ابوالشهداء الحسين بن علي علیهما السلام

اشارة

سرشناسه : عقاد، عباس محمود، 1889 - 1964م.

Aqqad, Abbas Mahmud

عنوان و نام پديدآور : ابوالشهداء الحسين بن علي/ عباس محمود العقاد؛ تحقيق محمدجاسم الساعدي.

مشخصات نشر : تهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلاميه ، مركز التحقيقات و الدراسات العلميه ، المعاونيه الثقافيه، 1428ق. = 2007م. = 1386.

مشخصات ظاهري : 296 ص.

شابك : 29000 ريال : 978-964-167-010-0

يادداشت : عربي .

يادداشت : چاپ قبلي: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلاميه ، مديريه النشر و المطبوعات: 1382 در 422 ص.

يادداشت : كتابنامه: ص. [267] - 291؛ همچنين به صورت زيرنويس .

يادداشت : نمايه.

موضوع : حسين بن علي(ع)، امام سوم،4 - 61ق.

موضوع : واقعه كربلا، 61ق.

شناسه افزوده : ساعدي، محمدجاسم، محقق

شناسه افزوده : مجمع جهاني تقريب مذاهب اسلامي . مركز مطالعات و تحقيقات علمي . معاونت فرهنگي

رده بندي كنگره : BP41/5 /ع7ح5 1386

رده بندي ديويي : 297/9534

شماره كتابشناسي ملي : 1153796

مقدمة الناشر

سيرة أبوالشهداء، الحسين بن علي، سيرة مجيدة أفاض كثير من المؤلفين و الكتاب و الأدباء في الكتابة عنها؛ و لكنا لا نعتقد أن أحدا منهم قد أوفاها حقها كما أوفاها «عباس محمود العقاد» في هذا الكتاب الذي تفخر.بتقديمه ليوم الي الملايين من القراء في العالمين العربي و الاسلامي... لم يكن الصراع بين الامام الشهيد و يزيد بن معاوية صراعا بين رجلين انتهي باستشهاد أحدهما و فوز الآخر بما خيل له و لأنصاره أنهم قد فازوا به، بل كان صراعا بين خلقين خالدين، و جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقابا و لا يزالان يتجاولان. كان صراعا بين الخير و الشر، بين الكرم و اللؤم، بل بين أشرف ما في الانسان و أوضع ما يمكن أن تبتلي به النفس البشرية.... كان أبوالشهداء يؤمن أقوي الايمان بأحكام الاسلام، و يعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء

يحيق بالاسلام و بأهله و بالأمة الاسلامية قاطبة في حاضرها و مستقبلها، و كان للعقيدة الدينية في وجدانه قدسيتها و للايمان العميق بالله و بالحق في نفسه رسوخه و قوته.. فكان اعتراضه علي هذا الزيف الذي لم تشهد الأمة زيفا مثله من قبل، و كانت غضبته علي الانحراف و الغدر و الاستهتار بقيم الدين ممثلة كلها في ولاية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، [ صفحه 6] فكانت حركته، و سلكت طريقها الذي لابد لها أن تسلكه، و ما كان لها قط من مسلك سواه... و كانت الحرب.... حرب بين قلة لبت داعي المروءة و الأريحية و الحق لا تعتز الا بايمانها بالله و بنصره، و تنفاني في نصرة الامام الشهيد و تأبي الا أن تستشهد دونه ابتغاء مرضاة لي؛ و آلاف مدججة بالعتاد و السلاح لم يؤلف بينها الا الطمع في رضا سلطان أو في غنيمة تصيبها حتي و لو كانت غنيمة النجاة من غضب زبانية يزيد و انتقامهم ممن لا يحارب و يقتل، بل ممن لا يمعن في الاجرام و الوحشية و التنكيل بآل البيت الكرام..و غلبت كثرة الباطل قلة الحق، و استشهد الحسين؛ ليصبح بكرامة الشهادة و كرامة البطولة و كرامة الأسرة النبوية الشريفة، معني كريما يحضره كل مسلم في صدره، بل و كل انسان يعرف قدر الشهادة في سبيل الحق، و قيمة بذل الحياة في سبيل ما هو أدوم من الحياة. [ صفحه 7]

مقدمه المؤلف

يسرني أن أقدم الي حضرات القراء هذه الطبعة من كتاب «أبي الشهداء» و يعظم رجائي أن يصل الي أيد كثيرة غير التي وصل اليها في طبعاته السابقة، و أن يتحقق له من عموم الرسالة بهذه المثابة ما يتمناه

كل مؤلف لكل كتاب يريد رسالة من الرسالات.ليس من عادتي أن أطلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، و يتفق أن تمضي السنوات دون أن ألقي عليها نظرة لغير مراجعة عاجلة، فاذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها الي طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القاري ء الذي يطلع عليها لأول مرة، بعد أن شعرت بها شعور المؤلف الذي امتلأ بها و أدارها في نفسه عدة مرات. و قد استغرب منها أمورا كالتي يستغربها القراء الذين يحكمون علي موضوعاتها حكم «ألاجانب الغرباء»..عجبا!.. ان مشكلة الحياة الكبري لم تغيير منذ ألف و ثلثمائة سنة، و لم تزل الحرب علي أشدها بين خدام أنفسهم و خدام العقائد و الأمثلة العليا، و لم يزل الشهداء يصلونها نارا حامية من عبيد البطون و الأكباد، و لم يزل «داؤنا العلياء» كما قال أبوالعلاء!..كان هذا شعوري بكتاب «أبي الشهداء» حين قرأته من جديد لتقديمه الي [ صفحه 8] هذه الطبعة: مسكينة هذه الانسانية!.. لا تزال في عطش الي دماء الشهداء، بل لعل العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة و الأنانية و نسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد الي دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خاصة دون سائر الأزمنة الغابرة، لأنه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الانسانية وجودا ماديا فعليا و أصبح لزاما لها أن توجد في الضمير و في الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية و في برامج السفن و الطائرات.الوحدة الانسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، و لكنها حقيقة واقعية عملية في كل شي ء الا في ضمير الانسان و روح الانسان.حقيقة واقعية في اشتباك المصالح التجارية، و في اتصال الأخبار بين كل ناحية من

الكرة الأرضية و ناحية أخري..حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية اذا صح هذا التعبير، فلا يضطرب عصب من اعصابها في أقصي المشرق حتي تتداعي له سائر الأعصاب في أقصي المغرب و في أقصي الشمال و الجنوب.حقيقة واقعية في كل شي ء الا في ضمير الانسان و في روح الانسان، و هذا هو المهم و الأدهم اذا أريدت للانسانية وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام..و لن توجد هذه الوحدة الا اذا وجد الشهداء في سبيلها. فأنعم بمقدم «أبي الشهداء» من جديد الي ضمائر فريق كبير من بني الانسان، لعلهم يقدمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقين و العمل الخالص لوجه الحق و الكمال.نتفاءل أو لا نتفاءل.. نتشاءم أو لا نتشاءم..ليست هذه هي المسألة، و انما المسألة هي ان طريق التفاؤل معروف و طريق التشاؤم معروف، فلا تتحق مصلحة الانسانية الا اذا عمل لها كل فرد [ صفحه 9] من أفرادها، و هانت الشهادة من أجلها علي خدامها، و تقدم الصفوف من يقدم علي الاستشهاد و من ورائه من يؤمن بالشهادة و الشهداء.لا عظة و لا نصيحة، و لكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية. فلا بقاء للانسانية بغير العمل لها، و لا عمل لها ان لم ينس الفرد مصلحته، بل حياته في سبيلها..لا بقاء للانسانية بغير الاستشهاد..و في هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت نحن أبناء العربية الي ذكري شهيدها الأكبر فنحني الرؤوس اجلالا «لأبي الشهداء»..عباس محمود العقاد [ صفحه 11]

طبائع الناس

يتناوب طبائع الناس مزاجان متقابلان: مزاج يعمل أعماله للأريحية و النخوة، و مزاج يعمل أعماله للمنفعة و الغنيمة.و المزاجان لا ينفصلان كل الانفصال..فقد تقترن الأريحية بالمنفعة، و تقترن المنفعة

بالأريحية، و لكنهما اذا اصطدما - و لا سيما في الأعمال الكبيرة - لم يعسر عليك أن تفصل المزاجين و تعزل المعسكرين. فهذا للأريحية حتي يجب المنفعة و يخفيها، و هذا للمنفعة حتي يجب الأريحية و يخفيها... أو كذلك يتراءيان.و أصحاب المطالب الكبري في التاريخ يعتمدون علي هذا المزاج كما يعتمدون علي ذاك.. فمنهم من يتوسل الي الناس بما فيهم من الجشع و الخسة و قرب المأخذ و سهولة المسعي، و منهم من يتوسل الي الناس بما فيهم من طموح الي النبل و النجدة و ركوب المخاطر و نسيان الصغائر في سبيل العظائم.. [ صفحه 12] و لكل منهما سبيله الي النفوس و أمله في النجاح علي حسب الأوقات و البيئات..الا أن الأريحية أخلد من المنفعة بسنة من سنن الخلق التي لا تتبدل مع الأوقات و البيئات..لأن منفعة الانسان وجدت لفرد من الأفراد..أما الأريحية التي يتجاوز بها الانسان منفعتة فقد وجدت للأمة كلها أو للنوع الانساني كله. و من ثم يكتب لها الدوام اذا اصطدمت بمنافع هذا الفرد أو ذاك..و لقد يبدو من ظواهر الأمور أن الأمر علي خلاف ما نقول، لأن الحريص علي منفعته يبلغها و يمضي قدما اليها، فينال المنفعة التي لا يناها صاحب الأريحية لأنه يتركها اذا اصطدمت بما هو أجل منها.و هذا صحيح مشهود لا مراء فيه..و لكن النجاح في الحركات التاريخية لن يسمي نجاحا اذا هو لم يتجاوز حياة فرد أو طائفة من الأفراد. فاذا قيل أن حركة من الحركات التاريخية قد نجحت، فمغزي ذلك بداهة أن الأفراد القائمين بها يذهبون و هي الباقية بعد ذهابهم.. و من هنا يصح أن يقال ان الاريحية أبقي و أنجح اذا هي اصطدمت

بالمنفعة الفردية، لأن ذهاب الفرد هنا أمر مفروغ منه بعد كل حساب، سواء أكان حساب الأريحيين أم حساب النفعيين.و أصحاب الأريحية اذن أبعد نظرا من دهاة الطامعين و النهازين [ صفحه 13] للفرص و المغانم العاجلة. لأنهم خلقوا بفطرتهم علي حساب أعمار تتجاوز حساب عمرهم القصير. فهم - شعروا أو لم يشعروا - بعيدو النظر الي عواقب الامور، و ان خيل الي أناس أنهم طائشون متهجمون.أما موقف المؤرخين في العطف علي حركات التاريخ فهو علي ما نري موقف مزاج من هذين المزاجين، و ليس بموقف سبيل من سبل البحث أو مذهب من مذاهب التفكير..فالذين يجنحون بمزاجهم الي المنفعة يفهمون أعذار المنتفعين و ينكرون ملامتهم علي ناقديهم..و الذين يجنحون بمزاجهم الي الأريحية يفهمون دوافع النخوة و يحسبونها عذرا لأصحابها أقوي من غواية المنافع و الأرزاق.الا أن الصواب هنا ظاهر جد الظهور لمن يريد أن يراه:الصواب أن العطف علي جانب المنفعة عبث لا معني له و لا حكمة فيه.و ان العطف علي جانب الأريحية واجب يخشي علي الناس من تركه و اهماله، اذ كان تركه مناقضا لصميم الفطرة التي من أجلها فطر الناس علي الاعجاب بكل ما يستحق الاعجاب.فليس يخشي علي الناس يوما أن ينسوا منافعهم و يقصروا في خدمة [ صفحه 14] أنفسهم، سواء عطف عليها المؤرخون أو أعرضوا عنها ساخرين منكرين.و لكنهم يخسرون الأريحية اذا فقدوها و فقدوا الاعجاب بها و التطلع اليها، و هي التي خلقت ليعجب بها الناس. لأن حرص الانسان علي منفعته لا يغنيهم في حياتهم العامة أو في حياتهم الباقية. أما الأريحية التي يتجاوز بها الانسان نفسه في سبيل معني من المعاني أو مثل عال من الامثلة العليا، فهي الخليقة النافعة

للنوع الانساني بأسره، و ان جاز اختلافهم في كل معني و في كل مثل عال..صراع بين الأريحية و المنفعةفي ماضي الشرق و حاضره كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الاريحية و المنفعة علي أكثر من غرض واحد..و لكننا لا نحسبنا مهتدين الي نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادي ء و أهدي الي النتائج و أبين عن خصائص المزاجين معا من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيين و الأمويين، و لا سيما النزاع بينهما علي عهد الحسين بن علي و يزيد بن معاوية.قلنا في كتابنا «عبقرية الامام» ما فحواه ان الكفاح بين علي و معاوية، لم يكن كفاحا بين رجلين أو بين عقلين و حيلتين.. و لكنه كان علي الحقيقة كفاحا بين الامامة الدينية و الدولة الدنيوية، و ان الأيام كانت أيام دولة دنيوية فغلب الداعون الي هذه الدولة من حزب معاوية، و لم يغلب الداعون الي الامامة من حزب الامام. [ صفحه 15] و لو حاول معاوية ما حاوله علي لأخفق و ما أفلح، و لو أراد علي أن يسلك غير مسلكه لما أفاده ذلك شيئا عند محبيه و لا عند مبغضيه.فاذا جاز لأحد أن يشك في هذا الرأي، و أن يرجع بنجاح معاوية الي شي ء من مزاياه الشخصية فذلك غير جائز في الخلاف بين الحسين و يزيد.و كل ما يجوز هنا أن يقال ان أنصار الدولة الدنيوية غلبوا انصار الامامة علي سنة الخلفاء الراشدين، لأن مطالب الامامة غير مطالب الزمان.ما من أحد قط يزعم أن الصراع هنا كان صراعا بين رجلين أو بين عقلين و حيلتين. و انما هو الصراع بين الامامة و الملك الدنيوي، أو بين الأريحية و

المنفعة في جولتهما الأولي، و لم يكن ليزيد قط فضل كبير أو صغير بما بلغه من الفوز و الغلبة..بل لا يمكن أن يتعلل أحد هنا بما يتعلل به أنصار المنافع عامة من «تقريره للنظام و حفظه للأمن العام»... فان يريد لم يكن له فضل قط في قيام الدولة كما قامت علي عهده و بعد عهده. و انما كانت الدولة تتماسك برغبة الراغبين في بقائها لا بقدرة الأمير المشرف عليها. و قد حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه معاوية الثاني بالشام - و كان من الزاهدين في الحكم - فنادي الناس الي صلاة جامعة، و قال لهم: «أما بعد فاني قد ضعفت عن أمر كم فابتغيت ستة مثل ستة الشوري فلم أجدهم، [ صفحه 16] فأنتم أولي بأمركم فاختاروا له من أحببتم» ثم أوي الي بيته و مضت شئون الدولة علي حالها حتي مات بعد ثلاثة أشهر، و له مع هذا منافس قوي كعبدالله بن الزبير بالحجاز.فلا وجه للمفاضلة بين الحسين بن علي و يزيد بن معاوية.. و رأي معاوية و أعوانه في هذا أسبق من رأي الطالبيين و خصوم الأمويين، فقد ترددوا كثيرا قبل الجهر باختيار يزيد لولاية العهد و بيعة الخلافة بعد أبيه. و لم يستحسنوا ذلك قبل ازجائهم النصح الي يزيد غير مرة بالاقلاع عن عيوبه و ملاهيه. و لما أنكر بعض أولياء معاوية جرأة الحسين عليه في الخطاب، و أشاروا عليه أن يكتب له كتابا «يصغر اليه نفسه».. قال: «و ما عسيت أن أعيب حسينا؟... و الله ما أري للعيب فيه موضعا».و ثم تعلة أخري يتعلل بها المفاضلون بين علي و معاوية و لا موضع لها في المفاضلة بين ولديهما الحسين

و يزيد. و تلك ما يزعمونه من غلبة معاوية و علي «علي» بحجته في الاقناع و نشاطه أو نشاط أصحابه في الدعوة السياسية.. فهذه التعلة ان صلحت لتعليل نجاح معاوية، فما هي بصالحة لتعليل نجاح يزيد..لأن الذين انخدعوا أو تخادعوا للصيحة التي صاح بها معاوية في المطالبة بدم عثمان، كانوا يرددون هذه الصيحة و يساعدهم علي ترديدها حقد الثأر المزعوم و سورة العصبية المهتاجة، ثم يساعدهم علي ترديدها [ صفحه 17] في مبدأ الأمر أن معاوية لم يكن مجاهرا بطلب الخلافه و لا متعرضا لمزاحمة أحد علي البيعة، و انما كان يتشبث بمقتل عثمان و المطالبة بدمه، و لا يزيد في دعواه علي ادعاء ولاية الدم و صلة القرابة.و لكن الصائحين بهذه الصيحة مع معاوية قد عاشوا حتي رأوا بأعينهم مبلغ الغيرة علي تراث عثمان، و علموا أن الملك هو الغرض المقصود من وراء تلك الفتن و الأرزاء، و ان معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتي يورث الملك ولده من بعده، و ليس هو من بعده، و ليس هو من أهل الرأي و لا هو من أهل السلاح و لا هو ممن تتفق عليه آراء هؤلاء، لكنه فتي عربيد يقضي ليله و نهاره بين الخمور و الطنابير، و لا يفرغ من مجالس النساء و الندمان الا ليهرع الي الصيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة و البوادي و الآجام، لا يبالي خلال ذلك تمهيدا لملك و لا تدريبا علي حكم و لا استطلاعا لأحوال الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه، ثقة بما صار اليه من التمهيد و التوطيد و ما سوف يصير.فكل خلاف جاز في المفاضلة بين علي و معاوية غير جائز في المفاضلة

بين الحسين و يزيد.. و انما الموقف الحاسم بينهما، موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح. و قد بلغ كلاهما من موقفه أقصي طرفيه و أبعد غايتيه، فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الانسانية من غيرةأبوالشهداء «2» [ صفحه 18] علي الحق و كراهة للنفاق و المداراة، و انتصر يزيد بأرذل ما في النفس الانسانية من جشع و مراء و خنوع لصغار المتع و الأهواء.أقام الحسين ليلته الأخيرة بكربلاء و هو لا ينتظر من عاقبته غير الموت العاجل بعد سويعات، فأذن لأصحابه أن يتفرقوا عنه تحت الليل ان كانوا يستحيون أن يفارقوه في ضوء النهار. فأبوا الا أن يموتوا دونه، و قال له مسلم بن عوسجة الأسدي: «أنحن نتخلي عنك و لم نعذر الي الله في أداء حقك؟... أما و الله لا أفارقك حتي أكسر في صدورهم رمحي و أضربهم بسيفي ما بقي قائمه بيدي، و لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتي أموت معك». و قد بر بقسمه و بقي و مات.. و دنا منه حبيب بن مظاهر و هو يجود بنفسه، فقال له: «لو لا اني أعلم اني في أثرك لا حق بك لأحببت أن توصيني حتي أحفظك بما أنت له أهل»، فقال و كان آخر ما قال: «أوصيك بهذا - رحمك الله - أن تموت دونه» و أومأ بيده نحو الحسين.و قتل الحسين.. و ذهب الأمل في دولته و دولة الطالبين من بعده الي أجل بعيد، و لكنه كان يشتم بالكلمة العوراء فيهون علي الرجل من أصحاب الأريحية أن يموت و لا يصر علي سماع تلك الكلمة أو يترك الجواب عليها.. [ صفحه 19] فلما نعي الحسين في الكوفة نادي

و اليها ابن زياد الي الصلاة الجامعة. و صعد الي المنبر، و خطب القوم فقال: «الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله، و نصر اميرالمؤمنين يزيد بن معاوية و حزبه، و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شيعته»فما أتمها حتي و ثب له من جانب المسجد شيخ ضرير هو عبدالله بن عفيف الأزدي الذي ذهبت احدي عينيه يوم الجمل و ذهبت عينه الأخري يوم صفين. فصاح بالوالي غداة يوم انتصاره و زهوه: «يا ابن مرجانة!.. أتقتل أبناء النبيين و تقوم علي المنبر مقام الصديقين؟ انما الكذاب أنت و أبوك و الذي و لاك و أبوه».فما طلع عليه الصباح الا و هو مصلوب..الي هذا الأفق الأعلي من الأريحية و النخوة ارتفعت بالنفس الانسانية نصرة الحسين.و الي الاغوار المرذولة من الخسة و الاثرة هبطت بالنفس الانسانية نصرة يزيد.. و حسبك من خسة ناصريه، أنهم كانوا يحزون بالحطام و هتك الأعراض علي غزو «المدينة» النبوية و استناحة ذمارها فيسرعون الي الجزاء.. يسرعون اليه و ليسوا هم بكافرين بالنبي الدفين في تلك المدينة، فيكون لهم عذر الاقدام علي أمر لا يعتقدون فيه التحريم!..بل حسبك من خسة ناصريه انهم كانوا يرعدون من مواجهة الحسين [ صفحه 20] بالضرب في كربلاء لاعتقادهم بكرامته و حقه، ثم ينتزعون لباسه و لباس نسائه فيما انتزعوه من أسلاب!.. و لو أنهم كانوا يكفرون بدينه و برسالة جده، لكانوا في شرعة المروءة أقل خسة من ذاك.و تتقابل وسائل النجاح في المزاجين كما تتقابل المقاصد و الغايات..فكان شعار معاوية و أشياعه: «ان لله جنودا من العسل» و هو يعني العسل الذي يداف بالسم ليخلي طريق النجاح من كل معترض فيها و لو كان من الاصدقاء. فكثرت

روايات المؤرخين عن مقتل الحسن بن علي و الأشتر النخعي بهؤلاء الجنود!.. و أعجب منها ما قيل عن مقتل عبدالرحمن بن خالد، و قد كان نصيرا لمعاوية في حروب الشام.. فانه مات مسموما علي ما اشتهر من الروايات، لأنه رشح للخلافة بعد معاوية دون يزيدا.. و علم ذلك أقرباء عبدالرحمن بن خالد، فقتلوا طبيب معاوية «ابن أثال» الذي اتهموه بسمه في الدواء.و لو استباح الحسين و شيعته هذه الوسائل مرة واحدة، لكانوا و شيكين أن يبلغوا مقصدهم من قريب. فقد كان هاني ء بن عروة شيخ كندة من أنصار الحسين و أبيه، و كانت كندة كلها تطيعه و تلبيه حتي قيل أنه «اذا صرخ لباه منهم ألف سيف». فزاره عبيدالله بن زياد و الي يزيد علي الكوفة - ليعوده في بعض مرضه و يتألفه و يستميله اليه. [ صفحه 21] و قيل ان هانئا عرض عل مسلم بن عقيل بن أبي طالب أن يقتل عبيدالله ابن زياد و هو عنده، و قيل ان الذي عرض ذلك رجل من صحبة هاني ء المقربين. فأبي مسلم ما عرضه هذا و ذاك، و هو يومئذ طلبة ذلك الوالي، و جنوده قد تعقبوه و أهدروا دمه و أجزلوا الوعود لمن يسلمه أو يدل عليه، و قال: «انا أهل بيت نكره الغدر». و لو أنه بطش بابن زياد، لقد بطش يومئذ بأكبر أنصار يزيد..و ليقل من شاء أن قتل ابن زياد كان صوابا راجحا..و أن التحرج من قتله كان خطأ فادحا من وجهة السياسة أو من وجهة الأخلاق، فالذي لا يشك فيه أنه ان كان صوابا فهو صواب سهل يستطيعه كثيرون، و ان كان خطأ فهو الخطأ الصعب الذي لا يستطيعه الا القليلون..كذلك يقول من يقول ان الأريحية

التي سمت اليها طبائع أنصار الحسين، انما هي الأريحية الايمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسين فيذهب لساعته الي جنات النعيم.. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الانسان الي جميع أعماله، حتي ما صدر منها عن عقيدة و ايمان. و ينسون ان المنفعة وحدها لن تفسر لنا حتي الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوعا أو كرها في [ صفحه 22] خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم و لا يكفرون بها، فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسين؟.. انهم لم يطلبوها لأنهم منقادون لغواية أخري و لأنهم لا يملكون عزيمة الايمان و نخوة العقيدة، و لا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها علي رهبة الموت و يقدعون بها و ساوس التعلق بالعيش و الخنوع للمتعة القربية. فلو لا اختلاف الطبائع لظهر شغف الناس جميعا بجنات النعيم علي نحو واحد، و مضي الناس علي سنة واحدة في الأريحية و الفداء، و مرجع الأمر اذن في آخر المطالب الي فرق واضح بين طبائع الأريحيين و طبائع النفعيين.و كذلك يقول من يقول ان الأريحية في نفوس أنصار الحسين كانت الأريحية أفراد معدودين ثبتوا معه و لم يخذلوه الي يومه الأخير.. و ينسي هؤلاء ان الارتفاع ليقاس بالقمة الواحدة كما يقاس بالقمم الكثيرة، و أن الغور ليسبر في مكان واحد كما يسبر في كل مكان، و انما تكون الندرة هنا أدل علي جلالة المرتقي الذي تطيقه النفس الواحدة أو الانفس المعدودات، و لا تطيقه نفوس الاكثرين..فمدار الخلاف اذن في هذه الجولة التاريخية انما هو الفارق الخالد بين مزاجين بارزين كائنا ما كان تفسير المفسرين للعقائد الروحية و المطامع

السياسية، و لم يتلاق هذان المزاجان علي تناحر و تناجز كما [ صفحه 23] تلاقيا عامة في النزاع بين الطالبيين و الأمويين، و خاصة في النزاع بين الحسين و يزيد.فحياة الحسين رضي الله عنه صفحة، لا صفحة تماثلها في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين و بيان ما لكل منهما من عدة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا الي الأمد البعيد أو قصرنا النظر علي الأمد القريب. [ صفحه 25]

اسباب التنافس و الخصومة

اشاره

قبل أن يقف الحسين و يزيد متناجزين، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس و الخصومة منذ أجيال، و كان هذا التنافس بينهما يرجع الي كل سبب يوجب النفرة بين رجلين: من العصبية، الي الترات الموروثة، الي السياسة، الي العاطفة الشخصية، الي اختلاف الخليفة و النشأة و التفكير..تنافس هاشم و أمية علي الزعامة قبل أن يولد معاوية.. فخرج أمية ناقما الي الشام و بقي هاشم منفردا بزعامة بني عبدمناف في مكة. فكان هذا أول انقسام و تقسيم بين الأمويين و الهاشميين: هؤلاء يعتصمون بالشام، و هؤلاء يعتصمون بالحجاز..ثم علا نجم «أبي سفيان بن حرب بن أمية» في الحجاز، فأصبحت له زعامة مرموقة الي جانب الزعامة الهاشمية. فلما ظهرت الدعوة المحمدية أخذته الغيرة علي زعامته، فكان في طليعة المحاربين للدعوة الجديدة.و ندرت غزوة من الغزوات لم تكن لأبي سفيان أصبح ظاهرة في تأليب القبائل و جمع الأموال. و شاءت المصادفات زمنا من الأزمان أن [ صفحه 26] يظل وحده علي زعامة قريش في حربها للنبي عليه الصلاة و السلام. فمات الوليد بن المغيرة زعيم مخزوم، و دان زعماء تيم و بني عدن و غير هم من البطون القرشية الصغيرة بالاسلام، و بقي أبوسفيان وحده علي رأس الزعامة الجاهلية و

الزعامة الأموية في منازلة النبي و من معه من المهاجرين و الأنصار، و بلغ من تغلغل العداء في هذه الأسرة للنبي عليه الصلاة و السلام، أن أبالهب عمه كان أوحد أعمامه في الكيد له و التأليب عليه، و انما جاءه هذا من بنائه بأم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان التي و صفها القرآن بأنها «حمالة الحطب» كناية عن السعي في الشر و تأريث نار البغضاء..ثم فتحت مكة، فوقف أبوسفيان ينظر الي جيش المسلمين و يقول للعباس بن عبدالمطلب: «و الله يا أباالفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما».. فلما قال العباس: «انها النبوة!». قال: «نعم اذن!..»و قد أسلم أبوسفيان و ابنه معاوية عند فتح مكة، و كان اسلام بيته أعسر اسلام عرف بعد فتحها. فكانت زوجه هند بنت عتبة تصيح في القوم بعد اسلامه: «اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه.. قبح من طليعة قوم.. هلا قاتلتم و دفعتم عن أنفسكم و بلادكم!..»و ظل أبوسفيان الي ما بعد اسلامه زمنا يحسب غلبة الاسلام غلبة عليه، فنظر الي النبي مرة و هو بالمسجد نظرة الحائر المتعجب و هو [ صفحه 27] يقول لنفسه: «ليت شعري بأبي شي ء غلبني!» فلم يخف عن النبي عليه السلام معني هذه النظرة، و أقبل عليه حتي ضرب يده بين كتفيه و قال له: «بالله، غلبتك يا أباسفيان!»..و كان في غزوة حنين يشهد هزيمة المسلمين الأولي فيقول: «ما أراهم يقفون دون البحر!» و قيل انه كان في حروب الشام يهتف كلما تقدم الروم: «ايه بني الأصفر» فاذا تراجعوا عاد فقال: «ويل لبني الأصفر!»و قد تألفه النبي عليه السلام ما استطاع قبل فتح مكة و بعد فتحها، فتزوج بنته أم حبيبة قبل الفتح و

جعل بيته بعد الفتح حرما «من دخله فهو آمن و من أغلق عليه داره فهو آمن» و أقامه علي رأس المؤلفة قلوبهم الذين يزاد لهم في العطاء عسي أن يذهب ما في نفوسهم من الكراهة لغلبة الاسلام..و مع هذا كان المسلمون يوجسون منه فلا ينظرون اليه و لا يقاعدونه، حتي برم بذلك و أحب أن يمسح ما بصدور هم من قبله.. فتوسل الي النبي أن يجعل معاوية كاتبا بين يديه و أن يأمره فيقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين.ثم قبض النبي عليه السلام، و نجم الخلاف علي مبايعة الخليفة بعده بين المهاجرين و الأنصار و بين بعض الصحابة من جهة أخري.. فاشرأب [ صفحه 28] أبوسفيان الي هذه الفتنة، و خيل اليه أنه مصيب بين فتوقها ثغرة ينفذ منها الي السيادة علي قريش، ثم السيادة من هذا الطريق علي الأمة الاسلامية بأسرها.. فدخل علي «علي» و العباس، يثيرهما و يعرض عليهما المعونة بما في وسعه من خيل و رجل. فنادي بهما: «يا علي! و أنت يا عباس!.. ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش و أقلها؟ و الله لو شئت لأملأنها عليه - علي أبي بكر - خيلا و رجلا و آخذنها عليه من أقطارها»..و هو لا ريب لم يغضب لأن الخلافة قد فاتت بني هاشم، و لا كان سره أن تصير الخلافة اليهم فتستقر فيهم قرارا لا طاقة له بتحويله.. لكنه أراد خلافا يفتح الباب لزعامة أموية يملك بها زمام قريش و الدولة لعربية جمعاء..فلم يخف مقصده هذا علي «علي» رضي الله عنه، و قال: «لا و الله لا أريد أن تملأها عليه خيلا و رجلا، و لو لا أننا رأينا أبابكر لذلك أهلا ما

خليناه و اياها». ثم أنبه قائلا: «يا أباسفيان!.. ان المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، و ان المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض. متخاونون و ان قربت ديارهم و أبدانهم».و انقضت خلافة أبي بكر و خلافة عمر و الأمور تجري في مجراها الذي يأخذ علي المطامع سبيلها، و يخيف أصحاب الفتن أن يبرزوا بها من جحورها.. [ صفحه 29] حتي قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون أيما انتصار، لأنه رأس من رؤوسهم و ابن عم قريب لز عماء بيوتهم، و أصبحت الدولة الاسلامية أموية لا يطمع في خيراتها و لا ولايتها الا من كان من أمية أو من حزبها. فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء علي الأقرباء و يحبسها عن سائر الناس، و معاوية بن أبي سفيان و الي الشام يجتذب اليه الأقرباء و الأولياء و من يرجي منهم العون و يخشي منهم الخلاف.فلما قتل عثمان رضي الله عنه كان المنتفعون بمناصب الدولة و أموالها جميعا من الأمويين أو من صنائعهم المقربين، و مال السلطان الي جانب أمية علي كل جانب آخر من القرشيين و غير القرشيينلا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعا معروف النهاية من مطلع البداية، فقتل علي بن أبي طالب غيلة و خلصت الخلافة لمعاوية ابن أبي سفيان..ثم بايع من أهل العراق و فارس الحسن بن علي، فلم يستقم له أمرهم و ضاق صدره بجدالهم و محالهم، و كان رجلا سكيتا يكره المنازعة و يجنح الي العزلة، فصالح معاوية علي شروط.. و في له معاوية بالمعجل منها و التوي عليها بمؤجلها. و زاد علي ذلك كما تواتر في شتي الروايات أنه أغري امرأته جعدة بنت الأشعث بسمه، و وعدها أن يزوجها [ صفحه 30]

يزيد و يعطيها مائة ألف درهم، فوفي بوعد المال و لم يف بوعد الزواج. و قد أوصي الحسن رضي الله عنه أن يدفن عند قبر جده الا أن تخاف فتنة. فلما توفي أرادوا دفنه حيث أرصي، فقام مروان بن الحكم و جمع بني أمية و زمرتهم و منعوا مشيعيه.. فأنكر الحسين عليهم منع سبط النبي أن يدفن الي جوار جده، فقيل له: «ان أخاك قال اذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين سعة. و هذه فتنة».. فسكت علي مضض.

اهداف معاوية

و قد كان معاوية و لا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته من بعده، منذ تصدي للخلافة و خلاله المجال من أقوي منافسيه، الا أنه كان يتردد و يتكتم و لا يفضي بنيته الي أقرب المقربين اليه، ثم كبرت سنه و خاف أن يعجل عن قصده، فمهد لبيعة ابنه يزيد بعض التمهيد و توصل الي ذلك بما طاب له من وسيلة.. فلباه أهل الشام و كتب بيعته الي الآفاق، ثم همه أمر الحجاز فكتب الي مروان بن الحكم عامله أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبي مروان و أغري رؤوس قريش بالاباء، لأنه كان يتطلع الي الخلافة بعد معاوية و يحسبه أقدر عليها من يزيد، لما اشتهر به من نقص و عبث.. فعزله معاوية و ولي سعيد ابن العاص مكانه، فلم يجبه أحد الي ما أراد. فكتب معاوية الي عبدالله ابن عباس، و عبدالله بن الزبير، و عبدالله بن جعفر، و الحسين بن علي، [ صفحه 31] و أمر عامله سعيدا أن يوصل كتبه اليهم و يبعث اليه بجواباتها. و قال لسعيد: «فهمت ما ذكرت من ابطاء الناس، و قد كتبت الي رؤسائهم كتبا فسلمها اليهم..

و لتشد عزيمتك و تحسن نيتك، و عليك بالرفق. و انظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه، فان له قرابة و حقا عظيما لا ينكره مسلم و لا مسلمة.. و هو ليث عرين، و لست آمنك ان ساورته ألا تقوي عليه».فأعيت سعيد بن العاص كل حيلة في اقناع و جهاء الناس و عامتهم بهذه البيعة البغيضة، و خف معاوية الي مكة و معه الجند و حقائب الأموال، و دعا بأولئك النفر فقال لهم: «قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم و ابن عمكم، و أردت أن تقدموا يزيد باسم الخلافة و تكونوا أنتم تعزلون و تؤمرون و تجبون المال و تقسمونه».فأجاب عبدالله بن الزبير، و خيره بين أن يصنع كما صنع رسول الله اذ لم يستخلف أحدا، أو كما صنع أبوبكر، اذ عهد الي رجل ليس من بني أبيه.فقال معاوية مغضبا: «هل عندك غير هذا؟»قال: «لا.»و التفت الي الآخرين يسألهم قائلا: «فأنتم؟» فوافقوا ابن الزبير. [ صفحه 32] فقال متوعدا: «أعذر من أنذر!.. اني كنت أخطب فيكم فيقوم الي القائم منكم فيكذبني علي رؤوس فأحمل ذلك و أصفح، و اني قائم بمقالة... فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتي يسبقها السيف الي رأسه، فلا يبقين رجل الا علي نفسه».ثم أمر صاحب حرسه أن يقيم علي رأس كل منهم رجلين مع كل و احد منهما سيف، و قال له: «ان ذهب رجل منهم رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفهما».ثم خرج بهم الي المسجد و رقي المنبر، فحمد الله و أثني عليه و قال:- هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم، لا يبرم أمر دونهم و لا

يقضي الا علي مشورتهم، و انهم قد رضوا و بايعوا ليزيد فبايعوه علي اسم الله.فبايع الناس...و هكذا كانت البيعة ليزيد في الحجاز...و مات معاوية و هو يعلم أن بيعة كهذه لا تجوز و لا تؤمن عقباها...فأوصي ابنه «انه لا يخاف الا هؤلاء من قريش: الحسين بن علي، و عبدالله بن عمر، و عبدالله بن الزبير». قال: «فأما عبدالله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة و اذا لم يبق أحد غيره بايعك. و أما الحسين [ صفحه 33] ابن علي فلا أظن أهل العراق تاركيه حتي يخرجوه.. فان خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فان له رحما ماسة و حقا عظيما.«أما ابن الزبير فانه خب ضب، فاذا أمكنته فرصة و ثب.. فان هو فعلها فقدرت عليه، فقطعه اربا اربا الا أن يلتمس منك صلحا، فان فعل فاقبل و احقن دماء قومك ما استطعت»...

خلافة يزيد

و آل الأمر علي هذا النحو الي يزيد في سنة ستين للهجرة، و هو بين الرابعة و الثلاثين و الخامسة و الثلاثين، و لكنه دون أنداده في تجارب الأيام، و ليس حوله من المشيرين و النصحاء أمثال المغيرة، و زياد، و عمرو بن العاص، و غير هم من القروم الذين كانوا حول أبيه... فتهيب ما هو مقدم عليه، و كتب الي عامله بالمدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: «أن خذ حسينا، و عبدالله بن عمر، و عبدالله بن الزبير، بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتي يبايعوا و السلام».فبعث الوليد الي مروان بن الحكم يستشيره... و كان مروان يريد الخلافة لنفسه، و لكنه علم بعد موت معاوية و قيام يزيد ان الامر اليوم أمر بني أمية، فان خرج منهم فقد خرج منهم أجمعين. فنصح للوليد نصيحة

ذات و جهين: ظاهرها الشدة في الدعوة ليزيد و باطنها السعي الي الخلاص من يزيد و منافسيه. فقال: «أري أن تبعث الساعة الي هؤلاء النفر قندعو هم الي البيعة. أما ابن عمر فلا أراه يري القتال، و لكن(الحسين أبوالشهداء - 3) [ صفحه 34] عليك بالحسين و عبدالله بن الزبير، فان بايعا و الا فاضرب أعناقهما...»و ضرب عنق الحسين و ابن الزبير معناه الخلاص من أعظم المنافسين ليزيد... ثم الخلاص من يزيد نفسه باثارة النفوس و ايغار الصدور عليه!و قد ذهب رسول الوليد الي الحسين و ابن الزبير، فوجدهما في المسجد... فعلم الحسين ما يراد منه، و جمع طائفة من مواليه يحملون السلاح، و قال لهم و هو يدخل بيت الوليد «ان دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، و الا فلا تبرحوا حتي أخرج اليكم»...فلما عرضوا عليه البيعة ليزيد قال: «أما البيعة فان مثلي لا يعطي بيعته سرا، و لا أراك تقنع بها مني سرا».قال الوليد: «أجل!»قال الحسين: «فاذا خرجت الي الناس فدعوتهم الي البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر و احدا».ثم انصرف و مروان عاضب صامت لا يتكلم... و ما هو الا أن تواري الحسين حتي صاح بالوليد: «عصيتني و الله! لا قدرت منه علي مثلها أبدا حتي تكثر القتلي بينكم و بيته».فأنكر الوليد لجاجته و قال له: «أتشير علي بقتل الحسين! و الله ان [ صفحه 35] الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله».و هكذا انتهت المنافسة بين بني أمية و بني هاشم الي مفترق طريق لا سبيل فيه الي توفيق، و لم تنقطع قط سلسلة هذه المنافسة منذ أجيال و ان غلبها الاسلام في عهد النبوة، و في عهد الصديق و الفاروق.و

كفي بالاسلام فضلا في هذا المجال أنه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غير قادرة الجهر بمخالفتها! و لكن العصبية المكبوحة عصبية موجودة غير معدومة..و كثيرا ما يفلت المكبوح من عنانه، و ان طالت به الرياضة و الانقياد..فاتفق كثيرا في مساجلات شتي بين كبار الصحابة، أن بدرت الي اللسان بوادر العصبية و النبي عليه السلام حاضر، فلما أشار عمر بقتل أبي سفيان - علي خلاف رأي العباس في استبقائه و تألفه - قال العباس:«مهلا يا عمر! فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا.. و لكنك قد عرفت أنه من رجال عبدمناف».و لما توثب أسيد بن حضير لضرب أعناق المفترين علي السيدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة و صاح به: «كذبت لعمر الله! ما تضرب أعناقهم. [ صفحه 36] أما و الله ما قلت هذه المقالة الا انك قد عرفت أنهم من الخزرج، و لو كانوا من قومك - الأوس - ما قلت هذا..»و قد مات الفاروق و هو يوصي عليا فيقول: «اتق الله يا علي ان و ليت شيئا فلا تحملن بني هاشم علي رقاب المسلمين».. ثم يلتفت الي عثمان فيقول له: «اتق الله ان و ليت شيئا فلا تحملن بني أمية علي رقاب المسلمين»..و من عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الانسانية أن تبقي وجودها و تمضي لطيتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الاسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة علي بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم و أن الأنبياء لا يوروثون.. و اذا نهضت هذه الحجة علي بني هاشم، فبنوأمية أقوي المنتفعين بها من بطون عبدمناف!و قد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من الزمن علي عهد معاوية

بن أبي سفيان، فكان يلطف القول الي أبناء علي و يواليهم بالهدايا و المجاملات، و لكنه كان مضطرا الي مجاملة آل علي و مضطرا الي تنقص علي و الغض من دعواه. فكان بذلك مضطرا الي النقيضين في آن.انه ملك و بايع بالملك ليزيد و هو يعلم أنه غالب بالسلاح و المال، مغلوب بالسمعة و الشعور. فكان الناس يفضلون عليا عليه و هو لا يملك [ صفحه 37] أن يفاضله بقرابة النبي، و لا بالسابقة الي الاسلام، و لا بالعراقة في قريش. فتجنب النسب و السابقة، و عمد الي شخص علي في منازعات الخلافة، فاتهمه بتفرقة الكلمة بين المسلمين، و أمر بلعنه علي المنابر عسي أن يضعف من تلك المكانة التي هو مغلوب بها و يستبقي الدولة التي هو بها غالب.. و لج في ذلك حتي قتل أناسا لم يطيعوه في لعن علي و اتهامه، و أبي أن يجيب الحسن بن علي الي شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه... و كان معاوية علي حصافته يجهل أنه قد أضاع سمعة و شعورا من حيث حارب عليا في مقام السمعة و الشعور..و ان مجاملة كهذه التي تحيي الرجل و تغض من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة بين متلاقيين، فضلا عن خصمين متنافسين قد آل بهما التنافس بعد أجيال الي مفترق الطريق.

زواج الحسين

و كأنما كانت هذه المنافسة المؤصلة الجذور لا تكفي قصاص التاريخ، فأضاف اليها أناس من ثقاتهم قصة منافسة أخري هي وحدها كافية للنفرة بين قلبين متآلفين. و هي قصة زواج الحسين رضي الله عنه بزينب بنت اسحق التي كان يهواها يزيد هوي أدنفه و أعياه.و كانت زينب هذه علي ما قيل أشهر فتيات زمانها بالجمال،

و كانت زوجة لعبدالله بن سلام القرشي و الي العراق من قبل معاوية.فمرض يزيد بحبها و أخفي سره عن أهله، حتي استخرجه منه بعض [ صفحه 38] خصيان القصر الذين يعينونه علي شهواته.. فلما علم أبوه سر مرضه أرسل في طلب عبدالله بن سلام و استدعي اليه أباهريرة و أباالدرداء، فقال لهما ان له ابنة يريد زواجها و لم يرض لها خليلا غير ابن سلام، لدينه و فضله و شرفه و رغبة معاوية في تكريمه و تقريبه. فخدع ابن سلام بما بلغه و فاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكل معاوية الأمر الي أبي هريرة ليبلعها و يستمع جوابها. فكان جوابها المتفق عليه بينهما و بين أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، و لكنها تخشي الضر و تشفق أن يسوقها الي ما يغضب الله. فطلق ابن سلام زوجته و استنجز معاوية وعده.. فاذا هو يلويه به و يقول بلسان ابنته انها توجس من رجل يطلق زوجته و هي ابنة عمه و أجمل نساء عصره..و قيل ان الحسين سمع بهذه المكيدة، فسأل أباهريرة أن يذكره عند زينب خاطبا.. فصدع أبوهريرة بأمره و قال لزينب: «انك لا تعدمين طلابا خيرا من عبدالله بن سلام».قالت: «من؟» قال: «يزيد بن معاوية و الحسين بن علي، و هما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال».و استشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم أحد علي فم قبله رسول الله، تضعين شفتيك في موضع شفتيه».فقالت: «لا أختار علي الحسين بن علي أحدا و هو ريحانة النبي و سيد شباب أهل الجنة». [ صفحه 39] فقال معاوية متغيظا:أنعمي أم خالد رب ساع لقاعدو لم يلبث الحسين أن ردها الي زوجها قائلا: «ما أدخلتها في بيتي و تحت نكاحي

رغبة في مالها و لا جمالها، و لكن أردت احلالها لبعلها».فان صحت هذه القصة و هي متواترة في تواريخ الثقات، فقد تم بها ما نقص من النفرة و الخصومة بين الرجلين، و كان قيام يزيد علي الخلافة يوم فصل في هذه الخصومة، لا يقبل الارجاء، و كان بينها كما أسلفنا مفترق طريق [ صفحه 41]

الخصمان

موازنة

لخص المقريزي المنافسة التي بين الهاشميين و الأمويين في بيتين فقال:عبد شمس قد أضرمت لبني ها شم حربا يشيب منها الوليدفابن حرب للمصطفي، و ابن هند لعلي، و للحسين يزيدو سنعرض في خاتم هذا الفصل عرضا موجزا لهذه المقابلة المتسلسلة بين أفراد الأسرتين لتحقيق الرأي فيها، و لكننا نجتزي ء هنا بالقابلة بين الخصمين التصاولين من هاشم و عبدشمس في شخصي الحسين و يزيد...فأيا كان الميزان الذي يوزن به كل من الرجلين فلا مراء البتة في خير الرجلين...و ما من رجل فاز حيث ينبغي أن يخيب، كما قد فاز يزيد بن معاوية في حربه للحسين، و ما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقا [ صفحه 42] و أظهر فضلا من الحسين في خصومته ليزيد بن معاوية.و الموازنة بين هذين الخصمين هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين و الأمويين من بداءة الخلاف بين الأسرتين، و هي موازنة حفظت كفتيها علي وضعهما زهاء سبعة قرون، فلم يظهر في هذه القرون أموي قح، الا ظهرت فيه الخصال الأموية المعهودة في القبيلة بأسرها، و لم يظهر في خلالها هاشمي قح، الا رأيت فيه ملامح من تلك الخصال التي بلغت مثلها الأعلي في محمد بن عبدالله عليه الصلاة و السلام.و الهاشميون و الأمويون من أرومة واحدة ترتفع الي عبدمناف، ثم الي قريش في أصلها الأصيل..و

لكن الأسرتين تختلفان في الأخلاق و الأمزجة و ان اتحدتا في الأرومة... فبنوهاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون و لا سيما أبناء فاطمة الزهراء و بنوأمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون، و لا سيما الاصلاء منهم في عبدشمس من الآباء و الأمهات.و تفسير هذا الاختلاف مع اتحاد الأرومة غير عسير.. فان الأخوين في البيت الواحد قد يختلفان في الأخلاق و الأعمال، كما يختلف الغريبان من أمتين بعيدتين، تبعا لاختلاف سلسلة الميراث في الاصول و الفروع، علي ذلك النحو الذي يأذن أحيانا باختلاف الألوان و الملامح في نسل واحد، تأخذ كل شعبة منه بناحية من نواحي الوراثة. [ صفحه 43] و من الثابت الذي لا نزاع فيه أن عبدالمطلب و أمية كانا يختلفان حتي في الصورة و القامة و الملامح..و في نسل أمية شبهة نشير اليها و لا نزيد، فهي محل الاشارة و المراجعة في هذا المقام...دخل دغفل النسابة علي معاوية فقال له: «من رأيت من علية قريش؟». فقال: «رأيت عبدالمطلب بن هاشم و أمية بن عبدشمس».فقال: «صفهما لي». فقال: «كان عبدالمطلب أبيض، مديد القامة، حسن الوجه، في جبينه نور النبوة و عز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب». قال: «فصف أمية» قال «رأيته شيخا قصيرا، نحيف الجسم ضريرا، يقوده عبده ذكوان» فقال معاوية: «مه!... ذاك ابنه أبوعمرو». فقال دغفل: «ذلك شي ء قلتموه بعد و أحدثتموه... و أما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به».و ذكر الهيثم بن عدي في كتاب المثالب أن أباعمرو بن أمية كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقة، و نقل أبوالفرج الأصبهاني - و هو من الأمويين - ما تقدم فلم يعرض له بتفنيد...و وضح الفرق بين بني هاشم و بني أمية

في الخلائق و المناقب في الجاهلية قبل الاسلام. فكان الهاشميون سراعا الي النجدة و نصرة الحق و التعاون عليه... و لم يكن بنوأمية كذلك.. فتخلفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنوهاشم و حلفاؤهم، و هو الحلف الذي اتفق فيه نخبة من [ صفحه 44] رؤساء قريش «ليكونن مع المظلوم حتي يؤدوا اليه حقه، و ليأخذن أنفسهم بالتآسي في المعاش و التساهم في المال، و ليمنعن القوي من ظلم الضعيف و القاطن من عنف الغريب» و اتفقوا علي هذا الحلف لأن العاص ابن وائل اشتري بضاعة من رجل زبيدي و لواه بثمنها، فنصروا الرجل الغريب علي القرشي و أعطوه حقه...و لما تنافر عبدالمطلب و حرب بن أمية الي نفيل بن عدي، قضي لعبدالمطلب و قال لحرب:أبوك معاهر و أبوه عف و ذاد الفيل عن بلد حرام يشير الي فيل أبرهة الذي أغار به علي مكة. و قال عن أمية انه «معاهر» لأنه كان يتعرض للنساء، و قد ضرب بالسيف مرة لأنه تعرض لامرأة من بني زهرة. و كان له تصرف عجيب في علاقات الزواج و البنوة، فاستلحق عبده ذكوان و زوجه امرأته في حياته، و لم يعرف سيد من سادات الجاهلية قط صنع هذا الصنيع.

اختلاف النشأة

و ندع اختلاف الطبائع و مغامز النسب ثم نظر في اختلاف النشأة و العادة - مع اختلاف الخلقة الجسدية - فنري أنها صالحتان لتفسير الفارق بين أبناء هاشم و أبناء عبدشمس بعد جيلين أو ثلاثة أجيال...فقد كان بنوهاشم يعلمون في الرئاسة الدينية، و بنوعبدشمس [ صفحه 45] يعملون في التجارة أو الرئاسة السياسية... و هما ما هما في الجاهلية من الربا و المماكسة و الغبن و التطفيف و التزييف، فلا عجب أن

يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة و أخلاق المساومة، و بين وسائل الايمان و وسائل الحيلة علي النجاح.و يتفق كثيرا في الكهانات الوثنية أن يتصف رؤساء الأديان بصفات الرياء و الدهاء و العبث بأحلام الأغرار و الجهلاء، و لكنهم يتصفون بهذه الصفة حين يعلمون الكذب فيما يمارسون من شعائر الكهانة، و مظاهر العبادة، و يتخذونها صناعة يرجونها لمنفعتهم أو لما يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار و الجهلاء..أما أبناءهاشم فلم يكونوا من طراز أولئك الكهان المشعوذين، و لا كانوا من المحتالين بالكهانة علي خداع أنفسهم و خداع المؤمنين و المصدقين بل كانوا يؤمنون بالبيت و رب البيت، و بلغ من أيمانهم بدينهم أن عبدالمطلب - جد النبي عليه السلام - أو شك أن يذبح ابنه فدية لرب البيت لأنه نذر «لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة»، و لم يتحلل من نذره حتي استوثق من كلام العرافة بعد رمي القداح ثلاث مرات.و الأخلاق المثالية توائم الرئاسة الدينية التي يدين أصحابها بما يدعون اليه.. فان لم تكن في بني هاشم موروثة من معدن أصيل في الأسرة، [ صفحه 46] فهي أشبه بسمت الرئاسة الدينية و العقيدة المتمكنة و الشعائر المتبعة جيلا بعد جيل، و هي أخلق أن تزداد في الأسرة تمكنا بعد ظهور النبوة فيها، و أن يتلقاها بالوراثة و القدوة أسباط النبي و أقرب الناس اليه..و أنك لتنحدر مع أعقاب الذرية في الطالبيين - أبناء علي و الزهراء - مائة سنة و أربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيل اليك أن هذا الزمن الطويل لم يعبد قط بين الفرع و أصله في الخصال و العادات...كأنما هو بعد أيام معدودات لا بعد المئات وراء

المئات من السنين، و لا تلبث أن تهتف عجبا: ان هذه لصفات علوية لا شك فيها، لانك تسمع الرجل منهم يتكلم و يجيب من يكلمه، و تراه يعمل و يجزي من عمل له، فلا تخطي ء في كلامه و لا في عمله تلك الشجاعة و الصراحة، و لا ذلك الذكاء و البلاغ المسكت، و لا تلك اللوازم التي اشتهربها علي و آله و تجمعها في كلمتين اثنتين تدلان عليها أو في دلالة، و هما: «الفروسية و الرياضة»...طبع صريح، و لسان فصيح، و متانة في الأسر يستوي فيها الخلق و الخلق. و نخوة لا تبالي ما يفوتها من النفع اذا هي استقامت علي سنة المروءة و الاباء..فمن يحيي بن عمر، الي علي بن ابي طالب، خمسة أو ستة أجيال... و لكن يحيي بن عمر يوصف لك، فاذا هو صوة مصغرة من صور علي بن ابي طالب علي نحو من الانحاء، فمن أوصافه التي و صفه بها [ صفحه 47] الكاتب الأموي أبوالفرج الأصبهاني انه كان «رجلا فارسا، شجاعا، شديد البدن، مجتمع القلب بعيدا عن رهق الشباب و ما يعاب به مثله».و مما روي عنه «انه كان مقيما ببغداد، و كان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، و ربما سخط علي العبد أو الأمة من حشمه.. فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتي يحله يحيي رضي الله عنه.و لما ضايقه الأمراء و ضنوا عليه بجرايته في بيت المال، كان يجوع و يعرض عليه الطعام فيأباه و يقول: «ان عشنا أكلنا».ثم ثار و بلغت أنباء ثورته بغداد، فأقبلت عليهم الجموع المحشودة لقتاله، و أسرع اليه بعض الاعراب فصاح به: «أيها الرجل، أنت مخدوع... هذه الخيل

قد أقبلت»... فوثب الي متن فرسه فجال به، و حمل علي قائد القوم فضربه ضربة بسيفه علي وجهه.. فولي منهزما و تبعه أصحابه، فجلس معهم ساعة و هو لا يبالي ما يكون.و لما تكاثرت عليه الجموع و قتل بعد ذلك، اتهم الناس صاحبه الهيضم العجلي انه كان مدسوسا عليه، و انه غرر به لينكص عنه عند احتدام القتال. فأقسم الرجل بالطلاق انه لم يكت له في الهزيمة صنع مدبر... قال: «و انما كان يحيي يحمل وحده و يرجع، فنهيته عن ذلك فلم يقبل... و حمل [ صفحه 48] مرة كما كان يفعل، فبصرت عيني به و قد صرع في وسط عسكرهم، فلما رأيته قتل انصرفت بأصحابي».و يحيي الشهيد هذا هو الذي قال ابن الرومي جيميته المشهورة في وصف قتاله و مقتله، و هي طويلة منها قوله يخاطب أمراء زمانه:فلو شهد الهيجا بقلب أبيكم غداة التقي الجمعان و الخيل تمعج [1] .لأعطي يد العاني أو ارتد هاربا كما ارتد بالقاع الظليم [2] المهيج و لكنه مازال يغشي بنحره شبا الحرب حتي قال ذوالجهل: أهوج و حاشي له من تلكم غير أنه أبي خطة الأمر الذي هو أسمج و أين به عن ذاك؟... لا أين - انه اليه بعرقيه الزكيين محرج كأني به كالليث يحمي عرينه و أشباله لا يزدهيه المهجهج [ صفحه 49] كدأب علي في المواطن قبله - أبي حسن - و الغصن من حيث يخرج كأني أراه اذ هوي عن جواده و عفر بالترب الجبين المشجج فحب به جسما الي الأرض اذ هوي و حب به روحا الي الله تعرج و قد أصاب ابن الرومي الوصف و التعليل، فما كان كل من يحيي و لا أسلافه من قبله الا عليا صغيرا يتأسي بعلي الكبير، أو

غصنا زاكيا يخرج من دوحته الكبري، «و الغصن من حيث يخرج» كما قال، و لولا قوة هذه الطبائع في أساس الأسرة الطالبية لما انحدرت علي هذه الصورة الواضحة بعد ستة أجيال. فنحن نري يحيي بن عمر بعد هذه الأجيال - و هو بعموده الحديدي و جرأته التي لا تتزعزع و يقينه الذي لا يلوي به الاغراء و الوعيد - كأنما هو نسخة من جده الكبير الذي يحمل باب خيبر و قد أعيا حمله الرجال، و ينهد لعمرو بن ود و قد تهيبه مئات الأبطال، و يتوسط الصفوف حاسرا و قد برزوا له بشكة القتال و دروع النزال..و لم يكن لبني أمية - علي نقيض هذا - نصيب ملحوظ من الخلائق [ صفحه 50] المثالية و الشمائل الدينية، و لا كان ظهور النبوة في أسرة منافسة لأسرتهم من شأنه أن يعزز مناقبها فيهم كما يعتز بها أبناء بيتها و فروع أرومتها.بل لعله كان من شأنه أن يجنح بهم من طرف خفي الي صفات تقابل تلك الصفات، و مزايا تعوض لهم ما فاتهم من تلك المزايا... فتمكنت فيهم قبل ظهور النبوة و بعدهما خلائقهم العملية التي دربتهم عليها المساومات التجارية و راضهم عليها مراس المطامع السياسية. فاشتهر أناس من رؤوسهم بمحاسن هذه الخلائق و معائبها علي السواء، و شاعت عنهم صفات الحلم و الصبر و الحنكة و الدهاء كما شاعت عنهم صفات المراوغة و الجشع و الاقبال علي الترف و مناعم الحياة.و لقد تقابل الحسين بن علي و يزيد بن معاوية في تمثيل الأسرتين، كما تقابلا في كثير من الخلائق و الحظوظ.. و لكنها تفاوتا في تمثيل أسرتيهما كما تفاوتا في غير ذلك من وجوه الخلاف بينهم. فكان

الحسين بن علي نموذجا لأفضل المزايا الهاشمية و لم يكن يزيد بن معاوية نموذجا لأفضل المزايا الأموية، بل كان فيه الكثير من عيوب أسرته و لم يكن له من مناقبها المحمودة الا القليل.و ليس لنا هنا أن نفصل القول في أحوال كل من الرجلين و خصائص كل من النموذجين، و لكننا نجتزي ء منهما بما يملا الكفتين في هذا الميزان، [ صفحه 51] و هو ميزان الأريحية و النفعية في حادث كبير من حوادث التاريخ العربي يندر نظيره في جميع التواريخ.

مكانة الحسين

و اذا كانت المعركة كلها هي معركة الأريحية و النفعية، فالمزية الأولي التي ينبغي توكيدها نا للحسين بن علي رضي الله عنه هي مزية نسبه الشريف و مكانه من محبة النبي عليه الصلاة و السلام...ان المؤرخ الذي يكتب هذا الحادث قد يكون عربيا مسلما أو يكون من غير العرب، و المسلمين، و قد يؤمن بمحمد أو ينكر محمدا و غيره من الأنبياء.. و لكنه يخطي ء دلالة الحوادث التاريخية اذا استخف بهذه المزية التي قلنا انها أحق مزايا الحسين بالتوكيد في الصراع بينه و بين يزيد.فليس المهم أن يؤمن المؤرخون بقيمة ذلك النسب الشريف في نفوسهم أو قيمته في علوم العلماء و أفكار المفكرين، و لكنما المهم أن أتباع يزيد كانوا يؤمنون بحق ذلك النسب الشريف في الرعاية و المحبة، و أنهم مع هذا غلبتهم منافعهم علي شعورهم فكانوا من حزب يزيد و لم يكونوا من حزب الحسين...فلولا هذه المزية في الحسين لما وضح الصراع بين الأريحية و النفعية عند الفريقين، و لا كان المصطرعون هنا و هناك من مزاجين مختلفين، [ صفحه 52] و لا كان للمعركة كلها تلك الدلالة التي كشفت النفس الانسانية في

جانبين منها قويين، يتنازعان حوادث الأمم و الأفراد من زمان بعيد، و سيظلان علي نزاعهما هذا الي زمان بعيد.و لقد كان الحسين بن علي بهذه المزية أحب انسان الي قلوب المسلمين، و أجدر انسان أن تنعطف اليه القلوب.كان النبي عليه السلام هو الذي سماه، و سمي من قبله أخاه... قال علي رضي الله عنه: «و لما ولد الحسن سميته حربا فجاء رسول الله فقال: (أروني ابني ما سميتموه؟). قلت: (حرب!). فقال: (بل هو حسن) فلما ولد الحسين سميته حربا، فجاء رسول الله فقال: (أروني ابني... ما سميتموه؟). قلت: (حرب!) فقال: (بل هو حسين)...»و ذهب ال الحسين و اخوته كل ما في فؤاد النبي عليه السلام من محبة البنين، و هو مشوق الفؤاد الي الذرية من نسله. فكان عليه السلام لا يطيق أذاهما، و لا يحب أن يستمع الي بكاء منهما في طفولتهما، علي كثرة ما يبكي الأطفال الصغار. و خرج من بيت عائشة يوما، فمر علي بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي، فقال: «ألم تعامي أن بكاءه يؤذيني؟».و كان يقول: «ادعي الي ابني».. فيشمهما و يضمهما اليه، و لا يبرح [ صفحه 53] حتي يضحكهما و يتركهما ضاحكين. و روي أبوهريرة أنه كان عليه السلام يدع لسانه للحسين، فيري الصبي حمرة لسانه فيهش اليه، و كان عيينة بن بدر، شهده في بعض هذه المجالس فقال متعجبا: «يصنع هذا بهذا؟ فوالله ان لي الولد و ما قبلته قط!» قال عليه السلام: «من لا يرحم، لا يرحم؟».و خرج ليلة في احدي صلاتي العشاء و هو حامل حسنا أو حسينا، فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، قال راوي الحديث:«فرفعت رأسي فاذا بالصبي علي ظهر رسول الله و هو ساجد فرجعت الي سجودي، فلما

قضي صلاة قبل يا رسول الله: انك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتي ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحي اليك..»قال: «كل ذلك لم يكن... و لكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله..»و قام عليه السلام يخطب المسلمين، فجاء الحسن و الحسين و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران.. فنزل عليه السلام من المنبر، فحملهما و وضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله!.. (انما أموالكم و أولادكم فتنة).. نظرت الي هذين الصبيين يمشيان و يعثران، فلم أصبر حتي قطعت حديثي و رفعتهما». و لا يوجد مسلم في العصر القديم أو العصر الحديث يحب نبيه كما يحب [ صفحه 54] المومنون أنبيائهم، ثم يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر به قلبه الكريم سبطيه و أحب الناس اليه.. فبهذا الحنان النبوي قد أصبح الحسين في عداد تلك الشخوص الرمزية التي تتخذ منها الأمم و الملل عنوانا للحب، أو عنوانا للفخر، أو عنوانا للألم و الفداء.. فاذا بها محبوب كل فرد و مفخرته، و موضع عطفه و اشفاقه، كأنما تمت اليه وحده بصلة القرابة أو بصله المودة..و قد بلغ الحسين بهذا الحنان - مع الزمن - مبلغه من تلك المكانة الرمزية فأو شك بعض و اصفيه أن يلحقه في حمله و ولادته و رضاعه بمواليد المعجزات. فقال بعضهم: «لم يولد مولود لستة أشهر و عاش الا الحسين و عيسي بن مريم».و قال آخرون انه رضي الله عنه لم ترضعه أمه و لم ترضعه أنثي «و اعتلت فاطمة لما ولدت الحسين و جف لبنها فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه ابهامه فيمصه و يجعل الله في ابهام رسوله رزقا يغذيه، ففعل ذلك أربعين يوما و ليلة،

فأنبت الله سبحانه و تعالي لحمه من لحم رسول الله..»و روي عنه غير ذلك كثير من الأساطير التي تحيط بها الأمم تلك الشخوص الرمزية التي تعزها و تغليها فتلتمس لها مولدا غير المولد المألوف، و النشأة المعهودة، و تلحقها أو توشك أن تلحقها بالخوارق و المعجزات..و لقد كانت حقيقة الحسين الشخصية كفؤا لتلك الصورة الرمزية [ صفحه 55] التي نسجتها حوله الأجيال المتعاقبة قبل أن يري منه أبناء جيله غير تلك الحقيقة.فكان مل ء العين و القلب في خلق و خلق، و في أدب و سيرة، و كانت فيه مشابه من جده و أبيه.. الا أنه كان في شدته أقرب الي أبيه. قال رضي الله عنه مشيرا الي الحسن: «ان ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، أشبه أهلي بي الحسين». و اتفق بعض الثقات علي أن «الغالب علي الحسين الحلم و الأناة كالنبي، و علي الحسين الشدة كعلي».

صفات الحسين

و قد تعلم في صباه خير ما يتعلمه أبناء زمانه من فنون العلم و الأدب و الفروسية، و اليه يرفع كثير من المتصوفة و حكماء الدين نصوصهم التي يعولون عليها و يردونها الي علي بن أبي طالب رضي الله عنه.و قد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان و حسن بيان و غنة صوت و جمال ايماء. و من كلامه المرتجل قوله في توديع أبي ذر و قد أخرجه عثمان من المدينة بعد أن أخرجه معاوية من الشام: «يا عماه! ان الله قادر أن يغير ما قد تري. و الله كل يوم في شأن. و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك، و ما أغناك عما منعوك و أحوجهم الي منعتهم، فاسأل الله الصبر و النصر، و استعذ به من الجشع

و الجزع، فان الصبر من الدين و الكرم، و أن الجشع لا يقدم رزقا و الجزع لا يؤخر أجلا». [ صفحه 56] و كان يومئذ في نحو الثلاثين من عمره فكانما أودع هذه الكلمات شعار حياته كاملة منذا أدرك الدنيا الي أن فارقها في مصرع كربلاء.و تواترت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة و بعض المناسبات البيتية، و من ذلك هذه الابيات:اغن عن المخلوق بالخالق تغن عن الكاذب و الصادق و استرزق الرحمن من فضله فليس غير الله من رازق من ظن أن الناس يغنونه فليس بالرحمن بالواثق و منه هذان البيتان في زوجته و ابنته:لعمرك انني لأحب دارا تكون بها سكينة و الرباب أحبهما و أبذل كل مالي و ليس لعاتب عندي عتاب و هما - سواء صحت نسبتهما اليه أو لم تصح - معبران عن خلقه في بيته و بين أهله، فقد كان من أشد الآباء حدبا علي الأبناء و أشد الأزواج [ صفحه 75] عطفا علي النساء، و من وفاء زوجاته بعد مماته أن الرباب هذه التي ذكرت في البيتين السابقين خطبها أشراف قريش بعد مقتله فقالت: «ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله».. و بقيت سنة لا يظلها سقف حتي فنيت و ماتت، و هي لا تفتر عن بكائه و الحزن عليه..

خلق كريم

و قد سن الحسين لمن بعده سنة في آداب الأسرة تليق بالبيت الذي نشأ فيه و وكل اليه أن يرعي له حقه و يوجب علي الناس مهابته و توقيره، فهو علي فضله و ذكائه و شجاعته و رجحانه علي أخيه الحسن في مناقب كثيرة و مآثر عدة كان يستمع الي رأي الحسن و لا يسوءه بالمراجعة أو المخالفة. فلما هم الحسن بالتسليم لمعاوية كان

ذلك علي غير رضي من الحسين. فلم يوافقه و أشار عليه بالقتال، فغضب الحسن و قال له: «و الله لقد هممت أن أسجنك في بيت و أطين عليك بابه، حتي أقضي بشاني هذا و أفرغ منه ثم أخرجك..»فلم يراجعه الحسين بعدها و آثر الطاعة و السكوت..و من رعايته لسنن الأسرة و وصايا الأبوة انه ركبه دين فساومه معاوية بمائتي ألف دينار أو بمبلغ جسيم من المال علي عين «أبي بيزر» فأبي [ صفحه 58] أن يبيعها مع حاجته الي بعض ما عرض عليه - لان أباه تصدق بمائها لفقراء المدينة، و لو أنه باعها لوقفها معاوية علي أولئك الفقراء.و قد أخذ نفسه بسمت الوقار في رعاية أسرته و رعاية الناس عامة..فهابه الناس و عرف معاوية عنه هذه المهابة فوصفه لرجل من قريش ذاهب الي المدينة فقال: «اذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن علي رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبدالله مؤتزرا الي أنصاف ساقيه..»و لم يذكر عنه قط أنه كان يواجه الناس بتخطئة و هو يعلمهم و يبصرهم بشؤون دينهم، الا أن تكون مكابرة أو لجاجة فله في جواب ذلك أشباه تلك القوارص التي كانت تؤثر عن أبيه.و ما لم تكن مكابرة أو لجاجة فهو يحتال علي تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها علي المخطئين.فمن آدابه و آداب أخيه في ذلك أنهما رأيا اعرابيا يخفف الوضوء و الصلاة فلم يشاءا أن يجبهاه بغلطه و قالا له: «نحن شابان و أنت شيخ ربما تكون أعلم بأمر الوضوء و الصلاة منا، فنتوضا و نصلي عندك، فان كان عندنا قصور تعلمنا». فتنبه الشيخ الي غلطه دون أن يأنف من تنبيههما اليه. و مر يوما بمساكين يأكلون فدعوه

الي الطعام علي عادة [ صفحه 59] العرب، فنزل و أكل معهم ثم قال لهم: «قد أجبتكم فأجيبوني» و دعاهم الي الغداء في بيته.و رويت الغرائب في اختبار حذقه بالفقه و اللغة كما رويت أمثال هذه الغرائب في امتحان قدرة أبيه عليهما السلام... فقيل ان اعرابيا دخل المسجد الحرام فوقف علي الحسن رضي الله عنه و حوله حلقة من مر يديه فسأل عنه، فقال لما عرفوه به: «اياه أردت... جئت لأطارحه الكلام و أساعه عن عويص العربية». فقال له بعض جلسائه: «ان كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب». و أومأ الي الحسين عليه السلام، فلما سلم علي الحسين و سأله عن حاجته قال: «اني جئتك من الهرقل و الجعلل و الأيتم و الهمهم» فتبسم الحسين و قال:- يا اعرابي!... قد تكلمت بكلام ما يعقله الا العالمون.فأجابه الأعرابي قائلا يريد الاغراب: و أقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي علي قدر كلامي؟... ثم أذن له الحسين فأنشد أبياتا تسعة، منها:هفا قلبي الي اللهو و قد ودع شرخيه فأجابه الحسين مرتجلا بتسعة أبيات في معناها و من وزنها و قوافيها، يقول منها: [ صفحه 60] فما رسم شجاني قد محت آيات رسميه سفور درجت ذيلين قد بوغاء قاعيه هتوف مرجف تتري علي تلبيد ثوبيه الي آخر الأبيات... ثم فسر ما أراد من الهرقل و هو ملك الروم، و الجعلل و هو قصار النخل، و الأيتم و هو بعض النبات، و الهمهم و هو القليب الغزير الماء، و في هذه الكلمات أوصاف البلاد التي جاء منها و اشارة اليها...فقال الاعرابي: «ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاما، و أذرب لسانا، و لا أفصح منه منطقا».و تلك رواية من روايات علي منوالها، ان

لم تنبي ء بما وقع فهي منبئة بما تداوله الناس من شهرة الحسين في صباه الباكر بالعلم و الفصاحة...و لخبرته بالكلام و شهرته بالفصاحة، كان الشعراء يرتادونه و بهم من الطمع في اصغائه أكبر من طمعهم في عطائه... و لكنه علي هذا كان يجري معهم علي شرعة ذوي الأقدار و الأخطار من أنداده، فيبذل لهم الجوائز ما وسعه البذل و يؤثرهم علي نفسه في خصاصة الحال. و قد لامه أخوه الحسن في ذلك فكتب اليه «ان خير المال ما وقي به العرض» الا أنه في الواقع لم يكن يعطي لو قاية العرض و كفي، [ صفحه 61] و لكنه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات و لا يخيب رجاء لمن استعان به علي مروءة.

وفاء و شجاعة

و قد اشتهر مع الجود بصفتين من أكرم الصفات الانسانية و أليقهما ببيته و شرفه، و هما الوفاء و الشجاعة.فمن وفائه أنه أبي الخروج علي معاوية بعد وفاة أخيه الحسن لأنه عاهد معاوية علي المسالمة، و قال لأنصاره الذين حرضوه علي خلع معاوية أن بينه و بين الرجل عهدا و عقدا لا يجوز له نقضه حتي تمضي المدة، و كان معاوية يعلم وفاءه وجوده معا، فقال لصحبه يوما و قد أرسل الهدايا الي وجوه المدينة من كسي و طيب و صلات: «ان شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم... أما الحسن فلعله ينيل نساءه شيئا من الطيب و يهب ما بقي من حضره و لا ينتظر غائبا، و أما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفين فان بقي شي ء نحر به الجزر و سقي به اللبن...»و شجاعة الحسين صفة لا تستغرب منه لأنها «الشي ء من معدنه» كما قيل. و هي فضيلة

ورثها عن الآباء و أورثها الأبناء بعده، و قد شهد الحروب في افريقية الشمالية و طبرستان و القسطنطينية، و حضر مع أبيه وقائعه جميعا من الجمل الي صفين. و ليس في بني الانسان من هو أشجع قلبا ممن أقدم علي ما أقدم عليه الحسين في يوم كربلاء. [ صفحه 62] و قد تربي للشجاعة كما تلقاها في الدم بالوراثة، فتعلم فنون الفروسية كركوب الخيل و المصارعة و العدو من صباه و لم تفته ألعاب الرياضة التي تتم بها مرانة الجسم علي الحركة و النشاط... و منها لعبة تشبه «الجولف» عند الأوروبيين كانوا يسمونها المداحي: جمع مدحاة، و هي أحجار مثل القرصة يحفرون في الأرض حفرة و يرسلون تلك الأحجار، فمن وقع حجره في الحفيرة فهو الغالب.أما عادته في معيشته فكان ملاكها لطف الحس و جمال الذوق و القصد في تناول كل مباح. كان يحب الطيب و البخور، و يأنق للزهر و الريحان...و روي أنس بن مالك انه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيته بها. فقال لها: «أنت حرة لوجه الله تعالي» فسأله أنس متعجبا: «جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟». فقال: «كذا أدبنا الله... قال تبارك و تعالي: (و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)... و كان أحسن منها عتقها».و كان يميل للفكاهة و يأنس في أوقات راحته لأحاديث أشعب و أضاحيكه، و لكنه علي شيوع الترف في عصره لم يكن يقارب منه الا [ صفحه 63] ما كان يجمل بمثله... حتي تحدث المتحدثون أنه لا يعرف رائحة الشراب...و كانت له صلوات يؤديها غير الصلوات الخمس، و أيام من الشهر يصوم نهارها و يقوم ليها...و قد عاش سبعا و خمسين

سنة بالحساب الهجري، و له من الأعداء من يصدقون و يكذبون... فلم يعبه أحد منهم بمعابة و لم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتي حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحسين له. و اقترحوا عليه أن يكتب اليه بما يصغره في نفسه. فقال انه كان يجد ما يقوله في علي، و لكن لا يجد ما يقوله في حسين.تلك جملة القول في سيرة أحد الخصمين...

خلق يزيد

و يقف خصمه أمامه موقف المقابلة و المناقضة لا موقف المقارنة و المعادلة في معظم خلائقه و عاداته و ملكاته و أعماله.فيزيد بن معاوية عريق النسب في بني عبدمناف ثم في قريش، و لكن الأصدقاء و الخصوم و المادحين و القادحين متفقون علي وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبدمناف. و أشهرها الأثرة، [ صفحه 64] و أحمد ما يحمد منها أنها تنفع الناس من طريق النفع لأصحابها. و ندر من وجوه الأمويين في الجاهلية أو الاسلام من اشتهر بخصلة تجلب الي صاحبها ضررا أو مشقة في سبيل نفع الناس...و بيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها...و لكن الحقيقة التي ينبغي ان نذكرها في هذا المقام أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن ليرث شيئا من هذه السيادة التي كان قوامها كله و فرة المال، لأن أباسفيان علي ما يظهر قد أضاع ماله في حروب الاسلام و لم يكن له من الوفر ما يبقي علي كثرة الوراث. و روي أن امرأة استشارات النبي عليه السلام في التزويج بمعاوية فقال لها: «انه صعلوك!...»كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخري في هذا المقام، و هي أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي كما أشاع خدام دولته بعد صدر

الاسلام، و لكنه كان يكتب للنبي عليه السلام في عامة الحوائج و في اثبات ما يجبي من الصدقات و ما يقسم في أربابها، و لم يسمع عن ثقة قط انه كتب للنبي شيئا من آيات القرآن الكريم. و عرفت لمعاوية خصال محمودة من خصال الجد و السيادة كالوقار و الحلم و الصبر و الدهاء، و لكنه علي هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بالملك الراسخ، و منها قتله حجر بن عدي و ستة من أصحابه لأنهم كانوا [ صفحه 65] ينكرون سب علي و شيعته، فمازال بقية حياته يندم علي هذه الفعلة و يقول: «ما قتلت أحدا الا و أنا أعرف فيم قتلته ما خلا حجرا فاني لا أعرف بأي ذنب قتلته...»و أم يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب المعرقات في النسب، و هي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق و قالت تتشوق الي عيش البادية:للبس عباءة و تقر عيني أحب الي من لبس الشفوف و بيت تخفق الأرواح فيه أحب الي من قصر منيف...و من هذه الأبيات قولها:و خرق من بني عمي فقير أحب الي من علج عنيف!...فأرسلها و ابنها يزيد الي باديتها، فنشأ يزيد مه أمه بعيدا عن أبيه...و قد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، و لكنها علي ما هو مألوف في أعقاب السلالات القوية تضيرهم و تجهز علي ما بقي من العزيمة فيهم... [ صفحه 66] فكان ما استفاده من بادية بني كليب بلاغة الفصحي، و حب الصيد، و ركوب الخيل، و رياضة الحيوانات و لا سيما الكلاب.و هذه صفات في الرجل القوي تزينه و تشحذ قواه، و لكنهما في أعقاب السلالات - أو عكارة

البيت كما يقال بين العامة - مدعاة الي الاغراق في اللهو و الولع بالفراغ لأنها هي عنده كل شي ء و ليست مددا لغيرها من كبار الهمم و عظائم الهموم.و هكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من المزية الي النقيصة... فكان كلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء و الندماء في مجالس الشراب، و كان و لعه بالصيد شاغلا يحجبه عن شواغل الملك و السياسة، و كانت رباضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين و الفهادين، فكان له قرد يدعوه «أباقيس» يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب و الفضة و يحضره مجالس الشراب، و يركبه أتانا في السباق و يحرص علي أن يراه سابقا مجليا علي الجياد، و في ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الروايات:تمسك أباقيس بفضل عنانها فليس عليها ان سقطت ضمان ألا من رأي القرد الذي سبقت به حاد أميرالمؤمنين أتان [ صفحه 67] و قد يكون عبدالله بن حنظلة مبالغا في المذمة حين قال فيما نسب اليه: «و الله ما خرجنا مع يزيد حتي خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء ان رجلا ينكبح الأمهات و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا».و لكن الروايات لم تجمع علي شي ء كاجماعها علي ادمانه الخمر، و شغفه باللذات، و توانيه عن العظائم... و قد مات بذات الجنب و هو لما يتجاوز السابعة و الثلاثين، و لعلها اصابة الكبد من ادمان الشراب و الافراط في اللذات. و لا يعقل أن يكون هذا كله اختلاقا و اختراعا من الأعداء لأن الناس لم يختلقوا مثل ذلك علي أبيه أو علي عمرو

بن العاص، و هما بغيضان أشد البغض الي أعداء الأمويين... و لأن الذين حاولوا ستره من خدام دولته لم يحاولوا الثناء علي مناقب فيه تحل عندهم محل مساوئه و عيوبه، كأن الاجتراء علي مثل هذا الثناء من وراء الحسبان.و لم يكن هذا التخلف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك القسم الذي يعتري أحيانا بقايا السلالات التي تهم بالانقراض و الدثور، و لكنه كان هزالا في الأخلاق و سقما في الطوية... قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه و ضخامة جثمانه و انصافه ببعض الصفات الجسدية [ صفحه 68] التي تزيد في وجاهة الأمراء كالوسامة و ارتفاع القامة. و قد أصيب في صباه بمرض خطير - و هو الجدري - بقيت آثاره في وجهه الي آخر عمره، و لكنه مرض كان يشيع في البادية و لم يكن من دأبه أن يقعد بكل من أصيب به عن الطموح و الكفاح.و علي فرط و لعه بالطراد حين يكون الطراد لهوا و فراغا، كانت همته الوانية تفتر به عن الطراد حين تتسابق اليه عزائم الفرسان في ميادين القتال، و لو كان دفاعا عن دينه و دنياه.فلما سير أبوه جيش سفيان بن عوف الي القسطنطينية لغزو الروم و دفاعا عن بلاد الاسلام - أو بلاد الدولة الأموية - تثاقل و تمارض حتي رحل الجيش و شاع بعد ذلك أنه امتحن في طريقه ببلاء المرض و الجوع، فقال يزيد:ما أن أبالي بما لاقت جموعهم بالفرقدونة من حمي و من موم اذا اتكأت علي الأنماط مرتفقا بدير مران عندي أم كلثوم فأقسم أبوه حين بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش ليدرأ عنه عار [ صفحه 69] النكول و الشماتة بجيش المسلمين بعد

شيوع مقاله في خلواته...و من أعجب عجائب المناقضة التي تمت في كل شي ء بين الحسين و يزيد أن يزيد لم يختص بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحسين، حتي في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة و لا فضل فيها لأصحابها و منها مزية السن و سابقة الميلاد...فلما تنازعه البيعة كان الحسين في السابعة و الخمسين مكتمل القوة ناضج العقل و في المعرفة بالعلم و التجربة، و كان يزيد في نحو الرابعة و الثلاثين لم يمارس من شئون الرعاة و لا الرعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء.و مزية السن هذه قد يطول فيها الآخذ و الرد بين أبناء العصور الحديثة، و لكنها كانت تقطع القول في أمة العرب حيث نشأ الأسلاف و الأخلاف علي طاعة الشيوخ و رعاية الأعمار... و هذا علي أن السابعة و الخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتي تسلبه مزية الفتوة و مضاء العزيمة...كذلك لا يقال أن «الوراثة المشروعة» في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد علي الحسين في ميزان العروبة و الاسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه علي غير وصية معروفة من السلف بدعة هرقلية كما سماها المسلمون [ صفحه 70] في ذلك الزمان، و لم يكن معقولا أن العرب في صدر الاسلام يوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية و هم لم يوجبوا طاعة آل النبي في أمر الخلافة لأنهم قرابة محمد عليه السلام.فقد شاءت عجائب التاريخ اذن أن تقيم بين ذينك الخصمين قضية تتضح فيها النزعة النفعية علي نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، و قد وجب أن ينخذل يزيد كل الخذلان لو لا النزعة النفعية التي أعانته و هو غير صالح لأن يستعين بها بغير

أعوان من بطانته و أهله. و لئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني أمية، و هي هنا نزعة مواربة تعارض الايمان الصريح و لا تسلم من الختل و التلبيس.لهذا شك بعض الناس في اسلام ذلك الجيل من الأمويين، و هو شك لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتفق عليها. فقد يخطر لنا الشك في صدق دين أبي سفيان لأن أخباره في الاسلام تحتمل التأويلين، و لكن معاوية كان يؤدي الفرائض و يتبرك بتراث النبي و يوصي أن تدفن معه أظافره التي حفظها الي يوم وفاته. و ليس بيسير علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني علي تلك التقوي و ذلك الصلاح و هو ناشي ء في بيت مدخول الاسلام، يتصارح أهله أحيانا بماينم علي الكفر به أو التردد فيه... [ صفحه 71] انما هي الأثرة، ثم الخرق في السياسة، ثم التمادي في الخرق مع استثارة العناد و العداء. و في تلك الأثرة و لواحقها ما ينشي ء المقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، و يتم المناظرة في شتي بواعثها بين ذينك الخصمين الخالدين، و نعني بهما هنا المثالية و الواقعية، و ما الحسين و اليزيد الا المثالان الشاخصان منهما للعيان... [ صفحه 73]

اعوان الفريقين

رجال المعسكرين

كان الحسين في طريقه الي الكوفة - يوم دعاه شيعته اليها - يسأل من يلقاها عن أحول الناس فينبئونه عن موقفهم بينه و بين بني أمية، و قلما اختلفوا في الجواب...سأل الفرزدق و هو خارج من مكة - و الفرزدق مشهور بالتشيع لآل البيت - فقال له: «قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية، و القضاء ينزل من السماء، و الله يفعل ما يشاء».و

قال له مجمع بن عبيد العامري: «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم و ملئت غرائرهم فهم ألب واحد عليك، و أما سائر الناس بعدهم فأن قلوبهم تهوي اليك و سيوفهم غدا مشهورة عليك».و قد أصاب الفرزدق و أصاب مجمع بن عبيد، فان الناس جميعا كانوا بأهوائهم و أفئدتهم مع الحسين بن علي ما لم تكن لهم منفعة موصولة بملك بني أمية، فهم اذن عليه بالسيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب. [ صفحه 74] و قد «أعظمت الرشوة» للرؤساء و أعظمت لهم من بعدها الوعود و الآمال، فعلموا أن دوام نعمتهم من دوام ملك بني أمية...فأما الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حسينا و لا ينصرون الأمويين أو كانوا يصانعون الأمويين و لا يبلغون بالمصانعة أن شهروا الحرب علي الحسين.و من هولاء هاني ء بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، و شريك بن الأعور، و سليمان بن صرد الخزاعي، و كلاهما من ذوي الشرف و الدين.بل كان من العاملين لبني أمية من يخزه ضميره اذا بلغ العداء للحسين أشده، فيترك معسكر بني أمية ليلوذ بالمعسكر الذي كتب عليه الموت و البلاء. كما فعل الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء و قد رأي القوم يهمون بقتل الحسين و لا يقنعون بحصاره. فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟». فلما قال «نعم» ترك الجيش الأموي و ذهب يقترب من الحسين حتي داناه فقال له: «جعلت فداك يا ابن رسول الله. أنا صاحبك حبستك عن الرجوع و جعجعت بك في هذا المكان، و ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، و و الله لو علمت أنهم ينتهون بك الي ما أري ما ركبت

مثل الذي ركبت، و اني تائب الي الله مما صنعت، فهل تري لي من توبة؟».فقبل الحسين توبته و جعل الرجل يقاتل من ساعتها حتي قتل، [ صفحه 75] و آخر كلمة علي لسانه فاه بها: «السلام عليك يا أباعبدالله!»فمجمل ما يقال علي التحقيق انه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه علي الحسين الا و هو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات و لا يبالي بشي ء منها في سبيل الحطام.و لقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، و المغيره ابن شعبة، و زياد بن أبيه، و أضرابهم من أولئك الدهاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول و بناة عروش..و كان لهم من سمعة معاوية و ذرائعه شعار يدارون به المطامع و يتحللون من التأثيم...لكن هولاء بادوا جميعا في حياة معاوية، و لم يبق ليزيد مشير واحد ممن نسميهم بأنصار الدول و بناة العروش، و انما بقيت له شرذمة علي غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أمروا بقتله و يقبضون الأجر فرحين..فكان أعوان معاوية ساسة و ذوي مشورة..و كان أعوان يزيد جلادين و كلاب طراد في صيد كبير..و كانوا في خلائقهم البدنية علي المثال الذي يعهد في هذه الطغمة [ صفحه 76] من الناس، و نعني به مثال المسخاء المشوهين.. أولئك الذين تمتلي ء صدورهم بالحقد علي أبناء آدم و لا سيما من كان منهم علي سواء الخلق و حسن الأحدوثة، فاذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه و ان لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فاذا انتفعوا بالأجر و الغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود..و شر هؤلاء جميعا هم شمر بن ذي الجوشن، و مسلم

بن عقبة، و عبيدالله بن زياد. و يلحق بزمرتهم علي مثال قريب من مثالهم عمر ابن سعد بن أبي وقاص..فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، و كان يصطنع المذهب الخارجي ليجعله حجة يحارب بها عليا و أبناءه، و لكنه لا يتخذه حجة ليحارب بها معاوية و أبناه.. كأنه ينخذ الدين حجة للحقد، ثم ينسي الدين و الحقد في حضرة المال.و مسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ انسان.«و كان أعور أمغر ثائر الرأس، كأنما يقطع رجليه من و حل اذا مشي».و قد بلغ من ضراوته بالشر و هو شيخ فان مريض، أنه أباح المدينة في حرم النبي عليه السلام ثلاثة أيام، و استعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتي ساخت الأقدام في الدم، و قتل أبناء المهاجرين [ صفحه 77] و الأنصار و ذرية أهل بدر، و أخذ البيعة ليزيد بن معاوية علي كل من استبقاه من الصحابة و التابعين علي أنه عبد قن لأمير المؤمنين...!و انطلق جنده في المدينة الي جوار قبر النبي يأخذون الأموال و يفسقون بالنساء، حتي بلغ القتلي في تقدير الزهري سبعمائة من وجوه الناس و عشرة آلاف من الموالي، ثم كتب الي يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل: «فأدخلنا الخيل عليهم... فما صليت الظهر أصلح الله أميرالمؤمنين الا في مسجدهم!... بعد القتل الذريع و الانتهاب العظيم.. و أوقعنا بهم السيوف و قتلنا من أشرف لنا منهم و اتبعنا مدبرهم و أجهزنا علي جريحهم و انتهبناها ثلاثا كما قال أميرالمومنين أعز الله نصره، و جعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز و أمان، و الحمد لله الذي شفا صدري من

قتل أهل الخلاف القديم و النفاق العظيم، فطالما عتوا و قديما ما طغوا. أكتب هذا الي أميرالمومنين و أنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا ما أراني الا لما بي.. فما كنت أبالي متي مت بعد يومي هذا...»و كل هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة انما هو الحقد في طبائع المسخاء الشائهين... يوهم نفسه انه الحقد من ثار عثمان أو من خروج قوم علي ملك يزيد..و كان عبيدالله بن زياد متهم النسب في قريش، لأن أباه زيادا كان [ صفحه 78] مجهول الأب فكانوا يسمونه زياد بن أبيه.. ثم ألحقه معاوية بأبي سفيان لان أباسفيان ذكر بعد نبوغ زياد، انه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغيا فجاءوه بجارية تدعي سمية، فقالت له بعد مولود زياد أنها حملت به في تلك الليلة..و كانت أم عبيدالله جارية مجوسية تدعي مرجانة فكانوا يعيرونه بها و ينسبونه اليها، و من عوارض المسخ فيه - و هي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن و المهانة - انه كان ألكن اللسان لا يقيم نطق الحروف العربية.فكان اذا عاب الحروري من الخوارج، قال: «هروري» فيضحك سامعوه، و أراد مرة أن يقول أشهروا سيوفكم، فقال افتحوا سيوفكم... فهجاه يزيد بن مفرغ قائلا:و يوم فتحت سيفك من بعيد أضعت و كل أمرك للضياع و لم يكن أهون لديه من قطع الأيدي و الأرجل و الأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة و لغير شبهة. ففي ذلك يقول مسلم بن عقيل و هو صادق مؤيد بالأمثال و المثلات: «و يقتل النفس التي حرم الله قتلها علي الغضب و سوء الظن، و هو يلهو و يلعب كأن لم يصنع شيئا».و قد كانت هذه الضراوة علي

أعنفها و أسوئها يوم تصدي عبيدالله ابن زياد لمنازلة الحسين، لأنه كان يومئذ في شرة الشباب لم يتجاوز [ صفحه 79] الثامنة و العشرين، و كان يزيد يبغضه و يبغض أباه لأنه كان قد نصح لمعاوية بالتمهل في الدعوة الي بيعة يزيد، فكان عبدالله من ثم حريصا علي دفع الشبهة و الغلو في اثبات الولاء للعهد الجديد..و الذين لم يمسخوا في جبلتهم و تكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد ابن معاوية، كان الطمع في المناصب و الأموال و اللذات قد بلغ ما يبلغه المسخ من تحويل الطبائع و طمس البصائر و مغالطة النفوس في الحقائق...و من هذا القبيل، عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي أطاع عبيدالله ابن زياد في وقعة كربلاء و لم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، و قد كان العدل بها عن تلك النهاية في يديه.فقد أعزي عمر بن سعد بولاية الري، و هي درة التاج في ملك الأكاسرة الأقدمين. و كان يتطلع اليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، و ينسب اليه أنه قال و هو يراود نفسه علي مقاتلة الحسين:فوالله ما أدري و اني لحائر أفكر في أمري علي خطرين [ صفحه 80] أأترك ملك الري منيتي أم أرجع مأثوما بقتل حسين و في قتله النار التي ليس دونها حجاب، و ملك الري قرة عيني فان لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي و لا شك من لسان حاله، لأنها تسجل الواقع الذي لا شبهة فيه...و من الواقع لا شبهة فيه أيضا، أن عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع علي غير ضرورة و لا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحسين بعد علي طريق جثث القتلي التي لم تزل مطروحة

بالعراء...فصحن و قد لحنها علي الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، و هم ممن قاتل الحسين و ذويه...هؤلاء و أمثالهم لا يسمون ساسة ملك و لا تسمي مهنتهم تدعيم سلطان، و لكنهم يسمون جلادين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة و حقد، و يطيعون ما في أيديهم من أموال و وعود... و تسمي مهمتهم مذبحة طائشة لا يبالي من يسفك فيها الدماء أي غرض يصيب...و منذ قضي علي يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء و أمثالهم أعوانا له في [ صفحه 81] ملكه، قضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه لمسألة الحسين علاج الجلادين الذين لا يعرفون غير سفك الدماء و الذين يسفكون كل دم أجروا عليه...و هكذا كان ليزيد أعوان اذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو جلاد مبذول السيف و السوط في سبيل المال...و كان الحسين أعوان اذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح...و هي اذن حرب جلادين و شهداء... [ صفحه 83]

خروج الحسين

الحسين في مكة

عمل يزيد بوصية أبيه، فلم يكن له هم منذ قيامه علي الملك الا أن يظفر ببيعة الحسين و عبدالله بن الزبير في مقدمة النفر الذين أنكروا العهد له في حياة معاوية...و كان الوليد بن عقبة بن أبي سفيان و الي معاوية يومئذ علي المدينة.فلما جاءه كتاب يزيد بنعي أبيه، و أن يأخذ أولئك النفر بالبيعة «أخذا شديدا ليس فيه رخصة» دعا اليه بمروان بن الحكم، فأشار بمشورته التي جمعت بين الاخلاص و سوء النية... و فحواها أن يبعث الي الحسين و ابن الزبير، فان بايعا و الا ضرب عنقيهما!و حدث بين الحسين و الوليد ما تقدمت الاشارة اليه في محضر مروان، اذ

عاد الحسين الي بيته... و قد عول علي ترك المدينة الي مكة كما تركها ابن الزبير من قبله... فخرج منها لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة ستين للهجرة، و معه جل أهل بيته و أخوته و بنوأخيه، و لزم في مسيره الي مكة الطريق الأعظم فلم يتنكبه كما فعل ابن الزبير مخافة الطلب من ورائه [ صفحه 84] فصحت في الرجلين فراسة معاوية في هذا الأمر الصغير، كما صحت في غيره من كبار الأمور...و انصرف الناس في مكة الي الحسين عن كل مطالب بالخلافة غيره، و منهم ابن الزبير. فكان ابن الزبير يطوف بالكعبة كل يوم و يتردد عليه في صباحه و مسائه، يتعرف رأيه و ما نمي اليه من آراء الناس في الحجاز، و العراق، و سائر الأقطار الاسلامية.فلبث الحسين في مكة أربعة أشهر علي هذه الحال، يتلقي بين آونة و آونة دعوات المسلمين الي الظهور و طلب البيعة، و لا سيما أهل الكوفة و ما جاورها... فقد كتبوا اليه يقولون ان هناك مائة ألف ينصرونك، و ألحوا في الكتابة يستعجلونه الظهور.و تردد الحسين طوال هذه الأشهر فيما يفعل بهذه الدعوات المتتابعات، فبدا له أن يتمهل حتي يتبين جلية القوم و يستطلع طلعهم من قريب...و آثر أن يرسل اليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب يمهد له طريق البيعة ان رأي فيها محلا لتمهيد، و كتب الي رؤساء أهل الكوفة قبل ذلك كتابا يقول فيه: «أما بعد، فقد أتتني كتبكم و فهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم، و قد بعثت اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، و أمرته أن يكتب الي بجالكم و أمركم و رأيكم... [ صفحه 85] فان كتب

الي أنه قد أجمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجي منكم علي مثل ما قدمت علي به رسلكم و قرأت في كتبكم، أقدم عليكم و شيكا ان شاء الله. فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب، و الآخذ بالقسط، و الدائن بالحق، و الحابس نفسه علي ذات الله، و السلام».ثم بلغ الحسين أن مسلما قد نزل الكوفة، فاجتمع علي بيعته للحسين اثنا عشر ألفا، و قيل ثمانية عشر ألفا، فرأي أن يبادر اليه قبل أن يتفرق هذا الشمل و يطول عليهم عهد الانتظار و المراجعة، فظهر عزمه هذا لمشيريه من خاصته و أهل بيته فاختلفوا في مشورتهم عليه بين موافق و مثبط و ناصح بالمسير الي جهة غير جهة العراق.كان أخوه محمد بن الحنيفة يري - و هو بعد في المدينة - أن يبعث رسله الي الأمصار و يدعوهم الي مبايعته قبل قتال يزيد فان أجمعوا علي بيعته فذاك، و ان اجتمع رأيهم علي غيره «لم ينقض الله بذلك دينه و لا عقله»...و كان عبدالله بن الزبير يقول له: «ان شئت أن تقيم بالحجاز آزرناك و نصحنا لك و بايعناك، و ان لم تشأ البيعة بالحجاز توليني أنا البيعة فتطاع و لا تعصي».و يزعم من المؤرخين ان ابن الزبير كان متهم النصيحة للحسين... [ صفحه 86] و من هؤلاء المؤرخين أبوالفرج الأصبحاني. قال: «ان عبدالله بن الزبير لم يكن شي ء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز... و لا أحب اليه من خروجه الي العراق طمعا في الوثوب بالحجاز... لأن ذلك لا يتم له الا بعد خروج الحسين، فلقيه و قال له: «علي أي شي ء عزمت يا أباعبدالله؟»فأخبره برأيه في اتيان الكوفة و أعلمه بما كتب به

مسلم بن عقيل، فقال الزبير: «فما يحبسك؟... فو الله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شي ء».و لعل أنصح الناس له في هذه المسألة كان عبدالله بن عباس لما بينهما من القرابة و ما عرف به ابن عباس من الدهاء... سأله:- ان الناس أرجفوا أنك سائر الي العراق، فما أنت صانع؟...قال:- قد أجمعت السير في أحد يومي هذين.فأعاذه ابن عباس بالله من ذلك، و قال له:- اني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك. ام أهل العراق قوم غدر. أقم بهذا فانك سيد أهل الحجاز، فان كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم، فان أبيت الا أن تخرج [ صفحه 87] فسر الي اليمن، فان بها حصونا و شعابا و لأبيك بها شيعة.فقال له الحسين:- يا ابن عم!... اني أعلم أنك ناصح مشفق، و لكني قد أزمعت و أجمعت علي المسير.قال ابن عباس:- ان كنت لابد فاعلا، فلا تخرج أحدا من ولدك و لا حرمك و لا نسائك، فخليق أن تقتل و هم ينظرون اليك كما قتل ابن عفان.

السفر الي العراق

و خرج في الثامن من ذي الحجة لا ينتظر العيد بمكة، لأن أخبار البيعة بالكوفة حفزته الي التعجيل بالسفر قبل فوات الأوان...و كان مسلم بن عقيل قد نزل بالكوفة، فأقبل عليه الناس ألوفا ألوفا يبايعون الحسين علي يديه... و بلغوا ثمانية عشر ألفا في تقدير ابن كثير و ثلاثين ألفا في تقدير ابن قتيبة.و هال الأمر النعمان بن بشير - و الي الكوفة - فحار فيما يصنع بمسلم و أتباعه و هم يزدادون يوما بعد يوم، فصعد المنبر و خطب الناس معلنا [ صفحه 88] أنه لا يقاتل الا من قاتله و لا يثب الا علي من وثب

عليه...و تسابق أنصار بني أمية الي يزيد ينقلون اليه ما يجري بالكوفة، فأشار عليه سرجون الرومي مولي أبيه أن يعزل النعمان و يولي الكوفة عبيدالله بن زياد، مضمومة الي البصرة التي كان يتولاها في ذلك الحين.و قدم عبيدالله الي الكوفة فكان أول ما عمل بها أن جمع اليه عرفاء المدينة - أي مشايخ أحيائها - فأمرهم أن يكتبوا له أسماء الغرباء و من في أحيائهم من «طلبة أميرالمؤمنين و الحرورية و أهل الريب»، و أنذرهم «أيما عريف و جد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحد لم يرفعه اليه، صلب علي باب داره، و ألغيت تلك العرافة من العطاء».و التمس وجوه المدينة من شيعة الحسين يترضاهم و يستخرج خفاياهم. فسأل عمن تخلف منهم عن لقائه و علي رأسهم هاني ء بن عروة، فقيل له أنه مريض لا يبرح داره... و كان يتعلل بالمرض تجنبا للقائه و السلام عليه.فذهب عبيدالله اليه يعوده و يتلطف اليه، و جاء في بعض الروايات أنه قد أشير علي مسلم بن عقيل بقتله و هو في بيت هاني ء، فأبي أن يغتاله و هو آمن في بيت مريض يعوده... [ صفحه 89] و قال ابن كثير ما فحواه انهم أشاروا علي مسلم بن عقيل بقتله و هو في دار شريك بن الأعور، و قد علم شريك أن عبيدالله سيعوده... فبعث الي هاني ء بن عروة يقول له: «ابعث مسلم بن عقيل يكون في داري ليقتل عبيدالله اذا جاء يعودني»... فتحين مسلم عن قتله، و سأله شريك: «ما منعك أن تقتله؟» قال: «بلغني حديث عن رسول الله صلي الله عليه و سلم (ان الايمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)، و كرهت أن أقتله في بيتك»... قال شريك: «أما

لو قتله لجلست في الثغر لا يستعدي به أحد، و لكفيتك أمر البصرة، و لكنت تقتله ظالما فاجرا».ثم مات شريك بعد ثلاثة أيام...و تضطرب الأقاويل في وقائع هذه الأيام لتلاحقها و كثرتها و كثرة رواتها و العاملين فيها... و لكن الشائع من تلك الأقاويل ينبئنا عن عنت شديد لقيه عبيدالله بن زياد في مغالبة مسلم و شيعته، و أنه هرب مرة من المسجد لأن الناس بصروا بمسلم مقبلا فتصايحوا بعبيدالله فاعتصم بقصره و أغلق عليه أبوابه...و اجتمع الي مسلم أربعة آلاف من حزبه، فأمر من ينادي في الناس بشعار الشيعة: «يا منصور!... أمت». ثم تقدم الي قصر الامارة في تعبئة كتعبئة الجيش.و لم يكن في القصر الا ثلاثون رجلا من الشرط و عشرون من أهل [ صفحه 90] الكوفة. فخامر اليأس عبيدالله و ظن أنه هالك قبل أن يدركه الغوث من مولاه. و لكنه تحيل بما في وسع المستميت من حيلة هي علي أية حال أجدي و أسلم له من التسليم، فأنفذ أنصاره الي كل صوب في المدينة يعدون و يتوعدون... و انطلق هؤلاء الأنصار يرجفون بقرب وصول المدد الزاخر من يزيد، و ينذرون الناس بقطع العطاء و أخذ البري ء بالمذنب و الغائب بالشاهد و يبذلون المال لمن يرشي بالمال، و الوعد لمن يقنع بالوعد الي حين...

مقتل مسلم بن عقيل

و توسلوا بكل وسيلة تبلغ بهم ما أرادوا من تخذيل الناس عن مسلم ابن عقيل حتي كانوا يرسلون الزوجة وراء زوجها و الأم وراء ولدها و الأخ وراء أخيه، فيتعلقون بهم حتي يقفلوا الي دورهم أو يدخلوا بهم في زمرة عبيدالله...فلما غربت شمس ذلك اليوم، نظر مسلم حوله فاذا هو في خمسمائة من أولئك الآلاف الأربعة... ثم صلي

المغرب فلم يكن وراءه في الصلاة غير ثلاثين تسللوا من حوله تحت الظلام، و بقي وحيدا في المسجد لا يجد معه من يدله علي منزل يأوي اليه.و تسمع عبيدالله من القصر حين سكنت الجلبة، و سأل أصحابه أن يشرفوا ليروا من بقي من تلك الجموع... فلم يروا أحدا و لم يسمعوا [ صفحه 91] صوتا. فخيل اليهم أنها مكيدة حرب و أن القوم رابضون تحت الظلال، فأدلي بالقناديل و المشاعل حتي اطمأن الي خلو المسجد و تفرق مسلم و أتباعه، فدعا الي الصلاة الجامعة و أمر المنادين في أرجاء الكوفة: «ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة و العرفاء و المناكب - رؤوس العرفاء - و المقاتلة، صلي العشاء الا في المسجد».و أقام الحراس خلفه و هو يصلي بمن أجابوه و قد امتلأبهم المسجد، فخطبهم بعد الفراغ من صلاته قائلا: «برئت ذمة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره».و صاح في رئيس شرطته: «يا حصين بن نمير!... ثكلتك أمك ان ضاع باب سكة من سكك الكوفة و خرج هذا الرجل و لم تأتني به، و قد سلطتك علي دور أهل الكوفة فابعث مراصد علي أفواه السكك... و أصبح غدا فاستبري ء الدور و جس خلالها حتي تأتيني بهذا الرجل...»و ما هي الا سويعات حتي جي ء بابن عقيل و قد دافع الشرط عن نفسه ما استطاع. و وصل الي القصر جريحا مجهدا ظمآن فأهوي الي قلة عند الباب فيها ماء بارد، فقال له أحد أصحاب عبيدالله: «أتراها ما أبردها! و الله لا تذوق منها قطرة حتي تذوق الجحيم في نار جهنم!». [ صفحه 92] و أنكر عمر بن حريث هذه الفظاعة من الرجل، فجاءه بقلة عليها منديل و

معها قدح فصب منها في القدح و أدناه منه، فاذا هو ينفث الدم في القدح كلما رفعه للشرب منه حتي امتلأ و سقطت فيه ثنيتاه، فحمد الله و قال: «لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته».و أدخلوه علي عبيدالله فنظر الي جلسائه و فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناشده القرابة ليسمعن منه وصية ينفذها بعد موته. فأبي أن يصغي اليه!... ثم اذن له عبيدالله فقام معه فقال مسلم: «ان علي بالكوفة دينا استدنته سبعمائة درهم، فبع سيفي و درعي فاقضها عني، و ابعث الي الحسين من يرده، فاني قد كتبت اليه أعلمه أن الناس معه و لا أراه الا مقبلا»...فعاد عمر الي عبيدالله فأفشي له السر الذي ناجاه به و أوصاه أن يكتمه. ثم دعا عبيدالله بالحرسي الذي قاومه مسلم و ضربه علي رأسه و اسمه بكير بن حمران - فأسلم مسلما اليه و قال:- لتكن أنت الذي تضرب عنقه.و صعدوا به الي أعلي القصر فأشرفوا به علي الجموع المحيطة به و ضربوا عنقه، فسقط رأسه الي الرحبة و ألقيت جثته الي الناس. ثم أرسل برأسه الي يزيد مع رؤوس سراة في المدينة كان مسلم يأوي اليهم أول مقدمه [ صفحه 93] اليها، و منهم هاني ء بن عروة الذي تقدمت الاشارة اليه.

طلائع الفشل

كان مقتل مسلم بن عقيل في التاسع من ذي الحجة ليلة العيد... و كان خروج الحسين من مكة قبل ذلك بيوم واحد، فلم يسمع بمقتله الا و هو في آخر الطريق...و لما شارف العراق أحب أن يستوثق مرة أخري قبل دخوله، فكتب الي أهل الكوفة كتابا مع قيس بن سهر الصيداوي يخبرهم بمقدمه و يحضهم علي الجد و التساند، فوافي قيس القادسية و

قد رصد فيها شرط عبيدالله فاعتقلوه و أشخصوه اليه... فأمره عبيدالله أن يصعد القصر فيسب «الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي» و ينهي الناس أن يطيعوه.فصعد قيس و قال: «أيها الناس... ان هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، و أنا رسوله اليكم! و قد فارقته بالحاجز فأجيبوه، و ألعنوا عبيدالله بن زياد و أباه...»فما كان منهم الا أن قذفوا به من حالق، فمات...و حدث مثل هذا مع عبدالله بن يقطر... فأبي أن يلعن الحسين، و لعن عبيدالله بن زياد، فألقوا به من شرفات القصر الي الأرض فاندكت عظامه و لم يمت، فذبحوه... [ صفحه 94] و جعل الحسين كلما سأل قادما من العراق أنبأه بمقتل رسول من رسله أو داعية من دعاته، فأشار عليه بعض صحبه بالرجوع، و قال له غيرهم: «ما أنت مثل مسلم بن عقيل، و لو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع...»و وثب بنوعقيل فأقسموا لا يبرحون حتي يدركوا ثأرهم أو يذوقوا ما ذاق مسلم...و لم ير الحسين بعد ذلك أن يصحب معه أحدا الا علي بصيرة من أمره و ما هو لاقيه ان تقدم و لم ينصرف لشأنه... فخطب الرهط الذين صحبوه و قال لهم:«و قد خذلنا شيعتنا... فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليهم منا ذمام...»فتفرقوا الا أهل بيته و قليلا ممن تبعوه في الطريق...

الحسين و الحر بن يزيد

و التقي الركب عند جبل ذي حسم بطلائع جيش عبيدالله يقودها الحر بن يزيد التميمي اليربوعي في ألف فارس، أمروا بأن لا يدعوا الحسين حتي يقدموا به علي عبيدالله في الكوفة.فأمر الحسين مؤذنه بالآذان لصلاة الظهر، و خطب أصحابه و أصحاب الحر بن يزيد فقال: [ صفحه 95] - أيها الناس

اني لم آتكم حتي أتتني كتبكم و رسلكم أن أقدم علينا فليس لنا امام، لعل الله يجمعنا بك علي الهدي و الحق فقد جئتكم...فان تعطوني ما أطمئن اليه من عهودكم و مواثيقكم أقدم مصركم، و ان لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الي المكان الذي أقبلت منه...فلم يجبه أحد...فقال للمؤذن:- أقم الصلاة!و سأل الحر:- أتريد أن تصلي أنت بأصحابك و أصلي بأصحابي؟فقال الحر:- بل نصلي جميعا بصلاتك...ثم تياسر الحسين الي طريق العذيب، فبلغها و فرسان عبيدالله يلازمونه و يصرون علي أخذه الي أميرهم و صده عن وجهته حيثما اتجه غير وجهتهم، فأقبل عليهم يعظهم و هم يصغون اليه فقال:«أيها الناس!... ان رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: من رأي [ صفحه 96] سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان، فلم يغير ما عليه بفعل و لا قول كان حقا علي الله أن يدخله مدخله. ألا و أن هولاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمن، و أظهروا الفساد، و عطلوا الحدود، و استأثروا بلغي، و أحلوا حرام الله و حرموا حلاله، و أنا أحق من غيري...«قد أتتني كتبكم و رسلكم ببيعتكم و أنكم لا تسلمونني و لا تخذلونني، فان بقيتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، و أنا الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، نفسي مع أنفسكم و أهلي من أهلكم، فلكم في أسوة. و ان لم تفعلوا و نقضتم عهدي، و خلعتم بيعتي، فعلمري ما هي لكم بنكير، و المغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطاتم، و نصيبكم ضيعتم... و من نكث فانما ينكث علي نفسه و

سيغني الله عنكم و السلام».فأنصت الحر بن يزيد و أصحابه ثم توجه اليه يحذره العاقبة و ينبئه: «لئن قاتلت لتقتلن!»فصاح به الحسين:- أبالموت تخوفني!... ما أدري ما أقول لك... و لكني أقول كما قال [ صفحه 97] أخو الأوس لابن عمر و هو يريد نصرة رسول الله، فخوفه ابن عمر و أنذره أنه لمقتول فأنشد:سأمضي و ما بالموت عار علي الفتي اذا ما نوي خيرا و جاهد مسلماو آسي الرجال الصالحين بنفسه و خالف مثبورا و فارق مجرمافان عشت لم أندم، و ان مت لم ألم كفي بك ذلا أن تعيش و ترغماثم سار الركبان ينظر بعضهما الي بعض كلما مال الحسين نحو البادية أسرع الحر بن يزيد فرده نحو الكوفة. حتي نزلا بنينوي، فاذا راكب مقبل عليه بالسلاح، يحبي الحر و لا يحيي الحسين، ثم أسلم الحر كتابا من عبيدالله يقول فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حتي يبلغك كتابي و يقدم عليك رسولي، فلا تنزله الا بالعراء في غير حصن و علي غير ماء... و قد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتي يأتيني بانفاذك أمري و السلام».فلما بدا من الحر بن يزيد أنه يريد أن ينفذ أمر عبيدالله بن زياد [ صفحه 98] و يخشي رقيبه الذي أمر ألا يفارقه حتي ينفذ أمره، قال أحد أصحاب الحسين - زهير بن القين:- انه لا يكون الله بعد ما ترون الا ما هو أشد منه. يا ابن رسول الله!.. ان قتال هولاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم.فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به. فهلم نناجز هولاء.فأعرض الحسين عن مشورته و قال:- اني أكره أن أبدأهم بقتال.

عمر بن سعد

و كان الديلم قد ثاروا علي يزيد بن معاوية

و استولوا علي دستبي بأرض همدان، فجمع لهم عبيدالله بن زياد جيشا عدته أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي يذكر الديلم اسم أبيه - سعد - فاتح بلادهم، و قد وعد بولاية الري بعد قمع الثورة الديلمية، فلما قدم الحسين الي العراق قال عبيدالله لعمر:- نفرغ من الحسين ثم تسير الي عملك.فاستعفاه، و علم عبيدالله موطن هواه فقال له:- نعم نعفيك علي أن ترد الينا عهدنا..فاستمهله حتي يراجع نصحاءه.. فنصح له ابن أخته ابن المغيرة [ صفحه 99] ابن شعبة - و هو من أكبر أعوان معاوية - ألا يقبل مقاتلة الحسين، و قال له:- و الله لأن تخرج من دنياك و مالك و سلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقي الله بدم الحسين.و بات ليلته يقلب وجوه رأيه، حتي اذا أصبح ذهب الي ابن زياد، فاقترح عليه أن يبعث الي الحسين من أشراف الكوفة من ليس يغني في الحرب عنهم... فأبي ابن زياد الا أن يسير الي الحسين أو ينزل عن ولاية الري.. فسار علي مضض و جنوده متثاقلون متحرجون، الا زعانف المرتزقة الذين ليس لهم من خلاق.و كان جنود الجيش يتسللون منه و يتخلفون بالكوفة... فندب عبيدالله رجلا من أعوانه - هو سعد بن عبدالرحمن المنقري - ليطوف بها و يأتيه بمن تخلف عن المسير لقاتل الحسين، و ضرب عنق رجل جي ء به و قيل انه من المتخلفين، فأسرع بقيتهم الي المسير.و قد أدرك الجيش الحسين و هو بكربلاء علي نحو من خمسة و عشرين ميلا الي الشمال الغربي من الكوفة. نزل بها في الثاني من المحرم سنة احدي و ستين. [ صفحه 100] و خلا الجو في الكوفة لرجلين اثنين يسابق

كلا هما صاحبه في اللؤم و سوء الطوية، و ينفردان بتصريف الأمر في قضية الحسين دون مراجعة من ذي سلطان.. و هما عبيدالله بن زياد، و شمر بن ذي الجوشن.عبيدالله المغموز النسب الذي لا يشغله شي ء، كما يشغله التشفي لنسبه المغموز من رجل هو بلا مراء أعرق العرب نسبا في الجاهلية و الاسلام.. فليس أشهي اليه من فرضة ينزل ذلك الرجل علي حكمه، و يشعره فيها بذله و رغمه..

شمر بن ذي الجوشن

و شمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الحسين ما يمض كل لئيم مشنوء من كل كريم محبوب و سيم.و كان كلاهما يفهم لؤم صاحبه و يعطيه فيه حقه و عذره، فهما في هذه الخلة متناصحان متفاهمان...!و لم يكن أيسر من حل قضية الحسين علي وجه يرضي يزيد و يمهد له الولاء في قلوب المسلمين و لو الي حين... لولا ذلك الضغن الممتزج بالخليقة الذي هو كسكر الخمور لا موضع معه لرأي مصيب، و لا لتفكير في عاقبة بعيدة أو قريبة...فالحسين في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله و ابقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة و لا يتحفز لثورة. [ صفحه 101] لكنهما لم يكفرا في أيسر شي ء و لا أنفع شي ء للدولة التي يخدمانها.. و انما فكرا في النسب المغموز و الصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من هم غير ارغام الحسين و اشهاد الدنيا كلها علي ارغامه.تلقي ابن زياد من عمر بن سعد كتابا يقول فيه أن الحسين «أعطاني أن يرجع الي المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره الي أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده.»و الذي نراه نحن من مراجعة الحوادث و الأسانيد أن الحسين ربما اقترح

الذهاب الي يزيد ليري رأيه، و لكنه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده... لأنه لو قبل ذلك لبايع في مكانه و استطاع عمر بن سعد أن يذهب به الي وجهته، و لأن أصحاب الحسين في خروجه الي العراق قد نفوا ما جاء في ذلك الكتاب و منهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول: «صحبت الحسين من المدينة الي مكة و من مكة الي العراق، و لم أفارقه حتي قتل و سمعت جميع مخاطباته الي يوم قتله... فوالله ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد و لا أن يسيروه الي ثغر من الثغور، و لكنه قال: «دعوني أرجع الي المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتي ننظر الي ما يصير اليه أمر الناس.»و لعمل عمر بن سعد قد تجوز في نقل كلام الحسين عمدا ليأذنوا له [ صفحه 102] في حمله الي يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته و ما تجر اليه من سوء القالة و وخز الضمير، أو لعل الأعوان الأمويين قد أشاعوا عن الحسين اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، و يسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الأموية..و أيا كانت الحقيقة من هذه الدعوي فهي تكبر مأثمة عبيدالله و شمر و لا تنقص منها. و لقد كانا علي العهد بمثليهما... كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه و بين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فطر عليه، فلا يصدر منهما الا ما يوائم لئيمين لا يتفقان علي خير...و كأنما جنح عبيدالله الي شي ء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر ابن سعد، فابتدره شمر ينهاه و يجنح الي الشدة و الاعتساف، فقال له:-

أتقبل هذا منه و قد نزل بأرضك و الي جنبك! و الله لئن رحل من بلادك و لم يضع يده في يدك ليكونن أولي بالقوة و العزة و لتكونن أولي بالضعف و العجز.. فلا تعطه هذه المنزلة، و لكن لينزل علي حكمك هو و أصحابه، فان عاقبت كنت ولي العقوبة، و ان عفوت كان ذلك لك.ثم أراد أن يوقع بعمر و يتهمه عند عبيدالله ليخلفه في القيادة ثم يخلفه في الولاية، فذكر لعبيدالله أن الحسين و عمر يتحدثان عامة الليل بين المعسكرين...فعدل عبيدالله الي رأي شمر و أنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر [ صفحه 103] ان هو تردد في اكراه الحسين علي الحسين علي المسير الي الكوفة أو مقاتلته حتي يقتل. و كتب الي عمر يقول له:«أما بعد.. فأني لم أبعثك الي الحسين لتكف عنه و لا لتمنيه السلامة و البقاء و لا لتطاوله و لا لتعتذر عنه و لا لتقعد له عني شافعا...أنظر فان نزل الحسين و أصحابه و استسلموا فابعث بهم الي مسلما، و ان أبوا فازحف اليهم حتي تقتلهم و تمثل بهم، فانهم لذلك مستحقون فان قتل الحسين فأوطي ء الخيل صدره و ظهره فانه عاق مشاق قاطع ظلوم.. فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، و ان أنت أبيت فاعتزل جندنا و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر و السلام».و ختمت مأساة كربلاء كلها بعد أيام معدودات..و لكنها أيام بقيت لها جزيرة لم يحمدها طالب منفعة و لا طالب مروءة، و مضت مئات السنين و هي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق و الاسلام... [ صفحه 105]

هل اصاب

خطأ الشهداء

خروج الحسين من مكة الي العراق حركة

لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية، لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية.... لا تتكرر كل يوم و لا يقوم بها كل رجل و لا يأتي الصواب فيها - ان أصابت - من نحو واحد ينحصر القول فيه، و لا يأتي الخطأ فيها - ان أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه. و قد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب و أخطأ الخطأ فرقا صغيرا من فعل المصادفة و التوفيق، فهو خليق أن يذهب الي النقيضين.هي حركة لا يأتي بها الا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم علي بال، لأنها تعلو علي حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب و الدرب المطروق..هي حركة فذة يقدم عليها رجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن و علي غير هذه الوتيرة.. لانهم يحسون [ صفحه 106] و يفهمون و يطلبون غير الذي يحسه و يفهمه و يطلبه أولئك الرجال..هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، و لا صفقة مساوم من مساومي التجارة، و لا وسيلة متوسل ينزل علي حكم الدنيا أو تنزل الدنيا علي حكمه، و لكنها وسيلة من يدين نفسه و يدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به و مؤمن بوجوب ايمان الناس به دون غيره.. فان قبلته الدنيا قبلها و ان لم تقبله فسيان عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعل فواته بالموت أشهي اليه..هي حركة لا تقاس اذن بمقياس المغامرات و لا الصفقات و لكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر و لا يستعاد علي الطلب من كل رجل أو في كل أوان..و لا ننسي أن السنين

الستين التي انقضت بعد حركة الحسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم علي تخطئته في كل شي ء و تصويب مقاتليه في كل شي ء..ان القول بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، و التماس العذر له معناه القاء الذنب عليها. و ليس بخاف علي احد كيف ينسي الحياء و تبتذل القرائح أحيانا في تنزيه السلطان القائم و تأثيم السلطان [ صفحه 107] الذاهب. فليس الحكم علي صواب الحسين أو علي خطئه اذن بالأمر الذي يرجع فيه الي أولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة و يغنمون من عطائها، و لا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفا غير ذلك السيف و يغنمون من عطاء غير ذلك العطاء..انما الحكم في صواب الحسين و خطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان و أصحاب السلطان، و هما البواعث النفسية التي تدور علي طبيعة الانسان الباقية، و النتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.و بكل من هذين المقياسين القويين نقيس حركة الحسين في خروجه علي يزيد بن معاوية، فنقول انه قد أصاب..أصاب اذا نظرنا الي بواعثه النفسية التي تهيمن عليه و لا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها..و أصاب اذا نظرنا الي نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، و لا يستطيع أن يجادل فيها من يأخذ الأمور بسنة الواقع و المصلحة أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة و المروءة..فما هي البواعث النفسية التي قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟هي بواعث تدعوه كلها أن يفعل ما فعل و لا تدعو مثله الي صنيع [ صفحه 108] غير ذلك الصنيع. و خير لبني الانسان ألف مرة أن يكون فيهم خلق كخلق الحسين الذي أغضب يزيد بن

معاوية، من أن يكون جميع بني الانسان علي ذلك الخلق الذي يرضي به يزيد..فأول ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النفسية التي خامرت نفس الحسين في تلك المحنة الأليمة، أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة و لا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح..فهي بيعة نشأت في مهد الدس و التمليق، و لم يجسر معاوية عليها حتي شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع..كان المغيرة بن شعبة واليا لمعاوية علي الكوفة، ثم هم بعزله و اسناد ولايته الي سعيد بن العاص جريا علي عادته في اضعاف الولاة قبل تمكنهم، و ضرب فريق منهم بفريق حتي يعينه بعضهم علي بعض و لا يتفقوا عليه. فلما أحسن المغيرة نية معاوية، قدم الشام و دخل علي يزيد و قال له كالمستفهم المتعجب:- لا أدري ما يمنع أميرالمومنين أن يعقد لك البيعة؟و لم يكن يزيد نفسه يصدق أنه أهل لها أو أن بيعته مما يتم بين المسلمين علي هينة. فقال للمغيرة:- أو تري ذلك يتم؟ [ صفحه 109] فأراه المغيرة أنه ليس بالعسير، اذا أراده أبوه..و أخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أن فرصته سانحة و أنه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة.. يرشوه باعانته علي بيعة يزيد، و يأخذ منه الرشوة ببقائه علي ولاية الكوفة الي أن يقضي في أمر هذه البيعة، و له في التمهيد لها نصيب..فلما لقي معاوية سأله هذا عما أخبره به يزيد، فأعاده عليه و هو يزخرفه له بما يرضيه. قال:- قد رأيت ما كان من سفك الدماء و الاختلاف بعد عثمان، و في يزيد منك خلف فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفا للناس و خلفا

منك، و لا تسفك دماء و لا تكون فتنة.فسأله معاوية و هو يتهيب و يتأني:- و من لي بذلك؟..قال:- أكفيك أهل الكوفة، و يكفيك زياد أهل البصرة، و ليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.فرده معاوية الي علمه كما كان يتمني، و أوصاه و من معه ألا يتعجلوا باظهار هذه النية.. ثم استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصته علي الأمر و هو يقول:- ان أميرالمومنين، يتخوف نفرة الناس و يرجو طاعتهم... و يزيد [ صفحه 110] صاحب رسلة و تهاون مع ما قد أولع به من الصيد... فالق أميرالمومنين و أد اليه فعلات يزيد و قل له رويدك بالأمر، فأحري أن يتم لك و لاتعجل فأن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة.فأشار عليه صاحبه «ألا يفسد علي معاوية رأيه و لا يبغضه في ابنه».و عرض عليه أن يلقي يزيد فيخبره أن أميرالمومنين كتب اليك يستشيرك في البيعة له و انك تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونهاعليه، و أنك تري له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة علي الناس.و قالوا ان يزيد كف عن كثير مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، و أن معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتي مات زياد..و قد أحس معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسه من الغرباء عنه.فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبدشمس تكره بيعة يزيد و تود لو أثر بالبيعة ابنها عبدالله، فقالت له:- ما أشار به عليك المغيرة؟... أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك يتمني هلاك كل يوم.و اشتدت نقمة مروان بن الحكم - و هو أقرب الأقرباء الي معاوية - [ صفحه 111] حين بلغته دعوة

العهد ليزيد فأبي أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، و كتب الي معاوية: «ان قومك قد أبوا اجابتك الي بيعتك». فعزله معاوية من ولاية المدينة و ولاها سعيد بن العاص. فأوشك مروان أن يثور و يعلن الخروج و ذهب الي أخواله من بني كنانة فنصروه و قالوا له:- نحن نبلك في يديك و سيفك في قرابك. فمن رميته بنا أصبناه و من ضربته قطعناه... الرأي رأيك، و نحن طوع يمينك..ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير الي دمشق، فذهب الي قصر معاوية و قد أذن للناس، فمنعه الحاحب لكثرة من رأي معه فضربوه و اقتحموا الباب. و دخل مروان و هم معه حتي سلم علي معاوية و أغلظ له القول. فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه و ترضي مروان ما استطاع، و جعل له ألف دينار كل شهر و مائة لمن كان معه من أهل بيته.و لم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يري أنه أحق منه بالخلافة لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية الي الخلافة باسمه فقال لمعاوية: [ صفحه 112] - يا أميرالمومنين.. علام تبايع ليزيد و تتركني!.. فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه، و أنك انما نلت ما نلت بأبي..فسري معاوية عنه... و قال له ضاحكا هاشا:- يا ابن أخي!... أما قولك ان أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية.. و أما قولك ان أمك خير من أمه، ففضل قرشية علي كلبية فضل بين، و أما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك الملك يؤتيه الله من يشاء... قتل أبوك رحمه الله فتواكلته

بنوالعاص و قامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منة عليك، و أما أن تكون خيرا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد. ولكن دعني من هذا القول و سلني أعطك، و ولاه خراسان...فكان أكبر بني أمية أعظمهم أملا في الخلافة بعد معاوية، و كان بغضهم لبيعة يزيد علي قدر أملهم فيها، و هؤلاء - و ان جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن - لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء و تبشره بالضمان و القرار..و علي هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجس و المساومة و الاكراه... و بهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان و أقرب القرباء...و ظهر من اللحظات الأولي، ان المغيرة بن شعبة كان سمسارا [ صفحه 113] يصافق علي ما لا يملك... فقد ضمن الكوفة و البصرة و منع الخلاف في غير هما، فاذا الكوفة أول من كره بيعة يزيد، و اذا البصرة تتلكا في الجواب و واليها يرجي ء الأمر و يوصي بالتمهل فيه فلا يقدم عليه معاوية في حياته، و اذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، و اذا بالحجاز يستعصبي علي بني أمية سنوات، و اذا باليمن ليس فيها نصير للأمويين، و لو وجدت خارجا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز...بل يجوز أن يقال - مما ظهر في حركة الحسين كل الظهور - أن الشام نفسها لم تنطو علي رجل يؤمن بحق يزيد و بطلان دعوي الحسين.فقد كانوا يتحرجون من حرب الحسين و يتسلل من استطاع منهم التسلل قبل لقائه، الا أن يهدد بقطع الأرزاق و قطع الرقاب.و الحوادث التي تلت حركة الحسين الي ختام عهد يزيد أدل مما تقدم علي اضطراب عهده و

قلة ضمانه، لأن الأحداث و النذر لم تزل تتوالي بقية حياته و بعد موته بسنين.و نحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث و النذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيل الينا أن عواقبها لم تكن تحتمل الشك و لم يكن بها من خفاء. و لكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألا يروا فيها طوالع ملك تعنو له الرؤوس و يرجي له طول البقاء. [ صفحه 114]

بواعث الخروج

نعم كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضي المسلمين من العقل و الخلق و سلامة التدبير و عزة الموئل و الدولة، و كان المسلمون قد توافوا علي اختياره لحبهم اياه، و تعظيمهم لعقله و خلقه و اطمئنانهم الي سياسته و اعتمادهم علي صلاحه و اصلاحه..و لكنه علي نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلا هازلا في أحوج الدول الي الجد، لا يرجي له صلاح و لا يرجي منه اصلاح. و كان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه و معونته جهرة و علانية من المال أو الولاية أو المصانعة، و لو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليا للعهد شرا من يزيد لما يبايعوه و ان تعطلت حدود الدين و تقوضت معالم الأخلاق..و أعجب شي ء أن يطلب الي حسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل و يزكيه أمام المسلمين، و يشهد له عندهم أنه نعم الخليفة المأمول صاحب الحق في الخلافة و صاحب القدرة عليها... و لا مناص للحسين من خصلتين: هذه، أو الخروج!... لأنهم لن يتركوه بمنزل عن الأمر لا له و لا عليه... [ صفحه 115] ان بعض المؤرخين من المستشرقين و ضعاف الفهم من الشرقيين ينسون

هذه الحقيقة و لا يرلونها نصيبها من الرجحان في كف الميزان.و كان خليقا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، و أنه كان رجلا يؤمن أقوي الايمان بأحكام الاسلام و يعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به و بأهله و بالأمة العربية قاطبة في حاضرها و مصيرها.لأنه مسلم و لأنه سبط محمد... فمن كان اسلامه هداية نفس فالاسلام عند الحسين هداية نفس و شرف بيت...و قد لبث بنوأمية بعد مصرعه ستين سنة يسبونه و يسبون أباه علي المنابر، و لم يجسر أحد منهم قط علي المساس بورعه و تقواه و رعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرا أو علانية، و حاولوا أن يعيبوه بشي ء غير خروجه علي دولتهم فقصرت ألسنتهم و ألسنة الصنائع و الأجراء دون ذلك. فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرا علي الدين في رأس الدولة و عرش الخلافة مواجهة الهوادة و المشايعة و التأمين؟ و كيف يسام أن يرشح للامامة من لا شفاعة له و لا كفاية فيه الا أنه ابن أبيه؟...لقد كان أبوه معاوية علي كفاءة و وقار و حنكة و دراية بشؤون الملك و الرئاسة، و كان له مع هذا نصحاء و مشيرون أو لو براعة و أحلام تكبح [ صفحه 116] من السلطان ما جمح و تقيم ما انحرف و تملي له فيما عجز عنه. و هذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة و لا وقار و لا نصحاء و لا مشيرون، الا من كان عونا علي شر أو موافقا علي ضلالة. فما عسي أن تكون الشهادة له بالصلاح للامامة الا تغريرا بالناس

و قناعة بالسلامة أو الأجر المبذول علي هذا التغرير؟..ثم هي خطوة لا رجعة بعدها اذا أقدم عليها الحسين بما أثر عنه من الوفاء و صدق السريرة. فاذا بايع يزيد فقد و في له بقية حياته كما و في لمعاوية بما عاهده عليه، و لا سيما حين يبايع يزيد علي علم بكل نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة و انتحال أسباب الخروج.فملك يزيد لم يقم علي شي ء واحد يرضاه الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة الاسلامية. و من طلب منه أن ينصر هذا الملك فانما يطلب منه أن ينصر ملكا ينكر كل دعواه و لا يحمد له حالة من الأحوال، و لا تنس بعد هذا كله أن هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالغض من الحسين في سمعة أبيه و كرامة شيعة و مريديه. فكانوا يسبون عليا علي المنابر و ينعتونه بالكذب و المروق و العصيان، و كانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم علي سبه و النيل منه بمشهد من الناس، و الا أصابهم العنت و العذاب و شهروا في الأسواق بالصلب و الهوان. فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح ملك جديد معناه أنها سنة قد وجبت [ صفحه 117] و استقرت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير و التبديل. فمن أقر هذه السنة في مفتتح هذا الملك الجديد فقد ضعف أمله و ضعف أمل أنصاره فيه يوما بعد يوم، و ازداد مع الزمن ضعفا كما ازدادت حجة خصومة قوة عليه.هذه هي البواعث النفسية التي كانت تجيش في صدر الحسين يوم دعاه أولياء بني أمية الي مبايعة يزيد و النزول عن كل حق له و لأبنائه و لأسرته في امامة المسلمين، كائنا

من كان القائم بالأمر و بالغا ما بلغ من قلة الصلاح و بطلان الحجة. و هي بواعث لا تثنيه عن الخروج و لا تزال تلح عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، و هما الخروج ان كان لابد خارجا في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة و لا يرضاه له ايمان...

مصرع و انتصار

أما نتائج الحركة كلها - اذا نظرنا اليها نظرة واسعة - فهي أنحج للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد.فقد صرع الحسين عام خروجه، و لحق به يزيد بعد ذلك بأقل من أربع سنوات..و لم تنقض ست سنوات علي مصرع الحسين حتي حاق الجزاء بكل [ صفحه 118] رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل و التنكيل مع سوء السمعة و وسواس الضمير.و لم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف و ستون سنة!... و كان مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتي قضي عليها، و أصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقا الي الاسماع و القلوب..و لاصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة دخل في روع بعض المؤرخين أنها تدبير من الحسين رضي الله عنه، توخاه منذ اللحظة الأولي و علم موعد النصر فيه. فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، و لا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام.فقال ماربين الألماني في كتابه (السياسة الاسلامية): «ان حركة الحسين في خروجه علي يزيد انما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الاذعان و عز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله و ذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به

النصر الآجل بعد موته، و يحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة».فان لم يكن رأي الكاتب حقا كله، فبعضه علي الأقل حق لا شك فيه و يصدق ذلك - في رأينا - علي حركة الحسين بعد أن حيل بينه و بين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان و لم يجهل ما [ صفحه 119] يحيق ببني أمية من جراء قتله.. فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء.و قد جري ذكر الموت علي لسان الحسين من خطوته الأولي و هو يتهيأ للرحيل و يودع أصحابه في الحجاز؛ فقال لهم: «ان الموت حق علي ولد آدم» و لكم يخف عليه أنه يركب الخطة التي لا يبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء.لكنه لم يكن ييأس من اقناع الناس و التفافهم به منذ خطوته الأولي. و لم يعقد عزمه علي ملاقاة الموت حتي ساموه الرغم، و أبوا عليه أن ينصرف الي أي منصرف قبل التسليم المبين، مسوقا علي الكره منه الي عبيدالله بن زياد..و تتباين آراء المتأخرين خاصة في خروج الحسين بنسائه و أبنائه، أكان هو الأحزم و الأكرم أم كان الأحزم و الأكرم أن يخرج بمفرده حتي يري ما يكون من استجابة الناس له أو اعراضهم عنه و ضعفهم في تأييده.و ليس للمتأخرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم و عاداتهم، لأنها مسألة يقضي فيها بحكم العقل العربي و عاداتهم، لأنها مسألة يقضي فيها بحكم العقل العربي و عاداته في أشباه هذه المواقف. و قد [ صفحه 120] كان اصطحاب النساء و الأبناء عادة عربية في البعوث التي يتصدي لها المرء متعمدا القتال دون غيره فضلا عن البعوث

التي قد تشتبك في القتال و قد تنتهي بسلام كبعثة الحسين.فكان المقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم و ذراريهم و يقطعون وضن الرواحل - أي أحزمتها - قبل خوض المعركة، و كان المسلمون و المشركون معا يصطحبون الحلائل و الذراري في غزوات النبي عليه السلام، و كان مع المسلمين في حرب الروم صفوة نساء قريش و عقائل بيوتاتها، و كان النبي عليه الصلاة و السلام يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته و حروبه، و حكم الواحدة هنا حكم الكثيرات، و هي عادة عربية عريقة يقصدون بها الاشهاد علي غاية العزم و صدق النية فيما هم مقبلون عليه، و في معلقة ابن كلثوم اشارة مجملة الي معني هذه العادة العربية من قديم عصورها حيث يقول:علي آثارنا بيض حسان نحاذر أن تقسم أو تهونايقتن جيادنا و يقلن لستم بعولتنا اذا لم تمنعوناو قد كان الحسين رضي الله عنه يندب الناس لجهاد يخوضونه ان [ صفحه 121] قضي عليهم أن يخوضوه فلا يبالون ما يصيبهم في أنفسهم و في أبنائهم و أموالهم، لأنهم يطلبون به ما هو أعز علي المؤمن من النفس و الولد و المال، فليس من المروءة أن يندبهم لأمر و لا يكون قدوة لهم فيه.و كان علي الحسين و قد أزمع الخروج أن يجمع له أقوي حجة في يديه و يجمع علي خصومه أقوي حجة تنقلب عليهم، اذا غلبوه و أخفق في مسعاته... فيكون أقوي ما يكون و هو منتصر، و يكونون أبعض ما يكونون و هو مخذول..و المسلم الذي ينصر الحسين الشريف أولي أن ينصره غاية نصره و هو بين أهله و عشيرته، و الا فما هو بناصره علي الاطلاق، و تنقلب الآية

في حالة الخذلان، فينال المنتصر من البغضاء و النقمة علي قدر انتصاره الذي يوشك أن ينقلب عليه.

صواب الشهداء

و جملة ما يقال ان خروج الحسين من الحجاز الي العراق، كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله و لا يسهل عليه أن يكبتها أو يحيد بها عن مجراها..و انها قد وصلت الي نتائجها الفعالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز [ صفحه 122] الأفراد الي الأعقاب و الأجيال، سواء أكانت هذه القضية نصرة لآل الحسين أم حربا لبني أمية..انما يبدو الخطأ في هذه الحركة حين ننظر اليها من زاوية واحدة ضيقة المجال قريبة المرمي، و هي زاوية العمل الفردي الذي يراض بأساليب المعيشة اليومية و يدور علي النفع العاجل للقائمين به و الداعين اليه..فحركة الحسين لم تكن مسددة الأسباب لمنفعة الحسين بكل ثمن و حيثما كانت الوسيلة..و علة ذلك ظاهرة قريبة..و هي أن الحسين رضي الله عنه طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها و لم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن و مهما تتطلب من وسيلة...و هنا غلطة الشهداء..بل قل: هنا صواب الشهداء..و من هو الشهيد ان لم يكن هو الرجل الذي يصاب و يعلم أنه يصاب لأن الواقع يخذله و لا يجري معه الي مرماه؟منذ القدم، أخطأ الشهداء هذا الخطأ، و لو أصابوا فيه لما كانوا شهداء و لا شرفت الدنيا بفضيلة الشهادة.. [ صفحه 123] فالحسين رضي الله عنه قد طلب خلافة الراشدين حيث لا تتسني خلافة الراشدين، أو حيث تتسني الدولة الدنيوية التي يضن بها أصحابها و يتكالبون عليها و يتوسلون اليها بوسائلها..فكانت عناية بالدعوة و الاقناع أعظم جدا من عنايته بالتنظيم و الالزام..نزل رسوله الأول مسلم بن عقيل بالكوفة صفر اليدين

من المال حتي احتاج فيها أن يقترض سبعمائة درهم هي التي أوصي بردها الي أصحابها قبل قتله...و تلك عقبة من العقبات التي تعوق الدعوات الكبار، و لكنها علي هذا لم تكن بالعقبة العصية التذليل...فلو أنه قد طلب المال من وسائله الدنيوية أو السياسية، لما استعصي عليه أن يأخذ منه ما يكفيه. فلعله كان ميسورا له بعد أن تجمع حوله الأنصار و بايع الحسين علي يديه ثلاثون ألفا كما جاء في بعض الروايات.ففي تلك اللحظة لعله كان يستطيع أن يحيط بقصر الوالي الأموي و يستولي عليه و ينشي ء الحكومة الحسينية فيه. ثم لعله كان يستطيع بعد ذلك أن يوجه الدعاة الي أطراف الدولة الشرقية ليتلقي البيعة و يقيم الولاة و يحشد الأجناد.. [ صفحه 124] فاذا كان هذا فاته حتي خف الأموين لدرء الخطر عنهم و بعثوا الي الكوفة بعبيد الله بن زياد، فقد سيق عبيدالله هذا في يوم من الأيام الي يديه و كان في وسعه أن يبطش به و يستوي علي كرسيه و يحرم يزيد ابن معاوية نصيرا من أعنف أنصاره...و قد فاته هذا لأن شريعة الخلافة لا تبيحه في رأيه، أو لأنه اعتقد أن الحق بين و أن الباطل بين... فلا حاجة به بعد التمييز بينهما الي فتكة الغدر كما سماها، و لا محل عنده لاهدار الدماء و هو ينعي علي الدولة القائمة أنها تهدر الدماء بالشبهات...و لقد رأي مسلم أن حق صاحبه في الخلافة قائم علي شي ء واحد و هو اقبال الناس اليه طائعين و مبايعتهم اياه مختارين. فأما و قد تفرقوا عنه رهبة من السلطان أو ضعفا في اليقين، فالرأي عنده أن يكتب الي صاحبه يعلمه بانفضاض الناس عنه و يثنيه

عن القدوم، و لا حق له عليهم بعد ذلك حتي يثوبوا اليه... و قيام الخلافة علي هذا الاختيار عقيدة لا نفهمها نحن الآن، و لكن قد يفهمها يومئذ من كان علي مقربة من عهد النبوة و عهد الصديق و الفاروق...فقد كان الصراع بين الحسين و يزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة و عهد الخلفاء الأولين.. [ صفحه 125] لم يكن الصراع بين علي و معاوية علي هذا الوضوح الذي لا شبهة فيه بين الحق و الباطل و بين الفضيلة و النقيصة...لكنه في بيعة الحسين كان قد وضح وضوح الصبح لذي عينين.و كان ذلك كما قلنا أول تجربة من قبيلها بعد عهد الفداء في سبيل العقيدة و الايمان.. بعد العهد الذي كان الرجل فيه يجرج من ماله و ينفصل من ذويه و يتجرد لحرب أبيه و أخيه و بنيه ان خالفوه في أمر الاسلام....بعد العهد الذي كان القليل فيه من المسلمين يصدون الكثير من المشركين و في أيديهم السلاح و العتاد و من ورائهم المعاقل و الأزواد... بعد العهد الذي تغير فيه الناس، و خيل الي من كان يعهدهم علي غير تلك الحال أنهم متغيرون...

الناس عبيد الدنيا

فكيف ينخذل الحسين و ينتصر يزيد في عالم شهد النبوة و شهد الخلافة علي سنة الراشدين؟ ان كلمة واحدة قالها الحسين في ساعة يأسه تشف عن مبلغ يقينه بوجوب الحق و عجبه من أن يكون الأمر غير ما وجب، و ذلك حيث قال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درت به معائشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون».ان الطبائع الأرضية لا تنخدع في صلاح الناس و لا تعجب هذا [ صفحه 126] العجب لأنها لا تخرج من

نطاقها المحدود و لا تصدق ما وراءه من الآمال و الوعود.انها لا تضل عن طريق المنفعة لأنها لا تعرف غيرها من طريق، انها تؤثر القنديل الخافت في يدها علي الكوكب اللامع في السماء، لا لأنها لا تري الكوكب اللامع في السماء، بل لأنها تري القنديل و الكوكب فتعلم أن هذا قريب و أن ذالك جد بعيد...انها تنخدع بالسراب لأنها لا تخرج من عقر دارها و لا تشعر بظمأ الفؤاد و لا تنظر الي السراب...و لكن طبيعة الشهداء غير طبيعة المساومة علي البيع و الشراء...طبيعة المساومة موكلة بالحرص علي الهنات...و طبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة لما هو أدوم من الحياة...و شتان طبيعة و طبيعة، و شتان خطأ الشهداء و خطأ المساومين.و ليست موازين المساومة بالموازين الفذة التي يصلح عليها أمر بني الانسان، فان بني الانسان ما بهم غني قط عن الذين يخطئون لأنهم أرفع من المصيبين، و انهم لهم الشهداء.و انهم لعلي صواب في المدي البعيد، و ان كانوا علي خطأ في المدي القريب... مدي الأجواف و المعدات و الجلود لا مدي الأرواح و الأخلاد... [ صفحه 127] من هؤلاء كان الحسين رضي الله عنه، بل هو أبوالشهداء و ينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعين.فلا جرم يصيب في المدي البعيد و يخطي ء في المدي القريب... مدي المنفعة التي هو في معيشة يومه، و هو المدي الذي لا يأسف عليه و لا ينص الركاب اليه.. [ صفحه 129]

كربلاء

الحرم المقدس

عرفت قديما باسم «كور بابل» ثم صحفت الي كربلاء، فجعلها هذا التصحيف عرضة لتصحيف آخر يجمع بين الكرب و البلاء، كما رسمها بعض الشعراء...و لم يكن لها ما تذكر به في أقرب جيرة لها

فضلا عن أرجاء الدنيا البعيدة منها... فليس لها من موقعها، و لا تربتها، و لا من حوادثها، ما يغري أحدا يرؤيتها ثم يثبت في ذاكرة من يراها ساعة يرحل عنها.فلعل الزمن كان خليفا أن يعبر بها سنة بعد سنة و عصرا بعد عصر، دون أن يسمع لها اسم أو يحس لها بوجود... الا أن تذكر «نينوي» و جيرتها فتدخل في زمرة تلك الجيرة بغير حساب.و شاءت مصادفة من المصادفات أن يساق اليها ركب الحسين بعد أن حيل بينه و بين كل وجهة أخري، فاقترون تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الاسلام كله. و من حقه أن يقترن بتاريخ بني الانسان حيثما [ صفحه 130] عرفت لهذا الانسان فضيلة يستحق بها التنويه و التخليد.فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة و الذكري، و يزوره غير المسلمين للنظر و المشاهدة، و لكنها لو أعطيت حقها من التنويه و التخليد، لحق لها أن تصبح مزارا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسة و حظا من الفضيلة، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل و المناقب أسمي و ألزم لنوع الانسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين فيها.فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الانسان انسان و بغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم... فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين رضي الله عنه في تلك البقعة الجرداء.و ليس في نوع الانسان صفات علويات أنبل و لا ألزم له من الايمان و الفداء و الايثار و يقظة الضمير و تعظيم الحق و رعاية الواجب و الجلد في المحنة و الأنفة من الضيم و الشجاعة في وجه الموت المحتوم... و هي

- و مثيلات لها من طرازها - هي التي تجلت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين، و لم تجتمع كلها و لا تجلت قط في موطن من المواطن تجليها في تلك الحوادث، و قد شاء القدر أن تكون في جانب منها أشرف ما يشرف به أبناء آدم، لأنها في الجانب الآخر منها أخزي ما يخزي به مخلوق من المخلوقات...و حسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس، أنه ما من أحد [ صفحه 131] قتل في كربلاء الا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، و لكنهم جميعا آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين علي أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة، لأنهم آثروا جمال الأخلاق علي متاع الحياة...أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها و قدوتها أنهم رأوه بينهم فاقتدوه بأنفسهم، و لن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن بلازمه الا أن يكون هو أهلا للاستشهاد في سبيله و سبيل دعوته، و أن يكون في سليقة الشهيد الذي يأتم به الشهداء.

نموت معك

أقبل الفتي الصغير علي بن الحسين علي أبيه... و قد علم أنهم مخيرون بين الموت و التسليم فسأله:- ألسنا علي الحق؟...قال الوالد المنجب النجيب:- بلي و الذي يرجع اليه العباد...فقال الفتي:- يا أبه!... فاذن لا تبالي!...و هكذا كانوا جميعا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق و عليه يموتون... [ صفحه 132] و أراد الحسين - و قد علم أن التسليم لا يكون - أن يبقي للموت وحده و ألا يعرض له أحدا من صحبه. فجمعهم مرة بعد مرة و هو يقول لهم في كل مرة: «لقد بررتم و عاونتم و القوم لا يريدون غيري. و لو قتلوني

لم يبتغوا غيري أحدا... فاذا جنكم الليل فتفرقوا في سواده و انجوا بأنفسكم»...فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك و لم يرد النجاة، و فزعوا من رجائهم اياه كما يفزع غير هم من مطالبتهم بالثبات و البقاء. و قالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: «معذ الله و الشهر الحرام... ماذا نقول للناس اذا رجعنا اليهم؟ أنقول لهم انا تركنا سيدنا و ابن سيدنا و عمادنا، تركناه غرضا للنبل و دريئة للرماح و جزرا للسباع، و فررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله... بل نحيا بحياتك و نموت معك...».قالوا له نموت معك و لك رأيك: و لم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه ايثارا لنجاتهم و نجاته. و لو خادعوا أنفسهم قليلا لزينوا له التسليم و سموه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، و لكنهم لم يخادعوا أنفسهم و لم يخادعوه، و رأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم و لا يجنبوه الموت، و هم جميعا علي ذلك.و لم يكونوا جميعا من ذوي عمومته و قرباه، بل كان منهم غرباء نصحوا له و لأنفسهم هذه النصيحة التي ترهب العار و لا ترهب الموت.فقال له زهير بن القين: «و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتي [ صفحه 133] أقتل هكذا ألف مرة، و يدفع الله الفشل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل الفتيان من أهل بيتك».و قال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: «أنحن نخلي عنك؟ و بم نعتذر الي الله في أداء حقك؟ لا و الله حتي أطعن في صدورهم برمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، و لو لم يكن معي سلاح

أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. و الله لا نخليك حتي يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. و أما و الله لو علمت أنني أقتل ثم أحيي ثم أحرق ثم أحيي ثم أحرق ثم أذري و يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتي ألقي حمامي دونك...»و جي ء الي رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه في فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه و لا يفكون اساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف و هو في حل من بيعته و يعطيه فداء ابنه. فأبي الرجل اباء شديدا، و قال: «عند الله أحتسبه و نفسي» ثم قال للحسين: «هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكن و الله هذا أبدا»...و قد تناهت هذه المناقب الي مداها الأعلي في نفس قائدهم الكريم...يخيل الي الناظر في أعماله بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها أيها يظفر بفخار اليوم، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في ايمانه و أنفته و غيرته علي الحق [ صفحه 134] بالغا من تلك المناقب المثلي أقصي مداه... الا انه كان يوم الشجاعة لامراء، و كانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من كل خلق نبيل يعينها علي شأنها. فكان الحسين - شبل علي - في شجاعته الروحية و البدنية معا غاية الغايات، و كان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم و حواء...ملك جأشه... و كل شي ء من حوله يوهن الجأش، و يحل عقدة العزم، و يغري بالدعة و المجاراة...ملك جأشه و من حوله نساؤه و أبناؤه في نضارة العمر، يجوعون و يظمأون، و يتشبثون

به و يبكون، و ملك جأشه روية و أناة و لم يملكه و ثبة و اثب الي الغضب أو هيجة مهتاج الي الوغي، فكان قبل القتال و في حومة القتال قويا بصيرا ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، و لم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب الا من أجل أحبائه و أعزائه الذين يراهم و يرونه و يسمع صيحتهم و يسمعونه. فقال و هو ينظر الي الأخبية و من فيها: «لله در ابن عباس فيما أشار به علي!».و جلس ليلة القتال في خيمته يعالج سهاما له بين يديه و يرتجز و أمامه ابنه العليل:يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيل [ صفحه 135] من صاحب و ماجد قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل و الأمر في ذاك الي الجليل و كل حي سالك سبيلي فرد ابنه عبرته لكيلا يزيده ألما علي ألمه. و سمعته أخته زينب، فلم تقو علي حنانها و وجلها، و خرجت اليه من خبائها حاسرة تنادي:«و اثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله و أمي فاطمة الزهراء و أبي علي و أخي الحسين فليت الموت أعدمني الحياة يا حسيناه! يا بقية الماضين و ثمالة الباقين!»فبكي لبكائها و لم ينثن ذرة عن عزمه الذي بات عليه، و قال لها:- يا أخت! لو ترك القطا لنام... و لم يزل يناشدها... و يعزيها و هو في قرارة نفسه مستقر كالطود علي مواجهة الموت و اباء التسليم أو النزول علي «حكم ابن مرجانة» كما قال... ثم احتملها مغشيا عليها حتي أدخلها الخباء...تزول الممالك و تدول الدول و تنجح المطامع أو تخيب و تحضر المطالب أو تغيب. و هذه الخلائق العلوية في

صدر الانسان أحق بالبقاء [ صفحه 136] من الممالك و ما حوته، و من الدول و ما حفظته أو ضيعته، بل أحق بالبقاء من رواسي الأرض و كواكب السماء...

حرب النور و الظلام

و كانت فئة الحسين صغيرة كما علمنا قد رصدت لها هنالك تلك الفئة الكبيرة التي تناقضها أتم ما يكون التناقض بين طرفين، و تباعدها أبعد ما تكون المسافة بين قطبين، فكل ما فيها أرضي مظلم مسف بالغ في الاسفاف، و ليس فيها من النفحة العلوية نصيب...أللمصادفات نظام و تدبير...؟!نحن لا نعلم الا أنها مصادفات يخفي علينا ما بينها من الوشائج و الصلات... و لكنها - لذلك - هي الاعاجيب التي تستوقف النظر لعجبها العاجب، و ان لم تستوقفه لما يفهمه فيها من نظام و تدبير.فجيرة كربلاء كانت قديما من معاهد الايمان بحرب النور و الظلام، و كان حولها أناس يؤمنون بالنضال الدائم بين أورمزد و أهرمان. و لكنه كان في حقيقته ضربا من المجاز و فنا من الخيال.و تشاء مصادفات التاريخ الا أن تري هذه البقاع التي آمنت بأورمزد و أهرمان حربا هي أولي أن تسمي حرب النور و الظلام من حرب الحسين و مقاتليه... [ صفحه 137] و هي عندنا أولي بهذه التسمية من حروب الاسلام و المجوسية في تلك البقاع و ما وراءها من ألارض الفارسية لأن المجوسي كان يدافع شيئا ينكره... ففي دفاعه معني من الايمان بالواجب كما تخيله ورآه، و لكن الجيش الذي أرسله عبيدالله بن زياد لحرب الحسين كان جيشا يحارب قلبه لأجل بطنه أو يحارب ربه لأجل و اليه. اذ لم يكن فيهم رجل واحد يؤمن ببطلان دعوي الحسين أو رجحان حق يزيد، و لم يكن فيهم كافر ينفح عن

عقيدة غير عقيدة الاسلام، الا من طوي قلبه علي كفر كمين هو مخفيه، و لا نخالهم كثيرين...و لو كان يحاربون عقيدة بعقيدة، لما لصقت بهم و صمة النفاق و مسبة الأخلاق... فعداوتهم ما علموا أنه الحق و شعروا أنه الواجب أقبح بهم من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله و معرض عنه بشعوره، لأنهم يحاربون الحق و هم يعلمون... و من ثم كانوا في موقفهم ذاك ظلاما مطبقا. ليس فيه من شعور الواجب بصيص واحد من عالم النور و الفداء... فكانوا حقا في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام تكافح قوة من عالم النور.أقربهم الي العذر يومئذ من اعتذر بالفرق و الرهبة لأنهم أكرهوه بالسيف علي غير ما يريد... فكان الجبن أشرف ما فيهم من خصال السوء.و كان منهم أناس كتبوا الي الحسين يستدعونه الي الكوفة ليبايعوه [ صفحه 138] علي حرب يزيد، فلما ندبهم عمر بن سعد للقائه و سؤاله أحجموا عما ندبهم له و استعفوه، لأن جوابهم ان سألوه في شأن مجيئه اليهم: انني جئتكم ملبيا ما دعوتهم اليه!...و ركب أناسا منهم الفزع الدائم بقية حياتهم لأنهم عرفوا الاثم فيما اقترفوه عرفانا لا تسعهم المغالطة فيه، و من هؤلاء رجل من بني أبان بن دارم كان يقول:- قتلت شابا أمرد مع الحسين بين عينيه أثر السجود... فما نمت ليلة منذ قتلته الا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتي يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصبح فما يبقي أحد في الحي الا سمع صياحي.و رأي هذا الرجل صاحب له بعد حين و قد تغير وجهه و اسود لونه، فقال له: «ما كدت أعرفك»، و كان يعرفه جميلا شديد البياض...و منهم من كان يتزاور عن الحسين في المعمة، و

يخشي أن يصيبه أو يصاب علي يديه، و لو أنهم حاربوه لأنهم علموا أنه أهل للمحاربة فلم يتزاوروا عنه و لم يتحاشوه لكانت الحرب هنالك حربا بين رأيين و مذهبين و شجاعتين، و لكنهم كشفوا أنفسهم بتحاشيهم اياه. فاذا هم يحاربون رأيهم الذي يدينون به، و وليهم الذي يضمرون له الحرمة و الكرامة، و في ذلك خزيهم الأثيم. [ صفحه 139] علي أن الجبن و الجشع لا يفسران كل ما اقترفه جيش عبيدالله من شر ولؤم في أيام كربلاء.فلا حاجة بالجبان و لا بالجشع الي التمثيل و التنكيل أو التبرع بالايذاء حيث لا تلجئه الضرورة اليه، و ليس قتل الطفل الصغير الذي يموت من العطش و هو علي مورد الماء بالأمر الذي يلجي ء اليه الجبن أو يلجي ء اليه طلب المال، و قد حدث في أيام كربلاء من أمثال هذا البغي اللئيم شي ء كثير رواه الأمويون، و لم تقتصر روايته علي الهاشميين و الطالبيين أو أعداء بني أمية!و ينبغي أن نفهم ذلك علي وجه واحد لا سبيل الي فهمه بغيره، و هو نكسة الشر في النفس البشرية، حين تلج بها مغالطة الشعور و حين تغالب عنانها حتي تعييها المغالبة فينطلق بها العنان.فالرجل الخبيث المغرق في الخيانة قد يتصرف في خلوته تصرف الأنذال ثم لا يبالي أن يعرف نذالته و هو بنجوة من أعين الرقباء. و لكن أربعة الآلاف لا يتصارحون بالنذالة بينهم و لا يقول بعضهم لبعض أنهم يعملون ما يستحقون به التحقير و المهانة و لا تقبل لهم فيه معذرة و لا علالة. و انما شأنهم في هذه الحالة أن يصطنعوا الحماسة و يجاهدوا التردد ما استطاعوا ليظهروا في ثوب الغلاة المصدقين الذين لا يشكون لحظة

في صدق ما يعملون، فيغمض الرجل منهم عينيه و يستتر بغشاء من النفاق [ صفحه 140] حتي ليوشك أن يخدع نفسه عن طوية فؤاده...و تلك لجاجة المغالطة في الشعور...أما مجاذبة النفس عنانها و انطلاقها بعد هذه المجاذبة المخفقة، فالشواهد عليها كثيرة فيما نراه كل يوم... يحاول الرجل أن يتجنب الخمر فلا يستطيع، فاذا هو قد خلع العذار و غرق فيها ليله و نهاره غير مبال بما يقال كأنما هو القائل: «دع عنك لومي فان اللوم اغراء».و تحب المرأة ان تستحي و تتواري من المسبة في هواها، ثم يغلبها هواها فاذا هي قد ألقت حياءها للريح، و صنعت ما تحجم عنه التي لم تنازع نفسها قط في هوي، و لم تشعر قط بوطأة الخجل و الاستتار.و اندفاع المتهجمين علي الشر في حرب كربلاء بغير داع من الحفيظة و لا ضرورة ملزمة تقضي بها شريعة القتال، لهو الاندفاع الذي يسبر لنا عمق الشعور بالاثم في نفوس أصحاب يزيد. و قد رأينا من قبل عمق الشعور بالحق في أصحاب الحسين، و ما بنا من حاجة الي البحث عن علة مثل هذه العلة لمن خلقوا مجرمين و خلقت معهم ضراوة الحقد و الايذاء لهذا الميدان و غير هذا الميدان، كشمر بن ذي الجوشن، و من جري مجراه... فهؤلاء لا يصنعون غير ضيعهم الأثيم كلما و جدوا السبيل اليه.علي أنها - بعد كل هذا - حرب بين الكرم و اللؤم، و بين الضمير و المعدة، و بين النور و الظلام... فشأنها علي أية حال أن تصبح مجالا من [ صفحه 141] الطرفين لقصاري ما يبلغه الكرم و قصاري ما يبلغه اللؤم، و قد بلغت في ذلك أقصي مدي الطرفين.و من المتعذر

بعد وقوف هاتين القوتين موقف المراقبة و المناجزة، أن نتقصي أوائل القتال و نتبع ترتيب الحوادث واحدة بعد واحدة علي حسب وقوعها... فان الأقوال في سرد حوادث كربلاء لا تتفق علي ترتيب واحد، سواء كان هذا الترتيب في رواية أنصار الحسين أو رواية أنصار يزيد.الا أن الترتيب الطبيعي يستبين للعقل من سبب الوقوف في ذلك المكان، و هو منع الحسين أن ينصرف الي سبيله و أن يرد الماء حتي يكرهه العطش الي التسليم، و كان الموقف كما وصفه أبوالعلاء بعد ذلك بأربعة قرون:منع الفتي هينا فجر عظائما و حمي نمير الماء فانبعث الدم و لم يمتنع طريق الماء في بادي ء الأمر دفعة واحدة لأن حراس المورد من جماعة عمر بن سعد، لم يكونوا علي جزم بما يصنعون في مواجهة [ صفحه 142] الحسين و صحبه... فلما اندفع بعض أصحاب الحسين الي الماء بالقرب و الأداوي، مانعهم القوم هنيهة ثم أخلوا لهم سبيل النهر خوفا و حيرة، فشربوا و ملأوا قربهم و أداواهم بما يغنيهم عن الاستقاء الي حين.و الظاهر أن الشر كله كان في حضور شمر بن ذي الجوشن علي تلك الساخة؛ متربصا كل التربص بمن يتواني في حصار الحسين و مضايقته فيعزله و يعرضه لسوء الجزاء، ثم يطمع من وراء ذلك أن يتولي قيادة الجيش و امارة الري بعد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص... فبطل التردد شيئا فشيئا، و تعذر علي الحسين و أصحابه بعد الهجمة الأولي أن يصلوا الي الماء. و لبثوا أياما و ليس في معسكرهم ذو حياة من رجل أو امرأة أو طفل أو حيوان الا و هو يتلظي علي قطرة ماء فلا ينالها، و منهم الطفل العليل و الشيخ المكدود و

الحيوان الأعجم، و صياح هؤلاء الظماء من حرقة الظمأ يتوالي علي مسمع الحسين ليل نهار و هو لا يملك لهم غير الوصاية بالصبر و حسن المؤاساة.و في ذلك المأزق الفاجع، نضحت طبائع اللؤم في معسكر ابن زياد بشر ما تنضح به طبيعة لئيمة في البنية الآدمية... فاقترفوا من خسة الأذي ما تنزه عنه الوحوش الضاريات، و جعلوا يتلهون و يتفكهون بما تقشعر منه الجلود و تندي له الوجوه، و نكاد نمسك عن تسطيره أسفا و امتعاضا لو لا أن القليل منه جزء لا ينفصل من هذه الفاجعة، و بيان لما يلي من وقعها في النفوس و تسلسل تراثها الي أمد بعيد... [ صفحه 143]

مآثم مخزية

فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله... و لكنه رأي ولده عبدالله يتلوي من ألمه و عطشه، و قد بح صوته من البكاء، فحمله علي يديه يهم أن يسقيه و يقول للقوم: «أتقوا الله في الطفل ان لم تتقوا الله فينا» فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، و رمي الطفل بسهم و هو يصيح ليسمعه العسكران: «خذ اسقه هذا»... فنفذ السهم الي أحشائه!!...و كانوا يصيحون بالحسين متهاتفين: «ألا تري الي الفرات كأنه بطون الحيات؟!... و الله تذوقه حتي تموت و من معك عطشا».و لما اشتد عطشن الحسين دنا من الفرات ليشرب، فرماه حصين بن غير بسهم وقع في فمه... فانتزعه الحسين و جعل يتلقي الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمي به الي السماء و قد شخص ببصره اليها و هو يقول: «ان تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، و انتقم لنا من القوم الظالمين!»و قد كان منع الماء - قبل الترامي

بالسهام - نذيرا كافيا بالحرب، يبيح الحسين أن يصيب منهم من يتعرض للاصابة... و لكنه رأي شمر ابن ذي الجوشن - أبغض مبغضيه المؤلبين عليه - يدنو من بيوته و يجول حولها ليعرف منفذ الهجوم عليها، فأبي علي صاحبه السلم بن [ صفحه 144] عوسجة أن يرميه بسهم و قد أمكنه أن يصميه و هو من أسد الرماة...لانه كره أن يبدأهم بعداء...و كأنه لمح منهم ضعف النية و سوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، و علم أنهم لا يخلصون في حبه، و لا يؤمنون بحقه، و أنهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة و لا يخدمونه للحق و الذمة... فطمع أن يقرع ضمائرهم و ينبه غفلة قلوبهم، و رمي بآخر سهم من سهام الدعوة قبل ان يرمي بسهم واحد من سهام القتال. فخرج لهم يوما بزي جده عليه السلام متقلدا سيفه لابسا عمامته و رداءه، و أراهم أنه سيخطبهم، فكان أول ما صنعوه دليلا علي صدق فراسته فيهم، لأن رؤساءهم و مؤلبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ الي قلوبهم و يلمس مواقع الاقناع من ألبابهم. فضجوا بالصياح و الجلبة و أكثروا من العجيج و الحركة ليحجبوا كلامه عن أسماعهم و يتقوا أثر موعظته فيهم، و هو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار و تعنو لها الجباه...و لكنه صابرهم حتي ملوا، و مل اخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم و خوفهم، و لا يوجب الثقة بدعواهم عند اخوانهم... فهدأوا بعد لحظات و سمعوه بعد الحمد و الصلاة: «أنسبوني من أنا... هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟...أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي و لأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟و يحكم!...

أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟. [ صفحه 145] ثم نادي بأسماء أنصاره الذين استدعوه الي الكوفة ثم خرجوا لحربه في جيش ابن زياد. فقال: «يا شيث بن الربعي! يا حجار بن أبحر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! يا عمر بن الحجاج!... ألم تكتبوا الي أن قد أينعت الثمار و اخضرت الجنبات، و انما تقدم علي جند لك مجند؟»...فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات و بلغ بها المقنغ ممن فيه مطمع لاقناع، و تحولت الي صفه فئة تعلم أنها تتحول الي صف لن تجد فيه غير الموت العاجل، و استطابت هذا الموت و لم تستطب البقاء مع ابن زياد لاغتنام الغنيمة و انتظار الجزاء من المناصب و الاموال.و لم تكن كلمة الحسين كل ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام الي السيف... فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضي من السيوف و الرماح حيث تصيب، فركب فرسه و تعرض لهم قائلا: «يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار، ان حقا علي المسلم نصيحة المسلم، و نحن حتي الآن أخوة علي دين واحد ما لم يقع بيننا و بينكم السيف، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة و كنا نحن أمة و أنتم أمة... ان الله قد ابتلانا و اياكم بذرية نبيه محمد صلي الله عليه و آله و سلم لينظر ما نحن و أنتم عاملون، و انا ندعوكم الي نصر حسين و خذلان الطاغية ابن الطاغية عبيدالله بن زياد، فانكم لا تدركون منهما الا سوءا: يسملان أعينكم، و يقطعان أيديكم و أرجلكم و يمثلان [ صفحه 146] بكم، و يرفعانكم علي جذوع النحل و يقتلان أماثلكم

و قراءكم أمثال حجر بن عدي و أصحابه و هاني ء بن عروة و أشباهه».فوجم منهم من وجم، و توقح منهم من توقح، علي ديدن المريب المكابر اذا خلع العذار و لم يأنف من العار، و توعدوه و توعدوا الحسين معه أن يقتلوهم صاغرين الي عبيدالله بن زياد.

تخاذل و ضعف

و لا يظهر من عدد الفريقين ساعة القتال أن المتحولين الي معسكر الحسين كانوا كثيرين أو متلاحقين. و لكن بداءة التحول كانت مما يخيف و يزعج، لأنها اشتملت علي قائد كبير من قواد ابن زياد هو الحر بن يزيد الذي أرسلوه في أول الأمر ليحلي ء الحسين عن دخول الكوفة، و قد كان يحسب أن عمله ينتهي الي هذه المراقبة و لا يعدوها الي القتال و سفك الدم... فلما تبين نية القتال، أقبل يدنو نحو عسكر الحسين قليلا قليلا، و تأخذه رعدة و ينتابه ألم شديد... حتي راب أمره صاحبه المهاجر بن أوس فقال له.- و الله ان أمرك لمريب... ما رأيت منك قط مثل ما أراه الآن، و لو قيل من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك...فباح له الرجل بما في نفسه و قال له: [ صفحه 147] - اني أخير نفسي بين الجنة و النار، و لا أختار علي الجنة شيئا و لو قطعت أو حرقت...ثم ضرب فرسه، و لحق بالحسين و هو يعتذر قائلا:- لو علمت أنهم ينتهون الي ما أري ما ركبت مثل الذي ركبت، و اني قد جئتك تائبا مما كان مني الي ربي، مؤاسيا لك بنفسي حتي أموت بين يديك!...و لن يخلو معسكر ابن زياد من مئات كالحر بن يزيد يؤمنون ايمانه و يودون لو يلحقون به الي معسكر الحسين، و يزعجهم أن يتحول أمامهم الي

المعسكر و هم ناظرون اليه، لأنه يبكتهم و يكشف مغالطتهم بينهم و بين أنفسهم و يحضهم علي الاقتداء به و التدبر في أسباب ندمه، لا لأنه ينتقص عددهم أو ينذر بالهزيمة في ميدان القتال... فكلهم و لا ريب يشعر بشعوره و يعتقد في فضل الحسين علي يزيد مثل اعتقاده، و بعيد علي العقل أن يصدق في هؤلاء الشر اذم أنهم قد أطاعوا يزيد لأنه صاحب بيعة حاصلة و أنهم قد «تأدبوا بأدب الدولة» أدبا يغلب شعور الجماعة و ايمان المرء بحق الشريعة و حرمة البيت النبوي، و يهون عليه قتل سبط النبي في هذا السبيل، و كيف و ان منهم لمن بايع الحسين علي البعد و دعاه اليه لبقود «الجند المجند» الي قتال يزيد؟ فكلامهم في البيعة الحاصلة لغط يلو كونه بألسنتهم و لا يستر ما في طويتهم، و ليس أثقل علي أمثال هؤلاء من عب ء المغالطة كلما تلجلج في مكانه و حركته القدوة التي [ صفحه 148] يريدونها و لا يقوون عليها، كتلك القدوة الماثلة بصاحبهم الحر بن يزيد.لا جرم كان أعظم الجيشين قلقا و أشدهما حيرة و أعجلهما الي طلب الخلاص من هذا المأزق الثقيل هو أكبر الفئتين و أقوي العسكرين...

شجاعة جند الحسين

كان هناك عسكران احدهما صغير يلح عليه العطش و الضيق، و لكنه كان مطمئنا الي حقه يلقي الموت في سبيله و يزيده العطش و الضيق طمأنينة الي هذا المصير...و العسكر الآخر أكبر العسكرين و لكنه كان «يخون» نفسه في ضمير كل فرد أفراده، و تملكه الحيرة بين ندم و خوف و تبكيت و مغالطة و اضطراب، يحز في الأعصاب و يقذف المرء الي الخلاص كيفما كان الخلاص...و طال القلق علي دخيلة عمر

بن سعد فأطلقه سهما في الفضاء كأنه كان متشبثا بصدره فاستراح منه بانطلاقه...فزحف الي مقربة من معسكر الحسين، و تناول سهما فرماه عن قوسه الي المعسكر و هو يصيح:- أشهدوا لي عند الامير انني أول من رمي الحسين...ثم تتابعت السهام فبطلت حجة السلم و ذهب كل تأويل في نية القوم، [ صفحه 149] و قال الحسين و هو ينظر الي السهام و ينظر الي أصحابه:- قوموا يا كرام فهذه رسل القوم اليكم.و بذلك بدأ القتال...و قد تأهب الحسين لهذه المنازلة المنتظرة، و ان كان علي انتظاره اياها قد تريث حتي يبدأوه بالعدوان من جانبهم، و حتي يجب عليه الدفاع وجوبا لا خلاف فيه...فاختار له رابية يحتمي بها من ورائه، و وسع و هدتها حتي أصبحت خندقا لا يسهل عبوره... فأوقد فيه النار ليمنع عليهم الالتفاف به من خلفه، و هم في كثرتهم التي ترجع عدة صحبه ستين ضعفا قادرون علي مهاجمته من جميع نواحيه.و كان معه اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا... و هم نيف و أربعة آلاف يكثر فيهم الفرسان و راكبو الابل و يحملون صنوفا مختلفة من السلاح...و مع هذا التفاوت البعيد في عدة الفريقين، كان العسكر القليل كفؤا للعسكر الكثير لو جري القتال علي سنة المبارزة التي كانت دعوة مجابة في ذلك العصر، اذا اختارها أحد الفريقين...فان آل علي جميعا كانوا من أشهر العرب - بل من أشهر العرب و العجم - بالقوة البدنية و الصبر علي الجراح و الاضطلاع بعناء الحرب [ صفحه 150] ساعات بعد ساعات، و منهم من كان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، و منهم محمد بن الحنفية الذي صرع جبابرة القوة البدنية بين العرب و العجم

في زمانه، و من أشهر هؤلاء الجبابرة رجل كان في أرض الروم يفخر به أهلها. فأرسله ملكهم الي معاوية يعجز به العرب عن مصارعته و اتقاء بأسه. فجلس محمد بن الحنيفة و طلب من ذلك الجبار الرومي أن يقيمه، فكان كأنما يحرك جبلا لصلابة أعضائه و شدة أسره. فلما أقر الرجل بعجزه رفعه محمد فوق رأسه ثم جلد به الأرض مرات.و الحسين رضي الله عنه عنه قد كان هو و من معه من شباب آل علي ممن ورث هذه القوة البدنية كما ورثوا ثبات الجأش و حمية الفؤاد، و كانوا كفؤا لمبارزة الأنداد واحدا بعد واحد حتي يفرغ جيش عبيدالله من فرسانه القادرين علي المبارزة، و لا يبقي منهم غير الهمل يتبددون في منازلة الشجعان، كما تتبدد السائمة المذعورة بالعراء...و كان مع الحسين نخبة من فرسان العرب كلهم لهم شهرة بالشجاعة و البأس و سداد الرمي بالسهم و مضاء الضرب بالسيف، و لن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة و تقديرا لا يتوقفان علي الشهرة الذائعة و الوصف المتواتر، لأن مزاملة الحسين في مثل تلك الرحلة هي وحدها آية علي الشجاعة في ملاقاة الموت و كرم النحيزة في ملاقاة الفتنة و الاغراء...فاذا جري القتال كله مبارزة بين أمثال هؤلاء و من يبرزون لهم من جيش عبيدالله، فهم كف ء للمنازلة و ليس أملهم في الغلب بضعيف. [ صفحه 151] و قد بدأ القتال بهجوم الخيل من قبر جيش ابن زياد، فأشرع أصحاب الحسين لها رماحهم و جثوا علي الركب ينتظرونها فلم تقم الخيل للرماح و أوشكت أن تجفل مولية بفرسانها...فعدل الفريقان الي المبارزة، فلم يتعرض لها أحد من جيش ابن زياد الا فشل أو نكص علي عقبيه، فخشي

رؤوس الجيش عقبي هذه المبارزة التي لا أمل لهم في الغلبة بها، و صاح عمر بن الحجاج برفاقه:- أتدرون من تقاتلون؟... تقاتلون فرسان المصر و قوما مستميتين. لا يبرز اليهم منكم أحد فانهم قليل... لو لم ترموهم الا بالحجارة لقتلتموهم...فاستصوب عمر بن سعد مقاله، و نهي الناس عن المبارزة...فلما برز عابس بن أبي شبيب الشاكري بعد ذلك و تحداهم للمبارزة، تحاموه لشجاعته و وقفوا بعيدا منه. فقال لهم عمر:- أرموه بالحجارة...فرموه من كل جانب... فاستمات و ألقي بدرعه و مغفره و حمل علي من يليه، فهزمهم و ثبت لجموعهم حتي مات.و عجزت خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحسين، و هي [ صفحه 152] تتكشف كل ساعة عن فارس قتيل... فبعث عروة بن قيس مقدم الفرسان في جيش ابن زياد يقول لعمر بن سعد: «لا تري ما تلقي خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟... ابعث اليهم الرجال و الرماة»فبعث اليه بخسمائة من الرماة و علي رأسهم الحسين بن نمير، فرشقوا أصحاب الحسين بالنبل حتي عقروا الخيل و جرحوا الفرسان و الرجال.و كان أبوالشعثاء يزيد بن زياد الكندي ممن عدل الي جيش الحسين و هو من أشهر رماة زمانه. فلما تكاثر عليهم رمي النبال و السهام، جثا بين يدي الحسين و أرسل مائة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم...و قاتل حتي مات...و كان الذين عدلوا الي عسكر الحسين أشد أنصاره عزمة في القتال و هجمة علي الموت، و منهم الحر بن يزيد الذي تقدم ذكره. فجاهد ما استطاع ليقنع أصحابه الاولين بالكف عن حرب الحسين أو بالعدول الي صفه... و قام علي فرسه يخطب أهل الكوفة و يزجرهم، فسكتوا هنيهة ثم رشقوه بالنبل فعقروا فرسه

و جرحوه... فما زال يطلب الموت و يتحري من صفوفهم أكثفها جمعا و أقتلها نبلا حتي سقط مثخنا بالجراح و هو ينادي الحسين: «السلام عليكم يا أباعبدالله».و لم يكن من أصحاب الحسين الا من يطلب الموت و يتحري مواقعه و أهدافه... فكان نافع بن هلال البجلي يكتب اسمه علي أفواق نيله و يرسلها فيقتل بها و يجرح، و قلما يخطي ء مرماه. فأحاطوا به و ضربوه [ صفحه 153] علي ذراعيه حتي كسرتا، ثم أسروه و الدم يسيل من وجهه و يديه، فحسبوه يلين للوعيد و يجزع من التمثيل به، فأسمعهم ما يكرهون و راح يستزيد غيظهم و يقول لهم: «لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوي من جرحت، و لو بقيت لي عضد و ساعد لزدت».

مصرع الحسين

و استهدف الحسين رضي الله عنه لأقواس القوم و سيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم و لا يقاتلون الا بين يديه. و كلما سقط منهم صريع، أسرع الي مكانه من يخلفه ليلقي حتفه علي أثره.فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، و سول لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا الاخبية التي أووي اليها النساء و الاطفال ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته. ثم أخذوا في احراقها، و أصحاب الحسين يصدونهم و يدافعونهم، فرأي رضي الله عنه أن اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم:- دعوهم يحرقونها... فانهم اذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا اليكم منها...و ظل علي حضور ذهنه و ثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر و تطيش بالألباب... و هو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم و الدم، و لا ينهض به الا أولو العزم من أندر من يلد آدم و حواء. [ صفحه

154] فانه رضي الله عنه كان يقاسي جهد العطش و الجوع و السهر و نزف الجراح و متابعة القتال، و يلقي باله الي حركات القوم و مكائدهم، و يدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات و يتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه و بلاءهم... و يتكاثر عليه و قر الأسي لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. و لا يزال كلما أصيب عزيز من أولئك الأعزاء حمله الي جانب اخوانه و فيهم رمق ينازعهم و ينازعونه و ينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه... فيطلبون الماء و يحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، و يرجع الي ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت و يعرض به عن الحياة... و يقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك» و يهدف صدره لكل ما يلقاه...و انه لفي هذا كله، و بعضه يهد الكواهل و يقصم الأصلاب... اذا بالرماح و السيوف تنوشه من كل جانب، و اذا بالقتل يتعدي الرجال المقاتلين الي الأطفال و الصبيان من عترته و آل بيته، و سقط كل من معه واحدا بعد واحد فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه و يتلقون الضرب عنه، و هو يسبقهم و يأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه و قد دنت الخاتمة و وضح المصير...و كان غلام من آل الحسين - هو عبدالله بن الحسن أخيه - ينظر من الأخبية، فرأي رجلا يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام الي عمه و صاح في براءة بالرجل: [ صفحه 155] - يا ابن الخبيثة... أتقتل عمي؟فتعمده الرجل بالسيف يريد قتله الغلام ضربته بيده فانقطعت و

تعلقت بجلدها... فاعتنقه عمه و جعل يواسيه و هو مشغول بدفاع من يليه...ثم سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه. و كان يحمل علي الذين عن يمينه فيتفرقون، و يشد علي الخيل راجلا و يشق الصفوف وحيدا، ويها به القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالاجهاز عليه ثم ينكصون... لأنهم تحرجوا من قتله، و أحب كل منهم أن يكفيه غيره مغبة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن و أمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، و صاح بمن حوله:- و يحكم!... ماذا تنتظرون بالرجل؟... اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم...فاندفعوا اليه تحت عيني شمر مخافة من و شايته و عقابه... و ضربه زرعة بن شريك التميمي علي يده اليسري فقطعها، و ضربه غيره علي عاتقه فخر علي وجهه، ثم جعل يقوم و يكبو و هم يطعنونه بالرماح و يضربونه بالسيف حتي سكن حراكه، و وجدت بعد موته رضوان الله عليه ثلاث و ثلاثون طعنة و أربع و ثلاثون ضربة غير اصابة النبل و السهام، و أحصاها بعضهم في ثيابه فاذا هي مائة و عشرين. [ صفحه 156] و نزل خولي بن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه، فملكته رعدة في يديه و جسده، فنحاه شمر و هو يقول له:- فت الله في عضدك!...و احتز الرأس و أبي الا أن يسلمه اليه في رعدته، سخرية به و تماديا في الشر، و تحديا به لمن عسي أن ينعاه عليه! و قضي الله علي هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله و صفا لا يطرقه الشك و الاتهام، فكان ضغنه هذا كله ضغنا لا معني له و لا باعث اليه الا أنه من أولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسليهم بعض السلوي أن

يؤلموا به الكرام، و يجعلوه تحديا مكشوفا كأنه معرض للزهو و الفخار، و هم يعلمون أنه لا يفخر به و لا يزهي! و لكنهم يبلغون به مأربهم اذا آلموا به من يحس فيهم الضعة و العار...و بقيت ذروة من الحمية يرتفع اليها مرتفع...و بقيت و هدة من الخسة ينحدر اليها منحدرون كثيرون...فلم يكن في عسكر الحسين كله الا رمق واحد من الحياة باق في رجل طعين مثخن بالجراح، تركوه و لم يجهزوا عليه لظنهم أنه قد مات...ذلك الرجل الكريم هو سويد بن أبي المطاع أصدق الأنصار و أنبل الأبطال... [ صفحه 157] فأبي الله لهذا الرمق الضعيف أن الضعيف أن يفارق الدنيا بغير مكرمة يتم بها مكرمات يومه، و تشتمل عليها النفوس الكثيرات فاذا هي حسبها من شرف مجد و ثناء...تنادي القوم بمصرع الحسين فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله النزع و أوشك أن يجهل ما يسمع. فلم يخطر له أن يسكن لينجو و قد ذهب الأمل و حم الختام، و لم يخطر له انه ضعيف منزوف يعجل به القوم قبل أن ينال من القوم أهون منال، و لم يحسب حساب شي ء في تلك اللحظة العصيبة الا أن يجاهد في القوم بما استطاع، بالغا ما بلغ من ضعف هذا المستطاع...فالتمس سيفه فاذا هم قد سلبوه، و نظر الي شي ء يجاهد به فلم تقع يده الا علي مدية صغيرة لا غناء بها مع السيوف و الرماح... و لكنه قنع بها و غالب الوهن و الموت، ثم و ثب علي قدميه من بين الموتي و ثبة المستيئس الذي لا يفر من شي ء و لا يبالي من يصيب و ما يصاب. فتولاهم الذعر و شلت أيديهم التي كانت خليقة أن

تمتد اليه، و انطلق هو يثخن فيهم قتلا و جرحا حتي أفاقوا له من ذعرهم و من شغلهم بضجتهم و غنيمتهم. فلم يقووا عليه حتي تعاون علي قتله رجلان... فكان هذا حقا هو الكرم و المجد في عسكر الحسين الي الرمق الاخير. [ صفحه 158]

خمسة و وحشية

و كان حقا لا مجازا ما توخيناه حين قلنا انها طرفان متناقضان و أنها حرب بين أشرف ما في الانسان.فبينما كان الرجل في عسكر الحسين ينهض من بين الموتي و لا يضن بالرمق الاخير في سبيل ايمانه، اذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآ ثم في رأيهم - قبل رأي غيرهم - من أجل غنيمة هينة لا تسمن و لا تغني من جوع. فلو كان كل ما في عسكر الحسين ذهبا و درا لما أغني عنهم شيئا و هو قرابة أربعة آلاف... و لكنهم، ما استيقنوا بالعاقبة - قبل أن يسلم الحسين نفسه الأخير - حتي كان همهم الي الاسلاب التي يطلبونها حيث وجدوها، فأهرعوا الي النساء من بيت رسول الله ينازعونهن الحلي و الثياب التي علي أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة. و انقلبوا الي جئة الحسين يتخطفون ما عليها من كساء تخللته الطعون حتي أو شكوا أن يتركوها علي الأرض عارية، لولا سراويل لبسها رحمه الله ممزقة و تعمد تمزيقها ليتركوها علي جسده و لا يسلبوها. ثم نبدوا عشرة من الفرسان يوطئون جثته الخيل كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مقبلين و مدبرين حتي رضوا صدره و ظهره.و قد يساق الغنم هنا معذرة للأثم بالغا ما بلغ هذا من العظم، و بالغا ما بلغ ذلك من التفاهة. لكنهم في الحقيقة قد ولعوا بالشر للشر من

غير ما طمع في مغنم كبيرا أو صغير. فحرموا الري علي الطفل الظامي ء [ صفحه 159] العليل و أرسلوا الي أحشائه السهام بديلا من الماء، و قتلوا من لا غرض في قتله و روعوا من لا مكرمة في ترويعه... فربما خرج الطفل من الأخبية ناظرا و جلا لا يفقه ما يجري حوله، فينقض الفارس الرامح فوق فرسه و يطعنه الطعنة القاضية بمرأي من الأم و الأخت و العمة و القريبة، و لم تكن في الذي حدث من هذا القبيل مبالغة يزعمونها كما زعم أجراء الذمم بعد ذلك عن حوادث كربلاء و جرائر كربلاء. فقد قتل فعلا في كربلاء كل كبير و صغير من سلالة علي رضي الله عنه، و لم ينج من ذكورهم غير الصبي علي زين العابدين.. و في ذلك يقول سراقة الباهلي:عين جودي بعبرة و عويل و اندي ما ندبت آل الرسول سبعة منهم لصلب علي قد أبيدوا و سبعة لعقيل و ما نجا علي زين العابدين الا بأعجوبة من أعجايب المقادير، لأنه كان مريضا علي حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، فلما هم شمر بن ذي الجوشن بقتله، نهاه عمر بن سعد عنه اما حياء من قرابة الرحم أمام النساء - و قد كان له نسب يجتمع به في عبدمناف - و أما توقعا لموته من السقم المضني الذي مان يعانيه.. فنجا بهذه الأعجوبة في لحظة عابرة، و حفظ به نسل الحسين من بعده، و لو لا ذلك لباد. [ صفحه 160] ثم قطعوا الروؤس و رفعوها أمامهم علي الحرب، و تركوا الجثث ملقاة علي الأرض لا يدفنونها و لا يصلون عليها كما صلوا علي جثث قتلاهم... و مروا بالنساء حواسر من طريقها فولولن

باكيات و صاحت زينب رضي الله عنها:- يا محمداه!.. هذا الحسين بالعراء و بناتك سبايا و ذريتك مقتلة تقسي عليها الصبا..فوجم القوم مبهوتين و غلبت دموعهم قلوبهم. فبكي العدو كما بكي الصديق!..لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة علي انتقال النبي محمد عليه السلام من هذه الدنيا الي حظيرة الخلود: محمد الذي بر بدينهم و دنياهم فلم ينقل من الدنيا حتي نقلهم من الظلمة الي النور، و من حياة التيه في الصحراء الي حياة عامرة يسودون بها أمم العالمين ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، و اذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء الي مدينة بعد مدينة: سباياه بنات محمد حواسر علي المطايا و أعلامه رؤوس أبنائه علي الحراب، و هم داخلون به دخول الظافرين!و بقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء «تسفي عليها الصبا»فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء... [ صفحه 161] فلما أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء الي حيث طلعت بهم علي منظر لا يطلع القمر علي مثله - شرفا و لا وحشة - في الآباد بعد الآباد...و كان يوم المقتل في العاشر من المحرم... فكان القمر في تلك الليلة علي و شك التمام.. فحفروا القبور علي ضوئه، وصلوا علي الجثث و دفنوها، ثم غادروها هناك في ذمة التاريخ. في اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين و مختلفين، و من حقه أن يطيف به كل انسان، لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معني الشهادة و ذكري الشهداء.. [ صفحه 163]

جزيرة كربلاء

موطن الرأس

اتفقت الأقوال في مدفن

جسد الحسين عليه السلام، و تعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشريف..فمنها أن الرأس قد أعيد بعد فترة الي كربلاء فدفن مع الجسد فيها..و منها أنه أرسل الي عمرو بن سعيد بن العاص و الي يزيد علي المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة الزهراء..و منها أنه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدفن بدمشق عند باب الفراديس...و منها أنه كان قد طيف به في البلاد حتي وصل الي عسقلان، فدفنه أميرها هناك و بقي بها حتي استولي عليها الافرنج في الحرب الصليبية..فبذل هم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ثلاثين ألف درهم علي أن ينقله الي القاهرة حيث دفن بمشهده المشهور. قال الشعراني في طبقات [ صفحه 164] الأولياء: «ان الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو و عسكره حفاة الي الصالحية، فتلقي الرأس الشريف و وضعه في كيس من الحرير الأخضر علي كرسي من الأبنوس و فرش تحته المسك و العنبر و الطيب، و دفن في المشهد الحسيني قريبا من خان الخليلي في القبر المعروف».و قال السائح الهروي في الاشارات الي أماكن الزيارات: «و بها - أي عسقلان - مشهد الحسين رضي الله عنه: كان رأسه بها، فلما أخذتها الفرنج نقله المسلمون الي مدينة القاهرة سنة تسع و أربعين و خمسمائة».و في رحلة ابن بطوطة أنه سافر الي عسقلان «و به المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينقل الي القاهرة».و ذكر سبط بن اجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة أن الرأس بمسجد الرقة علي الفرات، و أنه لما جي ء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: «لأبعثنه الي آل أبي معيط عن رأس عثمان» و كانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم

ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، و هو الي جانب سوره هناك.فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستة في ست مدن هي: المدينة، و كربلاء، و الرقة، و دمشق، و عسقلان، و القاهرة، و هي تدخل في بلاد الحجاز و العراق و الشام و بيت المقدس و الديار المصرية. و تكاد [ صفحه 165] تشتمل علي مداخل العالم الاسلامي كله من وراء تلك الأقطار، فان لم تكن هي الأماكن التي دفن فيها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لامراء. و للتاريخ اختلافات كثيرة، نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية، لأن نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، و منها الاختلاف علي مدفن رأس الحسين عليه السلام. فأيا كان الموضع الذي دفن به ذلك الرأس الشريف، فهو في كل موضع أهل للتعظيم و التشريف. و انما أصبح الحسين - بكرامة الشهادة و كرامة البطولة و كرامة الأسرة النبوية - معني يحضره الرجل في صدره و هو قريب أو بعيد من قبره. و ان هذا المعني لفي القاهرة، و في عسقلان، و في دمشق، و في الرقة، و في كربلاء، و في المدينة، و في غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد

و يقل الاختلاف أو يسهل التجاوز عنه كذلك فيما حدث بين فاجعة كربلاء و لقاء يزيد...فالمتواتر الموافق لسير الأمور أنهم حملوا الرؤوس و النساء الي الكوفة، فأمر ابن زياد أن يطاف بها في أحياء الكوفة ثم ترسل الي يزيد.و كانت فعلة يدارونها بالتوقح فيها علي سنة المأخوذ الذي لا يملك [ صفحه 166] مداراة ما فعل. فبات خولي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، و هو يمني نفسه بغني الدهر كما قال. فأقسمت امرأة له حضرمية: «لا يجمع رأسها و رأسه

بيت و فيه رأس ابن رسول الله».ثم غدا الي قصر ابن زياد و كان عنده زيد بن أرقم من أصحاب رسول الله... فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وضع أمامه في أجانة، فصاح به مغضبا:- ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين فوالذي لا اله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله علي هاتين الشفتين يقبلهما..و بكي...فهزي ء به ابن زياد و قال له:- لولا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك، لضربت عنقك!فخرج زيد و هو ينادي في الناس غير حافل بشي ء:- أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم... قتلتم ابن فاطمة و آثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم و يستعبد خياركم.و أدخلت السيدة زينب علي رضي الله عنها، و عليها أرذل ثيابها و معها عيال الحسين و اماؤها.. فجلست ناحية لا تتكلم و لا تنظر الي ما أمامها. فسأل ابن زياد:- من هذه التي انحازت ناحية و معها نساؤها؟ [ صفحه 167] فلم تجبه.. فأعاد سؤاله ثلاثا و هي لا تجييه، ثم أجابت عنها احدي الاماء:- هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.فاجترأ ابن زياد قائلا:- الحمد الله الذي فضحكم و قتلكم و أبطل أحدوثتكم...و قد كانت زينب رضي الله عنها حقا جديرة بنسبها الشريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهد عزائم الرجال... كانت كأشجع و أرفع ما تكون حفيدة محمد بنت علي و أخت الحسين. و كتب لها أن تحفظ بشجاعتها و تضحيتها بقية العقب الحسيني من الذكور... و لولاها لا تقرض من يوم كربلاء..فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة:-الحمدلله الذي أكرمنا بنبيه و طهرنا من الرجس تطهيرا.. انما يفضح الفاسق و يكذب الفاجر، و هو غيرنا و الحمدلله.فقال ابن زياد:- قد شفي الله نفسي من طاغيتك و العصاة.فغلبها الحزن

و الغيظ من هذا التشفي الذي لا ناصر لها منه، و قالت:- لقد قتلت كهلي، و أبدت أهلي، و قطعت فرعي و احتثثت [ صفحه 168] أصلي، فان يشفك هذا فقدا اشتفيت..فتهاتف ابن زياد ساخرا و قال:- هذه سجاعة.. لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا.فقالت زينب:- ان لي عن السجاعة لشغلا.. ما للمرأة و السجاعة؟

علي زين العابدين

ثم نظر ابن زياد غلام عليل هزيل مع السيدة زينب فسأله:- من أنت؟قال: علي بن الحسين.قال: أو لم يقتل الله علي بن الحسين؟قال: كان لي أخ يسمي عليا قتله الناس.فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله.فقال علي: الله يتوفي الأنفس حين موتها، و ما كان لنفس أن تموت الا بأذن الله..فأخذت زيادا الاثم و انتهر قائلا:- و بك جرأة لجوابي! [ صفحه 169] و صالح الخبيث الأثيم بجنده:- أذهبوا به فاضربوا عنقه...فجاشت بعمة الغلام قوة لا يردها سلطان، و لا يرهبها سلاح.. لأنها قوة من هان لديه الموت و هانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق من اعتزم ألا يفارقه الا و هو جثة هامدة، و أقسمت لئن قتلته لتقتلني معه. فارتد ابن زياد مشدوها و هو يقول متعجبا:- يا للرحم... اني لأظنها ودت أني قتلتها معه..ثم قال: «دعوه لما به».. كأنه حسب أن العلة قاضية عليه.و علي هذا هو زين العابدين جد كل منتسب الي الحسين عليهماالسلام، و كان كما قال ابن سعد في الطبقات: «ثقة كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا»، و كما قال يحيي بن سعيد: «أفضل هاشمي رأيته في المدينة»..و لولا استماتة عمته كما تري، لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية لمة علي شفتي ابن زياد!

الرأس عند يزيد

و لما قضي الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحسين في الكوفة و أرباضها، أنفذه و رؤوس أصحابه الي دمشق مرفوعة علي الرماح، ثم أرسل النساء و الصبيان علي الاقتاب، و في الركب علي زين العابدين مغلول الي عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن و محضر بن ثعلبة.. فتلا حق [ صفحه 170] الركبان في الطريق و دخلا الشام معا الي يزيد.و تكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد.. و لا نستغرب أن يتكرر

بعضه حتي يظن انه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين، لأن المناسبة في هذا المقام تستوحي ضربا واحدا من التعقيب و ضربا واحدا من الحوار..فارتاع من بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، و قال يحيي بن الحكم و هو من الأمويين:لهام بجنب الطف أدني قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل سمية أمسي نسلها عدد الحصي و بنت رسول الله ليست بذي نسل فأسكته يزيد.. و قال و هو يشير الي الرأس و ينكث ثناياه بقضيب في يده: (أتدرون من أين أتي هذا؟.. أنه قال: «أبي علي خير من من أبيه و أمي فاطمة خير من أمه، و جدي رسول الله خير من جده و أنا خير منه و أحق بهذا الأمر».. فأما أبوه فقد تحاج أبي و أبوه الي الله و علم الناس أيهما حكم له، و أما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، و أما جده فلعمري ما أحد يومن بالله و اليوم الآخر يري. لرسول الله فينا عدلا و لا ندا، و لكنه أتي من قبل فقهه و لم يقرأ: قل اللهم [ صفحه 171] مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء)..و هو كلام ينسب مثله الي معاوية في رده علي حجج علي في الخلافة.. و لعل يزيد قد استعاره من كلام أبيه و زاد عليه.و نظر بعض أهل الشام الي السيدة فاطمة بنت الحسين - و كانت جارية و ضيئة - فقال ليزيد: «هب لي هذه» فأرعدت و أخذت بثياب عمتها... فكان لعمتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة، ذيادا عن أخيها زين العابدين، و صاحت بالرجل:- كذبت و لؤمت... ما ذلك

لك و لا له.فتغيظ يزيد و قال: «كذبت، ان ذلك لي.. و لو شئت لفعلت».قالت: «كلا و الله.. ما جعل الله لك ذلك، الا أن تخرج من ملتنا و دين بغير ديننا».فاشتد غيظ يزيد و صاح بها: «اياي تستقبلين بهذا؟.. انما خرج من الدين أبوك و أخوك».قالت: «بدين الله و دين أبي و أخي و جدي اهتديت أنت و أبوك و جدك»..فلم يجد جوابا غير أن يقول: «بل كذبت يا عدوة الله».فقالت: «أنت أمير تشتم ظالما، و تقهر بسلطانك».فأطرق و سكت.. [ صفحه 172] و أدخل علي بن الحسين مغلولا، فأمر يزيد بفك غله و قال له:- ايه يا ابن الحسين... أبوك قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت...قال علي:- ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها. ان ذلك علي الله ليسير، لكيلا تأسوا علي ما فاتكم و لا تفرحوا بما أتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور. فتلا يزيد الآية: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» ثم زوي وجهه و ترك خطابه...و كان لقاء نساء يزيد خيرا من لقائه... فواسين السيدة زينب و السيدة فاطمة و من معها، و جعلن يسألنهن عما سلبنه بكربلاء فيرددن اليهن مثله و زيادة عليه..و أحب يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ الي النعمان بن بشير و اليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحسين.. و أمره أن يسير آل الحسين الي المدينة و يجهز هم بما يصلحهم. و قيل انه ودع زين العابدين، و قال له: «لعن الله ابن مرجانة... أما و الله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبدا

الا أعطيته اياها، و لدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت و لو بهلاك بعض ولدي. و لكن الله قضي ما رأيت يا بني!.. كاتبني من المدينة، و أنه الي حاجة تكون لك».. [ صفحه 173]

تبعة يزيد

و الناس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب و أهواء، يرجع كل منهم الي مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.فمنهم من يري انه بري ء من التبعة كل البراءة.. و منهم من يري أنه أقر فعلة ابن زياد ثم ندم عليها.. و منهم من يقول أنه قد أمر بكل ما اقترفه ابن زياد و توقع حدوثه و لم يمنعه و هو مستطيع أن يمنعه لو شاء.و الثابت الذي لا جدال فيه، ان يزيدا لم يعاقب أحدا من ولادته كبر أو صغر علي شي ء مما اقترفوه في فاجعة كربلاء، و ان سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة أولئك الولاة علي وتيرة واحدة مما حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النبي عليه السلام - و تحكم مسلم ابن عقبة في رجالها و نسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكرة و قبله، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث علي نقيض تدبيره و شعوره و مازال يزيد و أخلافه يأمرون الناس بلعن علي و الحسين و آلهما علي المنابر في أرجاء الدولة الاسلامية، و يستفتون من يفتيهم باهدار دمهم و صواب عقابهم بما أصابهم و من تجب لعنته علي المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.و من أفرط في سوء الظن، رجح عنده أن عبيدالله بن زياد كان علي [ صفحه 174] اذن مستور بكل ما صنع، و يملي هم في هذا الظن أن استئصال

ذرية الحسين من الذكور خطة تهم يزيد لوارثة الملك في بيته و عقبه، و يفيده أن يقدم عليها مستترا من وراء ولاته ثم ينصل منها و يلقي بتبعتها عليهم.و لو لم يكن ذلك لكان عجيبا ان توكل حياة الحسين و أبنائه و آله الي والي الكوفة بغير توجيه من سيده و مولاه. فقد كان الزمن الذي انقضي منذ خروج الحسين من مكة الي نزوله بالطف علي الفرات كافيا لبلوغ الخبر الي يزيد و رجوع الرسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة و غيره من الولاة، فان لم يكن الأمر تدبيرا متفقا عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء و الشناعة، و هي مساءة التهاون الذي لا تستقيم علي مثله شئون دولة. و قد روي ابن شريح اليشكري أن عبيدالله صارحه بعد موت يزيد فقال: «أما قتلي الحسين فانه أشار الي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله» و هو كلام متهم لا تقوم به حجة علي غائب قضي نحبه..و يبدو لنا أن الظن بتهاون يزيد هنا أقرب الي الظن بايعازه و تدبيره.. لأنه جري عليه طوال حكمه و ألقي حبل ولاته علي غاربهم و هو لاه بصيده و عبثه، و أنه ربما ارتاح في سريرته بادي ء الأمر الي فعلة ابن زياد و أعوانه.. و لكنه ما عتم أن رأي بوادر العواقب توشك أن تطبق عليه بالوبال من كل جانب، حتي تيقظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد الي المحاسنة و الاستدراك جهد ما استطاع، و لم يكن في [ صفحه 175] يقظته علي هذا متعصما بالحكمة و السداد..و لقد رأي البوادر منه غير بعيد، و لما تنقض ساعات علي ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة

ملكه.. فنعي ابن الحكم فعلة ابن زياد، و ناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن و رأين، و بكي ابنه الورع الصالح معاوية فكان يقول اذا سئل: «نبكي علي بني أمية لا علي الماضين من بني هاشم»..و مهما تكن غفلة يزيد، أحد قط يلمح تلك البوادر ثم يجهل أنها ضربة هو جاء لن تذهب بغير جريرة، و لن تهون جريرتها في الحاضر القريب و لا في الآتي البعيد...و الواقع انها قد استتبعت بعدها جرائر شتي لا جريرة واحدة، و ما تنقضي جرائرها الي اليوم...فلم تنقض سنتان حتي كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود و يخترق الحدود... لأنهم حملوا اليها خبر الحسين محمل التشهير و الشماتة. و ضحك و اليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء و الصراخ من بيوت آل النبي، فكان يتمثل قول عمرو بن معد يكرب:عجت نساء بني زياد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرتب [ صفحه 176] و كانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة و تنشد:ماذا تقولون ان قال النبي لكم: ماذا فعلتم... و أنتم آخر الأمم؟بعترتي، و بأهلي، بعد مفتقدي.. منهم أساري، و منهم ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، و يقوون كما قال عمرو بن سعيد: «ناعية كناعية عثمان».و لا موضع للشماتة هنا بالحسين، لأنه قد أصيب علي باب عثمان و هو يذود عنه و يجتهد في سقيه و سقي آل بيته.. و لكنها شماتة هو جاء لا تعقل و لا ما تقول.

ثورة المدينة

و للقدر المتاح لجت بالولاة الأمويين رغبتهم في تلفيق «المظاهرات الحجازية»، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن الاعج و الأسي الدفين. و جعلوا

همهم كله أن يكرهوا القوم علي نسيان خطب الحسين و اصطناع الولاء المغتصب ليزيد. فحملوا الي دمشق و فدا من أشراف [ صفحه 177] المدينة لم يلبثوا أن عادوا اليها منكرين لحكم يزيد مجمعين علي خلع بيعته، و راحوا يقولون لأهل المدينة: «انا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، و يضرب بالطنابير، و يعزف عنده القيان، و يلعب بالكلاب، و يمسر عنده الحزاب».و قال رئيسهم عبدالله بن حنظلة الانصاري و هو تقة عند القوم لصلاحه و زهده: «لو لم أجد الا بني هؤلاء - و كان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم. و قد أعطاني و ما قبلت عطاءه الا لأتقوي به».و التهبت نار الثورة بالألم المكظوم و الدعوة الموصولة فأخرج المدنيون والي يزيد و جميع من بالمدينة من الأمويين و مواليهم و أعلنوا خلعهم للبيعة..و صدق ابن حنظلة النية، فكان يقدم بنيه واحدا بعد واحد حتي قتلوا جميعا، و قتل بعدهم أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد و ولاته..و بدا في ثورة المدينة أن يزيد لم يستفد كثيرا و لا قليلا من عبرة كربلاء، لأنه سلط علي أهلها رجلا لا يقل في لؤمه و غله و سوء دخلته، و ولعه بالشر و التعذيب، و عبثه بالتقتيل و التمثيل، عن عبيدالله بن زياد، و هو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، زياد، و هو مسلم بن عقبه المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، و أن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام ان لم يبادروا الي طاعته، و كان شرطه [ صفحه 178] الذي سامهم اياه بعد اقتحام المدينة و انقضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «انهم يبايعون أميرالمؤمنين

علي انهم خول له يحكم في دمائهم و أموالهم ما شاء».و اذا كان شي ء أثقل علي النفوس من هذا الشرط، و أقبح في الظلم من استباحة الأرواح و الأعراض في جوار قبر النبي عليه السلام.. فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور علي الغل و الضغينة مثل مسلم بن عقبة، كأنه يلقي علي الناس وزر مرض النفس و مرض الجسد و مرض الدم الذي أبلاه، و لم يبل ما في طويته من رجس و مكيدة. «فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتي ساخت الاقدام في الدم و قتل أبناء المهاجرين و الانصار».و أوقع ابن كثير «من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد و لا يوصف».. و لم يكفه أن يسفك الدماء و يهتك الاعراض حتي يلتذ باثارة الآمال و المخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم علي السيف، فلما جاءوه بمعقل بن سنان صاحب رسول الله هش له و تلقاه بما يطمعه، ثم سأله «أعطشت يا معقل؟.. حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أميرالمومنين».. فلما شربها قال له: «أما و الله لا تبولها من مثانتك أبدا.. و أمر بضرب عنقه...»و يروي ابن قتيبة أن عدد من قتل من الانصار و المهاجرين و الوجوه [ صفحه 179] ألف و سبعمائة، و سائرهم من الناس عشرة آلاف سوي النساء و الصبيان...و حادث واحد من حوادث التمثيل و الاستباحة يدل علي سائر الحوادث من أمثاله.. دخل رجل من جند مسلم بن عقبة علي امرأة نفساء من نساء الأمصار و معها صبي لها. فقال: «هل من مال؟»قالت: «لا.. والله ما تركوا لنا شيئا».قال: «و الله لتخرجن الي شيئا أو لاقتلنك و صبيك هذا».فقالت له:

«ويحك... انه ولد ابن أبي كبشة الانصاري صاحب رسول الله». فأخذ برجل الصبي و الثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه علي الارض.و هو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها أولئك الألوف من النسوة و الأطفال و الآباء و الأمهات..و قد مات هذا السفاح و هو في طريقه الي مكة يهم بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة.. فدفن في الطريق و تعقبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنبشوا قبره و أحرقوه.

جريرة العدل

و لم تنقض سنوات أربع علي يوم كربلاء حتي كان يزيد قد قضي نحبه، و نجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكل من مديدا الي الحسين و ذويه.. [ صفحه 180] فسلط الله علي قاتلي الحسين كفؤا لهم في النقمة و النكال يفل حديدهم بحديده و يكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه. و هو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طالب ثأر الحسين. فأهاب بأهل الكوفة أن يكفروا عن تقصيرهم في نصرته، و أن يتعاهدوا علي الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، و هو دفين مذال القبر في العراء..فلم ينج عبيدالله بن زياد، و لا عمرو بن سعد، و لا شمر بن ذي الجوشن، و لا الحصين بن نمير، و لا خولي بن يزيد، و لا أحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب و المهانة الي الموتي أو الأحياء..و بالغ في النقمة فقتل و أحرق و مزق و هدم الدور و تعقب الهاربين، و جوزي كل قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله.. فقتل عبيدالله و أحرق، و قتل شمر بن ذي الجوشن و ألقيت أشلاؤه للكلاب، و مات مئات من

رؤسائهم بهذه المثلات و ألوف من جندهم و أتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين الي حيث لا وزر لهم و لا شفاعة.. فكان بلاؤهم بالمختار عدلا لا رحمة فيه، و ما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.و لحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجزيرة الثانية في مدي سنوات معدودات.. [ صفحه 181] فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني أمية الي أيام عبدالملك ابن مروان، و كان أحرج الفريقين من سبق الي أحرج العملين. و أحرج العملين ذاك الذي دفع اليه - أو اندفع اليه - الحجاج عامل عبدالملك..فنصب المنجنيق علي جبال مكة، و رمي الكعبة بالحجارة و النيران فهدمها و عفي علي ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية. فقد كان قائده الذي خلف مسلم بن عقبة و ذهب لحصار مكة أول من نصب لها المنجنيق و تصدي لها بالهدم و الاحراق.. و مازالت الجرائر تتلاحق حتي تقوض من وطأتها ملك بني أمية، و خرج لهم السفاح الأكبر و أعوانه في دولة بني العباس.. فعموا بنقمتهم الأحياء و الموتي، و هدموا الدور، و نبشوا القبور، و ذكر المنكوبون بالرحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، و تجاوز الثأر كل مدي خطر علي بال هاشم و أمية يوم مصرع الحسين.لقد كانت ضربة كربلاء، و ضربة المدينة، و ضربة البيت الحرام، أقوي ضربات أمية ضربات أمية لتمكين سلطانهم و تثبيت بنيانهم و تغليب ملكهم علي المنكرين و المنازعين... فلم ينتصر عليهم المنكرين و المنازعون بشي ء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم و لم يذهبوا بها ضاربين حقبة، حتي ذهبوا بها مضروبين الي آخر الزمان.و تلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء.. فاذا بالدولة العريضة تذهب

في عمر رجل واحد مديد الأيام، و اذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب اذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين.. [ صفحه 183]

نهاية المطاف

من الظافر

غبن أن يفوت الانسان جزاؤه الحق علي عمله و خلقه..و أثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيجزي المحسن بالاساءة، و يجزي المسي ء بالاحسان..و قد تواضع الناس منذ كانوا علي معني للتاريخ و الأخلاق، و وجهة للشريعة والدين...و الجزاء الحق هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كل هذه المقاصد الرفيعة... فاذا بطل الجزاء الحق ففي بطلانه الاخلاق كل الاخلال بمعني التاريخ و الأخلاق، و لباب الشرائع و الأديان. و فيه حكم علي الحياة بالعبث و علي العقل الانساني بالتشويه و الخسار.و الجزاء الحق غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الانساني كرامة لنفسه و يقينا من صحته و حسن أدائه، كالنظر الصحيح نحسبه [ صفحه 184] هو غرضا للبصر يرتاح الي تحقيقه و يحزن لفواته و ان لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب، لأن النظر الصحيح سلامة محبوبة و الاخلال به داء كريه.و لا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الانساني، كاستهدافه لها و هو في مصطدم التضحية و المنافع، أو في الصراع بين الشهداء و أصحاب الطمع و الحيلة..ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولي أن الرجل قد أضاع كل شي ء و أنهزم، و هو في الحقيقة غانم ظافر.و يبدو لنا أنه قد ربح كل ش ء و انتصر و هو في الحقيقة خاسر مهزوم..و من هنا يدخل التاريخ ألزم مداخله و أبينها عن قيمة البحث فيه، لأنه المدخل الذي يفضي الي الجزاء الحق و النتيجة الحقة، و ينتهي بكل عامل أفلح أو أخفق في

ظاهر الأمر الي نهاية مطافه و غاية مسماه في الأمد الطويل.و قد ظفر التاريخ في الصراع بين الحسين بن علي و يزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تتاح لتمحيص الجزاء الحق في أعمال الشهداء و أصحاب الطمع و الحيلة، فقلما تتاح في أخبار الأمم شرقا أو غربا عبرة [ صفحه 185] كهذه العبرة بوضوح معالمها أو أشواطها، و في تقابل النصر و الهزيمة فيها بين الطوالع و الخواتم، علي اختلاف معراض النصر و الهزيمة..فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب النصر المؤزر الذي لا يشوبه خذلان..و حسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به الي مزيد...ثم تنقلب الآية أيما انقلاب...و يقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفة الرجحان و كفة الخسران...و هذا الذي قصدنا الي تبيينه و جلائه بتسطير هذه الفصول.و ما من عبرة أولي من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ و دارس الحياة و طالب المعني البعيد في أطوار هذا الوجود.و لسنا نقول ان الصراع بين الحسين و يزيد مثل جامع لكل ألوان الصراع بين الشهادة و المنفعة أو بين الايمان و المآرب الأرضية، فان لهذا الصراع لألوانا تتعدد و لا تتكرر علي هذا المثال، و ان له لعناصر لم تجتمع [ صفحه 186] كلها في طرفي الخصومة بين الرجلين، و أشواطا لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النهايةو لسنا نقول أن الصراع بين الحسين و يزيد مثل جامع لكل ألوان الصراع و تفردها بارزة ماثلة للتأمل و التعقيب، و هي ان مسألة الحسين و يزيد قد كانت صراعا بين خلقين خالدين، و قد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقابا

غابرات و لا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، و قد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، و ليست جولة أخري منهن بأحق منها بالتعليق و التصديق...و وجهتنا من هذه العبرة أن يعطي كل خلق من أخلاق العاملين حقه بمعيار لا غبن فيه..فاذا سعي أحد بالحيلة فخدع الناس و بلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه و كفي، و لا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة و العطف الخالص و الثناء الرفيع..و اذا خسر أحد حياته في سبيل ايمانه فلتكن تلك خسارته و كفي، و لا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة و العطف و الثناء.فلو جاز هذا لكان العطف الانساني أزيف ما عرفناه في هذه الدنيا من الزيوف، لأن خديعة واحدة تشتريه و تستبقيه. و ما من زيف في [ صفحه 187] العروض الأخري الا و هو ينطلي يوما و ينكشف بقية الأيام...و اذا كان احتيال الانسان لنفسه معطيه كل ما تهبه الدنيا من غنم النفع و المحبة و الثناء، فقد ربح المحتالون و خسر نوع الانسان.و اذا كانت خسارة المرء في سبيل ايمانه تجمع عليه كل خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس و يغفل عن نفسه في طلابه.فكفي الواصل ما وصل اليه...و كثير عليه أن يطمع عند الخلف و السلف فيما ادخرته الانسانية من الثناء و العطف لمن يكرمونها بفضيلة الشهادة و التضحية، و يخسرون.و هذا الفصيل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحسين و يزيد...فاذا قيل ان معاوية قد عمل و قد أفلح بالحيلة و الدهاء، فيزيد لم يعمل و لم يفلح بحيلة و لا دهاء... و لكنه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي و السيوف، فجال بها

جولة رابحة في كفاح الضمائر و القلوبفينبغي ألا يربح بهذه الوسيلة، فأما و قد ربح... فينبغي أن يقف الربح عند ذاك، و ينبغي للغدر الكاذب و الثناء المأجور ألا يحسبا علي الناس بحساب العذر الصادق و الثناء الجميلو قد تزلف الي يزيد من يتزلفون الي أصحاب المال و السلطان ثم [ صفحه 188] أخذوا أجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الأجور و أن يكون ما قبضوه من أجر غاية ما استحقوه، ان كانوا مستحقيه.أما أن يضاف ثناء الخلود الي صفقة أولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود اذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة علي صفقة كل مأجور...ان صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شي ء غير العطاء المبذول، و لكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال و أقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء.و ليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مدعي و لا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة، تقيمه بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد و المدح المعقول، أو تخوله مكان الترجيح في الموازنة بينه و بين الحسين...كل أخطائه ثابتة عليه - و منها بل كلها - خطؤه في حق نفسه و دولته و رعاياه. و ليس له فضل واحد ثابت و لا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه و عائبوه.فقد كانت له ندحة عن قتل الحسين، و كان يخدم نفسه و دولته لو أنه استبقاه حيث يتقيه و يرعاه...و كانت له ندحة عن ضرب الكعبة و استباحة المدينة و تسليط أمثال مسلم بن عقبة و عبيدالله بن زياد علي خلائق الله.و كانت له ندحة عن السمعة التي لصقت به و لم تلصق به افتراء و لا [

صفحه 189] ادعاء كما يزعم صنائعه و مأجوروه، لأن و اصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه...و من كان حقه في النعمة التي نعم بها مغتصبا ينتزعه عنوة، لا يكن حقه في الفضل و الكرامة جزافا لا حسيب عليه.و تسديد العطف الانساني هنا فرض من أقدس الفروض علي الناظرين في سير الغابرين، لأن العطف الانساني هو كل ما يملك التاريخ من جزاء، و هو الثروة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود...و اننا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، و ننظر اليهم كأنهم مصيبون في السياسة بصراء بمواقع التدبير.فعلي هذه الصفة - لو تمت لهم - لا يحق لخادم زمانه أن ينازع الشهداء في ذخيرة العطف الخالد، و هم خدام العقائد التي تتخطي حياة الأجيال كما تتخطي حياة الأفراد...فان حرمان الشهداء حقهم في عطف الأسلاف خطأ في الشعور، و خطأ كذلك في التفكير...و الناس خاسرون اذا بطل عطفهم علي الشهداء، و ليس قصاري أمرهم أنهم قساة أو جاحدون... لأن الشهادة فضيلة تروح و تأتي و تكثر [ صفحه 190] حينا و تندر في غير ذلك من الأحيان. أما حب المنفعة فان سميته فضيلة فهو من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة و عجماء.علي أن الطبائع الآدمية قد أشربت حب الشهداء و العطف عليهم و تقديس ذكر هم بغير تلقين و لا نصيحة، و انما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها. و أكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة و الهوي القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن علي كل خلق سوي و سجية سمحة محببة الي الناس عامة، أو من الافراط في حب الدعة حتي يجفل المرء

من الشهادات استهوالا لتكاليفها و استعظاما للقدوة بها، فيتهم الشهداء بالهوج و يتعقب أعمالهم بالنقد لكيلا يتهم نفسه بالجبن و الضعة و يستحق المذمة و اللوم في رأي ضميره. و ان لم يتهمهم بالهوج و لم يتعقبهم بالنقد، وقف من فضائلهم موقف ازورار و فتور... و جنح الي معذرة الآخرين و التفاهم بينه و بين من لا يستشهدون، ثم يعارضون الشهداء فيما يطمحون اليه.و معظم المؤرخين الذين يعارضون الشهداء و دعاتهم لغير منفعة أو نكسة هم من أصحاب الدعة المفرطة و أنصار السلامة الناجية، و يغلب علي هذه الخلة أن تسلبهم ملكة التأريخ الصحيح لأنها تعرضهم للخطأ في الحكم و التفكير، كما تعرضهم للخطأ في العطف و الشعور. [ صفحه 191] و من المعقبين علي تاريخ هذه الفترة عندنا - في العربية -مؤرخ يتخذ منه المثل لكل من العذر و العطف حين يصل الأمر الي الاستشهاد كراهة للظلم و درءا للمنكرات، و هو الأستاذ محمد الخضري صاحب تاريخ الأمم الاسلامية رحمه الله...ففي تعقيبه علي ثورة االمدينة قدمنا الاشارة اليها يقول: ان الانسان ليعجب من هذا التهور الغريب و المظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في امكانه أن يجرد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه. و لا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟... أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الاسلامية، لهم خليفة منهم يلي أمرهم أم حمل بقية الأمة علي الدخول في أمرهم؟ و كيف يكون هذا و هم منقطعون عن بقية الأمصار و لم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الاسلامية؟... انهم فتقوا فتقا و ارتكبوا جرما فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك

حرمة المدينة، و كان اللازم علي يزيد و أمير الجيش أن لا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة... فانه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار...».و يخيل اليك و أنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلها أن لديه أعذارا ليزيد و ليس لديه عذر لأهل المدينة. لأنه يفهم كيف يغضب المرء [ صفحه 192] لما في حوزته، و لا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم و غيرة العقيدة عن الاحتمال...و شعوره هذا يحول بينه و بين الحكم الصحيح علي حوادث التاريخ، لأنه يحول بينه و بين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، و استبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.فلم يحدث قط في مواجهة الظلم و انتزاع الدول المكروهة أن شعر الناس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا أو فكروا في الأمر كما أرادهم أن يفكروا...و مستحيل حدوث هذا أشد الاستحالة، و ليس قصاراه أنه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ...فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر - و لا يمكن أن تنتظر - حتي تربي قوتها و عدتها علي ما في أيدي الدولة التي. تكرهها من قوة وعدة...و لكنها حركة أو دعوة تبدأ بفرد و احد يجتري ء علي ما يهابه الآخرون، ثم يلحق به ثان و ثالث و رابع ماشاء له الاقناع و ضيق الذرع بالأمور، ثم ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب و ينكشف الظلم عمن كان في غفلة عنه، ثم يشتد الحرج بالظالم فيدفعه الحرج الي التخبط علي غير هدي، و يخرج من تخبط غليظ أحمق الي تخبط أغلظ منه و أحمق... فلاهم [ صفحه 193] يقفون في امتعاضهم و تذمرهم و لا هو يقف في بطشه و جبروته، حتي يغلو به

البطش و الجبروت فيكون فيه وهنه و القضاء عليه.علي هذا النحو يعرف المؤرخ الذي يعالج النفوس الآدمية ما هو من طبعها و ما هو خليق ان ينتظر منها، فلا يعالجها حق العلاج علي أنها مسألة جمع و طرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق و ذالك الفريق.و علي هذا النحو تكون حركة الحسين قد سلكت طريقها الذي لابد لها أن تسلكه، و ما كان لها قط من مسلك سواه.وصل الأمر في عهد يزيد الي حد لا يعالج بغير الاستشهاد و ما نحا منحاه...و هذا هو الاستشهاد و منحاه. و هو - بالبداهة التي لا تحتاج الي مقابلة طويلة - منحي غير منحي الحساب و الجمع و الطرح في دفاتر التجار.و مع هذا يدع المؤرخ طريق الشهادة تمضي الي نهاية مطافها ثم يتناول دفتر التجار كما يشاء... فانه لواجد في نهاية المطاف أن دفتر التجار لن يكتب الربح آخرا الا في صفحة الشهداء.فالدعاة المستشهدون يخسرون حياتهم و حياة ذويهم، و لكنهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة فتظفر في نهاية مطافها بكل شي ء حتي المظاهر العرضية و المنافع الأرضية...و أصحاب المظاهر العرضية و المنافع الأرضية يكسبون في أول [ صفحه 194] الشوط ثم ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتي يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، و توزن حظوظهم بكل ميزان، فاذا هم بكل ميزان خاسرون...و هكذا أخفق الحسين و نجح يزيد...و لكن يزيد ذهب الي سبيله و عوقب أنصاره في الحياة و الحطام و السمعة بعده بشهور، ثم تقوضت دولته و دولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز الستين... و انهزم الحسين في كربلاء و أصيب هو و ذووه من بعده و لكنه ترك الدعوة التي

قام بها ملك العباسيين و الفاطميين و تعلل بها أناس من الأيوبيين و العثمانيين، و استظل بها الملوك و الأمراء بين العرب و الفرس و الهنود، و مثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار...و باء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الانسان غير مستثني منهم عربي و لا أعجمي و لا قديم و لا حديث.

ابوالشهداء

فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة و قدرة و ذكرة... و حسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبوالشهداء في مئات السنين... [ صفحه 195] و أيسر شي ء علي الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب الملك ليغمروا به شهادة الحسين و ذويه...فهؤلاء واهمون ضالون مغرقون في الوهم و الضلال...لأن طلب الملك لا يمنع الشهادة، و قد يطلب الرجل الملك شهيدا قديسا و يطلبه و هو مجرم بري ء من القداسة...و انما هو طلب و طلب، و انما هي غاية و غاية، و انما المعول في هذا الأمر علي الطلب لا علي المطلوب.فمن طلب الملك بكل ثمن، و توسل له بكل وسيلة، و سوي فيه بين الغصب و الحق و بين الخداع و الصدق و بين مصلحة الرعية و مفسدتها، ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة.و من طلب الملك و أباه بالثمن المعيب، و طلب الملك حقا و لم يطلبه لأنه شهوة و كفي، و طلب الملك و هو يعلم أنه سيموت دونه لا محالة، و طلب الملك و هو يعتز بنصر الايمان و لا يعتز بنصر الجند و السلاح، و طلب الملك دفعا للمظلمة و جلبا للمصلحة كما و ضحت له بنور ايمانه و تقواه، فليس

ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، و لكنه الشهيد الذي يلبي داعي المروءة و الأريحية و يطيع وحي الايمان و العقيدة و يضرب للناس مثلا يتجاوز حياة الفرد الواحد و حياة الأجيال الكثيرة...من ثم يقيم الآية علي حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع ببن الخلقين أو بين المزاجين و التاريخين... [ صفحه 196] و هي ان الشهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم و الأسبوع و العام...و لكنها أقوي الخصوم الغابلين في الجيل و الأجيال و مدي الأيام.و هي حقيقة تؤيدها كل نتيجة نظرت اليها بعين الأرض أو بعين السماء علي أن تنظر اليها في نهاية المطاف.و نهاية المطاف هي التي يدخلها «نوع الانسان» في حسابه و يوشج عليها و شائج عطفه و اعجابه. لأنه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، و لا ينظر الي عمر واحد بين مهد و لحد، و لكنه يعمل للدوام و ينظر الي الخلود... [ صفحه 197]

عاشق الجمال

اذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع اليه خيال الشعراء و تتغني به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد و أصبحت صورة من الصور المثلي في عالم الجمال...و من آيات الجمال انه يتحدي المنفعة و يؤثر البطولة علي السلامة...فاذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الأمور بغير ميزان الحساب و الصفقات... فتعرض عن النعمة و هي بين يديها و تقبل علي الألم و هي ناظرة اليه، و تلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنة، فتنقاد له و لا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل... لأن المشغوف بالجمال ينشده و لا يبالي ما يلقاه في سبيله...و قد تمثلت سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين و ذويه تعظيما لهم و ثناء عليهم...

فلم يتجهوا اليهم ممدو حين و انما اتجهوا [ صفحه 198] اليهم صورا مثلي يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، و يستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام و ايلام.و في معني كهذا المعني يقول الكميت شاعر أهل البيت:طربت و ما شوقا الي البيض أطرب و لا لعبا مني، و ذو الشيب يلعب و لم يلهني دار و لا رسم منزل و لم يتطربني بنان مخضب و لا أنا ممن يزجر الطير همه أصاح غراب أم تعرض ثعلب و لا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم أمر اعضب [3] .و لكن الي أهل الفضائل و النهي و خير بني حواء، و الخير يطلب الي النفر البيض الذين بحبهم الي الله فيما نالني أتقرب [ صفحه 199] بني هاشم، رهط النبي، فانني بهم و لهم أرضي مرارا و أغضب خفضت لهم مني جناحي مودة الي كنف عطفاه أهل و مرحب يشيرون بالأيدي الي و قولهم ألا خاب هذا، و المشيرون أخيب فطائفة قد كفرتني بحبكم و طائفة قالوا: مسيي ء و مذنب فما ساءني تكفير هاتيك منهم و لا عيب هاتيك التي هي أعيب يعيبونني من خبههم و ضلالهم علي حبكم، بل يخسرون و أعجب و قالوا: ترابي [4] هواه و رأيه بذلك أدعي فيهم و ألقب علي ذالك اجرياي، فيكم ضريبتي و لو جمعوا طرا علي و أجلبوا [ صفحه 200] و أحمل أحقاد الأقارب فيكم و ينصب لي في الأبعدين فأنصب و قد مر بنا حديث زين العابدين رضي الله عنه، و هو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيدالله بن زياد لأنه استكبر «أن تكون به جرأة علي جوابه».فهذا الغلام العليل قد عاش حتي انعقد له ملك القلوب حيث انعقد ملك الأجسام لهاشم بن

عبدالملك سيد ابن زياد و آله...و ذهب هشام بين جنده و حشمه يحج البيت و يترضي الناس، فلم يخلص الي الحجر الأسود لتزاحم الحجيج عليه. و انه لجالس علي كرسيه ينتظر انفضاض الناس اذا بزين العابدين يقبل الي الحجر الأسود في وقاره و هيبته، فيتنحي له الحجيج و يحفوا به و هو يستلم الحجر مطمئنا غير معجل... ثم يعود من حيث أتي و الناس مشيعوه بالتجلة و الدعاء.و تهول رجلا من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل:«من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة!»و يخشي هشام أن يطلع جنده علي مكانة رجل لم يتطاول الي مثل مكانته بسلطانه و عتاده فيقول: «لا أعرفه»... و يقتضب الجواب.و هذا الذي تصدي له شاعر آخر قد غامر بحياته و نواله ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل علي لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين...و ذلك هو الفرزدق حيث قال: [ صفحه 201] هذا الذي تعرف البطحاء و طأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختمواو ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت، و العجم اذا رأته قريش قال قائلها: الي مكارم هذا ينتهي الكرم من معشر حبهم دين، و بعضهم كفر، و قربهم منجي و معتصم و تصدي عبيدالله بن كثير لأمير مكة - خالد بن عبيدالله - فلعنه و هو قادر علي قتله لأنه يلعن عليا و حسينا في خطبه، و أنشد:لعن الله من يسب عليا و حسينا من سوقة و امام [ صفحه 202] أيسب المطهرون جدودا و الكرم الآباء و الأعمام يأمن الطير و الحمام ولايا من آل الرسول

عند المقام طبت بيتا و طاب أهلك أهلا أهل بيت النبي و الاسلام رحمة الله و السلام عليه كلما قام قائم بسلام و تنقضي السنون و تتسامح العربية بشاعر فحل لم يسلم من لسانه أحد، و لم ينزه أحدا من المجزلين أو المقترين عليه عن استحقاق الهجاء...فكان ينشد الأبيات المقذعة، و يسأل عن صاحبها فيقول: «لم يستحقها أحد بعينه بعد، و لسوف يستحقها كثيرون».هذا الشاعر العجيب هو دعبل الخزاعي الذي يهز أوتار النفوس بأمثال هذه الأبيات في آل البيت:مدارس آيات خلت من تلاوة و منزل وحي مقفر العرصات!... [ صفحه 203] لآل رسول الله بالخيف من مني و بالركن و التعريف و الحجرات ديار علي، و الحسين و جعفر و حمزة، و السجاد ذي الثفنات [5] .ديار عفاها كل جون مبادر و لم تعف للأيام و السنوات الي أن يقول:ملامك في أهل النبي فانهم أحباي ما عاشوا و أهل ثقاتي فيا رب زدني من يقيني بصيرة و زد حبهم يا رب في حسناتي أحب قصي الرحم من أجل حبهم و أهجر فيبم أسرتي و بناتي لقد حفت الأيام حولي بشرها و اني لأرجو الأمن بعد وفاتي [ صفحه 204] ألم تر أني من ثلاثين حجة أروح و أغدو دائم الحسرات أري فيئهم في غيرهم متقسما و أيديهم من فيئهم صفرات فآل رسول الله نحف جسومهم و آل زياد حفل القصرات [6] .بنات زياد في القصور مصونة و آل رسول الله في الفلوات!...اذا و تروا مدوا الي أهل وترهم أكفا عن الأوتار منقبضات!...و وهب علي بن موسي الرضا للشاعر جائزة من دراهمه المضروبة باسمه و خلع عليه من ثيابه، فبذل له أهل الشام «قم» ثلاثين ألف درهم ليبيعهم الخلعة فضن بها. ثم ترصدوا له في الطريق

ليأخذوها منه عنوة تبركا و ذكري. فسمح بالمال و لم يسمح بالخلعة... و استرضوه فلم يرض الا أن يعطوه كما من أكمامها ليدفن معه في كفنه، و تقسموا الخلعة بينهم [ صفحه 205] فخورين بها غير مبالين ما بذلوه في ثمنها.و انقضت فترة لم تطل... و تسامعت العربية بشاعر آخر أفحل من دعبل و أقدر منه علي التصرف بالهجاء و المديح.ذلك هو أبوالعباس علي بن الرومي الذي نسي ممدوحيه من آل طاهر و بني العباس ليذكر حق حفيده الحسين يحيي بن عمر الشهيد. و لو كلفه ذكره القتل و الحرمان.و في بعض ما ساقه من النذر لأمراء زمانه مهلكة له قلما يفلت منها قائل بحياته، و ذاك حيث يقول من قصيدته الجيمية:غررتم لئن صدقتم أن حالة تدوم لكم، و الدهر لونان، أخرج لعل لهم في منطوي الغيب ثائرا سيسمو لكم و الصبح في الليل مولج بمجر تضيق الأرض من زفراته له زجل ينفي الوحوش و هزمج [7] .يود الذي لاقوه أن سلاحه هناك خلخال عليه و دملج [ صفحه 206] فيدرك ثار الله أنصار دينه و لله أوس آخرون و خزرج و يقضي امام الحق فيكم قضاءه مبينا، و ما كل الحوامل تخدج و كل أولئك شاعر ينسي التقوي في مواطن شتي من عمله و قوله و لا ينساها في حق الشهداء من آل الحسين و صحبه... لأنه يحس الجمال احساس الشعراء و يهتز «للصورة المثلي» اهتزاز الأريحية التي يحلم بها رواد الخيال. فهم هنا بمربأة من قيود العيش و وساوس الحاجة و أعباء النوازع الأرضية، يستوحون سليقة القول فيما ينبغي أن يقال... فيجري علي لسانهم كأنهم مسوقون اليه...بل كان أولئك شاعر لا يسخو بالمدح و هو موصول بالعطاء الجزيل،

ثم هو يسخو به للشهداء و آلهم علي غير أمل في نوال، و علي خوف شديد من الحرمان و الوبال...و شاعر آخر لم يكن يهجو من الناس هذا أو ذاك، و لكنه كان سيي ء الظن بالناس أجمعين... و كان يقول ما بدا له في الدنيا و الدين، و لكنه يجامل مع المجاملين فلا يقصر عن شأوهم في السابقين أو اللاحقين.ذلك هو أبوالعلاء المعري حيث قال في الفجر و الشفق: [ صفحه 207] و علي ألدهر من دماء الشهيد بن علي و نجله شاهدان فهما في أواخر الليل فجران و في أولياته شفقان ثبتا في قميصه ليجي ء الحشر مستعديا الي الرحمن و ان وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكما من لسان التاريخ اذا اختلف الحكمان...و لكنهما قد توافيا معا علي مقال واحد... فجلوا لنا من سيرة الحسين رضي الله عنه صورة الجمال في عالم المثال، و كذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.

پاورقي

[1] معج الفرس: أسرع سيره في سهولة.

[2] ذكر النعام.

[3] السانح: الطير الذي يمن من السيار الي اليمين و عكسه البارج، و الاعضب: المكسور.

[4] من كني علي بن أبي طالب «أبوتراب» و ترابي نسبة اليه.

[5] كان علي بن الحسين يلقب بذي الثفنات لأن جبهته أصبحت كثفنة البعير - أي ركبته - من كثرة السجود.

[6] القصرة الرقبة، و حفل القصرات أي غلاظ الرقاب من السمن.

[7] الهزمجة اختلاط الصوت، و المجر الجيش الكبير.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.