الامام الحسن علیه السلام القائد و الأسوه

اشارة

‏سرشناسه : سليمان، حسين سليمان
‏عنوان و نام پديدآور : الامام الحسن القائد والاسوه/ تاليف حسين سليمان سليمان
‏مشخصات نشر : بيروت : دارالسرور، ق‌۱۴۲۰ = .م‌۱۹۹۹ = .۱۳۷۸.
‏مشخصات ظاهري : ص ۲۶۴
‏وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت : كتابنامه: ص. ۲۳۹ - ۲۳۷؛ همچنين به‌صورت زيرنويس
‏موضوع : حسن بن علي (ع)، امام دوم، ق‌۵۰ - ۳
‏رده بندي كنگره : ‏BP۴۰‏/س‌۸۴‌الف‌۸
‏شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۰۰۹۷

المقدمة

الحمد لله علي نعمة الإسلام الذي جعله الله سبيلاً لإنقاذ الإنسان من التيه والغيّ والفساد والضلال وقيادته نحو الهداية والكرامة والوعي والنجاة، والصلاة والسلام علي رسوله الأكرم منقذ البشرية وهادي المضلين إلي سبيل الرشاد وعلي أهل بيته الأطهار الصراط الأقوم إلي السماء وسفينة النجاة وقادة الأمة وأئمة المسلمين بالحق..
أما بعد:
في سيرة أئمة الدين (عليهم السلام) لا يوجد شك في أنّ كلٌ منهم كان يحيا في زمان، معين، وأنّ زمان ومحيط كل واحد منهم، كانت له اقتضاءات مختلفة. وحيث أنّ كل إنسان يتوجب عليه بالضرورة أن يتّبع مقتضيات زمانه، فإنّ الدين قد ترك الناس أحراراً من هذه الناحية. وفي صورة تعدد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتعاقبهم، أو طول عمر واحد منهم، فإنّ الإنسان يتمكن بشكل أفضل، من تشخيص روح التعاليم الدينية، وفرزها عما يكون ممتزجاً بها من مقتضيات الزمان، فيأخذ الروح ويترك الأمور المختصة بتلك المقتضيات تماماً كالمثال الذي يدور حول حياة الزهد، حيث كان الرسول (صلّي الله عليه وآله) يعيش الفقر، بينما لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً: كذلك.
ولتبيان جوانب هذا الموضوع نري في الحديث المعروف الوارد في (الكافي) [1] ، وكذلك في (تحف العقول)، أن سفيان الثوري دخل علي أبي عبد الله (عليه السلام) فرأي عليه ثياباً بيضاً... إلي أن قال: فما أنكرت يا ثوري، فوالله إني لمع ما تري، ما أتي عليّ، قد علقت، صباح ولا مساء، ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعاً إلا وضعته.
وفي حديث آخر: (عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تزيّد السّعر بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قال: قلت، عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة، قال: أخرجه، وبعه. قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام!! قال: بعه، فلما بعته قال: اشتري مع الناس، يوماً بيوم، وقال: يا معتب، اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً، ونصفاً حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة علي وجهها، ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة) [2] .
يريد الإمام بعمله هذا أن يبين لنا كيف أن الإسلام بشكل أساسي يفرض علي المسلم أن يكون سلوكه بين الناس مقروناً بالإحسان وممزوجاً بالعدل والإنصاف ولا يهم بعد ذلك أن يضع خبزه في البيت، أو يشتريه من السوق، أو يأكل خبز القمح، أو الشعير، أو يخلط القمح بالشعير...
وهكذا فبملاحظة الاختلاف بين عمل رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وعمل الإمام الصادق (عليه السلام)، فإننا نتفهم روح الإسلام بشكل أعمق، ولو أن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يبين لنا هذا الأمر، ولم يوضحه، لكُنا اعتبرنا هذا الجانب من عمل رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، والمتعلق بعصره الذي كان يعيش فيه، جزءاً من الدين الإسلامي، وبضم الآية الكريمة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [3] وهذه الآية تأمرنا بالتأسي برسول الله (صلّي الله عليه وآله) إلي هذا الأمر.
ونستطيع أن نقول كلمة حاسمة أن الأئمة (عليهم السلام) عندما يتحركون في الحياة فإن كل حركتهم تمثل الخط العملي لأسلوب الدعوة في القرآن الكريم، الدعوة في أخلاقيتها والدعوة في حركيتها، والدعوة في قضايا الصراع، وهذا ما يريده القرآن الكريم ويتحرك فيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو أن يكون كل واحد منا داعية بكل شخصية لتكون كل حياته دعوة في سبيل الله وتجسيداً للخط الأخلاقي الإسلامي في مسألة الدعوة إلي الله تعالي.
ومن جانب آخر لا يمكن أن نقسّم أسلوب الأئمة (عليهم السلام) بحيث مثلاً: لا يمكن أن نفكر بأن الحسين (عليه السلام) يعيش ذهنية العنف، وأن الحسن (عليه السلام) يعيش ذهنية اللين. إنّ الأسلوب الحسني ـ إذا صح التعبير ـ كان أسلوباً حسينيّاً، وإنّ الأسلوب الحُسيني، كان أسلوباً حسنياً. كيف نفسّر ذلك؟
إننا عندما نواكب مسألة حركة الإمام الحسن (عليه السلام) في خلافته فإننا نجد أنّه كان ثورياً كأعلي درجات الثورة في خطابه السياسي وعندما ندرس وندقق في مفردات كتبه إلي معاوية فإننا نجد فيه أنه كان يعيش عمق العنف فيما يمثله الجهاد في هذا المجال، وعندما يكون صالح فإنّه صالح علي أساس أنّ الظروف الموضوعية كانت تقف به بين خطين:
إما أن تسقط المعارضة محلها، فلا يبقي هناك صوت للحق يعارض الباطل، وإما أن يحتفظ ببعض المعارضة التي يمكن أن تمثل استمراراً للخط في مواجهة الباطل الذي استطاع أن يفرض نفسه علي مساحة كبيرة من الواقع، هذا من جهة.
ومن جهة أخري فإنّ الحروب التي كانت تدور بين المسلمين في خلافة الإمام علي (عليه السلام) قد أتعبت المسلمين، ولذلك أتعبوا عليّاً (عليه السلام) بأسلوبهم في السير معه وحجبت الرؤيا عن فضائح الأمويين وعن سيئاتهم ووحشيتهم وضلالهم، وما إلي ذلك لأننا نعرف أن أية أمة لا يمكن أن تميّز بين اللون الأبيض واللون الأسود في حالة الحرب، لأنّ حالة الحرب تمثل الحالة الرمادية، في ما هو الوعي المنفتح علي كل قضايا الواقع، فالناس في حالات الحرب يفقدون الخطوط الواضحة للمبادئ، ويستغرقون في مفردات الحرب، ليسجلوا نقطة علي هذا، وليستغرقوا في هزيمة هنا ونصر هناك، وما إلي ذلك، ومن هنا كان من الصعب جداً توعية الناس بالواقع الذي يمثله الحكم الأموي، لذلك كانت المصلحة الإسلامية العليا التي تحكم مسيرة الإمام الحسن (عليه السلام) هي أن يحفظ البقية الباقية من المعارضة لتمثل الامتداد في خط المواجهة للباطل، وليعطي الناس فرصةً لتتفهم من خلال التجربة الواسعة من هم بنو أمية، وما هو الحكم الأموي لذلك كان يهيئ المجال لثورة الحسين (عليه السلام). وقد لاحظنا انه عندما ثارت ثائرة المتحمسين من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الإمام الحسن (عليه السلام)، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدافع عن موقف الإمام الحسن (عليه السلام) ويتحدث عن شرعيّته بكل قوة، وإذا صحّ أنّ الحسين (عليه السلام) وقّع وثيقة الصلح عندما طولب بذلك كما وقّعها الحسن (عليه السلام) فإنّ معني ذلك أن الحسين (عليه السلام) كان يسجّل موافقة مباشرة علي الصلح.
وربما كان هذا هو ما يفسّر أن الحسين (عليه السلام) لم يطلق الثورة في وجه معاوية ما دام معاوية حيّاً، لأنّ الالتزام بهذا الصلح كان بحكم موقفه إذا صحت الروايات وهكذا نري أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أعطي للسلم إمكاناته، ولو من خلال إقامة الحجّة وكان يعمل علي أساس أن يقدم الحجج التي كانت بيده علي شرعيته في أحاديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وكان يطلب من الناس أن يشهدوا علي ما سمعوا به، وكان يحاول أن يطرح بعض الحلول السليمة، ولكن القضية وصلت إلي الحد الذي عبّر عنه الإمام الحـــسين (عليه السلام): (ألا وإن الدعيّ ابن الدعـــيّ قد ركّز بين اثنـــتين، بـــين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة) [4] .
عندما طلب منه أن ينزل علي حكم ابن زياد ويزيد بن معاوية، ومعني ذلك إلغاء الرسالة وإلغاء كل الشرعيّة، لأن النزول علي حكمهم معناه إعطاء كل شيء لهم.
لذلك كانت المسألة الحسينية تتحرك من خلال الظروف التي أوحت للحسين (عليه السلام) بالقاعدة الشرعيّة لحركته، كما كانت الظروف الموضوعية هي التي حركت الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) معه لتطبيق الخط الشرعي علي مسألة الصلح، ولذلك كان الحسن حسينياً وكان الحسين حسنياً.
ليس في الإسلام شيء اسمه العنف المطلق، وليس في الإسلام شيء اسمه اللين المطلق، وإن العنف يختزن اللين في ما ينفتح به علي كل وقاع الحياة واللين يختزن العنف في ذلك، باعتبار أن لكل منهما حدوداً معينة وظروفاً معينة.
فقد وقع اهتمامي علي قراءة لكل ما وقع في يدي من كتابات (مؤلفات ومصادر) حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) وكنت أحاول قدر جهدي أن أدرس الفترة الممتدة من شهادة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حتي شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) خاصة وأن التحولات السياسية في الدولة الإسلامية كانت بداية لمرحلة الانهيار في نظام الحكم الإسلامي وتشكيل نظام الحكم القبلي وما رافقه من تدهور للبرنامج الإسلامي في أصعدته المختلفة، الاجتماعي والثقافي والاقتصادي و.. و...
ومن بين الاستنتاجات التي توصلت إليها من خلال قراءة هذه الفترة أن الإمام الحسن (عليه السلام)، عايش مرحلتين: مرحلة انهيار حكومة العدل الإلهي في عهد الإمام علي (عليه السلام)، ومرحلة إقامة نظام الحكم القبلي الأموي علي يد معاوية بن أبي سفيان وكان علي الإمام الحسن (عليه السلام) أن يبذل جهداً بالغاً في الحفاظ علي المنهج الإسلامي من الضياع قبل أن يتحول إلي منهج أموي بعد دخوله مرحلة نظام الحكم.
وبطبيعة الحال إن التعامل مع مثل هذا الظرف الخطير يحتاج إلي ضريبة، فكانت هذه الضريبة: أن العظماء والقادة لابدّ أن يخسروا في فتنة التحول المكاسب الظاهرية والتي عادة ما يسيل لها لعاب المؤرخين ذكر هذا الجانب من العظمة تحديداً من تاريخهم، من جهة ثانية وجدت في كثير من الكتابات حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) إنها جمدت عند مقطع معيّن من هذا التاريخ فكانت عملية الإسهاب في الكتابة عنه قد بلغت حدّاً كبيراً بحيث أعطته اهتماماً بالغاً حتي أصبح هو الطابع العام والسمة البارزة في حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، رغم أنّ الأمر ليس كذلك لأن التاريخ كلٌ لا يتجزأ يؤثر قديمه في حديثه كما تؤثر وقائعه السالفة في أحداثه اللاحقة، إضافة إلي أن التاريخ ليس كتلة من التناقضات أو حركة من التطورات الدراماتيكية التي تنشأ بإلغاء مقطع تاريخي سابق لتقيم علي أنقاضه مقطعاً جديداً يحمل في تركيبته عناصر جديدة أو مواد خام مختلفة وإنما التاريخ هو كتلة من التفاعلات المنتظمة تؤثر في بعضها البعض بصورة تدريجية وتترك آثارها علي المراحل بالتوالي، وهكذا هي سنن الله في التاريخ والاجتماع التي لا تتبدل.
من هنا فإن فهم هذه الحقيقة يدفع للقول إلي أن الوقائع التي حصلت في تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) إنما هي امتداد لتاريخ ما بعد غياب الرسول (صلّي الله عليه وآله) عن الحياة الدنيا وانحراف نظام الحكم بعدم إقرار الولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) علي المسلمين لمدة ربع قرن من الزمان ثم إفرازات هذا الانحراف علي واقع المجتمع الإسلامي في عهد الإمام علي (عليه السلام) والتصدّع الخطير في الحكومة الإسلامية بسبب انفجار الأزمات الداخلية وحركات التمرّد منذ بداية تولّي الإمام علي (عليه السلام) للخلافة ونشوب الحروب في عهده (عليه السلام) والتي كانت سبباً رئيسياً في تحطيم الكيان الرسالي الذي كان يستند عليه الإمام في إقامة حكومة العدل الإلهي، ثم نهاية هذا العهد بطريقة مأساوية بعد أن أصاب جيش الإمام (عليه السلام) التقهقر والانهيار والتعب في حروب التمرد (الجمل، صفين، الخوارج) حتي انتهت هذه الحكومة باستشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) علي يد أحد عناصر التمرّد عبد الرحمن بن ملجم.
وجاء الإمام الحسن (عليه السلام) إلي الحكم والأمة تعيش انهيار شاملاً، لقد جاء الإمام (عليه السلام) إلي الحكم ولكن دون مقوّمات فلم يكن يمتلك قوة عسكرية تحفظ كيان الحكومة من هجمات التمرّد وغارات العدوّ، ولم يكن يمتلك شعباً متماسكاً يسند الدولة في الظروف الصعبة بل كان المسلمون موزعين الهوي والهوية.
وجد الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه أمام أمة قد انسلخت من قيمها وغلبت عليها شهوة المال وحب الراحة فكان لابدّ أن يبدأ عملاً تغييرياً في جذور الأمة ليعيدها إلي فطرتها الصافية ويذكرها بمفاهيم الرسالة التي بُشّر بها الرسول (صلّي الله عليه وآله)، فقد عمل الإمام الحسن (عليه السلام) علي إحياء هذه المفاهيم بقوة، لأن حركة الوضع والتزوير في المفاهيم والأحاديث قد نشطت بكثافة رهيبة في عهد معاوية وهي ـ أي حركة الوضع ـ تعدّ أكبر حركة وضع في تاريخ المسلمين والتي ما زالت آثارها باقية إلي هذا اليوم حتي أصبحت المفاهيم المتناقضة أمراً اعتيادياً في مصادر التفكير لدي المسلمين حتي ليصبح معاوية وهو الذي سفك دماء رجال الإسلام العظماء أمثال عمار بن ياسر وحجر بن عدي.. وغيرهما يصبح معاوية هذا أمير المؤمنين وأمين الله علي وحيه وأن الرسالة لو لم تنزل علي محمد (صلّي الله عليه وآله) لنزلت علي معاوية!!
ولقد عمدت في فصول هذا البحث إلي تفلية الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف أحداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها (الاستراتيجي) في التاريخ ـ إذا صح هذا التعبير ـ عن أعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسول (صلّي الله عليه وآله) والي يوم الناس، لأنّها كانت ظروف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلفاء الآخرين، ولأنها بداية إقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحيّة والسلطات الزمنية في الإسلام، واللحظة التي صدّقت بأحداثها الحديث النبوي الشريف الذي أنبأ برجوع الأمر بعد ثلاثين عاماً إلي الملك العضوض، ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الإسلامية.
ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول، أن ترجع ـ بعد الجهد المرتخص في سبيلها ـ بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق ـ أبعد ما تكون تأتياً في البحث وأكثر ما تكون تفسخاً في المصادر، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الأحداث فتعرضها في هذه السطور مجلّوة علي واقعها الأول، أو علي أقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين أحضان جيلها المختلف الألوان.
فإذا بالحسن بن علي (عليه السلام) بعد هذا وعلي قصر عهده في خلافته من أطول الخلفاء باعاً في الإدارة والسياسة، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الأمور وسمّوه في علاج المشكلات.
وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء، أن يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم، أناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق، أو المغلوبين بسوء الطوية، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير، ثم يتحذلقون بالتطاول علي الكرامات المجيدة، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث، فلا يدلون بتفريطهم في أحكامهم إلا علي فرط الضعف في نفوسهم.
وليس يضر الحسن بن عليّ (عليهما السلام) أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز وأن لهذا الإمام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الأسني من صفوة (العظماء) الخالدين.
وحسبنا في هذه السطور أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس، عظمة هذا الإمام، خالصة من كل شوب، سالمة من كل عيب، نقية من كل نقد.
وكانت النقود التي جرح فيها وُقّاح الرأي سياسة الحسن (عليه السلام)، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النصف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الإمام (عليه السلام) وكان للشهوة الحزبية من بعض، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر، وللجهل بالواقع من ثالث، أثره فيما أسف به المتسرّعون إلي أحكامهم. ونظروا إليه نظرتهم إلي زعيم أخفق في زعامته، وفاتهم أن ينظروا إلي دوافع هذا الإخفاق المزعوم، الذي كان ـ في حقيقته ـ انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته، بما كان قد طغي علي هذا الجيل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة علي الناس، وأي غضاضة علي (الزعيم) إذا أفسد جيله، أو خانت جنوده، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا إليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه، فيضع الخطط ويقرر النتائج ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبراً قبراً، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة إلي الإصلاح. ثم يموت ولا يرضي أن يهرق في أمره محجمة دم.
تري، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟ وأن بحثنا هذا يضع نقاط هذه الحروف، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع، أو هي الواقع نفسه مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية، وبالدراسات النفسية، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد هذا البحث والدراسة، والقاعدة التي خرج منها إلي احكامه بسهولة ويسر، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء.
وأما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الأولين، ممّا كتب عن قضية الحسن (عليه السلام) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية، وطعمة الضياع والانقراض أخيراً.
وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح من تاريخ الإسلام، وفي المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ فلم نجد ـ علي هذا ـ من مصادر الموضوع: كتاب صلح الحسن ومعاوية، لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفي سنة 333هـ. ولا كتاب صلح الحسن (عليه السلام) لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم) ولا كتاب قيام الحسن (عليه السلام)، لهشام بن محمد بن السائب، ولا قيام كتاب الحسن (عليه السلام) لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعيد بن مسعود الثقفي المتوفي سنة 283هـ، ولا كتاب عبد العزيز بن يحيي الجلودي البصري في أمر الحسن (عليه السلام)، ولا كتاب أخبار الحسن (عليه السلام) ووفائه للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفي سنة 207هـ. ولا كتاب أخبار الحسن (عليه السلام) لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي، [5] ولا نظائرها.
أما هذه المصادر التي قدّر لنا أن لا نجد غيرها سنداً، فيما احتاجت به هذه البحوث إلي سند ما، فقد كان أعجب ما فيها أنها تتفق جميعها في قضية الحسن (عليه السلام) علي أن لا تتفق في عرض حادثة، أو رواية خطبة، أو نقل تصريح، أو الحكم علي إحصاء، بل لا يتفق سندان منها ـ علي الأكثر ـ في تاريخ وفق الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسن (عليه السلام) في ميادينه، أو في التعبير عن صلحه، أو في قتله أخيراً، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من أخبار الملحمة، من ألفها إلي يائها.
والمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر، عند نقاطها الحساسة أثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف، إرجاع هذه الحقائق إلي تسلسلها الصحيح الذي يجب أن يكون هو واقعها الأول، فقد كان من أيسر الوسائل إلي تحقيق هذا الغرض، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال، وتناسق الأحداث اللذين لا يتم بدونهما حكم علي وضع.
وكان من حسن الصدف، أن لا نحرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح الذي بعثرته هذه المصادر نفسها، في أطوار رواياتها الكثيرة المضطربة، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلي نقص كل منها، أولتنا الكاملة علي ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور، التي لا تستسلم للنقل أكثر ممّا تحتكم للعقل، رجعنا في كثير ممّا التمسنا تدقيقه، إلي التصريحات الشخصية التي جاءت أذلّ علي الغرض من روايات كثيرة من المؤرخين.
ولقد قسّمت البحث إلي ستة فصول هي: الفصل الأول تحدثنا فيه عن ولادة الإمام (عليه السلام) وزوجاته وأولاده وأوصافه وأخلاقه وعبادته ومكانته عند رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وعن إمامته، وأما في الفصل الثاني فتحدثنا عن مراجعة تاريخية سريعة للأحداث السابقة لعهد الإمام (عليه السلام) فشملت الإمام علي (عليه السلام) والخلفاء واعتزال الإمام، وحكومة الإمام (عليه السلام) والمشكلات التي اعترضت الإمام علي (عليه السلام) والمتارك لحكومة الإمام (عليه السلام) وأما في الفصل الثالث فتحدثنا عن عهد الإمام الحسن (عليه السلام) والبيعة العامة. وبداية الأزمة والتعبئة العسكرية في الدولة الإسلامية والفكر الاستراتيجي عند الإمام الحسن (عليه السلام)، وخيانات الجيش ومخطط اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) ورسائل عملاء الكوفة إلي معاوية ومطالبة الجماهير بالحل السلمي وممارسة الضغوطات علي الإمام (عليه السلام) وعالجنا في الفصل الرابع اتفاقية الهدنة والشروط والنتائج ووثيقة الهدنة والإجراء الوقائي. ووقفه مع رواية الصلح (الشبهة والرد) وأما الفصل الخامس فقد تحدثنا فيه عن ردود الفعل علي الصلح مع معاوية من قبل الطليعة المؤمنة ومواقف الإمام الحسن (عليه السلام) معها، وفي الفصل السادس تحدثنا عن الشهادة والتشيع وشمل البحث قسم التعليقات التي تناولت نقاط مهمة تتعلق بالبحث.
راجين من الله سبحانه وتعالي الأجر والثواب.
حسين سليمان سليمان
يارون. قضاء بنت جبيل
في 10/10/1996م
الموافق 28/جمادي الأول/ 1417هجرية

مولد النور

اشاره

بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) [6] .
مكث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في مكة المكرمة فترة من الوقت كان يواجه خلالها حرباً إعلامية من قبل رجال قريش، بهدف إقامة جدار بين رسول الله (صلّي الله عليه وآله) والمجتمع كمحاولة لفصل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) اجتماعياً تحت مبررات مختلفة.
وكان من وسائل هذه الحرب القذرة بثّ الشائعات والأضاليل الباطلة والمزيفة في أوساط الرأي العام القرشي والمكّي منها: أنّ رسول الله أبتر لا عقب له ولا خلف. ولقد سرت هذه الشائعة بين المجتمع المكي ممّا ترك في نفس رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بعض الحزن والتأثر.
ولكن الله سبحانه وتعالي أبطل هذه الأكذوبة، وبشّر رسوله بأن أعطاه فاطمة سيدة نساء العالمين وسيكون أبناؤه منها وهم اللذين سيشكلون امتداد الرسالة من بعده.
وفي السنة الثالثة للهجرة في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك [7] (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ)، جاء الوعد الإلهي بأن ولد الإمام الحسن (عليه السلام) ممّا بعث في نفس رسول الله (صلّي الله عليه وآله) تباشير الفرح والسرور بأن حقق الله عز وجلّ وعده وبأن ردّ كيد الأعداء من مشركي مكة، ولذلك بقدر ما كان مولد الإمام الحسن (عليه السلام) يضفي علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) السعادة والبشري، كانت زعامات قريش وأقطاب مكة تعض الأنامل وتتقطع من الغيظ والحقد لفشل المؤامرة الإعلامية ضد رسول الله (صلّي الله عليه وآله)..
وكانت الولادة المباركة في المدينة المنورة حيث استقبل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) سبطه الحسن سيد شباب أهل الجنة وبدا عليه الارتياح وقام من ساعته إلي بيت الصديقة فاطمة الزهراء (عليه السلام) ونادي يا أسماء أين ولدي؟ فأسرعت به أسماء بنت عميس إلي جده المصطفي (صلّي الله عليه وآله) وقد لفّ الحسن (عليه السلام) في خرقة، فقدمته إلي جدّه (صلّي الله عليه وآله) فاستقبله والبشري تلوح علي وجهه، فأخذ ابنه برفق، وضمه إليه وراح يلثمه بعطفه وحنانه، ثم بدأ يقطر أذنيه بالإيمان، ويعصر في روحه آيات التكبير والتهليل، فكان غذاؤه الأول: الله أكبر.. الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. أذّن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في أذنه اليمني ثم أقام في اليسري، لتكون هذه الكلمات القصار، الكثيرة والكبيرة بمحتوياتها أنشودة الإمام أبي محمد الحسن (عليه السلام) في كل مراحل حياته يحاول غرسها بكل ما لديه من جهد في أعماق النفوس لتكون أنشودة الحياة جيلاً بعد جيل. وجاء الإمام علي (عليه السلام) إلي فاطمة وسألها عن اسم المولود، أجابته: ما كنت لأسبقك، فأردف عليّ (عليه السلام) قائلاً: وما كنت لأسبق رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فجاء الإمام علي (عليه السلام) إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فسأله عن اسم المولود، فأجاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله)! وما كنت لأسبق ربّي.
فنزل جبرائيل من السماء علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وقال له: إن الجليل يقرؤك السلام ويقول لك اسمه حسن، فكان كذلك. ثم عق عنه وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضةً فكان وزنه درهمان وشيئاً، [8] وأمر فطلي رأسه طيباً، وسُنّت بذلك العقيقة والتصدّق بوزن الشعر وكنّاه (أبا محمد). ولا كنية له غيرها.

القابه

أشهر ألقابه: التقي والزكي والسبط [9] وعرف غيرها كالسيد والمجتبي [10] والطيب والولي [11] .

زوجاته

تزوج (أم إسحاق) بنت طلحة بن عبيد الله، و(حفصة) بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، و(هند) بنت سهيل بن عمرو، وجعدة بنت الأشعث بن قيس، وهي التي أغراها معاوية بقتله فقتله بالسم.
وقد تحدث المؤرخون عن زوجات الإمام الحسن (عليه السلام) وأكثروا ومال أكثرهم إلي المبالغة في تعدادهن مبالغة لا تعتمد علي أساس معقول.. [12] .

اولاده

كان له خمسة عشر ولداً ما بين ذكر وأنثي وهم: زيد، أم الحسن، أم الحسين، أمهم أم بشير بنت أبي مسعود الخزرجية. الحسن، أمه خولة بنت منصور الفزارية. عمر والقاسم وعبد الله، أمهم أم أولد. عبد الرحمن، أمه أم ولد. الحسين الملقب بالأشرم وطلحة وفاطمة أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي. أم عبد الله وفاطمة وأم سلمة ورقية، لأمهات شتي ولم يعقب منهم غير الحسن وزيد [13] .

اوصافه

(لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلّي الله عليه وآله) من الحسن بن عليّ (عليهما السلام) خلقاً وخُلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً).
بهذا وصفه واصفوه. وقالوا: (كان أبيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، كان عنقه إبريق فضة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكراديس، دقيق المسربة، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً [14] أو كما قال الشاعر:

ما دب فـــي فطن الأوهام من حسنٍ
إلا وكــــان لـــه الحظ الخصوصيّ

كأنّ جبــــهته مـــــــن تحـــت طرّته
بدر يتـــــوجّه اللــــيل البهـــــيميّ

قد جلّ عن طيب أهل الأرض عنبره
ومسكه فـــــهو الطيـــب السماويّ

فالإمام الحسن (عليه السلام) حاز علي صفات جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في خَلقِه وخُلُقِه حتي أن المسلمين إذا اشتاقوا إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) نظروا إلي ابنه الحسن (عليه السلام) يقول أبو جحيفة: رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وكان الحسن بن علي يشبهه) [15] ويقول أنس: (لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلّي الله عليه وآله) من الحسن بن علي (عليه السلام) [16] وقد أورد الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد أنه: كان الحسن بن علي (عليهما السلام) يشبه النبي (صلّي الله عليه وآله) من صدره إلي رأسه والحسين يشبهه (صلّي الله عليه وآله) من صدره إلي رجليه).
وقال أيضاً: (كان الحسن (عليه السلام) أشبه الناس برسول الله (صلّي الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً).
وقد قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للحسن ذات مرة: (أشبهت خَلقي وخُلقي) [17] وقال واصل بن عطاء: (كان الحسن بن علي (عليهما السلام)، عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك) [18] .

اخلاقه

كان في شمائله آية الإنسانية الفضلي، ما رآه أحد إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه أن ينهي حديثه أو يسكت.
وقال محمد بن إسحاق: (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، ما بلغ الحسن بن عليّ. كان يبسط له علي باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس).
ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشي، فما من خلق الله أحد إلا نزل ومشي حتي سعد بن أبي وقاص، فقد نزل ومشي إلي جنبه.
وروي المؤرخون عن تواضعه وكرم أخلاقه عشرات الروايات فمن ذلك انه اجتاز علي جماعة من الفقراء وقد جلسوا علي التراب يأكلون خبزاً كان معهم فدعوه إلي مشاركتهم فجلس معهم وقال: (إن الله لا يحب المتكبرين، ولما فرغوا من الأكل دعاهم إلي ضيافته فأطعمهم وكساهم وأغدق عليهم من عطائه، ومرة أخري مر علي فقراء يأكلون فدعوه إلي مشاركتهم، فنزل عن راحلته وأكل معهم ثم حملهم إلي منزله فأطعمهم وأعطاهم، وقال: (اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد ما أعطيناهم). وكان من كرمه أنه أتاه رجل في حاجة، فقال له: (أكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا). قال: فرفعها إليه فأضعفها له، فقال له بعض جلسائه: (ما كان أعظم بركة الرفعة عليه يا ابن رسول الله!). فقال: (بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً. أما علمتم أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه وعسي أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء لا يعلم بما يرجع من حاجته ابكأية الرد، أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فإن ذلك أعظم ممّا نال من معروفك).
وأعطي شاعراً فقال له رجل من جلسائه: (سبحان الله أتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان!). فقال: (يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر).
وسأله رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: (ائت بحمال يحمل لك). فأتي بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: هذا كري الحمال).
وجاءه بعض الأعراب. فقال: (أعطوه ما في الخزانة!.. فوجد فيها عشرون ألف درهم. فدفعت إليه، فقال الإعرابي: (يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي فقال الإمام الحسن (عليه السلام):

نحــــن أناس نــــوالــــنا خضل
يرتــــــــع فـــيه الرجاء والأمل

تجود قبل الســـــؤال أنـــــفسنا
خوفاً علي ماء وجه من يسل [19] .

ومرّ به رجل من أهل الشام ممن غذّاهم معاوية بالحقد والكراهية لعليّ وآل عليّ فجعل للإمام الحسن (عليه السلام) السب والشتم والإمام ساكت لا يتكلم وهو يعلم بأن الشامي لا يعرف عليّا وآل عليّ إلا من خلال الصورة التي كان معاوية بن هند يصورهم بها وعندما انتهي الشامي من حديثه بما فيه من حلف وفظاظة ابتسم إليه وتكلم معه بأسلوب هادئ ينم عن سماحة وكرم متجاهلاً كل ما سمع وما رأي، وقال: (أيها الشامي أظنك غريباً فلو أنك سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، وإن كنت جائعاً أطعمناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، أو طريداً آويناك)، ومضي يتحدث إلي الشامي بهذا الأسلوب الذي يفيض بالعطف والرحمة حتي ذهل الشامي وسيطر عليه الحياء والخجل وجعل يتململ بين يديه يطلب عفوه وصفحه ويقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهكذا كان في جميع مواقفه مثالاً كريماً للخلق الإسلامي الرفيع الذي دعا إليه القرآن الكريم بقوله تعالي: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [20] لقد قابل جميع ما كان يوجه إليه من الأذي والمكروه من أخصامه وحساده بالصبر والصفح الجميل حتي اعترف له ألد أخصامه وأنكرهم بذلك، فقد روي المؤرخون أن مروان بن الحكم أسرع إلي حمل جنازته ومشي مع المشيعين والكآبة بادية عليه، فقال له أبو عبد الله الحسين (عليه السلام): (إنك لتحمل جنازته وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ، فقال: لقد كنت أفعل ذلك مع من يوازي حمله الجبال.
ورأي غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة فقال له: (ما حملك علي هذا؟) قال: (إني استحي منه أن آكل ولا أطعمه). فقال له الحسن (عليه السلام): (لا تبرح مكانك حتي آتيك). فذهب إلي سيده، فاشتراه واشتري الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه، وملّكه الحائط.
وسأله رجل أن يعطيه شيئاً فقال له: (إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة) [21] ، فقال له: ما جئتك إلا في إحداهن فأعطاه مائة دينار، ثم اتجه الرجل إلي الحسين (عليه السلام) فأعطاه تسعة وتسعين ديناراً وكره أن يساوي أخاه في العطاء، ثم ذهب الرجل إلي عبد الله بن جعفر فأعطاه أقل منهما ولما قص عليه ما جري معهما، قال له: ويحك أتريد أن تجعلني مثلهما إنهما غرا العلم والمال غراً.
ويروي المؤرخون عن سخائه أيضاً أن جماعة من الأنصار كانوا يملكون بستاناً يتعايشون منه فاحتاجوا لبيعه فاشتراه منهم بأربعمائة ألف، ثم أصابتهم ضائقة بعد ذلك اضطرتهم لسؤال الناس، فرد عليهم البستان حتي لا يسألوا أحداً شيئاً.
وروي المؤرخون صوراً كثيرة من ألوان بره وكرمه ومعروفه التي كان يغرق بها علي السائلين والفقراء والمحرومين لإنقاذهم ممّا كانوا يعانون من آلام الحاجة والبؤس ابتغاء وجه الله وثوابه لا للجاه ولا للدنيا ولا تدعيم ملك وسلطان ولا لمكافأة علي المديح والثناء كما كان يصنع معاوية وغيره من الأمويين والعباسيين، ومن يتلذذون بالمديح والإطراء والجاه والسلطان. وأخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها، وهذا مقدار يسير من أحاديث الرواة عن كرمه ومعروفه وإن كان الكثير ممّا يرويه الرواة يخضع للنقد والحساب، إلا أن القليل المتفق عليه بينهم يكفي لأن يجعله في القمة بين أجواد العرب الذين لا يرون للمال وزناً ولا يحسبون له حساباً.

عبادته

إن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم وكان إذا حجّ حجّ ماشياً وربما مشي حافياً، ولا يمر في شيءٍ من أحواله إلا ذكر الله سبحانه وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقاً وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه ويقول: الهي ضيفك ببابك يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم) [22] .
وقيل أنه حج خمساً وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه، وإذا ذكر الموت بكي، وإذا ذكر القبر بكي، وإذا ذكر البعث بكي، وإذا ذكر الممر علي الصراط بكي، وإذا ذكر العرض علي الله تعالي ذكره شهق شهقة يغش عليه منها، وإذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالي الجنة وتعوذ بالله من النار.
وكان إذا توضأ، أو إذا صلّي ارتعدت فرائصه واصفر لونه من خشية الله تعالي. وقاسم الله تعالي ماله ثلاث مرات. وخرج من ماله لله تعالي مرتين.
ثم لا يمر في شيء من أحواله إلا ذكر الله عز وجل.
قال: (وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا) [23] .

مكانة الحسن عند رسول الله

علاقة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بابنه الحسن (عليه السلام) فاقت حدود العلاقة العائلية الموروثة كعلاقة الأب بابنه وما يصحب هذه العلاقة من انشدادات عاطفية وانجذاب مشترك بين الطرفين، بل كانت علاقة تتجاوز هذا الحد، لأنها متوجة بحب الله عز وجل وآمره وأن حب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لابنه الحسن (عليه السلام) إنما هو ـ أيضاً ـ من حب الله له، وهذا ما دفع باتجاه تعزيز العلاقة بين الرسول (صلّي الله عليه وآله) وابنه الحسن (عليه السلام)، ولذلك كان المصطفي الأكرم (صلّي الله عليه وآله) يرعي تربية الحسن (عليه السلام) رعاية مميزة وخاصة، فكان يغذيه بآدابه ومعارفه وكما كان يخشي عليه من كل مكروه لحبه له وخوفه عليه لأنه أمانة الله عنده ووصي من بعده والامتداد الطبيعي للرسالة الإسلامية.. ونجد هذا الانشداد الوثيق يتجسد في مواقف عديدة تعبر عن عمق العلاقة.
ففي ذات يوم وبينما الإمام الحسن (عليه السلام) كان مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذ عطش الحسن (عليه السلام) واشتد ظمأه فطلب له النبي (صلّي الله عليه وآله) ماءً فلم يجد فأعطاه لسانه فمصه حتي روي [24] .
وجاء رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ـ ذات يوم ـ إلي بيت فاطمة (عليها السلام) ليري الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال أين ابناي؟ فقالت: ذهب بهما علي (عليه السلام)، فتوجه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فوجدهما يلعبان في مشربة (الأرض اللينة دائمة النبات) وبين أيديهما فضل تمر فقال (صلّي الله عليه وآله): يا عليّ ألا تقلب (ترجع) ابناي قبل الحر. [25] .
لم تكن هذه المكانة العالية والوطيدة غامضة أو خافية ولا مقتصرة علي نفس الرسول (صلّي الله عليه وآله) بل كان (صلّي الله عليه وآله) يصرح بها للملأ من قومه فكلما أتيحت له الفرصة للإعراب عن رأيه في طبيعة العلاقة المميزة بينه وبين الحسن (عليه السلام) كان يفصح وبكل صراحة عن رأيه حتي ليبدو أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يتحين الفرصة عند السؤال عن الحسن (عليه السلام) من قبل المسلمين حتي يجيب عن ذلك، بل كان يعلن عن حبه للحسن (عليه السلام) دونما سؤال من أحد عن ذلك لأنه أمر من الله عز وجل وكما قال ـ عز من قائل ـ (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) [26] .
فكان (صلّي الله عليه وآله) يطلب من المسلمين أن يحملوا ذات الشعور والإحساس من ابنه الحسن (عليه السلام) وكذلك من ابنه الحسين (عليه السلام).
وعن عمران بن الحصين قال: قال النبي (صلّي الله عليه وآله): يا عمران بن الحصين، إن لكل شيء موقعاً في القلب وما وقع موقع هذين الغلامين (أي الحسن والحسين) من قلبي شيء قط، فقلت: كل هذا يا رسول الله. قال: يا عمران وما خفي عليك اكثر أن الله أمرني بحبهما) [27] .
وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للحسن بن عليّ: (اللّهم إني أحبه وأحب من يحبه) [28] .
وعن زر بن حبيش قال: كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ذات يوم يصلي فأقبل الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما غلامان فجعلا يتوثبان علي ظهره إذا سجد فأقبل الناس عليهما ينحونهما عن ذلك قال (صلّي الله عليه وآله): دعوهما بأبي وأمي من أحبني فليحب هذين. [29] .
ودخل أبو أيوب الأنصاري ذات يوم علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) والحسن والحسين (عليهما السلام) يلعبان بين يديه في حجره فقلت يا رسول الله أتحبهما؟ قال: (صلّي الله عليه وآله) وكيف لا أحبهما وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما. [30] .
وجاء أسامة بن زيد ذات ليلة فطرق باب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لبعض حاجته فخرج إليه الرسول (صلّي الله عليه وآله) وهو مشتمل علي شيء لا يدري ما هو فلما فرغ من حاجته قال أسامة لرسول الله (صلّي الله عليه وآله): ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشف فإذا الحسن والحسين علي وركيه فقال (صلّي الله عليه وآله): هذان ابناي وابنا ابنتي، اللّهم إنك تعلم إني أحبهما فأحبهما، اللّهم إنك تعلم إني أحبهما فأحبهما، اللّهم إنك تعلم إني أحبهما فأحبهما) [31] .
وهناك روايات أخري يصدع فيها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للتعبير صراحة عن حبه للحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) دونما واسطة أو سؤال من أحد وإنما قول صريح لا تكلّف فيه ولا غموض ومن هذه الروايات: أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وعلي مرأي ومسمع من الناس في المسجد، وهو يخطب والي جانبه ابنه الحسن (عليه السلام) فكان (صلّي الله عليه وآله) ينظر إلي الناس مرة والي الحسن (عليه السلام) مرة، ثم يوجه أنظار الناس إلي الحسن (عليه السلام) ويقول: ابني هذا سيد شباب أهل الجنة.
وخرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي الناس ذات يوم فأعلن قائلاً: (من سرّه أن ينظر إلي سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلي الحسن بن علي) [32] .
ووضع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ابنه الحسن (عليه السلام) علي عاتقه فقام بتعريفه لعامة المسلمين وكان يقول (صلّي الله عليه وآله): (من حبني فليحبه) ولمّا لقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا غلام (وكان يوجه الكلام للحسن) كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول له: (ونعم الراكب هو) [33] .
وعن حذيفة قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أتاني ملك فسلّم عليّ نزل من السماء، لم ينزل قبلها يبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة [34] .
وأمام معشر من المسلمين أجز رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بفضل أهل بيته (عليهم السلام) قائلاً: خير رجالكم علي بن أبي طالب وخير شبابكم الحسن والحسين وخير نساؤكم فاطمة بنت محمد (صلّي الله عليه وآله).
وفي مكان آخر يذكر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فضل أهل بيته (عليهم السلام) والمحبين لهم، يقول ابن عباس: سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بأذني وإلا فصمتا وهو يقول: (أنا شجرة وفاطمة حملها وعليّ لقاحها والحسن والحسين ثمرتها والمحبون أهل البيت ورقها من الجنة ضفاً ضفاً) [35] .
وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): قالت الجنة يا رب زينتني فأحسنت زينتي، فأحسن أركاني فأوحي الله تبارك وتعالي إليها أني قد حشوت أركانك بالحسن والحسين وجنبيك بالسعود من الأنصار وعزتي وجلالي لا يدخلك مرائي ولا بخيل [36] .
وعن مطالبة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) المسلمين بحب ابنه الحسن (عليه السلام) يروي زهيد بن الأقمر هذه الحادثة يقول: بينما الحسن بن علي (عليه السلام) يخطب بعدما قتل عليّ (عليه السلام) إذا قام رجل من الأزد آدم طوال فقال: لقد رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) واضعه في حبوته يقول: (من أحبني فليحبه فليبلغ الشاهد الغائب) ولولا عزمة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ما حدثتكم [37] .
ولعل سائل يسأل: ماذا تعني هذه المحبة من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للحسن (عليه السلام)؟.. لمّ ما هو جزاء من أحب الحسن وأخيه الحسين (عليه السلام)؟
أما جواب الشطر الأول فيأتي من ابن عباس الذي قال: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام) فلما رآه بكي ثم قال: (إليّ إليّ يا بني) فما زال يدنيه حتي أجلسه علي فخذه اليمني وساق الحديث إلي أن قال: قال النبي (صلّي الله عليه وآله): (أما الحسن فإنه ابني، وولدي ومني، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله علي الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني [38] (وأضاف الحائري علي ذلك) (وإني لما نظرت إليه ذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي فلا يزال الأمر به حتي يقتل بالسّم ظلماً وعدواناً فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته ويبكيه كل شيء حتي الطير في السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمي العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب ومن زاره في البقيع ثبتت قدماه علي الصراط يوم تزل فيه الأقدام) [39] .
وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أيضاً: (حسن مني وأنا منه، أحب الله من أحبه الحسن والحسين سبطان من الأسباط) [40] .
أما جواب الشطر الثاني عن الجزاء والمكافأة من حب الحسن [41] فيأتي من سلمان المحمدي حيث قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للحسن والحسين (عليهما السلام): (من أحبهما أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله نار جهنم وله عذاب مقيم) [42] .
وإذا دققنا النظر في مكنونات هذه الروايات الصادرة عن الصادق الأمين والذي بعث رحمة للعالمين والذي حديثه حديث الوحي، نجد أن الرسول (صلّي الله عليه وآله) كان يهدف من ذلك إلي توجيه أنظار المسلمين إلي أهل بيته (عليه السلام) لأنهم مركز الإشعاع الرسالي الذي منه ينسل الأوصياء والأمناء علي الوحي والرسالة من بعده والقائمين بتحقيق أهداف الرسول (صلّي الله عليه وآله) والرسالة.. وإن من هذا البيت الطاهر سيكون امتداد الرسالة الإلهية لذلك تأتي هذه التوصيات من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) للمسلمين في سياق تهيئة أجواء مناسبة يكون فيها المسلمون أقدر علي التفاعل مع المرحلة التي تلي غياب شخص رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وتكون الفواصل الزمنية والتحولات الاجتماعية خلال هذه الفترة غير قابلة لإحداث هزّة في الأوضاع الداخلية للمجتمع الإسلامي أو ذات أثر في تعثير مسيرة الرسالة الإسلامية.

الحسن في مدرسة النبوة

امتازت السنوات القليلة التي عاشها الحسن (عليه السلام) في كنف جده المصطفي (صلّي الله عليه وآله) قبل عروجه إلي الرفيق الأعلي، أنها كانت بمثابة حجر الأساس في بناء شخصيته كما أنها الفترة المشرقة والذهبية في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) في الالتصاق برسول الله (صلّي الله عليه وآله) عن قرب.
فالحب المتميز لم يكن من جانب الرسول (صلّي الله عليه وآله) فقط بل كان الإمام الحسن (عليه السلام) أشد حباً وتعلقاً بجده وهذا ما يظهر بوضوح في اهتمام الحسن (عليه السلام) في المداومة علي رؤية جده المصطفي (صلّي الله عليه وآله) والالتصاق به أكبر مدة فحينما كانت الزهراء (عليها السلام) تأخذ الحسنين (عليهما السلام) إلي بيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فيأتياه وهما في شوق شديد إليه فيتسابقا في الوصول إليه، فإذا وصلا إليه ضمّهما وقبّلهما وأجلسهما في حجره فيجلس الحسن (عليه السلام) علي فخذه الأيمن والحسين علي فخذه الأيسر فيشعران بالأمان والحنان والعطف. بل إنه في بعض الليالي التي كانت تأتي بهما الزهراء (عليها السلام) إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فيمكثان طويلاً فتضطر فاطمة (عليها السلام) إلي العودة إلي البيت وحدها، ويبقي الحسنان مع جدهما رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فيتوسدا اليدين الكريمتين لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) ويناما إلي جنبه (صلّي الله عليه وآله).
ولعل من الصور الرائعة في حجم الصلة الوثيقة بين رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وابنه الحسن (عليه السلام) يذكرها بعض الرواة وهي عبارة عن دروس تربوية ذات درجة كبيرة من الأهمية منها: عن البهي قال: تذاكرنا من أشبه الناس بالنبي (صلّي الله عليه وآله) من أهله، فدخل علينا عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله به وأحبهم إليه الحسن بن علي (عليهما السلام) رايته وهو ساجد فيركب رقبته (أو قال ظهره) فما ينزله حتي يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتي يخرج من الجانب الآخر. [43] .
أما عن الجانب العلمي في علاقة الحسن (عليه السلام) بجده (صلّي الله عليه وآله)، فلقد كان (عليه السلام) وعلي صغر سنه، يأتي إلي مجلسه (صلّي الله عليه وآله) فيصغي بسمعه إلي حديث جده (صلّي الله عليه وآله) وهو يبث رسالة الله في الناس، وبعد أن يستمع الحسن (عليه السلام) إلي ما قاله رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ينطلق مسرعاً إلي أمه فاطمة (عليها السلام) فيخبرها بلسان فصيح صادق كلّ ما دار في حديث الرسول (صلّي الله عليه وآله) مع الناس، فيأتي الإمام علي (عليه السلام) فتخبره فاطمة (عليها السلام) بحديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في المجلس فيسأل الإمام علي (عليه السلام) عن الذي أخبرها بذلك، فتقول: ابنك الحسن (عليه السلام).
فتخفّي عليّ (عليه السلام) يوماً في الدار ليستمع إلي ما يقوله الحسن (عليه السلام) من كلام رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فدخل الحسن (عليه السلام) وقد جاء من مجلس الرسول (صلّي الله عليه وآله) فأراد أن يلقي لوالدته الزهراء (عليها السلام) فارتج عليه الأمر، فعجبت أمه من ذلك فقال الحسن (عليه السلام): لا تعجبي يا أماه فإن كبيراً يسمعني واستماعه قد أوقفني فخرج علي (عليه السلام) إليه فضمه وقبّله.
ومن جهة ثانية نري أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان منذ صغره يتلقي علوم الوحي من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وذلك من خلال الأسئلة عن أمور عديدة، منها ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) انه: (بينما الحسن (عليه السلام) يوماً في حجر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذ رفع رأسه فقال: يا أبة ما لمن زارك بعد موتك؟ قال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنة، ومن أتي أباك زائراً بعد موته فله الجنة ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنة) [44] .
فالزائر الذي يستحق الجنة في هذه الأماكن الشريفة هو الذي يعمل بما أمر الله تعالي ويترك ما نهي الله عنه ويكون عارفاً بحق أهل البيت (عليهم السلام)، مؤمن بكل ما جاءوا به..
وقد تركت التربية النبوية التي نهل من ينبوعها الإمام الحسن (عليه السلام) آثار علي سلوكياته وهناك شواهد عديدة تكشف تجسيدات التربية النبوية في حياة الإمام (عليه السلام) غير أننا نختار منها هنا ما يرتبط بالفترة الأولي من عمر الإمام (عليه السلام) والتي كان فيها ملاصقاً لرسول الله (صلّي الله عليه وآله)، ففي الجانب الأخلاقي هناك قصة جميلة يتداولها أصحاب السيرة والمؤرخون وهي أن الحسنين (عليهما السلام) مرّا علي شيخ يتوضأ ولا يحسن فأخذا (عليهما السلام) في التنازع وكانا صغيرين لم يتجاوزا العقد الأول من السنين يقول كلّ واحد منهما للآخر: أنت لا تحسن الوضوء. فقالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا يتوضأ كل واحد منّا فتوضأ، ثم قالا: أينا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء. ولكن هذا الشيخ الجاهل ـ وهو يشير إلي نفسه ـ هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما وتاب علي يديكما ببركتكما وشفقتكما علي أمة جدكما. [45] .
وهناك قصة ثانية توضح الأثر العلمي لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) في شخصية ابنه الحسن (عليه السلام) يروي هذه القصة أحد حواريي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حذيفة بن اليمان يقول:
(بينما كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وجماعة من أصحابه، إذ أقبل إليه الحسن فأخذ النبي (صلّي الله عليه وآله) في مدحه، فما قطع رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كلامه حتي أقبل إلينا أعرابي يجر هراوة له، فلما نظر رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: قد جاءكم رجل يكلمكم بكلام غليظ تقشعر منه جلودكم، وإنه يسألكم عن أمور، وإن لكلامه جفوة.
فجاء الأعرابي فلم يسلّم وقال: أيكم محمد؟
قلنا: ما تريد؟ قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): مهلاً.
فقال: يا محمد لقد كنت أبغضك ولم أرك والآن فقد ازددت لك بغضاً.
فتبسم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وغضبنا لذلك، وأردنا بالأعرابي إرادة، فأومي إلينا رسول الله أن اسكتوا.
فقال الأعرابي: يا محمد إنك تزعم أنك نبي، وأنك قد كذبت علي الأنبياء، وما معك من برهانك شيء.
فقال له (صلّي الله عليه وآله): وما يدريك؟ قال: فخبّرني ببرهانك.
قال (صلّي الله عليه وآله): إن أحببت أخبرك عضو من أعضائي فيكون ذلك أوكد برهاني. قال: أو يتكلم العضو؟ قال (صلّي الله عليه وآله): نعم يا حسن قم. فازدري الأعرابي نفسه، وقال: ما يأتي، ويقيم صبيّا ليكلّمني.
قال (صلّي الله عليه وآله): إنك ستجده عالماً بما تريد.
فابتدره الحسن (عليه السلام): مهلاً يا أعرابي:

ما غبـــــياً ســــألت وابن غبي
بل فقـــــيهاً إذن وأنت الجهول

فإنّ تك قد جهــــلت فإنّ عندي
شفاء الجــهل ما سأل السؤول

ونجراً لا تقسّــــــمه الــــدّوالي
تراثاً كـــــان أورثـــــه الرسول

لقد بسطت لسانك، وعدوت طورك وخادعت نفسك، غير أنك لا تبرح حتي تؤمن أن شاء الله.
فتبسم الأعرابي وقال له هيه:
فقال له الحسن (عليه السلام): نعم، اجتمعتم في نادي قومك وتذاكرتم ما جري بينكم علي جهل، وخرق منكم فزعمتم أن محمداً صنبور ـ أي لا خلف له ـ والعرب قاطبة تبغضه، ولا طالب له بثأره، وزعمت أنك قاتله، وكان في قومك مؤنته، فحملت نفسك علي ذلك، وقد أخذت قناتك بيدك تؤمّه تريد قتله، فعسر عليك مسلكك وعمي عليك بصرك، وأبيت إلا ذلك، فأتيتنا خوفاً من أن يشتهر وإنك إنما جئت بخير يراد بك. أنبئك عن سفرك، خرجت في ليلة ضحياء، إذ عصفت ريح شديدة، اشتد منها ظلماؤها وأظلت سماؤها، أعصر سحابها، فبقيت محر غماً كالأشقر، إن تقدم نُحِر، وإن تأخر عُقر، لا تسمع لواطئ حسّاً، ولا لنافع نارٍ جرساً، تراكمت عليك غيومها، وتوارت عنك نجومها فلا تهتدي بنجم طالع، ولا بعلم لامع، تقطع محجّةٍ وتهبط لجّة، في ديمومة قفر، بعيدة القعر، مجحفة بالسّفر، إذا علوت مصعداً ازددت بعداً، الريح تخطفك، والشوك تخبطك، في ريح عاصف، وبرق خاطف، قد أوحشتك آكامها، وقطعتك سلامها، فأبصرت فإذا أنت عندنا فقرّت عينك، وظهر دينك وذهب أنينك.
قال الأعرابي متعجباً: من أين قلت يا غلام هذا؟ كأنك كشفت عن سويداء قلبي، ولقد كنت كأنك شاهدتني وما خفي عليك شيء من أمري وكأنه علم الغيب.
ثم قال الأعرابي للحسن (عليه السلام): الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فأسلم الأعرابي وحسن إسلامه، وعلّمه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) شيئاً من القرآن فقال: يا رسول الله ارجع إلي قومي فأعرّفهم ذلك؟ فأذن له (صلّي الله عليه وآله) فانصرف إلي قومه ثم رجع ومع جماعة من قومه فدخلوا الإسلام، وكان الناس إذا نظروا إلي الحسن (عليه السلام) قالوا لقد أعطي ما لم يعط أحدٌ من الناس. [46] .
هكذا هو الحسن بن علي (عليهما السلام) يتحدث عن لسان رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وكيف به وقد نهل من معارف النبوة وتغذي من آداب الرسالة، فصار يقارع بذلك عقول الرجال علي صغر سنه، بعد أن يفصح بأبلغ بيان دلائله ويكشف بأوضح بصائر صحيحه، لا سيما وأنه عاش في ظل الوحي ومعدن التنزيل، فلا شك في كونه يسير علي خطي السلوك المحمدي ولقد قال جده المصطفي (صلّي الله عليه وآله) فيه: (حسن مني وأنا منه).

امامته

كانت قضية الولاية والإمامة والخلافة كمسميات مختلفة للقيادة الشرعية التي ستخلف رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بعد وفاته وغياب شخصه عن ساحة الأمة الإسلامية، هذه القضية من الموضوعات المحورية وربما هي المحور الذي لم تتوتد دعائم وأركان الدين الإسلامي إلا بعد مخاض عسير كان يتطلب إعداد مناخ ملائم قابل لتلقي هذا الأمر العظيم من قبل أفراد المجتمع الإسلامي.
وبطبيعة الحال: إن إرادة الله تعالي التي حكمت بأن يكون الإسلام خاتم الأديان والمهيمن عليها وقد قال تعالي: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [47] وبذلك يكون هذا الدين يحمل خصوصيات الغلبة والتكاملية في مجمل تشريعاته وقوانينه ونظمه بحيث يتمكن من إدارة البشرية بطريقة سليمة وصحيحة.
وليس ثمة شك في أن القيادة هي حجر الأساس في بناء الدولة وهي القطب التي تنتظم حوله شؤون الأمة وإدارة أمورها، ولذلك من غير المنطقي ولا من العقل أن يعتقد البعض في أن يكون رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد غادر الدنيا وترك أمته دونما قيادة، أو سائبة دونما رعاية فتعصف بها الأزمات والعقد وتثار علي ساحتها الأضغان والأنانيات والحروب القذرة.
من هذا المنطلق كانت الولاية علي درجة كبيرة من الأهمية لاستمرار تماسك جنبات المجتمع الإسلامي واستقرار أوضاعه كما كانت علي مستوي كبير من الخطورة تتطلب موقفاً صريحاً وجريئاً، لأنها قد تعترض مصالح فئة من المجتمع ولا سيما تلك الفئة البيروقراطية والتي تسعي من خلال ثرواتها الحصول علي موقع اجتماعي رفيع تكون فيه الواجهة المتقدمة في صفوف المجتمع... ولكن استمرارية الفئة الرسالية تتطلب ركوب الأمواج العاتية والصعود فوق المصالح والأهواء والحواجز النفسية والمادية.
ومواقف النبي (صلّي الله عليه وآله) كثيرة من الإمامة والخلافة التي عمل (صلّي الله عليه وآله) منذ بداية الرسالة الإسلامية علي الإعداد والتهيئة والإعلان عن الأئمة والقادة من بعده..
ومن هذه المواقف، موقفه الشهير الذي تضافرت كل كتب السنن والتاريخ علي تدوينه وشرحه بإسهاب، وأجمعت الحفظة ونقلة الأحاديث والرواة علي صحته، إنه نداءٌ وبلاغٌ اذاعه وأعلنه علي الألوف من المسلمين بعد رجوعه من حجّة الوداع الحجة الأخيرة التي حجّها النبي (صلّي الله عليه وآله) في آخر حياته، وعندما وصل إلي مكان اسمه ـ غدير خم [48] ـ وقف النبي (صلّي الله عليه وآله) في حرارة الشمس والوحي يهدّد رسالته وينذره إن تأخر عن أداء ما بقي منها ويبعث في نفسه الاطمئنان والأمن ممّا كان يحاذر ويخشي من قومه.
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [49] .
ووقفت معه الجماهير التي حجّت في تلك السنة، نزل في ذلك المكان قبل تفرق الناس، حطّ أثقاله، التفّ حوله المسلمون ليعرفوا ما الخبر، ماذا نزل علي النبي (صلّي الله عليه وآله) من السماء، بماذا أوحي له، صمت رهيب، الوقت هجير، صحراء قاحلة، عرف الجميع أن هناك بلاغاً هاماً خطيراً، صنع له المسلمون منبراً من أقتاب الإبل، قام خطيباً بعد أن صعد المنبر، ليشهدهم تنصيب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولاية أمر المسلمين، حيث قال (صلّي الله عليه وآله) بعد أن حمد الله وأثني عليه:
أيها الناس يُوشك أن أدعي فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلّغت وجاهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً فقال (صلّي الله عليه وآله): أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلي. نشهد بذلك.
قال (صلّي الله عليه وآله): اللّهم اشهد: ثم قال (صلّي الله عليه وآله): يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّاً ـ اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه ثم قال:
يا أيها الناس إنّي فرطكم، وإنكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصري إلي صنعاء، إلي أن قال في خطبته، وإني سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، كيف تخلفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالي، وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدلوا، والثقل الآخر: عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتي يردا عليّ الحوض.. [50] .
بدأت تتردد أصداء هذه الكلمات العظيمة في صحراء خم وسمعها مائة ألف مسلم، كما ترددت في بطون كتب الرواة والمؤرخين واتفق المسلمون بالإجماع علي حديث الرسول (صلّي الله عليه وآله) في حق الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام). وجاء الخليفة عمر بن الخطاب إلي علي (عليه السلام) فقال: بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولي كل مؤمن ومؤمنة.
ونص رسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي الأئمة والخلفاء من بعده بأمرٍ من الله عزّ وجلّ وهذا ما اعترف بصحته الأعلام من السنة والشيعة كما رواها الفريقان بأحاديث كثيرة وأسانيد متعددة ونصوص مختلفة.
منها: ما روي عن جابر ابن سمرة قال: سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلي اثني عشر خليفة، فكبّر الناس وضجوا، ثم قال كلمة خفيت عليّ: قلت لأبي: يا أبة ما قال؟ قال: كلّهم من قريش [51] وروي عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة: أنه سمع النبي (صلّي الله عليه وآله) يقول: بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم [52] .
وجاء عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قوله للإمام علي (عليه السلام): أنا أولي بالمؤمنين منهم بأنفسهم ثم أنت يا علي أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعدك الحسن أولي بالمؤمنين من أنفسهم ثم بعده الحسين أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده علي أولي بالمؤمنين من أنفسهم ثم بعده محمد أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده جعفر أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده موسي أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده عليّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده محمد أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده عليّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده الحسن أولي بالمؤمنين من أنفسهم، والحجة بن الحسن أولي بالمؤمنين من أنفسهم أئمة أبرار هم مع الحق والحق معهم [53] .
أما عن ولاية الحسن (عليه السلام) ففي حديث ابن عباس الذي مر ذكره قال النبي (صلّي الله عليه وآله): أما الحسن فإنه ابني وولدي ومنّي، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله علي الأمة، أمره أمري وقوله قولي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فليس مني [54] .
غير أن الأمة لم تتبع أمر الله ورسوله وإنما بئس ما خلفته هذه الأمة في أهل بيته (عليهم السلام) حينما أعرضت عن الإمام الحق والوصي الشرعي لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودخلت في أتون الصراع السياسي المحتدم في مؤتمر السقيفة.
بالطبع لم يكن الرسول (صلّي الله عليه وآله) بمنأي عن الحوادث الواقعة بعده بل كان علي يقين تام بأن الأمة ستعيش نكسات خطيرة وانعطافات أخطر، ولعل قوله (صلّي الله عليه وآله) إلي أهل بيته (عليهم السلام) وهو في مرضه الذي انتقل بسببه إلي الرفيق الأعلي: (أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم) [55] لعل في ذلك إشارة إلي الحوادث التي يتعرض لها أهل البيت (عليهم السلام) من بعده (صلّي الله عليه وآله) ولذلك قبل أن يفارق رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الحياة يوصي أهل بيته (عليهم السلام) بالصبر والجلد أمام الامتحانات والابتلاءات التي ستحل بدارهم وعليهم من قبل الحاقدين والطامعين وقبل الوداع بدأ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقسّم الإرث علي أهل بيته (عليهم السلام) حتي إذا وصل إلي الحسن (عليه السلام) قال: أما الحسن فأنحله الهيبة والحلم [56] .
ثم ألقي نظرته الأخيرة علي أهل بيته فكان يودع الواحد تلو الآخر، إلي أن اقتربت آخر لحظات حياته فكانت آخر دعواه (صلّي الله عليه وآله): (اللّهم خفف عن أمتي) وبعده صعدت روحه الطاهرة إلي الرفيق الأعلي.
ولقد خلف غياب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فراغاً كبيراً كما أحدث جرحاً لا يندمل مع مرور الزمن، فكان دور الإمام علي (عليه السلام) في أن يتحمل انهدام الركن الأول والأساس في بيت الرسالة، كما عليه أن يحاول رأب الصدع حتي يبقي البيت النبوي ثابتاً ومستقراً ويظل مركز إشعاع فكري وروحي لكل المسلمين بصورة مستمرة دونما انقطاع أو توقف.

مراجعة تاريخية سريعة

اشاره

كان الحدث الأكبر في تاريخ الإسلام هو وفاة الرسول (صلّي الله عليه وآله)، وانقطاع ذلك الإشعاع السماوي الذي كان يفيض علي الدنيا كلها بالخير، فإذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الأرض بموت رسول الله (صلّي الله عليه وآله) عن السماء، إذ كان الوحي هو بريدها إلي الأرض وأداة صلتها بها.
وهل للأرض غني عن السماء، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها.
الرسول محمد (صلّي الله عليه وآله) أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فأخبرهم بأن حبلاً واحداً سيبقي متصلاً بينهم وبين السماء. وهل حبل أولي بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي، قال (صلّي الله عليه وآله):
(إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) [57] .
ومن حق البحث الذي بين أيدينا أن يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (صلّي الله عليه وآله)، أو موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع، لينظر فيما خلفوا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في عترته، بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة.
وإذا كانت العترة عشيرة الرجل، فعليّ أبرز رجالها بعد رسول الله، وإذا كانت ذريته، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. تجيز اللغة إطلاق العترة علي الصنفين، ـ العشيرة والذرية ـ معاً.
نعم إنه قدّر لهذا المجتمع، أن ينقسم انقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمي بوفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، حين تأول قوم فاتبعوا تأولاتهم، وتعبّد آخرون فثبتوا علي الصريح من قول نبيهم وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا مكان استعراضها.. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين لأن كل شيء ممّا نتفق عليه معهم جميعاً، أو مع فريق واحد منهم، أو ممّا نختلف فيه قد تم في حينه علي صورته. وليس فيما يتناوله بحثاً الآن ما يستطيع أن يغير الواقع عن واقعه.
ولم يبق مخفياً أن الحجر الأساسي لهذا التدهور غير المنتظر، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما أبرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود ـ عمودياً ـ من السماء إلي الأرض الذي عناه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر أريد ليمتد مع التاريخ ـ أفقياً ـ وكما قال الشاعر:

وتـــوالت تحــــت السقيفة أحداثٌ
أثــــــارت كـــــوامناً وميولاً

نزعات تفرقــت كغـــــصون الـعوسج
الغض شائكاً مدخولاً [58] .

ووقف صاحب الحق بالخلافة من المتأولين، موقف المشرف الذي دل بذاته، وبما حفظ الإسلام من الانهيار، علي انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الإسلامية إلي الحق المغلوب علي أمره، وأخذ إلي البيعة، بعد ذلك أخذاً [59] وسأله بعض أصحابه: (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟) فقال: (إنها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله والمعود إليه القيامة. ودع عنك نهبا صيح في حجراته) [60] ...
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم. وعشا عن الوزارة مناوئوه، وعلي أبصارهم غشاوة الذهول.
فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره وأخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذٍ أكثر ممّا نستوعبها نحن.
ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في إحقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الإسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنّة لأنه في العقد الرابع. ولا عجب إذا رأي ذوو الحنكة المسنون، أن لا يكون الخليفة بعد رسول الله مباشرة، إلا وهو في العقد السابع مثلاً.
وخفي عليهم إن الإمامة في الإسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة ولا يجوز عليها ما لا يجوز علي النبوة في عظمتها.
فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص علي التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات الله تعالي وتصريحات نبيه (صلّي الله عليه وآله). وكانت سن عليّ (عليه السلام) يوم وفاة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) سن عيسي بن مريم يوم رفعه الله عز وجل، أفيجوز لعيسي أن ينتهي بقصاري نبوته في الأرض إلي هذه السن، ولا يجوز لعليّ أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها الله لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنّي الإنسان لما اختارها الله للمصطفين من عباده في الجنان.
الأمة عاشت بعيدة كل البعد عن إرشادات وتوجيهات رسول الله (صلّي الله عليه وآله) واشتغلت بالصراعات السياسية وحروب المناصب حتي أخذت الخلافة تنقلب من واحد إلي آخر فتفاقمت الأزمات وتدهورت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وغيرها، وظهرت علامات التذمر والتمرد في أوساط المسلمين وكل ذلك نتيجة حتمية للروح القبلية التي سادت وتحكمت بمنطق المتنافسين تحت سقيفة بني ساعدة والاتجاه الذي سار فيه هؤلاء إلي حصر السلطة بكل واحد منهم وعدم مشاركة الآخرين في الحكم، والتأكيد علي المبررات الوراثية، واستعداد كثير من الأنصار لتقبل فكرة أميرين أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين، حتي كان يري كل جناح أنه أحق من غيره بالأمر، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وغيره من الصحابة بعيدون عنهم لانشغالهم بجثمان النبي (صلّي الله عليه وآله) الذي كان لم يدفن بعد [61] حين اندفع عمر بأبي بكر إلي السقيفة ليبتوا في أمر الخلافة وحين بلغ الإمام علي (عليه السلام) بالنبأ رفض البيعة [62] .
واعتبرها اعتداءً صارخاً عليه، فهو يعلم أن محله من الخلافة محل القطب من الرحي ينحدر عنه السيل، ولا يرقي إليه الطير ـ علي حد تعبيره ـ وما كان يظن إن القوم يزعجون هذا الأمر ويخرجونه عن أهل بيت نبيهم، فقد بادر إليه عمه العباس قائلاً له:
(يابن أخي أمدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان).
فقال له الإمام: (ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟) [63] .
وعلق الدكتور طه حسين علي ذلك بقوله: (نظر العباس في الأمر فرأي ابن أخيه، أحق منه بوراثة السلطان لأنه ربيب النبي، وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتي قالت له أم أيمن: ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك؟! ولأن النبي (صلّي الله عليه وآله) قال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي، وقال للمسلمين يوماً آخر: من كنت مولاه فعليّ مولاه. من أجل ذلك أقبل العباس بعد وفاة النبي علي ابن أخيه، وقال له: أبسط يدك أبايعك) [64] .
لقد تخلف الإمام (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر ساخطاً، وأعلن شجاه وأساه علي ضياع حقه، واستبداد القوم بالأمر من دون أن يعنوا به وفي نهجه شذرات من بليغ كلامه عرض فيها لذلك.
في سقيفة بني ساعدة تجسدت الروح القبلية التي فتحت علي المسلمين باباً من أبواب الفتنة كما يصرح بذلك عمر بقوله: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله شرها فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنها تغره يجب أن يقتلا) [65] .
ومضي زمن يجادل الإمام علي (عليه السلام) القوم ويعيد إلي ذاكرتهم ما غاب عنهم من أفعال الرسول وأقواله ومواقفه، وسرد لهم نصوص تلك الخطب والتوصيات التي تؤيّد دعواه، فالكثير تجسمت لهم الأخطار وأحسوا بالمسؤولية حيث جرفهم التيار الجديد الذي غيّر وبدّل.
والمنافقون استغلوا تلك الفترة فكانت ردة جماعة من مسلمي العرب في الجزيرة، ومسيلمة الكذاب أعلن النبوة واستغل الموقف الراهن، كما أن صدي النزاع علي الخلافة تجاوز العاصمة الإسلامية فبدأ العصيان والتمرد علي مبادئ الإسلام. لذا خشي الإمام علي (عليه السلام) إن استمر علي محاججة القوم أن تذهب جهود النبي سدي.. فسكت عن حقه السليب ورجع إلي ما كان عليه ينشر تعاليم الإسلام متفانياً في سبيل توطيد دعائم الدين.
ورأي أن الحكمة تقضي بمبايعة الخليفة حفاظاً علي الإسلام حماية لوحدة المسلمين، وفي هذا يقول: (فأمسكت يدي حتي رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلي محق دين محمد (صلّي الله عليه وآله) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أري فيه ثلماً أو هدماً تكون المُصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، فنهضت في تلك الأحداث حتي زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه).
فمصلحة الإسلام في نظره تفوق علي كل شيء وقبل كل شيء. وما مطالبته بحقه في الخلافة إلا لكي يعمل بقوة علي بعث الدين في النفوس.
والخلافة كما هو معلوم لا تساوي عنده شيئاً إذا لم تكن سبيلاً وطريقاً إلي هذه الغاية وهو الذي خاطب ابن عباس عندما كان يخصف نعله بيده بقوله: والله إن إمرتكم لأهون عندي من هذا النعل. إلا أن أحق حقاً وبطل باطلاً.. [66] .

علي والخلفاء

في خلافة أبي بكر كان جهاز الحكم الإداري خاضعاً لإدارة عمر بن الخطاب فهو المخطط لسياسية الدولة، والواضع لبرامجها الداخلية والخارجية قد وثق به أبو بكر، وأسند إليه جميع مهام حكومته، فلم يعقد أي عقد أو يقطع أي عهد إلا عن رأيه، ومشورته، كما لم يوظف أي عامل إلا بعد عرضه عليه.
أما تعيين الولاة علي الأقطار والأقاليم الإسلامية، أو إسناد أي منصب حساس من مناصب الجيش فإنّه لا يمنح لأحد إلا بعد إحراز الثقة به والإخلاص منه للحكم القائم والتجاوب مع مخططاته السياسية، فمن كانت له أدني ميول معاكسة لرغبات الدولة، فإنّه لا يرشح لأي عمل من أعمالها ويقول المؤرخون: إن أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام، لم يكن هناك أي موجب لعزله إلا لأن عمر نبهه علي ميوله لعليّ وبيّن له مواقفه يوم السقيفة التي كانت مناهضة لأبي بكر. [67] ولم يعهد أبو بكر بأي عمل أو منصب لأحد من الهاشميين، وقد كشف عمر الغطاء عن سبب حرمانهم في حواره مع ابن عباس من أنه يخشي إذا مات وأحد الهاشميين والياً علي قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحب [68] .
كما حرم الأنصار من وظائف الدولة، وذلك لميولها الشديد إلي علي (عليه السلام) أما عماله وولاته فقد كان معظمهم من الأسرة الأموية وهم:
أبو سفيان:
استعمله عاملاً له علي ما بين آخر حد للحجاز وآخر حد من نجران [69] .
يزيد بن أبي سفيان:
استعمل يزيد بن أبي سفيان والياً علي الشام [70] ويقول المؤرخون انه خرج مودعاً له إلي خارج يثرب.
عتاب بن أسيد:
عين أبو بكر عتاب بن أسيد بن أبي العاص والياً علي مكة [71] .
عثمان بن أبي العاص:
جعله والياً علي الطائف [72] ومنذ ذلك اليوم علا نجم الأمويين، واستردوا كيانهم بعد أن فقدوه في ظل الإسلام.
وأبدي المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من حرمان بني هاشم من التعيين في وظائف الدولة ومنحها للعنصر الأموي الذي ناهض النبي (صلّي الله عليه وآله) وناجزه في جميع المواقف، يقول العلائلي:
(فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويون وحدهم، لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وآثروا في سياستها، وهم بعيدون عن الحكم كما يحدثنا المقريزي في رسالته (النزاع والتخاصم) [73] .
إن القابليات الدبلوماسية والإحاطة بشؤون الإدارة والحكم، والمعرفة بشؤون الدين كانت متوفرة عند الكثيرين من المهاجرين والأنصار من صحابة النبي (صلّي الله عليه وآله) فكان الأجدر تعيين هؤلاء في مناصب الدولة، وإبعاد الأسرة الأموية عنها لوقاية المجتمع الإسلامي من مكائدها وشرورها.
أما السياسة المالية التي نهجها أبو بكر ـ والمفروض أن تكون ـ علي النهج الإسلامي الذي يستهدف إذابة الفقر، ومكافحة الحرمان وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين، بحيث لا يبقي أي ظل للبؤس والحاجة، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه.
وكان أهم ما يعني به الإسلام إلزام الولاة بالاحتياط في أموال الدولة فلم يجز لهم بأي حال أن يصطفوا منها لأنفسهم شيئاً كما لم يجز لهم أن ينفقوا أيّ شيء منها لتوطيد حكمهم ودعم سلطانهم. الطابع العام لهذه السياسة المساواة بين المسلمين في العطاء فليس لرئيس الدولة أن يميز قوماً علي آخرين فإن ذلك يخلق الطبقية، ويوجد الأزمات الحادة في الاقتصاد العام، ويعرض المجتمع إلي كثير من الويلات والخطوب، ويقول المؤرخون إن أبا بكر قد ساوي في العطاء بين المسلمين ولم يشذ عما سنه الرسول (صلّي الله عليه وآله) في هذا المجال إلا أن بعض البوادر التي ذكرت تجافي ذلك فقد وهب لأبي سفيان ما كان في يده من أموال الصدقة كسباً لعواطفه التي تشتري وتباع بالأموال. [74] كما قام بتوزيع شطر من الأموال علي المهاجرين والأنصار فبعث إلي امرأة من بني عدي بقسم من المال مع زيد ابن ثابت فأنكرت ذلك وقالت:
ـ ما هذا؟
قسم قسمه أبو بكر للنساء.
أترشونني عن ديني، والله لا أقبل منه شيئاً؟!
وردت المال عليه [75] هذه بعض المؤاخذات التي ذكرها بعض النقاد لسياسته المالية.
ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمت به الأمراض بعد مضي ما يزيد علي سنتين من حكمه وقد صمم علي تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة إلا أن ذلك لاقي معارضة الكثيرين من الصحابة فقد انبري إليه طلحة قائلاً:
(ماذا تقول لربك: وقد وليت علينا فظاً غليظاً؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب) [76] .
وسكت أبو بكر فاندفع طلحة يوالي إنكاره عليه قائلاً:
(يا خليفة رسول الله، إنا كنا لا نحتمل شراسته، وأنت حي تأخذ علي يديه، فكيف يكون حالنا معه، وأنت ميت وهو الخليفة..) [77] .
وبادر اكثر المهاجرين والأنصار إلي أبي بكر يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر فقد قالوا له: (تراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا، وأنت لاق الله عزّ وجل فسائلك فما أنت قائل؟
فأجابهم أبو بكر: (لئن سألني الله لأقولن استخلفت عليهم خيرهم في نفسي..) [78] وكان الأجدر به فيما يقول المحققون أن يستجيب لعواطف الأكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحداً إلا بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه أو يستشير أهل الحل والعقد عملاً بقاعدة الشوري إلا انه استجاب لعواطفه الخاصة المترعة بالحب لعمر، وقد طلب من معقيب الدوسي أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له:
(ما يقول الناس في استخلافي عمر؟)
(كرهه قوم ورضيه آخرون.)
(الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟)
(بل الذين كرهوه) [79] .
ومع علمه بأن أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم.
وعلي أي حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه خوفاً من التأثير عليه، وكان يعزز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلاً:
(أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)) [80] ، وطلب الله أبو بكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر، وكتب عثمان ما أملاه عليه، وهذا نصه:
(هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها. وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغيّر فالخير أردت ولا أعلم الغيب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ..) [81] ووقع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر، وانطلق به يهرول إلي المسجد ليقرأه فانبري إليه رجل وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلاً:
(ما في الكتاب يا أبا حفص؟)
فنفي عمر عليه بما فيه إلا أنه أكد التزامه بما جاء فيه قائلاً: (لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع..).
فرمقه الرجل، وقد علم واقعه قائلاً:
ولكني والله أدري ما فيه، أمرته عام أول، وأمرك العام..) [82] وانبري عمر إلي الجامع فقرأه علي الناس، وبذلك تم له الأمر بسهولة من دون منازع إلا أن ذلك قد ترك أعمق الأسي في نفس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون يقول (عليه السلام) في خطبته الشقشقية:
(فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا أري تراثي نهبا، حتي ما مضي الأول لسبيله، فأدلي بها إلي فلان (يعني عمر) بعده، ثم تمثل بقول الأعشي:

شتان ما يومي علي كورها
ويوم حيان أخي جـــــابر

فيا عجباً!! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطر أضرعيها..) [83] .
وكشفت هذه الكلمات عن مدي أحزانه وآلامه علي ضياع حقه الذي تناهبته الرجال، فقد وضعوه في تيم مرة وفي عدي تارة أخري، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الإسلام، وماله من المكانة القريبة من رسول الله (صلّي الله عليه وآله). وعلي أي حال فقد تناهبت الأمراض جسم أبي بكر، ودفعته إلي النهاية المحتومة التي ينتهي إليها كل إنسان، وقد راح يبدي ندمه وأساه علي ما فرط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلاً:
(وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، ولو انهم أغلقوه علي الحرب) كما إنه ودّ لو سأل رسول الله عن ميراث العمة وبنت الأخ، وثقل حاله فدخلت عليه ابنته عائشة تعوده فلما رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثل بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتي
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فغضب أبو بكر وقال لها: ولكن قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) [84] .
ولم يلبث قليلاً حتي وافاه الأجل المحتوم، وانبري صاحب عمر إلي القيام بشؤون جنازته، فغسله، وصلي عليه وواراه في بيت النبي (صلّي الله عليه وآله) وألصق لحده بلحده، ويذهب النقاد الشيعة إلي أن هذا البيت كان من تركة النبي (صلّي الله عليه وآله) فإنه لم يؤثر عنه أنه وهبه لعائشة فلابد أن يكون خاضعاً لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (صلّي الله عليه وآله) وعلي هذا الرأي فلا يحل دفنه فيه إلا بعد الإذن منها، ولا موضوعية لإذن عائشة لأنها إنما ترث من البناء لا من الأرض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة وإن كان البيت خاضعاً لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبي (صلّي الله عليه وآله) من أن الأنبياء لا يورثون أي شيء من متاع الحياة الدنيا وإنما يورثون الكتاب والحكمة، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين، فلابد إذن من إرضاء جماعة المسلمين في دفنه، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة.
وعلي أي حال فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة، وكان من أخطرها فيما يقول المحققون معاملة العترة الطاهرة كأشخاص عاديين قد جرد عنها إطار التقديس والتعظيم الذي أضفاه النبي (صلّي الله عليه وآله) عليها، وقد مُنيت بكثير من الضيم والجهد، فقد كانت تري أنها أحق بمقام النبي (صلّي الله عليه وآله) وأولي بمكانته من غيرها، وقد أدي نزاعها مع أبي بكر إلي شيوع الاختلاف وإذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين، كما أدي إلي إمعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلي ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم، ولعل أقسي ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلاء التي لم ترع فيها أي حق لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) في عترته وأبنائه.
ومهد أبو بكر الخلافة من عبده إلي عمر فتولاها بسهولة ويسر من غير أن يلاقي أي جهد أو عناء وقد قبض علي الحكم بيد من حديد، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين حتي تحاشي لقاءه أكابر الصحابة فإن درته ـ كما يقولون ـ كانت أهيب من سيف الحجاج حتي أن ابن عباس مع ماله من المكانة المرموقة والصلات الوثيقة به لم يستطع أن يجاهر برأيه في حلية المتعة إلا بعد وفاته وقد خافه وهابه حتي عياله، وأبنائه، فلم يستطع أي واحد منهم أن يفرض إرادته عليه، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلي بعض مناهج سياسته: فقد اتفقت مصادر التاريخ الإسلامي علي أن عمر عدل في سياسته عن منهج أبي بكر فلم يساو بين المسلمين في العطاء وإنما ميز بعضهم علي بعض وكان قد أشار علي أبي بكر في أيام خلافته العدول عن سياسته فلم يقبل وقال: (إن الله لم يفضل أحداً علي أحد ولكنه قال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ولم يخص قوماً دون آخرين) [85] ، ولما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان قد أشار به علي أبي بكر، وقال: (إن أبا بكر رأي في هذا الحال رأياً ولي فيه رأي آخر لا أجعل من قاتل رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كمن قاتل معه) وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً خمسة آلاف، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدراً أربعة آلاف وفرض لأزواج النبي (صلّي الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، إلا صفية وجويرية فقد فرض لهما ستة آلاف فأبتا أن يقيدا بذلك وفرض للعباس عم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك وقال: (يا أبت لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، وكان له ما لم يكن لي..).
فقال له عمر: (إن أبا أسامة كان أحب إلي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من أبيك.
وكان أسامة أحب إلي رسول الله منك..) [86] .
وقد فضل عمر العرب علي العجم، والصريح علي المولي [87] وقد أدت هذه السياسة إلي إيجاد الطبقية بين المسلمين، كما استدعت إلي تصنيف الناس بحسب قبائلهم وأصولهم فنشط النسابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب أصولها [88] ممّا أدي إلي حنق الموالي علي العرب، وكراهيتهم لهم، والتفتيش عن مثالهم، ظهور النعرات الشعوبية والقومية في حين أن الإسلام قد أمات هذه الظاهرة وجعل رابطة الدين أقوي من رابطة النسب، والزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس علي اختلاف قومياتهم وأديانهم حتي لا تحدث ثغرة في صفوف المجتمع.
وقد اثارت هذه السياسة موجة الإنكار عند الكثيرين من المحققين، وفيما يلي بعضهم:
يقول الدكتور عبد الله سلام: (لست أدري كيف اتخذ عمر هذا الإجراء؟ ولماذا اتخذه؟ إنه إجراء أوجد تفاوتاً اجتماعياً واقتصادياً، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين) [89] .
وممن أنكر هذه السياسة الدكتور محمد مصطفي هدارة يقول: (وفرض العطاء علي هذه الصورة قد أثر تأثيراً خطيراً في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية إذ خلق شيئاً فشيئاً طبقة أرستقراطية غنية يأتيها رزقها رغداً دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال. ذلك أن فرض العطاء كان يرتكز علي ناحيتين القرابة من رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، والسابقة في الإسلام ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك المقابل الذي لا بد أن تأخذه الدولة في صورة عمل وجهاد) [90] .
وأنكر ذلك الشيخ العلائلي بقوله: (هذا التنظيم المالي أوجد تمايزاً كبيراً، وأقام المجتمع العربي علي قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سوءا في نظر القانون (الشرعية) فقد أوجد أرستقراطية وشعباً وعامة) [91] .
هؤلاء بعض الناقدين للسياسة المالية التي أنتهجها عمر، وهي حسب مقررات الاقتصاد الإسلامي لا تحمل أي طابع من التوازن الاقتصادي فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة وتضخمت الأموال الهائلة عندهم ممّا أوجب تغيير الحياة الإسلامية، وسيطرة الرأسماليين علي سياسة الدولة. وتسخير أجهزتها لمصالحهم، وقيامهم بدور المعارضة لكل حركة إصلاحية أو سياسية عادلة في البلاد، وقد اشتدت تلك الزمرة في معارضة حكومة عليّ (عليه السلام) وزجت بجميع ما تملك من الوسائل الاقتصادية وغيرها لإسقاط حكمه لأن سياسته العادلة كانت تهدف إلي منعهم من الامتيازات ومصادرة ثرواتهم التي ابتزوها بغير حق.
وجهد عمر علي فرض سلطانه بالقوة والعنف، فخافه القريب والبعيد وبلغ من عظيم خوفهم أن امرأة جاءت تسأله عن أمر، وكانت حاملاً، ولشدة خوفها منه أجهضت حملها [92] وكان شديداً بالغ الشدة، خصوصاً مع من كان يعتد بنفسه،يقول الرواة، إنه كان يقسم مالاً بين المسلمين ذات يوم، وقد ازدحم الناس عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص، وبلاؤه معروف في فتح فارس، فزاحم الناس حتي خلص إلي عمر، فلما رأي اعتداده بنفسه علاه بالدرة، وقال: (لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك)، وقصته مع جبلة تدل علي مدي صرامته وشدته، فقد أسلم جبلة وأسلم من كان معه، وفرح المسلمون بذلك، وحضر جبلة الموسم، وبينما يطوف حول البيت إذ وطأ إزاره رجل من فزاره فحله فأنف جبلة وسارع إلي الفزاري فلطمه، فبلغ ذلك عمر فاستدعي الفزاري وأمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك غاية التضييق، فارتد جبلة وخرج عن الإسلام وولي إلي هرقل فاحتفي به وأضفي عليه النعم، إلا أن جبلة كان يبكي أمر البكاء علي ما فاته من شرف الإسلام وقد أعرب عن حزنه واساه بقوله:

تنصــرت الأشــراف من أجل لطمة
وما كـان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منـــــها لجـــــاج ونخــــوة
وبعــث لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمـــي لـــم تلـــدني وليتني
رجعت إلي القول الذي قال لي عمر

ويا ليتني أرعي المخـــــاض بقفره
وكنـــــت أسيراً في ربيعة أو مضر

وقد أراد عمر أن يقوده بأول بادرة تبدو منه ببرة [93] محاولاً بذلك إذلاله ويحدثنا ابن أبي الحديد عن شدة عمر مع أهله فيقول: كان إذا غضب علي واحد منهم لا يسكن غضبه حتي يعض علي يده عضاً شديداً فيدميها) [94] .
وعرض عثمان إلي شدة عمر حينما نقم عليه المسلمون، واشتدوا في معارضته فأخذ يذكرهم بغلظته وقسوته لعلهم ينتهون عنه قائلاً: (لقد وطئكم ابن الخطاب برجله، وضربكم بيده،وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم به...) [95] .
ووصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد حفنة من السنين سياسة عمر ومدي محنة الناس فيها بقوله:
(فصيرها ـ يعني أبا بكر في توليته لعمر ـ في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض..) [96] .
وتتجافي هذه السياسة عن سيرة الرسول (صلّي الله عليه وآله) وسياسته، فقد سار بين الناس بالرفق واللين، وساسهم بالرأفة والرحمة، وكان لهم كالأب الرؤوف، وكان يشجب جميع مظاهر الرعب التي تبدو ومن بعض الناس تجاهه فقد جاءه رجل، وقد أخذته الرهبة منه، فنهره (صلّي الله عليه وآله) وقال له: (إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وقد سار (صلّي الله عليه وآله) بين أصحابه سيرة الصديق مع صديقه والأخ مع أخيه من دون أن يشعرهم بأن له أية مزية أو تفوق عليهم، وقد مدح الله تعالي معالي أخلاقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ).
ويقول المؤرخون: إن عمر فرض الحصار علي صحابة الرسول، ولم يسمح لهم بمغادرة يثرب، فكانوا لا يخرجون إلا بإذن خاص منه، وقد خالف بهذا الإجراء ما آثر عن الإسلام في منحه الحريات العامة للناس جميعاً، فقد منحهم حرية الرأي والقول، وحرية العقيدة، وحرية العمل وجعلها من الحقوق الذاتية للإنسان، وألزم الدولة بحمايتها، ورعايتها وتوفيرها وليس للسلطة أن تقف موقفاً معاكساً أو مجافياً لها، شريطة أن لا يستغلها الإنسان في الإضرار بالغير أو يحدث فساداً في الأرض.
وسلك عمر ما سلكه أبو بكر في إبعاد الأسرة الهاشمية عن جهاز الحكم، فلم يجعل لها أي نصيب فيه، وإنما عهد إلي من ولاهم أبو بكر، فأقرهم في مناصبهم، ومن الغريب أنه لم يعين أي واحد من الصحابة النابهين أمثال طلحة والزبير، وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص، وفلاناً وفلاناً من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة؟!! فقال: أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء النفر من قريش، فإني أخاف أن ينشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد، وعلق ابن أبي الحديد علي كلامه هذا بقوله:
(فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساويين في الشوري، مرشحين للخلافة! وهل شيء أقرب إلي الفساد من هذا..) [97] .

اعتزال الامام

ولم يختلف المؤرخون في أن الإمام علي (عليه السلام) قد انطوت نفسه علي حزن عميق وأسي شديد علي ضياع حقه، وسلب تراثه، فقد جهد القوم علي الغض من شأنه، ومعاملته كشخص عادي غير حافلين بمواهبه، ومواقفه ومكانته من النبي (صلّي الله عليه وآله) فكان في معزل عنهم، لا يشاركهم في أي أمر من أمور الملك والسلطان، ولا يشاركونه فيها، وأعرض عنهم وأعرضوا عنه، حتي ألصق خده بالتراب، كما يقول المؤرخون، يقول محمــــد بن سليمان في أجوبـــــته عن أسئلة جعفر بن مكي عــــما دار بين علي وعثــــمان قال: (إن عليّاً دحضه الأولان ـ يعــــني الشيخين ـ وأسقطاه، وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً نسياً) [98] .
ويعزوا الإمام (عليه السلام) في حديــــث له مع عبد الله بن عمر إلي أبيه جـــميع ما لاقاه من النكـــبات التي منها تقدم عثـــمان عليه [99] .
وعلي أي حال فإن الإمام (عليه السلام) قد اعتزل عن الناس في عهد عمر كما اعتزلهم في عهد أبي بكر، فصار جليس بيته يساور الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسد الأرق ويفترش الأرق، ويتجرع الغصص، قد كظم غيظه فلم يتصل بأحد إلا بخلّص أصحابه الذين عرفوا واقعه، ومكانته كعمار ابن ياسر، وأبي ذر، والمقداد، وقد عكف علي جمع القرآن وكتابته والإمعان في آياته.
وأجمع المؤرخون علي أن عمر كان يرجع إليه في مهام المسائل التي يسأل عنها، والإمام لم يضن عليه بالجواب، إظهاراً لأحكام الله التي يجب علي العلماء إذاعتها بين الناس.. وكان عمر يذيع فضل الإمام (عليه السلام) ويقول: (لولا علي لهلك عمر).
والشيء المحقق أن عمر كان في أكثر المسائل الفقهية إذا سئل عنها لم يهتد لجوابها وإنما يفزع إلي الإمام (عليه السلام) والي سائر الصحابة، وقد اشتهرت كلمته (كل الناس أفقه من عمر حتي ربات الحجال) وقال: (كل الناس أفقه من عمر حتي المخدرات في البيوت) وقد دلّ المحقق الأميني علي ذلك بما لا مزيد عليه [100] .
ويروي التاريخ كثيراً من الحوادث المستعصية التي واجهت الخلفاء،والتي لم تجد لها معالجاً سوي الإمام علي (عليه السلام).
إذن كان دور الإمام علي (عليه السلام) في تلك الفترة، وهو حماية الدعوة من كل أشكال الانحراف والأخطار التي أخذت تهدد وجودها وهيمنتها، فشارك الخلفاء في تحمل المسؤولية، فكان المستشار والمرشد والقاضي والمشرّع... كان الإمام علي (عليه السلام) يردد دائماً: (والله لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولو لم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة).
واستمر أيضاً في احتضان الإسلام وتدعيم وحدة المسلمين، حتي اغتيل عمر بن الخطاب علي يد أبي لؤلؤة بعد عشر سنوات من ولايته، وسارع عمر قبل وفاته إلي وضع أمر الخلافة بين ستة من الصحابة يختارون واحداً منهم، وهم علي (عليه السلام) وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص علي أن يكون عبد الرحمن هو الحكم (وكان عبد الرحمن صهراً لعثمان) واجتمع الستة، وبعد التداول: وهب طلحة حقه لعثمان، والزبير لعلي، وسعد لعبد الرحمن ثم تنازل عبد الرحمن عن حقه لمن يقبل (علي أو عثمان) البيعة علي سنّة الله ورسوله ورأي الشيخين فقبل عثمان، ورفض عليٌّ قائلاً: (أبايع علي سنّة الله ورسوله واجتهاد رأي..).
إن مصدر التشريع في الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة نبيه، فعلي ضوئهما تعالج مشاكل الرعيّة، ويسير نظام الدولة، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع الإسلامي، علي أنهما اختلفا أشد الاختلاف في النظم السياسية، فقد انتهج أبو بكر في سياسته المالية منهجاً أقرب إلي المساواة من سياسة عمر، فإنه ألغي المساواة في العطاء، وأوجد نظام الطبقية، فقدم بعض المسلمين علي بعض، وشرع حرمة المتعتين متعة الحج ومتعة النساء في حين أنهما كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وأبي بكر، وكانت له آراؤه الخاصة في كثير من المجالات التشريعية.
فعلي أي المنهجين يسير ابن أبي طالب ربيب الوحي ورائد العدالة الاجتماعية في الإسلام.
إن ابن عوف يعلم علماً جازماً لا يخامره أدني شك أن الإمام لو تقلد زمام الحكم لطبق شريعة الله في الأرض، وساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ولم يمنح الأسر القرشية أي جهة من الامتياز وساوي بينها وبين غيرها في جميع الحقوق والواجبات، فتفوت بذلك مصالح هذه الطبقة التي جنت علي الإسلام، وجرت للمسلمين أعظم الويلات والخطوب.
إن الإمام لو وافق علي الالتزام بما شرط عليه ابن عوف لما أمكنه أن يطبق أي منهج من مناهج سياسته الهادفة إلي نشر العدل بين الناس، ومن المقطوع به أن الإمام حتي لو التزم بهذا الشرط ظاهراً لحالت قريش بينه وبين تطبيق أهدافه، ولم تدع له أي مجال لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويكون خروجها عليه مشروعاً لأنه لم يف لها بوعده.
وعلي أي حال فإنّ عبد الرحمن لما يئس من تغيير اتجاه الإمام انبري إلي عثمان فشرط عليه ذلك فسارع إلي إجابته، وأظهر استعداده الكامل لكل ما شرطه عليه وفيما أحسب أن هناك اتفاقاً سرياً بينهما أحيط بكثير من الكتمان فإنه بأي حال لا ينتخب الإمام وإن أجابه إلي ما شرط عليه. وإنما طلب منه البيعة لأجل التغطية علي مخططاته فاستعمل هذه المناورة السياسية، ويري بعض المؤرخين من الإفرنج أن عبد الرحمن استعمل طريقة المداورة والانتهازية، ولم يترك الانتخاب يجري حراً. يقول المؤرخون: إن عبد الرحمن بادر إلي عثمان فصفق بكفه علي يده وقال له:
(اللّهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان..). ووقعت هذه المبادرة كصاعقة علي القوي الخيرة التي جهدت علي أن يسود حكم الله بين المسلمين، وانطلق الإمام صوب ابن عوف فخاطبه قائلاً:
(والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم..) [101] .
وألقي الإمام الأضواء علي اختيار عبد الرحمن لعثمان من أنه لم يكن من صالح الأمة وإنما كان وليد الأطماع والأهواء السياسية فقد رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد عثمان، واتجه الإمام صوب القرشيين فقال لهم:
(ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان علي ما تصنعون).
ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدده (يا علي لا تجعل علي نفسك سبيلاً) [102] وغادر الإمام المظلوم المهتضم قاعة الاجتماع، وهو يقول: (سيبلغ الكتاب أجله ـ إذن عارض ـ الإمام (عليه السلام) نتائج المسرحية، ولما لم تكن الظروف ملائمة للتحرك السلبي، إذ لا يزال الخطر يحدق بالإسلام، سكت عن حقه، مكتفياً بتسجيل موقفه المبدئي بقوله: (إن لنا حقّاً إن نعطه أخذناه، وإن نُمنعه نركب أعجاز الإبل).
ولم تتغير سياسة الإمام علي (عليه السلام) في التوجيه والنصح والتقويم كما كانت في السابق، ولكن الأوضاع الآن قد ساءت إلي حدّ كان يُنذر بالثورة لأن عثمان كان ضعيف الإرادة خائر العزيمة، فلم تكن له أية شخصية قوية متماسكة يستطيع بها أن يفرض آراءه وإرادته، كما لم تكن له أية قدرة علي مواجهة الأحداث والتغلب عليها، قد أخذ الأمويون بزمامه، واستولوا علي جميع مقدرات حكومته، لم يستطع أن يقف موقفاً إيجابياً يتسم بالصلابة ضد رغباتهم، وأهوائهم، فكان بالنسبة إليهم ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ كالميت في يد الغاسل، وكان الذي يدير شؤون دولته مروان بن الحكم، فهو الذي يعطي ما يشاء ويمنع من يشاء ويتصرف في مقدرات الأمة حسب ميوله من دون أن يعني بأحكام الإسلام، ولا رأي لعثمان، ولا اختيار له في جميع الأحداث التي تواجه حكومته، فقد وثق بمروان واعتمد عليه، وأناط به جميع شؤون الدولة، يقول ابن أبي الحديد نقلاً عن بعض مشايخه: إن الخليفة في الحقيقة والواقع إنما كان مروان وعثمان له اسم الخلافة. إن قوة الإرادة لها الأثر التام في تكوين الشخصية واستقامتها، فهي تكسب الشخص قوة ذاتية يستطيع أن يقف بحزم أمام التيارات والأعاصير التي تواجهه في هذه الحياة، ومن المستحيل أن يحقق الشخص أي هدف لأمته ووطنه من دون أن تتوفر فيه هذه النزعة، وقد منع الإسلام منعاً باتاً أن يتولي ضعيف الإرادة قيادة الأمة، وخطر عليه مزاولة الحكم لأنه يعرض البلاد للويلات والخطوب، ويغري ذوي القوة بالتمرد والخروج من الطاعة وتمني الأمة بالأزمات والأخطار. ووصفه بعض المؤرخين بالرافة والرقة واللين والتسامح إلا أن ذلك كان مع أسرته وذويه أما مع الجبهة المعارضة لحكومته فقد كان شديد القسوة، فقد بالغ في إرهاقهم واضطهادهم، وقابلهم بمزيد من العسف والعنف، فنفي الصحابي أبا ذر الغفاري (رضي الله عنه) من يثرب إلي الربذة، وفرض عليه الإقامة الجبرية في مكان انعدمت فيه جميع وسائل الحياة، حتي مات طريداً غريباً، ونكل بالصحابي العظيم عمار بن ياسر فأمر بضربه حتي أصابه فتق، وألقته شرطته في الطريق مغمي عليه، وأوعز إلي شرطته. بضرب القارئ الكبير عبد الله بن مسعود فألهبت جسمه سياطهم وألقوه في الطريق بعد أن هشموا بعض أضلاعه، وحرم عليه عطاءه، وهكذا اشتد في القسوة مع أعلام المعارضة.
نعم كان شديد الرأفة والرقة بأرحامه من بني أمية وآل أبي معيط فمنحهم خيرات البلاد وحملهم علي رقاب الناس، وأسند إليهم جميع المناصب الحساسة في الدولة.
وظاهرة أخري من نزعات عثمان هو انه كان شديد القبلية فقد أترعت نفسه بالعواطف الجياشة تجاه قبيلته، حتي تمني أن تكون مفاتيح الفردوس بيده ليهبها لبني أمية، وقد آثرهم بالفيء، ومنحهم الثراء العريض، ووهبهم الملايين من أموال الدولة، وجعلهم ولاة علي الأقطار والأقاليم الإسلامية وكانت تتواتر لديه الأخبار بأنهم جانبوا الحق وظلموا الرعيّة، وأشاعوا الفساد في الأرض فلم يعن بذلك ولم يفتح معهم أي لون من ألوان التحقيق ورد الشكاوي الموجهة ضدهم...
وكان معروفاً عن عثمان بأنه كان يميل إلي الترف والبذخ ولم يعن ببساطة العيش والزهد في الدنيا كما كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ففتن بالبذخ والترف فاتخذ القصور، واصطفي لنفسه ما شاء من بيت المال وأحاط نفسه بالثراء العريض من دون أن يتحرج في ذلك، ووصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه) وكان ذلك من موجبات النقمة عليه. هذه بعض نزعات عثمان، وقد أوجبت إخفاقه وفشله في الميادين السياسية، وإذاعة التذمر والنقمة عليه.
إزاء هذا الوضع المتردي عمل الإمام علي (عليه السلام) باتجاهين:
1ـ النصح لعثمان وتحذيره من سياسة ولاته وأقاربه.
2ـ تهدئة المعارضة كي تتخلي عن العنف إلي اللين والمرونة.
واجتمع الإمام (عليه السلام) بعثمان مرات عديدة، وفي كل مرة كان ينصحه: ليكفّ أيدي الولاة المنحرفين، ويقيم العدل ويحقق المساواة، وبالتالي يحذره من العواقب الوخيمة المنتظرة... ولكن كل ذلك لم يجد أذناً صاغية، فبقيت الأمور علي حالها. عندها، وفي المرة الأخيرة، ودع الإمام (عليه السلام) عثمان قائلاً: (ما يريد عثمان أن ينصحه أحد.. اتخذ بطانة غش، ليس منهم أحد إلا وقد تسيب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذل أهلها).
ولما لم تجد النصائح والأصوات المعارضة.. تفجرة الثورة. وأحاط الثائرون ببيت عثمان، وعلم عثمان أن لا ملجأ له إلا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستغاث به، وطلب منه أن يدعو القوم إلي كتاب الله وسنة نبيه، فأجابه إلي ذلك بعد أن أخذ منه المواثيق علي الوفاء بعهده، ومضي الإمام إلي الثوار وهو يحمل الضمان لجميع مطالبهم..
ولكن عثمان نقض ما قطعه علي نفسه، ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ويقول المؤرخون إن السبب في ذلك أن مروان الذي كان مستشاراً له ووزيراً، قد دخل عليه فلامه علي ما صنع قائلاً:
(تكلم واعلم الناس أن أهل مصر [103] قد رجعوا، وإن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً، فإن خطبتك تسير في البلاد، قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا يستطيع دفعه..) وامتنع عثمان عن إجابته لأنه دعاه لأن يناقض نفسه، وأن يقول غير الحق ولكنه ما زال به يحذره مغبة ما صنع، ويخوفه عاقبة الأمور، ولم تكن لعثمان إرادة صلبة، ولا عزم ثابت، فكان ألعوبة بيد مروان فاستجاب له، واعتلي المنبر فخاطب الناس قائلاً:
(أما بعد: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم رجعوا إلي بلادهم..) وانبري المسلمون إلي الإنكار عليه، وناداه عمرو بن العاص: (اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت نهابير [104] وركبناها معك فتب إلي الله نتب معك).
فصاح به عثمان: (وإنك هنا يا ابن النابغة؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل؟) وارتفعت أصوات الإنكار من جميع جنبات الحفل وهي ذات لهجة واحدة. (اتق الله يا عثمان) (اتق الله يا عثمان). وانهارت أعصابه، وتحطمت قواه فحار في الجواب، ولم يجد بُداً من أن يعلن التوبة مرة أخري عما اقترفه، ونزل عن المنبر، وهو خائر القوي، ومضي إلي منزله [105] .
ولما تبين للثوار أنه لم يقلع عن سياسته، وإنه جاد في سيرته لا يغير منها ولا يبدل أحاطوا به، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فلم يستجب لهم ورأي أن يستنجد بمعاوية [106] ليبعث له قوة عسكرية تحميه من الثوار، وقد كتب إليه هذه الرسالة:
(أما بعد: فإن أهل المدينة قد كفروا، وخلعوا الطاعة، ونكثوا البيعة فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام علي صعب وذلول) [107] ، وحمل الكتاب مسور بن مخرمة، لما قرأه معاوية قال له مسور: (يا معاوية: إن عثمان مقتول فانظر فيما كتب به إليك..). وصارحه معاوية بالواقع وبما انطوت عليه نيته قائلاً: (يا مسور: إني مصرح أن عثمان بدأ بما يحب الله ورسوله ويرضاه ثم غيّر فغير الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل) [108] ولم يستجب معاوية له، وكان فيما يقول المؤرخون: يترقب مصرعه ليتخذ من دمه وسيلة للظفر بالملك والسلطان، وقد تنكر لألطافه واياديه عليه وعلي أسرته، يقول الدكتور محمد طاهر درويش:
(وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره علي معاوية، ودمه في عنقه، ومسؤوليته عن ذلك لا تدفع، فهو أولي الناس به، وأعظم الرجال شأناً في دولته، وقد دعاه فيمن دعا، يستشيره في هذا الأمر وهو داهية الدهاة فما نهض إليه برأيه، ولا دافع عنه بجنده، وكأنه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته فترك الأيام ترسم بيدها مصيره، وتحدد نهايته فإذا جاز لأحد أن يظن بعليّ أو بطلحة والزبير وغيرهم تقصيراً في حق عثمان فمعاوية هو المقصر، وإذا جاز أن يُلام أحد غير عثمان فيما جري فمعاوية هو الملوم..) [109] .
وعلي أي حال فإن معاوية لما أبطأ عن إجابته، بعث عثمان رسالة إلي يزيد بن كرز والي أهل الشام يستحثهم علي القدوم إليه لإنقاذه من الثوار ولما انتهي إليهم كتابه نفروا إلي إجابته تحت قيادة يزيد القسري إلا أن معاوية أمره بالإقامة بذي (خشب) وأن لا يتجاوزه فأقام الجيش هناك حتي قتل عثمان.
وكتب عثمان رسائل أخري إلي أهل الأمصار والي من حضر الموسم في مكة يطلب منهم القيام بنجدته إلا أنهم لم يستجيبوا له لعلمهم بالأحداث التي ارتكبها.
وأحاط به الثوار فمنعوا عنه الماء والطعام، وحاصروه، وهو مصر علي سياسته لم يقلع عنها، وقد أترعت النفوس بالحقد والكراهية له، وقد جني هو علي نفسه لإطاعته لمروان، وانصياعه لرغبات بني أمية، وألقي عثمان جثة هامدة علي الأرض، لم يسمح الثوار بمواراته، وقال الصفدي: إنهم ألقوه علي المزبلة ثلاث أيام [110] ، مبالغة في تحقيره وتوهينه وتكلم بعض خواصه مع الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ليتوسط في شأنه مع الثوار في دفنه، فكلمهم الإمام فأذنوا في دفنه [111] ودفنوه في حش كوكب [112] ولم يرضي الأنصار دفنه في مقابر المسلمين [113] وعلي أي حال فقد كانت الثورة علي عثمان ثورة اجتماعية لا تقل شأناً عن أنبل الثورات الإصلاحية التي عرفها التاريخ فقد كانت تهدف إلي الحد من سلطة الحاكمين، ومنعهم من الاستبداد بشؤون الناس، وإعادة الحياة الإسلامية إلي مجراها الطبيعي.

حكومة الامام علي

بعد مقتل عثمان، توجهت أنظار الثوار إلي الإمام علي يطلبون منه أن يلي الحكم، خاصة بعد تدهور مجمل أوضاع المسلمين وبدأوا يفكرون بصورة جدّية في اختيار القيادة الإسلامية الشرعية القادرة علي إدارة شؤون الدولة الإسلامية والتي أوصي بها رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وجاء إجماع المسلمين علي انتخاب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ولاة الأمة.
ومع أن هذا الإجماع جاء متأخراً ربع قرن حينما تغافلت جماهير الأمة أحاديث ووصايا رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في حق علي (عليه السلام) في ولاية أمور المسلمين.
وجاء الناس بعد مقتل عثمان إلي الإمام (عليه السلام) وقد اجتمعوا من كل مصر ليبايعوا الإمام علي (عليه السلام) وكان الإمام (عليه السلام) يتهرب منهم، وهم يتعقبونه ويصرّون عليه بقبول البيعة، واستمرت الحالة بين رفض الإمام (عليه السلام) وإصرار الجماهير لعدة أيام.
فالإمام (عليه السلام) كان يدرك نتيجة لوعيه العميق للظروف الاجتماعية والنفسية التي كانت تجتاح المجتمع الإسلامي في ذلك الحين، ولأن المدّ الثوري الذي انتهي بالأمور إلي ما انتهت إليه بالنسبة إلي عثمان يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية [114] .
ومن هنا كان رفض الإمام (عليه السلام) وامتناعه عن الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه بقبوله الخلافة، فقد أراد أن يضعهم أمام اختبار يكتشف به مدي استعدادهم لتحمل أسلوب الثورة في العمل لئلا يروا فيما بعد أنه استغفلهم واستغل اندفاعهم الثوري حين يكتشفون صعوبة الشروط التي يجب أن يناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلها) [115] .
ولهذا أجابهم الإمام (عليه السلام) بقوله: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلي قول القائل، وعتب عاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير) [116] .
ولم يجد الإمام (عليه السلام) بداً ـ بعد انثيال الناس لمبايعته خليفة علي المسلمين، فاستجاب لرغبة الناس وقبل الخلافة دونما إرادة منه.. وقد صوّر الإمام (عليه السلام) تدافع الناس وهم يلتمسون منه القبول في تحمل مسؤولية الإنقاذ فيقول (عليه السلام): (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب حتي لقد وُطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم..) ولكنه (عليه السلام)، يذكر في نهاية خطبته جملة بعنوان اتمام الحجة، فيقول: (واعلموا إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم): أي إذا استلمت زمام الخلافة فإني سوف أقودكم وفق علمي، واجتهادي، وليس وفق ما تريدونه أنتم.
وكان آخر ما قاله لهم في تلك الخطبة أيضاً؛ (وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً) [117] هذه الكلمات التي صدرت من علي (عليه السلام)، تبين أنه كان يتوقع مشاكل كثيرة، تحدث في عهد خلافته، وهي من التعقيد والغموض بحيث علم بأنه سوف يصعب علي الناس في كثير من الأحداث المقبلة، أن يتقبلوا أوامر القيادة الشرعية، ويتفهموها، وكان هذا هو السر في كراهته لقبوله الخلافة، وقد حدث ما توقعه الإمام (عليه السلام) فيما بعد فماذا كانت المشاكل التي واجهها (عليه السلام)؟

مشكلات الامام علي

أذكر فيما يلي بعضاً من هذه المشاكل، بصورة سريعة، ومجملة، لكي أصل إلي مشكلة المشاكل، وكبري المعضلات التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي مشكلة الخوارج [118] فأفصّل الكلام فيها بعض الشيء.
1ـ مشكلة مقتل عثمان (مشكلة النفاق):
إن أولي المشاكل التي وقعت، والتي قال علي (عليه السلام) بشأنها أن هناك مستقبلاً مظلماً ينتظر المسلمين وهي ذيول حادثة مقتل عثمان، حيث استلم علي (عليه السلام) الخلافة، في وضع غير عادي، فقد قتل الثوار الغاضبون، الخليفة السابق، ولم يسمحوا حتي بدفنه [119] ، ثم انضم الثوار إلي صف علي (عليه السلام)، فماذا كان رأي بقية المسلمين؟
بالطبع لم يكن عامة الناس يفكرون كما يفكر الثوار...
كما أن عليا (عليه السلام) نفسه، لم يكن تفكيره ينسجم، لا مع الثوار ولا مع مخالفيهم ولا مع عامة الناس...
فكانت النتيجة أن نفذ الثوار تهديدهم، دون أن يكون لعلي يد في ذلك [120] إن عليا (عليه السلام)، كان يعلم أن مقتل عثمان سوف يصبح مسألة توجب إثارة الفتنة [121] ، خصوصاً عند الالتفات إلي نكتة مهمة كشف عنها مؤخراً علماء الاجتماع، والمؤرخون المحققون الذين طالعوا تاريخ الإسلام بدقة وتمعن، ونلاحظ أن نهج البلاغة ـ أيضاً ـ قد أشار إلي هذه المسألة، وهي أن بعض المؤيدين لعثمان كان لهم ـ أيضاً ـ يد في قتله [122] ، فكانوا يريدون أن يقتل عثمان لكي تقوم فتنة في عالم الإسلام، فيصطادون صيدهم في المياه العكرة.
وكان لمعاوية علي الخصوص يد قوية في مقتل عثمان، فعمل في الخفاء علي أن تستعر نار هذه الفتنة، ليستفيد هو بالتالي، من قتل الخليفة في تحقيق أطماعه ومآربه.
وهنا أريد أن أركز علي نقطة هامة في هذه المشكلة التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي أنه نجد تفاوتاً واضحاً بين مخالفيه، ومخالفي النبي (صلّي الله عليه وآله) في زمانه: فالنبي (صلّي الله عليه وآله) كان يواجه مجموعة من الكفار وعبدة الأوثان، وكانوا يحاربونه تحت شعار الوثنية، فكانوا ينكرون الله والتوحيد علناً، وكان أبو سفيان يصرّ علي شعار (اعلُ هبل!) [123] فسهل علي الرسول (صلّي الله عليه وآله) مواجهتهم ومقاومتهم بهذا الشعار الواضح (الله أعلي وأجل).
أما علي (عليه السلام) فكان يواجه طبقة من العلماء المنافقين [124] ، يتظاهرون بالإسلام ولكنهم لم يكونوا في الحقيقة مسلمين، فكانت شعاراتهم شعارات إسلامية: وأهدافهم ضد الإسلام.
وكان معاوية بن أبي سفيان مثل أبيه، يملك الروح السفيانية نفسها، والأهداف الشيطانية ذاتها، ولكن تحت شعار الآية القرآنية: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [125] .
صحيح أن هذا الشعار، شعار جميل، ولكن ألاّ يوجد من يسأل معاوية: من هو ولي الدم الشرعي بالنسبة لعثمان؟ إن نسب معاوية لا يتصل بنسب عثمان، إلا بأربعة أظهر صاعدة، أي أنهما يشتركان في الجد الرابع في حين أن عثمان له أولاد وأرحام أقرب إليه من معاوية، فكيف يتخطاهم معاوية جميعاً، وينصب نفسه ولياً للدم؟ ثم ما هي علاقة علي (عليه السلام) بمقتل عثمان؟ ليس لعلي (عليه السلام) أي يد في قتله ولكن شخصاً مخادعاً، مخاتلاً، مثل معاوية، لا يهمه كل ذلك، إنه يريد فقط أن يستغل الحادثة لصالحه، بأي صورة كانت.
وكان معاوية قد أوعز في وقت سابق إلي عيونه وجواسيسه، الذين بثهم حول عثمان، بأن يرسلوا إليه فوراً ثوب الخليفة الملطخ بالدم عندما يسقط صريعاً.
وفعلاً ما إن قتل عثمان، حتي قاموا بتنفيذ الأمر، قبل أن يجف دم القتيل وبعثوا بالثوب الملطخ مع أصابع امرأة عثمان إلي معاوية علي جناح السرعة. وما أن استلم معاوية ثوب الخليفة، والأصابع المقطوعة، حتي بدأ يلعب لعبته، فأمر أن تعلق أصابع امرأة عثمان إلي جانب منبره، وشرع في الصباح: (يا أهل الشام، قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، ألّب الناس عليه، وآوي قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه...) [126] وجلس هناك يصرخ ويبكي علي الخليفة المظلوم! وظل مدة في الشام علي هذا الحال، يقرأ التعازي علي روح عثمان، ويستدر دموع الناس عليه، كما يعبئهم للمطالبة بدمه.
فيا تري، ممن يزعمون أن يطلبوا بدم عثمان؟!
إن مؤامرة معاوية تقضي بأن يطلبوا دم عثمان من علي (عليه السلام)، لأنه بزعمهم شريك للقتلة في دم الخليفة، والدليل علي ذلك، أن الثوار الذين هجموا علي بيت عثمان، وقتلوه، يقفون الآن في صف علي، ويؤلفون قسماً من جيشه وعساكره!!
هذه هي المشكلة المفتعلة التي اتخذت من قبل أشخاص مغرضين ذريعة لإشعال نار حربين عظيمتين: (الجمل) و(صفين).
2ـ التشدد في إجراء العدالة:
وهناك مشكلة أخري واجهها علي (عليه السلام)، تتعلق من جهة بأسلوبه في الحكم، ومن جهة أخري بالتغيير الذي تعرض له المجتمع الإسلامي إبان خلافة (الثلاثة): وهي أنه (عليه السلام)، كان رجلاً صلباً، لا يلين في تطبيق أحكام الإسلام.
فبعد النبي (صلّي الله عليه وآله)، ولسنوات عديدة، تعود المسلمون شيئاً فشيئاً علي مسألة إعطاء الامتيازات للأفراد المقربين من الخليفة، والسلطة الحاكمة، ولكن عليّاً (عليه السلام)، أبدي تصلباً شديداً إزاء هذه المسائل، وكان يقول: (... فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق) [127] ، حتي إن أصحابه جاءوا إليه يوماً وقد عاتبوه علي التسوية في العطاء، فقال لهم: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير) [128] أي تطلبون مني أن أسعي لتحقيق أهدافي بالظلم، وغمط حقوق الناس؟ كلا لن يكون مني هذا أبداً، وإن طال الزمان.
3ـ الصراحة والصدق في السياسة:
والمشكلة الثالثة التي واجهها علي (عليه السلام)، في عهد خلافته، هي مسألة صدقه وصراحته في مجال الحكم والسياسة، ولم يستحسن ذلك أيضاً بعض أصحابه، وقالوا في ذلك: إنّ هذا غير معقول، لأن السياسة لا تتطلب هذا القدر من الصراحة والعفوية، ولا بد أن يشوبها شيء من المراوغة، والدّهاء لأن ذلك بمثابة ملح السياسة حتي أن بعضهم قالوا: إنّ عليّاً ليس عنده سياسة أصلاً، علي العكس من معاوية الذي هو في نظرهم سياسي داهية، فكان علي (عليه السلام) يقول: (والله ما معاوية بأدهي مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية القدر، لكنت من أدهي الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة) [129] .
فالتقوي هي التي حالت بينه (عليه السلام)، وبين أن يخوض مع الخائضين في المؤامرات والألاعيب السياسية الماكرة، ودفعته إلي الالتزام بالصدق، والاستقامة في كل مجالات الحياة، حتي في السياسة والحكم.
وقد يفهم من العبارة الأخيرة: (ولكل غادر لواء) أن الإمام يقصد تحذير الناس من الانخداع والسير، وراء الحاكم الغادر الفاجر، وإلا حشدوا تحت لوائه يوم القيامة، ويا له من مصير سيئ!
4ـ الخوارج [130] : مشكلة علي (عليه السلام) الرئيسية:
الخوارج الذين انفصلوا عن خط الإمام علي (عليه السلام) وخرجوا عليه في صفين، وأصبحوا فرقة تدعي بالخوارج [131] .
ثم إنهم عملوا ما في وسعهم لإيذاء الإمام والإساءة إليه، ولكن الأمير (عليه السلام) استعمل أقصي حد ممكن من المواراة معهم. ما دام أنهم لم يشهروا السيف، حتي أنه لم يقطع حقوقهم في بيت المال، ولم يقيد حرياتهم. وكانوا يأتون إليه أمام الناس، ويتجاوزون بحضرته إلي حدّ توجيه الإهانات الوقحة، ولكنه (عليه السلام) كان يعتصم بالحلم، ولا يرد عليهم.
فمثلاً بينما كان الإمام (عليه السلام) يوماً علي المنبر يخطب، كان أحد هؤلاء يثير الصخب والضجيج ويصدر أصواتاً غير مهذبة.
وفي يوم آخر سأله أحد الناس مسألة، فأجابه بجواب بليغ أثار تعجب الحاضرين واستحسانهم، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، ولكن خارجياً كان بينهم فقال: (قاتله الله ما أفقهه!) فأراد أصحاب علي (عليه السلام) أن ينقضوا عليه، فقال لهم الإمام: رويدكم، ماذا تريدون منه؟ إنه سبني ولكم فقط أن تردوا عليه سبابه لا أكثر. اتركوه وشأنه.
وفي يوم ثالث، كان علي (عليه السلام) منشغلاً بالصلاة، والناس يصلون خلفه (طبعاً لم يكن الخوارج يقتدون به، لأنهم سبق أن أفتوا بكفره)، وبينما كان يقرأ الحمد والسورة جاء أحدهم، ويدعي (ابن الكوا) وأخذ يقرأ هذه الآية بصوت عال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [132] .
فكان يريد أن يقول: يا عليّ، نحن نقر بأنك أول من دخل في الإسلام، ونعترف بأن لك سوابق عظيمة، وخدمات جليلة للدين، وأنك من المجتهدين في العبادة... ولكن لأنك كفرت، وجعلت لله شريكاً (إشارة إلي مسألة التحكيم) لقد حبط عملك، وليس لك أجر عند الله!!
فماذا كان من علي (عليه السلام)؟ إنه ما إن بدأ الخارجي بتلاوة هذه الآية حتي توقف الإمام (عليه السلام) عن القراءة، عملاً بالآية الكريمة: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [133] ولما انتهي من التلاوة، عاد الإمام إلي قراءته، وهكذا ظل الخارجي يكرر الآية، وفي كل مرة، كان الإمام (عليه السلام) يسكت وينصت، ثم كان يعود ويواصل.
وفـــي المرة الرابعـــة: واصل الإمام صلاته، ولم يلتـــفت، وقــــرأ هذه الآية، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ) [134] .
هل اقتنع الخوارج بهذا القدر من الإيذاء؟ كلا، ولو كانوا فعلوا لما كانوا مشكلة كبيرة بالنسبة إلي علي (عليه السلام). ولكننا نراهم أخذوا يتجمعون شيئاً فشيئاً، حول بعضهم، وشكلوا حزباً، بل فرقة إسلامية منشقة (عندما أقول إسلامية، لا أعني أنهم في الواقع جزء من المسلمين، فهم في نظرنا كفار خرجوا عن الدين) [135] ، وابتدعوا مذهباً جديداً في الإسلام، واصطنعوا لمذهبهم أصولاً وفروعاً.
وأخذ أمر الخوارج يستفحل أكثر فأكثر، إلي أن وجد الإمام (عليه السلام) نفسه مضطراً إلي أن يضرب معسكراً في مقابلهم، وكان عددهم قد بلغ حوالي اثني عشر ألفاً، وأصبحوا يشكلون خطراً جدياً، بحيث لا تجوز المهادنة معهم، وإرخاء الحبل لهم، أكثر من ذلك.
وأرسل إليهم ابن عباس مندوباً عنه، يناقشهم ويفاوضهم، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئاً معهم، وعاد خالي الوفاض [136] .
فذهب إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه، وكان حديثه معهم مؤثراً، بحيث أن كثيراً منهم ندموا علي عملهم، وطلبوا قبول توبتهم، فأمر علي (عليه السلام) بنصب راية أمام معسكره، وأعلن أن كل من يأوي من الخوارج إلي هذه الراية، فهو في أمان. وكان الذين رجعوا، وتجمعوا تحت راية الأمان، ثمانية آلاف رجلاً منهم، أما الأربعة آلاف الباقون، فأصروا علي موقفهم، وأعلنوا استحالة رجوعهم عن عقيدتهم.
وعند ذاك شنّ عليهم الإمام بجيشه هجوماً عنيفاً، وأعمل فيهم السيف، برغم كونهم من العابدين والزاهدين، والمصلين الخاشعين، الذين كثرت الثفنات والقروح في أيديهم، وجباههم، من كثرة السجود وظل يضرب منهم الرقاب إلي أن أتي عليهم جميعاً، ولم ينجُ منهم إلا أقل من عشرة أشخاص، بينهم عبد الرحمن بن ملجم.
وهنا لابدّ من وقفة نتأمل فيها هذا الموقف الخطير الذي اتخذه الإمام تجاه هذه الفرقة الضالة، وهل أن اتخاذ مثل هذا الموقف، أمر ميسور لشخص آخر غير الإمام علي (عليه السلام)؟
إن عامة المسلمين آنذاك، وخصوصاً الذين كانوا يقاتلون تحت لواء علي (عليه السلام) كانوا ينظرون إلي أفراد هذه الفرقة علي أنهم من المسلمين وإن اختلافهم مع القيادة لا يخرجهم من حظيرة الإسلام، سيما وأنهم أهل عبادة، وزهادة وآثار القداسة بادية علي محاياهم، وهم يحرمون علي أنفسهم حتي الصغائر ويتعصبون للدين بشكل يصعب علي أي أحد ليس عنده بصيرة حادة، وبصر نافذ، أن يحكم عليهم بالكفر، ويجوز قتلهم.
وفي الواقع لا يمكن أن يتجرّأ أحد علي قتل أفراد مسلمين متدينين، لا يفارق ذكر الله، وقراءة القرآن، شفاههم، إلا نوعان من الناس:
النوع الأول: أناس لا يعتقدون بالله واليوم الآخر، ولا بالإسلام، مثل جماعة يزيد، الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
النوع الثاني: أناس يملكون من العلم والبصيرة، ما يتمكنون به من اختراق ستار القداسة والجلالة، ليصلوا إلي الجوهر الخبيث الكافر.
هذا النوع ينحصر في فرد واحد، وهو شخص الإمام علي (عليه السلام).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في نهج البلاغة: (أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليه أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها...) [137] .
يقول (عليه السلام) بافتخار: أنا الذي وجهت ضربة قاصمة للخوارج، ولم يكن أحد غيري يملك الجرأة علي تصفية أولئك المنشقين، وإخماد فتنتهم، وقد تمّ هذا الأمر كما يقول الإمام (عليه السلام): (بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها..).
والشق الأول من هذه العبارة: يشير فيه إلي ظلمات الشبهات والشكوك التي ترسل أمواجها بين المسلمين لتغمرهم، وتجعل هذا الأمر ملتبساً عليهم، بحيث لا يتمكنون أن يخرجوا من دائرة الحيرة والتردد في أمر هؤلاء.
والشق الثاني: يشير فيه إلي إشعار هذه الفتنة، وقابليتها الكبيرة للانتشار بين المسلمين، باحتكاكهم مع هؤلاء، تماماً مثل انتشار مرض الكلب بين الذين يحتكون مع الكلاب المسعورة.
فكما أن كل من يري كلباً مسعوراً، يعطي لنفسه الحق بأن يقتله، حتي لا يعض الآخرين ويسعرهم، فإن الإمام (عليه السلام) يقول:
لقد رأيت هؤلاء الكلاب المسعورة، فأدركت خطرهم علي الإسلام، والمسلمين حالياً، وعلي مرّ العصور والأجيال، ورأيت أن لا مفر من إعدامهم وإلا فإنهم سرعان ما ينقلون مرضهم إلي غيرهم، ومن ثم يغرقون المجتمع الإسلامي في بحار الحماقة والجهل، والجمود، والتحجر الفكري.
5ـ مشكلة الفساد المالي والإداري والحقوقي
تسلّم الإمام (عليه السلام) الحكم في مجتمع ورث الفساد وكانت تنتظره مشاكل معقدة كثيرة علي مختلف الأصعدة، فعمل الإمام (عليه السلام) بسياسته الثورية الجديدة التي قرر أن يتبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها.
وقد تناولت سياسته الثورية ثلاثة ميادين هي:
1ـ الميدان الحقوقي.
2ـ الميدان المالي.
3ـ الميدان الإداري.
وقد أثيرت ـ مع الأسف ـ حول سياسة الإمام (عليه السلام) وإصلاحاته الكثير من الشكوك والأحكام المرتجلة [138] .. ففي:
الميدان الحقوقي:
تناولت إصلاحاته في المجال الحقوقي إلغاء مبدأ التفاضل في العطاء، وإعلان مبدأ المساواة الذي يساوي فيه كل المسلمين ويعتبرهم سواء في الحقوق والواجبات.
فجاء قوله (عليه السلام): (الذليل عندي عزيز حتي آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتي آخذ الحق منه) [139] .
الميدان المالي:
وركز من خلاله علي نقطتين مهمّتين:
أولاً: الثروات غير المشروعة التي تكونت أيام عثمان.
ثانياً: أسلوب توزيع العطاء التفضيلي.
حتي أن الإمام (عليه السلام) صادر جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الأرستقراطيين، وعالنهم بسياسته في توزيع المال بقوله: (أيها الناس إني رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وإني حاملكم علي منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمره، إلا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك الإماء وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) [140] .
ولعل قادة الطبقة الثرية فكرت في مساومة الإمام علي (عليه السلام) علي بذل طاعتهم له علي أن يغض عما سلف منهم، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معطي، وقال له: (يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً ونحن أخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم علي أن تضع عنا ما أصبناه من المــــال أيام عثمان وأن تقــــتل قتلته وإنا إن خفــــناك تركناك فالتحقنا بالشــــام) [141] .
أما الإمام علي (عليه السلام) فأكد لهم في خطبة له بكل وضوح علي عزمه في مواصلة تطبيق المنهج الذي بدأ به فقال: (فأما هذا الفيء فليس لأحد علي أحد فيه أثره، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلما، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء [142] .
وأما في الميدان الإداري:
فقد باشر الإمام (عليه السلام) سياسته الإدارية بعملين:
1ـ بعزل ولاة عثمان علي الأمصار قائلاً: ولكني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام وإن منهم من لم يسلم حتي رضخت له علي الإسلام الرضائخ) [143] .
فقد قرب عثمان ممن طردهم الرسول (صلّي الله عليه وآله) أو أقصاهم، لقد رد عمه الحكم ابن أمية إلي المدينة بعد أن طرده الرسول (صلّي الله عليه وآله) وأصبح يسمي طريد الرسول (صلّي الله عليه وآله) وآوي عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان النبي (صلّي الله عليه وآله) قد أهدر دمه وولاه عثمان مصر كما ولي عبد الله بن عامر البصرة فأحدث فيها من الأحداث ما جعل المؤمنين ينقمون عليه وعلي عثمان [144] .
2ـ إسناد ولايتها إلي رجال من أهل الدين والفقه والحزم، وذلك لأنه (عليه السلام) وجد أن أكبر عناصر الشكوي، وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة فبادر (عليه السلام) إلي تغيير التعيينات القديمة فأصدر أمره بتولية عثمان بن حنيف علي البصرة وسهل بن حنيف علي الشام وقيس بن سعد بن عبادة علي مصر وأبي موسي الأشعري علي الكوفة وهي الأمصار الكبري آنذاك.
وقد كلمه الكثيرون ومنهم المغيرة بن شعبة بشأن ولاة عثمان فأشار عليه بأن يثبت هؤلاء الولاة علي أعمالهم، ولكنه أبي عليه ذلك وعزلهم، وهكذا فعل مع طلحة والزبير بشأن ولاية الكوفة والبصرة وردهما رداً رفيقاً ممّا حملهما للضغط علي الإمام علي (عليه السلام) والتشكيك بقيادته ونكث بيعتهما له والمجاهرة بمطالبته بدم عثمان، متناسيين أنهما كانا من بين المحضرين علي الثورة علي عثمان، بل وطالبوا بإعادة طرح أمر الخلافة شوري بين المسلمين وزعما أنهما بايعا عليّاً عن إكراه وأن بيعتهما لهذا لا تجوز [145] .
وبينما الإمام علي (عليه السلام) يحث الخطي لصياغة نظم الدولة الإسلامية من الجذر، وأيضا تطبيق القوانين واللوائح الدستورية في كافة مرافق الدولة، أعلنت في غضون ذلك الطبقة البرجوازية، ـ كما كان متوقعاً ـ عن تمردها وعدم ارتياحها للتحولات الحاصلة في مجمل جوانب المجتمع منذ تسلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مقاليد الحكم، وخاصة ذلك التحول الذي خلط فيه أوراق الأغنياء وأصحاب الثروة.. فجاء طلحة والزبير يطلبان الإذن من الإمام علي (عليه السلام) للعمرة، فأعطي الإمام (عليه السلام) الإذن لهما، مع كونه علي يقين تام بأن الهدف لم يكن العمرة وإنما هو قيادة حركة التمرد السياسي ضد الإمام علي (عليه السلام) وجاء الزبير وطلحة إلي مكة المكرمة وتحديداً إلي بيت عائشة زوجة النبي (صلّي الله عليه وآله) وراح الزبير وطلحة يحرّضان عائشة علي الخروج لحرب الإمام علي (عليه السلام)، هذا مع أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد حذرها من أن تكون هي المرأة التي تنبح في وجهها كلاب الحوأب.. غير أن التحريض والتشجيع والدفع الذي لقيته من طلحة والزبير ومروان وغيرهم ساق بها للمضي في قيادة جيش التمرد والإعلان عن الحرب ضد حاكم الدولة الإسلامية أمير المؤمنين ووصي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) الإمام علي (عليه السلام).
.. وفي يوم 20 جمادي الأول سنة 36هـ ـ أي بعد خمسة أشهر وواحد وعشرين يوماً من خلافة الإمام علي (عليه السلام) ـ وصلت كتيبة عسكرية تتقدمها ناقة تركبها عائشة وعلي جانبيها طلحة والزبير، فأقدمت الكتيبة علي مشارف البصرة.
وصل الخبر إلي الإمام علي (عليه السلام) فجاء علي راس جيش إلي حيث الموقع الذي حطّت به كتيبة عائشة، وبدأ الإمام (عليه السلام) يبث نصائحه وإرشاداته في أفراد جيش التمرد للتخلي عن قرار الحرب.. إلا أن القوم أبّوا إلا إشعال نارها، وحينما لم يصغ هؤلاء المتمردون للسان الحق، لم يكن أمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خيار آخر سوي مواجهة جيش التمرد، فبدأ الحملات العسكرية من الطرفين التي استمرت إلي يوم واحد وانتهت بهزيمة المتمردين، ثم قام الإمام علي (عليه السلام) بإرجاع عائشة إلي مكة المكرمة وأصحب معها أربعين فارساً ملثماً وكانوا من النساء... وعاد الإمام علي (عليه السلام) إلي الكوفة واستأنف مراحل المشروع الإصلاحي في الدولة الإسلامية إضافة إلي القيام بتسوية الخلافات العالقة خلال فترة غيابه إلي جانب الخلافات الموروثة من العهد السابق... غير أن حركة التمرد بقيادة طلحة والزبير ومروان بن الحكم وغيرهم لم تنطفئ نارها بعد، بل تأججت واستعرت ثم سرت إلي مناطق أخري.
وقام قادة التمرد بتحريك جبهة الشام الواقعة تحت سيطرة معاوية.. وجبهة الشام هذه كما نعلم جميعاً لم تدن في يوم ما للنظام الإسلامي تماماً كما هو الحال عند معاوية الذي احتسب الشام مملكة اموية غير خاضعة للنظام الإسلامي ولذلك: ظل معاوية والياً علي الشام والأردن طيلة خلافة عمر يتصرف حيثما يشاء، قد استأثر بالأموال فشري بها الضمائر، وأحاط نفسه بالأتباع من دون أن تكون لأي أحد عليه رقابة، ولم توجه له أيّ مسؤولية، وإنما كان يري التسديد والمديح والرضا بما يعمل، وبعد وفاة عمر أقره عثمان علي عمله، وزاد في رقعة سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن بن علقمة الكناني كما ضم إليه حمص بعد أن استعفاه عاملها عمير بن سعد الأنصاري، وبذلك خلصت أرض الشام كلها، وأصبح من أعظم الولاة قوة ومن أكثرهم نفوذاً، وأصبح قطره من أهم الأقطار الإسلامية وأمنعها وأكثرها هدوءاً واستقراراً [146] .
وصل كل من الزبير وطلحة ومروان إلي الشام، وعقدوا علي الفور اجتماعاً مغلقاً وعاجلاً في قصر معاوية بحضور عمرو بن العاص وآخرين من المقربين للبيت الأموي.. كانت المباحثات تدور في هذا الاجتماع حول التخطيط لشن حرب جديدة ضد الإمام علي (عليه السلام)، فانتهي الاجتماع بمقررات تجمع علي قرار شن الحرب علي الدولة الإسلامية من الجبهة الغربية.
تحركت جيوش الشام نحو الشرق وتمركزت عند الحدود العراقية، فوصل خبرها إلي الإمام علي (عليه السلام) وأعلن التعبئة العسكرية العامة في صفوف الشعب، فلبي جمع هائل من المسلمين نداء الإمام (عليه السلام) وتوجه هذا الجمع إلي معسكرات الجيش استعداداً لخوض المعركة مع جيش الشام.
وصل جيش الإمام علي (عليه السلام) منطقة صفين في مقابل جيش الشام وكعادته (عليه السلام) شرع في إسداء النصيحة وإلقاء الحجة علي القوم للحيلولة دون اشتعال نار الحرب ولحفظ الدماء، غير أنّ قادة التمرد بزعامة معاوية هذه المرة كانوا في شوق إلي الدماء وزج أفراد الجيش في محرقة الأحقاد في أتون حرب قذرة يكون الرابح فيها ـ حال الانتصار ـ تلك الطبقة المصلحية التي تطمح إلي استرجاع سابق عهدها في عيش البذخ والترف والإثارة.
وفي اليوم الخامس من شهر شوال سنة 36هـ ـ أي بعد أربعة أشهر ونصف من حرب الجمل ـ انقدحت شرارة حرب صفين والتي استمرت مائة وعشرة أيام، تكبد خلالها جيش الشام خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، وقدرت بعض الإحصاءات التاريخية أن تسعين ألفاً من جيش الشام لقوا حتفهم في هذه الحرب بينما استشهد عشرون ألفاً من جيش الإمام علي (عليه السلام).. وكان من أشد معارك هذه الحرب الطويلة، هي التي جرت في ليلة الهرير حيث لم يسمع فيها إلا اصطكاك السيوف وقراع الأسنة وقعقعة الخيل وتساقط الأيدي والأرجل ولا يري فيها سوي الغبار المتصاعد إلي عنان الفضاء، حتي بلغ الحال بجيش الشام إلي حد التقهقر والانهيار وبانت عليه علامات الهزيمة والتراجع... هنا سارع عمرو بن العاص لإنقاذ الجيش من الهزيمة المنكرة التي ستقع عليها فطلب من معاوية أن ترفع المصاحف علي الأسنة إيذاناً بإيقاف الحرب والرغبة في المفاوضات.. وكانت هذه خدعة استخدمها عمرو بن العاص ومعاوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تحل الهزيمة بدارهما فتتعرض سلطة بني العاص وبني أمية إلي الانهيار في منطقة الشام.
وللأسف فلقد انطلقت هذه المؤامرة الأموية علي قطاع كبيرة من جيش الإمام علي (عليه السلام)، فهذا الأشعث بن قيس أحد الواجهات البارزة في جيش الإمام (عليه السلام) يأتي ويقول للإمام (عليه السلام): (إنا لك اليوم ما كنا عليه أمس ولسنا ندري ما يكون غداً وقد والله فلّ الحديد وكلت البصائر...) ثم جاء بعده آخرون وتكلموا بأكثر من ذلك، فرد الإمام علي (عليه السلام) علي هذه التبريرات والأعذار قائلاً: (ويحكم إنهم ما رفعوها لأنكم تعلمونها ولا يعلمون، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاءاً ومكيدة) فقالوا له: (إنه ما يسعنا أن ندعي إلي كتاب الله فنأبي أن نقبله) فقال (عليه السلام): (ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه فامضوا علي حقكم وقصدكم وخذوا في قتال عدوكم فإن معاوية، وابن العاص، وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن النايفة وعدداً غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالاً ورجالاً، فهم شر أطفال ورجال) [147] ولمّا رأي الإمام علي (عليه السلام) إصرار الجيش علي قضية التحكيم والقبول بالمفاوضات ولما لم يجد (عليه السلام) حيلة لثني الجيش عن قناعته، سوي اضطرار القبول بالواقع المفروض خارج إرادته.. ثم أقدم الطرفان علي تنفيذ خطوات عملية في موضوع المفاوضات (التحكيم) فكان الاتفاق مبدئياً علي أن يخرج رجل من جيش الإمام علي (عليه السلام) وآخر من جيش الشام لبدء المفاوضات وإنهاء النزاع سلمياً.
وقد اختار معاوية ممثلاً عنه وهو عمرو بن العاص، أما بالنسبة لجيش الإمام علي (عليه السلام) فقد قام الأشعث وطلب من الإمام تعيين أبي موسي الأشعري، فرفض الإمام (عليه السلام) وقال: (قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن إني لا أري أن أولّي أبا موسي الأشعري، فقال الأشعث ومن معه لا نرضي إلا بأبي موسي الأشعري، قال: (ويحكم هو ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس مني.. ثم إنه هرب شهوراً حتي أمنته لكن هذا عبد الله بن عباس أولّيه ذلك فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فينا مضريان، قال علي (عليه السلام): فالأشتر، قالوا: وهل هاج هذا الأمر إلا الأشتر. فقال الإمام (عليه السلام): فاصنعوا الآن ما أردتم وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. فبعثوا إلي أبي موسي وكتبوا له القصة وقيل لأبي موسي: إن الناس قد اصطلحوا، فقال: الحمد لله، قيل: وقد جعلوك حكماً، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون [148] .
وليس ثمة شك في أن انعكاسات الموقف الخاسر الذي اتخذه القطاع الأكبر في جيش الإمام علي (عليه السلام) إزاء إيقاف الحرب من جهة ثم مسألة التحكيم من جهة ثانية، خلفت آثاراً خطيرة للغاية علي الأوضاع السياسية والاجتماعية، حيث أن هذا الموقف أحدث انعطافة خطيرة في مسيرة الدولة الإسلامية، كما أربكت موازين القوي إذ بدأ العد التنازلي في مؤشر السلطة السياسية للإمام (عليه السلام) لا سيما وأن مصدر هذه المخاطر والأزمات من قضية مركزية ومحورية في موضوع النظام والمجتمع، وهي مسألة طاعة القيادة والتي ألغيت من راس خلال لحظات معدودة وفي أمر من أشد الأمور حساسية وخطورة وهو الحرب.
ولكن الذي جري هو صدور قرارات بعيدة كل البعد عن قناعة أو شرعية القيادة الإسلامية، وإنما خروج علي حكم الإمام (عليه السلام) المفترض الطاعة، ولعل من سخريات القدر أن عمرو بن العاص يتدخل في مصير المسلمين حينما سفّه أحلام أبي موسي الأشعري بعد أن طلب منه خلع صاحبه أي الإمام علي (عليه السلام) فيقوم ابن العاص ليعلن تثبيت صاحبه معاوية علي الحكم..
ومهما يكن فإن الهدنة بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش الشام قد حصلت علي أساس إجراء مفاوضات مباشرة وثنائية بصورة مستمرة لإنهاء موضوع التحكيم، وإن كان قد حصل نزاع علي أصول التحكيم.. ورجع الإمام علي (عليه السلام) من صفين إلي الكوفة وقد اعتصره الألم وعلته سحابة من الكآبة والحزن بسبب ما أبداه أصحابه من عصيان وتراخي نفسي قبال حرب معسكر الشام... والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين كانوا قد أكرهوا الإمام علي (عليه السلام) للقبول بقضية التحكيم، هم اليوم يرفعوا لواء المعارضة ضد الإمام علي (عليه السلام) لقبوله التحكيم، فخرج اثنا عشر ألفاً منهم إلي حروراء (قرية من قري الكوفة) للإعلان عن حركة معارضة جديدة.
وبعد عودة الإمام علي (عليه السلام) إلي الكوفة اجتمع هؤلاء في المسجد وكان (عليه السلام) علي المنبر فنادوه: جزعت من البلية ورضيت بالقضية وقبلت الدنية لا حكم إلا لله. فرد عليهم:حكم أنتظر فيكم وقال (عليه السلام) حينما سمع قول هؤلاء الخوارج (لا حكم إلا لله) كلمة حق يراد بها باطل! نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير برّاً وفاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، فيبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع به الغي ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتي يستريح بر، ويستراح من فاجر [149] .
وبهذه الكلمة يكون الإمام (عليه السلام) قد كشف عن الخواء الفكري والمرتكزات العقائدية الباطلة التي كانت عند الخوارج، وأظهر حقيقة الأهداف التي يسعي الخوارج إلي تحقيقها ـ كما ذكرنا سابقاً.
ولكن الواقع انه بعد حرب صفين أصبحت الأوضاع السياسية في تدهور مستمر فلم تهدأ جبهة الشام حتي أشعل الخوارج حرباً جديدة فجاءت حرب النهروان سنة 38 هجرية فخرج الإمام (عليه السلام) لصدّ الخوارج وقتالهم، ثم بعد أن اشتد أوار الحرب واقترب جيش الإمام (عليه السلام) من مرحلة النصر قام الإمام (عليه السلام) خطيباً في جيشه يستحثه علي مواصلة الحملات العسكرية قائلاً: (إن الله قد أحسن إليكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلي عدوكم. فقالوا: يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا ونفذت نبالنا ونصلت أسنة رماحنا فدعنا نستعد بأحسن عدتنا.
ولم تكن هذه الأعذار والمبررات تعبر سوي عن حالة التململ والتداعي والانهيار في أوساط جيش الإمام (عليه السلام) من الحرب، ممّا جعل الجنود ينسلون من الجبهات والعودة إلي المدن، حتي لم يصمد مع الإمام (عليه السلام) إلا الطليعة الرسالية القليلة العدد، والتي هي غير قادرة علي تعبئة الفراغ الهائل في الساحة والذي نجم عن نكوص الجيش وتمرده علي قرارات قيادته والتي لم تورث هذه الحالة سوي هزائم متتابعة ومتواصلة.
فلم يكن زمن النزاع العسكري بن النظام الإسلامي وجيش الشام محدوداً بإيقاف حرب صفين وإعلان التحكيم، بل أن حملات عسكرية شكلت امتداداً لحرب صفين قادها جيش الشام علي المناطق الواقعة تحت سلطة الدولة الإسلامية. فهذا بسر بن ارطأة يبعث به معاوية إلي الحجاز واليمن ليقوم بمجزرة رهيبة في أوساط المسلمين والمسؤولين في الدولة الإسلامية من أتباع الإمام (عليه السلام) فحينما دخل بسر اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس عامل الإمام علي (عليه السلام)، ارتكب بسر أبشع الجرائم من قتل ونهب وسلب حتي هرب منها عبيد الله بن العباس، ثم جاء بسر إلي المدينة فأثار الرعب في أهلها وحتي الصالحين من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لم يسلموا من بطش بسر، بينما هرب قسم منهم مثل جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري كما هرب جمع كبير من النساء والشيوخ والأطفال الذين لم يجدوا ملجأً من جرائم الطاغية بسر إلا الهروب، وفيما لقي بسر ابني عبد الله بن العباس ذبحهما أمام أعين الناس، وكان يدخل بيوت المدينة وينتزع الطفل من أمه ويرمي به إلي الحائط فيصطبغ بالدم ويلتصق به أجزاء من مخ هذا الطفل البريء كما هدم دوراً كثيرة في المدينة بعد أن استباحها أياماً.
وهو بسر الذي هجم علي حمدان وسبي نساءها كُنَّ أول مسلمات يسبين في الإسلام والمجزرة الرهيبة في أحياء بني سعد.
وعندما وصل خبر بسر إلي الإمام علي (عليه السلام) اغتاظ كثيراً وقام في الناس خاطباً وقال: (أنبئت بسراً، قد اطّلع من اليمن وإني والله لأظن أنّ هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم علي باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلي صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم علي قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته..) وقال (عليه السلام) أيضاً بعد هذه الحادثة: (اللّهم إني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبد لهم بي شراً مني، اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم: هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم.
وهناك حادث آخر في مصر حيث كان محمد بن أبي بكر والياً عليها من قبل الإمام علي (عليه السلام) فأرسل معاوية جيشاً من أهل الشام بقيادة عمرو بن العاص لحرب محمد بن أبي بكر فتقابل الجيشان واندلعت نار الحرب بينهما، غير أن جيش مصر خذل والي الإمام علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر، فدخل عمرو بن العاص مصر وارتكب جريمة بشعة حيث أدخل محمد بن أبي بكر في جوف حمار ثم أحرقه وهو في داخله، فوصل خبره إلي الإمام علي (عليه السلام) فبكي لشهادته وترحم عليه، ثم بعث بعده مالك الأشتر فوصل الخبر إلي معاوية فدسّ إليه السّم فاستشهد مالك وقال معاوية آنذاك: (إن لله جنوداً من عسل).
شعر الإمام (عليه السلام) آنذاك بخطورة الموقف خاصة وأن الطليعة الرسالية التي كان يعتمد عليها في كثير من المسؤوليات تتعرض اليوم إلي عملية تصفية بشعة.. فلقد قتل بالأمس عمار بن ياسر وهاشم المرقال في صفين، ومات حذيفة بن اليمان بالمرض كما قتل ابناءه في صفين وغيرهم، واليوم يستشهد محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر، ولذلك وجد الإمام علي (عليه السلام) نفسه وحيداً في ساحة المواجهة مع العدو... ومن هنا بدأت تحاك خيوط المؤامرة من قبل المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، خاصة وقد تقطعت أوصال الدولة الإسلامية أثر الحروب الداخلية والخارجية.
وكان للتداعي الهائل من أفراد الأمة للضغوطات التي تسببت من جراء سلسلة الحروب المفروضة عليها أثراً بارزاً وجرحاً عميقاً أنهك كاهل الدولة وأوقع هزيمة نفسية في أوساط المجتمع الإسلامي، فتعرضت الطليعة الرسالية لمؤامرة التصفية والاغتيالات الجسدية، بحيث كشفت الحزام الأمني الذي كان يشكله الطليعة حاجزاً بين العدو ومركز القيادة، فلمّا تساقط أفراد الطليعة شهداء في معركة الكرامة أو في المهام الرسالية انفرط عقد الحزام ولم يبق أمام العدو سوي شخص القيادة الإسلامية المتمثلة في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقرر العدو تنفيذ مخطط اغتيال القيادة.
وكانت هذه من أخطر انعكاسات الهزيمة النفسية في الأمة، والتي يكون فيها المجال سانحاً لمثل هذه المخططات الحساسة والتي لا تتم سوي في حالة وصول الصراع إلي ذروته القصوي أو في حال تساوي موازين القوي بين النظام الحاكم والمعارضة، أو في حالة الفوضي وعدم استقرار الأوضاع الداخلية أو غيرها من الأسباب سواء بصورة منفصلة أو مجتمعة.
وفي التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين هجرية وقعت الجريمة العظمي عبد الرحمن بن ملجم ونفذ عملية الاغتيال، حينما كان الإمام علي (عليه السلام) في محراب المسجد أثناء انشغاله بالصلاة فجرد عدو الله ورسوله سيف البغي، ثم هوي به علي هامة الإمام (عليه السلام) فسقط (عليه السلام) مضرجاً بدمه ونادي (فزت ورب الكعبة، قتلني ابن اليهودية) [150] .
وبقي الإمام علي (عليه السلام) ثلاث ليال يكابد ألم الضربة الحاقدة التي أصابت رأس العدل وهوّت ركن الحق وأسقطت علم التقي وقلعة الإيمان وغيبت روح الإسلام ولسان الصدق وسلوك الرسالة...
وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين هجرية ارتجت الكوفة بأهلها فلقد استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فنادي جبرائيل في السماء (تهدمت والله أركان الهدي قتل عليٌ المرتضي، قتله أشقي الأشقياء..) فبكي عليه الملأ الأعلي كما بكي عليه أهل الأرض.
تلك كانت إطلالة عاجلة علي التاريخ الإسلامي في سبيل إعداد رؤية تمهيدية للفترة القادمة التي نبدأ فيها الحديث. بتركيز كبير ـ عن عهد الإمام الحسن (عليه السلام).
ولأن بعض الاستنتاجات التي نري بأنها موضوعية فيما يرتبط بثمة قضايا وقعت خلال عهد الإمام المجتبي (عليه السلام) فوجدنا أن مخاطبة التاريخ وربط وقائعه وأحداثه الماضية والحاضرة والمستقبلية تجعلنا أكثر قدرة علي معايشة الواقع التاريخي بروح موضوعية ومتجردة، وربما تفيدنا هذه الطريقة في التوصل إلي نتائج جديدة لم نوفق نحن للوصول إليها والاستفادة منها في فصول البحث.

خاتمة حكومة الامام علي

تركت حكومة الإمام آثاراً بالغة الأهمية والخطورة في المجتمع الإسلامي ولعل من أهمها ما يلي:
1ـ إنها أبرزت الواقع الإسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم، فقد كان الإمام يهدف في حكمه إلي إزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس، وتحقيق الفرص المتكافئة بينهم علي اختلاف قومياتهم وأديانهم، ومعاملة جميع الطوائف بروح المساواة والعدالة فيما بينهم من دون أن تتمتع أي طائفة بامتياز خاص وقد أوجدت هذه السياسة للإمام رصيداً شعبياً هائلاً، فقد ظل عليّ قائماً في قلوب الجماهير الشعبية بما تركه من صنوف العدل والمساواة وقد هام بحبه الأحرار، ونظروا إليه كأعظم مصلح اجتماعي في الأرض، وقدموه علي جميع أعلام تلك العصور، يقول أيمن ابن خريم الأسدي مخاطباً بني هاشم وعلي رأسهم الإمام:

أأجعلـــــكم وأقــــــــواما سواء
وبينـــــكم وبينـــــــــهم الهـواء

وهم أرض لأرجلــــــكم وأنـــتم
لرؤوســهم وأعينهم سماء [151] .

2ـ إن مبادئ الإمام وآراءه النيرة ظلت تطارد الأمويين وتلاحقهم في قصورهم فكانوا ينظرون إليها شبحاً مخفياً يهدد سلطانهم، ممّا جعلهم يفرضون سبه علي المنابر للحط من شأنه، وصرف الناس عن قيمه ومبادئه.
3ـ إن حكومة الإمام التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية الكبري قد جرت لأبنائه كثيراً من المشاكل والمصاعب، وألحقت بهم التنكيل والقتل من حكام عصرهم، وقد تنبأ النبي الأعظم (صلّي الله عليه وآله) بذلك فقد روي أبو جعفر الإسكافي أن النبي (صلّي الله عليه وآله) دخل علي فاطمة فوجد علياً نائماً فذهبت لتوقظه، فقال (صلّي الله عليه وآله): (دعيه فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله). فبكت فاطمة فقال لها: لا تبكي فإنّه معي وفي موقف الكرامة عندي [152] .
لقد أمعن الحكم الأموي والعباسي في ظلم أبناء الإمام لأنهم تبنوا حقوق المظلومين والمضطهدين تبنوا المبادئ العليا التي رفع شعارها الإمام أمير المؤمنين فناضلوا كأشد ما يكون النضال في سبيل تحقيقها علي مسرح الحياة، وكان من أشد أبناء الإمام حماساً واندفاعاً في حماية مبادئ أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) فقد انطلق إلي ساحات الجهاد عازماً علي الموت آيساً من الحياة ليحمي مبادئ جدّه وأبيه ويرفع راية الإسلام عالية خفاقة وينكس أعلام الشرك والإلحاد، ويحطم قيود العبودية والذل.
4ـ وأوجد الإمام في أثناء حكمه القصير وعياً أصيلاً في مقارعة الظلم، ومناهضة الجور فقد هب في وجه الحكم الأموي أعلام أصحابه كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن عفيف الأزدي وأمثالهم من الذين تربوا بهدي الإمام، فدوخوا أولئك الظالمين بثورات متلاحقة أطاحت بزهوهم وجبروتهم، لقد كان حكم الإمام ـ حقاً ـ مدرسة للنضال والثورة، ومدرسة لبث الوعي الديني والإدراك الاجتماعي، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مخلفات حكومة الإمام (عليه السلام).

عهد الامام الحسن ـ البيعة العامة

اشاره

.. بالأمس خسرت الأمة الإسلامية سيد المسلمين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ولم تعرف الأمة كيف تحافظ علي قيادتها، وبذلك تعثرت في حركتها، وغارت في غياهب الخنوع والهزيمة، في وقت كانت تمتلك فرصة ذهبية بوجود الإمام علي (عليه السلام)، في أن تشيد حضارة إسلامية شامخة تستند علي ركائز العدل والحرية والرفاه والأمن...
غير أن الأمة حينما تستسلم للضغوطات الداخلية أو الخارجية وتخضع لرياح المؤامرات فيغزوها الوهن ويخبطها الضعف، فإن النتيجة هي الوقوع تحت نير القوي الطاغوتية.
عاد الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه من تشييع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبره الطاهر، فخرج ابن عباس إلي الناس وقال: (إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد علي أحد) فبكي الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.
فخرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقد لبس ثوب السواد وصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلّي الله عليه وآله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتي يفتح الله عليه؛ ولقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسي بن عمران (عليه السلام)، ورفع فيها عيسي بن مريم (عليه السلام)، وأنزل القرآن، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله) [153] أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي، وأنا بن الوصي، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلي الله عز وجل بإذنه، وأنا ابن السراج المنير... وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم علي كل مسلم، فقال تبارك وتعالي لنبيّه: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) [154] ، (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا) [155] فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت..).
بعد أن انتهي الإمام (عليه السلام) من خطبته، قام عبد الله بن العباس يستحث الناس لمبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه) وفي الناس إلي ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، علي إمامته بعد أبيه.
فقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة فأقبل الناس واجتمعوا علي الإمام (عليه السلام) يبايعونه بالخلافة ويسلمونه زمام أمورهم...
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه (عليه السلام) سنة أربعين للهجرة [156] .
وهكذا وفقت الكوفة لأن تضع الثقة الإسلامية في نصابها المفروض لها، من الله عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته ـ معها ـ البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن علي يد القائد العظيم (جارية بن قدامة)، وفارس علي يد عاملها (زياد بن عبيد)، وبايعه ـ إلي ذلك ـ من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والأنصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته ـ فيما نعلم ـ إلا معاوية ومن إليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجري مع الحسن (عليه السلام) مجراه مع أبيه بالأمس. وتخلف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.
ويعود الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن أخذت البيعة له ـ فينفتح عهده الجديد، بخطابه التاريخي والبليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الأمر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات وأخطار..
فيقول (عليه السلام) وهذا بعض خطابه:
(نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله في أمته، ثاني كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّي تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: ولو (ردّوه إلي الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله: (وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدوٌ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَي عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَي مَا لاَ تَرَوْنَ) فتلقون إلي الرماح أزراً، وللسيوف جزراً وللعمد حطماً [157] ، وللسهام غرضاً ثم (لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ثم نزل من علي منبره، فرتب العمّال، وأمر الأمراء ونظر في الأمور) [158] .

بداية الأزمة

بعد أن أطلق جموع الناس البيعة للإمام الحسن (عليه السلام)، قام الإمام (عليه السلام) بدوره في إدارة الدولة الإسلامية، فاختار العمال والولاة علي المناطق الإسلامية، ورسم مخطط تنظيم شؤون الدولة، وإعداد مستلزمات إدارة النظام السياسي في الأمة...
في الجبهة المقابلة، كان معاوية ـ آنذاك ـ مستمراً في تنفيذ مخطط المؤامرات السياسية بهدف تقويض الدولة الإسلامية... هذا المخطط الذي بدأ منذ عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي كان يهدف معاوية بذلك إلي توسيع مملكته وبسط نفوذه إلي خارج حدود الشام...
وبقيت جبهة الشام ثغرة واسعة في جدار الدولة الإسلامية، كما شكلت خطورة جدية علي الاستقرار السياسي والهدوء الداخلي للأقطار الإسلامية الأخري...
ولذلك حينما علم معاوية بأن الناس قد اجتمعت علي بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) بدأت تعتمل في مخيلته فكرة شيطانية تقضي بإثارة الفتن الداخلية وخلق مناخ متقلب بهدف زعزعة الأوضاع وخلق أجواء من البلبلة وإشاعة القلاقل في الداخل فبدأ بإرسال الجواسيس إلي عاصمة الدولة الإسلامية في الكوفة ومدينة البصرة ذات الثقل السياسي والاجتماعي المميز.
فأرسل معاوية رجلاً يدعي الحميري إلي الكوفة، وآخراً يدعي القيني إلي البصرة، وقد طلب من هذين الجاسوسين مراقبة الأوضاع السياسية في العاصمة (الكوفة) ومدينة البصرة، ورصد حجم ولاء الجماهير للإمام الحسن (عليه السلام)، إضافة إلي الاتصال ببعض العناصر في الداخل وربطها بجهة المعارضة في الشام عبر الإغراء والترغيب، وهكذا التعرف علي نقاط الضعف والنفوذ في الداخل، والتي تمكن معاوية من تمرير مؤامراته للإطاحة بالنظام الإسلامي.
غير أن خطة التآمر هذه لم تنجح حيث تم القبض علي الجاسوسين، وأمر الإمام الحسن (عليه السلام) بإعدامهما في الساحات العامة أمام الناس.. فأعدم الحميري في الكوفة، كما أعدم القيني في البصرة التي كان عبيد الله بن العباس والياً عليها. من جهة أخري أعرب الرأي العام الإسلامي عن سخطه إزاء المؤامرة الأموية، فيما كشف الإمام الحسن (عليه السلام) عن مخطط معاوية من وراء إرسال الجواسيس، فأرسل خطاباً شديد اللهجة يعلن فيه الإمام (عليه السلام) عن استعداده لخوض الحرب ضد جبهة التمرد التي يقودها معاوية وجاء في الخطاب (أما بعد: فإنك دسست إليّ الرجال، للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وقد بلغني إنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجي، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأولون:

وقل للذي يبقي خــلاف الذي مضي
تجـــــهّز لأخــــــري مثلها فكأنّ قد

وأنا ومن قــــــد مــــات منّا لكالذي
يــروح فيمسي في المبيت ليفتدي)

ومن الواضح أن رسالة الإمام الحسن (عليه السلام) إلي معاوية تضمنت تهديداً مباشراً لمعسكر الشام كما انه (عليه السلام) أبرز جانب القوة في قبال التهديدات التي وجهها معاوية بعد إرساله الجاسوسين.
ولعلنا نستوحي من رسالة الإمام (عليه السلام) أن الأمة حينما تدخل الصراع والمواجهة مع العدو يتطلب منها إظهار مواقع القوة والقدرة، في سبيل إدخال الرعب والهزيمة النفسية في قلب العدو، وإضعاف معنوياته، وتفويت الفرصة عليه للتفكير في استغلال جوانب الضعف ـ إن وجدت ـ والاستفادة منها في حالة المواجهة معه.
من جهة ثانية استطاع الإمام الحسن في هذه الرسالة أن يسحب البساط من تحت معاوية في أن يمتلك زمام المبادرة في تقرير الحرب ضد الدولة الإسلامية ولذلك نجد أن جواب معاوية علي رسالة الإمام الحسن كان خالياً من الإثارة حيث جاء بصورة أراد فيها معاوية أن يتملق للإمام وأن يبعد نفسه عن قضية إرسال الجواسيس فقد كتب، (أما بعد: فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ولقد علمت بما حدث فلم أفرح، ولم أشمت، ولم أيأس، وأن علي بن أبي طالب لكما قال أعش بن قيس بن ثعلبة:

وأنــــت الجـــــواد وأنــــــت الـــــــذي
إذا ما القلوب مـــــــلأن الصــــــــدورا

وما مزيـــــد مــــــن خلـــــيج البــحور
يعلو الأكـــــــام ويعلــــــــــو الجسورا

بأجـــــود مـــــــــنه مـــــمّا عــــــــنده
فيعــــــطي الألوف ويعطي البدورا [159] )

وكتب عبيد الله بن العباس الوالي علي البصرة رسالةً مماثلة إلي معاوية جاء فيها: فإنك ودسك أخابني قين إلي البصرة، تتلمس من غفلات قريش، مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية ـ يعني ابن الأشكري ـ:

لعمـــــرك إني والخزاعي طارقاً
كنعجة غار حتــــــــفها تتحضر

وثارت عليــــها شفرة بكراعها
فظلت بها مــــن آخر الليل تنحر

شمت بقوم مـن صديقك أهلكوا
أصـــابهم يوم من الدهر أصـغر

وبعد أن تمكن الإمام الحسن (عليه السلام) أن ينتزع المبادرة من يد معاوية، أرسل الإمام (عليه السلام) رسالة ثانية أكثر تفصيلاً وتعنيفاً، سلط فيها الأضواء علي حقه المشروع في ولاية المسلمين كما بيّن فيها فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وحقوقهم، كما ضمّن الرسالة تهديداً لمعاوية وتحذيره من التمادي في غيّه، وشق الصف الإسلامي، وهذا نص الرسالة:
(من الحسن بن علي أمير المؤمنين، إلي معاوية بن أبي سفيان، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإن الله جلّ جلاله، بعث محمداً رحمة للعالمين، وكافّة للناس أجمعين ينذر من كان حياً، ويحقّ القول علي الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتي توفّاه الله غير مقصّر ولا واهن، وبعد أن أظهر الله به الحق ومحق به الشرك، وخصّ به قريش خاصة. فقال له: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فلما توفّي، تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش، نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأنّ الحجة في ذلك لهم علي من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم.
ثم حاججنا نحن قريش، بمثل ما حاججت به العرب، فمل تنصفنا قريش إنصاف العرب لها. إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما سرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلي محاججتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع علي ظلمنا، ومراغمتنا وللعنت منهم لنا فالموعد إليه، وهو الوليّ النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخالفة علي الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغرماً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سببٌ إلي ما أرادوا إفساده، فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثبك يا معاوية، علي أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود.
وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدي قريش لرسول الله (صلّي الله عليه وآله) ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه، وتعلم لمن عقبي الدار وبالله لتلقين عن قليل ربّك، ثم يجزينّك بما قدّمت يداك. وما الله بظلام للعبيد. إن عليّاً لمّا مضي لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم، منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولاني المسلمون الأمر من بعده، فأسال الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً، ينقصنا به في الآخرة، ممّا عنده من كرامة. وإنما حملني علي الكتابة إليك، الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم، أني أحقّ بهذا الأمر منك، عند الله، وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقي الله من دمائهم، بأكثر ممّا لاقيه به. وادخل في السّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.
وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتي يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) [160] .
كانت هذه رسالة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية والتي فيها دلائل وإثباتات واضحة وصريحة لحق أهل البيت (عليهم السلام) وحق الإمام (عليه السلام) بصورة خاصة... هذه الرسالة كانت بمثابة الحرج الذي ألجم معاوية عن المراوغة والتملص من قوة البرهان القاطع، والذي قطع لسان معاوية عن إيراد حجة مقابلة لذلك راح يبحث عن قشة تنقذه.
فمعاوية الذي يجد نفسه متورطاً أمام دلائل واحتجاجات الإمام الحسن (عليه السلام)، ماذا يمكنه أن يفعل سوي اعتماد أسلوب المكر والخديعة الذي تربي عليهما من صُغرِه حتي تعشعشا في صدره.
ونحن إذ نورد نص جواب معاوية إلي الإمام الحسن (عليه السلام) لنري إلي أي حد وصلت وسائل المكر بمعاوية في أن يلبس مسوح الإسلام ويغطي نفسه بجلباب الرعيّة ليتحدث باسم الإسلام، فيقول في رسالته: (قد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمداً رسول الله من الفضل، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، وقد والله بلّغ وأدّي، ونصح وهدي، حتي أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمي، وهدي به الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزي نبياً عن أمته... وذكرت وفاته وتنازع المسلمين الأمر بعده وتغلبهم علي أبيك، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواريي رسول الله، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك،.. وإنك أمرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل، وإن هذا الأمة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيكم، ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش، لمكانها من نبيها، ورأي صلحاء الناس من قريش، والأنصار وغيرهم، وسائر الناس وعوامها، أن يولوا من قريش هذا الأمر أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله، وأحبها وأقواها علي أمر الله، فاختاروا أبا بكر وكان ذلك رأي ذوي الدين، والفضل، والناظرين للأمة، فارفع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متهمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأي المسلمون إنّ فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه، ويدب عن حريم الإسلام دبه، ما عدلوا بالأمر إلي غيره، رغبة عنه ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً.
وقد فهمت الذي دعوتني إليّ من الصلح والحال فيما بيني وبينك اليوم، مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي! فلو علمت إنك أضبط مني للرعية، وأحوط علي هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوي علي جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتك إلي ما دعوتني إليه، ولو رأيتك لذلك أهلاً لسلمت لك الأمر بعد أبيك، فإن أباك سعي علي عثمان، حتي قتل مظلوماً فطالب الله بدمه، ومن يطلبه الله فلن يفوته ثم ابتز الأمة أمرها، وخالف جماعتها فخالف نظراءه، من أهل السابقة والجهاد، والقدم في الإسلام، وادعي إنهم نكثوا بيعته، فقاتلهم، فسفكت الدماء واستحلت الحرم، ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة ولكنه، يريد أن يملكنا اغتراراً فحاربناه وحاربنا، ثم صارت الحرب إلي أن أختار رجلاً واخترنا رجلاً ليحكما بما يصلح عليه، وتعود به الجماعة والألفة وأخذنا بذلك عليهما ميثاقاً، وعليه مثله، علي الرضا بما حكما فأمضي الحكمان عليه الحكم، بما علمت وخلعاه، فوالله ما رضي بالحكم، ولا صبر لأمر الله، فكيف تدعوني إلي أمر، إنما تطلبه بحق أبيك وقد خرج، فانظر لنفسك ولدينك... وقد علمت، إني أطول منك ولاية وأقدم منك بهذه الأمة تجربة وأكبر منك سناً، فأنت أحق أن تجيبني إلي هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي أعاننا الله وإيّاك علي طاعته، انه سميع مجيب الدعاء) [161] ...
ومن خلال نظرة خاطفة علي رسالة معاوية فإنها تحتوي علي مغالطات مفضوحة وكذب صريح ويكفي أن ندلل علي ذلك أنه قال في رسالته إن الأمة اجتمعت علي أبي بكر واختارته، فإذا كان كذلك، أو لم تجمع الأمة علي الإمام علي (عليه السلام) فلماذا شهر سيف البغي ضده وأعلنها حرباً علي الدولة الإسلامية وحتي قتل أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله) كعمار بن ياسر الذي قال عنه رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية..). ومن فمك ندينك فلم يطلب معاوية البيعة من الإمام الحسن (عليه السلام) وقد بايعته الأمة وسلمته زمام أمورها؟ ثم إذا كانت جبهة الشام لم تبايع الإمام الحسن (عليه السلام)، فهي أيضاً لم تبايع ولم تدن في يوم من الأيام سلطة الخلفاء السابقين منذ ولاية معاوية عليها في عهد الخليفة الثاني عمر.
فأية ولاية يتشبث بها معاوية، وهي إنما كانت بئس الولاية وبئس التجربة، أراد منها زعامة سياسية وثاراً جاهلياً، وطمعاً شخصياً، وملكاً قلبياً. غير أنه لم يتخلّ عن مغالطاته الصريحة وكذبه المفضوح فقام ثانية بكتابة رسالة أخري وبعث بها إلي الإمام (عليه السلام) وقال فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز وجل، يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب فاحذر أن تكون منيتك علي أيدي رعاع من الناس، وآيس أن تجد فينا غمزة وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني، وفيت لك بما وعدت وأجزت لك ما شرطنا، وأكون في ذلك كما قال الأعشي بن بني قيس بن ثعلبة:

وإن أحــــــداً أســــــدي إلـيك أمانة
فاوف بها تدعــــــي إذا مــت وافياً

ولا تحسب المولي إذا كــان ذا غني
ولا تجــــــفه إن كـــــان للمال فانياً

ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولي الناس بها والسلام) [162] .
حاول معاوية في رسالته هذه أن يرفع الإثارة والحدية مع الإمام (عليه السلام) فاعتمد أسلوب المراوغة والالتفاف، غير أن الإمام الحسن (عليه السلام) كشف النقاب عن الإطراء الأموي المزيف وكتب جواباً مختصراً أكد فيه الإمام (عليه السلام) موقفه الثابت تجاه السياسة الأموية وقال فيه: (أما بعد: فقد وصل إليّ كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك، خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام) وبهذه الرسالة يكون الإمام الحسن (عليه السلام) قد أوصد باب المراوغة أمام معاوية بعد أن ألقي عليه الإمام (عليه السلام) الحجة في رسالته الأولي، خاصة وأن معاوية عكف علي استخدام الخداع والحياد عن الحق، وعلي ذلك تكون ـ والحال هذه ـ لغة المخاطبة والحوار هي الحرب ولهذا أنهي الإمام (عليه السلام) بجوابه الأخير لمعاوية أسلوب التفاوض وتسوية الخلاف علي أساس الطرق السليمة، طالما أن المعتدي يصر علي موقفه الرافض للتسليم للإمام الحق والحاكم الشرعي.

التعبئة العسكرية في الدولة الاسلامية

وبعد أن أوقف الإمام (عليه السلام) المكاتبات مع معاوية، قام بالتعبئة العسكرية العامة وتثوير الشعب، وتشجيعه وتكتيل الطاقات في الداخل للاستعداد لخوض الحرب ضد معاوية ومعسكر الشام.
وخطب الإمام الحسن (عليه السلام) في الناس بهدف اطلاع الرأي العام الإسلامي علي أبعاد القضية الراهنة وطرق علاجها فاجتمع الناس حول الإمام حسن (عليه السلام) فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً فيهم فحمد الله وأثني عليه ثم قال:
(أما بعد: فإن الله كتب الجهاد علي خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فلستم نائلين ما تحبون إلا الصبر علي ما تكرهون، وبلغني أن معاوية بلغه أنّا كنا أزمعنا علي المسير إليه فتحرّك، لذلك اخرجوا رحمكم الله إلي معسكركم بالنخيلة حتي ننظر وتنظرون) [163] أراد الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة حث الناس علي الجهاد وبعث فيهم الروح الثورية واستنهاض طاقات جماهير الأمة للحرب ضد معاوية.
أين الأمة من مسؤولية الجهاد؟
كانت الصدمة الأولي التي وقعت في بدء مرحلة الإعداد والتعبئة أن حصل إحجام من جماهير الأمة عن تلبية نداء قيادتها ورغبتها في الخنوع والراحة والتالي التنصل من الواجب المقدس..
وإن هذا الموقف المتخاذل الذي اتخذته جماهير الكوفة من الإمام الحسن (عليه السلام) إنما يعبر في حقيقته عن الروح الانطوائية وحب الراحة التي تعكس صورة الثقافة التخديرية الجامدة التي راجت وماجت في أوساط المجتمع الكوفي بعد أن خذل هذا المجتمع ـ من قبل ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأكرهته علي القبول بالمفاوضات مع معاوية.
وفي الواقع أن مثل هذه الثقافة من الممكن أن تغزو أي مجتمع خاصة وأنها تنمي عند الإنسان رغبة الراحة وحب الاستقرار وربما تجد لها مبرراً في أداء بعض المسؤوليات الدينية غير المجهدة أو المتعبة.. كما أن الناس حينما تعشق ثقافة الجمود يدفعها ذلك لأن تقف إلي جانب ذلك القائد الذي لا يطلب منها مسؤولية التحرك، ولا يكلفها مهمة البذل والعطاء، ولا يدفعها للإيثار والتضحية والذي بالتالي لا يعكر صف وضعها المعيشي...
ولذلك فإنّ مثل هذه الأمة تبحث وتتبني الثقافة المخدرة الخاوية والخالية من المسؤوليات وتكتفي بتأدية الفرائض الاعتيادية والمسؤوليات البسيطة والتي لا تشكل خطورة عليها ولا تهدد مصالحها ورغباتها..
وفي مثل هذه الحالة، فإن البعض من الناس ترفض تبني الثقافة الثورية الداعية إلي الجهاد والتحرك والثورة ضد الواقع الفاسد، فتضع لنفسها التبريرات الواهية المستقاة من ثقافتها الجامدة فتعتبر التحرك الثوري تطرفاً، وأن الجهاد تهوراً وهكذا.
وهذا النمط من الثقافة ظهر وبوضوح في موقف الناس في الكوفة حينما دعا الإمام (عليه السلام) للتحرك والجهاد ضد معسكر الشام، حيث قابلت دعوة الإمام (عليه السلام) بالرفض ونكصت علي عقبها وكأنما ألجمت أفواهها بالصمت معلنة عن تراجعها أمام قرار الحرب الذي اتخذه الإمام الحسن (عليه السلام).
وأمام هذا الموقف المتخاذل قام عدي بن حاتم من طليعة الإمام الحسن (عليه السلام) ليمزق طوق الصمت، مستنكراً من جواب الجماهير الانهزامي، ومعرباً عن سخطه وقال: (أنا ابن حاتم، سبحان الله ما أقبح هذا المقام ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم، أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد فرّوا مراوغين كالثعالب أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها...).
نستوحي من كلمة عدي بن حاتم هذه أنه كان يوجه انتقاداً لاذعاً لتلك الفئة المتبنية للثقافة الاستهلاكية والترف الفكري، والتي تتغذي علي ثقافتها في زمن الهدوء والاستقرار، وتتخلي عن ثقافتها ـ كما يشير عدي في خطبته ـ في وقت الصراع والمواجهة... ثم اقترب عدي من الإمام الحسن (عليه السلام) وقال كلمات أعرب فيها عن استعداده للجهاد معه قائلاً: (أصاب الله بك المراشد، وجنّبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلي أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلي معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف..).
قال بعده قيس بن سعد، وقيس بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التميمي، وقالوا بمثل ما قال عدي فأنّبوا الناس ولا موهم علي الموقف المتخاذل الذي اتخذوه من الإمام (عليه السلام)، ثم استحثوا الناس للحرب ومقاومة المد الأموي ثم جاءوا للإمام (عليه السلام) وأعلنوا له عن استعدادهم لخوض الحرب معه، والإمام (عليه السلام) بدوره أعرب لهم عن ارتياحه من الموقف البطولي لصحابته فقال لهم: (صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم الله خيراً)..
ولكن الحال أن خوض الحرب بحاجة إلي جيش، وهذا لا يكون إلا بتجنيد أعداد كبيرة من الناس محاولاً استنهاضهم وتشجيعهم ثانية للالتحاق بجبهات الحرب فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً وقال: (معشر الناس: عفت الديار، ومحيت الآثار، وقلّ الاصطبار فلا قرار علي همزات الشياطين وحكم الخائنين، الساعة والله صحّت البراهين وفصّلت الآيات، وبانت المشكلات، ولقد كنا نتوقع تمام هذه الآية تأويلها، قال الله عز وجلّ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [164] .
فلقد مات والله جدي رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وقتل أبي (عليه السلام)، وصاح الوسواس الخنّاس في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتم السنّة، فيا لها من فتنة صمّاء عمياء لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف واليها، أظهرت كلمة النفاق، وسيّرت رايات أهل الشقاق، وتكالبت جيوش أهل العراق، من الشام والعراق، هلّموا رحمكم الله إلي الافتتاح، والنور الوضّاح، والعلم الجحجاح، والنور الذي لا يطفئ، والحق الذي لا يخفي.
أيها الناس: تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وتردي بالعظمة، لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية وبنيّات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق، لأجاهدن بالسيف قدماً ولأضيقنّ من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها، ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله).
بهذا الخطاب البليغ الذي تقشعر له الأبدان وتصدع له العقول والأذهان، شرح الإمام الحسن (عليه السلام) خطورة الموقف، فدعا الناس إلي تحمل المسؤوليات الملقاة علي عواتقهم. إلا أنه عميت أبصار قلوبهم عن مناصرة الحق ومقارعة الباطل، فاختارت لنفسها حياة الذل وسنري ـ فيما بعد ـ كيف أن هذا الموقف الجبان كلف جماهير الكوفة وقطاع كبير من الأمة ثمناً باهظاً ومأساة رهيبة ونتائج سلبية في غاية الخطورة بسبب ذلك الموقف.
ومع ذلك لم يستسلم الإمام (عليه السلام) بالرغم من موقف الأمة السلبي هذا من أن يبادر في الاستعداد والتجهيز لحربه ضد معاوية، مع المجموعة تلك التي خرجت للقتال معه، هذه المجموعة التي سنأتي علي شرح تركيبتها وقوامها، والدوافع الأساسية التي اعتمد عليها الإمام الحسن (عليه السلام) في إدخال هذه المجموعة ساحة الصراع المصيري ضد معاوية.

الفكر الاستراتيجي عند الإمام الحسن

اشاره

بعد أن تمكن الإمام (عليه السلام) من حشد وتجنيد ما أمكنه من أبناء الأمة لحرب جيش الشام بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) مرحلة تعبئة الصفوف إلي الجبهات...
وكانت أول فرقة عسكرية بعث بها الإمام (عليه السلام) هي فرقة عبيد الله بن العباس والتي تتشكل من اثني عشر ألف مقاتل، وهذه أكبر الفرق العسكرية في جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، وقبل أن تتحرك هذه الفرقة وجه الإمام (عليه السلام) وصايا هامة لقائد الفرقة عبيد الله بن العباس جاء فيها: (يا ابن عمّ: إني باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء مصر... فسر بهم وألن جانبك، وأبسط وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، وسر بهم نحو الفرات، حتي تقطع بهم الفرات، ثم تصير بمسكن، ثم امضي حتي تستقبل معاوية فإن أنت لقيته، فاحبسه حتي نأتيك، فإني في أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين ـ يعني قيس بن سعد ـ وسعيد بن قيس ـ فإذا لقيت معاوية فلا تقاتلنّه حتي يقاتلك، وإن فعل فقاتله، فإن أصبت فقيس علي الناس، وإن أصيب قيس، فسعيد بن قيس علي الناس).
والإمام (عليه السلام) في حديثه مع عبيد الله بن العباس، تضمن مجموعة من الوصايا الضرورية للقائد العسكري والتي ترتبط بالصفات النفسية والأخلاقية عند القائد العسكري تجاه القيادة العليا للدولة من هذه الوصايا تنقسم إلي:
أولاً: أخلاقيات القائد العسكري:
فلقد سلط الإمام الحسن (عليه السلام) في وصاياه لعبيد الله بن العباس الضوء علي بعد هام وهو البعد الأخلاقي في تعامل القائد العسكري مع عناصر فرقته هذا التعامل الذي ينعكس في طاعة جنود الفرقة واخلاصها لقائدها وتنفيذ القرارات الصادرة عنه بجدية وتفاني، وهذه بالتالي تترك آثارها في نتائج الحرب.
ومن الصفات الأخلاقية التي أوحي بها الإمام (عليه السلام) إلي عبيد الله بن العباس هي كالتالي:
أ. الرفق بالجنود:
إن طبيعة العمل العسكري والتدريبات البدنية الشاقة تتطلب من الجنود بذل جهود كبيرة حتي يتمكن الجنود من تأدية هذه المهمة علي أحسن وجه، كقطع المسافات الطويلة، وصعود الجبال، والسهر في الليل، والبقاء فترة من الزمن دون غذاء أو شراب وغيرها...
غير أن المطلوب من القائد العسكري، ـ مع ضرورة هذه التدريبات في سبيل صقل شخصية الجندي وإعداده ـ أن لا يغفل هذا القائد قدرة تحمل الجنود والقابليات النفسية عند كل فرد من أفراد الفرقة خاصة إذا كان القائد يهدف من وراء كل ذلك تخريج كوادر عسكرية قادرة علي القيادة في المستقبل، دونما الجمود علي الأوامر، وتفريغ القرارات العسكرية من محتواها الأساسي.
ولذلك يوصي الإمام الحسن (عليه السلام) عبيد الله العباس بالرفق بالجنود (ألن جانبك).
ب. إدخال السرور علي الجنود:
قد تكون الصرامة والجدية المفرطة في الجهاز العسكري حائلاً دون إشاعة المودة والسرور بين الجنود وقيادتها. فإذا كان الجهاز العسكري يعمل في إطار تربية الجنود علي أساس خلق روحية خشنة تناسب مناخ العمل العسكري لا يعني ذلك أن يتعامل القائد العسكري مع جنوده وأفراد فرقته بخشونة وبصرامة خارج فترات التدريب.
وفي سبيل تشذيب هذا الأسلوب عند القائد العسكري، أي في تعامله مع عامة الناس والذي بالتالي يؤدي إلي صناعة حواجز نفسية ما بين القائد وجنوده، فتكون حلقات الوصل بين القرار القيادي وطاعة الجنود متشنجة ومشدودة لهذا يدخل عنصر التواضع في تفتيت الحواجز النفسية بين القائد العسكري وبين الجنود، ممّا يشكل عاملاً مهماً في التزام واحترام الجنود للقائد وتنفيذ الأوامر العسكرية باخلاص وقبول تام ورضي.
من هنا فالإمام الحسن يوصي ابن عباس (وافرش لهم جناحك).
ح. التعرف علي مشاكل وهموم الجنود:
في سبيل إعداد كادر عسكري مخلص وقوي يتطلب من القائد العسكري أن يكون قادراً علي توفير الإمكانيات النفسية الفاعلة في الجيش وهذا لا يتم إلا بالتعرف علي المشاكل التي تكتنف مسيرة أفراد الجيش وتعميق نموهم واستقامتهم هذا ويلزم علي القائد العسكري أن يضع في عين الاعتبار أن الجندي ليس آلية عسكرية جامدة تتحرك بفعل المؤثرات الخارجية، بل هو روح تنقبض وتنبسط له هموم ورغبات كغيره من أفراد المجتمع، وأن انتمائه في السلك العسكري لا ينفي أي من تلك الهموم والرغبات.. بل إن وظيفة القائد هي تشذيب تلك الهموم والرغبات والتعامل معها بواقعية معتمداً في ذلك علي قاعدة (لا إفراط ولا تفريط) وهذا إنما يتم عبر تعرف القائد العسكري علي هموم ومشاكل الجنود من خلال عقد اللقاءات الودية والحوار المشترك حتي يكون هذا القائد علي علم بما يجري في الداخل أفراد الفرقة ومدي الاستعداد النفسي عند كل فرد مستوي التفاعل مع قرارات القائد العسكري فالإمام يقول (وأدنهم من محلك).
هذه كانت مجموعة من الوصايا التي وجهها الإمام الحسن (عليه السلام) إلي عبيد الله ابن العباس الذي نصبه الإمام (عليه السلام) قائداً عسكرياً علي الفرقة الأولي المتوجهة إلي معسكر النخيلة وترتبط هذه الوصايا بالبعد الأخلاقي.
وهناك مسؤوليات هامة علي القائد العسكري تجاه القيادة العليا للدولة، ذكرها الإمام الحسن (عليه السلام) لعبيد الله بن العباس ومنها.
أولاً: الالتزام بالقرارات العليا:
هناك مجموعة من الحدود الثابتة التي لا يحق للقائد العسكري أن يتجاوزها، أو يبت فيها كونها تختص بالاستراتيجية العامة للدولة ومن تلك الحدود هي قرار بدء الحرب أو تقرير مصيرها والتي هي من صلاحيات القائد الأعلي للدولة وإن كان له فرصة التشاور ولكن لا يحق له أن يتخذ قراراً فردياً في هذا الشأن، حيث أن مثل هذا القرار يرتبط بالخطة الاستراتيجية العامة في الدولة.
هذا إضافة إلي أن تعاليم الإسلام توحي بأن لا يبدأ المسلمون الحرب من جانبهم حتي يبدأ العدو وفي ذلك لإتمام الحجة عليه ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) لابن عباس (فإن أنت لقيته فاحبسه).
ثانياً: رفع التقارير اليومية واطلاع القيادة العامة علي مجريات الحرب:
للمهمة الصعبة والخطيرة التي يقوم بها الجيش ـ بكل فصائله ـ في الحرب ضد العدو، والتحركات التكتيكية والاستراتيجية الحساسة والتي تؤثر في مستقبل ومصير الحرب وبالتالي مستقبل الدولة وجوداً وعدماً، يلزم ذلك علي القائد العسكري رفع التقارير اليومية للقيادة العليا، يشرح فيها سائر الأوضاع علي جبهات الحرب بما فيها تحركات العدو وإعداداته ومواقعه، كل ذلك بصورة تفصيلية، والتي تساعد القيادة العليا علي ضوء تقارير القائد العسكري في أن تضع الخطط الكفيلة والمناسبة في مواجهة تحركات جيش العدو، ومعرفة احتياجات قوات الجيش.
يقول الإمام الحسن (عليه السلام) لابن عباس، (وليكن خبرك عندي كل يوم).
ثالثاً: إقرار الشوري مع الكفاءات العسكرية في الجيش:
كون الفرقة العسكرية لا تقتصر تركيبتها علي قائد عسكري وجنود اعتياديين ـ فضلاً عن داخل الجيش ـ بل هناك رتب عسكرية متفاوتة وفي أوساط هذه الرتب توجد كفاءات قادرة علي التخطيط والمشاركة في صياغة القرار العسكري المخوّل بيد القائد العسكري ـ لاعتبارات مختلفة منها الخبرة والتجربة الطويلتين عند أفراد هذه الرتب خلال فترة العمل العسكري، والتي ساعدتهم في الوصول إلي مستوي متقدم في ميدان العمل العسكري.
ولهؤلاء الحق علي القائد العسكري أن يشركهم في التفكير والمشاورة فيما يرتبط بمهام القائد العسكري فيوصي الإمام (عليه السلام) عبيد الله بن عباس ويقول له: (وشاور هذين قيس بن سعد وسعيد بن قيس).
رابعاً: اعتماد النوّاب:
يمثل القائد العسكري الرأس من الجسد، لذلك فهو أكثر حساسية وخطورة، وغالباً ما يقوم العدو بشل الجسد العسكري عبر اقتناص الرأس المتمثل في القائد العسكري، وذلك بهدف إثارة البلبلة والتخبط بين أفراد الجيش، ممّا يؤدي إلي شلّ التحرك العسكري وشقّ صفوف الجيش، وبالتالي القضاء علي مفعول العمليات التي ينفذها عناصر الجيش كونها غير خاضعة لإشراف ونظر القائد العسكري أو تعرضه للتصفية.
ولذلك جاءت ضرورة تعيين نواب يكونوا علي درجة من الكفاءة والخبرة في المجال العسكري للحيلولة دون إصابة الجيش بحالات من التدهور والانهيار في حال غياب القائد العسكري أو تعرضه للتصفية.
وهناك نقطة ضرورية وحساسة هي أن تعيين النواب في داخل الفرقة الواحدة يدفع خطر الانشقاق العسكري والتمرد والذي يسبب إثارة النزاعات والخلافات بين أفراد الفرقة في سبيل الاستئثار بمنصب القيادة... فالإمام (عليه السلام) يوصي ابن عباس: (فإن أصبت فقيس علي الناس وأن أصيب قيس فسعد بن قيس علي الناس).
وهنا قد يتساءل البعض عن ماهية الدوافع الرئيسية التي أدت بالإمام الحسن (عليه السلام) لأن يبعث في المرحلة الأولي بأكبر فرقة عسكرية وهي فرقة عبيد الله ابن العباس التي يبلغ عددها اثني عشر ألف جندياً والتي تضم أفضل الكفاءات العسكرية في جيش الإمام (عليه السلام) وكان لها دور فاعل وبارز في حرب صفين مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حربه ضد جيش معاوية؟
والجواب علي ذلك أن الهدف من وراء إرسال فرقة عبيد الله بن العباس بهذا الحجم والكيفية إنما كان لسببين وهما:
أولاً: إن الإمام الحسن (عليه السلام) أراد أن يظهر جانب القوة في جيشه أمام جيش الشام لذلك كانت فرقة عبيد الله بن العباس هي أقوي فرقة في جيش الإمام (عليه السلام) من حيث الكم والكيف، ومن جهة ثانية، الإمام (عليه السلام) إنما قدم أصحابه وطليعته لإثارة الحماس في نفوس الناس الذين تثاقلوا عن نصرة الإمام (عليه السلام)، وبعث فيهم روح الحماس والشجاعة للخروج مع الإمام (عليه السلام) في حربه ضد معاوية.
ثانياً: إدخال الرعب وإنزال الهزيمة النفسية بالعدو كون أن هذه الفرقة كانت تشكل خطورة بالغة علي جيش الشام، حيث كان لها دوراً فاعلاً في إنزال ضربات ساحقة في معركة صفين حتي تكبد معاوية في ليلة الهرير تسعين ألف قتيل والتي اعتبرت أكبر هزيمة عسكرية قبل أن يستخدم معاوية خدعة رفع المصاحف لإيقاف مسلسل هزائمه في هذه المعركة.
لذلك الإمام الحسن (عليه السلام) في هذه الفرقة أراد أن يذكّر جيش الشام بصفين لإضعاف معنويات أفراد العدو.
ثم، وبعد مغادرة أول فرقة عسكرية بقيادة عبيد الله بن العباس والتي نزلت مسكن والأنبار وجواريها، واصل الإمام الحسن (عليه السلام) نداءاته في استنفار الجماهير للتعبئة العسكرية العامة، بينما بعث حجر بن عدي إلي العمال والولاة لكي يأمرهم باستنفار الناس والمسير بهم نحو معسكرات الإمام الحسن (عليه السلام) خارج الكوفة. وتمكن حجر أن يجند مجموعة من الناس للحرب مع الإمام (عليه السلام) ضد معاوية ويذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد أنه (سار معاوية نحو العراق ليقلب عليه ـ أي علي الإمام (عليه السلام) ـ فلما بلغ جسر منبح (عشر فراسخ عن حلب) تحرك الحسن (عليه السلام) وبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفّوا معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة لأبيه، وبعضهم محكمّة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلي دين). وهذا المزيج من الناس التي خرجت مع الإمام (عليه السلام) كانت تشكل (2/5) من جيش الإمام (عليه السلام) ـ أي ثمانية آلاف رجلاً ـ وليس كما ذكر بعض الكتّاب المؤرخين علي أن كل جيش الإمام الحسن (عليه السلام) تشكل من هذا المزيد ـ وذلك لأن حديث الشيخ المفيد (رحمه الله) يتعلق فقط بالفرق العسكرية التي خرجت مع الإمام الحسن (عليه السلام) بعد مغادرة فرقة عبيد الله بن العباس والتي بعثها بها الإمام (عليه السلام) في أول الأمر.
وهنا يمكن أن نتوقف قليلاً للتعرف علي طبيعة الفرق العسكرية التي تحدث عنها الشيخ المفيد (رحمه الله) والتي خرجت مع الإمام الحسن (عليه السلام) وهي كالتالي:
1ـ الطليعة الرسالية:
وهذه تؤمن بحق الإمام الحسن (عليه السلام) المشروع في ولاية المسلمين وتقف إلي جانبه كما وقفت إلي جانب أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه الفئة هي قليلة قياساً بغيرها من الفئات الأخري في الفرق العسكرية لجيش الإمام الحسن (عليه السلام).
2ـ المحكمّة:
وسُميت بهذا الاسم لأنها قبلت بالتحكيم في حرب صفين وطلبت من الإمام علي (عليه السلام) القبول بذلك، ثم تظاهرت علي الإمام علي (عليه السلام) بعدان أكرهته علي التحكم. وهذه الفئة تكيد العداوة لمعاوية وتسعي لحربه بأي صورة كانت وتحت أية لواء كان طالما ضد معاوية إلا أن هذه الفئة لا تحمل ولاءً حقيقياً للإمام الحسن (عليه السلام)، وإنما أرادت أن تحارب مع الإمام (عليه السلام) ضد معاوية لأنها وجدت في الإمام (عليه السلام) لواءً يمكنها الانضواء تحته في الحرب ضد عدوها.
3ـ المصلحيّون والمحاربون للمغنم:
وهذه الفئة لا تحمل هدفاً مقدساً أو غرضاً سامياً وإنما تستخدم الحرب كوسيلة لاكتساب المغانم وتحقيق المصالح والرغبات الشخصية. وهذه الفئة لا يمكن أن تدخل صراعاً حقيقياً بل لديها القابلية لانقلاب علي الإمام الحسن (عليه السلام) والانحيار إلي جانب معاوية في حالة لو تعرض جيش الإمام (عليه السلام) للانكسار والتقهقر.
4ـ الشكّاكون والمتذبذبون:
هذه الفئة لا تقف علي أرض ثابتة وليس لها قدم راسخ فهي كالماشي علي رمال متحركة، لا يقر لها قرار، ولا يهدأ لها بال، فقد يطفح كيل الشك بها فتترك الموقع التي هي فيه وتنزح إلي الأعداء وهذه الفرقة من الصعب الاعتماد عليها أو إيلائها الثقة في حال السلم فكيف في حال الحرب التي فيها امتحان الإرادات.
5ـ أتباع الفكر القبلي:
أما هذه الفئة فينحصر ولاؤها لزعماء القبيلة، فهي تتلقّي أوامرها من هؤلاء الزعماء، فتقدم طاعة رؤساء القبيلة وزعاماتها علي طاعة الإمام الحسن (عليه السلام)... وعليه فإن هذه الفئة غير قابلة لأن تتبع استراتيجية الإمام (عليه السلام) في حربه مع معاوية إلا بما يمكن زعماء القبيلة عليها.
وهنا يطرح السؤال التالي: إذا كان هذا حال الفرق، إذن لماذا جندهم الإمام الحسن (عليه السلام) في حربه ضد معاوية؟
والجواب علي ذلك: لعل هناك سببين رئيسين في ذلك وهما:
أولاً: أراد الإمام (عليه السلام) توجيه كافة الحراب نحو معاوية، ولوجود جبهات معارضة في داخل الكوفة ضد جبهة الشام، لذلك استفاد الإمام (عليه السلام) من حركات المعارضة في الحرب مع معاوية بالرغم من اختلاف أهدافها وتطلعاتها.
ثانياً: لم يكن الإمام يأمن غائلة هذه الفرق خاصة وأن فيها من هي علي استعداد تام لشهر السلاح ضد الإمام فيما لو لم يتم استغلالها وتوجيه سهامها نحو عدو آخر لها، من جهة ثانية أن بعض هذه الفئات لديها القابلية للحرب مع معاوية ضد الإمام وإذا لم يستفد منهم الإمام في حربه ضد معاوية، من الممكن أن يغريهم معاوية ويجندهم لصالحه، وفيهم من يركع لبريق المعدن ويسجد لطعم المال والشهوة والمنصب.

خيانات الجيش

وبعد أن تحرك الإمام الحسن بالناس ووصل بهم معسكر المدائن بدأ يعدّ الفرق ويجهز الصفوف لخوض الحرب، وفي هذه الأثناء وصلت رسالة مستعجلة من قيس بن سعد إلي الإمام جاء فيها (إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بإزاء مسكن، وإن معاوية أرسل إلي عبيد الله بن العباس، يرغبه في المسير إليه، وضمن له ألف ألف درهم يعجل له فيها النصف، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة، فانسلّ عبيد الله في الليل إلي معسكر معاوية في خاصته...) [165] .
كانت هذه الرسالة تشكل الصدمة العنيفة والكبري التي هزّت القوي المجنّدة في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وهذه الصدمة حدثت بعد أن بث معاوية شائعة في أوساط جيش الإمام المرابط في الأنبار ومسكن، في رسالة بعثها معاوية إلي عبيد الله بن العباس قال فيها: (إن الحــــسن قــــد أرسلني في الصلح، وهــــو مسلّم الأمر إليّ فـــإن دخلت في طاعتي متــــبوعاً، وإلا دخلت وأنت تابع) [166] .
ولقد قدم معاوية في رسالته الإغراءات المادية إلي عبيد الله بن العباس التي هي عبارة عن مائة ألف ديناراً يستلم نصفها حال وصوله إليه، والنصف الآخر في الكوفة بعد أن يدخلها معاوية للسيطرة علي السلطة هذا إضافة إلي أن معاوية أخبر عبيد الله بأنه سيمنحه أحد كور الشام. وحينما وصلت هذه الرسالة من معاوية إلي عبيد الله بن العباس، جلس الأخير ينظر في ترغيبات معاوية، وراح يهيم بفكره المسند بشيطان الهوي إلي ما سيناله من أموال وقطائع وغاب عن ذهنه الهدف المقدس الذي جاء من أجله لمحاربة معاوية، فلم يخطر بباله عاقبة السوء التي تنتظره فآثر حب الذات والشهوات علي هدفه الكبير.
وفي منتصف الليل سار عبيد الله علي رأس ثمانية آلاف رجل، متخفياً صوب جبهة معاوية، فسلّم نفسه إليه مؤثراً إلحاد معاوية علي إيمان إمامه الحسن (عليه السلام).
يقول اليعقوبي: (أنه ـ أي معاوية ـ أرسل عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد علي محاربته) [167] .
... تسلم قيس بن سعد قيادة الجيش في الأنبار ومسكن، فصلي بالناس ثم خطب فيها خطبة أراد فيها استعادة معنويات الجيش المنهارة، وتسوية ما جري من شكوك وظنون في داخل أفراد الفرقة، من هول الفتق الذي سببه عبيد الله في الجيش. فقال قيس في خطبته: (أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل المولّه، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتي به رسول الله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي (عليه السلام) البصرة (البصرة) فسرق ماله ومال المسلمين، فاشتري به الجواري وزعم أن ذلك له حلال وأن هذا ولاّه علي اليمن فهرب من بسر بن أرطأة وترك ولده حتي قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع).
وبعد أن وصل خبر عبيد الله بن العباس إلي الإمام الحسن (عليه السلام)، عمد بعدها الإمام (عليه السلام) إلي تعبئة الفراغ الذي خلّفه عبيد الله في جبهة الأنبار فوجه رجلاً آخر من كندة علي رأس أربعة آلاف مقاتل وطلب منه الإمام (عليه السلام) أن لا يحدث شيئاً حتي تأتيه الأوامر من الإمام (عليه السلام).
ثم سار هذا الرجل مع فرقته متوجهاً نحو الأنبار، فنزل بها يستعد لتنفيذ أوامر الإمام (عليه السلام)، ووصل خبره إلي معاوية يفيد بوصول فرقة عسكرية جديدة إلي الأنبار، فأرسل معاوية رسالة إغراء مماثلة إلي قائد هذه الفرقة وقال له فيها (إنك أن أقبلت إليّ أوّلتك بعض كور الشام والجزيرة غير منفّس عليك).
كما أرفق معاوية مع رسالته هذه خمسمائة ألف درهم، فلما وصلت الرسالة إلي الكندي هاجت نفسه للقبول بإغراءات معاوية، والخضوع لترغيباته، فانسلّ ومائتا رجل باتجاه معسكر الشام، فترك فرقته دونما قيادة.
وعلم الإمام الحسن (عليه السلام) بخبر الكندي فقام وخطب في الناس وقال: (هذا الكندي توجه إلي معاوية وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلاً آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي ما فعل صاحبه ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم).
ثم طلب الإمام (عليه السلام) رجلاً من مراد فسلّمه زمام القيادة العسكرية وأمدّه [168] بأربعة آلاف رجل، وقبل أن يغادر المرادي المدائن، جاء إلي الإمام (عليه السلام) أمام جموع الناس وعلي مرأي ومسمع منهم وحلف بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال بأنه لن يفعل ما فعله من كان قبله من القادة العسكريين.
وسار المرادي مع كتيبته إلي الأنبار، فلمّا وصل، جاء خبره إلي معاوية فعاود الأخير الكرّة ثالثة وأرسل إلي المرادي يغريه ويرغبه في المسير إليه وأرفق بالرسالة خمسة آلاف درهم كما وعده إحدي كور الشام والجزيرة، ولما وصلت الرسالة إلي المرادي مالت به ريح الشهوات إلي معاوية، فسلك الطريق إليه تاركاً وراءه العهود والمواثيق والأيمان التي اقتطعها علي نفسه للإمام الحسن (عليه السلام). ولما بلغ الخبر الإمام (عليه السلام) جاء إلي الناس وقال: (قد أخبرتكم مرة بعد أخري أنكم لا تفون لله بعهد وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم وصار إلي معاوية).
وأخيراً فما صمدت من الثلاثة فرق العسكرية التي بعث بها الإمام الحسن (عليه السلام) إلي جبهات القتال سوي المجموعة المتبقية من فرقة عبيد الله بن العباس والتي يبلغ عددها أربعة آلاف رجل وقد تسلم قيس بن سعد قيادة هذه البقية من الفرقة تلك.

مخطط اغتيال الإمام الحسن

أ- المحاولة الأولي: بينما كان الإمام (عليه السلام) يستحث الناس للنهوض والانخراط في صفوف الجيش لحرب معاوية، كان الأخير ـ حينئذ ـ يغرق الكوفة من رسائله إلي رؤساء العشائر وزعماء القبائل من أمثال عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، والحجر بن الحجر، وشبث بن ربعي... وكانت هذه الرسائل تحتوي علي فكرة مشتركة واحدة وهي: (إنك إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي).
وحينما كشف الإمام الحسن (عليه السلام) عن مؤامرة معاوية هذه، ارتدي درعاً واقياً فلا يتقدم الإمام (عليه السلام) للصلاة دونه، فيما كانت المجموعة ترسم مخطط الاغتيال ضد الإمام (عليه السلام) وقد اختارت هذه المجموعة موعد تنفيذ المخطط العدواني في وقت يكون فيه الإمام (عليه السلام) متلبساً، بالصلاة، فتحرك أحد أفراد المجموعة في الوقت المحدد لتنفيذ عملية الاغتيال، وبينما كان الإمام الحسن (عليه السلام) يصلي في مسجد الكوفة، قام ذلك المجرم بتسديد سهم في كبد قوسه، ثم أطلقه نحو الإمام (عليه السلام) فوقع السهم في منطقة الدرع الذي كان يلبسه الإمام (عليه السلام) فحال ذلك دون نجاح مخطط الاغتيال وبالتالي فشلت مؤامرة معاوية.
ثم قام الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن انتهي من صلاته خاطباً في الناس ومحذراً أقطاب المؤامرة وبعض الفئات المتعاطفة مع معاوية فقال: (يا قوم ويلكم والله أن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي وإني إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ولكن كأني أنظر إلي أبنائكم واقفين علي أبواب أبنائهم يستسقــــونهم ويستطعــمونهم ممّا جعل الله لهم فلا يسقــــون ولا يطعــــمون فبعــــداً وسحقاً لما كسبته أيديهم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [169] .
وكشف الإمام (عليه السلام) في خطبته هذه النقاب عن الجهة التي كانت وراء تنفيذ محاولة الاغتيال، حينما ذكر الإمام (عليه السلام) السبب الرئيسي وراء إقدام هذه الجهة علي عملية عدوانية تسعي منها إلي تحقيق بعض المصالح والمطامع المادية التي وعدهم بها معاوية.
ثم انه (عليه السلام) حذر من مغبة النتائج التي تعقب تنفيذ مثل هذه المؤامرة الخبيثة، ومنها سيطرة معاوية علي الحكم وإقراره نهجاً سياسياً فاسداً في إدارة الدولة الإسلامية، خاصة وأن هذه السيطرة ستقوم علي غير شرعية الجماهير وارادتها، وأنّ الهدف الرئيسي من إقدام مرتزقة زعماء القبائل علي تنفيذ عملية الاغتيال ضد الإمام الحسن (عليه السلام) إنما هو ضرب الشرعية الجماهيرية المتمثلة في قيادة الإمام الحسن (عليه السلام) وبذلك فرض نظام قمعي وإرهابي غير مستند علي تأييد ودعم الجماهير.
وفي الواقع أن هذا يتم في حال غياب الوعي السياسي في الأمة، واسترسال الجماهير في البحث عن وسائل الرفاه والراحة واستسلامها للضغوطات وانتشار حالة التململ من الجهاد والمقاومة، هذه وغيرها من الأسباب حالت دون وقوف أبناء المجتمع في الكوفة والبصرة وغيرها، إلي جانب الإمام الحسن (عليه السلام).
هذا في وقت أن الإمام (عليه السلام) يستصرخ ضمائر الناس، ويكشف لهم عن الطبخات الأموية ومؤامرات معاوية في سبيل كرسي الحكم والتسلط علي رقاب الشعب بالقوة والإكراه غير أن المشكلة الأم هي حينما تسكت الأمة عن حقوقها، وتطالب بالسلم وإن كان فيه الذلة لها وتهرب من الجهاد والمقاومة وإن كان فيه عزّتها وكرامتها.
إن مثل هذه الأمة تكون عرضة لألوان الهيمنة والتبعية، وبذلك تكون بمثابة الساحة المكشوفة التي تنفذ فيها المؤامرات في وضح النهار، وتمر في أرضها عربة المخططات السياسية، دونما اكتراث لصوت المعارضة، أو تأثير لصرخة الضمير الحر، فيقتل القادة، وتُباد الطليعة أو تُعتقل، ويُفرض الإرهاب في كل مكان...
فحينما يخيّم التقاعس في الأمة، ويضرب الملل أطنابه فيها فإنّ ذلك يعني تسليم مفاتيح الدولة للقوي المناوئة الداخلية والخارجية والسماح لها في التغلغل إلي داخل المجتمع والسيطرة علي ممتلكاته وخيراته... وهذا إنما يتم حينما تنطفئ شمعة اليقظة، وتخبو روح المسؤولية عند أبناء هذه الأمة.
كما أن انكفاء الجماهير عن محاربة القوي المعادية والمتآمرة يعني ذلك إطلاق اليد لتلك القوي لتنفيذ سلسلة من المؤامرات المتلاحقة والشديدة الخطورة التي تهدد وجود الدولة واستقلالها.
ولذلك لمّا تنصلت الجماهيري عن المسؤولية الشرعية في دعم وتأييد ومناصرة الإمام الحسن (عليه السلام) كانت النتيجة الطبيعية والأتوماتيكية هي أن تتحول هذه الجماهير إلي لقمة سائغة للمخططات السياسية التي ينفذها العدو ضدها، بل قد يدفع هذا العدو جماهير الأمة في أن تشارك في تنفيذ مخططه ضد نفس هذه الجماهير.
وعلي العكس تماماً فيما لو استنهضت الجماهير قواها، وقدراتها وطاقاتها الذاتية وانتزعت المبادرة من إشغال العدو، فإنها حينئذ تكون قد ساهمت في صد الهجمات العدوانية، وتمكنت بذلك من تحصين حدودها من الغزو الخارجي، وضمان استقلالها.
وهنا نشير إلي مسألة هامة وهي أن البعض من الناس يعتقد بأن بث الوعي كفيل بتغيير الأوضاع السائدة في الأمة. غير أن عملية التغيير لا يمكن أن تتم إذا لم تساندها إرادة التغيير، فوجود حالة الوعي في الأمة لا تعني بحد ذاتها تغييراً حقيقياً في واقع الأمة حتي تنقدح هذه الحالة في صورة إرادة تغييرية عند الجماهير تسعي عبرها في تحريك الساحة الجماهيرية للثورة علي الواقع الفاسد.
ب. المحاولة الثانية: أجري الإمام الحسن (عليه السلام) ثلاث محاولات لاستعادة قوة الجيش، بعد ظهور الخيانات من قبل القادة العسكريين، بحيث تسلم بعدها الإمام (عليه السلام) قيادة الجيش فاجتمع الناس من حوله وقالوا: إن خانك الرجلان وغدرا بك فإنا مناصحون لك.
فقال الإمام (عليه السلام) لهم: لأعودن هذه المرة فيما بيني وبينكم وإني لأعلم أنكم غادرون ما بيني وبينكم، إنّ معسكري بالنخيلة فوافوني هناك والله لا تفون لي بعهدي ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم) [170] .
وبعد أن اتخذ الإمام (عليه السلام) قرار قيادة الجيش، تحرك نحو النخيلة وكان معه أربعة آلاف رجل، وحينما وصل الإمام (عليه السلام) إلي دار بكر نزل في ساباط ـ دون القنطرة ـ وهي إحدي قري منطقة المدائن فبات الإمام (عليه السلام) مع جيشه في هذه القرية.
وفي صباح الغد وقرب موعد المسير إلي النخيلة، أراد الإمام الحسن أن يمتحن إرادة الجيش وأن يستبرئ ذمم الجيش وطاعتهم للإمام (عليه السلام) بهدف فرز الموالين من الخائنين ويكون علي بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر (عليه السلام) أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال: (الحمد لله كلّما حمده حامد،وأشهد أن لا إله إلا الله كلّما شهد له شاهد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق وائتمنه علي الوحي (عليه السلام)، أما بعد:فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه وما أصبحت محتملاً علي مسلم ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة إلا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة، إلا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا) [171] .
ومن الواضح في هذه الخطبة أن الإمام (عليه السلام) إنما أراد استيضاح طاعة الجيش للإمام (عليه السلام) خاصة وأن الخيانات التي ارتكبتها قيادات الجيش في السابق تركت أثراً بالغاً وأعطت انطباعاً سيئاً عند أفراد الجيش، هذا بالإضافة إلي أن حبل الولاء بين الجندي والقائد أصبح شبه مقطوع.
وأن الإمام الحسن (عليه السلام) الذي عاش تجربة مريرة مع مختلف فصائل الجيش فوجد أن طاعة الجنود لقياداتها في الباطل ـ أكبر ممّا هي عليه بالنسبة للحق ـ كيف وقد انسل قطاع كبير من الجيش مع القادة العسكريين إلي جبهة العدو، فكان من الضروري غربلة النوايا فيما يرتبط بالحرب فبعد أن انتهي الإمام (عليه السلام) من خطبته، أخذ ينتظر ردود فعل الجيش فنظر الناس بعضهم إلي بعض وقالوا ما ترونه يريد بما قاله؟ قالوا:نظنه والله أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه فقالوا: (كفر والله الرجل)، فهجموا علي الإمام (عليه السلام) وانتهبوا متاعه وفسطاسه ثم كمن له رجل خارجي يدعي (الجراح ابن السنان) في الساباط ليقوم بتنفيذ عملية الاغتيال فعندما مرّ الإمام (عليه السلام) علي الساباط، صرخ الخارجي قائلاً: (الله اكبر أشركت كما أشرك أبوك من قبل) ثم طعن الإمام (عليه السلام) برمح في فخذه حتي وصل العظم.
فسقط الإمام (عليه السلام) إلي الأرض وقد نزف دمه الشريف من فخذه ثم قال (عليه السلام): (عليكم لعنة الله من أهل قرية، فقد علمت أن لا خير فيكم، قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا) [172] فحمل الإمام الحسن (عليه السلام) إلي المدائن حيث دار سعد ابن مسعود الثقفي (والي المدائن) منذ عهد الإمام علي (عليه السلام) لتلقي العلاج هناك.
أما عن الجيش فأقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يصلح لأن يخوض حرباً، ما دام يفتقر إلي العصب الرئيسي في تحركه وهو طاعة القيادة والالتزام بأوامرها، خاصة وأن هذا الجيش ـ كما عرفنا ـ لم يقترب بعد من خط النار ومن جبهة المواجهة فلم تشتبك بعد السيوف والأسنة والتي فيها صراع خبايا وخفايا الجنود وامتحان الإرادات وإظهار المعدن والجوهر.
وإن جيشاً مثل هذا لا يعلن ولاءه الكامل لقيادته، بل ويحاول اغتيالها فمن الصعب الحديث عن مقومات القدرة العسكرية عند الجيش، في ظل غياب المحور الأساسي ودينامو قدرات الجيش وامكانياته وهي طاعة القيادة، والتي بدونها تعني التخبط والفوضي والعشوائية... الخ، وبالتالي نزول الهزيمة بساحة المسلمين...
في حين نجد أن الإمام الحسن (عليه السلام) حينما يتحدث عن الجسم العسكري يركز علي وحدة الصف والمصير ومحورها طاعة القيادة ففي خطبة للإمام (عليه السلام) ألقاها في الناس وهو يستحثهم لقتال معاوية قال (عليه السلام): (الحمد لله لا إله غيره، ولا شريك له...، إن ممّا عظم الله عليكم من حقه، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصي ذكره، ولا يؤدي شكره ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنما غضبنا لله ولكم، إنه لم يجتمع قوم قط علي أمر واحد إلا اشتد أمرهم، واستحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتل عدوكم معاوية وجنوده، ولا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الإقدام علي الأسنة نخوة وعصمة، لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلّة وكفاهم حوائج الذلّة، وهداهم معالم الملّة).
وفي هذه الخطبة الرائعة يؤكد الإمام (عليه السلام) علي مسألة خطيرة وحساسة في داخل الجيش وهي اتفاق أفراد الجيش علي هدف واحد ومصير واحد، واعتبر الإمام (عليه السلام) ذلك قطب الرحي في حركة الجيش بشتّي أنواعها وألوانها، ويشير الإمام (عليه السلام) إلي فائدتين عظيمتين من وراء وحدة الهدف والمصير في داخل الجيش وهما:
الأولي: تصليب الإرادة وتقوية الجسم العسكري، إضافة إلي بعث روح الجدّيّة والنشاط والتضحية في المواجهة وإنزال الضربات الساحقة في عمق مناطق حشود وتجمعات العدو، يقول الإمام (عليه السلام): (إلا واشتد أمرهم).
الثانية: توحيد صفوف الجيش للحيلولة دون عمليات الاختراق أو التسلل قد يقوم بها العدو في داخل فصائل الجيش، أو إثارة الفتن والخلافات في أوساط الجيش غير أن هذه المؤامرات تزول وتختفي في حال توحيد الصفوف التي تعكسها وحدة الهدف والمصير وطاعة القيادة في الجيش.
وهذا ما كان ينقص جيش الإمام الحسن (عليه السلام) بشكل واضح، بحيث كانت ثغرات الاختراق في الجيش واسعة ومتعددة، والتي يرجع إلي تعدد الأهداف، واختلاف القيادات وتباين المصالح عند كل فرقة هذا إضافة إلي عدد جيش الإمام (عليه السلام) القليل كمّاً ونوعاً، مقارنة بالحشود الهائلة التي تقاطرت من كل المناطق الواقعة تحت سيطرة معاوية لحرب الإمام الحسن (عليه السلام) والدولة الإسلامية.

رسائل عملاء الكوفة إلي معاوية

جاء الإمام الحسن (عليه السلام) مع جيشه إلي معسكر النخيلة بفترة قصيرة، بعد أن أخبر الناس عن موقعه لمن شاء أن يلتــــحق به، فراح قطاعٌ من أهل الكــــوفة يبعـــثون الرســـائل إلي معاوية يخبروه فيها (بأنا معك وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك) [173] .
وهكذا فعل الزعماء ورؤساء القبائل في الكوفة من أمثال عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وحجر بن عمرو، وعمرو بن حريث، وأبو موسي الأشعري، وعمارة ابن الوليد بن عقبة، وعبد الله بن وهب الراسي، وشبث بن ربعي، والأشعث بن قيس... وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا قد بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) في أول الأمر، قبل أن تتم المواجهة مع معاوية علي السمع والطاعة.
وقد كتب هؤلاء رسائل عديدة يطلبوا فيها من معاوية بالتحرك والمسير إلي الكوفة كما وأعلنوا له عن استعدادهم التام للوقوف بجانبه ضد الإمام الحسن (عليه السلام) ووعدوا بتسليم الإمام (عليه السلام) له عند وصول معاوية إلي الكوفة.
وبقي الإمام الحسن (عليه السلام) عشرة أيام ينتظر قدوم الناس للانضمام إلي جيشه لمحاربة جيش الشام، ولكن لم يحدث ذلك، بل تكثفت حجم المؤامرة ضد الإمام (عليه السلام) وتوسعت رقعة التواطؤ الداخلي مع جبهة الشام..
فالمؤامرة إذن في غاية الخطورة فبالأمس خيانات في الجيش، ثم محاولة اغتيال الإمام القائد (عليه السلام) والتي هذه كشفت عن شبكة عملية تضرب جذورها في أعماق المجتمع الكوفي وتتلقي توجيهات من الخارج وتنفذ مخططاته في داخل الدولة الإسلامية، واليوم تتسع هذه الشبكة لتطال قطاع كبير من أبناء الأمة، حتي دخل هذا القطاع في تشكيلة جيش الإمام (عليه السلام)، وإذا بسيل من الرسائل تصل إلي معاوية وتطالبه في الدخول إلي الكوفة والسيطرة علي الحكم.

مطالبة الجماهير بالحل السلمي و ممارسة الضغوطات علي الإمام

إن من أخطر الآفات التي تفتك بأي أمة من الأمم وتشل حركتها وتقدمها وتفقدها الاستقلالية هي أن تصاب بأحد هذين المرضين وهما:
أولاً: في حال أن يغزو التعب والتململ مراكز القيادة والتوجيه في الأمة، فتقوم هذه المراكز بممارسة مختلف الوسائل والطرق بهدف منع الجماهير عن التحرك والتقدم، بحيث تعمد قيادات الأمة إلي استخدام مواقعها في توجيه الناس نحو التقاعس والتكاسل من خلال بث الأنماط الثقافية الانهزامية كالاهتمام بالقشور والظواهر من الدين، ومطالبة الناس بالابتعاد عن المواضيع الضرورية والحساسة في حياة المجتمع بأكمله، كإغفال الجهاد والأمر بالمعروف وعليه فإنّ دور هذه القيادات ينحصر في إقعاد وتخدير الجماهير عن التحرك، وهكذا تجبين فئات المجتمع عن النهوض والثورة فعوضاً من أن تقوم هذه القيادات بدفع القاعدة الجماهيرية نحو الثورة والمقاومة تبدأ هذه القيادات تفكر بالحلول السلمية، واعتماد الصيغ الدبلوماسية في معالجة القضايا المصيرية.. وبذلك تصاب حركة الأمة بالشلل، فتفقد استقلاليتها. وتموت كرامتها وتندثر طاقاتها.
وكل ذلك بسبب اعتماد القيادات ومراكز التوجيه منهجية عقيمة في التعامل مع قضايا المجتمع.
ثانياً: أن تصاب الأمة نفسها بالتعب والتململ والاستسلام للدعة والتقاعس وحب الراحة فلا تستجيب لنداءات قياداتها، ولا تعبأ بمطالبها، فتغزوها الجيوش من كل جانب ويهيمن عليها أشرار الأمة، فتبقي كالأسيرة لا ترد مظلمة ولا تتصدي لهجمة، وذلك لأنها لم تسند القيادات الشرعية الحقيقية في الأمة ولم تؤثر طاعتهم علي مصالحها وأهواءها وشهواتها.
وهنا المشكلة أنه حينما تؤثر الأمة السلم مع الذل، علي الحرب مع العز، فإن مصير هذه الأمة يؤول نحو الهاوية والدمار الشامل. وكما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوي ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء وديّث بالصّغار والقماءة أو ضرب علي قلبه بالإسهاب وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف) [174] .
وليس ثمة شك في أن الإمام الحسن (عليه السلام) عاش بين مجتمع يهوي الراحة ويبحث عن الدعة يكره الحرب وحر السيف، ويتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، ويخاف من زمجرة الجيوش ونقع العاديات..، ولذلك كان يعيش الإمام الحسن (عليه السلام) كالغريب في مثل هذا المجتمع، كما كان أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل، فهو أيضاً كان قد استصرخ ضمائر الناس لأن يهبوا الدفاع عن حريم الإسلام وحرمات المسلمين، فإذا بالقوم جامدون كأنما علي رؤوسهم الطير، يخافون أن يتخطفهم الموت... فتسرق الأموال وتهتك الحرمات، ويذبح الرجال والنساء والأطفال وكأنما خليت الديار من أصحابها أو غشي أهلها الظلام حتي لا تكاد تبصر ما يري في ساحتها!!
وطبيعي أن يكون مصير كل أمة تفضل الراحة علي الحركة وتميل إلي التقاعس والتخلي عن النهضة والانتفاض والهروب من الواجب المقدس رغبة أو رهبة، فإن أولي مصائبها الذلة والهوان وقد مارس المجتمع في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) الحالات تلك بحذافيرها، حتي ظهرت فيه معالم المجتمع المهزوم الناكص، وسيطرت عليه حالة التوافق الاجتماعي باتجاه الاستسلام والتثاقل والتهرب من كل ما من شانه أن يقود إلي الحرب أو يمت إليها بصلة...
ولذلك أقفل الإمام الحسن (عليه السلام) راجعاً إلي الكوفة بعد أن مكث طويلاً في انتظار قدوم جموع من أهل الكوفة، وحينما بلغ اليأس حدّه عاد الإمام (عليه السلام) من معسكر النخيلة ودخل المسجد في الكوفة ثم خطب في الناس قائلاً: (أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلةٌ ولا قلة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلي صفين ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم، وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تصدّون قتيلين، قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره فأما الباكي فخاذل وأما الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلي أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلنا منه وأغضينا علي القذي، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلي الله بظبا السيوف).
فنادي القوم بأجمعهم: بل التقية والحياة، أو قيل فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية وأمضي الصلح) [175] .
فقال الإمام (عليه السلام): (يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلمت الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومونكم سوء العذاب حتي تتمنوا أنّ عليكم جيشاً ولو وجدت أعواناً ما سلمت له الأمر، لأنّه محرّم علي بني أمية فأف وترحاً يا عبيد الدنيا) [176] .
ثم كشف الإمام (عليه السلام) في حديث عن طبيعة المجتمع وموقفه خلال فترة التحول السياسي والاستراتيجي بعد حرب صفين وحتي عهد الإمام الحسن (عليه السلام) يقول الإمام (عليه السلام): (خالفتم أبي حتي حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلي قتال أهل الشام بعد التحكيم فأبيتم حتي صار إلي كرامة الله، ثمّ بايعتموني علي أن تسالموا من يسالمني وتحاربوا من حاربني وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغروني من ديني ونفسي. يا أهل العراق: إنما سخي عنكم بنفسي ثلاث: قتلكم أبي وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي) [177] .
وبطبيعة الحال إن الوضع العام كان في غاية الخطورة كون المناخ الاجتماعي ظلّ متردياً للغاية... فالجماهير التي كانت من المفترض أن تصبح رأس مال يستثمر في الضغط علي العدو ودرء مؤامراته وأخطاره ـ تتحول هذه الجماهير ـ إلي عامل خسارة، وعنصر ضعف، ومؤشر انهيار في حساب القوة الإسلامية.. فيكون القرار قرار العدو، وتكون الإرادة الحاكمة هي إرادة المستعمر، وبالتالي يكون الحكم هو حكم الغريب والمحتل!!
من هذا المنطلق نجد أن مثل هذه الأمة لا تنفع لقائد كالإمام الحسن (عليه السلام) والذي لم يوفر لنفسه جهداً أو طريقاً لاستنهاض الهمم وبعث الحميات في جماهير هذه الأمة إلا وبذلها، ولكن حقيقة الأمر هي أنه (لا رأي لمن لا يطاع)، فماذا يمكن أن يقوم به الإمام (عليه السلام) لجماهير تصر علي العمل خلاف مصلحتها، وتسري في ركب سياسة ليست تابعة لقافلتها، وتتمسك بعري قرارات صادرة عن غير قيادتها.. ولذلك فهي الأمة وحدها التي خسرت وستدفع ضريبة موقفها المسالم هذا قسطين من العذاب، أوله العار والذل، وثانية ظلم الحاكم المستبد.
ولقد أخبرهم الإمام الحسن (عليه السلام) عن ذلك من قبل حين قال لهم: (عزرتموني كما عزرتم من كان قبلي، مع أيّ إمام تقاتلون بعدي، مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو أمية إلا فرقاً من السيف؟ ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله) [178] .
وبالرغم من أن الإمام (عليه السلام) في كلمته هذه وغيرها من الخطب والأحاديث يؤكد مراراً وتكراراً علي حقه المشروع في قيادة الأمة، كما يكشف عن طبيعة البيت الأموي وما يدور في داخله من أطماع توسعية ومخططات للسيطرة والتسلط، إلا أن جماهير الكوفة عميت أبصارها عن معاينة الحق، بعد أن ربضت في أذهانها فكرة الاستسلام والركوع والانحناء للمستعمر الأموي.. وكيف يحصل علي العزّ من له قابلية الذلّ؟ وهل تسرق كرامة من كان هو الحارس عليها؟ أم هل تنتزع إرادة من كان هو الكافل أمرها؟.. ولكن المجتمع الكوفي خرج من ذلك كله، فألقي بكلّه في حضن معاوية، ولذلك عاش ذليلاً وبقي مهاناً وظل مسلوب الإرادة، تماماً كالجسد الذي فقد المناعة التامة فلا هو قادر علي الحفاظ علي توازنه ولا هو قادر علي توازنه ولا هو قادر علي تنمية نفسه أو درء أخطار الهجومات الموجهة إليه من الخارج.
أما الإمام الحسن (عليه السلام) فقد وجد بعد أن انكفأت الأمة عن نصرته، أن يصبّ اهتمامه علي كيفية الحفاظ علي بيضة الإسلام وهكذا حفظ الصفوة والبقية الباقية من أبناء الرسالة لضمان استمرارية الخط الرسالي وتفاعله في أوساط الأمة وعبر الأجيال لتبقي شعلة الإسلام متقدة وبالتالي الاطمئنان علي ديمومة الدين في مراحل حياة المجتمع المختلفة.
وقد اجتمعت تلك الأسباب والتي مر الحديث عنها فكانت بمثابة عوامل الضغط التي دفعت بالإمام الحسن (عليه السلام) للوقوف أمام الخيار الصعب والذي اختاره مرغماً وهو خيار الصلح، ليكون المخطط الاستراتيجي بعد (الصلح) ينحي باتجاه الإبقاء علي نواة الرسالة والإعداد للمرحلة القادمة.

اتفاقية الهدنة... الشروط والنتائج

اشاره

لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) في خيار سوي ترجيح كفة الحل السلمي لمشكلة الأمة، خاصة بعد أن تزاحمت عوامل الضغط الداخلية والخارجية، والتي اضطر الإمام (عليه السلام) للقبول باتفاقية الهدنة (الصلح) بينه وبين معاوية، والتي جاءت بعد محاولات عديدة وجادة أجراها الإمام (عليه السلام) مع جماهير الأمة للوقوف بوجه الهجمة الأموية قبل الوصول إلي هذه المرحلة.
وبعد أن شعر الإمام (عليه السلام) بخطورة موقف الأمة علي مسيرة الحركة الرسالية، وجد (عليه السلام) أن السبيل الوحيد في الحفاظ علي أبناء الحركة الرسالية هو في توقيع اتفاقية هدنة مع معاوية، وبهذه الاتفاقية يستطيع الإمام (عليه السلام) أن يحافظ علي الميراث الرسالي ليصل إلي الأجيال القادمة خاصة وأن الأوضاع الأمنية باتت شبه مهددة سواء من جانب معاوية وجلاوزته أو من جانب قطاع كبير من جماهير الأمة... وعليه كان الأمر يتطلب تبريد الموقف وحينما دخل زيد بن وهب الجهني علي الإمام (عليه السلام) وما زال ألم الجرح في فخذ الإمام (عليه السلام) شديداً فقال زيد للإمام (عليه السلام): (يا ابن رسول الله لقد اضطرب الناس وتحيروا في أمرهم ماذا تقدر لهم).
فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً: (أري والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وآمن به في أهلي، خير من أن يقتلوني، فيضيع أهل بيتي والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتي يدفعوني إليه سلماً فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فيكون سبة علي بني هاشم إلي آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبها علي الحي منا والميت. ثم قال زيد الجهني: وهل تترك شيعتك كأغنام غاب عنها رعاتها؟! فقال الإمام (عليه السلام): ما أصنع يا أخا جهينة؟ وإني والله أعلم بأمر قد أدي به إلا عن تقاته، إن أمير المؤمنين قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً، يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ أو كيف بك إذا وليّ هذا الأمر بنو أمية وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الأعفاج، يأكل ولا يشبع يموت وليس له في السماء ناصر، ولا في الأرض عاذر، ثم يستولي علي غربها وشرقها، تدين له العباد، ويطول ملكه، يسنّن بسنن البدع والضلال، ويميت الحق وسنّة رسول الله، يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذلّ في ملكه المؤمن ويقوّي في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولاً، ويتخذ عباد الله خولاً، ويدرس في سلطانه الحق ويظهر الباطل، ويلعن الصالحين، ويقتل من ناوأه علي الحقّ، ويدين من والاه علي الباطل فكذلك حتي يبعث الله رجلاً في آخر الزمان، وكلب من الدهر، وجهل من الناس يؤيده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره علي الأرض، حتي يدينوا له طوعاً وكرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، حتي لا يبقي كافر إلا آمن، وطالح إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً فطوبي لمن أدرك أيامه وسمع كلامه) [179] ، [180] .
وثيقة الهدنة... والإجراء الوقائي:
قبل أن يصادق الإمام الحسن (عليه السلام) علي وثيقة الهدنة بينه وبين معاوية، كتب الإمام (عليه السلام) رسالة مقتضبة إلي معاوية يعلن فيها الإمام (عليه السلام) عن موقفه وسبب قدامه علي توقيع الهدنة (أما بعد: فإن، خطبي انتهي إلي اليائس، من حقّ أحييته وباطل أمته، وخطبك خطب من انتهي إلي موارده، وإني اعتزل هذا الأمر وأخلّيه لك، وإن كان تخليتي إيّاه شراً لك في معادك، ولي شروط أشترطها لأبتهضنّك إن وفيت لي بها بعهد، ولا تخف إن غدرت، وستندم يا معاوية كما ندم غيرك، ممن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم) [181] .
وبعد أن وصلت رسالة الإمام (عليه السلام) إلي معاوية، بعث الأخير بورقة بيضاء مختومة إلي الإمام (عليه السلام) حتي يكتب فيها شروطه لتوقيع اتفاقية الهدنة (الصلح) وهذا نص ما كتبه الإمام (عليه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان. صالحه علي أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الخلفاء الصالحين.
وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر للحسن من بعده فإن حدث به حدث، فلأخيه الحسين. وأن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلا بخير.
وأن لا يسمي الحسن (عليه السلام) معاوية أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة. واستثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف، وعلي معاوية أن يحمل إلي الحسين كل عام ألفي ألف درهم، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين، ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد.
وعلي أن الناس آمنون، حيث كانوا من أرض الله، في شامهم، وعراقهم، وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّن الأسود، والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم وأن لا يتبع أحداً بما مضي، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة.
وعلي أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون علي أنفسهم، وأموالهم، ونسائهم وأولادهم. وأن لا يتعقب عليهم شيئاً، وأن لا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلي كلّ ذي حق حقه.
وعلي أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله عائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق. وعلي معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله، وميثاقه، وما أخذ الله علي أحد من خلقه بالوفاء بما أعطي من نفسه. شهد عليه بذلك الله وكفي بالله شهيداً والسلام) [182] .
قبل أن نأتي علي الحديث عن الظروف الموضوعية التي دفعت الإمام الحسن (عليه السلام) في توقيع اتفاقية الهدنة مع معاوية وهدف الإمام (عليه السلام) من وراء هذه الاتفاقية نتوقف مع شروط الإمام (عليه السلام) للتعرف علي المعاني الحقيقية منها.

اضواء علي شروط الإمام الحسن

اشاره

في نظرة فاحصة للوثيقة التي كتبها الإمام الحسن (عليه السلام) وفرض الشروط الكفيلة بتوقيع اتفاقية الهدنة مع معاوية، نجد أن الإمام (عليه السلام) قد أعدّ في هذه الوثيقة برنامجاً متكاملاً لمعاوية في إدارة الدولة الإسلامية وقد تناول هذا البرنامج الأصعدة التالية:

ادارة الدولة

أ. أن يلتزم معاوية في إدارة الدولة الإسلامية بمقررات الدستور الإسلامي المستنبط من كتاب الله وسنّة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين.
ب. أن لا يقوم معاوية بتعيين نواب عنه في استلام منصب الرئاسة للدولة الإسلامية بل إن الإمام الحسن (عليه السلام) هو صاحب الحق في ذلك في حال موت معاوية، فإذا حدث للإمام الحسن (عليه السلام) حادث، ينتقل هذا الحق للإمام الحسين (عليه السلام) وليس لمعاوية أن يوصي لأحد من بعده.

ادارة الشؤون المالية

أ. أن يرفع معاوية يده عن بيت مال الكوفة، بمعني أن تناط مسؤولية إدارة الشؤون المالية برجال خارج البيت الأموي.
ب. إقرار مليونان درهم من ميزانية الدولة الإسلامية، ليقوم الإمام الحسين (عليه السلام) بتوزيعها بين المسلمين.
ج. تخصيص ميزانية مالية لعوائل شهداء حربي الجمل وصفين بمقدار مليون درهم بحيث تكون هذه الميزانية من خراج دار ابجرد.
وأراد الإمام الحسن (عليه السلام) من ذلك أمرين هما:
أولاً: للحيلولة دون اعتماد معاوية السياسة الاقتصادية التي سار عليها الخليفة عثمان في عهده حينما ضاعف العطاء وأفرط في التوزيع لبني العاص ممّا سبب في نمو طبقة برجوازية فيما عاش قطاع كبير من المسلمين الفقر المدقع.
ولذلك أراد الإمام الحسن (عليه السلام) في هذا الشرط أن يمنع معاوية من اعتماد ذات السياسة.
ثانياً: أن يمنع معاوية من استخدام موقعه وقوته في الأخذ بالثارات الجاهلية ضد أبناء الحركات الرسالية الذين وقفوا بصمود وثبات مع قائد المسلمين وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الجمل وصفين، ممّا يجعل معاوية يفكر في الانتقام منهم بعد الوصول إلي السلطة.

سياسة الأمن في الدولة

أ. استخدام مبدأ الأمن والسلام مع كل أبناء الأمة الإسلامية وفي جميع الأقطار، العراق، الشام، الحجاز، اليمن، ومع مختلف الألوان، الأسود والأحمر... فالناس جميعاً سواء في العيش بأمن وسلام.
ب. الكف عن استخدام سياسة البطش والتنكيل مع الشعب، وعدم إنزال العقوبات بشتي صورها ضد أفراد الشعب.

سياسة الدولة مع المعارضة

أ. أن لا يسلط معاوية سيف الدولة علي رقاب القوي المعارضة له، خاصة تلك القوي التي وقفت أمام معاوية عندما كان يقود حركة التمرد ضد الدولة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وبداية عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، والتي كانت تتخذ هذه القوي من العراق مركزاً لها وقاعدة لانطلاقها.
ب. أن يكف معاوية عن استخدام سياسة الإرهاب السياسي والإعلامي والاقتصادي وغيره ضد طليعة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وبأن لا يلاحقهم أو يتعقبهم، بل يكونوا في أمن من تنكيل النظام وبطشه.
ج. اعتماد مبدأ المساواة في التوزيع بين أفراد الشعب والقوي المعارضة للنظام وأن لا يستغل معاوية موقفه المعادي للمعارضة في فرض عقوبات اقتصادية عليها.

تعامل الدولة مع قادة التحرك

أ. أن لا يتعرض معاوية بسوء لقادة الحركة الرسالية وتحديداً الإمام الحسن (عليه السلام) وأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وهكذا أهل بيت الرسالة (عليه السلام).
ب. أن لا يحاول معاوية تنفيذ عمليات الاغتيال السرية أو العلنية ضد قيادات التحرك الرسالي، أو أن يستخدم معاوية سياسة إرهابية ضدهم.
ج. أن ينتهي معاوية من استعمال وسائل التضليل الإعلامي للنيل من قادة الحركة الرسالية وأن يكف معاوية عن سب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن لا يجعل منبر الدولة وسيلة إعلامية لتصفية الحسابات الجاهلية مع الحركة الرسالية وقياداتها.
هذه كانت بعض الأضواء علي وثيقة شروط الإمام الحسن (عليه السلام) لإبرام اتفاقية الهدنة مع معاوية قبيل عقد اللقاء بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية في العاصمة الكوفة.
والملاحظ في شروط الإمام الحسن (عليه السلام) أنها لم تتضمن أي إشارة علي تسليم الأمر لمعاوية، بل كانت هذه الشروط ـ في الواقع ـ برنامجاً منظماً يعرضه الإمام (عليه السلام) لمعاوية في كيفية إدارة الدولة.
وهنا نقطة في غاية الأهمية وهي أن الإمام الحسن (عليه السلام) يؤكد في هذه الوثيقة علي أن الصلح مع معاوية يرتبط بتطبيق الشروط المكتوبة في الوثيقة فإذا انتفي الالتزام بالشروط فإن الصلح بالضرورة ينتفي.
وهنا نقول أن الإمام الحسن (عليه السلام) قد كان علي علم مسبق بأن معاوية ليس الشخص الذي يقبل بتطبيق هذه الشروط أو الالتزام بها، كيف به وهو يحمل منهجية التفكير الجاهلي الأموي القائم علي أساس التسلط وفرض الهيمنة واستعمال الخدع والمكر وباقي القيم الجاهلية.
ويأتي السؤال: إذن لماذا قام الإمام الحسن (عليه السلام) بكتابة وثيقة الشروط طالما أنه (عليه السلام) يعلم بأنّ معاوية لن يقدم علي تطبيقها؟
وللجواب علي ذلك نقول:
أولاً: أن الظروف التي اكتنفت فترة الإعداد لتوقيع اتفاقية الهدنة كانت مساعدة في أن يكتب الإمام (عليه السلام) شروطه فيها وأهمها أمرين: الأول: أن معاوية هو الذي طالب بالهدنة ووعد الإمام (عليه السلام) بتسليم الخلافة من بعده وقد طلب من الإمام (عليه السلام) أن يكتب شروطه الموافقة علي توقيع اتفاقية الهدنة بينه وبين معاوية.
وقد عرفنا سلفاً أن معاوية بعث ورقة بيضاء مختومة بمهره، إلي الإمام (عليه السلام) ليكتب فيها شروط إجراء الهدنة.
وإن هذا الأمر ساعد الإمام (عليه السلام) في أن يملي شروطه وبحرية تامة، والتركيز في هذه الشروط علي أهم المواضيع الأساسية المرتبطة بمصير التحرك الرسالي وقياداته. ونقطة القوة هنا أن شروط الإمام الحسن (عليه السلام) لم تكن ذات مطالب جزئية أو بسيطة بل كانت تمس الجوانب الرئيسية من أصل الصراع، وأبرزها إدارة الدولة علي مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ورد غيرها.
إذن هذه الشروط تعبر عن المطالب الرئيسية والمباشرة لحركته الرسالية في صراعها مع النظام الحاكم وإنّ عدم التزام النظام بتنفيذ هذه المطالبة يعني استمرار حالة الصراع بطريقة أو بأخري وهذه الشروط تكشف عن مسألة كبيرة وهي أن النظام الحاكم غير مؤهل لقيادة الجماهير وبالتالي يفتقر إلي الشرعية في وجوده.
الثاني: أن جمعاً غفيراً من المسلمين بمختلف فرقهم وقبائلهم وكبار الشخصيات الدينية والاجتماعية، وبل وحتي أبناء الديانات الأخري، ستشهد ذلك اليوم الذي سيتم فيه توقيع اتفاقية الهدنة بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية.
وعليه فإن الإمام (عليه السلام) يجد فرصة في هذا المحفل البشري الكبير لأن يلقي بحجته علي معاوية وأن يلزمه بكل البنود التي جاء ذكرها في وثيقة الهدنة والتي هذه تحمل ختم معاوية...
وفي حال مخالفة معاوية لبنود الاتفاقية يعني كشف القناع عن الوجه القبيح لمعاوية وسياسته.. ومع أن معاوية يخالف هذه البنود ـ كما سنجد فيما بعد ـ إلا أنه لن يتجرأ علي استخدام القمع والتنكيل ضد شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في ظل وجود الإمام الحسن (عليه السلام) علي قيد الحياة.

وقفة مع رواية الصلح الشبهة والرد

إننا بحاجة إلي أن نتوقف حول ما أثير بالنسبة إلي مسألة الهدنة أو (الصلح) كون أنها أحيطت بملابسات كثيرة... ممّا يدفع ذلك إلي تدقيق النظر في هذه المسألة، خاصة وقد لوحظ أن العديد من الكتب التي تناولت تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) قد جمدت عند الحديث عن ما أسمته بـ(معاهدة الصلح)، أو خصصت بعض هذه الكتب جانباً كبيراً من البحث حول الصلح وأسبابه ونتائجه، هذا في حين أن بعضاً آخر من الكتب قد اختار الصلح كعنوان لها ممّا عكس ذلك أثراً سلبياً في ذهنية القارئ بحيث أوصلته إلي فكرة باطلة وهي أن الإمام الحسن رجل الصلح والدعة والجمود ـ وحاشاه ذلك ـ في وقت كان حري بهؤلاء الكتّاب أن يدرسوا بموضوعية الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية وانعكاسات ذلك علي الفترات المتقدمة من تاريخ الدولة الإسلامية ثم ما هي ظروف عهد الإمام الحسن (عليه السلام)؟ وكيف انتهي الأمر بصعود معاوية وما هي طبيعة الاتفاقية التي أجراها معاوية والإمام الحسن (عليه السلام)؟ وما هو هدف الإمام (عليه السلام) من وراء تلك الاتفاقية إلي غير ذلك من التساؤلات..؟ ولعل الدافع الرئيسي في تركيز الكتّاب والمحلّلين التاريخيين والباحثين، علي مسألة (الصلح) بحيث جهد هؤلاء في إيراد وحشد اكبر قدر من الأخبار والنصوص التاريخية والتي نقلوها مباشرة دونما تمحيص أو تدقيق إلي أوراق البحث.. وإنما ذلك يرجع إلي وقوع البعض في شرك أحد هذين المحذورين هما:
الأول: المصادر التاريخية:
فمن خلال مطالعة الغالبية العظمي من المصادر التاريخية التي تناولت حياة الإمام الحسن (عليه السلام) نجد أن هذه المصادر قد وقفت طويلاً عند أحداث ووقائع اتفاقية الهدنة أو ما أسموها بـ(الصلح) في حين اكتفت هذه المصادر بالمرور الخاطف علي الأحداث التي سبقت هذه الاتفاقية. ولم تنته عند هذا الحد بل حاولت تضخيم مسألة (الصلح) عبر رصد وتسجيل جميع النصوص المتعلقة بهذا الأمر.
أما البعض الآخر من المصادر التاريخية فقد اختصرت الحديث حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) في قضية (الصلح) واعتبرته الحادثة الكبري في حياة الإمام (عليه السلام)، دونما الحديث عن خلفية هذه القضية وجذورها وأصولها الحقيقية.
والمشكلة هنا أن حركة تدفق النصوص والأخبار نشطت وراجت بين المصادر التاريخية. وكما هو معروف أن مهمة هذه المصادر هي نقل كافة النصوص المعلقة بالقضية المطروحة دونما النظر في صحة أو سقم هذا الخبر أو ذاك فاختلط الحابل بالنابل...
... فأصبح قسم كبير من النصوص التاريخية يتردد بين التضارب والتناقض بين النصوص بعضها مع البعض الآخر، وأن هذه النصوص جاءت متناثرة ومشتتة بين ثنايا المصادر التاريخية.
وهنا يأتي دور الباحث والكاتب والمحلل في كيفية انتقاء الجيد من الرديء بين كومة النصوص التاريخية وليس هذا فحسب، بل عليه أيضاً إيجاد عامل الربط الموضوعي بينها.
وهذه العملية قد تكون صعبة كونها تتطلب بذل جهود وطاقات كبيرة، كما تستوجب المزيد من البحث والتنقيب في مصادر التاريخ وكتب السيرة، إضافة إلي التدقيق في متونها، إلا أن هذه العملية هي الطريقة السليمة والصحيحة في سبيل إعطاء نتائج ورؤي أكثر واقعية وأبلغ مصداقية إلي غير ذلك..
الثاني: رواج الروايات المختلفة والموضوعة حول مسألة (الصلح) بحيث أنها شغلت حيزاً خطيراً في كتابات المؤرخين، حتي لا نكاد نجد كتاباً تاريخياً تناول حياة الإمام الحسن (عليه السلام) إلا وأورد واحدة من تلك الروايات الموضوعة.
ولعل أشهر هذه الروايات، هي الرواية المنقولة ـ كذباً وزوراً ـ عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حول الإمام الحسن (عليه السلام) (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين).
بحيث أن الكثير من الكتّاب والباحثين اعتمدوا هذه الرواية لتدليل علي مسألة (الصلح) بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، بل إن بعض الكتّاب المعروفين اعتبروا هذه الرواية من العوامل الأساسية التي دفعت الإمام الحسن (عليه السلام) لتوقيع ما أسموه بـ(الصلح).
وإذا كنا نقبل عذراً من هؤلاء الكتّاب في مسالة التحقيق في متون المصادر التاريخية ونصوصها، فإنا نرفض عذر إهمال هؤلاء مسألة التدقيق في صحّة الرواية لأنه أمر ضروري ولازم.
وإلا فكيف يمكن إيراد النتائج دونما تحقيق في المقدمات وكيف نتلقف الروايات ونرمي بها في أبحاثنا وكتاباتنا دونما تدقيق في اصل الرواية وسندها أو دونما إرجاع هذه الرواية إلي مصادر التشريع الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ثم نقوم بإصدار حكم واقعي من هذه الرواية ثم اعتبار ذلك من المسلمات.
ونحن هنا إذ نتوقف علي أساس التحقيق في سند ومتن هذه الرواية، لإثبات وضعية ما جاء فيها من خلال التالي:
أولاً: رواة التزوير والوضع:
فقد نشطت في عهد معاوية حركة التزوير بصورة بالغة حيث تزايد عدد الرواة الوضّاعين والمفترين وذلك بهدف التغطية علي فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تركزت هذه الروايات الموضوعة في مدح معاوية ومن لف لفّه، ومن جهة أخري النيل والقدح في أهل بيت النبوة (عليهم السلام). ونظرة سريعة علي رواة الحديث ـ وخاصة رواية الصلح ـ نجد أن الكثير من هؤلاء قد أجمع المؤرخون علي كذبهم وتزويرهم ـ كما سيأتي الحديث فيما بعد ـ وقد وجدت في كتاب تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) خير مثال للتدليل علي حقيقة هؤلاء الرواة كون هذا الرجل قد أورد أسماء رجال السند لهذه الرواية ونحن إذ نورد أقوال بعض المحققين في سند هؤلاء الرواة:
أنبأنا أبو الحسن الحربي أنبأنا أبو بكر محمد بن هارون بن حميد بن المحدر، أنبأنا محمد بن حميد، أنبأنا عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن أبي سفيان الواسطي عن جابر وساق الحديث.
وأبو بكر محمد بن هارون يقول عنه السيد محسن الأميني (ناصبي منحرف)، وكان يعرف بالأغراب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) [183] .
وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أسعد: أبو أحمد الصوفي أنبأنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن محمد الصرّام أنبأنا أبو عمر محمد بن الحسين البسطافي، أنبأنا أبو بكر ابن عبد الرحمن الجارود الرقي، أنبأنا يونس بن عبد الأعلي وعلي أحمد بن حرب قالوا حدثنا سفيان أنبأنا موسي قال سمعت الحسن يتحدث عن أبي بكرة قال، (الحديث).
أحمد بن عبد الرحمن: اتفق كل من صاحب كتاب تاريخ البغدادي جزء 1، ص247، وصاحب كتاب ميزان الاعتدال جزء 1، ص55، وصاحب كتاب اللئالي المصنوعة جزء 1، ص172: علي أنه (كذّاب وضّاع).
... أنبأنا عمرو بن هشام، أنبأنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة (الحديث).
وعمرو بن عبيد: هو أبو عثمان المعتزلي البصري المتوفي 144، كان من الكذابين الآثمين مبتدعاً ولا كرامة له.
وقد ذكر ذلك أو شبهه البغدادي في تاريخه جزء 2، ص182، وصاحب كتاب نصب الراية جزء 1، ص49، والغدير جزء 5، ص249.
4ـ في صفحة 131 ذكر ابن عساكر وأخبرنا أبو عبد الله الغراوي أنبأنا أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو القاسم علي بن المؤمل الماسر جرسي، أنبأنا محمد بن يونس القرشي أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري أنبأنا أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أبي بكرة: الحديث).
محمد بن يونس الكريمي القرشي أحد الحفّاظ الأعلام بالبصرة المتوفي 286هـ كذّاب يضع الحديث. عن النبي (صلّي الله عليه وآله) وعلي الثقات. قال ابن حبّان: قد وضع اكثر من ألف حديث.
ورد ذلك في كل من تاريخ بغداد جزء3، ص441، وتذكرة الموضوعات ص14، 18، وشذرات الذهب للمكي جزء2، ص194، وميزان الاعتدال للذهبي جزء3، ص152، واللئالي المصنوعة للسيوطي جزء 2، ص142، وص215، وطبقات الحفّاظ للذهبي جزء2، ص175.
5ـ وفي صفحة 212 أورد ابن عساكر أنه... أنبأنا أبو أيوب صاحب البصري أنبأنا حمّاد بن زيد، عن علي بن يزيد، وهاشم، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: وساق الحديث.
علي بن زيد: قال عنه ابن حبّان يروي الموضوعات عن الإثبات فإذا روي عن علي بن يزيد أتي بالطّامات، وأضاف وإذا اجتمع في إسناد خبر عبد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لم يكن متن الخبر إلا ما عملته أيديهم من كتاب تهذيب التهذيب جزء 7، ص13.
وقال الأميني في الغدير جزء 7، ص287 ممّا اجتمع فيه هؤلاء الثلاثة فهو ممّا عملته أيديهم).
وهشام: هو هشام بن عمّار أبو اليد السلمي فقيه دمشق وخطيبها ومحدثها، قال أبو داوود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل له. عن كتاب شذرات الذهب للمكي، جزء2، ص110.
وهناك عدد من رجال السند المرتبطين بالبيت الأموي أمثال يحيي بن سعد الأموي وعبد الله بن الحسن بن أحمد الأموي ويونس وأمثال هؤلاء الذين مارسوا الوضع في مدح معاوية وزوّروا الروايات البعيدة عن العقل والمنطق في تلميع آل سفيان وآل العاص وغيرهم.
إما عن اصل الرواية، ونحن إذ نعتقد بوضعيتها ولنا في ذلك ثلاث أمور:
أولاً: من سياق الحديث نفهم علي أن الإمام الحسن (عليه السلام)، وكأنه اليد المباشرة في إدارة دفّة الصلح وصاحب المبادرة في تنفيذه، بينما نعلم تعييناً ومن خلال الوقائع التاريخية التي حصلت في عهد الإمام (عليه السلام) والنزاع الدار مع معاوية أن الإمام (عليه السلام) اضطر إلي القبول بالحل السلمي بعد أن استنفذ كافة الحلول الأخري في ردع العدوان الأموي علي الدولة الإسلامية والذي جاء نتيجة انهيار القدرة العسكرية في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وتتابع حالات الهزيمة والانفراط في قطاعات الجيش كلما اقتربت مرحلة الحرب من ساعة الصفر حتي أصبح الإمام (عليه السلام) غير قادر علي حشد عترة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وكما ورد قوله فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردي بالعظمة لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية ونيّات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نيّة افتراق لأجاهدنّ بالسيف قدماً قدماً ولأضيقنّ من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها... ثم يقول الإمام الصادق (عليه السلام): فلم يجبه سوي عشرون رجلاً قاموا فقالوا له: يا ابن رسول الله ما نملك إلا أنفسنا وسيوفنا فها نحن بين يديك لأمرك طائعون وعن رأيك صادرون فمرنا ما شئت! فقال الإمام الحسن (عليه السلام): فنظرت يمنة ويسرة فلم أر أحداً غيرهم.
فقلت: لي أسوة بجدّي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين عبد الله سرّاً وهو يومئذٍ في تسعة وثلاثين رجلاً فلما أكلم الله له الأربعين صار في عدة وأظهر أمر الله فلو كان معي عدتهم جاهدت في الله حق جهاده.
إذن لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) مختاراً لهذا الصلح بل كان صلحاً مفروضاً بعد أن تصدعت إرادة الأمة ثم انهارت وابتعدت عن ساحة الصراع والمواجهة.
ومن جهة ثانية إن الحديث يشير إلي أن الإمام الحسن (عليه السلام) يصلح بين فئتين وكأنه (عليه السلام) خارج دائرة الصراع أو أن الأهداف التي من أجلها وقع النزال ليست موضع اهتمام الحسن (عليه السلام) ولا ترتبط به بصورة مباشرة، وهذا نوع من التهميش لحقيقة الصراع!!
ثانياً: أن الحديث ذكر بأن الإمام الحسن (عليه السلام) يصلح بين فئتين عظيمتين. ولا ندري أين موارد العظمة في هاتين الفئتين فإن كان بالحجم فقد ذكر الإمام الحسن (عليه السلام) فيما سبق أنه لم يتمكن من حشد سوي عشرين رجلاً، إضافة إلي انسحاب الآلاف من جبهات الحق وتوجهت نحو جبهة معاوية.
علاوة علي ذلك، إن في حال إبرام معاهدة الصلح ـ كما يذكر الحديث ـ لم تكن هناك بالفعل فئتان عظيمتان بل إن الدافع الرئيسي لإبرام الصلح أن فئة الإمام الحسن (عليه السلام) كانت ضعيفة وقليلة للغاية حتي أنه لم يحصل علي النصاب والعدة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) وهي أربعون رجلاً.
أما إذا كان مورد العظمة علي أساس المنزلة فلا أعلم بأن المصادر التاريخية أشارت إلي مورد واحد يدلّ علي عظمة فئة معاوية بل علي العكس من ذلك كانت موضع الإنكار واللعنة والثبور والأدلة علي ذلك مستفيضة منها:
قوله (صلّي الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (تقتلك الفئة الباغية).
وقوله (صلّي الله عليه وآله) له أيضاً: (إن عماراً مع الحق والحق معه، يدور عمار مع الحق كما دار، وقاتل عمار في النار) [184] .
ويقول ابن حجر في تفسير حديث الرسول (صلّي الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (فهذا إخبار من الصادق الصدوق أن معاوية باغ علي عليّ، وإن عليّاً هو الخليفة الحق) [185] .
ويقول ابن حجر في تفسير حديث الرسول (صلّي الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (فهذا إخبار من الصادق الصدوق أن معاوية باغ علي عليّ، وإن علياً هو الخليفة الحق) [186] .
ويقول ابن حجر: قوله (صلّي الله عليه وآله): (إنه يدعوهم إلي الجنة وهم يدعونه إلي النار)، بالضرورة أن الذي دعاهم عمار إلي ذلك هم فئة معاوية. فحكمه (صلّي الله عليه وآله): بأنهم يدعونه إلي النار صريح في أنهم علي ضلال) [187] .
فكيف يصح إطلاق العظمة علي فئة معاوية وهي التي قتلت عماراً وحجراً بن عدي وأصحابه ومالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر وثلة من خالص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)!!
ثالثاً: من خلال استعراض الوقائع التاريخية منذ فتح مكة وحتي توقيع اتفاقية الصلح نجد أن بني أمية كانوا يكيدون للإسلام وأهله وإنما رفعوا شعار الإسلام رهبة وتضليلاً في سبيل تحقيق مطامع الجاهلية، وقد لعن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) أبا سفيان وابنيه عتبة ومعاوية في حادثة الناقة، ولمّا تولي معاوية ولاية الشام في عهد الخليفة عمر اقتطعها لنفسه ولم تدن لحظة واحدة للدولة الإسلامية بل أصبحت الشام مملكة أموية ولما وصل عثمان بن عفان إلي الخلافة عقد أبو سفيان اجتماعاً سرياً ضمّ أفراد قبيلة بني أمية في دار الخليفة عثمان فقال أبو سفيان: تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان لا من جنّة ولا نار ولما عاد الحق إلي نصابه ورجعت الخلافة إلي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بدأت المؤامرات تعتمل في نفس معاوية وكان لا يزال والياً علي الشام فنشبت الحروب ضد حكومة العدل الإلهي وأشدّ هذه الحروب فتكاً بالمسلمين كانت حرب صفين كما مر ذكر بعض منها.
فنخلص ممّا سبق أن فئة معاوية التي كفرت بالولاية وشنّت الحرب علي الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) ولم تدن قط للدولة الإسلامية ليست هي الفئة المسلمة كما يذكر الحديث علاوة علي ذلك أن الصلح الذي تمّ في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) انتهي إلي تسلم معاوية الخلافة منتزعاً الولاية الشرعية من الإمام الحق الذي نصّبه رسول الله (صلّي الله عليه وآله) من قبل الباري عز وجل فكيف يصلح الإمام الحسن (عليه السلام) بين فئتين من المسلمين علي أمر ليس لأحد سوي الله الحق في إقراره، فلم يجعل سبحانه وتعالي لأحد من بعده وحتي أشرف رسله وأعز خلقه محمد (صلّي الله عليه وآله) الحق في تغييره أو المساومة عليه كيف به وقد جعل هذا الأمر مرتبطاً بمصير الرسالة الإسلامية وبكمال الدين.
وهو أمر أراد منه رواة هذا الحديث تهميشه حتي وكأن القارئ لهذا الحديث يعتقد بأن موضع النزاع كان بسيطاً وهيناً كنزاع بين أسرتين علي قطعة أرض فيقوم الإمام الحسن (عليه السلام) بتسوية الخلافات هذه وإنهاء الحرب بين الطرفين: كلاّ فالأمر ليس كذلك مطلقاً بل هو المعيار الأول والأخير في الإيمان برسالة محمد (صلّي الله عليه وآله) ولن يكون المرء مسلماً حتي يقرّ بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده.
والآن نرجع إلي ما سبق الحديث عنه حول مجريات أحداث اتفاقية الهدنة، فبعد أن سجّل الإمام (عليه السلام) شروطه في الوثيقة التي بعثها معاوية مع عبد الله بن عامر بعد أن ختمها بمهره وأرسلها إلي الإمام (عليه السلام) قام الإمام بعد ذلك بإرسال وثيقة الشروط إلي معاوية فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والأيمان المغلظة، وأشهد علي ذلك جميع رؤساء أهل الشام ووجه به إلي عبد الله فأوصله إلي الحسن [188] .
وفي طريقه إلي الكوفة لإبرام اتفاقية الهدنة، سار معاوية من الشام حتي نزل النخيلة (معسكر الكوفة) وكان ذلك اليوم جمعة، فخطب في الناس قائلاً: (ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها علي أهل حقها.
فتوقف معاوية قليلاً وشعر بخطورة ما قاله وكأنما كشف عن حقيقة مخططه فاستدرك قائلاً: (إلا هذه الأمة فإنها.. وإنها.. الخ، فاختلط عليه الأمر فلم يع ما يقول، فعاود الحديث سريعاً لاستدراك الموقف فقال: (إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها وذكر المدائني أن معاوية قال: (... إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول وكل شرط أشرطته فتحت قدمي هاتين ولا يصلح للناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فإن لم تغزوهم غزوكم) [189] .
وبذلك أعلن معاوية في هذه الخطبة عن خيانته لكل الوعود والأيمان المغلظة والمواثيق والعهود التي أخذها علي نفسه بالالتزام بكل شروط اتفاقية الهدنة.
وهذه كانت بداية افتضاح أمر معاوية لدي الرأي العالم الإسلامي ـ آنذاك ـ وقد سجلت هذه المبادرة الخيانة من معاوية، نقطة قوة لصالح الحركة الرسالية وقيادتها المتمثلة في الإمام الحسن (عليه السلام).
حيث أن هذه النقطة يمكن الاستفادة منها في تعرية نظام معاوية وتوظيفها في حركة التغيير.
وعندما وصل معاوية إلي الكوفة، وفي اليوم المقرر احتشد الناس من كل مكان ليشهدوا توقيع اتفاقية الهدنة، وقد شكل المحفل الجماهيري ـ يومئذ ـ ورقة ضغط علي معاوية للالتزام ببنود اتفاقية الهدنة إلا أن الحركة الرسالية والإمام الحسن (عليه السلام) كان يعلم بأن معاوية لن يلتزم بالشروط فيما بعد.
فبعد أيام من توقيع اتفاقية الهدنة جاء معاوية إلي المسجد في الكوفة وصعد المنبر ثم نال من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما نال من الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) حاضرين في المسجد فقام الحسين (عليه السلام) ليرد علي معاوية فأخذ الحسن (عليه السلام) بيد أخيه الحسين (عليه السلام) وأجلسه ثم قام الإمام الحسن (عليه السلام) فقال لمعاوية! (أيها الذاكر عليّاً أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً، وشرنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً. فقال طوائف من أهل المسجد آمين... آمين) [190] .
ثم طلب معاوية من الإمام (عليه السلام) أن يصعد المنبر ويخبر الناس بأنه رأي معاوية أهلاً للخلافة دونه فصعد الإمام (عليه السلام) المنبر وخطب في الناس وقال: (الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدي، وائتمنه علي الوحي (صلّي الله عليه وآله)).
(أيها الناس: إن الله هداكم بأوّلنا، وأحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، قال عز وجل لنبيه محمد (صلّي الله عليه وآله): (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَي سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) [191] ، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَي حِينٍ) [192] .
أيها الناس: إنّ معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، نحن أولي الناس بالناس في كتاب الله عزّ وجلّ وعلي لسان نبيه، ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثّب علي رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء ومنع أمّنا ما جعل إليها رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعت فيها ـ يا معاوية ـ فلما خرجت من معدنها وتنازعت قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء، وأبناء الطلقاء، وأنت وأصحابك، وقد قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله): (ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتي يرجعوا إلي ما تركوا) فقد ترك بنو إسرائيل، هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسي فيهم، واتبعوا السامري وتركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله يقول (أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا النبوة). وقد رأوا رسول الله نصّب أبي يوم غدير خم، وأمرهم أن يبلّغ أمره الشاهد الغائب. وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم إلي الله حتي دخل الغار ولو أنه وجد أعواناً لما هرب، وقد كفّ أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً، وكذلك أبي وأنا في سعة حين خدعتنا هذه الأمة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً) [193] .
فو الذي بعث محمداً بالحق، لا ينتقص من حقّنا ـ أهل البيت ـ أحدٌ إلا نقصه الله من علمه، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة وليعلمنّ نبأه بعد حين [194] .
أيها الناس إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلا من ولدني غيري وغير أخي [195] .
وقبل كل شيء، فإن الإمام الحسن (عليه السلام) قد سفّه أحلام معاوية في أن يرضخ لمطلبه بعد انتهاكه السافر لشروط الاتفاقية ولذلك فإن الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة أظلم نهار معاوية، كما شرح مشكلة الأمة الإسلامية الحقيقية وكشف عن هوية المنتزين علي كراسي الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية، حتي جلس معاوية حائراً لا يدري ما يصنع فقد أحاط المكر السيئ بأهله.
وفي اليوم التالي جاء معاوية إلي المسجد وصعد المنبر وخطب ثم طلب من الإمام الحسن (عليه السلام) أن يصعد المنبر وصاح بالناس: أيها الناس هذا الحسن بن علي وابن فاطمة رآنا للخلافة أهلاً ولم ير نفسه لها أهلاً وقد أتانا ليبايع طوعاً فقام الحسن (عليه السلام) وكان الحاضرون قد شدّوا أنظارهم إلي الإمام (عليه السلام) وتقدم (عليه السلام) إلي المنبر فصعد وما نزل إلا وقد أظلمت الدنيا علي معاوية فقد قال الإمام الحسن (عليه السلام) في خطبته:
(الحمد لله المستحمد بالآلاء وتتابع النعماء، وصارف الشدائد والبلاء عن الفهماء وغير الفهماء، المذعنين من عباده لامتناعه بجلاله وكبريائه وعلوّه عن لحوق الأوهام ببقائه، المرتفع عن كنه تظنيات المخلوقين، من أن تحيط بمكنون عينه روايات عقول الرائين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده في ربوبيته ووجوده ووحدانيته، صمداً لا شريك له، فرداً لا ظهير له معه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه وانتجبه وارتضاه وبعثه داعياً إلي الحقّ، سراجاً منيراً، وللعباد ممّا يخلفون نذيراً، ولما يأملون بشيراً، فنصح للأمة، وصدع بالرسالة، وأبان لهم درجات العمالة، شهادة عليها أموت وأحشر، وبها في الآجلة أقرب وأحبر، وأقول معشر الخلائق فاسمعوا ولكم أفئدة وأسماع فعوا، إنا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام واختارنا واصطفانا واجتبانا فأذهب عنّا الرجس وطهرنا تطهيراً، والرجس هو الشك، فلا نشك في الله الحق ودينه أبداً، وطهرنا من كلّ آفن، وعيبة مخلصين إلي آدم نعمة منه، لم يفترق الناس قط فرقتين إلا جعلنا الله في خيرها، فأدت الأمور وأفضت الدهور، إلي أن بعث الله محمداً بالنبوة واختاره للرسالة، وأنزل عليه كتابه، ثم أمره بالدعوء إلي الله تعالي، فكان أبي أول من استجاب لله ولرسوله، وأول من آمن وصدّق الله ورسوله، وصدق الله تعالي في كتابه المنزل علي نبيّه المرسل: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) [196] وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه، وقد قال له رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حين أمره أن يسير إلي مكة والموسم ببراءة (سر بها يا علي فإني أمرت أن لا أسير بها إلا أنا أو رجل مني وأنت هو) [197] فعليّ من رسول الله ورسول الله منه، وقال له نبيّ الله حين قضي بينه وبين أخيه جعــــفر بن أبي طالب ومولاه زيد بن حارثة في ابنه حــــمزة (أما أنت يا علي فمني وأنا منك، وأنت ولــــيّ كلّ مؤمن من بعـــدي) [198] فصدّق أبي رسول الله سابقاً ووقاه بنفسه، ثم لم يزل رسول الله في كل موطن يقدمه ولكل شديدة يرسله، ثقة منه به وطمأنينة إليه، لعلمه بنصيحته لله ورسوله، وأنّه أقرب المقرّبين من الله ورسوله، وقد قال الله عزّ وجل: (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [199] فكان أبي سابق السابقين إلي الله عز وجل، والي رسوله، وأقرب الأقربين وقد قال الله تعالي: (لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً...) [200] .
أبي كان أوّلهم إسلاماً، وإيماناً وأوّلهم إلي الله ورسوله هجرة ولحوقاً وأوّلهم علي وجده ووسعه نفقة قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [201] .
فالناس من جميع الأمم يستغفرون له بسبقه إيّاهم إلي الإيمان بنبيه، وذلك أنّه لم يسبقه إلي الإيمان به أحد، وقال الله تعالي: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [202] .
فهو سابق جميع السابقين فكما أنّه عز وجل فضل السابقين علي المتخلفين والمتأخرين فكذلك فضل سابق السابقين، وقد قال الله عز وجل: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [203] .
فهو المجاهد في سبيل الله حقاً وفيه نزلت هذه الآية، وكان ممن استجاب لرسول الله، عمّه حمزة، وجعفر ابن عمّه، فقتلا شهيدين رضي الله عنهما، في قتلي كثيرة معهما من أصحاب رسول الله، فجعل الله تعالي حمزة سيد الشهداء من بينهم، وجعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء من بينهم، وذلك لمكانهما من رسول الله ومنزلتهما وقرابتهما منه، وصلي رسول الله علي حمزة سبعين صلاة، من بين الشهداء الذين استشهدوا معه، وكذلك جعل الله تعالي لنساء النبي المحسنة منهن أجرين، وللمسيئة منهن وزرين ضعفين لمكانهن من رسول الله وجعل الصلاة في مسجد رسول الله بألف صلاة في سائر المساجد، إلا المسجد الحرام مسجد خليله إبراهيم بمكة، وذلك لمكانة رسول الله من ربّه، وفرض الله عز وجل الصلاة علي نبيه علي كافة المؤمنين فقالوا يا رسول الله كيف الصلاة عليك، فقال (صلّي الله عليه وآله): (قولوا اللّهم صلي علي محمد وآل محمد) فحقّ علي كل مسلم أن يصلّي علينا مع الصلاة علي النبي فريضة واجبة، وأجلّ الله تعالي خمس الغنيمة لرسول الله وأوجبها له في كتابه، وأوجب لنا من ذلك ما أوجب له، وحرّم عليه الصدقة وحرّمها علينا معه، فأدخلنا ـ وله الحمد ـ فيما أدخل فيه نبيه، وأخرجنا ونزّهنا ممّا أخرجه منه ونزّهه عنه، كرامة أكرمنا الله عزّ وجلّ بها، وفضيلة فضّلنا بها علي سائر العباد، فقال الله تعالي لمحمد حين جحده كفرة أهل الكتاب وحاجّوه: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ) فأخرج رسول الله من الأنفس معه أبي، ومن البنين أنا وأخي، ومن النساء أمي فاطمة، ومن الناس جميعاً، فنحن أهله، ولحمه، ودمه، ونفسه، ونحن منه، وهو منّا، وقد قال الله تعالي: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). فلما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله أنا وأخي وأمي وأبي فجلّلنا ونفسه في كساء لأمّ سلمة خيبري، وذلك في حجرتها وفي يومها، فقال: (الهم هؤلاء أهل بيتي، وهؤلاء أهلي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). فقالت أم سلمة: أأدخل معهم يا رسول الله؟ فقال لها رسول الله: يرحمك الله أنت علي خير وإلي خير، وما أرضاني عنك، ولكنها خاصة لي ولهم. ثم قالها رسول الله بعد ذلك بقية عمره، حتي قبضه الله، يأتينا في كل يوم عند طلوع الفجر فيقول: (الصلاة يرحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) وأمر رسول الله بسدّ الأبواب الشارعة في مسجده غير بابنا، فكلموه في ذلك فقال: (أما إني لم أسدّ أبوابكم، ولم أفتح باب عليّ من تلقاء نفسي،ولكنّي أتبع ما يوحي إليّ، وإنّ الله أمر بسدّها وفتح بابه) فلم يكن من بعد ذلك أحد تصيبه جناية في مسجد رسول الله ويولد فيه الأولاد، غير رسول الله، وأبي علي بن أبي طالب، تكرمة من الله تعالي، وفضلاً اختصّنا به علي جميع الناس، وهذا باب أبي قرين باب رسول الله في مسجده فبني فيه عشرة أبيات، تسعة لنبيه وأزواجه وعاشرها وهو متوسطها لأبي، وهاهو بسبيل مقيم، والبيت هو المسجد المطهّر، وهو الذي قال الله تعالي: (أَهْلَ الْبَيْتِ)، فنحن أهل البيت، ونحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيراً...).
أيها الناس: إنه لا يعاب أحد بترك حقّه، وإما يعاب أن يأخذ ما ليس له، وكلّ صواب نافع وكل خطأ ضار لأهله وقد كانت القضية ففهمناها سليمان، فنفعت سليمان، ولم تضرّ داوود فأمر القرابة فقد نفعت المشرك وهي والله للمؤمن أنفع.
أيها الناس: اسمعوا وعوا، واتقوا الله وراجعوا، وهيهات منكم الرجعة إلي الحقّ، وقد صارعكم النكوص، وخامركم الطغيان، والجحود أنلزمكموها وأنتم لها كارهون. والسلام علي من اتبع الهدي.
فقال معاوية: والله ما نزل الحسن حتي أظلمت عليّ الأرض وهممت أن أبطش به، ثم علمت، أن الإغضاء أقرب إلي العافية [204] .
وفي هذه الخطبة الرائعة التي حملت من المعاني أجلاها وأعظمها ومن الحكم أوثقها وابلغها نجد فيها تركيزاً علي جانبين مهمين وهما:
أولاً: تبيان حقوق أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم وقرابتهم من رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وواجب المسلمين جميعاً في عقد الحب والولاء لهذا البيت الطاهر، وجريمة الفصل بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين رسول الله (صلّي الله عليه وآله).
ثانياً: إغفال الأمة في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) لهذه الحقوق ونكوصها عن الوقوف إلي جانب الإمام علي (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) في المحن الشديدة والفتن الخطيرة التي عصفت رياحها بالدولة الإسلامية، فتخاذلت الأمة عن النهوض ومقاومة القوي المناوئة لأهل البيت (عليهم السلام)، وجمدت عن قطع دابر المخططات الأموية التي كانت تتربص الدوائر للإطاحة بالنظام الإسلامي واقامة نظام جاهلي قبلي تنبعث فيه قيم الشر ونزعات الفتنة...
ثم جاء معاوية في يوم آخر إلي المسجد، فطلب من الإمام الحسن (عليه السلام) وبإصرار أن يصعد المنبر ويمتدحه، فقام الإمام (عليه السلام) وصعد ثم قال (عليه السلام): (الحمد لله الذي توحّد في ملكه وتفرّد في ربوبيته يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قيماً وحديثاً أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم أيها الناس: إن رب عليّ كان أعلم بعليّ حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعهدوا بمثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات طال ما قلبتم له الأمور، حتي أعلاه الله عليكم، وهو صاحبكم، وعدوّكم في بدر وأخواتها، جرّعكم رنقاً، وسقاكم علقاً، وأذلّ رقابكم، وأشرقكم بريقكم فلستم بملومين علي بغضه.
وأيم الله لا تري أمة محمد خصباً، ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد وجّه الله إليكم فتنةً، لن تصدوا عنها حتي تهلكوا، لطاعتكم طواغيتكم وانضوائكم إلي شياطينكم، فعند الله احتسب ما مضي، وما ينتظر من سوء رغبتكم، وحيف حكمكم.
يا أهل الكوفة: لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائب علي أعداء الله، نكّال علي فجّار قريش، لم يزل آخذ بحناجرها، جاثماً علي أنفاسها ليس بالملومة في أمر الله، ولا بالسروقة لمال الله، ولا بالغروقة في حرب أعداء الله أعطي الكتاب خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتّبعه لا تخذه في الله لومة لائم فصلوات الله عليه ورحمته [205] .
الذي يحدق النظر في كلام الإمام الحسن (عليه السلام) يجد أنه (عليه السلام) في كل مرة يطلب منه معاوية صعود المنبر ومدحه، يبدأ الإمام (عليه السلام) بذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) والتركيز علي ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفضائله وخسارة الأمة الإسلامية حينما ضيعت الولاية وأفسحت المجال لسيطرة بني أمية عليها. كما نجد أن الإمام (عليه السلام) يخصص في حديثه عن الإمام أمير المؤمنين جانب القيادة وعلاقة الراعي مع الرعيّة، والتي أراد الإمام الحسن (عليه السلام) من تسليط الضوء علي هذا الجانب لبث الوعي في جماهير الكوفة لما سيجري من مخاطر وأزمات ستهدد مستقبل الأمة في ظل السيطرة الأموية علي دفة الحكم.

الامام الحسن و ردود الفعل

اشاره

ظهرت بعض ردود الفعل بعد توقيع الإمام الحسن (عليه السلام) اتفاقية الهدنة مع معاوية وردود الفعل هذه جاءت من قبل الطليعة الرسالية والتيار الجماهيري المتعاطف مع الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام)، ممّا استدعي الأمر أن يتصدي الإمام (عليه السلام) لإزالة الغموض واللّبس الذي قد لف مسألة الهدنة والإجابة علي الأسئلة التي كانت تدور في أذهان الطليعة وتيار الجماهير المتعاطف...
فقد اتخذت بعض العناصر الطليعية وجمع من المتعاطفين مع الإمام (عليه السلام) موقفاً متذمراً تجاه هدنة الإمام (عليه السلام) مع معاوية، وراح بعضهم يعنف القول للإمام (عليه السلام) دونما وعي بالظروف القائمة والموضوعية.
وقد اعتمد الإمام الحسن (عليه السلام) لمواجهة ردود الفعل تلك، حسب موقع الفرد ـ قرباً أو بعداً ـ من القيادة، لذلك كان جواب الإمام (عليه السلام) لطليعته أمثال عدي ابن حاتم، وقيس بن سعد، وسليمان بن صرد، وحجر بن عدي وغيرهم، يختلف عن جوابه (عليه السلام) لذلك الإنسان المتعاطف مع الإمام (عليه السلام) فكل حسب موقعه وقدرته علي استيعاب الجواب وفهم ابعاده.

التيار الجماهيري المتعاطف

جاء قوم من الشيعة إلي الإمام الحسن (عليه السلام) في طلب الإذن منه لقتال معاوية بعد الهدنة فقال لهم الإمام (عليه السلام): (أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، فلو كنت بالحرام في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أركض وأنصب ما كان معاوية بأبأس مني بأساً ولا أشد شكيمة، ولا أمضي عزيمة، ولكني أري غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله، وسلّموا الأمر له وألزموا بيوتكم وأمسكوا) [206] .
ونجد في جواب الإمام (عليه السلام) هذا بالرغم من أنه حديث عام للقوم من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) إلا أنه يتضمن مسألتين هامتين وهما:
أولاً: أن الصراع الذي يواجه الطليعة الرسالية، ليس صراعاً سياسياً يرتبط بالسلطة والمنصب، بل هو صراع القيم والمبادئ الرسالية مع الثقافة الجاهلية، لذلك فهو يتطلب إمكانيات وطاقات مناسبة لتغيير الواقع الفاسد في الأمة علي مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية... وغيرها.
والواضح من كلام الإمام (عليه السلام) إن هذا القوم الذي جاء لطلب الإذن من الإمام (عليه السلام) لقتال معاوية، كان يحمل بعداً واحداً في صراعه، وهو البعد السياسي بمعني السيطرة علي السلطة وإسقاط معاوية.
ثانياً: إن الصراع ليس عملية انتحارية أو مجازفة غير محسوبة العواقب، بل هي عملية طويلة المدي، تتطلب وسائل وإمكانيات هائلة في سبيل إدارة الصراع بصورة جيدة، كما أنه بحاجة إلي أفراد وكفاءات وتضحيات وعمل متواصل ومنظم ومؤسسات تتجاوز الحواجز الإرهابية، وإدخال المجتمع في دائرة الصراع إلي غيرها من العوامل المؤدية إلي تغيير الواقع الفساد في الأمة.
إلا أن تكون هناك فئة انتحارية يكون همها القيام بعمليات ثورية دونما اكتراث إلي الجوانب الأخري من الصراع، فإن هذه الفئة تنتهي بسرعة، وإذا بقيت فإنها لن تصل إلي الأهداف الحقيقية في الصراع. كما أن هذه الفئة لن ـ والحال هذه ـ عن إرادة الجماهير بل قد تنقلب الجماهير ضدها وذلك لأنها أغفلت منذ البداية جانب نوعية الجماهير وتهيئة أفراد المجتمع لخوض الصراع وإن الانتكاسات التي ستصيب هذه الفئة لن تثير حفيظة الجماهير أو عاطفتها كون هذه الجماهير لم تفهم أهداف وتطلعات هذه الفئة في خوضها الصراع بل قد تعتبره صراعاً علي المنصب والسلطان كما يحدث غالباً للصراعات الطرفية والفئوية ضد السلطة.
وفد قوم من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) فلاموا الإمام (عليه السلام) لتسليمه زمام السلطة إلي معاوية وأعنفوا القول للإمام (عليه السلام) فقال لهم: (ويحكم ما تدرون ما عملت؟ والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أني إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، قالوا: بلي، قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار، وقتل الغلام، كان ذلك سخطاً لموسي بن عمران، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك وكان ذلك عند الله تعالي ذكره حكمةً وصواباً؟ أما علمتم أنّه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسي بن مريم؟ فإن الله عز وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه، لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة، إذا خرج ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة النساء يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون الأربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله علي كل شيء قدير) [207] وهنا يشير الإمام (عليه السلام) في جوابه للقوم، قضية مركزية وحساسة وهي موقع القيادة في المجتمع، وأسلوب تعامل الجماهير مع قرارات هذه القيادة.
فقد تصاب الجماهير ـ أحياناً ـ بحالة مرضية وهي المزاجية في قبول أو رفض القرارات القيادية والتي يرجع أحد أسبابها إلي عدم وعي القرار، أو عدم فهم أبعاده الإيجابية المختلفة.
فما دام أن هناك قيادة في الأمة تعمل علي أساس تطبيق الإسلام في واقع المجتمع، وتغيير نظام الواقع الفاسد، فالمطلوب من أبناء الأمة إسناد ودعم قيادتها الشرعية، بدل التشكيك أو التردد في ذلك، ولا يعني ذلك صنمية القرار أو تقديس القائد بقدر ما هو التفاعل مع القضية المشروعة التي آمنت بها الجماهير منذ البدء.
في الواقع أن من أخطر الآفات التي تفتك بالمجتمع هي في أن يضع أفراد المجتمع مختلف التبريرات في التعامل مع القرارات ممّا يسبب في إضعاف موقع القيادة وبالتالي تفتيت الوحدة الاجتماعية المنبعثة من قوة مركز القيادة في الأمة.
والواقع أن الأمة التي تضع ثقتها في قيادتها، فهي التي تصل إلي أهدافها بسرعة وبنجاح. كونها لم تبحث في تفصيلات كل قرار يصدره القائد فتتردد في اتباعه بل مسكت بأزمة القرار بقوة وإخلاص وتفهم.
وجاء بعض من الشيعة إلي الإمام (عليه السلام) فابتدروا بالقول: يا مذل المؤمنين، ويا مسود الوجوه، فما كان جوابه إليهم إلا أن قال: لا تعزلوني، فإن فيها مصلحة، ولقد رأي النبي (صلّي الله عليه وآله) في منامه، أنه يخطب بنو أمية واحد بعد واحد فحزن، فأتاه جبرائيل فقال له: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) و(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [208] .
إن الإمام (عليه السلام) وبالرغم من قبح كلام القوم له والذي لا يعبر سوي عن غياب الوعي عن فهم القرار، فضلاً عن فهم وإدراك موقع الإمام (عليه السلام) ومكانته في الأمة، مع ذلك يجيب الإمام (عليه السلام) علي هؤلاء حسب مستوي إدراكهم بأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد أخبره عن تسلط بني أمية علي هذه الأمة.

موقف الإمام مع الطليعة

عدي بن حاتم

جاء عدي بن حاتم أحد طليعة الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: (يا ابن رسول الله لوددت إني مت قبل ما رأيت أخرجتنا من العدل والجور، فتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا.
فرد الإمام (عليه السلام) قائلاً: (يا عدي: إني رأيت هوي معظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم علي ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحروب إلي يوم ما، فإن الله كلّ يوم هو في شأن).
وقد أراد الإمام (عليه السلام) من ذلك أن يلفت انتباه عدي إلي سبب إقدامه علي توقيع اتفاقية الصلح مع معاوية وهي انثيال معظم الناس نحو فكرة الصلح والهروب من الحرب ممّا وضع الإمام (عليه السلام) إزاء الأمر الواقع.
بعدها يخبر الإمام (عليه السلام) عن إرجاء الحرب ضد معاوية إلي يوم آخر، لأن الجماهير لم تكن مستعدة اليوم لأن تخوض مع الإمام (عليه السلام) الحرب ضد معاوية، ولكن الأيام دول والأمة بحاجة إلي إعداد جديد للدخول في الصراع.
وهنا كلمة نقولها وهي عندما يكون هناك بون شاسع بين منهج القيادة وهوي الجماهير، فإنّ الحال آنذاك يصبح أكثر تعقيداً من غيره، لأنه قد يضطر القائد ـ مكرهاً ـ للنزول إلي رغبة الجماهير، فإن القائد آنذاك يتمكن من امتلاك الحزم والقوة في إصدار القرار الصائب والمناسب لأن القوة الفعلية التي يستند عليها هي الجماهير.
ولقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) محنة شديدة، في مجتمع طاعته الهوي، ويخشي حرّ السيف، يرغب في السلم مع الذل، ويكره الحرب مع العز... وأمة هكذا حالها لا يمكن أن تستفيد من قائد يدعوها إلي غير الهوي التي هي عليه... وقائد مثل الإمام الحسن (عليه السلام) لم ير من الناس سوي الدعة واللهث وراء شهوات الدنيا وحب الذات، بعد أن أضاء لهم الطريق لكي يهتدوا إلي مواقع الظلمة... ولكن ماذا يمكن للإمام (عليه السلام) صنعه مع أناس استحبوا الضلالة علي الهدي واستهووا الظلام علي النور...، ولأن الجماهير ـ والحال هذه ـ كانت تحمل في داخلها ثقافة معاوية وليست ثقافة الإمام الحسن (عليه السلام) ولذلك كانت تفتش عن قائد ينمي فيها غريزة الهوي وحب الدنيا، والانصياع للنظام الحاكم سواء عن طريق نشر الثقافة الجامدة والفكر المنحدر، أو ترويج وسائل الترف الفكري، أو إشاعة الفساد بألوانه وأشكاله، وعن طريق إطلاق الدعوات الماكرة لترويض الجماهير وإبعادها عن ساحة الصراع، فإنّ هذه الأمة صعب منها أن تنبعث لتحمل مسؤولية التغيير الجذري في واقعها الذاتية وقدراتها المتاحة، وتطيع قياداتها وتسندها بكل إمكانياتها فإن مثل هذه الأمة تنتصر وتتغير، لأنها غيّرت ما في داخلها ونبذت كل ضلالات الثقافة الجاهلية والله سبحانه وتعالي يقول: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وحديث الإمام الحسن (عليه السلام) لعدي بن حاتم لا يخرج عن إطار تلك الأمة المتقاعسة والمخالفة لأمر إمامها وقائدها، فمصداقية القائد هي في طاعة الجماهير له، فإذا انتفت الطاعة، انتفي القائد أيّاً كان هذا القائد.

مالك بن ضمرة

جاء مالك فتلفظ بكلمات عنيفة، وألقي باللائمة علي الإمام (عليه السلام) فرد عليه الإمام (عليه السلام) بلطف وهدوء وقال له: (إني خشيت أن يجتثّ المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناع) [209] .
حكمة عظيمة، وقيمة بالغة قالها الإمام الحسن (عليه السلام) لمالك، ترتبط بجذور الصراع ويؤكد الإمام (عليه السلام) في جوابه علي أن الصراع ليس محرقة للأفراد، ولا الأفراد حطب في فرن الأحداث، لأن بذلك يخرج الهدف عن إطاره السليم والصحيح بل إنما هو في سبيل الإبقاء علي الرسالة الإلهية ونشر مبادئ وقيم الإسلام الفاضلة، وهذا يتم عبر وجود فئة رسالية قادرة علي أن تحمل راية الدين بصدق وإخلاص.
إذن الهدف من الصراع هو تحكيم شريعة الله في المجتمع بوجود فئة عاملة وقادرة علي تحقيق هذا الأمر أما أن يكون الصراع سبيلاً لاقتحام الأفراد في أتون معركة خاسرة تؤدي إلي تصفية المجتمع من العاملين والدعاة وبالتالي تغييب الدين، وإلغاء الشريعة، فإن هذا الصراع.. يكون للمصلحة لا للمبدأ. والإمام (عليه السلام) الذي أخبر أن هناك فئة محدودة في المجتمع هي طليعة الإمام (عليه السلام) التي تقبل خوض الحرب ضد معاوية، فإن الإمام (عليه السلام) لم يكن يفرط في حياة هذه الطليعة، التي ستتولي الحفاظ علي الدين وتبليغ رسالته، هذا بالإضافة إلي أن هناك تياراً جماهيرياً ما زال يحمل ولاءً عاطفياً لأهل البيت (عليهم السلام) يمكن الاستفادة منه في المستقبل بعد تنمية هذا الولاء العاطفي إلي ولاء حقيقي فعلي للعمل والتحرك.

حجر بن عدي

جاء حجر بعد توقيع اتفاقية الهدنة إلي مجلس معاوية ليبايع وكان الإمام الحسن (عليه السلام) حاضراً في المجلس فالتفت حجر إلي الإمام (عليه السلام) وقال: (أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا).
ثم خرج الإمام الحسن (عليه السلام) ولقي حجراً فخلي به يخبره عن الهدف من وراء اتفاقية الهدنة.
فقال (عليه السلام): يا حجر قد سمعت كلامك في مجلس معاوية وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلا إبقاءً عليكم والله تعالي كل يوم هو في شأن) [210] .
إن للعلاقة الوثيقة التي كانت تربط الإمام الحسن (عليه السلام) بحجر، دورها في أسلوب التعامل، لذلك نجد أن الإمام (عليه السلام) وقد سمع كلام حجر في مجلس معاوية، لم يكن يغفل عن كشف الغموض واللبس عند حجر، فيخلوا الإمام (عليه السلام) بحجر ويقول له بكلمات بسيطة تحمل أهدافاً في غاية الأهمية والتعبير الصادق.
ونحن هنا نتوقف مع هذه الكلمات العظيمة من الإمام (عليه السلام) والتي تخص الطليعة وتبين جانب مهم من تفكير الطليعة وما هي الحدود التي يجب علي أفراد هذه الطليعة مراعاتها الالتزام بها؟
نستفيد من موقف الإمام الحسن؟ مع حجر بن عدي، أن الطليعة في تحركها بحاجة إلي البصيرة والوعي بما يجري من أحداث وتغييرات في ساحة المجتمع، دونما الاكتفاء بالحالة الثورية، كونها كحالة متفاعلة في داخل أفراد الطليعة لا يمكن أن نتعامل مع أحداث ووقائع المجتمع وإذا لم تكن هناك بصيرة نافذة ووعي متقدم يستطيع استخدام الحالة الثورية في مكانها المناسب وفي زمانها المناسب.
وقد تصل بالطليعة حالة الثورية اللاواعية لممارسة العمليات الثورية المتطرفة في ساحة المجتمع فتتجاهل الطليعة ظروف المجتمع ودرجة وعيه بالأعمال الثورية. ممّا تسبب في قتل قابليات أبناء هذا المجتمع لعملية التغيير... لماذا؟ لأن الطليعة تعاملت مع المجتمع علي أساس ما تحمل من منهجية في التفكير وطريقة في التحرك فتتصرف من واقعها هي، وليس من واقع المجتمع أو الأخذ بنظر الاعتبار الظروف السائدة في الساحة الاجتماعية هذا مع العلم أن عملية التغيير لن تتم بقرار من الطليعة وحدها إذا لم يسندها الجماهير ورغبتها في ذلك.
والإمام الحسن (عليه السلام) يقول لحجر: (وليس كل إنسان يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك) ولأن الطليعة إنما سميت بذلك، لأنها تجاوزت الحواجز النفسية والثقافية وغيرها التي تقف أمام حركة المجتمع، ودور الطليعة يكون في تذويب هذه الحواجز حتي يتحول المجتمع بأكمله إلي مجتمع طليعي ولذلك فهو بحاجة إلي الدخول في عملية التغيير.
والإمام (عليه السلام) في حديثه مع حجر يقودنا إلي فهم عملية التغيير، وانها إنما تتم بمشاركة فئات المجتمع وذلك:
أولاً: إن عملية التغيير تتم في داخل المجتمع وليس خارجه بهدف تغيير المجتمع والصعود به إلي مستوي أفضل، وهذا يتطلب مساهمة فاعلة وشاملة من أبناء المجتمع ومن جهة ثانية إن التغيير في المجتمع ليس عميلة دراماتيكية أو دفعية، فالمجتمع إنما يتغير تدريجياً من خلال بناء الكوادر وتنظيم خلايا العمل وتوعية الجماهير ومد الجسور... الخ.
ثانياً: إن التغيير عملية شاقة وطويلة وليست سهلة وقصيرة، فتحتاج إلي طاقات وقدرات هائلة تتجاوز حدود الفئة، لأن عملية التغيير لا تقتصر علي إطار الفئة والطليعة، بل هي تتسع لتشمل أفراد المجتمع، وأن يكون العمل التغييري نافذ إلي كل الأصعدة والجوانب في المجتمع وليس صعيداً أو جانباً واحداً. كأن تقف عند حد الإصلاحات الجزئية والمعالجات النصفية، بل أن التغيير عملية شاملة لكل مرافق المجتمع.
وهذا مما يستدعي وجود فئات المجتمع في ساحة للتغيير الشامل.
والإمام (عليه السلام) في حديثه مع حجر بن عدي، يؤكد علي أن توقيع اتفاقية الهدنة للحفاظ علي حياة الطليعة في ظل غياب الجماهير عن ساحة المواجهة لذلك أن حكمة الإمام (عليه السلام) اقتضت عدم المجازفة بأفراد الطليعة في الحرب ضد معاوية.

ابوسعيد عقيقا

ينقل أبو سعيد لبعض أصحابه قصته مع الإمام الحسن (عليه السلام) حول مسألة الصلح مع معاوية ويقول: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): يا ابن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لمَ داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟
فقال: (يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالي ذكره علي خلقه وإماماً عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟ قلت: بلي، قال: ألست الذي قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ بلي، قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالي ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا تري الخضر (عليه السلام) لمّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسي (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتي أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا علي وجه الأرض أحداً إلا قُتل) [211] .
وهنا يشير الإمام (عليه السلام) إلي ملاحظتين هامتين وهما:
الأولي: إنه (عليه السلام) إمام علي المسلمين من قبل الله تعالي ذكره وعلي المسلمين الطاعة لأوامره ونواهيه لأنه يحدث عن الله سبحانه وتعالي.
الثانية:لا يجوز لأحد من المسلمين ـ أي كان ـ أن يرفض أمراً صادراً عن الإمام (عليه السلام) أو يظهر سخطه ونفوره من قرار الإمام (عليه السلام) لأن في ذلك مخالفة لله سبحانه وتعالي وكما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (الراد علينا كالراد علي الله).
فإذا حدث ولم يفقه أحد من المسلمين حكمة الأمر والنهي لا يجوز له أن يحجم عن الانقياد لهذا الحكم أو ذاك كونه لم يتعرف علي خلفية ذلك أو لم يحط علماً بوجه الحكمة به، وهذا لا يعني أن يمارس الفرد المسلم الطقوس العبادية من أوامر ونواهي عن غير دراية، بل أن المسألة هي أن لا يتحول الدين إلي مادة استهلاكية عن الفرد المسلم فيقبل ما يناسبه منا ويرفض ما دون ذلك.
فقد نغفل أحياناً وننسب الخطأ إلي الحكم كوننا لم نعقل مفهومه ومضمونه فبدل أن ننسب الجهل لأنفسنا، نلقي ذلك علي الدين والعياذ بالله.
والإمام الحسن (عليه السلام) يقول لأبي سعيد: (هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة) فالذين عارضوا الإمام (عليه السلام) كانوا يجهلون وجه الحكمة من إقدام الإمام (عليه السلام) علي الصلح ثم إن الإمام (عليه السلام) كشف عن ذلك حينما أجاب الأخير: (ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا علي وجه الأرض أحد إلا قتل).
فكانت معاهدة الصلح حاجزاً أمام معاوية كي لا يقدم علي تنفيذ جرائمه في حق أبناء الرسالة، فيتعرضوا للتصفية الجسدية ممّا تؤثر علي مسيرة الحركة الرسالية في الأمة والذي بالتالي يهدد كيان الدين الإسلامي برمته للانهيار، إضافة إلي ذلك فالإمام (عليه السلام) قد أوضح في أن معاهدة الصلح التي أقدم عليها ليست هي المعاهدة الأولي التي تمت، بل مارسها الرسول (صلّي الله عليه وآله) مع بني ضمرة وبني شجاع وأهل مكة والتي كانت في وقت لم تتمكن فيه الحركة الرسالية أن تواجه كافة القوي المناوئة للإسلام، فجاء صلح الحديبية ليوقف الزحف لتلك القوي نحو مواقع التحرك الرسالي في الأمة، ممّا قد يسبب في كبح جموح انطلاقة الإسلام في أوساط مجتمع مكة،ومن جهة أخري لم تكن الحركة الرسالية تمتلك القدرة علي المواجهة فهي حديثة العهد والنشأة ولم تقف علي رجليها آنذاك بعد.

فصل الشهادة

اشاره

عاش الإمام الحسن (عليه السلام) قرابة العقد من الزمن في المدينة المنورة استطاع أن يبني قاعدة جماهيرية صلبة عبر الثورة في جذور المجتمع المدني ومن خلال تربية الكوادر ونشر الثقافة الرسالية وبث الوعي الديني والسياسي في أوساط المجتمع، وهكذا التصدي لكافة محاولات التحريف والتضليل الجاهلي.. ولقد حقق الإمام (عليه السلام) خلال هذه الفترة إنجازات هائلة وهذا ما اعترف به وأقره قطب الرحي في النظام الجاهلي الأموي، معاوية بن أبي سفيان والذي خشي من نشاطات الإمام (عليه السلام) وإنجازاته علي انفراط السلطة من يده.
كان الإمام الحسن (عليه السلام) ولعقد من الزمن يعيش بين أظهر المسلمين، يمثل الكهف الحصين ومعدن الأمن، وملجأ الهاربين والمحتاجين، ومصدر غوث اللاجئين قبال البطش الأموي فهذا سعيد بن سرح حينما أقدم زياد بن أبيه علي مصادرة ممتلكاته وإخراجه من بيته واعتقال زوجته وعياله وأخيه، جاء سعيد إلي الإمام (عليه السلام) وشكا له ما جري عليه، فكتب الإمام الحسن (عليه السلام) رسالة إلي زياد جاء فيها: (من الحسن بن علي إلي زياد أما بعد: فإنك عمدت إلي رجل من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله، وحبست أهله وعياله، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله وشفعني فيه فقد أجرته والسلام).
ولما بلغ الكتاب إلي زياد غضب لأن الإمام (عليه السلام) لم ينسبه إلي أبي سفيان، ولم يبدأ به قبله فكتب زياد رسالة نال منها من الإمام (عليه السلام) وأشبعها من سموم شتمه وقدحه والتي لا يزفرها سوي زياد وأمثاله ومن تبعه.
ورد الإمام (عليه السلام) علي الرسالة في سطرين موجزين: (من الحسن بن فاطمة، إلي زياد بن سميّة، أما بعد: فإن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر والسلام) وأرسل الإمام (عليه السلام) كتاب زياد إليه لمعاوية مع رد زياد علي رسالة الإمام (عليه السلام) الثانية، فما أن وصلت الرسائل إلي معاوية فبعث برسالة عاجلة إلي زياد وكتب فيما كتب:
(.. من ذلك كتابك إلي الحسن تشتم أباه وتعرض له بالفسق، ولعمري أنك لأولي بالفسق.. وأمّا تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك، فحظ دفعته عن نفسك إلي من هو أولي به منك، وإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح، وابن له داره، واردد عليه ماله ولا تتعرض له، فقد كتبت إلي الحسن (عليه السلام) أن يخبره إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلي بلده، ولا سلطان لك عليه ولا يد ولا لسان) [212] .
هكذا كان الإمام الحسن (عليه السلام)، حتي أن التاريخ لم يذكر مورداً أو قصة أو حادثة واحدة أن معاوية أو أزلامه باشروا ارتكاب جرائم القتل في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) وربما كان ذلك سبب إقدام معاوية علي تنفيذ مخطط اغتيال الإمام (عليه السلام).
وبالفعل فكّر معاوية في طريقة يقوم بها لتصفية وجود الإمام (عليه السلام) خاصة وأن النشاط الرسالي بدأ يتصاعد بقوة وأن معاوية مكبّلاً في وجود الإمام (عليه السلام) لا يستطيع التعرض بالسوء لأي من أصحاب الحسن (عليه السلام).. فأوعز معاوية إلي المستشارين السياسيين وهكذا أفراد الحاشية وعناصر من المقربين له أن يدلّوه علي طريقة مناسبة يتم فيها اغتيال الإمام (عليه السلام)، فالبعض اقترح التصفية المعلنة أمام الناس في المدينة لبث الرعب في كافة أرجاءها والبعض الآخر اقترح استدعاؤه إلي الشام ثم تنفيذ فيه خطة الاغتيال.. غير أن معاوية كان يخشي أن تؤدي هذه العمليات إلي تأليب فئات من الشعب ضد نظامه وتدهور الأوضاع السياسية في الداخل، ولذلك فكّر في طريقة يتفادي فيها أي بادرة إثارة وذلك من خلال أمرين وهما:
أولاً: عدم تنفيذ خطة الاغتيال بصورة علنية أو استفزازية ممّا قد تثير حفيظة الشعب أو المعارضة.
ثانياً: عدم المباشرة في تنفيذ خطة الاغتيال لإبعاد الشبهة قدر الإمكان عن السلطة ولذلك وجد معاوية في جعدة بنت محمد بن الأشعث الكندي وهي بنت لأم فروة أخت الخليفة أبي بكر لتكون هي الأداة المناسبة ـ بكافة المواصفات ـ لتنفيذ الجريمة، وقد اختار معاوية السمّ كوسيلة هادئة للجريمة..
واستطاع معاوية أن يتصل بجعدة وراح يعرض عليها الإغراءات المادية ويحدثها عن الأموال الطائلة والضياع والثروة التي سيعطيها إيّاها والتي بلغت عشرة آلاف دينار وإقطاع عشرة ضياع من سورار وهي موضع بالعراق من بلد السريانيين، وسواد الكوفة، ووعدها أيضاً بتزويجها من ابنه يزيد... ولكن بشرط أن تدس السم إلي الإمام الحسن (عليه السلام)، فلم تطل التفكير في الأمر بل أعطت موافقة فورية.
وفي اليوم المحدد جاءت جعدة بالطعام المسموم وقدمته إلي الإمام الحسن (عليه السلام) فلمّا وضعته بين يديه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله علي لقاء محمد سيد المرسلين، وأبي سيد الوصيين وأمي سيدة نساء العالمين، وعمي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيد الشهداء صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما إن رفعت جعدة المائدة من تحت الإمام (عليه السلام) حتي بدأ السم ينتشر داخل جسمه (عليه السلام) ويقطع أمعاءه فكان السم يسري.. والألم يسري معه.. وكلاهما يصرمان ما تبقي من عمره الشريف.
جاء إليه أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) فلمّا رأي حاله بكي، فقال له الحسن (عليه السلام): ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي علي ما أراك فيه. فقال له الحسن (عليه السلام): إن الذي يأتي إليّ بسمّ يدبّر فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدّعون أنهم من أمة جدنا، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون علي قتلك، وسفك دمك، وانتهاك، وسبي ذراريك ونسائك وأخذ ثقلك، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتي الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار) [213] .
وظل الإمام الحسن (عليه السلام) يكابد الألم وقد سيطر السّم علي كل أنحاء جسمه حتي أنه شكا لأخيه الحسين (عليه السلام) قائلاً: (يا أخي سقيت السّم ثلاث مرات لم أسق مثل هذه، إني لأضع كبدي).
يقول جنادة بن أبي أمية: (... ثم انقطع نفسه وأصفر لونه، حتي خشيت عليه، ودخل الحسين (عليه السلام) والأسود بن الأسود عليه، حتي قبّل رأسه بين عينيه، ثم قعد عنده فتسارّا جميعاً فقال أبو الأسود: إنا لله إن الحسن قد نعيت إليه نفسه.
ودنا الإمام الحسين (عليه السلام) من أخيه الحسن (عليه السلام) فوجد أن وجه الإمام (عليه السلام) يميل إلي الاخضرار فقال الإمام الحسين (عليه السلام): مالي أري لونك إلي الخضرة؟ فبكي الحسن؟ وقال: يا أخي لقد صحّ حديث جدي فيّ وفيك.
ثم تعانقا طويلاً وتعابرا ثم بكيا كثيراً فسأل الإمام الحسين (عليه السلام) أخاه الحسن (عليه السلام) عن حديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله) فقال الإمام الحسن (عليه السلام): (أخبرني جدّي قال: لما دخلت ليلة المعراج روضات الجنان، علي منازل أهل الإيمان رأيت قصرين عاليين متجاورين علي صفة واحدة إلا أن أحدهما من الزبرجد الأخضر والآخر من الياقوت الأحمر، فقلت: يا جبرائيل لمن هذان القصران فقال: أحدهما للحسن والآخر للحسين (عليهما السلام). فقلت: يا جبرائيل فلم لا يكونان علي لونٍ واحد؟ فسكت ولم يرد جواباً، فقلت لم لا تتكلم؟ قال: حياءً منك. فقلت له: سألتك بالله إلا ما أخبرتني فقال: أما خضرة قصر الحسن فإنه يموت بالسم ويخضر لونه عند موته، وأما حمرة قصر الحسين فإنه يقتل ويحمر وجهه بالدم.
ثم سكت الإمام الحسن (عليه السلام) وقال كلمته الأخيرة عليكم السلام يا ملائكة ربي ورحمة الله وبركاته وصعدت روحه الطاهرة إلي بارئها، وغاب شخص الإمام (عليه السلام) عن دار الدنيا إلي دار الخلد في الجنات النعيم) [214] .

والمطاف الأخير تشييع جنازة الإمام

تولي الإمام الحسين (عليه السلام) مهمة تغسيل الجسد الطاهر لأخيه الحسن (عليه السلام) وهكذا تكفينه ولفّه، وبعدها حملت جنازة الإمام الحسن (عليه السلام) إلي مسجد رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ولمّا وصلوا المسجد اعترض مروان طريق الجنازة للحيلولة دون الدخول بها إلي المسجد، ثم مضي إلي عائشة يحرضها علي منع دفن الإمام الحسن (عليه السلام) عند جده، فجاءت عائشة علي بغلة لتمنع دفن الإمام (عليه السلام)، فدنا عبد الله بن عباس منها وزجرها وقال لها: يوم علي الجمل ويوم علي البغل، أو قال هو أو غيره: تجملت تبغلت وإن عشت تفيلت. فلم تنتهر، بل قامت بتهييج بني أمية، فأقدموا علي رشق جنازة الإمام (عليه السلام) بالسهام، حتي أننا نقرأ في الزيارة المنقولة عن الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف ـ (يا مواليّ فلو عاينكم المصطفي وسهام الأمة معرفة في أكبادكم ورماحهم مشرعة في نحوركم وسيوفهم مولعة في دمائكم وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته وشهيد فوق الجنازة قد اشتبكت بالسهام أكفانه..) [215] .
فجرد بنو هاشم السيوف لمواجهة سهام بني أمية، لو لا تدخل الإمام الحسين (عليه السلام) الذي التزم بوصية أخيه الإمام الحسن (عليه السلام)، ثم أمر الحسين (عليه السلام) بأن تحمل الجنازة إلي البقيع، فمالوا بالجنازة نحو البقيع. وقد اجتمع الناس لجنازته حتي ما كان البقيع يسع أحداً من الزحام وقد بكاه الرجال والنساء سبعاً، واستمر نساء بني هاشم ينحبن عليه شهراً، وحدّت نساء بني هاشم عليه [216] .
وقبل أو يواري الجثمان الطاهر للإمام الحسن (عليه السلام) دنا منه أخوه محمد بن الحنفية ونعاه قائلاً: رحمك الله يا أبا محمد، فوالله لئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك، ونعم الرّوح، روح عمّر به بدنك ونعم البدن، بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك وأنت سليل الهدي، وحلف أهل التقوي، ورابع أصحاب الكساء، غذتك كفّ الحق، وربيت في حجر الإسلام، وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيّاً وميتاً، فعليك السلام ورحمة الله وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ولا شاكّة في الخيار لك [217] وحينما وضع الإمام الحسين (عليه السلام) جسد أخيه الحسن (عليه السلام) في لحده أنشأ يقول:

أأدهن رأسي أم تطيب محـاسني
ورأسك معفـــــــور وأنت سليب

بكائي يطــــول والدموع غـزيرة
وأنت بعـــــيد والمــــزار قريب

غريب وأطـراف البيوت تحوطه
ألا كلّ مـــن تحت التراب غريب

فليس حريــــب من أصيب بماله
ولكـــــنّ من واري أخاه حريب

فسلام عليك يا أبا محمد يوم ولدت ويوم جاهدت وبلغت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً..
وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين...

التعليقات

حول زوجات الحسن

لقد تحدث المؤرخون عن زوجات الحسن (عليه السلام) وأكثروا ومال أكثرهم إلي المبالغة في تعدادهن مبالغة لا تعتمد علي أساس معقول، فقال بعضهم أنهن يتراوحن بين الستين والسبعين، وقال البعض الآخر بأنه تزوج بأكثر من مائتين وخمسين امرأة وأن أباه كان يتضجر من ذلك، ووقف بعضهم منه موقفاً يتسم بالاعتدال والتجرد فقال بأن تعدد الزوجات كان شائعاً ومألوفاً بين المسلمين ولم يكن أكثر زواجاً من غيره، وقلّ من مات من أعيان المسلمين عن أقل من أربع زوجات، أما رواية السبعين والتسعين وغيرها من الروايات التي تصفه بأنه مطلاق وأن والده كان يقول: لا تزوجوا ولدي الحسن فإنه مطلاق فلا مصدر لها إلا المدائني وأمثاله من الكذبة كما يبدو من أسانيدها.
والمدائني والواقدي وغيرهما من المؤرخين القدامي قد كتبوا التاريخ في ظل الحكومات التي كانت تناهض أهل البيت وتعمل بكل ما لديها من الوسائل علي تشويه واقعهم وانتقامهم، ولم يكن حكام الدولة العباسية بأقل سوءاً وتعصباً من أسلافهم الأمويين، فقد شاركوهم في وضع الأحاديث التي تسيء إلي العلويين، وكانوا يحقدون علي الحسنيين ن بصورة خاصة لأن أكثر الثائرين علي الظلم كانوا من أولاد الحسن وأحفاده.
ولما قبض المنصور علي عبد الله بن الحسن أحد الحسنيين الثائرين علي الظلم والجور خطب في حشدٍ كبير من الناس ونال من علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن الإمام الحسن (عليه السلام) وجميع الطالبين، وكما ممّا قاله: (إن ولد أبي طالب تركناهم والذي لا إله غيره والخلافة ولم تتعرض لهم لا بقليل ولا كثير فقام فيها علي بن أبي طالب فما أفلح وحكم الحكمين فاختلفت عليه الأمة وافترقت الكلمة، ثم وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه، وقام من بعده الحسن بن علي (عليه السلام) فوالله ما كان برجل، لقد عرضت عليه الأموال فقبلها ودس إليه معاوية أني جاعلك ولي عهدي فخلعه وانسلخ له ممّا كان فيه وسلمه إليه، وأقبل علي النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخري، فلم يزل كذلك حتي مات علي فراشه.
وفي المجلد الأول من صبح الأعشي أن المنصور كتب إلي النفس الزكية الحسني كتاباً جاء فيه: (وأفضي أمر جدك إلي الحسن فباعها لمعاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز واسلم شيعته بيد معاوية فدفع الأمر إلي غير أهله وأخذ مالاً من غير حلّة فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه إلي غير ذلك ممّا كان العباسيون يلصقونه بالحسن (عليه السلام) رداً علي الانتفاضات الشعبية التي قادوها رداً علي جورهم وطغيانهم. وكما ذكرنا فرواية السبعين رواها المدائني كما جاء في شرح النهج ورواية التسعين رواها الشبلنجي في نور الأبصار، ورواية المائتين وخمسين والثلاثمائة رواها المجلسي عن قوت القلوب لأبي طالب المالكي المتوفي سنة 380هـ.
وجاء في الكتاب المذكور كما يروي القرشي عنه في المجلد الثاني من كتابه الحسن بن علي أن الحسن تزوج مائتين وخمسين امرأة وقيل ثلاثمائة وأن عليّاً كان يتضجر من ذلك حياء من أهلهن إذا طلقهن، وكان يقول: (إن حسناً مطلاق فلا تزوجوه، فقال له رجل من همدان: والله يا أمير المؤمنين لننكحنه ما شاء فمن أحب أمسك ومن كره فارق فسر بذلك أمير المؤمنين وأنشأ يقول:

لو كنت بواباً علي باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام)

ومضي في قوت القلوب يقول: وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه جده رسول الله، وهو يشبهه في الخلق، وقد قال له جده: أشبهت خلقي وخُلقي، وقال: حسن مني وحسين من علي، واضاف إلي ذلك أن الحسن كان ربما عقد علي أربع وطلق أربعاً.
وعلي ما يبدو أن الذين ألصقوا بالحسن كثرة الزواج والطلاق هؤلاء الثلاثة المدائني والشبلنجي وأبو طالب المكي في قوت القلوب، وعنهم أخذ المؤرخون والكتاب من السنة والشيعة والمستشرقون، أما علي بن عبد الله البصري المعروف بالمدائني والمعاصر للعباسيين فهو من المتهمين بالكذب في الحديث.
وجاء في ميزان الاعتدال للذهبي أن مسلماً في صحيحه قد امتنع عن الرواية عنه، وأن ابن عدي قد ضعفه، وقال له الأصمعي: والله لتتركن الإسلام وراء ظهرك، وكان من خاصة أبي إسحاق الموصلي، وقد تبعه لثرائه، ويروي عن عوانة بن الحكم المتوفي سنة 158 هـ والمعروف بولائه لعثمان والأمويين.
ونص ابن حجر في لسان الميزان أن عوانة كان يضع الأخبار لبني أمية، وجاء في معجم الأدباء انه كان مولي لسمرة بن حبيب الأموي، أما صاحب لسان الميزان فقد قال: أنه كان مولي لعبد الرحمن بن سمرة ابن حبيب الأموي، هذا بالإضافة إلي أن أكثر رواياته من المراسيل، كل ذلك ممّا يبعث علي الاطمئنان بأن رواية السبعين التي لم يروها غير المدائني من موضوعاته لمصلحة أعداء العلويين.
أما رواية التسعين فقد أرسلها الشبلنجي في كتابه نور الأبصار ولم ينسبها لأحد، والشبلنجي في كتابه المذكور لم يتحر الصحيح في مورياته وأخباره كما يبدو ذلك للمتشبع فيه، والمرسل إذا لم يكن مدعوماً بشاهد من الخارج أو الداخل للاستدلال، في حين أن الشواهد والقرائن ترجح بأنه من صنع الحاقدين علي أهل البيت.
وأما رواية المكي في قوت القلوب فهي أقرب إلي الأساطير من غيرها لأنها لم ترد علي لسان أحد من الرواة وأبو طالب المكي كان مصاباً بالهستيريا، كما نص علي ذلك معاصروه وحينما وفد علي بغداد وجد البغداديون في حديثه هذياناً (ليس علي المخلوق اضر من الخالق). ويبيح استماع الغناء ولما عاتبه عبد الصمد بن علي أنشد:

فيا ليل كم فيك من متعة
ويا صبح ليتك لم تقرب

ومن شذوذه كما جاء في البداية والنهاية لابن كثير، والكني والألقاب للقمي: (أنه أوصي أحد أصحابه إن غفر الله له إن ينثر علي جنازته لوزاً وسكراً وجعل العلامة علي ذلك أن يقبض علي يد صديقه ساعة الاحتضار، فقبض علي يده في تلك الساعة ونفذ صديقه ما أوصاه به).
وقد روي في البحار كما جاء في كتاب القرشي انه لما توفي الحسن (عليه السلام) خرجت جمهرة من النساء حافيات حاسرات وهن يقلن: نحن زوجات الحسن، علي أن بعض المغفلين من الشيعة قد تقبلوا هذه المرويات ظناً منهم أن ذلك فضيلة للحسن ودليل علي ثقة الناس به، كما يظهر ذلك من الشيخ راضي آل ياسين في كتابه صلح الحسن، وقد أشار في كتابه المذكور إلي انه كان يحلل المطلقات ثلاثاً لأزواجهن، ولا يثق الأزواج بغيره في هذه المهمة، فأساء إلي الإمام الحسن وإلي أهل البيت (عليهم السلام) من حيث لا يقصد، وفي الوقت ذاته أتاح لبعض الجهلة من الشيعة والحاقدين من غيرهم أن يتناولوه بالنقد والتجريح وأن يلصقوا به ما لا يرضاه لنفسه كرام الناس فضلاً عن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله وأشبه الناس به خلقاً وخلقاً كما أجمع علي ذلك الرواة والمحدثون.
علي أن المدائني نفسه الذي ادعي أنه تزوج بسبعين، قد أحصي له عشر نساء لا غير وعدهن بأسمائهن كما جاء في المجلد الرابع من شرح وزواجه من عشر نساء ليس بغريب في ذلك العصر لأن الزواج كان مألوفاً ومتعارفاً بين الصحابة والتابعين، وقد مات كل من الزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة عن أربع زوجات عدا مطلقاتهم كما نص علي ذلك أكثر المؤرخين [218] .

حول مذكرة المصريين لعثمان

رأي الوفد المصري أن يرفع مذكرة لعثمان يدعوه فيها إلي التوبة والاستقامة في سياسته وسلوكه وهذا نصها:
(أما بعد: فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم، فالله، الله، ثم الله الله، فإنك علي الدنيا فاستقم معها آخرة، ولا تنسي نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم إنا لله ولله نغضب، وفي الله نرضي، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتي تأتينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة مجلحة [219] مبلجة فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام..) [220] .
واضطرب عثمان، وقرأ الرسالة بإمعان وقد أحاط به الثوار فبادر إليه المغيرة وطلب منه الإذن بالكلام معهم فأذن له ولما قرب منهم صاحوا به:
(يا أعور وراءك)
وصاحوا به ثانياً: (يا فاجر وراءك)
وصاحوا به ثالثاً: (يا فاسق وراءك).
ورجع المغيرة خائباً مهاناً قد أخفق في سفارته، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلم القوم، فمضي إليهم وسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام لعلمهم بفسقه وفجوره، وقالوا له:
(ارجع يا عدو الله)
(ارجع يا بن النابغة، لست عندنا بأمين ولا مأمون).
ورجع خائباً في وفادته، لم يستحب له القوم، وقابلوه بمزيد من التوهين والاستخفاف. [221] .

حول معاوية بن أبي سفيان

لم يستعمل عثمان معاوية علي الشام والياً وإنما استعمله عمر وأقره عثمان عليها ولكنه زاد في نفوذه وبسط في سلطانه، ومهد له الطريق في نقل الخلافة الإسلامية إليه يقول طه حسين:
(وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما أتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلي آل أبي سفيان، ومثبتها في بني أمية فعثمان هو الذي وسع علي معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، فكانت جيوشه أقوي جيوش المسلمين، ثم مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الأمراء بالولاية عهداً، وأقواهم جنداً، وأملكهم لقلب الرعيّة) [222] ، إن عثمان هو الذي مد في سلطان معاوية، وزاد في سعة ولايته، وبسط له النفوذ حتي كان من أقوي الولاة، وأعظمهم نفوذاً، وأصبح قطره من أهم الأقطار الإسلامية وأمنعها، وأكثرها هدوءاً واستقراراً.
وقد علق السيد مير علي الهندي علي ولاة عثمان بقوله: (كان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضلين، وقد تعلقوا بالولايات كالعقبان الجائعة، فجعلوا ينهشونها، ويكدسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم) [223] .

حول الخوارج

اشاره

نشأت هذه الفرقة بصفّين عندما طلب معاوية التحكيم من علي (عليه السلام) وهي خديعة استعملها معاوية بن أبي سفيان ودلّه عليها عمرو بن العاص عندما أحسّ بالهزيمة ولمس الضعف في جيشه وعرف تفوق عليّ بحقه وأن الحق مع عليّ (عليه السلام) وقد انضم لجيشه رجال مخلصون قد رسخ الإيمان في قلوبهم أراد معاوية أن يوقع الشك ويُحدث الفرقة في صفوف جيش علي وقد وقع ما أراد معاوية فقد نفرت طائفة لم يتركز الإيمان في قلوبهم ومرقوا من الدين فأصبحت شعار هذه الطائفة الخوارج.
والخوراج، يسمون الشراة والحرورية، والمحكمة، ويجمعهم إكفار عثمان وعلي كل من أتي كبيرة وأصول فرقهم خمس: الأزارقة، والأباضية، والصفرية، والبيهسية، والنجدات. ثم تشعبوا. وأنشأ مذهبهم عند التحكيم عبد الله بن الكوا وعبد الدين وهب، ومن مصنفيهم أبو عبيد، وأبو الضياء وغيرهما [224] .
وذكر للخوارج فرق كثيرة قاربت العشرين فرقة علي حسب اختلافهم في الآراء واهم فرقهم المشهورة:

الازارقة

وهم أتباع نافع بن الأزرق وكان من أكبر فقهائهم وقد كفّر جميع المسلمين وقال إنه لا يحل لأحد من أصحابه أن يجيب أحداً من غيرهم إذا دعاهم إلي الصلاة ولا أن يأكلوا من ذبائحهم ولا أن يتزوجوا منهم ولا يتوارث الخارجي وغيره وهم مثل كفّار العرب وعبدة الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ودارهم دار حرب ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم ولا تحل التقية واستحل الغدر بمن خالفه وكان أصحاب نافع من أقوي فرق الخوارج وأكثرهم عدداً خرجوا من البصرة معه فتغلبوا علي الأهواز وما وراءها من بلدان فارس وكرمان وقتلوا عمّال تلك النواحي واشتدت شوكتهم ووقعت حروب بينهم وبين الدولة الأموية بما لا يسع المجال لذكرها.

النجدات

وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي وهم الذين خالفوا نافعاً وانفردوا بتعاليم منها أن المخطئ بعد أن يجتهد معذور وإن الدين أمران معرفة الله ومعرفة رسوله ومن أداه اجتهاده إلي استحلال حرام أو تحريم حلال فهو معذور.
الأباضية في المغرب وسلطنة عمان:
وهم أتباع عبد الله بن أباض التميمي الذي خرج أيام مروان الحمار آخر ملوك بني أمية ولا يزال أتباعه إلي اليوم في المغرب العربي دولة الملك الحسن الثاني وهم فرق البقية من جميع فرق الخوارج الكثيرة التي انقرضت ولم تبق منهم باقية إلا الأباضية وهم علي عقيدتهم في تكفير جميع المسلمين ويعتذرون عنهم بأنهم يذهبون إلي تكفيرهم لا علي سبيل الشرك بل يرون أنهم كفاراً ولا يحل من غنائمهم في الحرب إلا الخيل والسلاح ولا يزال الأباضيون يؤلفون جماعات عديدة في أفريقيا الشمالية ويوجد فريق آخر بزنجبار بأفريقية الشرقية أما الوطن الأصلي للأباضيين الذين يهاجرون إلي أفريقيا الشرقية فهو بلاد عمان.

اليزيدية

وهم أتباع يزيد بن أنسية الخارجي وادّعوا أن الله سبحانه وتعالي يبعث رسولاً من العجم ينزل عليه كتاباً ينسخ الشريعة المحمدية.

الميمونية

أتباع ميمون العجردي وأظهروا عقائد المجوس فكانوا يبيحون نكاح بنات الأولاد وبنات الأخوة وبنات أولاد الأخوات. وتقسم الأباضية ذاتها إلي ثلاثة شعب هي الحفصية والحارثية واليزيدية.

الصفرية

وهم أتباع زياد بن الأصفر ومن زعماء الصُفرية أبو هلال مرادس الذي خرج أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة علي عبيد الله بن زياد ومنهم عمران ابن حطان وقد انتخبه الخوارج اماماً لهم وهو القائل بمدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي اللعين.

يا ضربة مـــن منيب ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يـــــوماً فــــــاحسبه
أوفــــي البـــرية عند الله ميزانا

وأجابه جماعة منهم عبد القادر البغدادي المتوفي 429هـ:

يا ضربة من كفور ما استفاد بها
إلا الجــــــزاء بما يصليه نيرانا

إني لألعنه دنـــــــياً وألــــعن من
يرجــو له أبــــداً عفواً وعفرانا

ذاك الشقيّ لأشقي الـــناس كلهم
أخفــــهم عند رب الناس ميزانا

وعمران بن حطان قد خرّج حديثه البخاري ووثقه وهذا من مزايا صحيحة وامتيازه.

العجاردة

وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد وكانت العجاردة مفترقة عشرة فرق ثم افترقوا فرقاً كثيرة هذا جملة القول في أهم الفرق الخوارج وقد بلغت عشرين فرقة وكل فرقة تخالف الأخري في تعليمها وآرائها إلا أنهم اتفقوا علي النظريتين الأولي تكفير علي وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين الثانية اعترفوا بصحة خلافة الشيخين والخوارج مع عظم إجرامهم لا يوصفون بما وصف به الشيعة كتاب المرتزقة من أمثال احمد ايمن والشيخ زهو وأبو زهرة والخطيب محب الدين صاحب الخطوط العريضة ويتجرأون علي الشيعة بالعبارات القبيحة والألفاظ المستهجنة لأن جرمهم أنهم الشيعة يوالون عليّاً وأولاده صلوات الله عليهم جميعاً.
وبدون شك أن حركة الخوارج من أكبر العوامل التي هددت المسلمين بأخطار كثيرة وقد اتخذوا تكفير جميع فرق المسلمين والمالكي والحنبلي والشافعي وغيرهم [225] .
والخوارج وابتدعوا مذهباً جديداً في الإسلام، واصطنعوا لمذهبهم أصولاً وفروعاً وقالوا: ليس منّا إلا من يعتقد بالدرجة الأولي بأن كلاً من عثمان وعليّ ومعاوية، وكذلك من رضي بالتحكيم، جميعهم كفار علي السواء، ونحن أيضاً بدورنا كفرنا، ولكننا تبنا، وكل من لا يتوب، لا نعتبره مسلماً أبداً وقالوا أيضاً: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مسألة مطلقة، لا تقيد بأي شرط فيجب القيام ضد الإمام الجائر، ايّاً كان، وفي كل الظروف ولو حصل اليقين بعدم جدوي هذا القيام! وهذه الفتوي صبغتهم بصبغة بالغة الصنف والخشونة. ووضعوا أصلاً آخر لمذهبهم، يحكي عن جهالتهم وضيق نظرهم فقالوا: إن العمل جزء من الإيمان، وليس لدينا إيماناً منفك عن العمل. فالإنسان لا يصبح مسلماً بتلفظ الشهادتين، بل ينبغي أن يضم إلي ذلك أداء فريضة الصلاة والصيام، والعبادات المفروضة كافة، وكذلك أن لا يشرب الخمر، ولا يلعب القمار ولا يزني، ولا يكذب، وأن يتجنب الكبائر جميعها، لكي يصح إطلاق اسم المسلم عليه، وإذا كذب المسلم كذبة واحدة، خرج أصلاً من الإسلام، وأصبح كافراً نجساً، وإذا اغتاب، أو شرب الخمر، ولو لمرة واحدة، وهكذا، فمرتكب الكبيرة عندهم خارج عن دين الإسلام.
واصطنعوا أيضاً سلسلة من الأصول الأخري، التي يستفاد من مجموعها أنهم اعتبروا أنفسهم المسلمين الوحيدين علي وجه الأرض، وأخرجوا بقية الطوائف بذلك عن حظيرة الإسلام.
وتمردوا واستخدموا أساليب بالغة الخطورة من الغلظة والخشونة ولأنهم لم يكونوا يعتبرون الآخرين من المسلمين، فقد قرروا أن لا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، وحرموا أيضاً ذبائحهم.
والأكثر من ذلك، أنهم أهدروا دمهم، وجوزوا قتل أطفالهم ونسائهم، وارتكبوا سلسلة من أعمال السلب والنهب، والقتل، ضد المسلمين، وأصبحت أوضاعهم بذلك بالغة الغرابة حقاً.
وكمثال واحد علي أعمالهم الإجرامية: إنه كان أحد أصحاب النبي (صلّي الله عليه وآله) يمرّ بمنطقتهم، بصحبة زوجته الحامل، فاعترضوا طريقه، وطلبوا منه أن يتبرأ من علي (عليه السلام)، فلم يفعل، فما كان منهم إلا أن قتلوه ابشع قتلة، وبقروا بطن زوجته بالرماح، لأنه بزعمهم كافر، مهدور الدم [226] .
وبقدر ما كانوا يستبيحون حرمات الآخرين، كانوا يتشددون فوق الحد، في المحافظة علي حرمات أتباعهم، فمثلاً أن جماعة منهم يمرون ببستان نخيل، يتعلق بأحد الموالين لهم، فمد واحد منهم يده واقتطف حبة من التمر، وضعها في فمه، فما كان منهم إلا أن انهالوا عليه، يهددونه، ويتوعدونه، ويغلظون له القول: لأنه بنظرهم تعدي علي مال أخيه المسلم [227] .

مميزات الخوارج

كان للخوارج عدة مميزات:
واحدة منها: هي الشجاعة الفائقة، وروح الفداء العظيمة التي كانوا يتحلون بها، ويرجع السبب في ذلك إلي أن تصرفاتهم كانت تصدر عن عقيدة راسخة، ولهم قصص عجيبة مذكورة في التاريخ تبين مدي اقدامهم وتضحياتهم في الحرب.
والميزة الأخري: أنهم متنسكون يجتهدون كثيراً في العبادة، وهذا ما أوقع سائر المسلمين في الشك والشبهة، حيالهم، ولذلك لم يكن أحد غير علي (عليه السلام) يمتلك الجرأة علي قتلهم.
والميزة الثالثة: هي الجهل الزائد، والحماقة العجيبة التي كانت تسيطر عليهم، وتجعل أفكارهم جامدة متحجرة، ولا يتنازلون عن قناعاتهم الباطلة، أمام الدليل والبرهان.
والميزة الرابعة: وهي الدور الذي مثلوه، ويمثله اليوم أشباهم وهم مع الأسف كثيرون في عالمنا الإسلامي [228] .

حول قول الإمام علي لجماعته بعد رفع المصاحف

قال (عليه السلام): (فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونسوا عهده، ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء، الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب إلي كتاب الله عز وجل، إذ دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلي القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان) [229] .
(فقان زيد بن حصين الطائي، وكان من أصحاب البرانس المجتهدين) [230] .

حول استشهاد الإمام علي

كان عبد الرحمن بن ملجم، أحد أولئك التسعة نفر، القديسين الزهاد والذين نجوا من القتل في معركة النهروان حيث اجتمع هؤلاء وذهبوا في يوم من الأيام إلي مكة وأبرموا بينهم عهداً، عند الكعبة المشرفة بأن يغتالوا كُلاً من علي (عليه السلام) ومعاوية وعمر بن العاص، لأن هؤلاء الثلاثة ـ بزعمهم ـ هم سبب كل تلك الفتن التي عصفت بالعالم الإسلامي، وبقتلهم وإزالتهم من الساحة، سوف تستتب أمور المسلمين، وانتخبوا من بينهم ابن ملجم، لاغتيال علي (عليه السلام) وكان قرارهم أن يكون التنفيذ ليلة التاسع عشر من شهر رمضان [231] .
يقول ابن أبي الحديد، في شرح سبب هذا التوقيت بالذات: (ولما كانت ليلة الجمعة التاسعة عشرة من شهر رمضان، ليلة شريفة، يرجي أن تكون ليلة القدر، عينوها لفعل ما يفتقدونه قربة إلي الله، فليعجب المتعجب من العقائد، كيف تسري في القلوب، وتغلب علي العقول، حتي يرتكب الناس عظائم الأمور وأهوال الخطوب لأجلها!) [232] .
وجاء ابن ملجم إلي الكوفة، وظل مدة طويلة هناك ينتظر الليلة الموعودة، وفي هذه الأثناء تعرف علي فتاة تدعي (قطام)، وكانت خارجية مثله، فعشقها، ووله بها، وربما كان يريد إلي حد ما أن يجول في ذهنه من أفكار جهنمية، فذهب إليها، وعرض عليها الزواج، فوافقت، ولكن مهرها ثقيل جداً!
فقال لها اطلبي ما تشائين. فقالت: عندي أربعة شروط:
الأول: ثلاثة آلاف درهم. قال: حسناً. قالت: والثاني: عبد. قال حسناً. قالت: والثالث: قينة. قال: حسناً. قالت: وأما الشرط الرابع: فهو رأس علي بن أبي طالب!!
هنا اضطرب ابن ملجم، فقد كان يعتقد انه بهذا الزواج إنما يبعد نفسه عن التفكير في قتل علي (عليه السلام)، فقال: وما يشفيك؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد، وقينة، وقتل علي بن أبي طالب. قال: هو مهر لك، فأما قتل علي فلا أراك ذكرته لي، وأنت تريدينني! قالت: بلي، التمس غرّته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت، فما عند الله خير من الدنيا وزينتها، وزينة أهلها. قال: فوالله ما جاء بي إلي هذا المصر إلا قتل ما سألت [233] .
فظل عبد الرحمن أياماً يفكر في أبعاد هذا الأمر، وبعد تنفيذه لجريمته العظمي أنشد ابن أبي مياس المرادي في قتل علي (عليه السلام):

لهـــم أر مهراً ساقه ذو سماحة
كمهر قط،،ام من فصيح وأعجم

ثلاثة آلاف وعـــــبد وقــــــــينة
وضـــرب علي بالحسام المسمّم

فلا مهر أغلي من عليّ وإن غلا
ولا قتل دون قتل ابن ملجم [234] .

وعندما كان علي (عليه السلام) علي فراش الموت، كان ينظر إلي تيارين من الأحداث يخلفهما وراءه:
أحدهما: تيار معاوية الذي كان علي رأس القاسطين، والمنافقين.
والآخر: تيار القديسين المزيفين، وهم الخوارج المارقون.
وهذان التياران يضاد أحدهما الآخر. فكيف يتصرف أصحاب علي (عليه السلام) من بعده؟
يقول علي (عليه السلام) في وصيته: (لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) [235] ، يريد أن يقول: صحيح أن الخوارج قتلوني، ولكن لا تقتلوهم أنتم من بعدي، لأن قتلهم بعد ذلك، لن يكون لصالح الحق والحقيقة وإنما سيكون لصالح معاوية وجماعته.
فتخطر معاوية خطر من نوع آخر، لأن هؤلاء أرادوا الحق، ولكنهم بحمقهم وجهلهم، لم يصلوا إليه، ولكن معاوية منذ البداية، كان يريد الباطل علي علم، وقد وصل إلي هدفه.
وهكذا نري علياً (عليه السلام)، لم يكن يحمل في قلبه حقداً شخصياً، علي أي أحد، وعندما كان يتكلم، فإن كلامه كان موزوناً، وموضوعياً، يهدف من ورائه المصلحة العامة، دون أن يكون للعواطف أي أثر فيه.
وعندما أسروا (ابن ملجم)، وأحضروه إلي أمير المؤمنين، وهو علي فراش الموت، تحدث معه الإمام بصوت خافت، من أثر الضربة، فقال له بعتاب: (أي عدو الله! ألم أحسن إليك؟
قال: بلي.
قال: فما حملك علي هذا؟
قال: شحذته أربعين صباحاً، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه.
فقال علي: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلق الله) [236] .
وغادر علي (عليه السلام)، هذه الدنيا، بعد منتصف ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، وكان ذلك في مدينة الكوفة العظيمة، وكان أهل الكوفة جميعهم، ما عدا تلك الشرذمة الباقية من خوارج (النهروان)، يريدون أن يشاركوا في تشييع جنازة أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولكن ما إن فاضت روحه الشريفة، حتي قام أبناؤه: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، وأبو الفضل العباس، ونفر من خواص الشيعة ربما كانوا لا يتجاوزون الستة أشخاص، بغسله وتكفينه سراً، ودفنوه ليلاً في مكان يبدو أنه (عليه السلام)، كان قد عينه لهم سابقاً، وهو مدفنه الشريف الحالي نفسه، والذي تذكر الروايات أن عدداً من الأنبياء العظام، أيضاً مدفونون في تلك البقعة نفسها.
ثم أخفوا مكان القبر، ولم يطلعوا أحداً من الناس عليه.
وفي الصباح فقط علم الناس أن أمير المؤمنين (عليه السلام)، دفن ليلة البارحة ولكن أين؟ لا يدرون. وحتي إن بعض المؤرخين كتبوا: أن الإمام الحسن (عليه السلام) أرسل جنازة وهمية إلي المدينة، لكي يظن الناس أنّ جثمان علي (عليه السلام) قد تم نقله، ودفن هناك.
وهذا التمويه كان يقصد منه أن لا يقوم، من تبقّي من الخوارج، بالتجاسر علي نبش قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإخراج الجثمان الشريف، وطالما كان للخوارج وجود، ونفوذ، بين المسلمين.
لم يكن أحد غير أولاد علي (عليه السلام)، وأولاد الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، يعلم بمكان دفنه (عليه السلام).
وظل الحال كذلك إلي أن انقرض الخوارج بعد مائة عام تقريباً، وبعد أن انقضي عهد بني أمية، وجاء عهد بني العباس، وزال من يُخشي انتهاكه لحرمة القبر الشريف، وعندها قام الإمام الصادق (عليه السلام) لأول مرة بإظهار محل قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) [237] .
يقول صفوان الذي نُشاهد اسمه في سند رواة (دعاء علقمة) الذي يقرأ بعد (زيارة عاشوراء): (كنت عند الإمام الصادق (عليه السلام) في الكوفة، فجاء بنا إلي بقعة، وقال: هنا قبر علي (عليه السلام) وأمرنا أن ننصب عريشاً علي القبر، ومن ذلك الوقت أصبح قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) معروفاً للناس) [238] .

الخاتمة

لا نستطيع أن نقول... ونحن نختم هذا البحث ـ بأننا قد أحطنا بشخصية الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن شخصية مترامية الأطراف بعيدة المدي لا يسع البيان أن يسمو إلي أوج عظمتها ولكن الشيء الذي نستطيع أن نقوله: هو أننا لم نقصّر في البحث بل بذلنا كل ما في وسعنا من الجهود فاستقصينا أمهات كتب التاريخ والتراجم، حتي أخرجنا هذا البحث الذي يعتبر كثمرة مقتطفة من البحث المتواصل الدقيق الخالص والموصل إلي معرفة الكثيرة من النقاط المهمة في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) والكشف عن وقائع ومواقف وآراء كثيرة ومهمة بحاجة إلي مطالعة وإحاطة بمفرداتها لأنها قراءة فكرية في حياة الإمام (عليه السلام) التي كانت حياته ـ حسب إخراج المؤرخين ـ مليئة بالدسائس من قبل المغرضين ووعاظ السلاطين في العصر الأموي والعباسي.
وفي النهاية إن اغتيال الإمام (عليه السلام) بالسّم دليل صارخ بتواجده (عليه السلام) عملاً ونشاطاً دائباً في بعث الأمة وإنهاضها من جديد. فالإمام لم ينفرد ولم يتخاذل عن قيادة الأمة ومتطلباتها في الكفاح. ومعاوية أدرك جيداً أن الإمام (عليه السلام) هو صاحب رسالة ومبدأ فلابد أنه عامل لإعطاء رسالته من جهده وعرقه سيادة الحكم بما يبذله من أساليب العمل والتغيير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...

پاورقي

[1] الكافي: ج5 ص65، تحف العقول: ص256.
[2] البحار: ج47 ص59، الكافي: 5ج ص166.
[3] سورة الأحزاب: 21.
[4] بحار الأنوار: ج45 ص9.
[5] تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها أسماء كتب أخري تخص موضوع الحسن (عليه السلام) في صلحه وفي مقتله. لا نريد الإطالة باستقصائها بعد أن أصبحت أسماء بلا مسميات.
[6] سورة الكوثر، الآيات: 1-3.
[7] انظر في رحاب أهل البيت السيد محسن الأمين (رحمه الله) مجلد 3، 5، ودراسات في عقائد الشيعة الإمامية، ص112، سيرة الأئمة الاثني عشر، ج1، ص511.
[8] صلح الحسن (عليه السلام)، راضي آل ياسين، ص25.
[9] في رحاب أئمة أهل البيت، السيد محسن الأمين(رحمه الله)، ص4، المجلد 35.
[10] صلح الحسن (عليه السلام)، راضي آل ياسين، ص25.
[11] سيرة الأئمة الاثني عشر، ص512.
[12] حول زوجات الإمام الحسن (عليه السلام)، في قسم التعليقات. التعليقة رقم 1.
[13] في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) السيد الأمير المجلد 3،5. ص5.
[14] صلح الحسن (عليه السلام) راضي آل ياسين، ص26، في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، السيد الأمين، ص6، الفصول المهن ابن الصباغ المالكي.
[15] الإمام الحسن (عليه السلام) فؤاد الأحمد، دار البيان العربي، ص6.
[16] في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) السيد الأمين، المجلد3،5. ص5 مصابيح السنة البغوي الحسين بن مسعود.
[17] أعيان الشيعة السيد الأمين، المجلد الأول، ص563.
[18] صلح الحسن (عليه السلام)، راضي آل ياسين، ص27.
[19] سيرة الأئمة، هاشم معروف، الجزء الأول، ص518. صلح الحسن (عليه السلام)، راضي آل ياسين. ص28،29.
[20] سورة فصلت: 34.
[21] الحمالة هي ما يتحمله الشخص من الدية ولغرامة عن قومه. وغيرهم، والمفظعة الثقيلة الشديدة.
[22] في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) السيد الأمين المجلد، 3، 5. ص6. عن الصدوق في الأمالي.
[23] وكان من زهده ما خصص له محمد بن علي بن الحسين بن بابويه المتوفي سنة 381هـ، كتاباً أسماه كتاب زهد الحسن (عليه السلام).
[24] كنز العمال: ج7، ص105.
[25] مستدرك الصحيحين: ج3، ص165.
[26] سورة الشوري: 23.
[27] سفينة البحار: ج1، ص257.
[28] ترجمة ابن عساكر: ص38 ورواه الترمذي في جزء 13، ص198 والبخاري في صحيحه جزء 5، ص33 ومسلم جزء7. ص130.
[29] سنن البيهقي: ج2، ص263.
[30] ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، لابن عساكر، ص40.
[31] ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، لابن عساكر، ص97.
[32] البداية والنهاية، ابن كثير: ج8، ص37.
[33] الصواعق المحرقة، ابن حجر: ص137، 138.
[34] ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ابن عساكر، ص15.
[35] ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ابن عساكر، ص15.
[36] أسد الغابة، ابن الأثير، الجزء الأول.
[37] مسند أحمد بن حنبل: ج5، ص366.
[38] العوالم في أحوال الإمام الحسن (عليه السلام).
[39] معالي السبطين.
[40] العوالم في أحوال الإمام الحسن (عليه السلام).
[41] ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ابن عساكر، ص40.
[42] الإصابة: ج2، ص11.
[43] العوالم الإمام الحسن (عليه السلام): ص297.
[44] عوالم العوالم المعارف.
[45] بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج43، ص333.
[46] بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج43، ص333.
[47] سورة آل عمران: 85.
[48] غدير خم: بقعة بين مكة والمدينة منها يتفرق الحجاج كل يذهب إلي بلده.
[49] سورة المائدة: 67.
[50] أخرج لفظ الحديث الطبراني وابن جرير والحكم الترمذي بسند مجمع علي صحته عن زيد بن أرقم، وقد نقله ابن حجر في كتابه، (الصواعق المحرقة)، عن الطبراني وغيره باللفظ الذي أعلاه وأرسل صحته إرسال المسلمات. راجع ص25 من الصواعق المحرقة.
[51] ينابيع المودة: للشيخ القندوزي الحنفي، الباب السابع والسبعين، ج2، ص445، عن الشيعة في عقائدهم.
[52] منتخب الأثر، للطف الله الصافي الكاشاني، ص114.
[53] العوالم في أحوال الإمام الحسن (عليه السلام)، ص35.
[54] ترجمة الإمام الحسن، لابن عساكر، ص100.
[55] العوالم: ص45.
[56] العوالم: ص54.
[57] أخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من أحاديث كنز العمال، ص44، ج1، وعلي نسق هذا الحديث أحاديث كثيرة أخري روتها الصحاح والمسانيد.
[58] بولس سلامة.
[59] قال معاوية فيما كتبه إليه مع أبي إمامة الباهلي: (وتلكأت في بيعته، (يعني أبي بكر)، حتي حملت إليه قهراً تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش!.
[60] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج1، ص299.
[61] سيرة الرسول لابن هشام، ج2، 118.
[62] انظر النزاع والتخاصم فيما بين أمية وبني هاشم للمقريزي تحقيق نوس، ص48.
[63] الإمامة والسياسة 1، 4.
[64] علي وبنوه، ص19.
[65] الملك والنحل للشهرستاني.
[66] دراسات في عقائد الشيعة الإمامية محمد علي الحسني، ص110.
[67] شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج1، ص135.
[68] مروج الذهب المطبوع علي هامش ابن الأثير ج5، ص135.
[69] فتوح البلدان للبلاذري، ص103.
[70] تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
[71] الإصابة، ج2، ص444.
[72] تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
[73] الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص119.
[74] تاريخ الطبري، ج2، ص202.
[75] شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص133.
[76] شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص55.
[77] شرح النهج ابن أبي الحديد، ج6، ص343، دار إحياء الكتب العربية.
[78] الإمامة والسياسة، ج1، ص19.
[79] الآداب الشرعية والمنح المرعية، ج1، ص49.
[80] تاريخ الطبري، ج4، ص52.
[81] الإمامة والسياسة، ج1، ص19، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري.
[82] الإمامة والسياسة، ج1، ص20.
[83] مروج الذهب، ج2، ص195.
[84] تاريخ ابن الأثير، ج2، ص290.
[85] شرح النهج لابن أبي الحديد، ج8، ص111.
[86] الخراج، ص242.
[87] شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 8، ص111.
[88] العصبية القبلية، ص190.
[89] الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية، ص251.
[90] اتجاهات الشعر العربي، ص108.
[91] الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص232.
[92] شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص74.
[93] البرة: حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود فيربق بها جبل يقاد به.
[94] شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 6، ص342.
[95] حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، باقر القرشي، ج1، ص175.
[96] النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص162.
[97] نهج البلاغة، ج9، ص29، 30.
[98] نهج البلاغة، ج9، ص28، طبع دار إحياء الكتب العربية.
[99] نهج البلاغة، ج9، ص54.
[100] الغدير الأميني، ج6، ص83، ص333.
[101] منشم ـ بكسر الشين ـ اسم امرأة بمكة كانت عطارة، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلي فيما بينهم، فكان يقال؛ (أشأم من عطر منشم) جاء ذلك في صحاح الجوهري، 5/2041، وقد استجاب الله دعاء الإمام فكانت بين عثمان وعبد الرحمن أشد المنافرة والخصومة، وقد أوصي ابن عوف أن لا يصلي عليه عثمان بعد موته.
[102] الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) باقر شريف القرشي، ج1، ص330.
[103] انظر ـ التعليقة ـ رقم2، حول مذكرة المصريين لعثمان، في قسم التعليقات.
[104] النهابير: المهالك.
[105] تاريخ الطبري، ج5، ص110، الأنساب ج5، ص74.
[106] انظر ـ التعليقة ـ رقم 3، حول معاوية بن أبي سفيان، في قسم ـ التلعيقات ـ.
[107] الكامل لابن الأثير، ج5، ص67، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص152.
[108] الفتوح، ج2، ص218.
[109] الخطابة في صدر الإسلام، ج2، ص23.
[110] تمام المتون، ص79.
[111] حياة الإمام الحسن (عليه السلام) باقر شريف القرشي، ج1، ص281.
[112] حش كوكب: اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.
[113] العقيدة والشريعة في الإسلام، ص45.
[114] وقد حدد الإمام علي (عليه السلام) هذه الحقوق في مناسبة قاسية من مناسبات حياته وذلك بعد صفين في خطبة له راجع نهج البلاغة، ج1، ص102، 105.
[115] راجع للتوسع ثورة الحسين، لمحمد مهدي شمس الدين، ص35، 38.
[116] نهج البلاغة، ج1، ص217.
[117] المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص36، خطبة 92، الكامل لابن الأثير: 37، 191.
[118] انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
[119] راجع مروج الذهب، ج3، ص90.
[120] قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (... والله لقد دافعت عنه (يعني عثمان) حتي أني خشيت أن أكون آثماً). المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص84، الخطبة 240.
[121] قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان: (... وإني أنشدك الله ألا تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يُقتل في هذه الأمة إمام، يفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبث الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكون لمروان سيقه، يسوقك حيث شاء...) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص57.
[122] (... إن عثمان قتل ومعه في الدار ثمانية عشر رجلاً من بني أمية، منهم مروان بن الحكم) مروج الذهب: ج3، ص91.
[123] راجع الكامل لابن الأثير: ج2، ص160.
[124] انظر ـ تعليقة ـ رقم 5، حول قول الإمام علي (عليه السلام) لجماعته بعد رفع المصاحف، في قسم التعليقات.
[125] سورة الإسراء،الآية:33.
[126] راجع جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت: ج1، ص327، تاريخ ابن الأثير: ج3، ص277.
[127] المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص19.
[128] المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص46.
[129] المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص75.
[130] انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
[131] نفس المصدر.
[132] سورة الزمر: 65.
[133] سورة الأعراف: 204.
[134] سورة الروم: 60. راجع الطبري: ج5، ص73.
[135] من حياة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، الأستاذ مرتضي المطهري، ص32.
[136] تاريخ الطبري، ج5، ص73.
[137] المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص 36.
[138] راجع كتاب الأئمة الاثنا عشر دراسة وتحليل، عادل الأديب، ص69.
[139] نهج البلاغة، ج1، ص217.
[140] نهج البلاغة، ج1، ص59، وشرح النهج جزء 1 ص269، 270.
[141] شرح نهج البلاغة، ج7، ص37، 39، 40.
[142] نفس المصدر.
[143] نهج البلاغة، ج7.
[144] النظم الإسلامية نشأتها وتطورها. رسول الله (صلّي الله عليه وآله). صبحي الصالح، ص91.
[145] اليمين واليسار في الإسلام، احمد عباس صالح 118, 119.
[146] حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، للقرشي: ج1، ص269.
[147] مروج الذهب: ج2.
[148] مروج الذهب: ج2، ص404.
[149] نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص82.
[150] انظر ـ التعليقة رقم 6 ـ حول استشهاد الإمام علي (عليه السلام) في قسم التعليقات.
[151] الأغاني، ج1، ص21.
[152] شرح النهج ج4، ص107.
[153] تاريخ اليعقوبي، ج2، ص190، ابن الأثير ج3، ص16، ومقاتل الطالبين.
[154] سورة الشوري: 23.
[155] سورة الشوري: 23.
[156] يرجع فيما ذكرناه هنا إلي شرح النهج لابن أبي الحديد، ج4، ص11 وذكر غيره مكان عبيد الله أخاه عبد الله. وسنشير فيما بعد إلي أن عبد الله لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن (عليه السلام).
[157] روي هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: إنها بعض خطبته بعد البيعة له بالأمر، البحار، ج10، ص99 والمسعودي.
[158] وروي هذا النص أكثر المؤرخين.
[159] شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص11.
[160] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) السيد حسن الشيرازي: ص108، 110.
[161] شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص12.
[162] شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص13.
[163] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، المجلد الأول.
[164] سورة آل عمران: 44.
[165] الإرشاد، الشيخ المفيد، ص7.
[166] شرح ابن أبي الحديد: ج6، ص42.
[167] تاريخ اليعقوبي: ج2، ص191.
[168] مقاتل الطالبين: ص35.
[169] معالي السبطين للحائري: ص21.
[170] بحار الأنوار، ج44.
[171] أعيان الشيعة: ج1، ص35.
[172] الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السلام): ص59.
[173] معالي السبطين للحائري.
[174] نهج البلاغة، د. صبحي الصالح: ص69.
[175] الكامل في التاريخ، لابن الأثير: ج3، ص204.
[176] بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج44.
[177] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، السيد حسن الشيرازي: ص94.
[178] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، السيد حسن الشيرازي: ص94.
[179] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص82، 83.
[180] المقطع الأخير من كلام الإمام (عليه السلام) إشارة إلي عهد الإمام الحجة (عجل الله تعالي فرجه الشريف).
[181] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص112.
[182] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) ص112، 114. مع تعديل طفيف في ترتيب المقطع الأخير.
[183] الغدير: ج5، ص294.
[184] الغدير: ج1، ص312.
[185] الصواعق المحرقة: ج2، ص32.
[186] الصواعق المحرقة: ج2، ص32.
[187] الصواعق المحرقة: ج2، 32.
[188] الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص200.
[189] أعيان الشيعة: المجلد الأول، ص570.
[190] الإرشاد للمفيد: ص191.
[191] سورة الأنبياء: 109-110.
[192] سورة الأنبياء: 111.
[193] بحار الأنوار، المجلس، ج10، ص114 طبعة قديمة.
[194] المسعودي هامش ابن الأثير، ج6، ص61، 62.
[195] بحار الأنوار، المجلسي: ج44، ص23.
[196] سورة هود: 17.
[197] الإمام الحسن (عليه السلام)، فؤاد الأحمد، ص103.
[198] الإمام الحسن (عليه السلام)، فؤاد الأحمد، ص103.
[199] سورة الواقعة، الآيتان: 10-11.
[200] سورة الحديد: 10.
[201] سورة الحشر: 10.
[202] سورة التوبة: 100.
[203] سورة التوبة: 19.
[204] جلاء العيون، ج11، ص349، 354.
[205] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص93، 94.
[206] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص100، 101.
[207] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص101-102.
[208] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ص102.
[209] كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، ص100.
[210] بحار الأنوار، المجلسي، ج44.
[211] بحار الأنوار: ج44، ص1-2.
[212] الإمام الحسن القائد والتاريخ، فؤاد الأحمد، ص246.
[213] أمالي الصدوق: ص101.
[214] معالي السبطين، الحائري، ص47.
[215] معالي السبطين، الحائري، ص37.
[216] البداية والنهاية، ابن كثير: ج8، ص44.
[217] تاريخ اليعقوبي، المجلد الثاني، ص225.
[218] راجع كتاب (سيرة الأئمة الإثني عشر) الجزء الأول، ص617.
[219] مجلحة: مشتق من جلح علي الشيء اقدم عليه.
[220] تاريخ الطبري، ج5، ص111، 112، الأنساب ج5، ص64، 65.
[221] حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، باقر القرشي، الجزء الأول، ص382، 383.
[222] الفتنة الكبري، طه حسين، ج1، ص120.
[223] روح الإسلام، ص90.
[224] المنية والأمل في شرح الملل والنحل لأحمد بن المرتضي السماني: ص26.
[225] عقائد الإمامية الإثني عشرية، إبراهيم الموسوي الزنجاني الحنفي، ج3، ص197، 198.
[226] هو عبد الله بن خباب وكانت زوجته وهي حامل، معه (راجع تفاصيل القصة في تاريخ الطبري: ج5، ص82. علي بن أبي طالب، عبد الكريم الخطيب، ص533.
[227] تاريخ الطبري: ج5، ص82.
[228] من حياة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، الشهيد مطهري، ص36.
[229] الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج3، ص216.
[230] راجع وقعة صفين لنصر بن المنقري: ص99، تاريخ الطبري: ج5، ص49.
[231] تعاهد ثلاثة من الخوارج، أو كلف ثلاثة منهم بقتل علي (عليه السلام) ومعاوية، وعمرو بن العاص، وتواعدوا واتفقوا علي أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه، الذي يتوجه إليه، حتي يقتله، أو يقتل دونه، وهم عبد الرحمن بن ملجم، وكان من (تجيب)، وكان عدادهم في مراد، فنسب إليهم، وحجاج بن عبد الله الصريمي، ولقبه (البرك) وزادويه مولي بني العنبر... واتعدوا أن يكون ذلك ليلة سبع عشرة من شهر رمضان، وقيل ليلة إحدي وعشرين (راجع المسعودي: ج3، ص164، الكامل لابن الأثير: ج3، ص289، الطبري: ج5، ص144).
[232] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج6، 116.
[233] تاريخ الطبري: ج5، ص144.
[234] المصدر السابق: ج5، ص150.
[235] العجم المفهرس: ص26.
[236] الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج3، ص390.
[237] قال ابن الأثير في تاريخه (الكامل): (ولما قتل علي (عليه السلام)، دفن عند مسجد الجماعة، وقيل في القصر، وقيل غير ذلك. والأصح أن قبره هو الموضع الذي يزار، ويتبرك به). (الكامل: ج3، ص396). وقال الطبري وابن سعد: ودفن عند مسجد الجماعة في قصر الإمارة، (الطبري: ج5، ص152، طبقات ابن سعد: ج6، ص12. أقول: قصة مدفنه (عليه السلام) في الغري في منطقة النجف القريبة في الكوفة، مشهورة جداً، ولا حاجة بنا إلي تخريفات كثير من المؤرخين الذين كانوا في القديم أتباعاً للسلطات الظالمة. (راجع علي من المهد إلي اللحد للسيد كاظم القزويني: ص599). وروي المجلسي في (البحار) قال: (عن الحسن بن علي الحلال عن جده قال: قلت للحسين بن علي (عليه السلام): أين دفنتم أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله، حتي مررنا به علي منزل الأشعث، حتي خرجنا به إلي الظهر بجنب (الغري) قلت: وهذه الرواية هي الحق، وعليها العمل، وقد نقلنا فيما تقدم إنّ أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب، وهذا القبر الذي بالغري، هو الذي كان بنو عليّ يزورونه قديماً وحديثاً ويقولون: هذا قبر أبينا، لا يشك أحد في ذلك من الشيعة، ولا من غيرهم أعني بني عليّ من ظهر الحسن والحسين، وغيرهما من سلالته، المتقدمين منهم. والمتأخرين ما زاروا ولا وقفوا إلا علي هذا القبر بعينه). البحارك ج42، ص338).
[238] راجع البحار: ج42، ص339.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.