، و عليل النسمات، وكريم العطاء في سندس زاهي اللون علي ينع الثمار - انها مهبط من المهابط المحببة علي قلوب الممتدين من أصلاب الجزيرة العربية، و الفائضين عن امكاناتها الاستيعابية، فاعتمدوا الانسياب متنفسا لهم عبر اجيال و اجيال، لم يحصرها زمان، من قبل أن يتلقط التاريخ بحرف يضبط التدوين، و يؤرخ للحوادث أو يفسرها و يعطيها معناها الأصيل، من قبل أن يأتي مؤخرا الأراميون - مثلا - و يشاركوا في عمارة الأرض و بناء المدن، و اعطاء دمشق اسمها الذي تعيش به الي الآن. ان دمشق هذه، هذه الشام الكريمة الحدب، و الموصولة المكان بالمكان، والزمان بالزمان، هي ملعب جديد يعلب عليه معاوية - علي هواه - لعبة دهياء. لهذا حذفته عن كرسي الامارة، و دعوته من جديد الي الانتساب، الي ترك بني قيس، و بني‌كلب، و بني‌غسان، يعودون الي وحدة الصف مع بني‌كهلان، و بني‌الأزد، و بني‌لخم، ليبقي المكان - مكان العراق و مكان الشام - موصول

[ صفحه 83]

الهواء بالهواء و الرذاذ بالرذاذ، و القبيلة بالقبيلة التي سحبت من عمق غفلات الزمان، لتشارك في بناء المكان، لا لتعمل علي هدر الزمان و جعله رغوة من رغوات التناحر، يموت بها الحق، و ينهدر الدم، لنصبغ به قطعة من قماش نتقلدها برفيرا كاذبا نغطي به ابداننا، و ستائر قصورنا، و كراسينا التي نجلس عليها و بيدنا خاتم الملك الأحمر، و قصبة الصولجان!
و لكن معاوية - و الدنيا أصبحت في عينه، و قميص عثمان في يميمنه، و عطاءات الأرض في خزائنه و فوق موائده - لم يعتبر نصحك أيها الخليفة المجموع من خلف نصف قرن من الاهمال المدروس، و النسيان المصطنع، الا هراء، و ان الدنيا هي التي تخلق ذاتها، و تصبغ عينها بلون قلبها و زندها و دهائها - ثم دعاك - هو معاوية بدوره - الي غسل قدميك قبل أن تمشي اليه، و عليهما غبار من الصحراء التي انسحبت منها، و هو غبار لا ينبت خصبا. و كانت صفين حدا فاصلا بين شوق وشوق، وبين معراج و معراج، و بين توحيد و توحيد - و كانت امتدادا لحرب الجمل،و اشتقاقا لمعارك النهروان.
لم يخطر ببالي أن أبحث عن معني صفين في تركيبها اللغوي البياني - و لكني الآن اتساءل: هل هي مثني «صف»، و جاءت بها سهولة اللفظ بحالة النصب أو الجر؟! يا لذل التفكهة في التعليل، و يا لتعس الفرات ينقسم دفقه المعطاء الي جدولين قاحلين بالخصومة المخبوطة بحوامض الدم، و برواسب منقولة مع الأجيال، حملها معهم المتجولون، مربوطة بالاوتاد و حبال الاطناب!! يا للفرات يضيع مجراه عن حقيقة الورد، و يتحول و لغا للعطاش!
يا كبدي علي الكوفة و البصرة تشويمها معركة جانبية زرعها فن الصراع في الخاصرة، كأنها خراج اصطناعي ينشبه النطاسي البارع في فخذ المريض ليحول أوهام الحمي الي المكان الاخر - يا لدهاء معاوية و عمرو بن العاص، يخففان الضغط عن صفين الي عمق الكوفة و البصرة، حيث تقاتل عائشة التي هي الآن بنت أبي‌بكر الصديق لا أم جميع المؤمنين.

[ صفحه 84]

انها معركة الجمل، جمل عائشة المتعلقة ببني تيم - طلحة هو ابن‌عمها - لماذا لا تكون الخلافة لا بن عمها؟ ان انتصار ابن‌أبي‌طالب يثبت الخلافة في البيت الهاشمي، و يوقع أباها - الذي ترك الدنيا و الخلافة علي خط سياسي معين - في ذل الخيبة و ذل الانكسار - و ها هي القبائل في الصبرة تستميت في المناصرة، وتضرب طوقا من سيوف مشرعة فوق جمال و نوق متلعة الاعناق، و لصيانة «عسكر» جمل أم‌المؤمنين - يا لنخوة الرجال من بني ضبة، و الأزد، و بني ناجية - انهم من أبناء العشيرة، وهل يناصر الأهل الا الأهل؟ و هي تنادي القبائل الا سحب الغبار؟ و هل تكون المبايعات لغير هذه الاثارة!
لم تنته معركة الجمل بعرقبة «عسكر» و جندلة طلحة و الزبير، و أسر عائشة ثم بفك أسارها. و لم يكن معني ذلك - بالمقابل - انتصار علي، و تثبيت قوائم الخلافة لبني‌طالب - ان انتهاء المعركة قد اشار الي أن الخراج المصطنع قد أدي مهمته المزدوجة: حذفه - أولا - رجلين من الساحة يطالبان بخلافة - و ثانيا انهاك قوي خليفة هو الآن خطر في ساحة الصراع. ان التلهي - ميدانيا - عن صفين، هو أيضا توفير فرص لمعاوية في اتمام اعداد جيوشه، من وحي الساحة و وحي المستجدات، و يخلق لكم الله ما لا تعلمون.
ثم ان الرجوع جديا الي صفين، وان راح يميل الكفة الي مصلحة الخليفة أو يرجحها، لم يكن الا ليعصر قلبه بالغم - فالفرات الذي يتهلل بسقاية الحقول و استنبات الخير منها - انه الآن هو الذي يسقي الحنظل، لتنتشر حوله، فوق السهول، جثث المسلمين الملبين نداء الموت في الخراب و الدمار!
و جاء دور رفع المصاحف - لم يزل التاريخ حتي الآن يهزأ من تمثيلية عوراء ادخلها الدهاء بلون، و أخرجها بلون آخر - يا للدنيا تأخذك بهاتف الصدق، و هي مموهة ببريق الخديعة! ان الاجتماع با ذرح، أو في دومة الجندل - سيان تعيين المكان، أو ابداله بمكان - لم يبدل من الجوهر - و دل الي أن الخادع هو الذي يحتال علي امتلاك الدنيا، وان المخدوع هو الذي يحاول رأب الصدع، أبعادا عن الناس أهوال الحرب، و هدر الدماء.

[ صفحه 85]

و لكن المحاولة التي بقي الامام مستمرا بها لم تثمر - ما كانت الرسالة التي امتلأت بها المصاحف لتقرأ! لأن الزيغ لم يتعلم أبدا تهجئة الحروف في الكلمة، و كانت النتيجة، بين يدي معاوية: تحضير جبة حمراء راح يزهو صباغها، و هي تنهل علي كتفيه - و في حروراء تحضير فتنة لقمت العصيان فلسفة العصيان، راح الامام علي يتلهي بقمعها و تخليص الناس من مخارجها - و ما كاد يقضي عليها، و يعود الي اسماع كلمة أخري من كلماته، حتي اسكته - بضربة سيف - ابن‌ملجم!!!
- 4 -
ما أظن الامام قد سكت. ان الكلمة التي يبست علي شفتيه بقيت تنطق - ما أيبسها الموت - بل أنها زهت به.
ها ان الحسن جاء يقرأها في اذن معاوية، جاء يأخذها عن شفة أبيه التي لا تزال تفصح: ان الدنيا لا تؤخذ الا بالجمال، و ان الحق هو الذي يبني الناس في المجتمع الصحيح، وان الناس هم زينة الدنيا، فلتزه الدنيا، وانما هي لتزهو، فهي جنة الله لعباده، ولكن بالتقوي فلتزه، بنعمة الله و نعمة الحياة الكريمة فلتزه، بمفهوم الرسالة التي تحيا في الضمير الكبير فلتزه، برفع المصاحف - مثلا - و بتحكيمها الصادق فلتزه، و ليكن الصدق ديدنا في البناء، لا الخديعة - فالخديعة هي التمويه الذي يشبه الغبار.
ليت المجتمع قد لبي مضامين الرسالة، لكان علي اماما قبل أن يدخل حلبة الخلافة و المبايعات التي طرحته في الساحة مغمض العين، و لكن، ناطق الشفتين: بأن الحقيقة لا تموت في مجتمع الانسان، فهي تعيش به و فيه مع قيام الساعة.
هذا هو مجالك الآن أيها الخليفة الجديد - أيها الحسن، أيها الامام النائم في عيني جدك العظيم، و الناطق بشفتي أبيك المتمتمتين بنهج‌البلاغة.

[ صفحه 86]

الحسن

أيها السيد - هذا هو مجمل المراحل التي قدمها و مثلها و أخرجها العصر أمامك - لقد رزمت ذاتها كلها بين يديك، وتحت عينيك: عينيك الناظرتين، و عينيك المبصرتين - عينيك الرائيتين، و عينيك المغمضتين علي اللمح المكنون في خزائن الظنون - و لقد شاهدتها جميعا تمشي: تارة باقدام مشقوقة من تراب الأرض و رمادها المذري قيحا في الجفون، و طورا بأقدام مخففة ليست من ريش اللحم و العظم، بل من أريج مسحوب من مقل ليس لها في التراب مقام. و لقد رافقتها تدرج امامك في حلبات الزحام، يلفها هناك زمام من الحق، و زمام من الخيال، و زمام من الروح، و زمام من الصفاء يطفو في العين فيجعلها قطعة من جنان - بينما يلفها - هنا - في المقطع الثاني، تراب مجبول بلعاب الثعابين، علي رباطات من زنانير يموهها الطمع بالخداع، و البطولة بالدهاء، و كلها علامات و هن جاء جدك العظيم ليخلص منها عقدة اللسان.
ما شحت عليك المراحل أيها السيد، و ما شحت عليك قراءتها: لا في حبو الطفولة طفولتك، ولا في قفزات الفتوة فتوتك، و لا في مراحل و صولك الي حقول البلوغ. و لقد شاهدتها - في التمثيل و في الاخراج - يمتلي‌ء بها العصر عصرك،عصر النبوة، عصر البداية في الطرح الكبير، عصر الاساس في الانطلاق المركز جمع أمة من أم الأرض، هي الآن للجمع و التحضير، لأن تصبح أمة للاعتداد بها، و للتباهي. ألا يكون لنا ظفر و نحن نعيد قراءة خطواتك، و أنت طفل ملفوف بخرقة صفراء، لم تحب بعد، الي أن قفزت عقدك الثالث، موشحا بجلال البلوغ، و مجليا بجلوة معتمرة بجوهر الأحداث المحشورة في العصر؟ ليست زهيدة في الفترة التي عجنت فيها خطواتك، و عجمت هي عودك - و لقد أصبحت فيها عظيما، لأنك ربيت في أحضان العظام، و رافقت الخلفاء الأوائل، وشاهدت بام العين كيف يتم اللعب فوق خشبات المسارح، و كيف تطفو النوايا علي بياض العيون و سوادها، و كيف تحفر

[ صفحه 87]

السرائر خطوطها في صفخات الوجه و فوق لوحة الجبين، و كيف تتم الأحداث فوق ساحات الصراع، و كيف يلهو بها مجتمع الانسان فتبنيه أو تشقيه، الي أن يدرك ما هي حقيقة الصراع.
- 2-
قد تكون المرحلة الأولي من بين المراحل التي مرت أمامك في الانسياق، هي اغني المراحل و أعمقها ترسيخا في ذاتك - انها مرحلة الطفولة. من المنطقي انك عشتها جملية بريئة، و ملونة بالدلال، ولكنك لم تكن - و انت طفل يلثغ - لتفقه ما تخصص لك فيها، و ما اختفي من معانيها،و ما انطوت عليه المقاصد من تلوينها، و ما هو الذي يشتغل في تنسيقها و دفعها من الخطو الصغير القدمين، الي انتعال الساحات العظيمة التي هي شاؤ آخر عزيز الشأن في حقيقة وجود الانسان.. فيما بعد - أيها السيد - بحكم الطبع فيما بعد، من كل خطوة كنت تتنقل بها - كان يتألف هذا «البعد» صرت تدرك الأبعاد، و تتوضح لك المضامين، و تشرق عليك ابعاد المقاصد.
لقد أدركت بالتدريج أن ولادتك كانت ثمنية، كانت من صنف آخر، غير الصنف الذي يأتي - هكذا فقط - عن طريق اتصال رجل بأمرأة، فتحصل بنوة، بل عن طريقة اختيار بني في الروح، واداه الشوق مدفوعا الي الاخراج - لهذا ادركت أن أمك فاطمة لم تحضر رحما يتم فيها الاخصاب، بل حضرت أما تشارك في حقيقة التوليد، و لا لتكون اما لفرد، بل اما لذاتها المتدفقة من ذات أبيها - ستصبح فيما بعد، اما لسلالات يسمو بها الحق، و يثبتها نبل القصد جدارا من جدرانه المنمقة بالصواب. لهذا حضنت أمك فاطمة بحنان لون لها التربية و التخصيص، بعد أن اكتشفها جدك - أبوها - بأنها خميرة ممتازة من خمائر التكوين النفسي - الروحي الأنيق، وان فيها من الجمال ما يجذب روحه الي الانسكاب فيها انسكابا اندماجيا، يجد له فيه حقيقة الارث.
من هذا النوع كان ادراكك لأبيك، بأنه منخوب لأن يتصل بأمك، فهو من الخميرة ذاتها التي يطيب بها عجن الطحين - سيكون علي اباك، و هو

[ صفحه 88]

موصول بجدك، ينقل منه الي ذاته صفات أبوه مدغومة بالتراث المستمر في الحقيقة التي شحذت عليها الرسالة حسامها، أنه الاهتمام ذاته ببناء رجل يكون أبا لذرية تأخذ علي عاتقها اعباء قيادة أمة مجموعة من فيض حق غرقت فيه الرسالة. ان الرسالة الآن هي الجامعة صفات الأبوة، و صفات الأمومة منقولة غرسا في الأبناء الموصولين بها بالتوجيه المتوارث...
من هنا كان ادركك بأنك وريث قبل أن تولد، بأنك معد قبل أن أبصرت عيناك هذا القبس، بأن بناءك يصدق و تتعين المسؤولية فيه، لأن التربية هي المعدودة لا ثبات الصدق، فهي منه خصب، و دفع، و تلبية أمانة، ومن هنا كان دلعك علي جدك - و أنت تلعب حتي في باحة المسجد - قبولا و اقرارا، بأنك أنت ابن‌الشوق الأصيل، و أن اهتمامه بطفولتك الندية، هو تجسيم لأحلامه البكر في تبصره بأمور الصيرورة - حتي الخرقة الصفراء التي رماها عن جسمك الطري - و أنت ابن يوم - توصلت أنت و اكتشفت أن الرمز فيها هو تخليصك من أي لون يقصفك به الكبريت - أن الأكباد المشحونة بالضغائن، هي التي تخطف اللون من الوجوه، و تكسوها بصفار الموت - حتي لون القماش يلفون به جسدك، لم يرده نظيفا من لونه الأصفر. هذه هي مرحلة طفولتك، و هي تلقي عليك أثقال الروابط، و هي تحضرك للاتصال بكل غد يحقق لك جلوة تستنبتها من حقيقة مهماتك.
- 3-
اول صدمة هزت كيانك و أنت في اطلاتك الأولي علي سن التمييز، كانت اغماضة عين جدك في غفوة صامتة الهدب، و رهيبة السكون، لم تكن انت لتحسب أن عين جدك - هكذا - يعتريها مثل هذا الانطفاء، و لكنك أدركت هولا قرأته في عين أمك المذبوحة بالدمعة الحمراء و تحسست ثقلا رزح تحته أبوك و هو يلملم نفسه من ترنح يكاد يفقده الصواب! لقد فتحت الصدمة هذه اخدودا في كيانك النفسي، عمقت فيه التجليات - و ان غارقة الآن في المبهمات الا أنها ستطل بك، مع امتدادات الأوان، علي استكشاف الحقائق في

[ صفحه 89]

الوجود، و ربط الموت بالحياة التي يبقي لها في المجتمع كل الاستمرار.
لقد أخذت كل ذلك باحساس ضمني: ان يكون احساسا طفلا، الا أنك تناولته من رهبة الموت، ورحت تفتش عن جدك الذي غاب، لتجده متفجرا في عين أمك، و لتجده حيا في صدر أبيك المزروع في حقيقته الغائضة بروح الرسالة. أنه شعورك الضمني المعبر عنه بالصمت و الحزن و الهدوء، و هو من البدايات التي راحت تسير بك الي كل جلوة تستنير بها في طريقك الآتي.
يكفيك منها الآن، أنك شعرت بهلع المصيبة، و أنك جمعت علي صدرك الصغير - و حسابها عميق الحفر، و أنك - بالتالي - ملجوج اليها بالادراك: ان جدك الذي غاب، هو الآن حاضر بأبيك و أمك، و شديد الحضور بك و بأخيك. أليس الموت الآن هو الذي يمتن هذا الرباط، و يلحمه لحما بنياط الحياة؟
و هناك شي‌ء آخر قد حدث أمامك - أنه أيضا من نوع الفجيعة، أو أنه جاء صباغا تلونت به فجيعة الموت بما جعلها أشد رزءا، و أثقل حملا في عملية التصبر عليها، و التصدي لها بالتأسي: انه الاسراع بعملية تعيين الخليفة في اجتماع سقيفة بني‌ساعدة، قبل انتهاء تغييب الجثمان، ولفه بحرمة الوداع - لقد قرأت أيضا في عين أبيك، ذلا طاله بطعنة في قلبه، و فكره و مكانته، و كذلك فانك لم تدرك الا بحسك الضمني، ان الخلافة هي تأكيد لأبيك، فما دخل الغير فيها؟ الجد هو جدك، و النبي هو أبو أمك، و أبو أبيك، و أبوك بلا جدل و بلا أي نزاع... فما بال الناس يأكلون الثمرة و يقطعون الشجرة! ما بالهم يأخذون الرسالة و ينبذون أصحابها الفاعلين! ما بالهم يتسابقون الي المائدة و يطردون عنها الذين بسطوها و مدوها و لونوها بالطعام! ما بالهم يتزاحمون الي البئر يرتوون منها و يطمرونها بالذين حفروها و أغرقوها بالعذب الزلال!!
هذا ما رأيته بحسك الضمني أيها الحسن، في هذه الساعة المطلة بك علي جدث جدك الذي لم يتوار بعد - و لكنك - فيما بعد - ستري الحقيقة الكبيرة، بأن الرسالة التي تفوه بها جدك العظيم، انما هي للمجتمع العظيم، انها له، تؤسسه حتي يصير عظيما... أما الآن، في هذه اللحظة الحاضرة: فان

[ صفحه 90]

المجتمع هذا لم يبلغ بعد الساعة الثمينة، لهذا اعتبر المجتمعون في دار السقيفة، ان الرسالة هي للمجتمع الذي يتصرف بها الآن علي هواه - ستدرك فيما بعد، أن الرسالة - حقا - هي للمجتمع، و أن الوصاية لأبيك في القيمومة عليها، هي من باب الحرص علي تعهدها و هي طرية العود، من أن تتناولها الأهواء و الأنواء فتلويها عن سواء السبيل - انه النظام الجديد أيها السيد، انه تدارك من وقوع في اخطاء ادارة... من حقك أن تشعر أن أباك قد هضم حقه في الولاية: ولكن واقع المجتمع قد فرض ذلك - و ستري أن أباك هو الراضخ الأول لما هو مفروض: وستجد نفسك أنت أيضا مسوقا الي القبول و أنت تخدم رسالة هي لك و للجميع، دون أن تنسي مهمتها الجليلة لن تكون الا بناء المجمتع الذي هو الأمة العظيمة التي تستحق جليل العطاء، لأنه منها هذا العطاء.
كنت تقفز عشرا من عمرك، عندما خلت عن أبي‌بكر سنوه - جئت منسلا خلف أبيك لالقاء نظرة أخيرة علي الجثمان المسجي. بقي أبوك غارقا في مداه و هو واقف كأنه قطعة من هزيع الليل، أما أنت، فانك لبست زواية من حنايا الماكن، ورحت متأملا - أما عمر بن الخطاب الذي انتقلت اليه الخلافة بوصاية خلعها عليه الرجل النائم الآن علي عتبة الصمت، فانه لم يتورع عن تثبيت عينيه عليك - لا ليخفف ما بنفسك - بل ليغسل به نية عاشت في خلية نفسه، و هو الآن يتأثم بها! لقد أصبح الآن خليفة المسلمين، لا أبوك علي أيها الفتي الذي ظل متفكرا يستعيد ذكريات جده - هكذا - قد اندمج في حلبة الصمت، و هو يتمثل أيضا أمة المبتسمة فوق فراشها الأبيض: بعد أن خسرت أباها، و ميراثها في أرض فدك، و شجرة أراك كانت تقيها من حرارة الشمس، و كرسيا للخلافة وقف لذريتها في حقيقة التمثيل لقضايا المسلمين.
لقد أخذت كل ذلك بحسك الضمني - في تلك اللحظة - و أنت تتأمل نقل المشاهد فوق خشبة المسرح: من أبي‌بكر الي ابن‌الخطاب، دون أن تطرف

[ صفحه 91]

عين نحو أبيك الذي هو في نظرك أرحج من كل من هو في المكان
لم تلحظ عند أبيك حقدا علي عمر، ورحت فقط تستشعر عنده عتبا علي الرجل الذي لم يلب نداء الأشواق عند جدك الرسول، من هنا كان أبوك يلبي
الخليفة المستشير، بتقديم النصح، و ابداء الرأي، والمشاركة في حل المعضلات - مساهمة منه في خدمة الرسالة التي هو الآن يمثلها بورع و نظافة كف. ان الرسالة التي كان يتمني جدك أن يتعهدها أبوك، لم تستجب تمنياته، انما هي الآن بحكم واقع آخر، بين يدي رجل آخر.
كنت في بداية عقدك الثاني لما استل أبولؤلؤة، غلام المغيرة، خنجره و ضرب به خاصرة الخليفة، فأرداه يعالج سكرات الموت! لقد هز الحادث كيانك المنقول حديثا الي باحة الرجولة المتحلية بالادراك و النضج والفهم، ولقد أوقفك مليا أمام نفسك تفتش عن سبب الجريمة، ربما وجدت أن قساوة الخليفة في توزيع الضرائب بين الناس، هي التي اردته ضحية - ربما رأيت أن حقدا موروثا بين القبائل هوالذي اشتغل في أخذ ثأر - ربما بدأت تدرك أن المجتمع المريض لم يعمل بعد علي تخليص ذاته من أورام مرضه، ففعل التخلف فيه ما فعل علي يد أبي‌لؤلؤة - و لكن النتيجة واحدة - ان الخليفة قد مات - حرام أن تصاب الخلافة بعقاب لا يستحقه نبل الرسالة.
- 5 -
ها هي زحمة من الأحداث بدأت تتمثل تباعا أمامك فوق الساحة التي مات عليها الخليفة - لم يمهله خنجر ابولؤلؤة أكثر من أيام معدودة، تمكن أثناءها من تأليف مجلس استشاري أسند اليه أمر تعيين خليفة جديد يتسلم زمام الحكم وادارة المسلمين، - لم يكن مسموحا للمقرر فيه - عبدالرحمن بن عوف - أن يتجاوز حدا مفروضا عليه مسبقا في التعيين؟، مما سهل وصول الخلافة الي عثمان بن عفان - لقد كان أبوك يستشعر حصول ذلك، و أنت كذلك - و ان كنت في مستهل الرجولة و النضج - أصبحت تدرك أي حطب تستحث ناره تحت القدر المعد لطباخة مثل هذا الثريد - ولكن الذي راح، بوقاحة، يتكشف كأنه

[ صفحه 92]

يسابق الزمن الي ظهور و البروز - هو اسناد كل وظائف الدولة المرموقة و الحساسة، الي بني‌أمية بالتخصيص، و ها هو معاوية، حاكم الشام، يتمتع بنفوذ وسيع الصلاحيات، وسعها له عثمان، من أجل الغاية المبيتة بقصد وفن!
لم تخف عليك أيها السيد، لا فصول الرواية، ولا حتي مشاهدها الصغيرة الجانبية، ورحت مع أبيك تنبهان الخليفة الي وجوب تلافي الأخطاء و التخفيف من غلوائها - ليست الخلافة مركزا يستهان به في خدمة المسلمين، و جمعهم الي حق هو للكل علي السواء - ليس الاستئثار بمغانم الحكم هو في خدمة الرسالة، و ليس الحكم أبدا لجني مغنم دون توزيعه علي المجتمع بقسط وعدالة، وليس الحكم سباقا الي نفوذ يحقق رغبة في تغذية شهوة، و لا بؤرة يربو فيها الحقد،و تتغذي منها الضغينة، و لا مركزا حصينا تتجمع فيه القبائل لتنطلق الي عمليات سلب، و غزو، واغارة علي مراعي الغير... لقد قيل كل ذلك لعثمان، انتما بالذات قلتماه له، و كانت منكما - لا صلاحه - مشاركة و مساندة - فأنتما لم تعتبرا الخلافة الا مركزا مشقوقا من صلب الرسالة، انه تمثيل للنبي العظيم الذي استوحي الرسالة، ليعيش بها و فيها من أجل الأمة. من هنا تكون الغيرة عليها منبثقة منها - ان الغيورين عليها هم من أهلها المنسوبين اليها في حقيقة الجهد، و التحقيق، والأصالة.
بهذا الادراك و الاقتناع أيها السيد، رحت تنخرط بجيش التحرير تعزيزا للأمة و ربط طاقاتها بجميع مصالحها - و هكذا تم تحرير افريقيا، وكنت مع ابن‌العباس،و ابن‌جعفر، و أخيك الحسين و كلهم أهلوك من بني البيت، تحت قيادة عبدالله بن أبي‌سرح، أخي عثمان بالرضاعة - و لقد اشتركت أيضا بتحرير طبرستان في الجبهة الشرقية، بقيادة سعيد بن العاص.
تلك هي مبادراتك، بعد أن أوفي بك العمر الي جلوة بدأت تحقق لك حقيقة الاعتبار - لم تنجح في تغيير مجري الاحداث، و لم تصلح من نية عثمان، و لم تثبط من عزم معاوية، الا أنها - مبادراتك تلك - ثبتتك رجلا مجليا بحقيقة

[ صفحه 93]

الامامة... ستنظر اليك الساحة الخالية منك، و تطلبك الي نوع من التمثيل، و لا فرق ان جئتها اماما، أم خليفة، أم رجلا بلا حقيبة - طالما أن الزمن لم تتكثف ثوانيه علي رقاص الساعة.
- 6 -
لقد انقلب الدهر علي عثمان - ماذا نقول؟ هل هو القصاص؟. هل طال القصاص كذلك صدر ابن‌الخطاب؟ فهوي ذليلا بين يدي قاتل - نحر، ثم انتحر تحت قدمي من قتله؟! و أي عقاب كان للامام علي علي جهاد وصل عمره بطرفيه في ساحات الجهاد، وفي باحات التحقيق لرسالة الاسلام! أية يا ابن‌ملجم، اتكون أنت منفذا لحكم القضاء!
جل ما في الأمر أيها السيد انك احتككت بصلب الأحداث، و فهمت أن المجتمع وحدة في الفهم و في الاخطاء، و ان التردي في المجتمع لا يفرق بين طينة ذكية وطينة سخيفة، فهو يصيب الفريقين، الي أن يخفف الشطر الفاهم من ثقل الجهل،و يرده رويدا رويدا الي حقيقة الصواب.
ها انك اليوم، و قد افضي مقتل عثمان الي عكر ادي الي مقتل أبيك - وجها لوجه أمام معاوية، يسنده كل بني حرب، و كل من يلوذ به من القبائل - اتراك تشد الحبال: الي ساحات النزال، في سبيل كبح الأهواء، ورد الحقيقة الي واقع الصراع - ام انك ستوهي - بواقع المجمتع المرير: تقدم له الدواء الي أن يقبل - هو - تناول الدواء!!!

معاوية بن ابي سفيان

أيها السيد الخطير
هان ان القلم يصل اليك، و هو يقف مشدوها حيالك - كيف يرسمك؟ كيف يتناولك بالتحديد؟ كيف يلبسك قمصانك المنسوجة منك، و المدبوغة بجلدك، كأنك أنت نولها، و حياكتها، و مكوكها! أنت عظيم علي ما يبدو،

[ صفحه 94]

ولكن العظمة هذه - كما يبدو أيضا - جاءت بها التحاديد الي مفاوز ما جمعت عليك الشعاع أكثر مما كسرته تكسيرا - فاذا أنت قطعة من فسيفساء هي لك من زخرف الشام - صناعتها المزركشة - و اذا أنت من بلورات الأرض انعكاسات تشرب النور ملونا بكل ساعة من ساعات النهار:فأنت مع الصبح شعاع لطيف يفتش عن منديل مقصب يلف به عنقه - و مع الظهيرة كابوس شمس يفتش عن ظلل و مع ساعات المساء و شاح يفتش عن قيلولة يغمرها حتي ينام بها في حضن حبيب - يا للدنيا بين راحتيك - حضنتها و حضنتك علي عشق متبادل، جعلتك منها، وجعلت ذاتها منك في اشتقاق مهووس، ملطوخ الشفة بالشفة، و العطف بالعطف، كأنكما واحد لمل‌ء المكان، و كأنكما رقاص ساعة لجعل الزمان قينة تغني للزمان - أنت حيرة علي القرطاس امامي - آخذك بنفس ملي‌ء بالاندهاش، ثم لا اعتم أن اغمض عيني علي و هن يردني الي خديعة فيك، يقع بمثلها النظر، و هو يقيس مسافة في الصحراء بين كثيب و كثيب، فاذا الرياح تمحو كثيبا من هنا و تلاشيه، بينما تصنع هناك من الثاني خمسة كثبان. هل كنت هكذا تتناول قميصا اخضر، ولا تلبسه الا و قد انهل منه عليك عباءتان: واحدة بلون الليل في شعاب مكة، و اخري بلون النسرين في ربي الشام؟
لقد ولدت في مكة و ربيت فيها بين يدي أبيك أبي‌سفيان - لقد كان يشكل علي أبيك التفريق بين العزي و مناة، أيهها هو الاله الا قدر في عملية الخلق والتكوين، و كان يميل الي هبل في تسليمه قضية ادارة الكون و فك احاجي الوجود - لهذا جاء الاسلام و لم يسلس له عود في تقبله دينا يبعثر كمية من الأصنام بعدد أيام السنة كانت تترصع بها الكعبة، فوق كل لطوة من لطواتها حجر قائم يمثل بضعة من اله - الا أنه كان لأبيك أن يؤخذ ببهر كلما وقعت عينه علي غزالي مكة المحبوكين بخيوط الذهب - لهذا سلمك قوسا و علمك كيف توترها لتصطاد كل غزال محلي بقرنين صافيين من عسجد، و بخصرين ناعمين أبيضين بلون الفضة، و بذيلين منسوبين فوق فخذين انيقي اللمس كأنهما عجينة مطيبة بالكافور - و بعينين مكحلتين نائمتين علي حبتين من ماس هما شهوة الدنيا الي الجواهر و اللؤلؤ.

[ صفحه 95]

لم يكن شحيحا عليك علم أبيك: كيف تؤخذ الدنيا و كيف تحلب و كيف تنصب الشراك للغزلان من حبال السراب حتي تجري سريعا الي المناهل فتقع دون أن تشرب. لقد كان لك جد أيضا نقل اليك تلقينا كيف تأخذ الخيط من مغزل جار لك فتفتل به حبلا تشنقه به، ثم تأخذ المغزل و كل الخيوط التي تكون عليه - انه أمية جدك الحاقد علي عمه هاشم، المكني بعمرو العلا، و المكني بهاشم الثريد - هكذا تقول الملح في سير العرب، في تزاحم القبائل علي الغنم أو علي مراتب الزعامة... هنالك ملحة أيضا تذكر عن منافرة وقعت بين جدك أمية و عمه هاشم، في أيهما أكرم و أسخي و أسمح - و هي صفات توفر الزعامة عند رؤساء القبائل - و لقد افضت المناقرة تلك الي اقامة حكم يفرض الحكم و ينفذه علي أن ينفي الخاسر عن مكة الي الشام عشر سنين.... و نفي جدك أمية الي الشام عشر سنين،و لما رجع الي مكة، بقيت الدار في الشام باسمه - من هنا يعلق المراقبون: لما عينك الخليفة عمر واليا علي الشام، جئت و لم تبحث عن دارة تسكن فيها، رأسا وصلت وحللت دارة جدك - لقد نزلت توا في السرير الذي كان ينام فيه، و كانت الوسادات من حرير الدمقس، محشوة بصوف من وبر الابل، و كانت الجدران مطعمة بالرسوم الملونة، وكانت الغزلان مشبوحة عليها كأنها تحت وطأة المطاردة، أو كأن عطشا يطارها مشدودا بالسراب.
فليسمح لنا أيها السيد أن نبدأ - ان الملامح التي سيقت في هذه النبذات القليلة لترسم فيك، لا يجوز أن تبقي هكذا ملفوفة برموز و اشارات، بل ان الانطلاق منها، و التوسع فيها، هو الذي يخدم الموضوع الذي نسوقه، ليس اليك، و أنت قد لففت بأربعة عشر قرنا من الغياب، بل الينا نحن الآن وقد لففنا بك بحقيقة الاستمرار. فان كانت الأمة قد أصابت منك هدفا أو تحقيقا لصالحها أصيلا، فيا ما أطيبك في حقيقة الذكر، و ان تكن - عن يدك - قد خذلت في أمانيها، فما احوجنا الي عتب و لوم نقاضيك بهما - لا للشماتة أو الانتقام، بل لتقديم تصحيح تستقيم به أيامنا الطالعة في التمني لأن يكون الخير في الأمة هو نبراسها الصادق في الحياة.

[ صفحه 96]

ما من شك - أنه اقرار من التاريخ فيك - ان فيك ذكاء رفع فيك العقل الي مرتبة مميزة التصنيف، لهذا فأنت ادهي العرب علي ما يقال - بقطع النظر عن تحدير ماهية الدهاء، و ما هي شروطه الصحيحة لأن يكون - أولا عقلا، ثم يتحلي بالصفات التي يكون الدهاء واحدة منها. بهذا الذكاء تم لك بروز الي الساحة،و بهذا الدهاة الذي تحلي به ذكاؤك، ستكون لم مراحل في البروز، تقتنصها من كل المستجدات التي كنت تزرع الساحة بها، لتقطفها أينع فاينع - ما من أحد أنكر عليك جديد الابتكار في الاستحضار - فأنت فذ بين الرجال - أنت من الصف الرفيع الذي يعرف كيف يسوق الريح و يلفها علي دواليب النواعير.
و لكن... هل أن الذي رجحك الي الساحة هو فقط ذكاؤك، أم أن هناك خطا سياسيا تمت عليه اللعبة الصامتة؟ اسمع يا سيدي، قد يجوز لكل واحد منا أن يكذب علي نفسه - ولكننا لا نقدر أن نكذب علي التاريخ - ان التعليل الصحيح لا يسمح للتاريخ أن يكذب، و ان كذب، فان المنطق يقاضيه ويرده الي صواب. ما من أحد حتي الآن - رغم عبور الاجيال و امتصاص الأيام ساعاتها و ثوانيها - شك بصدق ابن‌الخطاب و ابي‌بكر في خدمة رسالة الاسلام، و لكن نيتهما المبيتة في التصرف دلت اليهما بوضوح، انهما يرفضان تسليم النبوة و الخلافة لبيت واحد، هو بيت الطالبيين - لهذا كانت الخلافة لقرشي آخر، هو بحكم الطبع غير طالبي.خمسة و عشرون فخذا هم بنو قريش - ان فخذ الأمويين علي الأقل، هو المريد الأحقد و الأصلب في ابعاد النفوذ عن بني‌طالب - الجد «أمية» الذي نوهت عنه منذ قليل بملحة من الملح، هو الذي يعيش دائما فيك أيها السيد، و ان نية الخليفتين: أبي‌بكر و عمر، هي أيضا قد استندت علي ذكائك في تمثيل الخط السياسي المعين الذي يقطع الوصل بين الخلافة و النبوة، و يجعل الخط مفتوحا أمام كل بني قريش، ان القبائل في العصر هي التي تريد - أما النبي الذي كان يتمني: فنا حياته علي الأرض كانت قصيرة و غير كافية لتحقيق الأمنية.
هنالك سند آخر جاءك درعا جديدة منعت بها صدرك في ساحة الصراع -

[ صفحه 97]

انه الخليفة الثالث، قريبك من بني‌أمية - عثمان بن عفان، لقد آزرك و وسع لك الولاية علي جميع أرض الشام، و من حدود فلسطين الي أبعد من حمص، و كسح لك حدود البحر، و أوصلك الي القاعدة قبرص - لقد افسح لك كل مجال في التثبيت، حتي يكون علي يديك بناء ملك لا بناء خلافة، تتناوله مركزا لك و للبيت الأموي، في القضاء نهائيا علي كل أمل يختلج به صدر طالبي - هاشمي، لقد توسم فيك أبوبكر و عمر ذكاء تتسلم به دائرة الشام، أما عثمان، فانه وثق بك الي أبعد الحدود، بأن فيك ذكاء تتصرف به الي درجة الدهاء، و آمن بك طباخا ماهرا تلعب بكل نار تحت أي قدر - و تحصد الدنيا الي بيادرك التي هي بيادر بني‌أمية.
- 3 -
منذ ربع قرن و أنت في الشام: في سندس من غوطتها، وفي ينع من ثمارها، و في مرح من سهولها و مروجها و مجاري انهارها - لقد كانت كل خيرات الأرض بين يديك، بحكم ولاية مكنتك منها سياسة عمر بن الخطاب في تحرير الأمة و صيانة مواردها، و تخليصها من النير الروماني المستعمر المستبد، و قد لبت الشام سياسة الخليفة، و سهلت عمليات الفتح و التحرير أمام خالد بن الوليد و أبي‌عبيدة بن الجراح، لا لأنك أنت ستكون الوالي عليها، ولا لأن جدك أمية قد نزل فيها مدة عشر سنين - كما تقول الأحدوثة - ثم انسحب مخلفا لك فيها دارة فسيحة و مركزا قاعدة ثبت أنت له الأركان بذكائك المستحق - بل لأن السلسلة الطويلة من الجدود الأقربين و الأبعدين، و آخرهم المصريون و الحميريون، الاسماعيليون و القحطانيون: القرشيون و البكريون و التغلبيون و التميميون، الأوسيون الخزرجيون الأزديون و الكلبيون و اللخميون - و كلهم المنداحون فوق أرض الشام، و فوق أرض العراق، الحاملون الاسم و النسب، و الأرومة العربية، و المشتركون منذ آلاف السنين بعمارة الأرض، وزرع البساتين، و تنظيم الري، و انشاء المدن، و تأسيس الحضرات. لقد جاء الاسلام من أرض بجزيرة الأم، ليجمع الأم الي أبنائها المنشورين هنا و هناك.

[ صفحه 98]

منذ بداية تكوين الانسان فوق الأرض المفتوحة أمام عزم المتنقلين وارادتهم في ترجمة الحياة التي تجذر الانسان في التربة المعدة ميدانا أبديا لعلوق الانسان.
ليس في القول هذا انتقاص منك أيها السيد، فالشام ما كانت أبدا ملكا لك، بل كانت تلبية لنداء طلبها الي التحقيق فلبت، كما طلب العراق فلبي، و كذلك مصر أو المغرب العربي، ما ساء أبدا خط الرسالة، رسالة التوحيد - لقد كانت لكل القبائل - فكما وحدت بين الأوس و الخزرج، كذلك وحدت بين الخطين العريضين، خط مضر و خط حمير - و الخطان الموجودان اليوم في الشام، قد تضافرا أمامك كوال، و قدما لك النجدة الكبيرة و العريضة لتثبيتك واليا مقتدرا. ان الرسالة - و الحالة هذه - هي التي جمعت لك السلطان، فأنت باسمها أصبحت تفعل، ولقد تمكنت بها حتي الآن من جعل الحميريين متناسين احقادهم القديمة علي المضريين - أو علي الأقل مجمدين في عدم اثارتها فاعلة،لأن الرسالة قضت بذلك، و لأنه ليس من مصلحة الوالي الذكي، أن يذكي نارا تحرق له طبخة لذيذة هي الآن تتقلي في القدر.
ان المهمة جليلة أيها السيد أن تمتن اللخمة بين خطين من خطوط القبائل التي يقوم عليها كيان الأمة، ان تلفهما الي حقيقة اجتماعية بناءة، هي رمي السهام كلها عن صدر الأمة لجمعها كلها لصيانة الصدر الذي يخفق فيه قلب الأمة - هكذا الرسالة بنظرها الي الحقيقة، راحت توحد بين جميع القبائل و البطون و الأفخاذ - و لقد قدمت المثال في التوحيد و الموآخات في يثرب بين الأوس و الخزرج، و أنه لمن الايجابيات أيضا أن يكمل الوالي سيرا في الخط الذي مهدت له الرسالة بنظرتها الأصيلة الي الوجود و الكون. ألم تكن منصبا في الشام واليا باسم الرسالة التي تبحث بأمر الانسان الذي هو حقيقة الوجود و الكون؟
يطيب لي الآن ان أنوة عن حدثين متوازيين في الاداء، مرا عليك في ذلك الحين،و كيف ننظر اليهما نحن الآن، بعين العصر - ان الحدثين المتوازيين هذين، هما شخصان حمل اليك كل واحد منهما رسالة: الأول هو بشير بن

[ صفحه 99]

المنعمان، و الرسالة التي كان يحملها كتبت بحروف مدقوقة علي نول، فواصلها خيوط مكوك، و حبرها دم مفجور من وريدي الأبهرين، أما الفكر فيها فتعبير عن ثورة، قرأتها أنت: جريمة اغتيال، أنها مشهورة رسالة بشير بن النعمان -اليست قميص عثمان؟ ملوفة فيها أصابع زوجته نائلة، التي قطعت اذ مدت لوقاية صدر الخليفة من ضربة السيف؟ لقد تلقيت الرسالة و جعلتها راية منشورة فوق المنابر. أما الرسالة الثانية فلقد حملها اليك - بعد برهة أخري - جرير بن عبدالله البجلي، يطلبك فيها الخليفة الامام علي لاجراء لقاء يتم فيه صلح تحقن به دماء المسلمين. و لكنك لم ترد أن تقرأ رسالة جرير، لأنها كانت في نظرك - علي ما يبدو - سخيفة التعبير. أما نحن الآن فلنا أن نفسرك أنت، و الرسالتان بين يديك، بأي عين قرأت، و بأي اذن سمعت، و بأي قصد طويت رسالة و نشرت أخري، تاركين الحكم لك أو عليك الي مجري الأحداث التي يأخذها التاريخ الي خانة النتائج التي تتقيم عليها عمليات الحساب.
ان الرجل المقتدر الذي هو أنت، عرفت كيف تتسلم أزمة الأمور، و كيف توجهها للوصول بك الي حيث أنت تريد - لم تفتك السوانح، لقد كنت تعرف كيف توجه دواليبها مع الريح، و لقد وافتك طائعة المجري - هل أنت بذاتك جعلتها طائعة؟ و كنت تتمكن ان تجعلها هكذا طائعة، بفيض من موهبة لك و ذكاء - أم أنها انقادت اليك و لك، مع طيب حظك و سعد نجمك؟ كل ذلك قد كان لك علي مدي خمس و عشرين سنة في ظل ثلاثة خلفاء متعاقبين علي الحكم في دنيا المسلمين، و كان لثلاثتهم تحقيق في سبيل الأمة و تحريرها، ألم تحرروا أرض الشام من عبث و تسلط قياصرة الروم، و سهلوا لك، بكثير من اليسر، وصولا الي ادارة حكم أرض هي درة في الشرق، و هي موئل من الموائل العظيمة التي هضمت كل موجات القبائل العربية، و لا تزال تهضمها و تحولها ماهية انسانية عظيمة القيمة،و عظيمة الحضارة، و عظيمة التاريخ، و عظيمة الانسان - انها كلها - هذه الأرض - ممدوة من أقصي الشرق من الخليج العربي، الي أقصي الغرب من حدود المتوسط، علي طول الخط الجنوبي الصحراوي من الجزيرة الأم، أما أنت فلقد خصصت الشام لك بالولاية -

[ صفحه 100]

الشام القلب، والشام الرئة، و الشام السهول، و الشام الجبال، و الهواء و الظل، و قسم وفير من الجد الموصول بمجد دجلة و الفرات... تسلمت الشام ورحت تديرها دون أن يعكر أحد عليك أي مجري من المجاري، لقد لبتك كل القبائل، اكانوا مضريين أم حميريين، أكانوا اديرة أم قسسا رهابين، أم مواطنين صامتين عاديين، أم فلاحين زراعين كادحين، أم تجارا بارعين ينقلون انتاج الأمة الي كل صقع من أصقاعها، توزيع خير، و توزيع انتاج، و توزيع رفاهية - لقد سكن الجميع اليك، و وفروا الربح لك، و حققوه ظلا لعيالك، و بيوتك، و قصورك، و حققوه منعة لجيشك، و سيفك، و نبلك، وقوسك.
انها الحقيقة في القصد - علي ما يبدو - فأنت ما جمعت هكذا الشام الا لتكون لك الشام في حقيقة الملك، لا لتكون الشام من مجهودك لأي خليفة سواك. لقد كان كل ذلك وضوحا في مسراك. أما أن يموت عثمان، فلست أنت لتدافع عنه، بل لأن يكون موته دفاعا عنك أنت بالذات - أما ان يطلبك الخليفة الجديد الي صلح - فأي معني لذلك؟ فأنت لا تطلب صلحا، بل تطلب ملكا يخسرك اياه الصلح الأعور... ان تطلب ثارا لعثمان، فذلك أيضا هو مرانك في عمليات الدهاء - فالملك لا يثبت الا باسم المسلمين، باسم الرسالة التي هي الآن جامعة لكل المسلمين - و أن تكن أنت من الطلقاء - و أن تكن الأخير في الادعاء انك مسلم،فأنت الآن في المركز المربوط بحقوقية المسلم، و أنت أيضا من صلب قريش، و أنت في المركز الممتاز الذي ثبتته لك الموهبة، و أنت الداهية الذي تعلم طويلا من أين تؤكل الكتف، و انت المتمرس الحصين، و أنت الرجل الكف‌ء في اكتشاف الثغرات، و في كيفية سدها حتي لا تكون فراغا.
هل قتل عثمان بثورة؟ أم قتلته يد مجرمة حركت علي ثورة؟ سيان ذلك أن تعتمد علي تحقيق، أم الي رمي تهمة - ان نقضك الصلح كاف لتوضيح القصد، بأنك جعلت عثمان لك و لم تجعل نفسك أنت لعثمان، و أن يكن قد مات، فهنيئا له أنه قد مات مخلفا لك الساحة الوسيعة التي هي الآن قاعدة لك، صرفت العمر كله و أنت تشتهيها، ولن يشتهيها أحد سواك.

[ صفحه 101]

رفعت المصاحف - يا لعمرو بن العاص - انزلتها الي ساحة العراك - عجبا... و لم تستنطقها بحرف.... يا للدنيا، كيف تطيع بين يدي طالبها، و تلبية بالخديعة الكبري! هل هكذا هي أركان الدنيا؟! تشبع الخادع بخديعته؟! و تجعله أخيرا يلتهم ثدي أمه بعد أن يكون قد امتصه - عافية - قطرة قطرة؟!
ما هكذا الدنيا - علي ما أري - و اعشقها مليئة بالجمال. يا ليتك استنطقت كل حرف من حروف المصاحف - لقد كانت أرضتك بأنك عظيم، و بها ساعتئذ عظيم. لقد كانت أوحت اليك أن العظمة صفة في الانسان، يلتقط بها من جدية الحياة - يجمعها من زخرف الأرض، و من تراب الأرض، ليجمعها زهرا، و ليجعلها أريجا،وليجعلها ثمرا، و ليجعلها روحا منسوجا من قدسية التراب، لقد كانت علمتك بأن الدنيا لا تطيب - و الحالة هذه - الا اذا ازدهرت بحقيقة الانسان، و ان الدنيا ارتفاع القيمة من جوهر الانسان - و القيمة هي المثل العليا التي تفرق بين الحيوان و الانسان - لقد كانت أوحت اليك أن الدولة التي نمقت حواشيها في الشام هي الدولة الحديثة، و ان تكن أنت قد أخذت لها طرازا من وحي حكومات بني هرقل - فانما هم قد استرقوها عن اجدادك القدامي القدامي، الذين علموا الفرس و الا غريق الحرف، ورق خشبة المجذاف، وتنسيق الري في السهول بعد أن جففوها من الوحول، و عمارة المدن و تنسيقها بالشوارع - لقد كانت أوحت اليك أنك عظيم تعمل علي بناء الأمة من جديد، لتكون ملحومة بكل قبائلها حتي تصير أعظم أمة يتباهي بها فوق الأرض - لقد كانت أملت عليك مد يد كريمة الي اليد الكريمة الثانية التي تطلبك الي الصلح حتي تشد أزره، ويشد أزرك في الألحام، و في تجنيب الأمة و يلات الحروب و الصراع بلا جدوي انصرافا أكيدا عن حقيقة البناء.
انني لا أزال احتار فيك أيها السيد - يا كتلة من دهاء، و كتلة من ذكاء، كيف أنك لم تصغ الي آيات الرسالة البينات، و تركت الساحة تخلو منك بريئا، لتتشبث بك متهافتا علي ملك الدنيا و بهارجها، و حصرها في زوايا بيت أموي يفصل نفسه عن بيت ملاصق له هو بيت طالبي.

[ صفحه 102]

ستشاهد بأم عينك أزاحة خصم لك من الساحة المريضة، علي يد ابن‌ملجم... أتراه - علي - غاب مسهلا لك الوصول؟ ولكنه لا يغيب، طالما أنه حرف جليل في حقيقة المصاحف التي احتميت بها في صفين - لقد سمعته ينطق بالحرف ذاته في مدينة يثرب علي أيام عثمان بن عفان. لا نزال نحن الآن نسمعه يحاضر في ساحات يثرب عاملا - مع ابن‌عمه عبدالله بن العباس - علي انعاش الطاقات الفكرية، غائصا في الفلسفة، والمنطق، والحديث، والبلاغة و الفقة - انها المواد التي تتألف منها حقيقة المصاحف - انها القوت الغزير المكثف، والمركز الذي يتملي منه العقل، و تزدهر به مجتمعات الانسان ان بها تلقيح الدنيا، وتجميلها حتي ترتفع بها الحقائق الي ديمومة ترسمها لها مجاميع القيم.

[ صفحه 105]

اي كرسي هو الحكم

المواجهة

لا بأس من اعادة الكرة في التلميح الي ما سبق البحث فيه، ليس ذلك الا طمعا بالتوضيح و التركيزژ: أية لحظة من لحظات عمر الحسن لم تكن وقوفا به - وجها لوجه - أمام معضلة وجودية، ما تحمل و طأتها الا و بنته - بالمقابل - بناء نفسيا عميقا، و ألقت عليه مسؤولية جديدة الطراز، و ثقيلة المعاناة؟
وجها لوجه كان ينام في حضن جده الحنون، يتنقل علي زندية من كف الي كف، و من ضمة الي قبلة، و من لفتة مفتحة العينين، الي استغراقة غائصة في كل مداها.
وجها الي وجه رافق خطوات جده العظيم في البيت، وعلي الدرب المؤدي الي المسجد لوعظ الناس، والصلاة فيهم صلاة التبرك بالحق، و التمرس بالايمان الذي يحرر من البغض، و الحقد، واجبن عن السير في تنقية النفس من ادرانها الوبيئة.
وجها لوجه - أمام نفسه - عندما تجاوز سن التمييز الي سن الرشد - ادرك المقاصد، و فهم المداليل بأنه وريث أنيق و مسؤول في امامة ستتصل به عن أبية، بعد أن يحرز لها عصمة منها، تؤكد له حكما موصلا الي تركيز الرسالة مادة فاعلة في رفع سوية الأمة، و توسيع الميادين لها بحقيقة التقرير.

[ صفحه 106]

وجها الي وجه شاهد تمثيل جميع فصول المأساة في تغيير الاتجاه الملحوظ في اسناد الحكم - بالتعيين - الي شخص مثقف بالرسالة، مبني مسبقا لضبط سيرها، و عدم الشط بها عن مجراها القويم. لقد كان ذلك من فرط حيطة النبي الكريم، في اقتراحه نظاما جديدا لضبط الحكم، و دفع الرسالة الجديدة بهذا الحكم، ليكون جديدا من نوعها - ألا و هو نظام الامامة الموسومة بالعصمة، تمكينا لحاملها بالمسؤولية الفريدة من نوعها في تعهد الرسالة حتي لا تحيد عن مضامينها، أن التمرس بالصفات هو القمين علي استحضار المناقب التي يتم بها الحكم، والتي هي - وحدها - المادة العظيمة التي تبني الحاكم، وكل مسؤول في الادارة الاجرائية و التنفيذية التي ترعي هذه القيم و توزعها علي المجموعات الواسعة التي تتألف منها الأمة. يعني ذلك نشر لثقافة عامة، نظيفة، منذ البداية، تجمع بالحق، و توزع بالعدالة والمساواة، و تطيب النفوس بالتقوي و الورع، و تقضي علي الفقر الروحي و المادي علي السواء، و توحد المجتمع بالشعور النبيل الذي يقضي علي الحرمان، دون التسابق الي احراز زعامات قبائلية قديمة العهود، لم يعد بحاجة اليها الانسان الجديد الناشي‌ء في حضن رسالة جديدة عنوانها: الاسلام و التوحيد.
يمكن القول - اختصارا في التحديد - ان اقتراح نظام الامامة يبعد الأمة عن عمليات انتخابية لم تصب بعد منها حظا حضاريا موصلا الي اصابة. أما المبايعة فلتكن للامة، اجماعا منها، بقبول الرسالة التي قدمت الجديد الجامع، و قدمت الامام المصطفي معبرا عنها في حقيقة التمرس بالفهم و الرشد، فلتكن اقتناعا منها بأنها وحدت مساعيها مسبقا دونما حاجة للرجوع الي التنافس علي مراكز السيادة التي كانت تتوزعها القبائل و تضني بها في تقاتل كان يرميها في الفقر و الجوع و البغض و الحقد، و البعد عن أي تحقيق انساني تجد ازدهارها فيه مجتمعات الانسان.
قد لا أقول بالامامة نظاما أبديا، يرافق الانسان في جميع مراحله التقدمية في الحياة - أنه ليليق للمجتمعات التي تصيب شوطا محترما من الحضارة

[ صفحه 107]

و الثقافة، أن تبتكر أنظمة و دساتير تعبر بها عن كل جديد لها في الحياة، يوصلها الي أوفي، و الي أسمي و أرقي - و لكني فقط أتساءل: لو أن نظام الامامة حظي بالقبول، و رأسا جاء الامام علي الي مركز الخلافة بصفة الامام، اجل - الامام علي - الرجل المصطفي، الرجل الأول الذي اعتنق الاسلام، و الذي لا يزال الاسلام حتي اليوم يقول عنه: رضوان الله عليه، و كرم الله وجهه - تري، لو أنه قبل اماما خليفة - أي بالتوصية الي تغافلوا عنها - أكانت قد تغيرت مجاري الأحداث، و آل بها الاستقرار الي تثبيت رزين، و بناء عفيف، و ترسيخ ما كن؟ ألم يكن الامام علي موازيا لعظمة الرسالة و صدقها في بناء المجتمع، و دعمه بالصواب؟ ألم يكن القبول به مبايعة اجماعية له، دون استشارة القبائل و انزالها الي حلبات الصراع التي كانت تقتل المتصارعين و لا تجمعهم الي صواب؟ افترض ذلك و أنا أسمع صوتا من هنا أو من هناك: - و لكنه وصل الي الحكم، فهل نجي من قتال؟! - و لكنه لم يصل أبدا الي الحكم، بل ان الذي وصل اليه هو المرض الذي ينتج من حوملة القتال - اثني القول الذي بنيته علي افتراض: لو أن عليا قبل فاتحة في النظام، لكانت تبركت به الأجيال، و لكانت ترفض التخلي عنه، كما أنها لا تزال ترفض التخلي عن الاسلام الذي يجمعها كلا، ويجمعها دينا و دنيا، و يجمعها عالما يرجح به الغد الكبير.
و كان للحسن أن وقف وجها لوجه أمام أحداث جسام كشفت أمامة - بالتدريج - واقع البيئة التي عاش فيها جده العظيم، و أبوه الذي عاني و طأة الجهاد، فاذا هي بيئة التي مفتوحة فوق أرض فسيحة الأرجاء و لكنها مشوية بالبراكين، تتلاعب بها الريح ذريا للرمال، فتعلو أبدا كثبانا، ثم تنبري مخلفة لججا يطمو عليها السراب دون أن يطفي‌ء لها ظمأ - واحة هنا و واحة هناك لا يطول لها أمد، و لا يتسقر بها خصب تظلله سماء - فواصل فواصل مزروع بها المكان، بين كل حقف و حقف فجوات مستطيلة من فدافد تملأها الشمس بالحرات

[ صفحه 108]

و لا تقطعها الرواحل الا في لطوات من حلك الليالي المستضيئة - ابدا بغوامز النجوم
لقد انتشرت فوق هذه الأرض ألوف القبائل: تتوزعها المساحات و المسافات، في طغن دائم مشدود النعال و مشدود الرحال - و لقد كان الرحيل يلعب بها كلما اشتد عليها ضيق المكان - لا بمساحاته المترامية الاطراف، بل بشحه الأغبر، و رماله السمر الحمر - اللهم الا جنوب سعيد - اليمن - كان تعويضا حلوا، وان يكن زهيدا بالنسبة الي مدود طويلة تأكلها الأحقاف، و ترتج بها رياح من سراب. هكذا كانت تتجمع القبائل افواجا أفواجا، و تنداح متسربة في انسيابات كبيرة الي الجهات الأربع من حدود المكان - والجهات الأربع تعني بالضبط، كل ارجاء العالم العربي، لقد دمغته عربيا كل هذه الموجات الفائضة و المتسربة من أرض الجزيرة الأم، عبر آلاف السنين، من خلف الليالي الطوال،من خلف حدود التاريخ، من صلب وجود القبائل المنتشرة فوق أرض الجزيرة، من حدود حاجة الانسان الي زرع نفسه في الأرض التي تفتش عن الانسان لتتبناه.
كل هذه الأقطار التي توصل اليها النزوح، و التسرب، و الانسياب - كما يحلو للوصف أن يسميها - هي انفتاحات جغرافية موصولة المكان بالمكان - عبر البيد و الصحاري - و موصولة الزمان بالزمان - عبر الأيام و الليالي - انها كلها، سجل حياتي لمآتي هذا الانسان، في عملية موحدة الانسياق، و موحدة الاخراج، و موحدة الاسلوب، جمعها المكان - و جمعها الزمان، و جمعها النهج في التفتيش، و سيان ان كانت أقطارا لعدة أمم، كما يقول العلم في تقسيم بيئات الأرض، أم كانت أمة واحدة، كما تشهد لها غزارة الانسيابات من المصدر الواحد - فهي بالنتيجة الحتمية، حدود تكميلية للعالم العربي. الذي تجمعه الي ذاته وحدة في الأصل، يشهد لها المكان، و يشهد لها وسع الزمان، قبل أن تصبح تاريخا جليل الفهم،و فصيح اللسان.
هذه هي البيئة، بيئة الجزيرة العربية التي كانت - رغم حدودها الكبيرة

[ صفحه 109]

الكبيرة - صغيرة صغيرة، حتي تكاملت فاصبحت جاهزة للتلبية. تكاملت بالاندماج، تكاملت بالانسياب، تكاملت بالتفتيش عن ذاتها الحائرة!!! و لكن الرسالة ذات النزعة الانسانية في الاسلام هي التي جاءت في حقيقة التكميل الوجودي لهذه البيئة الحائرة علي صفحة الأرض لتضمها الي حقيقة الوجود، و هذا هو دور الاسلام في اعادة فتح مجاري الحياة في العالم القديم كله.
بهذه العين الوسيعة ألم النبي العظيم بحدود الأمة النائمة غافلة عن كل امكاناتها المطروحة علي ساحات الأرض. لقد انحصرت كل اهتماماته في كيفية جمع هذه الأمة الي حقيقتها، لتصبح فاعلة و حاضرة الوجود. أن يحمل الرسالة، و ان يبلغها، فمن أجل هذه الأمة بالذات، حتي يجمعها، و يوحدها، و يجعلها قوية فاعلة. لا وايم الحق، لم يغرق الرسول العميق الفكر و الرأي و الخيال، في خلواته الروحية الصادقة الذات، من اجل تحديد علة الوجود، و صيانة حدود الله جل جلاله - و حسب - ليس الله العزيز الحكيم، بحاجة الي تحديد، بل نحن بحاجة الي التبصر به: فهو المطلق العزيز عن المثال، و هو الشمول الذي لا يلمس له حد في بداية، أو حد في نهاية - انما يكون ذكر اسمه تمثيلا في اجتباء الحق، و اجتذابا الي منازع الخير، و اقترابا من منابع القيم، و كلها مفومات فاعلة في بناء الانسان المجتمعي الذي يبنيه الصدق، و العدل، و المعروف، و يهده الكذب و الجهل و كل أسباب التخلف، و هي - هذه الآفات - تعيش في المجتمعات البدائية، و لا تسير بها خطوة واحدة الا الي الوراء الذي هو ضعف، و خمول، و حيرة في وجود الانسان.
تلك هي رسالة النبي الجليل، بناها علي الايمان بالله مصدرا مفتونا بالحق و الخير و المعروف، و هو المصدر الذي يجب أن يغلف الأمة لتكون عظيمة بمصدرها العظيم، لأن المصدر هذا هو الحياة، هو علة الوجود، هو استحقاق الأمة المفتشة عن ملاذها.
من هنا يكون الانطلاق الرحب في جعل الأمة تدمج المكان بالزمان، و تلونه بقيم تتفتح بها علي ميزات رسالية حضارية تجعلها عالمية في قدسية

[ صفحه 110]

الشوق، تتآخي بها في الساحات الوسيعة علي صفحة الأرض - و من هنا أيضا كان لرسالة الاسلام التي انطلقت من أغوار هذه الأرض المشرقية ريح ناعمة الحواشي بالحب و السماح و المعروف، وتعشق الخير، والحق، والعدل، و المساواة، مما جعل تراب الأرض كلها ينعجن بها غذاء و حضارة لمجتمعاتها، و اذ تتخلي عنها قيما ييبس بها الوجود في انخسافات وحشية همجية لا يخلصها منها الا رجوعها الي الدائرة الرسالية الملونة بريح هذا الشرق الكريم.
لقد واجهت الحسن كل هذه الحقائق التي املت عليه هذه المعاني، و هذه المقاصد، و هذه الغايات، لتقف به - وجها لوجه - أمام مسؤوليات جسام ألقاها عليه جده الكبير بالوصاية المختومة بحقيقة الارث الذي هو - بمجرد الحق - قيام علي فهم الرسالة فهما أصيلا، و قيام علي تعهدها، لتستمر صاعدة نحو مؤداها و مرماها، و من أجل هذه الأمة المطلوبة الي التحقيق، ولن يكون التحقيق عظيما الا من خلال الأمة العظيمة، و لا تحصل العظمة الا من وحدة المجتمع و تكامله، ووحدة الفكر، ووحدة التطبيق، ووحدة المصدر... و كلها وحدات يؤلفها العقل و الوعي في الانسان.
- 3-
من أبلغ المواجهات التي جاءت بانطباعاتها و حفرها في نفس الحسن، وصول الحكم الي أبيه وصولا ممهورا بدم عثمان. أية ثورة هي هذه الثورة المريضة التي عرت عثمان من قميصه، وحذفته عن كرسي الخلافة، لتشد خصرها الآن، و تأتي راقصة بثياب «الحمس» أمام علي بن أبي‌طالب، تستحثه للنزول الي الساحة المعمية بالعجاج: عجاج الغبار، وعجاج الناس العور الذين لا يعرفون كيف يتنفسون الا بعد أن يختنقوا بالغبار الذي يكونون - هم - قد أثاروه - أين كان الاوسيون و الخزرجيون حتي يأتوا اليوم - بعد خمس و عشرين سنة، ليتعرفوا الي فتي الساحة، و يطلبوا نزوله الي حلبة الصراع؟
باسم الأوس و الخزرج،باسم الأنصار باسم القبائل الخاسرة مركزا

[ صفحه 111]

للزعامة، باسم الخط الحاقد و الرافض القبول ببني حرب ممثلين بمعاوية، جاءت الثورة تحذف ابن‌عفان، و تتعلق بذيل ابن أبي‌طالب، لا لتنظيف الساحة من الاعوجاج، بل لحذف بني أمية من الساحة. ان الرسالة بالذات - منذ المبتدأ - منذ دخولها الي ساحات مكة - لم تر صوابا أن تحذف بني أمية من باحات النصر، بل أرادت أن توحدهم في عمليات الاندماج، حتي يكتمل النصر بهم لا عليهم - حتي يكون بهم التوحيد الرائع، حتي يشعروا هم - انهم ليسوا فقط الطلقاء، بل هم أيضا الموحدون في الخط الذي لا يجوز بعد الآن أن ينشق الي مضري و حميري، حتي يتأكدوا - هم الأمويون، و كل الزاحفين من هذه الساعة الكبيرة الي التحقيق المرصود - ان خيطان القبائل هي المجدولة الآن في الحبل المتين الذي يتزنر به في هذه اللحظة بالذات، خصر الأمة الموحدة و الناهدة الي اكتشاف ذاتها في حقيقة الكيان.
لو أن الثائرين الذين حذفوا عثمان، والذين يركضون الآن لتولية الامام، ادركوا فعلا، وهم في يثرب، ثم في مكة، حقيقة الرسالة، و حقيقة جوهرها، لما كانوا تركوا لحظة واحدة تمر عن عتمة الليل، عندما اطبق الرسول جفنه عن متابعة الرؤيا، الا و كان لهم القرار العنيد بالقاء الزمام الي الامام.
أي تأخير طال الي الآن أمده، ينظف الساحة من الأمويين - ولا أعني بالضبط بني أمية، بل اعني بالاشارة العريضة، كل القبائل الذين راحوا يلعبون في الساحة لعبتهم القديمة في التفاف كل قبيلة حول زعيمها للوصول به الي المركز الشهي. ليس وصول معاوية الي حكم يتم بلا التفاف قبلي - ليكون الشد الي زحزحته عن الحكم، مربوطا بالتفاف قبلي معاكس، يتم به النزول الي الساحة، و السيوف مشرعة، و الغبار مثار، و الحناجر مبحوحة: يا لبني مضر، يا لبني حمير، يا لثارات العرب.
لقد شاهد الحسن أباه الامام كيف رضخ للتلبية، كأنه قبل بالهزيمة التي لا مفر منها. ليس في النزول الي ساحات الصراع هزيمة، بل القبول بصراع ليس فيه تحقيق لأية بطولة هو الهزيمة أين هو صراع الامس الذي انتصر علي كل

[ صفحه 112]

قبيلة كانت تنهزم بها جميع قبائل الجزيرة - من صراع اليوم الذي هو احياء الميت و ارجاعه من رمسه العفن الي ساحة النضال؟! هل بامكان الامام الآن أن يتقدم خطوة واحدة من مكانه بلا سيف يستعيره من هذه القبيلة ليضرب به لبان جواد يعتليه فارس من القبيلة المعادية؟ وبالرغم من ذلك تم القبول بنية استخدام الذل للتخلص من الذل - بنية استحضار القبلية للانتصار بها عليها، في عملية تجديد يستفيق بها الغافلون الي حقيقة تركوها تنام، فاذا هي الآن قذي في عيونهم تحرمهم الراحة و لذة النوم.
أجل - لقد شاهد الحسن أباه يقوم الي التلبية، و شاهده كيف التجأ الي الحق يقوم به أسلة رمحه، ولكن الخصم الذي كان يلوح بقميص عثمان - لم يكن اذكي، و بل كان أمرن في استعمال الدنيا، والين في أخذها بدهاء، وادهي وفي لثم راحتيها و قدميها، و حتي نعلياه - فهي التي كان يرضيها الغزل، حتي الصفاقة في الغزل - انها الدنيا - انها اللحم - انها الدم، انها الشرايين الزرق التي تتغذي بكل احمر مدفوق عليها بلون اللذاذات المنتشبة في ضلوع الوحش... اين هو الامام علي من تناول الدنيا باسلوب عريان من رشاقة الروح و قدسية عطرها؟ من هنا كان لمعاوية استعمال أساليب مبتكرة في جعل الساحة تنساق اليه، من حيث كان متعذرا علي الامام أن يبتدرها، و من حيث كان لمعاوية استعداد مركز في الشام، منذ أكثر من خمس و عشرين سنة، علي هدف مدروس، ولم يكن شي‌ء من ذلك موفورا لللامام و هو المنحي عن الحكم أيضا طيلة المدة ذاتها التي ساندت معاوية الي مثل هذا البلوغ - و فوق ذلك، فان استدعاء معاوية لأية قبيلة حتي تلبيه، كان في نهج الامام مرفوضا، لأنه كان يطلب حكما تسنده كل القبائل الموحدة في الرسالة، لا بعض منها يناجزه البعض الآخر، و يحصل الالتهاء و الغاء القوي، و هدم المجاهيد، و زعزعة البناء المادي والروحي علي السواء.
لقد شاهد الحسن كل ذلك يتمثل علي خشبة المسرح - يتسلم أبوه الحكم علي ضيم، و علي تردد مفجع، لينساق الي مجابهة الأحداث المفتعلة،

[ صفحه 113]

و المصطنعة، و المرمية رميا ذكيا الي الساحة - لقد شاهد الحسن أباه يخوض كل معركة جانبية، بالم و صبر ممضين: من معركة الجمل، الي معركة صفين، الي معارك النهروان - و كلها تهديم لقدرات الأمة التي جاءت الرسالة لتجمعها و ترصها خطا واحدا في عمليات التحقيق الموصل الي مجد الأمة و فخارها.
لقد حقق أبوه الامام نصرا في معركة الجمل، و لكنه - بالحقيقة - كان انهزاما في حقوق المفروطة - و حقق نصرا في معارك النهروان - ولكنه أيضا كان هزيمة نكراء للامة التي اضيعت عن سبلها القويمة، و خسرت رجالها المدافعين عن حياضها - و حققت نصرا في صفين، ضاع بين صفحات المصاحف المحرومة من آياتها الكبيرة الجامعة. لقد ارادها الامام صفا واحدا مشدودا للاسلام و أرادها الآخرون احزابا و أبوابا مفضية الي الدنيا.
لقد حاول الامام أن يمشي الي الوراء حتي يعود فيمشي الي الامام، طمعا باصلاح الخطوط - و لكن الهزيمة بقيت له بالمرصاد - لقد انبتر الخط - لقد كان عزم ابن‌ملجم أصدق في تمثيل مفاهيم الجماعات التي لم تثقفها بعد حروف الرسالة!
وجها لوجه وجد الامام الحسن نفسه - بعد مقتل أبيه - أمام معاوية الذي خطط لكل الأحداث، والذي راح يتلاعب - عل هواه - فوق الساحة المقسومة الآن الي الساحتين: ساحة شرقية قوامها الكوفة و البصرة و ساحة غريبة و قوامها الشام.

جعبة الحكم

وجعبة الحاكم؟ اجل - انها الجعبة التي يجب أن تكون مليئة، يجب أن تمتلي‌ء جعبة الحاكم قبل أن يأتي الي الحكم - و أن تتابع الامتلاء و هو في الحكم - و ان لا تفرغ بل أن تزيد أيضا، بعد أن يترك الحكم - يجب أن يملأها غيابه من

[ صفحه 114]

زخم الصدق الذي يكون قد جمع منه كل مواد الحكم، و الا فانها جعبة كاذبة لحاكم كاذب - و أنها أيضا جعبة صادقة بما يكون فيها من التعبير، حتي و لو أن صاحبها حضرها و لم يصل بها الي مرحلة التنفيذ، فهي له - حتي بعد فوات الأوان - في الانتظار الرائع لعملية التطبيق والتنفيذ، و فالمجتمعات الانسانية تعتمد في تطورها، و تقدمها، وكل تحقيقاتها، علي كثير من المناهج، غاب مقترحوها، و مقدموها، و سانوها، و بقي الكثيرون منهم مجهولي الاسماء و الهوية - و معني ذلك أن التراث الانساني هو - في حقيقة الانسان - توارث مجتمعي لا يفعل الا في صلب المجتمع فعلا تكامليا مليئا بحقيقة الانسان.
اذا كان الحاكم، وهذه هي صفاته، وهو صاحب الجعبة المعدة أبدا للامتلاء - فأي جعبة عظيمة هي للمشترع العظيم و هي تمتلي‌ء بحكمة الدهور، و نعمة العقل المبري‌ء من العقل الأكبر الذي هو ثقل الوجود، و ثقل الخلود في الوجود؟!
علي هذا التحديد التلميحي نركز الاتجاه الي رسالتين تعممت بهما هذه المنطقة العظيمة من أرض الشرق، هما رسالتان موحدتان بالاسلام - جاءت الأولي مكثفة لمبادي‌ء فكرية - روحية - فلسفية - اجتماعية، عاشت بها حضارة السومريين و الأكاديين - الأراميين - الكنعانيين - الفينيقيين المتحدرين جميعهم من أرض الجزيرة الأم، الي الأقطار الواسعة المربوطة بوحدة الاتصال الانساني الموحد المصدر، و المشترك الانتاج و المصير، وجاءت الثانية مكملة لسابقتها بذات الجوهر، وذات المبدأ، و ذات التأثير الفكري الروحي الواحد.
لقد كانت الرسالة الأولي هي رسالة عيسي بن مريم - و امتلأت جعبته بمادة واحدة هي مادة المحبة، ايمانا منه بأن المحبة وحدها هي التي تثقف المجتمع الانساني، اذ تطهره من الحقد و البغض و الطمع، و تطبعه بالخير الذي هو اشتراك في الانتاج الكبير المبني علي الصدق، و علي حقيقة العلم و الفهم، و علي تنقية الذات من غرائز الوحش، و علي ايلاء النفس جمالا روحيا، تعيش به الأرض في ظل السماء - لقد شن حربا - بالمحبة علي كل ميل يعوج بالشر،

[ صفحه 115]

و يكذب باسم الله، و باسم المحبة - فاذا كان لاسرائيل أن تتعصب و تتزمت باسم اله لها أسود العينين، و محروق بهشيم من عوسج، فليكن لها من جعبة عيسي منديل يمسح العمي عن عيون المتعصبين المتزمتين، المحملين الناس احمالا ثقيلة و لا يمسونها - هم - باحدي اصابعهم.
لم يجلس عيسي علي منصة حكم - و لم يطلب عرشا و لكنه زلزل العروش القائمة علي غير المحبة والعفاف، و حكم الأرض كلها باسم الاسلام لله بشريعة الحب - ان جعبته التي هي مليئة بالحق و الصدق و الجمال، ما زالت حتي اليوم تمتلي‌ء - بزخم منه - هو زخم الحق الجميل الذي تحيا به مجتمعات الانسان.
و لقد جاءت الرسالة الثانية، هي رسالة محمد، و امتلأت جعبته أيضا بمادة واحدة، هي طبق الأصل عن المحبة التي تؤلف المجتمع، و توحده بالحق الذي هو مطلب ملي‌ء بالجوهر - أنها ذاتها في التمثيل المجتمعي - الانساني - الرسالي، و تصدرها هذه الأرض المشرقية الطليبة الريح الي عباب الأرض، فاذا الأرض كلها تستمر شدها في صراط مستقيم.
لقد امتلأت جعبة النبي الكريم بكل ما يضمن حياة هذه الأمة، بكل ما يوحدها،بكل ما يجمعها الي ذاتها، من أطراف أيامها الماضية المتعاقدة بالتراث، الي كل يومها الحاضر الراسخ في الزمان، الي الغد المعزز بالاحلام و الآمال. و لقد افرغت الرسالة جعبتها علي الأرض، ونفذت كل أغراضها و مراميها و اهدافها - فاذا هي الأمة تجتمع باسم الرسالة، رسالة التوحيد و الاسلام، و اذا هي تمتد الي الآن في عمليات التنفيذ - و سيان - احصل خلاف في أساليب الجمع، أو اجتهادات في عمليات الاخراج - فان العصور كلها لا تزال موحدة بالاسلام - اتكون قد جاء الحكم فيها باسم الراشدين، ام باسم الامويين، أو باسم العباسيين أو الفاطميين و الاندلسيين، أم سواهم من المحتجين المنتفضين و الرافضين.
لقد جعمت الرسالة الكريمة الانسان الي حظيرتها التوحيدية، و لم تفرق فيما

[ صفحه 116]

بين الناس، و لقد احتضنتهم منتمين اليها، و يجمعهم الولاء - اذ يصدق و يخيبون الي فرقة اذ يستبد بهم ضياع أو زيغ.
- 2 -
ماأرهب الساعة هذه و ما أشبهها بالساعة تلك! ان المسافة الزمنية بين الساعتين تزيد خطوتين عن ربع قرن - انها الساعة الحاضرة، تقف بالامام الحسن - وجها لوجه أمام أبيه الواقف الآن - كالعملاق - أمام رهبة الصمت، مطبقا شفتيه علي بلاغة ما نطق بابلغ منها الا ذلك الذي لا يزال مائلا أمام عينيه الممرغتين به صامتا فوق فراش ممدود علي الأرض، و مدقوق الحواشي بامجاد الدهور. هناك جده الذي صمت و ما زالت له الكلمة تخفق بروح الحق، كأنها لسان من نار ونور - و هنا أبوه الذي يتمدد أيضا علي فراش من خيش و ليف، الا أنه حبك من فصاحة و بلاغة، تعلمان الدنيا كلها كيف تخبز رغيفها المطهر، و كيف تملأ به موائدها النظيفة، و كيف تقتات به بلا شهوة مرة، و بلا ورم يشقي بدنسه.
لله ما أروع الاستحضار الذي ملأ منه الحسن جعبته التي يحملها الآن ليتقدم بها الي الساحة التي تطلبه الي اثبات وجوده كوريث لرجلين ملتحمين في عملية خلق الجذور من جديد، وربطها بكل مآتيها بحبال الحياة، و جعل هذه الحبال أوتارا يعيش عليها كل نغم حي معبر عن حقيقة الأمة، وحقيقة ارتباطاتها بمقومات الوجود - انها هي اللحظة الكبيرة التي القت علي الامام الحسن الشعور البكر بالمسؤولية الجليلة، أنها اللحظة الحاضرة التي يقف بها أمام جثمان أبيه المسجي، تاركا له وحده استلام الزمام الذي خلا اليه في هذه اللحظة، لحظة الموت!
لقد أدرك، في هذه اللحظة، ان جعبته التي ما وني كل عمره يعبئها بكل ما يوسعها و يفيضها علي نفسه - انما هي الآن تتعبأ بحقيقة توازي جني العمر كله. لقد تكشفت له كل الأبعاد التي كان يرمي اليها جده الكبير، جده العظيم، جده الرائي، جده الذي راح يعمل علي احتواء الأمة أولا احتواء كليا،

[ صفحه 117]

و احتواء جزئيا، قبل أن راح يجمع حجرا حجرا مداميك البناء أما عمليات البناء - و أن يكن قد جهز لها حجارات الاساس - فانه تركها لتصاميم الأجيال التي تبتدي‌ء الآن - تحت ناظريه - و تمتد الي الامام، برعاية من ذكراه، ما دامت الحياة تغزل للانسان خيوطها الخضر المزركشة بالآمال السعيدة، و بالنوايا المليحة، و بالهدايات المنورة بالحق، و الملقحة بالمعروف، والمستنيرة بالعقل - عقل الانسان.
لقد أدرك الآن ادراكا واضحا ما كان يقصد جده العليم، من تعيين أبيه علي في مركز الخلافة المميزة بالامامة - و ذلك تجنيبا للمجتمع الطفل، الخارج جديدا من عهده البدائي، و الداخل جديدا في البوابة التي تطل به علي الباحة التي يتركز فيها مجتمع الانسان. لم يكن ذلك - مطلقا - من اجل الاحتفاظ بزعامة لبيت كريم - هو منه الجد الكريم - أن الذي يهتم بشأن المجتمع الواسع، لم يضع نصب عينيه احتجاز زعامة لبيت واحد من بيوت الأمة التي تتألف من ملايين البيوت و من ملايين السنين، الي المجال الذي لا ينتهي - لا، و قسما بالحق - لم يكن ذلك ليتراءي أمام خاطر المشترع العظيم الذي يحتوي الجزيرة كلها، والمجتمع كله، و التاريخ كله الذي بنيت و تبني به حقيقة الأجيال - انما كان ذلك من أجل صيانة المجتمع الناشي‌ء من فوضي يجب أن تذوب منه، و هي التي اضنته طويلا، وهي التي - ما بقيت - ستضنيه بلا انقطاع. ان مجتمعا لم يتثقف بعد، أو فلنقل - لم يتحضر بعد، لا يجوز أن يعرض بناؤه الجديد لهزات ارتجاجية، تحركها عليه عمليات انتخابية، ليس فيها، لا وعي، ولا المام، ولا مجال ثقافي ظاهر التركيز - عندما يتهيأ له ذلك في مداه الصحيح، فليكن عندئذ للحرية الجديدة النابتة من ثقافته العامة، ومن حقيقة الصواب، أن تستفيق الي ذاتها العاقلة و تعمل الي تعديل مواقفها.
لقد أدرك الامام الحسن الآن أن المجتمع الذي لم يتقيد بالطاعة، وراح الي مخالفة الرأي و الاقتراح - وقع في المحذور، و بدلا من أن يبقي خط الخلافة ناعما بالاستقرار، و مستمرا بعمليات البناء المركز، بعيدا عن التشويش، جاء

[ صفحه 118]

كل خليفة جديد مجذوبا الي مركز الزعامة بقوة انتخابية لم تحققها الا المبايعات و لا تعني المبايعات الا تجميع القبائل التي لا تحركها الي الجمع الا اثارة الأحقاد، و تحريك الحزازات و العصبيات، و تلك هي الفوضي، بدلا من أن تجمع الشد، تلغيه، و بدلا من أن تجدل الحبل، تقطعه، و بدلا من أن تنشي‌ء العمران، تهدمه، و بدلا من أن تحقن الدم، تهدره، لقد حصل كل ذلك - لفد حصل منذ اللحظة الأولي التي اخطأ فيها عمر بن الخطاب قراءة نية الرسول الحكيم، فأول اسناد الخلافة الي علي، بأنها أحياء لزعامة البيت، فابعدها عنه، و هذا كان أول خطأ تاريخي يرتكبه سوء التأويل، و سوء الظن، و سوء النهج الذي لم يقض علي القبلية، بل ترك لها نزا تتنفس به الي التفريخ الذي يسمم الجذور، و ييبس الأغصان، و يمحلها من رونق الاخضرار، لو أن ابن‌الخطاب كان يجيد القراءة لما كان هكذا قد تصرف - ولكنه تصرف، دون أن يكون له أن يقرأ النتائج - لقد كانت في عهد عثمان بن عفان طلائع النتائج - لقد عاشت من جديد قبلية بني أمية، و قبلية بني أمية معناها استنجاد بخط معين ضد خط معين اخر، فرط الوحدة، و قسم المجتمع، و نال كثيرا من مداه.
أما وصول الامام علي الي الخلافة بعد القضاء علي عثمان، فهو وصول ضعيف الرجاء - انه وصول ضاعت فرصه منذ زمن طويل - لقد خسر كل مؤدياته، و كل امتيازاته، و كل معانيه التركيزية، وكل لزومياته البنائية التكاملية و خسر كل احتياطه في التدارك و لقد جاء حساما مقصوفا في الساحة المريضة التي أصبح يلم بها الخور، لهذا فانها خلافة عاشت في الهزيمة و ماتت في الهزيمة - لقد تركت فقط عبرة كبيرة: بأن المجتمع الذي يخسر جوامعه لا بد أن يسقط في المعاناة، وأن المثل وحدها هي التي ستعود فتحميه اذ يهتدي اليها.
كل ذلك قد أدركه الآن الامام الحسن، و هو ملفوف بالصمت المخيم في جو القاعة المسجي فيها أبوه. ان الجعبة التي هي له، و التي جمع اليها كل مجتلياته من العمر، يختصرها كلها مما يستوحيه من روح جده المهيمن الآن في القاعة المليئة بكل وجوده، و كل غاياته و مقاصده - ان المجتمع العظيم هو كل ما

[ صفحه 119]

بان و كل ما استتر من مقاصده - اذ زال هذا المجتمع العظيم - ولا يمكن أن يزول - لا يعود للنبي العظيم وجود - شرط في الوجود مربوط بشرط - ايجوز أن يضمحل الانسان من الوجود و يبقي لاله الخلق تصور؟ كل شي‌ء في المجتمع هو امكانية انسانية فريدة و عزيزة الخلق و الابداع، و لا شي‌ء سواها يحقق علي صفحة الأرض، اللهم الا بارادة هي العزيزة في الادراك.
كل ما في جعبة الحسن هو الاهتمام بالمجتمع، حلم جده، و أساس رسالته، و مهبط وحيه - فاذا كان له أن يستأنف السير علي خطي أبيه، فلتناول المحاولة في الاصلاح و الترميم - أما الهزيمة، فسيكون له أن يري كيف يحولها نصرا للأمة التي يضنيها الصراع و ينفعها، من أجل الوصول الي أي تحقيق - و لن تكون الهزيمة الا نوعا من أنواع الصراع الذي يبين الخطأ حتي يكون تجنبه في اليوم التالي بوابة الي نوع من نصر يجني منه المجتمع كل محاولاته الي البلوغ.

المبايعات

و المبايعات؟ انها الطريقة القديمة المتبعة عند العرب في جميع قبائلهم المؤلفة من بطون و أفخاذ - لقد كانت المبايعة تعبيرا عن جمع رأي كل قبيلة بمفردها حول زعيم لها يدير شؤونها، و يحكم في قضاياها، و يدبر أمورها - و كل ذلك حسب عادات و تقاليد تخضع لها طرق العيش. لقد كانت المبايعة تعين الزعيم، أو توليه أمر القبيلة التي تتعهد له بالطاعة. أما أن يكون الزعماء أو شيوخ القبائل كثيرين، فان ذلك عائد الي كثرة القبائل التي يتعين لكل فخذ منها زعيم يتصرف بمقدراتها، وكل شؤونها. ربما كان تعيين كل صنم من الأصنام المشرورة في الكعبة، أو في الأحياء الموزعة في أغلبية المدن من أرض الجزيرة، نتيجة مبايعة له رسخته الها يدير شؤون الحياة فوق تلك الأرض.
معني ذلك أن المبايعات للزعماء، و اخضاع الناس لهم بالطاعة العمياء، كانت نظاما بدائيا استبداديا، يقسم الأرض الي زعامات، ولم يكن له - و لا

[ صفحه 120]

مرة - ان يجمع الأرض كلها لزعيم واحد يمثلها، وينظمها، و يوزع عليها الادارات. قد يكون أن حصل شي‌ء من هذا علي أيام الهاشميين - مثلا - فتعين نذر قليل من التنظيم بما يشبه التكشيل الاداري. الوزاري، كوزارة السقاية أو وزارة الرفادة... و ضبط مواعيد الرحلات الطويلة في الصيف، أو في الشتاء الي الجوار، الا أن ذلك كله لم يجمع دولة، و لم يصنع حكما له دلائله الحضارية المحترمة. لقد كان المجتمع العربي كله موزعا علي زعامات قبائلية، يحصل ما بينهم التقاتل علي تقوية كل زعامة بمفردها، علي غيرها من الزعامات الموزعة علي عدد القبائل. لم يكون للولاء مفهوم يجني منه المجتمع بل أن الولاء كله كان - في قبيلة الواحدة - لرئيسها المسن، أو لشيخها المتزعم، دون أن يكون للأفراد حق الاعتراض أو حق اثبات الوجود - لقد كان الفرد رقما مفردا في العدد الذي تنطق به لفظة المئة أو لفظة الألف. فليكن المجتمع مركبا من ألف قبيلة، هنالك - اذا - ألف زعيم في مجتمع واحد،أو بالأحري ألف زعيم علي ألف مجتمع، و هذا معناه: مجتمع واحد مفروط الي وحدات، لا معني لها كلها في ثقل الميزان.
ان الذي وحد المجتمع و أعطاه ثقلا في كفة الميزان، هو الذي دخل مكة، واحتل الكعبة، و حطم فيها مئات الأصنام - أنه هو الذي جمع القبائل، و وحدها في زعامة واحدة، و محي من الاستعمال كلمة «المبايعة» التي تعني رجوعا الي معناها القديم، و هو احياء الزعامة القبلية التي قضي عليها التوحيد، و محتها الرسالة من قاموس المجتمع الجديد. الا أن كل مبايعة تحصل اليوم، هي جاهلية تمتهن المجتمع و ترده الي أسباب تفسيخه، و تعمل علي تهديم بنائه المؤسس جديدا علي نظرة في الحق تمسحه بكل حضارة يبني بها مجتمع الانسان.
- 2 -
و لكن الرسالة، و رسالة التوحيد و الاسلام، ولم تقصد أبدا حذف القبائل من وجود الجزيرة - فلنعد القول هذا مرارا و تكرارا - انما كان القصد تنجية القبيلة من قبليتها، تنجية الانسان من غريزة الوحش فيه، تماما كي تبقي

[ صفحه 121]

الأظافر في الأصابع لحماية الأصابع من تجريحها، لا لاستعمالها كما يستعملها الذئب أو النسور و طيور الباز - ان العقل وحده يدافع عن الانسان، لا أظافر كفه، و نواجز لا تنبت الا في فك الحيوان - المفترس من الحيوان. تلك مفارقات في حقيقة بنية المجتمع المعد لأن يكون انسانيا متطورا و محققا ذاته في الوجود.
ان تقترح الرسالة، أو فلنقل: ان يتمني الرسول ذاته، صاحب الرسالة، ان يكون الخليفة من بعده مخصصا بانص أو بالتعيين، فذلك كان منه قصدا بعدم استعمال المبايعة - فلفظة المبايعة لا تحمل الا معناها، وفي معناها كانت كل أصنام الجزيرة و كل حزبياتها اليابسة، و كل تقاليدها البائدة، التي فيها الميتة و الوأد،و رقص الجن و السعالي - لقد كانت المبايعات تعني، في قاموسها العتيق البالي، رجوعا الي المراعي القاحلة، رجوعا الي ألف ثار و ثار، رجوعا الي الدماء و الولوغ فيها، رجوعا الي ألف فتنة و فتنة، و ألف قبيلة و قبيلة، و عشرة آلاف حزازة من حزازات الصدور العفنة بجهلها و أوهامها، و رجوعا الي قبائل مفككة تربطها حبال الاطناب و لا تقيها من حرارة الشمس و من عنعناتها المحروقة بأكبادها.
أما الرسالة التي حزمت أمرها، و بثت بثها الشاقي: فانها بقيت تنتظر المجتمع السليم الواعي - أما أمنية الرسول التي عصي بها الأمر: فأنها بقيت مجمدة للتنفيذ: بأن المجتمع الذي لم يتثقف بعد بمحتوي الرسالة، فان المبايعات تبقي أبدا تأكل مجاهيده الي أن يضنيه الكلل، فيرمي بكل قبلية فيه الي النار التي لا تأكل الا ضلوع ابليس - و لا ينفخ في نار جهنم الا الذين يعيشون علي الطائفية القبلية المذهبية، و الرجعية الحزبية، و كلها تقتات بها زعامات ضيقة تنتفع أبدا بالتخلف - أما المجتمع الصحيح، فهو الذي ينبذها مدركا أن المجتمع الراقي هو المجتمع الموحد بكل ما فيه، و بكل ما له و منه، و بكل اشارة تشهد له بصدق انسانه في الحياة.
- 3 -
منذ نال الصمت شفة الرسول الكريم فامتنع عنها البث والتلميح،

[ صفحه 122]

أصابته موجة الجفاء. فان كانت له الأمنية بأن يكون الامام علي خليفته، فان تعيين سواه كان استنجادا بالقبلية حتي تعود.... ان رفض القبول بجمع الخلافة والنبوة في بيت واحد، كان - ضمنا - استدعاء ملحا للقبلية أن تعود فتثبت مركزها العنيد. كل ردة هي مركز ثابت للقبلية. ان تعيين أو انتخاب شخص آخر للخلافة هو - بحكم الطبع - من بيت آخر، أو بالتأكيد، من القبيلة الأخري التي ليس منها شخص النبوة. الا تكون هكذا المبايعة لشخص، فتوصله الي كرسي الزعامة؟ لقد كانت كراسي الزعامة كثيرة العدد في عهود الجزيرة - أما مقعد الخلافة، خلافة النبي، فهو الآن جديد و واحد لجميع القبائل، و لكل أهل الجزيرة، ولكل سكانها المقيمين، و المتفرعين منها بالتمدد التاريخي و الحاصل أبدا الي كل جوار - لذلك فان المبايعة التي تحصر المركز بشخص واحد هي بالغة الخطر بعدم التأكد من الحصول بالاجماع علي شخص واحد مؤهل للقيادة - فاذا حصل الآن اتفاق في اجتماع السقيفة، فليس يعني أن اجتماعات الغد الآتي سيكون لها ذات النصيب - فالقبائل التي سيستنجد بها بنو أمية، ستكون سقيفتها من طراز غير الطراز الذي بنيت به سقيفة بني ساعدة و ستكون السقيفة الأخري التي سيجتمع بها طلحة أو الزبير، أوسع مربضا للجمال التي ستحضرها عائشة أم المؤمنين، لخوض المعارك الجانبية في الكوفة والبصرة.
تلك هي شؤون و شجون، سيلتجي‌ء اليها خط المبايعات، من حيث ينشأ الهرج و المرج، و تتصارع القبائل مجدولة حول زعمائها النازلين الي الساحة ليكون لكل واحد منهم خليفة بعدم التراضي، و بعدم القبول و الرضوخ لزعامة أخري، و ستصبح الخلافة اثنتين، و ثلاثا، أو ربما عشرين أو أكثر... ألم يكن لكل قبيلة زعيم يديرها و يرعاها في الملمات! ها هي الخلافة، بعد ثلاث جولات، أصبحت خلافتين: واحدة في الكوفة تجمع العراق، علي خط معين، و أخري هي الآن تبسط نفوذها علي ربي الشام. أما غد الشام فمرتبط بخيط فاصل بين المضريين والحميريين، اذا ينقطع فيا لحظ الشام منه منفرطا الي انقسام! أما المدينة و مكة في أرض الحجاز، فان خطوط القبائل

[ صفحه 123]

فيهما بانتظار ساعات حتي تعود الي النبض وقرع الطبول.
أتكون الرسالة التي اجترحت الأعجوبة المعجزة، و جمعت الأمة من كل حواشيها المنظورة و غير المنظورة الي وحدة رائعة المصير و رائعة التعبير، تقف الآن حائرة علي المفرق الملتاع، تصنع نفسها علي المفرق المعوج، و تعمل علي بسط ذاتها في وسط الساحة، و تقدم ذاتها مصدرا صالحا يغرف منه الجميع ثقافة معينة تصطلح بها النفوس، و تطيب من اخطائها، و تعدل خطواتها في السير الموصل الي حقيقة جمع الأمة جمعا موحدا يمكنها من قوتها المنتجة و، يبعد عنها خطر الانزلاق؟
- 4 -
كان الزعيم الانصاري قيس بن سعد أول المبايعين للامام الحسن:
- أبسط يدك أبايعك علي كتاب الله و سنة نبيه و قتال المحلين.
و كان جواب الامام كثير الاختصار و بليغ الدلالة:
- علي كتاب الله و سنة نبيه - فانهما يأتيان علي كل شرط.
و كانت البيعة من الكوفة، و أهل البصرة، و أهل العراق، و المدائن، و أهل فارس، و جاءته البيعة من الحجاز، و من اليمانيين، و لم تبايع عائشة أم المؤمنين، و لا بنو أزد، و لا بنو ضبة، و لا بنو أمية، و لا أحد من أهل الشام المسحورين الآن بامجاد معاوية..
من هم الطارحون بيعة، و من هم الحاجزونها؟ و هل هي بيعة لخلافة؟ أم هي بيعة لأخذ ثأر! فان كانت لخلافة - فأين هو المخلوف منها؟ و أين هو كتابه من الذين يقرأون؟ و أين هي سنته من الذين هم المؤتمون؟ متي خضعوا خاشعين فاهمين؟ و متي آمنوا مكبرين معظمين؟ و أين كانوا يتلهون منذ ثلاثة عقود؟ و اذا كانت لأخذ ثأر - فيا لتعس الأمة من المثأور له و من المثأور منه - يا ويل أم القري، و يا ويل يثرب! يا ويل اليمن و يا ويل الحجاز! يا ويل الجزيرة

[ صفحه 124]

الأم، تتعب الحقب و الدهور في تنشئة ابنائها، و أحفادها، و كل أجيالها المندثرة، و أجيالها الطالعة و الفخورة الآن بكتابها الجديد الذي هو لها في الصف الأول من الكتب السماوية - يا ويلها تعود الي قراءة عتمات لياليها المصبوغات بثارات بني كلب علي بني قيس! يا ويل البصرة، و يا ويل الكوفة، و يا ويل العراق - عراق دجلة و عراق الفرات - عراق الخصب و عراق السواد - يا ويلها من الوافدين اليها علي أمل أن يشاركوا فيها بعمارة الأرض، ورص العمران في حضارات زهت بها - في القديم - سهول ما بين النهرين، وتوزعت علي العالم نورا و هدايات - يا ويلها من الوافدين الجدد يمدونها بنعمة الله في كتاب، و بسنته في دستور يطبع المجمتع بالحق، و يفتح له اقنية لا تضيع بها الدنيا في معالجاتها سبل الحياة - يا ويل العراق - بدلا من أن تترسخ لها الديمومة في الاستقرار و التنعم في انفتاح الأمة علي جميع الأقطار في معاطاة كريمة البذل و كريمة الانفتاح، و اذا هي تقع في خلاف علي خلافة، تفسخ دجلة عن الفرات، و توسع البادية علي يباسها و قحلها، لتكون حاجزا عريضا بين أرض الرافدين و غوطة الشام! ما كانت العراق أرضا يتزاحم عليها المبايعون بالخلافة: عشرات القبائل من هنا لطلحة، و عشرات القبائل من هناك للزبير، و فئات من هنا و هناك، ينامون علي ضيم يطالبون بالامام علي و يساندونه، و فئات من هناك يجمعون الشام و خيراتها لتأليف جيش ضخم زاحف ليقطع الخلافة عن الجميع ليجمعها في عب رجل اسمه معاوية!
في هذه الليلة، و الامام علي مغف غفوة طويلة الصمت علي نصلة سيف أوصلها الي أحشائه ابن‌ملجم - كان الامام الحسن يستعد لأخذ مبايعة له تجعله خليفة علي المسلمين و حتي يقوض خلافة ثانية يمهد لها عريضا في الشام، معاوية بن أبي‌سفيان.

[ صفحه 125]

اي كرسي هو الحكم

لقد أصبح الكلام الآن كثير التوجيه اليك أيها الامام - لست أدري ان كنت أنا الذي يطرح السؤال عن المعني المخبأ في كرسي الحكم، أم انك أنت بالذات توحي الي البحث في ماهية الحكم، و من أي خشب تصنع قوائم الكرسي الذي يجلس عليه شخص الحاكم، و لكني أري، و أسانيد التاريخ تنقل الي - انك لم تحكم - بضعة أشهر فقط، و تنازلت عن الحكم لمصلحة ألد عدو تاريخي لك، عمل علي صقل مئة خنجر صبها كلها في صدر الامام أبيك، و طبخ لك قدورا من السم، ما وني يبخها في كل جو تتنفس فيه رئتاك، حتي أرداك أخيرا مسموما في زاوية بين لك في مدينة يثرب! و نام قريرا تحت قبة قصره الأخضر في الشام، مثبتا لاصلابه من بعده - كرسي ملك، خشبه من الأبنوس المطعم بالماس، و الذهب، و كل أنواع الحجارة الكريمة.... يا للصولجان الذي يزهو بغلال الأرض، ودرها، مجبولة باعراق الناس، و بكل جهد ينتجه العقل، و العلم، و زنود العمل! و كلها تتحول الي ألوان يصطبغ بها هذا الصولجان - صولجان الحاكم - تمييزا له بالعنفوان المقتدر علي صياغة كل شي‌ء له، في ابراز مجده، تلذذه في اشباع شهواته و التنعم بها وسيعا و في الدنيا، و كأن الدنيا و ما فيها من تراب و شمس و سحاب - انما هي له مبذولة تحت قدميه، لا يجمعها الا بكرا له في التمتع الشهي الذي يبتكر، و في كل لحظة، لذاذة جديدة لا تريد أن تشبع، و لا تريد أن ترتوي، و لا تريد أن تنطقي.
هذا هو نقل التاريخ عنك - كأن التاريخ آلة فقط تأخذ ما يقع تحت عدستها، دون أن تقلبها من ظاهر الي باطن، ومن باطن الي باطن آخر، ربما تختفي فيه لؤلؤة لم تحلم أن تري مثلها عدسة العين.
هذا هو شأنك مع التاريخ، و مع المؤرخين الذين لم يروا، أو لم يريدوا الا هكذا أن يروا، مع أن التاريخ - في حقيقته العظيمة - هو أن لا يكون فقط

[ صفحه 126]

مجذفا بسيطا علي ظهر خشبة، بل أن يكون أيضا غواصا الي القاع، و الا فحرام أن يركب سفينة و يتسلم خشبة مجذاف.
فعلا - أنت لم تحكم أيها الامام - لا معني لحكم يطول بضعة أشهر و يذهب مع الريح - ان الحكم هو مراس و مران - انه علم و اطلاع و فهم وروية - انه - أولا - ادارة الذات و فهمها، و الغوص فيها، حتي يصلح لأن يكون ادارة جيل من الناس. أما أن تحكم بضعة أشهر ثم تتنازل عن الحكم، فان ذلك، أيها الامام،كان مربوطا عندك بقصد هو التمهيد للوصول الي نوع من الحكم يكون هو الأقوي و الأبعد و الأثبت، و هو المبني علي نظرة صحيحة و جليلة، لو أن التاريخ تلقط بهذه النظرة عنك، لكان لنا الآن أن نحترم التاريخ الذي يتمكن من الرؤيا، و من تسجيل القرارات.
و لكن - بالحقيقة - أنت الذي تمرست طويلا بالحكم أيها الامام - لم تجلس الي كرسي له قوائم و عوارض من خشب، ولكنك توصلت و جلست فيه مملؤا بمعانيه الجليلة، مغمورا غمرا بكل الأحاسيس و المشاعر، و المقاصد التي تغني النفس و تشحنها بنبل المرامي التي تخلق الانسان و تصون حدوده بالابعاد، و هي التي تبقيه حيا في انسانية تتألف منها عبقرية المجتمعات الخالدة في مرابع الحياة - فليسمح لنا نتأكد من كل ذلك، اذ نستعيد قراءتك من جديد، فأنت عظيم أيها الامام، و أنت جدير بكل درس ينشرك علي الحقيقة التي لا نزال نترقبها تلمنا الي دنيانا الصحيحة فيزهو بها مجتمعنا العظيم المبني للوصول الي كل عظمة.
- 2 -
أساسا، أنت مدعو للحكم، أنت امام في ضمير جدك قبل أن تولد - وبعد أن ولدت أصبحت قرارا في حزمة من الشوق المبارك - هنيئا لأمك بك، فأنت نسيج من خاصرتها الموصولة بخاصرة الحق - و هنيئا لأبيك بخيوط الارتباط، تشده الي جدك بوجد لاينسل له خيط - و لقد علمت أنت بذلك - أخبرتك أمك، و أخبرك أبوك أنك أنت من البيت الذي هو - بحد ذاته -

[ صفحه 127]

قضية، و لقد فهمت مليا أنك أنت القضية - بالحس الضمني فهمت، و من عطف العين و الحضن و اليدين فهمت - و من التصرف الكبير الوسيع الحد و البليغ الاشارة فهمت - و بالتعيين و التخصيص فهمت، و أبلغ ما فهمت، عندما وسعت عينك، و رشد لمحك و فهمك: ان الذين كان عليهم أن يفهموا ما أرادوا أن يفهموا، و ان الذين قصدوا أن يسمعوا لم يريدوا أن يسمعوا - و لقد فهمت أيضا لماذا لم يريدوا أن يفهموا و لماذا لم يريدوا أن يسمعوا.
لم تكن تعرف، عندما اغمض جدك جفنه، انك مدعو لخوض غمار العصر، و الكشف عن النوايا المخبأة في الصدور، و الاطلاع بكنه قضايا النفس، و الوقوف علي أسرار الوجود و العمل علي اكتناهها، و التثقف بكل ذلك حتي يتم لك التمكن من الوصول الي تحمل المسؤوليات الجسام التي تلقيها علي منكبيك اعباء الامامة التي ادركت فعلا أنك لها بارادة التعيين، و ارادة التخصيص، وارادة النبوة.لقد كشفت كل ذلك باحتكاكك المتين بأبيك الكبير الذي كان ملاذك، و كان عملاقا أمامك، و كان حفارا في بنائك، و كان قدوة أمام عينيك و أمام فكرك و أمام خيالك، و كان كتابك، و كان حرفا كبيرا في كل كلمة من قراءاتك، و كان جلوتك المضيئة، و كان ارادتك الخفية، و تصرفك الذي لم يعلن بعد، ثم انصهرت فيه فلم يكن لك عنه لمحة من انفصال.
لم يتناولك التاريخ بشي‌ء من هذا الوصف و بهذا التحديد، و بهذا الربط الأصيل - لأن التاريخ لا يحاول كثيرا شد حقويه بالمنطق، و يرضيه السرد الضئيل، دون أن يستهويه النزول الي عمق خلف كل تحليل وتعليل، هل هي خلة عند التاريخ؟ أم هي كبوة في قلم المؤرخ، أم أنها - في نيته النائمة بين ضلوعه - شرخ من شروخ النفس، تلبس الغرض و تمشي به بلا مبالاة.
جل ما في الأمر أيها الامام أنك لم تقدر أن تلبس الا قميصك المتصل بك - لم تكن تعرف في المبتدأ أنه قميصك - أو أنه قميص أبيك حتي ينتقل اليك، و لكنك أصبحت تعلم ذلك مع تقدم خطواتك علي الطريق. لقد أخذت بحس أن أباك الامام هو الأولي من أبي‌بكر، ولكن أباك تمرس أمامك

[ صفحه 128]

بالصبر علي الحيف، فبدأت تكبر حروف الأمثولة أمام عينيك - و لما انتقلت الخلافة من جديد، و عادت فعلا الي عمر بن الخطاب الذي هو فارسها المتلاعب بها في الساحة الخرساء، قرأ عليك أبوك امثولة ثانية في تحمل الضيم، كيف أنه يقرع النفوس و يجلوها الي عمق، و الي كبر، ورحت أنت - بعين أوسع و بصمت و تأمل - تلمح كيف أن الدروب تتغير بها الخطوات الي انتقال في السير، تمحي به المعالم، و تتحول الأهداف الي منطلقات أخري تتشوه معها كل المقاصد.
عندما أصبح عثمان بن عفان في دست الحكم، اصبحت لك العين، و هي المدغومة دائما بعين أبيك - تري بوضوح أكثر، كيف أن الحبال الملعوب عليها هي للرقص،أكثر مما هي لحقيقة الحكم، و أن الحكم الذي يجري تحت عدسة عينك، هو تماما علي نقيض ما هو مرسوم في تصورك، أو مهيأ في بالك - و عندما رحت و أنت موجس خيفة مما تشاهد، تسأل أباك الامام توضيحا يخفف عنك هما و شجنا، اغمض عينيه عن عينيك حتي لا تقرأ فيهما ما يعييك! من هنا أصبحت تدرك جسامة الأحداث، و أن تنحية أبيك عن الحكم ما كانت بالأمر البسيط، و لا بالخاطر العابر، انما هي بالقصد المدروس، والاخراج الذي اشتغل به العقل و الفن - ان الفترة التي مرت علي حكم عثمان، لم تبعده - بالموت - عن الساحة الا بعد أن وسعت الساحة و صيرتها ميدانا لبني أمية.
في هذه الفترة بالذات، وقد غيب الموت ابن‌عفان، و قد امتلأت الشام بمعاوية بن أبي‌سفيان - أصبح أبوك بالذات يفتش عنك، حتي يغرز عينيه في عينيك، يستجلي فيهما رأيك الغني في مراقبة الأحداث، و ما هي ردة الفعل لديك - أما أنت فصرت بدورك تغمض عينيك عن عينيه، حتي لا يري فيهما أثرا لأي صدمة خلفتها في النفس سلسلة من الخيبات... لكن الامام أباك الذي قرأ في تأملك الهادي عزما للروح فيك، ليس هو الا متين الحبك و متين الخيال، قبل أن ينزل الي ساحة الجهاد، عساه يتمكن - بالمحاولة - أن يرد ضيما عن بني طالب يعرضهم لتهديد خطر جسيم -و عساه يعيد للحكم هيبة تقيه من

[ صفحه 129]

وطأة و الدنيا و فورانها، و عساه يريد الي الدنيا ما يطيب الذوق فيها و ينقيه من الأملاح - ولكن ابن‌ملجم كان في المرصاد.
- 3 -
لست أدري لماذا يكون علي الأديب - مثلا - ان يفسر الأحداث، و ليس علي التاريخ أن يفعل ذلك؟ اتكون مهمة التاريخ في التلميح الضئيل، دون أن تكون له قيمة في التحليل و التعليل؟
لقد ذكر التاريخ - بكل بساطة أيها الامام - أنك تناولت الحكم لبضعة أشهر، ثم غسلت يديك منه - هكذا - كأنك تغسلهما من قطعة حلوي كنت تأكلها و انتهيت،كأنك لست من الحكم بشي‌ء و لست له بأي شي‌ء.
و لقد ذكر التاريخ أيضا أن وصولك الي الحكم كان بعد مبايعة رصت اليك الصفوف، فما كان منك الا أن اهملت مبايعيك و تركتهم وحدهم في طرف الميدان، ورحت تتصرف علي هواك.
أي معني لك أيها الامام اذا كان مثل هذا هكذا قد حصل؟ و لماذا أنا اليوم - بعد أربعة عشر جيلا - أقف واحدا في الصف الطويل من المحبين لك و المتهيبين - اني أري أن خفة السرد في التاريخ منقصة في حق الذات الانسانية الشريفة، و تقليل و تخفيف من قيمة الرجال الأفذاذ الذين يجاهدون في نحت حجارة الأساس، لبناء مجتمعاتهم الانسانية العظيمة، و الامام الحسن هو واحد من بين هؤلاء النادرين الذين عملوا بعقل و صمت - و صمتهم العظيم هو الذي يفسح لهم الآن بالشهادة.
انك في الظاهر أيها الامام، وجهت الحكم لبضعة أشهر، و تنازلت فعلا عن الحكم لمصالحة معاوية بن أبي‌سفيان، و ليس مطلقا لمصلحته بالذات. أما الحقيقة التي هي أساس في تكوينك الذاتي الموجه، فأنت للحكم الطويل المرسوم و المعين، أي: أنت امام «قمت أم قعدت» لم تسندك السياسة، سياسة البيئة أو سياسة العصر، حتي تقوم الي مهمتك الجليلة، فقعدت عنها،

[ صفحه 130]

مغلول الارادة، دون أن تغفلها حقا من حقوقك، أو لزوما في ضميرك و وجدانك. لهذا كان تمرسك في الحكم تمرسا ضمنيا متكاملا في ذاته، و متكاملا في تحمل مسؤولياته تجاه الأمة التي أنت بالذات منتدب للاهتمام بكل شؤونها.
من هنا كانت رقابتك علي كل الأحداث الموصولة بكرسي الخلافة، رقابة مسؤولة و محتكة، تجمع منها مادة الحكم الصحيح المنزه و المعصوم عن الخلل و الزلل. لقد كان أبوك ذاته في الحكم -أكان قائما فيه أم كان عنه منحي - انه أنت في ذاتك الصحيحة، و أنه اكتمالك في التحامك فيه، و في انتدابه عليك حتي تظهر بك الولاية. من هنا بالتمام، أنك عشت العصر و رافقته حتي انتهي بابيك الي مأساة!!!
و بالحقيقة أيضا أن العصر الذي انتهي بموت أبيك لم ينته بك أو اليك، بل توقف عندك، حتي تكون له بداية أخري، لم يكتب لها بعد أن ترسخ عهودها، و عند ذاك - بالتأكيد - سيكون لنا أن نقول: و أنت الركيزة الصحيحة في بناء المجتمع الصحيح، في نظرة امامية تفي ذاتها حتي تعيش في المجتمع الكبير الذي هو وحده قيمة الانسان، و مجد الانسان و روعة الانسان. أما توضيح ذلك، فله دوره بعد حين.
نعود الي التاريخ، و محاسبة التاريخ علي قوله أنك وصلت الي الحكم بواسطة المبايعة. اجل - و لكنك لست أساسا لتقبل بمبايعات من هذا النوع، فأنت - في صياغتك الكبيرة، و في حلم جدك العظيم، و في كينونة أبيك المنحي منذ البداية عن الحكم - لا تقر بمبايعة تجردك عن امامة و تنحدر بك الي مساندات جانبية تستنجد بها حتي تفسخ الكوفة عن البصرة، و دجلة عن الفرات و ما بين النهرين عن مفارش الغوطة، و اليمن عن الحجاز، و مكة عن مدينة يثرب - فليكن قبولك بالحكم - و في مثل هذا الظرف العصيب بالذات توسيعا لفسحة من الوقت، تلملم فيها نفسك الي جمع ارادتك و قدراتك، و سيكون لك قرار متخذ من صلب القضية - قضية جدك في رسالته العظيمة، و قضية أبيك الساقط جديدا و متعبا فوق أرض الميدان - يثبت أنك بمستوي صناعة القرار.

[ صفحه 131]

- 4 -
أيها السيد، أيها الامام - و ليسمح لي التاريخ أن أقول: أيها العظيم.
اني أقر الآن أمامك، و أمام حقيقتي فيك، و أمام الواقع الرائع الذي نبت أنت منه - اني لم ادرك أنك عظيم الا في الفترة الصغيرة التي وصفت بأنها بضعة أشهر ضئيلة جلست فيها الي كرسي الحكم، و ما انسحبت منه الا و في حوزتك القرار - كأنه قصبة السبق التي ينتزعها الي يمينه الفارس السباق من طرف الميدان.
هنالك بطولتان حققتهما مترابطتين في المعني و في المغزي: الأولي هي تنازلك عن حكم يتسابق عليه كل طامع طامح و لا يتخلي عنه، و لو كلفه ذلك بتر الوريدين - ايه لعمري، كم يبذل الطامحون الطامعون في سبيل كرسي لا ليعدلوا به بين الناس، بل ليستذلوهم به الي أبعد من الخضوع و الرضوخ و السجود - انهم السادة، لا العادلون الصائنون حدود العباد، بل انهم المستغلونهم، و المستعبدونهم و الجاعلونهم مطايا الي امجاد لهم،و هي ثروتهم في الدنيا، و هي أوهامهم الطائشة الغاشمة، و هي عقلهم في كل شهوة زائفة عن حقيقة الحكم،وحقيقة العدل، و حقيقة الأساس. و الثانية اتخاذك القرار النابع و من معاناتك الكبيرة، و الذي هو تعبير عن فهم حقيقة المجتمع الانساني، و عن فهم تركيبته المادية - النفسية، و عن كيفية تقديم المعالجات الأساسية في فك معضلات ترافقه دائما في حلبات الصراع، و تؤدي به من معركة الي معركة يستفيد منها عقله في عملية التمرس و التقويم و المرور بالخطأ الذي يتحول الي زاجر موصل الي صواب أو الي نوع من صواب.
بطولتان - اذا - تفرعت الثانية من الأولي، و أو فلنقل: تضافرتا مندمجتين في بناء الشخصية المثالية التي هي أنت أيها الامام. فلندرسهما منفصلتين قبل أن نجمعهما في عملية التكوين الرائعة التي منها بنيت ذاتك.
أليس من حقنا أن نسأل: لماذا تنازلت عن الحكم؟ و لكن، فليكن لنا مثل هذا التمهيد: أنت موعود بالحكم، أو بالتالي، أنت مدعو اليه

[ صفحه 132]

بواسطة أبيك علي الأقل - و منذ خمس و عشرين سنة، و صراع حاد قائم علي الأرض، ليحول دون وصول أي واحد من بني‌طالب الي الحكم - انه صراع قبلي تاريخي منذ الأساس بين بني هاشم، من طرف، و بني أمية من طرف آخر، ولكنه تميز بهذا العنف، و بهذا الشكل العنيد الذي لا يقبل بأية مهادنة، بعد ظهور النبي من الطالبيين، و اكتسابهم مقاما يرجحهم شهرة و احتراما بين جميع قبائل العرب و يبؤهم مركزا سياسيا قوي الزعامة، و بليغ النفوذ!!! ان الوقوف - اذا - بوجه مثل هذه الزعامة الملتهبة بنور النبوة لضرورة لا يجوز تركها الي الغد، و الا يستفحل أمرها و تتقهقر أمامها كل الزعامات. من هنا كان السباق الي اجتماع السقيفة تنفيذا مدروسا، و مهيأ و مسحوبا من ضلوع القبلية التي ساند لها زعامة ابن‌الخطاب.
لقد أصبح الطالبيون في أميز كفة سيرجح بها مركز السيادة، أو مركز الخلافة بعد موت النبي. ان المركز الأول - كما يبدو، و كما تشير الملامح، ونية النبي، و ارادته المرجحة كل كفة في الميزان - هو من نصيب البيت و أهل البيت.
و البيت كله الآن، يختصره علي،و يمثله علي،و لا يستحق البروز فيه أحد مثل علي - اشارات بليغة في التوجيه تناثرت من النبي علي علي زوج فاطمة بنت الرسول، تبتدي‌ء بها،و تنتهي اليها أمومة تنقل الارث و تحصره في ولديها الحسن و الحسين اللذين ضمهما جدهما اليه و حصر ارثه بهما و سماهما «امامين قاما أم قعدا» و سيدين من أسياد الجنة، و مشمولين بطهارة مميزة هي - فقط -مخصصة بأهل البيت.
تلك هي دلائل وجف لها و منها - بنوع عام - زعماء القبائل التقليديون، و بنوع خاص - لم يخف غرضه و لم يقل الذعر من حصوله و حدوثه - الأمويون. ان السفيانيين، بوسع الاشارة، و بلاغة التأكيد هم الخائفون و المذعورون، و هم العازمون علي أي بذل، و حتي لا يكون الدين و الدنيا و في يد الطالبيين في آن معا. ستكون المعركة، ما بين الطرفين، لازمة لاجبة، و هائجة كاسرة، ليس لها ذمة لمهادنة، فالنصر في الساحة لبني أمية، لا يعني مهادنة، بل قضاء مبرما علي عدو قديم، حتي لا تقوم له أبدا قائمة.

[ صفحه 133]

هذا هو واقع القبلية الذي عاد من وأده الي البروز، بعد أن اغمض عينيه صاحب الرسالة عن متابعة الرعاية، و متابعة التركيز. لقد فوجي‌ء علي بتصرف عمر بن الخطاب، و لم يتأخر كثيرا عن ادراك القصد، ولكنه لم يأخذ الأمور بكل ابعادها - رويدا رويدا راحت تتوضح لديه الأخطار، لقد كان وصول الخلافة الي عثمان بن عفان نذيرا بحلول خطر محدق ببني طالب، و كان استعداد الرجل تهديدا مباشرا بجعل بني أمية أسياد الساحة. و عداوة الأمويين لا ترحم طالبيا هاشميا. ان عليا يعرف ذلك، و يعرف أن تصرف النبي بعفوه عنهم عند دخوله مكة منتصرا، كان انذاك محاولة في جمع الكلمة، و التخفيف من نزف الجراح حتي تكون الأمة المجموعة سيدة متعالية فوق كل الخصومات، و ناسية أحزانها المتولدة من كل غباوة تلفلفها بها قبلياتها الذميمة. و لكن الرسالة - علي ما يبدو - لم تبلغ شأوها في النجاح، ربما لأن موت النبي كان أسرع و أسبق من حدوث التأثير و جعله أبلغ في النفوس، و ربما لأنه كان يلزم بني أمية جيل آخر من التثقف و التمرس، حتي تمحي من نفوسهم نواياهم العتيقة التي تربو بالحقد، دون أن تدرك ما هو التسامح، و دون أن تعرف كيف يجب أن يكون تهذيب الدنيا بما يجعلها شريفة محبوبة لا عشيقة مجذوبة الي فراش من فجور.
كل الذي تحسب له الامام علي، و تخوف منه، جعله يقبل بتسلم الحكم، بعد سقوط عثمان تحت حوافر الثورة - لقد كان القبول بالحكم محاولة ركبها الامام و هو كاره لها - انها محاولة اصلاح الخط، و لكن بعد كثير من فوات الأوان. و ما العمل؟ فان معاوية الذي جمع الشام، و خيرات الشام، و كل السيوف و الخناجر المدقوقة في أرض الشام - انما هو الآن يوجهها الي صدره، وفيها القضاء عليه و علي كل بني طالب. لقد أصبح كل ذلك حاضرا، ليس فقط في باله،بل أيضا مجسما أمام عينيه - أما المؤلم الذي كان يضنيه و هو يخوض غمار حرب أهلية - فهو شعوره بأنه - و لو انتصر - سيكون المهزوم الأكبر! ان المهزمين الذين يصلون - بهزيمتهم - الي طرف الميدان، لا يحق لهم أن يتناولوا بيدهم قصبة السبق الذي هو - فقط للسباق الأول، للفارس الأصيل.

[ صفحه 134]

يا حظا بائسا ينال ابن أبي‌طالب! لقد فاتته الجولة الأولي في الساحة التي كانت له ممتازة في يومه البكر، فاذا هي لأبي‌بكر تقدمه اليها رئاسة السن، و هي رئاسة هرمة لناقة تسمي «الوصيلة» عند العرب في قاموس عمر بن لحي، و كانت الجولة الثانية لعمرو بن الخطاب، يؤسس فيها للقبائل ألف طنب، و ألف خيمة بلا ظل! و كانت الجولة الثالثة لا بن عفان - ذلك الذي ما همه أن يركب كرسي الخلافة الا ليتمكن من صنع نول ما حاك عليه الا قميصا يستر به صدر معاوية في الشام.
أية هزيمة وصلت الآن لعلي الذي انسحب من الجزيرة ليكون له سند في الكوفة والبصرة، لينطلق منهما الي مقابلة معاوية في صفين علي حدود الشام، ولكي يتلهي بمقاتلة جمل تعتليه عائشة في هودج مشقوق تنفث من خلف سجفه حقدا، و لا تتقبل منه دخول نسمة من حب و سلام، ثم ليغرق بمعركة النهروان كأنه جاء ليطعم فيها كل ابليس من أبالسة الكون، مما هو مفتوت علي موائد الشيطان!
بئست الهزيمة التي وصلت مجمعة اليه بعد خمس و عشرين سنة، وصلت اليه و هو في طرف الميدان، يحصد ما زرع له ابن‌الخطاب في حضن ابن‌عفان، و من حقد و من زيغ تحصن بها كلها معاوية بن أبي‌سفيان، فاذا الدنيا - بين يديه - حصن له بناه منذ ربع قرن: قصورا، و جيوشا، و أموالا، و دروعا، و سيوفا يهاجم بها صدور الطالبيين، و صدور كل المسلمين الذين هم في المقلب الثاني خلف صفين.
لست أظن أنه كان مقدرا لابن أبي‌طالب أي نجاح بعد خس و عشرين سنة مقهورة و بعيدة عن محورها الأصيل، أن النجاح العسكري - بحد ذاته - كان هزيمة بحق المسلمين المتناحرين بحروب أهلية ما استنزفت الا دماءهم، و ما أهدرت الا قواهم، و ما شحنت الا صدورهم بالحقد و الضغائن!! أية محاولة مقهورة و بائسة أصاب منها الامام علي، و هو كما قلت، معري في طرف الميدان! اللهم، اذا اعددنا له النصر الصحيح، فلكونه قد وضع حجارة

[ صفحه 135]

الاساس في توجيه الحكم النظيف العادل لبناء أية دولة في أي عهد، بناء مثبتا علي الحقيقة التي لا يقوم الا بها مجتمع الانسان. بعد انتصارك العظيم هذا أيها الامام، فأية خسارة يمكن أن يوقعنا بها غدر ابن‌ملجم؟
- 5 -
أليست كلها - هذه الأسباب - في الكفة الضاغطة عليك أيها الامام لتتنازل عن الحكم! هكذا وجدت نفسك - بعد سقوط أبيك مضرجا بدمائه فوق الساحة التي امتصت كل عمره بالجهاد - وجها لوجه أمام المعركة التي يطلبك معاوية الي مقارعتها و جعلها حدا فاصلا بينك و بينه - أخذت من المبايعة التي أوصلتك الي الحكم، مهلة لك تمكنك من اتخاذ القرار.
منذ قبلت المبايعة، لم تأخذها مشروطة كما جاءتك من قيس بن سعد اننا نتذكر ذلك:
«- أبسط يدك أبايعك علي كتاب الله و سنة رسوله، و قتال المحلين».
و قبلتها مكيفة بما تخبي‌ء في نيتك و ضميرك:
- «علي كتاب الله و سنة نبيه، فانهما يأتيان علي كل شرط».
أي أنك قبلت المبايعة بشرطيها الأساسيين، و لا لزوم للزيادة التي لا يقررها الا رأيك و اجتهادك. ان في اسلوب الرد. و في اللهجة التي ورد فيها، مادة غزيرة يجب أن تقرأ. من هنا يثبت الظن أنك نويت أن تجعل الحكم مجازا شرعيا للوصول الي مفاوضات تخدم غرضا كبيرا مأخوذا فيه قرارك الحاسم، فأنت - كما يبدو - لم تنوأن تنزل الي مساجلات في القتال، و لو كنت تظاهرت باعداد الجيش، و ترتيب القيادات فيه،و حفز الهمم. لقد كان كل ذلك من ضمن تدعيم موقفك حتي تتسني لك اللمفاوضة المقصودة، و كانت للمفاوضة المقصودة هذه، كل الدلائل للوصول الي غرض السلم، لا الي تسعير القتال، و لم يكن ثمن السلم - في ذلك الحين و ذلك الوضع الدقيق الذي كنت فيه - أقل من تنازل عن الحكم، في الوقت الذي ما كان النزول فيه الي الحرب - بالمقابل -

[ صفحه 136]

أقل من استدعاء نصف الأمة نزولا الي الساحات.
أردت السلم و لم ترد الحرب - لا استرضاء، وجبنا،وخورا، وخمولا، كما أراد أن يرشقك المتهمون - بل تحقيقا لمبدأ أنت وحدك توصلت الي ادراكه و رسمه في مجال التحقيق و التطبيق. لقد كان من حقك أن تلم بالاوضاع من ضمن ما هو منوط بك الالمام به - فالامامة هي فرض عليك بالاحاطة و الاحتواء، و ان الاتزان و البعد في النظر، هما من الاتصافات الثابتة للامامة التي هي الآن ترخي عليك ثقلا في المسؤولية الجسيمة تجاه أمة لملمها جدك العظيم الي تثبيت وجود أضحي مربوطا بالقيمة و الوزن.
في هذه اللحظة بالذات - و المسؤولية اجتمعت مربوطة في عنقك - رأيت أنك مدعو بالحاح الي حقيقة الغوص، و حقيقة الفهم، و حقيقة اتخاذ القرار. لست أقول انك الآن فقط أدركت، و لكنك الآن أصبحت مسؤولا لأول مرة - مسؤولية مباشرة جعلت لك من الادراك كثافة لم تجن مثل قيمتها بعد - لقد فهمت الآن جدك الرسول في كل مقاصده و مراميه - أدركت لماذا أفني العمر في سبيل قضية تساوي وجوده -أدركت أن الأمة العظيمة هي كل قضيته، فصرف عليها كل الاهتمام و كل الجهد، و كل تعليق المصير، حتي يتمكن من أن يباهي بها جميع أمم الأرض. لقد فتش لها من كل ركن يثبتها في ساحة الحق - محضها بالقرآن العظيم حتي تعيش أبية الي مجد و ابداع - عززها بالتوحيد، بكل معانيه الفكرية - الروحية المادية علي السواء، حتي تكون منيعة بالروح لا تضيع عن سبل الحق، و شبعانة من حبك السواعد التي هي معاول الله في استدرار الخير من تلاحم التراب.
ما قلل جدك النبي من أيلاء الأمة العظيمة قيمتها الفاعلة، والتي هي تفاعل الانسان مع أرضه، و لقد عين هذه الأرض التي اكتشفها وجود هذا الانسان، و حصر تفاعله فيها، و تفاعله فيها أقدم من التاريخ، و أعمق من الزمان المكشوف، لهذا أشار ودل الي هذه الأمة العظيمة التي صاغ منها عظمته، ولذا بالضبط حضرها لأن تكون ركيزة انفتاح علي العالم بواسطة رسالة.

[ صفحه 137]

لها ميزاتها الانسانية العالمية، في حضور مثالي فيه كل الحق و العدل و المساواة. ستكون حبة القمح هي رغيفها من دون أن يكون لمحتال أن يركب عتمات الليل الي بيادرها - انها سنة الشرفاء و الأحرار في الحياة ليس لهم أن يجنوا الا مما يملكون - ان الجمع و الوحدة و التحرير، هي كلها من اجل هذه الأرض التي لا تفرقها الأقاليم الا ليرصها التنظيم، و العيش الواحد المشترك،الي مصير واحد يتحقق من أجل العظمة المنشودة. فلتكن الأرض عدة أقاليم، الا ان انسانية الاسلام هي الملقط العظيم الذي يلقطها بالحق، و هو وحده ميزان الضبط و ميزان العظمة
ذلك هو كتاب الله، و تلك هي سنة النبي، من أجل هذا الانسان حتي يكون عماد مجتمع لا يوصف بالعظمة الا بالعمل العظيم، و كان العمل العظيم في مبادرة بنائية، أول ما أبعدت عنها قبلية الجزيرة الأم التي عاشت بها دهورا، و لم تحقق مجتمعا، بالمعني الصحيح، الا عندما أتاها اللمح التوحيدي، فردها الي زعامة واحدة، لها كتاب واحد وازع، سنة واحدة منظمة، فاذا كانت هذه هي مهمة الكتاب، و هذه هي غاية السنة، فأي معني يكون لمجتمع يحيد عنهما، وقد بنياه، و لا يتلقط بهما، وقد جمعاه، وقد حدداه، وقد وحداه، و قد عززاه، و قد حرراه،و قد رسماه للعظمة التي يطمح اليها مجد الانسان، و فخر الانسان، و حقيقة وجود الانسان؟!
و في هذه اللحظة بالذات، و قد أدركت فيها تمام الادراك، أهمية المجتمع الذي امتص كل اهتمام جدك العظيم - ادركت أيضا جدية اهتمامه البليغ في عملية بناء الذين سيأخذون من بعده متابعة الجهد في السهر علي اتمام عمليات بناء هذه الأمة حتي تبقي مستمرة في الترقي و اثبات الذات، فهي أمة النبي، و لها التاريخ، و لها اليوم الحاضر، و لها الغد الأكبر، و لها الأساس في العروبة الجامعة، و لها الأرض الكريمة السخاء و التي لا يقطع عنها المدد، و لها الوحدة الفاعلة، و سيكون لها نظام اداري يخصص ذاته للعمل الكبير في تولي جميع شؤونها الحياتية.

[ صفحه 138]

لقد أدركت أيها الامام لماذا خصص جدك ارثه الواسع في أهل بيته؛ و ليس ارثه مالا و قصورا ورياشا: بل أمة و رسالة، لا لأنه بلا عقب، و لا لأنه متعصب بالتخصيص لأهل عشيرته... ان الذي يبني الأمة كلها علي جهده، و لا يعتبر بلا عقب، و ان الذي وحد العشائر كلها، و حزمها بحبل واحد، لا يتعصب لشخص واحد يربطه سلك ببني‌هاشم - انما هي العصبية للأمة العظيمة في الاعداد النفسي المتين لمن يثق به انه هو المختار المتاز لاتمام العمل الجبار، لوصلة المجتمع الجبار. من هنا كان الامام علي هو أبوك الموثوق به، و كنت أنت هو المتوسم بك في قضية تناول الارث الي القيمومة الفاعلة في حقيقة وجدية الارتباط.
في هذه اللحظة بالذات، اشرقت عليك و نورت كل الفكر، و بعمق و نبل أدركت:
- ان بناء الأمة العظيمة هو مطلب لجوج، لا محيد عنه، يخلق الانسان العظيم الذي يعتز به وجود الانسان.
أولا - و آخرا - هو الانسان - يتلقط به المجتمع الانساني، و بالتالي، كل أمة بمفردها، ضمن حدود لها فوق صفحة الأرض، تلبية لكرم الحياة، و صيانة لحقوقها الطبيعية المقدسة، و في التشبث بالوجود الذي هو كلي و مطلق في الله العزيز المثال.
- ان النبي الكريم، نبي الأمة العربية بانتسابه اليها و بانتسابها اليه، لم يقدم لها كتابا عربيا ناطق الحرف، الا ليجعلها أمة مفتوحة الذراعين علي العالم كله، تحمل رسالة جمع،و توحيد، وتحرر و نور، و هداية، و هي كلها رسالة الاسلام، و هي كلها للأمة في مركز الاحترام بجليل القدر و المنيع الجانب.
- ان المبادي‌ء في مجتمعات الانسان، هي التي تبقي - بعزة فاعليتها و صلاحها - لا الأفراد الذين يقررونها أو يزيدون في تطويرها، أو يسهرون علي تحقيقها و تطبيقها، و تنفيذها - ثم يغيبون.
علي هذا الأساس من الادراك المستنير، ركزت ما انتهيت الي الاقتناع به،
و حصرت هذا الاقتناع بأن الأمة وحدها هي المقصودة بكل اهتمام، و ان السياسة الحكيمة الفاعلة هي التي تكون لها في التعهد الرشيد الهادف، و أن المجتمع لا يحقق ذاته عن طريق حكم مبني علي عصبيات قبلية، كما هو شأنه الآن.
لا يجوز اذا - و هذا هو الاقتناع - ان ينشق المجتمع الي جبهتين عريضتين متصارعتين، و هكذا فان الأمة الي تدمير ذاتها، وتفتيت قدراتها،و هدرها، و تفكيك كياناتها الي وحدات متناحرة ترجعها الي قبلياتها التي ما ان اختفت،حتي عادت الي الظهور.
لقد حصل كل ذلك تحت نظرك طيلة النهار الذي ثبت فيه أبوك الامام وجوده، و لم يترك الأرض الي الآخرة التي ارتضته شهيد الصراع، الا والغصة في حلقه علي أنه لم يقدر أن يرد الشام و العراق الي الوصلة الكبيرة المنشودة، و بذلك بقيت الأمة منشقة تتعارك و تتناحر في الميدان الذي اتتك منه المبايعة لمتابعة قتال المحلين.
أي حكم تسلمت، لا يقوم الا علي قتال المحلين! و قتال المحلين يشل الأمة و يفنيها، يشل وحدتها، ويشل عزمها علي الثبات في الوجود.
بامكانك أيها الامام أن تجمع كل رصيدك عند القبائل، و تقاتل به المحلين - ان للقبائل ديدنا لم ينسوا بعد كيف يلبونه نزولا الي ساحات الغبار - و لكن التنادي هذا الي تسعير القتال لن يخفف من غلواء معاوية، و معه عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة،و زياد بن أبيه الذي انضم الي أخيه معاوية في عملية الالتحاق... سيطول الصراع علي ذات النمط الذي ابتدي‌ء به مع أبيك الامام - انه صراع مخطط للوصول اليه منذ أن ترك الأرض جدك الذي أوصاك بالأمة و العمل علي صيانتها و تخليصها من الدمار! أي معني للحكم يستمر بالصراع البائس الذي لا يجبني الا الدمار! و أي معني لحكم لم تأت أنت له،و لم تبن نفسك للتحصن به، و أي حكم يصلح و ليس له الا القبائل في الدعائم!

[ صفحه 140]

لقد ثبت الآن أيها الامام - في هذه اللحظة من التأمل الكبير، أمام الواقع الكبير أيضا - كل عزمك، و كل ارادتك، و أتخذت القرار.

القرار

أيها الامام، انها ليلة مررت بها حتي تباشير الصباح - كنت مستلقيا في فراشي لما أحسست كأني أعاني وطأة حلم يشبه الكابوس، مع أني كنت أشعر أني أقلب كتابا بين يدي و هو يبحث مليا فيك... ولكن كل شي‌ء حولي راح الي تحير و ابهام: فأنا لست في فراشي، انما أنا - هنا و هناك - في استحضارات و مشاهدات ليس فيها كثير من التوازن في الربط، أو تسلسل في تنويع الأحداث. كنت أنت الذي تبدو دائما أمامي، مرة في جبة طويلة بيضاء تجللك حتي الأخمصين و أخري في شبه غلالة كانت تعريك حتي العظم - أما الناس فكانوا ينبتون نبتا أمامك، كأنك كنت تستدعيهم استدعاء فيطلون من كل زواية، و من خلف ما يشبه الستائر. لقد كان كل استحضار - بمفرده - يلفني بشدة يسمرني في مكاني، دون أن ادري، هل أنت تراني و ستستدعيني لتطرح علي و مضة من عينيك، أم أنك ستتركني متغلفا بحيرتي و سكوني، الي أن يأتي صباح يرشدني اليك... الا أني لبثت واقفا أراقب ما يحدث أمامي في المكان.
رأيت شخصا يقترب منك و أنت تتنقل في صحن الدار. كان عريض المنكبين و مفتول الساعدين. حاول أن ينبهك اليه بتوجيه الكلام:
- حمدا لله أيها السيد، يبدو أن الجرح في كتفك قد طاب. و التفت اليه بعد أن مررت كفك بسرعة علي عاتقك - لقد أخذته بعين عاطفة، بينما كنت تمد يمناك الي المصافحة.
الامام: اني أتمني لو أفديك اذا وقعت بشدة مثلما فعلت معي يا عبدالله بن حنظل الطائي. اتراه كان شجاعا مثل ابن‌ملجم؟ هذا المدعو: الجراح بن سنان -يهوي بمغوله علي

[ صفحه 141]

كتفي!! لقد وجدت نفسي مجبرا علي معاقبة ابن‌ملجم فقطعت عنقه، لأنه قتل بالسيف المسموم ابي... ولكني لن أنتقم من ابن‌سنان اتعرف يا عبدالله لماذا؟
كنت أحضر اذني لمعرفة الجواب من عبدالله الطائي، و لكني فوجئت ببروز الجراح بن سنان - لقد تقدم سريعا من الزواية و وقف يقول:
الجراح: أنا الذي أسأل أيها السيد لماذا:
الامام: لأن سيفك لم يكن مسموما يا ابن‌سنان، و بالتالي لأني شعرت ببطولة فيك لا تريدني اتنازل عن المطالبة بحقي الذي يتجني عليه معاوية.
الجراح: و لماذا لا نقاتل معاوية و نسترد حقا منه؟ لماذا نسحب الجيش و نتراجع به من النخيلة الي ساباط، بدلا من أن نسوقه الي منبج حيث يعسكر عدونا معاوية؟
الامام: لقد وجهنا ثلاث فرق من جيشنا المخيم في‌النخيلة الي منبج، و لم يرجع أحد من فرق الجيش الينا. فانسحبنا الي ساباط حتي نلملم جيشا أصبح ضعيفا و مهددا بهزيمة.
الجراح: ماذا تقول أيها السيد؟!
الامام: سل قائد الجيش عبيدالله بن العباس. لقد زحف بعشرة آلاف و لم يعد بعد - وسل القائد الكندي: أربعة آلاف و لم يرجع أحد منهم بعد - و سل قائد بني مرة: أربعة آلاف أيضا و لم يعد أحد منهم بعد.
الجراح: و كيف؟
الامام: سدده الجواب يا عبدالله بن حنظل.
ابن‌حنظل: لأن الكندي باع معاوية أربعة آلاف من قبيلته بني كندة باربعمئة ألف درهم! و لأن الثاني باع من قبيلته بني مرة

[ صفحه 142]

العدد نفسه و بالصفقة نفسها أيضا. أما عبيدالله بن العباس، فلقاء عشرة آلاف رجل تناول ألف ألف درهم.
قال ابن‌حنظل هذا القول و عصب عينيه بكفيه و انسحب، فلحق به ابن‌سنان و اختفيا خلف الستائر - بينما الامام قد ساق قدميه المثقلتين بالتعب نحو الزاوية الشرقية و المطلة من المكان الموجود الآن في ساباط علي المدائن حيث يشهق أيوان كسري - و لكنه ما أزاح الستار حتي فوجي‌ء بحبر الأمة عبدالله بن عباس يعاتب أخاه عبيدالله علي هذه الهفوة التي لا تغتفر فوقف الامام تجاهه يرمي عليه رميا نظراته المخنوقة برمش عينيه، فتناوله ابن‌العباس بيديه و هو يقول:
لا تنظر الي هكذا - فأنا ما أقدمت علي ما فعلت الا بعد أن شعرت أنك تحضر رسلا الي معاوية لمفاوضته علي الصلح، عندئذ تصرفت.
الامام: لا يا ابن العم - ليس عليك أن تتصرف بالصلح قبل أن اتناوله أنا بما أمكن من التمهيد و توفير الشروط التي تحفظ لنا صيانة الرسالة فهي التي نستوحي منها سلامتنا و سلامة الأمة. لقد أخطأت يا ابن العم - فأنا المسؤول الأول كما تعلم، أنا وصية جدي، و أنا ارثه في تعيين الحق، و تعيين النهج، و تقبل الصدمات، و تحملها، و الافادة منها ما أمكن. أتكون أنت من عداد الذين تصدوا لارادة النبي في تخليص الأمة من قبلياتها، و من كل فوضي تنتج عنها! أتكون أنت أيضا واحدا من الملاجمة الذين قتلوا أبي الامام؟! ألا تري أن كل واحد منهم كان ابن‌ملجم، قبل أن يولد ابن‌ملجم؟! من أبي‌بكر - الي عمر - الي عثمان - الي معاوية الذي هو رصيد الجميع!
ابن‌العباس: لا يا ابن العم - لا تظلمني بهذا المقدار فأنا تصرفت بالنوع ذاته الذي تصرفت به أنت.
الامام: لم يكن من شيمك الا أن تتكلم بالحق. لست أدري لماذا

[ صفحه 143]

انقلبت الي غير ذاتك؟ هل لك أن تتبعني خمس خطوات لتأخذ التوضيح؟
يقول الامام ذلك و هو يشد به قليلا الي زاوية مجاورة - يزيح ستارا عنها فتنكشف عن اثنين كأنها يتحاوران و الامام ليقول:
الامام: يا عمرو بن سلمة الهمداني.
و يا محمد بن الأشعث الكندي.
هل أنتما اطلعتما عبيدالله بن العباس، قائد الجيش، علي المهمة التي انتدبتما اليها الي معاوية بن أبي‌سفيان؟
الهمداني: اني احترمك يا سيدي قائد الجيش، و لكني أمرت ان أكتم عن أي انسان ما أنا أحمله الي معاوية - فهل الامام يتهمني بقطع السر؟
الكندي: و أنا كذلك يا سيدي، فهل أكون متهما؟
الامام: و لكنك يا ابن العم لم تلمح ما لمحت الا من معاوية بعد أن رأيت الرسولين عنده - أنه أخبرك بذلك حتي يدل بتبجحه علي، و حتي يبالغ في تشوفه عليك، أما حصولك منه علي ألف ألف درهم فكان أعز لك أن تقبضها مني بعد أن أثبتها حقا من حقوقي في مال الفي‌ء، أصرفه علي المسلمين الذين هم الآن في عهدتي.
ابن‌العباس: اتكون فعلا قد أبرمت الصلح مع معاوية؟
الامام: و لقد عرفت ذلك من معاوية بالتأكيد، لأنه أرسل الي شروط الصلح مع رسولين غير هذين الماثلين أمامك يا ابن العم.
انهما ينتظران في القاعة هذه المسدول عليها الستار، حتي آخذ قراري، و أدخل عليهما، و أوقع علي جميع البنود التي اقترحتها لقاء تنازلي عن الحكم،و ثمنا لبقاء الحكم في

[ صفحه 144]

حوزته - سأوقع أمامك هذه البنود كلها، ثم أوجه الرسولين الي الشام أمامك، حتي يكون لي ما أردت لمصلحة هذه الأمة التي لا أتنازل مطلقا عن ايلائها حقها بالاهتمام.
يقول الامام ذلك و يترك الزاوية هذه الي الزواية تلك، و يرفع عنها الستار فاذا الجميع في قاعة مصدرة بطاولة أمامها كرسي، و عليها دواة،و نسختان من اتفاقية الصلح،و هنا و هناك مقاعد من خشب، يجلس علي مقعد منها رجل و أمة،هما عبدالله بن الحارث بن نوفل، و أمه و هي أخت معاوية بالذات، و علي مقعد آخر عبدالله الطائي و الجراح بن سنان، و علي مقعد مواز عمرو الهمداني و محمد الكندي. و ما ان يدخل الامام و ابن‌العباس حتي يقف الجميع، و الامام ليقول، مشيرا الي عبدالله و أمه:
الامام: هذان هما رسولاي الي معاوية يا أبن العم. يجلس الامام الي المقعد، و يجلس قبالته ابن‌العباس وحده الي مقعد آخر موجود في القاعة، يأخذ الامام النسختين، و بعد أن يطوي واحدة منهما و يضعها في عبه، و قبل أن يوقع الثانية التي يعرضها الآن بيده يقول:
الامام: طويت الي عبي النسخة التي أصبحت لي، و هي موقعة مسبقا بخاتم معاوية - أما هذه فهي التي أوقعها الآن تحت عينك يا ابن‌العباس - اني أوقع و اثبت قراري هذا و اختصره عليك بثلاثة شروط أساسية:
أولا: جعل الحسن ولي عهد معاوية.
ثانيا: لا يتعرض لأحد من شيعة أبيه، و الناس كلهم آمنون.
ثالثا: و للحسن خراج دارابجرد من بلاد فارس.
لما ينتهي من قراءة هذه الشروط يلتفت صوب ابن‌العباس و يشير معلقا علي طول الاتفاقية الموجودة علي عدة صفحات:

[ صفحه 145]

الامام: أما هذا كله المكتوب علي هذه الصفحات، فهو شرح لهذه البنود الثلاثة التي قرأتها عليك، حتي تكون معللة و مفصلة دون أن يتلاعب بها فيما بعد أي اجتهاد أو أي تأويل.
يخيم علي القاعة صمت و تأمل، بينما كان الامام يتناول القلم من الدواة الموجودة أمامه علي الطاولة، يغمسه في حبر الدواة - ثم يوقع به علي نسخة الاتفاقية، ثم يطويها و يناولها لعبدالله بن الحارث بن نوفل و هو يقول:
خذ يا عبدالله، أوصلها الي معاوية، بامكانك الآن أن تذهب.
بينما يقف عبدالله مع أمه ليرحلا، يتقدم الامام من المرأة و هو يقول:
أما أنت يا أم عبدالله، فاني انتقيتك خصيصا لتكوني في الحاشية التي حققت الصلح اني انتقيتك حتي تقومي بمهمة من بلاغ: بلغي أخاك معاوية، اني خفت فعلا دهاءه، و استبداده و عناده، و كان لي أن أركب المركب الخشن، و استمر في الصراع و النزال، ولكني كرهت أن أعرض الأمة جمعاء لمصير أسود.
و كي لا يقسو الحكم علي بني قريش فينصب عليهم البلاء.
- بلغيه يا أم عبدالله أن حقن الدماء، دماء الأمة جمعاء - هو قصدي و مبتغاي.
- بلغيه أن القتال يشطر الأمة الآن الي جبهتين عريضتين، و ربما غدا الي جبهات.
- بلغيه أن الشام هي وصلة العراق،و أن العراق، هو درع الشام و صدرها الأوسع، و الحقيقة الصارخة: و أن الاسلام يفرض حمايتهما و يطلبنا الي وئام.
- بلغيه أنه لا يجوز لنا أبدا أن نفصل الشام عن العراق و لا أن نفصلهما عن الجزيرة الأم في عالمنا الأوسع.
بلغيه أن الشام ثروة و لا يجوز أن نجمعها قصورا لنا وحدنا وقببا حمراء... و كذلك العراق ثروة للأمة موحدة مع الشام فحذار أن نجعل

[ صفحه 146]

الكوفة و البصرة بستانا فقط لنا لأننا من قريش. و أن مصر و النيل هما في مدانا الوسيع، فلا نجعل مصر بقرة حلوبا لتكون طعمة لنا ارضاء لخاطر عمرو بن العاص و اضرابه.
- بلغيه أنها تكون مهزلة في جريمة و جريمة في مهزلة: ان نعتلي خشبة المسرح، و نكون نحن أبطال تمثيل المهزلة و المأساة في آن معا.
- بلغيه أن الأجيال كلها ستطالبنا اذا جعلنا كرسي الحكم لنفوذنا و سيادتنا سببا لجمع المال و الجاه، و ركيزة نستبد بها و نظلم العباد.
- بلغيه أن الجزيرة الأم، ما وزعت ابناءها علي كل بقعة من بقاع العروبة الا ليشاركوا في عمارة الأرض، و عمارة الحضارات التي ينشئها الانسان الجميل، لا ليعيثوا فسادا في الأرض و ينقلوا دائما معهم قبلياتهم القديمة المريضة، و كلها للتخريب و توقيف سبل الخير عن مجاريها - و كلها عار علينا في عملية الحساب، تهزمنا في التاريخ و تقاضينا، و تحكم علينا بالتخلف.
- بلغيه أني اتنازل له عن كرسي حتي يجعله صالحا لحكم عادل يجمع الرعية في أمة، لا أن يسقم الأمة الي رعايا تتناحر علي جمع المغانم و الاستئثار بها.
- بلغيه أن نشر الثقافة هو الذي يجمع الأمة و يقوي فيها عناصر الخير.
- بلغيه أنه يكون علي الخطباء الذين يعتلون المنابر لعظة الناس و تقويم الاخلاق، و تزيين النفوس بالصدق و العفة و النبل - عار عليهم و علينا. اذ تكون فاتحة القول لديهم لعنة الامام علي الذي هو بحبوحة في مقدساتنا، و نبراس و متراس في صدارة اسلامنا.
- بلغيه يا أم عبدالله أن اللعنة هذه ستأخذها علينا الأجيال بوصمة عار، ليس يستحق شيئا منها جلال الاسلام و تبشير الاسلام و المقاصد و الغايات في حقيقة الاسلام.
- بلغيه أن الحسن يجب أن يصدقه أنه سيصمد نفسه حتي يحكم لا حتي يملك.

[ صفحه 147]

- اتقدرين يا أم عبدالله أن تنقلي الي معاوية تمنياتي هذه حتي يتمكن من حكم هو لي في الأساس، و اني ما تنازلت له عنه الا لأجنب الأمة وقوعا في مهزلة و مأساة، أو بالتالي وقوعا في فراغ!
لقد بقي الجميع صامتين مطرقين... يأخذ عبدالله ساعد أمه و يذهب خارجا من القاعة - يتمشي الامام قليلا - ثم يتوجه نحو عبدالله بن العباس
بالسؤال:
الامام: ما رأيك يا عبدالله؟
ابن‌العباس: هل هذا هو قرارك؟
الامام: ألا تري أني هكذا قررت لأني «خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض»!
ابن‌سنان: ألا يمكننا أن نقاتل معاوية؟ و هل هكذا نصالحه؟
و وجه الامام كلامه للجميع، بينما كانت سحابة من الحزن تلف عنقه:
الامام: «ما أردت بمصالحة معاوية الا أن ادفع عنكم القتل ان الأمر الذي اختلفت فيه مع معاوية، انما هو حق اتركه لاصلاح أمر الأمة و حقن دمائها».
يقول ذلك و يتمشي خارجا الي صحن الدار - يلحق به عبدالله بن العباس - يتوجه الامام نحو الجهة المطلة علي ايوان كسري - يزيح الستار - يأخذ ابن‌العباس بيده الي الواجهة و يقول:
الامام: هذا هو الايوان الذي بناه كسري علي أرض المدائن؛ منذ أكثر من عشر سنين، وجه الخليفة عثمان جيشا لابعاد كسري عن الايوان - لقد ترك كسري - فعلا -هذا الايوان.
ابن‌العباس: و ما تقصد من القول.
الامام: لا أقصد بل أسأل: لو أن كسري لبي نداء الرسالة التي وجهها جدي اليه، و فهم حقيقة الاسلام - أكان له هكذا أن

[ صفحه 148]

يترك قسرا بهرجة من بهارج الدنيا جمعها اليه وحده من سواعد المستعبدين، بدلا من أن يردها عن طيبة خاطر للأمة التي هي أحق بها منه و أجدر؟!!
و بعد امعان و تكفير و اعمال روية، يلتفت نحو ابن‌العباس و يستطرد القول:
الامام: لقد بدت لي - بعد تفكير طويل فيه مقارنة مع الواقع، واقع الجزيرة التي نحن من أبنائها، فكرة بنيت بها مبدأ جديدا طبقته أولا علي نفسي، اتسمعه الآن مني؟
ابن‌العباس: اجل أيها الامام - لقد ترسخ الآن أيماني بأنك تقدر أن تبني مبدأ و تصوغ منه قرارا - فما هو مبدأك الجديد؟
الامام: رأيت أن تحسب جدي الرسول في تخليص هذه الأمة من قبلياتها لم يستوف نصيبه علي الأرض، انما - بالعكس - عادت القبلية للظهور باقبح نتائجها، اذ غاب هو عنا... لم يتصرف معاوية الا بوحي من القبلية التي تفتش بها كل قبيلة عن نصيبها في الزعامة، كل من الخلفاء: أبي‌بكر الصديق، و ابن‌الخطاب، حتي انتهي الأمر المفجع الي ابن‌عفان الذي أوقعنا في الهزيمة! أ لا تري؟
ابن‌العباس: صحيح - لقد عمل النبي المعجزة في توحيد الجزيرة، و توحيد الأرض و تحريرها، وها هي دولة الاسلام لم تترك شبرا واحدا من أرض العروبة الا و مدت اليه قلبها و روحها و باعها.... الا القبلية، الا هذه العصبية الصغيرة الحقيرة، فلماذا لم يتمكن أحد من القضاء عليها قضاء مبرما؟
الامام: ان القبيلة هي روحية القبائل يا عبدالله، و القبائل هم مادة

[ صفحه 149]

العرب و مادة الاسلام. قد يكون التشديد علي زجر القبلية عملية تذعر منها بنية القبائل في هيكليتها الأساسية - من هنا تتحرك دائما عصبية الزعامات - تتحرك و لما يهذبها بعد مران في تحمل الحق، وفي تحمل العدل فيما يفرض، و في فرض المساواة فيما ترمي اليه في حقيقة البناء النفسي - الروحي في آن معا - انها كلها من مقومات بناء المجتمع في توحيد العصبية له ككل، و ليس لكل زعيم فيه علي انفراد. ان تهذيبا من هذا النوع الجليل، لا ينشئه، ولا يوسعه، ولا ينشره الا العقل.... ليت جدي قد طال عمره ثلاثين سنة فوق عمره الذي تعجل بتره - لكان المران قد أصبح أفعل، و أجدي، و أبلغ، و لكانت القبلية قد أخذت لها اتجاها آخر هو الي جني الخير من خزانه العام المشترك، وليس عن طريق كل زعيم بمفرده، لا يوصل للناس من الجني العام أكثر من عشرة بالمئة، أما الباقي فهو له علي استئثار. انما تهذيب الجماعات البشرية هو فن و اخلاص، و هما من انتاج قلب كبير، و عقل أكبر... الا تري يا عبدالله؟
ابن‌العباس: بدأت ادرك كيف يمكن المجتمع أن يحقق - كم أتمني الآن لو أن البداية بعد موت النبي - كانت بأبيك، رضوان الله عليه - لكنا الآن قد اختصرنا المسافات، ولكانت اليك الآن وصلت امامة تستمر - كما قلت - في التحرير و التسيير. أراك فعلا لها يا الحسن.
الامام: اني لها الآن يا ابن‌العباس - لقد تجلت لي الآن الحقائق: ان بناء المجتمع لا يتم بعشر سنين - انه العمل الذي لا ينتهي، أما جدي - فانه لم يقدم الا حجارة الأساس، علينا - من هذه الحجارة - ان نبني، حجرا حجرا يكون رص المداميك. أماالقبلية فاننا لا نقدر أن نزحزح شيئا من أثقالها

[ صفحه 150]

الا بفرط رمالها - حبة حبة - من المداميك المشوهة التي نحن نعاني منها.
انه الواقع يا عبدالله - لهذا لم يكن لنا الدور في الوصول الي الحكم الذي تترجاه لنا الآن - بعد أن ترجاه لنا جدي - لأن الواقع المريض الذي هو واقعنا، لم يرض بنا في هذا الظرف الذي لم تنتظم بعد قرعات ثوانيه لقد تنكر لنا المجتمع القبلي، لأنه ظننا نتقدم عليه بعصبية ضخمها علينا انتماؤنا الي بني‌طالب، نقمها علينا بنوأمية، و ان كنا جميعا من بني قريش. ربما نكون نحن المغالين بالافتخار بطاللبيتنا التي انجبت فخر المسلمين، فلم تتحملها عصبية الزعماء، فارتدوا الينا و طعنونا بها بما جعل الضربة ترتد اليهم و الينا بشكل أليم!
ابن‌العباس: ولكن النبي منا أيها الامام، فهل كان الغير بنا من الخاسرين؟
الامام: أنه منا بتمام الحقيقة يا ابن‌العم، و أنه أيضا بالحقيقة الواسعة، من كامل أرض الجزيرة، من تاريخها، من واقعها، من حراتها، و من واحاتها علي السواء.... ولكنه بالحقيقة الواسعة و العظيمة - ليس لنا وحدنا - بل أنه للرسالة التي هي - أبدا - للانسان: أظنها ستجمع الي صدرها الرحب عالم الانسان في حضن الله العزيز الحكيم... هكذا علينا نحن الآن أن نستوعبه و أن نستوحيه في متابعة العمل...
ابن‌العباس: و كيف؟
الامام: أن نقر بالواقع - أن نقدم ما يزيل عنا سوء الظن، أن

[ صفحه 151]

نقول: لا فرق بين طالبي و اموي: وأية قبيلة من قبائل العرب، أن نتحد لمصلحة الأمة، و أن نتنازل عن كل شي‌ء في سبيل مصلحة الأمة، و في سبيل وحدتها و استقرارها، اني اتنازل عن الحكم الذي حجبه عن والدي وعني واقع الأمة، فأنا لست له، اذا يحسب علي استئثارا كما يحسب علي كل ساع اليه لجلعه اداة كسب... أنا لست من هذا النوع من طالبي الحكم يا عبدالله - أنا اقدم الآن القدوة الحسنة - حتي يتأثر بها معاوية لجعل الحكم اداة جمع لا اداة تفرقة - حقنا للدماء أولا - و منعا للقبلية من التمادي في استفحال أمرها - و توحيدا للأمة و جعل كل أبوابها مفتوحة لا موصدة بحواجز، و فوارق،و حدود - حتي يفتح العراق علي الشام، و تنعم أرض الجزيرة الأم بحقها من الأمومة،يأتيها حبا و تكريما و وفاء و تقديرا، من جميع ابنائها المتمددين فوق الأرض منذ عشرات آلاف السنين - ألا تري ذلك صحيحا يا عبدالله؟
ابن‌العباس: ولكن معاوية ليس هكذا سيفعل!
الامام:
يكفي أنه سيرد جيشه الي الشام و يريحه من قتال ليس له جدوي - يكفي أن يجمع العراق الي الشام و يريحه من مضنيات القتال - يكفي أنه يريح أرض الجزيرة الأم من صراع يقف بها علي حد الانفجار - يكفي أن يحسب التنازل تخفيفا من قبلية هي علي الأقل - بين الطالبيين - الهاشميين والسفيانيين - و الأمويين -مرض عضال يطال كل القبائل...
ابن‌العباس: و هل تراه سيصلح للحكم الواسع و هو يؤسس ملكية لا خلافة صحيحة للمسلمين؟
الامام: أنا لا أظن أن مبدأي في جعل مصلحة الأمة فوق كل

[ صفحه 152]

مصلحة، هو الذي سيأخذ منه معاوية كل البنود التي سيبني عليها دولة حكمه - ان مبدأي هذا ليس معاوية بالتخصيص - انه للأجيال الصاعدة. كل جيل يأخذ منه مادة سيستحق درجة من الجناح - ان الحكم الذي سيتوصل الي الفهم، هو الذي سيجمع الأمة الي بساط واحد من العمق الحضاري - و عندئذ فان المجتمع الصحيح هو الذي يستحق المجد المسحوب من خيرات الأرض، ومن الحضارة التي يولدها عقل الانسان الواعي، في ظل من معرفة تكون قد محت التعصب الصغير الحقير للزعامات، وجعلته تعصبا كبيرا مجيدا للمجتمع الذي هو كل المعرفة، و كل الحق، و كل الجمال.
ابن‌العباس: و الان أيها الامام؟
الامام: اترافقني الي المدينة حيث نستقر و نؤسس ندوات للبحث و العلم و نشر الثقافة؟ علنا هكذا نستمر في عمليات البناء، و يستمر لنا الحكم الذي فاتنا علي كرسي، و لا يفوتنا أبدا، و لو قصدنا بعملية التنحية و القهر، و التغييب!
ابن‌العباس: سأكون معك يا ابن‌العم، و بالرغم مما أوجس منه... و لكن معاوية لن يحقق بندا واحدا من بنودك الكبيرة في الاصلاح - لن تنفصل عنه مقاصده، فهي مطوية في نفسه - سيلاحقك الي المدينة سيلبث أبدا طابخ سم - يكفيه في بطانته: مروان بن الحكم و بقية الحثالة الأموية و أخيرا هذا الذي فتش عنه والحقه بنسبه - زياد بن سميه -فهلا تحذر دائما معاوية!
هيا يا ابن‌العم - أنا أعرف معاوية، وأعرف تماما أنه هو بالذات قاتلي، و أعرف أنه هو السم الذي اشربه - و أعرف

[ صفحه 153]

الآن أني جعلت منه ترياقي.
ابن‌العباس: أنت نهر الكوثر أيها الامام، فيا خوفي من أنك ستكون الكوثر المهدور!!!
الامام: طالما أن الكوثر هو الكوثر، فيكف يهدر - يا عبدالله - كوثر الجنة؟نحن قدمنا الحق يا ابن‌العباس، و هل يبني مجتمع بغير الحق؟ فلينتظرنا اليوم الكبير - الي ذلك اليوم سنبقي نحيا - هيا بنا الآن يا عبدالله بن العباس...
و يشمل المكان صمت كأن عليه سجف الأبدية.... رفعت رأسي لأري أين هما المتحدثان اللذان لم يتركا الا صدي بقي رهبة في سقف المكان و علي جدرانه... و لكني لم أجدهما،فتقدمت الي الستار المكشوف عن نافذة وسيعة في الجدار، فرأيت ايوان كسري رابضا في الأبعاد، ورأيت شبحين يسيران بخطوات مقهورة، ولكنها مستضيئة بنجوم اليلل - عرفت انهما يتجهان نحو يثرب،فأغمضت عيني التعبتين و أنا أقول: الا يمكنني أن اتبعهما الي يثرب؟
و لكني وجدتني - و تباشير الصباح تسبق الشمس الي - افتح عيني علي الكتاب الذي ما زال بين يدي، و لكن أصابع كفي كانت تدغدغ الصفحة البيضاء من خاتمته، فأخذته ورحت استدرج - كراسا سريعا - صفحاته و أنا أسألة: أين وجدت فيك أيها السارد كل ما سمعت في هذا الليل من حديث جليل لم أقرأه مجموعا فيك؟ و لكن صمت وعدت الي نفسي أقول: و لكني جمعته كله من بين دفتيك - تلقطت به معلقا بكل حرف من حروفك أيها الكتاب - من هنا و هناك و هنالك جمعته - مما قيل بالكلمة، و مما قيل بالاشارة، ومما خروج بالصدي - من الحقيقة جمعته، ومن الكذبة السوداء جمعته، ومن الكذبة البيضاء جمعته، و من المقصد الرهيب، و من الغاية المرهونة خلف الستائر المتدلية علي النوافذ، لتحجب النور؟، و تبقي المكان في عتمة السقف و الجدران.... و جمعته من لسان من هنا و لسان من هناك، يتحاوران و يتخبان خلف شفتين تقدمان

[ صفحه 154]

السم للهضم،فاذا الساحات كلها الغبار الذي تتنفس به عصبيات أبعدت الحقيقة عن نصابها
اجل أيها الامام - أنا ما قرأتك هكذا مجموعا في كلمة، و لكني ادركت أنك أنت كل هذا بتصرفك علي الأرض الذي هو تصرف تعبير عن نهج هو كل الصواب.... سألحق بم الي المدينة، علني أسمع منك كلمة أخري ستقولها مفروطة من عطشك الذي تسقي به ظمأك - فأنت - من الكلمتين المشتقتين من مصدر واحد - جبلت للتأكيد علي معاناة مات بها أبوك، وستموت بها - لتحيا أيها العظيم، كما لا يزال يحيا بها أبوك العظيم الآخر.

[ صفحه 157]

الخاتمة

حروف أخيرة

أيه أيها ألامام
أجل - يا أبامحمد - لقد تمنيت أن الحق بك الي يثرب - لا لا ستزيد معرفة بك، بل لأبلغ من غرقي في كنهك، لقد بدا لي أن رفيقك في الطريق الممتد طويلا طويلا بين المدائن و يثرب، كان عبدالله بن العباس - ولكنه بدا لي أيضا أنه لم يصبح - كما اتصف به - حبر الأمة، الا بعد أن ارتوي منك و أنت تكشف له علما في طوية النفس و حقيقة واقع المجتمعات - لكن... لماذا لا يبدو لي أيضا - في حقيقة الشوق - أني أنا بالذات، بعد أربعة عشر قرنا من مسافات الانفصال، كنت رفيقك في الطريق الممدود فوق صفحات الرمال؟ يا للعظمة في تركيز الخيال! كيف يجعل من حبة الرمل وصلة تجمع الصحراء من طرفيها، وكذلك قطرة الماء في جمع المحيط الخاضع تحت خفقة المجذاف!
- 2 -
لست أحب أن اتخيلك أنك العظيم، فأنت - بالحقيقة - كنت العظيم، لقد أنشأت صلحا مع معاوية، لا ليسلم معاوية متنعما بأرض الغوطة، أو لتسلم أنت مكفكفا في أرض يثرب - بل لتسلم يثرب في الشام، والشام في يثرب - ولتسلم يثرب في العراق و العراق في يثرب... يا للأمة سالمة في وحدتها كما هي سالمة بمثلها المجموعة اليها من غرسها بالحق.

[ صفحه 158]

- 3 -
أيه أيها الضمير المشتاق أبدا الي الاقرار بالمعروف الناصع البياض - اتكون خطوات الامام قد نقشت نقشا علي رمال الطريق - بين المدائن و يثرب؟ كأن الرمال بلاطة تحفظ النقش فلا يمحي و هي مسحوبة من مقالع زغروس المخيم علي الخليج، وهي لا شك ممتدة، ومن تحت لجج المياه، الي تحت هذه الفدافد و الصحاري، حتي تكون أساسات بنيت عليها مساحات الجزيرة الأم، و بالأخص مدينة مكة، و مدينة يثرب... أتكون الخطوات هذه غير تسجيل لواقع مهزوم،لا تزال تئن منه الأمة العظيمة التي لم تصل بعد الي حضور ترتجي له العظمة!
- 4 -
لقد وقعت الأمة في ويل لما تحولت صفين الي اسفين قطع الفرات عن الفرات، و الشام عن العراق، والانسان عن الانسان! و لكانت وقعت بالويل العميم لو لم يبادر الحسن الي اتخاذ القرار - أيه أيها الجراح بن سنان ما كنت ادري أية بطولة هي التي كانت تحدثك برفض القبول بالقرار - أم أنك عدت فقبلت بالقرار،بعد أن سمعت الشرح من الامام، يحمله أم عبدالله، حتي تبلغه أخاها معاوية في الشام - ففهمت أن القرار هذا هو أساس ثقافة ستنجح بها الأمة، اذ تتغطي به كأساس.
- 5 -
أصبح حبر الأمة عبدالله بن العباس يساهم معك في يثرب في الندوات التي قمت بها لنشر العلم و الثقافة، من هنا يشتد ايماني بأن نشر الثقافة في المجتمع هو الذي يخلصه من غفلاته، و يقدم له الوعي الذي كان غافلا عنه، و هو الذي يقدم له المعرفة التي تنبع و من عمق الواقع الانساني - المجتمعي، و يدله الي الخير الذي هو له، و الذي هو مادة جمعه و توحيده، و أساس مناعته كمجتمع حي... ليست الثقافة المنشودة الا حصيلة اختبار الانسان من حقيقة

[ صفحه 159]

واقعه في مجتمعه، حتي تكون له في مجال التلبية.
-: -
لقد قالوا عنك أيها الامام: لو لم تكن مهزوما لما اتخذت القرار - و لقد اتخذته بالتمام لأنك كنت مخذولا...و لكنها الحقيقة بالتمام: لقد كنت مهزوما - لهو واقع الأمة الذي هزمك - و أنه واقع الأمة الراهن هو الذي خذلك... لقد خذل جدك العظيم قبلك فلم يطع في احلامه و تمنياته - لقد خذل أبوك الغارق في اصالة الوجدان، فافرزته القبلية الي الهزيمة! وللهزيمة هنا مدلول آخر، لم ينهجه لا أبوبكر، و لا حتي عمر - انها هي التي تطال الأمة كلها: باحلامها، و امانيها، و وحدتها، و كل تحقيقاتها البكر! و أية هزيمة نكراء تقع فيها الأمة، و هي تجمع حقدا عند قبائلها و تزرعه في صدر كل زعيم لا يمكنه أن يحقق زعامته. الا بجمع كل قبيلة تقاوم قبيلة اخري تسابقها علي الزعامة! أن الذي حصل علي الأرض هو الهزيمة بالذات، تلقاها الحسن، و ألف منها القرار، و ألف منها النصر، و ألف منها الأمثولة لأجيال: بأن الصلح الواعي هو وحده لجمع الأمة و ربطها بوحدتها الكبيرة التي منها وحدها تحصل العظمة.
- 7 -
ما رايتك أيها الامام - ازاء معاوية - الا لتصفو. فهو الذي رماك في المعاناة التي وصفوها بأنها أصل الهزيمة و الانخذال - حتي أخذت منها طاقة حولتها الي المجري الآخر الذي هو تنظير حضاري في التحام الأمة التحاما رائعا يقوم علي نبذ الأحقاد، و تسليم العقل السليم زمام المجتمع القوي الراقي - كأنك ابتكرت النهج أيها الامام، في مجتمع أضناه النهج القبلي العتيق،فذا أنت طريق جديد مخطوط في قلب الصحراء، كأنه مزروع الجانبين ببواسق الشجر، و كأن قوافل تخطر عليه، و هي تنؤ باحمال و آمال هي كل الخير المبني به مجتمع الانسان.

[ صفحه 160]

- 8 -
لم يمت هانيبعل العظيم مهزوما، فهو لا يزال يحيا في كل ما رسم من مخططات جعلته عبقريا في فنون الحرب، دفاعا عن مجد قرطاجة - و لم يترك عيسي الأرض مهزوما، فهو يحيا في كل حرف بالرحمة نطق، و بالحب و التسامح، لتكون الأرض كلها في فلسطين عجينة مطهرة يأكل منها الانسان حتي لا يموت - و جدك العظيم - أيها الامام - لم يمت مهزوما في يثرب، بل أنه لا يزال يحيا في كل آية توحد الله في توحيد الأمة، حتي تبقي عظيمة بين أمم الأرض - و لم يمت مهزوما أبوك علي فوق أرض الكوفة، فهو الحي في كل حرف بليغ نطق به، و هو يرسم فيه - بالفعل - قيمة الحق، و قيمة العفة، و قيمة الوجدان، و كلها أساس في بناء مجتمعات الانسان - و لم تمت أنت مهزوما، يا أيها الذي ناولوك السم في كوب - فمات الساقي ملفوفا بنيته السوداء، و حييت أنت بسم جعلت منه - أبدا - ترياقك... يكفيك أنك قدمت للمجتمع المفسخ الذي هو لك، مبادي‌ء حق ستجمعه الي ذاته العظيمة اذ يفتش عنك.
- 9 -
أصحيح أيها الامام أن المرأة التي هي ضلع في بيتك - زوجتك جعدة بنت الأشعث - هي التي مزجت لك السم في كوب من اللبن، رحت تجرعه في مرض ألم بك و رماك محموما في الفراش؟! و هل هو صحيح أيضا أن طابخ السم معاوية؟ لماذا لا يكون صحيحا كل ذلك؟ ألا يكذب علي الغير ذلك الذي يكذب علي نفسه؟ أيكون معاوية قد حقق شرطا واحدا من الشروط التي قطعها لك، لقاء تنازلك له عن الحكم؟ أين هي - في آخر المطاف - ولاية العهد؟ لقد كانت اليك في حقيقة الاتفاق، و ها هي لابنه يزيد... فلماذا لا يكون له أن يختم العهد بالقضاء عليك قضاء مبرما، حتي لا يكون له - منك - أية بادرة من ازعاج!!! أما أنت أيها الامام، فكنت العارف منذ ذلك الوقت بأن معاوية لن يصدق، و لكنك - بالذات - كنت العازم علي اتخاذ القرار، لا لتجترح اعجوبة تخليص معاوية من أثقال سفيانيته - فان ذلك لم يكن بمقدورك - بل لتقدم للأمة

[ صفحه 161]

مادة تنجيها من تخلفها، و تجعلها ماثلة أمامك في القدوة التي تناولها دمك مهرا لها - مقدما و مؤخرا علي السواء!!!
- 10 -
لقد كانت لك الأمنية أن تنام نومتك الأخيرة قرب جدك حيث هو ثاو في باحة المسجد - و لكن الوباء ذاته الذي رمي أباك في الساحة بعيدا عن كرسي الحكم، هو الذي أخذ به والي المدينة الأموي سعيد بن العاص، و جردك، حتي من أمانيك في جدك الرسول... لقد كانت لك استعاضة،فنمت في حضن امك فاطمة في البقيع، فكنت عزاء لها في غربتها! أما ذلك الذي هو ثاو في النجف الاشرف فانه رنا اليك و هو هازي‌ء من صروف الدهر- أما اخوك الحسين، فانه بقي واقفا وحده قربك، لا ينحني و لا يلين - لقد أخذته العاصفة الي حضنها،و لفته بما هو أعمق من العنفوان.

[ صفحه 163]

خاتمة

أيها الامام،
و اسأل نفسي فيك
ما هو الجلال؟
هو أنك قد أتيته رحبا -
انه كالخيال -
تستدرجك اللحظة فيه الي ألف مجال -
وكنت المجال...
في تلك اللحظة الأولي كنت المجال -
و بعد أن اختطفت الي المدي،
أصبحت شوقا في المجال -
فلتنظر اليك الأمة،
بعد رصيد طويل من السنين،
فأنت لها بساط الأساس.
يا للنهج الأساس!
و أنت لها جامع الحق،
و جامع النهي،
و جامع المفارق فوق الدروب،
و أنت جامع حبات العقد في رصف النضيد،
و أنت الرائي الكبير:
تمشي الطريق بالهمس اللطيف -
تجمع الهمس و تصوغ منه ياحات الزمان -
كأن عناق الصلح بين اثنين،
عو عتبة البناء -
تمر من تحتها أافوج و أفواج -
أنهم الميامين ألفاهمون -
انهم سواعد الأمة السمحاء و العذراء...
يا لجاجة الشوق اليك.
تمر الأيام، و هي تذوب في فراغ،
دون أن تعرف كيف تتلمس خطاك!
كأنها لا تزال تغرق في حراتها المضنيات!
كأن الحقد هو الضرورة من حاجاتها!
تقتات به - ظنا - أنه هو العنفوان -
يا لأمة! ومبتغاها العظيم!
أليس هو الجمع في طاقاتها؟
فأين هي - بعد طول في مسافات الزمان -
لا تستجيب الي خطاك؟!
أيها البهي الذي نقشت الدرب بخطاك -
و قصدت رزم الأمة -
فمتي يكون لها مجد -
و هي تقفو خطاك!!!
والسلام

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.