الامام الحسين علیه السلام

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: علايلي، عبدالله، 1914-1997م.

لقب واسم المنشئ: الامام الحسين .../ عبدالله علايلي.

مواصفات النشر: بيروت : دارمكتبة التربية ، 1986م. =1365.

مواصفات المظهر: 558ص.

ملحوظة: العربية.

ملحوظة: چاپ: 1972م.=1351.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- السيرة الذاتية

تصنيف الكونجرس: BP41/4/ع8الف8 1365

تصنيف ديوي: 297/953

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-7098

ص: 1

سمو المعني في سمو الذات او اشعة من حياة الحسين

مقدمة الطبعة الثانية

لم يكن عندي شك في أن هذه الآراء التي علقت بها علي حكومة الخلفاء، ستلاقي استنكارا من قوم و معتبة من قوم آخرين بيداني كنت مع ذلك مطمئنا الي أنها سوف لا تعدم طائفة تركن اليها و تسيغها و ترتاح الي ما فيها من الشرح و التفسير.و كان الذي حرضي علي أن أخرج للناس ما انتهيت اليه رغم شعوري بأنه لون ناب في دراسة التاريخ عند فئة أو فئات أن المرحلة الاولي من مراحل التاريخ الاسلامي يجثم عليها الغموض من أقطارها فتثير لدينا فضولا أو تساؤلا في معني الفضول، و ان من حق هذه المرحلة أن تحقق كثيرا و تدرس كثيرا، لأن نسبتها من التاريخ الاسلامي العام كالنواة؛ و بذلك لا نطمع أبدا أن نفهم روح الاتجاهات المختلفة التي دفعت المجتمع الاسلامي و سيرته و هو كتلة ضخمة في عصور و أجيال، الا اذا توفرنا جيدا علي درس هذه المرحلة، و حللنا حوادثها و شخصنا عوامل الاضطراب فيها.و لقد حقت كلمة فكرة الامام عبد الكريم الشهرستاني التي ضمنها كتاب (الملل و النحل): من أن كل التبلبلات التي مرت بالتاريخ الاسلامي سواء في العقيدة أو السياسة، يمكننا أن نجد لها مرتجعا و مردا في حوادث صدر التاريخ.و هذه فكرة لا ريب في أنها نيرة للغاية و موفقة للغاية، و من ثم يظهر مقدار

ص: 2

قصور الدراسة التي بين أيدينا، لأنها لم تحقق هذه الصلة المذكورة، فهي تقوم علي أساس غير صالح و تجعل سببا ما ليس بسبب صحيح.فيجب علينا اذن، أن نعني كثيرا و نبحث كثيرا في صدد تاريخ الخلفاء، و ان ندرس كل الاحتمالات التي تقوم علي وجه قريب حتي يتسق لنا ادراك الاوضاع المناسبة لفرض تسلسل التاريخ الاسلامي العام. و هذا ما نهدنا اليه في كتابنا عن الحسين، و الذي اوردنا منه في الحلقة الاولي بعض نظريات مرسلة لم نعن بتحليلها الا علي وجه سريع: (و كيفما كان فنحن لم نقصد الا بسط رأي جديد بين يدي موضوع لم يتوضح بعد، و ما أحري أن تثار من حوله طائفة من الابحاث ان لم تكشف عنه فلا أقل من أن تميط من غموضه، كما جاء في كتابنا «مقدمة لدرس لغة العرب».وها هنا بحث مهم يجب أن ننبه عليه، و هو أن التاريخ ليس (1) علما فيجب أن يصطنع فيه الاسلوب اليقيني الذي نعهده في بحث الطبيعة و الكيمياء، و ما اليهما مما يجي ء عادة في جريدة العلوم التي وضعها (اوغست كنت)، و انما ينظم في نسق الآداب التي هي نتاج القوة النظرية و البحث الاستنتاجي، لما يدخله من صور الجماعات، و الانفعالات و المؤثرات النفسية و الاقتصادية. نعم يقوم اليوم نفر من المؤرخين لجره الي الحقل العلمي، غير انهم مع ذلك يتمهلون ريثما تثبت مسائل العلوم التي هي كالمقدمات بالنسبة له كالاجتماع و النفس و علوم الحياة. فما لم يكشف عن السنن والقواعد التي تحقق علاقة الفرد بالمجموع الذي يتبعه و علاقة ذلك المجموع بالكل الاجتماعي، و يفصحوا عن حقائق التطور الاجتماعي و ضوابطه، و الانفعالات و بواعثها، و المشاعر و تشعب مناحيها، فلن يصبح التاريخ علما. و علي هذا يقول (جوته): ان التاريخ يجب أن يعاد تدوينه و النظر فيه من حين الي آخر، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت علي مر الايام، بل لان أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، و لأن المعاصرين الذين هم ذوو

ص: 3


1- 1. راجع هذا البحث بتفصيل في كتاب معضلات المدنية الحديثة للاستاذ مظهر ص 82 الي 133.

ضلع كبير في تقدم عصورهم و ارتقائها يساقون دائما الي غايات ينتهون بها الي حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها علي تدبر الماضي و الحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل)و مثل التاريخ من الوجهة التحليلية، مثل التحقيق القضائي في دعوي غامضة مر عليها الزمن و دخلت في حيز الماضي، فلن تكون نتائجه الا استنتاجية خالصة.و أنا و ان كنت اميل الي الاخذ بالتاريخ مأخذ الوضع العلمي، فلم أزل أعتقد بأن التاريخ رغم ما سيبذل فيه من الجهود لن تكون له الصفة العلمية الا في الاسلوب و طرائق البحث، و أما من حيث الموضوع فسيظل فرعا من الآداب. و بهذه المناسبة أذكر بأن بعض (1) الكبار من علماء التاريخ في العصر الحديث قدم بحثا ضافيا الي المؤتمر التاريخي الذي انعقد في بروكسل، يدور علي الشك في وجود سقراط الحكيم اليوناني الذي اكتسب من كثرة ما ندرسه وجودا محققا كأنه يشاركنا الحياة أو يعاطينا أسباب الوجود.و لست اريد أن أبلغ بما ذكرت الي استباحة هذه النزعة الخطرة في عرض التاريخ و اعتبارها في تشخيص الحوادث و الاسباب، و انما أريد أن أبين مدي انفصال و بعد التاريخ عن السنة العلمية و الطريقة الوضعية. و علي أي الاعتبارات في مجال هذا البحث الذي يأخذ العلماء به في تصنيف التاريخ فانه يحتفظ بحقيقة جوهرية، و هي أنه ليس في مكنة أحد أن يقطع بأن التاريخ علم.و لقد شاء بعض الباحثين أن يأخذ علي هذا الكتاب بعضا من نتائجه، و كنت أود أن يدقق الموضوع قبل أن يرسل دراسة عليه، و ان كان في تدقيق الموضوع ما يوصله الي مجانبة كل ما هو معروف و كل ما هو محجب، فان النزعة العلمية تفرض علينا أن نفتش عن الحقيقة وحدها دون التعلق بالملابسات. و أهم الموضوعات التي أثبت فيها مناقشته هي:

ص: 4


1- 2. راجع كتاب من بعيد الدكتور طه حسين ففيه حكاية ما دار في هذا المؤتمر اذ كان مندوبا عن مصر.

(1)استنكار النتيجة التي قررناها من أنه لا وجود للسلطة القضائية بالمعني الحديث في حكم بني أمية. رغم أن كل صفحة من تاريخ الامويين تنطق بالسياسة الدموية النفية من السلطان القضائي. و قد أوضحت في فصل انقلاب من الحلقة الثانية، السياسة النموذجية في دوري العهد الاموي. و هي سياسة زياد في العهد الاول، و سياسة الحجاج في العهد الثاني.(2)معارضة النتيجة المتفق عليها بين دراسي التاريخ من أن معاوية اقتبس النظام البيزنطي و تلون به. و أنا لا أعلم اثنين اختلفا في صحة هذه النتيجة حتي معاوية نفسه اعتذر عن بيزنطية مظاهره الي سيدنا عمر (ض) حينما ورد الشام بأن جواره لهم يقضي عليه بمجاراتهم.و نحن اذا علمنا أن العرب دخلوا الشام صلحا و ورثوا شعب البيزنطيين و نظمهم في الادارة و طرائق حكمهم، لم يعد تأثر الامويين بنوع هذا النظام مما يحتاج الي البرهان. و عن هذا الطريق علل بعض مؤرخي الشرائع من المستشرقين تأثر الفقه الاسلامي بالفقه الروماني.(3)مناقشة رأيي في أن هناك علاقة بين الاختلاف علي البيعة يوم السقيفة و بين حركة المرتدين؛ بأن مثل هذا الاختلاف يقع في أي بلد من البلدان الجمهورية اليوم و لا يؤدي الي خروج أو تمرد. و لكنه غفل عن وجه الفارق بين النظيرين؛ فان أحدهما يقع في محيط قبلي ليست بين أطرافه أربطة اجتماعية متينة، و الآخر يقع ي جو حضاري يفقه جيدا الفكرة الشعبية و يحافظ عليها و ينزل بكل اختلاف دونها فلا تتأثر به.(4)استنكار توجيه الاتهام الي الامويين بأنهم أصحاب اليد في الانقلاب. و هنا أرسل تعميمات صحيحة قبل أن أقول كلمتي: و هي أن حكومة الخلفاء كانت اسلامية عامة أي انسانية صهرت فوارق الجنس، و من هذا يظهر أنها طلبت أن تضم الشعوب و تنتظم بني الانسان في نسق قبل أن تمر بالدور

ص: 5

القومي و القاري (1) ، فكانت حكومتهم طفرة من الدور القبلي الي الدور الشعوبي الانساني الذي هو أسمي ما تبلغه المسحة الحكومة. لذلك كان طبيعيا أن تصاب بنوع من الحذر و أن تدخل في التفاف يعود بها الي النشوء الطبيعي، فقامت الدولة الاموية لتعبر عن القومية العربية. و قد أظهرت نوعا من الكفاءة العربية في في الدولة، و كان كل ما يؤخذ عليها في قاعدة سياستها الداخلية - عدا ما ذكرنا من انتفاء السلطة القضائية - المبالغة في التعصب للقومية في حدود دين يتنادي ليجمع البشرية في حدوده.من هنا نقع علي انهم سعوا وفق برنامج خاص الي الانقلاب الاجتماعي و السياسي في أسلوب الحكم و قاعدة الدولة.(5)معارضة رأيي في الامويين و انهم الذين اغتالوا عمر (ض) أو سببوا اليه.و قد بسطت الكلام عليه في الحلقة الثانية.بقيت انتقادات تدخل في حد المآخذ اللغوية منها:(1)استبدال تعبير (ثم ان هذه الجوانب) بتعبير (ثم هذه الجوانب). رغم انه خارج مخرج قوله تعالي (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)(2)كلمة (انتشر) خطأ لغوي في المعني المسوقة عليه. و أنا أراها من أطرف التعابير و أصحها، و ذلك لأن اللازم اذا عدي بحرف من الادوات يكتسب معناه أيضا. و يفيد معني جديدا بطريق التضمين. و يحسن بدراسي العربية أن يعودو الي كتابنا (مقدمة لدرس لغة العرب) ففيه بحث نادر عن أسرار التعدية و للزوم و أصولهما.

ص: 6


1- 3. لي رأي خاص في التكتل الاجتماعي و تسلسله اذكر طرفا منه هنا و هو: أن الانسان بعد التجانس الفطري، يدخل في دور تنافر اجتماعي يكون اولا قبليا فاقطاعيا فقوميا فقاريا - نسبة الي القارة من مثل ادعاء اليابان بالجامعة الاسيوية - فانسانيا حينما تتهذب الغرائز وتر تقي الادبيات العامة.

(3)كلمة (بعثرة) التي ورد فعلها في القرآن بنفس المعني؛ فلا جناح أبدا عند اللغويين اذا ضمن المشتق معني المشتق منه.لذلك لم أجدني في حاجة الي تغيير شي ء عن موضعه و منزلته، و أنا أخرجه اليوم كما أخرجته من قبل واثقا بنتائجه مطمئنا اليها حتي يظهر خلافها. ثم لا أقول هنا الا ما قلت هناك في تصدير الحلقة الثانية:(لا تمنعني غرابة رأي أظن انه صحيح أو اعتقد صحته من ابدائه، لأن الشهرة لم تعد أبدا عنوان الحقيقة. و أيضا لا يحول بيني و بين رأي انه قليل الانصار، لأن الحق لم يعد ينال بالتصويت، فان الانتخاب من عمل الطبيعة و هي لا تغالط نفسها كما لا تعمد الي التزوير.)15 شعبان سنة 1359 العلايلي

ص: 7

الفاتحة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم أنت نجم الهدي لمعت في الديجور، فقبسا من ضياك و تركت في الأفلاك مشكاة النور، فشعلة من سناك و نثرت في الافاق نوار الزهور، ملا بسا (1) من شذاك و خلفت في السماء روحا و علي الأرض الحبور، فلمحة من بهاك عرضت في الحياة كما يعترض نجم في الآفاق، فيابهجة مرآك و مررت كسهم النور في ائتلاق و محاق، فيالهف سفاك (2) و تناهيت كنغمة السحر العباق...، فما أشجي صداك فأنت في الأرض و العلاء برعمة الطهر اللهاق، تباركت ذكراك

ص: 8


1- 4. الملاب: المائع من العطر.
2- 5. السفي: سرعة المغيب.

الحسين عليه السلام، ليس غريبا أن يكون حيث نتحدث عنه، فان في انسانيته السامية، تلتقي شعلة النبوة المقدسة بالفطرة المثالية الفذة، و تزدحم المعاني و الصور، و رموز العالم المجهول. فهو روح (1) الهي في طبيعة بشرية، و معني غيبي في حروف من أشباح الوجود. و كذلك تعطي يد الله الصناع بعض المعالم الحية سرا من أسرارها يكون لها به ما للأحجار الكريمة من خلب و بهجة و رواء. و تمسحه بميسم نورها، فتبدو درة وضية في حدود المادة الطامسة المظلمة.و هذا بعض من اعجاز الله في الخلق أو جانب من دلائل القدرة الغيبية في الناس. و هذه المعالم الحية تشتق من طينة الانسان و طبيعة الانسان، لتبلع بهم العظة و تتم فيهم حجة الله.و هؤلاء يكونون من النوع الانساني كمعني الانسانية، فيهم حقيقته و فيهم معناه السامي، و هذا هو السر في اكبار الجماعة لأولئك الرموز البشريين لأن فيهم ما توزع في الجماعة علي مثل عدسة البلور تجمع خيوط النور و تضمها في بؤرة لتعكس شكلا متجانسا من أشكال متفاوتة.فهذه الحبكة و الالفة التي تبدو مصورة في شخص العظيم، هي التي تجمع عليه الاعجاب، و تقدم فيه النفوذ و السيطرة و القوة.و سر الشخصية و ان لم يتضح في ظاهرة أو ظاهرات محدودة، و لم يتحدد كما لو وضعت عليه اليد. فلم يزل يغزو القلوب؛ و يفتحم الي النفس من مناطقها الخفية، و يسيطر علي الفضاء النفسي سيطرة الاسبات و الاخبات.و كبرياء الشخصية ترجع الي ما تبالغ به من وجودها بحيث تبدو وحدها فقط، و يتلاشي معها الوجود الشخصي للأفراد.و حياة الحسين (ع) عظة من التاريخ، و لكن تجمع التاريخ كله؛ فليس معناها في حدود ما وقعت من الزمان و المكان، بل حدودها حيث لا تتسع لها حدود.و هي بعد ذلك حديث الشخصية الكاملة من أقطارها، ففيها القدوة الصالحة و فيها المثل الأسمي للانسان الكامل، و الصراط السوي للمسلم القرآني. و ربما امتازت سيرة هذه الشخصية بشي ء آخر عن الشخصيات التاريخية، بأنها تقع في مضاعفات كبيرة تجمع شي الصور. بحيث تعطي في كل صورة شخصية فذة و انسانية رفيعة.و اذا وفق العلم بعض التوفيق الي تحليل الشخصية البسيطة التي تجي ء في وضع واحد و لون واحد. فانه لم يوفق حتي الآن لتحليل هذا النوع من الشخصية المتضاعفة أو المركبة التي تستند علي أوضاع، و تقوم في عدة صور سرية، لكل منها شكل أخاذ و نفوذ عميق الأثر بعيد الغور. و اذا لم يكن لنا أن نقف عند هذه الظاهرة، وقفة العالم الذي يجمع أسبابه في الحقيقة و يتناصر بالأسلوب التجربي. فلا أقل من أن نقف عندها وقفة الشاعر أو الأديب الذي يضع الشي ء علي أشكاله الواضحة، و يقومه علي حدوده القريبة، ليخطط رسومه و ألوانه...

ص: 9


1- 6. المعني في هذه الفقرة جاء به القرآن في قوله تعالي: «الله نور السموات و الارض» أي كل شي ء قائم بنور الله وحي به، و انما يتفاوت الناس بمقدار ظهور شعاع الله فيهم.

ص: 10

ص: 11

مقدمة

اشاره

الحق ان فهم أية شخصية تفصلك عنها مراحل شاسعة من التاريخ السحيق يبدو صعبا جدا، و بالأخص اذا كان درسا يتناولها كأنها حي يعيش في مناسبة عادية.و هذا الدرس يبدو أكثر صعوبة عند شخص كالحسين (ع)، له ظروفه الغامضة. و قد تداركته انعكاسات شتي من تحتها التيار الصاخب الذي انتظم المحيط الاسلامي في ذلك العهد، منذ تراوحت قضية الحكم بين العصبية و الدين، ثم تطورت علي أشكال مختلفة، و ظهرت في كل يوم باهاب. بدأت كرغبة و مطمح، ثم انثنت كانتصار و انتصاف، ثم انتهت كعقيدة و دين. فلم بعد درس الحسين (ع) درسا لشخص له اشياؤه التي لا تنفصل عنه و لا ينفصل عنها، يمكن أن تحكمه و تشخصه، بل كان درسا لكل عناصر التاريخ الاسلامي التي ائتلف منها.ففيه ندرس الامامة و شروطها، و فيه ندرس أثر العصبية في جري حوادث التاريخ، و فيه ندرس أثر استخدام الدين للمطامع، و فيه ندرس أثر فقد الروح العسكرية في بناء البيوتات، و هكذا من كل ما يمت الي الدوافع السياسية و الاجتماعية و الدينية في الانقلاب الذي عاش في فترته الحسين. فلاجرم أن

ص: 12

كان بحث كهذا البحث، يتصعب و يتسع حتي يتجاوز حدود الدراسة الشخصية.و كانت دراسته تستدعي تمهلا و أناة و روية بالغة، و تستدعي شيئا آخر ليس من هذا الذي نذكر و لا اليه، و هو التجرد عن شتي النوازع و السيطرات الوجدانية و الاعتقادية. و الا فأية روية اذا كانت محكومة بنازعة أو مغلوبة بنزعة، تكون مبالة و اغراقا في تقرير الجانب الشخصي فقط. و هذا لا يفيدنا سوي احياء الاختلافات التي كانت مصبوغة بصبة اللاهوت، لتأخذ صبغة جديدة من التاريخ التحليلي النقدي.ثم هذه الجوانب التي نلمح اليها ليس من السهل استيعابها علي وجه الدقة، الا اذا انتشرنا علي مسائل جوهرية تمت الي أساس البيئة العربية، و التقاليد التي تحكمها، و شخصنا تماما أثر النبوة في العصبية، و تربص العصبية للنبوة علي هيئة المستوفز، و درسنا الحالة النفسية قبل القرآن و مقدار تكييف القرآن لها، ثم درسنا أثر الفتوح المبكرة التي أثارها الخليفة الأول (ص) في الوضع الدولي و النفسية العربية، و درسنا النظام العام و عناصره التي تؤلفه، بما يشمل النظام القضائي و المالي و العسكري و درسنا الاحتكام بالتقليد البدوي و نظام العشيرة، و تجاهل الخلفاء للقضاء علي هذا النظام الذي اجتهد النبي (ص) بالقضاء عليه بصفة حاسمة.هذه الجوانب من الدراسة و ما اليها، تعتبر واجبة لمن يريد فهم الأسباب الصحيحة التي أدت الي هذا المضطرب الخطير في المحيط الاسلامي الواسع، بحيث عجزت اليد الحاكمة عن ضبطه بالمعني الصحيح، حتي اليد الأموية في أزمان سيطرتها و استقرارها. و لقد يخال الناظر أن استقرار الحكم لم يكن الا في مناطق القصور، و لم تكن هيبة السلطة الا مؤقتة. ثم وضع السلطة المطلقة في يد الأمراء، نقل وضعية الحكومة الي استبدادية محضة تحتكم بالهوي و تسخر من القانون القائم.و ينبغي أن لا يفوتنا التنبيه، علي أن نظام الحكم في عهد الملوك الأمويين لم يكن الا ما نسميه في لغة العصر بنظام الأحكام العرفية، هذا النظام الذي يهدر الدماء و يرفع التعارف علي المنطق القانوني، و يهدد كل امري ء في وجوده. و في

ص: 13

هذا العصر اذا كان يتخذ في ظروف استثنائية و لحالات خاصة، يراد بها الارهاب و اقرار الأمن، فقد كان في العهد الأموي هو النظام السائد.و في الحق انه لا يمكننا أن نسم تلك السلطة بالسلطة القضائية بل ننكر بكل القوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح، الافي فترات (1) لا تلبث حتي يكون التيار من ورائها طاغيا. و أكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوي بدون أن تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الأقل، مما يشعر باحترام السلطة للقانون.علي أن شيئا من هذا البلوغ في الحكم بدأ يظهر في العهود العباسية؛ و ما عليك لتعرف هذا، الا أن تقرأ المرسوم (2) الملكي أو المذكرة الايضاحية الصادرة لبيان الأسباب التي بررت قتل أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر.و هذه وجهة نظر خطيرة، من الجدير أن يدرس علي أساسها التاريخ الاموي برمته و أن تقدم في فهم غوامضه، و أسباب النزاع المستمر التي صبغ العهد الاموي. و ان من المهم أن نتحقق من عدم السلطة القضائية في ذلك العهد، و أن نزن الاجرآءات الحكومية جميعها بهذا الميزان الذي يعرفنا أكثر ما نحن في حاجة الي معرفته بين يدي الدراسات الأموية.و انما اجتهدنا في أن نبين هنا وضعا احتكم في كل التاريخ الاموي و صبغه بصبغة و بيلة، تتنافي مع المبادي ء الدينية، لما أنه ترك آثارا كأسوأ ما تكون، في تهذيب الانفعالات، و تكوين العواطف الوجدانية، و توجيه المشاعر. و من ثم

ص: 14


1- 7. كفترة حكم عمر بن عبدالعزيز الذي سماه بعض المؤرخين بجدارة (الخليفة الخامس من الراشدين) و الذي نعته الامام جعفر الصادق (ع) بالرجل الصالج.
2- 8. راجع معجم الادباء ج 1، ص 238 الي 253 و هي مذكرة نادرة المثال و اعلام قضائي خطير من حيث تبرير عمل السلطة و اجراءاتها بما يتضح معه مقدار احترام السلطة للقانون و مقدار نفوذه حتي علي السلطان أو الخيلفة.

ندرك تماما لماذا كانت الحالة النفسية متبلبلة علي وجه غير قليل، حتي لم يكن لها وجه ثابت، بل كانت تتلون بألوان شتي، الامر الذي يشعر بعدم احتكام العناصر النفسية بتقليد.و كذلك يبدو الدرس علي هذا الوجه متصعبا غامضا، حتي نقف من تاريخ الحسين موقف الحيرة المطلقة لشدة خفاء الجانب التعليلي في كل مراحل حياته التي كانت أشبه بالبعثرات و ما هي كذلك، و لكن انما انعكس عليها من بلبلة المحيط الذي كان كالآذي في أشد التفافه و اصطخابه، حين يتحطم الموج علي الموج لا لينتهي الي قرار، و لكن ليعود الي حركة زوبعية جبارة، فلا جرم أن تنفصل حياة الحسين منفعلة بصفة من المحيط، و مصبوغة بلون من الوسط.و أنا اذا أهملت هذا الجانب من الدرس، فلأنه في أكثر ما يكون شخصي، و لأن ما نجتهد اليه من العظة به و الاعتبار بالتسامي النفسي عنده قد يضيع أو هو ضائع علي وجه محقق. فكان من بينهما ما يخول لي أن أتجاوز هذا الدرس الآن، و هذا التناول المستوعب الذي يجي ء في أدق ما يكون، محلا للنظر و المدافعة، بل ما يستوجب هذا التناول من درس شخصيات العهد الرسولي و ما اليه من التاريخ الاسلامي، فنحن لكي نلم الماما صحيحا يجب علينا أن نتفهم أثر يوم السقيفة و أثر الخليفة الأول و الثاني و الثالث، ثم أثر علي عليه السلام علي وجه الخصوص، و أثر معاوية و مستشاره، و أثر انعزال فئة من الصحابة عن نصرة أحد الخصمين الذي بلبل الفكرة الدينية في المجالدة التي استهدف لها المحيط، و مهد في نظري الي نشوء نظرية الخوارج أو نظرية الخروج، و أيضا أثر النظام المحلي الذي انفعل به معاوية الي أبعد حد، و بذلك يكون معاوية قد انتقل طفرة واحدة الي نظام يبعد كثيرا عن النظام النبوي من كل الأطراف.فنحن لكي نفهم أحداث معاوية و تاريخه و سياسة بلاطه، يلزمنا قبل كل شي ء أن ندرس النظام البيزنطي و ما ترك في الوسط الغساني، و ما أثر به في سياسة الفاتحين و من بعدهم. هذه الدراسات كما نراها تتناول صدر التاريخي الاسلامي و أحداثه التي تركت مدة تثير علي الدوام آلاما و تنشر طفحا خبيثا سود صفحة

ص: 15

التاريخ الاسلامي الي حد نتمكن معه من القول بأنها حالت دون أزكي ثمار الاسلام، و حالت دون حكومة القرآن، و حرفت تعاليم النبي (ص) و شوهت تقاليد حكومة الخلفاء حتي عز المسلم القرآني علي الوجه الكامل.فلم يكن بد من أن أتجاوز كل هذا و لكن الي حين، أتجاوزه حتي أقدم الجانب الروحي الحي في حياة الحسين عليه السلام، هذا الجانب المفيد و الجانب الذي ننشده في مرحلة حياتنا اليوم، فنحن أحوج ما نكون الي زعيم كالحسين و مجاهد كالحسين و قدوة كالحسين، نسايره و نوازن بما نجد عنده نزوات نفوسنا و طالعات شهواتنا، فلعله يكون درسا مفيدا أو هو مفيد و لا ريب.و برغم ما أحاول من الابتعاد بالموضوع الان عن التعرض لأبحاث من هذا اللون لا يسعني الا أن أضع صورة و ان كانت مصغرة، و أثبت شكلا و ان أتي منكمشا، و أعرض مشاهد و ان جاءت عجلي، حتي نتمكن من الرجوع القهقري قرونا مما طوي التاريخ، و خلف الفلك في مداراته الواسعة، و نستجلي حقيقة الواقع أو الواقع في صورته البسيطة التي لا مداورة فيها و لا اصطناع.و الحق أنا لا نزال من فهم عصر الحسين، و الأحداث التي استطيرت و استشرت فيه علي غموض و خفاء، و ذلك لأن الأقلام التي تناولته منذ أول عهد العرب بكتابة التاريخ لم تكن بريئة علي اطلاق القول، بل دارت علي خدمة أغراض شتي بين النزعة المذهبية و الزلفي من السلطة الغالبة. و جدير أن يتكيف تاريخ الحسين من بين هذه الاقلام بكيفية تجعل له لونا مبهما، و تضفي عليه أستارا صفيقة، تتركنا في حيرة من أن لا نصدق شيئا أو نصدق كل شي ء، و لكن هاتين صفتان من السلب و الايجاب، يمكن من بعدهما أن نقتصد و نتحري في جنب أخبار التاريخ، بحيث نخرج بصفة ثالثة تقوم علي النفي و الاثبات جميعا، و علي الوضع و الرفع معا، مما قد نفضي منه الي ما نطمئن اليه حقيقة، و نشعر معه بشعور الصدق، و نجد عنده برد اليقين.

ص: 16

و لهذا جمعنا العزم علي تقديم صورة صادقة في جزء خاص عن مجتمع الحسين، بما يزدحم فيه من المشاهد و الالوان، و النزعات و الاطماع، و الرغبات و النزوات، و الخلجات و الآمال، و تمنيات الافراد و تطلع الجماعات، الي غير ذلك من صور يجي ء عرضها كما لو كانت تمر في الحياة الشاهدة، حقائق مل ء السمع و البصر، لنتمكن في النهاية من الفراغ الي عقد مقارنات شخصية و عصرية و اجتماعية، و الخروج بموازنات تجمع بين عناصر القوة و الدقة، و بذلك لا تختلف موازيننا الا بمقدار ما يجتمع في الموزون من زيادة حقيقية.و الآن في هذه الالمامة نتناول علي وجه تقريري مجرد، الاسباب الهامة التي عملت علي بلبلة الروح الاسلامي، و مهدت الي البعثرات المتلاحقة التي لم تهدأ الا باغتيالات كبيرة لأعظم الشخصيات، و أيضا لم تهدأ بالمعني المقصود من هذا اللفظ، بل بقيت تظهر في انبعاثات و انتفاضات من حين لآخر.و نحن لن نقف الا عند الحوادث البارزة التي تركت في نظرنا تأثيرات انتهت بالمصارع المتناوحة، و كانت بمثابة مقاتلة عنيفة. و قد انتهت علي اما انتهت به من بعد عن معناة الدين و روح الشريعة، و انتقلت مع هذه الغلبة من أن تكون حكومة شوروية ليس الخليفة فيها أكثر من ممثل للسلطة، الي أن يكون الخليفة أو الملك مولي الرعية و مالك الرقاب، بحيث لا يبقي للامة شخصية معنوية مستقلة زائدة عن حدود شخصيته، علي طراز من حكومات القدماء الاتوقراطية.بينما جاء القرآن بمبدأ الشوري، و أحله احلالا عمليا و رفع بالشعب الي مستوي الملك؛ و هذا المبدأ اجتهد بتطبيقه الخلفاء، و جعلوه طابع حكومتهم. و لهذا كان الصراع بين علي و معاوية ليس شخصيا فقط، بل صراع بين مبدأين في مواقف حاسمة، صراع بين الخلافة التي معناها (1) النيابة عن الامة، و هي

ص: 17


1- 9. الخلافة كلمة من كلمات الاسلام بالغة غاية اللباقة في تحديد مهمة الحكومة و مهمة الحاكم بحيث تضع حاجزا بين عدوان الهيئتين: هيئة السلطة و هيئة الشعب و تحفظ حقوق الطرفين بدون مساس، و هي مبنية علي وجهة متطورة جدا. [

تتضمن معني الرعاية و الحدب و الانتفاء من الاحتكام. و بين الملك الذي معناه (1) الغلبة و السيطرة و جمع الحريات باليد الواحدة و ضغطها الي درجة الانحاء أو الاجهاز...

حكومة الخلفاء

لم تبعد حكومة الخلفاء عما كانت عليه في زمن النبي (ص) الا بمقدار ما اتسع به الظرف، و لقد اتخذت ناموسها الاعظم في حكومة الرسول (ص) فلم ترفط باتباعه. علي أن هذا الانتهاج كان الناس مسوقين اليه بدافع من الايمان الذي لم يفقد حدته و لم تخمد سورته، و لم يفارقه أسره و سيطرته، فلم يكن بد من الأخذ في هذا السبيل و التنور بهذا الوضح الباقي.و اذا كانت حكومة الخلفاء هي حكومة القرآن، فمن الغلط الظن (2) بأنها كانت حكومة (ثيوقراطية) هذه الحكومة التي تصدق في مفهومها الاصطلاحي علي نظرية الخوارج في الحكم، و يبعد هذا الوصف شيئا فشيئا عن حكومة الخلفاء، و ان كان بينهما شبه صوري أكيد. و هذا سر المغلطة التي وقع فيها من ظن أنها من هذا النوع؛ و الظن المذكور قديجد قوته في مثل هذه الاضافات، حكم الله، مال الله، جند الله، التي كانت سائدة علي ألسن الناس في ذلك العهد. بيد أن الشواهد و النصوص، و الوقوف علي معقول الصحابة بهذا الخضوص، لا يجعل لهذه الاضافات معناها الظاهر الا علي ملابسة.

ص: 18


1- 10. و الملك لفظ يرادف تماما كلمة (الحرية المضغوطة) و كم تبدو سمجة في ذوق المدنيين حين يكون من مفاهيمها اللازمة الرق و الاستخذاء، و لذا كانت كلمة مبغضة من صاحب الشريعة صلوات الله عليه، و هذا ما يشعرنا بأن القصد الديني في الحكومة كان نبيلا الي أبعد حد و شعبيا علي اسمي غاية. و تأمل بدقة قوله (ص) (الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكا عضوضا).
2- 11. هذا الظن رآه كثير من المستشرقين و جري عليه الدكتور أحمد فريد الرفاعي في تمهيدات موضوعه (عصر المأمون) راجع ج 1 ص 4.

و من المهم أن نعرف وجهة نظر الصحابة في الحكومة الزمنية و تصوراتهم عنها، و ربما كان أوضح شاهد يعرفنا ما نتنصب لعرفانه، الاحاديث التي دارت في سقيفة بني ساعدة، و قد كان من منطق أنصار أبي بكر (ض)، أن النبي (ص) و كل اليه أمر ديننا فهلا نكل اليه أمر دنيانا.هذه الفقرة الموجزة تشرح (1) لنا امرين:(1)ان ممارسة الامور الدينية شي ء آخر غير ممارسة الامور الزمنية فلهما مفهوم كما لمانعة الخلو التي تجوز الجمع و لا تلزمه.(2)ان السلطان الزمني، يثبت بقياس الأولي لمن تجتمع فيه مؤهلات السلطان الديني.اذن فمعني هذه الاضافات شي ء آخر غير ما هو الواضح، و هي مبنية علي تصور يبعد كثيرا عما يتبادر. و المعني في هذه الاضافات عند نظري، أن الحقيقة التي لا يتفاوت الناس فيها، و التي يجتمعون عليها في استواء، هي الالوهية فتكون ظاهرة شعبية شائعة «اذا صح لنا هذا التعبير» و هي بعد أدني الظاهرات الي هذا القصد. فكان ضروريا اذا أرادوا التعبير عن الحق الذي يتوسل اليه كل شعبي بشعبيته فقط، أن يضيفوه هذه الاضافة.فجند الله معناه جند الجميع لا جند الملك، و مال الله كذلك مال الجميع لا مال الملك، الي آخر هذه الاضافات التي يتسق عليها المعني في تقرير غرض جديد، و هدم غرض سابق.هذا ايضاح تشهد له النصوص، و تناصره الاخبار، و لسنا منه الآن بسبب،

ص: 19


1- 12. لسنا نعني أن الاسلام فصل بين الامور الدينية و الزمنية من حيث التنفيذ و لكن من حيث الموضوع بيد أن الدين يعطي أحكاما في الامور الزمنية كاحوال التعاقد و ما اليه، و معناه أن ليس في الاسلام أمور زمنية بعيدة عن المعني الديني، و ليتنبه الي ان هذه مسئلة أخري غير مسئلة الدين و أصول الحكم....

و لنلتمس في حكومة الخلفاء المناحي التي نظن أنها مهدت الي عمل الاضطراب و اثارة الخواطر، و قدمت مادة الانقلاب الكبير. و سنسوقها في سرد يتخلله بعض الشرح و هي تجي ء في امور:(1)الاختلاف (1) علي البيعة يوم السقيفة، و امتناع فاطمة (ع) منها و آل هاشم عموما. كان له صدي عكسي ولد عند البعيدين شيئا من الشعور بالاستهانة، و جرأهم علي الانتقاض و الخروج و التمرد. و ربما شهد له أن ارتداد العرب كان بعد يوم السقيفة بعشرة (2) أيام.(2)أخذ آل البيت بالشدة جعل لهم أنصارا، و فئة تتربص لهم و تفترص الفرص لصالحهم.و هذه الشدة تصيب بلا ريب وترا حساسا من عامة المسلمين قاطبة، و بالأخص في حياة السيدة فاطمة (ع). و كأن ابابكر (ض) أدرك هذا ولمسه بالفعل في آخر أيامه، حتي قال في (رواية المسعودي) ثلاث فعلتها ووددت اني تركتها، وعد في جملتها تفتيش بيت فاطمة، و ذكر في ذلك كلاما طويلا (و في رواية الطبري) أظهر أسفه علي أنه لم يعطها فدكا.(3)ديمقراطية الحكومة الي حد نفي عنها صفة الحكم، و هي ظاهرة تقلل تقلل من احترام الحكم و رهبته، و تسهل الخروج عليه و التآمر ضده. فلم تكن الحكومة ديمقراطية علي وجه التحديد، بل تزايد فيها اعتبار الديمقراطية، الي درجة انتفت معها عناصر السلطة الا في الحدود المنصوص عليها في القرآن و السنة.

ص: 20


1- 13. راجع مروج الذهب المسعودي ج 2، ص 196 ، 194 و لا بأس من ايراد نتف من الخلاف؛ لما بويع أبوبكر يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء علي العامة خرج علي فقال افسدت علينا امورنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقا، فقال ابوبكر بلي و لكن خشيت الفتنة و كان المهاجرين و الانصار خطب طويلة و خرج سعد بن عبادة و لم يبايع فصار الي الشام و قال المنذر بن الحباب أما و الله ان شئتم لنعيدنها جذعة، و تخلي الاوس عن معاضدة سعد خوفا ان يفوز بها الخزرج و لم يبايع احد من بني هاشم حتي ماتت فاطمة (ض).
2- 14. راجع مروج الذهب ج 2 ص 193.

(4)التهور مع التيار الرغيد، و الاشتطاط في بلهنية العيش، و التظاهر بأسباب (1) الثراء و التزيد من الثروة. و هذا ما جعل العرب طبقة ارستقراطية بعض الشي ء، و قوي هذا المظهر كثرة الموالي في ذلك الحين.و هنا يبدو شكلان مختلفان أشد اختلاف، مظهر الحكومة الذي هو ديمقراطي مبالغ، و مظهر الشعب الذي هو استقراطي مغرق، مما ندرك معه أن التواصل كان مفقودا علي وجه تام، و التفاهم معدوما علي وجه محقق.(5)قيام دعاة وسط هذا التيار، لتحويله الي وجهة الخير، و الرجوع بالناس الي المثل الصالح الاثري الرسولي، أمثال أبي ذر و رافع بن خديج. و في نظري أنه كان لهؤلاء الدعاة أكبر الاثر في تطوير الحياة الاجتماعية و تغيير النظر الي الاشياء؛ و قد أحدثوا و لا ريب تيارات عكسية قوية في مد التيار الطاغي، كما أحدث دعاة الحكمة في عهد (روما) القديمة حين كانوا يظهرون في أيام الزينة و مباهج الناس بملابس التقشف و الزهادة ناصحين محذرين، ليكبحوا من غلواء الطغيان، و يضعوا حدا لاستشراء الفساد بين الجماعة. و الذي ساعد دعاة الاصلاح في الابلاغ و التأثير، أن الناس رغم تأثرهم جميعا بفعل الحياة الجديدة، لا يزالون يذكرون شكل الحياة في عهد الرسول (ص) و عهد صاحبيه رضي الله عنهما. و قد

ص: 21


1- 15. ذكر المسعودي في المروج ج 2، ص 222 ان الصحابة في ايام عثمان (ض) اقتنوا الدور و الضياع، منهم الزبير بن العوام بني داره بالبصرة و ابتني دورا بمصر و الكوفة و الاسكندرية، و بلغ ماله خمسين الف دينار و خلف الف فرس و الف امة و خططا. و طلحة بن عبيدالله (ض) ابتني داره بالكوفة و كانت غلته من العراق كل يوم الف دينار وشيد داره بالمدينة و بناها بالآجر و الحص و الساج. و زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال و الضياع بقيمة مائة الف دينار. و عبدالرحمن بن عوف ابتني داره و وسعها و كان علي مربطه مائة فرس و له الف بعير و عشرة الاف من الغنم و بلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله اربعة و ثمانين الفا. و مات يعلي بن امية و خلف الف دينار و ديونا علي الناس و عقارات و غير ذلك من التركة ما قيمته مائة الف دينار. قال المسعودي: و لم يكن ذلك في عصر عمر (ض) بل كانت جادة واضحة و طريقة بينة. و حج عمر فأنفق في ذهابه و مجيئه الي المدينة ستة عشر دينارا و قال لولده عبدالله لقد اسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا، الي ان قال فأين عمر ممن ذكرنا و اين هو ممن وصفنا.

كان لهذه الذكري أثرها، لأخذهم تلك الحياة بنظر جد ممتاز، و يدل لهذا أن المنتقدين كانوا اذا أرادوا البلاغ في النكاية رجعوا بالناس الي تلك الذكري، و هذا شاهد نجده في زمن عبدالله بن الزبير، عند شاعر أهاب به حتي يضع حدا لترف أخيه مصعب. قال:بلغ أميرالمؤمنين رسالة من ناصح لك لا يريد خداعابضع الفتاة بألف ألف كامل و تبيت سادات الجنود جياعالو لابي حفص أقول مقالتي و أبث ما سأبثكم لارتاعا(6)لين عثمان (ض) و لا أقول ضعفه، في مواجهة الطغيان الجديد حتي انجرف به. فلم تكن له فيه صفة الزعيم الذي يداوره و يخفف من حدته و امتداده بل وقف عنه حتي طغي عليه، فكان انتقاد المصلحين لهذا الوضع بمثابة الانتقاد له لانخراطه الشديد فيما عليه الناس.(7)أخذ حكومة الخلفاء بظاهر عمل الرسول (ص) في توزيع الاموال، و وضع بيت المال رهينة الصرف الذي كان من آثاره تكدس الاموال عند الافراد و تعويدهم الفراغ. فقد كانوا لا يستثمرون ما في أيديهم، بل يتكلون علي أنصبتهم في بيت المال.فكان انصراف (1) الحكومة عن أن تستخدم هذه الاموال الكبيرة في مشاريع عمرانية و اصلاحية و انشائية، و تكدس الأموال عند الاشخاص، و الفراغ، مدعاة للفساد في النش ء ذوي الغضارة و اللدانة. و قديما قال ابوالعتاهية:ان الشباب و الفراغ و الجده مفسدة للمري ء أي مفسده

ص: 22


1- 16. و شاهد هذا في جواب عمر (ض) الذي قال له (يا اميرالمؤمنين لو تركت في بيوت الاموال شيئا يكون عدة لحادث اذا حدث) فزجره عمر و قال له (تلك كلمة القاها الشيطان علي فيك و قاني الله شرها و هي فتنة لمن بعدي اني لا اعد للحادث الذي يحدث سوي طاعة الله و رسوله و هي عدتنا التي ما بلغنا بها) يظهر سيدنا عمر في مقالته هذه تخوفه من طغيان الحاكم بما يجد بين يديه من الاموال و يعتمد علي العقيدة وحدها في المغالبة و الظفر. و هي نظرية عميقة بيد انه بهذا يكون احتاط لطغيان الحاكم و لم يحتط لطغيان الشعب اذا تزايدت الثروة بين يديه.

و هذا بلا ريب أدي الي غمرة من الفضول (1) و التدخل في كل شي ء، و استنبات الارستقراطية، وامعان الأفراد بالتطلع و الطموح، و هو فساد مدني كبير، لا يبقي علي حكومة مهما كانت أسسها و مهما كانت درجة استقرارها.و هناك فساد آخر، نشأ من عدم (2) وجود نظام عسكري بالمعني الصحيح، الا ما تحدر اليهم من نظم العربية القديمة. و العيب أن لا نجد تطورا في الجيش رغم الفتوح الكبيرة، و الاحتكاك بأمم عسكرية شتي، الا ما كان من نظام التعبئة فقد تطور كثيرا. و قد كان واجبا أن يستفيدوا من تجربات هذه الامم العريقة و نظمهم السائدة، و قد يبالغ بالمرء العجب أن يجد نفس النظام (3) العربي القديم سائدا في فتوح افريقية و ما وراءها.

ص: 23


1- 17. يشهد لهذا ما جاء في مروج الذهب (و قد صار الناس حلقا في المسجد ليس لهم غير الاحاديث و الخوض).
2- 18. المعني في هذا نفي وجود نظام عسكري عام يؤخذ به كل فرد و ينشأ عليه كما هو الشأن في التربية العسكرية القوية الصارمة. و الا فقد كان بين هؤلاء الجنود البواسل شخصيات تنزل بين افضل رجال العسكرية في كل التاريخ من حيث فهم الواجب العسكري و التعلق بالرئيس و الاطاعة التامة. و ان من اعظمهم القائد سليط بن قيس هذا الرجل الفذ في تاريخ العسكرية الاسلامية و قد كان تحت امرة ابي عبيد (ض) في حملته علي فارس و كان من رأي ابي عبيد ان يقطع الجسر علي الفرات حتي لا يفكر المسلمون بالفرار و الهزيمة فقال له سليط ان العرب لم تلق مثل جمع فارس قط و لا كان لهم بقتالهم فاجعل لهم ملجأ و مرجعا من هزيمة ان كانت فقال و الله لا فعلت جبنت يا سليط فقال سليط و الله ما جبنت و لكن اشرت بالرأي و لولا اني أكره خلاف الطاعة لا نحزت بالناس و لكني أسمع و أطيع و ان كنت قد أخطأت و اشركني عمر معك، فقال أبوعبيد تقدم ايها الرجل فقال سليط افعل فتقدما فقتلا جميعا عليهما الرحمة. هذا موقف لا نظير له أبدا في الاطاعة و الموافقة و لومع الخطأ البين و هو مثال رائع من مثل معرفة الواجب العسكري و الجندية العالية.
3- 19. المراجع التي تفيد المؤرخ في هذه الناحية نزرة جدا و لكن من مجموعات النتف التي بين ايدينا لا يمكننا الا ان نعطي هذا الرأي فقد كانت القبلية تعمل عملها في نظام الجيش و نظام الاغارة و الهجوم و لذك كان الزعيم القبلي الخطير يستطيع الانصراف بالناس و الخلاف علي القائد العام، و هذا ما وقع لعلي (ع) من الاشعث بن قيس في موقعة صفين. و هذا الرأي واضح لكل من يدرس النصوص الواصلة حتي ان القائد العراقي طه باشا الهاشمي في كتابه الحركات العسكرية في فتوح خالد بن الوليد لم يتسن له الا ان يثبت الثابت رغم ميله الشديد الي اظهار ذللث النظام بنوع تفوق، و لذلك عرض نظام الحركات في الجاهلية بشي ء من الاعجاب.

و فائدة النظام العسكري أنه يعلم الائتمار، و يحسر النظر عن التطلع الا في حدود المهنة، و يبعد بنفس العسكري عن المناقشة للشؤون العامة، و يروضه علي التمسك بالحاكم المدني القائم. و من فضائل هذا النظام الواضحة، جبن الرجل العسكري مهما سما قدره عن وضع نفسه في مركز مدني صرف، و تحمل المسؤوليات و الاعباء العامة.فعدم وجود نظام اذا من هذا النوع، في محيط العرب، جعل الرجالات العسكريين الذين اشتهروا بالبطولة، من مثل طلحة و الزبير، يفكرون بالدعوة لأنفسهم، و الانتفاض لاحتواش السلطة.(8)عدم عناية حكومة الخلفاء ببث الدعوة و غرس التربية الدينية التي كانت لازمة لذلك المجتمع لزوم التربية الوطنية في نظام القوميات الجديد علي يد دعاة استوت عندهم العقيدة، و اختمرت بها نفوسهم و آتت أكلا هنيا، حتي يتوافر في نفوس المسلمين عامة املاء الدين فيكونون كما قال علي (ع) (عظم الخالق في أنفسم، فصغر ما دونه في أعينهم).و كذلك فعل النبي (ص) ببعث المرشدين و المعلمين و المبشرين في أنحاء الجزيرة، فلم يكن عليه الصلاة و السلام يقبل الاسلام من الأفراد علي أنه أعمال و طقوس، بل علي أنه عقيدة و مبدأ. و هذا لا يتم الا بأعمال تبشيرية واسعة، و ليس بين أيدينا ما يثبت أن حكومة الخلفاء عنيت بهذه الناحية التشيرية عناية مقصودة.(9)الاحتكام بالتقليد البدوي؛ فان مسحة الحكم الي عصر علي، لم تزل خاضعة للنظم القبلية. فلم يكن ثم نظام دولي صحيح يجتمع الناس عليه و يستشعرونه، بل ظلوا علي تقليدهم البدوي الذي لا يشعر الا بالانتماء الي القبيلة، و لا يحس الا بسيطرتها و هذا ما يستطير معه الخلاف، و يستشري به النزاع.و ان حكومة تقوم علي نظم البداوة لا يرجي لها بقاء، لأنه ليس بين عناصرها وحدة حقيقية أو غراء خصيب، و مثلها قريب في جملة عيدان يجمعها اطار فاذا تحلل قليلا أو وهن سقطت متفرقة متوزعة لعدم وجود تماسك حقيقي بينها.

ص: 24

لهذا أوجب النظاميون اليوم بث روح التربية الوطنية بين الأفراد و الطبقات، حتي يكون بينهم وساطة اشتراك في غير الحكومة أو فوق الحكومة. و سنري فيما بعد سر النظام في جند الشام و الاختلاف في جند العراق الذي لم ينتبه الي تعليله أكثر المؤرخين حين عزوه الي طبيعة كلا الشعبين.

حكاية حكومة الخلفاء

و من المناسب أن نأتي بحكاية حكومة الخلفاء و كيف قامت، و بيان الاسباب التي اجتمعت علي فشل سياسة علي كرم الله وجهه، و نجاح السياسة الأخري المعادية.لحق النبي (ص) بالرفيق الاعلي، و قد ترك المسلمين تحت سيطرة الاعتقاد الديني الشديد. و لكن جاءت وفاته حادثه فجائيا بعض الشي ء، ترك المسلمين تحت سبات عنيف و اغلاق محكم. و أكثر من أصيب بهذا الأثر عمر (ض) بينما كان أبوبكر (ض) أكثر ما يكون رباطة جأش.فكان موقفه الموفق في ازاحة هذه الشبهة معناه تقديم الزعيم في نفسه، الذي يتطلبه الحين. فلا عجب أن وجد فيه عمر (ض) من تطمئن اليه نفسه، و يسكن الي حنكته. و هو موقف جدير بأن يقدم رجل الوقت، و دائما تكون المواقف الفذة في الاحداث الكبيرة، سبيلا وحيدا لتقديم صاحبها و اضفاء أصفق الستر علي الشخصيات الاخري الكبيرة. و ليس ضروريا في هذا الزعيم (1) أن يكون أفضل

ص: 25


1- 20. معناه انه رجل الظرف الذي اشتق من طبيعته فهو يدري كيف يثيره و يديره و لست اعني ان ابابكر (ض) كان رجل ظرف فقط بل كان رجل ظرف و رجل جدارة. و لكن اعني ان المناسبة و الظرف اسلسا في يده القيادة و مهدا له السبيل الكشف عن زعامته الشخصية حتي لم تحتج الي خصومة كبيرة او حجاج طويل و هذا معني قولة عمر (ان بيعة ابي بكر كانت فلتة وقي الله المسلمين شرها) و قد أخطأ من فهم فيها ان عمر يعني انها غلطة و قد كان هو الممهد لها و المحرك الكبير فيها. و انما يعني ان بيعته تمت علي وجه من السرعة كما تكون الفلتة و البادرة و العادة ان ما يتم سريعا علي هذا الوجه لا يخلو من التفريط و لكنها وقعت عند ابي بكر في محلها و لذا قال عمر (وقي الله المسلمين شرها) لانها وقعت علي رجل كف ء. و التعليل الصحيح الذي مهد لهذه السرعة هو الموقف المذكور الذي كشف عن انه رجل الساعة.

كل الأشخاص العصريين.ومن طبيعة هؤلاء الذين تكشف عنهم الظروف، و يخلقهم الانقلاب، وتوجذهم المناسبات، أنهم يكونون أقدر الأشخاص في ادارة الظرف ذاته؛ فاذا تحول بهم الظرف الي مناسبة أخري وقفوا منها و اجمعين، و تنحوا حيث لا يمكنهم الثبات و البقاء.و بالجملة فالظرف يقدم في هؤلاء الرجال مادة الحكم الانقلابي فقط، فاذا انتهي العهد الي الاستقرار، اضطروا أن يعودوا أشخاصا آخرين. و هذا شي ء لا ريب فيه ولسنا الآن بصدد تحليله و البرهان عليه.الي هنا نكون قد انتهينا الي أن نجاح ابي بكر، أمر ليس منه بد، لأنه جاء طبيعيا جدا. و انما ننتقل بالنظر الي الاختلاف يوم السقيفة، هذا الاختلاف الذي كان نموذجا من التنازع البلدي، أكثر مما هو شي ء آخر، علي امتلاك السلطة مشفوعا بمقدمات دينية قامت علي المعادلة ما بين أثر المهاجرين في الاسلام و أثر الانصار فيه.و هذه المعادلة دخلها شي ء من عدم نسيان الذات، و يفسر هذا موقف سعد ابن عبادة هذا الموقف غير المهادن، و للأنصار حق أكيد واضح و شبهة قوية في السلطة. علي أنهم فهموا في آخر الأمر أنهم أنصار الدين و أنصار محمد و أنصار (1) بيته، و لذا ظل ميلهم الي الداعي القائم من آل البيت.

ص: 26


1- 21. ذكر المستشرق الكبير فان فلوتن في كتاب (السيادة العربية)، بين الاحزاب العربية، حزبا و سمه بحزب اهل المدينة و هم انصار آل النبي (ص) و المنتمون اليه يعتبرون ان وصول بني امية الي الحكم انما هو انتصار لاعدائهم القدامي من مشكري مكة. و هذا الحزب و ان انفرد بذكره (فلوتن) بناء علي نظر اجتهادي و ترجيح تقديري لكنه حقيقة لا ريب في صحتها فان ميول الانصار شاهد كبير علي انه و ان لم يكن بينهم حزب له هذه الصبغة و هو قائم علي هذه المبادي ء فقد كان هواهم كذلك علي ما هو الظاهر القريب في منطق التعطيل.

و هذا الميل فيهم هو الذي يفسر الشدة التي أخذهم بها يزيد في موقعة الحرة، و التي كانت حركة يراد بها افناؤهم و ابادتهم. و ذلك لأنها كانت تضم نخبة عظيمة من الصحابة ذوي المكانة الدينية المحترمة كالبدريين بحيث كانوا في محل الاستشارية من كل الطبقات، و قد رأي الامويون مقدار تأثيرهم في حكومة عثمان (ض)، و هو من هو في مكانته من النبي (ص) فلا بدع أن يستقر رأيهم و قد هيمنوا علي السلطة، أن يخضدوا من شوكة المدينة و يقضوا علي الطبقة الدينية المحترمة ليخلصوا من سيطرتها. و أظن و ليس ببعيد أن الفكرة لم تكن وليدة دماغ يزيد، بل جالت في خاطر معاوية أيضا. و يشهد لهذا الظن أن اثارة الحرب عليهم ابتدأت كلامية في عهده، فقد استخدموا لهذه الغاية الاخطل الشاعر النصراني، و يظهر لك مقدار الحفيظة و الضغينة و الاستخفاف في اختيارهم رجلا غريبا عن الدين، للوقوع بعرض أنصار الدين. و لكن هذا التحرش أثار (النعمان بن بشير) و هو العثماني الشديد علي معاوية زعيم العثمانية. مما نشعر معه بأن معاوية حقيقة لم يجد ظرفا مناسبا و لا سانحة مواتية، فان البيت الاموي سيظل في خطر مادام الانصار، و سيظل مهددا بالبيت العلوي ما بقيت المدينة.لذلك لم يأخذوهم حين وجدوا الفرصة بلباقة (1) أبدا، تجمع الي الغرض السياسي الاحترام الديني لمقامهم؛ و مقامهم لا ينكر.و بهذا يفسر تشجيع حياة المجون في المدينة بلد الرسول الاعظم صلوات الله عليه، من جانب الامويين الي حد الاباحية، قد كان خاضعا لسياسة مقصودة. و قد أثبت في موضوع لي عن (حياة عمر بن ابي ربيعة و شعره) ان الامويين استأجروا طوائف من الشعراء و المغنين و المخنثين من بينهم عمر، لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين (مكة، و المدينة) بمسحة لا تليق بهما و لا تجعلهما صالحتين للزعامة الدينية؛ و بذلك يكون لهما مركز ثانوي في محيط الحركة الاسلامية، و لقد

ص: 27


1- 22. اخذوا الانصار بوحشية ليس لها نظير الا في اعمال نيرون الطاغية. و هي في اخصر عبارة تمثيل مأساة الحسين (ع) مرة اخري في محيط اوسع و عدد اكبر و تحدي الشعور الاسلامي في بلد النبي (ص).

نجحوا كثيرا، عدا ما نتج عن هذا من تأثير عملي و تطوير حقيقي في نفسية الاشخاص التي غدت لا تأبه للحركات الاسلامية المستمرة ثم لا تألف الا الحياة الماجنة من كل الاطراف، حتي قال الاصمعي (دخلت المدينة فما وجدت فيها الا المخنثين و رجلا يضع الاخبار و الطرف). و لقد يتمادي الظن بنا الي أبعد من هذا، و بالأخص بعد حركة عبدالله بن الزبير، هذه الحركة التي كانت غولا، و كادت تبتلع الدولة الاموية و العنصر الاموي الذي ثبت لمفكري المسلمين أنه أداة افساد، و في طبيعته (1) بعث الحياة الجاهلية بكل أشيائها و ألوانها. و من ثم عمل ابن الزبير علي طردهم من الجزيرة و ابعادهم خارج البلاد العربية.يتمادي بنا الظن الي أن المروانيين فكروا بصرف الناس عن المقدسات الاسلامية التي تنزل من الاسلام منزلة الشعيرة بانشاء المسجد الاموي بأبهته العظيمة في دمشق. و لقد ظن بعض المستشرقين بأن هذه نية (2) عبدالملك بن مروان بأناقته في تشييد المسجد الاقصي. و نحن و ان كنا نظن و نوافق من يظن نرسل ما نقول في تحفظ مطلق حتي تتناصب عليه الشواهد و الروايات. هذا استطراد ليس فيه ما يفصم من وحدة الموضوع، بل فيه ما يزيدنا فهما لأسباب الانقلاب الكبير الذي انتهي بمصرع الحسين (ع).يسلمنا الموضوع الان الي الحديث عن موقف آخر، أظهر فيه أبوبكر حنكة و رجاحة ما عليهما من مزيد؛ و هو موقفه من تعيين الخليفة بعده بقطع النظر عن الشخص الذي كان الغرض فيه أن لا يتعرض المسلمون لخلاف من نوع الخلاف الذي تعرضوا له بعد وفاة النبي (ص)؛ و الظرف دقيق جدا لا يتسع لأي اختلاف و ذلك لأنه مفعم بالفتوح الكبيرة الواسعة الاطراف، و المسلمون

ص: 28


1- 23. قرر نحوا من هذا الاب لامنس اليسوعي و غيره.
2- 24. يروي انه قال اردت ان اصرف الناس الي بيت المقدس.

متوزعون في بقاع عديدة، وجهات مختلفة؛ فكان أي اختلاف كافيا للقضاء علي هذه القوي المتنائية.هذا الملحظ يجعنا نكبر من اجراء الخليفة الاول، في اختيار الرجل الذي يلي الامر من بعده. و بذلك يوطد و يمكن من الوضع الثابت و الاستقرار المستمر الذي لا يعدد وجهات النظر. و كان علي عمر (ض) أن يتأسي بأبي بكر في هذا الشأن، و يختار الشخص الذي ينبي أن يسلم الناس اليه القوي، و هو هو الرجل الذي أرضي الناس علي اختلافهم بسيرته السديدة و نهجه الرشيد، فلا يصادف منتخبه خلافا عليه أو منازعة في هواه. و لكن ربما كانت له في هذا وجهة نظر، و هي أن المسلمين دخلوا في دور استقرار بعد تجربات طويلة للحكم الصالح، فترك للمسلمين الفرصة ليقوموا بممارسة حقهم الانتخابي.و كأن عمر (ض) بصنيعه هذا، يعلن أن من رأيه أن لا يكون للخليفة رأي فيمن يتولي شؤون الناس من بعده، اذ بذلك يقيد الحريات و يحول بين الناس و حقوقهم، و بعبارة أخري الخليفة اذا نص علي الشخص الذي يلي الامور من بعده، كأنما قدم شخصه ليحكم الناس مرة ثانية؛ و ذلك لأن الشخص الذي يقدمه لابد و أن يتقيد بمناهجه و يسير علي قدمه و يتحاشي من أن يبتعد أو يتجاوز، رغم تغير الاحوال أو اقتضاآت الظروف. و هذا بعض من معايب حكم البيوت، و حكم التخليف الاصطناعي (1) . و هو يبين مقدار الخطأ الذي ارتكبه معاوية في تقديم ابنه بقطع النظر عن صفات يزيد الشخصية.و مع ما كانت عليه حكومة زعيم الخلفاء أبي بكر (ض) من سداد و رشد و بعد عن الذاتية و تمسك بالسيرة النبوية الفضلي، كانت بمثابة سابقة تبرر كل مزاحمة حتي لصاحب الحق بلا مدافع، و لذكل لا نبعد في الظن اذا قلنا بأنها كانت سببا في تجسيم الأطماع عند الرجالات كافة، مهما تناهت درجات اعتبارهم.و هذا ليس رأيا نراه و ظنا نقدره، بل حجة اتخذها معاوية لتبرير منازعته لعلي،

ص: 29


1- 25. اي الخليفة الذي اصطنعه خليفة آخر قبله فيكون له صنيعة.

رغم اقراره بأنه صاحب الحق و ولي الشأن. و لنترك الآن الحديث لمعاوية حتي نسمع كيف يبرر مغالبته و منازعته لزعيم الحق.قال في كتاب (1) بعثه الي محمد بن أبي بكر ردا علي كتابه اليه، و نثبته هنا بطوله لا هميته في درس الصراع علي الخلافة.(من معاوية بن صخر، الي الزاري علي ابيه محمد بن أبي بكر، أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر ما الله اهله في عظمته و قدرته و سلطانه، و ما اصطفي به رسول الله صلي الله عليه و سلم و علي آله، مع كلام كثير لك فيه تضعيف، و لأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه فضل ابن ابي طالب، و قديم سوابقه و قرابته الي رسول الله (ص) صلي الله عليه و سلم، و مواساته اياه في كل هول و خوف فكان احتجاجك علي و عيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد ربا صرف هذا الفضل عنك و جعله لغيرك، فقد كنا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقه لازما لنا مبرورا علينا، فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة و اسلام ما عنده و أتم وعده و أظهر دعوته فأبلج و قبضه اليه صلوات الله عليه، كان أبوك و الفاروق أول من ابتزه حقه و خالفه علي أمره، علي ذلك اتفقا و اتسقا، ثم انهما دعواه الي بيعتهما فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما فهما به الهموم و أرادا به العظيم، ثم انه بايع لهما، و أسلم لهما، و أقاما لا يشركانه في أمرهما و لا يطلعانه علي سرهما، حتي قبضهما الله، ثم قام ثالثهما عثمان فهدي بهديهما و سار بسيرهما، فعبته انت و صاحبك حتي طمع فيه الاقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل و أظهرتما عداوتكما حتي بلغتما منا كما. فان يك ما نحن عليه صوابا فأبوك استبد به و نحن شركاؤه، و لولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن ابي طالب و لسلمنا اليه، و لكنا رأينا أباك فعل ذلك به

ص: 30


1- 26. اثبته المسعودي في مروج الذهب ج 2، ص 315 و 316 و ذكر كذلك جواب محمد بن ابي بكر و هو جواب مهم جدا يبدي و يظهر مقدار تحرر الشباب في ذلك العهد من تأثيرات الوراثة و البيئة، علي مقدار مواجهتهم للحقائق و مقدار خصب ضمائرهم؛ و محمد هذا من انبل شباب قريش الذين غذاهم الاسلام بتعاليمه منذ الفطرة الاولي ثم درج في حجر علي كرم الله وجهه حتي قال عنه المسعودي ج 2، ص 194: و كان محمد بن ابي بكر يدعي عابد قريش لنسكه و زهده.

من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك، و السلام علي من أناب.)هذا رد مهما قيل فيه، و مهما فسر بأنه من حيل الدفاع و اكتساب القضية، و من مداورة الخصوم لأخذ السبيل عليهم، فانه يحتفظ بحقيقة جوهرية، و هي أن خلافة أبي بكر (ض) كانت سابقة سهلت لكل أصحاب المطاع سبيل المزاحمة بل و المواثبة المعالنة.و في الكتاب ضعف مادي يسقط في يد معاوية، و ذلك حين أدان عثمان أيضا، هذه الادانة التي تبرر انتزاع الحق منه بأي الوسائل، و عليه فلم يبق معني لتوجيه الادانة الي علي و محمد بقوله (فعبته أنت و صاحبك)، لأنه لم تعد له صفة الادانة بل صفة الجزاء؛ و عجيب أن تتخلي عنه لباقته في هذه المرة التي كانت تقتضيه بذكر مصاب عثمان، دون التعرض لعدوانه في الخلافة.و سواء صح هذا التقدير أو لم يصح في شرح سياسة عمر (ض) فمما لا ريب فيه أن عدم النص علي الخليفة، أو تعيين الانتخاب في عدد مخصوص، أوجد حزبية و بيلة، و هيأ لها أن تعمل أسوأ أعمالها، و لم تقف عند حدود النجاح في الانتخاب فحسب، بل استقرت علي وجه دائم لتقضي علي الخصوم و علي الاحزاب المناوئة. و هذا ما يفسر مقالة (1) ابي سفيان زعيم العصبة الأموية حين تولي عثمان (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به ابوسفيان مازلت أرجوها لكم و لتصيرن الي صبيانكم وراثة).و في قوله (مازلت أرجوها لكم) ما يشعرنا بأن الحزب الاموي كان موجودا من قبل، و كان يعمل تحت ستر الخفاء، و يحيك في الظلماء، والا فبأي سبب كان يرجوها لهم، و ليسوا بأهل سابقة في الاسلام و لا أيادي لهم معروفة سوي المظاهرة ضد الله و رسوله.

ص: 31


1- 27. راجع مروج الذهب ج 2، ص 230.

و اذا عرفنا أن المغيرة بن شعبة، كان أشد ما يكون اخلاصا لهذا البيت الاموي و تعلقا به و نفاقا علي غيره. و عرفنا أن ابا لؤلؤة كان غلاما للمغيرة بن شعبة، و عرفنا أن هناك حزبا أمويا يعمل له المغيرة، خرجت لدينا قضية مترتبة الحلقات متوالية الوقائع علي نسق طبيعي واضح.الحزب الاموي كاد للنبي (ص) و لدعوته، و عرفنا كيف أسلم زعيم الاموية ابوسفيان، و عرفنا كيف لم يبق للامويين أي مقام اعتباري في محيط الاسلام الذي كان ظهوره فوزا و غلبة للهاشميين؛ فعملوا في ظل الدين علي التمهيد لأنفسهم و الاستئثار بالسلطة، وقد وجدوا في ولاية يزيد بن ابي سفيان و ولاية معاوية من بعده علي الشام، خطوة أولي يستطيعون أن يثبتوا أقدامهم من بعدها، و وجدوا فرصة سانحة للقيام بعمل خطير، ففكروا باغتيال عمر بن الخطاب الخليفة الصالح. و كذلك اغتالوه بيد فارسي يبرد حفيظته و يشفي غليله، و ما كانوا يجدون أبدا من يقوم بعمل اجرامي من هذا النوع موجها الي شخص الخليفة عمر (ض) سوي هذا الفارسي بطبيعة الحال.ومن ثم يظهر أن اغتيال عمر لم يكن بفكرة فارسية أبدا، و انما هو أقرب الظنون، من حيث كانت الفتوح الكبيرة في فارس في عهد عمر، و من حيث ثم هذا القتل بيد فارسي. بيد انه يعلل بعض أطراف القضية و يترك مواضع هامة فيها تحتاج الي تعليل و تحمل علي التساؤل، من مثل: لماذا اجتهد المغيرة بادخال هذا الفارسي المدينة مع علمه بمنع عمر من ذلك؟ و بماذا نفسر هذه المصادفة في أن يكون قاتل عمر غلام المغيرة الذي هو اموي الراي و الهوي؟ الي أشياء كثيرة لا يتسع الموضوع لها. و انما أقول في جملة ما أود اثباته ان قتل عمر (ض) لم يكن وليد فكرة فارسية مدبرة، و انما كان وليد فكرة موضعية خالصة و أموية بحتة. هذا رأيي و عسي أن أجد في منثور الروايات و الاخبار ما يوضح الواقع.اذن فقد كان هناك حزب اموي سري، ينضوي تحت لوائه عدد عديد. و هذا ما يفسر لين عثمان (ض) الشديد مع فئة بعينها و طائفة من الناس مخصوصة. و لا أظن شيئا مما توهمه المؤرخون حقيقيا من أن هذا راجع الي طبيعة اللين عنده مع

ص: 32

أهله و ذوي قرابته. و انما الحقيقة انه لم يكن يميل لينا و لا ضعفا و لكن حزبية فقط.و لا أدل علي هذا من قصة أثبتها (1) المسعودي قال: «كان السبب في صرف الوليد و ولاية سعيد بن العاص ان الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه و مغنيه من أول الليل الي الصباح، فلما آذنه المؤذنون بالصلاة خرج منفصلا في غلائله، فتقدم الي المحراب في صلاة الصبح، فصلي بهم أربعا، و قال: تريدون أن ازيدكم؟و لما ظهر فسقه هجم عليه جماعة من المسجد منهم ابوزيد بن عوف الازدي و أبوجندب بن زهير الازدي و غيرما، فوجدوه سكران مضطجعا علي سريره لا يعقل، فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ، ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده، و خرجوا من فورهم الي المدينة، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده علي الوليد انه يشرب الخمر، فقال عثمان: و ما يدريكما انه شرب خمرا؟ فقالا: هي الخمر التي كنا نشربا و نعرفها، و أخرجا خاتمه فدفعاه اليه، فرزأهما و دفع في صدورهما و قال: تنحيا عني، فخرجا و أتيا علي بن أبي طالب و أخبراه بالقصة، فأتي عثمان و هو يقول: دفعت الشهود و أبطلت الحدود. فقال عثمان له: فما تري؟ قال: أري أن تبعث الي صاحبك ان أقاما الشهادة عليه في وجهه و لم يدل بحجة أقمت عليه الحد. فلما حضر الوليد دعاهما عثمان فأقاما الشهادة عليه في وجهه و لم يدل بحجته، فألقي عثمان السوط الي علي، فقال لابنه الحسن، قم يا بني فأقم عليه ما أوجب الله عليه. فقال: يكفيه بعض ما تري، فلما نظر الي امتناع الجماعة عن اقامة الحد توقيا لغضب عثمان أخذ علي السوط ودنا منه، فلما أقبل نحوه سبه الوليد، و قال: يا صاحب مكس، فقال عقيل بن ابي طالب - و كان ممن حضر - انك لتتكلم يا ابن أبي معيط كأنك لا تدري من أنت و أنت علج من أهل صفورية، فأقبل الوليد يزوغ من علي، فاجتذبه فضرب به الارض و علاه بالسوط؛ فقال عثمان ليس لك أن تفعل به هذا. قال: بلي، وشر من هذا اذا فسق، و منع حق الله تعالي أن يؤخذ منه».

ص: 33


1- 28. راجع مروج الذهب ج 2، ص 225 ، 224.

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديدا غير العطاء الذي يرجع الي مكان العاطفة. تضع بين أيدينا صورة من الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون، و الاغضاء في واقعة دينية بحت، يجب علي الخليفة أن يكون أول من يغار عليها، و الا هدد مكانه و أفسح للناس عامة مجال التقول و التجريح، و بالأخص حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدة فيما يتعلق بالحدود الدينية، حتي لو كانت من أقرب ذوي القربي.اذن فهذه المبالغة في الاغضاء و الصفح و المجاوزة؛ لا ترجع الي مكان العاطفة وحدها ان كانت، بل الي الحزبية أيضا حتي تتناصر مجتمعة.و بالجملة فالذي يجب أن نفهمه جيدا، أن حصر الترشيح في عدد جعل لكل مرشح حزبا يناصره بضرورة حصر دائرة الانتخاب، و زاد في حرج الانتخاب أن ينص علي الحكم الانتخابي «عبدالرحمن بن عوف» مما يسهل سبيل الظفر لحزب بعينه، اذا استطاع أن يستميل الحكم، و لقد كان كذلك بالفعل.هنا قوي شأن الاحزاب؛ و نري أن الذي أوجدها هو التعيين المذكور، و قد يهون أمرها لو لم يتجاوز أثرها الانتخاب و ما اليه، و لكن الذي أضرم النار ان حزب عثمان صارت له دالة عليه حتي استغله استغلالا، رغم انه يجب أن يكون في موضعه فوق كل الاحزاب، بيد انه ابدي حزبية و زاد في المعالنة بها و ازداد المنتمون الي هذا الحزب اضطهادا لخصومهم، مما أثار الحفائظ و جعل الآخرين ينشطون لدفع هذا العدوان و الدعوة ضد عثمان باعتباره حامي الحزب و المنافح عنه و المدافع دون جماعته.و كما ينبئنا التاريخ أن حزبه انشق عليه، فانفصل عنه عمرو بن العاص و جماعة و الاحزاب التي نستطيع أن نعينها في ذلك العهد، و التي كانت تعمل متنازعة هي:(1)حزب عثمان (ض): أو الحزب الاموي، و هو يضم جماعة الامويين

ص: 34

و من عندهم هوي أموي. و هذا الحزب كان مبغوضا (1) من أهل المدينة أشد البغض، لأن من رأيهم (كما يذكر المستشرق فان فلوتن) ان وصول بني امية الي الحكم معناه انتصار أعدائهم القدامي من مشركي مكة.(2)حزب طلحة و الزبير: و هذا حزب يقوم علي عصبية شخصية بسبب ما منيا به من فشل في الانتخاب، و كان ينضوي اليه بعض من الناقمين علي سياسة عثمان (ض)؛ و من أكبر شخصيات هذا الحزب عائشة رضي الله عنها.(3)حزب أبناء عمر بن الخطاب. هذا حزب لا يحدثنا التاريخ عنه كثيرا، و لا يسجل له ظهورا أبدا و لكن نرجح أنه قد كان، فان موقف عمر (ض) من أهل بيته لم يكن مرضيا، و وجد في الناس من يدعو لآل الخطاب، و من أكبر الشخصيات المنتسبة اليه «ابوموسي الاشعري» الذي رأينا من خروجه علي صلاحية الحكم الي اسقاط الامام القائم و معاوية، و ترشيح عبدالله بن عمر للخلافة التي لم يرها له ابوه (ض). هذا الاقتراح الذي ارتآه (2) و لم يكن في خاطرة أحد أبدا و لا

ص: 35


1- 29. و شاهد هذا قصة ذكرها المسعودي في المروج ج 2 ص 230 و 231 قال: (لما تسامع المهاجرون و الانصار بقول ابي سفيان السابق قام عمار بن ياسر في المسجد فقال يا معشر قريش اما اذ صرفتم هذا الامر عن اهل بيت نبيكم ههنا مرة و ههنا مرة فما انا بآمن من ان ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من اهله و وضعتموه في غير اهله. و قام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذي به اهل هذا البيت بعد نبيهم فقال عبدالرحمن بن عوف و ما انت و ذاك يا مقداد؟ فقال اني و الله لاحبهم بحب رسول الله (ص) و ان الحق معهم و فيهم، يا عبدالرحمن اهل هذا البيت قد اجتمعوا علي نزع سلطان رسول الله (ص) بعده من ايديهم، اما و ايم الله يا عبدالرحمن لو اجد علي قريش انصارا لقاتلتهم كقتالي اياهم مع رسول الله (ص) يوم بدر، و جري خطب طويل الخ) و ليتأمل جيدا قوله اهل هذا البيت قد اجتمعوا الخ الذي يعني به البيت الاموي.
2- 30. ذكر المسعودي في المروج ج 2، ص 277 قال (قال عمرو فهل تعلم لعثمان وليا اولي من معاوية؟ قال ابوموسي: لا: قال عمرو: افليس لمعاوية ان يطلب قاتله حيثما كان حتي يقتله او يعجز قال ابوموسي: بلي. قال عمرو الكاتب اكتب، و امره ابوموسي فكتب. قال عمرو: فانا نقيم البينة علي ان عليا قتل عثمان. قال ابوموسي هذا امر قد حدث في الاسلام و انما اجتمعنا لله فهلم الي امر يصلح الله به امة محمد. قال عمرو: و ما هو؟ قال ابوموسي: قد علمت ان اهل اهل العراق لا يحبون معاوية ابدا و ان اهل الشام لا يحبون عليا ابدا فهلم نخلعهما جميعا و نستخلف عبدالله بن عمر، و كان عبدالله بن عمر علي بيت ابي موسي. قال عمرو: ايفعل ذلك عبدالله بن عمر؟ قال ابوموسي: نعم، اذا حمله الناس علي ذلك فعل. فعمد عمرو الي كل ما مال اليه ابوموسي فصوبه و قال: هل لك في ابني عبدالله و هو اهل علم و دين. قال ابوموسي: لا، فعدد له عمرو جماعة و ابوموسي يأبي ذلك الا ابن عمر فاخذ عمرو الصحيفة و طواها الخ). و كما تري في القصة المذكورة ان فكرة عزل ولي الحق علي (ع) و معاوية لم تكن الا من افكار ابي موسي و عرفنا ان اباموسي كان هواه خطابيا و اذا علمنا ان عبدالله بن عمر كان علي بيت ابي موسي لانه كان متزوجا منه و راينا ان اباموسي لا يرشح سواه خرجت لنا قضية متواصلة الحلقات؛ و هي تفسر تخلف عبدالله بن عمر عن المبايعة لعلي (ع). و لو طرحنا كل ما هو ظاهر حق في هذا فمما لا ريب فيه ان اباموسي كان يزيد الاحداث في المسلمين ليضعف من شأن علي (ع)، و ما كان يعمل علي تهدئتها.

في خاطرة عمرو بن العاص حتي يقال انها خدعة منه يعذر عليها أبوموسي لا يعلل الا بالتواطو، و قد رأينا من شغبه علي اميرالمؤمنين علي (ع) غير ما مرة.(4)الحزب الاموي المنشق: كان يعمل ضد الخليفة، و يقوم بدور الجاسوسية عليه لحساب بعض الاحزاب المذكورة، و ستري من قصة نوردها كيف استخدم طلحة بعض أشخاصه في شأن من هذه الشؤون.(5)حزب علي (ع) أو الحزب المحافظ و هو يضم كبار الصحابة و أرباب السابقات الجليلة في الاسلام، و ربما امتد أثره فشمل المدينة و طغي علي كل الأحزاب من حيث النفوذ، بيد أنه لم يكن مخاتلا يعمل في الخلفاء، بل يجتهد بتقويم خطي الخليفة و تعديلها و يحاسبه حسابا علي وجه النصح خوفا من استعجال الحوادث عليه، و كان يضم أمثال ابي ذر و ابي أيوب الانصاري الي كثيرين علي شاكلتهما. و من المهم أن نثبت ان هذا الحزب كان يجتمع عليه كل الاحزاب المذكورة، فان هذه الملاحظة لها أثرها الخطير في فهم نكوص طلحة و الزبير و عائشة و خروجهم عليه...كانت المدينة التي هي قصبة الخلافة، تحتضن هذه الاحزاب جميعا. و كانت مسممة الفكرة من ناحية الامويين، فهي لذلك ساعدت علي نشر معائب الحزب الاموي و رئيسه عثمان (ض). و بما أن موسم الحج يجعل الافئدة تهوي الي

ص: 36

المدينة من مختلف الاقطار، انتقلت الفكرة الحزبية الي الحواضر و البوادي، و ابتدأت المغالبة تأخذ شكلا رهيبا و قويا شرسا.و عليه فالذي مهد لمصرع عثمان هم العثمانيون أنفسهم و حزبه الخاص الاموي، و بعبارة أكثر لباقة و أكثر تأدية و افادة، ان عثمان (ض) هو الذي صرع نفسه أو أدي الي مصرعه.و لتري ضربا من تنازع هذه الاحزاب، نسوق ما أثبته المسعودي قال: (و ولي الكوفة بعده سعيد بن العاص، فلما دخل سعيد الكوفة واليا أبي أن يصعد المنبر حتي يغسل، و أمر بغسله، و قال ان الوليد كان نجسا رجسا. فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة و استبد بالاموال، و قال في بعض الايام و كتب به الي عثمان: انما هذا السواد فطير لقريش، فقال له الاشتر و هو مالك بن الحرث النخعي. اتجعل ما أفاء الله علينا، بظلال سيوفنا و مراكز رماحنا، بستانا لك و لقومك؟ ثم خرج الي عثمان في سبعين راكبا من أهل الكوفة، فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص و سألوا عزله عنهم، فمكث الاشتر و أصحابه أياما لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شي ء، و امتدت أيامهم بالمدينة، و قدم علي عثمان أمراؤه من الامصار منهم عبدالله بن سعد بن ابي سرح من مصر و سعيد بن العاص من الكوفة، فاستشارهم فقال عبدالله بن ابي سرح ليس بكثير عزل عامل للعامة و تولية غيره، و قال سعيد بن العاص انك ان فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون و يعزلون فجهزهم في البعوث، حتي يكون هم أحدهم أن يموت علي ظهر دابته. قال فسمع مقالته عمرو بن العاص، فخرج الي المسجد فاذا طلحة و الزبير جالسان في ناحية منه، فقالا له الينا، فصار اليهما فقالا فما وراءك، قال الشر ما ترك من المنكر شيئا الا فعله و أتي به. و جاء الاشتر فقالا له ان عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم و أمر بتجهيزكم في البعوث و بكذا و بكذا، فقال الاشتر و الله قد كنا نشكو سوء سيرته و ما قمنا به خطباء، فكيف و قد قمنا؟. و ايم الله علي ذلك لولا اني انفدت النفقة و انضيت الظهر لسبقته الي الكوفة حتي أمنعه دخولها، فقالا له فعندنا حاجتك التي تقوتك في سفرك قال

ص: 37

فاسلفاني اذا مائة ألف درهم. قال فاسلفه كل واحد منهما خمسين الف درهم فقسمها بين أصحابه و خرج الي الكوفة، فسبق سعيدا و صعد المنبر و سيفه في عنقه ما وضعه بعد ثم قال: أما بعد فان عاملكم الذي أنكرتم تعديه و سوء سيرته قد رد عليكم و أمر بتجهيزكم في البعوث فبايعوني علي أن لا يدخلها، فبايعه عشرة آلاف من أهل ژ الكوفة، و خرج راكبا متخفيا يريد المدنية أو مكة فلقي سعيدا بواقصة. فأخبره بالخبر فانصرف الي المدينة و كتب الاشتر الي عثمان: انا و الله ما منعنا عاملك الا ليفسد عليك عملك؛ ول من أحببت، فكتب اليهم انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه، فنظروا فاذا هو ابوموسي الاشعري فولوه).هذه حكاية تعرفنا مبلغ خطر النزاع الحزبي في استعجال الحوادث، فقد استحث طلحة و الزبير الاشتر و مداه بالمعونة المادية، ليقوم بغرض من شأنه التهييج علي اجراءات الخلافة، و رأينا كيف كان عمرو بن العاص يقوم بمهمة التجسس و رأينا أيضا كيف تلقاه طلحة و الزبير كأنما كانا موفديه بمهمة تسقط الاخبار و استراقها.هذه الاحزاب كلها كانت تعمل ضد الخليفة بالذات، بينما كان حزب علي يقوم بالنصح و الارشاد و التوسط أحيانا لحل المشاكل الداهمة أو المفاجئة. فقد ذكر المسعودي قال: (لما جاءت جموع الامصار الي المدينة و أخبر بهم عثمان بعث الي علي بن ابي طالب فأحضره، و سأله أن يخرج اليهم و يضمن لهم عنه كل ما يريدون من العدل و حسن السيرة. فسار علي اليهم فكان بينهم خطب طويل، فأجابوه الي ما أراد و انصرفوا).اذن فلم تكن مهمة حزب علي سوي المحافظة علي ترسم النهج النبوي فقط، دون التهجم علي شخص الخليفة الذي يحترمونه باحترام الخلافة التي هي نيابة عن الرسول الأعظم (ص). هذا هو علي حقا الذي لا يعرف فؤاده الكبير معني للختل و المغابنة و تدنيس الضمير. و لو كان ناقما حقيقة علي شخص عثمان، لا ستغل مثل هذه الظروف التي كانت تضمن له كل شي ء.. و في نظري انه لولا

ص: 38

وجود علي في خلافة عثمان لا نهارت من أول عاصفة. و لكن كان علي (ع) دعامتها و سندها المتين.و بينما كان علي كرم الله وجهه واقعا تحت ثورة من الحزن علي زميلة و رفيقه عثمان رحمه الله (و بدا (1) كأنه الواله الحزين فقال لابنيه كيف قتل اميرالمؤمنين و انتما علي الباب؟ و لطم حسنا و ضرب حسينا و شتم محمد بن طلحة و لعن عبدالله بن الزبير) نجد طلحة يقول لعلي و هو في ثورته، و في مقاله مبلغ الشماتة و التشفي (لا تضرب يا اباالحسن و لا تشتم و لا تلعن، لو دفع مروان ما قتل و نجد عائشة (ض) حين اشتد الامر علي عثمان (ض) و دعاها مروان لتصليح شأنه مع الناس. قالت (2) (لعلك تري اني في شك من صاحبك، أما و الله لوددت انه) مقطع في غرارة من غرائري و اني اطيق حمله فاطرحه في البحر).

علي في الخلافة

علي بن ابي طالب مظهر فذ من مظاهر التكامل الانساني، و نموذج بارع من نماذج التفوق البشري، و مثال لبلوغ الاستعداد الكامن في النسم. و قد اجتمعت اليه أسباب عديدة من الطبيعة أو الفطرة، و الوارثة و البيئة و التربية، حتي قدمت فيه تلك الشخصية الكبيرة. و التقت عنده الطبيعة القابلة، بالتربية النبوية الفاضلة، و الوارثة العريقة بالبيئة السامية. و كانت حقيقته من وراء ذلك تمده بما يتناهي به، حيث تقصر الاخيلة و تنحسر التصورات:و في أخصر عبارة، كان انسانا ذا أنحاء، تلتم حلقتا بطانه علي العالم و الحكيم، و العبقري المتحرر و المفكر الجري ء، و المتشرع و الخطيب، و المغامر و المجاهد. هذه أمة من الابطال، تجي ء في بطل من الامة، فلا عجب أن عددناه

ص: 39


1- 31. عبارة المسعودي في المروج.
2- 32. راجع تاريخ اليعقوبي.

عنوان الكفاءة و البطولة العربية في كل التاريخ. و ان من شاء أن يعرف مبلغ ذهنيته الفذة كرم الله وجهه. فما عليه الا أن يقف عند عهده الي الاشتر النخعي. هذا العهد الذي يكشف عن تمام فكرته الاصلاحية و مراميه الانشائية. في نواحي الدولة عموما.و كان يسعي عليه السلام أن يضع تشريعات مفصلة، تتناول الجهات كافة في الحياة المدنية و الدينية و العسكرية. و الذي لاينكر أن عقله الضخم كرم الله وجهه يميل الي الاتجاه العلمي أكثر من أي اتجاه آخر، حتي يبدو عقلا انسايكلوبيديا خالصا.و لذا كان المجتمع الاسلامي بعد توسعه الخطير. أكثر ما يكون حاجة الي عقل كهذا العقل يعمل علي النهوض به و الارتفاق بمصالحه، و يضع له قاعدة النظام التي منها يبدأ دور الاستقرار، و يقوم عليها بناء الحكم النموذجي الثابت.و لولا أن الاستطراد يخرج بالموضوع عن منهجه، لوضعت هذا العهد (1) .

ص: 40


1- 33. نقتط منه بعض نظرياته التشريعية: (نظريته في النظام الطبقي) قال (ع): و اعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض و لا غني ببعضها عن بعض، فمنها الجنود و منها كتاب العامة و العامة و منها قضاة العدل و منها عمال الانصاف و الرفق و منها اهل الخراج. ثم يذهب في شرح كل طبقة و مميزاتها بحيث نراه يميل الي مذهب التخصص علي مراتب الكفاءآت. و هذا اول بارقة من النظام في المحيط الاسلامي الذي كان لا يبني التعيين و العزل علي الكفاءة و التخصص. (نظريته في الموظف الحكومي) قال (ع): فول أنصحهم في نفسك لله و لرسوله و لامامك و انقاهم جيبا و افضلهم حلما ممن يبطي ء عن الغضب، ثم الصق بذوي الاحساب و اهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة فانهم جماع من الكرم و شعب من العرف. (نظريته في الموظف المالي) قال (ع): استعملهم اختبارا و لا تولهم محاباة و أثرة، فانهم جماع من شعب الجور و الخيانة و توخ منهم اهل التجربة و الحياء من اهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام فانهم اكرم اخلاقا و اصح اعراضا و اقل في المطامع اشرافا و ابلغ في عواقب الامور نظرا. (نظريته في رواتب الموظفين) قال (ع): و اسبغ عليهم الارزاق فان ذلك قوة لهم علي استصلاح انفسهم و غني لهم عن تناول ما تحت ايديهم و استمالة الغير لهم و حجة عليهم ان خالفوا امرك او ثلموا امانتك. و هذه نظرية من اهم النظريات في التعييات و التشكيلات، حتي اثني كل رجال الادارة علي رجاحة النظرية الانجليزية في تضخيم رواتب رجال العدل حرصا علي ان لا يؤخذوا بالرشوة. (نظريته في وجوب التفتيش علي اعمال الموظفين) قال (ع): ثم تفقد أعمالهم و ابعث العيون من اهل الصدق و الوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الامانة و الرفق بالرعية فان احد منهم بسط يده الي خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة. (نظريته في التجارة و التجار) قال (ع): ثم استوص بالتجار و اوص بهم خيرا المقيم منهم و المضطرب، و اعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا، و احتكارا للمنافع و تحكما في البياعات، و ذلك باب مضرة للعامة و عيب علي الولاة فامنع من الاحتكار و ليكن البيع سمحا بموازين عدل و استعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به و عاقبه في غير اسراف. هذه نظرية في اصول التشريع التجاري خطيرة؛ و الحقوقيون علي اختلاف في نفع و ضرر تدخل الحكومة في (التحكم في البياعات). (نظريته في وجوب اعتماد الحكومة علي الاصلاح و العمران في مقابل الضريبة) قال (ع): و ليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا ينال الا بالعمارة و من طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد و اهلك العباد. و ان العمران محتمل ما حملته و انما يؤتي خراب الارض من اعواز اهلها و انما يعوز اهلها اشراف انفس الولاة علي الجمع و سوء ظنهم بالبقاء.

العظيم موضع التحليل، و دللت علي مناحيه العامة فيما يختص بالتنظيم العام. و لكن لا يسعني و أنا أضع صورة عجلي من الانبعاثات في أسبابها المتلاحقة، الا أن أتجاوز كل ما لا يمت اليها بسبب قريب أو منها في مكان الجزء.ذكرت في الحديث عن الاحزاب التي وجدت في عهد عثمان (ض) انها كانت تجتمع علي خصومة حزب علي (ع)، و قلت هناك ان هذه ملاحظة لها أهميتها في فهم نكوص طلحة و الزبير و خروج عائشة.و أما الاسباب التي جعلت هذه الاحزاب تميل ميلا ضده، و تعمل مجتمعة علي ابعاد هذا الامر عنه، رغم ما هو منفرد به من مؤهلات دينية و عقلية، و مجتمع له من سابقات نادرة النظير في حقل هذا الدين. فانه خفية الي درجة الغموض، و لكن نستطيع أن نقول قولا يعلل الموضوع في جملته. و هو ما لمسوه من هوي الناس و تعلقهم ببيت علي (ع)، و معني هذا أن الخلافة اذا وصلت اليه لن تخرج عنه أبدا. و بذلك يكونون قد أخذوا الفرصة علي أنفسهم.

ص: 41

هذا أقرب ما يمكن ظنه في هذا المجال الذي يجمع النقيضين علي أنهما شي ء واحد؛ فقد ظهر لنا مما مر أن طلحة و الزبير كانت لهما سياسة مناوئة جدا لسياسة عثمان، و مازالا يعملان حتي انتهي الظرف بمصرع عثمان الشهيد؛ و كانت كلمة طلحة التأبينية (لو دفع مروان ما قتل) التي معناها كما هو واضح أن القتل وقع موقعه، و جاء في محله، و ما جاوز موضعه، و ما عدا أن يكون قانونيا. و سمعنا كيف يحدثنا اليعقوبي عن موقف عائشة حياله، و ما كان من قولها فيه، و زاد بأنها كانت تهيج عليه فقد ذكر اليعقوبي (ان عثمان أغضب عائشة ام المؤمنين، و انه نقص ما كان يعطيها عمر بن الخطاب فتربصت بعثمان، حتي رأته يخطب الناس فدلت قميص رسول الله (ص) و نادت يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل و قد أبلي عثمان سنته).هذا موقف يقضي علي هؤلاء جميعا بأن يبتهجوا بما انتهت به الحوادث، و يطمئنوا الي مجري الامور التي تأخذا سيرا طبيعيا وفق ما مهدوا الي ذلك من أسباب؛ و بالفعل لم يستاؤوا مبدئيا، و لكن ما عتم الامر حتي انقلبوا أشخاصا آخرين علي النقيض مما عرفنا. هذا ما يجعلنا لا نتردد في انهم كانوا يحاربون السلطة في شخص علي (ع) مما يصدق معه ظننا السابق من رسوخ هذا الامر في أهل البيت بمجرد استحواذهم عليه.هذا متجه في خروج طلحة و الزبير، و أما خروج عائشة فهو يعود في في أكبر ظني الي اغراء الزبير، و لا ننس انه زوج اختها اسماء، و أيضا لا ننس دالة عبدالله بن الزبير الذي كنيت به لفرط حبها له. و قد وافق عندها ميلا خفيا و هوي كامنا، عبرت عنه فيما بعد بقولها، (ما كان بيني و بين ابن ابي طالب الا كما يكون بين المرأة و ابن زوجها) و لهذا أيضا أسباب فيزيولوجية و نفسية عند السيدة عائشة (ض)، فاننا اذا علمنا أن حديث الافك جري و هي في اخريات دور المراهقة، و علمنا ان هذا الدور خطير الاثر (كما يقرر الاطباء) أو له كل التأثير علي البناء العضوي، و هو أيضا شديد الحساسية، بحيث يتكيف مستقبل الحياة بما يصادفه هذا الدور، و علمنا ان هذا الحديث كان بمثابة مفاجأة

ص: 42

ليست بقليلة، و هي غضة الاهاب، لينة العود: لم يمننا من أن نحكم بأنها كانت عصبية المزاج. هذا السبب الفيزيولوجي، و السبب الآخر النفسي، هو أن السيدة (ض) لم تمر في الادوار الطبيعية تامة، و لم تستوف مراحل النشأة كاملة. فلم تخل من طفرة في قط هذه المراحل، حيث لم تخرج عن دور الطولة الي الشباب الذي هو دور الزوجية، بل طفرت الي الزوجية و هي في دور الطفولة، و كان زواجها من النبي (ص) الذي هو، في ذلك الحين، الزعيم المطلق ذو الأعباء و التبعات. و هذا بلا ريب يترك آثارا نفسية من جملتها الاعتداد بالرأي و الاستهانة بما يجي ء به الآخرون، و عدم المبالاة؛ و سيطرة الطفولة (1) في أبرز مناحي التفكير، ضرورة عدم التحرر من أسرها تحررا طبيعيا.و لقد نلمس النضج التفكيري عند السيدة (2) أم سلمة (ض) حينما دافعتها عن أن تقوم بهذا الدور، و حذرتها منه و برهنت علي نظريتها بتعليلات لا تدحض؛ و لا يتسع المقام لا يراد شي ء من كتابها الحكيم.و الان نعود بالنظر الي الحزب الأموي بعد الكارثة، و كيف أخذ يعمل في معالجة الحال.أولي البوادر أتي بها المغيرة، حينما جاء الي علي (ع) يستكشفه رأيه و يستطلع طلع ضميره في الامويين و معاوية علي وجه الخصوص، لما شعر العثمانيون بحرج مكانهم و ضعفهم الشديد حتي اضطر اكثرهم للمبايعة (علي ما اثبت المسعودي). جاء المغيرة في ثوب الناصح الامين و المشير المشفق. و يحسن أن نثبت خبره كما جاءت به الروايات (جاء الي علي رضي الله عنه بعد مقتل عثمان بيومين، فقال

ص: 43


1- 34. هذا من الوجهة النفسية صحيح جدا و من اراد تزيد الشواهد علي هذا فعليه بالرجوع الي كتاب لسان الدين الخطيب الموسوم (بالاعلام بمن ولي الحكم قبل الاحتلام) فان هذه الظاهرة كانت كثيرة البروز في مناسبات احكامهم؛ و هذا من اخطاء ممارسة الاحكام و الشعور بعبئها قبل الالوان. و ربما اوضح هذا متناقضات الحاكم بامره الفاطمي.
2- 35. اثبتنا هذا الموقف الحكيم الرائع لام المؤمنين (ض) في كتاب (ام سلمة) و عسي ان نخرجه عما قريب، فانه يضع سيرة ام سلمة و يعرضها عرضا واضحا.

أخلني! ففعل؛ فقال المغيرة: ان النصح رخيص و أنت بقية الناس و أنا لك ناصح و أنا أشير عليك أن لا ترد عمال عثمان عامك هذا، فاكتب اليهم باثباتهم علي أعمالهم. فاذا بايعوا لك و اطمأن أمرك، عزلت من أحببت و أقررت من أحببت؛ فقال علي: و الله لا اداهن في ديني و لا اعطي الرياء في أمري. قال فان كنت قد أبيت فانزع من شئت و اترك معاوية، فان له جراءة هو في أهل الشام مسموع منه، و لك حجة في اثباته فقد كان عمر ولاه الشام كلها، فقال له لا و الله لا أستعمل معاوية يومين أبدا).اعتقد أن المغيرة لم يبايع حتي الآن، لأنه كان مع الجماعة العثمانية. لم يكن الا دسيسة (1) من قبل الامويين، تستطلعه رأيه فيهم بطريقة لبقة، و قد فهم كل ما يود أن يفهم، و بالاخص فيما يتعلق بمعاوية. و ربما شهد لهذا أن كلامه عن معاوية في شقه الاخير لا يشبه توجيه النظر بل الدفاع، و تأمل هذه العبارة منه (و لك في اثباته حجة فقد كان عمر ولاه الشام كلها) و هل الخليفة في حاجة الي حجة من عمل غيره في تثبيت رجل أو عزله، مما يعطي انه بالدفاع أشبه أو هو الدفاع بعينه.و لما أيقن معاوية بأنه لابد من عزله و ان لا رجاء و لا حيلة علي ما أنمي اليه المغيرة من الحديث. ابتدأ الصراع ففكر بالمطالبة بدم عثمان (ض) باشارة عمرو ابن العاص (علي ما ذكره المسعودي) و لم تكن فكرة شخصية لمعاوية. و من أجل هذه الغاية اجتهد بالاستيلاء علي قميص عثمان مخضبا بدمائه للتهييج و الاثارة، و قد كان للسيدة أم حبيبة (ض) اخت معاوية و للنعمان بن بشير في الاستحواذ عليه و ايصاله الي يد معاوية أثر كبير.و الذي يؤيد هذا التقدير ان فكرة الذهاب بالقميص الي معاوية جاءت

ص: 44


1- 36. راجع المسعودي في المروج ج2 ص256 فقد اثبت ان معاوية بعث الي المغيرة بن شعبة الثقفي بكتاب يقول فيه قد ظهر من رأي ابن ابي طالب ما كان يقدم في وعده لك في طلحة و الزبير فما الذي بقي من رأيه فينا.

متأخرة جدا ممنا يجعلنا لا نشك بأنها نتيجة فكرة مختمرة بدأت تجمع الخيوط لتحرك الدمي علي حسب الأدوار.و قد ساعدت الامويين الظروف، بأن هيأت في موقعة الجمل فرصة مكنتهم من أخذ الاهبة و الاحتياط لأنفسهم و الاستفادة من ضعف الجانب الذي سيستقبلونه بالكفاح. و الحقيقة انهم استفادوا من وقعة الجمل كثيرا حتي خدعة رفع المصاحف التي أشار بها عمرو بن العاص في صفين. قد ذكر المسعودي (ان عليا (ع) بعث رجلا من أصحابه يقال له مسلم معه مصحف يدعو الي الله فرموه بسهم فقتلوه).

اسباب فشل سياسة علي و نجاح السياسة المعادية

أري أن السبب في نجاح سياسة الامويين، لا يرجع الي الاستعداد الخارق و المقدرة الفائقة و اللباقة الممتازة، و فقر السياسة الاخري التي تعمل ضدها من هذه المؤهلات، بل الي أشياء أخري سنجتهد بتمثيلها تحت نظر الدارس.و الحق انا اذا درسنا سياسة علي (ع) و سياسة معاوية، علي مناهج علوم النفس و السياسة و الاجتماع و القانون، نري عمق سياسة علي و نفوذها و رجاحة خططه و نري أيضا كيف يبني و يهدم تبعا لنظر دقيق و تفكير موفق؛ و انما جاء فشلها من نواح:(1)ان التربية الدينية لم تشمل العرب علي وجه صحيح، و لم يعن الخلفاء بنشرها علي الطريقة الوجدانية التي اختمرت في نفس ابي ذر (ض) فقام بنشرها مجتهدا؛ و الحق أن العرب تناولوا الاسلام كطقوس يؤدونها و يحاكون في ادائها، و هم لا يبعدون في ممارستها عن ممارسة تقاليدهم الجاهلية. و قد رأينا كيف كان العربي لا يري هذه التقاليد شيئا مذكورا اذا وقفت في سبيل اغراضه. فقد سب امرؤ القيس الهه، و أكل عمر صنم التمر الخ؛ و لم يتناولوا الاسلام كاعتقاد له سيطراته الوجدانية العميقة و تحكماته الضميرية البالغة؛ و لم يؤخذوا برياضة نفسية علي تعاليم

ص: 45

الاسلام المقصودة عليه السلام (رجعنا من الجهاد الاصغر الي الجهاد الاكبر) ليكونوا في النهاية مسلمين بالمعني القرآني الذي عبر عنه أميرالمؤمنين (ع) بقوله (عظم الخالق في أنفسهم فصغر مادونه في أعينهم) و قد عرف بالدعوة اليها أفراد من مثل ابي ذر و معاذ بن جبل و رافع بن خديج.هذا سبب في ضعف التربية الدينة؛ و سبب آخر هو قيام الاسلام علي أن يأخذ شكلا دوليا الي جانب كونه دين مبادي ء و قوانين. و أعني بها أن الاسلام قام دينا تبشيريا، و انتهي دينا له طابع الدولة؛ و لذا كان السابقون من المسلمين مؤمنين بالمعني الصحيح؛ مؤمنين علي معني وجود الروح الدينية القوية. و أما أولئك الناؤون في أطراف الجزيرة، و الذين ضمهم الاسلام بسلطانه، فقد كانوا مسلمين علي معني الطقوس، و لم يتضلعوا من الايمان. هذا التعبير النبوي البالغ حد الاعجاز؛ و لذا جعل القرآن فرقا بين الايمان و الاسلام. قال تعالي: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الايمان في قلوبكم) و ان ما نقرر من تفاوت الصحابة في أطوار العقيدة، هو ما قرره القرآن بالذات فلا يقع موقعا عجبا، و اتل قوله تعالي: (الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله و الله عليم حكيم. و من الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء و الله سميع عليم. و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول الا أنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ان الله غفور رحيم. و السابقون الاولون من المهاجرين و الانصار الذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).هذه الآيات واضحة فيما نقول، و أوضح ما تكون في أن الصحابة يتفاوتون تفاوتا يشمل أساس الايمان. تأمل جيدا التعبير في جانب الاعراب (و أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله) العلم الفهم و المعرفة. و تأمل جيدا التعبير في جانب الطائفة الاخري من الاعراب (و من الاعراب من يؤمن بالله و اليوم الاخر) أي يقف عند حدود الرسوم؛ وقف طويلا عند قوله في جانب الذين غذوا بروحانية

ص: 46

هذا الدين و هم المهاجرون و الانصار (رضي الله عنهم و رضوا عنه).و تعليل هذا التفاوت أن الاسلام. كما قلنا، قام دينا تبشيريا نقي التعاليم واضح المبادي ء، و انتهي دينا و دولة؛ و بذلك وجد فيه العرب الناؤون أو الأعراب حكومة ترعي مصالحهم و دينا له أشكاله و طقوسه فاندغموا فيه في حدود شخصيتهم المكونة من عنعنات و عادات و تقاليد سابقة، فلم ينصهروا في بوتقة الاسلام. و يخرجوا سبيكة أخري بل ظلوا علي ما كانوا، بيد انهم خرجوا من حال الي حال. و شاهد هذا حكاية يرويها صاحب الاغاني في ترجمة (عمرو بن سعد يكرب الزبيدي انه قال و هو في محلة زبيد من الكوفة لصديق له في الجاهلية، كان يغتبق معه: هل لك في غبوق؟. فقال: كيف و قد نهي الله عنه، فقال عمرو: و الله لقد قرأت كتاب الله من الجانب الي الجانب فما وجدت فيه تحريما غير قوله بعد أن ذكر أنها رجس من عمل الشيطان، (فهل أنتم منتهون) فقلنا: لا، فسكت و سكتنا!..هذه القصة تشعرنا بأشياء كثيرة، كالاستخفاف و الفكاهة الساخرة، و قد وصفهم النبي (ص) فأبلغ في صفتهم قال (يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) و هذا هو السر في حض النبي (ص) الأعراب علي الهجرة اليه.و من ثم اتسعت نفسية العرب للردة، و استعت لأشياء أخري من التحزب و الانشقاق المللي.و نجد سببا ثالثا كان له أثر في عدم الشعور بروح الاسلام و عدم الشعور بمعني القومية و الامة الواحدة، و هو التعجل بالفتوح الذي نقل العرب قبل اختمار المبادي ء عندهم في أنحاء الأرض غازين، و لكن بعقلياتهم الأولي التي تفهم القبيلة قبل الأمة، و تعرف الفرد قبل الجماعة، و تفقه الاسلام علي أنه أعمال فقط، قبل أن تفقهه علي أنه ضمير و وجدان و روح.و بهذا نفسر الظاهرة الاجتماعية في كل محيط غلب عليه العنصر العربي،

ص: 47

كالعراق و المغرب و الاندلس؛ هذه الظاهرة التي هي نتيجة للروح القبلية؛ و بعجلة الفتوح لم يترك للاسلام المهلة ليفعل فعله فيها.فقد كان اذا أخذ علي (ع) لهؤلاء بالسياسة الدينية الصارمة، و هم علي غير استعداد لها وحدها سببا من أسباب الفشل.(2)سياسة علي (ع) القانونية، فلقد كان يلتمس لكل اجراآته وجوها من القانون أي دينية، و يجتهد بايضاحها قبل أن يقوم بحركة ما. و لا شك في أن طبيعة القانون غير طبيعة الظروف و المفاجآت؛ هذا سبب ثان للفشل. بينما كانت سياسة معاوية لا تتقيد بحدود و لا بأوضاع، و انما تركب كل صعب و ذلول في سبيل أغراضها. و كذلك سياسة مستشاره عمرو.و خليق بهذه السياسة أن تظفر، لأنها مشتقة من طبيعة الحوادث و من طبيعة الأطماع و من روح الاستمالة. و جدير بهذه الخطة أن تسمي سياسة (خبية) و هي ليست من دين المحافظ؛ و لذا قال عمر بن الخطاب (لست بخب و الخب لا يخدعني)و شرح هذا بأن نذكر ما جاء في كتاب (1) «تاريخ التمدن الحديث» للدكتور «شارل سنيوبوس» لما تكلم عن القيصر بطرس الاكبر، فقد علل أعماله العظيمة التي قام بها بنشأته الجاهلة العملية، بسبب اهمال أخته له حينما كانت وصية عليه تماس سلطته في الحكم. فلم يتهذب علي ضوء التعاليم الخاصة التي يؤخذ بها عادة أولياء العهد، و لم يؤخذ باحترام ما هو راسخ في البيئة الروسية، و لم يسيطر وجدان عليه من العادات أو القانون. فكانت كل هذه لا قيمة لها في جانب ميوله و أفكاره، و لا قداسة لها الا بمقدار ما تحلو له. فخرج بفكرة هدامة و قام بأعمال جريئة و فاجأ مجتمعه بمفاجآت مثيرة..و بالجملة فهذا الدور، لا يستطيع أن يقوم به لو نشأ تلك النشأة الخاصة،

ص: 48


1- 37. راجع ص 12 و 13 و 14 و 15.

التي كانت بدون ريب ستزوده بشعور خفي يعوقه كثيرا عن القيام ببرنامجه. و هذا معقول، فقد كان يقضي عليه أن يلتمس لاعماله شكليات تبرر عمله أمام نفسه قبل كل شي ء، و فرق بين أن يكون مسوقا بشعور نفسي ليبرر عمله علي مقتضي تقاليد الوسط، و بين أن يكون مبرر عمله أنه يريده فقط.هذا ميزان نستطيع أن نزن به سياسة علي (ع) و معاوية، فقد كان علي محافظا دينيا لا يمكنه أن يسوس الناس الا علي قانونه الخاص الذي يسيطر عليه، و لا يتحلل من أسره. و لذلك هو يلتمس لنفسه دائما شواهد من القانون تبرر عمله، فان لم يجدها أحجم احجام المذعور. و من ثم لا يعطي اذنه لأي ناصح مهما علم صدقه و صدق رأيه، مادام لا يتفق مع الدين أي القانون الذي يحترمه علي (ع) و يعمل به.بينما كان معاوية متحللا من هذا القيد، فلم تكن سياسته قانونية بل سياسة ظرفية. و من ثم كانت قمينة بالنجاح و جديرة بأن لا تفشل.(3)روح العراق التي كانت قبلية في ذلك العهد علي شكل و بيل فظيع، اذ كان يجمع أقواما من قبائل شتي، و جهات مختلفة تقوم في مجموعها علي التقليد البدوي القديم الذي لم يؤثر فيه الاسلام شيئا لأنه لم يهاجمه في محل العقيدة و مكان الضمير، و انما هاجمه في الاعمال الظاهرة و الشكل الصوري فقط. و لا يخفي أن البدو يكونون دائما آفة علي النظام، و يوطنون أنفسهم دائما علي الخروج و التمرد و العصيان؛ و بذلك يكونون عامل ضعف لا قوة، و سببا كبيرا من أسباب الفشل في كل حركة.هذه ملاحظة قيمة أثبتها لورانس في كتابه (الثورة العربية)؛ و بهذا أعلل كل الاضطرابات التي ثارت في محيط العرب، و أبرزها اكراه خليفة كعلي (ع) علي قبول التحكيم و تهديده بأن يفعل به كما فعل بعثمان (ض)، و لقد قال علي كرم الله وجهه في كلمة له (لا رأي لمن لا يطاع) و في كلمة أخري (لا طاعة لمن لا يأتمر).

ص: 49

بينما كانت روح الشام نظامية جدا، فقد فتحت صلحا، و بقي فيها كل الشعب الذي خضع لحكم الغساسنة الذي هو بيزنطي محض؛ فهم كانوا افقه لمعني النظام و تعود الخضوع له، بخلاف شعب العراق الذي كان مؤلفا من قبائل جديدة انحدرت من الجزيرة حاملة لروحها الوبيلة، و لم تتعود الخضوع للنظام أبدا.(4)من القضايا الثابتة أن البدوي يؤخذ بالاحتكام و الخوف و السيطرة، و بعث الرعب في نفسه و التظاهر عليه بالقوة؛ و الحضرمي يؤخذ بسياسة اللين. و جاءت هذه الحقيقة الثابتة في كل تقريرات قواد الحرب في جبهة الشام و صحراء العرب، و أصحاب الرحلات في المناطق البدوية، و هذا صحيح نظريا أيضا علي ما يقرر النشوئيون و علماء الاجتماع؛ فان البدوي يري في سياسة اللين سياسة ضعف و خور تطمعه و تستخفه بالحكم.هذه أسباب اجتمعت علي فشل (1) سياسة علي (ع)، ثم كان من تظاهر الأسباب التي قدمنا ذكرها في الكلام علي فترة حكومة عثمان (ض). و أيضا لم تكن لمعاوية ظروف علي (ع) الصعبة، فهو لم يبايع حتي يلزم ببيعته، ثم هو يطالب بباطل يشبه الحق. لأن اقامة الحدود من شأن السلطات لا الأفراد و لا الجماعات، و الا جر ذلك الي فوضي التقاضي، كما أن الشريعة جاءت (علي ما ذكر ابن نجيم في الاشباه) بأن الحكم يضاف الي المباشر لا المسبب (علي فرض أن عليا كان مسببا).فكان الذي يؤخذ، من الناس، قتلة عثمان الذين باشروا القتل بالنفس و هم

ص: 50


1- 38. السدرة السياسية لا تقاس بمقدار النجاح بل بمقدار ما تكون مقدماتها التعليلية صحيحة لان الفشل كثيرا ما يكون نتيجة مفاجأة لم تكن في الحسبان، كما وقع لعلي (ع) بالفعل في حركة الخوارج و لولاها لكان نجاحه مضمونا او محتوما، و دليل هذا ان السنيور (مازيني) صاحب الكلمة الخالدة (مفاتيح البحر الابيض سقطت في البحر الاحمر فالفوز لمن يظفر بها) و هو صاحب محاولة فتح الحبشة التي انتهت بحادثة (عدوة (الشهيرة اي انتهت بفشله و هو هو صاحب الدماغ السياسي الكبير.

ثلاثة فقط لا أن يؤخذ بدمه أهل المدينة و الكوفة و البصرة و مصر، و بعبارة أخري الأمة بأسرها. و من ثم تظهر مغالطة الذين نادوا بدم عثمان و طالبوا به، و ليست الشريعة جاهلية علي الانتقام و الثأر.و الحق أن الأشتر النخعي خلق أكبر مشكلة لعلي (ع) ببدئه بالمبايعة قبل أي شخص آخر، و هو من الذين عرفوا بالثورة علي عثمان، و بذلك يكون قد حمل عليا (ع) الحرم كاملا؛ و لقد فهم هذا علي بدليل جوابه له (ليس ذلك اليك انما هو لأهل الشوري و أهل بدر فمن اختاروه فهو الخليفة، فنجتمع و ننظر في هذا الامر).و سوي هذا فان ما انتهي به الحكيم، كان له أثر كبير في الخطة الحاسمة و المعركة الفاصلة، فقد جمع أهل الشام حول أميرهم، و مكن عندهم وجهة نظرهم، علي ما في طبيعتهم من احترام للسلطة.و بالعكس من ذلك كله كان الأثر في أهل العراق، فقد تفرقوا و تنازعوا و اختلفوا و خرجت منهم خارجة و بيلة الشأن، علي ما عندهم من استعداد بالفطرة. و هنا ينكشف لنا شي ء آخر في علي (ع) و هي اشخصية النافذة، فقد وقف علي الخوارج و هم في أشد تمردهم، فما أن رأوه في (حروراء) حتي دخلوا الكوفة، و هذا كما أري لمحل الشخصية الفعالة.و لقد أخطأ من ظن من المستشرقين و سواهم، أن الذي أظفر معاوية بهذه الحكومة هو عمرو بدهائه و غفلة ابي موسي. و الحقيقة أن الذي أظفر معاوية و أكسبه النجاح، هو ابوموسي نفسه الذي لم يكن ما أتاه غفلة وافونا، بل سوء نية و مكر حيث اقترح اقالة علي (ع) و ترشيح عبدالله بن عمر. فقد يحتمل أن يكون غفلة لو كان يعمل لحساب علي كرم الله وجهه، و لكن اما و هو يسعي لتشريح عبدالله بن عمر باستغلال الظرف فمما لا يحتمل أبدا.علي أنه أسقط في يده، لأن الناس لا يفكرون بترشيح شخص ثالث جديد و هم يسعون الي الصلح. و أري أن عمرا لم يظهر في هذا الموقف أي أثر من الدهاء،

ص: 51

فقد كان كل ما عنده انه ردد كلاما ردده كل الناس، و لم يستطع أن يجي ء بعقدة سياسة أو يخلق مفاجأة. بل الذي أوجد مفاجأة حقيقية هو ابوموسي بالترشيح المباده الذي وقع عند عمرو موقع الدهشة، و الذي جعله يفكر بشي ء آخر، يفكر بأن يعمل لحساب ولده عبدالله، و ابنه هذا له مكانته و دينه و علمه، و الذي يظهرنا علي مبلغ أخذه بهذه المفاجأة و انصراف رأيه تزيينه لابي موسي في ابنه و ثناؤه عليه، و الحق أن عمرا اتتن بهذه الفكرة و داخله الطمع، و أخذ بالفكرة الي مدي بعيد.و اعتقد لو أن أباموسي كان حسن النية من جانب علي، لما استطاع عمرو أن يكسب شيئا و لا أن يحيك، و هو يعتمد علي كلام مهلهل مله الناس من كثرة ما مضغوه و سمعوه من عائشة و طلحة و الزبير و معاوية و سائر أنصار الاموية و خصوصا اذا علمنا أن حديث الخطب بين ابي موسي و عمرو لم يعتمده كثير من المؤرخين، فأبوموسي ليس مغفلا كما يقولون بل من ذوي الاغراض و الأحابيل.

الخوارج و نظرية الخروج

في عبارة مأثورة يقول أميرالمؤمنين (ع) لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).هذه كلمة تعبر أحسن تعبير و أصدقه، عن مقدار احترام علي (ع) الخصومه السياسيين، اذا كانت خصومتهم قائمة علي مبدأ حقيقي و عقيدة موفورة و كرامة و دين. ثم هو يزيد في تقويم هذه الخصومة و ينظر اليها نظره الي شي ء نبيل جدير بكل تقدير. و العجيب أن يتسع صدره العظيم الخصومة أقضته و هيأت الخصمه سبيل الظفر، لأنها تقوم علي شعور صادق و تزود بحاسة مخلصة. و لكن ليس ذلك بعجيب عند ذوي المشاعر الصادقة التي تعمل للحق، و تجاهد في سبيله، و تضحي لاعلاء كلمته. ثم نراه في الكلمة نفسها يبدي امتعاضه وازوراره النفور ممن يركب متن المنازعة و يلح لغرض أو هوي. فهو لا يخدم مبدأ و لا يدافع عن

ص: 52

قضية و لا يحامي عن اجتهاد مخلص. و انما يتمادي جموحا، و يطاول طموحا و يغالب شنآنا. و في لحنها تدلنا علي موضع النبل في نفسه و علي فطرة التقويم للمصارعة في الحق. و هي خلة الزم ما تكون للزعيم المسيطر، اذ بذلك يترك للآخرين حرية الرأي و لا يستضيق الا بمريب.هذا بعض من عناصر علي (ع) الكريمة النادرة التي جعلت المصطفي (ص) يغرس في تربة نفسه العالية الزكية نواته السماوية، ليعطي به ثمرا أي ثمر، و يجي ء الوحي و التنزيل مشروحا علي لسانه.ما لنا و للحديث عن علي (ع) فيما يخرج عن حدود تشخيص الأسباب التي أدت الي الزلزلة فالبر كان.و نستقبل الآن درس نشوء نظرية الخوارج التي لا نشك في أنها منتزعة من صميم الفكرة العربية، و ظللت كذلك و ما اختلطت بأشكال غريبة عن المحيط. و قد انبنت في اكبر ظني علي استشعارات نفسية، كبر عليهم معها أن يرضخوا للتحكيم، بعد تقدمات وجهوها في مدافعة الباطل، و بذلوها رخيصة طيبة في سبيل الله الذي لم يخالجهم شك في انه كذلك؛ و التحكيم معناه أن للخصوم شبهة حق، و هو ما لا يسمحون لأنفسهم بأن يمر طيفا في الخيال أو خيالا في النفس.و لا أدل علي هذا من أنهم يتولون عليا (ع) الي ما قبل التحكيم. و نحن اذا علمنا ان عليا لم يكن من رأيه بل أكره عليه، و اذا علمنا أن نظرية الخوارج مبالغة في انكار هذه الحكومة،خرج لنا أنها تطرف و اغراق في نظرية علي (ع)،أخذت بعد ذلك صوغا دينيا، و قامت علي شبهة من الحق، و يشهد لهذا الذي ندعيه ما جاء في كتب التاريخ (أنه لما كتب شروط الصلح عاد معاوية بجنده الي الشام، أما جند علي فان الاشعث بن قيس خرج بكتاب الصلح يقرأه علي الناس و يعرضه عليهم يقرأونه حتي مر به علي طائفة من بني تميم، فيهم عروة بن أدية و هو ابن ابي بلال، فقرأه عليهم قال عروة أتحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم الا الله الخ)، و اذا أوغلنا في درس شخصيات الخوارج، وجدنا أكثرهم

ص: 53

من الرجال الذين عرفوا ببغض معاوية و الاستخفاف به الي حد منكر، قبل الفكرة ذات الطابع الخارجي الخاص، أمثال شبث بن ربعي التميمي،، فمما لا نشك فيه أن فكرتهم كانت وليدة الحمية للرأي و الانتصار للنفس.و في الحق أن الخوارج قبل الخروج، كانوا أكثر ما يعرف اخلاصا لعلي (ع)، و قد ظل له في أنفسهم فراغ كبير، و لكن الفكرة الجديدة تركزت عندهم، حتي طغت علي كل مناطق النفس و معالمها، و راحوا منها تحت تخدير و اعصار.و بذلك يتضح لنا أن التحكيم أوجد أحزابا ثلاثة في جند علي (ع) (أ) حزب مشتط في قبوله، و علي رأسه الاشعث بن قيس و أبوموسي الاشعري و هو يضم الخائنين لعلي (ع). (ب) حزب متطرف في رفضه، و علي رأسه عبدالله بن وهب. (ج) حزب معتدل لا يرفض التحكيم اذا قام علي اعتبارات صحيحة، و علي رأسه علي (ع).و عندنا أن هناك أسبابا أخري أعانت علي نشوء هذه النظرية، و من أهمها اعتزال طائفة من الصحابة و قعودهم عن المبايعة و الدخول في جماعة المسلمين. فسهل للناس سبيل الانفراد بالرأي. و لا يفوتنا أن نذكر الان أن الخوارج الذين أخلصوا في أوليتهم لعلي (ع) عادوا فصرعوه.و يهمنا أن نسجل احتياط هذا الامام الفذ للدين و أهله، و قد رأي في مصرع عثمان (ض) سابقة عاني المسلمون من شرها كثيرا، و استغلها أرباب الهوي أقبح استغلال، و قد خاف أن يقوم حزب له هذه الشارة و الطابع بالنسبة اليه فيطالب بدمه، فقال و هو ينظر الي المستقبل المظلم نظرة الحاني و المسلم الواله من أن تمزق هذا الدين زوبعة الاعاصير. فقال (يا بني عبدالمطلب، لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل اميرالمؤمنين، لا تقتلن بي الا قاتلي انظر يا أبامحمد اذا أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة) و كذلك كانت خاتمة هذا الامام الكبير التي عبر عنها أحسن تعبير بقوله (ع) (ليعظكم هدوئي و خفوت اطرافي، انه أوعظ لكم من نطق البليغ).

ص: 54

الانقلاب الأموي أو الثورة علي حكومة الخلفاء

و يبدو للمتأمل أن توتر الخواطر، و شيوع الاستنكار في أواخر عهد عثمان (ض) ثم الثورة التي صرعت الخليفة أو الملك، مازالت تدور في التفافات ذات موار و ميد، حتي أتت علي خليفة آخر و طغت علي المدائن و الامصار، و لم تستقر استقرارا حقيقا الا بقيام عبدالملك بن مروان علي يد الحجاج رجل الحديد و الدم. كان حادثا انقلابيا كبيرا، أفاد العرب حين أشعرهم بوجود الامة من وراء القبيلة، و كان يشبه أكبر شبه الثورة الفرنسية الكبري، لا من حيث المقدمات و النتائج، بل من حيث الضبط و النظام و المصارع و تولد النزعات و تألب الثورة علي نفسها أحيانا، حتي بدت كالحية المحرورة تعض نفسها و تعض كل شي ء. و ضعف الرجالات القائمين وسط هذه الزعازع عن ضبط العاصفة و تسييرها علي المقتضي اللازم.و من ثم يتضح خطأ كل الذين و سموا سلطة علي (ع) بالسلطة الضعيفة، فان من طبيعة الثورات أن لا تستقاد الا في آخر مرحلة، و قلما يوفق القائم وسطها مهما كانت الامة مهذبة و منزلتها في سلم الارتقاء عالية. و بالأخص اذا كانت الثورة تتعاكس عنده تياراتها، فلقد يسلم من غولها القائم في الجوانب أو علي الضفاف، و أما سلامة القائم وسطها في حالة الاعصار، فمما لم يصح في التاريخ أبدا و لا يصح في التقدير أيضا، و من هنا يظهر خطأ المقارنة بين علي (ع) و معاوية الذي لم يكن يستجوب (1) في شي ء و علي يستجوب في كل شي ء، و فشل الاول المحقق لطبيعة الظروف، و نجاح الثاني المحقق لطبيعة الظروف أيضا.و لقد قلت فيما سبق أن الثورة لا تقاد الا في المرحلة الاخيرة، فلم يكن عجيبا أن تسلس قيادها في يد معاوية. و ربما كان انبعاث الخوارج الذي كان علي غير

ص: 55


1- 39. و من ناحية اخري لم تكن لمعاوية صفة الخصم بالذات بل كان له صفة المتظلم الذي يطلب النصفة من الخليفة، و بذلك يكون عمل للخصومة بدون ان يثير من حوله شبهة من الانتقاد. و بدون تعليق فان من الظاهر ان الموقف حرج جدا، و من هذا يظهر خطأ المقارنة بين الرجلين.

انتظار و مفاجئا يشبه من كل وجوه انبعاث الحزب الجمهوري الذي نادي بسقوط الملك و كان غير منتظر؛ فقد قال الدكتور «سنيوبوس» في كتاب (1) «تاريخ التمدن الحديث» في الكلام عن دستور سنة 1793.«ان الدستور عام 1791 أبقي علي الملك و الوزراء؛ و مع انه صيرهم ضعفاء فقد حاولوا أن يعترضوا علي مجلس التشريع بأنه أراد النهوض بكل السلطة. و بحث شؤون الكهنة و المهاجرين وعدهم أعداء، و سن القوانين ضدهم، فأبي الملك التصديق عليها و رفضها، و قام خلال ذلك حزب جمهوري قليل الانصار الا أن له الكلمة النفاذة في أهل ضاحية باريس فهاج يومئذ و استولي علي التويلري و أكره المجلس علي المناداة بخلع الملك و استدعي مجلسا جديدا و هو الكونفانسيون في 10 اغسطس 1792 الخ». و ليس عندنا ريب في أن هذه الثورة الانقلابية الكبري في محيط العرب كانت من عمل الامويين و لقد استطاعوا أن يثيروها و استطاعوا أن يوجهوها لصالحهم و فائدتهم، و أعتقد بأن كل قاري ء لا يخالفني في أنها لم تقم علي مبادي ء نبيلة كالثورة الفرنسية تبررها مهما جاءت قاسية؛ بل كانت علي عكس ذلك، اذ فصمت اطراد الروح القرآني و ذبذبت تسلسل الدين و وضعت حدا لحكومة القرآن و لا أكتم هنا موافقتي للاستاذ الأمركي (مير) في ملاحظة قيمة و هي (أن القرآن لم يكن قانون الدولة الا في حكومة الخلفاء) و هذه حقيقة لا ريب فيها، فان الحكومات الأخري كانت تتستر بالقرآن و لكن من ورائه أهواء الملك و ارادته، فالقرآن هو القانون الصوري أو الشكلي، و الارادة الملكية هي المادة و الموضوع أو هي كل شي ء.و قد يستبعد كثيرون نسبة هذه الثورة الانقلابية الي العصبة الاموية و انها كانت مقصودة منهم، و لكن عندنا من النصوص و القواطع ما لا يحتمل معارضة أو مناصبة، و اني أنصح لكل الذين يشتغلون بتأريخ هذا الظرف أو هذه الفترة أن يقدموا بين يدي درسهم كتاب (النزاع و التخاصم فيما بين بني أمية و بني هاشم)

ص: 56


1- 40. راجع صحيفة 86 و ما بعدها.

لتقي الدين المقريزي، فقد كشف غوامض لا يتسق البحث علي أكمل وجوهه أو أدني وجوهه الا بتحقيقها، و المقريزي بعد ذلك المؤرخ الناقد الذي لا تفوته فائتة و لا يدخل عليه، أو هو الناقد التاريخي الفذ في كل ما عرفل الأدب العربي من مؤرخين بعد استاذه ابن خلدون. و نحن ننقل عنه الآن طرفا مما نستجلي معه صفحة التاريخ التي بين ايدينا و التي تهمنا بنوع خاص قال - لله در من قال -:عبد شمس قد أضرمت لبني ها شم حربا يشيب منها الوليدفابن حرب للمصطفي و ابن هند لعلي و للحسين يزيدو قد كان من الأمويين عمال في زمن أبي بكر و عمر و لم يول أحد من بني هاشم. فهذا و شبهه هو الذي حدد أنياب بني أمية و فتح أبوابهم و أترع كأسهم و فتل امراسهم، حتي لقد وقف أبوسفيان بن حرب علي قبر حمزة (ض) فقال (رحمك الله أباعمارة قاتلتنا علي أمر صار الينا).هل بعد قول ابي سفيان علي قبر حمزة (ض) ما يترك شبهة في أن هناك حزبا أمويا يعهمل و يستفرص الفرص بدون رادع و لا وازع، و قد لاقي أنصارا و أثر في سياسة الدولة تأثيرا كبيرا قبلا أن تنتقل اليه مقدراتها. و نقدر أن الحزب قد أحكم الخطة للانقلاب و لكن لم يجد الفرصة الا في أواخر عهد عمر (ض) من حيث ان المسلمين متجهون للتوسع و الفتح، و عمر هو العقبة الوحيدة في سبيل تحقيق الانقلاب الذي يعمل له الامويون فاغتالوه. و لابعاد الشبهة استخدموا فارسيا ليسارع الظن الي.نه بمحض الانتقام؛ و هذا الاختيار من احكام الخطة.و غاية هذا الحزب الرئيسية جمع مقدرات الحكم في أيدي الأمويين و الاستيلاء علي السلطة العليا بأية أسباب كانت، منذ وفاد النبي (ص). و كما سبق كان لهم تأثير كبير في سياسية الدولة من طريق غير مباشرة في الأكثر، و أحيانا من طرق مباشرة. و يكفي أن نعلم، كما يحدثنا المقريزي، انه لم يول أحد من بني هاشم في زمن ابي بكر و عمر رضي الله عنهما. و لكن بما انهم كانوا مكروهين من الطبقات الدينية كافة لم يستطيعوا أن يأخذوا الا خطة العنل تدريجيا. و بما أن

ص: 57

المسلمين أسلسوا قيادهم لغير الهاشميين و تعودوا الخضوع لغير آل البيت النبوي، تقوي أمل الاموين؛ و كان هذا اكبر موطي ء للانقلاب الذي يسعون الي احداثه. و في نظري أن كل بلبلات و بليات المحيط الاسلامي في عهد الخلفاء يمكن تعليلها بالأصبع الأموية.و هذه نتائج انتهي من قبلنا اليها المستشرق (1) الالماني (ماربين) في كتابه (السياسة الاسلامية) قال:يلزمنا الالتفات قليلا الي تاريخ العرب قبل الاسلام لنفهم الدور الذي لعبه الامويون فانا نري قرابة قريبة بين بني هاشم و بني أمية و كان بينهم نفور شديد و حصلت بينهم مجالدات كبيرة و كان بين الطرفين ثارات، بلغت نهايتها بظهور الاسلام و لكن تم للنبي (ص) الفوز الحاسم بفتح مكة، فدخل الامويون في في طاعته، و كانوا علي استعداد للايقاع ببني هاشم حقدا عليهم، فلما توفي النبي (ص) اتسع لهم المجال لذلك فسعوا:أولا أن لا يكون الخليفة (2) علي أصول ولاية العهد و لم تدع شدة مخالفة بني أمية أن تكون أكثرية الآراء في الخلافة بجانب بني هاشم، فكان هذا أول فوز ظفر به بنوأمية. و بسبب الخلافة تمكنوا من الحصول علي مقام منيع، فشقوا الطريق لمستقبلهم و عملوا علي توطيد مكانهم عند الخلفاء (3) حتي أصبحوا ركنا من أركان السلطنة الاسلامية، و كان هذا فوزا آخر تم بوصول عثمان الي العرش الذي به أصبحوا متفوقين تفوقا مطلقا، فاضطهدوا خصومهم القدامي باسم الدين مما حرك بني هاشم للصل باعتبارهم الهدف الثابت و انتهي الأمر بالانقلاب و الثورة،

ص: 58


1- 41. راجع ترجمتها الفارسية في مجلة الحبل المتين السنة الثامنة عدد 28 من سنة 1911.
2- 42. رأينا كيف يحدثنا المسعودي عن الانصار بأنهم ما سكتوا عن حقهم في الخلافة الا لانهم انشقوا علي انفسهم و خشي الاوس اذا هم عاضدوا سعدا ان يفوز بها الخزرج و يعودوا الي احنهم فنقلوها الي يد اخري راجع المسعودي ج 2 ص 196.
3- 43. يفسر هذا ما ذكره المقريزي من ان عمالا عديدين كانوا من بني امية في عهد الخلفاء و لم يول احد من بني هاشم. و منع بني هاشم يحمل علي التساؤل الشديد؟.

و سجدوا لأنفسهم الفوز النهائي بصلح الحسن. فكان معاوية من جهة يسعي لتقوية ملكه و من جهة أخري يسعي لخضد شوكة بني هاشم و لم يفتر دقيقة واحدة عن محوهم. و مع أن الحسين (ع) كان تحت نفوذ أخيه الحسن (ع) لم يطع بني امية و أظهر مخالفته لهم، و كان يقول علنا لابد أن أقتل في سبيل الحق و لا أستسلم للباطل. و كان بنوامية في اضطراب منه. و بقي هذا الاضطراب الي أن مضي الحسن و معاوية، و جلس يزيد في مقام أبيه علي أصول ولاية العهد و أبطلت المراسم الخاضعة لأكثرية الآراء، و بما أن الحسين (ع) لا يطأ أرضا الا تولد فيها النفور لبني امية و هو مقدمة الثورة، أحرجه يزيد واقتنصه و لكن بعد أن ترك تربة حمراء و وشيجة دامية، و كانت هذه أكبر الغلطات السياسية الأموية التي محوا بها اسمهم و رسمهم من صفحة العالم الخ...

من يزيد؟

لنفهم مصرع الحسين (ع) يلزمنا أن نعرف من يزيد؟.و ان أهم ما يلزمنا أن نعرف هنا من أمر يزيد ناحيتان: نشأته المسيحية أو بالاحري التي كانت أقرب الي المسيحية، و عقليته التي كانت في نظري غيبية جدا، و تبعد كثيرا عن العقلية الواقعية العملية التي امتاز بها ابوه.(1)يبدو مستغربا، بادي ء ذي بدء، أن نعرف ان يزيد نشأ نشأة مسيحية تبعد كثيرا عن عرف الاسلام، و تزيد بالقاري ء الدهشة الي حد الانكار. و لكن لا يبقي في الامر ما يدعو الي الدهشة اذا علمنا أن يزيد يرجع بالامومة الي بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تدين بالمسيحية قبل الاسلام، و من بديهيات علم الاجتماع أن انسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمنا طويلا، بين معاودات نفسية و رجعات ضمير و ذكريات وجدانية؛ و بالاخص اذا كانت عقيدة سيطرت علي الافكار و العادات و العرف العام.

ص: 59

و التاريخ يحدثنا أن يزيد نشأ فيها الي طور الشباب أو حتي جاوز طور الطفولة. و معني هذا أنه أمضي الدور الذي هو محط أنظار المربين و عنايتهم، و بذلك ثبت علي لون من التربية النابية تمازجها خشونة البادية و جفاء الطبع. علي أن طائفة من المؤرخين (1) ترجح و لا يبعد أن يكون صحيحا، أن من أساتذة يزيد بعض نساطرة الشام من مشارقة النصاري، و ربما شهد لهذا التقدير ما جاء تاريخ الشام لابن عساكر (من أن يزيد كان يعرف طرفا من الهندسة) هذا الفن الذي كان مجهولا من العرب. مما يضعنا أمام الأمر الواقع الذي يتسق تفسيره في علي هذا الوجه. و لا يخفي ما يكون لهذه التربية من أثر سي ء فيمن سيكون ولي أمر المسلمين.و هذه التربية تصحح الرواية الادبية القائلة بأن يزيد أراد كعب بن جعيل علي هجاء الانصار. فاستأبي عليه تأثما لمقامهم الديني ودله علي الاخطل التغلبي الشاعر النصراني، و من ثم اطردت الصداقة بينهما. و نحن نشك في صحة هذه الرواية و نعزو الاتصال بينهما الي مكان التربية عند يزيد، فقد كان يتزيد في تقريب المسيحيين و يستكثر منهم في بطانته الخاصة، لما انه يقع بينهم علي من يمتزج به و ينسجم معه (علي ما يقولون). و لقد اطمأن اليهم حتي عهد بتربية ابنه الي مسيحي علي ما لا اختلاف فيه بين المؤرخين. و لا يمكن أن نعلل هذه الصلة الوثيقة و التعلق الشديد بالأخطل و غيره الا الي مكان التربية ذات الصغة الخاصة و اللون النابي.اذا كان يقينا أو يشبه اليقين، أن تربية يزيد لم تكن اسلامية خالصة أو بعبارة أخري كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفا بما عليه الجماعة الاسلامية، لا يحسب لتقاليدها و اعتقاداتها أي حساب و لا يقيم لها وزنا، بل الذي يستغرب أن يكون علي غير ذلك.لذلك أعتمد رواية اليعقوبي المحققة (من أن يزيد أمر ابن زياد بقتل الحسين (ع)، و أشك في غيرها، و أميل الي أنها تنصل من يزيد لما رأي عظم ما جنت يداه،

ص: 60


1- 44. منهم الاب لامنس في كتاب (معاوية) و كتاب يزيد.

و انما اعتمدها (1) المؤرخون المعتدلون تخفيفا لحمي المأساة. و اعتمد ما رواه جماعة من المؤرخين أيضا من أن يزيد أمر القوة العتربية بمغادرة البلاد الرونانية كقبرص. في مقابل مبالغ من المال. و في هذا تآمر بالحكومة و الامة و الدين، يفسر لنا السر في التألب علي يزيد دائما.(2)من الجدير أن نصرف أن يزيد يتجه في استعداده العقلي وجهة غيبية، و يبعد كثيرا عن العقلية الواقعية التي تقيس الحقائق بما يلابسها، و لا تنتقي من علائق الواقع و حدود الراهن. و الذي يدلنا علي محل هذا الاستعداد عنده واقعة ذكرها المؤرخون، و هي فيما اثبتوا.ان معاوية قال يوما لجلسائه: ما أعجب الأشياء؟فقال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء و الارض لا يدعمه شي ء من تحته و لا هو منوط بشي ء من فوقه.و قال آخر: حظ يناله جاهل، و حرمان يناله عاقل.و قال ثالث: أعجب الأشياء ما لم ير مثله.و قال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن يغالب المبطل المحق (يعرض بعلي و غلبة معاوية).فقال معاوية: بل أعجب الاشياء أن يعطي الانسان ما لا يستحق اذا كان لا يخاف (يعرض بمصر التي أخذها عمرو دون ما عناء و لا تعب).نري في جوابه لونا من الانصراف الي القضايا الفلسفية، و تعلقا بالتأمل التجريدي شأن العقلية الاسيوية التي تمتاز بهذه الظاهرة و لها بروز و تسيطر شديدان. و لا عجب اذا اتخذنا هذه الواقعة دليلا علي محل هذا الاستعداد عند يزيد، فانها بادرة و خاطرة و دائما تكون البادرات معبرة عن اتجاه التفكير و سير التعقل.

ص: 61


1- 45. راجع تاريخ الامم و الملوك لابن جرير و الكامل لابن الاثير فقد ذكر ان يزيد سر بقتل الحسين (ع)، و وصل ابن زياد، ثم لم يلبث الا يسيرا حتي بلغه بغض الناس له و لعنهم؛ فندم.

و انما نري هذه الظاهرة جديرة بالتحري و مهمة في نوع ما نأخذ به، من حيث انها تعلل لنا امرين:(1)استهتار يزيد و اسرافه في الاستهتار، و امعانه في الفحشاء، رغم صبغة الوسط الدينية التي كانت جديرة أن تضع له حدا لمباذله و استهتاره؛ و لكن مما لا يحتاج الي اثبات أن من مستتبعات العقلية الغيبية الاغراق في أي اتجاه انصرفت اليه. و هذه ظاهرة في حياة العرب أو الاسيويين عموما، فهم اذا صلحوا أغرقوا، و اذا تبذلوا تناهوا.(2)الخطأ و التصلب له، فان في حياة يزيد سلسلة من الأخطاء؛ و انما تعلل بمكان هذه العقلية. فان من صفاتها الاعتماد علي الاستنتاج دون الاستقراء، لذلك يكون صاحبها عرضة للخطأ المستمر و التعلق بالخواطر و امعانا في امضائها.فقد كان من الاخطاء الجسيمة اذا أن يرشحه معاوية لولاية العهد من بعده؛ و هو يعرف من تناقض حاله مع حالة الوسط؛ و مهما حسنا النية بمحاولته هذه، فاننا لا نستطيع الا أن نأخذ بخطئه الذي أتاه عن عمد و قصد و هو يعلم نتائجه. و لعل هذه اكبر أخطاء معاوية.و من حق التاريخ علينا أن نسجل علي معاوية خطأين كبيرين:(1)امعانه بمغالبة علي (ع) حتي ارتكب ما لا يغتفره الاسلام من دفع الجزية الي ملك الروم، و لو كان حقيقة يطلب دم عثمان، و هي حادثة قضائية بحتة، لما سخر نفسه رغم هذا، لا دامة الصراع.(2)عهده بالامر من بعده الي يزيد، و هو ينكر منه أكثر مما يعرف.و نحن في هذه العجالة لا نعني بأن نعطي رأيا في معاوية، فقد كفانا و كفي كل دارس حفيده معاوية، مؤونة الرأي و قطع الحكم.

ص: 62

حركة الحسين من الوجهة النقدية

قبل أن أزايل موضوعي و أختتم المقدمة، أحب أن أتعرض لوهم وقع فيه جماعة من المؤرخين، و ان كان بحث هذا الخطأ و تفنيده، ليس بذي أهمية في نفسه. حيث لا يتماسك مع بداهة النظر الفاحص.تذهب طائفة من المؤرخين و المتشرعين الي تحميل الحسين (ع) نتائج خطوته؛ فقد قال أبوبكر بن العربي (ان حسينا قتل بسيف جده) و لقد أكثر من التعلق بهذا متأخر و المؤرخين و بالأخص المستشرقين، و عندي أن حكما، كهذا الحكم، نتيجة لعدم التثبيت و درس كل المستندات التاريخية؛ فان من يأخذ (ذيل الامالي لأبي علي القالي) يجد فيه كيف لعب معاوية دور المبايعة ليزيد. و لا يعنيني شي ء من هذه الرواية الآن سوي ما جاء فيها من أن الحسين (ع) و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير تشاوروا فيما بينهم لمن يكون الكلام والرد علي معاوية، و قد كان النظر الي الحسين، بيد أنه ترك الكلام لابن الزبير.حركة التنصل التي أتاها الحسين نتدعو الي التساؤل، و بالأخص اذا علمنا أن هذا المجلس كان في مسجد مكة، و كان علنيا و هو موقف له ما بعده. و معني التصدر للرد و المدافعة في موقف خطير كهذا عن المزاحمين في الترشيح علي العرش، تقديم الزعيم في صاحبه بلا ريب؛ فتنصل الحسين (ع) اذن معناه زهده في الحكم، و لكن رغم زهده ينكر أن يكون يزيد أميرالمؤمنين أو ولي أمورهم.الي هنا نكون انتهينا الي أن الحسين ان لم يكن زاهدا في الحكم بالمعني المفهوم من هذا اللفظ، فلا أقل من أنه لم يكن مبالغا في الزحام.و من وجه آخر، ثبت لمفكري المسلمين عامة في ذلك الحين أن يزيد بالنظر الي خلقه الخاص و تربيته ذات اللون المتميز، سيكون أداة هدامة في بناء الحكومة و الدين معا؛ و عدوا ولايته منكرا كبيرا، لا يصح للمسلم السكوت معه أبدا، و من واجبه الجهر بالانكار، اذن فحركة الحسين (ع) لم تكن في حقيقتها ترشيحا لنفسه بل للانكار علي ولاية يزيد أولا و بالذات، بدليل قول الحسين (ع) للوليد لما

ص: 63

طلبه للبيعة: ان يزيد فاسق مجاهر لله بالفسوق. و كما قلنا كان هذا الشعور و الاستياء عاما في المسلمين، حتي قال عبدالله بن همام السلولي:فان تأتوا برملة أو بهند نبايعها أميرة مؤمنينااذا ما مات كسري قام كسري نعد ثلاثة متناسقينافيا لهفا لو أن لنا ألوفا و لكن لا نعود كما عنينااذا لضربتمو حتي تعودوا بمكة تلعقون بها السخيناحشينا الغيظ حتي لو شربنا دماء بني أمية ما روينالقد ضاعت رعيتكم و أنتم تصيدون الأرانب غافليناو الخطأ الكبير الذي يقع فيه كتبة التاريخ التحليلي، انهم يقيسون النفسيات و شعور الجماعات التاريخية بقياس استنتاجي عام بدون اعتبار لقياس الفارق.فان المسلمين، و قد توحدت عندهم عملا السلطة الدينة و الزمنية، كانوا لا يرضون بالامام الاعظم أن يكون في صفات يزيد أبدا. و هل يكفي في الخليفة أن تبايعه بطانته و حاشيته. فخروج الحسين (ع) كان رغبة المسلمين عامة، و من ثم ترك هذا الصدي و الرجع البالغين، حتي زلزلا عرش الامويين و ساقاه الي الانهيار. و لنلتمس شاهدا عصريا لهذا الذي نذكر؛ فقد روي ابن سعد في ترجمة عبدالله بن حنظلة انه بايع (1) أهل المدينة ليالي الحرة علي الموت و قال:(يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا علي يزيد حتي خفنا أن أن نرمي بالحجارة من السماء، ان رجلا ينكح الامهات و البنات و الاخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لا بليت لله فيه بلاء حسنا). و بهذه المناسبة أذكر أن توحيد السلطتين، هو السبب في اثارة هذه القلاقل المستمرة، و لو كان معاوية أكثر تعقلا، و هو يعلم من خلائق يزيد، لعمل علي الفصل بين السلطتين، بحيث تجمعان للكف فقط، و ان كان يترتب

ص: 64


1- 46. راجع الطبقات الكبري.

علي نظام كهذا، ايجاد سلطتين أو أكثر في الدولة، غير أنها تعمل متعاونة، كما هو الحال في نظام السلطات الحديث القائم علي نظرية (مونتيسكيو).علي أن الخلفاء قد اضطروا أحيانا الي فصل السلطتين في الولايات، فقد كان يبعث الخليفة كعمر (ض) بالوالي الزمني و بالقاضي معا، بحيث لا يكون للوالي سلطة علي القاضي بل يعملان متعاونين. و هذا ممارسة لفصل السلطتين في مناطق محدودة. و يسرني أن أختم المقدمة بكلمة الاستاذ نيكلسون:(كان الامويون في نظر الدين طغاة مستبدين لانتهاكهم قوانين الاسلام و شرائعه و امتهانهم لمثله العليا و وطئها بأقدامهم و ان كانوا كذلك فلا يحل لهم أن يقتلوا المؤمنين الذين امتشقوا الحسام ضد الغاصبين لسلطانهم، و أما حكم التاريخ في هذا الموضوع اذا ما تصدينا لبحثه فلن يعدو أن يكون حكم الدين ضد الملوكية أو قضاء الحكومة الدينية ضد الامبراطورية و علي هذا الأساس يحكم التاريخ بحق بادانة الأمويين (أي في مصرع الحسين) علي أنه يجمل بنا نذكر أن انفصال الدين عن لحكومة لا وجود له في نظر المسلمين).هذه مقدمة ليس من و كدي فيها أن أتناول صحابيا، و كلهم بررة كرام؛ و انما الغرض منها أن نعرض و نفهم أسباب الانقلاب و عناصر الثورة الخطيرة في ذلك المحيط.ثم لا يسعنا الا أن نثني علي جميعهم كما وقف عليهم أميرالمؤمنين علي (ع)، و أبنهم و أرسل في كل منهم كلمة مشكورة، و دمعة حري...

ص: 65

غذي النبوة

اشارة

نحن من الحسين (ع) في دور نشأنه، أمام النبوة في دور كمالها استوائها؛ فقد ولد و النبي صلي الله عليه و سلم تتسامي به منازله و تتعالي به أبراجه. و بعبارة من صور المنظور، كان النبي كالشعاع قبل الشمس يملأ جانبا من الفضاء، ثم يذر قرنها حتي تتكور في عقابيل الأفق، فتنتظم الأفلاك، و تصل ما بين الافاق بخيوط النور.في هذا التسامي و هذا السطوع تولي النبي (ص) حسينا، و كان في فطرته الغضة كالعدسة اللاقطة، تحيل ما تقع عليه الي حيقته الاخري في وجوده الآخر.و في دخلته ارتسم النبي في طبيعته، و النبي في معناه؛ حتي ملأت هذه الصورة شعاب نفسه، فكانت له معني، و كانت له ذاتية؛ و بذلك استحياه في وجدانه و ضميره و سائر جوانب روحه. و انما يكون الايمان علي مقدار ما يثبت في النفس من حياة القدوة، فالقدوة لا يموت و انما يستحيل روحانية ندية في ذات المؤمن الذي يكون مظهرا آخر من حياته.و من ثم يكون القدوة قد عاش في وجودين، مرة في وجوده، مرة في وجوده نفسه حينما دل

ص: 66

علي الفلاح و هدي اليه، و مرة في وجود المؤمن الذي هو نموذج من الهداية و مثال من الرشاد. و بذلك تم للصحابة ما لم يتم لغيرهم حينما كانوا هياكل توزع فيهم ما كان في الذات النبوية مجموعا. و كانوا في أقرب مثل كالمصابيح الكهربائية تتناول مما وراء المنظور معناها المنظور. و كانت النبوة لهم كقوة الكهرباء تمدهم بالنور و تزودهم بالضياء، مادامت خيوط نفوسهم سليمة لم تصب بانقطاع أو وهن. و الي هذا الاشارة في قول النبي الاعظم صلي الله عليه و سلم: (اصحابي كالنجوم)، و في اضافتهم اليه (ص) سر قداستهم، و وجه الشبه في التشبيه.و الايمان ولادة ثانية للانسان، يبدأ منها انسانيته، كما بدأ بالولادة الاولي حياته. بين أن اندرج في عداد النوع الي أن استعلي عليه زمن، يكون في حساب الطبيعة، مدة من سيطرة المادة و غلبة البهيمية؛ بيد أن الصفوة من الأبشار أو اللباب تزدوج لهم الولادتان كالحسين (ع)، فكان انسانا حين كان حيا، فلم تسيطر عليه الطبيعة بل سيطر و لم ينقد لأسبابها بل انقادت لأسبابه، فكان طبيعيا أن يشكل صنفا آخر أسمي من مستوي النوع.و لقد كان النبي (ص) يمده من وراء العاطفة كما يمده من وراء النبوة، و يغمره بالحب و يسقيه من نبعة الشعور؛ حتي يجي ء حقا قدسيا لمعني قدسي، يقدم فيه المثالية العظمي التي ينشدها الانسان بالجد، فلا يخوض منها الا في السراب و الآل. و في ما يقص ابوهريرة شكل من أشكال تخليق النبي (ص) للحسين تخليقا مثاليا مدهشا، قال في حديث له (1) : (ابصرت عيناي هاتان و سمعت اذناي رسول الله

ص: 67


1- 47. ذكر هذا الحديث ابوعمر ابن عبدالبر القرطبي في الاستيعاب. و قوله «ترق ترق عين بقة» كلمة كروح الطفولة طراوة و خفة و ملاحة مرحة، و هي كناية عن صغير الجثة كأنه عين البعوضة صغرا. و ساق ابن الصباغ في الفصول المهمة ص 177 من طريق البراء بن عازب حديثا بمعناه قال: رأيت رسول الله (ص) حامل الحسين بن علي عاتقه و هو يقول: اللهم اني احبه فأحبه. و روي الترمذي في مناقبهما من سننه، و البغوي في مناقب اهل البيت من مصابيح السنة كلاهما عن اسامة بن زيد قال: طرقت النبي (ص) ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي و هو مشتمل علي شي ء لا ادري ما هو، فلما فرغت من حاجتي قلت ما هذا الذي انت مشتمل عليه؟ فكشف فاذا حسن و حسين علي و ركيه فقال هذان ابناي و ابنا ابنتي اللهم اني احبهما فأحبهما و أحب من يحبهما.

(ص). و هو آخذ بكفي حسين. و قداه علي قدم رسول الله، و هو يقول ترق ترق عين بقة، فرقي الغلام حتي وضع قدميه علي صدر رسول الله، ثم قال رسول الله افتح فاك ثم قبله، ثم قال اللهم أحبه فاني أحبه).فالنبي (ص) ختم في نفس الغلام، علي ما استودع من معاني نفسه الكبيرة بقبلة ناعمة، ثم حين قال يدعو اللهم أحبه فاني أحبه، كأنه قال للناس مشيرا الي غلامه، أنا هنا.و الحب لا يكون حبا الا اذا صاحبه الاصطفاء و الاستخلاص، و أما اذا جاء دونهما فانما هو شي ء من طفح العاطفة، فلا تبالي أني وقعت. فالنبي (ص) يحب حسينا حقيقة الحب لأنه مضطفاه، و الله يحبه لأن النبوة تركت به شفقا يعترض الأفق في مفترق الغروب. و بالتعبير بصيغة المضارع المؤكدة في معني الحال، كأنما انفصل النبي (ص) بالحاضر ليقوم منه في برزخ بين الزمانين، و يقول كلمته (اني أحبه) منبها الماضي و مسمعا المستقبل. أو كأنما توجه بوجه صوب الابدية في غير اعتبارات الزمن، ليبعث بها كلمة أثيرية أو موجة شعاعية تمر في كل جيل؛ حتي تستقر في أعماق اللانهاية، و يسمعها من كل قبيل من له في شعوره المرهف جهاز لاقط كالروان (1) الدقيق.و حب النبي (ص) ليس شيئا كالحب، بل هو شي ء كالمغنطة تترك في الشخص الآخر أسمي معانيها و أبرز ظاهراتها. ثم هي لا تتم الا اذا انتقلت بالخاصة في الشي ء، و جعلت منها خاصة في شيئين. و من ثم لا يكون شاهد الحب كلمة الحب، بل وحدة المعني في وحدة الظواهر في وحدة الوجود،

ص: 68


1- 48. كلمة من وضعنا الجديد بمعني «الراديو» و هي من مادة «رون» التي من معانيها الصوت و صيغة فعال بفتح الفاء تدل علي ما يصير بنفسه و عليه فالمفهوم من هذا الوضع المصوت بنفسه و هو وضع موافق و ان كان ليس ترجمة للملحظ في الاسم الاجنبي فان «راديو» ينظر في معناه الي الموجة الشعاعية. و قد ترجمناه بكلمة تعطي هذا المعني و هي «شعاع» بكسر الشين لأن صيغة فعال تفيد الالتقاط.

و علي هذه الوحدات الثلاث استوي (حسين (1) مني و انا من حسين). و في هذا الحديث معني لا أدري كيف أحدده؛ و لكن يجمل بي أن أتعني في فهمه بما أمثل معه لحن النبوة في حروفها. هو لون من البيان يقصد به في كلام العرب، افادة الامتزاج و الاتحاد، و كأنما حيي (ص) من الحسين في مظهرين: مظهر الرجل النبي، و مظهر الرجل المسلم. و له في المظهر الأول شكل من جاء من السماء، و في المظهر الثاني شكل من عاد اليها.و لقد أتي الحسين (ع) بمقتضي هذه النشأة المباركة انسانا أسمي، و جاء في انسانيته علي وضع أكمل، و لا بدع قد تعهدته يد النبوة و رعته عين الله.روي ابوهريرة (2) : (ان الحسن و الحسين كانا عند رسول الله و قد امسيا، فقال لهما اذهبا الي امكما، قال فهابا ان يذهبا فبرقت برقة فمشيا علي ضوئها حتي اتيا أمهما).فالحسين (ع) ابن القوات الروحية، فهي تمتد اليه بآثارها فتبدو في ملابسات المادة غريبة شاذة، بيد أنها في المنطقة الأخري: منطقة القوي، لا تعدو أن تكون ظاهرة عادية علي درجة كبري.

ص: 69


1- 49. هذه فقرة من حديث أخرجه ابن ماجة في السنن و ابن عساكر ي التاريخ و أبوالحسن الاربلي في كشف الغمة. كلهم عن يعلي بن مرة العامري انه خرج مع رسول الله (ص) الي طعام دعوا له فاذا حسين في السكة مع غلمان يلعب فتقدم رسول الله (ص) أمام القوم و بسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا و هاهنا و جعل رسول الله يضاحكه حتي أخذه فوضع احدي يديه تحت قفاه و الأخري تحت ذقنه و قبله و قال حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.
2- 50. ذكر ابن عساكر في التاريخ ج 4 ص 316 و 317 رواية هذا الحديث عن البخاري و رواه الدراقطني بلفظ ان الحسين كان عند النبي (ص) و كان يحبه حبا شديدا؛ و رواه البغوي.

المسلم القرآني

توطئه في القرآن

في مثل الطفرة ننتقل من حديث نشأة الحسين (ع)، الي موضعه حيث هو من القرآن. و الذي قصدنا بهذا العنوان أن نجعل من القرآن: كتاب الله، ميزانا قسطا للنسم، فلا يفضل الموزون الا بما يزيد به معناه القرآني، و كل زيادة ليست من طريق القرآن و لا اليه، فهي نفاية و سقاط.و كتاب الله بعد ذلك أعدل قسطاس يتراجح به الناس في معناهم الانساني، حتي رأي بعض مفسري المعني ان المقصود بالموازين في قوله تعالي: (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين)، القرآن و سائر الكتب السماوية المنزلة.فالقرآن هو الميزان (1) في يد الناس في الدنيا، لاقامة دولة العدل الانساني، و هو الميزان في يد الله في الآخرة لتكريم هذه الدولة، بما استوي فيها من الجزء السماوي الذي أعدلها لهيكل الخلود.

ص: 70


1- 51. لا يذهب بك الانكار كل مذهب فان هذا المعني يمكن ان نستوحيه من الرمز الي العدالة في السلطة القضائية الذي يعطي شكل الميزان، و قديما تعارف الناس علي الكناية بالميزان عن كتب القوانين و الاحكام؛ و قد بسطت الكلام علي هذه في كتاب «مقدمة التفسير» الذي اعني باخراجه.

و القرآن قبس علوي، سبقت به الارادة ليكون روحا أخري تتمم لقص الانسان. و هو بعد ذلك تجربة من الغيب لسياسة النوع، و اعطاء صنف من الناس أكمل منهم، أو هو تربيب (1) للملائك في هياكل البشر، ثم لا يزال يعمل عمله، بما يبعث من تياراته المطورة، حتي يمر بها في مثل أطوار الشرانق من اليرقة الي غازلة الحرير.فالمسلم القرآني أو المسلم الكامل، هو ذلك الانسان الذي عمل فيه القرآن عمله، فراح ينتج من وحي الاخلاص و الهام المحبة العامة و فيض الوجدان، شيئا كتلك الخيوط الحريرية التي تنتجها فراشة الشرانق الكريمة. و كنهاية اليرقة التي صارت فراشة حرير تكون نهاية المسلم الذي يصير انسانا ملكا (و كذلك الايمان حين تخالط بشتاشته القلوب). و بالعكس من ذلك يكون الجاحد الطاغي الذي هو في أقرب التمثيل كاليرقة التي تنتهي بدودة القطن، و كما كانت نهايتها دودة ضارة، تكون نهايته انسانا شيطانا.فهما يرقتان تشابهت فيهما الطبيعة، و لكن تخرج احداهما فراشة تنظر الي الي السماء في أغاني القربان، و تخرج الثانية دودة تنظر الي الارض في ظلامية التراب و معناة الفناء.فالقرآن اذا حل نفسا استوقد فيها مصباحه، و لكن لا يبدو نوره المشبوب الا بعد أن تحترق فيها أخلاط الوجود الظلامي، لتحلها دفعات النور أرسالا أرسالا، مثل ما نري في شاشة النوار (2) التي لا تضي ء الا بعد أن تحترق، و هي من النوار كالقلب من الانسان لا يجي ء منه شي ء حتي يستحيل بما لابسه موجودا آخر بألوان أخري. و بذلك لا يكون المسلم مشكاة فيها شمعة، بل شمعة كبيرة في مشكاة الوجود. و هذا القرآن كأنه عصا الله السحرية، لا تمتد الي شي ء الا جعلت فيه شيئا

ص: 71


1- 52. التربيب بمعني التربية.
2- 53. كلمة من وضعنا الجديد، ترجمة «كلوب» و الملحظ في الوضع المضي ء بنفسه، و له عندنا وضع آخر و هو «نوير» و الملحظ فيه المضي ء بالحقن لان فعيل تدل علي قريب منه.

منها. و ما كانت عصا موسي (ص) الا بعضا من الحقيقة القرآنية العظمي، و هي حين جاءت بشكل العصا في يد موسي (وقع الحق و بطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين)، فكيف و قد جمعت الحقيقة بتهاويلها في يد محمد صلي الله عليه و سلم، كأنها شعلة الحكمة المقدسة في الظلمة الحالكة. و لقد وقف بها النبي (ص) في أعلي سمت يعلولي اليه، كما يقوم المنار عند الشاطي ء و فوق الصخور، يقود ضوال السفن، و يهدي التهائهين في مخضو ضد اليم، الي حيث السلامة عند الشاطي ء الامين. علي مثال المنار قام النبي (ص) يرسل صوته الهادي و يمسح الظلام الحالك، بالقبس الوضاء في يمينه. و قد وقف له الفلك الدوار يصغي، و يردد صدي الصوت الالهي في فم الانسان، (ثم استدار (1) كهيئته يوم خلق الله السموات و الارض). و كان معني وقوف الفلك انه كتب للزمن ابتداء جديد، و للحياة سنة جديدة، و للتاريخ حقيقة أخري، ليقول ان الحياة بكل أوضاعها ولدت مرة ثانية، أولها محمد و القرآن، و آخرها محمد و القرآن.علي مثال المنار وقف النبي (ص)، فوق برزخ بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب، يلوح بالشعلة في يديه، يجمع الضالين و التائهين في مذاهب الحياة الملتوية، و يقول كلمة الله علي فمه: (اهدنا صراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الظالين).فمرت القوافل بين يديه، و من أمامه، الي حيث الطريق الوضح، و الغاية المنشودة أو الي أقرب طريق معبد الي السماء.فالقرآن و هو تلك الشعلة، هو الضياء الابدي الي الابدية. و لن يكون المسلم مسلما حقيقيا، الا اذا أحال القرآن في نفسه معني انسانيا فصار منه كمعناه، و صار المرء منه كالعنوان أو الفهرس المفصل. و القرآن اذا استحال في نفس الانسان علي شاكلة ما نقول رقي به دركات و نزل بطبيعته دركات، و أدناه من السماء أو

ص: 72


1- 54. هذا الحديث يراه شراح السنة معضلة، و هم يخبطون في معناه، و الحقيقة انه ملحظ نبوي أبعد ما ما يكون عما فهموا و أدق كثيرا، و قد اشرنا الي معناه اشارة من بعيد.

أدني السماء منه. و ما يزال به حتي يكون كأنه لامسجد الحي، لا حساب للبنات فيه. و بحقيقة كان المسلم القرآني مسجدا حيا لا يقوم في لبنات، و انما يقوم في قدر من الحياة يتسع لتجلي الله الأعظم و لا يضيق (ما وسعتني ارضي و لا سمائي و لكن و سعني قلب عبدي المؤمن).و لقد جهد النبي (ص) و جهد القرآن، حتي ينقلا المعبد الي قلب الانسان، لا أن ينقلا الانسان الي المعبد. و المعبد بعد ذلك ليس الا مقدارا من الارض في مقدار من الحجارة، لا روحانية و لا فطرة و لا حياة، و انما الانسان هو الجزء الحي فيه، أو هو حياته الجياشة التي تستشعرنا بالرهبة و الخشية، و تعاطينا بطمأنينة كأنها التهويم تنزل علي النفس القلقة الجازعة، كما ينزل التهويم علي العصب المتعب المثقل، يترك فيه راحة و شعورا باللذة في حلم، كما تترك الطمأنينة تطرية نفسية عميقة هي السكينة، و شعورا بالحلم في لذة.و معجزة القرآن انه أهبط الملكوت الأعلي الي الارض، أو رفع الارض الي الملكوت، و كان صلة ما بين عالمي الغيب و الشهادة، أو زاد فرفع الحواجز بين العالمين، فلم يعد الا عالم واحد هو عالم القرآن. فيا أيها المسلم انك تسكن من القرآن في ملكوت الله فوق اعتبارات الدنيا و شهواتها، حتي لقد انفصلت بمعناك عن معناها و كانت آية القرآن أن جعلك للدنيا كما تكون الفضيلة و العمل البر، و ما جعل الدنيا لك كما تكون الفتنة و النزوة و الطيش؛ فأنت حكمة الدنيا في عقل الدنيا و سمو الاحاسيس في طبيعتها. و هذا هو المعني في قول النبي الاعظم (ص): (تختلقوا بأخلاق الله القرآن).فالقرآن ليس تعليما فقط، يأخذ شاكلته كأنه مذهب فلسفي أو تعليم نظري، يسترشد مما وراء الطبع لحكم الطبع. بل هو شي ء كالاستهواء لا يكاد يطيف بالاذن حتي يجعل فيها قلبا سميعا مهديا، ثم يتمدد القلب بما تمدد فيه من الفكر الجديد، حتي يعود الانسان قلبا فقط، أو خلقا، أكبر ما فيه قلبه.و لذلك ترك النبي (ص) الانسان و جوانب الخلق فيه، و اتجه الي القلب وحده

ص: 73

و وقف عنده يستلطفه بأزكي شعور: «لأن في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله، و اذا فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب). و معني صلاح القلب وجوده، و معني فساد القلب عدمه، و من وجد قلبه فقد وجد حقيقته و معناه و كل احساس حي شريف يجمع النبالة و الفضيلة و العاطفة و الطهر، و من فقد قلبه فقد وجد ما عدا ذلك. (ان في ذلك لآية لمن كان له قلب أو القي السمع و هو شهيد).و ان من مدهشات البيان النبوي، هذا التعبير بالمضغة عن القلب الملاحظ فيه كمال الاستعداد، حتي كأنه القطعة من اللحم الممضوغة التي توافر فيها كمال الاستعداد للهضم. و ليس أبلغ من هذه الكناية في افادة مقدار حساسية القلب بالخير و الشر، و سرعة تأثره في مثل خطف البرق و اغتماض اللمح. و من هنا كانت عناية القرآن به عظيمة و توجهه اليه بالخطاب أبدا. و تأمل في ذوق البيان موقع (هو) من قول الله: «أو القي السمع و هو شهيد» الذي يشع بأن الانسان لا شي ء وراء أقبله.و اذا علمت بأن (هو) يرمز بها الي الحقيقة، خرجت بسر اعجاز البيان في سر اعجاز الانسان. فالقرآن من شأنه أن يصنع القلوب، و يغمرها بندي الهي، ثم يدعها لا تصيب راحة الا به، كالقبلة العاشقة المفعمة لا تكون آخر الري بل ول الظمأ، ثم لا تكون خاتمة الغرام بل بداءة فصل جديد. و كما لا تجد راحة الغرام الا في موالاة الغرام، و لا تطعم القبلة الا في متابعة القبلة، ككل النزوات العاطفية؛ لا تكون الراحة فيها الا بتكرارها و لا يتم معناها الا بمعاودتها. كذلك لا يجد المسلم القرآني هناءة الا بالقرآن، و لا راحة الا به. و كما قلت ليس القرآن تعليما نظريا يحاول السيطرة علي الطبيعة بالفكرة، و يمهد لغلبة المادة بالروح، و يقوم في نهايته علي مناحرة بين المحسوس و المعقول، ليفرض حياة عقلية لا قبل لها و لا بعد.و انما يحاول القرآن أن يجعل في الطبيعة فكرة، و في المادة روحا، و أن يقيم الايمان علي توازن المحسوس و المعقول؛ بحيث لا يعيش الانسان منه في حياة غيبية

ص: 74

خالصة، أو في حياة مادية بحت، بل في برزخ يستوي علي تعادل القوي و اطبائع، و توافر المعني في المعني.و بذلك كان القرآن مثابة للبشرية الظمأي و الانسانية التي لم تجد، في الشرائع الوضعية و انتجعها المصلحون، ما يدخل في دائرة الشرائع الطبيعية أو يأتلف معها في قرن و استواء.فكان شريعة للحس و ما وراء الحس، و سياسة للنفس و مادون النفس، ثم فرض نظاما أقام به بين الطبيعتين تجانسا عن تماثل، و ازدواجا عن قابلية، و انسجاما عن تناظر، و اتحادا عن تجرد. و من ثم وجد فيه الناس ما كانت تصبو اليه نفوسهم، و تعرم في جنب خياله صبوتهم. فكان كالقطرة في حلق الظمآن، لا تصيب الحلق وحده و انما تجمع عليها الجسم كله، بما فيه من الخلايا و التلافيف و الاعضاء، لتشيع فيه الحياة علي مقدار ما تحمل اليه من حاجته.و هو حين جاء علي مقدار حاجة الناس، بما انفطر عليه الناس، لم يكن دين مجتمع أو شريعة عصر، بل كان شريعة الانسان و شريعة الفطرة، فما لم يزل الانسان مخلوقا ذا فطرة، فلا يريم عن القرآن. و أني يجد في غير القرآن نهجا حكما، و ناموسا أمما (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون).آية سامية من التنزيل، و التنزيل كله سام في أوله و آخره، و كل آية هي أفضل ما تكون في موضعها و معناها. فاذا كان منا قول بأن هذه الآية أعجز و أبرع فان معني ذلك انها في هذا الغرض و هذا الموضع أعجز و أبرع، كما أن الاخري في غرضها و موضعها تكون مثل ذلك. فليس في القرآن آية تفوت آية، و انما هو بآيه يفوت كل البيان.هذه الآية تقرر بأن الكمال العضوي استوي في الانسان، فلا منقلب له أسمي من بنائه الشاهد و كيانه الحي الموجود، و ليس يؤتي الانسان من قبل النقص الخلقي (لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم) و انما يؤتي من قبل الشرائع التي

ص: 75

تفسد عليه فطرة فيقتضي لاستصلاحها أكبر الزمن، و يجتهد في اقتلاع ما ثبت فيها من طفيليات ضارة مبيدة. فما في الانسان من النقص، انما التبعة فيه علي الشرائع الوضعية التي ابتعدت عن فطرة القانون الطبيعي، أو عن روح الناموس الفطري، فكان هدف القرآن أن يرجع بالناس الي فطرتهم الاولي، حتي ينصاع العرف وفق النواميس، و بذلك يكون قد أقام القواعد علي القواعد و الحدود علي الحدود، و أزال الاشواك العالقة و الأدران المتلبدة التي حجبت نقاء الفطرة و هي صنع الله، بالطبيعة ذات الرعونات و هي صنع الناس بما افتنوا من شرائع حجرتها الاجيال، و واصلتها الوراثة بالمعني العنصري، حتي تشوهت الفطرة الانسانية و لم يعد لها جلاؤها الاول، و أصبح ما ليس من طبيعتها جزءا منها صليبة.و لذلك أعيا هذا الانسان كل المصلحين علي متطاول التاريخ. و هم علي اختلاف نظرهم في وجهة الاصلاح يجمعهم الاياس، و في العصر الحديث زاد بهم املاء اليأس، حتي ركب (نيتشه) متنا شعريا، و لم ينقل الانسان الي حقيقة الواقع، بل نقله الي خيال الواقع ثم مهد له في حياة افتحارية (1) خالصة.و كذلك (برناردشو) نفض يديه من الانسان الحالي، و قصد قصده في انسان المستقبل الذي قدره غريبا في بنائه العضوي و خلقه الحيوي، و شمله بتغييرات انشائية تأتي بها طبيعته قابلة للاصلاح و التصحيح.ولكن جاء القرآن بالمعجزة و الشريعة الوفاق، فلم يحمل الانسان علي أن يطلب الخيال، و لم ينسج له سعادة خيوطها أحلام و أوهام، و لم يأخذه باتهام النقص

ص: 76


1- 55. كلمة من وضعنا الجديد ترجمة «يوطوبيان» اي خيالي مغرق. و لا يعرف الانجليز لها اصلا سوي ان السير مور تخيل جزيرة أطلق عليها هذا الاسم و تخيل ما شاء فيها من نظم اجتماعية نبيلة و عادات و تقاليد فرضها لي اسمي ما يحلم به. فجرت وصفا لكل من يفكر بأفكار من هذا القبيل. و نحن نقدر ان تكون سامية، فان كلمة (طوبي) جاءت بمعني الجنة في العربية و دخلت الاجنبية عن طريق العبرية. و الكلمة الجديدة من قول العرب افتحر القول و الرأي أتي به غريبا جدا و لم يتابعه عليه احد. راجع كتاب مقدمة لدرس لغة العرب ص 131.

و انتظار التكامل، و انما جاء كالواقع حين يقع لا تكون الحقيقة الا في حدوده و أقطاره. و بهذا النداء الرائع أعلن القرآن عن حقيقة ما جاء به: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها).هذه الكلمة (1) أي (حنيفا) لم تتحققها اللغة أو لم يتحققها الرواة، فهي غامضة كالغموض؛ و ما اغمض منم الشي ء الا نفسه، و ما أوضح من الشي ء الا هو، و لكن جاءت بها الاستعمالات علي أشكال، تأخذها بمعني غير ما تثبت منه اللغة و تترك، و من ثم ظن بعض مؤرخي اللغة بأنها اسلامية لا قبل لوجودها؛ و علي كل فالذي نري فيها، انها كلمة اشراقية تفيد أدق معاني التقديس، و هي تجمع علي معناها الاخلاص و الاستشعار بالخشية و تعلق القلب الدائم بالتنزيه.و المراد بالوجه (2) ، في الآية، القصد أو الذات و النفس؛ و قد جاءت بكل ذلك اللغة في معاني الوجه (علي ما ذكره السيد المرتضي في اماليه). و الذي نميل اليه من معانيه هنا القصد، و كأن القرآن بعد ذلك يقول: الاسلام فطرة تستدعي قصدا و اخلاصا في القصد، فان القصد بدون اخلاص ساقط المعني ليس منه شي ء في حساب الشعور. و كذلك استنبه القرآن الحاسة في منطقة القلب بكلمة (أقم)،

ص: 77


1- 56. اللغويون اكثر ما يكونون اختلافا في هذه المادة و بالأخص منها المشتق (حنيف) و الذي يدل علي عدم استثباتهم منها اختلافهم في معني المادة نفسها، و بالجملة فالحنيف في جملة معانيه المخلص أو الذي أسلم لله فلم يلتو في شي ء من الاسلام؛ و هذان المعنيان اجتهاديان بلا ريب، و عندي انها لفظة كهنوتية انتقلت الي الاسلام لافادة نفس المعني الديني فيها بدليل انها في هذه الصيغة فقط تبدو ابعد ما تكون عن معني المادة. و قد احتفظت بصيغتها في كل ما استعملت فيه لافادة المعني الديني. و اذا اريد نقلها الي اسم المعني نسب اليها فقط و لم يعمد الي الاشتقاق؛ و هذه ظاهرة تحققنا من انها تكون في الكلمات التي تشبه مادة و لا ترجع اليها. و لنا علي هذا شواهد لا يتسع بنا التعليق لا ثباتها. و تبسطنا بهذا البحث في كتاب مقدمة التفسير في بحث الالفاظ. و قد اوضحناها في الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد و تحليل».
2- 57. و ليس كما توهم الزمخشري و امثاله من ان المراد بالوجه الجارحة، فانهم بذلك اضاعوا من لفظ القرآن معناه و من معناه اعجازه.

بأنه لا يقبل الا شعورا صادقا و قصدا ثابتا، اجتمعت فيه أهداف النفس من مناحيها الي نوازع القلب من جهاته، فكان الشعور في حدود النفس و كانت النفس في حدوده، و بذلك يكون هذا الأمر (أقم وجهك) للمسلم كالسلاح الراصد لا تمر به طالعة الا بحساب،و لا تجيش به خالجة الا بتقدير، فهو كالقلعة الحصينة تبدو قوية فيما ظهر منها، لأنها آمنة فيما خفي منها. و في هذا تنبيه علي أن لب الاسلام هو الاحسان بمعني الاتقان (أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك).و اذا كنت في كل أمرك بين حالتين، ليس أرهب من الأولي الا الثانية، و ليس أرهب من الثانية الا الاولي، فلابد أن تكون كمن يحمل محكمته معه بقانونها و قضاوتها، لا يفرط منه شي ء لأنه لا مناص من أن يدين نفسه و يسلمها بالجرم المشهود؛ و بهذا يكون الاسلام بما سيطر به علي الضمير، قد أقام علي كل مسلم جنديا يكون دائما منه بمرأي و مسمع، فلا الجندي يغفل عنه فيسبح مع هواه، و لا هو يفكر بأن يغفل عن الجندي، فينتهب اللذات المطلقة، و لو في حساب نفسه انه قد غفل عنه.ثم هذا الدين برسومه و طرائقه، ليس الا الفطرة في أوضاعها و طرائقها، فلم يكن ثقلا من الثقل أو اصرا من الاصر، بل جاء من روح الفطرة لارشادها، و اشتق من الفطرة طبيعتها ليصيب فيها قابلية فتنبت به و تنمو علي نميره، و كان في أعظم ما جاء به الاسلام كلمات ثلاث: الايمان، و الاحسان، و التقوي.فبالايمان يثبت احساس القلب في القلب، و بالاحسان يحط في المرء خطة الضمير و الوجدان، و بالتقوي يتمم فيه أعمال الفضيلة، حتي يجي ء انسانا مثاليا. فان التقوي ذات متعلقين، احدهما بين العبد و ربه، و الآخر بين العبد و أخيه. فما لم يوضعا معا يرفعا معا؛ و لذلك وصفه الله و أصدق به وصفا بأنه (الدين القيم) و جاءت هذه الصفة في الآية كأنها معللة ب (فطرة الله التي فطر الناس عليها) و من ثم نقف علي سر جديد في الآية و هو أن القرآن يجعل مقياسا لتقويم الشرائع و القوانين و التعاليم، مواقتها للنواميس الطبيعية و حكايتها لها. فاذا جانبتها

ص: 78

أو نبت عنها و لو من بعض الوجوه، فليست بالدين القيم و ليست بالشريعة التامة الموزونة. و هي حقيقة نبيلة جدا بالغ بالجهر بها في العصور الحديثة كل المتشرعين من مثل (بنتام). و أول معلن لها المتشرع النظامي (مونتيسكيو) في كتابه: اصول النواميس و الشرائع، و كان النبي محمد (ص) قد سبقه اليها فيما ابتعث به من الكتاب.و كان أتم وصف لهذا الدين، أنه القيم من كل وجوهه، فهو قيم بحاجات الفرد و قيم بحاجات الجماعة، و قيم بالصلات الروحية بين السماء و الارض. فقد نظم العلاقات الوجدانية بين الناس، و رتب العلاقات الروحية بين الانسان و ربه في كل الحالات؛ و أعجب ما في الآية وصف الدين بأنه قيم، هذا اللفظ الذي من معناه انه يأخذ ما يأخذ بمقدار، و يترك ما يترك بمقدار، فلا تفريط فيما يجمل، و لا افراط فيما يلزم.فجاء بهذا كالقانون الذي في جملة مواده ما يجعل عليه قانونا يحكمه بطبيعته القانونية. وب ذلك يثبت ثبوت النظام في الطبيعة العامة القائم علي الجذب و الدفع، فأي شي ء في الطبيعة انما يكون له نظامه و يثبت عليه، بين هذين العاملين المتعاكسين.فالقانون لا يكون شريعة الا اذا كان فيه ما يحكمه أو كان فيه قانونه، و الا فهو مطية الجور و وسيلة الأثر و الغلبة و الاستمكان. فأظلم العالمين يعمل بقانون، و لكنه قانون من طبيعة نفسه الظالمة، و كان ظالما لأنه يحكمه بنفسه و هو يحكم به الناس، فلم يكن مرجع القانون حكمة القانون و لكن فطرة الشر.فالاسلام جمع للمسلم قلبه و عقله ليعملا معا، فهما في واجبات لا يختلف اعتبارها، يصدران عنها ليعودا اليها، و لا يفترقان؛ هذا في العاطفة، و هذا في الفكرة، الا ليتمم كل منهما علي الآخر ما لا يتم به وحده. فالمسلم الضعيفهما أو الضعيف أحدهما، كالمريض الذي لا يكون حيا كما تشاء الحياة، و لا ميتا كما يشاء الموت، ففيه من الموت علي مقدار المرض، و فيه من الحياة علي مقدار المقاومة.

ص: 79

فالمريض ميدان لمعركة قوية بين الحياة و الموت، تمتد فيه أسبابهما حتي يتمدد فيه احدهما. و غاية الاسلام أن يجعل المسلم ينبوع نور لا جسما نيرا فقط؛ فاذا كنت مضيئا، و لم يكن لك ما تعكس به ضياء في الآخرين، فأنت مسلم دون سمو الاسلام و دون غايته. و نسبتك اليه كالطفل فيه مقدار من الحياة في مقدار من النفع لا يجاوزه، فاذا استوت فيه الحياة دفعت بالنفع الي الخارج و هو علي استعداد ليزيد، و دفعت بالنفعية الي الداخل و هي علي استعداد لتبيد. فيكون للجميع بعد أن كان لنفسه، و ينظر في ذاته فيري معني جميعا مشتركا، كما ورد في بعض الآثار (انا لله، و الله للجميع).و في الآية بشري و نبوءة بأن الاسلام سيكون الدين العام للبشرية، علي اختلافها في الجنس و اللغة و الانفطار و الموضع. و ذلك اليوم، في نظر القرآن، يوم يستوي العلم علي أكمل وجوهه، و يقوم علي أسس من عنصرية الصلب و وضوح الحق، لا علي أسس من طبيعة المبالغة و التفاف الباطل.و بلوغ لعلم هذا المنتهي السامي، و استقراره علي قاعدة ثابتة لم يعد بعيدا، فان الغاية تكاد تتنور من بين سجوف المستقبل القريب. و في اليوم الذي يمحص العلم ما أضيف و حمل عليه، و ثبت ثبوت الحقائق بحكم أن الحقيقة قد تلتبس فتخفي، يؤذن للعالم أن يسمع كلمة الله في الاسلام و أن يري نور الله في القرآن.و ان التسامي الصحيح لا يكون بالحقائق وحدها، بل لابد من تزاوجها. فان التزاوج يرتفع بها عن دائرة القيود و الحدود، و يدخل عليها معني آخر هو سر سموها. و ذلك اليوم برزخ تلتقي فيه الحقيقة العلمية بالحقيقة الدينية، فيمتزجان متزاج عنصري الماء حتي يقد ما العذب الفرات. و تأمل هذه الاشارة في قول الله تعالي: (و لكن اكثر الناس لا يعلمون).و هذه الآية تقرر، بالتلميح البياني، أن الاسلام دين العلم؛ فاذا جاء يوم العلم، فذلك يوم الاسلام أيضا. و من طبيعة التكامل الانساني أن يأخذ في ارتقاء، و لا يرتد في اندحار، و ان عراه ما يبطئه أو يوقه أحيانا، فان ذلك من

ص: 80

معاني ارتقائه. و انما يجي ء بطؤه من تبعيد الحوائل، و وقوفه من مقاومتها. و سنته أن يطرد صعدا حتي يبلغ جوز الغاية أو (سدرة المنتهي) التي هي في الاسلام عنوان ارتقاء الانسان، و ان أول انسان بلغها هو آخر انسان يبلغها. و تكون فائدة بلوغ ذلك الانسان وحده، انها خرجت من حيز ما يمتنع و ثبتت في حيز الامكان. ثم يتسامي الناس دونها كأنها الرقم القياسي، لا يستبقون عليه و انما يستبقون أمامه و من بين يديه.و العلم لابد أنه بالغ هذه النهاية العظمي التي يجد أن الاسلام قد سبقه (1) اليها. و الاسلام استطاع أن يسجل لنفسه رقما فوق القياسي في سرعة الانتشار و (أكثر الناس لا يعلمون)، فاذا جاء اليوم الذي فيه تسقط (لا)، و يقوم الاثبات في مقام النفي، (يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون). و الخلاصة في كلمات:الاسلام دين الفطرة، و لا تبديل لخلق الله.و دين الطبيعة، و لا انفصام في حدود الطبيعة.و دين الحيقة، و لبس وراء الحقيقة الا الباطل.المسلم القرآني هو القرآن في انسان، كما قال اميرالمؤمنين علي (ع) (ذاك القران الصامت، و أنا القرآن الناطق)، أو هو الجانب الآخر العملي منه. فكما يكون المثال علي القاعدة كاشفا للغرض في القاعدة أو من تمام معناها، كذلك المسلم القرآني يكشف الغرض في القرآن أو من تمام معناه.و لقد قدم النبي (ص) في نفسه نموذجا للمسلم الكامل علي التاريخ الاسلام

ص: 81


1- 58. اول من اعطي هذا المعني بصورة رمزية مثالية الشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي في الاسراء و المعراج حين تخيل روحي فيلسوف و صوفي قاما برحلة و مطاف طويل تخلف الفيلسوف في أثنائه و طوي الصوفي اللانهايات وحده بسر المعني، ثم التقيا بعد لأي طويل.

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، ثم طبع أصحابه علي غراره، فجاءوا كما لو مروا تحت الطابع (1) الواحد. لا يتفاوتون في أنهم معاني مجسمة له، و فيهم الشاهد منه. و اذا تفاوتوا فبأشياء أخري تمت الي الطبيعة و العنصر، كالكتاب يجي ء في أصناف من الورق و ألوان من الورق و ألوان من الحبر، و لكنه الكتاب نفسه لا اختلاف فيه و لا عليه. و لقد جاء في كلام النبوة (الناس معادن).و بهذا أنبه النبي (ص) الي أن الاسلام لا يبدل في الطبيعة و لكن يوجهها، و لا يعمل فيها عمل التغيير و انما يعتملها اعتمال الاخراج و التحوير.و الآن نقدم صورة من المسلم الكامل في شخص الحسين (ع) الذي جاء راموزا صحيحا صادقا عن النبي (ص) فيه من معناه و فيه من طبيعته، و بالثانية فوز علي النظراء و ظل نسيج وحده. اذ تم له أن يكون من رسول الله، كما يكون رسول الله من نفسه، فكان ينبعث من حدود الدين و حدود الطبيعة التي تشعر بالدين و معناه شعوريا ذاتيا كأنه شي ء منها، أو بعض من عناصرها، و لقد اكتست هذه الطبيعة النيرة بهالة جعلت لصاحبها لونا ينفرد، و شكلا لا يشبهه الا الا هو، و لا يجي ء الا فيه، كضوء الشمس لا يأتي الا من الشمس مهما تشكل به الضوء و تصنع عليه.و حيث كان الدين للحسين (ع) فطرة امتدت بها اسباب الخلق، ثبت علي قاعدته ثبات الصلب في الصلب لا الجدر علي القواعد، فلا تميل عنه الا اذا مال معها؛ و ميله معها استقامته و استقامتها، فان الميل نسبة علي مقدار الانفصال و الابتعاد. و بذلك اجتمعت فيه عوامل ثلاثة كلها تقتضيه أن يشعر بالمثل العليا شعورا واحدا لا يختلف عنده املاؤها. فهو فيما تعاطيه الجبلة في مثل ما تعاطيه البيئة في مثل ما يعاطيه الدين، فكانت مشاعره تجتمع علي شأن و تفترق عن شأن؛ و هي، في حال اجتماعها و افتراقها، كحال افتراقها و اجتماعها، مشاعر متواصلة متواردة، ترتفع جميعا و تقع جميعا. و من ثم كان شعورها بالمعاني السامية شعورا من

ص: 82


1- 59. كلمة من وضعنا الحديد بمعني الا كليشة.

ثلاث جهات، يصل حين يصل مكبرا و واضحا، كما لو يكون في سمت العين في أقرب حدود الابصار.فهو يري الاشياء علي ما هي، كأنها من جوهر نفسه في معرض للحائق، فلا تصل الي قلبه ملبسة أو مزورة و لا مدخولة أو متفاوتة، بل تنثال اليه في أثوابها كما جاء بها الواقع و اقتضاها الطبع، و كذلك هم أصحاب المشاعر المرهفة الذين تستيقظ حواسهم لاهتزاز الحق و الباطل؛ ذلك الاهتزاز الذي يعلن عن الحق أنه حق، و عن الباطل أنه كذلك، فان للحق و للباطل في قلوب المصطفين هزات تعلنها بمعناها، كما يكون للشحنة الكهربائية. فلا يلتبس عليهم و الناس من أمرهم في التباس، و لا يزلون و الناس من حياتهم في زلل، بل يسددون أو يقاربون، كما رجا النبي (ص) للمؤمن أن يكون.و قد رأينا الحسين (ع) في سنة لم يتحيفها شي ء من زعازع الباطل أو مغريات الدنيا في الجانب اللاهي الفاتن، بل ظل هداه بين مأثره السنة و هدي القرآن، لا يتنكب في ظاهر منه أو باطن، و كان في تقيده و تحرزه كأنما جاء به القرآن شاهدا أو مثالا بريكه علي ما هو و فوق ما هو، من حيث يكون الشاخص أكثر أخذا، و أذهب في أسر النفوس كل مذهب.و من هنا كانت الشريعة السماوية في حاجة الي الرسول الانساني الذي هو نموذج لها، و بذلك يتم الهدي و البيان بين كلمة الله و راموزها الصالح. فان الحس في حاجة الي الحسن، و الطبيعة في حاجة الي الطبيعة، و السيطرة علي المثل انما تكون بالمثل؛ و التفاعل في حدود المادة لا يتم الا بعناصرها علي مفارقة في الخاصية (و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا).و النموذج الالهي لا يكون الا واحدا فقط يجي ء مع الشريعة، حتي اذا أعطي أثره وارثه. ترك له نماذج كثيرة في كل وجه و من كل طية، يستوون علي انهم نماذج رسولية لا يتم الأثر الديني الصحيح الا بوجودهم، فهم في حاجة كل عصر لأنهم من تمام صلاحه و هدايته. و علي هذا التصور بني أرباب الاشارات الذين

ص: 83

استعلوا علي الرسوم ملحظهم في الوارث المحمدي، والحاجة اليه في كل جيل.و أبوعبدالله الحسين (ع) سيد الوارثين، ما في ذلك ريب، فكان في كل عمل من عمل الدنيا و الآخرة مثالة بارعة حتي أجمع الحفاظ و الرواة و الاخباريون علي أنه أعاد سنة المصطفي في كل مظاهره و أشكاله، و ساعد به أنه كان أشبه بجده (ص) في لون الشاكلة و مسحة الخلق، و زادت الأسوة في ابراز الشبه و اظهار التماثل. فكان مجلسه مهوي الافئدة و متراوح الاملاك، يشعر الجالس بين يديه أنه ليس في حضرة طفائح بالسكينة، كأن الملائكة تروح فيها و تغدو، و تطيل بها و تقصر حتي يشيع معناها في الجالسين، فيتصورون (1) كأن في حدودهم حظيرة قدس عليا لبناتها أولئك الجالسون، و سرها الناطق ذلكم الانسان الكامل واسطة العقد.و هذا المشهد يصنع صنعه في كل قلب، مهما نبا به ميله، و داخلته الدنيا و مرت في مثل تلافيفه و احتشت في تضاعيف مساربه. قال (2) معاوية لرجل من قريش: (اذا دخلت مسجد رسول الله (ص) فرأيت حلقة فيها قوم كأن علي رؤوسهم الطير، فتلك حلقة ابي عبدالله مؤتزرا الي أنصاف ساقيه).كذلك يظهر المعني الحي في محل القداسة علي المؤمنين الذين ينشرون أشعة من سيمائهم تورث الناظر خشية في اطمئنان، و سكونا في دعة، كأنما هم ينظرون الي الأبدية في حدودهم، و يستشفون اللانهاية كأنما عندهم آفاقها، أو كأنما زوت الي قواعدهم. فما أنت بناظر جماعة في مواضع من المعبد في معالم من الارض، بل يتداركك حين تنظر كأن الملأ الأعلي تجسم و انتشر في أشخاص استعلي بهم أو اعتلوا به فوق دنيا الناس (ما اجتمع قوم علي ذكر الله الا حفت بهم الملائكة

ص: 84


1- 60. اي يتشكلون بصورة، و قد ورد بهذا المعني عند الحطيئة: رأي شبحا وسط الظلام قراعه فلما رأي ضيفا تصور و اهتما.
2- 61. راجع التاريخ الكبير لابن عساكر ج 4 ص 322.

و غشيهم الروح و ذكرهم الله فيمن عنده) و في رواية (في ملأ عنده).قد تكون كلمة ساذجة طفح بشعورها قلب ساذج، لو من غير معاوية الملك الذي كان يجمع أسباب السيطرة و الرهبة و القنفخرية علي نفسه جميعا ليظهر بكل ذلك غير تارك منها الا ما يزيده في مظهر الجبروت قوة.و أما هي من معاوية نفسه فانها ذات وجه آخر بمعان أخري، فقد نظر الي الحسين من جانبه الذي انزوت اليه الدنيا بعظائمها، و توافرت لديه أشياؤها حتي بدا كأنما انجمعت الدنيا في ناحية مكانه.و هذا ما يجعل للكلمة قيمة أخري، فان معاوية لم تحل به أبهات الملك عن أن يري المعني الالهي في الحسين (ع) بما له من رهبات، تزع النفس الانسانية الجامحة و تردها ردا عنيفا الي حدود عبوديتها، حتي تبصر ما تلبس به بطلا من الباطل و آلا من الآل، فتظل مشدوهة مأخوذة كالذي يكون مع خاطرة أو فكرة. ثم تنقلب قوتها التي اشتقت من طبيعة المبالغة، ضعفا فيه طبيعة المبالغة، فكان معاوية ينظر الي نفسه بما أحاطها به من أشياء الدنيا، و الي الحسين (ع) بما أحاطته به الحقيقة العظمي من أشيائها، فيري نسبة كما بين العدم و الوجود، ثم ينظر فيري في الوجهة المقابلة منبعث النور الذي يعشي فيبهر، و في الوجهة الأخري متراكم الظلال و مختلط الأشباح و الأوهام.و هذه ساعة تستيقظ فيها النفس الي حقيقتها، فتري كل شي ء علي حقيقته، و نعما هي كلمة معاوية في لوة سما بها علي دنياه بما جمعت.و كان الحسين (ع) اذا برز للناس يتحلقون بين يديه صفا بعد صف حتي يذهب فيهم البصر، و يقعون عليه وقوع الطير في اليوم الحرور علي ثمد يتبرد به و يتصابه. و كأنهم بذلك يهربون و لو ساعة من اسر الشهوات و عبودية أنفسهم، ليقولوا كلمة الايمان خالصة بها قلوبهم، كما كان يعبر الصحابة حينما يعوجون الي النبي (ص) «هيا بنا نؤمن بربنا ساعة». قال ابن كثير (1) ان الحسين خرج و ابن

ص: 85


1- 62. راجع البداية و النهاية لابن كثير في ترجمة الحسين.

الزبير من المدينة الي مكة و أقاما بها. عكف الناس علي الحسين يفدون اليه و يقدمون عليه و يجلسون حواليه و يستمعون كلامه و ينتفعون بما يسمع منه و يضبطون ما يروون عنه).و الذي ينبغي ان لا يفوتنا في هذا الخبر، التعبير بكلمة (عكف) و هي تفيد في كل مشتقاتها معني التعلق و الانقطاع. فما كنت بواجد الا الحسين (ع) رجلا علقه كل الناس عرضا، كأنما هم من ناحية الدنيا يشهدون فيه حقيقة اخري من عالم الابداع الالهي. فهو اذا نطق كأنما انطلق لسان الغيب يعبر عن رموزه و يكشف عن خفاياه، و اذا قسمت كأنما راح الغيب يعبر عن معناه بطريقة اخري بلحن آخر، فان من الحقائق ما لا يعبر عنه الا الصمت العميق، كالنقطة في ثنايا السطور فانها تعطي معني لا يقوم الا بها، و لا يتم الا اذا كانت، و هي بعد اشارة سلبية و لكنها تدل علي غرض ايجابي، أو كقرار النغمة الصامت فانه جزء من تمام اللحن الناطق.و في الخبر صورة كاملة لمقام الحسين، في زمن لم ينتف من طغيان السلطة و تحامل المتغلب، و لكن أني للقوة أن تحول بين الانسان و قلبه، أو بينه و بين ما هو من ضميره، فان القوة لا تعمل الا في حدودها، و لا تجد مضاءها الا في ملابساتها، و هي كيفما امتدت بأسبابها فانها لا تحيك في مواطن الشعور. و الخبر بعد ذلك يعرفنا بأن الحسين (ع) كان مكثرا من الحديث و الرواية، و لم يكن كما تشاء بعض كتب الأخبار تصويره بأنه كان مقلا نزر الآثار، و من الجدير أن نثبت في حديثنا عن مجلسه طرفا من مروياته. أخرج ابن ماجه و أبويعلي عن الحسين (ع): قال سمعت رسول الله (ص) يقول (ما من مسلم تصيبه مصيبة و ان قدم عهدها فيحدث لها استرجاعا الا أعطاه الله ثواب ذلك).و روي الامام أحمد في مسنده (1) عن ربيعة بن شيبان، قال: قلت للحسين بن

ص: 86


1- 63. ج 1 ص 201.

علي (ض) ما تعقل عن رسول الله (ص)، قال: صعدت غرفة فأخذت ثمرة فلكتها في في، فقال النبي (ص): ألقها فانها لا تحل لنا الصدقة.و عن فاطمة بنت الحسين عن ابيها قال: قال رسول الله (ص): للسائل حق و ان جاء علي فرس.و عن شعيب بن خالد عن حسين بن علي قال: قال (1) رسول الله (ص) ان من حسن اسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه. (و في رواية) تركه ما لا يعنيه.و عن سنان بن ابي سنان الدؤلي عن حسين (ع) عن النبي (ص) قال اختلفتم و أنا بين اظهركم فأنتم بعدي أشد اختلافا.و من أهم أحاديثه المروية عنه حديثه (2) في صفة النبي (ص) قال الحسين بن علي سألت أبي عن سيرة رسول الله (ص) في جلسائه فقال كان رسول الله (ص) دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب و لا مشاح، يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤيس منه و لا يخيب فيه، و قد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الاكبار و ما لا يعنيه، و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا و لا يعيبه و لا يطلب عورته و لا يتكلم الا فيما رجا ثوابه، و اذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما علي رؤوسهم الطير، فاذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث و من تكلم عنده انصتوا له حتي يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، و يتعجب مما يتعجبون، و يصبر علي الغريب علي الجفوة في منطقه و مسألته حتي أن أصحابه ليستجلبونهم، و يقول اذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه، و لا يقبل الثناء الا من مكافي ء، و لا يقطع علي احد حديثه حتي يجرر، فيقطعه بنهي أو قيام.و نحن فيما اتسق لدينا من الاخبار عن الحسين (ع) و صفته، نري كيف

ص: 87


1- 64. رواه الحافظ ابن عبدالبر في الاستيعاب ج 1.
2- 65. رواه الترمذي في كتاب الشمائل النبوية.

كان يتحزم علي نفسه بكل مظاهر القدوة الصالحة، بحيث لا يعدو أن يكون مثالا نبويا في حدوده و من شتي أقطاره.و لقد انصرف بكل نفسه عن الدنيا و ما اليها، قال (1) زين العابدين (ع) لمن قال له: ما كان أقل ولد ابيك!.. العجب كيف ولدت كان لا يفتر عن الصلاة في ليل أو نهار فمتي كان يتفرغ للنساء؟...فهذا المتحنث المتأله في تأمله و اطراقه، و تحركه و سكونه. هو الذي سنراه مجاهدا مكافحا و مغامرا مستميتا حتي كأنه الاسد لا تنال تلابيبه. فلم يكن يشغله أمر عن أمر، و لا حاجة لله عن حاجة للناس فهو هو الاسد الهصور في فتح (2) افريقية و في غزوة طبرستان (3) و موقعة الجمل و صفين و في فتح (4) القسطنطينية...دوام الوجود في هذا العالم، ببعض حقائق متلاحقة...فان النواة حقيقة صغري، تجمع الحقيقة الكبري بكل خصائصها.فالمسلم القرآني هو الحقيقة الكبري في الاسلام، فهل لنا أن لا تخيس النواة.في الاسلام انسانية عليا و صوفية اشراقية...و في الاسلام قوة ماضية، في حدود المبادي ء العادلة...

ص: 88


1- 66. راجع ابي الفدا ج 1، ص 202 و العقد الفريد ج 2.
2- 67. راجع تاريخ ابن خلدون ج 2، ص 128 و 129 و الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد و تحليل».
3- 68. راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 57 و 58 و تاريخ ابن خلدون ج 2، ص 134 و 135.
4- 69. راجع البداية و النهاية لابن كثير في حوادث سنة 49، و الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد وتحليل».

فيا ايها المسلم انك تحمل لبني الانسان، باليد الواحدة كتابا و باليد الاخري مصباحا، فاعرف كيف تبلغ رسالتك...وصف النبي نفسه بأنه رحمة مهداة...و المسلم الكامل مثال نبيل من النبوة الكاملة...فأنت ايها المسلم رحمة مهداة من السماء الي كل جيل...

ص: 89

العظمة الشخصية في الشخصية العظيمة

اشاره

أرأيتم الي الرجل يقوم علي اسم الله و يمضي علي اسم الله و يموت علي اسم الله، كيف تسمو به الغاية و يعلو به الهدف. هو هدف و لكن ليس من شهوات النفوس، و غاية و لكن ليست كمثلها الغايات، غاية تحقر كل ما في الحياة من أشيائها، و لا تري سوي الملكوت الاعلي هدفا و دون السماء مستقرا؛ لانه مهدها فلا بدع أن حنت اليه و طلبت اللحاق به، فللناس أوطانهم، و للناس حنينهم، و لمثل هذه الشخصية وطنها و لها حنينها.فهي تشق طريقها بين الجلامد و الصخور، راضية مرضية و ماضية مطمئنة، لأنها تناجي الأمنية السامية و تنشد المثل الاعلي، و هل وراء الله مطلب؟. و هل الي غير الله مصير؟. و هل بعد الله حقيقة؟.هذه مبادي ء الرجل المصطفي، و الرجل المختار. فلا عجب أن راح يطلبها في كل شي ء، و لو حال الموت دونها فهو يستعذبه، لانه الطفرة التي تصل به الي أعذب الاماني، و هل مع الأماني العذاب، شعور بمريرات العذاب.و قديما ارتفع صوت المسلم في اقدام و مضاء، بالكلمة الرهيبة عند الناس و الأغنية عنده:

ص: 90

و لست أبالي حين أقتل مسلما علي أي جنب كان في الله مصرعي الشخصية الكبيرة من الناس، و لكن بما فيها من المعني الآهي و السر القدسي و القبس العلوي، تنير السبيل للانسانية في حالكة الظلم و في الليل الأليل الأدكن (الله نور السماوات و الارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري). و كذلك تكون في حياتها دليلا أمينا، و بعد مماتها أمثولة رائعة، فيها من كل عناصر الخلود و السمو. و تاريخ كل أمة انما هو في الحقيقة تاريخ عظمائها، فأمة لا عظيم فيها لا تاريخ لها، أو ليست جديرة بالتاريخ.و نحن اذا قدمنا حسينا بين العظماء، فانا لا نقدم فيه عظيما فحسب، و انما نقدم فيه عظيما دونه كل عظيم، و شخصية أسمي من كل شخصية، و رجلا فوق الرجال مجتمعين.و لا بدع فكل من عرفهم التاريخ و عرفناهم، قضوا دون غاية من أمجاد الارض، فكان من قضي دون مجد من أمجاد السماء أسمي.و الآن سأخوض في بيان نواحي العظمة التي امتاز بها الحسين (ع) في كل ميدان، حتي يبدو امة بين العظماء. فقد عرفنا العظيم في ثوب الشجاع، و عرفنا العظيم في ثوب البطل، و عرفنا العظيم في ثوب الضحية الشهيد، و عرفنا العظيم في ثوب الزاهد، و عرفنا العظيم في ثوب العالم. و أما العظمة في كل ثوب، و العظمة في كل مظهر، حتي كأنها تآزحت من أقطارها فكانت شخصا ماثلا للناس يقرأونه و يعتبرون به. فهذا ما نجده في الحسين (ع) وحده، و هذا ما نلمسه فيه فقط، حيث هو من نفسه و حيث هو من نسبه، فلقد يكون ابوه مثله، و لكن لا يجد له أبا كمثل نفسه.فرجل كيفما سموت به من أي جهاته انتهي بك الي عظيم، فهو ملتقي عظمات و مجمع أفذاذ. فان من ينبثق من عظمة النبوة (محمد)، و عظمة الرجولة (علي)، و عظمة الفضيلة (فاطمة)، يكون امثولة عظمة الانسان، و آية الايات

ص: 91

البينات. فلم تكن ذاكراه ذكري رجل بل ذكري الانسانية الخالدة، و لم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذة.فالحسين (ع) رجل و لكن فيه آية الرجال، و عظيم و لكن فيه حقيقة العظمة. فرعيا لذاكراه. و رعيا للعظة به.و من ثم كان جديرا بنا أن نستوحيه علي الدوام، كمصدر الهامي انبثق و هاجا قويا، و امتد بأنواره أجيالا و اجيالا، و لا يزال يسطع كذلك حتي ينتظم اللانهايات و ينفذ الي ماوراء الارض و السموات، و هل لنور الله حد يقف عنده أو معلم ينتهي اليه (و يأبي الله الا أن يتم نوره).و كذلك يجد من تدبر نهايته أعظم بها نهاية، و أعظم بها تضحية و أعظم بها مثلا و ذكري نادرة. حتي كأن يد الله خطت بها علي الأبدية سطرا أحمر قانيا، هذه كلماته (الاخلاص لفظ معناه في الموت الرهيب، فمن شاء أن يكون مخلصا، فليوطن نفسه علي كل مكروهاتها):قد خط سطرا علي الأيام نقرؤه و كان آية أمجاد و احماسايا حبذا الموت دون المجد مجتلدا و أحقرن بعيش الذل انكاساعلي أن السبط الشهيد (ع) من وجه آخر، تمت به روعة القداسة التي ابتدأت بجده المصطفي (ع). فان للقداسة جلالها و لكن روعة القداسة لن تكون الا بالدم علي جوانبها.نحيي الطهارة في بيتها اطار الطهارة قدس ودم فلتسمع الأجيال و لتستيقظ الانسانية، علي الصوت الرجاف الذي ينبعث من أعماق الرجم و من وراء القبور، حيا جياشا ينفذ الي الأعماق فتستعر له الضمائر، و ينثال الي مواطن الشعور فيحيا به الوجدان.و علي نبرات مثل هذا الصوت فقط يتأتي للانسانية أن تغسل آثامها و تخلص من أدرانها و تتطهر من أرجاسها، حتي تعود انسانية كما أرادتها الشرائع و احتفلت

ص: 92

بها الاديان، و حتي تكون انسانية عمادها المثل العليا و الفضائل الصالحة و الخير المطلق و احقاق الحق، فان لهذه الخصال وحدها ضحي الحسين (ع)، و لقد كبرت كلمة أن يقال انما ضحي من أجل الملك أو الغلبة أو السلطان، و ما كان هذا من هم نفسه الكبيرة، و ما كان هم نفسه من شهوات الناس، و انما أيقظه الجور و دفعه الاعتداء و أنشطه الظلم و استثاره أنين الضعفاء و عويل المثكولين و دموع المفؤودين. و ان من بين العدوان علي الحق، و تجاهل العدوان، تنبعث الاحرار و تخرج الأبطال.و لقد كشف الامام الشهيد عن برنامجه و خطته التي دفعته الي الثورة و الخروج، و كأنما أراد أن يسجل علي الباطل بطلانه، و أن يجعل للحق في بناء الباطل كوة يرتفع منها صوته علي الدوام، و كذلك تم الامر علي أن يتعالي من هذه الكوة الصوت الذي زلزل دولة الظالم و حطم سلطان الباغي و مزق العادي كل ممزق و أدال به الي حيث المهوي السحيق.و لنسمع الي برنامج الامام الشهيد (ع) الذي أثاره و وطن نفسه علي نهايته، من فمه الطاهر الهادي، قال يخاطب الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان: «أيها الامير انا بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، بنا فتح الله و بنا ختم؛ و يزيد رجل فاسق شارب الخمر و قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق؛ و مثلي لا يبايع مثله). هذه الكلمات المعدودة نحوي برنامجا خطيرا و دستورا عمليا واسعا، و يمكننا أن نسميه «ناموس الثورة». و الحق أن فيه المبادي ء العالية لاعلان الثورة، و فيه المواد اللازمة لنقد الخليفة أو الملك.و لست أرسل الكلام ارسالا، بل أقول ما أقول و ملؤه التحقيق، و لذا كان جديرا بنا أن نتفهم، قبل الخوض في بيان نواحي العظمة عند الحسين (ع)، هذه الكلمات التي يأتلف منها برنامج ثورة الامام الشهيد، حتي لا تعتلج في نفس أي كان ريبة متهمة أو تهمة مستريبة، علي أنها تجلو غوامض من صفحة المجالدة التي أثارها الامويون و أذكوها مستعرة حامية، و قامت علي هذا الأوار كل دولتهم.

ص: 93

و في الحق أن أعظم ما يهم المؤرخ الناقد، هي هذه الصفحة المختصرة، لانها توضح كثيرا من الخفايا في سير الدراسات التاريخية الاسلامية الاولي التي كانت حوادثها كنواة لكل ما ترتب و نشأ عنها من حوادث في تسلسل التاريخ الاسلامي، و في غير افاضة طويلة قد تفض من وحدة الموضوع، نأخذ في تفهم هذه الخطة الرائعة الرشيدة التي أوضح عنها للوليد؛ و هي علي وجه الاجمال صورة من صور المحافظة علي السلام و الرغبة فيه، ما لم ينقلب السلام حربا و يتجني علي الآمنين، فلا بدع أن يلجأ أشد الراغبين بالسلامة الي الحرب الذي يجد فيه حقيقة السلام و معناه.و اذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جباناشاءوا أن يشهدوا رجل التقوي و العمل الصالح الذي ينبثق من معدن الرسالة و نجار النبوة و بيت الاصطفاء الالهي، ثم يتمثل فيه الحق بأجلي معانيه و يظهر بأروع مظاهره. شاءوا أن يروا المثل الكامل الحامي الوديقة في نصرة العدالة و الحق، ينحني بصغار و يخضع بضعة و يستسلم بذلة، لرجل الباطل و الفسوق و التجاوز و الخروج و التحدي لله و لرسوله و للمؤمنين، و المجاهرة بدون مبالاة و لا ارعواء و لا احتشام، بكل ما تفرق منه الشريعة و ترتعد له الانسانية و ترتجف به الفضيلة. شاءوا أني روا بيعة تتم علي هذا الوجه و تنتهي علي هذا الطراز الساخر. فلا نعجب اذا رأينا هذا الامام ينظر الي عهد كهذا العهد و بيعة كهذه البيعة كأنه نير من نار، أفضل منه حر السلاح في هجير الحر، فقضي كذلك مستبسلا.قضي عليه السلام دون العقيدة شريفا مجاهدا.قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ان الحياة عقيدة و جهادو لنسمع بعد هذا كيف يعلننا الامام برأيه الصريح في فلسفة البيعة و معني الخلافة و صفة الخليفة. يقول: واجب الخليفة أن يستحيل القانون و الشريعة في نفسه وجدانا و ضميرا و عاطفة و صدي شعوريا عميقا، و الا كانت خيانته أقرب اليه من نفسه، و دينه و تقاليده و عنعنات الأمة جميعها أهون عنده من

ص: 94

عطفة عنز. فاذا فسق الخليفة عاد علي رأس الأمة شريرا، يقذف دائما بالشر و الشرر، و يرمي دائما بالويل و الثبور.و هناك واجب آخر علي الخليفة اذا تجاوزه وجب علي الامة اسقاطه و وجبت علي الناس الثورة عليه، و هو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة، و الا فأي تظاهر بخلافه يكون تلاعبا و عبثا، و من ثم وجب علي رجل القانون أن يكون أكثر تظاهرا باحترام القانون من أي شخص آخر، و أكبر مسئولية من هذه الناحية، فاذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه و تحدي الله و رسوله و المؤمنين، لم يكن الخضوع له الا خضوعا للفسق و خضوعا للفحشاء و للمنكر، و لم يكن الاطمئنان اليه الا اطمئنانا للتلاعب و العبث و المعالنة الفاسقة. هذا هو المعني التحليلي لقوله عليه السلام (و يزيد رجل فاسق شارب الخمر و قاتل لانفس المحرمة، معلن بالفسق).ثم ينتقل الامام بنا الي روح المبايعة، و معني العهدة و فلسفة الخلافة، و هنا يلزمنا كثير من الأناة و التفهم، لأن الامام يجمل كل معناها في كلمة واحدة و هي (و مثلي لا يبايع مثله). يعني الامام الشهيد بهذا أن المبايعة بيع النفس للخليفة الذي هو رمز الشريعة و الدين و وحدة التقاليد و العقائد و حامي القرآن كتاب الله، و ولي عهد المصطفي صلوات الله عليه. و ان المبايعة أيضا التضحية و الاستماتة في سبيل الخليفة الرمزي، و هي أيضا وقف كل مسلم نفسه علي أن يلبي نداءه قال تعالي (أطيعوا الله و الرسول و أولي الأمر منكم) فجعل طاعة الخليفة الرمزي من طاعته، لانه ينفذ أوامره جل شأنه.اذن فالمبايعة استسلام و خضوع حتي الموت، و بعبارة اخري البيعة بيع النفس للخليفة، فهي رق اجتماعي و سياسي و ديني، و من ثم كان لزاما أن يتروي المرء كثيرا حين يبيع نفسه. فيم يبيع؟ و لمن يبيع؟ فاذا كان الخليفة فاسقا فحاشا رقيق الدين ظالما عاديا عابثا، كان معني المبايعة له بيع النفس للفسوق، بيع النفس للفحشاء، بيع النفس للظلم و العدوان، بيع النفس لمجاهرة الله بالعصيان، لأن الخليفة الفاجر صفة من هذا الخصال مجتمعة. و هي تعني أيضا خدمة أهوائه

ص: 95

الشريرة و ميوله الفاسقة و الموت في سبيلها، و أحقر بهذا مبدأ، و احقر بهذه مبايعة، و احقر بهذا الموت تضحية، فكان ضروريا أن يأبي الامام مبايعة يزيد علي شهواته و اهوائه و فواحشه. و أن ينكر و أن يثور و ان كانت الثورة تهلكة، مادام قد أراح ضميره، و أرضي ربه و مات دون مبدئه. و لذا رأينا نفسه الآبية كيف تغلي مثل المرجل في أشد احتدامه، فلم يصغ الي أمير، و لم يسمع من مشفق، و لم يتراخ أمام سلطان أو قوة غاشمة. و ابي أن يرضي للمؤمنين بالدنية و الخسف، فأعلن الانكار و لم يعط أذنه الي من نصحه بالبقاء دون الخروج، لأن عدم خروجه و ان تكن فيه سلامته فيه حتف المسلمين قاطبه.فسار كذلك معلنا منكرا، ثم ختم انكاره بأمر صورة و أفظعها منظرا، و هو مطمئن الي أن قطرات دمه الزكي ستتسع و تتسع حتي تكون بحرا خضما، يبتلع اول ما يبتلع أولئك الذين أجروا هذه القطرات.و لقد استطاع عليه السلام أن يقول بمل ء رئتيه و بسعة شدقيه و أن يرسلها صيحة داوية تصم من اذن الفجور و البطل، و تبقي تدوي ما بقيت. و هي بعد كلمة الحقيقة الخالصة. (و مثلي) في لحمة الحق و مظهر دين الله، (لا يبايع مثله) في لحمة الشيطان و مظهر الباطل.هذا معني البيعة في منطق الحسين (ع)، و هذه فلسفتها عنده، و هي الحقيقة لمن تدبرها. و من ثم كان لها تبعات ثقيلة الاصر لا يتحملها الكبير بسهولة.و نحن اذا فهمنا الخلافة عند الحسين، سهل علينا أن نفهم كيف هو عظيم بكل المعني و أمكننا أن نشخص عظمته من اقطارها، و أن ندرك بجلاء الجهات التي امتاز بها الامام فكان نسيج وحده، و كان آية النبالة و المثال الفذ. و نقف قليلا عند حادث كربلاء لنظهر علي نواحي عظمة الامام و هي:عظمة المبدأ، عظمة الصراحة، عظمة المضاء، عظمة الاباء، عظمة البطولة، عظمة الاستهانة.هذه نواح من العظمة أو عظمات متفرقة، اذا اتصف بأية واحدة منها رجل،

ص: 96

جعلته في مصاف الخالدين، و رفعته الي مدارج الأبطال التاريخيين، و حفظت له ذكرا عاطرا في العالمين، فكيف و قد اجتمعت في واحد، و هي بعد جانب من خلائق عظمته الحقيقة، فان عظمة الحسين (ع) الصحيحة في نفسه الكبيرة التي هي معين لا ينضب. و لنمض الآن في فهم هذه الجوانب في حادث كربلاء.

عظمة المبدأ

ان من يلتمس هذا الجانب من عظمة الحسين، يجده في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية (اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، و من رد علي هذا اصبر حتي يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين).و في تصريحه الخطير في بيت الامارة و في حظيرة الحكم و رواق السلطة الذي أعلن فيه رأيه بدون مبالاة و لا وجل و لا خوف. و رد علي الوليد و مل ء قوله جأش رابط و شجاعة نادرة و اعتداد بالمبدأ و استحكام في العقيدة. و لقد جمع في رده هذا، الي الدهاء السياسي قوة العارضة، و الي سلامة المنطق فطنة التخلص، و الي ظاهرة التسليم الانكار الصارخ. و هنا نثبت ما جاءت به الروايات...(دعا الوليد و هو والي المدينة الحسين (ع) و نعي له معاوية فاسترجع، و قرأ له كتاب يزيد في أخذ البيعة. فقال الحسين، اني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرا حتي أبايعه جهرا فيعلم الناس ذلك، فقال الوليد أجل. فقال الحسين تصبح و تري رأيك في ذلك، فقال الوليد: انصرف علي اسم الله تعالي حتي تأتينا مع جماعة الناس؛ فقال مروان للوليد و الله لئن فارقك الحسين الساعة و لم يبايع لا قدرت منه علي مثلها أبدا، و لكن احبس الرجل لا يخرج حتي يبايع أو تضرب عنقه. فقال الحسين لمروان و يلي عليك يا ابن الزرقاء أأنت تأمر بضرب عنقي أم هو، كذبت و الله و لؤمت، ثم التفت الي الوليد، و قال: يا أمير انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة، بنا فتح الله و بنا ختم، و يزيد فاسق فالجر شارب الخمر قاتل النفس

ص: 97

المحرمة معلن بالفسق و الفجور، و مثلي لا يبايع مثله و لكن نصبح و تصبحون، و ننظر و تنظرون أينا أحق بالبيعة و الخلافة)، و ان قوة العارضة في الحق، تفعل في النفوس فعل السحر و تعصف بالجلامد و الصخور، فتبدل منها حتي تجعلها كالكثيب المهيل، و كلمة الحق الصارخة لابد أن تجد لها في أذن الباطل وقعا، و أن تترك فيه دويا، اما أن يصمها و اما أن يصلح منها. و كذلك فعلت كلمة الامام ذلك الدوي الذي كان رجعه صلاحا و تأنيب ضمير في اذن الوليد، و صمما و عتوا في اذن مروان، و اسمع الي المراجعة التي دارت بينهما بعد خروج الحسين (ع).قال مروان للوليد: عصيتني!... لا و الله لا يمكنك مثلها من نفسه أبدا. و كان أشار عليه بقتله ان امتنع.فقال الوليد: ويحك. انك اشرت علي بذهاب ديني و دنياي، و الله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها، و اني قتلت حسينا: سبحان الله أقتل حسينا لما أن قال لا أبايع!.. و الله ما أظن أحدا يلقي الله بدم الحسين الا و هو خفيف الميزان لا ينظر الله اليه يوم القيامة و لا يزكيه و لا عذاب أليم).و كذلك نجد الشواهد الكثيرة، في هذه الفترة القليلة، علي عظمة المبدأ عنده عليه السلام؛ و لقد قضي دون مبدئه شهيدا و حامدا محمودا، و استقبل الله بوجهة المشرق لا يحيد عن خطته...الله. رسوله. القرآن

عظمة الصراحة

هذا جانب آخر من العظمة نطلبه عند الحسين (ع) و ليس يختلف كثيرا عن عن عظمة المبدأ كما يظهر، بيد أنهما مختلفان اذ كان الاول اعتقاديا و الثاني عمليا. فقد يكون المبدأ العظيم، و لكن يكون معه التلطف و التحيل.

ص: 98

و لكن الحسين العظيم كان دون مبدئه كما قيل (تكسرت النصال علي النصال) فلم يكن منه رجع و لا صدي حين يسأل البيعة ليزيد، الا ذلك الصوت الكالح ذا النبرات النارية المشتعلة، حتي:......................... كأنه (1) أسد له تامورغرثت حليلته و أخطأ صيده فله علي لقم الطريق زئيرثم يتناهي ذلك الصوت بهذه الكلمات الثلاث، التي جاهد لها الحسين و مات في سبيلها...الله. رسوله. القرآن

عظمة المضاء

و هذا جانب أكثر عملية من الصراحة اذ هو التصميم و العزم النافذ و توطين النفس الي النهاية علي أية أشكالها. و هذا شي ء يشعر به أرباب المشاعر المرهفة حتي أنهم يحسون في دمائهم غليانا، كأن بركانا انفجر و ثار في شرايينهم، فهو يقذف بالحمم و يندفع كالسيل الناري حين ينصب من علو بين الشرر المتصاعد و القوة المتدافعة، و بين النفس اللافح و الانهمار القوي. فلا براح من أن يمضي بدون تراخ تحت شعوره الجياش و احساسه الملتهب. و اسمعوا اسمعوا الي كلمات الحسين (ع) كيف تخرج مع هذا الشعور الخطير. قال: «الحمد لله، و ما شاء الله و لا قوة الا بالله، و صلي الله علي رسوله، خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة، و ما أولهني الي اسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان القلوات بين النواويس و كربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم رضي الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه و يوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول

ص: 99


1- 70. من قصيدة لبشار بن برد.

الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه و ينجز بهم وعده، الا فمن كان باذلا فينا مهجته و موطنا علي لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فانني راحل مصبحا ان شاء الله تعالي.)هذه الكلمات الثائرة كانت منطق الحسين (ع) لأولئك الذين أرادوا أن يحملوا علي غير رأيه. و لهؤلاء عذرهم فانهم لا يحملون نفسه و لا يشعرون بشعوره، و لا يتوقد في نفوسهم ما يتوقد في نفسه.و لندرك عظمة هذا الموقف الذي يقفه الامام، و يأبي الا أن يمضي الي غايته، نذكر الرجالات الذين نهوه عن الخروج، منهم أبوبكر عمر بن عبدالرحمن المخزومي،و عبدالله بن عباس، و عبدالله بن عمر، و محمد بن الحنفية؛ و كلهم من خلص الرجال، و لكنهم في مواجهة الرجولة الحقة، فقدوا جلد الرجولة و بدوا كدقاق الحصي في سفح الجبل الأشم حين تعصف العاصفة، تسمع أصواتا مع انحدارها و ربما كانت ضجة من الاصوات، و الجبل في موقفه ساخر في صموت، و ساكن في غير مبالاة. و ربما كان جوابا خالدا في التصميم و العزيمة، قول الحسين (ع) لابن عمر لما أشار عليه بصلح أهل الضلال، و حذره من القتل و القتال فقال: (يا أباعبدالرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا علي الله، أن رأس يحيي بن زكريا، أهدي الي بغي من بغايا بني اسرائيل).هذه فقرة نبيلة من جواب الامام، تجعلنا نلمس مقدار قوة التصميم عنده، و مقدار مضاء العزيمة لديه، لتحقيق هدفه الذي لا يحيد عنه قيد أنملة.و كذلك مضي و هو لا يري الا مبدأه الذي يأتلف من كلماتث ثلاث، ثم لا يسمع سوي صوت هذه الكلمات عميق الصدي سحريا...الله. رسوله. القرآن

عظمة البلاء

و هذا جانب آخر من عظمة الامام الشهيد، و لكنه أنبلها جميعا و ذلك، اذا

ص: 100

رأينا كيف يفقد المبدأ و الصراحة و المضاء ما فيها من معاني النبل اذا أرضت صاحبها شهوة أو أقنع منفس، أو أجاب الي دنيا. و ليست تفقد معناها فحسب بل ينقلب النبل فيها عابا، و الشرف حطة. فكان الاباء حجر الاساس و ركن الزاوية. و كذلك أبي الامام (ع) الا الاباء. و نطق بها كلمة تفرق منها نفس العاتي و تضؤل معها كبرياء الظالم (لا و الله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل، و لا أفر فرار العبيد، يا عباد الله اني عذت بربي و ربكم أن ترجمون، أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)...ثم أناخ راحلته، و ركب فرسه، و تهيأ للقتال...أعظم به بطلا لم يعط متضعا يد الصغار و أعطي دونها الراساكذلك الحر يستعدي الممات علي عيش الدنية اذلالا و اركاساأكرم بها خلة كانت لنا نهجا ثم استمرت علي الايام نبراساو كذلك أبي بعز النبوة و عز الشخصية، و أبي التاريخ من ورائه أني يقر لمثله أو يعرف مثله، فلقد علم الرجال الرجولة، و علمهم نبل الاباء، و أسمعوا بطل بني الزبير (مصعب) كيف يقول حينما تولهت امرأته سكينة بنت الحسين (لم يبق أبوك لابن حرة عذرا.و ان الألي بالطف من آل هاشم تآسوا فسنوا للكرام التآسيا)و هكذا أبي عليه السلام، الدنيا و لذائذها و بلهنية الحياة و رخاء العيش، لان اللذة الحقيقية استجمعت عنده في شي ء وراء أباطيل الحياة و أهوائها الضالة. و من كان له مبدؤه لا يدرك لذة الا به، و لا سعادة الا بتحقيقه، و كأنما كان مبدأ خط له عليه السلام من نور، فهو لا يري غير كلماته الثلاث...الله. رسوله. القرآن

ص: 101

عظمة البطولة

هذا جانب من العظمة أشد ما يكون وضوحا عند الحسين (ع)، و ربما لم يظهر عند غيره بالروعة التي نراها عنده، و لعل أبرع مواقف بطولة الحسين (ع)، هذا الموقف الذي يقول فيه...(قوموا رحمكم الله الي الموت الذي لابد منه، فان هذه السهام رسل القوم اليكم؛ فاقتتلوا ساعة من النهار حملة و حملة، حتي قتل من أصحاب الحسين عليه السلام جماعة. فعنده ضرب الحسين (ع) يده الي لحيته و جعل يقول. اشتد غضب الله علي اليهود اذ جعلوا له ولدا، و اشتد غضبه علي النصاري اذ جعلوه ثالث ثلاثة، و اشتد غضبه علي المجوس اذ عبدوا الشمس و القمر دونه، و اشتد غضبه علي قوم اتفقت كملتهم علي قتل ابن بنت نبيهم، أما و الله لا أجيبهم الي شي ء مما يريدون حتي ألقي الله و أنا مخضب بدمي)..محل الروعة البالغة أو بلاغة الروعة في قوله (قوموا الي الموت رحمكم الله) و في قوله (اما و الله لا أجيبهم الي شي ء مما يريدون حتي القي الله تعالي و أنا مخضب بدمي)...هاتان الفقرتان اللتان ترسمان بكل وضوح نفسية الحسين (ع) غير هياب و لا وجل و لا شكس و لا وكل. يدعو أصحابه الي الموت كأنما هو يدعوهم الي مأدبة لذيذة، و لقد كنت لذيذة عنده حقا، لأنه و هو ينازل الباطل يرتسم له برهان ربه الذي هو مبدؤه، و يسمع صوت الله الذي هو صوت ضميره، ثم يشد علي القوم، و هو لا يري بناظريه الا هذه الكلمات الثلاث...الله. رسوله. القرآن

عظمة الاستهانة

هذا الجانب عظيم و غريب عند الامام الشهيد، فقد كان مستهينا بالحياة و مستهينا بالموت، غير ناظر الي شي ء الا برهان ربه، الذي امتزجت به نفسه؛ فهو

ص: 102

يفتديه بكل شي ء هان أو عز، و من ثم كان جديرا عليه السلام بأن يسمي البناء الثاني في الاسلام بعد جده المصطفي صلوات الله عليه، و بأنه المجدد لبناية التوحيد كما يقول الشاعر الهندي (معين الدين اجميري رحمه الله).و كذلك استهان عليه السلام بكل شي ء ما عدا مبدأه. تصوروا رحمكم الله، أنصاره يخطف الواحد منهم بعد الآخر بمرأي منه و مسمع، و أبناؤه يطوح بالواحد بعد الآخر علي أمر منظر و أفظعه، و حرمه يتفجعن بين يديه و هو يتلوي من شدة الظمأ و جحد الجاحدين. و مع ذلك لا نراه الا الحسين (ع) الرجل الذي يقدس مبدأه و لا يلين، و يستعذب كل هذا علي خيانة الضمير و خيانة المبدأ المقدس، و هو يشع بأنواره الساطعة بين ناظريه، و كلماته السحرية تفعل في نفسه فعلها...الله. رسوله. القرآن هذه لمحة من عظمة الحسين الامام الشهيد عليه السلام، و ان يكن المصاب مريرا، فقد ترك درسا شريفا، و تعليما نبيلا و انسانية كبيرة، و ذكرا خالدا، و درجة رفيعة عند الله و الناس.و يكفي أنه كلما ذكر ذكرت به معاني الفضيلة و الحق، و اذا ذكر خصومه ذكر بهم معني اللؤم البغيض و الانسانية الشريرة. ولكن اذا كان شي ء مرا في كل حادثة، فانما في أن يقتل بيد من كان يتحمل الامام كل هذا العناء بسبيل راحتهم وهنائهم.هذه صفحة عجلي تضع بين أيدينا صورة من قيم الحسين (ع) النفسية، و ما كان قد استوي في قلبه الكبير من عواطف سامية و معان نبيلة و ميول للحق و في الحق، و مضاء علي كلمة الصدق.و هي و ان تكن صورة عجلي الا أنها تخطط أمام ناظرنا شكلا من الرجولة الحقة لا تقع دونه و انما تستوي فيه، و هذا ما يجعلنا نهيب بالناس الي ترسم هذا البطل القدوة في كلمة الحق و صراحة الحر و مضاء العزوم.

ص: 103

و هي حادثة قد يمكننا أن نسميها صغيرة اذا نظرنا اليها في حدود المغالبة، و لكن هذا الصغر فيها هو الذي جعل لها معني كبيرا، فاننا اذا رأينا حفنة من الناس في مل ء اليد، تثبت لجموع في مل ء الارض الفضاء، انكشف لنا عنصر البطولة و الرجولة الذي نكبره و نشيد به في حادث المصرع الرهيب.هذا شي ء دللنا عليه في غضون ما سبقنا به؛ و انما نريد أن نثبت الآن مقدار ما يفيدنا منه.علمنا الحسين (ع) كيف نحافظ علي ذاتيتنا، و كيف نتناهي في الدفاع عن كرامتنا، و كيف نعمل في سبيل القضية المقدسة، و كيف يجب علي الزعيم العامل أن يكون ارادة ماضية لا يلين و لا يستكين...يكون الاسد حبيسا و لكن لا يجعله الحبس عبدا، هذا ما يقوله ديوجين اليوناني في قديم الدهر، و ذلك لمكان الذاتية التي لا يري معها في سمت ناظرية الا اياها، و لا تجتمع مرامي بصره الا عليها. فهي مصدر شجاعته و استماتته و سر ابائه و غيرته، و القيمة الحقيقة لا تجي ء الا من هذا الجانب.علي ان تماسك الوجود لا يتم الا اذا اسندته الذاتية، و كانت له دعامة. و المرء الذي لا يشعر بذاتيته لا يشعر بوجوده، و ان تاريخ الحرية هو تاريخ الذاتية علي الحقيقة التي تأبي الا أن تظهر بسلطانها.و لقد ضرب الحسين (ع) أعظم مثل في الذاتية، و علمنا كيف نقدر ذاتيتنا حق قدرها. و لقد أرانا الحسين (ع) كيف لا يري الوجود الا في ناحيته، تحتبك عنده أطرافه. و هذا الخلق لا يرجع بالانانية عند الشخص في فهم الوجود، بل يحدد لكل امري ء نسبته من الوجود العام. فمعني انا موجود: أنا مستقل بكل أسباب الوجود؛ فالذاتية أو الاستقلالية تتصلان بالانسان فطرته، فكان من لا يشعر باستقلاليته لا يشعر بشي ء من وجوده. هذه الذاتية نراها عند الحسين (ع) بصورة ضافية بل ربما كانت عنده بأسمي مثل و أروع شاكلة.و الكرامة معني لا ينفك أو ينفصل عن الذاتية، بيد أنها تتصل مع ذلك بمنطقة

ص: 104

الوجدان، و من ثم كانت عنوانا علي التمتع بكامل الحريات للانسان المهذب.و الكرامة لا يشعر بها الا من أثر فيه مد التاريخ حتي جعل له شخصية اخري عدا شخصية الوجود، و بهذا الشعور نطق العربي...ما للمرء خير من حياة اذا ما عد من سقط المتاع و لقد ضرب لنا الحسين (ع) أرفع مثل في المحافظة علي الكرامة و الذود عنها و الاستبسال في سبيلها. فانها أي الكرامة عند الرجل الحر نعمة أسمي من نعمة الوجود.و من أطراف ما وقفت عليه من مذاهب المفسرين، هذا المذهب الغريب في قوله تعالي (و لقد كرمنا بني آدم) أي جعلناه ذا كرامة يغار عليها و يتفاني في ذمارتها، و هذا محمل و وجه من التأويل، و ان يكن غريبا لكنه متسق مع الآية، نازل منها منزلة قريبة. و لعله كان أقرب من كل معني آخر، و قربه يظهر في قوله تعالي في ختام الآية (و فضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) فان كان (كرم) من التكريم كان معني الجزء الاخير مستدركا، و انثني فيه معني آخره علي أوله. فيتسق علي انه (كرم) من الكرامة.و اذا كان الانسان مخلوقا ذا كرامة، فالتفريط فيها انتفاء من الانسانية و انتزاع منها، فاذا أردت أن تكون انسانا، فصن كرامتك و كن حرا.ثم ضرب الحسين (ع) مثلا في كيف نخدم قضايانا المقدسة، و هذا الجانب يدخل في أمس حاجاتنا، فنحن في مرحلتنا الجهادية التي نشمر فيها عن ساق، حريون بأن نعرف اولا كيف تخدم القضايا العامة، و هذا الدرس لن نعرفه علي وجهه الا عند الحسين (ع)، فان جميع من يعرفنا التاريخ بهم من شتي الرجالات في شتي الامم، لا نجد بينهم من يجي ء مع الحسين (ع) قرينا، و لن نجد في التاريخ له مثلا و لا نظيرا. و أني نجد انسانا يندفع علي الموت كما ينفدع الطفل علي الحياة بكل جوارحه و استعداداته، فهي تجتمع عند الطفل لكي تحيا، و تجتمع

ص: 105

عند البطل لكي تموت، و في حيوانية الطفل سر الموت، و في موت البطل سر الحياة...فالحسين (ع) أعطانا في هذا المشرع درسا هذه كلماته: الدفاع عن القضية المقدسة لا يكون الا بعد أن تستحيل القضية روحا يحيا بها المحامي و المدافع. و بذلك لا يحول به الموت و الحياة، و لا الرهبات و الرغبات عما هو قيد ذراع. بل يثبت ثبات القدر حين يقع لا يحول به حائل من الجهود. و اذا كان هذا ميزان الاخلاص في الدفاع، فانا نري كيف هو تكليف قاس ينوء تحته كل عاتق، ليس للحسين و أنداده. و أعظم ما يفيدنا في سيرته، و ان كانت الفائدة تتصل بها من سائرها، أنه أعطانا شكلا للزعيم المكافح الذي اذا خاض معركة الحق و الباطل فانه لا يعود الا بأن ينتصر به الحق أو بأن ينتظر. و انتصار الحق مما ليس منه بد، و ان كان للباطل صولة، و للمبطل دولة، و لكن الي حين.فيا بطل الكفاح مد الينا يدا...و يا بطل الجهاد كيف لنا بمثل خلائقك في الجهاد...أنت مرة ذهبت تصنع الموت انتصارا...و غيرك ذهب يصنع الحياة اقتدارا...فمات القوم و بقيت وحدك رمز الخلود...لكل انسان يوم حياة و يوم ممات...و بينهما يقوم مسرح الأعمال الخوالد...و أما أنت أيها العظيم، فقد كان لك يوم حياة فقط، لأنك لم تمت كما يشاء الموت، بل كما تشاء العقيدة، فلك في حياة كل انسان مكان...

ص: 106

الله واحد، و الحق واحد، و لئن تعددت موازين الباطل فلن يستوي في الحق مؤمن و جاحد...و لئن اعتدي علي الحق في جنح الظلام فللحق في ضمير الكون شاهد...و لئن تقوي الظالم حتي ضاقت في وجه فريسته الموارد، فللحق من نفس أسباب الظلم شباك يحوكها، بحيث تفلت الفريسة و يقع الصائد...

ص: 107

ذكري الحسين

اشارة

عري الدين من أحلاس شر و فتنة دواهي طغت وازور من وقعها الهدي فهاج امام الحق من كل وجهة و هاج امام الدين من كل منتحي فما قر في وجه الظلوم و ما التوي علي مرة الظلام أو شدة الهوي أرادوا به ذلا فكان جوابه زئيرا كليث الغاب حفز للشري سري جاهد يستندب الروع بغية كان الردي في الذل و العيش في الردي تهاوي علي موت الكريم كما هوي علي منية من كان يخلو الي المني مر بوادي الموت و الموت طلبة فيا عجبا هل ثم في الموت مقتني و أرادوا به ضيما و ذل ضراعة و لكن غذي المجد يستعذب انظماو قالوا له نعلي سرادق نعمة عليك اذا ما أنت أسلمتنا اليداتهادي كما لو كان في مثل طربة و قال مقال اأعظمي اذا انتخي

ص: 108

أقدم جمعي دون مبدا شرعتي و أحمي حمي ديني و أحبو الي الهدي (1) .أقدم ولدي و الأسنة شرع و أستعذب الموت الزؤام لهم رضي أقدم من ولدي شبيه نبيكم و شبه نبي الهدي يفدي له الهدي (2) .أقدمه للموت و هو كوردة تفتح. والدين الحنيف له البقاأقدم صنوي للوغي و فتي أبي و هل مثله حر اذا اجتمع الوري و من مثل عباس أبي الفضل باسلا و من مثله نبلا و من مثله تقي أقدم من قرباي قربان فدية حفاظا لدين الله أن يرمي بالدني أقدم منهم كل أحمس ماجد أخا شرف يحمي الحقيقة بالظباأقدم رأسي شاخبا بدمائه علي أن أمد الكف للذل و الخنالقد رضيت نفسي لأسجرها فدي و قد رضيت نفسي لا نحرها حمي و يطربني هذا الأنين كأنه بقيس شعوري من لحون علي الصباو لو أن أهلي قطعوا اربا علي لحاظي، كلا، لا أحول عن الخطي كذاك رجالاتي الكرام تعاقدوا علي فدي دين الله ان كان يفتدي مقال لعمري صير الدهر خاشعا و رجعه في كل جيل أخو مضاكأني بهال ذاك الاثير مجوبا يطوي النواحي و الرجا بعده الرجافيا كربلا. كهف الاباء مجسما و يا كربلا. كهف البطولة و العلاو يا كربلا. قد حزت نفسا نبيلة و صبرت بعد اليوم رمزا الي السماو يا كربلا. قد صرت قبلة كل ذي نفس تصاغر دون مبدئها الدناو يا كربلا. قد حزت مجدا مؤثلا و حزت فخارا ينقضي دونه المدي

ص: 109


1- 71. بمعني الهداية.
2- 72. بمعني الدين.

فخار لعمري سطرته ضحية فكان المعني المجد أعظم مجتلي فللمسلم الأسمي شعار مقدس هما قبلتان للصلاة و للابافأكرم ببيت كان للناس شرعة و منبثقا من خطة النبل و الفدي فداء لعمري ظل تمثال نهية يقدسه الرواد من كل منتحي يطوفون في أرجائه بقداسة كأن لها وحيا الي النفس و النهي كذلك سر الكبرياء اذا سمت و ذلك سر العبقري اذا انتضي دمعة (1) سني علي الحسين (ع) وقفت علي زمرة ثائر ين يكاد الحفاظ يرامي الحمم يقولون ثأر لنا نائم نريد انتقاما يروي الضرم يروي الضلوع يعيد النخا يروي النفوس يعيد الشمم فقلت، اليكم و اين الترا ت قالوا جميعا طواها الرمم فقلت، اليكم لماذا الحفا ظ هل في القبور هوي ينتقم هناك الا له اليه القضا اليه العدالة في المحتكم فقالوا و ألووا الي الرؤوس ريت الامور بعين أمم نحيي الكرامة في شخصها نحيي البطولة في ذا العلم نحيي الحقيقة في نبلها نحيي الفداء نحيي الحطم نحيي ضميرا سما طهره نحيي ضحية حق غرم

ص: 110


1- 73. يقيم الشيعة ذكري عاشوراء للعظة و الادكار، و هي ذكري عظيمة بما اشتملت عليه من عظات و من بطولة في الجهاد و انما تربو الروح السامية بذكري الابطال. و هذه الذكري اليوم ألزم ما تكون لنا في مرحلتنا الانقلابية.

نحيي الطهارة في بيتها اطار الطهارة قدس و دم نحيي نبيلا أبي نبله قرارا و تلك تطل الحرم و تهتضم الحق لا ترعوي اذا الحق أن بصوت الديم نحيي فؤادا تأبي العفا تأبي الفضيلة ان تنحطم تأبي الهجوع و صوت الحقو ق يدوي الي الي الحكم نحيي مثالا أجاب الندا فكان فداء كرمز الحرم أجاب و ياروعة للجوا ب اذ قال مرحي بسكني الرجم و فيه افتداء حقوق غدت تئت بليل اذا ما اعترم و فيه نداء يفل قوي ظلوم غشوم اذا ما احتكم و فيه نداء أيا الظالمين رويدا رويدا فللحق يوم و فيه هزيم كصوت الرعو د و يوم الحقيقة يوم حسم و يذكي شعورا يخيف الظلو م و يحمي الحقوق فلا تنهضم و يذكرنا المجد كيف السبيل و كيف ينال اذا ما اخترم الا انما بالدما وحدها يرد اعتداء عدو خصم فما طل دم جري في الثري يصيح مدي الدهر يا للهمم يصيح بصوت رعود رعوب يهز قرار النفوس الركم ينبه في النش ء أمجاده لرد تراث و لو في الأجسم فطربت لما فهمت الرمو ز و أرسلت دمعي فوق الرمم«أبازيت (1) » مجد أحييكم و نعم الخشوع بذكري العلم

ص: 111


1- 74. كلمة من وضعنا الجديد، و هي جمع ابزيت و معناه الثائر لذكري تاريخية. راجع مقدمة لدرس لغة العرب ص 254، و هذه القصيدة اجريناها علي رأي عروضي لنا؛ راجع مقدمة لدرس لغة العرب ص 46 الي 52.

ص: 112

في الشخصية

اشاره

الشخصية لفظ كأكثر ألفاظ الفلسفة و العلوم، لا يعبر عن معناه تعبيرا حقيقيا، و لا يقوم علي مفهوم محدد، و أيضا لا يعتمد علي اعتبار منطقي واحد. بل يداخله اعتبارات شتي تجعل له معني متفاوتا، و هو كغيره من مصطلحات العلوم يستند اليه في تقريب الغرض العلمي فقط.فمما لا ريب فيه اذن، أن العلوم مغلوبة بأسوب شعري أو أدبي (1) .

ص: 113


1- 75. وضعنا كلمة ادبي هنا موضع كلمة فلسفي علي ما انتهي اليه بحثنا في تحقيق كلمة أدب، و أن العرب استعملتها بعد الاسلام لتدل علي كل ما تتناوله الفلسفة و لغموض وضعها الاصلي الشخصي، لا بأس من أن نقف عندها قليلا لندرسها علي ضوء التعليم اللغوي الجديد الذي اثبتناه في كتاب (مقدمة لدرس لغة العرب) ص 147 الي 152، ص 210 الي 214 فان لها خطورتها من ناحية ولانها كانت محلا للاخذ و الرد و التقدير المرسل من ناحية أخري و لا بدع فهي من الغوامض؛ و تحديد ظروفها في الاشتقاق و الاصطلاح أهاب بكثرة مستشرقة و عرب الي استعراض ما وقعت فيه و تتبع اقدم النصوص المحفوظة، و لم ينوا في جمع مختلف الاثار؛ و كان من نتائج هذا البحث الشاق آراء لا تقع فيها علي القول الفصل، و لا أعلم لاحد بحثا تحقيقيا قبل الاستاذ (نللينو) و مهما يقال علي النتائج التي وصل اليها فلا ينكر عليه قيمتها؛ و يسرنا هنا أن ننوه برأي طريف جدا للاستاذالزيات أخذ أخذا، فيه استبعاد و لكن علي كل حال جدير بالدرس؛ و حاصله أن (أدب) في الشومرية معناه الانسان و لا يبعدان العرب نقلته بالابدال بالميم فقالت (آدم) و وجه جدارته انك لو أخذت مادة (ادب) و مقاليبها و مادة (ادم) و مقاليبها كذلك لا لفيتها تنظر الي معني واحد لا اختلاف فيه مما يقضي بأن بين المادتين تناظرا و ان كان هذا التناظر يمكن ان يرد الي تقارب ما بين الباء و الميم. فان كلا منهما يأتي من مقاليبه ما بمعني الزمن الطويل خذ (أمد) و (أبد) و تشعر المقابلة بين مقاليب المادتين بأن مادة (ادم) أحدث من أدب و لكن مع هذا نري انه لا يخلو عن مجازفة نظرية. بيد أنا نري رأيا جديدا ربما يشتمل علي عناصر من القوة و الحقيقة أكثر مما في كل رأي سابق؛ و راينا هذا بكل صراحة لا يستند الاعلي التحليل اللغوي فليس هو نتيجة ابحاث تاريخية تقوم علي مستندات كانت مجهولة و انما هو التحليل اللغوي لا اكثر. فان مقاليب هذه المادة تعطينا معني غير مختلف و دلالة متآخية و هي الزمن الممتد و الخلود الزمني. و كيفما كان فالنتيجة واحدة. و عليه فلفظة الادب قديمة و وضعت لمعني (خلود الذكر) و عنه نشأ ادب بمعني (تخلق) و عن هذا نشأ ادب بمعني (دعي الي الطعام) و عن معني (خلود الذكر) ايضا نشأ ادب بمعني (القصص و الحكاية و النادرة). و عن هذا نشأ ادب بمعني (سمر) و من ثم اطلق علي الشطرنج انه من الادب. و في اثناء هذه الانفصالات تولدت من الشريعة لفظة العلم مرادا منها الدين و لذا كانوا لا يطلقون علي ما سوي علوم القرآن علما. فقامت لفظة الادب في الجانب الاخر لتؤدي ما عدا ذلك جميعا دالة علي (الفن) و كل ما ليس الي الدين من أنواع الدرس و و لذا قالوا ادب الدرس و ادب النفس. و قال ابن المقفع في ص 4 من الادب الكبير (يا طالب العلم و الادب) و استعملها في موضع آخر بما يقرب من الناموس و السياسة قال في ص 21 (حتي تحملهم ان استطعت علي الرأي و الادب الذي بمثله تكون الثقة). و قال أبوالعيناء (ان لعلي (ع) تسع كلمات فقأن عين البلاغة، ثلاث منها في المناجاة و ثلاث في الحكمة و ثلاث في الادب؛ أما التي في المناجاة فهي: الهي كفاني عزا أن أكون لك عبدا، و كفاني فخرا ان تكون لي ربا، أنت كما اريد اجعلني كما تريد. و اما التي في الحكمة: فهي قيمة كل امري ء ما يحسنه، المرء مخبوء تحت لسانه، ما هلك امرؤ عرف قدره. و أما التي في الادب: احتج من شئت تكن اسيره، و تفضل علي من شئت تكن اميره، و استغن عمن شئت تكن نظيره) فنحن بمقارنة ما بين كلمات الحكمة و كلمات الادب نجد جليا كيف كانوا يفهمون من الادب معني السياسات. و بالتقدم الفكري عند العرب نشطت لفظة العلم و توسعت لتدل علي أكثر مما كانت تدل عليه لاسباب أهمها انها اوسع الالفاظ في اصل العربية لهذه الدلالة، و ايضا لان علماء الشريعة شاركوا في علوم من علوم الدنيا و دخلت في شعبة اختصاصهم؛ و لما شملت العرب الحركة المنطقية اكتسبت لفظة العلم أوسع معني و بدأت تنتزع من الادب كثيرا مما كانت تقال عليه حتي عادت و لا تقال الا علي فنون بعينها شملها فيما بعد ايضا لفظ (العلم) و أصبح لها معني الوحدة؛ و عليه فقد عراها ما عري كلمة الفلسفة من تغيرات بين السعة و الضيق و العمومية و الاختصاص و ايضا تشبهها من وجه اخر و هو أن كلتيهما لا يعرف لهما مولد علي وجه التحقيق و لا غرض علي وجه الدقة و انما كل ما يعرف من شأنهما استعمالات لا تؤدي وجه الغرض بل ربما زادته غموضا نظرا لما هي عليه من الاختلاف فالفلسفة يستعملها (هيرودوت) بمعني غير ما يستعملها لفيه (بركليس)؛ راجع دائرة البستاني و مبادي ء الفلسفة. و الادب استعملت في أقدم ما حفظ من نصوص بمعني الدعوة الي المأدبة ثم رأيناها تبعد شيئا فشيئا الي معان ليس بينها و بين الدعوة الي المأدبة آصرة و لو بعيدة؛ و هكذا نجد بين الكلمتين شبها من كل الوجوه تقريبا فهما في عهد ما قبل الارتقاء يستعملان بمعني أبعد ما يكون عن المعارف، و في عهد المعرفة يستعملان بما يكون جامعا لها. و لا يمنع من هذا أنا لا نجد شواهد لغوية في المعجم المحفوظ. و الخلاصة ان كلمة ادب ترجم بها العرب كلمة فلسفة و كثر استعمالها في السياسات علي اختلافها كسياسة المدينة و سياسة المنزل و سياسة النفس و سياسة الطباع؛ و لا شك ان أدب القول من سياسة الطباع.

يدل في أوضح ما يكون دلالة غيبية محضة. و من ثم رأي بعض الطبيعيين أن الأقرب في مذهب التعليل، أن نسمي الجاذبية (مقاومة الانفصال) و رأي ماكس نورداو أن الأصح في المنطق أن نسمي نظرية بقاء الاصلح (ببقاء الأحيل)و ليس في هذا ما يدعو الي الدهشة، فانا اذا وقفنا علي تمام الملاحظة في اصطلاح (الانتخاب الطبيعي)، رأينا مقدار ما تقوم عليه الفاظ العلوم من الحظ الأدبي.و عليه فليس لنا أن كعتمد علي كل من تخيله المصطلحات، بحيث ننظر اليها كاطار للحقيقة، فان هذا الاعتماد يسوقنا الي مغالط كبيرة و مغالطات ذات أهمية؛ فهي تفسر الشي ء أحيانا تفسيرا غير صحيح، و أحيانا تفسيرا يميل الي التعميم. و مثله أنا اذا تساءلنا عن نجاح انسان، فانا نعلله بالشخصية الموفورة، و اذا تساءلنا عن الشخصية لم نلق جوابا واضحا. فيكون كل ما استطعناه أن ننقل التساؤل لا أن ننتهي به، اذ ليس للشخصية حد حقيقي في كثرة ما لها من التعاريف.لذلك لا يهمنا أن نذكرها في معناها، بل في آثارها الهامة و عناصرها الجوهرية المكونة التي هي:الجاذبية، النشاط العقلي، المشاركة الوجدانية، الشجاعة، التفاؤل، الحكمة، التواضع، حسن المظهر، قوة البيان، الثقة بالنفس، اعتدال المزاج.ثم للشخصية صفات كمالية و هي علي وجه العموم: الذاتية، الاخلاص، الحماسة، قوة الوجدان أو الاحساس.

ص: 114

و علم النفس التطبيقي ينصرف الي أن ذا الشخصية قمين بالنجاح أو هو ناجح من غير بد. بيد أن هذا ليس صحيحا علي اطلاقه، بل لابد من شي ء جوهري آخر لتحقيق هذا النجاح، و هو استعداد الظرف أو الاجتماع. فلقد تستجمع كل عناصر الشخصية في شخص ما. و لكن مع ذلك يفشل في زمنه أو عصره، لأن عناصر شخصيته ليست منتزعة من صميم المكيفات العامة للعصر. و لذلك يبقي بشخصيته بعيدا عن الوسط، فان الشخصية ليست بذات حدود آلية أو قاعدية تحكمها، و اذا كان لها حدود فليس لها طابع ثابت أو لون واحد بعينه.و النجاح يقوم علي مقدار ما يستطيع المرء علي تكييفها مع الصفات البارزة للعصر التي هي شخصية ثانية. و هذا التزاوج علي الدوام انما يتم بسبب واحد، هو المرونة في شخصية المرء لأن شخصية المجتمع أو الجماعة أكثر ثباتا أو ثابتة. و هذه المرونة أو الحيلة بعبارة أصح هي السبب الصحيح للنجاح الدائم. فليس النجاح تابعا لتوفر الشخصية الصحيحة، اذا كان للشخصية أقطار و حدود، و انما هو تابع للحيلة في استعمال هذه الشخصية.و لقد كانت حقيقة عظيمة، الملاحظة التي أبداها ما كس علي مذهب بقاء الأصلح، بأن الأولي في مذهب التعبير الواقعي أن نقول بقاء الأمكر أو الأحيل.و انما اجتهدنا باثبات هذه الملاحظة علي النظرية المذكورة، ليتسق لنا فهم الفشل الذي مني به مثل علي (ع) من أصحاب الشخصيات الكبيرة، و التي لا نكر في انها ممتازة الي أبعد غاية.و مما لا يمكن الريب فيه أن للتربية يدا في ابداء الشخصية و تركيزها علي خطة مثلي، و أما أنها تعتمل الشخصية، فهذا ما ليس في طوق مناهج التربية أن تعطيه بحال.و هي اذا قدمت نوعا من الشخصية المستقلة، فان فرق ما بين الطبيعية و الاكتسابية كالفرق بين الانسان الحي و الانسان (الميكانيكي) الآلي.و لسنا نريد أن نتبلغ بهذا الي الانكار علي المنهج التربوي فائدته و آثاره

ص: 115

الهامة في التهذيب و اعطاء الشخص الفاضل، فقد ثبت أنها كفيلة بهذا القصد و حفيلة بفضلي النتائج. و انما الغرض الذي نتوسل اليه أن نقرر أن الشخصية الكامله المقصودة بهذا اللفظ عند الاطلاق، هبة في أهم أنحائها لم تتفسر علي وجة واضح. فالبطل كما يقول (كارلايل) يولد بطلا.و سنأخذ الآن ببحث نواحي الشخصية عند الحسين (ع)، لنقدم فيه قدوة نبيلة، مخططة علي رسوم جلية. و هي بعد شخصية محببة الينا، لا تعدل بنا أن نتوخاها.

الجاذبية

هي أهم عناصر الشخصية المكونة، و لقد غالي بعض رجال التربية فجعل منزلتها من الشخصية منزلة الحقيقة أو الجنس، و انما سائر العناصر الأخري قوي فقط، و هذا له وجهه، فان أعظم ما يسترعي اهتمام التاريخ في الحديث عن الشخصيات، هو هذا الجانب فان للجاذبية فعلا أسريا يحول بين المرء و نفسه، و يستولي علي مناطق الشعور منه بحيث لا يشعر بشي ء علي الاستقلال، بل يجعله كأنما هو موجه الي جهة يريدها. فهي سلطان قاهر يطيف بالنفوس فيسبتها أو يبعث فيها خدرا عميقا يتركها بلا حول.فقد ذكر (لوبون) في كتاب «روح الاجتماع» أن (نابوليون) كان يدخل مجلس الأمة، و كثير من رجاله معنفون عليه، فما هو الا أن يدخل حتي ينقلب أشدهم عنفا و تطرفا في الانتقاد أكثرهم اقتناعا، و قد كان يقول أحدهم يخيل الي لو أن هذا الرجل أخذ بأذني فأخرجني ما اختلفت عليه.و مع ان الجاذبية شائعة الوجود في أفراد من الناس، لم نظهر علي تفسيرها الصحيح، و لا تزال تشرح علي سنة و صفية بحت، و لو أظهرنا علي سرها لكان لعلم النفس أن يتحكم في الجاذبية طغيانا و نضوبا؛ و الحق أن الجاذبية من أسرار النفس العليا، لا يمكن النفاذ اليها بسهولة و لقد عبر عنها صاحب الشريعة صلوات الله عليه بأدق تعبير و أعمقه (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها

ص: 116

ائتلف و ما تناكر منها اختلف). فهي مغنطيسية حية تفعل في النفوس، كما تفعل المغنطيسية بالحديد، لا يختلف عليها منه الا ما قدر أن يسقط عن رتبته، بما تراكبه من الصدأ او استحال عليه من الأتربة.و اذا كان سر الجاذبية قد تفسر لدينا في المرتبة الجمادية، فلم يتفسر سرها علي وجه صحيح أو علي أي وجه في مرتبة الأحياء. فان من المدهش هذا التأثير الجذري الذي لا يملك الانسان له دفعا او منه مناصا فهو ينزل بالشخص المستقل الارادة، التام التركيب، القوي العضل، المتمتع ببناء عضوي كامل، فيفقده ارادته و استقلاله و يجعله بعضا من شي ء غيره بعد ان كان شيئا لنفسه. فالجاذبية قوة أسرية ساحقة تفعل في الجماهير كما تفعل في الأفراد، و ان كان أسرها الجماعي أضعف من أسرها الفردي. و لكن علي أي حال لا يختلف تأثيرها، في أنه طائف كهربائي مصمت. و لقد يقوم نجاح بعض الأفراد الدائم في كل المراحل علي هذا الجانب من الشخصية فقط، و بذلك يظهر أن النجاح لا يتوقف علي توافر أنحاء الشخصية. فانه قد يقوم علي جانب واحد أو وضع واحد، و لكن يجب في هذه الحالة أن يكون العنصر من الشخصية مبالغا الي درجة يبدو معها شخصية كاملة.و الحق أن المرأة (بالنظر الي عموم الصنف) تتمتع بوضع واحد من أوضاع الشخصية الكثيرة، و لكنه يكون فيها الي حد موفور، يضمن لها النجاح التام تقريبا بالاعتماد عليه؛ فانها تقوم في تأثيرها المطلق علي الجاذبية وحدها الناشئة من اختصاص (1) الصنف، حتي و لو كانت مشوهة فان الفشل الذي يصادفها احيانا يكون بأسباب أخري، كالفشل الذي يصادف الجميلة يكون بأسباب شتي بحسب ما يجي ء به الظرف.فمن الخطأ الظن بأن السيطرة في المرأة يرجع الي الجمال، فانه من مصححات الانوثة و ليس شرطا أساسيا في السيطرة و التأثير، و انما هو شرط

ص: 117


1- 76. هذا ملحظ الاستاذ هو بس الانجليزي. و نعني باختصاص الصنف، الانوثة.

أو كالشرط في مبالغة التأثير و السيطرة. و الواقع أن الانوثة علي اختلاف درجاتها كالمتر (1) ، مهما تناهت اجزاؤه صغرا، فانها تملك قدرا من الأبعاد، و الأنوثة مهما فقدت من مصححاتها، فانها تملك قدرا من الجاذبية و السيطرة.و الجاذبية تكون طبيعية، و تكون معتملة (2) كالشخصية بكل عناصرها. بيد أنه لا يقدر البقاء الا للأولي فقط، فقد يتسني لكلا الصنفين الظهور بتناظر كبير. و قد تغلب الثانية أحيانا و لكن مردها الي البوار بحيث لا يكتب لها البقاء، و هذا شأن الحق و الباطل في كل دور و كور؛ و شأن الحسين (ع) و يزيد، و من قال بأن الحق لابد له أن يغلب في عصره، فقد بعد عن جادة الصواب، فان المسيح (ص) تناهي أمره و الطغيان في مده، و لكنه ترك علي صخرته كلمة الحق، فتقاصر الطغيان و برزت الصخرة بما ثبت عليها، ليس الا اياها بارز مشهود و حق ممهود، ثم كان لها البقاء (3) .و لقد قلت بأن أدق تعبير حفظ عن الجاذبية، قول النبي (ص) (الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف). و بيان وجه العمق و الدقة فيه، بأن نرجع بالتصور الي العهود السالفة، حين كانت الجنود تلتحم في المعترك الواحد، ليس لهم ما يميزهم الا كلمة الشعار، و هي كلمة سرية يعرف بها الجندي عدوه من سواه.

ص: 118


1- 77. كلمة متر يظنها اكثر الناس اجنبية محضا. و لكننا سقطنا علي نص مثبت في كتاب العلامة أبي بكر الباقلاني (اعجاز القرآن) بأن العرب الجاهلية كانوا يسمون علم موازين الشعر (المتر) و سواء صح أنها عربية الاصل أو لا فانا لا نري ترجمتها بغير اللفظ العربي (متر). و قد ترجمنا المتر المربع بكملة (رمت) بضم الأول و سكون الثاني.
2- 78. اعتمال الجاذبية يكون بالقنفخرية و الاعتقادية و الارثية. فالاول مثل (نيرون) القزم طاغية روما والي هذا اشار شاعر القرطين خليل بك مطران. قزمة هم نصبوه عاليا و جثوا بين يديه فاشمخرا و الثاني مثل نابوليون الثالث. و الثالث مثل يزيد بن معاوية.
3- 79. البقاء نسبي اي الي ان اراد الله تجديد الشريعة ببعث النبي (ص). علي ان الشريعة واحدة و الانبياء مجددون فقط. و الفرق بينهم و بين المصلحين ان تجديد الانبياء يتناول الاساس احيانا لانه بالتنزيل، بخلاف المصلح فانما عمله في حدود التفريع و الشكلية فقط.

علي هذا التصور يبدو الحديث، كأدق ما يكون دقة، و أسمي ما يكون سموا و أرفع ما يكون بيانا. يقول (1) النبي (ص) الارواح في هذه الحياة الدنيا كأنها الجنود في معترك شديد الالتحام، أو هو ملتحم علي الدوام لا هدنة فيه و لا هوادة. و انما عرفانها و نكرانها و ائتلافها و اختلافها بشي ء من الروح ككلمة الشعار التي تعرف بالجندي (ان كان من اهلها أو من أعاديها).و سر الاعجاز البياني في الحديث آت من ابداء الصورة علي هذا الشكل و اللون. فالحياة معترك فرضته طبيعة البقاء و الاستمرار، و بنو الانسان جنود في المعترك يدفع بعضهم ببعض، و انما يتعارفون و يتناكرون كما يتعارف و يتناكر الجندي مع الجندي في الملحمة بكملة السر. و في هذا تصوير للحب و البغض بأبرع صورة تمثيلية بيانية.و لا نفيض كثيرا لئلا تنقطع بنا الصلة، بين ما نكتب عنه الي ما نكتب فيه و لنر الآن آثار الجاذبية عند الحسين (ع).ذكر ابن عساكر أن معاوية قال لرجل من قريش (اذا دخلت مسجد رسول الله (ص) فرأيت حلقة فيها قوم، كأن علي رؤوسهم الطير فتلك حلقة ابي عبدالله مؤتزرا الي انصاف ساقيه).و ذكر ابن كثير (أن الحسين لما خرج و ابن الزبير من المدينة الي مكة، و أقاما بها عكف الناس علي الحسين (ع) يفدون اليه و يقدمون عليه و يجلسون حواليه و يستمعون كلامه).و قد تقدم هذان الخبران، و مما لا اختلاف فيه بين الرواة ان الحسين (ع) كان محببا الي كل نفس، مصطفي بين كل قبيل. و زادت به جاذبيته الي الناس، أنهم غدوا يقدسونه تقديسا و ينظرون اليه بالنظر الذي هو فوق اعتبارات الناس.

ص: 119


1- 80. شرح هذا الحديث كثير من رجال الاثر او فقه الحديث. و لكن لم يقعوا منه علي طائل. و المعني الحقيقي فيه هو ما ذكرنا. و كان بودنا ان نشرحه علي الطريقة الوجدانية التي اخذنا بنهجها في موضوع (المسلم القرآني) من هذا الكتاب و لكن ليس في الوقت متسع و لا في المقام مجال.

فقد ذكر الواقدي (1) عن أبي عون قال (خرج الحسين من المدينة فمر بابن مطيع و هو يحفر بئره، فقال: أين فداك أبي و أمي؟ متعنا بنفسك و لا تسر، فأبي حسين؛ فقال ان بئري هذه رشحتها، و هذا اليوم أوان ما خرج الينا في الدلو، فلو دعوت لنا فيها بالبركة، قال هات من مائها، فأتي به في الدلو فشرب منه ثم مضمض ثم رده في البئر). شأن النفوس أيا كانت أن يعروها ضرب من القلق الوجداني الذي لا يعرف له مصدر في حقيقة الواقع، فتلجأ الي المخدرات، فيطلبها أناس في حدود الشهوات و الانغماس في الملذات، و هو مكمد وقتي الاثر فيبالغ الاشخاص في الانغماس الي درجة (ابيقورية).و يطلبها آخرون في المخدر بأنواعه، لان فيه ضربا من الانصراف بالوجدان المذعور الحائر.و يطلبها بعض أرباب السمو العقلي في المطالب العلمية العالية.و يطلبها ارباب السمو الروحي في الاسباب الغيبية التي تضع حدا حقيقيا للحيرة الانسانية، و انما يجتمع اعتقادهم فيمن هو مغمور بفيض الجاذبية القوية الأخاذة، بحيث تجعله محببا الي النفوس و قريبا من القلوب. و هذا هو السر في الهدوء الي جانب رجال الدين، و الي جانب المرأة و الي انحاء الفنون الجميلة.و نختم حديث الجاذبية عند الحسين (ع) بحادث وقع له في مسيرة الي الكوفة؛ و هو يرسم بوضوح أسر الحسين النفسي و سيطرته الروحية. ذكروا عن جماعة من فزارة أن زهير بن القين البجلي حج في السنة التي خرج فيها الحسين الي العراق و كان عثمانيا، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين و كان لتمسكه في العثمانية يكره مسايرته و النزول معه في منزل واحد. و في يوم لم يجد بدا من النزول معه... فبينما نحن جلوس نتغدي اذ اقبل رسول الحسين (ع) فقال:

ص: 120


1- 81. أثبت هذا الخبر الذهبي في تاريخ الاسلام في اخبار مقتل الحسين. و أثبته ابن عساكر في التاريخ الكبير ج 4 ص 323 بزيادة (و هو يحفر بئرا و اذا ماؤها مالح فشرب منه فتمضمض ثم رده في البئر فعذب ماؤها)..

يا زهير ان أباعبدالله بعثني اليك لتأتيه، فطرح كل انسان منا ما في يده كأن علي رؤوسنا الطير كراهة ان يذهب زهير الي الحسين، فقالت امرأته - و هي ديلم بنت عمرو - سبحان الله، أيبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه، فلو أتيته. فأتاه زهير علي كره فما لبث ان جاء مستبشرا قد أشرق وجهه و حول فسطاطه الي الحسين، و قال: قد عزمت علي صحبة الحسين لافديه بروحي و أقيه بنفسي، فودعته امرأته و قالت: خار الله لك، أسألك ان تذكرني في القيامة عند جد الحسين (ع)؛ و قال لاصحابه من أحب منكم ان يتبعني و الا فهو آخر العهد مني. اني سأحدثكم حديثا انا غزونا بلنجر و هي من بلاد الخزر ففتح الله علينا و أصبنا غنائم ففرحنا. فقال لنا سلمان الفارسي: اذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما اصبتم من الغنائم؛ فأما أنا فأستودعكم الله، و لزم الحسين حتي قتل معه.

الالمعية أو النشاط العقلي

من الظواهر البارزة في ذوي الشخصية، وفور الاستعداد الذهني، وجودة الملاحظة، و خصب الفطنة، و حضور البديهة، و سرعة البادرة، و جمال المحاضرة. حتي يبدو أحدهم في مجال الحديث خراجا و لاجا يداور بين البديهة و الاحكام كأنه الحول القلب. و يمتلك من المجلس علي مقدار ما يمتلك من الاستعداد.و السر في أن النشاط العقلي يرفع بقيمة المرء، و يحطه الخمول و الوهن العقليان، أن مقاييس الناس لقيم الأشياء تجتمع في الاعجاب؛ فعلي مقدار ما تترك في النفس من أثر اعجابي تكون قيمة الأشياء. و الاعجاب علي الدوام باعث من بواعث النشاط النفسي يبدد ما يعرو النفوس من الملل. و من ذلك تأتي قيمته. بينما الخمول العقلي ينتقل ميكروبه من صاحبه الي النفوس الأخري، فيسارع اليها الملال و يعروها ضرب من الخمول الشديد. و في قول أبي العلاء المعري، ما يفسر هذا.

ص: 121

(تثاءب عمرو اذ تثاءب خالدبعدوي فما أعدتني الثؤباء)و هذا أخذ وصفي بعيد عما يتطلب الأسلوب العلمي من دقة في الافاضة و الشرح، لان من قصدنا أن نخط صوة قريبة، تضم الوصف الي التعليل، و الأسلوب الشعري الي الأسلوب العلمي تطرية و تقريبا.و النوادر في هذا الباب كثيرة جدا، حتي توفر أبواسحاق الحصري في كتابه (جمع الجواهر) علي ضم شتيتها و قد جاءت رائعة رائقة و في أقضية (أميرالمؤمنين) علي (ع) قدر كبير من هذا النشاط، و لقد عني بها الامام الترمذي فجمعها، و نقل قسما كبيرا منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتاب (السياسة الشرعية). و في كتاب الأذكياء لابن الجوزي جزء كبير من هذه التندرات. و نثبت بعضها قصد تلوين الحديث.ذكر الحصري أن الجاحظ حكي عن الشرقي بن القطامي. أن أبن ابي عتيق (1) لقي عائشة (ض) - و هي عمة ابيه - علي بغلة، فقال الي أين يا أماه؟ فقالت أصلح بين حيين تقاتلا، فقال عزمت عليك الا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتي نرجع الي يوم البغلة..و دخل يوما علي عائشة (ض) و هي لما بها، فقال كيف أنت يا أماه جعلت فداك، قالت في الموت، قال فلا اذا انما ظننت أن في الأمر فسحة، فضحكت و قالت ما تدع مزحك بحال.و من أقضية علي (ع) ما ذكره ابن القيم. أن امرأة استنكحها رجل أسود اللون، ثم ذهب في غزاة فلم يعد، فوضعت غلاما اسود فتعيرته، فبعد ان شب الغلام استعداها الي سيدنا عمر (ض) فلم يجد شهادة اثبات و كاد يتم للمرأة ما أرادت، بيد أن عليا (ع) أدرك في طرفة ما تجتهد المرأة باخفائه، فقال: يا غلام أما ترضي أن اكون أبا لك و الحسن و الحسين أخويك، فقال الغلام: بلي،

ص: 122


1- 82. كان نادرة الزمان في سرعة الاجابة و حضور البديهة و اجتذاب النكتة.

ثم التفت الي أولياء المرأة، فقال: أما ترضون أن تضعوا أمر هذه المرأة في يدي، قالوا بلي، فقال اني زوجت مولتي هذه من ابني هذا علي صداق قدره كذا و كذا؛ فأجفلت المرأة و قالت النار النار يا علي!.. و الله انه ابني، و لكني تعيرته لسواد لونه.و مما ذكره ابن الجوزي في (الأذكياء). أن رجلين أتيا امرأة و وضعا عندها مالا، و أوصياها أن لا تعطي المال الا لهما جميعا، و بعد لأي جاءها أحدهما و طلب المال بناء علي أن صاحبه توفي فأسلمت اليه المال، و لم ينشب أن جاء صاحبه فطلب المال، فقالت دفعته الي صاحبك، فداعاها الي أميرالمؤمنين عمر (ض)، و كان علي (ع) يشهد الدعوي و قد فهم من سير الخصومة أن الرجلين يمكران بالمرأة، فقال للرجل عندنا ما طلبت و لكن ائت بصاحبك علي مقتضي الشرط، فذهب و لم يعد.و ذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء: ان أباحامد الخراساني القاضي، قال: بني ابن عبدالسلام الهاشمي بالبصرة دارا كبيرة، و لم يتم له تربيعها الا بمسكن لطيف كان لعجوز في جواره امتنعت من بيعه، فبذل لها أضعاف ثمنه، فأقامت علي الامتناع فشكا الي ذلك، فقلت هذا من ايسر الأمر انا اوجب عليها بيعه، فاضطرها الي ان تسألك و زن الثمن.ثم استدعيتها فقلت: يا هذه ان قيمة دارك دون ما دفع لك و قد ضاعفها أضعافا فان لم تقبليه حجرت عليك، لأن هذا تضييع منك. فقالت جعلت فداك، فعلا كان هذا الحجر منك علي من يزن فيما يساوي درهما عشرة، و تركت منزلي ما أختار بيعه. فانقطعت في يدها.و ذكروا في كتب الأدب أن تميم بن جميل السدوسي، كان قد خرج علي المعتصم فبينما كان يجوس خلال الفرات اختتله جند المعتصم و أحضروه اليه، فأمر بالنطع و السيف و لكن رآه جميلا و سيما، فأحب أن يعرف أين لسانه من منظره، فقال: يا جميل لم خرجت علينا.

ص: 123

قال يا أميرالمؤمنين ان الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة و تعيي الأفئدة الصحيحة، و لم يبق الا عفوك أو انتقامك و ارجو ان يكون اسرعهما الي و اقربهما مني اشبههما بك و اولاهما بخلقك، ثم أنشأ يقول:أري الموت بين السيف و النطع كامنا يلاحظني من حيثما أتلفت و أكبر ظني أنك اليوم قاتلي و أي امري ء مما قضي الله يفلت و ما جزعي من أن أموت و انني لأعلم أن الموت شي ء موقت و لكن خلفي صبية قد تركتهم و أكبادهم من حسرة تتفتت فان عشت عاشوا خافضين بعزة أذود الردي عنهم و ان مت موتوافقال المعتصم: كاد و الله يا جميل ان يسبق السيف العذل، و لكن اذهب فقد غفرت لك الصبوة و تركتك للصبية.و ذكر الحصري أن الوليد بن يزيد قال لبديح، و كان أحلي الناس و أذكاهم، خذ بنا في الاماني فاني اغلبك فيها، فقال له: يا اميرالمؤمنين أنا أغلبك لاني فقير وأنت خليفة و انما يتمني المرء ما عسي أن يبلغ اليه و أنت قد بلغت الامال، قال لا تتمني شيئا الا تمنيت ما هو أكثر منه، قال فاني أتمني كفلين من العذاب، و أن يلعنني الله لعنا و بيلا، فقال اعزب لعنك الله دون خلقه.و يروي أن أحد النواب الامريكيين كان مرشحا عن منطقة ضد آخر، فبينما هو يخطب داعيا الي تأييده علي برنامجه الانتخابي جاء بعض نصراء الخصم بحمار حتي اذا نهق قطع علي الخطيب، فقال النائب ببداهة نادرة أرجو من جمهوري الاصغاء الي ما يريد ان يقول زعيم الخصوم.

ص: 124

مالنا و للحديث عن الناس؛ لنفرغ الي تشخيص هذه الناحية عند الحسين (ع) في آثار ما نطق به لسانه.روي ابن حجر (1) ان الحسين قال: اتيت عمر و هو يخطب علي المنبر، فصعدت اليه فقلت: انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر ابيك، فقال عمر: لم يكن لابي منبر: و اخذني فأجلسني معه اقلب حصي بيدي، فلما نزل انطلق بي الي منزله فقال لي: من علمك، قلت: و الله ما علمني احد؛ قال بأبي لو جعلت تغشانا. قال فأتيته يوما و هو خال بمعاوية و ابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه، فلقيني بعد، فقال لي: لم ارك، فقلت يا اميرالمؤمنين اني جئت و انت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر، فقال: انت احق من ابن عمر فانما انبت ما تري في رؤوسنا الله ثم انتم.و روي (2) ابن ابي طلحة القرشي ان اعرابيا دخل المسجد الحرام فوقف علي الحسن (ص) و حوله حلقة، فقال لبعض جلساء الحسن: من هذا الرجل، فقال: هذا الحسن بن علي، فقال الاعرابي اياه اردت، بلغني انهم يتكلمون فيعربون عن كلامهم، و اني قطعت بوادي و قفارا واودية و جبالا، و جئت لا طارحه الكلام، و اسأله عن عويص العربية، فقال له جليس الحسن: ان كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، و أومأ الي الحسين (ع) فوقف عليه و سلم فرد عليه السلام، ثم قال ما حاجتك يا اعرابي، فقال: اني جئتك من الهرقل (3) و الجعلل (4) و الأينم (5) و الهمهم (6) . فتبسم الحسين فقال الاعرابي و اقول اكثر من هذا فهل انت مجيبي علي قدر كلامي؟. فقال الحسين قل ما شئت فاني مجيبك عنه فقال الاعرابي

ص: 125


1- 83. راجع الاصابة ج 2 ص 15.
2- 84. راجع مطالب السئول في مناقب آل الرسول.
3- 85. ملك الروم و يريد به ارض الروم.
4- 86. النخل القصار.
5- 87. ضرب من النبت.
6- 88. القليب الكثير الماء.

اني بدوي، و اكثر مقالي الشعر و هو ديوان العرب، فقال الحسين قل ما شئت فانشأ يقول:هفا قلبي الي اللهو و قد ودع شرخيه و قد كان أنيقا عصر تجراري ذيليه عيالات و لذات فيا سقيا لعصريه فلما عمم الشيب من الرأس نطاقيه و أمسي قد عناني منه تجديد خضابيه تسليت عن اللهو و ألقيت قناعيه و في الدهر أعاجيب لمن يلبس حاليه فلو يعمل ذو رأي أصيل فيه رأييه لألفي عبرة منه له في كر عصريه فأنشد الحسين ارتجالا:فما رسم شجاني قد محت آيات رسميه سفور درجت (1) ذيلين في بوغاء (2) قاعيه هتوف حرجف تتري علي تلبيد ثوبيه و ولاج من المزن دنا نوء سماكيه أتي مثعنجر الودق بجود من خلاليه و قد أحمد برقاه فلا ذم لبرقيه و قد جلل رعداه فلا ذم لرعديه ثجيج الرعد ثجاج اذا أرضي نطاقيه فأضحي دارسا قفرا لبينونة أهليه فلما سمع الأعرابي ما أنشده له، قال بارك الله عليك، مثلك تجلة الرجال.

ص: 126


1- 89. الريج الدروج التي يدرج مؤخرها حتي تري لها مثل ذيل الرسن في الرمل.
2- 90. التربة الرخوة.

و روي (1) ابن عساكر أن نافع بن الازرق و هو رأس الازارقة الخوارج قال للحسين (ع): صف لي الهك الذي تعبد.فقال يا نافع من وضع دينه علي القياس لم يزل الدهر في الالتباس، مائلا اذا كبا عن المنهاج ظاعنا بالاعوجاج، ضالا عن السبيل قائلا غير الجميل، يا ابن الازرق أصف الهي بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس، قريب غير ملتصق و بعيد غير مستقصي، يوحد و لا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا اله الا هو الكبير المتعال.فبكي ابن الازرق و قال ما أحسن كلامك، فقال بلغني انك تشهد علي أبي و علي أخي بالكفر و علي، قال ابن الازرق اما و الله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الاسلام و نجوم الأحكام، فقال الحسين اني سائلك عن مسألة فقال سل، فسأله عن قوله تعالي (و اما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فقال يا ابن الازرق من حفظ في الغلامين فقال ابوهما، فقال الحسين ابوهما خير ام رسول الله فقال ابن الازرق: قد انبأ الله تعالي عنكم أنكم قوم (2) خصمون.الاخبار عن الحسين (ع) في هذا الباب أكثر من أن تحصي، و لقد كان يجي ء بالمدهشات في الفتيا و ما اليها من العلم. حتي قال فيه ابن عمر (ض) انه يغر العلم غرا - اي يغذي -

الغيرية أو المشاركة الوجدانية

هذه صفة من الانسانية تضعها علي أقوم اوضاعها، و تجي ء منها في اهم اقساطها، و هي لا تختلف في انها تعبر عن انبل ما في الانسان من شعور، و بها

ص: 127


1- 91. راجع التاريخ الكبير ج 4، ص 323.
2- 92. ذكر السمعاني في كتاب الأنساب ص 28. انه لما انتشرت الازراقة اظهرت في اتباعها ان عليا (ع) هو الذي انزل الله فيه (و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله علي ما في قلبه و هو ألد الخصام).

يسمو عن رتبة الأحياء الاخري. حتي قال التوحيدي في كتاب (الصديق و الصداقة) الانسان حيوان ذو عطف، و بذلك اعتبرها خاصة مميزة له رافعة للشركة. و مما لا ريب فيه أن الانسان حيوان بغيض اذا كان لا يشعر بمكان هذا الشعور او تجرد من اماليه. و هو من بين سائر النوع لا يشعر بالفردية وحدها، و انما يجد تمامه في الغيرية. و لذلك قيل في اقدم الدهر: ان الانسان مدني او اجتماعي بالطبع.فهذا الشعور في حدوده تستوي عليه الانسانية في حدودها. فانه لولا المشاركة الوجدانية التي تخفف من حدة انانيته الجارفة، لكان الانسان اسوأ اثرا من أي حيوان. و هو بين الانانية و الغيرية في متجاذب شديد من الشر و الخير و الباطل و الحق، اذا انتصر احد الشعورين تبعه لازمه بدون تخلف او انفكاك. و لن تجد رجلا فاضلا او مدلا بخليفة الا و عنده اوفي قسط من هذا الشعور السامي.و انا لا افهم فرقا بين الانسانية و الغيرية - مشاركة الناس في شعورهم - و لعل الاسلام هو الدين الوحيد الذي اقام كل تعاليمه الروحية و الزمنية علي اساس من هذا الشعور، و زاد مبالغة في اعتداده انه جعله قاعدة الايمان. فاذا كان الاسلام في اعمال الظواهر قد بني الاسلام علي خمس، فانه في المنطقة الايمانية لاي قوم الا علي تحقيق هذا الشعور.قال النبي (ص) لا يؤمن احدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.و قال (1) ايضا: الخلق كلهم عيال الله و احبهم اليه أنفعهم لعياله.فالاسلام قوم تعاليمه علي النفع و تبادل الحب و الاستواء في أسباب الاخاء، و بذلك جاء ليضع التصميمات الصحيحة للجمعية الانسانية الكبري.و لقد استطاع النبي محمد (ص) ان يقدم للعالم اجمع في زمن قصير، نموذجا

ص: 128


1- 93. هذا الحديث ذكره كثيرون، و منهم الشريف الرضي في المجازات النبوية بسند الخلفاء العباسيين و هو اسناد ملوكي غريب.

للتصميم الذي غبر الانسان علي اعتباره اقرب الي الافكار الطوبوية. و جاء في تجانسه و نظامه شيئا مدهشا و طريفا معجبا. و في النهاية قدر لهذا العالم أني فتح عينه علي الحقائق فتسارع في دين الله الذي هو لبانة كل نفس.و ربما كان أدهش ما حفظ مما جاء علي لسان صاحب الشريعة (ص) قوله لجرير بن عبدالله البجلي حينما جاء يبايعه علي شهادة أن لا اله الا الله و أن محمدا رسول الله. فقال النبي (ص) و النص لكل مسلم. هذا الحديث من روائع الاسلام حين جعل المشاركة الوجدانية صنوا لكلمة الشهادة، و لعل دينا من الأديان لم يبالغ في اعتبار و تقييم هذا الجانب اعتبارا عمليا مثل دين محمد و شريعة محمد.و بذلك جاءت صحابته (ص) في دقة الشعور بالغيرية، كالموازين لا يفوتها شي ء الا ما ليس منه شي ء في الحساب. و في قصص عمر (ض) عبرة و ذكري و خطة فوق مناهج الناس.و الحسين (ع) جاء بمقتضي الفطرة و تعاليم الدين مثلا نادرا من حيث الشعور بالغيرية. و ندع الآن الحديث لرواة فيما حفظوا من آثار الحسين في هذا الجانب.روي ابن عساكر في التاريخ الكبير عن أبي هشام القناد انه كان يحمل الي الحسين بالمتاع من البصرة، و لعله لا يقوم حتي يهب عامته.و روي أيضا (1) . أن سائلا خرج يتخطي ازقة المدينة حتي أتي باب الحسين، فقرع الباب و انشأ يقول:لم يخب اليوم من رجاك و من حرك من خلف بابك الحلقةأنت ذو الجود أنت معدنه أبوك قد كان الفسقة

ص: 129


1- 94. راجع عيون الاخبار ج 3، ص 140.

و كان الحسين (ع) واقفا يصلي فخفف من صلاته و خرج الي الاعرابي فرأي عليه اثر ضر وفاقة، فرجع و نادي بقنبر فأجابه لبيك يا ابن رسول الله، قال ما تبقي معك من نفقتنا قال مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال هاتها فقد أتي من هو أحق بها منهم، فأخذها و خرج يدفعها الي الاعرابي و أنشأ يقول:خذها فاني اليك معتذر و اعلم بأني عليك ذو شفقةلو كان في سيرنا عصا تمد اذن كانت سمانا عليك مندفقةلكن ريب الزمان ذو غير و الكف منا قليلة النفقةفأخذها الاعرابي و ولي و هو يقول ألله أعلم حيث يجعل رسالته:مطهرون نقيات جيوبهم تجري الصلاة عليهم اينما ذكرواو أنتم انتم الأعلون عندكم علم الكتاب و ما جاءت به السورمن لم يكن عاويا حين تنسبه فما له في جميع الناس مفتخرو مما رووا ان الحسين (ع) دخل علي اسامة بن زيد، و هو مريض و هو يقول و اغماه، فقال له الحسين (ع) و ما غمك يا أخي قال ديني و هو ستون الف درهم، فقال الحسين هو علي، قال: اني أخشي أن أموت، فقال: لن تموت حتي اقضيها عنك، فقضاها قبل موته.و روي ابن قتيبة. أن رجلا اتي الحسن بن علي يسأله. فقال الحسن ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح او فقر مدقع او حمالة مفظعة. فقال الرجل ما جئت الا في احداهن، فأمر له بمائة دينار ثم اتي الرجل الحسين ابن علي فسأله فقال له مثل مقالة أخيه فرد عليه كما رد علي الحسن فقال كم اعطاك قال مائة دينار فنقصه دينارا كره ان يساوي أخاه. ثم أتي الرجل عبدالله بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير و لم يسأله عن شي ء، فقال له الرجل اني أتيت الحسن و الحسين؛ و اقتص كلامهما عليه و فعلهما به، فقال عبدالله ويحك! و اني تجعلني مثلهما انهما غرا العلم غرا المال.

ص: 130

و روي البحراني (1) . أن الحسين (ع) كان جالسا في مسجد جده رسول الله (ص) بعد وفاة أخيه الحسن (ع) و كان عبدالله بن الزبير جالسا في ناحية المسجد و عتبة بن أبي سفيان في ناحية اخري، فجاء اعرابي علي ناقة فعقلها بباب المسجد و دخل و وقف علي عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال الاعرابي اني قتلت ابن عم لي و طولبت بالدية فهل لك ان تعطيني شيئا. فرفع رأسه الي غلامه و قال ادفع اليه مائة درهم، فقال الاعرابي ما أريد الا الدية تماما ثم تركه و اتي عبدالله ابن الزبير و قال له مثل ما قاله لعتبة فقال عبدالله لغلامه ادفع اليه مائتي درهم، فقال الاعرابي ما أريد الا الدية ماما ثم تركه و أتي الحسين فسلم عليه و قال يا ابن رسول الله اني قتلت ابن عم لي و قد طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا، فأمر له الحسين بعشرة آلاف درهم و قال هذه لقضاء ديونك و عشرة آلاف درهم اخري و قال: هذه تلم بها شعثك و تحسن بها حالك و تنفق منها علي عيالك فأنشأ الاعرابي يقول:طربت و ما هاج لي معبق و لا لي مقام و لا معشق و لكن طربت لآل الرسول فلذ لي الشعر و المنطق هم الأكرمون هم الأنجبون نجوم السماء بهم تشرق سبقت الأنام الي المكرمات و انت الجواد فلا تلحق أبوك الذي ساد بالمكرمات فقصر عن سبقه السبق به فتح الله باب الرشاد و باب الفساد بكم مغلق روي ابن قتيبة (2) . ان معاوية لما قدم المدينة منصرفا من مكة بعث الي الحسن و الحسين و عبدالله بن جعفر و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير و عبدالله بن صفوان ابن أمية، بهدايا من كسي و طيب و صلات من المال ثم قال لرسله: ليحفظ كل رجل منكم ما يري و يسمع من الرد، فلما خرج الرسل من عنده

ص: 131


1- 95. راجع عقد الآل في مناقب الآل.
2- 96. راجع عيون الاخبار ج 3 ص 40.

قال لمن حضر: ان شئتم انبأناكم ما يكون من القوم، قالوا اخبرنا يا اميرالمؤمنين قال:أما الحسن فلعله ينيل نساءه شيئا من الطيب و ينهب ما بقي من حضره و لا ينتظر غائبا.و اما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصين فان بقي شي ء نحر به الجزر و سقي به اللبن.و اما عبدالله بن جعفر فيقول يا بديح اقض به ديني فان بقي شي ء فانفذ به عداتي.و اما عبدالله بن عمر فيبدأ بفقراء عدي بن كعب فان بقي شي ء ادخره لنفسه و مان به عياله.و اما عبدالله بن الزبير فيأتيه رسولي و هو يسبح فلا يلتفت اليه، ثم يعاوده الرسول فيقول لبعض كفاته خذوا من رسول معاوية ما بعث به وصله الله و جزاه خيرا، لا يلتفت اليها و هي اعظم في عينه من أحد ثم ينصرف الي اهله فيعرضها علي عينه، و يقول ارفعوا لعلي ان أعود بها علي ابن هند يوما ما.و اما عبدالله بن صفوان فيقول قليل من كثير، و ما كل رجل من قريش وصل اليه هكذا، ردوا عليه فان رد قبلناها.فرجع رسله من عندهم بنحو مما قال معاوية، فقال معاوية انا ابن هند اعلم بقريش من قريش.ليس بعجيب ان نظهر من معاوية علي فراسة نافذة كهذه التي تعرضها علينا قصة ابن قتيبة، فقد كان له خبر و خبر عن كل الرجالات المرهوبين. و نترك ما في القصة من الجوانب التي لا تتصل بموضوعنا و نفرغ الي ما يهمنا منها.يصور معاوية بكل صدق و حيقة ما يتصل بنفس الحسين (ع)، و ربما كانت هذه الفقرة الخاصة به اصل صورة تعكس علينا ما نريد أن نفهمه عنده.

ص: 132

فالحسين كان مغلوبا الي حد كبير بتأثير هذه العاطفة، فهو يشعر بشعور الآخرين، و يشاركهم ما يقع في وجدانهم، و يحس بنوع الاحساس الذي يمر في سماوة نفوسهم، فيألم اذا تألموا، و يسر اذا سروا.و كأن له اتصالات تربطه بكل الناس، و له في كل قلب جهاز يشعره بشعوره. هذا من معاوية تمثيل للمشاركة الوجدانية القوية، و كأن الحسين (ع) لا يزال، الي تاريخ القصة، تمر في خياله صور تلك الملاحم الرهيبة التي خاضها مع ابيه (ع) بما فيها من آلام و آمال. فينبعث لمشاطرة اولاد اولئك الشهداء، حتي يشعرهم بأنهم اذا فقدوا بآبائهم عطفا و حنانا فانهم لم يفقدوا كل عطف و كل حنان. و هذا أصدق ما تكون به المشاركة الوجدانة، فهو لا يرجع الي طبيعة الجود بل الي الأسي و المواساة ايضا.فقد كان ابن جعفر جوادا يعطي كثيرا و يهب كثيرا حتي لامه الحسين (ع) علي تبذيره، و لكنه يعطي للاعطاء، سواء وقع موقعه أم اختلف عنه - فان العطاء وحده لذة الجواد بعيدا عن كل شعور آخر. و لقد أجاد بشار حين قال:انما لذة الجواد ابن سلم في عطاء و مركب للقاءفهو يشاركنا في أن الجود لذة الجواد، و هو مدفوع لطلب هذه اللذة وحدها بدون دافع آخر أو مؤثر وراءه.و اما الحسين في هذه القصة فهو لا يعطي للجود، و لكن للمواساة و المشاركة الوجدانية.و في تصوري ان الذي لا يشعر بالغيرية اصم النفس ليس متصل الباطن بأشياء الوجود. و بذلك يكون كأنه يعيش في عالم مهجور قفر ليس فيه حي و لا حياة. و بعبارة اخري يبدو الفردي الذي لا يشعر بشعور الناس كأنه الغي الوجود الكبير بينه و بين نفسه، فلم يعد في الوجود الواسع الا هو وحده، و في الواقع حين الغي الوجود في اعتباره، الغي وجوده في اعتبار الناس، و بذلك تكون نفسه قد ضاقت عن ان تسع معه من آحاد الناس واحدا، و من ثم يعود

ص: 133

اتساع نفسه فراغا و خلاء بغيضا. كالمغار يتسع للظلام و الفراغ القائم و الرهبة الموحشة.بينما يكون الغيري أو الوجداني كأنما خلط الوجود بنفسه الذي استحال الي شي ء فيها، فهو يعيش و يعيش معه كل ما في الوجود من احياء. و بذلك يكون قد اطاف نفسه بمملكة الأحياء فوجد مكانه في كل حي، و الفردي قد اطاف بنفسه فلم يجد بينها مقاما.و الحسين (ع) زاد به الاحساس الوجداني، حتي كان كاليد الآسية لا تمر علي شي ء الا مر عليه الشفاء.رووا أن زينب (1) بنت اسحاق زوج عبدالله بن سلام القرشي، و الي العراق لمعاوية بن ابي سفيان كانت مثلا في اهل زمانها في جمالها و تمام شرفها و كمالها و كثرة مالها، و ان يزيد بن معاوية فتن بها، فذكر ذلك الحصي خاص بأبيه معاوية فقال الخصي لمعاوية: ان يزيد ضاق ذرعه بها، فقال معاوية ليزيد اكتم أمرك. ثم كتب الي زوجها ليقدم عليه، فأنزله معاوية منزلا اعده له؛ و أرسل الي ابي هريرة و ابي الدرداء - و كانا يومئذ بالشام - فأخبر هما بانه بلغت له ابنة يريد انكاحها، و انه رضي لها ابن سلام لدينه و شرفه و فضله، و كلفهما ذلك له عنه و انه جعل لها في نفسها شوري. فأتيا عبدالله بن سلام و ذكرا له القصة؛

ص: 134


1- 97. هذه القصة رواها عدد من المؤرخين و رجال الادب باختلاف في الاسم و الجهة فعند ابن قتيبة في الامامة و السياسة ج 1 ص 304 ان اسمها ارينب و وقائعها في المراق و عند شهاب الدين النويري في نهاية الارب ج 6 ان اسمها زينب و ذكر الميداني ان وقائعها في المدينة و تجد اختلافا كثيرا في انها وقعت الحسن او الحسين و ان الواسطة ابوالدرداء او ابوهريرة و ان الزوج عبدالله بن سلام او عدي بن حاتم و قد جاء ذكرها عند ابن قتيبة في السياسة و النويري في نهاية الارب و ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون و ذكرها السيوطي في تحفة المجالس و الشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف و الميداني في مجمع الامثال. و هي مع اختلافها تلقي علينا بصيصا مما نجتهد بالاخذ به و رأينا الخاص ان القصة في اقرب رواياتها و ارجحها انها وقعت في العراق و ان الذي انتصف هو الحسين عليه السلام و لذلك اثبتناها.

و دخل معاوية علي ابنته و حضها علي ان لا تقبل حتي يفارق ابن سلام امرأته. و رد ابن سلام اباهريرة و اباالدرداء يخطبان له ابنة معاوية فأتياه فأدخلهما عليها فأعلماها، فقالت لهما ما قال معاوية لها، فرجعا الي ابن سلام و اعلماه بما قالته فظن انه لا يمنعها منه الا فراق زينب، و اشهدهما بطلاقها و اعادهما الي معاوية، فاظهر معاوية كراهة لزينب و امرها بسؤال ابنته عن رضاها، فاعلماها بطلاق عبدالله بن سلام امرأته، فصرفتهما لتسأل عن دخلة امره، ائنت علي ابن سلام.و تحدث الناس بما كان من طلاق عبدالله زينب و لاموه علي مبادرته بالطلاق، ثم و ستحث عبدالله أباهريرة و اباالدرداء فأتيا ابنة معاوية، فقالت انها سألت عنه فوجدته اغير موافق لما تريد، فلما بلغاه كلامها علم انه مخدوع و ذاع امره في الناس و شاع و نقلوه الي الامصار و تحدثوا به في الاسمار، و قالوا خدعه معاوية حتي طلق امرأته و انما ارادها لابنه، فبئس من استرعاه الله أمر عباده، و مكنه في بلاده و اشركه في سلطانه، يطلب امرا بخدعة من جعل الله اليه امره.فتمت مكيدة معاوية، و لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره و بضد تقديره، و ذلك أنه لما انقضت اقراء زينب وجه معاوية أباالدرداء الي العراق خاطبا علي ابنه يزيد، فخرج حتي قدم الكوفة، و بها يومئذ الحسين بن علي (ع)، فبدأ أبوالدرداء بزيارته فسلم عليه الحسين و سأله عن سبب مقدمه، فقال: وجهني معاوية خاطبا علي ابنه يزيد زينب بنت اسحاق، فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها و قصدت الارسال اليها، فاخطب علي و عليه لتتخير من اختاره الله لها، و اعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه، فلما دخل عليها أبوالدرداء قال لها: قد خطبك أمير هذه الأمة و ابن ملكها و ولي عهده و الخليفة من بعده يزيد ابن معاوية، و الحسين بن بنت رسول الله (ص) و سيد شباب أهل الجنة، و قد بلغك سناؤهما و فضلهما و قد جئتك خاطبا عليهما فاختاري أيهما شئتا، فسكتت طويلا ثم قالت: يا أباالدرداء لو أن هذا الأمر جاءني و أنت غائب لأشخصت فيه الرسل اليك و اتبعت فيه رأيك، فأما ان كنت أنت المرسل فقد فوضعت أمري

ص: 135

اليك فاختر أرضاهما لديك؛ فلما لم يجد بدا من القول و الاشارة، قال: أي بنية، ان ابن بنت رسول الله (ص) أحب الي و أرضي عندي و الله أعلم بخيرهما لك؛ قالت: قد اخترته فتزوجها الحسين و ساق لها مهرا عظيما، فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه، ولام أباالدرداء لوما شديدا.و أما عبدالله بن سلام فان معاوية اطرحه و قطع عنه روافده لسوء قوله فيه حتي قل ما في يديه، فرجع الي العراق، و كان قد استودع زينب مالا عظيما فظن أنها تجحده لطلاقها من غير شي ء كان منها، فلقي حسينا فسلم عليه و قال له: انه استودعها مالا و أثني عليها و طلب أن يحضها علي رد ماله، فبلغها الحسين ذلك، و قال لها أدي أمانته و ردي عليه ماله فقالت: صدق، استودعني مالا لا أدري ما هو فادفعه اليه بطابعه، فأثني عليها الحسين، ثم لقي عبدالله و أمره أن يدخل اليها معه فأخرجت اليه البدر فشكر و خرج الحسين عنهما، و فض عبدالله خواتم بدرة و حثي لها منها فاستعبرا جميعا، فدخل الحسين عليهما و قد رق لهما، فقال: اشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أني لم أستنكحها رغبة في مالها و لا جمالها، و لكن أردت احلالها لبعلها، فسألها عبدالله أن تصرف الي الحسين ما كان قد ساق اليها من مهر، فأجابته الي ذلك فلم يقبل الحسين، و قال: الذي أرجو الله من الثواب خير لي؛ فلما انقضت اقراؤها تزوجها عبدالله.هذه قصة تلقي بين أيدينا ضوءا علي احساس الحسين (ع) الشديد و انتصافه لقضية العدالة و انتصاره للمظلوم، و مضائه علي طيته بدون رعاية لجانب الا جانب الله و حب الا حب المصلحة العامة، باعتباره ساهرا عليها. فان الاسلام قد انتدب كل سلم للمحافظة علي قضايا العدل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.ثم نري الحسين (ع) يمضي تحت املاء أحاسيسه الطافحة لا ينثني و لا يلتوي. ثم يبالغ في المواساة في كل ما يستشعر ان فيه محسنة و صنيعة.روي ياقوت المستعصمي عن أنس. قال كنت عند اللحسين (ع) فدخلت

ص: 136

عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيته بها، فقال أنت حرة لوجه الله تعالي؛ فقلت له: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها، فقال كذا أدبنا الله فقال تبارك و تعالي (و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) و كان أحسن منها عتقها..

الشجاعة

من مصححات الشخصية الشديدة البروز، و لقد يزيد اعتبارها الي درجة قصوي بحيث تكون مقوما للاستعدادات الأخري كافة.و ربما نزلت من الاستعدادات منزلة الروح التي تنشرها كائنا حيا. و أي أمري ء مهما بلغت به استعداداته من الوفرة و البسطة و التفوق، فانه لا يكون خليقا بالنجاح الا اذا أحكمها بالشجاعة، فان معني الشجاعة اظهار هذه القوي بالمظهر الأخاذ، و المبالغة في قيمتها أو اعطائها القيمة الحقيقية. فالشجاعة أبلغ تعبير عن الكوامن النفسية؛ و أية شخصية، اذا زايلتها الشجاعة، فقدت كل قيمة، و أسرع اليها الذبول، و عراها الضؤول و تخافتت في غمضات. و الجبن علي أي اعتباراته مرض سريع الفتك بالشخصية مهما بلغت نضرتها، حتي عزا اليه علم النفس التطبيقي كل تخلف في حقل الاجتماع. و هذه المجبنة تظهر بعدة أشكال في الحياة العامة و الخاصة، و من حيث نسبة الفرد الي نفسه و من حيث نسبته الي المجموع.و الشجاعة ضبط النفس مع أي مؤثر من المؤثرات بالغا مبالغه في الشدة و الاعناف. و هذه القدرة علي ضبط النفس هي أساس قوة الشخصية و قوة الخلق معا، و قاعدة الكرامة و الكبرياء الانسانية جميعا، و هذه الشجاعة هي في الرجل كمال الرجولة، و في الأنثي كمال الأنوثة، لأنها مظهر ثابت لا تحيك به الزعازع و لا تميله الهزاهز. فالرجولة الكاملة و الأنوثة الكاملة هما ركنا الاجتماع الثابت. و أية أمة أفتقد فيها كمال الرجولة و الأنوثة تسير مسرعة في خطة الانحلال و طريقة الفناء، فان معني فقدهما فقد الشجاعة الكافية في ابراز

ص: 137

الاستعدادات، و معني أن نفقد الشجاعة أنا نفقد الشخصية، و أمة لا شخصية لافرادها لا شخصية معنوية لها، أي لا وجود لها حقيقي.و أعظم أمراض الشخصية خطورة و فتكا هذه المجبنة التي تهوم علي جوانب القوي فتذريها و تخمد فيها جذوتها المتقدة. و المجبنة علي اختلافها ملابسات ترجع اليها عن قرب أو عن بعد، و هي في سرد مجرد.(أ) الشعور بالوجود الذاتي، و هو ينشأ عن مغالاة المرء بقيمته حتي تترسخ كصفة ثابتة تحمل صاحبها علي زيادة التحرز و التوقي و التخوف، و لا يرضيه أيما شي ء يأتي به، فيكثر منه العثار، و في خيال بعض علماء النفس أن الحشرة المعروفة باسم أم أربعة وأربعين شعرت بوجودها الذاتي، فارادت أن تشاهد كيف تسير، فتشابكت اقدامها و تلوت و تقاطعت فانقلبت علي ظهرها و لم تستطع القيام.و من أعراض هذا الشعور كثرة الارتباك في مجلس الآخرين، و خوف الظهور في المجتمعات، و الانتقاد للذات، و الاكثار من مقارنة النفس بالآخرين.(ب) عدم التوازن الاجتماعي و هو ينشأ من فقدان الشجاعة اللازمة في آداب السلوك العادية.(ج) تخوف الفشل في المآتي اللازمة و المشاريع الهامة.ثم للشجاعة مظاهر مختلفة و أشكال متعددة حتي اتخذت في معجم اللغة الفاظا مختلفات و هي في سرد تطبيقي:(1)ضبط النفس: و هذا الشكل يتمثل جيدا، و عند الحسين (ع)، فيما رووا من أن غلاما له وقف يصب الماء علي يديه فوقع الابريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فقال الغلام: يا مولاي (و الكاظمين الغيظ) قال: قد كظمت غيظي، قال: (و العافين عن الناس) قال قد عفوت عنك، قال: (و الله يحب المحسنين) قال: اذهب فأنت حر لوجه الله الكريم.

ص: 138

(2)محاولة التغلب علي الصعاب: و هذا مظهر يبدو في موقفه (ع) حين حاول رجالات مكة أن يصدوه عن الخروج الي العراق، فأبي و وقف حيث هو لا يحول رغم ما يري من تغول الاحداث. و أعظم ما يعبر عن هذا الجانب عند الحسين (ع) موقفه من الوليد و مروان و قد انشد حين ولي خارجا:لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيرا و لا دعوت يزيداحين أعطي مخافة الروع ضيما و المنايا يرصدنني أن أحيدا(3)الصراحة في الاجابة رغم بواعث الرعب. روي الحصري (1) و السيد البيتي العلوي أن الحسين (ع) اعتق جاريته و تزوجها، فكتب اليه معاوية (أما بعد، فانه بلغني أنك تزوجت جاريتك و تركت اكفاءك من قريش، ممن تستنجبه للولد و تمجد به في الصهر؛ فلا لنفسك نظرت و لا لولدك انتقيت) فكتب اليه الحسين (ع): (أما بعد فقد بلغني كتابك و تعييرك اياي بأني تزوجت مولاتي و تركت اكفائي من قريش، فليس فوق رسول الله منتهي في شرف و لا غاية في نسب، و انما كانت ملك يميني خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله ثم ارتجعتها علي سنة نبينا (ص)، و قد رفع الله بالاسلام الخسيسة، و وضع عنا به النقيصة فلا لوم علي امري ء مسلم الا في أمر مأثم، و انما اللوم لوم الجاهلية). فلما قرأ معاوية كتابه نبذة الي يزيد فقرأه و قال: لشد ما فخر عليك الحسين؛ قال لا، و لكنها السنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر و تغرف من البحر.)هذه أهم عناصر الشخصية، و نجدها ضافية عند الحسين بكل مظاهرها فهو شخصية فوق مستوي الشخصيات، و نحن اذا أفضنا في نواحي الشخصية المقارنة عنده لا نكون الا كما جاء به المثل العربي القديم (أريه السها و يريني القمر). و آخر ما أود مقاله في هذه الحلقة ان النبي(ص) قدم في الحسين (ع) مثال المسلم الكامل، و قدم به علي (ع) مثال الرجل الكامل، فنظر الي الدنيا بغير

ص: 139


1- 98. راجع زهر الآداب للحصري ج 1، ص 39 و مواسم الادب للبيتي ج 1، ص 31.

عينها، و من غير ناحيتها، فرآها كما هي علي الحقيقة؛ فما حركت فيه حركت فيه شهوة و لا ايقظت عنده مطمعا، و ان كان أقل ما تجي ء به في أعظيم ما تجيش به اماني الناس.ذلك نظر من تخضبت نفسه بالروح الالهي، فكانت الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، كما هي عند الله؛ و هولاء الاصفياء في حياة الناس، كالنجم في حياة الناس، كالنجم في حياة الارض، يضي ء عليها و هو لا يفكر بكل أشيائها، او لا تمر هي و ما جمعت خاطرة في منثال خواطره.و لقد أعطي الحسين (ع) أعظم تحليل الدوافع التي تدفع الناس في الحياة العامة بأخصر فقرة و أبلغها، و هي علي اختصارها تترك ضياء في العقل و ضياء في النفس، لا يلتبس علينا و لا يحال دوننا في فهم مبلغ السمو الانساني في كل جيل.ان الناس عبيد الدنيا، و الدين لغو علي ألسنتهم...يحوطونه ما درت به معايشهم...فاذا محصوا بالابتلاء قل الديانون...

ص: 140

ص: 141

تاريخ الحسين نقد و تحليل

فاتحة

الناس في الحياة أشباح مبهمة تختلط ثم تتكسر في ظلام الأبدية بغير ضجيج، و لكن الكائن العظيم وحده هو الذي يقدم التاريخ العظيم...و التاريخ قطعة من الزمن ليس لها حدود وراء الكائن الذي يفرغ عليها صنوف التهاويل...و شتان بين الكائن الذي شيئا من معني الجيل، و الآخر الذي يجي ء الجيل شيئا من معناه...و أي تاريخ هو أجدر من تاريخك «اباعبدالله» بأن يحمل شارة العظم و الخلود...نواة انفصلت من صميم المعجزة، لتجي ء معجزة أخري في صميمها... و ليست الشجرة الزاهية، بما فيها من مجالي الفن، الا نواة خرجت بقوتها، او قوة استكنت في سر النواة... و النبوة معجزة تعد الانسانية لشي ء جديد،

ص: 142

و الانسان الاسمي هو المعجزة في الشي ء الجديد نفسه...فالنبي (ص) أعد البشر للانسانية المهذبة فتمت بذلك معجزته، و أنت «اباعبدالله» اعددت نفسك لتحل في مكان الاعجاز من الانسانية الجديدة، فتمت بذلك معجزتك...الاهة الاساطير تحتاج الي نبي يمحوها، حتي يردها الي خيال طائش في حدود الخرافة...و الانسان المستأله يحتاج الي مصلح يمحوه، حتي يرده الي طبيعته في حدود الحقيقة...فالجد النبي محا آلهة الاساطير، و السبط المصلح محا الآلهة من الناس.. و كذلك حال (1) الحسين (ع) بكفاحه دون أن يستعبد الانسان الانسان...الحياة حركة دائمة، و الموت سكون دائم، و لكنه بالنسبة الي العظيم يعطي معني آخر. فان موت العظيم ليس سكونا هامدا، بل هو (2) خروج الحركة عن مركزها لتنتشر في أحياء كثيرين...ففي روح كل مصلح بدوات من روحك، و في ضمير كل مجاهد قبس من ضيائك...

ص: 143


1- 99. ان حركة الحسين عبرت عن قوة الرأي العام و عن خطره مهما كانت السلطة مستبدة متحكمة. [
2- 100. الحياة حركة حول مركز الشخص الحي فاذا مات و كان عظيما خرجت حياته عن مركزه الشخصي و سيرت اتباعه و معتنقي رأيه.

تصدير

اشاره

أظنني صادقا أو غير بعيد من الصدق، حينما اقول و اطلق القول، بان جمهرة المؤرخين المحدثين في العربية لم توفق الي اقامة التاريخ العربي علي سنة منطقية، و قاعدة نقدية تحتفل بتبيان الدوافع و العوامل التي من شأنها ان تهي ء ظروف التاريخ المختلفة، و تحدد له الاتجاهات، و تفرض عليه الحركة حين يجب ان يتحرك، و السكون حين ينبغي به ان يسكن، هذه الدوافع التي نصل بها الي تمام الغرض العلمي اذا ما اعطيناها كلمة «الحيوية التاريخية».و هذه الحيوية، كما ندعوها او فلسفة التاريخ كما يدعوها الآخرون، ضرورية (1) .

ص: 144


1- 101. اعلن هذه الضرورة اللورد اكتن في محاضرته التي القاها سنة 1895 حين قال «ان اختصاصنا يتناول ما هو ابعد مدي من شؤون السياسة ان من واجبنا ان نحيط بحركات الافكار التي هي علة الحوادث العامة لا نتيجتها و أن نجعلها نصب اعيننا دائما» و كذلك اعلن دولنجر الالماني حين اكد ما للدين من قوة مؤثرة في التاريخ، و اعلنت مدرسة كارل ماركس الاشتراكية التصور الاقتصادي او المادي التاريخ، و اعلنت مدرسة كارل لمبرخت الالماني سلطان العقل الباطن و ما الطبيعة البشرية و الجماعات المنظمة من الدواقع الغريزية، و جاء فلاسفة المؤرخين في العصر الحاضر و اعلنوا بان عاملا واحدا لا يستقل بتفسير ما للمجتمع الانساني من ظواهر متعددة و ان لكل من الخلق و البيئة نصيبا من ذلك التفسير خاصا به و ان كلا من الجبر و الاختيار ليس بمعطينا بمفرده الحق من حيث بيان مصدر اعمال الانسان و ان الافكار و الدوافع الغريزية و الروح و الجسم كل اولئك حقائق نهائية لا يتأتي التعبير عن بعضها بنفس الالفاظ التي يعبر بها عن البعض الآخر. راجع ص 140 و 141 من كتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو.

لمن يريد ان يشخص عصرا او جيلا، و يعبر عما مار به و اجتمع عليه. و انما كانت حرية بالتمثيل من حيث انها تقودنا الي ان نعايش ذلك الجيل من الناس و نمتزج بهم و ننفذ الي خلجات ضمائرهم كما لو كانوا يعبشون بيننا اليوم.و من ثم تنكشف لنا جوانب من ذلك المحيط، كانت خفية و ادق من ان يحصيها اولئك الاخباريون البسطاء، الذين درجنا علي اخذ التاريخ عنهم و اعتمدناهم اعتمادا تعبديا. أنا لا اقول بان علي المؤرخ ان يطرح ما نقل الينا هؤلاء، و يرخي لنفسه العنان في ان يرتجل التاريخ بعد ذلك ارتجالا. و انما اريد أن اقرر شيئا آخر له اهميته (1) و قيمة في متن التاريخ، و له الي جانب هذا خطر في الناحية الدراسية من حيث الاطمئنان الي ما يفرض و يقضي به هذا الاسلوب، حين نكون قد اجتهدنا بقدر ما في تصحيح الوسائل و الوسائط (2) . و هذا الذي انوه به و ارفع من شأنه هو الارتداد بنا الي السند مرة اخري، كما كان يفعل المحدثون (3) القدماء في نقل السنة، و ان كان ادركهم بعض التلفيق في اواخر عهدهم، حتي ليخيل للناقد بانه لم تكن (4) لهم مقاييس

ص: 145


1- 102. يذهب بعض الغويين الي تخطئة هاتين الكلمتين بالنظر الي العرف اللغوي، و نحن لا نري مانعا من استعمالها ذهابا مع رأي جمهرة من الغويين بان الخطأ المشهور اذا كان خاضعا للقياس اللغوي فلا مانع من استعماله.
2- 103. يذهب بعض الغويين الي تخطئة هاتين الكلمتين بالنظر الي العرف اللغوي، و نحن لا نري مانعا من استعمالها ذهابا مع رأي جمهرة من الغويين بان الخطأ المشهور اذا كان خاضعا للقياس اللغوي فلا مانع من استعماله.
3- 104. انما ملت بالكلام نحو السنة لان قواعد المحدثين اعتمدها المؤرخون في نقل الاخبار و ان لم يبلغوا مبلغ المحدثين في دقة تطبيقها.
4- 105. راجع كتب الموضوعات كمؤلفات ابن حجر و ابن الديبع و السوطي و القاري و الشعراني و العجلوني، و هؤلاء ذهبوا مذهب اللغويين في التحيل و المداورة حتي يصحح هؤلاء الغلط و اولئك الحديث او علي الاقل يستلونه من دائرة الوضع. و هذه الحمي عرت متأخري المحدثين كما عرت متأخري اللغويين بينما اذا ارتقينا بالنظر قليلا نجد كتاب الموضوعات لابن الجوزي الذي لا تحتجزه حرمة كتاب او اشتهار حديث من تخريجه علي اصوله الدقيقة و الطعن عليه، و نجد كتاب المستدرك الحاكم الذي يتساهل بافراط و نحن لا نظن به كما ظن الحافظ الذهبي من ان الغفلة ادركته، و انما نري انه و ابن الجوزي زعيما مدرستين في السنة لهما تعاليمهما و اصولهما في الصحة و الضعف، و كانت ميزة مدرسة ابن الجوزي التشدد و ميزة مدرسة الحاكم التساهل و لكن المدرسة الثانية انتصرت في النهاية و عمت، و من هنا جاء الاختلاط الذي نشهد اثره في كتب الموضوعات. و علينا انتصرت في النهاية وعمت، و من هنا جاء الاختلاط الذي نشهد اثره ي كتب الموضوعات. و علينا ان نتلمذ لابن الجوزي و نحيي معالم مدرسته التي عفت رسومها، و كأنما كبر علي متأخري المحدثين ان يسقطوا ثروة كبيرة من السنة باعتماد اصول ابن الجوزي فوجروها حيث و لدت.

ثابتة للصحة و الضعف. و بذلك يكون جديرا بنا أن نغربل السنة وفق موازيننا الجديدة، و أن نعود الي درس شخصيات الرواة مرة اخري علي مقتضي معارفنا النقدية الحديثة البعيدة عن المبالغة و التعميم اللذين نقع عليهما في دراسات الأقدمين. و انا لا ازعم هنا بان الاولين لم يكونوا موفقين، و ايضا لست اقصد تجريدهم عن نزعة التحري، و انما اريد ان أقول بانهم وفقوا الي حد ما، و حققوا شيئا من التحقيق؛ و هذه سنة التسلسل العقلي الدائمة، فهي تعطي المتأخر لتأخذ منه فلا تنفصم الحلقات.لم يكن من مستطاع الاوائل او أية جماعة اخري ان يقولوا كل شي ء، و ليس في وسعهم أن ينتهوا بدراسة فتنتهي ايضا في اعتبار الناس. فعلينا ان نصل ما انقطع من جهود القدماء بمؤتمرات للسنة و التاريخ تأخذ علي عاتقها القيام بتحقيق هذه الاهداف، حتي تضع تحت الايدي خلاصات موثوقا بها ثقة تتناسب مع ما نجتهد ان نفضي اليه من دراسات. و يجب بذل هذا الجهد لشي ء آخر و هو تخليص موسوعات القدماء من التشويش الفضيع الواقع، فهم لا يكادون يتفقون علي تعديل رجل او جرحه.و بما انه قد اجتمع لدينا من الموازين و المعايير ما هو ادق من موازين و معايير القدماء، بل سنكون اكثر تحقيقا و اوثق نتائج. فنحن لا ندرس الرواة من وجه ما عرف عنهم و اشتهر فقط، بل نعود الي درس بيئتهم و مجتمعهم و منزلتهم فيه، و مقدار اتصال هذه المنزلة بما يروون من الاخبار.و شي ء آخر أيضا و هو تحقيق النص، فانه ثبت لي امر المح اليه قدماء المحدثين الماحا، و هو ما اسميته بالتدليس الخفي و انبهني اليه ما جاء في الجزء العاشر من مسند عمر للحافظ ابن شيبة فقد ذكر ان احمد بن زيد قال «سمعت حديث عمرو بن دينار بيننا مراجعة، قال محمد بن المنهال مراجعة تذاكر بينهم، يذكر هذا نصف الحديث و هذا نصفه. يسمعون من عمرو بن دينار فيحفظ بعضهم نصفا و بعضهم ثلثا فيتذاكرونها بينهم ثم يكتبونها.»

ص: 146

و هذه العبارة تض بين ايدينا شيئا يبعثنا علي الشك في النص، و يحملنا علي زيادة التحقق بان ما يعزي لقائل هو ما قال بعينه.

المدخل الي التاريخ في رأيي

(لا يؤخذ علينا بانا نفيض بتوسعات تاريخية تتصل بمن يكتب في درس التاريخ، لا بمن يكتب في موضوع من التاريخ، لانها توسعات اجريت عليها موضوعي الخاص و اعتمدتها و لابد لمن يتعقب نتائجي ان يقف علي الطريقة التي تأديت بواسطتها وتهديت علي ضوئها كما صنع المؤرخ الانجليزي هنري بكل في مقدمة كتابه تاريخ الحضارة في انجلترا، فقد خصها بدرس التاريخ من الوجهة التي يراها) حينما تجتمع لنا النصوص الوثيقة تكون قد اجتمعت لدينا مواد البناء و ايضا الرسوم التخطيطية للتصميم، و من بعد هذا نطمئن الي ان نقدم بناء تاريخيا صحيحا عن الجيل الذي نجمع اسبابنا علي درسه. و انا اريد في التاريخ شيئا كالذي ورد علي لسان المرحوم شوقي وصفا شعريا:«أفضي الي ختم الزمان ففضة و حبا الي التاريخ في محرابه»«و طوي القرون القهقري حتي أتي فرعون بين طعامه و شرابه»أو شيئا كالذي طالعنا به المأسوف عليه (جان دبس) النابغ اللبناني، حين صنع، علي ضوء بحوث المخططين و المنقبين في اطلال هياكل بعلبك، نموذجا مشيدا لتلك الهياكل ايام كانت تفيض بالحياة و الاحياء، و قد انتهت به محاولته الي ان يبعثها كما لو كان دونها ستار فأزاحه.هذا عمل في جانب من التاريخ نريد مثله في جوانبه الاخري. و انا لا اشك مع ذلك ي ان الدرس الاستنتاجي قد يخضع احيانا للخاطر الوثاب، و يكون قويا يعلل الحادث او المجري الواقعي تعليلا صحيحا لا يتسق العرض الا به و لا يستقيم الا عليه. و هذا شي ء لا نمتنع عن الأخذ بمثله في التاريخ مادمنا نقدمه علي انه اجتهاد فقط و ليس تاريخا. و لا يشتبه في ان بينهما فرقا جوهريا

ص: 147

يبيح للناقد ان يفسر و يعلل و يقارن و يؤاخي و يطابق بين حوادث التاريخ علي الشكل الذي يتراءي له انه حق صحيح. و انما نلح بتقرير هذا الفرق قصد ان يتضح لأولئك الأنبوشيين (1) الذين لم يتصلوا بالثقافة الا من وجه عام، و لم يعنوا بتصنيفها و تنسيقها علي طريق علمي، فهم لذلك يجيزون الخلط بين العلوم و الادبيات خلطا شنيعا.فالمؤرخ القدير يستطيع أن ينفذ الي غيابات الماضي البعيد بجناح من النصوص و حاسة الالهام او حاسة (2) الاتجاه كما يدعونها احيانا؛ و هذه الحاسة لابد من توافرها عند المؤرخ لكي بستقيم له ازاحة النقاب عن وجه التاريخ، كما لو نقل الينا الماضي السحيق او نقلنا اليه.و نعني بحاسة الالهام القدرة الفنية التي يدخل في جملة عناصرا، سرعة الانتقال لذهني مع دقة الملاحظة. و هذه القدرة الفنية هي التي تجعل من الروائي قاصا خلاقا او ابداعيا، و من الاخباري مؤرخا فاطرا او ابتداعيا.

الحاضر اداة لتفسير الماضي

و في رأيي انه لا فرق بين المورخ و الروائي من بعض الجوانب التي تدخل في البناء الخاص بكل منهما، كعرض نفسية الجماعات، و المؤثرات التي تحركها، و تشخيص المسيرات الرئيسية بالنظر الي الطبيعة و الوراثة و البيئة. هذه الامور التي يفترض اشتراكها علميا، و بالاعتماد علي قانون (3) التطور العام في الاجتماع و المثل الاخلاقي و ما اليهما، يمكننا ان

ص: 148


1- 106. نسبة الي الانبوشة و هي النبتة اول ما تتكشف عنها الارض.
2- 107. هي حاسة سادسة زعموها في الطير كالحمام و حيوانات اخري.
3- 108. قال الاستاذ هرنشو: و علي الرغم مما كان بين مؤرخي القرن التاسع عشر من خلاف في تصور التاريخ، فانهم كافة و جدوا في المبدأ العظيم مبدأ النشوء الذي جاءهم من عالم العلم و الفلسفة ما و حد اعمالهم و بث فيها الحياة. الي ان قال كان مبدأ التطور عند هجل مفتاح التاريخ العالمي اذ رأي عملية النمو في الجنس الانساني سياسيا انما هي باسرها تحقيق تدريجي لمعني الحرية. و الحق ان التصور النشوئي التاريخ اصبح من خصائص المدرسة الابتداعية في مجموعها، و قد استطاعوا ان يدللوا بواسطته علي ان من العبث ان يقال مع التعقليين ان الفترة بين قسطنطين و كولمب مجرد هوة فاصلة بين عصري استنارة يرجعان الي اصل واحد. و ان الواجب ان نلحظ وراء مظاهر الاشياء غرضا واحدا ثابتا يعمل علي التجدد و الظهور بنفسه ببطء في ذلك العصر و في كل عصر اخر. الي ان قال: و لما كان يصاحب جميع العمليات التي يمكن تتبع نشوئها، قانون ثابت بمعني اطراد تتابع العلل و المعلولات فقد ظهر ان في وسع الناس بقدر كاف من المهارة ان يصلوا الي هذا النوع من القوانين في كل ميدان من ميادين البحث و ذلك ما اجمله جون ستيوارت ميل بقوله: «ان جميع الظواهر علي الاطلاق تحكمها قوانين غير قابلة التخلف و لا تعترضها ارادة ما طبيعية كانت او فوق الطبيعة» و علي هذا الرأي جعل ميل غرضه الاساسي في الحياة ان يصل الي القوانين الثابتة التي يقوم عليها نشوء الانسان اخلاقيا و اجتماعيا، فكان غرضه من كتاب المنطق بيان الطريقة المثلي لبحث علوم الانسان كما ان تحوله الي الاقتصاد السياسي يرجع الي اعتقاده بان في العلم باحوال الانسان من حيث هو منتج للثروة و مستهلك و مبادل لها قوانين من النوع الايجابي الصحيح لا يتعذر الوصول اليها، مثال ذلك (قانون تناقص الغلة) و (قانون السكان) الملتوس و (قانون الاجور) لريكاردو. و كان ميل يقفو اثر استاذه الفرنسي اوغست كنت الذي نصب نفسه للوصول الي القوانين التي تفسر غرابة اطوار الانسان في حال التفرد و الاجتماع لكنه لم يكن مؤرخا يستقري ء الحوادث بل فيلسوفا يقيس الامور باشباهها ثم ظهر توماس هنري بكل فقصد ان ينشي ء علي مقتضي اصول فن الاحصاء علما وضعيا للاجتماع الانساني في مقدمة كتابه (تاريخ الحضارة في انجلترا) راجع كتاب علم التاريخ ص 142 و 145.

نجعل جيلنا بما يمور فيه نقطة مركزية، ثم نشرح (1) كل جيل تاريخي علي ضوئه غير مغفلين حساب نسبة البعد عنه او القرب منه وو هذه النسبة ذات تأثير في ابداء الثورة للعصور علي وجه الحلكة او الاسفار. و الذي يبعثنا علي الطمأنينة الي نتائج مثل هذا النظر، دقة موازين التطور النفسية و العقلية و الاجتماعية و الادبية التي بين ايدينا، حتي كادت تتماثل الي ان تكون من اشياء العلوم.

ص: 149


1- 109. يرجع الفضل في كشف هذه الطريقة من وجه ادبية محض الي الشاعر العظيم شكسبير فقد اتبع في كتابة دراماته الكبري طريقة التشخيص و تفسير الماضي بالحاضر فكان اذا اراد ان يبرز لنا صورة من صور العصر الروماني مثلا جمع من بلوطرخس و غيره الحقائق الهامة و منهم يستوعب شكل الحكومة و مقام الدين و درجة التوزيع القوة و السلطة في بناء الهيئة الاجتماعية،و بذلك يخرج تصميمه الاولي الذي يشيع فيه الحياة و النشاط علي ضوء طبيعة العصر الذي عاش فيه، مما يلاحظه.من تأثير النظم و المبادي ء الاجتماعية من وجه عام في عقول الناس مع احلال الفروق الجيلية بين اساليب الحياتين في الصور السياسية و الدينية. و بذلك ادرك من التاريخ ما لم يدركه غيره و اصطنعها طريقة في بناء الرواية نري لزام اتخاذها في بناء التاريخ و عرضه.

و يحسن بنا ان نعني بفهم وجهة هذا النظر، لانه بمثابة وضع قاعدة ثابتة للتاريخ، و نستخدم في شرحها اسلوب المناظرة و التمثيل.جيلنا الحالي له وضع اجتماعي خاص، و مثل اخلاقي كذلك، و سنة ادبية بعينها، و طريقة طبيعية ذات مميزات. و لكن هذه الاشياء بجوهرها و بما تنحل اليه من البسائط تشبه امثالها التي كانت تتصل بحياة الجيل التاسع عشر و الثامن عشر، و هكذا. فالمفارقات / بين هذه الاشياء ثابتة من حيث التركيب، ثبوت الاشتراك من حيث التحليل، و هذه المفارقة اما بالارتقاء قدما او بالانحراف الذي هو نتيجة عوامل طبيعية جزئية او ثورات.و اذا ثبت لدينا، من القضايا المبرهن عليها في العلوم البيولوجية، ان المسيرات الرئيسية للبشر واحدة او بعبارة اصح تكون دائما نسبة اشتراكها اكبر من نسبة اختلافها، ضرورة امتناع الطفرة في التطور كما يقول داروين، جاز للمؤرخ أن يدرس اجياله الماضية علي ضوء الجيل الذي يعيش فيه، و ان يوصل بعض الحوادث و ينسقها مستلهما محيطه و عصره و نفسية الجموع الذين يشاركونه الحياة و ان يصحح (1) الروايات عن الماضي علي اساس النسبة التي يقضي بها الحاضر. فبين المؤرخ و الروائي علاقة قوية في هذا الجانب، حتي ابالغ فاقول بأن من واجب المؤرخ اذا شاء التوفيق أن يكون روائيا قبل ان يكون مؤرخا.و علي هذا القانون يمكننا أن نجعل لكل عنصر بشري دائرة خاصة، نضع فيها جيلة نقطة مركزية ثم ننتقل الي الاجيال السالفة بنسبة قربها حتي ننتهي الي ابعدها، و كلما زدنا الدائرة تخصيصا زدنا تحقيقا بلاريب. و نعني بهذا وضع ميزان بين ايدي المؤرخين حينما يفرغون للتعليل و التحليل في صدد الاجيال التي

ص: 150


1- 110. نري التاريخ حين يحدثنا عن محاكم التفتيش مثلا ينسب اليها من الفظائع و الاهوال ما لا يصدر الا عن الانسان القديم الذي كان اقل تطورا في غرائزه كالانسان الأشوري و البابلي و المصري؛ فالنظرية التي نقررها تقضي بنفي اغلب ذلك و تحكم بانها مبالغات خيالية محض لا يمكن ان تصدر عن الانسان المتطور المصقول الغريزة؛ و عليه فهذه الاخبار اخترعها المؤرخون من ذوي الاغراض، و الروائيون الذين عمدوا الي محاربة الاوضاع و الاهابة بالناس الي التحرر و الثورة.

يدرسونها، و هذا القانون النقدي يتم بالاعتماد علي تحرير الموازين النفسية و الاجتماعية و الخلاقية و فرضها فرضا تطوريا.مثاله «الفضيلة (1) في المرأة» تعتبر هدفا اخلاقيا في القرن التاسع عشر كما هو في القرن العشرين، و لكنها تعني في العصر الاول غير ما تعنيه في العصر الثاني، فكان من جملة مظاهرها في الشرق الاسلامي، الحجاب و الخدر و مجانبة الاختلاط، و لم تزل الفضيلة هدفا في جيلنا الحاضر، و لكنها لم تعد تعترف بأن هذه الاشياء داخلة في معناها. فالذي تغير ليس هو الفضيلة من حيث كونها هدفا او مسيرا، و انما تغير الشكل العرفي فقط.

القالب العددي في التاريخ

فنحن نستطيع ان ندعي اذا بأن المسير في جوهره لم يتغير، و انما تغيرت ملابساته و اشكاله، و ينبغي ان نحدد مقدار هذه النسبة علي سنة عددية، لان التطور يحتفظ بنسبته علي الدوام، كما أن المقايسة الرياضية أدق سبيلا.و هذا الفرض العددي يظهر أكثر صدقا في ظاهرة التاريخ الطبيعية منه في ظاهرة التاريخ الصناعية؛ و نعني بالظاهرة الطبيعية للتاريخ، حالات النشوء و التكامل في الاستعدادات و القابليات و الامزجة و ما يتبعها. و بالظاهرة الصناعية للتاريخ، درجات التقدم في العمران و النظم و الاوضاع المدنية. و انما كان الفرض العددي المذكور اكثر صدقا في الاولي من يحث انها عمل طبيعي، و الطبيعية تميل الي النظام و الاحتفاظ بالنسبة دائما، بينما الثانية عمل انساني محض و لذا اسميناها صناعية، و هي عرضة للتقدم لا سريع و الانتكاس. و اما الاولي فلا يعتورها هذا الضرب من الانتكاس و الردة الي الوراء.

ص: 151


1- 111. ساق العلامة البالينتولوجي ماتيو، في مقاله: اساس الحضارة المقبلة، امثلة عديدة من هذا القبيل مثل نظرية الجريمة و العقاب و تطورها في آراء المحدثين، و صفة الشجاعة و ضبط النفس؛ و انتهي الي هذه النتيجة القائلة (هنا نستطيع ان نعثر سواء في مظاهر التفكير ام في مظاهر العمل علي دلائل من الارتقاء بالغة الاثر و علي تهذيب بطي ء التقديم غير مفصوم الحلقات و لا مقطوع التسلسل).

و ستري بعد اننا فرقنا بين التطور ذي الظاهرة الطبيعية و الارتقاء ذي الظاهرة الصناعية، و حكمنا بان الانحراف يصيب الارتقاء فقط. و عليه فان للتاريخ مظهرين: احدهما طبيعي و الآخر صناعي، و هما خاضعان لنسبة رياضية ثابتة غير ان خضوع الاول اكثر ظهورا، فان المزاج (1) العقلي و خلق الامة، و هما من النوع الاول، كلاهما يحتاجان الي زمن طويل، بينما شكلية الاجتماع شكلية الاوضاع، و هما من النوع الثاني يتمان بطريق ارادي صرف اي صناعي. و لذلك يعرض لا صناف النوع الثاني الارتقاء و الاسفاف، في حين ان صفات الامة النفسية سائرة في طريق تقدمها علي نسبة ثابتة.فالميزان التاريخي الذي نرغب ان نقيس به اجيال التاريخ لتكون نتائجنا الدراسية اكثر دقة و اقل اختلاطا و اختلافا، انما يتم لنا تقديمه و العمل به بعد التحقق من صلاحية الموازين الاخلاقية و الاجتماعية و النفسية و قيمتها، لان التاريخ يشملها جميعا و يعتمد عليها. و نري لانفسنا الحق بان نزعم هذا الاشتراك الجوهري في المسيرات من حيث التطور العضوي و الغريزي (2) بطأ يشبه السكون. و اذا توافر لدينا هذا الميزان التاريخي، تأتي لنا فهم مدي تطور هذه الدوافع للاجيال المستقبلة أيضا، كما تأتي لنا فهمها في جانب الماضي.و انا اعتقد بان هذا الشرح لا يوضح الفكرة التي اشتهي تقريرها علي وجه تام، و لكن لا يسعني الآن الا هذا المقدار منه، لئلا تخرج بنا المناسبة الي غير طريق الموضوع. و لكن لا يفوتني ان اتكلم عن النظرية الكلاسيكية (التاريخ يعيد نفسه) هذه النظرية التي توسل بها الاولون الي فهم حوادث المستقبل علي ضوء الماضي، و لكن علمنا الجديد المستند الي الانثر و بولوجي و العلوم التي تحالفه،

ص: 152


1- 112. راجع كتاب سر تطور الامم ص 16 الي 39. و يحسن مراجعة فصول هذا الكتاب الاولي لأنه يوضح شيئا كثيرا من مقاصد هذا التصدير.
2- 113. ذكر بعض علماء النفس ان رغبة الافتراس في الانسان لا تزال متأصلة فيه غير انها تهذبت بنسبة كبيرة فان ما يصنع الانسان المتمدن من نحر الحيوان و انضاجه صورة مهذبة عما يصنع الانسان الوحشي من قتل الحيوان و التهامة نيئا.

اظهرنا علي ان الانسانية تتبع في بقائها ناموسا تطوريا، و ان الانسان في اجتماعه يتبع عين الناموس الذي يتبعه في طبيعته. و هذا اطاح بالنظرية السابقة الي مهوي بعيد، حيث تعود الي مكانها في خيال الانسان.ان نظرية ان نظرية التطور في التاريخ تجعله دائما في تغير و تزايل علي اساس نسبي ثابت، و بذلك لا ينتظر ان يعيد التاريخ نفسه مرة اخري. و أما التشاكل الذي نفرضه فانما هو من حيث تحليل حركات التاريخ في الحاضر و سابقاتها الي بسائط كل منهما؛ و هو الذي نفيده من الميزان التاريخي الذي نرمي اليه. و حيث كانت هذه الحركات لا تعود مرة اخري باشكالها بل متحولة علي جانب كبير، فمن الخطأ اعتماد مثل قاعدة التاريخ المذكورة.و مما ينبغي التنبيه عليه قبل مزايلة الموضوع، أن من طبيعة الحي الحركة و لن تترك الحركة الكائن حيث هو، فلابد ان يسير و لابد أن يتقدم، فالكائن في كل جيل ينتظم خطواته الي الامام. و لا ينكر مع ذلك ان خطواته قد تجي ء في بعض الاحيان تصيرة للغاية تشبه الوقوف، لاسباب كالخمول العقلي و الضغط الحكومي، و هذا يظهر جيدا في العلوم و الآداب ازمان الجمود. فان حركة التقدم الطبيعي حين لم تظهر في جوهرها ظهرت في حواشيها، كالفلسفة عند اليونان حينما وقفت في صميمها ظهرت آثار الحركة في الشرح و التفسير؛ و ان الابتكار عند العرب في الادب حينما وقف، ظهرت آثار الحركة ايضا في الصناعة اللفظية و لا زخرفة المجازية.

دواعي الاسراع

و ينبغي ان لا نسقط بعد ذلك حساب الارتقاء السريع بالدوافع المختلفة التي:منها - الامتزاج الاجنبي و التزاوج الحضاري - كما اذا غلب شعب علي شعب آخر و كان للغالب او للمغلوب صفة الاكملية. و مثل هذا الارتقاء يتم بين شعوب الجيل الواحد، و لكن في الجيل كله فهو ذو نسبة واحدة ثابتة، قلما يتعداها اذا لم تصادفه حادثة طبيعية او ثورة، و الا فهو ينحرف كثيرا او قليلا

ص: 153

علي مقدار درجة الضغط التي ادت به الي هذا الانحراف.و منها - استعداد العصر و قابليته - فان له دخلا كبيرا في فهم مقدار الانحراف او مقدار الارتقاء. و مثاله الزلزال الذي وقع في تركيا سنة 1940، و هدم مدنا و قري؛ فانه لو وقع في العصور الغابرة، حين كان الاستعداد بطيئا في استرداد العمران و ما اليه، فيستغرق زمنا طويلا لتستعيد الامة سيرها من جديد متصلة بخطها الطولي رسمته لنفسها، لكان يعتبر عاملا انحرافيا كبيرا، بينما هو اليوم، نظرا للاستعداد المتوافر، لا يؤبه له من وجهة نظر المؤرخ.و منها - تصحيح المنهج التربوي - الذي اراه، علي وضعه في العالم، علة من علي الابطاء، لانه يزودنا بعقلية تستمد تفكيرها من الماضي بحكم الطابع الذي يلابسه. و تصحيحه في رأيي بشجب دراسة تاريخ العلوم و التاريخ مطلقا في دور التكوين الثقافي للناشي ء، لانه شديد الخطورة من حيث ظهور آثار هذا التكوين في كل مراحل تفكيره المستقبل. فان درس التاريخ علي شتي فروعه و تلوين الدراسات الاخري بلونه، كما هو الواقع اليوم في كل مناهج التربية التي لم تتجرد من عنصر الماضي، يحيي في نفوس ابناء الجيل صورا منه، ثم تختلط في عقله و تتركز حتي يستمد منها التفكير في المستقبل. و هذا يجعل العقل دائما يلتفت الي الماضي في حين يريد الالتفات الي الحاضر وحده، و بذلك لا يستمد تفكيره كله من حاضره الصرف، بل يفكر في الحاضر شاخصا الي الماضي فلا يري حاضره كل يجب ان يراه. و هذه علة ابطاء بلا ريب بله ما تتركه الوراثة كعامل طبيعي؛ ان المنهج التربوي يجب ان يساعد الارتقاء الطبيعي علي عمله فيقلل من آثار الوراثة.و الخطة المتبعة اذا تركزت في عقل الناشي ء ابطأت جانب الاخلاق (1) .

ص: 154


1- 114. و شاهد هذا ان علماء التربية اتخذوا التاريخ وسيلة الي غاية اخلاقية. من الخيران انقل عبارة الاستاذ هرنشو في الفصل الذي خصه بالتاريخ قال (ان الفائدة الاخلاقية هي بالدقة ما يجعل للتاريخ قيمة من حيث التربية. يقول بولنجبروك قد بان لي ان دراسة التاريخ دون سواها اصلح الدراسات تعويد الانسان الفضائل الخاصة و العامة. و يستخدمونه لفائدة اخري و هي اعداد الفرد للحياة المدنية والحياة السياسية. راجع ص 158 و 160 يظهر من هذا ان الغاية من التاريخ هو اعداد الفرد، و هذا الاعداد لن يكون بالضرورة مستمدا من الحار و لا معبرا عنه في شي ء كذلك ما يلقنه التاريخ من المثل الاخلاقية. و عليه فان تلقين التاريخ في دور التكوين الناشي ء يعني اقامة تصميم راسخ في ذهنه لن يزول بسرعة فوجب علينا ان نكون الناشي ء تكوينا يستمد معه كل مثله الاخلاقية و العلمية و الادبية من حاضره وحده و بذلك نستطيع ان ندعه يسير بسرعة ناهيك انه يكون صورة صادقة عن الزمان و المكان اللذين اشتملا عليه. و عندي ان مهمة التاريخ التربوية هي تأليف الافراد في جماعة متكافئة علي معني ان يكون عمل الافراد في الكائن الاجتماعي مثل عمل الاعضاء في الكائن الحي لكل منها وظيفة خاصة تكافي ء وظيفة العضو الآخر و تتممها. فان اية جماعة انسانية لا ترقي متساندة مع فقد التكافؤ، فيجب اذا اردنا ان نقيم جمعية صحيحة بذل الجهد بتأليف الفرد مع الآخر بحيث يعطيان صفة التكافؤ ضرورة ان الجمعية المؤلفة من افراد غير متكافئين في وظائفهم يسرع انحلالها و كذلك نجد في الكائن الحي فان العضو اذا لم يقم بوظيفته تماما يضمر شيئا بعد شي ء و يتلاشي ثم لا يبقي الا زائدة اثرية او اذا قام بوظيفة غير متكافئة فانه يورث الاعراض المرضية. و هذا التأليف يأتي من جانب التاريخ بما يولده من الشعور المشترك بين الافراد، و اما الاعداد الذي يتصل باسباب التفكير و المثل فانتكاس.

و الادبيات اكثر من اي جانب آخر، لان جثوم اشباح الماضي و شخوصه في عقل كل منا يرغمه علي التلفت الي الوراء، فتجي ء فكرته علي مثل صورته في هذا الوضع، لو احتبستها عدسة لاقطة؛ و انا هنا لست اعني ان لا ندرس التاريخ، بل ان نقتلع من نفوس النش ء فرض مثلهم فيما انكشف عنه الماضي، و ان نشيد بحاضرهم قبل كل شي ء حتي يستمدوا منه تفكيرهم؛ و بعد هذا التركيز يصح ان يدرس التاريخ ليكون في الناشي ء شعورا لا عقلا. و اذا اردت مثلا فخذ الأدب، ان درسه (1) في نصوص القدماء، قبل كل شي ء و آثارهم، يجعلهم في نظر الناشي ء مثلا سامية فيحذوهم اشد حذو، و اذا نضج اقام مدرسته علي

ص: 155


1- 115. المعروف في طريقة درسه انا نروي الناشي ء نصوص جرير و الاخطل و بشار و من اليهم؛ فاذا تركزت طرائقهم في نفسه لم يجاوزها الا في جهد شاق كما ان نموه الادبي يكون غير طبيعي لانه لم يبدأ من حيث انتهي آخر اديب بل يبتدي ء معه من حيث ابتدأ، فقصاراه اذن ان يجي ء بمثل ما جاء به او ان يزيد عنه في مقدار قصير. و سببه ان تكوين الادباء في كل جيل يتبع عين الطريقة، فالنصوص التي كونت ادب المتنبي هي التي كونت ادب شوقي، فلا بدع اذا وجدنا خطي التجديد قصيرة الغاية.

خيالهم، و اذا استلهم ظهرت له صورهم؛ قبل كل شي ء، محاولة ان تنطق له بما يقول.فالاصلاح التربوي يقضي بان لا نروي هذا الناشي ء الا ما انتج اعلام الحاضر فقط من آداب، و بذلك يتركز الحاضر في عقله كمصدر تفكير و الهام، و ايضا لا نجانف في نفسه بين المثل الادبية لجيله و بين المثل التي اصطنعها له منهجه التربوي. فاذا درس بعد ذلك الأدب و تاريخه استطاع أن يدرك قصوره او تماثله، لانه يدرسه بعقلية فيها بعض الغربة عنه، عدا عما يورث المنهج المتبع من تذبذب في المثل عند الناشي ء حين نرويه مثلا ادبية لعصور مختلفة اذا اختلطت اعطت مثلا غير مفهوم او مشوها.و لقد بالغ الباحثون باضافة هذه الاثار الي الوراثة، و هو خطأ؛ لان الوراثة تجد في المناهج (1) المتبعة ما يساعدها من حيث يتقمص الماضي فيها علي شكل بارز، و انا اقرر هذا هنا كعلة ابطاء في سير الجيل من وجهة تاريخية خالصة.

نظرية جديدة في تعليل التوسع (expansion)

و منها - غلبة مذهب متطرف و تطبيقه بالعنف - كما لو قدر للبلشفية ان تسيطر علي النصف الثاني من هذا الجيل، فانها تمر به مرا سريعا. فمن اكبر واجبات المؤرخ اذن، أن يتحقق من علاقة التاريخ بالافكار العامة المسيطرة علي الجماهير، فان انتصار مدرسة بتعاليمها توجه قضية التاريخ توجيها خاصا يدفع بها الي الامام او يردها الي الوراء.

ص: 156


1- 116. و خطأ المنهج التربوي اكبر ما يظهر في درس القانون بحكم انه يستمد من قوانين قديمة تستند الي العرف و العادة و من قضايا سابقة اخذت فيها احكام قضائية. رغم ان مفهوم العدالة و الظلم و الجريمة و العقاب و ما يتفرع عنها يتغير دائما بتغير الصفات الادبية العامة، و عليه فليس من الجائز ان تبقي التعميمات في القانون حافظة لشكليتها و روحها، كما لا يجوز ان تجعل منابع التفريمات فيه منحدرة من الماضي الذي لا يسانده الحاضر. و هذا تعليل بطء تطور القانون بالخصوص و تخوف القانوني من اية محاولة تشريعية جديدة، لان دراسته له علي هذا الشكل دخل في فطرته نوعا من التمسك و الحذر، رغم ان احكامه تبعد كثيرا عن حاضر الناس.

و انما نري تشخيص مثل هذه العلاقة واجبا علي المؤرخ، لان التاريخ في اكبر بواعثه وليد فكرة (1) الفيلسوف حين تصير جزءا من تفكير الجماعة او الطاغية او هما جميعا.و في حالة ما اذا اتحدت هاتان الفكرة، يتغير وجه التاريخ و يتشكل الانقلاب. خذ مثلا الاجتياح (2) اليوناني في عهد الاسكندر، و الاجتياح الفرنسي في عهد نابوليون؛ فالجماعة ذات الفكرة الفلسفية، اذا سيطر عليها طاغية او فاتح غير محدود الاطماع، تحدث دائما انقلابا في التاريخ.و الاجتياح العربي (3) شكل من هذا الاتحاد بين فكرتين: فكرة الاسلام الفلسفية، و فكرة الفاتح غير المحدود الاطماع كعمر (4) بن الخطاب مثلا.

ص: 157


1- 117. مثال الاول الماركسية فقد كانت فكرة شخص و لما تبنتها الجماعة كفكرة في مجموع افكارها بعثت قضية التاريخ علي لونها الخاص. و مثال الثاني طغيان الامم البدائية كغز و البربر لروما و اجتياح التتر لآسيا، و الفرق بين التوسع الذي يكون وليد التفاعل بين فكرتين و التوسع الذي يكون وليد فكرة الطاغية، ان الاول يحدث انقلابا تاريخيا من حيث انه غزو للافكار ايضا، بينما الثاني مد فقط ثم ينجذر بعد حين بدون ان يترك طابعا خاصا، فالاول انقلاب و الثاني طغيان.
2- 118. الاجتياح اليوناني تم في حين شملت الفكرة الفلسفية الجمهور الاغريقي في شي ء غير قليل من التذبذب المنفعل بالنظريات المختلفة. فقد كانت الفلسفة في ابان استوائها و تم من بنايتها الشرفة التي استأهلت ان يقف فيها ارسطو مرسلا قواعد النظام الفكري الخالد.
3- 119. ان الاجتياح العربي لا يمكن تعليله الا بما قدمنا؛ و ذهاب مؤرخي العرب مذهب المستشرقين في تعليله بيقظه القومية التي هي عندهم نظرية عامة في كل توسع و انتشار، خطأ مزدوج؛ لان الفكرة من اساسها خطأ و تطبيقها علي التوسع العربي خطأ آخر. فان الوثائق مجمعة علي ان العرب لم يتعرفوا الي القومية الا علي شكل جزئي و في عهد الامويين فقط بمعني انها لم تكن قاعدة الدولة في اي دور من ادوار حكومتهم؛ و سببه ان التعليم الجديد الذي جاء به النبي (ص) كان بشريا عاما نقلهم من القبلية الي الجامعة الدينية التي أخذت شكلا انسانيا بدخول الاجناس و العناصر المختلفة فيها. و اغرق من كل هذه الآراء في السطحية رأي الدكتور جوستاف لوبون الذي ضمنه كتاب مقدمة الحضارات الاولي حيث علل الاجتياح الفرنسي بتأثير الاماني، و هو كما تري وصفي محض؛ و الاجتياح العربي بتأثير المعتقد الجديد الذي استغل له النبي (ص) الحماسة الروحية من حدة الطبيعية العربية راجع ص 124.
4- 120. سيأتي لنا ي بحث النظام العام ان سياسة عمر كانت سياسة حربية خالصة تعد العرب الفتح و التوسع فقط.

فنابوليون لو ظهر في غير ذلك العهد من تاريخ فرنسا الذي قام علي فكرة فلسفية من العقل الجديد، لكان قصاراه ان يجي ء قائدا مثل (هنيبال) القرطاجني. و الملاحظ في هذه الانقلابات انها لا تتم الا علي ايدي الجماعة الذين تتذبذب في رؤوسهم الفكرة الفلسفية في نوع من الامتحان العقلي بحكم الجدة، و ليس علي ايدي الذين يستسلمون لفكرة فلسفية في نوع من الايمان الوجداني العميق بحكم الوراثة و التلبد، لما يفقدونه من الحماسة و الثورة للمبدأ. فسبيل احداث الانقلابات التاريخية أن نفتن الناس بفكرة مغرية و معقدة ايضا. و التعقيد ضروري لانه يحمل الجماعة علي التفكير الطويل في نوع من التساؤل المستمر، و اما الفكرة البسيطة فانها تحدث من اول الامر نوعا من الاستسلام او الهمود العقلي.و النظرية الحديثة في التاريخ تعلل الانتشار (expansion) بيقظة القوميات؛ و بهذا فسروا توسع اليونان و الرومان و العرب. و هو في نظري تعليل سطحي مغرق في السطحية، و ان كنت لا أنكر بأن يقظة القوميات باعث من بواعث التنافر الاجتماعي، و لكنه لا يبلغ بالتنافر حد الغاية الذي يشكل الاجتياح؛ ان سر الاجتياح مستكن في هذا التفاعل او الاتحاد العقلي بين فكرتين.و منها - سيطرة العلم و الاكتشافات (1) في جيل ما - فسيطرته مثلا علي الاجتماع و الصناعة و الحرب يجعل التطور سريعا سرعة هائلة.و منها - التغييرات الجغرافية - سواء كانت نتيجة لعوامل طبيعية او انشائية او تصادفية، كالأسر النهري و قنال السويس و المسالك (2) الجديدة التي كشفتها فتوح جنكيز خان. فان الثاني غير علاقات الشرق بالغرب من الوجهتين السياسية و الحربية، و لا يزال باعثا هاما من بواعث التاريخ الحديث.و منها - اهلية شعب اكثر من سواه للتغير - و يعنون بهذا استعداد الشعب و قابليته لاحراز صفتين متضادتين هما الثبات و التغير في موازنة دقيقة. و بذلك

ص: 158


1- 121. راجع كتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو ص 50.
2- 122. راجع كتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو ص 50.

يخضع نفسه لقوانين ثابتة و يحصل تدريجا علي صفات جديدة، اذ تكون حركته اشبه بالموجة التي تحدثها الحصاة في الماء، فهي تفضي الي حركات متعاقبة اوسع منها و لكن في غير خروج علي النقطة الاولي المركزية.و سيظهر لك فيما بعد ان الطبيعة العربية تميل الي المحافظة او الثبات، فهي غير مرنة في خصائصها الادبية. و هذا ما جعلها تتفاعل بخصائصها الثابتة مع خصائص الامم الاخري تفاعل تناحر و ليس تفاعل اتحاد. و هذا ايضا يفسر لنا السبب في تأثر اليهود بالطباع العربية و خصائص العرب الادبية، حين حلوا عليهم قبل الاسلام، دون ان يؤثروا فيهم الا بمقدار، كما يفسر سر ابتلاع العرب لخصائص اي قبيل نزلوا عليه بعد الاسلام و فرض خصائصهم وحدها، و لذلك اعتقد بان العرب لو هضموا تعاليم الاسلام، قبل محاولة التوسع، لبدل جمودهم بمرونة غير قليلة؛ فما لاحظه ابن خلدون علي العرب في مذاهب الحكم و الدولة آت من هذا الجانب. و الذي ينقض أن يكون هذا طبيعة فيهم تتصل بالعنصرية، استعداد العرب اليوم للانطباع بشي ء الاشكال و مرونتهم الظاهرة. و شاهد آخر وقع في تاريخ العرب يوضح ما نقرر، فقد شهدنا حكومة قريش المرنة في عهد الدولة الاموية بحكم رقيها القديم، و شهدنا حكومة القبائل في الاندلس التي قدمت ملوك الطوائف؛ فان الاولي استطاعت ان تقدم لنا نموذجا صالحا من وجهة علم السياسة لكلمة دولة، بينما الشكل الذي قدمته الاخري اقرب الي اللون الاقطاعي. و في نظري ان الثورة في عهد عثمان شكل من اشكال التناحر بين الخصائص العربية الثابتة و الخصائص الاخري المرنة، و قد انتهت بغلبة الثانية غلبة غير حاسمة.و هذه الدواعي، لكل منها تأثير في تصحيح حساب النسبة و تعديل الميزان التاريخي علي الوجود المقصود، و الميزان التاريخي بحكم مقدماته الثابتة و هي:(1)خضوع (1) الارتقاء العام للتطور العضوي و الغريزي.

ص: 159


1- 123. راجع برهان هاملتون علي الحوادث الارادية التي لا نشعر بها المقتبس من افكار ليبنيز.

(2)احتفاظ التطور مطلقا بنسبة ضرورة امتناع الطفرة.(3)مشابهة حياة الكائن الاجتماعي لحياة الفرد علي ما اثبته العلامة هربرت سبنسر، و هذا يظهر شدة اتصال ما بين الفرد و الجماعة، و خضوعهما لقوانين واحدة.نجد انفسنا مطمئنين اليه نظريا، و اما هو من الوجهة العملية فيحتاج الي تقص و استقراء و فرض للنسب العددية علي شكل رياضي صحيح في كل الشعب العضوية و ما يتصل بها.و الشي ء الذي لا اري البحث، في اضيق حدوده، يتم بدونه هو بحث مفهومي كلمتي فوضي (1) و ثورة و اثرهما في التاريخ. و هما عندي: الارتياب في المثل الاعلي في شكل ما يكون عملا عنيفا، و الفرق بينهما ان الثورة تتجه وراء هدف معين و فكرة خاصة بينما الفوضي لا تتمثل فكرة معينة أي ارتياب فقط.و كلما كانت الامة اكثر ارتيابا في المثل كانت أحيي و اغرز انتاجا. و هذا تفسير ندخل به علي كل شعب المعرفة ايضا، فنظرية كوبرنيك في النظام الشمسي ارتياب في المثل الفلكي، و نظرية ديكارت ارتياب في المثل المنهجي، و نظرية سبينوزا ارتياب في المثل الالهي، و نظرية الرومانتيك ارتياب في المثل الكلاسيكي، و كذلك نظريات داروين و كانت و ماركس؛ و هذه ثورات علمية و ادبية لأنها تداور فكرة بعينها؛ و ان افكار ابي العلاء ارتياب في المثل الدينية و الاوضاع، و افكار نيتشه ارتياب في النظام العام، و نظرية اللاأدرية ارتياب في عناصر الفكر المنطقي، و هذه فوضي في الفكر لانها لا تتمثل هدفا معينا.و من وجه آخر الثورة حركة النهضة العنيفة، فهي لعنفها من ناحية و لانها تفاعل تصاعدي الي الاعلي من ناحية اخري تحدث اصداء مختلطة نعبر عنها

ص: 160


1- 124. و كثيرا ما تتداخلان فان الثورة الفرنسية ثورة و فوضي لان الوضع الذي استقرت عليه لم يكن هدفا لها منذ البدأ بل اسلمت نفسها الي الظروف التي لعبت بها زمنا غير قليل ثم اقرتها علي وضع تهيأ بنفسه تقريبا؛ و كذلك الثورة علي عثمان كانت ثورة و فوضي.

من الجهة الوصفية بالفوضي، و الا فهذه الحركة في صميمها هجرة من ادني الي اعلي. فالثورة الاجتماعية هجرة الي وضع اسمي و اكثر تباتا و صلاحية في الاجتماع، و هي كلمة لا تعطي معني تحقيقيا و انما تعبر عن حالة وصفية خالصة تلابس الظواهر المتعاكسة للنهضة، و تحمل صورة من ظلالها و الوانها المختلطة اختلاطا تذاؤبيا (1) . و هذا يظهر بوضوح خطأ الظن السائد بان الثورة نتيجة فساد النظم فقط، و الواقع انها نتيجة سمو الكائن عن نظمه في دائرة الفكر و الحياة العامة، فهو لذلك يطلب مجتمعا يتناسب مع عرفه الراهن.نجد، بعد هذا التفسير الذي قدمنا به، ان الثورة رجة عنيفة تمس الافئدة و العقول، فتبعث فيها تيارات جديدة تختلف قوة و ضعفا، و لا تخلو ملابساتها عن تغيير في ارتكاز الآفاق العامة للاوضاع او تعديل في السنن المفروضة. و لا شك في ان عملية البعث التي تستنها الثورة، ثم ما توالي به من شتي الالوان و التشكلات تعد (2) الانسان في خاصياته النفسية و في حالات اجتماعه لشي ء جديد.و عليه فالفوضي - و كذلك الثورة - ليست مظهرا تشاؤميا، بل هي قوة، في حقل التاريخ، و حياة و الحاح في طلب اكمل الاوضاع.هذا تفسير للفوضي و الثورة، و ان يكن غريبا الا أنه حقيقي، قصدت به أن أصحح ما قد يقع به المؤرخون من تسارع الي الحكم بالانحراف علي أية بيئة علقت فيها الفوضي. و ستري ان الثورة الفوضوية التي وقعت في عهد عثمان و تواصل مدها الي عهد معاوية، كانت الخير الحكومة العربية حين بنتها بناء اقوي في الادارة و السياسة، و أوجدت معارضة متطرفة فعالة انتظمت في الخوارج و الشيعة،و معارضة معتدلة انتظمت في رجال الاصلاح امثال سعيد بن جبير و ابن ابي ليلي.

ص: 161


1- 125. من قول العرب: تذاءبت اليح، اذا هبت من كل جانب.
2- 126. و الامثلة علي هذا كثيرة لا نتعرض لذكر شي ء منها و انما نحيل القاري ء الي كتاب (مقدمة الحضارات الاولي) لغوستاف لوبون ص 117 و 118 و 119 و 120.

و التاريخ في غير توسعة آخذ بتحقيق الصفة العلمية له و عما قريب ايضا، و ان كان لا يزال في الاعتبار المدرسي فرعا من الآداب.و الآن نلخص المراحل الهامة التي يجب ان يقطعها المؤرخ حتي يستقيم له تقديم دراسة معتبرة اعتبارا ما. و مراحل (1) البحث التاريخي الكامل اربع:الاولي مرحلة التجميع: و هي تعني جمع اكثر ما يمكن من الوثائق و المصادر الاخري، كشكل العدد و الحصون و طريقة قطع الاحجار في البناء و الصور و النقوش؛ و لم تزل الوثائق هي المصدر الهام للمؤرخ حتي قال شارل سنيوبوس (لا تاريخ بغير وثائق).الثانية مرحلة النقد: و هي تعني فحص عبارات الوثائق و تدقيق الاصول الاخري و مناقشة استعمال الالفاظ من حيث دلالتها الزمنية التي هي دائبة التغير؛ فالكلمة الواحدة تستعمل في جيل بمعني يخالف معناها في الجيل الآخر، و هذا يتاج الي معاناة كبري و جهد متشعب الاطراف. و دائما تكون اقدم الوثائق اجدر بالاعتماد، و هي تبعت علي الشك في الزيادات التي تحتفظ بها الوثائق المتأخرة و لكن لا تنفيها، لاحتمال ان يكون كاتب الوثيقة المتأخرة قد وقف علي وثيقة تعاصر الاولي و قد انعدمت. و من هذا يظهر كبر الخطأ الذي يقع فيه بعض (2) المؤرخين، باعتمادها اعتمادا كليا و نفي الزيادات نفيا باتا، متذرعا بأوهن الوسائل الاخري.و يدخل في نقد الوثائق تصنيف الكتب من حيث اعتمادها و ردها، كالذي حاوله ابن خلدون في المقدمة حين ارسل تعميمات في كتب المسعودي و الواقدي و من اليهما، و لكنه لم يوف التصنيف حقه؛ و نري ضرورة هذا التصنيف من

ص: 162


1- 127. راجع كتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو في الترجمة العربية ص 17 الي 120.
2- 128. مثل المؤرخ المصري الاستاذ عند الحميد العبادي حين اثار الشك حول لقب السفاح، و في مناقشته الرواية القائلة باباحة يزيد المدينة. قال في بعض محاضراته (هذا ما قيل في بعض المصادر و لكن الروايات القديمة جدا لا تذكر هذه الاباحات) و من ثم راح ينكرها او يميل الي الانكار.

حيث يجرنا الاعتماد علي كل ما فيها الي مغالط كبيرة، كما ان بعض التعميمات، من جانب ابن خلدون، جاءت في غير محلها، كاطلاق الطعن في نقول السمعودي لأنه اشتم منه رائحة الميل الي الهاشميين؛ و هو الذي يجد فيه المستشرقون مؤرخا فذا اجتمعت فيه كل صفات المؤرخ الحق و مزاياه.و شي ء آخر يدخل في نقد الوثائق و هو محاولة التوفيق بين نصوصها ما امكن، قبل اللجوء الي الموازنة بينها موازنة تنتهي بطرح بعض و اعتماد بعض.الثالثة مرحلة التأويل: و هي اشق المراحل لأنها تقتضي تطبيقا واسعا للميزان التاريخي، و نفوذا في خفايا الماضي البعيد، و هي لا تستقيم الا للعبقريين من اعلام التاريخ.الرابعة مرحلة صياغة القصة التاريخية: و هي ذات اهمية كبري لانها الوسيلة الي ابراز قضية التاريخ ابرازا قويا، يخيل الينا معه انه تقرير للواقع في شي ء من المشاهدة و القرب.هذه لمحقة قصيرة اردنا بها تقييد فكرة و نفي وهم؛ و هي مع ذلك تتصل اتصالا وثيقا بموضوع هذا الكتاب الذي يعرض لدرس تاريخ الحسين (ع) بما اشتمل عليه من علل و اسباب، و بما احتفل به من مؤثرات و بواعث. و اذا كان حريا بالمؤرخ أن يعرض نتائجه، فبالأحري ان يعرض الطريقة الخاصة التي تأتي بها الي اصطناع هذه النتائج.و هذا الكتاب ليس ترجمة حياة، بل هو تاريخ حياة، و الغالب في الاولي ان تكون شخصية اي مقصورة علي الشخص و ما يتصل به من قرب، وقلما تجاوز خطوط حياته الا بمقدار، بينما الثانية تتسع لكل ما تتسع له كلمة «التاريخ».و ستجد في هذا الكتاب ايضا نوعا من الاسهاب في المقدمات التي توخيناها، لانها في نظرنا بسائط للكل التاريخي يجب تدقيقها و بحثها بأناة.

ص: 163

و شي ء آخر يحملنا علي بحث شتي العوامل التي مست عصر الخلفاء الراشدين و اثرت فيه، و هو ان عصر الخلفاء يقع في جزء من حياة الحسين التي كانت صلة بين ثلاثة عهود: عهد النبي (ص)، و عهد الخلفاء، و عهد الدولة الاموية. و كانت ميزة الاول أنه عهد التشريع و سن اللوائح، و ميزة الثاني انه عهد الاجراء و التطبيق، و ميزة الثالث انه عهد الابتعاد بالاشكال الاجرائية ابتعادا جاء في بعض الاحيان كليا و كثيرا ما مس جوهر التشريع.فتاريخ الحسين من هذه الناحية، يضطرنا الي كثير من التجاوز في كثير من الاسهاب. و بذلك ايضا كان الحسين (ع) اخلق شخصية لدرس ذلك الجيل، من حيث انه وحدة (1) تاريخية كاملة له، فقد كانت حياته حافلة بقضايا التاريخ، و كانت حياته بعد الموت عاملا من عوامل التاريخ الاسلامي العام. و هؤلاء الاشخاص الذين هم وحدات تاريخية، في مثل التعاريف، كل ما يقع بعدها شرح و تفسير، اجدر ما يكونون بالدرس لان جيلهم، بما فيه، شرح لمذاهب حياتهم الغامضة.و انا بعد ذلك ماض في تقرير نتائجي بدون ما نظر الي كبير مخالفتها للعرف التاريخي الشائع، فرب غير معروف صار لا يعرف سواه.و علي ان فئة من الناس قد تعرض عن هذه النتائج اعراضا كبيرا او قليلا، و تنتكر لها تنكرا ربما كان وبيلا، فاني احسن الظن بهم و امضي علي طيتي التي أراني اخدم بها قضية تاريخنا الاسلامي. فان من البر بهذا التاريخ في حقل الدرس ان لا ننتصر كبير انتصار لرغائبنا الخالصة منه، و انما علينا ان نتجرد الي اظهاره بما يتناسب مع الخطة الموضوعية التي هي وحدها الرغبة الحقيقة اللدارسين.و ماذا يفيد، لو اننا تناولنا تاريخنا تناولا ذاتيا محضا، سوي الاتهام و اساءة الظن

ص: 164


1- 129. يري بعض المؤرخين اختيار الرجالات الذين كانوا يعبرون عن اجيالهم تعبيرا وافيا بما مر بهم من اطواره لعلهم وحدات تاريخية يكتفي بدرسها عن درس الاجيال نفسها.

في اننا نؤرخ ما وقع الي ما نشتهي ان يكون واقعا. و هذه مغالطة مزدوجة، علي التاريخ مرة، و علي انفسنا مرة اخري. فقد انتصرنا منذ زمن مضي ضد نظرية (الطوتم) و الامومة عند العرب، و كان ما كان من ثورة قلمية كبيرة، و لكنها لم تعبر عن شي ء، و لم تدخل اي تغيير في وجهة نظر التاريخي العلمي، و لا يزال العلماء ينظرون الي تاريخ العرب بالنظر الطوتمي الذي ثبت عندهم كمرحلة لابد من قطعها في سبيل النظام الأسري القائم علي الأبوة، فاستثناء العرب مناقضة لاولية اجتماعية ليس ميزة ان لا نقطعها كأننا أنفياء اجتماعيون و شواذ بشريون، و انما الميزة ان نخضع ككل صنوف الكائن الحي لنواميس الارتقاء العامة.هذا مثل أرت به أن أبين أن الثورة التي تأخذنا في مدافعة نظرية نتشهي غيرها، لا تقلل من قيمتها، بل هي ماضية في سبيلها لتأخذ مكانها اللائق حتي من ادمغة الثائرين. و هذا هو سحر العلم او سحر الحقيقة الذي عبر عنه القرآن بقوله:«ان الباطل كان زهوقا»و اي لفظ ابلغ في افادة هذا المعني من لفظ القرآن «زهوق» (1) الذي هو صورة كثيرة الدقة كثيرة الاتقان، حين رسمت لنا ان من طبيعة الباطل لفظ انفاسه في تدارك و بهر، و ان من تمام وجوده ان لا يتنفس بكل رئتيه، مثل السقط الذي مرت به الحياة من بعيد فحركته بما تدفعه عنها، لا بما ثبت فيه منها. فهو مولود كامل التكوين فيما يشكل ظاهره، غير انه تزوير علي الطبيعة يغري الحياة به و لكنه لا يخدعها. و ليس يوجد لفظ وراء لفظ القرآن او في بكل هذا المعني في ايجاز و اقتضاب.

ص: 165


1- 130. و هذا آت من التعبير (بزهق) الثلاثي و (زهوق) ان ازهق الرباعي يفيد ان الاهلاك بفعل فاعل، و الثلاثي اللازم يفيد ان الهلاك طبيعة فيه او من طبيعته؛ و هذا سر العدول.

و من الخير ان نصطنع هذا النهج، لان تاريخ الخلفاء او تاريخ المسلمين في هذه الفترة غامض اشد الغموض. فقد كان هدوءا ثم عاصفة تتلو، و لابد لهذا الهدوء و هذه العاصفة من فواعل، و لابد في درس تاريخنا من تشخيصها و عرضها عرضا مبينا، لما كان لهذا العهد من تأثير في تسلسل التاريخ الاسلامي العام الذي اندفع به، و تلون بالالوان التي مزجها له ثم طبعه بها.و في ظني ان اول من تنبه الي وجود العلاقة بين الافكار الدينية القديمة و بين النزعات المختلفة بعد ذلك، و الي وجود العلاقة بين حركة النفاق في عهد النبي (ص) و بين حركات الاضطراب في عهد الخلفاء الراشدين، ثم رمي الي استيضاح كل هذا، الفيلسوف الاسلامي الكبير عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل و النحل، و قد صاغ فكرته في كثير من الاطمئنان و التثبت العلمي. و تحقيق مثل هذه العلاقات و كل ما يتصل بذلك المجتمع من شؤون الادارة و النظام هو الذي انصرفنا اليه، ليجي ء عملنا احصاء و تعليلا في مأتاة التاريخ، و بذلك نكون قد اعطينا دراسة ان لم تكن صادقة في تفصيلها و أعراضها، فلا تبعد عن الصدق في اجمالها و جوهرها.و لا تمنعني غرابة رأي اظن انه صحيح او اعتقد صحته من ابدائه، لان الشهرة لم تعد ابدا عنوان الحقيقة. و ايضا لا يحول بيني و بين رأي انه قليل الانصار، لان الحق لم يعد ينال بالتصويت، فان الانتخاب من عمل الطبيعة و هي لا تغالط نفسها كما لا تعمد الي التزوير.و اطرف شي ء اذكره عن ذلك الطراز من النقد الذي يقوم علي الاستنكار دون التروي، ما اجابني به احد اصدقائي الباحثين و كان نشر كتابا يدرس (عمر الخيام) قال في تصديره «اقدمه الي القراء بيد راجفة»، فقلت له يا هذا تحقق من موضوعك ثم قدمه بيد مطمئنة، فعطف علي ضاحكا و هو يقول: «لقد فصلت منه و انا اشد ما اكون ثقة بنتائجه، و لكن ما تصنع بمن يكاد ينقد او ينقد

ص: 166

بالفعل قبل ان يقرأ»، هذه كلمة عابثة الا انها مريرة حين يكون فيها نصيب من الواقع غير قليل.و أنا بعد ذلك ادين برأي طائفة من الفلاسفة كانت تحرم علي المرء ان يقول ما لا يعتقد، لانه في نظرهم يخادع نفسه و يخدع قارئه، و هو في الحالتين مضل او غوي، و يسرني ان لا اكون احدهما بله ان اكونهما...

ص: 167

مقدمات

القبلية

اسباب و نتائج

ثبت العرب علي شكل بدائي من اشكال الاجتماع و هو ما يعبر عنه بالقبلية، بحكم البيئة الجغرافية التي فرضتها الطبيعة في جزيرتهم. و كانت هذه القبلية واجبة من حيث انها اقصي ما يمكن ان تسمح به طبيعة الارض التي يعيشون فوقها، فهي لا تمدهم باكثر مما يتسق مع هذا النظام.و نجد عند الأخذ في هذا البحث مسألتين لابد من فهمهما قبل كل شي ء، و هما القبلية، و ثبوتها كشكل نظامي كافل للمجتمع الخاص.اما أولاهما، فانها ظاهرة تطورية لابد لكل شعب ان يمر بها في اثناء رحلته الاجتماعية الشاقة، و لكنه لا يلبث حتي يزايلها بما يمده الاقليم من اسباب النماء، و بما يجمع له من عوامل النضج شيئا بعد شي ء. فالانتخاب و بقاء الاصلح في الاجتماع يتبعان المكان بأكثر مما يتبعان طبيعة البناء و الدم او العنصرية (1) .

ص: 168


1- 131. هذه الكلمة يضعونها في مقابل كلمة (Racisme) و هي تعبر عن فكرة قديمة جدا الا انها عولجت في الماضي علي شكل وصفي خالص و لم تظهر الرغبة في معالجتها من ناحية تعليلية الا في العهد الجديد حين تقدمت بحوث علم الاحياء و التشريح و الاجتماع و الاثار. و اهم من حمل لواء هذه الفكرة و تعصب لها في المانيا الموسيقار الشهير (فاجنر) و في فرنسا (جوبينو) و هذا يعتبر من واضعي اسس النظرية؛ و مؤلفه المامة في تفاوت السلالات البشرية من اشهر ما الف فيها، و في انجلترا (هستون ستورات تشمبران). و هذه الفكرة ترمي الي تقرير ان البشر يتفاوتون في المدارك و العقول و القابيات الاجتماعية و الادبية تفاوتا ذاتيا بين السمو و الاسفاف تبعا العروق و السلالات و تبع هذا التصنيف القول بوجوب تحكم الاعلي بالادني و هم يختلفون اختلافا كبيرا في تحديد هذه العروق بالنظر الي الاصالة و الفرعية و كان اكثر هؤلاء مبالغة في تأييد النظرية و تقريرها علي شكلية علمية استاذ فرنسي يدعي (فاشية دو لابورج) قد ألف كتابا دعاه (الانتخابات الاجتماعية) و قسم البشر الي سلالات جعل علي رأسها السلالة الاوروبية، و انتهي بعد ذلك الي ان لكل من هذه السلالات خاصيات ذاتية متأصلة و ان علي العروق مدار كل تطور و ارتقاء سواء في الفضائل الجسمية أو النفسية. و كان من نتائج هذه النظرية الوبيلة انتحال مذاهب اجتماعية غاية في التعصب كالنازية في المانيا و جمعية (كوكلكس كلان) في امريكا، و محاولة تقرير مبدأ في علم النفس الجنائي يقضي بان مجرد اتهام فرد من السلالة الدنيا كاف في ادانته و تقرير مبدأ عدم التساوي في الحقوق المدنية. و الحق ان هذه النظرية علي الشكل المذكور خطأ بالغ لان دعوي الذاتية في الخصائص هدم لقانون التجانس الذي يقضي به علم الاحياء و هدم لقانون التطور، كما انها لا تصلح ان تكون مقدمة تعليلية الا في فهم التنافر بين الاشكال الادبية العليا عند الشعوب، و اما الاشكال البسيطة فان تنافرها يرجع الي البيئة الجغرافية و حدها التي هي اساس كل تغاير. فاذا درسنا خاصية حب النظام عند الرجل من السلالة الاوروبية ورقة هذا الحب عند العربي نجدهما يرجعان الي تأثير الموضع من اقرب طريق. فالعربي الذي دأبه انتجاع المرعي المتباعد الشقة لن يجد في الطبيعة ما يهيؤه ليكون نظاميا، و لكننا اذا درينا حب النظام عند الرجل الاوروبي و عند الرجل الالبيني كما يسميه (لا بورج) نجد التفاوت نتيجة للعنصرية التي زاد في رقيها مد التاريخ. و مما يدل علي فساد نظرية العنصرية، بالنظر الي خصائصها الذاتية، قابلية العناصر المفروض فيها الامتياز للانتكاس، و قابلية العناصر الدنيا لنوع من السمو تدريجا بفاعلية التاريخ. و حكم ابن خلدون علي العرب جاء من استناده الي هذه النظرية و ان لم تكن اخذت بعد شكليتها الحديثة.

علي ان المفروض في العنصرية انها تنتقل من حالة التجانس الي التنافر او عدم التكافؤ بفعل الموضع وحده، ثم تثبت الفروق العرقية كطبيعة بتعاقب التاريخ و تلبد الصفات، فتبدو المفارقة حينئذ بصورتها المركبة كأنها ذاتية. فنحن هنا لا ننكر ما للعنصرية من خاصية في حالات الاجتماع العليا، و انما نميل بها الي التحديد حتي لا تصطنع لدي تحليل الخاصيات الادبية و العقلية في ابسط ما تكون بساطة.و اما ثانيتهما، و هي ثبوت القبلية في محيط العرب علي انها شكل اجتماعي

ص: 169

كامل الارتقاء، فانها ترجع الي تأثير (1) البيئة الطبيعية التي تعهدت العرب بالانماء و التطوير. و بذلك كانوا ابعد الامم عهدا بهذا النظام و تراوحا عليه، و كانوا الي ذلك اكثر الناس شعورا بآثاره من حيث ان مجتمعهم استوي في حدوده، ثم لم يجاوز قواعده الا بمقدار لا نسمح لانفسنا ان ننعته بشي ء وراء الاندماج القبلي الجزئي.فالذي نرغب في تعليله الآن، ليس هو تمذهب العرب في ماضيهم بالمذهب القبلي، لانه سنة تكاد تكون طبيعية او هي طبيعية بالفعل. و لكنما هو استقرار هذا النظام لديهم بحيث كان ظاهرة لازمة، لها ابلغ مساس بتصريف حياة العرب و تلوينها، و هذا ما نعلله بالبيئة الجغرافية.و الذي نعرفه من تكوين تلك البيئة، انها مجموعة من السهوب و الصحاري، ينحسر البصر دون ان يتناهي في انتظام ارجائها، تكسوها طبقة رابية من الرمال الملتهبة التي تنديها الشمس بلعابها الحرور، و تتخللها جبال كثيرة و أوداء كثيرة مختلفة الخصوبة تتناثر بين هنا و هناك.فطبيعة كهذه لم تكن لتسمح للعرب بالزراعة - و هي مقدمة القومية - الا في حد محدود و في بعض الانحاء، و لم تكن تساعدهم الا علي ان يكونوا قبائل رحلا ينتقلون حيث الماء و الكلاء. و عندي ان العمل في الارض بالزراعة (2) باعث لكل شعور بالوطن اذ يورث الانسان عشقا مبهما للارض التي تهبه كل ما يحتاج اليه من مقومات الحياة، و تدعوه للاندماج القومي الصحيح.

ص: 170


1- 132. تأثير البيئة علي هذا النسق مبرهن عليه في كل انواع الكائن، فانا نري في فصائل النبات و الحيوان كيف تزودها فواعل الجو و البيئة بخصائص كان يظنها القدماء ذاتية محضا كشجر الصنوبر مثلا فقد اكتسب قوة الالياف من صموده الطويل امام الزوابع. و ابلغ من هذا في معرض المثل الحيوانات من الفصيلة الواحدة، فانها تختلف اختلافا كبيرا في الاشكال الجسدية و الاعمال العضوية بحسب البيئة فهي بين افريقيا و اسيا و اوروبا تتمايز الي حد بعيد واضح.
2- 133. واضح ان الاستقرار و عشق الموطن و الشعور الشديد بوجوده نتيجة لازمة للحياة الزراعية، و اري ان تعلق اليهود بالتجارة وحدها كضمان لمقوماتهم الحيوية زاد في تفسخهم و صيرهم شعوبيين و ستجد ظاهرة هذا في قريش، فان التجارة لم تنتف بهم عن علائق القبيلة.

فنحن مهما بالغنا في تفتيش شعر العرب فلن نقع علي شي ء من الحنين (1) الي الارض كالذي نجده عنه الفلاح الروسي مثلا، و لن نقع بين دموعه المنظومة علي دمعة واحدة ارسلها في وداع الحقل، بينما نجد شيئا كثيرا من هذا الحنين و هذه الدموع يبثها ابله و خباءه لانهما كانا اكبر مقومات الحياة لديه.فلم يكن العربي فلاحا لان بيئته لم تهي ء له ما به يكون كذلك، و ان اتباعه القطرة من المطر حيث تحل جلعته منتجعا رحالا و اورثته الاضطراب في كل سهل و حزن، و دعته للاندماج و لكن في حدود القبيلة التي يتصور فيها ان ترحل جميعا و تحل جميعا.و هذا التكوين الطبيعي لسطح الجزيرة يرينا كيف استطاع العربان ينتقلوا من الاشكال البدائية الاولي و يقفوا عند النظام القبلي الذي هو اسمي ما تمنحه بيئة علي هذه الشاكلة. ثم توالت الحياة بالعرب و هم علي سنة هذا النظام فثبت في نوع من الارتكاز. و ان اضطرار العربي تحت عامل الطبيعة ان يتبع مساقط الغيث و مراعي الكلأ من حين لآخر، لم يهيئة ابدا للتحول عن شكل نظامه الاجتماعي. و ساعد عليه ايضا قيام حياتهم علي الانتقاص و الغزو من حيث انه ارث القبيلة و جعل منها عصبية حقودا فكانت بينهم تراث و ثارات لا تفتأ تهيج بهم علي الدوام.و يظهر لنا من هذا ان العرب ظلوا علي النظام القبلي بحكم البيئة، و ان

ص: 171


1- 134. لا يؤخذ علينا بما يوجد في الشعر العربي من الحنين الي الاوطان حتي الف الجاحظ رسالة بهذا الاسم جمع فيها طائفة من الاقاصيص و طائفة من الشعر، لانها دمعة اجراها ذكر الصبا و عهود الانس. و اما الحنين الذي نعنيه فهو تلك العاطفة التي تثيرها الارض باعتبارها شيئا عزيزا يتصل باسباب الحياة حتي ليفضل المرء فراق الحياة علي فراقها. علي ان الشعر العربي يعرفنا ان العربي علق الرياح باكثر مما علق الارض لانها كانت تحمل اليه شيئا من الطراوة و الخفة و النشوة بنسبة لا يجدها في الارض، و انا نكلف الجاهلي شططا اذا طالبناه بشعر العاطفة السامية و شعر الروح، و بيئته تسدعليه المنافذ الي العاطفة و الروح، ان العربي عبر باصدق لهجة عما وجد و شاهد. و اني الفت نظر نقاد الادب الي ان كل شعر للجاهلية يذهب مذهب السمو الروحي او بتعميم اصح كل شعر ينسب للجاهلي و لا تساعد عليه البيئة فهو منحول. و الا فنحن نتهم معارفنا و نؤمن بالمفارقات.

التحول عنه لا يتم الا باستعداد الموضع للزراعة، و ان اساس كل قومية ثابتة يستند استنادا كبيرا أو كليا الي صلاحية الارض لتكون زراعية. و قد نجد البرهان علي هذه الدعاوي في تحول عرب اليمن و اطراف الجزيرة الي فلاحين، قد عكفوا جيدا علي الارض التي نعتوها بالسعيدة، و اختصوها بنوع من الحب و التعلق و الأمل، حتي ظهرت اشكال من امانيهم الزراعية في ديانتهم، فألهوا النخيل (1) في بعض انحاء اليمن، كما أله العرب الآخرون في المناطق الجرداء الآبار (2) ، و يذهب ظننا الي ان (زمزم) كان معبودا عند عرب الوادي، و من ذلك اكتسب اسمه الخاص الذي يعطي في السامية معني الارتعاد و الكهانة. و هؤلاء الذين وقعوا في بيئاتهم علي ما يكفل حاجتهم في شي ء من الاستقرار، اتجهوا بابصارهم نحو القومية او فكرة الامة و تلبسوا بما لا ينكر من اشكالها. فالاستقرار لا يقوم الا علي الزراعة، و القومية لا تقوم الا علي هذا النوع من الاستقرار، فحيث كان العرب زراعا كانوا اقرب الي القومية و اكثر استعدادا للتكتل؛ و لذلك عمد النبي (ص) لنقل العرب من رعاة رحل الي زراع، و هي خطوة هامة في التحضير و القضاء علي القبلية قضاء حاسما، فقد قال «خير المال سكة مأبورة و شاة مو مورة».و يصدق وجهة نظرنا سرعة تحول (3) اليهود الذين شاركوا العرب جزيرتهم، رغم انهم حاملوا تراث داود و سليمان، الي قبيلين فيهم من عصبيتهم و حماستهم، و فيهم من كل ما يتصف به القبلي الخالص. و لا يخالجنا شك في ان

ص: 172


1- 135. راجع كتاب تاريخ سوريا للمطران الدبس ج 1.
2- 136. عرف هذا النوع من التأليه في طوائف صحراوية عديدة، و لكن الشي ء الوحيد هو دعوي عبادة (زمزم) فليس بين ايدينا نصوص تشايع هذا الظن و تدل علي انه كان معبودا او الاها و انما جل اعتمادنا فيه علي تحليل الاسم و وجود قبيلة كانت تنتسب اليه او تحمل اسمه في بعض نواحي مدين (راجع تاريخ لبنان للآباء اليسوعيين) و هو ظن قريب من حيث ان عبادة الآبار مألوفة و من حيث انه يفسر حقيقة التقليد المروي في الآثار من انه تفجر بغمزة جبريل للارض.
3- 137. عرض الي تعليل تحول اليهود الي هذه الشاكلة الدكتور و لفنستون في كتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب) و لكنه لم يقع علي شي ء يمطأن اليه.

البيئة امتصت من افكارهم ما لا يتسق مع وضعها، و ما انكفت تنفث فيهم حتي تفسخوا و ارتدوا الي القبلية الدنيا.و هناك سبب خارجي ايضا ساعد علي رسوخ القبلية فيهم، و هو كون العرب غير مهددين بعدو اجنبي يدعوهم الي التكتل القومي، فان الامم المهددة من الخارج تقاوم بفضل الامتزاج و التعاون الذي يجعل من المجموع رجلا واحدا. و نحن اذا علمنا بان العرب كانوا مهددين بعداوة بعضهم انكشف لنا السر في تكتلهم تكتلا قبليا. و قد ظهرت في أواخر جاهلية العرب تجربة من جانب الفرس دعتهم الي نوع من التعاون في غير حدود الحلف و القبيلة، فهبوا يوم ذي قار لدفع عادية الفرس في تضامن جزئي، الا انه من حيث الشعور كان تضامنا حقيقيا. حتي لنجد أثر هذا الشعور علي لسان النبي (ص)، قد اغتبط لانتصارهم و بارك كفاحهم و افتخر به. و هذا شي ء يرينا مدي تأثير الخطر الاجنبي في بعث القوميات و انه كبير.و كان لهذا التركيز الطبيعي آثار بالغة في مذاهب ميول العرب النفسية، فقد صبها صبا فولاذيا، و اضاف الي طبيعتهم عنصر الجمود و الثبات، و افقدهم قابلية التحول و التغير، هذه القابلية التي هي مدار كل تطور و تكامل. و قد سبق لنا في بحث دواعي الاسراع أن عددنا في جملتها اهلية الشعوب للحصول علي صفات جديدة، و قلنا انه لابد لدوام الارتقاء من قدرة الشعب علي تحقيق التوازن بين تحوله و ثباته، و الا فهو مساق الي التصلب الذي يفقده الحيوية و المرونة شيئا بعد شي ء.فالمحافظة المتزمتة، و الانفصالية المتطرفة يفضيان الي نتائج واحدة، هذا من جهة التصلب، و هذا من جهة الانحلال. و كذلك كلما زادت نسبة الثبات في الشعب وقف، و كلما اشتدت به الحركة فقد تماسكه و تبعثر.فكان الجمود ظاهرة واضحة في قابليات العرب الاولين نتيجة لهذا التركيز القبلي الطويل، و قد انعكس اثره في بناء الدولة التي لم تقم علي تطهير نفسي شامل، فأدي الي زوالها في الجهات كافة من اندلسة الي المغرب الي الشرق. و هذا طبيعي ما

ص: 173

دام الائتلاف لم يقم علي تهذيب اجتماعي صحيح، بل ضمنته القوة وحدها، و سرعان ما ظهرت فيه الفتوق بانحلال الرباط الوقتي. و اي شعب يقوم علي مثل هذا الائتلاف، بمجرد انحلاله لا يستطيع ان يستعيده مرة أخري، لانه يفقد القابلية الشعبية للائتلاف.و انا اعترف هنا بان التبعة الجسيمة تقع علي عاتق الامويين الذين ألهبوا (1) حماسة القبيلة و استغلوها؛ فقد كان هذا جزءا من سياستهم، الا انه صدع بعد ذلك بنيان دولتهم المطبوعة علي غراره، و صدع بناء الدولة عموما.و يجب ان يفرق جيدا بين القبيلة في العهد الجاهلي، و القبلية في عهد الامويين؛ فان الثانية كانت تفاخرا و عصبية بالانساب و الاصول، بينما كانت الاولي قبلية تنظر الي القبيلة بانها رمز المصالح التي اهمها البقاء؛ هذا النظر لم يعد الحادي علي العصبية في عهد بني امية، فقد اتسع افق نظرهم و شعروا بالدولة و انها معقد المصالح و مصدرها، و لكن نفوسهم بقيت منحنية علي ما فيها من ادران.و هذه ملاحظات دقيقة جدا و مهمة جدا، من حيث انها تشرح لنا كثيرا من الخوافي، و تعلل طائفة من الظواهر المعقدة، و تصحح اوهام نقدة التاريخ في استعدادات العرب الذاتية و قابلياتهم اللازمة؛ فقط نستطيع علي ضوئها ان نفهم لماذا كان العرب قبليين؟ و لماذا ظلوا كذلك حتي بعد ان شكلوا لهم دولة مبسوطة

ص: 174


1- 138. في كتب الادب و التاريخ اقاصيص شتي و اخبار كثيرة عن اهتمام بني امية بهذا النوع من المنافرة و المفاخرة، و عنايتهم باذكاء العصبيات الحطيمة و افساحهم المجال للمطارحات التي تدور علي هذا اللون؛ و اخص منها خبرا ذكره صاحب الاغاني في ترجمة الفضل اللهبي ج 15 ص 8، و خبر مجالس معاوية في كتاب المحاسن و الاضداد لابن قتيبة. و للحصري في جمع الملح طرفة نادرة تعبر عن مبلغ هذه الحماسة؛ قال لما بلغ التعصب للقحطانية و العدنانية مبلغه انطلق رجل الي بعض الانحاء فاستوقفته جماعة سألته عن نسبته اقحطاني ام عدناني؟ فخاف الرجل اذا هو قال عدناني و كانت الجماعة قحطانية ان يقتلوه، و العكس؛ فتحيل للخروج من حربه بانه من سفاح. و هي نادرة لا تحتاج الي تعليق فانها تعبر بجلاء عن مبلغ استحكام التنافر القبلي في عهد بني امية.

الارجاء مختلطة المصالح؟ و بالتالي نتمكن من ان نكشف عن مقدار الوهم الجاثم في نظرية ابن خلدون عن العرب و مشايعيه من مستشرقة الفرنجة.و وفاء بحق البحث، و ان يكن توسعا و خروجا، اتكلم عن اثر هام من آثار الصراع القبلي الطويل، و هو الامتياز في الكفاح.فان التنازع (1) علي البقاء يستتبعه ابدا انتخاب الاصلح كما يقول التطوريون، و ان دوام التنازع يزيد الكائن عزما و رصانة و صبرا و صدق نظر في الحياة، الي غير ذلك من عناصر النجاح. و نحن من محيط العرب القبلي امام تنازع لا يعرف الهدنة، و غلاب لا ينتهي او ينتهي الاحياء المتنازعون. و هذا يفضي بنا الي نتيجة مهمة، و هي ان المجتمع القبلي الذي يظهر فيه عمل قانون التنازع علي صورة ابلغ تكون افراده احسن استعدادا للحياة، و اجدر بالنجاح في حومة الاعتراك السياسي و الاجتماعي، من حيث ما يجتمع فيهم من عناصر الامتياز الطبيعي.فمن اسباب تبريز العرب اذا في الغلاب الذي اخذوا العالم القديم به، و توسعهم السريع فيه بالصورة القوية الهائلة، أنهم الشعب المنتخب بفعل التنازع علي البقاء الطويل، و هؤلاء حينما أخذوا بالتهذيب الادبي الاسلامي و توسعت آفاق نظرهم، اضحوا رجالا ممتازين من كل وجه، و بذلك اعطوا النتيجة التي لا تزال محل دهشة المؤرخين، و من ثم نستنتج أن الشعب القبلي اكفأ دائما في الكفاح و التوسع، و لكنه يضعف (2) عن تعهد الحياة المدينة و توجيهها الا بعد ان

ص: 175


1- 139. راجع اثر التنازع علي البقاء في تكوين الشعب الممتاز في كتاب (مقدمة الحضارات الاولي) لغوستاف لوبون ص 113. و هذه الملاحظة علي العرب جديرة جدا بانعام النظر و توفيره، و قد فاتت كل نقدة التاريخ الذين عرضوا لبحث التوسع الاسلامي السريع، و تدلنا علي المحسنة الوحيدة التي استفادها العرب من رسوخ النظام القبلي في محيطهم.
2- 140. و شاهد هذا في حكومة ابن سعود فانها بدون شك تشبه حكومة العرب الماضية، فان القبائل تنتظمهم القوة وحدها بدون ما تعليم خاص يملأ فراغ نفوسهم بتربية دينية صحيحة او وطنية متماثلة، و القوة لا تكون المزاج العقلي و الروح الشعبية للامة؛ و بذلك نقطع بان اي امتحان يصيب القوة التي تربط القبائل و الجماعات فيها يفسخهم و يعود بهم الي نظامهم القديم، فهي نوع من الدولية القبلية. فاذا فرضنا ان دولة ابن سعود امتدت في بيئآت حضارية، ثم لم تعد شأنها القبلي، فليس لان العرب من طبيعتهم القبلية فلا يصلحون الملك و الدولة و انما لانهم لم يعالجوا معالج كافية الخلق الروح الشعبي و المزاج العقلي؛ راجع كتابي (ابن سعود) المستروليمز و آر مسترونج.

يدخل به في مراحل تهذيبية طويلة، فاذا أهمل من هذه الناحية و ترك لطبيعته، فانه يرتد الي القبلية في حدود اوسع، و من هنا أتي العرب في نظري، و من ثم ظلوا قبليين ايضا.و نستخلص من هذا ان نظام القبيلة مرحلة اجتماعية، و ان العرب وجدوا في بيئتهم ما يساعدهم علي الوصول اليها، ثم تخلفت بهم طبيعة الارض عن قطعها و بلوغ مرحلة القوميات. و ان كل شعب مهما تكن عنصريته مقضي عليه بهذا النظام و العيش في ظله مادام في حدود بيئة كالجزيرة؛ و السلالة مهما كانت درجتها من السمو فانها، اذا لم تجد في البيئة ما يساعدها علي عمل طبائعها الادبية و الخلقية المكتسبة من تراكم الوراثات، تتقهقر و تسف حتي تتسق مع المكيفات الطبيعية الخاصة. و قد رأينا في موجات العرب القديمة ما يبرهن علي هذا، و رأينا كيف شكلت حضارات مرموقة في بابل و اشور، و كيف اكسبت العرب صفات ادبية جديدة.و ان التركيز للصفات القبلية، و عدم العناية بمكافتها علي الطريقة التي استنها النبي (ص)، غلب الدولة بآثاره في كل عهد.و الغريب، في نزعة الدرس الحديث لتاريخ العرب، مبالغة المؤرخين باظهار نظام القبلية بمظهر الدولة او المقاطعة و هو خطأ محض، و لعل الحادي لهم علي هذا التصنع رغبتهم في الظهور بمظهر المدافعين عن الاجتماع العربي القديم. و هم بذلك يسيئون اليه من حيث يظنون انهم يخدمونه، فان معني التسليم بان القبيلة من الناحية السياسية دولة، التسليم بان البيئة العربية تجمع المؤهلات الخاصة بالدولة. و في هذا تأكيد ما توسم به السلالة العربية من انها لا تصلح الا لنوع هذا النظام مهما اختلفت بها البيئة. و الحق ان القبيلة لا يمكن ان تعتبر كذلك، لان من خصائص الوحدة السياسية:الارض، و الشعب، و الاستقرار، و النظام، و الاشتراك في الآمال.و من هذا يظهر ان القبيل المتقلقلة لا يمكن بحال ان تعد مظهرا للدولة او المقاطعة، و انما هي أسرة بنظامها و مزاجها.

ص: 176

القبيلة و نظامها

لكي نتحقق من صدق هذه النظريات يلزمنا ان نعرض، علي وجه سريع، القبيلة و النظام القبلي الذي كان سائدا عند عرب الجاهلية. فالقبيلة طائفة متبدية من الناس تعيش متقلقلة فوق بقاع من الارض تصلح للحياة بأضيق معانيها. و من فرط تماسكها تذهب الي انها اسرة حقيقية لها اب واحد قديم، و تجري في عروقهم دماء واحدة ايضا.و القبيلة من وجه عام وحده العرب الاجتماعية، و نظامها يميل الي الاشتراكية الساذجة، الا انها استطاعت ان تذيب الفردية تماما من جهة، و ان تحقق صلة الجماعة بالفرد من جهة اخري؛ فكما لم يكن له استقلال شخصي فيما تتجه اليه الجماعة، كان عليها ان تكلأ جانب الفرد و تحوطه من العدوان. و كان يشرف علي هذا النظام رئيس له شبه سلطة مطلقة، و من فرط خضوعهم لنوع هذا النظام استجابة لمطالب البيئة التي لا تسمح للفرد ان يعيش وحده، فيطلب دائما الاندماج في الجماعة، سيطرت عليهم الحماسة للقبيلة و توهجت بنارها في نفوسهم؛ و هكذا تكونت العصبية العنيفة عند القبيلة للفرد، و عند الفرد للقبيلة؛ هذه العصبية التي كان من شعارها «انصر اخاك ظالما او مظلوما».و: لا يسألون اخاهم حين يندبهمفي النائبات علي ما قال برهاناحنت نفوس العرب علي اعتبارات شديدة الخطورة في توزيع الشعور و بدوات الاحساس، و اقامت ميولهم علي قاعدة بالغة الضيق بالغة الحرج. و برغم اضرارها كانت ضرورة من ضرورات المحافظة علي البقاء في حدود القبيلة، من حيث ركزت في طباعهم وحدة المطالب و الغايات و الافكار و العادات، و وسمتهم بسمة التكافل و التضامن السابغين؛ فكان هذا الوضع الحيوي لديهم يشبه نظيره عند الاسبرطيين،و ان كان وضع الحياة في اسبرطة اكثر ميلا الي اللون الحضاري و الطابع القومي.ان ضرورة التعاون، في الدفاع عن النفس، صير بين القبيلة آصرة قوية و لحمة

ص: 177

عضلية مجتمعة الالياف، و اقامت المجتمع العربي علي العصبية النكراء. و لقد غلت بهم حتي امتدت بآثارها الي القانون و العرف، و حتي استحال تاريخ العرب القبلي الي تاريخ للدماء. و اذا اردنا ان نحصر بواعث التاريخ لديهم فلا نجد شيئا وراء هذه الداعية العنيفة، و قد نكون اكثر تحقيقا اذا قررنا انها كانت المحرك الحيوي العام، فقد ظهرت بألوانها في الاجتماع و الاخلاق و الادبيات و في المثل ايضا. فكان لكل قبيلة طوتم خاص بها، و طقوس ترضي تصوراتها و تنسجم مع مذاهب ميولها. و لم تكن عند العرب نزعة ما تفوق هذه النزعة في عنفها و شدتها، و كانت الي جانب هذا معينا تمد خيالهم الادبي و المثالي. فاستحكام القبلية، علي هذه الشاكلة عند الجاهليين، يظهرنا علي مقدار الجهود الواجب بذلها لتطهير النفس العربية و اعدادها بسبيل المبادي ء الجديدة.و النبي (ص) اعتمد، في كفاح العصبية، علي شتي الوسائل و طاولها مطاولة كانت قمينة بأن تأتي عليها، و بالفعل رأينا انها استترت في زمن النبي (ص) و استخفت كما يستخفي الميكروب في انحاء الدم حتي اذا هادنه العلاج ظهر بعنفه و قوته و انتشر بحماه. و سياسة النبي (ص) تتلخص بالسمو ببيئة العرب و القضاء علي المزاح العقلي القبلي باعطائهم مزاجا عقليا جديدا خليقا بتصريف حركاتهم في كيانهم الدولي، و تهيئتهم مع الزمن لما يسمونه بخلق الامة علي شكل صالح. و هذا يستدعي من العناية العملية اكبرها، و الا فمجرد (1) التعاليم لا تكفي لتغيير روح الامة، و لذا قال نقاد الثورة الفرنسية: ان الشعب الفرنسي سار في طريق الملكية من حيث لا شعور، و كذلك الشأن في العرب فانهم عادوا، في ظل

ص: 178


1- 141. و شاهد هذا ان التنافس علي القربات الدينية دخله شي ء كبير من العصبية اي انها تأثرت بالمزاج العقلي القديم؛ ذكر ابن جرير الطبري في ج 3 ص 7 (ان هذين الحيين من الانصار: الاوس و الخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله (ص) تصاول الفحلين لا تصنع الاوس شيئا فيه غناء عن رسول الله الا قالت الخزرج و الله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله في الاسلام، فلا ينتهون حتي يوقعوا مثلها الخ) و هذا خبر يرينا مقدار تأثير المزاج العقلي الذي لم تضعف شكيمته بعد رغم ما يأخذهم النبي (ص) به من تهذيب؛ فالقبلية بلا شك كانت لدي العرب مسيرا اعظم.

الحكومة الجديدة و التعليم الجديد، الي مزاجهم العقلي القديم. و عندي ان في جملة الاسباب التي اعانت علي ان تنجم العصبية مرة اخري أمرين مهمين:(1)التعجل بالفتوح قبل الاختمار الديني الذي يؤلف من مجموع الصفات النفسية للافراد صفة عامة، و هي التي يعبر عنها بخلق الامة؛ مما ادي الي ان يخرج هذا الخليط الكبير من العرب، و ينتشر في بقاع واسعة من الارض، حاملا غريزته الاجتماعية التي كانت لا تزال اكثر اتصالا باسباب نفسه، و لقد تمتد فتصبغ كل صفاته الادبية بصبغتها.(2)عدم عناية حكومة الخلفاء ببث التربية الدينية علي النحو الذي جري عليه النبي (ص)، هذه التربية التي اذا اقترنت بالزمن كونت المزاج العقلي للأمة الذي هو الوحدة الحقيقية لها و الرباط المعنوي؛ الثابت فانه يعمل في تطور الامم من وراء النظم و الفنون و التقلبات السياسية.و هذان سببان مهمان، سنتكلم عليهما عندما نتناول الفكرة الدينية عند العرب، لانهما أكبر مساسا و اتصالا بها. و خليق بنا أن نعرض المناسبات التي ظهرت فيها الفكرة القبلية بشكلها العنيف بعد أن أسلم النبي (ص) نفسه و لحق بالرفيق الأعلي. و اهم المواقف التي غلت فيها العصبية أو كانت معتركا للعصبيات في عهد الخلفاء، هي:1- الانتخاب يوم السقيفة، فقد كان تنازعا تمده العصبية بأسبابها، و أي واقف علي الخبر لا يخفي عليه جانب العصبية في هذا النزاع. بيد أنه كان متميزا مع ذلك بصفة هامة، و هو التنازع و الخلاف ضمن نطاق محدود يحترمه الجماعة كافة و في حدود رمز واحد يختلفون الا عليه؛ و لذلك لم تعمل العصبية عملها النكير و كانت عقيمة الأثر، لأن الجمهور المتنازع كان مختمر النفس مشبوب العقيدة عامر القلب بالمبدأ السامي. و هذا يظهر صدق نظريتنا في أن الخلفاء لو عنوا ببث التربية الدينية علي الشكل الذي بثه النبي (ص) في نفوس الجموع القريبة منه، لما تفرق العرب قددا و تطوحوا في مذاهب مختلفة. و اليك خبر هذا اليوم الذي يعتبر أول اجتماع انتخابي في تاريخ الدولة العربية:

ص: 179

اجتمع الانصار في سقيفة بني ساعدة و قد عقدوا امرهم علي تولية سعد بن عبادة، ثم توافي الناس اليهم، فتكلم سعد و كان منطق خطبته يدور علي أن الغنم بالغرم، و الانصار هم الذين غرموا في سلسلة الحروب و حركات الجهاد التي قام بها النبي (ص)؛ و هاتان المقدمتان تسلمان الي النتيجة التي يتوخاها سعد زعيم الحزب الانصاري الذي يقول بأن الخلافة للانصار. ثم تكلم أبوبكر و كانت عناصر دفاعه عن قضية المهاجرين ترجع الي أن قاعدة «الغنم بالغرم» لا تصح صد المهاجرين الأولين الذين كانوا التربة الأولي للنواة الاسلامية، فهو زملاء النبي (ص) في الدعوة الي الدين الجديد، للانصار منزلتهم و لكن علي غير هؤلاء الاشابة المختارة؛ و هذا المنطق اسلمه الي النتيجة التي شغلت الانصار، و جعلتهم يفكرون في شي ء جديد، و هي: «نحن الامراء، و انتم الوزراء».و اعتقد أن خطبة ابي بكر كانت مداورة لبقة أكثر مما كانت دفاعا بالمعني المقصود من هذا اللفظ، و براعته الفائقة ظهرت في الفكرة الجديدة التي انتهي اليها، ففيها اغراء و بذلك اطمعهم و حرك آمالهم، و فيها تسليم بقاعدة «الغنم بالغرم» و بذلك اعطي علي نفسه و حزبه ضمانا للانصار بأن لهم أن يستفيدوا من المراكز التي تلي الخلافة بالذات.و كم كان أبوبكر دقيقا حين خص دفاعه بطائفة المهاجرين الاولين فقط، دون المهاجرين عامة، و الا لتهدم دفاعه من اساسه، لانه ليس لعامة المهاجرين هذه الصفة التي أوسعها في خطابه، كما أنه بذلك يوقظ العصبية الراكدة. و لا ريب في أن أول أثر يتركه هذا الدفاع في جماعة الحزب الانصاري الانقسام، و لقد احس بهذا الانقسام الحباب بن المنذر من الانصار، فاجتهد بأن ينقذ الموقف باقتراح جديد، هو: «منا أمير و منكم أمير»، و كان خليقا ان لا يلاقي اشياعا لانه رجوع الي المنطق القبلي الخالص. علي أن العصبية ابت الا ان تذر قرنها وسط هذا الانتخاب فقال عمر: «و الله لا ترضي العرب ان يؤمروكم و نبيها من غيركم و لكن العرب لا تمتنع ان تولي امرها من كانت النبوة فيهم و ولي أمورهم منهم،

ص: 180

من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته، و نحن اولياؤه و عشيرته، الا مدل بباطل أو متورط في هلكة».فقال الحباب بن المنذر ردا عليه «يا معشر الانصار املكوا علي ايديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و اصحابه يذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر. فان أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد و تولوا عليهم هذه الامور، انا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب، اما و الله لئن شئتم لنعيدنها جذعة».و قال سعد بن عبادة لعمر «و الله لو أن بي قوة ما أقوي علي النهوض لسمعت مني في اقطارها و سككها زئرا يجحرك و اصحابك، اما و الله اذا لا لحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع».و من هذه المقاولات نفهم أن فكرة الدولة كانت بعيدة عن أذهانهم، كما نلمس مقدار الأثر القبلي في الخلاف، و لكنه لم يدول الي صراع ففوضي كبيرة، لان نفوس المختلفين كانت أكثر تهذيبا، فلذلك كانت أقل عنفا.2- الارتداد: كان الارتداد حركة يراد بها، في أول الامر، الخروج علي السلطة المركزية التي تمثلها هيئة حاكمة في المدينة. و لا ريب في أن الباعث الأهم عليها هو العصبية التاريخية بين طوائف الشمال و طوائف الجنوب. ثم غلت العصبية في جماعات، فعمدوا الي الانفصال بكل الاشكال حتي في الدين، فقد قدموا انبياء ايضا قاصدين بذلك القضاء علي كل ما يشتم منه رائحة الاتصال.و هؤلاء المتنبئون لاقوا تعضيدا من اغلب المرتدين الذين وجدوا فيهم الرمز الروحي المفقود لحركتهم الانفصالية التي كانت جزءا من الصراع القديم بين الشمال و الجنوب، و بالتالي بين القحطانية (1) و العدنانية. و نحن اذا لاحظنا أن الروح القبلي لا ينسجم و الحكم المركزي بحال، نقع علي الحافز المهم الذي دفع

ص: 181


1- 142. يذهب العلامة جويدي المستشرق الايطالي الي ان الأولي، في التقسيم، الاعتماد علي النسبة الجغرافية لان في الشمال قحطانيين و في الجنوب عدنانيين.

المرتدين الي تشكيل حركتهم الكبيرة بشكلها العنيف، و نري أيضا كيف اعثرو بسرعة علي ما يوحد بين جهودهم الخاصة. و يحسن بنا أن نتكلم باجمال عن كلمة ارتداد و عن عوامله الأخري.لم يكن (1) لهذا اللفظ معناه الفقهي الذي يرادف الالحاد في ذلك الزمن، و انما اطلق بمعناه اللغوي فقط الذي يفيد النكول و الرجوع، لان من جملة طوائف المرتدين جماعات لم تكفر و لم تلحد، و انما امتنعت عن التقيد بممارسة النظام المالي الذي كانت تمارسه في زمن النبي (ص)؛ و عليه فالمرتدون قسمان:(1)الملحدون و هم الفرطون في العصبية.(2)الخارجون علي السلطة المركزية في المدينة.و عوامل هذه الحركة، عدا ما ذكرناه، كثيرة منها:(أ) الجحود الطبيعي في النفس البدوية، و حالة الشك الديني المتولد عندهم من تناحر الديانات المختلفة.(ب) فقر العرب.(ج) نظريتهم في الحكومة بأنها عدوان علي الحرية الشخصية و الكيان الفردي.(د) نظريتهم في الذكاة بأنهم ضريبة تمس الاستقلال المالي للفرد و تنافي الملكيات الخاصة.و يضاف الي هذا سبب آخر مبني علي نظام (2) الطبقات الذي كان يفصل ما

ص: 182


1- 143. و من هذا يظهر ما في تقريره بعض المورخين، من ان هذا اللفظ اطلقه عليهم خصومهم للتهييج، من مجازفة و عدم تحقيق.
2- 144. كانت القبيلة تعرف نظام الطبقات فكانت عندهم(1)طبقة الاحرار اي العرب الخلص الذين لم يجر عليهم رق(2)طبقة العبيد و هم اساري الحرب او الذين يشرون بالمال(3)طبقة الموالي و هي طبقة وسطي بين الحر و العبد؛ و انواع الولاء كثيرة منها: مولي الموالاة و مولي النسب و مولي العتاقة. و كان لهذا النظام نتائج هامة؛ فالعبد معدوم الحقوق جملة، و الحر يتمتع بالحقوق العامة كاملة و هي التي تسمي. الآن مدنية، و المولي وسط بين التمتع بالحقوق كاملة و الحرمان منها جملة، فليس من حق المولي ان ينتسب الي القبيلة الا مسبوقا بكلمة حليف، و له ان يرث من حليفة بخلاف العبد.

بين الجماعات العربية، و هو:(ه) فهمهم للزكاة بانها حق لازم للطبقة الفقيرة يؤخذ منهم بالكره، و في، هذا تهديد لنفوذ الطبقة المالية، فلا بدع اذا رأوا في نظام الزكاة استطالة و تطفلا، و بذلك نفهم أن حركة المرتدين في حقيقتها كانت «ثورة الرأسمالية علي المبادي ء الاشتراكية الجديدة» تحمسها العصبية و بذكيها الروح القبلي.و الآن نعود الي صدر الحديث لنجيب علي سؤال، و هو: كيف استساغ هؤلاء الحكم المركزي في ظل حكومة النبي (ص)، و لم يستسيغوه بعد ذلك؟يرجع السبب في هذا الي انهم أخذوا حكومة النبي (ص) من جانبها الروحي، و نظروا اليها من هذه الناحية فقط، فلم يجدوا فيها ما يحيي عنعناتهم العصبية القدمية، و ما يهيج فيهم الحماسة التقليدية. ان النظر الي النبي (ص) كان دينيا محضا علي انه و ان مارس السلطة الزمنية فقد كانت الصبغة الدينية تغمرها حتي لتخفي بوادي الحكم و السيطرة؛ و يكفي أن نعرف أن الاعتقاد حينئذ بأن اسلاس القياد في يد النبي (ص) قربة دينية و ذخيرة اخروية، و ليس كذلك الخليفة بعده مهما كانت مزاياه. و نحن اذا درسنا كلمة خليفة التي تفيد معني النيابة في الحكم دون الاستقلالية فيه، نشعر بأن الهيئة الحاكمة انما اختارتها لقبا ليلينوا من شكيمة اولئك النافرين، حين لا يكون من معناها شي ء سوي الاشراف علي الحكم بالوكالة، و في هذا اللفظ لباقة تسهل وقعه.و هذا التحليل يظهرنا علي أن السلطة لو أسندت، من أول الأمر، الي شخص من أسرة النبي (ص) لكانت أكثر انسجاما مع الروح العربية الساذجة اليعيدة عن مذهب الحكم، من حيث انها تمنحه جزءا من نظرها الروحي الذي كانت تنظر به وحده الي النبي (ص). و يحسن أن نعني بفهم وجهة هذا النظر لانه يجلي لنا السر في اندفاع قبائل الجنوب الي الخروج، كما انه يعرفنا أن الاساس الذي قامت عليه الحكومة لم يكن ثابتا الي حد كبير.نحن نعرف أن الاعتقاد في حكومة النبي (ص) قائم علي انها آلهية محض،

ص: 183

و ان ممارسته لها ضرب من رسالته التشريعية، فلا عجب اذا مالت القبائل الي الرضي و الاستسلام، و لم تحارب السلطة المطلقة في شخص النبي (ص). و موت النبي وضع حدا لهذا الاعتقاد في الاشخاص، فلم يكن بدعا أن تنظر القبائل الي القائم بأعباء الحكم، من بعده، بالنظر الآخر الذي يحيي فيهم النزعات الكامنة و يوقظ لديهم الحماسة القبلية القديمة، بقطع النظر عن الصلاحيات و المزايا التي يتمتع بها المرشح، هذه الصلاحيات التي كانت بعيدة عن فهم أولئك العرب الفطريين.و مما يشهد لهذا ان بعض الصحابة، حينما توفي النبي (ص)، اعتقدوا أن كل شي ء قد انتهي، و مالوا الي العزلة ممارسين واجباتهم الدينية بينهم و بين أنفسهم، مما دعا ابابكر الي تذكيرهم بأخبار النبي (ص) المتعلقة بغلبة كسري و قيصر. و هذا يظهرنا علي أن العرب حينئذاك لم تكن لهم فكرة عن الحكومة الزمنية البتة، و لا رغبة خاصة بعيدة عن الدين في المحافظة علي الدولة العربية الفتية.فأول ما يتبادر اذا الي ذهن الاعراب، اذا رأوا رجلا من عامة العرب يتبوأ كرسي الحكم، أن الامر تم له بالغلبة فقط؛ و النتيجة المنطقية لهذا انهم ماداموا ذوي سلطة تخول لهم الغلبة في حومة الصراع، فهم أحق و أجدر بالأمر. و ثبت صدق هذا النظر، عندهم، الخلاف علي التشريح الذي نمي اليهم من أخباره؛ و لا شك قد كان فيهم من يرثي لمصير علي (ع) و هو الذي عرفوه عن قرب و أحبوا فيه شخصيته الممتازة؛ و نحن نعرف أيضا أن اعتقاد الفطريين ينصرف الي الوراثة الدينية، و أسرة النبي (ص) عريقة بهذا النوع من التخصص و الامتياز الروحي، فلم يكن بعيدا أن يطمئن العرب الناؤون الي ممارسة هذه الاسرة الحكم، في ظل الدين، بالخلافة و النيابة؛ و الذي يدلنا علي صدق هذا التقدير، احتجاج عمر (ض) الذي اصطنع فيه منطقا صور فيه النفسية العربية من هذه الناحية خير تصوير، فقد أشار لنا في كلمة له يومذاك الي أن العربي شديد النفور من السلطة الا عن نبعة الدين. و من الخير أن نذكرها علي طولها لما لها من القيمة الجوهرية في بحث هذا الموضوع؛ (1) قال:

ص: 184


1- 145. راجع تاريخ الطبري ج 3، ص 209.

«و الله لا ترضي العرب أن يؤمروكم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا تمتنع أن تولي امرها من كانت النبوة فيهم و ولي امرها منهم، و لنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته و نحن اولياؤه و عشيرته، الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة».تأمل قوله: و لكن العرب لا تمتنع أن تولي امرها من كانت النبوة فيهم، الذي هو بيان تصويري يكشف بجلاء عن خوافي النفسية العربية من هذه الناحية. و نحن الآن نستطيع أن نستفيد من منطق عمر (ض) الذي استعمله ضد خصومه السياسيين في اكتساب قضية الترشيح، من حيث هو شاهد علي ما ندعي من أن النفس العربية تنبو عن كل سلطة علي اية شاكلة، الا اذا جاءت من جانب الدين فتلين شكيمتها؛ و عمر بعد ذلك يتوسل بأنهم عشيرة النبي (ص) فهم أخلق بتمثيله، و من هذا ننتزع الدليل علي أن السلطة لو و كلت الي اسرة النبي (ص)، من أول الامر، لما شجر هذا الخلاف، و لما ظهرت حركة الارتداد، في أغلب الظن. و هذا لا يعني ان الأمر سيفضي في النهاية الي الحكم علي نظام الاسرة، بل يعني أن شكله كذلك أكثر انسجاما مع الروح السائدة اذ ذاك؛ و بالتكتل التاريخي و قرب الامة شيئا بعد شي ء من فهم مذاهب الحكم تتغير نظرتها.و اذكر الآن كتعليق علي حركة الارتداد، بأن الشدة التي أخذهم بها ابوبكر (ض) و تسديده الضربة القوية اليهم كانت لخير الدولة، لأن أولي النتائج التي ترتبت علي حركته الموفقة هي ايجاد الوحدتين السياسية و العسكرية بشكلهما الحقيقي. و نحن لا ننكر بأن النبي (ص) وحد الجزيرة و وضع الأسس لمن يعمل بعده، الا أن ظهور الوحدة العسكرية التامة كان علي يدي ابي بكر، و اليه يرجع الفضل فيها من أقرب طريق، سواء كانت هذه الوحدة العسكرية هدفه ام لا.3- اقتناع قريش بعدم العصيان أو بتعبير ذلك العصر بعدم الارتداد: يحدثنا التاريخ بأن قريشا حاولت، ككثير من العرب، أن تخرج و تعلن العصيان، و لكنها عادت فركدت. و في هذا الركود السريع ما يدعو الي الدهشة، و يحمل

ص: 185

الدارس علي انعام النظر لفهم السر الصحيح. و أعتقد بأن المورخين عموما لم يكتنهوا الأسباب الحقيقة لرضي قريش بالتعاون مع حكومة المدينة بالخضوع لها.و تعليله عندي بأن التنازع علي الخلافة يوم السقيفة كان في ظاهره بين حزبين: كتلة المهاجرين و كتلة الأنصار، و في حقيقته بين مكة و المدينة. و كان الظن القريب ان المدينة ستفوز في الخلاف المنتظر؛ و لو تم الأمر بغلبة الأنصار لما أخلدت قريش الي السكينة البتة، و لكن انحراف الفوز الي جانب المهاجرين - اي فوز مكة في الصراع الانتخابي - سهل علي قريش الخضوع و الاستسلام. و معني فوز مكة، في الحقيقة البعيدة، فوز اكبر أسرها المدنية؛ فلم يفز بنوتيم بفوز ابي بكر بل فاز الامويون وحدهم، و لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، و آثروا في سياستها و هم بعيدون عن الحكم، كما يحدثنا المقريزي في رسالته (النزاع و التخاصم).و من تاريخ هذا الفوز الانتخابي بدأت سعاية بني امية لتهيئة الأسباب الي الانقلاب الذي سيفضي في نهايته الي استحواذهم علي السلطة. و أي ناظر في حركات ابي سفيان لا يشك بأنه بدأ يعمل بهمة لا تعرف الكلل لتعبيد الامور علي ما يريد، فقد رأينا كيف يفكر باستعجال الامور من وراء شخص علي و العباس، و كيف يستعد و يعلنهما باستعداده، لاحداث الانقلاب، مستغلا العناصر غير الراضية عن نتائج الانتخاب.و بالنظر الي هذا التحليل لركود قريش بعد التهيؤ للثورة، نلمس عمل العصبية الكبير في هذا الحادث، و نضع أيدينا علي السر الصحيح في محيط القبليات. و ان من الغرارة الركون الي تصوير المورخين الساذج لهذا الحادث بأنه نتيجة تعنيف الضمير الديني، و هو لم يبلغ بعد. ان الواجب التاريخي يقضي علينا بأن نفهم كل حادث في محيط القبلية علي ضوئها لأنها بآثارها أقوي من كل عامل آخر، كالدين مثلا الذي لم يختمر بعد في نفوس العرب اختمار القبلية و نحن حينما ندير البحث، في هذه الفترة من التاريخ، علي قاعدة الدين قبل كل شي ء، نغالط انفسنا في حقائق الطبيعة البشرية و أوليات علم النفس، كما أن الميزان التاريخي الذي قررناه في

ص: 186

التصدير يقضي بأن يكون أثر الدين البدي ء و المثل الجديدة، في هذه النفوس، جزئيا و عاملا الي حد ما.4- التعيينات الحكومية: أبدي المقريزي دهشته المصحوبة بتساؤل حائر من حرمان بني هاشم من التعيين في الولايات، بينما كانت مغمورة بالعنصر الاموي، ففي كل جهة وال من أمية؛ و المقريزي لا يخفي دهشة الشديد من هذا الاجراء، لأنه لا يمكن تبريره بأنه لم يكن بين الهاشميين رجل واحد كفي بأعباء الولاية و تبعات الامارة؛ و هذا اذا أمكن في الفرض فانه يستحيل في الواقع. و نحن بهذا لا نريد أن ننتهي الي أن هذه السياسة الادارية كانت مقصودة، من الخليفة القائم، تحزبا و عصبية؛ و انما دللنا عليها لنشهد من خلال هذه السياسة مقدار نفوذ الاصبع الاموي في تسيير دفة الامور. و قد ساعدهم علي اكتساب ثقة الخلفاء انهم الاسرة السياسية - اذا صح هذا التعبير - العريقة، فالخلفاء لذلك يقدرون مواهبهم المدنية الموروثة. و من ثم نصل الي النتيجة الخطيرة التي نسعي الي تقريرها و ايضاحها، و هي:أن اكثرية الامراء و الولاة كانوا من بني امية في أزمان أبي بكر و عمر و عثمان. و اذا علمنا أن اثارة العصبيات المكبوتة كانت جزءا من سياسة الحزب الأموي ذي المطامع الكبيرة، استطعنا أن نقطع بأن هؤلاء الولاة كانوا، و هم يمارسون امارتهم في زمن ابي بكر و عمر، لا يفتأون يحيون كوامن النزعات و يرببونها ليلهبوا المجتمع الاسلامي الزاخر بما فيه من شؤون.و هذا تقدير سوف يستبعده جل الدارسين، و لكنه حقيقة تناصرها الشواهد الكثيرة، و تعلل الاضطراب السريع.5- التعبئة القبلية: و نعني بهذا تنظيم الجيش تنظيما بحسب القبائل، فكل قبيلة كانت تشكل فرقة من الجيش، و قائدها هو الزعيم القبلي نفسه. و هذا و ان كان يولد منافسة محمودة من حيث الاستبسال في الفتح، الا أن اضراره في النتيجة تفوق كل تلك المزايا؛ و لقد سمعنا في احتجاج أولئك الزعماء نغمة أنهم مغبونون و أن ما

ص: 187

نالهم من فوائد الحرب أقل بكثير من تضحياتهم، مما يؤيد وجهة نظرنا في أن هذا المنطق استولي عليهم و ظهر بعد حين بخطره العنيف.6- السياسة المالية: لاريب في أن النظام المالي لم يكن بعيدا عن التأثر بهذه النزعة القبلية، و بالأخص في خلافة عثمان حيث ظهرت فيه بكل جلاء. و سيأتي لنا بحث النظام المالي حينما نتناول بالدرس النظام العام، و ستري هناك أي أثر كبير تركته السياسة المالية التي قامت علي أساس قلق، من شأنه أن يثير الاضطراب في كل مناسبة كبيرة أو صغيرة. و ان مما يعكس لنا صورة من قبلية هذا النظام ترتيب الدواوين علي القبائل و تنسيق القيد في السجلات علي سنتها.فقد ظهرت القبلية اذا في مناسبات شتي و ظروف كثيرة بل و في كل ظرف منذ وفاة النبي (ص)، و هذه المناسبات ايقظت العصبية الكامنة حتي انطلقت في النهاية من عقالها و شكلت الثورة العنيفة. و كان الواجب النظامي يقضي علي هؤلاء الخلفاء باتباع السياسة النبوية في القضاء علي العصبية النكيرة التي كانت تقوم علي أساسين مهمين:(1)تأنيس النفوس الآبدة بتطريات العقيدة، و صقل الضمائر الخشنة حتي تعود انسانية نبيلة تؤلف بينها مثل واحدة تقوم عليها و تصدر عنها. و هو ما عنيناه ببث التربية الدينية التي كانت لازمة لذلك المجتمع لزوم التربية الوطنية في نظام القوميات الحديث. و لا شك بأن دفع العرب الفطريين الي الفتح و الجهاد، ثني نفوسهم و جوانحهم علي تقاليدهم القديمة و عاداتهم السحيقة مرداة برداء الدين، فكانت تربيتهم الدينية شكلية محضا.و قد ذكرت في كتاب (سمو المعني في سمو الذات) طائفة من الاخبار، تشهد بأن الاعراب خصوصا لم يتضلعوا من الدين. و قد كبر علي كثيرين القول بأن الخلفاء لم يعنوا بهذا اللون من التربية، فتساءلوا عن الاشخاص الذين أوصلوا الدين الي الجهات المختلفة، و أعطوا تلك المجموعة الاسلامية الكبري. و نحن لم ننكر أن الخلفاء عنوا بالفتح، و هو يستتبعه دائما دخول أقوام لاعداد لهم في دين

ص: 188

الغالبين، و لكن دخولهم، علي هذا الشكل، لا يعني أكثر من انهم مسلمون بالكم فقط، و هذا ما لم نعن به، و انما انصرفنا الي درس اسلامية هؤلاء و أولئك من حيث آثارها في الضمير. و النبي (ص) انبهنا الي أن المدار علي الضمير الديني وحده الذي يجب تخصيبه و مده بنمير التعاليم الصالحة لا روائه بقوله عليه السلام «رجعنا من الجهاد الاصغر الي الجهاد الاكبر» و بهذا أجلي النبي (ص) عن خطته الرشيدة في الفتح و التهذيب. و لا ينكر ان سياسة الخلفاء كانت سياسة فتح فقط، و عليه فقط تركت أهم الجانبين من السياسة النبوية.(2)تحضير العرب بتمصيرهم و تخطيط الاراضي ليقوموا عليها بالزراعة، فالنبي (ص) كان جهده منصرفا الي:(أ) ترغيب العرب في سكني الامصار، و لذلك حض الاعراب علي الهجرة الي المدينة لتبدل من نفسياتهم النابية.(ب) ترغيبهم في الزراعة، فقد قال عليه الصلاة و السلام «خير المال سكة مأبورة، و شاة مومورة»، و في هذا الحديث حض للعرب علي أن يكونوا زراعا مستقرين؛ و هو يكشف عن مقدار شغف النبي بالعمران.و نحن اذا درسنا السياسة التي أدي اليها اجتهاد الخليفة الصالح عمر بن الخطاب، نراها سياسة حربية خالصة حتي (1) منع ادخار الاموال و حرم علي المسلمين اقتناء الضياع و تعاطي الزراعة، و بذلك أوقفهم علي الجندية؛ و هذا دليل علي أن نفس عمر الكبيرة لم تكن تفكر الا بالتوسع، فهو لم يعد الشعب للاستقرار، و انما اجتهد باعداده للحرب بسبيل نشر المبدأ الاسلامي الجديد في أكبر رقعة من الارض. و هذه الخطة و ان تكن أفادت العرب دولة واسعة الأرجاء، الا أنها غير متماسكة أيضا. و سرعان ما انبعثت فيها العصبية القبلية و العصبية الشعوبية، و عانت الدولة أشد العناء في رتق الفتوق التي أوقفت كل نشاط مثمر.

ص: 189


1- 146. راجع المقريزي ج 2، ص 259.

و لعل اكبر دليل علي عدم نضج التعاليم الاسلامية في نفوس العرب أنهم سموا بعنصرهم فوق العناصر، حتي لكأنهم ارستقراطية علي الناس كافة. و الاسلام لا يعرف ارستقراطية الجماعة الجنس، بل جانس بين الشعوب حين خلقهم من ذكر و انثي و جعلهم شعوبا و قبائل ليتعارفوا علي مثل خاصة و مبادي ء فضلي و تعاليم قويمة، لا تفاضل فيما دون اتباعها.و من هذا يظهر ان عصبية العربي كانت تعمل ضد أخيه (1) العربي، و ضد اخيه المسلم من سائر الشعوب، مما استتبعه اعتزاز الشعوبي (2) بقبيله و ماضيه أيضا؛ و في معترك هذه العصبيات القبلية و الشعوبية انحل الرباط الاسلامي الصميم.

ص: 190


1- 147. ذكر العلامة دوزي في كتابه تاريخ الاسلام في اسبانيا (ان بغض قيس لليمن، و بغض اليمن لقيس، كان اشد من بغض العرب للاعاجم) و ارجع الي سلسلة الحروب القيسية و اليمنية في الاندلس تجد مقدار ما عملت العصبية في حل عقدة الربط الدولي للعرب.
2- 148. اراد الشعوبي ان يندمج في الدولة الجديدة فلم يجد امة، و انما و جد قبائل معتزة بانسابها متعصبة لها، فاضطر ان يعتز بنفسه و قبيله و قديمه.

التدين

تناحر الديانات في الجزيرة ادي الي حالة من الشك

يقتتضينا البحث، في تشخيص الروح الديني، و درجة ثبات العقيدة لدي العرب في عهد الخلفاء، أن ندرس تاريخ المناحرة العنيفة بين الاديان التي شهدت فصولها بلاد العرب قبل الاسلام، و كانت علي ما يظهر مناحرة رهيبة مروعة، و قد يكون الحديث عنها طريفا عدا عن أنه ضروري لازم لمن يريد أن يسبر غور النفس العربية من حيث العقيدة، و ينصرف الي اماطة اللثام عن الحيرة النفسية المبهمة التي شكلت عند البعض اعصارا قويا، أورثهم حالات من الشك و التعطيل و التردد، و بالأخص اذا عرفنا ان العرب كانوا لا يملكون (1) القدرة المنطقية علي الموازنة و التحكيم.

ص: 191


1- 149. و الشاهد علي هذا خلاف علي و ابن مسعود في حامل توفي عنها زوجها، فقال علي: تعتد بابعد الاجلين توفيقا بين آية البقرة و هي (و الذين يتوفون منكم و يذرون ازواجا يتربصن بانفسهن اربعة اشهر و عشرا) و آية سورة الطلاق (و اولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن)، و قال ابن مسعود: من شاء باهلته ان الثانية نزلت بعد الاولي فهي ناسخة. هذه القصة تكشف لنا عن مقدار السذاجة العقلية التي لا تستقيم لها الموازنة و التحكيم، و انما تلجأ الي الغيب المحض، فابن مسعود ينذر بالمباهلة و يستند اليها كمقدمة برهانية؛ هذا هو المنطق الغالب علي العرب لذلك العهد، فليس بدعا ان يترددوا و يبالغوا في التردد؛ و انا اعتقد أن شعبا يصدر عن منطق كهذا ما كان ليفهم عليا (ع)؛ و بتدقيق النظر في منطقه، في هذه المسألة، ينكشف لنا نظام تعقله السري.

و النتيجة التي نستخلصها، من صراع الديانات و غلاب الشيع، أن تتولد في العقلية العربية شبه ذبذبات مضطربة متنازعة؛ فلم تكن النفس العربية فطرية بالمعني الصحيح، و لا صحيفة بيضاء أو ساذجة، بل كان حشيتها تعاليم مختلطة اختلاطا غير منسق و لا مفهوم.فالبيئة العربية من هذه الناحية كانت موبوءة الي حد كبير و الي درجة فظيعة. و الآن نأخذ بعرض هذه الديانات التي احتضنتها الجزيرة و لعبت فيها أدوارا مختلفة الأهمية، ثم نعود الي درس أثرها و مدي ظهوره في حركات ما بعد الاسلام الغامضة، فان نظرية المرتدين و المتنبئين، و كذلك نظرية الخوارج و السبئية لا يمكن فهمها الا علي ضوء هذا التشخيص. و النحل المذكورة هي:الوثنية، المجوسية، الصائبة، اليهودية، الحنيفية، النصرانية، اليهودية النصرانية. و من هذا نري ان جميع الديانات المعروفة لذلك العهد في الشرق الادني، اجتمعت في بلاد العرب قبيل الاسلام. و يحسن بنا أن نعطي تعريفات سريعة عن كل ديانة، حتي اذا خضنا في حديث الصراع و آثاره وضحت لنا النتائج التي نجتهد بشرها و تمثيلها عن قرب.الوثنية: كانت هي الديانة الغالبة في المحيط العربي، و هي تقوم علي تأليه التماثيل أو قوي الطبيعة التي ترمز اليها، علي شكل من وثنية اليونان و الرومان، و ان كانت منحطة لا تبعث في صاحبها أنواعا سامية من التفكير و لا نظرا خاصا الي المثل الاعلي للخير و الجمال. و المعروف أن لكل قبيل من العرب معبودا خاصا يرضي ميوله القبلية و ينسجم مع أهوائه الخاصة. و بذلك كانت وثنية مفرقة جرت علي العرب التطاحن و الحرب، فان من أسباب الوحدة السياسية وحدة المعبود. و قد بدت طلائع الاجتهاد الديني بين القبائل الوثنية في أعمال الطقوس و تقديم القرابين مما أدي الي تكون طائفة سميت بالحمس (1) .

ص: 192


1- 150. الحمس هم: قريش و كنانة و خزاعة و جماعة من بني عامر بن صعصعة، و سموا بذلك لتشددهم في احوالهم دينا و دنيا؛ راجع شرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي ج 1، ص 4. و سبب التسمية ينظر الي شي ء وراء ما وضح للغويين، و هو عندي يدل علي مذهب ديني خاص، فان القريشيين عرفوا بذلك، كما تبعث فينا هذه التسمية احساسا بان الحماسة كانت عند العرب هي المثل الاعلي، و نظن ان ابا تمام استعملها بهذا المعني حين اطلقها علي الديوان.و عليه فقد كان للعرب مثل اعلي يعبر عن اقصي ما تصبو اليه احلامهم. و بالمناسبة اذكر بانه وضح لي لفظ آخر يصلح ان يكون هو لفظ المثل الاعلي عندهم و هو الامانة، فان العرب الجاهليين اطلقوا لقب الامين علي النبي (ص) في الجاهلية لانه كان نسيج وحده في شمائله العالية، و بسبب ذلك استعملوا له كلمة المثل الاعلي، و يؤيد هذا التقدير نصوص القرآن فقد اورد مشتقات هذه المادة كلها تقريبا و هي تدور علي هذه الملاحظة. و مهما فرضنا ان القرآن هو الذي طور هذه المشتقات و افرغ عليها معاني جديدة فليس من الجائز البتة ان نظن مطلقا بانه تجوز بالكلمة عن اصل معناها، فهو يستعمل الامين بمعني «القدس» بجانب جبريل و بمعني «الرسول» في سورة الشعراء و بمعني «القوي» في سورة النحل، و يستعمل الامانة بمعني «الشريعة» في الاحزاب، و يستعمل المؤمن وصفا «لله» و وصفا «للمسلم» و كأنه في جانب الله بملاحظة المثل الاعلي الذي هو مصدر المثل، قال تعالي (و لله المثل الاعلي) و في جانب المسلم بملاحظة المثل الاعلي الذي يشخص الناس اليه او الذي هو حد للانسانية الرفيعة، ثم كلمة آمين التي تستعمل في الدعاء، و الداعي حين يدعو يحاول غرضا عجز عنه بقوته فلجأ الي الغيب يطلب منه العون الالهي للوصول اليه و هو الغرض الأسمي له في حاله. و بما ان الشعب تتفاوت طبقاته، فقد كان للعرب مثلان: الاول مثل الطبقة العامة و هو الحماسة؛ حلل جيدا الفضيلة في (انصر اخاك ظالما او مظلوما) فقد كان هذا التحمس و التعصب فضيلة خاصة. الثاني مثل الطبقة الخاصة و هو الامانة.

المجوسية: ديانة تمثل أحلام اروح الآرية التي تستهويها مناظر الطبيعة، و نخلبها فتون الكائنات، كما أنها ديانة رمزية أي ترمز الي المعاني و الفضائل من طريق قريب الي فهم الانسان، و تقوم علي فكرة الخير و الشر، ثم مضت في الرمز الي أبعد من هذا، فاتخذت النار رمزا للضوء، و الضوء رمزا للخير، و بتعبير آخر قالت: ان النور من الشمس، و الشمس من النار؛ فأصل النور اذن هي النار، فرمزوا بها الي الخير. و اتصلت ببلاد العرب من الجهة الشرقية، فقد وجدت في قبائل هجر و قبائل البحرين. و كتاب «افستا» لزرادشت عرفه العرب عن قرب، فقد نقل اليهم و تأثروا به الي حد ما.الصابئة: هي ديانة بابلية بقيت بعد ذواء ينبوعها الاقدم اجيالا طوالا. و تقوم علي عبادة الاجرام السماوية، و تسند اليها القدرة علي تسيير الناس. انتقلت الي بلاد اليمن من أقدم الدهر، و قصة بلقيس في القرآن شاهد علي أنها كانت الدين الرسمي أو القومي في دور من ادوار التاريخ القديم. و لعل التسمية بعبد شمس التي كانت

ص: 193

شائعة عند العرب تدلنا علي مبلغ سيطرة تلك الديانة العتيدة كعقيدة، و علي درجة رسوخ أصباغها مراسم و طقوسا.اليهودية: هي ديانة سماوية اعترف بها الاسلام، و عني بدرسها، و اختصها القرآن بطائفة من الآيات. و هذا يدلنا علي عظم أثرها في العرب، و انها كانت أكثر سيطرة من سواها و أكثر تأثيرا، و لعل السبب تغلغلها بسرعة و قوة في محيط العرب يرجع الي انها سامية كل السامية، فوقع العرب فيها علي ما يعبر عن تصوراتهم الدينية، و لذلك وجدت الي نفوسهم مجازا عريضا. و قد أثر انتشارها في عقلية العرب تأثيرا كبيرا، الي حد ظهر في ادبياتهم العامة، و هذا نقل العرب من حيث يشعرون أولا يشعرون الي حال أرقي. و كانت قبائل يثرب أسرع تأثرا بها و قبولا لها من سائر القبائل الوثنية الأخري. و كذلك تطرقت الي اليمن و كان لها شأن من الناحية السياسية حتي ان البيت المالك تهود، و كان لهذا تأثير في مجري الاحوال السياسية نظرا الي وجود حزب آخر يؤيد النصرانية.النصرانية: هي كسابقتها ديانة سماوية اعترف بها الاسلام، و أوسع لها مكانا في القرآن، و كان لها تأثير غير يسير في الهيكل الروحي العام، غير انها لم تكن متركزة في ناحية معينة كاليهودية، علي أن قبائل عديدة تنصرت، بيد ان تسربها الي الجزيرة مكتنف بالغموض؛ و الظاهر أن المذهب النسطوري، بعد أن انتقل من بلاد الروم الي العراق، نفذ الي بلاد العرب.الحنيفية: يذكر المستشرق «و لها وزن» ان الحنيفية كانت مذهبا نصرانيا ذائع الصيت في بلاد العرب. و تعارضه طائفة من المستشرقين بأن الحنيفية لم تكن مذهبا نصرانيا كما لم تكن مذهبا معينا، و انما كان هناك أشخاص من مفكري العرب استنكروا عبادة الأوثان متأثرين بتعاليم اليهودية و النصرانية، حتي دخل بعضهم في اليهودية، و بعضهم في النصرانية، و بقي جماعة منهم غير متمسكين بدين؛ جاء في سيرة ابن هشام «ان زيد بن عمرو بن نفيل توقف عن دخول النصرانية و اليهودية، و اعتزل ديانة الاوثان و تقاليدها، و نهي عن قتل الموؤدة، و كان يسند ظهره الي الكعبة، و يقول: يا معشر

ص: 194

قريش لم يبق علي دين ابراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو اني أعلم أي الوجوه أحب اليك عبدتك و لكني لا أعلمه».و أخيرا طلع الدكتور و لفنستون في كتابه (تاريخ اليهود في جزيرة العرب) برأي طريف بناه علي دراسة لغائية (1) دقيقة لكلمة (حنيف) و ملة ابراهيم)، قال: هناك اصطلاح مشهور عند العرب قبل الاسلام و هو (ملة ابراهيم حنيفا)، و بحث هذا الاصطلاح قد يفهمنا شيئا عن عادة الختان؛ يعرف العضو بعد ختانه في العبرية باسم (ملة) و قبله باسم (غرلة)، و بما ان الختان من أصول الدين الاسرائيلي، فقد عبر الناموس الديني عن كل من اختتن انه دخل في ذمة ابراهيم. و من هنا اطلق اليهودي علي كل من اختتن هذا التعبير (ملة ابراهيم)، و هذا اللفظ يقوله العاذر للطفل عندما يعذره، و الحاضرون يؤمنون، و لما كان الختان وحده لا يؤدي الي الايمان فقد أطلق اليهود علي كل من اختتن، دون أن يعتنق اليهودية، اسم حنيف الذي معناه في العبرية (تملق. اقترف اثما. تذلل. داهن) يعنون به غير الصالح أي الختان غير المستوفي للشروط، و لهذا متابعات في ما تحفظ المعالجم العربية من تفسيرات لكلمة حنيف. جاء في لسان العرب ان من اختتن في الجاهلية و حج سمي حنيفا، قال الفراء (الحنيف من سنته الختان، و تحنف الرجل اختتن). و هو ينتهي الي أن الحنيفية طائفة ثأثرت بطقوس و عادات اليهودية، غير أنها لم تؤمن بجوهر الديانة.و من بين هذه التقديرات نفهم ان الحنيفية نحلة أو نزعة عرفت بها طائفة لم تكن بعيدة عن التأثر بالمسيحية و اليهودية علي السواء؛ و هذه الطائفة كانت أقرب الي الحيرة و الشك.اليهودية النصرانية Secte Judee CHristienne: و هي فرقة تجمع بين عادات اليهود و عقائد النصرانية، عبرت الاردن وقت حصار الروم لأورشليم، فسكنت في بلاد العرب. و من هذه الفرقة السموأل (2) الشاعر.

ص: 195


1- 151. كلمة من وضعنا الجديد ترادف فيلولوجي؛ راجع كتابنا: مقدمة لدرس لغة العرب.
2- 152. راجع شرح ديوان السموأل لنفطويه ص 10.

و يعارض بعض (1) المؤرخين هذا الرأي، بأنه لا جدال في انه وجدت طائفة يهودية نصرانية في الحين الذي كانت فيه النصرانية دعوة يهودية بحتا. و كان النصاري شيعة من شيع اليهود؛ و قد فنت هذه الفئة بعد أن أخذت النصرانية تنتشر بين اليونان و السريان، و لم يبق للطائفة اليهودية النصرانية ذكر في القرن الثالث بعد الميلاد، و ليس لنا مراجع تاريخية تثبت وجود هذه الطائفة منفردة في الجزيرة...هذا الخليط من الديانات و النحل جعل بلاد العرب في شبه حركة زوبعية، لأنها لم تكن فاترة بل عاملة ناصبة، و من ثم دخلت في صراع عنيف اتصل بأسباب الحياة العامة، و أدي الي تنافر سحيق و حرب مستعرة. و أشد ما كان الصراع و التناحر بين المسيحية التي تشجعها الدولة الرومانية و بين اليهودية التي وجدت في الجزيرة ملاذا لها يحميها من عدوان المسيحيين. و لكي تكون ضامنة لمستقبل مستقر جمعت اهتمامها لتصبغ العرب بصبغتها، و فكرت لأول مرة بالدولية (2) اليهودية،

ص: 196


1- 153. راجع كتاب: تاريخ اليهود في بلاد العرب للدكتور و لفنستون.
2- 154. فكر اليهود، بعد تشتيتهم، في موقفهم كأمة من واجبها الدفاع عن كيانها؛ و بعد محاولات كثيرة توصل عقلاؤهم في العصر الحديث الي وجوب تعيين مكان ليعتبروه وطنا قوميا لهم فانتخبوا بقاعا كثيرة كالارجنتين و شاطي ء افريقيا الغربي و فلسطين؛ و لكن التجارب اخفقت الا في فلسطين حيث امكن لزعمائهم اقناع سواد اليهود بسهولة، و اذكي هذه الفكرة فيم مذابح الروسيا التي وقعت خلال القرن التاسع عشر، فتخطوا الحدود الي الارض المقدسة؛ و كانت اول هجرة منظمة في عام 1881، و انشئت الجمعيات لايواء اولئك المتشردين، فكانت اول مستعمرة منظمة هي (ريشون لصيون) و جمعية اخري اسست مستعمرة زمارين؛ و كانت هذه الجمعيات تعمل منفردة الي ان اجتمعت في جمعية مركزية للاشراف علي حركة الاستيطان في فلسطين و اسمها جمعية الاستعمار اليهودية؛ ثم ظهر (هرتزل) العام اليهودي الالماني الذي تفرغ للدعوة الي الحركة المذكورة، و ابلغ رسالته في كتابه (الحكومة اليهودية) و هو انجيل الصهيونيين في الوقت الحاضر. و كان قد سبق (هرتزل) يهودي آخر عمل لترويج الفكرة بوجوب اندماج اليهود في العناصر التي يعيشون بينها، فاليهودي المقيم في بريطانيا يجب ان يكون بريطانيا؛ و قد سفهت تعاليم هذا الرسول الجديد المدعو (مندلسوهن)؛ راجع كتاب العقائد لعنايت ص 89 الي ص 102. و في نظري ان هذا النشاط السياسي لليهود ظهرت اولي محاولاته في جزيرة العرب قبل الاسلام، و لذلك كان لانهيار الدولة الحميرية اليهودية رنة اسي من جميع اليهود في الجزيرة و خارجها حتي ظهر في اشعارهم و مراثيهم الطويلة لتلك الدولة، و بلغ بهم خيالهم المذعور الي التوهم بان الدولة لم تمح بل هي متحصنة في الصحاري، و لذلك هاجر اليهود الي اليمن ليبحثوا عن حكومتهم المرهومة؛ راجع كتاب: تاريخ اليهود في جزيرة العرب.

و لعل هذه المحاولة تصلح أن تعد فاتحة الحركات اليهودية لتأسيس الوطن القومي، فما ذهب اليه و لفنستون من أن اليهودية لم تكن تعني بالتبشير في الجزيرة، استنادا الي أنها ديانة غير تبشيرية، و هم بالغ؛ لأن الظرف يقضي بأن تتخذ التبشير وسيلة من وسائل المحافظة علي البقاء. كما نعثر علي ديانة ثالثة كانت تبذل جهودا لا تقل عن جهود هاتين الديانتين، و هي المجوسية التي اتخذتها الدولة الفارسية وسيلة الي القضاء علي النفوذ الروماني.و الشي ء الذي يلفت نظري أن الفرس كانوا ينظرون الي انتشار اليهودية في بلاد العرب بعين الرضي، و هذا يحملنا علي ظن ان الفرس - و هم الذين عطفوا علي اليهود بعد فتح بابل - اتخذوا من اليهود صنائع لهم في جزيرة العرب يستغلونهم في الحيولة دون تسرب النفوذ الروماني اليها. و معني هذا أن الفرس أغروا اليهود بتأسيس دولة يهودية في البلاد العربية. و لما كان من غير المستطاع أن يجعلوها يهودية قلبا و قالبا، و الا أهاجوا العرب عليهم، اكتفوا من يهودية الدولة بالدين، فحصروا جهودهم في تهويد البيت المالك و جعل اليهودية دينا رسميا للدولة، و لقد تم لهم ذلك. و هذا يفسر لنا أن حكومة ذي نواس كانت شديدة الاتصال بحكومة الفرس، و كانت سياستها العامة جزءا من سياسة الثانية، و لعل حركة ذي نواس ضد النصاري كانت بتشجيع الفرس أنفسهم لتكون مقدمة لخصام عنيف، حين وقفت كلتا الدولتين علي جهود الاخري. فالرومان اتخذوا التبشير في الحجاز و الأحباش في الجنوب وسيلة الي الظفر، و اتخذ الفرس وسيلتهم الي ذلك باقامة دولة يهودية موالية لهم في الجزيرة. و الذي يدلنا علي صحة هذا التقدير، انه سرعان ما انكشفت الحوادث عن تماس القوي الفارسية و الرومانية بدون مباشرة و بمباشرة. و من الخير أن نذكر ادوار الصراع بين المسيحية و اليهودية، لما كان له من نتائج نفسية و سياسية و اجتماعية في وجود العرب العام.ذهبت طائفة من المستشرقين منهم العلما (جريتي و لها و زن و هالفي) الي أن ظهور اليهودية في بلاد حمير كانت نتيجة لنضال عنيف وقع بين اليهودية و النصرانية، تمكنت فيه الأولي من أن تتغلب علي الأخري في بادي ء الامر.

ص: 197

و ذهبت طائفة أخري منها العالمان (جلازر، و فنكر) الي أن الباعث سياسي محض، و هو أن ملوك الدولة الرومانية الشرقية بعد أن فرغوا من الاقاليم المجاورة للجزيرة العربية، تأهبوا لضم أطرافها الي أملاكهم، فرتبوا لتنفيذ هذا الغرض سياسة محكمة، تقوم من جهة علي ارسال وفود الرهبان الي الحجاز ليمثلوا دور الدعاة للنصرانية بين البدو و الحضر، و من جهة أخري علي تمهيد الأفكار و النفوس لقبول السلطان الروماني. فلما تنبه ملوك حمير لهذه الحيل و أدركوا ما يتعرض له كيانهم السياسي من الخطر الشديد بسببها، نشطوا لاحباطها و فكروا في أمضي الأسلحة التي تمكنهم من القضاء عليها. فاعتنقوا اليهودية ليقاوموا سيطرة الدين الجديد باعتباره دينا توحيديا. و بذلك قضي ملوك حمير علي كل الحجج التي كان ملوك الدولة الرومانية الشرقية يعتمدون عليها في الترويج لدعوتهم السياسية.و كان من النتائج المباشرة لهذا الصراع بين الديانتين، المذبحة التي ارتكبها ذو نواس الحميري بتحريض اليهود، و اعداد الشعب لثورات اجتماعية داخلية. فقد حدث (1) المؤرخ اليوناني يوحنا من مدينة (افزوس) أن دومنيوس (ذو نواس) قبض علي تجار من نصاري الروم و قتلهم، و استمر يعامل تجارهم بالقسوة و العنف و يضطهدهم كلما مر أحدهم ببلاد اليمن، حتي انقطع جميع التجار المسيحيين من دخول اليمن. فكسدت التجارة و ضعفت الحركة، لأن أسواقها تستمد الحياة مما تصدره الي الخارج من الحاصلات الزراعية و المنتجات الصناعية، و لأن ثغور اليمن كانت الواسطة بين الهند و جميع الأصقاع الشرقية و الغربية، فلم يكن من الممكن أن ينظر اليمنيون الي شل الحركة في الاسواق بعين الرضي، فتقدم (ايدوج) قيل و ثني الي ذي نواس، و قال له: ان أعمالك القاسية نقلت الحركة التجارية من ثغورنا الي ثغور الاعداء. فأجابه ذو نواس بأن اخواني اليهود في بلاد الروم يذوقون الوانا شتي من الهوان و التعذيب، فأنا أريد أن.أكفهم عن ذلك بمعاملة تجارهم بقسوة ممائلة. و لكن (ايدوج) خرج غير راض عن هذه السياسة التي ستؤدي الي خراب البلاد

ص: 198


1- 155. راجع كتاب: تاريخ اليهود في جزيرة العرب للدكتور و لفنستون.

ففكر في أن يتخلص من ذي نواس، فاتفق مع باقي الاقيال الوثنيين، و جمع بواسطتهم جموعا قاتل بها ذا نواس حتي تغلب عليه و قتله ثم اعتنق (ايدوج) النصرانية.هذه الرواية يشك فيها بعض المؤرخين لأنها لا تشير الي غزو الحبشة لليمن، و ليس فيها ما يدعو الي الشك عندي، لأن عدم تعرض الرواية للتنويه بذكر غزو الحبشة لا ينفيها، فقد يحتمل أن تكون الغزوة الحبشية رافقت الثورة الداخلية، و المؤرخ اليوناني مهتم بالسببب الذي كان أكثر مساسا في الانقلاب؛ علي أنه صح لدينا أن الدعاية السياسية، عن طريق الدين، للدولة الرومانية الشرقية اصطنعت بعض الشخصيات العربية، و ان تنصر (ايدوج) أو بعبارة أصح اظهاره النصرانية يدفعنا الي اعتقاد أنه كان صنيعة من صنائع الدولة الرومانية؛ و هذا يصحح الرواية من بعض الوجوه.و ذكر مؤرخو العرب ثورة أخري قام بها رجل يقال له لخنيعة ينوف، و تمكن هذا من الغلبة و جمع السلطة في يديه، و لكن المصادر العربية لم تذكر ما اذا كانت ثورة لخنيعة متجهة الي الأسرة الحاكمة فقط أو كانت متجهة أيضا الي هدم كيان اليهودية أيضا، اذ لابد من آلة يستعملونها للتأثير في نفوس الشعب و تهييج عواطفه، و خير وسيلة لذلك بأن يظهروا بمظهر المدافعين عن عقيدة الاباء و الأجداد و دين البلاد.فهذه الحركات التمردية اذا التي دبرها القيل (ايدوج) و الشعبي (لخنيعة) كانت متأثرة بالصراع بين الديانتين.و النتيجة الثالثة التي ترتبت علي هذا الصراع، هي قلق الضمير الديني و حيرة النفس المفعمة بالتساؤل المبهم. فالعربي لم يعد يطمئن الي و ثنيته التي لمس في ادبياتها نوعا من الضعة و الانحطاط بمقارنتها بالادبيات المثالية لكلتا الديانتين، كما لم يطمئن الي واحدة منهما لأن الدعاة المتنازعين كشفوا عما في الديانتين من عورات، و المجتمع لم يستطع تقديم مصلح عبقري يتسني له انقاذ هذا الشعب الحائر، قبل أن تسلمه الحيرة الي أسوأ حالاتها. و بالأخص في قريش الذين كانوا في

ص: 199

حالة نفسية مريضة للغاية، بما اجتمع فيهم من موهيات لذلك، فقد كانوا تجارا يجوبون العالم القديم تقريبا للتجارة، و يختلطون بشعوب تنتسب الي ديانات مختلفة، و يشهدون اشكالا من العبادات تثير طلعات نفسية متفاوتة، و تبعث الوجدان علي الوان شتي. و لذلك كانوا ذوي قلوب غفل حيال دعوة الاصلاح التي أذكاها النبي (ص)، فوجد فيهم من يعارض مواعظ النبي القوارع بأقاصيص اسفنديار و أخبار الفرس القدماء؛ لأنهم أخذوا دعوة النبي (ص) علي أنها صنو لدعوة المبشرين من ذوي الديانات الأخري، فعارضوه بما استقر في نفوسهم من تأثير الدعاة المجوس و تأثير الدعاة الآخرين. فقد ذكر الواقدي انه وجد في مكة يهود، كما حاول المستشرق (لامنس) أن يبرهن علي أن عددا كبيرا من اليهود كان يسكن مكة قبيل ظهور الاسلام، و ان من المؤكد أن أفراد من النصاري و عبيدهم كانوا في مكة مختلطين بأهلها.فلهذه الحيرة الدينية و لعوامل دينية أخري لم يستسغ القرشيون دعاية الاسلام؛ و أما المدينة، فلأن اليهودية تركزت فيها وحدها، كانت عقلية قاطنيها الدينية هادئة كثيرا، و كانت أقرب الي التأنس بالاسلام.و هذا التطبيق في محيط قريش يوصلنا الي نتيجة هامة، و هي أن طبقات قريش، علي اختلافها، كانت مغلوبة بحيرة بالغة؛ و في معرفة كل منا ان آل هاشم كانوا يمثلون طبقة كهنوتية أو انهم حماة التقاليد الموروثة، فبحكم هذا التخصص كانت لهم تربية دينية خاصة، تجعلنا نقطع بأن بيئتهم الدينية ولدت فيهم ضميرا خصيبا بحكم الوراثة، فينبغي اذن أن يكون صاحب التعاليم الجديدة منهم، و أن يكونوا هم رعاة هذه التعاليم أيضا.و الذي يصدق هذا التقدير، أن الوجدان الديني كان يغلب علي جميع رجالاتهم في كل دور، فان عليا (ع) و الحسن و ابن عباس و زين العابدين و محمد ابن ابراهيم شواهد صادقة.فالنفس العربية كانت حائرة ما في ذلك شك، و قد تمادي بها الشك الي ألوان

ص: 200

من الجمود و الالحاد الخالص. فان من المحقق أن الاطفال و من في مستواهم من ذوي العقليات البدائية التي تضعف عن الموازنة و التحكيم، تميل بل تسرع الي التصديق و الايمان في غير شك و لا ريب، و المنطق الجازم هو الذي يأخذ سبيله الي عقولهم و قلوبهم، ليمأ خلاءها الساذج، و هذه الرغبة عند الانسان التي لا تفتأ ساعية به الي ارواء ظمئه الروحي هي التي تجعل استعداده للايمان غير محدود، و ان ما يسمونه في الفلسفة بالوجدان البديعي sentiment esthetique يدفع الانسان الفطري الي اشباع نهمه الفكري. فالعربي بدائي. و البدائي سريع التصديق، و لكن نشاط المبشرين بديانات مختلفة، جعله يتردد. فهو لا يمكنه الايمان بها جميعا، كما أنها لم تكن ديانات و ثنية أو تشبه الوثنية حتي يجد الحل من قريب، بأن يحترم آلهتها بدون تفريق، كما كان يفعل الوثنيون القدماء. فالاسكندر، حين فتح مصر، تبني فكرة المصريين الدينية، و حرق لآلهتهم.فلم يبق أمام العربي اذا الا أن يشك و يلح في الشك، لأن حرب الديانات بينهم لم يكن يعرف الهدنة. فالعربي كان صاحب وجدان ديني مريض، و بالأخص الذي يسكن الحواضر. و الأخبار التي حدثتنا عن شك العربي في مناسبات حياته أكثر من أن تحصي، حتي لقد اهتم القرآن بشأن هؤلاء الشاكين اهتماما خاصا، و هاجمهم مهاجمة عنيفة كلما حكي أفكارهم، في مثل آية (ان هي الا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا الا الدهر) و آية (و ما نحن بمبعوثين)، الي غير ذلك من الايات الكثيرة. و هذا المذهب الدهري كان أكثر المذاهب انتشارا، كما يظهر.و الذي يدل علي مكان هذا الشك، في نفوس العرب، شيوع فكرة النفاق في عدد كبير بعدما قوي شأن النبي (ص) و ظهرت دعوته الاصلاحية. و اشتعلت الضمائر بالثورة علي القديم، و مال الناس الي تعاليم النهضة التي أعد النبي (ص) هيكلها. رغم هذا النمير الصافي الذي أجراه النبي (ص) الي كل نفس لارواء ظمئها و تبريد غلة الشك فيها، لم تتأنس نفوس المنافقين بتعاليم الدين الجديد بل لم تطمئن اليه، و هم معذورون، لأنهم كانوا يعانون من برح الشك الخفي ما جعل ضمائرهم قلقة علي الدوام.

ص: 201

و الاشياء التي تركها صراع الديانات عند العربي سواء في الوضع النفسي أو الديني أو الاجتماعي هي:(1)الحيرة النفسية العميقة.(2)صقل الوثنية اما بالفكر عند الطائفة المستنيرة، كالذي حدثنا به القرآن حاكيا قولهم (و ما نعبد هم الا ليقربونا الي الله زلفي)؛ فهذه الوثنية المتطورة الفكرة لابد انها مذهب أثر في وجوده ما شاع بين العرب من أفكار الديانات الاخري. و اما بالعادات، كالصوة و النسي ء.و الصوفة وظيفة (1) دينية، قال ابن هشام: كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة و تجيز لهم اذا نفروا من مني، فاذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، و رجل من صوفة يرمي للناس، و لا يرمون حتي يرمي، و كان آخرهم الذي قام عليه السلام (كرب بن صفوان)؛ و يقول الدكتور و لفنستون: ان صوفة التي معناها في العبرية الحارس أو الشخص الذي يبصر في الشؤون الدينية، وظيفة تسربت الي العرب من اليهودية.و النسيئة وظيفة أيضا تسربت الي العرب من اليهود. و تميل جمهرة المستشرقين الي تفسير هذه الكلمة بما كان معروفا عند العبريين، من أن الناسي ء، أي الرئيس الديني كان يؤخر و يقدم الشهور و يعين مواعيد الاعياد و الصيام، و يعلن النتيجة بايفاد الوفود الي الطوائف اليهودية المختلفة. و الناسي ء هو الاسم الشائع لرئيس القبائل عند بني اسرائيل منذ أزمنة غابرة. و وجود هذه الوظيفة في بني كنانة التي كان

ص: 202


1- 156. من المسائل التي لم تحل حتي الآن تعيين الاصل الذي تنظر اليه كلمة (صوفية) و (تصوف)؛ و علي كثرة التقديرات لم يصل العلماء الي رأي قاطع، فهم تارة يردونها الي الصوف و تارة الي الصفاء و احيانا يردونها الي اصول يونانية. و رأيي الذي اطمئن اليه جدا ان يكون (صوفية و تصوف) من كلمة صوفة العبرية. و مصدر هذا الاطمئنان شيئان (أ) الآصرة الشديدة بين معني صوفية و معني صوفة، فكل منهما طائفة لها ترتيب ديني خاص و اشكال تعبدية؛ و ان تخصص فريق من عرب الجاهلية بوظيفة الصوفة يجعلهم طبقة ذات شعائر و امتياز في مذاهب حياتها علي شكل المتصوفة. (ب) مساعدة قواعد العربية في النسبة والاشتقاق علي هذا التخريج اللغوي.

منها بطون مشهورة يرجح هذا التقدير، كما يؤيده ما ذكره ابومعشر البلخي في كتاب (الالوف) و ابوالريحان البيروني في كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و المقريزي في كتاب (المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار). و يذهب المستشرق الهولندي (دوزي) الي أن حرم مكة عمر ببطون (1) بني شمعون، و ان تقاليده لست الا وراثة اسرائيلية قديمة. كما ذهب أيضا الي أن العرب استعاروا أسماء أيام الاسبوع من اليهود، اذ لا يمكن تصور استعمال لفظ السبت بدون هذا، كما أن يوم الجمعة عرف عند أهل مكة بلفظ عروبة، و هو لفظ يطلق عند اليهود علي كل يوم قبل السبت و قبل الاعياد.(3)فكرة تحريم الأشهر التي تشير الي شعور اجتماعي خاص دفعهم الي تكتل قومي مؤقت. هذه الفكرة التي كانت وليدة الشعور البليغ بالاجتماع. و نحن نطمئن الي أنه نتيجة الاتصال بنظم جديدة، لأنه لون من التعاون الشعبي أوسع

ص: 203


1- 157. لي رأي جد غريب في اصل قريش و العدنانيين استخلصته من دراسات لغوية محض علي الاصول التي وضعتها في كتاب (مقدمة لدرس لغة العرب). و رغم انه رأي لا يستند الي وثائق تاريخية فهو ينسقها، و يتلخص بان العرب و العبريين كانوا قبيلة واحدة يسكنون في الجنوب، و الجماعات التي كانت مساكنها اقرب الي الساحل سموا (عبريين) اي ساحليين نسبة الي (العبر) و الجماعات التي كانت مساكنها اقرب الي الصحراء سموا (عربا) اي صحراويين من كلمة (عربة) اي صحراء. و عليه فهذه التسمية جغرافية خالصة لا كما توهم المتوهمون من مستشرقين و احبار. و أقدر أن هؤلاء ساحليين كانوا يشتغلون في البحار كما هو شأن اشباههم. و قد وفقوا الي نوع من الحضارة بينما الجماعات الاخري الصحراوية الح بها الجهد و اضطرها التكاثر الي مزاحمة العبريين في مساكنهم و اظن انها كانت الاماكن المتصلة بعدن التي اري ان معناها عاصمة او مرفا. و كان ضغط العرب او الصحراويين عليهم شديدا حتي حمل كثيرا منهم علي المهاجرة صوب العراق و لكن بقيت منهم بقية دعي افرادها بالعدنانيين اي المقيمين و دعي العرب المتغلبون قحطانيين بالنظر الي القحط او الي الصحراء التي لا يفارقها القحط. و اذا ثبت هذا الاحتمال الخاص بشواهد تاريخية فيما بعد نعرف ان عدنان و قحطان اقدم مما كانا نظن. ثم اتخذ هؤلاء العدنانيون سبيلهم الي الحجاز حيث عاشوا هناك و شيدوا في أم القري المعبد العتيق. و ربيعة و مضر في نظري علمان جغرافيان ايضا، و ليسا علمين علي جدين؛ فان معني ربيعه يشير الي الارض المربعة و منازلها كانت كذلك، و معني مضر يشير الي الرمال الملتهبة و منازلها كانت كذلك. هذا رأي اقتصر منه علي ما ذكرت لانه لا يستند الي وثائق تاريخية و انما هو تقدير مجرد مبعثه التحليل اللغوي الخالص.

من اعتبارات القبلية متخذا شكلا دينيا عميقا، بله انه كان حاجة أكيدة من حاجات التعايش في ظل الجنس. و يدل علي انه غير بعيد النشأة أن قبائل من العرب كلخم لم تكن تخضع لهذا التشريع.و النتائج التي نتوصل اليها بعد هذا العرض السريع:(1)ان صراع الديانات كان عنيفا و كان مأجورا استعملت فيه شر الوسائل، حتي أدي الي مذابح رسمية في الجنوب علي ايدي الحميرين (1) ، و الي مناوشات في الحجاز.(2)ان الديانات لم تظفر بتحويل العرب عن عقائدهم، بل ظفرت باثارة الشكوك.(3)ان الاسرة الهاشمية كانت هي المأمولة بأن تقدم المصلح، و ان المدينة هي الوطن الصالح لنمو الديانة الجديدة و بقائها.(4)ان النفاق مبعثه الشك الديني.هذا بحث لا يعنينا منه الا أن نتحسس حالة الشك عند العرب قبل الاسلام، و مقدار ما بقي منها في النفوس بعده. و قد ظهر لنا مما سبق أن حالة الشك كانت متحكمة الي حد كبير في عقول العرب و نفوسهم، و رأينا أيضا كيف أخذ الشك في عهد النبي (ص) شكلا آخر دعي نفاقا. و في كتب التاريخ أخبار كثيرة و أقاصيص كثيرة من مثل قصة عمرو بن معدي كرب التي ذكرناها في مقدمة (2) الحلقة الأولي من هذه السيرة. و قصة تهاون المغيرة بن شعبة بالصلاة علي ما ذكره

ص: 204


1- 158. الحميريون طائفة مبهمة النشأة؛ و المؤرخون علي اختلاف في حقيقتها. و انا اشك في عربيتهم و اعتقد بانهم دخلاء؛ و مبني شكي علي التحليل اللغوي، فانا اذا تتبعنا كلمات احمر و حمر و احامر و جدناها تدل علي غير العربي؛ و في ظني ان حمير ترجمة كلمة (فينيقي) فقد ذهبت طائفة من المستشرقين، منهم الاب اليسوعي «مرتين»: مؤلف تاريخ لبنان، الي ترجيح ان يكون معني فينيقي احمر. و اخبار التاريخ جاءت بأن بعضا من الفينيقيين نزل في بلاد العرب جهة اليمن ايام سليمان (ع).
2- 159. راجع الحلقة الأولي: سمو المعني في سمو الذات ص 46.

البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه، و تهاونه بالحدود علي ما ذكره الاصبهاني في كتاب الاغاني. و كلها تدلنا علي مكان هذا الشك الذي ظهرت طلعاته و خوالجه المكبوتة في حركة الارتداد و حركة المتنبئين.فان حركة الارتداد، اذا درسناها درسا دقيقا، دلتنا علي موضع الشك عند هاتيك الاقوام الفطرية، و انه امتد الي نواحي نفسياتهم و صبغ عليهم ميولها. و هذه الحركة كانت متممة لحركة التنبؤ التي بدت طلائعها في زمن النبي (ص) آخر عهده. و كانت شائعة بين كثير من الخواص. و ان ظاهرة الشك فيها كانت ملموسة الي حد كبير، حتي لنراها في تضاعيف قصة المتنبئين واضحة جلية. و قد تأثرت هذه الحركة في نظري بعوامل ثلاثة:(1)الاستياء الذي تملك الطبقات الدينية (الكهان) من ضياع نفوذهم بالاسلام، فعمدوا الي استعادة مجدهم المفقود بدعوة مشابهة.(2)قلق الوجدان الديني الذي ظهر انه كان قويا الي حد ما، و قد استغله المتنبئون لايصال دعوتهم الي العقول، أو علي الأقل لاثارة الشك في التعليم الجديد الذي اطمأن العرب اليه اطمئنانا ما. و هذا يكسبهم رجوع العرب الي جاهليتهم المضطربة.(3)عدم فهمهم للنبوة علي حقيقتها، فان الذي في خيالهم عنها كان تصورا مبهما و مشوها. و لكي تتضح لنا هذه العوامل في حركة المتنبئين، علي وجه ادعي الي التصديق، نورد نتفا من أخبارهم.ذكر ابن جرير انه لما اشتكي النبي (ص) وثب الاسود باليمن، و مسيلمة باليمامة، و وثب طليحة في بلاد بني اسد. و لعل أطرف شخصية بين المتنبئين هي سجاح بنت الحارث التي كانت كاهنة، و كانت علي علم بالنصرانية و كانت راسخة فيها تأثرت بنصاري تغلب. و انما اخترناها لأن شخصيتها ازدوجت بشخصية متنبي ء آخر هو مسيلمة.

ص: 205

و خبرها كما ذكره الطبري (1) : انها تنبأت بعد موت رسول الله (ص) بالجزيرة في بني تغلب، فاستجاب لها الهذيل و ترك التنصر، و كان قصدها غزو ابي بكر في المدينة، غير أن الظروف جعلتها تغير اتجاهها الي اليمامة. و يقولون انه جري علي لسانها (عليكم باليمامة، و دفوا دفيف الحمامة فانها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة، فنهدت لبني حنيفة و بلغ ذلك مسيلمة فهابها فأهدي اليها ثم أرسل لها يستأمنها علي نفسه حتي يأتيها؛ فنزلت الجنود علي الامواه، و اذنت له و أمنته، فجاءها و جعل لها نصف الارض. و رووا انها تزوجته و طلبت اليه أن يصدقها، فأمر مؤذنها شبث بن ربعي الرياحي أن يؤذن في الناس: ان مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما اتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة و صلاة الفجر. و ذكر الكلبي ان مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما.و كان من جملة أصحابها عطارد بن حاجب، و هو الذي يقول:أمست نبيتنا انثي نطيف بها و أصبحت انبياء الله ذكراناثم أسلمت و حسن اسلامها هذه القصة تذكر أن سجاح كانت متأثرة بالنصرانية الي حد كبير، أي غير مطمئنة، أو حائرة، و كانت كاهنة، فهي لذلك مستاءة حيث أن الاسلام وضع حدا للاعتقاد بأشباهها، و اتبعها كثير من متنصرة تغلب، و انها تزوجت بمسيلمة الذي جعل صداقها اسقاط صلاتين من ديانة محمد (ص). و يؤكد نظريتنا في ضمير العرب الديني، و انه كان متلددا، ما ذكره الكلبي من أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما. علي اننا نكاد نلمس الابتسامة الماكرة الساخرة في قول عطارد بن حاجب و بالأخص هذا التعبير (انثي نطيف بها) و رغم ذلك نجده منقادا مستسلما لأسباب منها، أو أهمها: الحيرة التي شملت مجموعهم النفسي.

ص: 206


1- 160. راجع الطبري ج 3، ص 228 الي 241.

و الان ننتقل الي درس هذه الظاهرة في عهد الخلفاء، خصوصا عند الاعراب و من لف لفهم. و لسنا نقف عند حوادث جزئية وقعت من الاشخاص في بعض مناسبات حياتهم، و انما نتجه من أول الامر الي أحداث كبيرة تجلت فيها ظاهرة الشك علي نحو يفيدنا ان نشخصه.و يحسن بنا أن نشير هنا الي أن كتاب نهج البلاغة، اذا درسناه دراسة نقدية، نقع فيه علي ما يؤكد هذا الظن، ففيه خطب كثيرة و مجالس كثيرة تدور علي مسائل من أصول الدين، كان الناس لا يفتأون يسألونه عنها أو يستاءلون بها فيما بينهم، و هي مسائل تتعلق بالذات الآلهية، في أغلب الاحيان كمثل خطبة الاشباح، و هي من جلائل خطبه، و كان سأله سائل أن يصف الله حتي كأنه يراه عيانا، فغضب الامام (ع)، و عرفهم كيف ينزه الله؛ و خطبته في ابتداء خلق السموات و الارض، و خطبته في تنزيه الله؛ و أجوبته في الحرية الادبية أو الارادة الجزئية (معضلة القضاء و القدر)؛ مما يدلنا علي ما هو متملكهم من حيرة خفية، فان الاسلام رغم انه وضع حدا لهذه الحيرة بما فرض من مثل و تعاليم، عادت فظهرت علي أشكال اسلامية، و بالأخص بعد عملية المزج الكبري التي أدي اليها الفتح السريع. فدخول ذوي الديانات الاخري في الاسلام - و الامم لا تغير دياناتها كما تغير اثوابها - ثبت هذه الحيرة أو انماها، و لكنه أعطاها شكل الاجتهاد الديني، و الآن ندرس حركة الخوارج و السبئية علي ضوء هذه النظرية.

نظرية الخوارج

جاءت الاخبار بأن المتحاربين في صفين لما اتفقوا علي التحكيم، نفر قوم من جند علي (ع) أكثرهم من قبيلة تميم، من أن يحكم أحد في كتاب الله. و ينبغي أن لا ننسي أن تميم كانت فيمن ارتد، و كانت ردتها الحادا، فقد قدمت نبية كان لها شأن مهم، و هي سجاح بنت الحارث. و انما انبهنا علي هذا ليبقي في ذكرنا انهم كانوا ذوي ضمير ديني قلق، تبعا لما يعرض في سماوة خيالهم. و بما أنهم يفقدون

ص: 207

القدرة علي الموازنة العقلية فهم لذلك يصيرون الي التمسك بالرأي أو التردد. و سنجد صدق هذا بعد حين، فان بعضهم تشدد و غلا، و بعضهم تردد؛ فكانت أفكارهم تختلف بين عشية و ضحاها كما يقولون؛ و فقدهم القدرة علي الموازنة يعلل انقسامهم علي أنفسهم هذا الانقسام السريع. و قد جعلوا شعارهم هذه الكلمة (لا حكم الا لله) المأخوذة من قوله تعالي (ان الحكم الا الله).أهمتهم أنفسهم حينما قبل علي (ع) بالتحكيم لأن قبوله كما ذكرت في كتاب: (سمو المعني في سمو الذات)، معناه ان للخصوم شبهة حق و هو ما لا يسمحون لأنفسهم باعتقاده، و الا فقد تهافتوا بين عملهم اليوم و عملهم بالأمس. و هم، حين استبد بهم القلق لضعف الموازنة عندهم، لم ينقذهم الا أن يقر علي (ع) بالخطأ اي بالكفر.و من الخير أن نذكر طرفا من تعاليمهم لنوجد صلة عقلية بين أفكارهم و بين الأفكار القديمة من جهة، و صلة أخري بين طلوعهم بهذه التعاليم و بين الحيرة المسيطرة.ذهبوا في أول الامر الي أن الخلافة ليست حقا اصليا و لا مكتسبا لقريش، و انما هي حق مشاع بين العرب، ثم قالوا بين عامة المسلمين.دقق النظر في هذه الفكرة، تنفس علي قريش سلطانها و تحكمها، و بين ما جاء علي لسانهم يوم الارتداد، تجد البواعث واحدة. فمسيلمة كان يقول: ان قريشا قوم يعتدون، و قال قيس بن عاصم:ألا أبلغا عني قريشا رسالة اذا ما اتتها بينات الودائع كما نجد من أهم بواعث الثورة علي عثمان أيضا، ان القبائل نفست علي قريش امرتها، و قد أنضج سخيمتهم تصرف قريش تصرفا غير مشروع و لا عادل، الي حد جعل القبائل ترمي قريشا بأنها نصلت من الدين تقريبا. و اسمع الي ما يقول شاعر:

ص: 208

بلينا من قريش كل عام أمير محدث أو مستشارلنا نار نخوفها فنخشي و ليس لهم، فلا يخشون، نارفكان بين هذه الحركات الثلاث صلة شديدة، و هي في الواقع حركة واحدة ظهرت في ظروف مختلفة، و كانت تصطنع لها في كل ظرف ما يناسبه. فحركة الخوارج في نظري بقية من حركة الارتداد الكامنة، و لكنها في هذه المرة أخذت شكل اجتهاد ديني اسلامي.و رأيهم في الخليفة انه لا يصح له أن يتنازل و لا أن يحكم، و اذا تم اختياره صار رئيس المسلمين، و يجب أن يخضع خضوعا تاما لما أمر الله، و الا وجب عزله. و من طوائف الخوارج من يذهب الي أنه لا حاجة بالأمة الي امام، و انما علي الناس أن يعملوا بكتاب الله من أنفسهم، و هذا ما كان يفهم من كلمتهم «لا حكم الا الله»؛ و لذا قال علي (ع): «كلمة حق أريد بها باطل، نعم انه لا حكم الا لله و لكن هؤلاء يقولون لا امرة الا لله». يتبين لنا من هذا أن نظرية الخوارج ترجع الي عوامل ثلاثة:(1)القلق الديني.(2)العصبية.(3)خضوع هؤلاء الاعراب أيام جاهليتهم للكهان خضوعا تاما؛ فما كانوا يقطعون بشي ء الا بعد تحكيمهم. و المفروض في الكهان انهم يستفسرون الغيب، و هذا أدخل في فطرتهم انهم مسيرون كرها، و جاء التنبؤ فثبت في ضمائرهم أن الغيب هو المحكم في كل شي ء. فالعرب من هذه الناحية كانوا جبريين، و نجد في الآثار المروية و نهج البلاغة أن عليا (ع) اجتهد كثيرا في تفهيمهم حقيقة القدر، و كانت لهجته في ذلك قاطعة صارمة، و تأمل قوله في الجواب عن مسألة في القدر «لو كان، اي معني القدر، كما تظنون لبطلت الشرائع و التكاليف و الجنة و النار و بطل ارسال الرسل، اياكم و هذه العقيدة فانها عقيدة مجوسي هذه الامة». هذه هي البواعث الحقيقية لخروجهم، و ان كان، في ظاهره، لا يعطي الا أنه نتيجة ظرف خاص انكشف عنه.

ص: 209

السبيئة: و الآن نتناول السبئية التي كانت أدخل في وجهة هذا النظر. و هي نحلة تنتسب الي شخصية غامضة كل الغموض حتي عدت شبه تاريخية، و هو عبدالله بن سبأ، و الرواة يختلفون فيه الا أنهم يجمعون علي الدور الذي لعبه، و أكثرهم يذهب الي أنه يهودي من صنعاء، قدم الحجاز، و دخل في الاسلام كما دخل غيره من اليهود؛ و قد ابتدع للعرب قضايا شغلت الافكار و أقامت المجتمع العربي، و أذكت فيه الثورة، و لعله الشخص الذي نظم تعاليم الثورة و أعطاها شكلا منسقا مهذبا.و المسائل التي خلب بها الناس تنظم في صنفين:(1)لاهوتي، و مسائله هي: (أ) أن عليا يجب أن يخلف النبي (ص) و ليس ابابكر (ب) ان عليا (ع) وصي محمد (ص) كما كان هارون وصي موسي (ع)، و شمعون الصفا وصي عيسي (ع) (ج) ان محمدا (ص) سيعود كما عاد موسي، و كما للمسيح رجعة، مستندا الي قوله تعالي (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك الي معاد).(2)اجتماعي و هو من النوع الاشتراكي المتطرف و مسائله هي: (أ) ان المال يجب أن يقسم بين الناس بالسوية، و ليس هناك غني و لا فقير. (ب) ان تسمية معاوية للمال بمال الله لا مال المسلمين افتيات علي حقوقهم، و قصد معاوية من هذا، كما كان يروج أن يستأتي له التصرف به كيف شاء. و لا يختلف اثنان من المؤرخين بأن ابن سبأ تأثر الي حد كبير بتعاليم الديانات المختلفة، و أخصها المزدكية في الجانب الاجتماعي من أفكاره. و في نزعته مصداق نظريتنا التي اجتهدنا أن نفسر بها الأهواء الدينية التي أدت الي اختلاف كبير.و المؤرخون يرون في عبدالله بن سبأ هذا، رجلا دساسا خطيرا، و نري فيه غير ذلك. و مقدمات هذا الرأي الذي كونته لنفسي، ان السياسة المالية التي سار عليها عثمان (ض)، من حيث اقطاع المحاسيب - فقد أقطع مروان خمس ما فتحه في افريقيا، و الاقطاع شي ء مستحدث في الاسلام، بله انه خول قريشا الملك و اقتناء الضياع و التزيد منها الي أبلغ حد - كانت طفرة بالنظر الي سياسة عمر (ض)

ص: 210

الصارمة في هذا الجانب. و قد نشأ عنها ولوع بالاستكثار، و رغبة جامحة في التمول ضرورة انها نقلة من الفقر الجديب الي الثراء العريض. و قد ظهر أثر هذا التسابق علي الامتلاك سريعا في الوضع الاقتصادي العام، حيث جعل العسكريين الذين أوقفوا أنفسهم علي الجندية طبقة فقيرة يائسة، و الحف عليها الفقر بصورة أشد حينما وقفت الفتوح. و اذا علمنا أن العسكريين هم أكثرية العرب المسلمين نصل الي ان الطبقة الفقيرة شملت العرب اكثرهم، و أصبحت قريش وحدها هي التي تؤلف الطبقة المالية أو الارستقراطية، فعرت الناس ضغينة علي قريش باعتبارها المستبدة بالمرافق العامة و المستبدة بالدولة، و لا عبت نفوسهم أفكار ثورية عميقة. و بحكم ان عبدالله بن سبأ كان رحالة، و يحمل عقلا مفكرا وحسا نافذا الي بواطن المجتمعات، فقد لمس أسباب الاستياء العام،و حاول أن يتناول المجتمع في ناحية المال باصلاح مناسب، و لذلك لاقت أفكاره رواجا اي رواج.و اما أن نظن بأنه استطاع أن يفتن شعبا مطمئنا الي عقائده و شؤونه بالدعاية الخالصة، فخرق بالنظر النفسي و الاجتماعي، و ان يفتن خلص الرجال الذين ساهموا ببناء الهيكل الاسلامي، من مثل ابي ذر (ض) الرجل الذي طورته الديانة تطويرا حقيقيا، و جعلت منه مسلما عميق الاسلامية، فانه يرمينا بنوع من البله و السذاجة في فهم طبائع النفوس. فقد كان في حكم الثابت اذا أن الناس عامة شعروا بشعور واحد، و ألف بينهم الاستياء؛ و يدل علي هذا انتقاد علي (ع) نفسه لهذه السياسة التي جعلت قريشا تبتلع المجتمع الاسلامي الواسع و تتجاهله، و هو القرشي الصميم؛ و شكواه من قريش التي كان يرمز بها في ذلك الحين الي الامويين تملأ خطبه التي في النهج.و ان اباذر (ض) لمس هذا الاستياء، و حاول أن يضع حدا للتدهور الاجتماعي السريع الذي بدأ يؤذن بالثورة عتلي الرأسمالية الوليدة؛ و قد استنام الي أفكار عبدالله ابن سبأ التي تؤلف برنامجه الاصلاحي، لأنها وافقت أفكاره و لأنه وجد فيها علاجا لا يبعد عن روح الاسلام في جوهره، خصوصا و ان في برنامجه مردا الي سياسة عمر المالية، في غايته، بدون نظر الي الصيغة التي افرغ فيها.

ص: 211

و نحن لا ننكر أن أفكاره الاشتراكية متطرفة، و لكن التطرف دائما شأن الشعور بالضيق؛ و المفكر بأفكار ثورية يكون علي الدوام مفكرا متطرفا. و كذلك الشعب الثائر يكون متطرفا علي مقدار كبير. فعبدالله بن سبأ مسلم ليس ما يحملنا علي الشك في اسلاميته، و صاحب أفكار اصلاحية استلهمها من حالة المجتمع العامة، لا انه نفثها فيه. و هذا لا يمنعني أن أقرر أن برنامجه، في قسميه: اللاهوتي و الاجتماعي، كان مقتبسا من ديانات عدة، و بالأخص في القسم الاجتماعي، الا أنه سبكها علي شكل لا تتنافي به مع روح الاسلام (1) ، فهو صاحب فلسفة دينية مقتبسة. و قد أثر أيضا في الخوارج؛ و سيأتي لنا درس هذا في بحث الثورة علي عثمان (ض).هذه مقدمات و نتائج نريد أن نصل من ورائها الي استيضاح أثر القلق في الوضع الديني و الحياة العامة بعد الاسلام، و نحن في هذا الفصل قد اظهرناه في حدود المناسبة التي دعت اليه. و يتحتم علينا، قبل مزايلة الموضوع، أن نتكلم عن السياسة التربوية التي اتخذها النبي (ص)، و تحزم بها للقضاء علي القلق الديني الخطير الأثر. و نحن، بعد المامة قصيرة بالسيرة النبوية، نجد النبي (ص) اعتمد علي أساليب تربوية خالصة لابلاغ الدين الي الضمائر في استقرار مكين. فكان يأخذ العرب بالترغيب تارة و الترهيب أخري، و يأخذهم أحيانا برياضات دينية من شأنها أن تبعث الضمير الديني المهذب. بيد أن الفترة التي قضاها النبي (ص) بينهم كانت قصيرة فلم تحقق الاختمار الا في طبقة بقيت لها ميزتها في السياسة، الي زمن بعيد، و ميزتها في الاعتقاد، ما تبقي علي الارض مسلمون.و كان علي الخفاء أن يتابعوا هذه السياسة التربوية انتهجها النبي (ص) لكي يحققوا الاختمار الديني المنتظر. بيد أن سياسة الخلفاء مالت الي التوسع في تزيد أسرع بفناء الطبقات التي تهذبت علي يدي المصطفي كالقراء، و لم يدع فرصة لتحقيق الاختمار في الباقين. فالتعجيل بالفتوح كان بمثابة جذر

ص: 212


1- 161. وقع القول بالرجعة في وهم عمر (ض) بعدما مات النبي (ص)، فقد كان وقع الخبر عليه شديدا فلم يصدق و ذهب يغالط نفسه في صدق الخبر بانه لم يمت و انما ذهب كما ذهب موسي و سيعود؛ و من هنا اخذ الرجعة ابن سبأ و اخذ دعواه في الوصاية من حديث: انت مني بمنزلة هارون من موسي - الحديث.

قوي في النفسية العربية الاسلامية، و قد لمسوا بعضا من نتائجه المحسوسة في فناء القراء تقريبا، حتي عمدوا الي كتابة القرآن صونا له عن الضياع.فان من المسلم به انه لابد من مرور الزمن لتترسخ التعاليم و تتحول الي صفة ارادية غير مشعور بها، كما يعبر (ليبنز)؛ فهذا الاختمار الديني ضروري جدا.و قد اصيب الاسلام، من حيث العجلة بالفتوح، بما اصيبت به الثورة الفرنسية، فان حركة نابوليون جاءت سريعة، بحيث لم تدع لمبادي ء الثورة ما كان يلزم لها من زمن. و هي و ان تكن قد نشرت مبادي ء الثورة خارج الحدود، كما نشرت حركة الفتح الاسلامي الدين خارج الحدود، فقد حالت دون قطف ثمارها علي الوجه الذي كان مرغوبا فيه - و الثورة الفرنسية كالثورة الاسلامية تماما، فقد تولد من امتدادها في غير حدود فرنسا، علي الوجه المذكور، مذاهب اجتماعية متذبذة في كل اوروبا كما حدث في الاسلام، فالماركسية و الفوضوية و ما الي هذه من مذاهب أخري كانت الخوارج و السبئية؛ لأن كلا منهما صار، بفعل عدم الاختمار، مذهبا غامضا.علي اننا لا نجرد هذه الحركة من محاسنها، بيد أنها لا توازي ما نشأ عنها من نتائج كانت أشد خطرا و أهمية. و لو أن الاسلام أدركه الاختمار اللازم، ثم جرب أن يلعب دوره العسكري، لما كان مباءة البتة لاية نزعة. فتأثير عملية المزج التي كانت نتيجة ضرورية للتوسع الاسلامي، جاء من هذا الجانب الاعتقادي الذي كان مريضا.و لا تنس هنا أثر القبلية التي ثبت لنا، في الفصل السابق، انها كانت شديدة التحكم في نفس العربي و عظيمة التصرف لحركاته. و يحسن بنا أن نشير الي أن، من جملة أسباب الردة أو الحركة الانفصالية الدينية كما افهمها، القبلية؛ فان من الاشياء التي سبقت الاسلام تفكير النجرانيين بتأسيس كعبة لهم، قال ياقوت في المعجم: «و كعبة نجران هذه يقال بيعة بناها بنوعبدالمدان بن الديان الحارثي علي بناء الكعبة، و عظموها مضاهاة للكعبة، و سموها كعبة نجران، و كان فيها اساقفة معممون». غير ان بعض الباحثين يميل الي انها كانت كعبة للعرب تحج اليها قبل مجي ء

ص: 213

النصرانية، ثم اتخذها النصاري بيعة بعد انتشار النصرانية فيها و هذا؛ و هو الرأي المحقق في نظري. و بتأمل بسيط في الحادي في الانفراد بكعبة، نعثر عليه في النزعة القبلية التي تميل الي التحرر من التبعية في كل الأشياء و اشياء العبادات ايضا.و يظهر لنا من هذا أن الرغبة اتجهت الي الانفصال الديني في الجاهلية؛ و لما جاء الاسلام، و ثبت التبعية الدينية، و وحد الكعبات، عاودتهم الرغبة السالفة الي الانفصال، فأذكوا حركة الارتداد.يثبت لنا من هذا، أن عدم الاختمار الديني أدي الي البلبلة التي شهدنا من آثارها في المحيط العربي شيئا كثيرا، و شهدنا من آثارها مثل ذلك بعد عملية المزج الاسلامي الواسعة.و المسيحية كالاسلام أدركها بعض الاختمار في أولها، ثم طفرت بدخول قسطنطين فيها، و كان بدء انتشارها بدء اضمحلالها أيضا. فان هؤلاء الذين دخلوها بعد ذلك دخلوها علي وجه السرعة، فلم يدخلوا وحدهم بل بعقائدهم ايضا،: فاكتسبت المسيحية شكلية اخري، و بدأ الانقسام فيها نتيجة للاختلاف الاعتقادي القديم، و ليس نتيجة للاختلاف الاجتهادي أو التفسيري كما يظن.و الحق ان الاسلام صادف ما لم يصادفه دين آخر، من حيث هيئت فيه نبل التعاليم و فطريتها، و من حيث جمعت له القوة أيضا ليحوطها، فلم يكن في حاجة الي عون يعتمد عليه، و لكن التحرك السريع أفقده هذه المزية، و ظهر فضل ميزة القوة التي هيأها محمد (ص)، أكثر ما ظهر، في عدم تحريف التعاليم، فان التحريف نتيجة للضعف و التستر و التخفي.و النبي (ص) أخذ بعمل الاختمار في دار الارقم. و في نظري ان دار الارقم كانت مربي للجماعة الاسلامية من جهة، و كهف الثورة من جهة أخري. و شاءت طبائع الثورات أن يكون لها هذا الكهف أول منزلة من منازلها، ثم تطل منها ككوة لا تزال تتسع و تتكور حتي تسامت الافق و تضيق عنها الحدود. «فغاريبلدي» كان له مثل دار الارقم، و كذلك كل ثائر و كل مصلح.

ص: 214

و يحسن بنا أن نسرد نتائج هذا الفصل، بعد لمحة العرض التي أتينا بها، لتكون في ذكرنا القريب، و هي:«1»تناحر الديانات، علي شكل أن يدعي كل فريق بأن الحق في جانبه، أقام الفكرة الدينية عند العرب علي الحيرة المبهمة و الشك الخاص، ففشا فيهم التعطيل و الالحاد و القول بعدم البعث.«2»الديانات الدخيلة كانت أرقي من الوثنية، فأثرت فيها تأثيرا متفاوتا؛ و هذه نتيجة ضرورية للتفاعل بين الديانات و الوثنية.«3»الديانات التي تكون لها، في نفوس الشعوب، مزاجا خاصا، لا تندثر بل تتقمص و تستعيد حياتها في زي آخر.«4»النزعات الاسلامية الاولي كالخوارج و السبئية تأثرت بصفة الشك التي لا بست النفس العربية.«6»اسرة بني هاشم هي الاسرة التي نضج فيها الضمير الديني حتي زودها بحصانة ضد الشك و القلق، فهي اذن الاسرة الخليقة بأن تقدم المصلح للمجتمع المحموم، و هي الخليقة بكفالة التعاليم و رعايتها، لأن الدين منها كالطبيعة من كل نفس.

ص: 215

النظام العام

نظرية

لكي نكون أكثر فهما للنظام في عهد الخلفاء، من شتي نواحي الادارة و الحكومة و القضاء فيما يتعلق بالتفصيلات، نقدم بين يدي الموضوع نظرية لها أهيمتها لأنها كالقطب الذي يدور حوله الموضوع، و علي ضوئها نتهدي الي شرح خفياته. و أظن بأن كثيرين يشاركونني الرأي فيها.و هذه النظرية هي أن الثورة الاصلاحية التي وضع النبي (ص) تصميمها، ثم أذكاها في المجتمع العربي الواسع علي حدوده، لم تدخل في صدور استقرار حقيقي. بل اتصلت عبر الحدود الي الاقاليم القريبة و الشعوب المجاورة، و كذلك اتسعت دائرتها في حركات تعاقبية سريعة، و ما انتهت الي سكون طبيعي الا بقيام الدولة الاموية. و معني هذا أن الثورة الاسلامية كان لها دوران، الاول حين الهبها النبي (ص) في جزيرة العرب، و الثاني حين الهبها الخلفاء في العالم القديم كله؛ و بانتهائها انتهي عهد الخلفاء.و من طبيعة التنظيم، فيما يتعلق بالاجراءات و التفصيلات، انها لا تتم الا بعد الاستقرار، ضرورة ان الادارة و التنظيم التامين عمل تشييدي لا يكون في فترة الفتح و التوسع الا بمقدرا الحاجة و الضرورة. و الفرق بين معاطاة الفتح في عهد الامويين و بينه في عهد الخلفاء، ان الاول كان من جملة أعمال الملك المتمركز،

ص: 216

بينما الثاني كان كل عمل الخليفة.و هذا يوصلنا الي أن التنظيم الكامل لم يتم في عهد الخلفاء، لأنهم لم يستقروا في حياة مدنية خالصة تدعوهم اليه، علي انهم قطعوا أشواطا في سبيل التنظيم العام. و لا يتوهمن متوهم حينما نتكلم عن النظام اننا نعني الناحية التشريعية التي كملت بالقرآن، و انما نعنيه من الناحية العملية الاجرائية أي من ناحية التشكيلات و التراتيب خاصة.و ان الواقف علي الكتب التي عنيت بهذه الناحية من الدرس، باب الماوردي الموسوم بالاحكام السلطانية، يقع علي تجربات تقنينية و محاولات تنظيمية تمت في عهد الخلفاء، الا أنها لم تجاوز هذه الصفة أي لم تنسق علي وجه يسمح لنا باطلاق اسم النظام عليها الا في توسع و مجازية. و هذه المحاولات و التجربات ألهمت ذوي العقليات القضائية العميقة أن يقدموا دستور النظام العام بكافة ما يلزم فيه. و مما لا ريب فيه أن عليا (ع) كان صاحب اكبر عقلية قضائية نظامية في هذا العهد، فهو قد استفاد من كل ما مر بالحكم العربي الاسلامي من أشكال، و أيضا لمس حاجة المجتمع من وجه، و محاسن المحاولات التي حاولها الخلفاء قبله و مساوئها من وجه آخر. فقدم دستوره التنظيمي العظيم، في عهده الي الاشتر النخعي، بعد الاختمار و الامتحان الواقعي.و هذا العهد يشك فيه بعض الباحثين مستندين الي أن الأفكار النظامية التي يحتويها لا تسمح باضافتها الي عصر علي (ع)، و مما ذكرنا نتبين بأنه لا محل للشك، لأن عليا موهوب في القضاء و الادارة ما في ذلك شك، حتي قيل: «قضية و لا اباحسن لها»؛ و لقد اهتم المشترعون بعد ذلك بجمع اقضيته و أحكامه و تنظيماته، فألف الترمذي كتابا في مجلدين دعاه «اقضية علي»، و الف ابن قيم الجوزية كتابا في «السياسة الشرعية» ملأه بأقضيته، فهذا يدلنا علي أن عليا كان يمتاز بعقلية نادرة في القضاء المتصل بالتنظيم. و لأن المحاولات التي صدرت من ابي بكر (ض) جاء عمر فحور فيها، و عمر (ض) كان أكثر تشبثا بالتنظيم و ميلا

ص: 217

اليه، فكثرت في عهد التشكيلات نوعا ما، ثم جاء عثمان (ض) فأقر نظما و غير نظما و استحدث مثل ذلك، و علي (ع) يرقب كل هذا التطور النظامي و هو متصل بالشعب يري مقدار رضاه عن هذه الترتيبات، فاستفاد من هذه المحاولات التي مرت به الي ما عنده من فطرة قضائية خارقة. و بذلك استطاع أن يطابق بين أماني الناس، و بين النظم التي تحكمهم، و ان يعطي أيضا تشريعات اصلاحية تتصل بالاجتماع و السياسة و النظام العام، فاذا كان النبي (ص) هو المشرع القانوني، فان عليا (ع) هو المشترع (1) النظامي.فعهد علي الي الاشتر النخعي ليس فيه ما يدعونا الي الشك فيه أو استبعاده عنه؛ و هو أول دستور حكومي صدر كمرسوم في الاسلام. و يظهر من هذا العهد أن عليا (ع) كان يرمي، في مدة خلافته، الي أخذ الشعب الاسلامي الذي تركب بما شمل من الامم المختلفة بعمل تشييدي عظيم، و كان عملا موفقا جدا و نظاميا جدا، لانه الطلب بأدواء المجتمعات من النواحي التشريعية. و لكن الثورة الداخلية التي اثيرت عليه، و دارت حول شخصه، أعجلته و أوقفت كل حركاته الاصلاحية التي ابتدأها بحزم و شدة.و أهم نواحي النظام التي سندير البحث عليها هي: نظام الحكم، نظام المال، نظام الادارة و القضاء، نظام الجندية.

نظام الحكم

نتعرض لصعوبة حقيقية حينما نريد أن نحدد من أي نوع من أنواع الحكومات كانت الحكومة الاسلامية في أطوارها الاولي. و لنكون أكثر قصدا في بحثنا يحسن أن نقدم بين يدي الموضوع توطئة في الدولة (2) و وظائفها علي ما هو معروف عند علماء السياسة.يري ارسطو أن أنواع الحكومة تتمايز بعدد الاشخاص القابضين علي زمام

ص: 218


1- 162. انما عبرنا بمشترع، و ان كانت صيغة اشتراع غير محفوظة، لان غرضنا ان نضيف الي التشريع معني الاقتباس الذي يستفاد من صيغة افتعل.
2- 163. راجع كتاب: تاريخ الدستور للاستاذ وايت ص 47 الي ص 174.

السلطة، فالدولة التي يدير شؤونها فرد واحد تسمي ملكية، و التي يدير شؤونها جمهور الامة تسمي جمهورية، و التي يدير شؤونها جماعة قليلة تسمي ارستقراطية.و هذه الانواع الثلاثة اذا كانت الدولة صالحة أي كان الغرض منها رعاية مصالح الامة؛ فاذا ظهر فيها الفساد، و أصبح هم الحكام تحقيق مطامعهم الشخصية، سميت الحكومة من النوع الاول استبدادية، و من النوع الثاني استئثارية، و من النوع الثالث حكومة الغوغاء. ثم يذهب الي ان هذه الأشكال تتعاقب علي الدولة الواحدة في سنة اجتماعية دائمة تقريبا. فالدولة تكون في بدايتها ملكية صالحة، حتي اذا فسدت طباع الملك انقلبت استبدادية، غايتها تحقيق شهوات الحاكم، فاذا تغلب عقلاء الامة علي الملك و تقلدوا زمام الاحكام أصبحت ارستقراطية، فاذا خلف من بعدهم خلف و جهتهم الاستئثار بالسلطة و المنافع تحولت الي حكومة استئثارية، فاذا هبت الأمة لتذود عن مصالحها و تولت أمورها بنفسها أصبحت جمهورية، فاذا جاوز الافراد حد المعقول في استعمال السلطة و تنازعوا أمرهم بينهم اضحت الحكومة فوضي، و في هذا الظرف تعود الي الملكية كما بدأت. و قد كانت الثورة الفرنسية مصداق نظريته من كل الوجوه.و ذهب مونتسكيو الي أن الحكومة لا تخرج عن أن تكون ملكية أو جمهورية أو استبدادية، فالملكية عنده ما تولي الحكم فيها فرد بمقتضي قوانين ثابتة، و الجمهورية ما كانت السيادة فيها للامة أو بعضها، و الاستبدادية ما كانت السلطة فيها بيد فرد يتصرف فيها بارادته و أهوائه.و قسم روسو الدول باعتبار عدد الأشخاص الذين يتولون الأمر، الي ملكية و هي التي يدير شؤونها فرد واحد، و ارستقراطية و هي التي يدير أمورها فئة قليلة، و ديمقراطية و هي التي تستمد سلطتها من عامة الشعب. و الديمقراطية نوعان مباشرة و هي لا تكون الا في الجماعة القليلة العدد المحدودة المطالب و الحاجات، و غير مباشرة او نيابية.و زاد بعض كتاب الالمان نوعا آخر أسماه الثيوقراطية و هي التي يستمد فيها الحاكم نفوذه من السلطة الالهية.

ص: 219

و هناك نظريات مختلفة في وظيفة الدولة و هي ترجع الي ثلاث، اذا نحن أبعدنا النظرية الفوضوية التي ترمي الي القضاء علي الحكومات باختلاف أنواعها.(1)النظرية الفردية: و هي ترمي الي قصر عمل الحكومة علي رد الاعتداء عن الأفراد؛ فعملها سلبي، و تكون وظيفتها الخارجية المحافظة علي سلامة الدولة من الاعتداء، و وظيفتها الداخلية المحافظة علي الامن العام، و كل عمل تأتيه وراء ذلك يكون خروجا عن الاغراض التي وجدت لأجلها. و كان سبنسر من أكبر ذعاة هذه النظرية، و قد انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر.(2)النظرية الاشتراكية: و هي ترمي الي ضرورة تدخل الحكومة في جميع الأعمال، توصلا الي زيادة هناءة الفرد و رفاهيته؛ و أصحاب هذه النظرية يهتمون بالحرية الفردية أيضا، و لكنهم يرون ان صيانتها أتم من طريق تدخل الحكومة، و لم يتفق أنصار هذا المذهب علي مدي تدخل الحكومة في شؤون الافراد، فهناك متطرفون و معتدلون.(3)النظرية المتوسطة: و هي ليست فردية بحتا و لا اشتراكية بحتا.و الآن نتناول حكومة النبي (ص) و حكومة الخلفاء، حتي نقع علي الشبه الذي يردهما الي نوع من أنواع هذه الحكومات المذكورة.نعلم أن النبي (ص) جمع السلطة الزمنية في يديه، الي جانب السلطة الدينية، فكان مصدر السلطات كافة. فحكومته علي ما وصل الينا من أخبارها ثيوقراطية في جوهرها، و ديمقراطية من حيث ان الأفراد كانوا يبايعونه علي اسلام الامر اليه و مده بالسلطة. و هذه المبايعة انتخاب آكد من التصويب، و كانت ثيوقراطية من حيث الصفة التشريعية.و ديمقراطية حكومة النبي (ص) من النوع المباشر، و هذا ما يعطيه قوله تعالي: «و شاورهم في الامر»، و كانت من حيث الوظيفة أكثر انطباقا علي النظرية المتوسطة؛ فهي تحافظ علي الامن العام، و تدافع عن سلامة الدوة الفتية، و تشجع العمران و ما اليه من كل ما يتصل بالعمل الحكومي الايجابي.

ص: 220

و اما في عهد الخلفاء فقد عرف نظام جديد للحكم يقوم علي فكرة الخلافة؛ و الاساس الذي تقوم عليه هو أنها عقد حقيقي بين المنتخب و بين الجمهور، و ليس أمعن في الديمقراطية من أن يتعاقد طرف مع آخر علي شروط معينة، بحيث اذا اخل أحد المتعاقدين بالشروط انحل العقد. يري روسو، في نظرية العقد الاجتماعي، أن أساس الحكم فلسفيا هو عقد بين الجماعة و بين شخص، علي أن يتولي حكما لمصلحتها. و روسو لم يجلب شاهدا واقعيا علي دعواه، و انما استند فيها الي الفلسفة المحض؛ و في الخلافة شاهد واقعي صريح.و الذي نعلم من أمر الخلافة أن المبايعة شرط ضروري فيها، فهي اذن قائمة علي الانتخاب، و أن الخلفاء الأربعة ليسوا من أسرة واحدة فهي اذا لا وراثية؛ و وجدت بينهم طبقة دعيت بأهل الحل و العقد، و يظهر من اسمها أنها كانت ذات نفوذ كبير في الشؤون كافة، مما يجعلنا ننظر اليها كطبقة برلمانية، و ان لم تكن لها الأشكال عينها، فان العبرة بالروح لا بالحرفية.فالخلافة من هذه الناحية ديمقراطية لها شكل الملكية، و ديمقراطيتها كانت غير مباشرة، أو نيابية بعبارة اكثر مجازية. فان طبقة أهل الحل و العقد كثيرة الشبه بطبقة النواب، لانهم كانوا في موضع الثقة من الطبقات الاسلامية كلها. و بقيت هذه الصفة لحكومة الخلفاء الي زمن عثمان (ض) الذي حفت به طبقة حاكمة من اسرته، مالت بالحكومة الي الارستقراطية، و كانت وجهتهم الاستئثار بالمنافع، فان سياسة مروان الذي أطلق يده في حكومة عثمان كانت نفعية محضا. و بسبب هذا هبت الامة لتذود عن مصالحها، فأحدثت الثورة التي انتهت بمصرع الخليفة، و تولت أمورها بنفسها في عهد علي (1) ، فكان المنتخب الجمهوري بدون وساطة أهل الحل و العقد، فقد بايعه، أول من بايعه، الاشتر الثائر؛ و بذلك كانت حكومته جمهورية بكل المعني.

ص: 221


1- 164. لم يكن نفوذ الجمهور في دور اقوي منه في هذا الدور، و ظهر اثر قوة الجمهور في اكراه علي (ع) علي التحكيم يوم صفين، و في التصميم علي الايقاع بالبصرة يوم الجمل رغم ان رأي علي اتجه الي مطاولتها، و في اعتزال الخوارج بعد التحكيم و حروبهم.

و كان، كما يظهر من عهده الي الاشتر، يميل، في وظيفة الحكومة، الي النظرية الاشتراكية الخالصة، فاننا نجده يوجب علي الحكومة التدخل في كل ما من شأنه أن يؤدي الي ضرر اذا ترك لحرية الأفراد، كالضرب علي أيدي المحتكرين و تسهيل السبيل للتاجر المغامر، و هو الذي عبر عنه بالمضطرب بماله، و أوجب الاصلاح العمراني و الزراعي في مقابل الضرائب. و لكن هؤلاء الجمهوريين جاوزوا الحد في التدخل، و تنازعوا أمرهم بينهم فظهرت الفوضوية - التي يقول عنها ارسطو - في الخوارج الذين قالوا: لا حكم الا الله أي لا امرة الا لله، و بذلك أعدوا الظرف الي الملكية.من هذا نتبين أن في تسلسل الحكومة الاسلامية التي ابتدأت بالنبي (ص) و انتهت بعلي (ع) مصداقا من بعض الوجوه لنظرية أرسطو في تعاقب أنواع الحكومات. فلم يكن لدولة الخلفاء صفة واحدة، كما يظن أكثر المؤرخين، بل تشكلت بأشكال شتي، علي ما ذكرناه، فكانت:(1)الهية «ثيوقراطية» لها شكل الديمقراطية في مدة حكومة النبي (ص)، و من حيث الوظيفة متوسطة (1) .

ص: 222


1- 165. كان في دولة النبي (ص) تشريع ضاف للاسرة و هو ما نسميه اليوم (بقانون الاحوال الشخصية) حفص علي الزواج الذي هو الطريقة الوحيدة للتكثير القومي، و بين موانعه، و وضع قانون الرضاع و العناية بالطفل و الايتام، و قانون الطلاق و الارث، و ورث الطفل المستكن، و لم يكن العرب يورثونه؛ و تشريع في المعاملات و هو ما نسميه (القانون المدني) و يدور علي (أ) العقد الذي هو اساس المعاملات الشرعية (ب) طرق الاثبات كالشهود و الكتابة و الرهن (ج) عرض للمعاملات الرئيسية كالبيع و تحريم الربا و الغش و التدليس و التطفيف و بيع الغرر، و وضع آدابا للمداينة كالرفق بالمدين (و ان كان ذو عسرة فنظرة الي ميسرة) و سن التأجيل الجبري للديون (المورتوريوم). و سن (قانون العقوبات) و سماها القرآن حدودا. و المنصوص عليها في القرآن اربعة (أ) القتل مع تفصيل في العمد و غير العمد، العمد جزاؤه القتل. (ب) عقوبة السارق. (ج) عقوبة قطع الطريق. (د) عقوبة الزنا و عقوبة القذف و اللعان؛ و هي عقوبات قاسية وضعت للزجر القاطع و كل ما اوصل الي هذه الغاية من عقوبات يقوم مقامها، كما ذهب اليه بعض الفقهاء علي ما ذكره السرخسي في المبسوط، علي ان الشريعة اشترطت شروطا شديدة في اثبات العقوبة، كما تركت العقوبة للشبهة البسيطة اي فسرتها في مصلحة المتهم؛ و ما سوي هذه الحدود تسمي (تعازير) و هي متروكة الي تقدير الحاكم؛ و علي كل فالعقوبات مراعي بها المكان و الزمان، كما يظهر من اختلاف الفقهاء.

(2)ديمقراطية لها شكل الملكية، في مدة حكومة أبي بكر و عمر (ض)، و من حيث الوظيفة متوسطة.(3)ارستقراطية لها شكل الجمهورية، في مدة حكومة عثمان (ض)، و من حيث الوظيفة متوسطة.(4)جمهورية بحتا، في مدة حكومة علي (ع)، و من حيث الوظيفة اشتراكية.(5)فوضوية، في حكومة الخوارج الي ما قبل تأمير (1) عبدالله بن وهب الراسبي.و لان مهمتنا هنا وصفية خالصة؛ فلا نغتر بكلمتي: خلافة و خليفة اللتين اطلقتا علي هؤلاء الاربعة، فنصف حكومتهم بصفة واحدة باعتبار وحدة الاسم كما وقع لجمهور المؤرخين. ان الحكومة، في عهد الخلفاء، تشكلت بأشكال اجتهدنا بردها الي شعبها بالمقدار الذي وضح لنا. و محاولتنا هذه لا تعدو أن تكون تطبيقا لنظرية أرسطو من أكثر الوجوه.و في الخلافة نظريات دينية قامت علي أساسها فرق شتي في الاسلام، و لم تزل الي آخر العهد الكلامي موضعا للأخذ و الرد، حتي عقد المتكلمون لها بابا خاصا، و دعوه بالامامة، و لما تزل محلا للخلاف من وجهة النظر الديني؛ و نحن هنا لا نتعرض لشي ء منها، لئلا تجرنا المناسبة الي مناسبة أخري نخرج بها عن الموضوع خروجا كليا.

نظام المال

نجد، في السيرة النبوية، أن أسس هذا النظام المالي الكبير وضعت في زمن النبي (ص). فقد رتب أهم موارد الدولة الاسلامية، و أقامها علي توازن دقيق بين رأس المال و قوته علي الانتاج، و لذلك خالف بين الأنصبة التي تجب فيها الزكاة بحسب

ص: 223


1- 166. قال ابن ابي الحديد (ان الخوارج، كانوا في بدء امرهم، يقولون: لا حكم الا لله اي لا امرة الا لله؛ و يذهبون الي انه لا حاجة الي الامام. ثم رجعوا عن ذلك القول لما امروا عليهم عبدالله بن وهب الراسبي) راجع شرح النهج له ج 1، ص 215.

أنواع المال، و فرضها في معادلة مقدرة، بين استفادة الفرد من المجموع بأنتاجه (1) ، و بين استفادة المجموع من الفرد باستهلاكه؛ و بذلك حقق الصلة بين الفرد و الجماعة علي أساس عادل بحيث لم يسمح لنمو الفردية الا بمقدار، كما لم يسمح لنمو الاشتراكية الا بمقدار، فكان نظامه (ص) برزخا بين مد القوتين، و علاجا لمشكلة (2) الانسانية الدائمة. و كان خضوع الأفراد لنظام المال، في أول الأمر، خضوعا فرديا؛ فكل مسلم يخرج الزكاة بنفسه، فلم يكن للحكومة القائمة جباة مخصصون، و لم تكن تشرف بنفسها علي درجة تطبيق النظام. و لكن في أواخر عهد النبي (ص) جعل نظام للصدقات، و وكل الي طائفة من العمال «الموظفين» أمر مقاضاتها. و لما فتحت بلاد اليهود و النصاري و وضعت عليها الجزية اتسع نطاق عملهم.و مقادير الزكاة «أي ضريبة الاموال» مقدرة مفروضة علي من بلغ عنده النصاب، و يختلف باختلاف الأصناف، و هذا تشريع بقدر موزون قائم علي أدق نظريات المال و قوة انتاجه؛ و هذه القوة هي مدار التفاوت. و أما الجزية فقد ترك النبي (ص) تقديرها لولي الامر، لانها تخضع لأحوال دائبة التغير، كحالة الارض و حالة المال و حالة الزرع و حالة الجو. فكان النبي (ص) يرسل أحد أصحابه الي خيبر ليقسم ثمرها بينه و بين الملاك.

ص: 224


1- 167. نعني بهذا ان الفرد يستفيد من المجموع بما ينتجه و المجموع مستهلك، فللمجموع حق في ثروة الافراد الذين استغلوه في جمعها بزيادات تكون في اغلب الاحيان فاحشة بالنسبة الي رأس المال و المجهود، فللجمهور اذن حق اكيد. و علي هذا النظر بني تشريع الزكاة كما يتضح. و هذه ملاحظة وقعت في خيال ابي العلاء فصورها بصورة نثرية جميلة قال: ان الخلائق دعوا الي مائدة الله فسبق اليها اقوام، و ليس من حقهم ان يمنعوا الآخرين، و انما عليهم اذا لم يتمكنوا من الوصول ان يناولوهم مما ثبت علي المائدة و ان يساعدوهم علي الوصول اليها.
2- 168. و بحق نقول انها مشكلة الانسانية التي لا تفتأ عابثة بالقوي البشرية و دافعة لها في مضايق تبعثها بعثا عنيفا الي النزاع و التخاصم. و لوضوح هذه الظاهرة ذهب الماركسيون الي النظرية المادية في تعليل حركات التاريخ. و اذا وفق المصلحون ان تقرير التكافؤ بين الشعب الواحد فلم يوفقوا الي تحقيقه بين الشعوب المختلفة و الدول الآخذة بأسباب التقدم الحيوي. فالمجال الحيوي الواسع هو هدف كل شعب و كل دولة. و في الاسلام تحقيق مكين راسخ لهذا التكافؤ البشري العام.

هدا هو العمل في جزية الاراضي، و كذلك كان الحال في جزية الرؤوس، فالمدن الكبري كاليمن مثلا حيث يوجد السكان الذين يشتغلون بالصناعة، فأحيانا تكون دينارا، و أحيانا أقل أو أكثر.و عندما فتح العرب الشام و العراق وجدوا نوعا آخر اسمه الخراج، فخصصوا الجزية بضريبة الرؤوس، و الخراج بضريبة الاراضي، و عليه فليس الخراج ضريبة جديدة و انما تدخل في حد التشكيلات فقط. و النظام الذي اتبع فيها لا يخرج عن النظام القديم في دولة الرومان و دولة الفرس، فالعرب وجدوا، في الاقاليم المفتوحة، نظام (1) الضرائب و جبايتها، فرأوا الابقاء عليه مع تغيير مال به الفاتح الي التخفيف و ملاءمة روح الشريعة التي يعمل علي نشرها، و هذان اللفظان (2) كانا معروفين قبيل الاسلام.و الجزية من الموارد المالة الهامة، و زاد في أهميتها أن الشريعة لم تقيدها بنصوص خاصة؛ فهي تقدر كيفما اقتضت حالة الدولة، كما لم تكن مقيدة أيضا في وجوه انفاقها، و لولي الامر حرية التصرف بها في جميع مرافق الدولة.و الخراج مالوا به، في التصنيف الجديد، الي تخصيصه بضريبة الارض؛ و الاراضي التي يشملها نظام الخراج هي التي تحت يد أهل الذمة فقط، و كانت علي أنواع: ارض عنوة و هي التي تفتح قسرا، و أرض صلح و هي التي تؤخذ عن طريق المفاوضة و الاتفاق. و الأولي تصبح ملكا للفاتحين، و الثانية تظل متمسكة بحريتها واستقلالها، و ملكيتها تبقي في ايدي أصحابها. و من النوع الاول أكثر أراضي الشام و العراق،

ص: 225


1- 169. و علي هذا بني من قال من المستشرقين بتأثير الفقه الروماني في الفقه الاسلامي من حيث التفصيلات، لان الاسلام ورث الشعب و النظام الاجرائي، فتأثر به من الناحية العملية الي حد كبير. و بما ان هذه التفصيلات و الاجراءات اقرها الخلفاء و فقهاء الصحابة كسنة من سنن الادارة، اعتمدها المجتهدون في عهد التقنين العظيم و فرعوا عليها، و هذا يجعلنا نذهب الي ان تأثر الفقه الاسلامي في المادة الحقوقية كان طفيفا للغاية و محدودا للغاية؛ و انما التأثر العظيم اتصل بطرائق العمل و الادارة. و الذين يزعمون غير ذلك تنقصهم الشواهد الضرورية.
2- 170. يقال انهما من اللغة النبطية (جزيت) و (خرجة).

فأصبحت ملكا العرب الفاتحين أي غنائم؛ و حكم الغنائم أنها تقسم الي خمسة أقسام: أربعة للجيش، و الخمس الباقي لبيت المال.و الخراج علي أشكال ثلاثة:«1»خراج المساحة: أي علي كل مساحة معينة مقدار من المال.«2»خراج المقاسمة: و هو الذي عرف في زمن الرسول (ص)؛ و يقسم المحصول بين الدولة و بين صاحب الارض.«3»خراج المقاطعة: و هو أن يفرض علي صاحب الارض مقدار من المحصول يؤديه باستمرار.و كان السائد في مصر خراج المساحة، و في الشام خراج المقاطعة، و في العراق خراج المساحة، فكل جهة كان لها نظام خاص يلائمها.و هنا عرضت مشكلة قانونية، و هي كيف نقسم هذه الامبراطورية الجديدة بين الجنود؛ و هذا الامر يؤدي الي فوضي و ارهاق من الناحية الاقتصادية. علي أن أهل البلاد الاصليين يوطنون أنفسهم علي الثورات دائما. فاستشار عمر الصحابة في حل المشكلة علي صورة تضمن حقوق الجميع. فمنهم من أشار باتباع النص، و كان الجند من أنصار هذا الرأي، و لم يرض عمر به، لأن تنفيذه يجر الي مشاكل كبيرة؛ منها حرمان الدولة من الموارد الهامة التي بواسطتها تستطيع حماية نفسها من غارات العدو و ترعي مصالحها، و منها القضاء علي الروح العسكرية في العرب؛ فمال عمر الي رأي آخر، و هو أن تبقي في أيدي أصحابها و يؤخذ منهم الخراج و يوزع علي المستحقين؛ و بذلك أجري الاراضي المفتوحة عنوة مجري الاراضي المفتوحة صلحا.هذا الرأي يكون موفقا لو كان عند العرب في ذلك الحين خدمة عسكرية دائمة، و لكن أما و الجندية عندهم مؤقتة بالمقدار الذي يقتضيه الظرف، ثم يعود العسكريون الي مدنيين، فمن المنتظر أن يتألب هؤلاء حينما يرون أنفسهم اكثرية فقيرة ثم يتورون، و هذا ما حدث بالفعل. و من ثم يظهر سر التشريع النبوي

ص: 226

الذي كان يرمي الي تمليك هؤلاء الجنود المؤقتين، لكي يعودوا الي اصلاح أنفسهم في حياة مدنية ذات غضارة، و يكون منهم طبقة مالية منتجة يعنون بالارض و الثروة. و الامر الذي لا ريب فيه ان عمر (ض) كان يرمي الي تأسيس نظام الجندية الدائم، و هذا التشريع المالي عنوان علي ما يجول في نفسه.و عرضت مشكلة اخري و هي تقدير العطاء، و كان العمل في زمن النبي (ص) و أبي بكر جاريا علي التسوية العامة، الا أن عمر رأي - و خالفه علي (1) - أن لا يجعل من قالت رسول الله كمن قاتل معه، فجعل الامتياز بحسب السابقة، فالذي قاتل يوم بدر يفضل من قاتل في فتوح العراق و الشام. و من هنا حدث التفاوت الملموس في الأعطيات، و تشكل في طبقات و مراتب. فطائفة تأخذ عطاء كبيرا، و أخري عطاء متوسطا، و الاكثرية يأخذون عطاء ضئيلا. و كانت الطبقات علي هذه الشاكلة:«1»زوجات النبي (ص) و أقرب الناس اليه في حياته، و لهم بضعة الآلاف من الدنانير سنويا.«2»كبار المهاجرين.«3»كبار الانصار.«4»من اشترك في الغزوات حسب أهميتها.«5»كل من جاء من البادية و اشترك في الحرب.هذا التنظيم المالي أوجد تمايزا كبيرا، و أقام المجتمع العربي علي قاعدة الطبقات، بعد أن كانوا سواء في نظر القانون (الشريعة»؛ فقد أوجد ارستقراطية و شعبا و عامة، و بما أن التجنيد شمل العرب كافة، فقد اشتركوا بالعطاء اشتراكية فذة. و لما ركدت الفتوح و استقر الجند في الامصار، فكروا في أنفسهم و فيما صاروا اليه من

ص: 227


1- 171. راجع كتاب الاحكام السلطانية للماوردي ص 177.

عطاء قليل، و قالوا: لو قسمت الارض علينا لكان أرفق بنا؛ فانتشرت هذه الفكرة انتشارا مريعا، و ذكت حفيظتهم حين قارنوا أنفسهم بما وصل اليه الافراد من قريش، فاستقر في روعهم أن قريشا استأثرت بالمال، و كان هذا مهيئا للثورة و مقدمة الي الفتنة.و من هذا نستنتج أن الثورة التي دارت علي عثمان (ض) لم تكن نتيجة سياسته الخاصة وحدها، بل و نتيجة مجاوزات سياسية سابقة ظهر أثرها الكامن حين استعد الظرف و حان حينه؛ و قد فكر عمر، لما كثرت الاموال بكثرة الفتوح، أن يدون الدواوين؛ فكان يحصر أسماء الجنود في ديوان، و أمام كل جندي عطاؤه. و رتبت الاسماء علي حسب الانساب، و اعتمد، في ترتيب القبائل و تنظيمها في الديوان، جانب البعد (1) و القرب من قريش.و كانت الاموال تنفق علي صورة أن يبدأ كل قطر بسد حاجته، و يرسل الباقي الي المدينة؛ و أول شي ء يفعله الخليفة هو أن يعطي كل جندي عطاءه، و في آخر كل سنة يوزع ما يبقي في الخزينة علي المستحقين. و اذا علمنا أن كل عربي خرج غازيا، الا من لم يستطع احتمال الجهاد لهرم أو لمرض، نعلم انه بعدما ركدت الفتوح انقلب العرب و هم أفقر الناس، لأن الميزانية لا تتحمل علي الدوام مدهم بما يكفيهم، و ليست لهم ثروة عقارية يعتمدون عليها في سد حاجاتهم، لأنه حيل بينهم و بينها بمقتضي النظام الذي جري عليه عمر (ض) في قسمة الارض.

ص: 228


1- 172. يظن بعض المستشرقين الذين ذهبوا الي الشك في الانساب عند العرب، ان ترتيب الديوان علي الشكل الذي تم عليه في زمن عمر هو الاساس الذي بنيت عليه مشجرات الانساب المحكمة. و نحن نستند الي هذا الترتيب ايضا في تصحيحها و نفي الشك عنها، لانها لو لم تكن اصح ما يكون و احكم ما يكون لما جنح اليها عمر في التنظيم المالي الذي يبني عادة علي ادق الاشياء و اصحها. و النظاميون في عهد عمر (ض) لما لم يجدوا ادق من الانساب، ليجعلوه قاعدة للتنظيم، اعتمدوها قاعدة للسير النظامي، فاذا لم تكن تلك الانساب مقررة معروفة فكيف يحقق البعد و القرب من قريش. و نحن من تنظيم عمر علي الانساب، بين امرين: اما ان نشك فيها و هذا الفرض لا يتم الا بتقدير ان عمر اخترع ايضا مشجرات الانساب ثم اقام الديوان عليها، و اما ان نعتمدها اعتمادا لامرية فيه و لا شك.

نظام الادارة و القضاء

بقيت الوظائف الادارية مختلطة في الدولة اختلاطا كبيرا، فكانت تجتمع في شخص الخليفة أحيانا بحيث يباشرها بنفسه، و أحيانا ينتدب لها أشخاصا انتدابا بدن تعيين. حتي جاء عمر (ض) فرتبها ترتيبا حسنا قام علي التخصص و فصل الوظائف، فجعل في كل مصر قاضيا و و اليا، و كان الوضع في الأمصار صورة مصغرة عما هو عليه في المدينة. فالوالي يمثل الخليفة، و سلطته محدودة من فوق بالخليفة، و من تحت بهيئة المشيرين الذين هم رؤساء القبائل، و كان اختصاصه يشمل الاسس الثلاثة الآتية و هي:«1»أن يؤم الناس في الصلاة.«2»أن يقودهم الي الحرب.«3»ان يجبي الاموال.علي انه سرعان ما وجد التخصص الاداري حتي في هذه الصلاحيات المذكورة. فاختص رجل بالامامة، و آخر بقيادة الجيش، و ثالث بجباية الاموال أطلق عليه صاحب الخراج. و أضيف اليهم قاض مرجعه الخليفة رأسا ليفصل في الخصومات.و هنا أثبت ملاحظة عرضت لي في الحلقة (1) الاولي، و من الخير أن أنقلها بالنص، قلت: «علي أن الخلفاء قد اضطروا أحيانا الي فصل السلطتين في الولايات، فقد كان الخليفة، كعمر، يبعث بالوالي الزمني و بالقاضي معا، بحيث لا يكون للوالي سلطة علي القاضي بل يعلملان متعاونين، و هذا ممارسة لفصل السلطتين في مناطق محدودة». هذه ملاحظة ذات أهمية في فهم كثرة الخلاف علي ولاة الأمصار؛ و كأن عمر (ض) رمي من وراء هذا الفصل بين السلطتين أن يوجد رقابة متبادلة من وجه، و يقلل من حدة الانتقاد علي الحاكم الزمني من وجه آخر. و يحسن أن نورد عبارة ابن خلدون في وظيفة القضاء، كما كانت في عهد الخلفاء، قال: (2) .

ص: 229


1- 173. راجع كتاب: سمو المعني في سمو الذات.
2- 174. راجع المقدمة ص 220 و 221.

«و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة، لانه منصب الفصل في الخصومات حسما للتداعي و قطعا للتنازع، الا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجا في عمومها. و كان الخلفاء في صدر الاسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء الي سواهم و أول من دفعه الي غيره و فوضه فيه عمر. فولي أباالدرداء معه بالمدينة و ولي شريحا بالبصرة و ولي أباموسي الاشعري بالكوفة، و كتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه، يقول أما بعد فان القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم اذا ادلي اليك، فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك، حتي لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك. البينة علي من ادعي، و اليمين علي من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع الي الحق، فان الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الامثال و الاشباه و قس الامور بنظائرها و اجعل لمن ادعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي اليه. فان احضر بينته أخذت له بحقه و الا استحللت القضاء عليه. فان ذلك انفي للشك و أجلي للعمي. المسلمون عدول بعضهم علي فعض الا مجلودا في حد أو مجري عليه شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء. بان الله سبحانه عفا عن الايمان و درأ بالبينات، و اياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم، فان استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذكر و السلام. انتهي كتاب عمر و انما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم و ان كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة. و القاضي انما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط. ثم دفع له بعذ ذلك امور أخري علي التدريج بحسب اشتغال الخلفاء و الملوك بالسياسة الكبري. و استقر منصب القضاء آخر الأمر علي انه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في اموال المحجور عليهم من المجانين و اليتامي و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين

ص: 230

و اوقافهم و تزويج الايامي عند فقد الاولياء علي رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات و الابنية و تصفح الشهود و الامناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالة و الجرح ليحصل لهم الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته».هذه العبارة تضع بين ايدينا شيئا عن نشأة القضاء و تطوراته، و هي تفيدنا ان الخلفاء الراشدين اهتموا من كل وظائف الدولة بهذه الوظيفة، فعالجوها كثيرا و نظموها كثيرا لتجي ء شيئا يرضون عنه؛ و أحاديث نزاهة قضائهم و عدالته جاوزت الاحصاء، حتي قيل: كان القضاء في عهدهم ساحة يقف فيها الظبي الأغن مع الاسد الرئبال فلا يهابه و لا يخشاه. و قد اجتذبت سياستهم القضائية عددا كبيرا الي الاسلام.و كتاب عمر مرسوم اشتراعي عظيم أصدر و صدق في حكومته، و فيه تقرير لمبدأ الاستئناف و نقض الحكم، الا أنه جعل هذه الصلاحية للقاضي نفسه، فكان ثمت ازدواج في البداية و الاستئناف. علي أن الخليفة كان المرجع الاعلي للقضاء فكان بمثابة محكمة النقض و الابرام، كما يظهر من القصص التي ذكرها المقريزي و غيره من أنه كان ينقض علي القضاة و الولاة أحكامهم و اجراءاتهم.

نظام الجندية

لم يخرج في ترتيباته العسكرية علي القاعدة المتبعة في حروب العرب (1) التقليدية القبلية الا بمقدار يسير، و كان النوع الغالب علي حركاتهم، حرب الازعاج و العصابات، و العرب يسمونه حرب الاجهاد و الانهاك (Guerre d usure)، و لجأوا الي هذا النوع، في حرب الشام و العراق، أول الأمر.و كانت فرق الجيوش تسير مستقلة استقلالا تاما، فلم يكن عندهم قائد اعلي للجيش، يناط به توحيد القيادة و تنظيم الحركات العامة. كما أن الكتائب تؤلف تأليفا قبليا، فرئيس الكتيبة هو الزعيم القبلي نفسه. و عدد الفرقة كان يتراوح بين ثلاثة آلاف الي سبعة آلاف، و لها مدد أي قوي احتياطية.

ص: 231


1- 175. راجع حركات خالد بن الوليد العسكرية للفريق طه باشا الهاشمي.

و كان همهم ينصرف الي المدن و العواصم و تحاشي الالتقاء بالجيش؛ و هذه الخطة أدت بهم الي انهزامات كثيرة و اندحارات جمة، فقد استولي جيش الشام علي كثير من المدن كحمص ثم اضطر الي اخلائها و الجلاء عنها. و من الاوليات المتبعة في حركات السوق الجيشية، الابتداء بقهر الجيش أولا في معركة فاصلة، و علي نتائجها يترتب تعيين الاهداف التالية و التدابير الأخري.و الصفة العامة لحركاتهم الخفة و السرعة و الاحتفاظ بخط الرجعة، خوفا من التطويق و الالتفاف من الوراء، و لعل السرعة الفائقة كانت اكبر ميزة المحارب العربي، و يظهر هذا جليا في المجازفة التي قام بها خالد بن الوليد، حينما انتقل بجيشه من العراق لانجاد جيش الشام. و هي مثال نادر من سرعة القرار و خفة الحركة، و لا يشبهها الا حركة نابوليون في معركة (و اغرام) الشهيرة، فقد انتقل، حينما بلغه تجمع الاوربيين ضده، من اسبانيا بسرعة البرق، كما يقولون، و دخل معهم في معركة قاسية.و هذه الترتيبات غير المنظمة بقيت، الي ما قبل اليرموك، المعركة النظامية الأولي في الفتح العربي. فقد غير، لاول مرة، خالد بن الوليد من النظام الحرب المتبع، بعد أن استطلع حالة خصمه و دقق في تشكيلاته و طراز تعبئته، و اقتنع (1) بأنه لابد من تقسيم جيشه و ترتيبه علي طراز الجيش الروماني، فعمد الي تنسيقه وفق الاصول الرومانية. قسم الجيش الي كراديس و بلغ مجموعها من (26 الي 40) كردوسا، عين لكل منها قائدا، ثم ألف الكراديس فرقا من (10 الي 20) كردوسا، و جعل علي كل منها قائدا كبيرا، و خصص للقلب (المركز) فرقة، و للميمنة فرقة، و للميسرة فرقة، و أنشأ هيئة أركان الحرب، و كان لديه من هيئة أركان المقر (مقر القيادة العامة) ابوالدرداء قاضي الجيش، و أبوسفيان ابن حرب القاص (أي خطيب الجيش، و من وظيفته أيضا ايصال الاخبار الي الفرق المحاربة و نقل الاوامر) و عبدالله ابن مسعود مأمور الأقباض (أي الذي يمون الجيش و يجمع القنائم) و أقام

ص: 232


1- 176. راجع محاضرة عسكرية في خطط خالد في فتح الشام لا حمد بك اللحام قائم مقام اركان الحرب.

أمام الجيش طلائع (خفراء الامام) و كانت هذه التعبئة، في اليرموك،أول تعبئة نظامية.فالعرب استفادوا من الرومان و الفرس نظاما جديدا، فيما يتصل بالتشكيلات الحربية و التعبئة و القيادة العامة و خطة استدراج الجيش، قبل كل شي ء، للايقاع به و ابطال مقاومته؛ و كلمات كثيرة منها (كردوس) التي يقدرون انها محرفة أو معربة عن كلمة (Kortis) الرومانية و هي بمثابة كتيبة، و (أرطبون) و هي محرفة عن كلمة (Tribun) و معناها قائد فرقة.بيد انهم لم يستفيدوا شيئا مما يتصل بالتربية العسكرية التي تعلم الطاعة و تقضي علي الروح القبلي قضاء حاسما، و الجندية الدائمة التي تحدد المدنيين و العسكريين و تخلق شعورا في الصنفين يد كون به صلاحياتهم و مدي اهلية تدخلهم. و هذا ما لا حظناه، في مقدمة الحلقة الاولي، و أمسيناه فسادا عسكريا أدي الي كثير من النتائج السيئة المؤلمة، فقد قلت عنه: (1) (و فائدة النظام العسكري انه يعلم الائتمار، و يحسر النظر عن التطلع الا في حدود المهنة، و يبعد بنفس العسكري عن المناقشة للشؤون العامة، و يروضه علي التمسك بالحاكم المدني القائم، و من فضائل هذا النظام الواضحة جبن الرجل العسكري، مهما سما قدره، عن وضع نفسه في مركز مدني صرف، و تحمل المسؤوليات و الأعباء العامة. فعدم وجود نظام من هذا النوع اذا، في محيط العرب، جعل الرجالات العسكريين الذين اشتهروا بالبطولة يفكرون بالدعوة لأنفسهم، و الانتقاض لاحتواش السلطة.) و أهم نتائج هذا الفصل هي:(1)ان نظام الحكومة لم تكن له قاعدة واحدة، بل سار من الديمقراطية الي الارستقراطية فالجمهورية فالفوضوية.(2)ان نظام الاموال لم يقم علي قاعدة تكفل حاجات المجتمع و تحقق امانيه.(3)ان نظام الجندية تجرد من الروح العسكرية التي تبعثها التربية الخاصة.

ص: 233


1- 177. راجع كتاب: سمو المعني في سمو الذات.

الحزبية

اشاره

تطمئن جمهرة الباحثين الي أن الحزبية علقت بمجتمع العرب الوليد، و الحزبية، ككل الطفيليات الاجتماعية، ما علقت بمحيط الا أثرت فيه تأثيرا سيئا؛ لأن نشاطها ينصرف الي تأييد أهدف الحزب و أغراضه الرئيسية، و بالاخص اذا لم يكن لها مثل رمزي تعمل له جميعها، و تقف جهودها في سبيله، علي اختلاف في الوسائل و الطرق.و هذه الحزبية التي نتحدث عنها، لم تكن من طراز الحزبية ذات اللون المفيد المنتج، بل كانت مغرضة نفعية في أغلب طوائفها، تدور علي الانتهازية و الافتراص.و من المعلوم أن الوسط القبلي أصلح ما يكون لهذا الضرب من التحزب، و زاد فيه التركب الأممي الذي أدي اليه الفتح السريع. فلم تكن دولة العرب في ذلك الحين يسيطة، بل مركبة تركيبا صناعيا غير محكم. فكان ضروريا أن تتولد فيها تيارات مختلفة القوة مختلفة العنف تلعب بالجماهير و تعبث بالقوي العامة. و ما من امة قامت علي أطلال امم اخري، الا و بقيت مملوءة بالانقسامات الداخلية و التقلبات المختلفة، و لا تنقضي حتي تستقر الأخلاق النفسية الجديدة.

ص: 234

و الملاحظ علي هذه الحزبية التي نتحدث عنها أنها كانت تندفع بعوامل ثلاثة:(1)القبلية، و كانت علي صنفين: (أ) قبلية خالصة كالتحزب ضد قريش و التحزب ضد (1) المعدية (ب) قبلية نفعية كالتحزب الاموي و التحزب القحطاني الذي حاربه معاوية محاربة قوية علي ما يظهر من خبر (2) ذكره البخاري في صحيحه.(2)الشعوبية ظهرت هذه الحزبية نتيجة انحلال عناصر شتي و امم شتي، دخلت في دور تفاعل عنيف، و لما تنته الي اتحاد راسخ يقوم علي مزاج عقلي واحد و خلق شعبي وسطي أي يمثل الوسط كصورة كثيرة الصدق، و هو ما يعبر عنه بالمثال الوسط في الامم الناضجة اجتماعيا أو المكتملة التطور.ان العنصر الذي كان مفقودا في دولة العرب الفتية هو هذا الخلق الشعبي الذي يقرر مستقبل (3) اية امة، و هو موجود علي الدوام خلف العوامل التي فرضها الناس سببا لأعمالهم.فالتحزب الشعوبي في المحيط العربي كان منفعلا بهذا الامتزاج السريع، و اعتقد أن الحزب الشعوبي كان صنيعة من صنائع الحزب الاموي يحركونه في

ص: 235


1- 178. ذكر ابن قتيبة في «الشعر و الشعراء» ان عمرو بن معدي كرب الزبيدي كان يقص اقاصيص من اخبار فتكه، فقص علي شجاع من شجعان العرب و هو لا يعرفه، انه غزا قومه و بارز الشجاع الذي كان يتحدث اليه و فتك به، فقال له محدثه: ليهنك يا اباثور ان صريعك هو محدثك؛ فقال عمرو بدون دهشة: اسمع يا هذا لما يلقي عليك فانا بهذه الاحاديث نرهب هؤلاء المعدية. و كان تخطيط الكوفة تخطيطا قبليا.
2- 179. اخرج البخاري بسنده: انه بلغ معاوية، و عنده وفد من قريش، ان ابن عمر يحدث بانه سيكون ملك من قحطان؛ فغضب فقام فاثني علي الله بما هو اهله ثم قال: اما بعد فانه بلغني ان رجالا منكم يحدثون احاديث ليست في كتاب الله و لا تؤثر عن رسول الله (ص): و اؤلئك جهالكم فاياكم و الاماني التي تضل اهلها، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول ان هذا الامر في قريش لا يعاديهم احد الا كبه اله علي وجهه ما اقاموا الدين. راجع ج 9 ص 62.
3- 180. راجع كتاب: سر تطور الامم لغوستاف لوبون ص 35.

سبيل أغراضهم، و كانت شخصياته آلات مسخرة في ايديهم، و أبعد ما يكون عن الظن انهم كانوا يشتغلون علي وجه الاستقلال. و هذا تقدير وقع في خاطر عمر (ض) فحذر من الموالي، لأنهم سرعان ما ينقلبون آلة في أيدي ذوي الاغراض، و الا فهم علي الانفراد اضعف من أن يحركوا المؤامرات. و هذا أمر نشاهد مثله اليوم فان المترصدين الذين تصطنعهم الاحزاب لأغراض اجرامية كبيرة، انما يكونون عادة من النفاة الغرباء الأفاقين. و المشاهد انهم لا يقومون بعمل استقلالي البته، و هذا من الوجهة النفسية صحيح جدا، و الموالي كانوا بهذه المثابة؛ فما اسرع ما يستخدمون بسبيل هذه الاغراض لمتحزبين ذوي نفوذ.(3)المثالية الجديدة التي وضع النبي (ص) أسسها وشيد هيكلها الروحي و الاجتماعي. فقد كان لها شخصيات تحافظ علي مبادئها و تحامي عن ذمارها و تعمل بسبيل خدمة اغراضها و نشر تعاليمها، و من هؤلاء علي و ابوذر و أبوايوب الانصاري و رافع بن خديج و سائر الطبقة القديمة من المهاجرين و الأنصار.و كان هؤلاء يشكلون حزبا محافظا متقيدا بالرسوم و الطرائق النبوية و أساليبها السياسية. و قد اهتم بدراسة الاحزاب عدد من كبار المستشرقين أهمهم «فان فلوتن» في كتابه: السيادة العربية؛ و نحن توسعنا في هذا البحث، بناء علي ملاحظة عرضت في الحلقة الاولي من هذا الكتاب، جاء فيها «ان الاحزاب التي نستطيع أن نعينها في ذلك العهد، و التي كانت تعمل متنازعة هي حزب عثمان أو الحزب الاموي، و حزب طلحة و من اكبر شخصياته عائشة، و حزب أبناء عمر و من اكبر شخصياته ابوموسي الاشعري، و حزب المنشقين من بني امية و من اكبر شخصياته عمرو بن العاص، و حزب علي (ع) أو الحزب المحافظ».و لا حظنا في الحلقة المذكورة ايضا، ان السبب في استشراء الحزبية لعهد عثمان هو حصر التشريح في عدد من الاشخاص الذي ارتآه عمر (ض). و هذه الاحزاب اكثرها وليد في عهد عثمان. و نحن عنينا بها هناك، لأن قصدنا كان متصرفا الي تأريخ هذه الفترة من عهد الخلفاء الراشدين؛ بيد اننا اذا تناولنا العهد

ص: 236

مجموعا خرجت لنا أحزاب أكثر عددا و أكثر اختلافا في الغايات و الاغراض. و هذه الاحزاب هي:

حزب الثلاثة

و هذا الحزب مال الي القول بوجوده طائفة كبيرة من المستشرقين، بينهم الاب لامنس، و درسوا علي ضوء هذا التقدير كثيرا من المسائل كمسألة التشريح و الانتخاب.و في رأيهم ان هذا الحزب كان مؤلفا من ابي بكر و عمر و ابي عبيدة ابن الجراح، و قد سبق تأليفه وفاة النبي (ص). و الثلاثة تعاقدوا علي انه اذا تمت الخلافة حدهم نقلها من بعده الي صاحبيه. و يستندون فيه الي امور ثلاثة:(1)الجهد الجميع الذي بذلوه معا في حركة الانتخاب، فقد كانوا متضامنين لا تضامنا قويا، كأنه نتيجة خطة سابقة اتفقوا عليها.(ب) تبادلهم التشريح يوم السقيفة، فقد رشح ابوبكر عمر أو أباعبيدة، و هما رشحاه.(ج) لما سئل عمر رأيه فيمن يكون بعده قال:لو كان ابوعبيدة حيا لعهدت اليه.و هذه القرائن الثبلاث عندهم تؤلف ما يثير شبهة في انهم كانوا حزبا واحدا، و نحن لا نري فيها ما يساعد علي اعتماد هذا التقدير.

حزب الامويين

و هذا الحزب ذهب، الي انه قد كان، عدد من كبار المؤرخين؛ و نحن لا نشك في وجوده أيضا، و لعله أخطر حزب استطاع أن يثير الجماهير و يتحكم فيهم و يحدث الاضطراب. و أهدافه التي كان يعمل لها من أخطر الاهداف، و هي تتناول الوضع السياسي و الاجتماعي من كل الوجوه؛ و أهم نظرياته حصر السلطات العليا في

ص: 237

اسرة، و تقرير مبدأ الملكية المطلقة في السلطة (1) الاولي، و نظام (2) الوراثة، و تسليط العنصر (3) العربي علي الشعوب، و فرض العرب طبقة ارستقراطية، و فرض نظام (4) اداري مقتبس من النظم الاجنبية أي غير مشتق من طبيعة الحياة العربية و التشريع الاسلامي الجديد، و تحوير نظام (5) المال الي ما يؤيد سلطتهم عليه و اطلاق ايديهم فيه، و فرض (6) الاقطاع، و القضاء (7) علي الطبقة الدينية المرقومة التي ساهمت في بناء الشريعة لانها كانت تحول بينهم و بين اغراضهم، و تسميم المعنوية الجديدة التي خلقتها الدياند الجديدة، و تشجيع (8) المجون و الحياة اللاهية بكل أشكالها.هذه هي أهدافهم الرئيسية، و كانوا يعملون لها سرا في ظل الحكومات السابقة لحكومة عثمان، و يتوسلون اليها بأساليب تجمع بين الاغراء و الارهاب، و قد ساعدتهم الحظوة التي رزقوها من الخلفاء علي اعداد الجمهور، و كان نفوذهم يمتد حتي يطغي علي أكثر الاحزاب و يستخدمها في تنفيذ رغائبه. و تاريخ حركات هذا الحزب مفيد ايما فائدة و طريف ايما طرافة.نعلم أن بين الاسرتين: الهاشمية و الاموية خلافا تاريخيا يتصل بعهد جاهلي بعيد، ثم أخذ شكلا أكثر عنفا بعد الدعاوة الاسلامية التي ظهر بها الرسول الهاشمي، فجهد الامويون بوضع الصعاب في سبيل نجاحها. بيد أن صاحب

ص: 238


1- 181. ظهر انه من اهدافهم بالانقلاب الملكي الذي احدثه معاوية في ايام حكومته.
2- 182. ظهر من قول ابي سفيان حينما تولي عثمان (لتصيرن الي اولادكم وراثة) و من صنيع معاوية حينما عهد الي ابنه.
3- 183. ظهر هذا ظهورا واضحا في كل ايام سيطرتهم و حكمهم.
4- 184. نص التاريخ علي ان عمر (ض) لما ورد الشام رأي طلائع هذا النظام في حكومته، فانتقده.
5- 185. يدل علي انه من اهدافهم انتقاد ابن سبأ و ابي ذر.
6- 186. يدل عليه اقطاع مروان في حكومة عثمان، و اقطاع عبدالله بن ابي سرح.
7- 187. يدل عليه حركة يزيد في القضاء علي اهل المدينة قضاء قاسيا؛ و سمي (فان فلوتن) هذه الطبقة: حزب اهل المدينة، و قال المسعودي، بعد حركة يزيد، لم يبق يدري.
8- 188. دل عليه تغاضيهم عن اعابيث عمر ابن ابي ربيعة و لفيفه.

الرسالة شق طريقه بين الجلامد و الصخور، متغلبا علي الحواجز المعترضة كافة، ناجحا في اطراد ممهود. و بذلك غدوا فئة مستضعفة عديمة القيمة ثم لا وزن لها سياسيا، فعمدوا الي العمل سرا، لكي يستعيدوا مجدهم المفقود و مكانتهم الضائعة في ظل الحكومة الاسلامية.و كانت الحركة الانتخابية اول مناسبة استغلوها فتحرك ابوسفيان - زعيم الحزب الاموي السري في الاسلام، كما كان زعيم الحزب المعالن قبل فتح مكة - للعمل في حماسة و نشاط، مستغلا العناصر غير الراضية عن نتائج الانتخاب، و لكنه فشل فشلا ذريعا لما اكتشف علي (ع) دسيسته. علي أن الحزب استفاد من هذه المناسبة الانتخابية شيئين:(1)ثبوت الخلافة في قريش.(2)ابعاد الهاشميين عن الحكم.و هم لا يحسبون حسابا لغيرهم من سائر الاسر القرشية، فاعتقدوا أن مصير الحكم لهم ان قريبا أو بعيدا. و هذا ما يشهد به قول ابي سفيان، بعد فوز عثمان بالخلافة، (فوالذي يحلف به ابوسفيان مازلت ارجوها لكم).و لنعلم مقدار نفوذهم النفسي العميق علي غيرهم من قريش، نذكر قصة (1) اوردها المسعودي، قال:(بلغ ابابكر (ض) عن ابي سفيان صخر بن حرب أمر أحضره و أقبل يصيح عليه، و أبوسفيان يتملقه و يتذلل له، و أقبل ابوقحافة فسمع صياح ابي بكر، فقال لقائده: علي من يصيح ابني، فقال له: علي ابي سيان. فدنا من ابي بكر، و قال له: أعلي ابي سفيان ترفع صوتك يا عتيق؟.. لقد تعديت طورك و جزت مقدارك. فتبسم ابوبكر و من حضره من المهاجرين و الأنصار، و قال له: يا أبت، ان الله قد رفع بالاسلام قوما و أذل به آخرين).

ص: 239


1- 189. راجع المروج بهامش نفح الطيب ج 2، ص 219.

و هذه القصة لا تحتاج الي تعليق فيما يختص بسلطتهم علي قريش و مبلغ نفوذهم، و في دهشة أبي قحافة و جواب ابي بكر دليل علي ذلك. فالذلة التي لحقتهم - كما يقول ابوبكر - و المفروض فيهم انهم الاعزاء حملتهم حملا عنيفا علي السعي الحثيث للاستحواذ علي السلطة بأي ثمن، و استرداد عزتهم المدحورة. و يظهر أن الفشل جعلهم ييرون أسلوب العمل، فعمدوا الي تملق الخلفاء و اظهار الرغبة في الخدمة الادارية باخلاص، فأكثر ابوبكر و عمر من تعيينهم في شتي المراكز. و بذلك انفسح أمامهم سبيل العمل ضرورة ان السلطة الاقليمية أصبحت في ايديهم، فهم يصرفونها علي الشكل الذي يلائم مصالحهم و يخدمها. فكانت وسائلهم كثيرة، و معين أفكارهم لا ينضب، فتارة يستخدمون نفوذ الحكومة، و تارة يميلون الي الاغراء و الاطماع. و قد دللت، في فصل القبيلة من هذا الكتاب، علي اسلوب من جملة الأساليب الكثيرة التي كانوا يعتمدون عليها في تقوية حركتهم، لما ذكرت ان اكثرية الولاة كانت منهم و كان من خطة الحزب الاموي أن يشجع العصبيات و يزيد في اوارها. فان كل حركة من هذا القبيل تضعف التحزب السياسي ضد قريش، و هم ينزلون من قريش منزلة الزعماء. و هذه وسيلة سلبية هامة، و لهم وسائل ايجابية كثيرة منها أو أهمها: الرغبة في الادارة الاقليمية و قيادة الجيوش، و لقد تم لهم من ذلك شي ء غير قليل.و لم تزل الايام تؤاتيهم و تجري وفق أهوائهم حتي أواخر عهد عمر (ض)، فقد بدأ يميل الي بني هاشم ميلا شديدا، فهو يتوسل حين الجدب بالعباس، و يقرب ابنه عبدالله، و يشيد بسابقات علي (ع) في الاسلام، و يقترن بابنته ام كلثوم في اخريات أيامه، و يفضي الي عبدالله بن عباس بأشياء كثيرة عن الخلافة، و انهم اي آل (1) هاشم أحق بهذا الامر؛ و ميل عمر هذا يذكرنا بميل المأمون الذي حمله علي العهد لعلي الرضا.و قد أيقن الامويون، و هم الساهرون علي قضيتهم، أن عمر لابد صائر الي

ص: 240


1- 190. راجع الطبري ج 5، ص 30 و 31.

ترشيح زعيم لهاشميين علي للسلطان الاعلي، و بذلك ينهار حجر الاساس من بنائهم، ففكروا كثيرا ثم أجمعوا امرهم علي شأن رهيب و هو اغتيال عمر قبل ان يعلن شيئا مما يدور بخلده. و قلت منذ حين ان الشعوبيين كانوا يتخدمون لمآرب الاحزاب الكبيرة، و كان الحزب الاموي أقوي الاحزاب الاموي أقوي الاحزاب القائمة و أملكهم لوسائل الاغراء، فضم اليه، كأدوات منفذة، أبالؤلؤة و جفينة و كعب الاحبار و سواهم، و كان لكل واحد من هؤلاء دور خاص يقوم به.ثم عمدوا الي الاستفادة من الظرف الجديد الذي خلقوه لعمر، دسوا له عبدالرحمن بن عوف بعد الاعتداء فكان لا يفارقه تقريبا، و لا ندري لماذا ان لم يكن لذلك. و عندي ان عبدالرحمن كان في نظر عمر مفكرا ألمعيا؛ فهو، بهذا الاعتقاد و لأنه صريع منزوف لا يملك كامل قوته، يستطي أن يؤثر فيه و أن يوجه أفكاره كيف شاء؛ و قد ظهر صدق هذا التقدير فيما ذكره (1) الطبري من أن عمر حينما سئل رأيه فيمن يكون ولي الأمر من بعده لم يتردد في ترشيح علي «و ما عتم الامر حتي اشتبهت عليه وجوه الرأي مدة» ثم جعلها في الستة المعروفين. لا شك ان تصريحه الجازم اولا و تردده ثانيا و العهد أخيرا لهؤلاء الستة، يدلنا علي مقدار ما عراه من و هن نتيجة للنزيف الدموي الهائل، فلم يعد رحمه الله صاحب تلك الارادة الحديدية الصارمة بل انقلب لينا سهل القياد و التأثير فيه، و سادرا يفكر بما يوحي اليه، و هذا التقدير صحيح فيزيولوجيا، و قد نزف دمه الزكي. ان عمر الحازم العظيم و المفكر العميق، ما كان ليعطي هذا الرأي الواهن لو بكامل قواه.و اول ما عرض لي هذا الرأي في الحلقة الاولي، فقد قلت هناك (اذا عرفنا ان المغيرة بن شعبة كان أشد ما يكون اخلاصا لهذا البيت الاموي و تعلقا به و نفاقا علي غيره - و علائق الثفيين ببني امية وطيدة - و عرفنا ان ابالؤلؤة كان غلاما للمغيرة بن شعبة، و عرفنا أن هناك حزبا امويا يعمل له المغيرة، خرجت لنا قضية مترتبة الحلقات متوالية الوائع علي نسق طبيعي واضح. و من ثم يظهر ان اغتيال عمر

ص: 241


1- 191. راجع الطبري ج 5، ص 34.

لم يكن بفكرة فارسية البتة، و انما كان وليد فكرة موضعية خالصة، و اموية بحت. و اذا لم يكن هذا التقدير صحيحا، فلماذا اجتهد المغيرة بادخال هذا الفارسي المدينة، مع علمه بمنع عمر من ذلك؟ و بماذا نفسر هذا المصادفة في أن يكون قاتل عمر هو غلام المغيرة الذي كان اموي الرأي و الهوي؟).فهذا الاغتيال أحدث بلبلة كبيرة في الأفكار، و هيأ المجتمع لنقلة جديدة، و قد ظهرت في سماء المجتمع برامج لا عهد للعرب بها أدت الي زيادة التبلبل الفكري، من مثل حصر السلطات العليا في اسرة أو قبيلة، هذه الفكرة التي روج لها الحزب الاموي و عمل علي نشرها و تعصب لها، ثم لم يعرف حديث الامامة في قريش، الا عن طريقهم و هم رواته. و كان رد الفعل علي التمهيد لنظريتهم، ظهور نظرية الخوارج بأنها لعامة العرب أو لعامة المسلمين. فنظرية الخوارج رد فعل قوي للنظرية الاموية التي جنحوا الي تطبيقها بغير لباقة، ايقظت عنعنات العرب الاخرين، فان المعروف عن الخوارج أن أكثرهم من غير الحجازيين، و زاد في عنعنتهم حصر الصلاحية في اسرة، ثم الوراثة الملكية.فالانتقال، من الديمقراطية التي هي طبيعة عربية تتصل بأسباب النفس و المزاج العقلي، الي الارستقراطية فالملكية الوراثية، أيقظ المجتمع لثورات متواصلة يسجر نسه في أتونها. فقد كان في عهد عثمان اذا نظريتان تتحاربان بدون هدنة أو استجمام: النظرية الاموية، و النظرية الجمهورية و اشياعها جمهور العرب، و احتكتا كثيرا، حتي تولد من الاحتكاك الشديد و التماس العنيف شرارة اتصلت بالجتمع من اقطاره.و الذي يدل علي أن الحزب الاموي كان يعمل لأهداف ثابتة، تغير السياسة دفعة واحدة و من أساسها أيضا في عهد عثمان الذي ترك لهم سياسة الامور العامة، و أطلق أيديهم في كل المقدرات. و لكن الشعب بدأ يستيقظ و يستفيق علي اعمالهم من سباته العميق، فرأي افتياتا علي حقوقه، و رأي انتهابا و اغتصابا في كل المرافق، و لمس الفساد يدب في طرق الاجراء و الادارة، و شعر بالحاجة الملحة الي الاصلاح، فمضي معلنا الثورة، و دق الناقوس الشعبي الاقدس.

ص: 242

و لم يجد، بعد زوبعته، مصلحا ينسجم مع ميوله الا عليا، فترامي الشعب في أحضانه، و سقط بكلكله عليه.فالحزب الاموي كان يعمل بوحي خاص و لمآرب خاصة علي منهج مقرر، و رغم الظروف المختلفة التي غمرته نجد لحركاته طابعا خاصا لا يتغير، فعهد معاوية كعهد عثمان في الجواهر السياسي عند التدقيق و العمق، و ميزة عهد عثمان انه كان أكثر اتصالا بالرأي الشعبي في السياسة العامة، و ذلك بسبب انه كان التجربة الاولي من تجربات الحزب، و انه نقلة بين عهدين. ثم تسني للحزب في الدور الثاني أي في عهد معاوية أن يحكم مباشرة، و أن يعطل الصلاحيات الشعبية و يكمم الحريات، و يتحلل من كل مسؤولية أمام الشعب، و لم يغد يعترف بالرقابة الشعبية البتة.هذا هو الحزب الاموي السري بأشكاله و أهدافه علي القدر الذي وضح لي، و عسي أن يجد المؤرخون ما يجعلهم أقدر علي تشخيصه. و هذا الحزب تسمي بأسماء مختلفة بحسب الظروف، فكان أولا القرشي (1) لانه نصب نفسه مدافعا عن قضية قريش، ثم العثماني لأنه قام دفاعا عن الدم المطلول، ثم الاموي و قد تكشف من استاره في عهد معاوية.

حزب الشعب

كان يجمع جمهور العرب الذي أحس بعدم صلاحية الوضع الراهن للمجتمع، و ان الاصلاح يجب أن يمس كل شي ء متناولا الاساس أيضا. شعر هؤلاء أن الهيئة الحاكمة التي فرضت عليهم فرضا لم تعد تطاق، و أن ضغطها آخذ في الزيادة، فقرروا الثورة، بعد أن وجدوا أن لا مذهب عنها، و انها العلاج الوحيد لطغيان المنتدبين للحكم الذين لم يفهموا حقيقة تمثيلهم.

ص: 243


1- 192. ادرك علي (ع) الغرض المقصود وراء هذه التسمية التي كانت تعني الاموية، فحاربها كثيرا؛ و نهج البلاغة مملوء بذلك.

و الحكومة الجمهورية اذا تجاوزت في فهم صلاحياتها، أو بعبارة أصح اذا فسدت، كانت نكبة أشد من النكبة بالملك المستبد أو الحاكم بأمره - كما يقول جون ستيوارت ميل في كتاب الحرية - لأن الوضع، في رأيه، لم يخرج عن استبداد الفرد الا الي استبداد الجماعة الذي هو أشد هولا.و قد وفق الشعب المضطرم الي معلم ثوري هو عبدالله بن سبأ، فصاغ مطالب الاصلاح بأسلوب موجز مغر، يجعلها قمينة بسرعة الانتشار. و كان اكبر شخصيات الحزب الشعبي في الشام ابوذر الغفاري (ض)، و في العراق الاشتر النخعي، و في مصر محمد بن ابي حذيفة و محمد بن ابي بكر. و هذا الحزب يمثل المعارضة المتطرفة، و نحن اذا أطلقنا عليه كلمة حزب فبتجوز و توسع، و الا فالحزب بالمعني المعروف لنا اليوم لم يكن صفة الا للحزب الاموي خاصة.

حزب علي او الحزب المحافظ

كان هذا الحزب يضم اليه اكثر ذوي السابقة في الاسلام، و يقوم علي مبادي ء المثل الاعلي الذي فرضه الدين الجديد. و من مهمته ارشاد الحكومة و تسديد خطواتها، حتي لا يستعجل بها الظرف و يتأزم عليها. و بذلك كان يعمل في حدود المعارضة المعتدلة، و يقوم بدور الرقيب علي تصرفات الحكومة و دور الكفيل لمصالح الشعب، في حدود المنهج الاسلامي القويم. و كان في الوقت نفسه يعطف علي الحزب الشعبي المتطرف و يكبح جماحه. و لم يفتأ حزب المحافظين عن تصحيح أساليب الحكم المتبعة، و العمل علي ابقاء الصلة بين الهيئة الشعبية جهده، فكان أحيانا و في بعض المناسبات ضامنا أمام الشعب الهائج للهيئة الحكومية ليخفف من حدته و غلوائه. و قد قلت في الحلقة الاولي (لولا وجود علي (ع) في خلافة عثمان لانهارت من اول عاصفة، و لكن عليا كان دعامتها و سندها المتين). و اليك هذه القصة التي ذكرها المسعودي، قال (لما جاءت جموع الامصار الي المدينة و أخبر بهم عثمان بعث الي علي بن ابي طالب، فأحضره و سأله أن يخرج اليهم و يضمن لهم عنه كل ما يريدون من العدل و حسن السيرة، فسار علي اليهم، فكان بينهم

ص: 244

خطب طويل فأجابوه الي ما اراد و انصرفوا)نعلم من هذا أن حزب علي (ع) كان يقوم بالنص و الارشاد و التوسط أحيانا لحل المشاكل الداهمة أو المفاجئة. و الذي كان يبعث الشعبيين علي الاطمئنان الي شخصيات هذا الحزب انهم يمثلون العهد الذهبي للاسلام أي عهد النبي (ص)، و لأن علي رأسهم اكبر قانوني و مشترع يستطيع أن يعبر عن امانيهم و يوجه الهيئة الحاكمة اليها. و لكن تطرف هذه الهيئة نتج عنه تطرف الهيئة الشعبية ايضا، و دخلها اليأس من صلاحها و وقعت الثورة التي لم يعد منها مناص، و تخطي الشعب الحزب المحافظ الذي يحترمه، و عمل بنفسه.و كان من اكبر شخصيات حزب المحافظين علي (ع) و ابوايوب الانصاري و عبدالله بن عباس و عمار بن ياسر و المقداد بن الاسود.

الحزب الشعوبي

هذا الحزب كان يضم الموتورين من ذوي الحكومات المنقرضة و الامم المنحلة. و هم يعملون بين الضغينة و المزاج العقلي الموروث علي تسميم مجتمع العرب، و بالفعل ظهر تأثيرهم الكبير علي أفئدة العرب الغضة، و عمل عمله الخطير بينهم. غير أن مدي حركتهم لم يكن يعدو نفث الافكار المفرقة و التعاليم المؤججة، أو أن يستخدموا أدوات هدامة (1) في ايدي الاحزاب القوية. و مثلهم، في مجتمعنا اليوم، كمثل الاقليات المأجورة المسممة التي تكون بابا الي الامة الناهضة المتماسكة، و هذه الاقليات التي لا تنسجم مع الامة في مزاجها العقلي و روحها

ص: 245


1- 193. المرحوم حافظ بك ابراهيم الشاعر المصري الكبير ابيات جميلة حكيمة، في هذا المعني، ضمنها قصيدته العمرية و هي: و الله ما غالها قدما و كاد لها و اجتث دوحتها الا مواليها لو انها في صميم العرب قد بقيت لما نعاها علي الايام ناعيها يا ليتهم سمعوا ما قاله عمر و الروح قد بلغت منه تراقيها لا تكثروا من مواليكم فان لهم مطامعا بسمات الضعف تخفيها.

الشعبية أو الملية - كما يعبر لوبون - ثم لا تشاركها في شي ء من وراثاتها، لا تكون سوي معاول للتخريب، فيها من معني التخريب، و فيها من قوة المعول.و كانت الاقلية في المجتمع الاسلامي الاول هي البقية المنهوكة من كل امة أطاحها الاسلام و هوي بها. و يعرف التاريخ من شخصيات هذا الحزب ابالؤلؤة و جفينة و كعب الاحبار و الهرمزان، لأنهم اقترنوا اقترانا وثيقا بحادث الاغتيال الفظيع.

حزب اهل المدينة

هذا الحزب أكد وجوده المستشرق (فان فلوتن) في كتابه: السيادة العربية، قال: (و المنتمون اليه يعتبرون ان وصول بني امية الي الحكم، معناه انتصار اعدائهم القدامي من مشركي مكة).و نحن لا نستبعد وجود حزب له هذا الطابع و هذه المسحة، بل لدينا شواهد تاريخية تشجع علي المضي في اعتماد الرأي المذكور. و كان كما يظهر يعمل ضد الحزب الاموي بالذات، و يقاومه مقاومة عنيفة، و يسي ء به الظن. و الذي جعل اهل المدينة ينشطون لصراع الاموية تعلق هؤلاء بالدعوة لقضية قريش تعلقا مفرطا، مما احرجهم و جعلم يتململون، و بذلك نظن أنه كان للغلاب التاريخي القديم بين مكة برمز الاموية و المدينة، عودة مرة أخري، و بالأخص حينما نافسوهم علي المدينة موطنهم القديم.علي ان الشباب في المدينة، و هم النش ء الجديد، كانوا اكثر (1) نزقا و اندفاعا، أن و لهم أيضا تفكيرهم الخاص في الخلافة و ما يتبعها من الشؤون السياسية، كما وجدوا أن الضمان الذي قطعه الخليفة الاول لهم بأنهم الوزراء لم تسع حكومة الي تحقيقه فتحمسوا و لجوا في الحماسة و خصوصا في أواخر عهد عثمان و اتصل الي عهد يزيد. و هذا، كشاب بالغ النزق و مضغن ذي احنة و ترات، جرب أن يضربهم ضربة حماسة قاسية.

ص: 246


1- 194. راجع قصة تحدي عبدالرحمن بن حسان للامويين و عبثه بهم في الاغاني.

و كانت للامويين سياسة خاصة نحو المدينة تقوم (أ) علي تسميم المعنوية المثالية فيهم، و بذلك يسقط مكانهم الادبي في النظر الاسلامي العام، فشجعوا المجون و استأجروا طوائف من الشعراء و المخنثين لينشروا حياة تقرب في الوانها من الاباحية. (ب) أخذهم بالعنف دائما فولوا امراء اضطهاديين (ج) تخصيص زمرة من أعلام الادب يهاجمونهم بكشف سوءاتهم، و كانت منزلة هؤلاء الاعلام في العصور القديمة كمنزلة الصحفيين اليوم يتوسل بم الي نشر الدعايات. و يشهد لهذا ان معاوية لما أراد العهد ليزيد (1) استخدم طائفة من الشعراء، منهم المسكين الدارمي الذي يقول:اذا المنبر الغربي خلي مكانه فان اميرالمؤمنين يزيدو من شخصيات حزب اهل المدنية قيس بن سعد بن عبادة، و عبدالرحمن بن حسان.هذه احزاب رئيسية كان لها آثار متفاوتة الا انها شرع فيما أحدثته من تيارات متعاكسة متدافعة جعلت المجتمع يمور و يصطخب في حركات جذرية عنيفة تتصل بالأغوار. و هناك احزاب ثانوية اخري، و نثبتها هنا كما وردت في الحلقة الاولي (سمو المعني)، و قد انصرفنا هناك في مقدمة الحلقة المذكورة الي تعليل نشوء هذه الاحزاب الثانوية بحصر عمر الانتخاب في عدد مخصوص، (فان هذا التعيين أوجد جزئية و بيلة، و هيأ لها أن تعمل اسوأ اعمالها، و لم تقف عند حدود النجاح أو الفشل في الانتخاب فحسب، و الاهان امرها. و الذي يجب أن نفهمه جيدا ان حصر التشريح في عدد جعل لكل مرشح حزبا يناصره بضرورة حصر دائرة الانتخاب، و زاد في حرج الانتخاب ان ينص علي الحكم الانتخابي (عبد الرحمن بن عوف، مما يسهل سبيل الظفر الحزب بعينه اذا استطاع أن يستميل الحكم، و لقد كان كذلك بالفعل). و هذه الاحزاب الثانوية هي:

ص: 247


1- 195. راجع كتاب: الشعر و الشعراء لابن قتيبة. و يروي البيت علي وجه آخر (اذا المنبر الغربي خلاء ربه).

حزب طلحة و الزبير

و هذا حزب يقوم علي عصبية شخصية بسبب ما منيا به من فشل في الانتخاب، و كان ينضوي اليه بعض من الناقمين علي سياسة عثمان، و من اكبر شخصيات هذا الحزب عائشة.

حزب ابناء عمر بن الخطاب

هذا حزب لا يحدثنا التاريخ عنه كثيرا و لا يسجل له ظهورا، و لكني ارجح انه قد كان. فان موقف عمر من أهل بيته لم يكن مرضيا، و وجد في الناس من يدعو لآل الخطاب، و من اكبر الشخصيات المنتسبة اليه ابوموسي الاشعري الذي رأينا من خروجه علي صلاحية الحكم في صفين الي اسقاط الامام القائم و معاوية، و ترشيح عبدالله بن عمر للخلافة التي لم يرها له ابوه (ض).

الحزب الاموي المنشق

كان يعمل ضد الخليفة بالذات، و يقوم بدور الجاسوسية عليه، لحساب بعض الاحزاب كحزب طلحة - علي ما يظهر من قصة ذكرها المسعودي - و من اكبر شخصياته عمرو بن العاص.فهذه الحزبيات المتصارعة أدت الي حالة من الاضطراب و الشعور المشترك بالحاجة الي الاصلاح.و الحقيقة الواضحة هي أن الحزب الاموي كان يرمي الي اعداد ثورة في المجتمع تغير كل شي ء، و تأتي علي ما هو معروف من أوضاع مادامت متحكمة بالشعب فلن يستطيع تحقيق أهدافه التي يسعي اليها جهده. و قد رأينا من أهدافه التي ذكرناها وعنينا باحصائها من الظواهر التي صاحبت حكمه، أنه كان يبغي التحلل المطلق و السيطرة المطلقة؛ و قد نجح في كل شي ء. و أهم ما نجح فيه أن الثورة طالت و التفت علي نفسها بحيث أتت علي الطبقة القديمة التي كان يرهبها كثيرا و يفرق منها كثيرا، و بذلك مزق أعصاب الشعب أيضا و حمله علي الاستكانة،

ص: 248

ان الثورة، حينما طال أمدها، أطاحت بأكثر الزعماء و الجمهرة الاسلامية الاولي و أنهكت قوي الجمهور، فرضي بالامر الواقع؛ و هذا الشعور الذي لمسه الحسن بن علي (ع) ظاهرا واضحا في نفسية الجمهور حمله علي المسالمة و وضع أوزار الحرب. و نتائج هذا الفصل هي:(1)ان الحزبية علقت بمجتمع العرب، و كانت مغرضة نفعية في أكثر جهاتها.(2)ان الحزب الاموي كان يرمي الي تغيير الأوضاع كافة، و كان يقوم بدور المعارضة المتطرفة الحزب الشعبي، و بدور المعارضة المعتدلة حزب المحافظين.(3 ان الصراع الرهيب كان بين الحزب الاموي من جهة و الحزب الشعبي و حزب اهل المدينة من جهة أخري؛ و معارضة الاول كانت من وجهة سياسية، بينما كانت معارضة الثاني من وجهة نفسية محض.(4)ان الثورة كانت وليدة صراع الحزبيات.

ص: 249

القديم و الجديد

من طبيعة المجتمعات أنها تظل في حالة تغير و تزايل دائمة، فاي مجتمع لا يبقي حافظا لأوضاعه أمدا طويلا، بل يطلب اشكالا جديدة، و خصوصا حين يتصل و يحتك بمجتمعات أخري فانه يتأثر بها علي نسب متفاوتة. و هذا راجع الي الطبيعة في الكائن الحي الذي يؤلف المجتمع.. و قد كشفنا في التصدير عن مقدار ما يعرض للمجتمع باعتباره كائنا مركبا يعرض له ما يعرض للكائن البسيط؛ و هذه الخاصة، في كل من الكائن الحي و الكائن الاجتماعي علي نسبة متقاربة، هي الأساس الذي بنينا عليه النظرية الجديدة في التاريخ. فالارتقاء خاصية لازمة للجماعة، ما لم تحل الموانع دون عملها، و هذا هو التجديد.فتجدد المجتمع اذا ضربة لازب، و هذا بعينه ما صادف المجتمع العربي الوليد، حين مالت الجماعة الاولي الي الزوال ليحل محلهم نش ء جديد له افكاره و ميوله و مذاهبه؛ و هذا النش ء، بما اجتمع له من أشكال اجتماعية و أوضاع مدنية لامم شي، كون لنفسه فكرة و لونا متميزا، و دخل بأشيائه الجديدة في دور صراع مع الجماعة الاولي بأشيائها القديمة، و تفاعل الجديد مع القديم تفاعل تناحر ضرورة أن كلا متهما يتشبث بأسباب البقاء.و لعل أحدا لا يشك بأن محمد بن ابي بكر كان ينظر الي الحياة من غير

ص: 250

الناحية التي ينظر منها ابوه، فالنظرة العامة له انحرفت في كثير أو قليل. كما نلمس أيضا تأثر كثير من رجالات القديم بالالوان الجديدة التي انتقلت الي العرب بضم مجتمعات كثيرة ذات حضارة سامية، و كان من هؤلاء طوائف كبيرة من مثل طلحة و الزبير و زيد بن ثابت و عبدالرحمن بن عوف و يعلي بن امية الذين أخذوا بالترف و حياة الغضارة الناعمة، فاستكثروا من الاموال و مالوا الي اعتناق النظام الارستقراطي متأثرين بوضع الامم التي فتحوها، و نصلوا بدرجة كبيرة من النظام الديمقراطي الذي فرضته الطبيعة العربية و الدين (1) و هذا ما كان يتخوفه النبي (ص) فقد ورد من اعلام النبوة (انما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا و زينتها، انه لا يأتي الخير بالشر، و ان مما ينبت الربيع ما يقتل (2) حبطا أو يلم الا آكلة (3) الخضر فانها اكلت حتي اذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت و بالت ثم رتعت، و ان هذا المال خضرة حلوة و نعم صاحب المسلم هو لمن أعطاه المسكين و اليتيم و ابن السبيل، فمن أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو، و من أخذ بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع و يكون شهيدا عليه يوم القيامة.)فالنبي (ص) يحذر من التعلق بما سماه زهرة الدنيا، كأنه كان يستقبله واقعا ماديا محسوسا.فقد كان اذا، في المجتمع العربي الاول الذي نعني بدرسه، قديم و جديد؛ و هذا الاخير تطمئن اليه و تنتصر له اكثرية الشباب و طوائف كبيرة من الشيوخ الذين عايشوا النبي (ص) طويلا.

ص: 251


1- 196. اخرجه البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري، و ذكر الميداني في مجمع الامثال.
2- 197. هذا مثل ضربه النبي للمتزيد المفرط في جمع المال من اية طريق، و حبطت الدابة حبطا اذا اصابت مرعي طيبا فافرطت في الاكل حتي تنتفخ و تنشق امعاؤها و تهلك.
3- 198. هذا مثل المقتصد، فان الخضر ليست من احرار البقول و انما تنبت بعدها، فضربها النبي (ص) مثلا لمن يقتصد في اخذ الدنيا، فهو ينجو من اخطارها كما نجت آكلة الخضر، فانها اذا شبعت منها بركت مستقبلة الشمس تستمري ء بذلك ما اكلت تجتر. راجع مجمع الامثال الميداني في المثل (ان ما ينبت الربيع ما يقتل حبطا او يلم) ص 7 و 8.

و كانت فكرة الجديد تقوم علي الارستقراطية الاجتماعية، و ظهرت في التنافس علي الامارات المدنية و العسكرية، و علي التزيد من الاموال، و علي التحلل بالحياة العامة من القيود و اعطائها صفة من الحرية أكثر سعة.و كانت فكرة القديم تقوم علي قاعدة تناقض ذلك مناقضة تامة، فهو يؤيد الديمقراطية، و يبيح الأخذ من الاموال بقدر فقط، و يتشدد في القدوة و اتباع الأوضاع. فالهوة بين القديم و الجديد كانت واسعة، و زادت مع الايام سعة و امتدادا. فالابتعاد اتصل بالعقلية و الفكرة و الشعور، مما جعل نظرة كل أحد الي أشياء الحياة تختلف عن الاخري.و نعرض الآن للعوامل التي نزعت بالناس الي التجديد و البعد شيئا فشيئا عن خطة الوضع القديم، و الذي وضح لي منها، عدا الارتقاء الطبيعي، هي:(1)العقلية الفطرية: و هي تميل دائما الي الاحتذاء و التقليد، فالامة العربية اتسعت بسهولة و سرعة و اهتضمت عناصر شتي و نظما كثيرة، و بحكم فطريتها احتذت اكثر الوانها. و ظهر في التجديد اختلاف أيضا، لأن العرب كشعب غير ثقافي في بداءتهم، تأثر كل قبيل منهم بأوضاع الامم التي حلوا عليها و نظمها، فالذين نزلوا ارض فارس تأثروا بلون الحياة الفارسية و قامت في نفوسهم فكرة البيت المالك، و كذلك كان شأن الذين حلوا بلاد الروم. و هذا وجه افكار العرب و جهات مختلفة كان لها أثرها في التشريع و الاجتماع و النظر العام. و عليه فلم تكن للتجديد صفة بعينها، بل كان يختلف باختلاف اللون الذي اعتنقه العربي بحكم البيئة الجديدة. و مثل هذا الاختلاف الواقع في نزعة التجديد، الاختلاف بيننا اليوم؛ فان المثقف من ينابيع لاتينية ينصرها و يجتهد بتحويل مجتمعة اليها، و كذلك المثقف من ينابيع المانية أو سكسونية أو روسية. فاختلاف نزعة التجديد في العهد الاول الاسلامي كان خاضعا لاختلاف البيئة الجديدة، و في عهدنا خاضع لاختلاف الينبوع الثقافي.(2)أطماع الشيوخ: و هم من الطبقة القديمة الا أن احتكام نفوسهم بأطماع

ص: 252

لا حد لها جعلهم ينزعون قسرا الي الجديد، و يعتنقونه في ظمأ و اطمئنان. فهم، حينما وجدوا فتونا لا حد لها و مغريات لا عهد لهم بمثلها، نزعت نفوسهم اليها، كما ينزع السهم من اليد التي كانت تمسكه، مندفعين بشي ء من ميولهم كالوتر الذي اكسب السهم قوة الاندفاع و الاستمرار.و الملاحظ علي البدائيين انهم اكثر تحللا في سبيل هوي النفوس، بحيث لا يرعون لشي ء من أشياء القديم الا و لا ذمة، مادام في الجديد ما يرضي رغائبهم المكبوتة. و هذه الظاهرة تعلل بالظمأ الطبيعي أو الكبت الطبيعي، فان البداوة تكبت علي المرء شهواته الا بمقدار، فهو لا يجد سبيلا اليها حتي ينقلب ملكيا أكثر من الملك. و هذا ما رهب عنه النبي (ص) في الحديث السابق و أسماه (زهرة الدنيا) و رغب به. ان النبي ذا النظر العميق في أسرار النفوس و طبائعها اعتمد، في تهذيب العرب، كل الطرائق التربوية التي تفعل الاختمار الناقل للوراثات.(3)الشباب و اطماعهم: كثر الشباب كثرة مطلقة، و احتلوا مكانهم في الحياة العامة، و عمدوا الي المساهمة فيها بأفكارهم و أحاسيسهم، و لا ريب في انها لا تتفق في كثير مع أفكار الشيوخ و أحاسيسهم، فظهر التفاوت المنطقي بين الفئتين، كما أن الشباب يكونون أسرع تأثرا بما يرضي الغرائز و يشيع فيها النشوات. فالحركة السريعة للفتح العربي وجدت سبيلها الي أفئدة الشباب فطفرت بهم.(4)الغني المفاجي ء: نقل الشباب و طائفة من الشيوخ الي جانب آخر غير الجانب الذي كانوا يسيرون فيه، و غمسهم غمسا بمثل الوان الترف عند الامم التي حكموها.(5)قوة الضعفاء: هذه القوة علي الدوام تنتج الميل الي الارستقراطية، و قد وقع الملحظ في خاطر ابي تمام الشاعر:(و ضعيفة، فاذا أصابت فرصةقتلت، كذلك قدرة الضعفاء)(6)ظهور المرأة: و هي كثيرا ما تنساق بحوافز عاطفية، فكان لها أثر في التوجيه

ص: 253

الجديد. و قد ظهرت المرأة بحركات كبيرة استقلالية في مناسبتين (أ) يوم الردة، في امرأتين: احداهما سجاح بنت الحارث و تقدم (1) خبرها، و الاخري هي سلمي (2) ابنة مالك بن حذيفة سبيت أيام رسول الله (ص) و وقعت لعائشة فاعتقتها، و قد قادت جموع غطفان و هوازن و سليم و أسد وطي ء ثائرة، فنزل خالد بن الوليد عليها و علي جماعها فاقتتلوا، و هي وافقة علي جمل امها - و كانت مرهوبة عظيمة المنزلة - تستنهض الجموع و تعزز الحماسة، و قد قتل حول جملها مائة رجل ثم قتلت و تفللت الجموع. ارتدت هذه المرأة نتيجة لتفكير جزئي أو قل: سطحي، فهي تريد أن تثأر لاخيها حكمة الذي قتل أيام النبي (ص). (ب) ظهور المرأة يوم الجمل في شخص عائشة (ض) فانها لعبت مثل دور عتيقتها سلمي ابنة مالك، فقد خرجت علي حكومة علي (ع) كما خرجت الاخري علي حكومة أبيها؛ و لغرض مشابه تقريبا؛ فتلك تثأر لاخيها، و هذه تثأر لعثمان، و قد عقدت الصداقة بينهما زمنا طويلا، فقد كانت تختلف الي عائشة كثيرا و تنزل عليها دائما. و لا يبعد عندي أن يكون في جملة الرغبات التي دفعت عائشة الي الخروج، انها كانت معجبة بالدور الذي لعبته سلمي، و قد كان دورا معجبا حقا لهج به الناس كثيرا حتي قيل: بلغ من عزها أنه وضع مائة من الابل لمن يجرؤ علي نخس جملها. و المرأة ذات تفكير تلعب به الميول و العواطف.لذلك لا استبعد أن تكون عائشة قد انطوت علي اعجاب عميق بسلمي. و هذا الاعجاب كان عاملا نفسيا كبيرا هون عليها سبيل الخروج لتلعب دورا مماثلا تكون فيه القائدة و علي جمل ايضا يضحي دونه كثيرون، و كان المصير واحدا تقريبا. و هذا من أغرب المصادفات التاريخية، و ليتنبه الي اننا لا نقول ان اعجاب عائشة بسلمي كان عاملا من عوامل خروجها، بل نقول كان رغبة في جملة الدوافع التي تركز عليها عزمها.

ص: 254


1- 199. راجع الحلقة الثانية من هذا الكتاب.
2- 200. راجع الطبري ج 3، ص 233 و 234.

فخروج عائشة، كامرأة، للقيادة العامة شي ء جديد في المجتمع الاسلامي الاول، ثار حوله تفكير طويل في انه هل للمرأة أن تأتي مثل هذه الحركات أم لا؟. و كان التفكير في ذلك من وجهة دينية محض فأم سلمة (1) (ض) - زوج النبي - و الطائفة المحافظة علي القديم ذهبوا الي انه لا يجوز ذلك لها، و طلحة و الزبير و العرب الذين سكنوا البصرة و تأثروا بأفكار الفرس ذهبوا، كما يظهر من عملهم، الي جوازه. فظهور المرأة شي ء جديد أثار مسألة جديدة ما في ذلك شك.(7)غمر الاسلام للاديان: فان الاسلام حينما غمر في طريقة هذه الاديان الكثيرة انبعثت فيه ثانية و أحدثت فكرة دينية جديدة لها شكلية اسلامية و حقيقة من كل دين. فكان في المحيط الاسلامي يهودية اسلامية، و مسيحية اسلامية، و وثنية اسلامية، لبست في عقائدها و أعطتها شكلا اسلاميا، كما يظهر من علم الاديان المقارن، و بقيت تتكاثر علي مثل التوالد الذاتي حتي أتت في اكبر عدد مفروض.من هذا نعلم أن العرب، قبل مصرع عثمان (ض)، شعروا بشي ء جديد شمل الاعتقاد و الاجتماع و الحريات الادبية و آداب السلوك، و شهدوا صراعا خفيا بين الجديد و القديم أدي الي الذبذبة و الاضطراب.

ص: 255


1- 201. او ضحت رأيها هذا في كتابها الحكيم الي عائشة؛ و تجدر بكل قاري ء مطالعته، و هو موجود في «الامامة و السياسة» لابن قتيبة.

الثورة

بعد ذلك العرض المسهب للبواعث التاريخية التي اتصلت بالمجتمع الاسلامي الاول، و تشخيصها بالمقدار الذي يسمح لنا بفهم المحركات الرئيسية لذلك العهد، تبدو لنا الثورة حادثا طبيعيا للمحركات المجتمعة التي تؤدي كل منها الي توليد حركة ذات صفة بعينها، فاذا اختلطت حركاتها و تشابكت تشكلت الثورة علي وجه طبيعي جدا.و في كلمة التصدير اعطينا تعريفا جديدا لثورة يحسن بنا ان نعيده مرة اخري، فقد قررت هناك أن الثورة هي الارتياب في المثل الاعلي حين يتخذ شكلا عنيفا، و هو يتحرك الي هدف معين و يدور علي فكرة خاصة، و هذا تعريف جد حقيقي يفهمنا ان الثورة علي الدوام تعبر عن فساد في الحكم و نضج في الشعب. و كذلك كانت الثورة الاولي في الاسلام او الثورة علي عثمان.فهمنا، من الفصول المارة، ان مزاج الشعب العقلي لم يزل قبليا، و فهمنا ان القلق الديني لم يزل يتملك الافراد في كثير من التأثير، و فهمنا أن قضية المال لم تسو علي الوجه الذي يحقق الاماني، و أن كثيرا من المجتمعات، بنظمها و قوانينها، انحلت في المجتمع الاسلامي و لم يمثلها أو يهضمها هضما حسنا، و فهمنا ان

ص: 256

الحزبية البغيضة علقت بذلك المجتمع الوليد، و أخيرا شهدنا صراعا بين القديم و الجديد يشطر العالم الاسلامي في الفكرة الي معسكرين.فقد ماد المجتمع العربي اذا تحت عوامل نفسية و اجتماعية ميدانا شديدا، و تطلع الشعب الي الاصلاح الشامل، و بالاخص بعد ان استقل بالحكومة الحزب الاموي و مال بها الي الارستقراطية و حكم الناس بسياسة الامبالاة في الادارة و الاموال و شتي نواحي النظام. ان سياسة الضغط و الانتهاز التي سار علي منوالها الامويون، جعلت الشعب يحتج و يبالغ في الاحتجاج مطالبا بضرورة الاصلاح السياسي، مرتقبا استرداد حرياته المغتصبة. و لكن الحزب لم يشأ تغيير شي ء من سياسته التقليدية، فثار الشعب المتذمر و أعلن العصيان.اعلن الشعب الثورة لان الاوضاع التي كانت تصلح لسياسة المجتمع يوم كان محدودا ضيقا، لم تعد تصلح له بعد أن أدخل تحت جناحيه اكثر العالم القديم و هو مختلف العادات و التقاليد و التربيات. و لان الطماعية أو الجشع، التي دعاها موللرليير Pleonexia، تسلطت علي موارد الدولة كافة في حكومة الحزب الاموي، حتي حلوا كثيرا من الملكيات و جعلوها وقفا عليهم، و هذا ما صرح به كبير من ولاتهم و هو سعيد بن العاص، فقد قال: انما هذا السواد - سواد العراق - بستان لقريش، و استبدوا بالاموال استبدادا كبيرا. و لأن الفكرة الاجتماعية بلغت في الناس مبلغ النضج تقريبا بتأثير نظم الامم التي انتقلت الي نظامهم، و يشير الي هذا أن اكثر الثائرين من الجهات التي خضعت في يوم من الايام لحكومات نظامية قديمة كمصر و العراق. و لان الأخطاء السياسية للحكومات السابقة تجسمت في عهد عثمان فأخذ بها، من مثل سياسة الاموال التي وضعت في حكومة عمر، فان تمليك الاكرة و الفلاحين الارض التي كانوا يعملون (1) فيها علي نظام الرق، و هو يجعلهم تابعين للاراضي في عهد الحكومات المقهورة، أدي الي الفوضي من حيث ان الفتح العربي لم يملك المالك الاول وحده بل أوجد مالكا جديدا هو الفلاح.

ص: 257


1- 202. راجع محاضرة رفعة علي ماهر باشا في التربية و التاريخ المنشورة في مجموعة متخرجي المدرسة الخديوية سنة 1901 ص 35 و 36.

و كان أولي أن يجعل هذا المالك الجديد هو المجاهد العربي. ان ما هرب منه عمر وقع فيه: هرب من تمليك العربي حتي لا يحرم المالك القديم، فيؤدي الي الاضطراب، و لكنه وقع علي أي حال فيما يماثله حيث اشرك مالكا جديدا مع المالك القديم. و كان الافضل، من وجهة النظر الاقتصادي حيث حلت الملكيات بالفتح عنوة، أن يخلف المجاهد العربي المالك القديم أو أن يشرك معه علي الاقل.فثورة الشعب كانت نتيجة لرغبة اكيدة في الاصلاح، و هذه الثورة هي التي أوحت لعلي (ع) بنظام الاصلاح الذي ضمنه العهد الي الاشتر. و من هذا يظهر أن عهده المذكور لم يكن مرتجلا، بل كان نتيجة التروي العميق و التمرس بنظم قديمة و جديدة.و لعل أقرب الثورات، في التاريخ الحديث، الي ثورة العرب الشعبية هي الحرب الاهلية (1) الانجليزية التي قادها (اوليفر كرومول) ضد الملك كارلوس الاول الذي أخذ بأخطاء ابيه و أخطائه؛ فكان كأبيه يكره الحكم الذاتي و حقوق الشعب السياسية و تقييد يديه و ايدي حاشيته في المالية، و لكن الشعب قدم (عريضة الحق) و قبلها الملك بعد أن أقرها مجلسا اللوردات و العامة نهائيا. الا أن الصلة بين الشعب و الملك عادت فتحرجت، فحل الملك «البرلمنت» الذي طلب محاكمة الدوق بوكنهام، و كان سي ء السمعة محرضا للملك؛ و احتج الشعب احتجاجه العنيف الذي أغضب الملك غضبا شديدا، فعزا الي الزعماء جريمة التمرد، و لما لم يكن من اساس للتهمة اعتبرت غير قانونية، و حاول القبض عليهم فأخفق.لذلك اعتبر مجلس العامة أن الملك بفعله أعلن الحرب ضد حرية الشعب، و خاف أن يستخدم الجيش ضده، فاقترح وجوب أن يتم تعيين قواد الجندية في «مجلس العموم»، فرفض الملك و شبت الحرب الاهلية، و قاد الشعب (كرومول) الذي انصر علي الملك و أخذه أسيرا، ثم حاكمه و حكم عليه بالاعدام، باعتبار أنه صاحب فتن و دسائس ضد الشريعة و حرية البلاد. و تغطرس الجنود المنتصرون غطرسة فيها شي ء من الاستهانة (بالبارلمنت).

ص: 258


1- 203. راجع كتاب: تاريخ اساس الشرائع الانجليزية للاستاذ دافيد و طسن راني ص 137 الي 148.

هذه الثورة، في كثير من ظروفها و أغراضها، تنفق مع ثورة الشعب العربي الاولي، فان الدين اكسب الامة الحق بحكم نفسها (و أمرهم شوري بينهم. و شاورهم في الامر)، و فرض الطاعة للسلطة التنفيذية في حدود طاعة السلطة نفسها للقانون (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله و اطيعوا الرسول و أولي الامر منكم، فان تنازعتم في شي ء فردوه الي الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر، ذلك خير و أحسن تأويلا) و التنازع في الاية علي وجهين: تنازع الافراد علي الحقوق، و تنازع الشعب مع السلطة الحاكمة التي عبر القرآن عنها (بأولي الامر) و حكمهما واحد في ضرورة الرجوع الي القانون المؤلف من القرآن و أقوال النبي و أفعاله؛ و بذلك خول الشعب، اذا كان الحق في جانبه، أن يأخذها بمقتضي قانون الجزاء السياسي علي ما هو مشروح في السنة من انحلال البيعة و ما يتبعها، كما يؤخذ الافراد بمقتضي قانون الجزاء (1) العدلي.فالقانون الدستوري للاسلام اثبت اذا حقوق الشعب، و أعطاه الحرية الواسعة للمحافظة علي هذه الحقوق، و الشعب اعتنق هذا القانون، فهو لا تمر به سانحة تجاوز فيها السلطة غاية القانون الا احتج و رفع صوته مطالبا باحترام الدستور.و لما جاء الدور لحكم الحزب الاموي، و تجاوز المبادي ء المقررة و خط لنفسه سياسة ليست مشتقة علي أي وجه من حقوق الشعب في الحكم الذاتي، عارض الشعب و احتج و طلب الاصلاح، فأظهرت الهيئة الحاكمة قبولها، و لكن سرعان ما عادت الي التجاوز و عاد الشعب الي الاحتجاج؛ و زاد في عنفه اطلاق الخليفة أيدي حاشيته في المالية و اقطاعهم. و لكن الهيئة الحاكمة عادت فوعدت بتغيير الخطة السياسية و منهاج الحكم، و لم تلبث حتي رجعت الي سابقة أمرها. و هنا هدي الشعب الي معلم ثوري نظم مطالب الاصلاح أو «عريضة الحق»، فقررت الهيئة الحاكمة القبض علي الزعماء، فقبض عليهم معاوية و فيهم الاشتر، و أسلمهم الي

ص: 259


1- 204. هذه الآية لم يفهمها كثير من المفسرين علي وجهها الصحيح حين قصروها علي الوجه الاول من التنازع، و لكن اقتصار الآية بعد ذلك علي ذكر الله و رسوله دون اولي الامر يدل علي انه يريد ان يتناول ايضا وجه النزاع الثاني الذي هو بين المؤمنين (الشعب) و اولي الامر (الهيئة الحاكمة) كما بسطناه في كتاب: (مدخل التفسير).

القائم بأعمال حمص، فاضطهدهم و عاملهم بقسوة ثم عاد فأطلقهم. و لكن هؤلاء لم تخمد حركتهم الاصلاحية، فعادوا يطالبون بالاصلاح، و يتشبثون بمحاكمة مروان بن الحكم: مستشار الخليفة الذي ثبت لهم انه الوحيد الذي يتلاعب بمقدرات الحكم، فأبي الخليفة و تمسك به، و تحرجت الامور سريعا نتيجة أخطاء سياسية فظيعة، و أعلن الشعب الثورة بزعماة الاشتر و وقعت الكارثة بمصرع الخليفة.و هؤلاء تلافيا للامور حتي لا تطغي الثورة و تشكل حركة زوبعية لا يعلم مداها. قرر الثوار وجوب تعيين الحاكم الاول (الخليفة)، فانتخبوا عليا (ع) للخلافة، او قل: حملوه عليها. و قد فهم علي ان الظرف يقتضي اخذ الامور بالحزم و الشدة، لأن طلائع الفوضي بدأت تذر قرنها و تلعب من بعيد؛ و في مثل هذا الظرف لا نتجح الا حكومة الحزم غير ان الناصحين ذوي النظر الضيق في طبائع النفوس و الحركات الاجتماعية الكبيرة أشاروا عليه بالملاينة، و هذا هراء لم يصغ اليه الخليفة العبقري فعمد الي سياسة البطش و الشدة، فضرب الخارجين يوم الجمل ضربة صاعقة اخضعت العراق و الحجاز و اليمن، و أرهبت الشام. و لقد بات الحزب الاموي في مثل رهبة الظربان، و معاوية لم يعد يثق من نفسه، و يدل علي هذا الرعدة التي اخذته حتي مال الي الاستسلام بدون قيد و لا شرط كما يظهر من كتابه الي المغيرة بن شعبة الذي قال فيه (قد ظهر من رأي ابن ابي طالب ما كان يقدم في وعده لك في طلحة و الزبير، فما الذي بقي من رأيه فينا).و حركة علي (ع) السريعة في الانتقال من حرب البصرة الي حرب الشام، ترينا موضع الاحكام في خطته، فلم يترك لخصومه ظرفا يتأشبون عليه فيه، كما لم يدع الجذوة المتقدة في نفوس جيشه تخمد، و عمل علي استغلال أثر الرهبة التي اورثتها وقعة الجمل. و هذه الحركة السريعة واجبة اذا درسناها علي ضوء الفوضي حين تتملك النفوس، فانه لا يثبت في هذا الغمار الا الرجل القوي الذي يسوس المتمردين بالحزم كما فعل علي (ع)، و لكنه انما أتي من جانب تسلط المزاج العقلي القبلي بطلعاته علي نفوس جنده، و هذا يجعلهم نفعيين نفعية مطلقة، كما ان تضحياتهم لم تجر الي مغنم ينسيهم فداحتها، فلن يجروا اذن الي آخر الشوط

ص: 260

بدون غنم علي انه بمغارم كثيرة، و علي متشبع بقضايا الحق و العدل و وجوب الاصلاح من أقرب الطرق، فلم يخولهم شبئا من أموال خصومهم و محاربيهم.ان المؤرخين الذين انتقدوا سياسة علي كانوا ساذجين في درس التاريخ علي مقتضي الطبائع النفسية، ان عليا (ع) يجب أن يفعل ما قد فعل من عزل و تعيين و أخذ بالشدة؛ فانه لن يجدد مدي اتساع الفوضي، و قد علقت بالنفوس، الا سياسة تقوم علي هذه الشاكلة، فان الرجال الذين رافقتهم ظروف فوضوية كانت سياستهم تقوم علي الحزم الشديد بل و الارهاب من مثل (كرومول) و (نابوليون).و عليه فالثورة علي عثمان (ض) كانت نتيجة للنضج الاجتماعي، و كانت اصلاحية الي حد كبير تقوم علي فكرة بعينها، و لكن لا فصولها تتالت مسرعة انتقلت الي فوضي. و الذي يدل علي انه قد كانت تعمل فيها افكار انكشافها عن نظريات جديدة من مثل نظرية الخوارج. فقد بقيت لها اذا صفة الثورة الي أن ابتدأ الصرع بين علي و معاوية، و من ثم انحرفت و أخذت صفة الفوضي، و هذه الصفة لها كانت تروق في عين معاوية فدفع الجزية الي ملك الروم لا طالة الصراع، فان من اولي نتائج المطاولة تمزيق الاعصاب و انهاك الجموع التي تميل معه الي الاستسلام. و قد بقي هذا الشعور يتزايد في كل نفس الي ان بلغ الغاية بوفاة علي (ع) فلم يجد الحسن (ع) خطة أضمن و أفضل من المصالحة.و التخليص العام لأهم ما جاء في فصول المقدمات مما هو متصل بالثورة، هو:(1)ان عمر تردد بين ان يتبع طريقة ابي بكر أو طريقة النبي (ص)، و خاف الاختلاف فجمع بين الطريقتين؛ غير أن الستة الذين حصر الانتخاب بهم اختلفوا و هو حي، و لا شك ان هذا الاختلاف انتقل الي انصارهم في الخارج و عملت العصبية عملها و تشكلت الاحزاب الثانوية. و عبدالرحمن بن عوف لعب دورا مهما حين وسع دائرة الانتخاب و انتقل به نحو الشعب حتي لم يتم مدة الشوري. و ذلك لأن عليا (ع) كان الفائز لا محالة في الانتخاب التداولي الذي دار بين الستة، فان المؤهلات التي اجتمعت له لم تجتمع لواحد منهم، علي انه خاض

ص: 261

معركة الانتخاب للرئاسة ضد ابي بكر (ض) و لم يخضها سواه من سائر الستة المجتمعين. و لا ننس أن الزبير أنحاز الي علي ضد ابي بكر في المعركة الانتخابية الاولي، علي ما ذكره ابن الوردي في التاريخ.و يقول بعض مؤرخي الفرنجة: ان عبدالرحمن لم يترك الانتخاب حرا بل استعمل فيه طريقة المدارة و الانتهازية، كما لم يستشر عبدالله بن عمر و هو المستشار في وصية عمر. و لما نقل عبدالرحمن الانتخاب الي الشعب و وسع دائرته و الحزب الاموي قد أعد القبائل لنصرته، و نحن نعلم أن كثرة من القبائل كانت صنائع لبني امية في القديم. فتعيين الترشيح في ستة (1) مهد السبيل لدي الامويين لاستغلال الموقف؛ و قد وصل، الي مثل هذه النتيجة من قبل، سيد (2) امير علي الهندي قال:«ان حرص عمر علي مصلحة المسلمين دفعه الي اختيار هؤلاء الستة من خيرة اهل المدينة دون أن يتبع سياسة سلفه. و كان للامويين حزب قوي في المدينة، و من هنا مهد اختياره السبيل لمكائد الامويين و دسائسهم: هؤلاء الذين ناصبوا الاسلام العداء، ثم دخلوا فيه وسيلة لسد مطامعهم الاشعبية و تشييد صرح مجدهم علي اكتاف المسلمين.»(2)ان نظام المال الموضوع في عهد عمر فت في عضد الجيش، و قد اصاب

ص: 262


1- 205. المستشرقون يرون هؤلاء الستة اجتمعوا من تلقاء انفسهم، و يستندون الي ان رجلا مطعونا لا يستطيع ان يفكر تفكيرا ما في امر دقيق كهذا يستدعي توازنا في القوي و ضبطا لاعصاب التفكير، هذا صحيح، الا انه لا يدعونا الي الشك في انه رشح الستة المذكورين. علي ان ظاهرة هذا الضعف و ضحت ايما وضوح في وصيته التي كانت اقرب الي لاافكار المتقطعة المختلطة. فهو يتمني لو كان أبوعبيدة حيا، و يتمني لو كان سالم مولي ابي حذيفة حيا ثم يدل تارة علي علي (ع) و تارة يتردد، و يجعلها تارة في الستة و يأبي الا ان يتم انتخاب واحد منهم قبل موته ثم يمدده الي ثلاثة ايام من وفاته مما يجعلنا نعتقد أنه قد عرته مرضية جعلته يهجر. و هذه الظاهرة التي تطبع رواية وصيته تصححها بلا ريب لانها تحمل صفة من وهنه رحمه الله و أفسح له في رضوانه بما ابلي في سبيل الله و الاسلام.
2- 206. راجع كتاب المسمي «a short history of the saracens» ص 55.

(و لهاوزن) حين قال في كتابه (المملكة العربية و سقوطها): و كانت المقاتلة تحتمل مادامت تدر عليهم الغنيمة، و لكن أما و قد منع توزيع الاراضي عنهم، فقد لان عزمهم و وهنت شكيمتهم، و بعد أن كانت الحكومات تعتمد علي مساعدة الجيش أصبح الجيش يعتمد علي مساعدة الحكومة، و من ثم لا نعجب اذا ظن المقاتلة انهم خدعوا من جانب الحكومة. علي ان المحسوبية ذرت قرنها في التنسيقات و التعيينات و الاعطيات، و هذا ما يقوله الشاعر الثائر عبدالرحمن الكندي لعثمان:و لكن خلقت لنا فتنة لكي نبتلي بك او تبتلي فأعطيت مروان خمس العباد ظلما لهم و حميت الحمي(3)الشعور بالحاجة الي الاصلاح.(4)تجاوز السلطة.(5)التكتل الحزبي: فقد ذكر ابن الوردي في التاريخ ان هوي المصريين كان مع علي، و هوي الكوفيين مع الزبير، و هوي البصريين مع طلحة.هذه هي الثورة الاسلامية الأولي، و كانت ثورة اجتماعية سامية، ثم لا تقل شأنا عن أنبل الثورات الاصلاحية التي عرفها التاريخ. و لكن الحزب الاموي سممها و انحرف بها الي فوضي مهدمة خطيرة.و مهما كانت ثورة او فوضي فقد بنت الدولة بناء أقوي في الادارة و النظام، لو لا ما حفلت به من دماء زكية عزيز علينا طلها، و مصارع لم يزل لها في أعماق الذكري جراح و ندوب.

ص: 263

الحسين في عهد النبي

طفولة سامية

في منزل السمو النفسي و هيكل الروح الاقدس، حيث كانت عبقات السماء تهب مثلما يتضوع عبير الزنبقة في الليلة الحالمة الأضحيانة (1) ، و حيث كانت أرسال الملائك تتصل بالارض كما يتصل شؤبوب المطرة الريق، هذا ليمس التربة بالحياة و هذا ليمس النفوس بالمعني الحي، برزت من الغيب طفولة سامية...غرس بطل عربي - كما يسميه كارلايل - في طبيعة العرب نواة اتصلت و اتصلت، من فوق و مال الصحراء، و الصحراء أبدية مكشوفة، و لكن النواة لم تخرج عشبا أو شيئا يشبه العشب، و انما أخرجت انسانية مشبوبة لتحل في هيكل العالم الخاوي، و بقي الينبوع الصافي يطرد علي النواة ليتصل فيها الري، و من عين ذلك الينبوع تبلورت طفولة سامية...في الغار او في الكهف (2) اسرار مبهمة مجهولة، لا يزال الشعراء يقفون عنده و يستلهمون، و الحكماء يتطلعون اليه بعيون نهمة و يستلهمون، لأن الحقيقة العظمي

ص: 264


1- 207. الاضحيانة هي الليلة المقمرة الشديدة الضياء.
2- 208. اجري افلاطون في الغار او الكهف خياله في المثل و المثاليه.

تتخذ أصدافها منه، و لكنها تجذب اليها البشري الكامل لتحل فيه، فدخل النبي (ص) الغار و خرج منه بمعناه، فلم يعد في الغار ذلك السر المبهم، لان الغار اطلع سره ليمشي في ضوء النهار، و من اسرار الغار الاقدس انفصلت طفولة سامية...حينما ضفر اكليل الغار علي فتي الغار (ص) الذي انتظم الامجاد مجدا الي مجد، كما تنتظم الازاهير علي خفاف الوادي، اشتقت من منظومة الامجاد طفولة سامية...قانون الوراثة ناموس طبيعي، و الوراثة كهربائية خفية تنتقل بتيارها في مراحل النسل الممتد، فتلك الوراثة السامية أعطت هذه الطفولة السامية...ليست الارستقراطية الحقيقة بما يحتبك للمرء من ظلال الدنيا التي تغيب في عين الشمس، و انما هي شي ء في الدم و معني في الروح، و ما خرج عنهما أو وقع دونهما فسخريات و أشباه سخريات، فلله كم اجنت بما فيها من الوراثات تلك الطفولة السامية...ان التهاويل التي يجمعها المرء من حوله، حتي يبيت منها في اطار، لا تجعله هائلا ما لم يكن هو كذلك، لأنها ظلال لما ثبت منها في الدم، فاذا لم يكن له دم العظامي فلا تزيده تهاويله التي سور بها نفسه، عن أن يكون دمية تسند الي حائط او تنقش فيه لتكون مجلي للفن، و أما حقيقة الدمية فهي (1) ساقطة بين الفن الذي تلبست به و بين الناظر الذي أخذ بما فيها من بدوات الرواء؛ فلله كم ثبت من التهاويل في تلك الطفولة السامية...طفولة خرجت سامية و كبيرة بما اجتمع لها من الوراثات ساعة انفصلت من عالم و استقرت في عالم، و هي هي بين العالمين محدودة بمعني السمو و الكبر.

ص: 265


1- 209. اكثر الذين يظهرون بهذه التهاويل يفتقرون اليها، كالمثل الذي يقوم بدور الملك يضم اليه اثوابه و مظاهره و لكنه لا يكون بها ملكا الا بمقدار ما بشبع عبث الجمهور المشاهد و يشيع فية البلاهة.

طفولة لم تكن تزهو بحركة العصب و الدم، بل بحركة المعني الثابت في الدم، فهي تحمل في معني طفولتها معني سموها ايضا...طفولة لولا ما دخلها من عنصر الزمن، لكانت حقيقة الكبر في الكبير، فكم من كبير هو طفل في مداه، و طفل هو لكبير في مداه و معناه...

ص: 266

اذان

في أمسية يوم من أماسي شعبان (1) ، ولدت فاطمة حسينا، فأخذه النبي (ص) و أذن في أذنه كما يؤذن للصلاة.أذان كان همسة ناعمة خافتة، و هو نداء الروح للروح، و ليس نداء الاشباح للاشباح لتجتمع علي عمل الطقوس. انه نداء يحمل الي القلب سر وجوده، و الي الضمير سر العبادة، و علي موجاته الاثيرية تتلاقح الروحان. ان نداء الاشباح نداء للروح الشاردة الحائرة، و هذا نداء حتي لا تشرد الروح أو تتحير. و هو بعد ذلك سكب لكل المعني في كل الظرف حتي يتبلور به، فلا يكون له وجود دونه او بعيدا عنه.و هو اعلام للروح الطبيعية، قبل ان تتناولها أشياء الحياة، بأن هذا مبدأها و هذا

ص: 267


1- 210. روي ابن الاثير في «اسد الغابة» انه ولد في ليال خلون من شعبان سنة اربع، و كذلك ذكر الاصبهاني في «مقاتل الطالبيين»، و ابن حجر في «فتح الباري»، و المفيد في «الارشاد» و الصبان في «اسعاف الراغبين». و لابن الاثير في اسد الغابة رواية اخري بانه ولد في السنة السابعة من الهجرة، ولمحمد ابن يعقوب الكليني في «الكافي» رواية بانه ولد سنة ثلاث. و اخرج ابوداود و الترمذي في «السنن» عن ابي رافع مولي النبي (ص) قال: رأيت النبي أذن في اذن الحسين حين ولدته فاطمة كما يؤذن للصلاة، و ذكر الصبان في اسعاف الراغبين أنه حنكه بريقه، و اذن في اذنه، و دعا له و سماه حسينا يوم السابع وعق عنه، و ذكر المفيد في الارشاد ان النبي عق عنه كبشا.

قاعدة وجودها، فلا تكون بعد ذلك الا مؤمنة تقية، لأن الايمان اول لون انصبغت به، و التقوي آخر لون تتشكل فيه.و الأذان، في أصل معناه، اعلان الانسان بأن الله يدعوه ليعمل في طبيعته عملية التصعيد التي ترسب ما علق بالطبيعة من أقذاء و ادران حالت بها عن أصل الفطرة.نبرات ينطلق بها لسان المؤذن، و لكنها ايذان بأن كل سمو و طهر، و كل فضيلة و معني انساني قد انطلق ايضا مع هذه النبرات الروحانية التي هي ليست من لغة صاحبها و لا من صوته، نبرات تعلو من فوق ضجيج الحياة و صخبها و من فوق الانسانية المختنقة بنسمات الضراوة و الحيوانية، لتردها الي الطهارة التي وضعها الله قاعدة لأعمالها. و قرار الاذان يتخافت في الضمائر بأن كلمة الله هي العليا، ثم ينقطع الرجع لتبقي تلك الحقيقة ناطقة وحدها رغم الاباطيل التي تميد.هذا الاذان بمعناه يهمس به النبي (ص) في اذن فتاه، ليقول لتلك الروح المرفرفة شيئا، و ليبذر في نفسه بذورا، اذا آذنت بالنماء أعطت الخير المطلق و الطهر المحض و الانسانية المهذبة.همسة ناعمة في أذن، الا أن رجعها في ضمير الفتي سيتصل و يتصل ما اختلجت الحياة به، و ستظل في أعماق نفسه نغما حيا يملك عليه اتجاهه نحو الفلاح و البر و العمل الصالح.ارسل النبي في ضمير الفتي هذا النداء ليظل انشودة نفسه اللاشعورية، و بذلك أقام في قلبه معبدا ينبض بأحاسيس التقوي، و في ضميره شعورا يفيض بأحاسيس الفضيلة ثم لا تختلف عليه. كما اقام في نفسه اذ أرسل هذه الكلمة الهائة مشعالا يضي ء عليه، فلا تخالطه ظلامية أو دجنة في سبيل حياته المطمئن.و الاذان نداء يمحو فتون الدنيا و أباطيلها من النفس ساعة، و هذا نداء في اذن المولود يحول دون ولادة الفتون و الاباطيل في دنياه، و بذلك يظل في دنيا الناس رمزا لشي ء آخر لا تكمل الا به.

ص: 268

أفرغ النبي (ص) بعضا من روحه في سريره الفتي، ليعطي بعضا من النبوة في بعض من أعمال الناس.بقي أذان النبي صلي الله عليه و سلم في أذن الفتي نشيد الانشاد في قلبه، فكانت آخر خلجات هذا القلب المفعم كأولها «الله اكبر؛ الله اكبر؛ لا اله الا الله».

ص: 269

درس و تحليل

اشارة

يحسن بنا ان نعرض الآن الي درس ناحية هامة من نواحي طفولة الحسين (ع)، و هي الوراثة و مكانها عنه.يظهر للباحث في قانون الوراثة بأنها علي صنفين: وراثة تاريخية، و وراثة تأثرية او انفعالية؛ و نعني بالاولي انتقال الصفات النفسية التي للاجداد الي المولود، و بالثانية انتقال انواع الشعور التي تتأثر بها الام الي الجنين؛ و هذا الصنف من الوراثة ثابت الأثر، و هو قانون طبيعي تخضع له جميع قوي الانسان و مداركه المادية و العقلية و الادبية. و الامثلة علي هذا كثيرة، و نذكر منها علي سبيل الايضاح ما يأتي:كان الفيلسوف (1) هوبس الانكليزي يعلل ما فيه من خلق الجبن، بما لاقته أمه من الأهوال في أثناء حملها به، حينما كانت العمارة الاسبانية المسماة ارمادة الشهيرة تهدد انكلترا، و تطوف حول سواحلها، و كان ما يتحمله اهلها من صورة اغارة الاعداء عليهم يلقي الرعب في القلوب.

ص: 270


1- 211. راجع كتاب: التربية الاستقلالية، ترجمة عبدالعزيز بك محمد ص 50.

و روي (1) احد العلماء ان والدة فلا كسمان النقاش المشهور، كانت مولعة بالفنون الجميلة و خصوصا النفش و التصوير، و كانت مدة الحمل تكثر من مشاهدة الرسوم و النقوش التي أبدعها أشهر الفنانين، فلما رزقت ولدها فلا كسمان ظهرت عليه و هو صبي ميول فطرية الي النقش و التصوير، و لما بلغ اشده أبدع أجمل التماثيل و أعظمها.و نحن، علي ضوء قانون الوراثة بصنفيها، نجتهد في أن ندرس الحسين (ع) و نفهم طباعه الثابتة و التي هي في حكم الثابتة.ذكرت في فصل التدين (2) ، من هذا الكتاب، أن آل هاشم مالوا، منذ أقدم التاريخ، الي التخصص بالشؤون الدينية، فكانوا يشرفون علي المناسك في الجاهلية و يتولون اعمالها بين ايدي الناس. و كان لهم بحكم هذا التخصص تربية خاصة تتصل اتصالا وثيقا بابداع الضمير الديني، و اذكاء الشعور ذي اللون التألهي. و بالفعل نري اكثر رجالاتهم في الجاهلية يضفو عليهم شعور من هذا القبيل، فهاشم و عبدالمطلب و ابوطالب، ثلاثتهم علي لون واحد من الاخذ الديني و الانتزاع الاجتماعي. و قد كملت الوراثة الدينية بالنبي (ص) اذ كان مظهرا للمضير الديني علي أتم أشكاله و أكمل أوضاعه.فالحسين كان اذا غنيا - ما في ذلك شك - بما تراكب في دمه من الوراثات الدينية المتصلة علي طول حبل النسل الممدود في أعماق الماضي البعيد.و لقد كان لهذه الوراثة بواد ظاهرة في كل تصريفاته الخاصة و العامة، و عليه فان من الواجب أن ندرس مآتيه علي ضوء هذه الوراثة الدينية النبيلة، و علي ضوء ما تضفي من أحاسيس تنزع بصاحبها الي المحافظة و التمسك بأهداب المثل، و ايقاع الجهود بسبيل صيانتها.

ص: 271


1- 212. راجع كتاب: التربية الاخلاقية للاستاذ ابادير حكيم ص 79.
2- 213. راجح الحلقة الثانية من هذا الكتاب.

هذا أثر الوراثة التاريخية في الحسين (ع). و الآن نتناول آثر الوراثة التآثرية فيه؛ نعلم أن السيدة فاطمة وضعت الحسين و لها من العمر عشرون (1) سنة تقريبا، و كانت - كما جاء في مناقبها - عملا برا و معني صالحا، فهي لا تفتأ جاهدة علي اعمال التقوي. و في سنة ثلاث للهجرة التي كان فيها الحسين جنينا، وقعت غزوة أحد، و هذه أحدثت أبلغ الاسي و أعمقه في النفوس عامة، و نشرت علي الوجوه نوعا من الكآبة، و مسحتها بسهامة قاتمة، بسبب ما اصاب المسلمين، حتي لقد دخلت الوتيرة و الذحل كل بيت، و النبي (ص) اصيب بعمه حمزة (ض).و هذا يشعرنا بأن السيدة فاطمة جزعت من نتائج هذه الغزوة التي لم تكن في جانب جيش ابيها، و أدركها الاسي العميق و الحزن المرير لفقد حمزة. و معني هذا ان الانفعالات التي تأثرت بها ورثتها لجنينها، و هي:(1)اخذ النفس بأعمال البر و التعلق بحبائل التقوي.(2)غلبة الشعور بنوع من الاسي، فقد كانت هذه الظاهرة واضحة عند الحسين في حياته. و لذا نراه قليل المرح قليل العبث كثير التفكير بمستقبل الامور وسط هذه الزعازع الناشبة و العالقة بأطراف المجتمع، و كان يميل في تفكيره الي نوع من اليأس.(3)نضج السخيمة عنده علي الناكبين عن طريق الهدي، فان السيدة فاطمة لا شك أنه قد ملك مشاعرها تحرق شديد للانتقام من اعداء ابيها و لو في التمني، و هذا الشعور ورثه الحسين، و شاءت الظروف أن يكون أعداء جده الذين و تروه في احد، هم اعداؤه يوم استقبل الامويين بالكفاح و قد و تروه ايضا.

ص: 272


1- 214. الخلاف في هذا يتبع الخلاف في سنها حين تزوجت من علي (ع)؛ فعند ابن سعد في «الطبقات» انها تزوجت بنت ثماني عشرة سنة، و عند الكلبي انها تزوجت بنت ست و عشرين سنة، و عند الصبان في «اسعاف الراغبين» انها تزوجت بنت خمس عشرة سنة، و عند الكليني انها تزوجت بنت اثنتي عشرة سنة؛ و الصواب من بين هذه الآراء انها تزوجت بنت ثماني عشرة، كما يقول ابن سعد و راق الواقدي.

فالحسين، من هذه الناحية، كان مثقلا بمتارك الوراثة التأثرية و متلبدات الوراثة التاريخية؛ و هو، من بين هاتين الوراثتين، كانت له سيرته الخاصة و نهجه الخاص الذي ينزل منه منزلة الطبع لا يحور عنه و لا يحول.و لقد ساعد هذه الوراثة علي اتباع خطتها، لون التربية في الطفولة، و مشاهد الرجولة الكبيرة الاهمية، و مروره بعدة ثورات لها خطرها، كالثورة علي عثمان و ثورة الخوارج علي ابيه و ثورة أهل المدينة التي كانت تعد في الخلفاء.فهذه الوراثة و ما اقترن بها من التربية و المشاهدات أعدت منه رجلا كبيرا خليقا بأن يقوم بتطبيق أفكار الاصلاح الشامل التي اعدها ابوه العظيم، و سلكها في نظام دستوري نضيد.و ان كنت أعجب من شي ء، فمن أولئك المؤرخين الذين يأخذونه بحركته و يعنفون عليه، و نحن في كل يوم نحيي، كأبطال، الرجال الذين يثورون علي حكوماتهم الفاسدة لقلب وضع و تركيز وضع، و ننتزع منهم عناوين مجيدة عن القلب الكبير النبيل الذي يفيض بأسمي معاني الاخلاص، من هؤلاء أو اعظم هؤلاء كان الحسين بن علي...

ص: 273

المربت او المزبي النبوي

اشاره

كلمة من وضعنا بمعني (روضة الاطفال)، من مادة ربت اي ضرب علي كتف الطفل لينام؛ و يرجع الفضل في انشاء المربت الي فريدريك فروبل الالماني الذي درس طبائع الاطفال و ملكاتهم، و وضع المبادي ء الاولية لتربيتهم. راجع كتاب التربية الاخلاقية ص 15.حفل النبي (ص) بمولوده، ثم انصرف اليه يمارس فيه عمل الانسان الكامل، حتي اذا تركه ترك فيه انسانية رفيعة علي الشكل الذي وضع الله تصميمه في القرآن.فالنبي (ص) كان يحاول ان يفرغ ما انطوت عليه نفسه الكبيرة من مكنونات افراغا في روح الفتي، بأسلوب، كما تشاء الطفولة، يجمع بين طراوتها و بين جد المعني الكبير الذي يعده له، و كان يعمل علي ان ينفض في رقعة نفس الفتي ما اجتمع في رقعة نفسه، و انما استوي في نفسه (ص) الانسانية المثالية و المعني الاتم للحق و الايمان.فالمربت النبوي أخرج اثنين فقط، كان احدهما مثالا لكلمة الحق الهادئة، و كان الآخر مثالا لتلك الكلمة أيضا حين تشتق طبيعة الناس من طبيعة الحديد المتراكب بالصدأ، و لا تجلو طبيعة الانسان الا صرخة الحق المدوية، كما لا يجلو طبيعة الحديد الا هدير النار الفائرة و تلظي الجمر الوقيد. فأحدهما

ص: 274

مثال للداعي الي الحق، و الآخر مثال للمحامي عنه الذي يغمس نفسه بالنار الملتهبة دونه، و هو واثق أن هذه النار التي أعدت له حتي تسجر عليه دعوته، سيترك فيها كلمة الحق التي تدع النار تؤج و تؤج، ثم لا تتناهي الا بالتهام الذين سجروها انفسهم.و الذي نعلم من اساليب النبي (ص) التربوية للطفولة أنه يأخذ الجسم و العقل و النفس جميعا بعمل مشترك، من شأنه توزيع النماء علي هذه القوي، فلا تضعف قوة بسبيل الاخري، و هو من وراء ذلك يغمره بالحنان، ليشعره بوجوده الذاتي، و تتكون بذلك شخصيته الاستقلالية.ذكر ابورافع مولي النبي (ص) انه كان يلاعب الحسن و الحسين بالمداحي (1) و عن ابي هريرة ان الحسن و الحسين (2) كانا يصطرعان بين يدي رسول الله (ص). و عن يعلي (3) العامري ان رسول الله (ص) خرج الي طعام، فاذا حسين في السكة مع غلمان يلعب، فتقدم رسول الله امام القوم و بسط يديه، فجعل الغلام يفر ها هنا و ها هنا، و جعل رسول الله يضاحكه حتي اخذه فوضع احدي يديه تحت قفاه، و الاخري تحت ذقنه، و قبله.و عن شداد، قال: خرج علينا رسول الله في احدي صلاتي العشاء و هو حامل حسينا، فتقدم النبي (ص) فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، فرفعت رأسي فاذا الصبي علي ظهره و هو ساجد، فرجعت الي سجودي فلما قضي الصلاة، قيل: يا رسول الله انك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتي ظننا انه قد حدث امر أو انه يوحي اليك، قال: كل ذلك لم يكن، و لكن ابني ارتحلني فكرهت ان اعجله حتي يقضي حاجته.

ص: 275


1- 215. ذكره ابن الاثير في «النهاية». و المداحي: احجار يحفرون لها حفرة، و يدحي الملاعب، فان استقر الحجر فيها غلب و الا غلب.
2- 216. ذكره ابن الاثير في «اسد الغابة» ج 2.
3- 217. ابن ماجة في «السنن» و ابن عساكر في «التاريخ» ج 4، ص 315. و قد عقدنا لشرح ما انطوي عليه من معان وجدانية في فصل خاص من الحلقة الثالثة التي خصصناها بالناحية الادبية و النفسية العالية.

و ذكر البزاز الكردري ان عبدالرحمن السلمي كان يعلم الحسن و الحسين القرآن.هذه بعض من اخبار الحسين (ع)، و هي ترينا الوان التربية التي كان النبي يأخذه بها، و فيها كل ما يحسب من سمو و كل ما يراد من تكميل. و في تناول النبي (ص) هذه الحقيقة الكونية بكل حنانه اشعارها بأن تتناول الانسانية بكل حنانها.

درس و تحليل

يحسن بالدارس أن ينعم النظر كثيرا في هذه الفترة من حياة الحسين (ع)، لانها تفهمنا سر حركاته التي أتاها في أزمان رجولته، فان هذا الوجود الصغير للكائن يطبع عليه وجوده الكبير بطوابع قلما يتحلل منها او ينفصل من آثارها. فتعهد الطفل في هذا الدور هو ما يجعلنا نطمئن اليه و نثق به، فان رعاية غرائزه و توجيهها يحفظ عليه توازنه الذي هو اس الشخصية الكاملة.و يجدر بي أن انقل تصوير الاستاذ بستالوزي و تمثيله الرائع للتربية، قال:(تتمثل لي التربية بشجرة مثمرة، بجانب جدول مياه جار، و ما أصلها الا حبة صغيرة اودع الخالق فيها شكل هذه الشجرة و خواصها و أثمارها، فلما غرست و تعهدها الزراع بما يساعد الطبيعة علي عملها ظهرت تلك الحبة في شكل نبات ثم نمت و ترعرعت حتي كبرت و أينعت و أثمرت، و ما هي الا الحبة الصغيرة مكبرة نامية.و هذا هو الحال في الطفل الذي اودع فيه الخالق تلك القوي التي تنمو و تظهر معه بالتدريب، فتنمو أعضاؤه و ملكاته تدريجا حتي يصبح من مجموعها وحدة. فيجب علي المربي ان يساعد قوي الطفل البدنية و الادبية و العقلية علي النمو الطبيعي، دون استعمال الطرق الصناعية، فينبغي ان ينمي الايمان في الطفل لا بالكلام النظري، بل بما ينشأ عليه الطفل بتصديقه الفعلي و رسوخ الاعتقاد في نفسه).

ص: 276

هذا تمثيل حقيقي لعمل التربية في انماء القوي الادبية و ما اليها، و هي لا تزال تعمل عملها حتي تعود الادبيات ملكات راسخة؛ و بذلك يتحقق الغرض الاسمي من التربية الأخلاقية الذي هو ان تستحيل الأفعال الاخلاقية الارادية افعالا لا ارادية «علي ما يقول لوبون في كتابه: روح التربية».هذا الغرض التربوي هو الذي اراد النبي (ص) ان يشيعه في نفس الغلام، و كذلك علي (ع) من بعده الذي ما فتي ء يمده بالمعنوية المتدفقة، تلك المعنوية التي لم يكن يدركها انحسار بل هي في مد علي الدوام، و ذلك لأن ايمانه غرس الطفولة و الشباب و الكهولة و الهرم، فأدبيات الاسلام و مثالياته عادت في نفس الاب من الصنف اللاارادي.و الاسلام، في طقوسه و رياضاته، يرمي الي هذا الهدف العميق، الهدف الذي كان يعمل له اهل اسبرطة القدماء - كما يقول مونتسكيو في كتابه: روح الشرائع - فانهم كانوا يفهمون التربية لا علي شكل أن يكون المرء معها فاضلا، بل علي شكل ان لا يمكن أن يكون الا كذلك. فأعمال الفضيلة عندهم لا تكون شيئا اذا كان يصحبها القصد الأخلاقي، فانها بذلك تكون متكلفة سرعان ما تحور اذا وجدت الدوافع عنها و الجواذب الي منافياتها؛ فالاسبرطي كان يصدق، لا لان الصدق فضيلة و عمل من الأخلاق، بل لانه كذلك ينبغي أن يكون.فهذا النوع من التربية عند الاسبرطيين هو ما قام عليه الاسلام، فالمسلم الصحيح الاسلامية فاضل عصبا و دما قبل أن يكون كذلك في الميل و الشعور. و للمسلم طبيعة كأنها مشتقة من طبيعة الآلة كيفما اقمتها لا نتج الا ما استوي في تركيبها؛ و تركيب المسلم الصحيح استوي علي مثل من الفضيلة و أعمال من الاخلاق، فهو لا يجاوزها الا اذا لم يكمل تركيبه الاسلامي او نقص منه شي ء افسد علي الآلة حركتها.فالنبي (ص)، كذلك اراد سبطه، فبارك طفولته و أخذه بضرب من التهذيب العميق الذي كانت له نتائج مثلي بما يدعونه في الفسلفة بالفعالية الصامتة

ص: 277

الكامنة في النفوس. قال (1) بعض كبار النفسيين: (لا نعرف ماهية هذه الفعالية الصامتة حق المعرفة، من ذلك لو قلتم لنفس من النفوس كلمة بسيطة لم تفقه لها معني، لظننتم كلمتكم هذه لم تلبث اذ عاشت أن تلاشت، و لكن يأتي يوم تظهر فيه هذه الكلمة ثانية بعد أن طرأ عليها تحولات غريبة فيراها الانسان قد جاءت حينئذ بثمرات كثيرة لم يكن يتوقعها. فالنفس تحول ما نودعها اياه من الاشياء البسيطة الي أشياء خطيرة رائعة).فهذه لفعالية الصامتة كان لها عمل في تحويل ما استودع النبي (ص) في نفس الغلام من الوان و تكبيرها، حتي انها لتفيض بالروائع لانها الوان اجتازت (2) عتبة الشعور، و استقرت حيث تعود مؤثرا أعظم فيما يصدر من الانسان مباشر او بوسيلة ما.نحن لا نشك بأن نصيبه من تربية النبي (ص) لم يكن طويلا، و لكن ليس معني هذا انه لم يكن كبيرا بما ترك من آثاره النفسية عليه. فان الحسين (ع) عايش جده الي ما بعد السادسة من عمره، و لا ريب في انها سن تسمح لصاحبها بأن ينقل الي دخيلة نفسه كثيرا من مشاهداته، يساعده علي ذلك الخلو النفسي. و هذه المشاهدات تركت في نفسه آثارا لها شأنها و لها خطرها. و اذا نظرنا الي ان النبي (ص) علقه و اخاه حتي عدهما ريحانتيه، وقفنا علي مقدار ما زودهما به النبي من آيات تربيته العالية، و ما أغدق به عليهما من هبات نفسه الكبيرة. و الظاهرة البادية في تربية النبي التي كانت لا تخفي حتي كأنها المدار التربوي هي الأخلاق و الاخلاق قبل كل شي ء. و هذا اساس متين، فان الاخلاق عامل تقدم و بقاء، كما ان انحلالها عامل السقوط الآكد، علي ما يظهر من مطول (جيبون) المؤرخ المشهور عن رفعة

ص: 278


1- 218. راجع كتاب الفلسفة الحديثة ج 1، ص 65 تعريب جميل البحرة. و رأيت في كتاب: درس في الغرائز ان اباالعلاء كفته الحاسة التي بقيت عاملة عنده الي سن الثالثة ان تزوده بخيال تصويري عميق فتأتي له معها ان يتخف الادب بكثير من الصور البصرية الرائعة.
2- 219. le seuil la conscience للعلامة بوانكاره في الاتية التي لا يشعر بها بحث دقيق.

الدولة الرومانية و سقوطها. و اظهار روائع التربية النبوية عليه هو ما أوسعناه و انصرفنا اليه في الحلقة الثالثة من سيرة الحسين (ع). و من المستحسن ان انقل هنا ما جاء في (1) مؤلف بستالوزي النفيس فيما يتعلق بالتربية الدينية، لنشخص اثر والدته فيه، قال:(و هنا أسعي لحل مسألتي في نفسي، فأسأل: كيف تولدت فكرة الله في نفسي؟ و كيف وصلت للاعتقاد فيه تعالي، حتي ارتمي بين ذراعيه و أشعر بنعمته كلما احببته و اعتمدت عليه و شكرته و أطعته؟.فأري ان هذه الاحساسات - احساسات المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة - لابد من وجودها في داخلي قبل أن أشعر بها نحو الله تعالي. اذ يجب أن يكون لدي هذه المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة نحو الناس قبل شعوري بالمحبة و الشكر و الثقة والطاعة نحو الله تعالي، من لا يحب اخاه الذي يراه، كيف يمكن ان يحب الله تعالي الذي لم يره؟.حينئذ أسأل نفسي: كيف وصلت الي محبة الناس و شكرهم و طاعتهم و الثقة فيهم؟. و كيف نمت هذه الاحساسات في طبيعتي حيث تسكن المحبة الانسانية و الشكر الانساني و الثقة الانسانية و الطاعة الانسانية؟ فأجد أن الاصل الوحيد لكل هذه العواطف تأتي من العلاقات الكامنة بين المولود والدته. فالوالدة بما اودع فيها من الغريزة الفطرية مدفوعة الي العناية بمولودها فيبتهج خاطره، و من ذلك تتولد في فؤاده عاطفة المحبة و الثقة و الشكر. يعرف الطل وقع قدمي والدته و يبتسم كلما شاهد خيالها، و يحب كل من علي شاكلتها، و يعتقد ان كل مخلوق مثلها هو مخلوق طيب، فكما يبتسم في وجه والدته يبتسم في وجه كل انسان: يحب كل من تحبه و يعانق كل من تعنهم، و من ذلك تتولد فيه عاطفة الانسانية و الاخاء.فالمحبة بنت الحاجة و عنها نشأت. و الشكر مولود التغذية، و لولاها لما ازهر في فؤاد الطفل، و الثقة بنت العناية، و الطاعة وليدة القلق، فنري الطفل يصرخ و يقلق

ص: 279


1- 220. اسم هذا المؤلف how Gertrude teaches her children اي كيف تعلم جرترود اولادها.

قبل تعلمه الصبر و الطاعة، و مع أن القلق و الصبر متناقضان، فان اولهما يؤدي الي الثاني؛ و من هذا ينتقل الطفل من درجة الطاعة القهرية الي الطاعة الاختيارية التي تنمو مع الزمن بزيادة الادراك و نمو الاختبار.من ارتباط الطاعة و المحبة و الشكر و الثقة و اتحادها في نفس الطفل يتولد الضمير و به يشرق علي عقل الطفل، لاول مرة في حياته، ثم يرتقي ادراكه فيعلم أن كل ما في الوجود لم يخلق له وحده، ثم (1) يتدرج في سلم الترقي حتي يصل الي اعلي درجات الشعور الانساني، فيدرك انه هو نفسه لم يخلق في هذا الوجود لذاته، و من هنا يبدأ بمعرفة الواجب و الحق.هذه امهات الفضائل الادبية، و جميعها منبثقة من العلاقات الكائنة بين الوالدة و مولودها. و متي نما و قوي و أنس من نفس القدرة علي القيام بحاجاته، دبت في صدره روح الاستقلال و شعر أن له شخصية مستقلة عن والدته، و بزوال حاجاته الاولي نحو والدته تضعف من نفسه تلك العواصف و الفضائل التي غرستها هذه الحاجات. حينئذ تحدثه نفسه الامارة بالسوء، فيقول (انني لست في حاجة بعد الي والدتي) و هذه الفكرة لابد ان تصطرع في نفسه، بمجرد شعوره بالاستقلال؛ و واجب الام هنا عظيم جدا و الا تهدم عليه بناء المبادي ء الادبية التي آنس بها و هو فطيم، و لا وسيلة لانقاذه من هذا الموقف الحرج الا بتوجيه عواطفه و عقله الي قوة اعظم و قدرة اتم و أوفي من قوتها و قدرتها، مرشدة له بأنه و ان زال احتياجه اليها، الا أن خالقه و خالقها و موجد هذا الكون و الوجود و مبدع جميع الكائنات، هو الذي يجب الاعتماد عليه و الرجوع اليه، و هو الذي يمده بالمساعدة التي تعجز هي عن تقديمها له كلما التمسها منه تعالي، و هو مصدر كل راحة كما انه الذي يمهد له سبل السعادة التي ليس للوالدة اليها سبيل.

ص: 280


1- 221. قال بستالوزي، في موضوع آخر من مؤلفه: واجب الام في هذه الادوار عظيم جدا و توفيقها في مهمتهما التربوية يرجع الي درجة استعدادها هي و تهذيبها. و السيدة فاطمة ابنة الرسول الاعظم كانت اوفر ما يكون استعدادا و اسمي يكون تهذيبا.

بهذه الوسيلة تمنع الوالدة الحكيمة ولدها من السقوط في هذه النقيصة، و تغرس في فؤاده شعورا حيا و مقاصد عالية، و ايمانا ثابتا في الخالق يرتفع بنفس المولود عن مستوي هذه الماديات المحيطة به، فيبتهج كلما سمع من فم والدته اسم ذلك الخالق القوي الرحيم، و يشعر فؤاده نحو الله بذلك الحب و الشكر و الثقة التي كان يشعر بها نحو والدته، فيتطلع اليه تعالي كوالد رحيم.متي غرست في فؤاد الطفل هذه الفضائل نحوه تعالي، خطا نحو الفضيلة و التقوي خطوة واسعة، لأن الشاب الذي يتطلع الي الله و هو في عنفوان شبابه، كما كان يتطلع الي والدته في سني طفوليته، يقوم بعمل الواجب و الصواب حبا في الله كما كان يعملهما حبا في والدته.علي هذه الملاحظة الجديرة بالاعتبار، يجب ان تؤسس التربية الاخلاقية، فاننا اذا ادركنا ان عواطف المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة هي ثمرة ائتلاف غريزي بين الوالدة و المولود، امكننا ان ندرك ان نمو هذه العواطف و الفضائل يتوقف علي مقدار تشبع نفوسنا و العمل بمبادي ء الاخلاق؛ يجب علي الوالدة ان توقن أنه لابد من يوم في حياة كل مولود في هذا الوجود، تضعف في نفسه تلك الاسباب، و يشعر فيه باستغنائه عن والدته؛ و بدخول هذا الشعور الي نفسه، تضعف هذه العواطف فيه نحوها، و بهذا يتسرب اليه الضعف الاخلاقي الذي يجعله عرضة لأخطار أدبية مخيفة. فالطفل كما لا حظنا فيما سلف يحب والدته و يشكرها و يعتمد عليها مادام هو في حاجة اليها، كذلك هو يحب الخالق تعالي و يشكره و يعتمد عليه مادام يشعر باحتياج اليه؛ و بزوال هذه الاسباب تزول نتائجها، فتضعف العواطف الطيبة في فؤاد الطفل نحو والدته حالما يشعر باستقلاله و عدم حاجته اليها).من هذا نتبين أن الطفل يتعرض الي دور انتقال خطير، و الام وحدها هي التي تستطيع انقاذه و الاستيلاء علي مشاعره لتوجيهها توجيها آخر يكون اكثر ثباتا، و هذا التوجيه الذي هو من وظائف الام الاولية يتوقف و يتفاوت علي ما استوي في نفسها من ادبيات سامية و أخلاق رفيعة.

ص: 281

و الذي انتهي الينا من مجموعة أخبار الحسين (ع)، أن أمه عنيت ببث المثل الاسلامية الاعتقادية، لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة علي اتم معانيها و أصح أوضاعها، و لا بدع فان النبي (ص) اشرف علي توجيهه أيضا في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال.فالسيدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير و الحب المطلق و الواجب، و مددت في جوانحه و خوالجه أفكار الفضائل العليا، بأن وجهت المبادي ء الادبية، في طبيعته الوليدة، من أن تكون هي نقطة دائرتها الي الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.و بذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادي ء الادبية علي شخص والدته، و قصرها عليها و ما تجاوز بها الي سواها من الكوائن. و رسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز، ثم أدارت المبادي ء الادبية و الفضائل عليها، فاتسعت نفسه لتشمل و تستغرق العالم بعواطفها المهذبة، و تأخذه بالمثل الاعلي للخير و الجمال.

ص: 282

سلام عليه يوم ولد

جاء في اخبار الحسين انه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال (1) جده العظيم، فأفاض النبي عليه شعاعة غامرة من حبه و أشياء نفسه، ليتم له ايضا من وراء الصورة معناها. فتكون حقيقته، من بعد كما كانت من قبل، انسانية ارتقت الي نبوة «أنا من حسين»، و نبوة هبطت الي انسانية «حسين مني».فسلام عليه يوم ولد...الطفولة انسانية لم تمسها ضراوة الغرائز و شهوات العقل، كالمطرة قبل أن تمسها الارض بتربتها فتدخل عليها الوانا ليست من معناها و لا من طبيعتها.ثم تتفاضل الطفول بالبيئة التي تمر منها الي الحياة، كتلك المطرة اذا حلت في قارورة او حلت في تربة.

ص: 283


1- 222. هذه الشكلية خاضعة لقانون «الاتافيسم» الذي ترجمناه بقانون (التجدي) من تجدد بمعني تشكل بشكل الجد؛ و قد جاء، في الاصول الاشتقاقية التي اقررناها في كتابنا؛ مقدمة لدرس لغة العرب، أن المضعف الثلاثي اذا صيغ علي وزن تفعل جاز قلب لامه في التكرار حرف لين مثل تظنن، قال العرب: تظني؛ و تمطط، قالوا فيها: تمطي. و نحن اجريناها قاعدة في الاشتقاق مع اختلاف المعني دفعا للبس. و عليه فتجدد بهذا المعني خروجا عن اللبس بتجدد بمعني التجديد: نقلب اللام فيه حرف لين و نخصه بمعني الذي اتخذ صورة الجد، و بذلك تكون ترجمة حقيقة للكلمة اتافيسم.

و الحسين الطفل حل في بيئة النبوة التي هي الانسانية العليا في المظهر البشري، فكان بذلك اسمي (1) رجل لانه اسمي طفل في اسمي بيئة.فسلام عليه يوم الولد...حينما فصل الحسين (ع) من قوة في النواة، الي كائن مبسوط تمددت فيه القوة علي شكل آخر، خرجت خصائص الوراثة من (2) نقطة الدائرة الي محيطها.فسلام عليه يوم ولد...علق النبي (ص) حسينا، لأنه رأي ظله و رأي حقيقته في الطفل الوليد، فحب النبي له لم يكن بمحض العاطفة فقط، بل بشعور آخر أيضا هو الابقاء علي الذات.فسلام عليه يوم ولد...«اللهم أحبه فاني أحبه» كلمة كأنها الوسام من النبي (ص) لمولوده الصغير؛ و الوسام، في لغة المراتب الاجتماعية، منبهة لحامله علي انه قام بعمل عظيم. و هذا و سام ينبه علي عمل خالد سوف يقع من الطفل الجديد؛ و لم يمنحبه قبل الاستحقاق، لان عمله الخالد سيكون تضحية رهيبة تضع حدا للحياة.فسلام عليه يوم ولد...النبوة طاقة تغلب المادة و تتمدد في القلب و العقل و الضمير، و الحكمة طاقة تغلبها المادة الا انها تسيطر علي القلب و العقل و الضمير.

ص: 284


1- 223. يقول المثل الانكليزي (الطفل ابوالرجل) و معناه ان ما استقر في الطفل من كمال او نقص، هو الذي يبعث الرجل ذا الكمال او النقص؛ وليس من يرتاب في ان بيئة النبي (ص) ارفع بيئة، و ان الذي استقر في الحسين الطفل هو اشياؤها، فلم يبق ريب في ان الحسين لا يمكن الا ان يكون اسمي رجل، فان طفولته كانت ابا رجولته.
2- 224. نعني بهذا أن خصائص الوراثة، بعد ان كانت مجتمعة في النبي (ص) الذي هو نقطة الدائرة، انتقلت بالحسين و اخيه اللذين هما الحافظان للنسل النبوي من الانقطاع، الي محيط اوسع شكل دائرة كبري.

و الفرق ان هذه تبدأ سيرها من المادة الي ماوراء، و تلك تبدأ السير من الطاقة الي ماوراء، و بينهما ان الاولي الا تخرج عن المادة الا بمقدار فهي فيها ابدا، كما ان الثانية لا تتصل بالمادة الا بمقدار فهي فوقها ابدا، و النبوة الصغيرة حكمه كبيرة.فسلام عليه يوم ولد...يقول السيد الطباطبائي:غرس سقاه رسول الله من يده و طاب من بعد طيب الاصل فارعه النبوة ليست شيئا من عمل الدنيا، الا فيما يتصل بصلاحها و تهذيبها، فميراثها لا يدخل في زخرف الحياة الذي هو سر التراب، و انما يدخل فيما ينتظم التقوي و الفضيلة مما هو سر القلب و معني الوجدان.و كان سر قلب النبي (ص) هو ارث الحسين منه، فطاب من بعد طيب الاصل.فسلام عليه يوم ولد...لاول مرة يخشع الكمال الانساني علي منظرة الجد و السبط في ساعة قبلة او عناق يدغدغ احلام الروح، و يمسها بتيار جديد يجعلها و ضية في تسام أبدي. خشع الكمال الانساني لاول مرة و بارك ما يري.فسلام عليه يوم ولد...نظر النبي الي الحسين طويلا ليري اين هو من طبيعته، و نظر الحسين الي النبي كذلك ليملأ منه و يفجر ينابيعه، ثم انصرفنا بمعني واحد: هذا صوب الماضي، و هذا صوب المستقبل. و لكن الجد سار و هو يلتفت الي سبطه الذي اسلمه الي المستقبل في حنان و حذر.هذا المستقبل الذي لم يثبت في طبعه من غصن (1) الزيتون الا انه يثمر حبا

ص: 285


1- 225. في غصن الزيتون معني رمزي، فاذا اسفت الانسانية و غدت تقيس قيم الاشياء بمقاييس المعدة، لم يعد لغصن الزيتون معني سوي انه يثمر حبا يدخل في اشياء المعدة.

يلهي المعدة، فلم يأمنه علي طفله الذي ارسله بقبس الهيكل.فسلام عليه يوم ولد...ارتحل الحسين (ع) ظهر جده العظيم و هو ساجد في الصلاة، و جاء في الحديث ان أقرب ما يكون المرء من ربه و هو ساجد.و معني هذا ان النبوة الساجدة كانت معراجا روحيا لهذا الطفل الذي استودع فيه النبي اسراره العظمي و انسانيته العليا.فسلام عليه يوم ولد...

ص: 286

الحسين في عهد الخلفاء الراشدين

في عهد أبي بكر

الذي في معرفتنا من أخبار الحسين (ع) في عهد ابي بكر (ض) قليل للغاية؛ و الشي ء المحقق انه كان في التاسعة من عمره، و انه رزي ء بامه، و هو رزء أحس بعظيم وقعه، و كان له بلا ريب رجع عميق في نفسه الغضة اللدنة، و أنه شهد اباه اذ أقام أمدا ليس بالقصير علي خلاف ابي بكر، و أنه انطوي علي شعور طفل مغيظ محنق حين أخذ ابوه بسياسة العنف و الشدة، علي ما اجمعت عليه الروايات، فقد كان بيته - في لغة هذا العصر - مراقبا (1) ؛ فهذا الضرب من السياسة كان له أثره في موطن شعور الحسين. لذلك نتعلق في هذه المرحلة من حياته بدراسة تربوية نفسية.رغم الفلسفات المختلفة في الاسلوب الي حد التباين التي تدرس اسرار النفس و الحياة، و هي: نظرية الحيويين (2) و نظرية المعضونين

ص: 287


1- 226. ذكر الطبري في «التاريخ» ج 4 ص 42 ان ابابكر قال: وددت اني لم اكشف بيت فاطمة و لو انهم غلقوه علي الحرب.
2- 227. النظرية الحيوية (Le vitalisme) تعتبر الحياة سلسلة من العوارض، و المادة سلسلة اخري؛ و يقول انصارها بتضامن السلسلتين و تباين منشأيهما. و هذه النظرية تفرعت من المذاهب الروحية و اشتهر بها شتاهل و لوردا. ان مبدأ الحياة علي آراء علماء مدرسة مونبيليه يخالف مبدأ الروح و مبدأ الجسم، و لهذا تنوعت العوارض التي تظهر في الانسان الي انواع ثلاثة و هي العوارض الطبيعية الكيماوية و هذه تنشأ من قوات الجسم المادية، و عوارض المفكرة و هذه تنشأ من الروح، و عوارض الحياة و هذه تنشأ من القوة الحيوية.

الفيزيولوجيين (1) ، و نظرية الحيويين البيولوجية (2) و نظرية الروحية الحديثة (3) يتفق العلماء علي الاعتراف بأثر البيئة في البناء الروحي للكائن، و برابطة الجبر الكلي بين لون التفكير و البيئة.و البيئة ذات تأثير مادي علي النفوس؛ و هذا التأثير يؤدي الي شكلين من الخضوع، ينحصر الاول منهما في الاستسلام شيئا فشيئا لعادات و أحكام استسلاما غير مدرك و متنوع الدرجات، فترسخ هذه في الزمن خلسة و تبقي في مأمن من روح النقد، و يصور الاستسلام احيانا للانسان الخطأ صوابا و الظن حقيقة ثابتة و الباطل حقا، فقد يضعف هذا التأثير روح العدل عند القاضي ان قيده المشترع بتطبيق قانون عرف انه مخالف للعدل، و تهيج البيئة الخمار فيدمن الخمر، كما تحرض أنواع البيئات افرادها علي الاخذ بأنواع معينة من الشعور و التفكير و الحركة. و أما الشكل الثاني و هو مكمل للاول فينحصر في ان الخاضع لتأثير ما ترفض نفسه كل تأثير من نوع آخر، الا اذا كان للتأثير الجديد تيار شديد جارف.و بيئة الحسين اخذنا عنها صورة في درس الطفولة، و الذي خرجنا منه هناك أن بيئته كانت ينبوعا جري بأرفع عقيدة مثالية، هذا الينبوع الذي انقلب سريعا الي محيط خضم جرف في طريقه كل مثالية لكل امة.فالحسين من هذه الوجهة غذي بلبان العقيدة و نمت أعصابه علي نميرها، و كان

ص: 288


1- 228. نظرية التعضون الفيزيولوجي (L organicisme) و انصارها يعتبرون ان مبدأ الحياة و مبدأ المادة شي ء واحد، فهم يرفضون النظرية الميكانيكية اذ لا يعتبرون الحياة نتيجة نهائية لحركات منشؤها ما للمادة من الصفات العامة بل يقررون أن الحياة ناشئة عن صفات خاصة سموها الصفات الحيوية و يتصف بها نوع معين من المادة.
2- 229. النظرية الحيوية البيولوجية (neovitalisme)انصارها يعتبرون مبدأ الحياة مختلفا عن مبدأ المادة.
3- 230. النظرية الروحية الحديثة (animisme) انصارها يقررون وجود روح و خضوع المادة لها، و يقولون بوجود قانون مطلق نافذ الحكم علي العالم المادي و ما الحالات العقلية الا حالات تطرأ علي الروح. و عندهم الروح بمثابة قوة عالية مهيمنة توجد حركة القوات المتعددة و تدفعها نحو غاية واحدة؛ و بهذا يفسرون ما يوجد بين الحياة العقلية و الحياة العضوية من التوافق.

ميراثه العقلي منبثقا منها. فلم يكن قبليا، لأن القبلية قد هوي بنيانها، و لم يكن ذا عصبية في غير عصبية الدين، و كان متشبعا بمبادي ء المثل الاعلي بمقتضي النشأة. و هذه نتيجة طبيعية للبيئة ذات الطابع الخاص، و لا نعلم تأثيرا جديدا كان له ذلك التيار الجارف حتي يقوض ما بنت البيئة الاولي من هيكل قدسي في نفسه. و الذي يقف علي ما جاء في كتاب ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي (1) يقف علي لون التربية الروحية الزاهدة التي اخذ بها الحسين (ع) و هي متمثلة في كلمة واحدة من خطبة أميرالمؤمنين علي (ع) و هي (لولا ما اخذ الله علي العلماء أن لا يقاروا علي كظة ظالم و لا سغب مظلوم، لا لقيت حبلها علي غاربها و لسقيت آخرها بكأس اولها و لألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز).و من الخير ان نذكر طرفا من وصيته الي الحسن (ع) و هي تعبر احسن تعبير عن المسحة التربوية التي مسح بها ابناءه، قال: (اوصيك بتقوي الله و لزوم امره و عمارة قلبك بذكره و الاعتصام بحبله، و اي سبب أوثق من سبب بينك و بين الله ان انت أخذت به.أحي قلبك بالموعظة و أمته بالزهادة و قوه باليقين و الرضي، و عليك بأخبار الماضين فانك تجدهم قد انتقلوا عن الاحبة. فأصلح مثواك و لا تبع آخرتك بدنياك و امسك عن طريق اذا خفت ضلالته، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الاهوال. و أمر بالمعروف تكن من اهله، و انكر المنكر بيدك و لسانك و باين من فعلك بجهدك، و جاهد في الله حق جهاده و لا تأخذك في الله لومة لائم، و خض الغمرات للحق حيث كان و تفقه في الدين و عود نفسك التصبر علي المكروه، و نعم الخلق التصبر، و الجي ء نفسك في الامور كلها الي الهك فانك تلجئها الي كهف حريز.و اعلم يا بني ان احب ما انت آخذ به الي، الأخذ بما مضي عليه الاولون من آبائك، و الصالحون من اهل بيتك).

ص: 289


1- 231. كتاب جليل في موضوع للمحب الطبري.

هذه وصية تعرفنا شيئا كثيرا من الالوان التي كان يمزجها الوالد الحكيم و يصبغ ابناءه بها. و هي وصية ذات وحدة لا تعدو المثالية، و ظاهرة لا تخفي و هي الانتفاء من زخارف الدنيا التي مردها الي التراب، ثم لا يبقي منها الا أسراب في احلام و أحلام في اسراب. و ان من الثابت علميا أن لكل شخص فلسفة خاصة به منشؤها المزاج و البيئة، فلسفة تحدد في نفسه ادراك العالم و الله و الروح و الخير و الشر و الحق و الواجب. و من شأن التركيب الانساني، أن يحول العارض العضوي الي عارض نفسي يهتز به المخ اهتزازات خاصة. و قد أوضح هذا أصاب النظرية الميكانيكية (1) .فالبيئة التي مالت به و تحكمت بأحاسيسه و مشاعره كانت نقية و بالغة في النقاوة، و الآن نعود الي فهم مقدار العناية التي بذلها والده العظيم بتخليقه و الحيلولة بينه و بين جموح نفسه بقساوة، اذ حور المبادي ء الادبية الاولي التي تكونت عنده علي الشكل الذي ذكره بستالوزي؛ و من الضروري ان نذكر تمام الفصل الذي اثبته في كتابه: (كيف تعلم جرترود اولادها)، قال:(فالطفل كما لاحظنا فيما سلف يحب والدته و يشكرها و يعتمد عليها مادام هو في حاجة اليها، كذلك هو يحب الخالق تعالي و يشكره مادام يشعر باحتياج اليه، و بزوال هذه الاسباب تزول نتائجها فتضعف هذه العواطف في فؤاد الطفل نحو والدته حالما يشعر باستقلاله.و في هذا الدور من الحياة يظهر العالم للناشي ء في مظهر جديد، لم يدركه و هو طفل، فينظر اليه بعين جديدة، و ينخدع قلبه بمناظره و مسراته، فيناديه العالم و لسان حاله يقول: «اقبل علي الآن يا بني فأنت لي»؛ فلا يسع الانسان، في ذلك الدور حين تضعف في نفسه عاطفة الطفولة و تدب في صدره قوة الشباب و شهواته، الا اجابة

ص: 290


1- 232. اصحاب هذه النظرية لما وجدوا تعادلا بين العمل الميكانيكي و القوات الاخري، اي وجدوا نسبا معينة بينها، مدوا درس الميكانيك علي عوارض القوة، و قرروا ان الرابطة بين المخ و النفس ليست رابطة التعادل «رابطة الضرورة» فقط، بل ان المخ هو الاساس المادي، و النفس هي مظهر من مظاهر المادة.

ذاك النداء و الاقبال علي العالم، فتتبدل فضائل النفس و تموت، ان لم يتدارك الوالد الامر، و ينتشله في هذا الموقف الحرج من السقوط؛ و ذلك لا يتم الا بتوجيه عواطف الطفل التي يشعر بها الي الخالق تعالي و ربط حلقة الاتصال بينه و بين الله.ايها الوالدان! يسعي العالم بكل طرق الغواية لينتزع الطفل، فان لم يوجد في هذا الوقت من يستطيع تغليب عواطفه الشريفة علي شهواته فقد ضاع لا محالة - نعم ان العالم يعمل علي ان يختطف الطفل، فيصبح زخرف العالم و مسراته هي والدته الجديدة، و شهوات الجسد و الاستسلام لهوي النفس معبوده و سيدته.ايها الناس! يجب عليكم في هذا الدور، و هو دور انتقال الطفل من عهد الصبوة الي الشباب، حين تزول من نفسه عاطفة الطفولة و تزهو نفسه و ترقص طربا بهذا العالم و مسراته، و يشعر باستقلاله و استغنائه؛ في هذا الدور، حين تضعف في فؤاده تلك العواطف الشريفة و يتسرب الي نفسه حب العالم و تلعب بقلبه مظاهره و تمتلك لبه مفاسده، ينسي كل المبادي ء.نعم في مفترق هذين الطريقين يجب عليكم ان تبذلوا الجهد لتحويل عواطف الناشي ء حتي تبقي الحياة الانسانية الادبية ماثلة بينه و بين نفسه، و بزوالها تزول روح الله من قلبه. فالعالم الذي يتطلع اليه الشاب اليوم بعيني شبابه هو غير ذلك العالم الذي أوجده الخالق في فطرته الاولي، بل هو عالم أفسدته يد الانسان و صيرته مفسدة لمشاعره الخارجية و عواطفه الداخلية، هو عالم مملوء بشباك الشر لا قتناص نفس الشاب؛ فالشاب، مع ما فطر عليه تركيبه البدني و لرجاحة كفة البدن في هذا الدور من العمر علي كل قوة اخري فيه، نراه سريع الانقياد لشهوات الجسد تؤثر فيه و تتغلب علي نفسه المؤثرات المادية علي اختلاف انواعها و أشكالها، فنراه يصبو الي ملذات هذه الحياة يزهو بزهوها و ينخدع بسرابها.لذلك يكون من الخطل في الرأي و النقص الفاحش في نظام التربية ان يهمل شأن تربية الاخلاق في هذا الدور، و لا يبذل الجهد في تقوية عنصره الروحي الذي لا معدي عنه للتغلب علي قوة بدنه و شهوات جسده، و الا فالشاب لا

ص: 291

محالة منحدر في تيار هذا العالم، تلعب به امواج مطامعه و مفاسده و تجرفه آثامه، و بذلك يقضي علي نفسه و أخلاقه قضاء مبرما. بهذا الاهمال تضيع من نفس الانسان ملكة التعقل و التنبه الاخلاقي التي تحفظه من السقوط، و توصد في وجهه ابواب الفضائل و مكارم الأخلاق، و تسير به شهوات الجسد في طريق بعيد يقطع كل اتصال و يفصم كل رابطة بين العقل و الضمير، و بانفصام عروة هذه الرابطة تنقطع كل علاقة بين الانسان و خالقه، و في قطع هذه العلاقة الشريفة الضربة القاضية علي نفسه التي هي المميز الوحيد للانسان عن الحيوان، بهذا يصبح الانسان حيوانا عالما مفكرا.يجب ان نضع للتربية نظاما يكفل نمو العقل و العواطف نموا متساويا يؤدي الي الموازنة في القوي و المحافظة علي العنصر الاخلاقي، و يمنعه من السقوط الادبي و محبة الذات التي تنشأ عادة من تغلب قوة الجسم علي قوة العواطف و الضمير.و هنا نسأل كيف الوصول الي تغليب المبادي ء علي الشهوات، و حب الاحسان علي الاغراض و الميول؟ فنقول: الجواب في التركيب الطبيعي للانسان. و طريق الوصول الي هذا الهدف أن نسير مع منهاج ذلك التركيب الطبيعي، فنجعل اساس التربية اخضاع العنصر الجسدي الفاني الي العنصر الروحي الخالد، و كلما نما البدن و اشتد اخذنا زمامه و سرنا به تحت ارشاد مبدأ سام يجري علي وفقه و يعمل علي منهاجه؛ و يرجع هذا المبدأ السامي الي قاعدتين:(1)تقديم تربية العواطف و تهذيب القلب علي انماء العقل و تقوية الفكر.(2)التأمل في القانون الطبيعي الذي يخضع له الانسان في نموه، فتسير التربية بموجبه و لا تقف في وجه ذلك القانون الطبيعي الذي رأي الخالق انه احسن أسلوب يسير عليه الانسان في نموه. ألا تري ان الطفل يبدأ نموه بتمرين حواسه الخمس، و انه يقضي زمنا طويلا في هذا النمو، قبل ان تساعده الطبيعة علي تنبهه العقلي، و تمهد له سبيل النمو الفكري. لذلك تراه يقضي جزءا كبيرا من عمره خاضعا لعواطفه و أحاسيسه قبل تحكيم نفسه.)

ص: 292

هذا فصل في قصة التربية الدينية كما يراها العلامة بستالوزي؛ و فيه نقاط ذات أهمية و قيمة. و قد أنبهنا الي دور الانتقال او التحول الذي يدك ماضي الناشي ء الصاعد في الاخلاق، ليبنيه بناء آخر مشتقا من الوان الحياة المترفة و نأمتها المغرية.و المربي المذكور يحصر اهتمامه بتنمية العواطف عن طريق الدين، و يراها أقوم طريق يعطينا النش ء المنتخب. و الآن نستقبل الحسين (ع) في هذا الدور: دور الانتقال فنجده مغلوبا بتربية دينية نادرة من حيث ما اجتمع فيها من ينابيع مثالية أول ما تفجرت، فارتوي و لما يجاوز الينبوع منبثقه، فلم يتغير بشي ء مر عليه في مجراه، لانه لم يبعد عن منبعه بعد.فالعهد الرسولي السابق كان يلتمع من فوق برج الحياة و يرسل أشعته أبعد ما تصل، و الحسين تغمره كل شعاعة و كل بارقة.و سنأتي في فصل: «تاريخ مقارن» من هذا الكتاب علي تبيان الفرق التربوي بين الحسين (ع)، و يزيد الذي كان ذا تفكير قبلي لانه نشأ في محيط القبلية في بني كلب حتي دور الشباب، و كان ذا عصبية لأنه غذي بروح النزعة الاموية، و كانت مسحة تربيته مسيحية بعد ما ترجح لنا أن أستاذه من نساطرة الشام، و كان مستهترا لانه لم يأخذ في دور التحول و الانتقال بشي ء من التربية الدينية التي دل عليها بستالوزي.و كان ميراثه العقلي فقيرا من الروح المثالي تركز في الجماهير. و هذه نتائج طبيعية جدا، لا مجال لمناقشتها الا اذا حاولنا قلب الحقائق و تحررنا من المنطق الواقعي.و هنا لا نغفل ما تركت الارزاء المجتمعة التي تناولت نفس الحسين (ع) في اكثر ما تكون غضارة ولدانة، فهو قد شعر بفراغ مرير حين اصيب بجده العظيم، و زاد هذا الفراغ اتساعا و دكنة حين تناولته الاقدار بأمه الرؤوم، و انحنت نفسه علي حفيظة - اذا ساغ لنا أن ندعوها كذلك - حين وضع بيت ابيه تحت المراقبة الشديدة و انتهكت حرمته بدون لباقة، حتي لقد بقي ابوبكر متأثرا و نادما ندما عصبيا علي ما

ص: 293

فرط منه، فقد فتش بيت علي (ع) فتيشا دقيقا حذرا من أن يكون قد أعد العدة لاحداث انقلاب يطيح بالحكومة القائمة. و السيدة فاطمة قبضت يدها عن ابي بكر فلم تبايع، و تأثر الهاشميون حركتها فلم يبايعوا.فهذه الاحداث الهامة لم تمر علي الحسين مرا ساذجا بدون أن تترك آثارا لها خطر. و المحقق، بمقتضي عمل الفعالية الصامتة، انها مست مشاعره بأثر غامض: أثر يجعله ينقم و يتشجع علي الانتقاد؛ و سنورد قصة بادرة وقعت من الحسين في عهد عمر توضح لنا صدق ما نقول. فنفسه كانت مفعمة بشي ء خفي مجهول، الا انه يميل به دائما الي الانتصاف، خصوصا و شعوره مرهف دقيق الاحساس.

ص: 294

في عهد عمر

طموح

روي (1) أن الحسين بن علي قال: اتيت عمر و هو يخطب علي المنبر فصعدت اليه، فقلت: انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر أبيك، فقال عمر: لم يكن لابي منبر. و أخذني فأجلسني معه اقلب حصي بيدي، فلما نزل انطلق بي الي منزله، فقال لي من علمك، قلت و الله ما علمني احد، قال بأبي لو جعلت تغشانا.فأتيته يوما و هو خال بمعاوية، و ابن عمر بالباب، رجع ابن عمر، فرجعت معه؛ فلقيني بعد فقال لي: لم أرك، فقلت: يا اميرالمؤمنين اني جئت و انت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر، فقال: انت أحق من ابن عمر، فانما انبت ما تري في رؤوسنا الله ثم انتم.الطموح صفة للنفس الكبيرة تبدو من وراء المظاهر الهادئة أملا قويا يستخفنا في دهشة و اعجاب.و نظر النفس الطامحة يبدأ من النقطة التي عجز الناس عما وراءها، فالافق الذي يشرف منه اصحاب الطموح، هو الافق الذي يستشرف اليه نظر الآخرين،

ص: 295


1- 233. راجع الاصابة لابن العسقلاني ج 2، ص 15. قال ابن حجر: سنده صحيح.

و كأنما هم يدرجون في الجو الذي بحلق فيه سائر الناس، و أما جوهم فهو للآخرين مثابة الاماني و الأحلام.و طموح الطفولة عنوان علي النضج النفسي قبل بلوغ الاهاب، و طفلنا الطموح يري مسجدا طالما كان يجوس خلاله بين يدي جده بادلال، و هذا منبر طالما كان يرقاه، و النبي (ص) يرسل صوته الهادي، حتي ألفه؛ فحن اليه و اختلط الحنين بكبرياء العظيم و طموحه، و انحسر بينه و بين نفسه كل ما هو واقع، فلم ير المنبر الا شرفته التي يطل منها و هي له من دون الناس.ذهبت نفسه مذاهبها في الجد، و مذاهبها في الطموح، تمدها من ورائهما الطفولة المتطلعة، فرأي أن المنبر نصب للنبي أول ما نجر، و ان المسجد بيت دعوته، و هو يحس بالنبي حيا بين جوانحه، فاعتلي المنبر في غير عبث الطفولة، بل في جد النظر و خيال الطموح.و نظر من ظاهر النفس الي باطنها فلم يجد الا أشباح الجدود علي شريط الوراثة الممتد، و رأي المنبر و المسجد، و رأي النبي (ص) في مقعده منهما لم يتغير عليه شي ء. فانقلب الي الحس و الواقع فأنكر ما يري و سما به الطموح فقال في جد القول لعمر (ض)، انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر ابيك. و كأنما مس عمر بتيار تأمله، فشمله نوع من انكار الذات، فقال له: «لم يكن لابي منبر».تراجعت نفس امام نفس، و قالت الحقيقة مقالها علي لسان عمر الحكيم، و دخلا في صموت بقيت الحقيقة تتجاوب فيه بصدي عميق علي همسات الحصي المتخافتة التي كان يقلبها الحسين بيديه. و كان منظرا له مغزاه.الطفل الذي يقلب الحصي بيديه، لانه محدود بالطفولة، هو الذي تطمح نفسه بسر القلب الكبير لكي يتسنم الذروة التي تنتهي عندها أحلام الناس. منظر رائع هذا الذي يقع بين عبث الطفولة، و بين جد القلب.منظر كان رمزا لمعني نبوي أعمق، و هو أن أسمي ما تجيش به اماني الناس

ص: 296

في أحلام الشهوات، لا يقابل في منطق الحقيقة العظمي، الا بضحكات الحصي الناعمة ينما تقلبها يد عابثة.مرت بعمر (ض) خواطر مختلفة في فترة الصموت القصيرة التي جرت بينهما، و لكنه بقي شاخصا تحت وحي نفسي غريب، مبعثه الاعجاب و التساؤل.كلمة صارمة لم يكن مبعثها البتة سذاجة الطفولة، أو حديث الببغاء «عقله في اذنيه» بل جد الشخصية الكبيرة. فذهب يسائله: «من علمك»، و لما أيقن أنها بادرة من وحي الشخصية الكامنة، انصرف اليه لأنه وجد فيه الرجل الكبير الذي يحاول أن يطفر الي خارجه فقال له: «بأبي لو جعلت تغشانا» يريد بذلك أن يأخذه بسنة الحكم و ينمي عليه شخصيته الملتهمعة من وراء الزمن حتي لكأنها غير محدودة به. و لقد نطقت الحقيقة مرة أخري علي لسان عمر الشهيد «انما أنبت ما في رؤوسنا الله ثم انتم».و في القصة استصغار و طموح و شخصية، ثلاثة معان اذا انتظمت كانت اكليل غار.مجد العرب نواة غرسها في الهامات الله ثم أنتم...و قد نبتت في جراح الكبرياء، حين أجري اليها النمير الصافي الله ثم أنتم...و التفت علي الرؤوس كما تلتف الغيضة بالأزاهير و النوار، بما روحها الله به من نسمات ثم انتم... و ازدهرت غصون المجد بالفضائل المنظومة و المكارم المنثورة، بما نفخ الله بها من روح ثم انتم...و مجد العرب و الاسلام يعود كما بدأ، فانما مبعثه علي التاريخ الله ثم انتم...

شعور

تسامع (1) الناس و جرت بينهم همسات منطلقة تشيع فيهم

ص: 297


1- 234. ذكر ابن عساكر في «التاريخ الكبير» ج 4 ص 321، انه قدم علي عمر حلل من اليمن، فكسا الناس، فراحوا في الحلل، و هو بين القبر و المنبر جالس و الناس يأتون فيسلمون عليه و يدعون. فخرج الحسن و الحسين من بيت امهما فاطمة في جوف المسجد ليس عليهما من تلك الحلل شي ء، و عمر قاطب صارم ما بين عينيه، ثم قال: و الله ما هناني ما كسوتكم. قالوا: لم يا اميرالمؤمنين؟ فقال: من اجل هذين الغلامين يتخطيان الناس ليس عليهما مما كسوت الناس شي ء؛ ثم كتب لصاحب اليمن ان ابعث الي مجلتين لحسن و حسين؛ و عجل فبعث بحلتين فكساهما، و قال: الآن طابت نفسي. و في رواية: ان الحلل لم يكن فيها ما يصلح لهما.

سرورا من سرور الجسد و الزينة، بأن حللا من و شي اليمن و ردت الي اميرالمؤمنين، جلس لها في مسجد النبي (ص) بين المنبر و القبر.و كان هذا اعلانا بأن التاريخ الذي ينشر العرب منه و يطوو قد لبس حلة جديدة... حلة هي رمز المجد و غلبة الحق في الكفاح، و هي رمز الصراع المنصور بين العالم القديم المتداعي و العالم الجديد الذي يشيده العرب و العرب وحدهم...رمز انتصار العقيدة في الجهاد، و رمز انتصار الفضيلة السامية التي كانت مكبلة مغلولة، لتقول كلمتها وحدها في هذا العالم الذي يضع معالمه العرب و العرب وحدهم...هذا العالم الذي كانت الكلمة العليا للأخلاق و الفضائل و الحريات المهذبة، العالم الذي انتشل القلب و الضمير قبل ان يختنقا و تطل معاني السمو فيهما...فدولة الاسلام بحق تدعي، دولة العقل و الضمير و الأخلاق و القوة...و هذه الحلة كانت أثرا من انتصار الدولة، فهي رمز لانتصار هذه القوي جميعا...و شاء الخليفة أن يكون توزيع الحلل في المسجد، ليضيف اليها وشيا جديدا فيه معني المسجد و فيه أسراره. و شاء أن يكون جلوسه بين القبر و المنبر - جاء في الحديث انها روضة من رياض الجنة - ليقول للمسلمين ان الجنة بدأت تحل في دنياهم.عج المسجد بما ازدحم فيه من طبقات الناس، فرحا بالفكرة المنتصرة التي ترمز اليها الحلة الجديدة، و اظهارا للذاتية في الامة الناهضة، الأمة المعلمة التي تسوق العالم الي الفكر الجديد و الحرية التقية.

ص: 298

و كان هذا يوم احتفالها بالبطولة الساخرة من القوي المجتمعة، و لم يكن لهذه الأمة الا أن تحيا مجتمعة، لأن كل أفرادها ككل أفذاذها في المعني الذي يكون للبطل.في غمار الجموع مر غلامان كأنهما قطرتا الندي في عين الفجر، و كانا يخطران في غير حلة سوي حلة المعني الضافي، فعرا عمر (ض) شعور مبهم عنيف و أطرق اطراقة من فعل شيئا. فقد ترك (1) النبي (ص) فيهما تذكاره بين المسلمين، كما ترك بالقرآن تعاليمه، و المسلمون لن ينسوا باني نهضتهم و مؤسس العالم الجديد، و لكنهما كانا كاعلان من النبي (ص) بأنه هنا يسمع و يري، فلم يدخل في أخدود التاريخ، بل انفصل من اهاب المادة و النواميس، ليدخل الماضي و الحاضر و المستقبل في تاريخه.هما صغيران ليس في الحلل ما يستوي علي جسميهما، غير ان عمر المرهف الحس شعر بشي ء جعله يصر ما بين عينيه طويلا، ثم يقول: «و الله ما هناني ما كسوتكم من أجل هذين الغلامين يتخطيان الناس ليس عليهما مما كسوت الناس شي ء» فكتب لصاحب اليمن أن ابعث الي بحلتين لحسن و حسين و عجل، فكساهما و قال: الآن طابت نفسي. فعمر يعدل بهما سائر المسملين، لأن فيهما عين الينبوع الذي غمر العالم القديم، و أعطي اليبس سر الحياة فعاد أخضر فينانا.و شعور عمر بأنهما تذكارا النبي (ص) الي المستقبل حمله علي أن يجعل لهما عطاء (2) أهل بدر و كان خمسة آلاف، و ان يقدمها (3) علي ولده.

ص: 299


1- 235. جاء في الحديث ان النبي (ص) ترك في الامة الثقلين: القرآن و السيرة اهل البيت.
2- 236. ذكر ابن عساكر في «التاريخ الكبير» ج 4 ص 321 ان عمر جعل عطاء الحسن و الحسين مثل عطاء ابيهما فالحقهما بفريضة اهل بدر ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف. و روي البخاري في كتاب المغازي من صحيحه ان عطاء البدريين خمسة الاف و قال عمر: لافضلنهم علي من بعدهم.
3- 237. روي سبط ابن الجوزي في كتابه «تذكرة خواص الامة في معرفة الائمة» عن ابن عباس، قال كان عمر ابن الخطاب يحب الحسن و الحسين و يقدمهما علي ولده و لقد قسم يوما فاعطاهما عشرين الف درهم و اعطي ولده عبدالله الف درهم فعاتبه ولده و قال قد علمت سبقي في الاسلام و هجرتي و انت تفضل علي هذين الغلامين، فقال: و يحك يا عبدالله ائتني يجد مثل جدهما و انا اعطيك عطاءهما.

في عهد عثمان

اشاره

نستقبل الحسين في خلافة عثمان شابا في ميعة الشباب و عنفوانه، فقد كان عمره عشرين سنة تقريبا، و هذه سن تسمح لصاحبهما بأن يخوض معترك الحياة و يعطي رأيه و يعالجها من ناحيته.و قد رأينا، في الفصول التحليلية التي تناولنا بها تربيته، انها كانت مشبعة بروح الحق و ملأي بقضايا العدالة و العدالة و الواجب. اضف الي هذا الوراثة و مشاهد الطفولة و المسكن - فقد حدثنا ابن عساكر ان بيت فاطمة كان في جوف المسجد - و هذا له تأثيره الكبير في البناء الروحي و هيكل النفس المحجب.فان الحسين كان في عنفوان الشباب، و كان سريا بالخلجات الدينية الي حد كبير، و هو يشعر بارستقراطية الدم الذي يجري في عروقه، و لم تكن أرستقراطيته علي الشكل المعروف من هذا اللفظ أي بمعناها الاجتماعي، بل كانت ارستقراطية تقية تتعصب لمبادئها و تثور لها بوقدة الشعور و التهاب العاطفة.و نحن لا نزال نذكر طموحه الذي رأينا صورته منه في أزمان طفولته، و نذكر أيضا أنه تأثر الي حد ما بفشل أبيه في الانتخاب مرتين، و الآن يفشل أبوه للمرة الثالثة بمداورة كانت مكشوفة و ظاهرة حتي أثارت حفيظة الكثيرين.

ص: 300

و يظهر أن المعركة الانتخابية كانت عنيفة الي حد كبير، و لم يثبتها التاريخ كاملة، و ان احتفظ لنا ببعض وثائق و نتف من الاخبار، ترينا مدي العنف الذي سيطر علي الحركة، و لكنها بتراء مقتضبة علي أي حال. و الأهمية ليست في أن يفشل المنتخب و لكن في أن يداور مداورة تنتهي به الي ذلك، فان الفشل علي هذا الشكل يطوي الكثيرين علي موجدات مختلفة حتي عند البعيدين عنه.و هذا ما وقع لعلي (ع)؛ فقد كان فشله نتيجة حركة من هذا القبيل جعلت ذوي الضمائر يعنفون الانتقاد و يجهرون بالانكار. فحمل علي التلاعب الانتخابي المقداد بن الاسود و عمار بن ياسر و كثيرون حملة شديدة، حتي كادت تحيق بالجموع كارثة انتخابية مؤلمة.و أعتقد أن الذي سبب كل هذا، حصر عمر الانتخاب في هؤلاء الستة و ترشيحهم، فان تسمية هؤلاء الي جانب علي (ع) جعلهم يتمتعون ببعض الثقة الشعبية، و يثقون بأنفسهم الي حد كبير. و الا فلو ترك الانتخاب حرا لما وجد هؤلاء، عدا علي، في أنفسهم الشجاعة الكافية التي تحملهم علي خوض غمار الانتخاب ضد مرشح ممتاز، كما لا يجدون التشجيع الكافي من الشعب، خصوصا أن الزبير قد بايع، بالأمس القريب في عهد ابي بكر، المرشح الذي ينزل ضده اليوم.و منطقي جدا أن مثل هذا لا يجد الجرأة التي تحمله علي أن يرشح نفسه ضد علي، اذا وجدها فلا يجد التأييد الشعبي؛ اذن كان ترشيح عمر لهم بمثابة التزكية.و هذا قد أوجد - عدا الحزبية التي تكلمنا عنها في بحث الثورة - دوافع الاعتراك و الاصطراع. فالحسين كان منطويا علي موجدة و حنق شديدين من الفئة الاموية التي تسعي الي غش الجمهور، و هي تدير القوي الي ما يخدم أهواءها.و قد القت هذه التظاهرة التي ولدها الانتخاب بذور الشنآن في قلب الحسين الشاب، و بذور الريبة في انهم مخلصون علي وجه عام، فهو بدافع ضميره و بدافع

ص: 301

احقاق الحق انطوي علي ظلامة و استفزاز كبير، ظهرت نتائجهما بعد أن دارت الحوادث دورة غير قصيرة.

المجاهد الشاب

الازورار و الاعراض لم يحملا الحسين علي مقاطعة اجراءات الحكومة القائمة بل نراه يمضي بحماسة الي التضحية في سبيل مجد الدولة مطرحا كل خصومة نفسية أو شخصية، لأن هناك مبدأ يقدسه و يعمل في سبيله و قد صار أهلا للعمل و وجد فرصة للخدمة. فمضي ملبيا نداء الحكومة غير متوان عن عمل الواجب، فانه و ان كان يكبر خصومته هو أكثر اكبارا للمبادي ء العامة، و هذا نضج لا شك فيه.و نحن لا يخالجنا شك في أن الحزبية اذ ذاك كانت قد شملت المجتمع العربي الاسلامي، و كان الحسين منتسبا الي حزب أبيه المحافظ كما أريناك في فصل الحزبية. و رغم هذا لم يتأخر عن التضحية المندوب اليها في سبيل المجد القومي و الديني بعيدا عن الحدود.و هذا عنوان عن الاستعداد النفسي لتناسي الحفائظ في سبيل الخدمة العامة التي هي فوق سائر الاعتبارات و أقدس من كل شي ء آخر. و كذلك تكون العقلية الناضجة و العقيدة المختمرة التي تضع اختلافاتها و حزبياتها و عنعناتها دون (1) الهدف الأسمي بمراحل كبيرة.و هذا درس يجب أن نستفيده من الامام الشاب في مراحل جهادنا اليوم بسبيل استعادة مجدنا المفقود، فهو يعطي الشباب درسا نبيلا و أمثولة رائعة في فهم الحزبية و أين يجب أن توضع، و في أي المناسبات يحمد العمل بوحيها. و سنري، بعد حين في عهد معاوية، كيف يلبي ايضا في الحملة علي القسطنطينية، رغم الظلامة التي انقلبت حزازة نفسية عنده بما أجرت الحوادث من دماء غزيرة عزيزة عليه.

ص: 302


1- 238. اذكر اني قرأت في كتاب «عشر سنين في لندن» ان الرجل ضمه مجلس جمع أفرادا من كل الأحزاب في انجلترا، فتناقشوا علي أفضل الخطط التي يحسن انتهاجها؛ فكل مال الي تأييد خطة حزبه و كان نقاشا عنيفا كادوا يخرجون منه الي التدافع بالمناكب؛ و في هذه الغمرة قام أحدهم، و قال: باسم التاج و المجد البريطاني اهدوا وليعد كل منكم الي مقعده فاستصاخ الحضور الي صوته و كأن لم يكن من شي ء. هذه حادثة تظهر لنا فهم ذوي النضج للحزبية و انها شي ء دون الهدف الأسمي.

ذكر (1) ابن خلدون انه، في سنة ست و عشرين، عزل عثمان اميرالمؤمنين، عمرو بن العاص عن مصر، و استعمل مكانه عبدالله بن ابي سرح أخاه من الرضاعة، و كان عثمان في سنة خمسة و عشرين أمر عبدالله بغزو افريقية، و أمر عقبة بن نافع علي جند و عبدالله بن نافع علي جند آخر، فخرجوا الي افريقية في عشرة آلاف و صالحهم أهلها علي مال يؤدونه و لم يقدروا علي التوغل فيها لكثرة أهلها. ثم ان عبدالله بن ابي سرح استأذن عثمان في ذلك و استمده، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به. فجهز العساكر من المدينة و فيهم جماعة من الصحابة منهم الحسن و الحسين و ابن الزبير و ابن عباس و ابن عمر و ابن عمرو بن العاص و ابن جعفر و ساروا مع عبدالله بن ابي سرح سنة ست و عشرين و لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا الي طرابلس، فنهبوا الروم عندها، ثم ساروا الي افريقية و بثوا السرايا في كل ناحية، ففتح عليهم، و رجع الجيش بعد مقامه سنة و ثلاثة أشهر.و ذكر (2) ابن جرير الطبري: انه في سنة ثلاثين استعمل عثمان، سعيد بن العاص علي الكوفة، و في السنة نفسها غزا سعيد بن العاص طبرستان من الكوفة و لم يغزها أحد قبله. و كان الاصبهذ - و صوابه الاصبهيد (3) علي ما ذكره الراغب الاصبهاني - صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر علي مال. فغزاها سعيد و معه ناس من أصحاب رسول الله منهم الحسن و الحسين و عبدالله بن العباس و حذيفة بن اليمان، فسألوا الامان فأعطاهم علي أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن. فقتلهم جميعا الا رجلا واحدا، و حوي ما كان في الحصن.عرفنا، فيما سبق، ما احتكم بنفس الحسين (ع) من ترتيبات عالية، و ما قام

ص: 303


1- 239. راجع تاريخ ابن خلدون ج 2، ص 128 و 129. و ذكر دخول الحسين و أخيه الحسن المغرب فيمن دخله من الصحابة أحمد بن خالد الناصري السلاوي في كتابه: الاستقصا لأخبار المغرب الاقصي ج 1، ص 39.
2- 240. راجع تاريخ الطبري ج 5، ص 58 - 57. و ابن خلدون ج 3، ص 135 و 136.
3- 241. ذكر الراغب الأصبهاني في محاضرات الادباء ج 1، ص 76 ان الاصبهيد هو صاحب الجيل و هو الصواب.

عليه قلبه من مبادي ء فضلي لا يتغاضي البتة اذا انتهكت، و هو متقيد بحدود المثل القرآنية و السياسة النبوية لا يحيد عنها.فلا عجب اذا رأيناه يستنكر استنكارا صارخا، استنكارا ديمقراطيا نبيلا علي أمير الجند و هو بينهم جندي، حين أعطي عهدا و نكث به، و غدر بمستأمنين؛ و المسلون - كما جاء في الحديث - عند شروطهم.و انتقلت حركة هذا الانتقاد الي المدينة، فأثار الضمائر و أسعرها، و زأرت العدالة علي لسان علي (ع) زئيرا رهيبا، زئيرا يقض المضاجع و يقلق المستنيمين الي هذه السياسة التي نعتها بسياسة الجبروت، و نعت سعيدا هذا بالجبار. و الاسلام دين الرحمة فليس فيه جبروت علي المستضعفين، و المسلمون رحماء، فليس فيهم الجبار علي الضعفاء. و هذه الظاهرة المدهشة التي صبغت فتوح العرب الاولي، هي الخلة الحميدة للفتح الاسلامي وحده.بادرة من أميرالمؤمنين، تدلنا علي لون سياسة الامويين و اتجاههم الحكمي، و تضع أيدينا علي موضع الختل و العبث الطبيعيين، و عدم الاعتداد بأي شي ء في سبيل المطامع الشخصية. هذا الامير يطمع بما في الحصن و يعجز عن فتحه عنوة، فاستدرج أهليه الي الامان و لكنه انقض عليهم ليظفر بغنائم الحصن كاملة. و سياسة كهذا تحفظ المتشبعين بقضايا الحق و الواجب و العدالة. و انما توجد الديمقراطية الصحيحة، حيث توجد الرقابة الشعبية المخلصة التي تشعر الهيئات الحاكمة بوجود الشعب و حياة الدستور.و في هذا درس نبيل حين يرتسم أمام نواظرنا الحسين الجندي أو النفر، يصارح أمير الجيش بأن هذا غدر و نكث لا يجوزان في منطق القانون. و الفتح الاسلامي الذي يعمل علي نشر فكرة و يدعو الي تهذيب الانسانية و الاجتماع، لا يتفق هذا الصنيع مع أهدافه الرئيسة الصميمة.و بعث الامة لا يتم الا بالتقاء الطبيعة المؤمنة بالطبيعة المجاهدة؛ فمضي الحسين الي الجهاد ليفسح لكلتا الطبيعتين في نفسه...

ص: 304

قيام المرء بالعقيدة وحدها، قيام بنصف الحياة، فمضي الحسين الي الجهاد كي يعلن عن نفسه بأنه حي كامل لا جزء الحي:قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ان الحياة عقيدة و جهادالعقيدة بدون جهاد كالجهاد (1) بدون عقيدة، لا يزيد هذا عن أن يكون وحشية و ترويعا و قطع طريق، كما لا يزيد ذاك عن أن يكون ضميرا في نفس الميت، و كل منهما يعبر عن معني لم يتم، و يرسم شكلا ممسوخا. فمضي الحسين الي الجهاد في افريقية ناظرا الي الغرب الاقصي، كما مضي الي الجهاد في طبرستان ناظرا الي الشرق الاقصي، ليقول ان حدود العقيدة أن لا تكون في حدود...خرج الحسين (ع) بروح المسجد الي الكفاح ليمزج بها روح العالم، و يتولد من بين هذا اللقاح هيكل الفضائل الحي الذي يقوم علي مثل حدود المسجد و قواعده...

دفاع

كنت لا تسمع الا نأمة طويلة تنذر بخطر رهيب، و كان الناس يتحلقون هنا و هناك في شرود و توثب، كأنما هم ينتظرون كارثة دامية ستقع بعد حين قريب. و وفدت جموع الغرباء من شتي الأقطار، و علي وجوههم سطور الثورة الحمراء التي تلاعب نفوسهم حتي لكأنها مقروءة بوضوح، و تجمهر هؤلاء في طرقات المدينة ينادون بالاصلاح أو الانقلاب، و بعدوي الشعور انقلبت المدينة كأنها مجاز تدفقت فيه السيول الجارفة، و انعقدت أصوات الجموع في صرخات لم تعد قائمة في مقاطع مفهومة، فقد غدت و زمجرة صارخة داوية. و عرت الناس رهبة الجمهور الثائر فوقعوا تحت سبات مشدوه من الشعور المبهم.دخل النزاع بين الشعب و الهيئة الحاكمة في دور عنيف لم تعد تنفع فيه وساطة الحزب المحافظ، لأن المرجل قد حمي، و لم يبدر من جانب الهيئة الحاكمة بادرة تخفف غلواء الجمهور، و تساعد الحزب المحافظ علي النجاح. فان الجمهور الثائر

ص: 305


1- 242. لفظ الجهاد لا يطلق الا اذا صاحبته العقيدة، و اطلاقه هنا من باب التجريد.

لم يعد يثق الا بنفسه، و الثورة تبعث الثورة كما أن الأسي يبعث الاسي، فاشتعلت حتي أصبح من المتعذر اطفاؤها، فتنحي (ع) و حزبه من طريق الجمهور المحطم و هذا طبيعي.فان الظرف من وجهة النظر النفسي دقيق جدا، فكل مصادمة لرأي الجمهور يعدها خيانة لأنه واقع تحت تأثير شعور عنيف - كما يقول بنيامين كيد - يسيطر علي كل مناطق التفكير و يصبغها بلونه الداكن، و من ثم لا يعود للتعقل الهادي ء أثر ما في حركات التوجيه.أخلي الحزب المحافظ الطريق لامرين: (1) .(1)ان من العبث الوقوف بعد في وجه الثائرين، بل ربما أدي الي عكس النتيجة، و استفحلت الثورة استفحالا قاسيا بحيث تنقلب ثورة للثورة دون قصد آخر، فتعم الفوضي الطائشة و الفتنة المريرة.(2)أن تري الهيئة الحاكمة بنفسها عنف الجمهور الثائر، فتغير خطتها و تجيب المطالب في الحين الذي تكون الثورة لا تزال مدفوعة بقصد معين مفهوم، و أي تأخر في النزول علي رأي الثائرين يجعلهم يندفعون بغلواء الشعور و ينبهم القصد من الثورة و هنا الخطر، اذ تخرج الثورة من نقطة الدائرة الي محيطها و تتدفق متخطية الحواجز و الجسور، كالفيضان حين تنوء الحواجز عن ضغطه فلا يطرد في الاقنية و المجازات.

ص: 306


1- 243. و يوجد هناك أمر آخر ذكره المؤرخون و هو أن مروان كان يوغر دائما صدر عثمان علي علي حتي أجمع لا يقوم دونه، و قال قولته المشهورة: (ما رضي مروان منك الا بتحرفك عن دينك و عن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به، و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا في نفسه، و ايم الله اني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، و ما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، اذهبت شرفك و غلبت علي أمرك) و لقد تأثرت امرأة عثمان نائلة ابنة الفرافصة بنصح علي (ع) حتي قالت لزوجها (اتق الله و اتبع سنة صاحبيك من قبلك فانك متي أطعت مروان قتلك، و مروان ليس له عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة، و انما تركك الناس لمكان مروان منك فأرسل الي علي فاستصلحه فان له قرابة منك و هو لا يعصي).

كانت الحواجز بيد الهيئة الحاكمة فلم تنشط و تخف الي رفعها و لو قليلا بحيث تنفس عن الجمهور، بل عمدت الي احكام الحواجز حتي تم الطغيان. و قد اقتنعت الهيئة الحاكمة أخيرا حين رأت جد الجمهور الثائر، فكتب عثمان الي علي كتابه المشهور:(بلغ السيل الزبي، و جاوز الحزام الطبيين.فان كنت مأكولا فكن انت آكلي و الا فأدركني و لما أمزق)لا يحدثنا التاريخ عن الأثر الذي كان للكتاب في علي (ع)، و لكنني مقتنع بأنه طرب جدا لهذه النتيجة التي أقنعت الحاكم الأعلي بعد لأي بوجوب الاصلاح و تعديل السياسة. فقد آذنه عثمان بوضع كل المقدرات في يديه و توجيه السياسة العامة علي الشكل الذي يراه، فعمد الي العمل السريع قبل الاستفحال، فبعث بحسن و حسين ليحافظا و يحولا دون امتداد الثورة من قريب. و لكن تصريح عائشة، في هذه المرحلة الدقيقة المستعرة، حيث بلغ الجمهور قمة الشعور الحماسي، الي مروان بالكلمة (1) الحمراء:«وددت لو انه مقطع في غرارة من غرائري، و اني أطيق حمله فأطرحه في البحر» دفعت بالثورة عن نقطة ارتكازها و أججتها، و كانت أسرع من حركة علي (ع) الذي نظم الامور لفل الثورة بترضيات الجمهور؛ و وقعت الكارثة قبل وصول علي الذي كان بعيدا عن المدينة. و دفاع الحسين (ع) و غيره لم يغن الا غناء قليلا.و سيطر الثائرون علي الموقف سيطرة مطلقة حتي حالوا دون دفن عثمان الشهيد، و تم انتخاب الخليفة علي ايديهم. غير ان عليا أراد أن يضع حدا لتسلط الثوار،

ص: 307


1- 244. بعد أن هدأ علي ثائرة الناس اذ أعطاهم عن عثمان مهلة ثلاثة أيام، و انتهت و اجتمع الناس علي بابه مثل الجبال قال عثمان لمروان: أخرج فكلمهم فاني استحي أن أكلمهم. فخرج مروان اليهم، و الناس يركب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنما قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه، كل انسان آخذ بأذن صاحبه. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا! الي آخر هذه الخطبة المملوءة حمقا و رعونة؛ و قد كانت شرارة شديدة الأثر في الهاب نار الثورة.

فاتخذ خططا دقيقة مبنية علي نظر عميق - كما قدمنا في بحث الثورة - قبل أن تدور الثورة علي نفسها و تدخل في التفافات جديدة و تخلق أزمات و تيارات مزعجة. فعزل و ولي، و مضي في سياسة من شأنها رد الأمن الي نصابه و وضع حدا للانتهازية و الأطماع التي بدأ يفكر فيها الجمهور المندفع، فجهز البعوث للقضاء علي المتمردين المتنمرين، و كانت سياسة رشيدة حازمة تدل علي بعد النظر، حين بناها علي الحركة السريعة و أخذ الأمور من أقرب طريق، لولا ما اجتمع في المحيط العربي من عوامل القبلية و القلق الديني و اصطباغ النفوس البدئية بالطماعية.تأخذنا الدهشة كلما فكرنا بموقف علي (ع) من عثمان (ض)، فقد كان له رائدا متطوعا باخلاص، يغار عليه و يخطط له الخطط القويمة متناسيا كل حفيظة و كل موجدة و متناسيا ان الامويين داوروه مداورة لاسقاطه و انتخاب عثمان. و لا بأس من أن نذكر طرفا من أساليبه في الاشارة عليه لنري بجلاء مدي العاطفة الشريفة التي كانت تغمر فؤاده الكبير و قلبه النقي الطاهر الذي لا يفيض الا بالاخلاص للناس جميعا. هذه الصفة التي انتقلت الي فتاه الحسين (ع) و ظهرت منه في كل مناسبة مادام الخليفة غير متجاوز تجاوزا مكشوفا، فقد قرر الخضوع لمعاوية أيضا، لأنه لم يكن مستهترا مبالغا في الاستهتار. و هذا يظهر لنا - و هو الذي خبر يزيد عن قرب يوم كان أميرا علي الجيش في الحملة علي القسطنطينية - لماذا خرج علي يزيد؟.يذكر التاريخ مثلا كثيرة من أساليب علي في نصح عثمان و ننتزع منها هذه الأمثولة الرائعة، دخل عليه يوما، و قال له:(الناس ورائي و قد كلموني فيك، و و الله ما أدري ما أقول لك، و ما أعرف شيئا تجهله، و لا أدلك علي أمر لا تعرفه. انك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك الي شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بأمر دونك فنبلغكه. و قد رأيت و سمعت و صحبت رسول الله (ص) و نلت صهره، و ما ابن أبي قحافة بأولي بعمل الحق منك، و لا ابن الخطاب بأولي شي ء من الخير منك.

ص: 308

فالله الله في نفسك، فانك و الله ما تبصر من عمي و تعلم من جهل، و ان الطريق لواضح بين.فاذا اعتذر عثمان بأنه يقتفي أثر عمر. أجابه علي اجابته الموفقة اذ يقول: سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فانما يطأ علي صماخه، ان بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصي الغاية؛ و أنت لا تفعل، ضعفت و رفقت علي اقربائك.فاذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن ولاه عمر مدة خلافته كلها، و انه اقتدي كذلك بعمر في توليته، ابان له علي (ع) الفرق بين العملين، فقال: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من (يرفأ) غلام عمر؟ قال نعم.قال علي: فان معاوية يقتطع الامور دونك، و أنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك و لا تغير علي معاوية.)هذه أمثولة من أمثولات كثيرة كلها ترينا موضع النبل و الاخلاص و انكار الذات من نفسه الوضية بشعاع الضمير.كان للحزبية التي شهد الحسين (ع) من حركاتها الكثيرة، و الثورة التي خاضها دفاعا عن الخليفة، ما أجج نزعة الاصلاح في نفسه قبل أن ينتقض ما بناه النبي (ص) بتنقص النظام الاجتماعي. و كان يري في أبيه المصلح المنتظر، كما يري ذلك كل الذين تلاعب نفوسهم أفكار الاصلاح، و يري في الحزب الاموي انه مصدر التبلبل و الدس بسبيل أطماعه، فجزم أن لا استقرار مادام للامويين سلطة (1) أو شبه سلطة، و أجمع علي أن يخدم هذه الفكرة في ظل حكومة أبيه و في كل حين.

ص: 309


1- 245. قد أريناك، في الحلقة الأولي، ان مثل هذا الرأي كان عند عامة أهل المدينة و كثيرين كعبد الله بن الزبير، فقد طرد الأمويين من الحجاز أجمع و نفاهم خارج الحدود، لأن لهم مداخل بين الحشا و الصفاق. راجع الأغاني ج 1، ص 6 ترجمة أبي قطيفة.

و هو و ان يكن خضع علي مضض لمعاوية، فقد كان ينتظر انفراج الأزمة الاجتماعية بوفاته، و رد حق الجمهور المغتصب، و لكن لما رأي أن الحزب الأموي دخل في مداورة جديدة لنقل مقدرات الحكم الي ابنه، و في هذا زيادة علي الاغتصاب للحق العام، عبث بالادبية المثالية للاسلام، فكان طبيعيا أن لا يقر هذا الوضع مهما كلف الأمر. و بالأخص اذا نظرناه من الوجهة القانونية البرلمانية التي تقضي بأن هذا، في جوهره، تلاعب بالدستور الانتخابي المتواضع منذ و عهد الخليفة (1) الاول و الدستور الديني الموحي به.و اذا كان الانكليز ينظرون الي ضحايا الدستور الذي قرر حقوق الشعب، حاول الملوك التلاعب به، نظر القداسة، و اعتبروهم مجاهدين سجروا أنفسهم بسبيل الحرية العامة. فان أول ضحية من ضحايا الدستور و حرية الشعب، في الاسلام، لم يكن غير الحسين (ع)؛ فنحن أجدر بأن ننظر اليه هذا النظر. ان (كرومول) بقي محترما من الانجليز - رغم انه انقلب ديكتاتورا - لأنه قاد ثورة الحرية و ظفر بخصوم الجمهور الطغاة.بهذا النظر يجب أن ندرس الحسين و نفهم حقيقة حركته التي أذكاها ضد يزيد الطاغية.

ص: 310


1- 246. اتخذ الناس طريقة العمل الانتخابي منذ الخليفة الأول قانونا، و يظهر هذا من رد عبدالله بن الزبير علي معاوية اذ أعلن رأيه في يزيد، و طرح الثقة في اجتماع الحج الذي هو البر لمان الأعظم في الاسلام، و قال له: ليس لك أن تفعل الا كما فعل النبي (ص) اذ جعل الانتخاب عاما أو كما فعل أبوبكر انتخب رجلا من عرض الناس أو كما فعل عمر جعلها في ستة. راجع ذيل الأمالي لأبي علي القالي.

في عهد علي

لمحة

اوفي الحسين في عهد أبيه علي الثلاثين من عمره، و استوي رجلا ناضجا مل ء برديه استبسال و عزيمة و تعلق بالاصلاح و مضاء في حركة التطهير التي يتطلبها الوضع الجديد الذي رسم خطته علي (ع).و الاب العظيم أشرف علي الثورة و هي تمور و تؤج و تندلع بنيرانها المسجورة، حتي اذا أحكم خطتها و جمع اليه الخيوط ليحركها بحسب الأدوار، تقطعت في يديه.عندها أدرك انه لم يتم من الثورة الا فصلها الاول، و ان التغلب علي الاحزاب التي كشفت الثورة عن شرتها، و التي ستعمد الي الصراع الطويل لن يتم الا بضربات سريعة قاسيد، و رأي انه لن ينجح الا باعجالهم قبل أن يتأشبوا فيستعصي القضاء عليهم، و وقعة الجمل عينت لمن سيكون الفوز، و لذلك استسلم الامويون بعدها واحدا بعد واحد و اسقط في ايديهم و أشرفت الثورة علي النهاية التي يسدل من بعدها الستار.بيد أن جيش (1) علي (ع) الذي كان قبليا في مزاجه العقلي و الذي أفسدته

ص: 311


1- 247. يقرر هذا ان عبدالله بن الزبير استقامت له الأقطار و حاصر الشام ثم تفلل لان مادة الجيش كانت قبلية بخلاف جند الشام النظامي.

الحزبية و الثورة، و خالفت بين خطواته الحيرة الدينية الراسخة، تحطم علي الصخرة النفسية التي لم تعمل فيها المبادي ء الادبية الاسلامية الا عملا قليلا.حملت عائشة راية الثورة من جديد، كما حملت راية الاستقزاز علي عثمان. و التاريخ لا يحدثنا لماذا خرجت علي علي (ع) و لم تر بعد من سياسته شيئا ما. و دعوي انها خرجت طلبا بدم عثمان توهيم، لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة التي تقضي (أ) بترك الامر الي الحاكم المركزي، فان لم يكن فلولي القتيل، و ليست من أوليائه. (ب) بأخذ المباشر دون المسبب.فلم تخرج عائشة اذا طلبا بدم عثمان بل لشي ء آخر، و هو ما لم يذكره التاريخ صراحة. و الذي يستقيم عندي في هذا الامر أن الحزبية بلغ من نفوذها مبلغا عظيما حتي عدت الي زوجات النبي (ص) فكانت ام سلمة (ض) من حزب المحافظين أي حزب علي، و عائشة (ض) من حزب طلحة و الزبير - كما ذكرت في مقدمة الحلقة الاولي - و كانتا كذلك في عهد النبي (ص)، فقد كانت ام سلمة زعيمة طائفة من نسائه و عائشة زعيمة طائفة أخري، و لا ريب في أن هذه الحزبية ولدت في نفسيهما حزازة تاريخية تقريبا اتصلت بمسلكها العام؛ ففوز علي يحفظ عائشة لانه فوز لام سلمة، اضف الي هذا موجدتها الخفية علي علي (ع)تناهي الي سمعها نعي عثمان و فوز علي، و هي في طريقها من مكة الي المدينة - التاريخ يذكر هنا رواية ساذجة بتراء فيقول انها رجعت الي مكة من فورها و لا نعلم سببا لرجوعها - و صحة الخبر عندي انها و هي في الطريق لقيت طلحة و الزبير، و هذان حملاها علي الرجوع و سهلا عليها الخوض في معمعة اجتماعية طاحنة، حتي اذا هبطوا مكة وجدوا فلول الامويين، ففكر طلحة و الزبير باستغلالهم فرتبوا الامور هكذا:يعصي بالشام معاوية، و هم يعصون بالعراق حتي اذا استقروا حاصروا الحجاز و انتزعوا السلطة من علي (ع). فهم علي ذلك كله فنشط لتسديد الضربات السريعة و هو واثق من نفسه كل الوثوق فلم يستمع للناصحين ذوي النظر السطحي، لأن كل تأخير يفضي الي خسران القضية المعلقة.

ص: 312

و من ضيق النظر (1) التاريخي ذهاب طائفة من المؤرخين الي أن وقعة الجمل كانت وقعة عرضية علي هامش الصراع، لأننا حينما ندقق في أسباب التأشب علي حكومة علي، نجد ان الشام و البصرة كانتا علي تفاهم تام. و يهشد لهذا ما ذكر ابن الاثير (2) في «الكامل» (من ان الخارجين فكروا بالذهاب الي الشام فقيل لهم قد كفاكم معاوية الشام، فاستقام الرأي علي قصد البصرة) و انما بدأ علي (ع) بالبصرة، لأن خصميه طلحة و الزبير و من ورائهما عائشة أكثر تأثيرا في الجمهور العربي من معاوية الذي يسهل القضاء عليه بالنظر الي انه لا يتمتع بشي ء من الثقة. فاذا أمهلها و قصد الشام استشري أمرهما و حبطت القضية من أولها، و بالقضاء عليها يخلص من أشرس خصومه، و أعتقد أن معاوية لم يلجأ الي خوض العراك الا ليظفر من علي بالمطمع الذي يلاعب نفسه، و لكن عليا لا يرغب البتة بأن يبقي نكأة في جسم الدولة، فأبي الا القضاء عليه، و هو نظر موفق جدا؛ و علي ضوء علم السياسة هي الخطة الواجبة. بيد أن عليا أتي من قبل الجيش من حيث لا يحتسب، فان جيشه هو الجيش الذي كانت تستخدمه الدولة في الفتوح، فهو منهوك، و زادت الثورة في انهاكه، فمال بعلي كرها الي التحكيم بخلاف جيش الشام فكان قليل الجهود في الفتح الاسلامي، فهو متماسك و لم تمسه الثورة فتنهكه، و هذا يظهر من تقاعد الجيش كلما طلبه علي (ع)، حتي قال مقاله الحكيم (ما غزي قوم في عقر دارهم الا ذلوا).في فصول الثورة تكشفت نفسيات الاشخاص، و مدي احتكامها بمنطق الضمير و الدين و الأخلاق، فعائشة زوج النبي القوامة الصوامة تخرج و تسفك الدماء، و طلحة و الزبير اللذان صحبا النبي (ص) امدا طويلا ينقضان البيعة، و أبوموسي الاشعري يخذل اميره في مقعد القضاء و التحكيم، و معاوية يعبث بالقرآن -

ص: 313


1- 248. يذهب الأستاذ العبادي المؤرخ المصري الي أن وقعة الجمل من الحوادث العرضية. و هذا عندي أخذ بظاهر الروايات التاريخية الساذجة.
2- 249. راجع الكامل ج 3. و شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 81، و العقد الفريد لابن عبد ربه ج 2. و ابن الصباغ في الفصول المهمة.

كتاب الله الاقدس - فيرفعه علي الاسنة خدعة حطيطة، و الجموع تتفرق من حوله حينما لم يخولهم من الاموال الا ما خولهم اياه الدستور الذي ثاروا لأجله.ولدت هذه المشاهد في نفس علي (ع) أسي مريرا ظهر جليا في خطب النهج - هذه الظاهرة لا تدع شكا في صحة نسبة النهج الذي يعبر أحسن تعبير عما يجب أن يصدر من فؤاد علي وسط هذه الزوبعة العاصفة - حزت علي نفسه هذه الفرطات المؤلمة، و لذعته كثيرا، فانصرف الي تثقيف الجمهور بروح الاسلام من جديد، و تقديم المثل الاعلي للمسلم الصحيح في شخصه، و ما فتي ء يضرب علي هذه النغمة حتي خر صريعا و هو ينادي الناس الي الصلاة الي الفلاح في غلس الليل.و كان هذا ايذانا بأن فجر الاسلام المثالي قد ذهب مع الامس، و فجر الغد سوف يكون ملطخا أبدا بالدماء و الاباطيل الحمراء...أطلت الشمس علي الدم القاني و هي في خدر امها - كما يقول بشار - فجذبت الغمام اليها، كأنها تشيح بوجهها أن تري منظر الهول الممدود في انسان المبادي ء الفضلي...أبت الأقدار الا أن تمنحه و سام الشرف في ظل كلمة الله التي جاهد لها و خر صريعا دونها، و هي مل ء قلبه و فمه.جاء في الشريعة أن السحر وقت تجلي الله، فينفح الرحمات و يهب البر و الخير و المحبة، و كان باطل الانسان يقظان أيضا في شكل افعي تنفث معناها، و في عين الله، التوت علي عنق الداعي (حي علي الصلاة، حي علي الفلاح) ثم استدارت علي يده كي تطفي ء مصباح (1) (ديوجين) كأنها ترهب أن يفضحها، فرأي الله و أبصر..

ص: 314


1- 250. لمصباح ديوجين معني رمزي هو الدلالة علي الحق و الفضيلة و الانسانية الصالحة؛ و هذا هو المقصود هنا.

نطق الحق بصوت الليل، هاتوا أبنائي و خذوا أبناءكم، فان الباطل الي التراب يصير، و الحق يجنح صعدا نحو السماء...ازدوج صوت علي (ع) حينما تخددت هامته بيد فاجرة، مع صوت المؤذن: الله اكبر الله اكبر، و كان لهما قرار واحد ثم صمت الفجر كأنه يتسمع...صدق (ماكس نورداو) حينما قرر بقاء الاحيل دون بقاء الاصلح، فان الاصلح لا يدوم طويلا في دنيا الاباطيل...مر انسان بانسان و قال له شيئا، فبكي احدهما و ضحك الآخر، ثم مضيا معا يضربان في كل مكان، كأن كلا منهما يتمم علي الآخر معناه. هذه صورة من حياة الارض فهنيئا لك بالسماء مهد المثالية ايتها المثل...

متارك نفسية

مثلما تركت هذه المشاهد في نفس علي (ع)، تركت في نفس الحسين؛ فقد رأي، من أطماع الناس و أهوائهم و أنانيتهم التي بلغت غايتها، شيئا كثيرا، حتي لراعه ما يري و يشهد. لم يكن يظن في من حوله الا الخير، و لكن الناس فجأوه بسرائرهم و مطويات نفوسهم، فلم ير فيها الا سوادا ود كنة قاتمة:ان شئت أن يسود ظنك كله فاجعله في هذا السواد الأعظم أدركه الاسي من مصير الناس، و أدركه الاسي حينما أحس بالضوء الذي أرسله النبي (ص) من مصباحه الوهاج يتخافت في و مضات. و شعور الاسي في نفس العظيم لا يستحيل يأسا بل عامل بعث جديد، فنشط الي الجهاد و الجهاد العنيف حتي كان قائد الميسرة في وقعة الجمل.و كان كأبيه يعتقد أن المجتمع لن يصلح الا اذا لقح بعصارة جديدة، و بترت منه الزوائد و أبعدت عنه الطفيليات، و كانت هذه عقيدة كل أنصاره أيضا، و بذا ارتجز (1) عمار بن ياسر في صفين، قال:

ص: 315


1- 251. راجع تاريخ ابن الوردي ج 1، ص 159.

نحن قتلناكم علي تأويله كما قتلناكم علي تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليلهفحركة علي (ع) كانت في جوهرها حركة بناء، و ليست بحركة تخريب - كما يشاء طائفة من المؤرخين نعتها - و نحن حينما نحللها نحاكم المؤرخين الي المبادي ء، فان حركة علي كان لها برنامجها الواضح، بينما لا نعلم لحركة معاوية برنامجا ما، سوي ما كان يلوح به من الثأر، هذه النزعة الجاهلية الخالصة التي بري ء منها الاسلام في خطبة الوداع التشريعية. و ان كان يتداركني العجب من شي ء، فمن أولئك المؤرخين الذين يأخذون الحسين (ع) بحركته ضد يزيد، فقد نعتوها بانها مهدمة مفرقة و لم تكن مادتها سوي اهل بيته، و لشد ما يسهل الاحاطة بهم فتتفلل. و يغفلون عن التعليق علي حركة معاوية ضد امام الحق علي (ع)، و كانت مادتها جيشا كثيفا، عدا عن انه لا يختلف اثنان في ان عليا كان ولي الامر و رجل الجدارة و الاستحقاق. و في الحق انه - ان كان في الحركات الخطيرة التي صادفها التاريخ الاسلامي في دوره الاول من ضر - فحركة معاوية كانت جماعه و مصدر كل تهديم و انحلال و تفلل اصاب تاريخ الدولة الفتية.فالحسين من بعد هذه المشاهد كلها و مصرع ابيه استبد به شعور انبعاثي يدخل في عناصره الاصلاح و الحفيظة و الانتقام، الي ما استقام في تربيته من محافظة و غيرة علي مبادي ء القرآن و ادبيات الاسلام، اضف الي هذا وصايا ابيه، و خصوصا وصيته اليه التي جاء (1) فيها:يا بني اوصيك بتقوي الله عز و جل في الغيب و الشهادة، و كلمة الحق في الرضي و الغضب، و القصد في الغني و الفقر، و العدل في الصديق و العدو، و العمل في النشاط و الكسل، و الرضي عن الله تعالي في الشدة و الرخاء.

ص: 316


1- 252. راجعها في كتاب الاعجاز و الايجاز لأبي منصور الثعالبي ص 33. و في كتاب ينابيع المودة ص 519.

يا بني ما شر، بعده الجنة، بشر؛ و لا خير، بعده النار، بخير؛ و كل نعيم، دونه الجنة، محقور؛ و كل بلاء، دون النار، عافية.اعلم يا بني أن من ابصر عيب نفسه شغل عن غيره، و من رضي بقسم الله تعالي لم يحزن علي ما فاته، و من سل سيف البغي قتل به، و من حفر بئرا لاخيه وقع فيها، و من هتك حجاب غيره انكشفت عوارت بيته، و من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، و من كابد الامور عطب، و من اقتحم البحر غرق، و من اعجب برأيه خل، و من استغني بعقله زل، و من تكبر علي الناس ذل، و من سفه عليهم شتم. و من دخل مداخل السوء اتهم، و من خالط الانذال حقر، و من جالس العلماء وقر، و من مزح استخف به، و من اعتزل سلم، و من ترك الشهوات كان حرا، و من ترك الحسد كان له المحبة من الناس.يا بني عز المؤمن غناه عن الناس، و القناعة مال لا ينفد، و من اكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، و من علم ان كلامه من عمله قل كلامه. يا بني الطمأنينة قبل الخبرة، ضد الحزم اعجاب المرء بنفسه و هو دليل علي ضعف عقله. يا بني كم من نظرة جلبت حسرة، و كم من كلمة جليت نقمة، لا شرف اعلي من الاسلام، و لا كرم اعلي من التقوي، و لا معقل احرز من الورع، و لا شفيع انجع من التوبة، و لا مال اذهب للفاقة من الرضي بالقوت، و من اقتصر علي بلغة الكفاف تعجل الراحة و تبوأ حفظ الدعة، الحرص مفتاح التعب و مطية التعب وداع الي التقحم في الذنوب، و الشر جامع لمساوي ء العيوب.و كفي ادبا لنفسك ما كرهته من غيرك، و من تورط في الامور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه العمل و الآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جنة من الفاقة، في خلاف النفس رشدها.يا بني! ربك للباغين من احكم الحاكمين، و عالم بضمير (1) المضميرين، بئس

ص: 317


1- 253. بعض الناقدين الأدبيين يشكون بهذه الوصية لوقوع مثل هذا اللفظ فيها، فان الضمير بمعني القوة النفسية الخاصة و موطن الوجدان لا يعرف بهذا المعني زمن علي؛ و نحن نقول ان خطأهم ناشي ء من فهم الضمير بهذا المعني، و الا فهو هنا بمعني المضمر، و لا شك بأنه كان معروفا بهذا المعني اذ ذاك.

الزاد للمعاد العدوان علي العباد، في كل جرعة شرق، و في كل كلمة غصص، لا تنال نعمة الا بفراق اخري، ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم، و الموت من الحياة، فطوبي لمن اخلص لله تعالي علمه و عمله و حبه و بغضه، الويل الويل لمن بلي بحرمان و خذلان و عصيان، لا تتم مروءة الرجل حتي لا يبالي أي ثوبيه لبس، و الا اي طعاميه اكل.)هذه وصية اجدر ما تكون بالوصف الذي اعطاه اياها ابومنصور الثعالبي (اعجاز في ايجاز). و هي تجمع شيئا كثيرا من فلسفة الاخلاق و الحب و البغض، و فلسفة الالم و اللذة التي هي مدار المذهب الاخلاقي الحديث. و انا كلما تأملت قوله (ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم) تمثلت (ارثر شبنهاور) و فلسفته التي كشف عنها في مؤلفه العظيم (العالم كارادة و تصور).و قد جعل فلسفته قائمة علي اساس تصور الارادة و القوة بمفهوميهما، و هو يقول انه لا يمكن تصور العالم الا في أحد الافكار، فالارادة قوام عالم الحوادث. و هذه الارادة تبدو بمظهر الميل الي الحياة، الا ان هذا الجهد مصحوب بالالم؛ و من اقواله ان خير ما يعالج به الالم هو العفاف و الزهد. و قد دون علم اخلاق قائما علي الرأفة و الشفقة، و علي أساس مماثلة الموجودات بعضها بعضا. و هو (1) كأنه ينقل الي الاجنبية فلسفة علي (ع) الاخلاقية، أو كأن عليا يترجم الي العربية فلسفته.و بذلك وجه الحسين وجهة سبقت محيطه و عصره بكثير، و اقامت فيه امثولته الاصلاحية من شتي نواحيها.

ص: 318


1- 254. عقدنا فصلا هاما في المقارنة بين الفلسفتين في كتابنا الكبير عن علي (ع) الذي سنخرجه عما قريب.

الزاد للمعاد العدوان علي العباد، في كل جرعة شرق، و في كل كلمة غصص، لا تنال نعمة الا بفراق اخري، ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم، و الموت من الحياة، فطوبي لمن اخلص لله تعالي علمه و عمله و حبه و بغضه، الويل الويل لمن بلي بحرمان و خذلان و عصيان، لا تتم مروءة الرجل حتي لا يبالي أي ثوبيه لبس، و الا اي طعاميه اكل.)هذه وصية اجدر ما تكون بالوصف الذي اعطاء اياها ابومنصور الثعالبي (اعجاز في ايجاز). و هي تجمع شيئا كثيرا من فلسفة الاخلاق و الحب و البغض، و فلسفة الالم و اللذة التي هي مدار المذهب الاخلاقي الحديث. و انما كلما تأملت قوله (ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم) تمثلت (ارثر شبنهاور) و فلسفته التي كشف عنها في مؤلفه العظيم (العالم كارادة و تصور).و قد جعل فلسفته قائمة علي اساس تصور الارادة و القوة بمفهوميهما، و هو يقول انه لا يمكن تصور العالم الا في أحد الافكار، فالارادة قوام عالم الحوادث. و هذه الارادة تبدو بمظهر الميل الي الحياة، الا ان هذا الجهد مصحوب بالالم؛ و من اقواله ان خير ما يعالج به الالم هو العفاف و الزهد. و قد دون علم اخلاق قائما علي الرأفة و الشفقة، و علي أساس مماثلة الموجودات بعضها بعضا.و هو (1) كأنه ينقل الي الاجنبية فلسفة علي (ع) الاخلاقية، أو كأن عليا يترجم الي العربية فلسفته.و بذلك وجه الحسين وجهة سبقت محيطه و عصره بكثير، و اقامت فيه امثولته الاصلاحية من شتي نواحيها.

ص: 319


1- 255. عقدنا فصلا هاما في المقارنة بين الفلسفتين في كتابنا الكبير عن علي (ع) الذي سنخرجه عما قريب.

فترة بين شكلين من اشكال الحكم

فشت في روح الجماعات فاشية الانحلال و التداعي النفسي و بدأت الحماسة تدخل في دور ركود طبيعي، لانها لم تؤد الي نتيجة حاسمة. و انما كان تفلل الاعصاب وتحدث فيها زوبعة من الاستياء و اليأس القاتل.و الجماعات - لانها تتحرك باثر الشعور - فهي سريعة الحركة سريعة السكون، الاانها تسكن علي قلق فلا تلبث أن تثور. فلم يكن عهد معاوية في الحقيقة الاجتماعية الا فترة السكون مؤقتة. و كان معاوية قصير النظر للغاية في فهم روح الجماعات، حينما لم يعمد الي مداواة بقايا الزوبعة الكامنة في كل نفس، بل علي العكس عمد الي استثارتها بشتي الوسائل؛ و كانت خططه و سياسته استفزازية محضا، فقد نفي خصومه بازدراء، و اهتاجهم بعنف حينما سن بدعة سب علي (ع) و انصاره علي المنابر، و في الناس انصار له كثيرون فلم يبرد الحفيظة بل زاد في اوارها و اذكي اشتعالها و بذلك كتب علي دولته و ملكية بيته الفناء العاجل. و قد ظهرت هذه النتائج سريعا في الثورة علي يزيد ابنه في اخريات ايامه، فلم يجد حفيده حلا سوي الحل الذي سنه الحسن (ع).فمعاوية لم يكن سياسيا - كما نفهم اليوم - بل مداورا، و الذي يتأمل اسباب نجاحه، يجدها ترجع من اقرب سبيل الي الوقت الذي دخلت عناصره

ص: 320

في الظرف السياسي القائم، فرجحت باحد الجانين؛ فنجاحه جاء عفوا.و انا كلما تأملت حركاته لم اجد فيه الا سياسيا عاديا للغاية، كان اكبر ما في سياسته انه نجح فقط، فهو من السياسين اليوميين و في رأيي أن اكبر سياسيي الامويين هو عبدالملك بن المروان، و اعتقد أن معاوية لو تعرض لما تعرض له عبدالملك لفشل فشلا ذريعا، فقد اجتمع عليه الخوارج و عبدالله بن الزبير و ثورة عبدالرحمان بن محمد بن الاشعث.ولي رأي قد لا يوافقني عليه الكثيرون، و هو ان معاوية كان يرمي، من وراء خططه الاستفزازية الي القضاء علي بقايا انصار علي (ع) من الرجالات المرهوبين و الي استئثال شأفتهم، و كانت خطة سب علي مقصودة لهذا الغرض؛ فقد كان يفكر انه - اي السب - سيثير انصاره و هم فلول، و بالاخص الهاشميين كالحسن و الحسين و عبدالله بن جعفر و من اليهم، و بذلك يتسني له القضاء عليهم بحجة مسموعة تعذره عند الشعب، و يؤكد هذا عنفه في اخذ حجر (1) بن عدي و سواه من الكثيرين، لما اظهروا الاستياء من السب العلني و النيل الخالي من الذوق الديني و الادبي.كانت خطة يريد بها القضاء علي الهاشميين بالذات، و يختم، بذلك، الصراع

ص: 321


1- 256. ذكر ابن جرير في تاريخه ج 6: ان معاوية لما و لي المغيرة بن الشعبة الكوفة في سنة 41 دعاه و أوصاه بشتم علي و ذمه و العيب علي أصحابه و الاقصاء لهم و باطراء شيعة عثمان و الادناء لهم و الاستماع منهم، فأقام المغيرة علي الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين و أشهرا لا يدع ذم علي و الوقوع فيه و الدعاء لعثمان بالرحمة، و التزكية لأصحابه و المطالبين بدمه، فكان الحجر بن عدي اذا سمع ذلك قال بل اياكم فذمم الله و لعن ثم قام فقال ان الله عز و جل يقول كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و انا اشهد ان من تذمون و تعيرون لا حق بالفضل. و لما هلك المغيرة سنة 51 جمعت الكوفة و البصرة لزياد بن أبيه فلما لعن عليا و أطال الخطبة و أخر الصلاة قال حجر بن عدي: الصلاة فمضي في خطبته ثم قال الصلاة، فمضي في خطبته، فلما خاف حجر فوت الصلاة ثار اليها و ثار الناس معه فكتب زياد الي معاوية، فكتب اليه هذا أن شده بالحديد؛ فلما دخل عليه قال له معاوية: و الله لا أقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فضربت عنقه؛ و قالت هند ابنة زيد الأنصاري ترثيه: ترفع أيها القمر المنير تبصر هل تري حجرا يسير يسير الي معاوية بن حرب ليقتله كما زعم الامير فان يهلك فكل زعيم قوم من الدنيا الي هلك يصير.

التاريخي الطويل حتي لا تعود له ذيول. فمعاوية اذن لم ينقذه الا اطالة الصراع الذي اوهن اعصاب الجماعات، و ظهور الفرقة في جيش علي (ع) نتيجة للقلق الديني و القبيلة، و علي كل فمعاوية اثبت عدم فهمه البته لروح الجماعات و الجماهير.و نعود الآن بعد هذا الاستطراد الي ما عرا الجماعة من كلالة و سأم ظاهرين لمسهما الحسن علي كل وجه فلم يجد حلا للموقف الا بان يتنازل، و هو نفسه قد سم و مل ايضا، فكانت اولي تصريحاته بعد ان نزل علي رأي بعض الجمهور المتحمس و سار نحو الشام «ان الجماعة خير من الفرقة» فثارت الحماسة في رأس البعض - و هو الجراح بن سنان - فطنعه بمغول في فخذه فشقه حتي بلغ العظم.و تنازل الحسن (ع)، رغم اختلاف الرواة في كيفيته و اختلاف النقدة من المؤرخين في اسبابه و محاكمته، يدل علي عزوف الحسن. و زاده عزوفا المفاجأة التي صدمته فبددت عزيمته شعاعا، و هي هرب عبيدالله بن عباس، و كان قائد جنده و من لحمته، فاسود ظنه في الناس. و من ثم يظهر الفرق بينه و بين ابيه الذي لم يتضعضع مع استسلام أخيه عقيل، أو أخيه الحسين الذي ثار حينما فاجأه بعزيمته علي التسليم لمعاوية.و التاريخ يحدثنا بان هذه المفاجأة كانت عنيفة الوقع علي الحسين، حتي لم يضبط شعوره و انفعال نفسه؛ و كذلك يكون العزوم ذو المضاء. انفجر كما ينفجر البركان تجاه الرأي الذي عقد النية عليه اخوه الاكبر، و نطق بكلمته المدوية التي تجمع الغميزة الي مقال الحق «اعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره، و تصدق معاوية» و في رواية «انشدك الله أن تصدق أحدوثه معاوية و تكذب احدوثة ابيك». و هذه كلمة تجمع الي الاستنكار الصارخ، الاستفزاز العميق، و قد جمع فيها الحسين كل قوته و دهائه ليبلغ من اخيه مبلغا يثيره.و بالفعل استيقظت نفسه

ص: 322

المالة، الا انه غالط شعوره، و انصرف بحماسته الي تعنيف اخيه، فقال: «و الله ما اردت امرا الا خالقتني الي غيره، و الله لقد هممت أن اقذفك في بيت فاطينه عليك حتي اقضي امري.»و امام جواب اخيه العنيف لم يملك ان يقول له اكثر مما قال «انت اكبر ولد علي، و انت خليفتي و امرنا لامرك تبع، فافعل ما بدا لك» كلمة فيها تسليم المكرة و لكن مع القاء التبعة و البراءة من كل مسؤولية. و كأن الحسين يتجه الي أن الظرف و ان يكن حرجا فلم يفلت كل شي ء من اليد، و في الاستطاعة تدارك ما فات، و استثمار الضعف حتي يصبح قوة ماضية.و كذلك تكون النفس الكبيرة التي تحمل صاحبها علي ان يكافح و يكافح ما بقيت لديه مادة تغري ارادته.و اذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام نحن لا ننكر هنا أن للحسن عذره في اعلان الهدنة و طلبها نظرا للانحلال و الانهاك الذي اصاب الجماهير، كما صرح بهذا الي عبدالله بن جعفر «قد و الله طالت الفتنة و سفكت فيها الدماء و قطعت الارحام و تقطعت السبل و عطلت الثغور».و لكنه كان قديرا علي ان يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستثارة و الاحماس و بث روح العزم و الارادة، كما رأينا في القادة الحديديين امثال (نايلون) الذي تولي شعبا انهكته الثورة الطويلة كما انهكت العرب، و زاد هو في انهاكه بالحروب المتتالية المستمرة التي اخذ بها اوربا. و لكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس.

ص: 323

الحسين في عهد الدولة الاموية

انقلاب

نستقبل في عهد الدولة الاموية تجديدا يشمل الاوضاع كافة و يتصل بجوهرها، حتي بات منه المجتمع العربي في شكلية لا عهد له بها، ثم لا تتصل بالعهد الغابر الا اتصالا خفيا فيه كثير من الغموض. فهيئة الحكم و طريقة الاجراء و الادارة و قاعدة العمل العام، لم تعد كما كانت.و نحن قدمنا - في فصل القديم و الجديد - ان الميل الي التجديد و اعتناق اشيائه ظهر في اوائل عهد عثمان اي في اوائل حكم الامويين، ضرورة الاحتكاك بنظم الامم المختلفة التي غمرها الاسلام و صهرها في بوتقته، و لكن هذه النظم لم تزل فيها حيوية و صلاحية للبقاء، و الامة الجديدة ساذجة بعض الشي ء او في حكم الساذجة، لذلك افسحت لنفسها مرة اخري بان تعيش.و الامويون، نظرا للاستعداد النفسي الذي لم تصقله العقيدة كثيرا، كانوا اكثر جنوحا الي محاكاة هذه النظم التي هي جديدة بالنظر الي العرب، فلما آنسوا من انفسهم القوة، و جمعوا مقدرات الحكم في ايديهم، و عطلوا حرية الشعب، و قضوا علي رقابته، مالوا بكليتهم الي فرض النظم المقتبسة، و اتصل هذا التجديد بالشعب، فسرعان ما تغير و تحلل و طلب الحياة في الهواء الطلق كما يقولون.و ساعد الشعب علي سرعة التحلله أن أكثر رجال القديم ذهبوا ضحية الصراع

ص: 324

الثوري العنيف، فالجمهور الباقي يتألف من الشباب وحدهم و خليط من الامم المنحلة، فكان لديه الاستعداد التام لحركة انقلابية من هذا النوع. فالادبية الاسلامية اذا اصيبت بانحراف كبير، ان لم نقل ان الحياة العامة خرجت عن قاعدتها. و هذا ما يعلل تفشي المجون في مهبط الوحي، و انتشار الحياة اللاهية المفتونة هنا و هناك. و لعل في درس حياة يزيد و صنوف اللهو التي دخلتها، و هو في بيت الملك او الخلافة - يشاؤون تسميته -ما يوقفنا علي مدي التجديد الجارف و الانحراف الذي شمل الدولة الاموية او قام معها اول ما قامت،الي ان توارت في استخفاء ابدي. و في رسالة القيان للجاحظ اقاصيص كثيرة ترينا الوانا من العهد الجديد الذي هو انقلاب و ليس تجديدا فحسب بالمعني المفهوم من هذا اللفظ.امام هذا التجديد الذي انحرف بالحياة عن سنتها الخاصة التي وضع النبي (ص) طريقتها، و ثبتت في نفوس افراد كثيرة و جماعات كذلك، وقف الحسين (ع) كمنتقد و متهم، و كان يرفع الصوت بالانتقاد الصريح في المناسبات التي تعرض؛ فحينما قتل عدي بن حجر كتب الحسين الي معاوية كتابا سيظل علي التاريخ سجلا لعبث السلطة، و انتقاد الشعب الذي يأبي الا ان تكون له الرقابة الممنوحة له من قبل الله.و من الخير اثبات هذا الكتاب بنصه لانه يدلنا علي اكثر الاشكال التي اصطنعتها السياسة الاموية طريقة لها، قال (1) :(اما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه انه انتهت اليك عني امور انت لي عنها راغب، و انا بغيرها عندك جدير؛ و ان الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد اليهاالا الله تعالي.(اما ما ذكرت انه رقي اليك عني، فانه انما رقاه اليك الملاقون المشاؤون بالنميمة

ص: 325


1- 257. راجح الامامة و السياسة لابن قتيبه ج 1 ص 284. و اخبار الرجال لأبي عمر الكشي. و اختيار الرجال لأبي جعفر الطوسي ج 32.

المفرقون بين الجمع؛ و كذب الغاوون. ما اردت لك حربا و لا عليك خلافا، و اني لا خشي الله في ترك ذلك منك، و من الاعذار فيه اليك و الي اوليائك القاسطين: حزب الظلمة.الست القاتل حجر بن عدي اخا كندة و اصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و لا يخافون في الله لومة لائم؛ ثم قتلتهم ظلما و عدوانا، من بعد ما اعطيتهم الايمان المغلظة و المواثيق المؤكدة، جرائة علي الله و استخفافا بعهده.أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي ابلته العبادة فنحل جسمه و اصفر لونه؛ فقتلته بعدما امنته و اعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.او لست بمدعي زياد بن سمية المولود علي فراش عبيد ثقيف، فزعمت انه ابن ابيك؛ و قد قال رسول الله (ص) الولد للفراش و للعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله (ص) تعمدا و تبعت هواك بغير هدي من الله، ثم سلطته علي اهل الاسلام يقتلهم و يقطع ايديهم و ارجلهم و يسمل اعينهم و يصلبهم علي جذوع النخل، كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك.او لست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه زياد اليك، انه علي دين علي كرم الله وجهه، فكتبت اليه ان اقتل كل ما كان علي دين علي؛ فقتلهم و مثل بهم بأمرك، و دين علي هو دين ابن عمه (ص) الذي اجلسك مجلسك الذي انت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء و الصيف و قلت، فيما قلت، انظر لنفسك و لدينك و لامة محمد، و اتق شق عصا هذه الامة و ان تردهم الي فتنة. و اني لا اعلم فتنة اعظم علي هذه الامة من ولايتك عليها، و لا اعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد (ص) افضل من ان اجاهرك، فان

ص: 326

فعلت فانه قربة الي الله، و ان تركته فاني استغفر الله لديني و اسألهتوفيقه لارشاد امري.و قلت، فيما قلت، اني ان انكرتك تنكرني. و ان أكدك تكدني. فكدني ما بدا لك. فاني ارجو ان لا يضرني كيدك و أن لا يكون علي احد اضر منه علي نفسك، لانك قد ركبت جهلك و تحرصت علي نقض عهدك. و لعمري ما وفيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح و الأيمان و العهود و المواثيق، فقتلتهم من غير ان يكونوا قاتلوا و قتلوا. و لم تفعل ذلك بهم الا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا، مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل ان يفعلوا، او ماتوا قبل ان يدركوا، فابشر يا معاوية بالقصاص و استيقن بالحساب، و اعلم ان الله تعالي كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا احصاها، و ليس الله بناس لاخذك باظنة و قتلك اولياءه علي التهم، و نفيك اياهم من دورهم الي دار الغربة، و اخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب و يلعب بالكلاب، ما اراك الا قد خسرت نفسك و تبرت دينك و غششت رعيتك و سمعت مقالة السفيه الجاهل و اخفت الورع التقي، و الاسلام).هذا الكتاب سجل للدماء التي سفكها الامويون، و هو صرخة في وجه العبث و التلاعب و التجاوز، كما انه بيان لحقوق الشعب التي لا يمكن التغاضي عنها مهما كلف الامر، و ايضا يكشف لنا عن جانب من الاسباب التي دعته للخروج علي يزيد فيما بعد.علي انه لم يستبح الخروج علي معاوية، وفاء بعهده، رغم نقض معاوية للعهد، و لانه لم يستهتر استهتارا مكشوفا لا يترك للنفس عذرا.و لله كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة (كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك) هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف، و قديما قال الصابي (ان الرجل من قوم ليست له اعصاب تقسو عبيهم) و هو اتهام من الحسين (ع) لمعاوية في وطنيته و قوميته، و اتخذ من الدماء الغزيرة المسفوكة عنوانا علي ذلك.

ص: 327

و ليس بعد هذا السجل الذي يلصقه الحسين بمعاوية، ما يحملنا علي الشك في النتيجة التي قررناها في مقدمة (1) الحلقة الاولي و هي (ان نظام الحكم في عهد الملوك الامويين لم يكن الا ما نسميه في لغة العصر بنظام الاحكام العرفية. هذا النظام الذي يهدر الدماء و يرفع التعارف علي المنطق القانوني و يهدد كل امري ء في وجوده. و في هذا العصر اذا كان يتخذ في ظروف استثنائيه و لحالات خاصة، يراد بها الارهاب و اقرار الامن، فقد كان في العهد الاموي هو النظام السائد. و في الحق انه لا يمكننا ان نسمي هذا سلطة قضائية البتة بل ننكر بكل قوة ان يكون في العصر الاموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح، الا في فترات لا تلبث حتي يكون التيار من ورائها طاغيا. و اكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة او حكومته تأتي ما تهوي بدون ان تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الاقل، مما يشعر باحترام السلطة للقانون.و ان من المهم أن نتحقق من عدم الوجود السلطة القضائية في ذلك العهد، و ان نزن الاجراءات الحكومية جميعها بهذا الميزان الذي يعرفنا اكثر ما نحن في حاجة الي معرفته بين يدي الدراسات الاموية.)و يناصر هذه النتيجة السياستان التقليديتان اللتان اصتنعتهما الدولة الاموية في دوريها:الدور الاول: يبتدي ء بمعاوية الاول و ينتهي بتنازل معاوية الثاني. و كانت سياسة هذا الدور التقليدية هي سياسة زياد بن ابيه الدموية.الدور الثاني: يبتدي ء بمروان و بالاحري بعبدالملك و ينتهي بمصرع مروان الجعدي، و كانت سياسة هذا الدور التقليدية هي سياسة الحجاج القائمة علي الحديد و النار. و قد لفتنا الي هذا التقسيم تصريح عمر بن عبدالعزيز الذي ذكره القالي في الامالي و هو (ماذا فعل الحجاج حتي يؤتم به، ذاك زياد الذي جمعهم

ص: 328


1- 258. راجح الحلقة الأولي (سمو المعني).

جمع الذر). و هاتان سياستان نعلم من اخبارهما شيئا كثيرا، و لا اظن كائنا من كان يقول: ان القضاء كانت له حرمة فيهما.عند قسطنطينية ذكر ابن عساكر: أن الحسين وفد علي معاوية، و توجه غازيا اليالقسطنطينية في الجيش الذي كان اميره يزيد بن معاوية، و هي الغزوة الثانية.هذا مثل جديد يضيفه الحسين (ع) الي جملة الامثال الرفيعة التي ضربها في انكار الذات و تناسي الحفيظة بسبيل الخدمة العامة و بسبيل ايجاد آفاق جديدة للمبادي ء. فالحسين يدعي للجهاد ضد عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، و هي مغامرة جريئة و خطوة لها خطر، فيجيب، و لكن تحت قيادة من؟.تحت قيادة يزيد الذي كان يسمع الحسين من اخباره المستهترة شيئا كثيرا؛ و لكي تعلم مبلغ استهتاره و تماجنه نذكر ان زياد بن ابيه نصح لمعاوية اذا شاء ان يستقيم له امر ولده، و ان يضع حدا لمباذله و للشائعات المتزايدة من حوله، فليبعثه في الغزوات و ليبعده عن حياة القصر المشبوبة بالفتون.فحمله معاوية حملا (1) علي الخروج في هذه الغزوة، و انتزعه انتزاعا من اخضان الحريات المستهترة، علي انه لم يذعن الا بان يجمع اليه في المعسكر ناس ممن يملأون اذنيه بصدي الشهوات و يخلقون له جوا ذا نسب قريب بالجو الذي فارقه علي كره.فبلاه الحسين (ع) و شهده عن قرب، و خبر ميوله و اهواءه كما لو وضع

ص: 329


1- 259. راجح الكامل لابن الأثير ج 3 ص 197. فقد ذكر ان معاوية سير جيشا الي بلاد الروم فتثاقل عنه يزيد فأصاب الناس في غزوتهم جوع و مرض شديد فأنشأ يزيد يقول: ما ان أبالي بما لاقت جموعهم بالفرقدونة من حمي و من موم اذا اتكأت علي الأنماط مرتفقا بدير مران عندي أم كلثوم و هذا في الغزوة الأولي التي لم يذهب بها.

عليها اليد، فانكشف له من نزعات نفسه و نزغاته ما جعله عنيفا في الحملة عليه لدي اية مناسبة.تكبر النفس بالعقيدة حتي لا تري الا اياها...و تحول احلام النفس و شهوات الغرائز في مذهب سمو العقيدة...فالحسين (ع) احال غرائزه الي ما يساعد عمل العقيدة فيه، فأنكر الذات و مضي الي الجهاد...

ص: 330

في عهد يزيد

المامة

فكر معاوية بتقرير نظام ولاية العهد في الاسلام علي سنة وراثية، و لاشك في ان هذا اقتباس من البيئة الجديدة التي تأثر بها الي ابعد حد. غير انه عمد الي تطبيق هذا النظام بضرب من المداورة و الخديعة للرأي العام، و اليك ما جاء في النوادر (1) لابي علي القالي (عن جويرية بن اسماء قال: لما اراد معاوية البيعة ليزيد ولده، كتب الي مروان و هو عامله علي المدينة. فقرأ كتابه و قال: ان امير المؤمنين قد كبر سنه و دق عظمه، و قد خاف ان يأتيه امر الله تعالي فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، و قد احب أن يعلم علما و يقيم اماما. فقالوا: وفق الله امير المؤمنين. سدده ليفعل.فكتب بذلك الي معاوية، فكتب اليه: ان سم يزيد. قال: فقرأ الكتاب عليهم و سمي يزيد، فقام عبدالرحمان بن ابي بكر فقال: كذبت و الله يا مروان. كذب معاوية معك. لا يكون ذلك، لا تحدثوا علينا سنة الروم، كلما مات هرقل قام مكانه هرقل.فقال المروان: ان هذا الذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني أن

ص: 331


1- 260. راجع النوادر ص 175 و 176.

أخرج. قال: فسمعت عائشة ذلك فقالت: ألابن الصديق يقول هذا. استروني، فستروها. فقالت: كذبت و الله يا مروان ان لذلك لرجل معروف نسبه.قال فكتب بذلك مروان الي معاوية فأقبل. فلما دنا من المدينة استقبله اهلها فيهم: عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير. الحسين بن علي و عبدالرحمن بن ابي بكر، فاقبل علي عبدالرحمن فسبه و قال لا مرحبا بك و لا اهلا، فلما دخل الحسين عليه قال لا مرحبا بك و لا اهلا، بدنة يترقرق دمها و الله مهريقه.فلما دخل ابن الزبير قال لا مرحبا بك و لا اهلا، ضب تلعة مدخل رأسه تحت ذنبه.فلما دخل عبدالله بن عمر قال: لا مرحبا بك و لا اهلا و سبه، فقال اني لست باهل لهذه المقالة، قال بلي و لما هو شر منها.قال فدخل معاوية المدينة و اقام بها، و خرج هؤلاء الرهط معتمرين، فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجا، فاقبل بعضهم علي بعض، فقالوا: لعله قد ندم.فاقبلوا يستقبلونه. فلما دخل ابن عمر قال: مرحبا بك و اهلا يا ابن الفاروق، هاتوا لابي عبدالرحمن دابة. و قال لابن ابي بكر مرحبا بابن الصديق هاتوا له دابة. و قال لابن الزبير مرحبا بابن حواري رسول الله هاتوا له دابة. و قال للحسين مرحبا بابن رسول الله. هاتوا له دابة. و جعلت الطافه تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس و يحسن اذنهم و شفاعتهم.قال ثم ارسل اليهم فقال بعضهم لبعض: من يكلمه؟ فاقبلوا علي الحسين فأبي، فقالوا لابن الزبير: هات فانت صاحبنا. قال: علي أن تعطوني عهد الله الا اقول شيئا الا. تابعتموني عليه قالوا نعم. فدخلوا عليه فدعاهم الي بيعة يزيد، فسكتوا. فقال ابن الزيبر: اخترمنا خصلة من ثلاث. قال: ان في ثلاث لمخرجا. قال اما أن تفعل كما فعل رسول الله (ص) قال ماذا فعل؟. قال لم يستخلف احدا قال: و ماذا؟ قال او تفعل كما فعل ابوبكر قال ماذا فعل؟ قال نظر الي رجل من عرض قريش فولاه. قال: و ماذا؟ قال: او تفعل كما فعل عمر بن الخطاب قال: فعل ماذا؟ قال: جعلها شوري في ستة من قريش.

ص: 332

قال معاوية: ألا تسمعون اني قد عودتكم علي نفسي عادة و اني اكره أن امنعكموها قبل ان ابين لكم، أن كنت لا ازال اتكلم بالكلام فتعترضون علي فيه و تردون، و اني قائم فقائل مقالة، فاياكم ان تعترضوا حتي أتمها، فان صدقت فعلي صدقي، و ان كذبت فعلي كذبي، و الله لا ينطق احد منكم في مقالتي الا ضربت عنقه. ثم و كل بكل رجل من القوم رجلين يحفظانه لئلا يتكلم، و قام خطيبا فقال: ان عبدالله ابن الزبير و الحسين بن علي و عبدالرحمن ابن ابي بكر قد بايعوا فبايعوا. فانجفل الناس عليه يبايعونه، حتي اذا فرغ من البيعة ركب نجائبه فرمي الي الشام و تركهم. فاقبل الناس علي الرهط يلومونهم، فقالوا: و الله ما بايعنا، و لكن فعل بنا و فعل.)هذه وثيقة مهمة جدا يحتاج المؤرخ الي تدقيقها و درسها درسا تحليليا. و هو بعد هذا الدرس يصل الي ان يزيد تمت بيعته بطريقة الاغفال، فهي غير صحيحة، و يزيد ليس امام يعتبر الخارج عليه باغيا، اضعف الي هذا صفاته الشخصية التي تقدح في امامته باتفاق ء لا تصحح انتخابه، مراعي في ذلك الزمان و المكان و العرف.فالحسين (ع) لم يخرج علي امام و انما خرج علي عاد فرض نفسه فرضا او فرضه ابوه بدون ارعواء، و انه ضيق النظر. فنظام ولاية العهد جر علي الدولة الويلات من وجه، واعد المجتمع للثورة مرة اخري اعدادا قويا حينما عهد الي يزيد.و الوثيقة تعرفنا قوة الرأي العام في ذلك العهد رغم الضغط و تكميم الافواه، و تثبت لنا ايضا و جود اصول انتخابية مقررة.

تاريخ مقارن

عرفنا شيئا كثيرا من عناصر تربية الحسين (ع) في الفصول المارة و خرجنا منها بنتائج هامة، و هي انه كان مثاليا في العقيدة و الاخلاق و السلوك و الآن نعرض لأثر التربية في يزيد.أنبهنا العلامة بستالوزي، الي دور الانتقال او التحول الذي يعرض لكل ناشي ء،و ان واجب المربي في هذا الدور عظيم جدا، فاذا اهمل الناشي ء

ص: 333

اندك في نفسه صرح الفضائل الاولي و المبادي ء الادبية المكتسبة.فاذا علمنا أن يزيد في هذا الدور كان مرسل العنان في بني كلب اخواله، مطيته الشباب و الفراق و الجدة، و صلنا الي السبب الذي جعل سلوكه متجاوزا علي ما جاء في الاخبار. و مما يدخل في تدقيق الموضوع ذكر نتف مما حدثنا التاريخ.(ذكروا ان يزيد (1) عرف بشرب الخمر و اللعب بالكلاب و التهاون بالدين، و يلهو (2) بالنردو يتصيد بالفهود و من شعره:اقول لصحب ضمت الكأس شملهم و داعي صبابات الهوي يترنم خذوا بنصيب من نعيم و لذة فكل، و ان طال المدي، يتصرم و كان (3) صاحب طرب و منادمةعلي الشراب. جلس ذات يوم علي شرابه و عن يمينه ابن زياد بعد قتل الحسين فاقبل علي ساقيه فقال:اسقني شربة تروي مشاشي ثم صل فاسق مثلها ابن زيادصاحب السر و الامانة عندي و لتسديد مغنمي و جهادي ثم امر المغنين فغنوا. و غلب علي اصحاب يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق. و في ايامه ظهر الغناء بمكة و المدينة و استعملت الملاهي و اظهر الناس شرب الشراب.و بالجملة كان (4) موفر الرغبة في اللهو و القنص و الخمر و النساء و كلاب الصيد حتي كان يلبسها الاساور من الذهب و الجلال المنسوجة منه و يهب لكل كلب عبدا يخدمه، و ساس الدولة سياسة مشتقة من شهوات نفسه، و كانت

ص: 334


1- 261. راجح الكتاب أخبار الدول لأحمد بن يوسف القرماني ص 130 و 131.
2- 262. راجح حياة الحيوان للمديري في الكلام علي الفهد ج 2 ص 270.
3- 263. راجح مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 74.
4- 264. راجح الفخري لابن طباطبا المعروف بابن الطقطقي ص 103.

ولايته ثلاث سنين و ستة اشهر، ففي السنة الاولي قتل الحسين بن علي، و فيالسنة الثانية نهب المديند و اباحها ثلاثة ايام (1) ثم فيها قتل سبعمائه من المهاجرين و الانصار و لم يبق بدري بعد ذلك، و قتل عشرة آلاف من الموالي و العرب و التابعين. و افتضاض الف عذراء).اضعف الي هذا ما اجتمع له من الوراثة التاريخية، و هي علي شتي اشكالها تساعده علي ان يكون كذلك بعيدا عن المثالية بكل معانيها.و قد ذكرت في الحلقة (2) الاولي ان يزيد نشأ نشأة مسيحية تبعد كثيرا عن عرف الاسلام، و ذلك لان يزيد يرجع بالامومة الي بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تدين بالمسيحية قبل الاسلام، و من بديهيات علم الاجتماع أن انسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمنا طويلا، علي أن طائفة من المؤرخين ترجح ان من اياتذته بعض نساطرة الشام من مشارقة النصاري. و اذا صح هذا نعثر علي سبب خطير ايضا يساعده علي ان يظهر بهيئة الساخر من الاوضاع التي يأخذ المجتمع بها نفسه. كما ان القبيلة عملت فيه عملها فخرج جافيا ذا عصبية قاصية.فاحدهما اذا سماء، والآخر ارض: و ستطل بينهما هوة فسيحة تبدو كأنها لا نهائية، فخروج الحسين (ع) كان واجبا دينيا و اجتماعيا و برلمانيا - اذا صح هذا التعبير - و لا حظنا في الحلقة الاولي: أنه كان علي معاوية - و هو يعلم انم السلطتين الدينية و الزمنية اندمجتا في الاسلام، و للاولي شروط (3) تتعلق بالسلوك - أن يفصل ما بين السلطتين حتي لا يعرض المجتمع لكوارث لا تحصي، بنسبة تعريض بيته لها. و هذا قصر نظر بلاريب، و غلطة سياسية حفرت القبر مع المولود.

ص: 335


1- 265. راجع كتاب أخبار الدولي للقرماني ص 130.
2- 266. راجع الحلقة الأولي (سمو المعني).
3- 267. و لعل أوفي ما قيل في ذلك قول الحسين (ع) في كتابه الي أهل الكوفة فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه علي ذات الله. راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 197.

مصرع في سبيل الواجب

وازن الحسين (ع) بين الرغبة في البقاء، و بين الواجب، فرأي الطريق الواجب افسح الطريقين و ارضاهما عند الله و الناس...و اشرف الي الأفق البعيد، فرأي العهد الزاهر يأخذ بالتلاشي والانحدار شيئا بعد شي ء ليفسح المجال لدنيا جديدة و حياة جديدة، و لم يبق سواه رمزا للماضي المثالي الاقدس فزاده استعارا...هم قلة المؤمنون بقضيته، و لكن القلة المؤمنة التي تجاهد لله و في سبيله كثرة، و صوت الحق في معترك الباطل ارفع الصوتين...اطل من علياء مكة التي هي رمز السماء في الارض و ينبوع المثل في الاسلام، الي الحياة (1) .الجديدة التي تجيش فيها الشهوات، في زبعة يدير

ص: 336


1- 268. تشبه هذه الحياة صورة رمزية عن (الحياة من ربي الخلد) في روايتنا الرمزية الشعرية (رحلة الي الخلد): ظلمة مادت و غشت ظلمة بين موجيها شقاء الأبرياء طغت الموجة تحدو أختها في ظلام الدجن والدخ كساء يطلع الشيطان من ءقطارها نافثا في طيها كل بلاء و تري الجنة فيها مرحا مسرح الجنة أصداء الحواء مرد جازوا علي أسوارها شدق كل كخليج من دماء يزفر المارد منهم زفرة كهزيم الرعد في الأرض العراء شرر النار علي أفواههم قمة البركان عند الصعداء جمعت خبثا و لؤما و رياء و قصاري كل ما فيها جفاء.

رحاها داعية في الجانب الآخر الذي لا تطلع فيه الشمس، فرأي اكفهرارا و رأي تجهما استفزاه...مشي الي الفوز او الي الموت، و الموت نصر صلبي في الجهاد، فن جاهد و مات فقد طرح اهاب الارض ليلبس حلة السماء حلة الخلود الضافية...سار بقلته المؤمنة، و ثبت في معركة الحق و الباطل. و جعل بين ناظريه برهان ريه: «و قاتلوهم حتي لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله».و الفتنة في الآية ليست بمعني الاختلاف و التنازع، بل بمعني شيوع الفساد و الفسوق، فخروج الحسين (ع) ليس فتنة - كما اتهموا - بل لمكافحة الفتنة، فاية محاولة و ثورة علي الفساد في سبيل ان يكون الدين كله لله، نحن مأمورون بها، فالحسين بخروجه لم يجاوز برهان ربه...سقط الامام صريعا بعد كفاح (1) رهيب، و بعد ان ارسل كلمة الحق في العراء، هذه الكلمة التي طوفت بالهياكل و عادت بنشيد الشهداء...دم جري في التراب، لينبت أشواكا في طريق الظلم و الظالمين...روح تحامله الهواء، ليظل اسباحا مرعبة و طيوفا بغيضة في أعين المعتدين...وأنات زاهقة احتواها الغيب، ليرسلها وقرا في آذان المستبدين...و ز فرات طويلة رعاها الليل، ليبعث بها جاجلة كصلصلة الاجراس يفجأ بها المستقوين...

ص: 337


1- 269. ما ذهبت أصور المصرع الا فاض قلبي حسرات= و ذهبت نفسي شعاعا و لعلي فاعل في كتاب مستقل.

و عيون ظلت مفتوحة، تسجل الخيانة في وجوه الخائنين...و لحاظ ازورت جاحظة، لتبقي في هيكل العدل نكراء تطالع بها الغاوين...و دموع اعتصرها الحق من التراب، ليرسلها سموما تلفح وجوه المنكلين...و انفاس احتاطتها يد السماء، لتذكيها نارا تشوي بها جسوم المستخفين...لا يغرنك يد ظالمة ان للعدل وراء الظلم يداستفاق الحسين (ع) علي صوت الضحايا في جوف الليل البهيم.و أهاب به نداء الدم المطلول في منعرجات الاديم...و أنشطه انطلاق الظلم و الباطل علي مثل انطلاق الظليم...و مضي وحده يجاهد امة جمعها العدوان، و كذلك تكون ذاتية العظيم...فسلام عليه يوم يموت و يوم يبعث حيا.علمنا الحسين (ع) كيف نعتنق المبادي ء و كيف تحرسها.و علمنا كيف نقدس العقيدة و كيف ندافع عنها...و علمنا كيف نموت كما علمنا كيف نحن كراما بها...و رسم طريق الخلود الادبي و القومي من طريقها...سلام عليه يوم يموت و يوم يبعث حيا...

ص: 338

رسم الحسين (ع) خطته في كلمات خالدات، ستدور مع الفلك ثم تنتشر فيه لتبقي خطة الابطال المخلصين.هيهات من الذلة، يأبي الله ذلك و رسوله و المؤمنون، و حجور طابت و بطون طهرت و انوف حميه و نفوس أبيه...الا ترون ان الحق لا يعمل به، و الباطل لا يتناهي عنه. فلا أري الموت الاسعادة، و الحياة مع الظالمين الا برما...فسلام عليه يوم يموت و يوم يبعث حيا.تم

ص: 339

ايام الحسين عرض و قصص

الفاتحه

رجع و لا صدي، الا حفيفا خافتا و لغطا ينبعث من كل مكان، بيد انه مبهم كنغعمة الوتر المقطوع، أو رجفة الحنين الشاردة الذاوية...يمر شريط الوجود سريعا كاللمحة المضمحلة. و ما يثبت منه الا رؤي يمدها السراب و الآل، كتلك الرؤي التي تتراقص علي القمم في عين الفجر و اغتماض الغروب...ان انسان اليوم حين يلتقي في بعض منحدرات - الطريق بانسان التاريخ البعيد، لن يجد لديه بعد رحلة الزمن الطويلة به ما يخبره عنه...و أخيرا ثبت في طبع الانسان ان بحث الوجود يحول دون تذوقه، فانكفأ عليه و نسج أحلامه عن السعادة و الخير و الجمال...و كثيرا ما كان يمر بين حين و آخر في جو الانسان، كواكب ملتمعة تضي ء جوانب هذا الوجود، و هي تجنح أحيانا و تذهب صعدا أحيانا، لتنقل البشر من الحيرة الي التأمل، مأخوذين بنشوة خفية تظل الذكري تشيعها ابدا...و الي هذه الذكري التي تحمل معني أزليا، قصدنا في عرض حياة الحسين، الكوكب الذي غاب في الاحزان، و ترك ألوانه المثالية الرائعة تشير الي الخلود، و تنسدل بشفقها المشع علي البقاء...

ص: 340

مقدمة

لم أقصد في هذه الحلقة الثالثة من سيرة الحسين الي التاريخ الا فيما يدخل في حد تصحيح الرواية أو الخبر، و اما ما وراء فقد أوسعت تحقيقه و درسه في الحلقة الثانية التي خصصتها بالوجه التاريخي المحض و ما يدخله من قرب أو بعد، لكي يتسني للمطلع أن يتصل بالشخصية التي يدور البحث عليها اتصالا تاما يخوله أن يصدر حكما بسلب أو ايجاب.و حاولنا هناك أن نتفهم حركات الحسين، بالاضافة الي عوامل العصر التي لابد أن تقيد مجاري التاريخ، ان للجماعة أو للافراد.و هذه العوامل التي هي مصدر ألوان الزمن، نسميها تاريخا حينما تقع في المكان و تحرك الجموع علي ما استنت من اتجاهات وحددت من مذاهب. و بدونها لا نفهم من التاريخ الا أنه تكرار لحركات مبهمة لا تعبر لنا عن شي ء يدخل في حد فائدتنا.و يكون الغرض من التاريخ قد ضاع، حين لا يتسني لنا أن نصل الجانب الواقعي من الحياة التي نعيشها بالجانب التاريخي، فان الحياة كلمة مؤلفة من الواقع و التاريخ جميعا و ان الجزء الأهم فينا، جماعات كنا أو أفراد، تاريخي محض،

ص: 341

و مادمنا لم نستطع أن نصل ما استوي فينا من الواقعية بما استوي فينا من التاريخية، فلن تكون لنا فائدة من التاريخ.بيد اننا نشعر بالحاجة الي التاريخ، حتي ليخيل الينا ان لدي الانسان، طفلا و شيخا، حاسة سادسة تاريخية تلح فيه بحاجتها و تشيع في دخيلته اطمئنانا مشفوعا بتلبس للقصة، كأنما هو يسمع حكاية نفسه أو كأنما انتقل عبر الزمن الي حيث يكون الزمان الموهوم و تقوم وقائع الماضي.و هذا الميل في الانسان يرجع عندي الي ما استوي في مزاج النفس و وحدتها من الجزء التاريخي، فاذا صادف ما يبعثه تحرك بقوته و أخضع المشاعر لمده في نوع من الهيام و الحنين، و في نوع من الاحساس العميق بأنه شي ء يتصل به اتصالا ذاتيا كأنما مر عليه منذ بعيد.و هذا يبيح لنا أن نستنتج أن الانسان الفطري - أو بعبارة أشمل الانسان الذي لم يكون له تاريخا - يفقد هذا الجزء، و لذلك هو لا يتحسس بهذا الميل أو النزوع.و عليه ففقر القصة أو عدمها في أدب أمة ما يرجع الي ضعف هذا النزوع، الي عدم توافي الجزء التاريخي فيها و استوائه. و هذا ظاهر لدي عرب الجاهلية الذين لم تكن القصة تستهويهم استهواء يجي ء في درجة شهوات النفس أو الجسد الأخري. بينما نجد القصة بدأت تبرز في أدب العرب الذين استقروا و كونوا لهم تاريخا نوعا ما، كالحيريين في عهد المناذرة، و الشاميين في عهد الغساسنة، فتولد لديهم الميل الي قصص التاريخ. و لعل في الظاهرة الآتية ما يقطع كل ريب في صحة هذا الرأي، و هي أن القصة المركزة لا تكون الا حيث يكون للامة تاريخ منوع.فالعرب عادوا بعد التاريخ الي تذوق القصة، لانه توافرت فيهم لذة الاستماع التي يبعثها الجزء التاريخي في النفس، و قد قويت هذه اللذة دراكا مع التاريخ، و تقوي كذلك في كل أمة و قبيل.و نحن نلمس في عصرنا الحالي ميلا أشد الي القصة حتي كادت تتميز باسم

ص: 342

الأدب و تستبد به عما سواها؛ و لقد قال بعض الناقدين: ان الأدب هو القصة في القرن العشرين.و أما الشعور بكلية الحياة و الشعور بأن التاريخ و القصص يعبران عن معان مشتركة اللذان يعلل يهما عادة الميل الي القصة، فقد تولدا بلا ريب بعد التاريخ. فان هذين الشعورين نتيجة تجربات و مقارنات قام الانسان بها بين نفسه و بين الماضين، و أدرك هذه الصلة و تحقق من كلية الحياة بعدها. فتعليل الميل الي التاريخ و القصص بهذا الشعور التجريدي الكلي، تعليل بالسبب المنفعل دون السبب الفاعل الحقيقي.و هذا الرأي الذي نعطيه في بواعث القصة و لذتها و تعلق الجمهور بها، حتي وصلت الي درجة أن تصبغ الادب و تسيطر عليه بصبغتها، حقيقي جدا... و انا أشعر بحاجة الي الزيادة من ايضاحه لأنه يصحح جملة الأوهم و طائة الأخطاء الشائعة في الموضوع.لا ريب في أن الانسان الذي أسلمه التاريخ الي العصور يمتاز بحاسة تاريخية خاصة، تفصله عن الانسان الذي أسلمته الطبيعة الاولي و الذي انبثق من يد الله. و هذه الحاسة تزداد عملا في الانسان بازدياد عمل التاريخ فيه و تنبه العصور في أعماقه، و الميل الي التاريخ أو القصص وليد وجود الحاسة المذكورة و توافرها، و هو أي الميل يتفاوت علي مقدار تفاوت الجزء التاريخي في الكائن البشري. و من الخطأ الظن بأن ميل الانسان الي القصص فطري أو عفوي، بل هو نتيجة تلبد أجيال من التاريخ في جوهره النفسي و مده بايحائها. و هذه الحاسة التاريخية الحية تتطلب غذاءها و تكون في بعض من الشعوب نهمة و نهمة الي حد كبير، و لكن هذا النهم ليس متروكا للعفو و الطبيعة العرقية بل هو خاضع لسنة نسوئية خالصة مادامت الامة قد اتصلت بالتاريخ و اتخذت خطواتها فيه.و هذا الرأي ينتهي بنا الي تفسير: لماذا كان أدب اليونان فقيرا من القصة في جاهليتهم؟...

ص: 343

و لماذا أثروا بالقصة بعد التاريخ؟و لماذا كان أدب العرب كأدب اليونان فقيرا منها في الجاهلية، ثم أثري بها بعد التاريخ حتي بلغت قمتها في الف ليلة؟و لماذا بلغ نهم الحاسة التاريخية بعد ذلك في الجمهور العربي الي درجة لم يثبت أمامها نحو من الادب و الفن، كما تشهد بهذا قصة حب علي بن آدم و البخلاء و رسالة الغفران و الزوابع و التوابع وحي بن يقظان و المقامات و أحاديث ابن دريد الاربعون و مصارع العشاق، و أعطت عصور النهم قصص عنترة و أبي زيد الهلالي و الملك سيف؟و لماذا زاد الميل الي القصة في الأدب الاوربي الحديث عنه في القرون الوسطي؟ و نحن انما نحصر نظرنا في الادب دون أن نلتمس أنحاء أخري، لأن الادب أكثر استجابة الي رغبات الجمهور و تطلع المحيط، و هو الي ذلك يتلون بمختلف الالوان و يحفظ بتلونه تراوح العوامل التي أثرت فيه.فعدم وجود أدب القصة في أدب العرب الجاهلي، معناه عدم ميل الجمهور اليها أو ضعف هذا الميل عنده التابع لضعف الجزء التاريخي في مزاج النفس و وحدتها.فما ذهب اليه اذا مؤرخو الآداب من اسناد خصائص و استعدادات مزاجية لبعض الشعوب دون بعض اقتضت ذلك، خطأ محض. ناهيك أنه تعليل غارق «بأوهام الكهف (1) و السوق» علي ما يسمي ذلك «بيكون» في منطقه الجديد، كما أنه تعليل يعطي في كل مثال (2) رأيا و لا يقوم في قانون يبين العلاقة الموحدة

ص: 344


1- 270. يعني بالكهف شخصية الفرد التي تكونها الطبيعة و البيئة و التغذية و التربية. و لما كانت تلك العوامل مختلفة باختلاف الافراد كان لكل انسان نزعته الخاصة و اخطاؤه الخاصة. و يعني بالسوق عقلية الوسط و لها اوهام تنحل في تفهم الافراد و تعقلهم.
2- 271. من مثل تعليل فقر الأدب العربي من القصة بعدم استعداد العرب الطبيعي لها، و تعليل القص عند بعض الأدباء العرب في العهد العباسي بالتأثر الأدبي و الدموي، و تعليل ظهور الف ليلة بالمزاج الأدبي الخليط، و تعليل القوة و الضعف في القصة عند الأمم المستعدة لها في مزعمهم بتعاليل شتي لا تستند الي تعليل يقوم علي مؤثر واحد.

بين حادث السبب و حادث الأثر.و القصة علي أي حال و باطلاق لا يمكن أن تنشأ الا في أمة اجتمع لها تاريخ منوع و مر بها زمن كان كفيلا بتزويد الافراد بحاسة تاريخية تجعلهم يتذوقونها و يميلون اليها.و هذا الرأي الذي نقرره يكشف، عدا الخطأ المذكور، عن كثير من الأوهام التربوية التي جنحت الي القصة كأسلوب للاطفال بتعميم خاطي ء. بل لابد لسلامة التطبيق من مراعاة مرور الزمن و قيمة هذا الزمن في توفير الحاسة التاريخية في الوسط المشترك للطفل و تفاوتها. و قد ينتهي بنا هذا الرأي الي اخضاع الأسلوب التربوي للقصة لمن هم فوق الطفولة، اذا كانت الحاسة فيهم أكثر تحكما و اقتيادا.كما يدلنا علي السبب الصحيح لاخفاق أدب القصة لدي بعض الشعوب، و السبب في عدها نسيجا أعلي عند بعض الشعوب الأخري، و أيضا يدلنا علي أن العناصر التي تلزم لتذوق القصة تتفاوت الحاسة المذكورة. و القصة في نظري لا فن لها و لا عناصر قاعدية الا نسبية فقط، فهي محدودة بالزمن و المكان و الكائن. و المحاكاة أو الاحتذاء و هم و بعد عن فهم ما ثبت في جوهر النفس المتحول الذي يمسح الفن بتهاويله و يمد الادب بالحياة و الروح.فالدعية الخفية فينا الي التاريخ و القصص التي نحس بها ظامئة علي الدوام متطلعة علي الدوام، هي وليدة ما استحال في جوهر النفس من أشياء الماضي المتلبد، و تمدد في بنائه كهلاميات عاملة حية. و اذا ثبت أن فينا جانبا تاريخيا، فلا منقلب لنا عن أن نتفهم وقائع الماضي كتاريخ، و أن نتصل بالمشاعر التي سيطرت فيه كعرض و قصص، و بذلك يظل التاريخ مادة حية شاعرة.و استواء الحياة في الحاضر انما يقوم علي دوافع الماضي و جواذب المستقبل، فلا فلا جرم أن كانت بنا حاجة الي التاريخ التعليلي من حيث نتصل بالمؤثرات

ص: 345

الحقيقة، و داعية الي التاريخ الوصفي من حيث نري الصور المختلفة التي طفت علي سط الحياة المحتجبة.و نحن في هذه الحلقة نحاول عرض حياة الحسين في شي ء من القصص الواقعي الذي لابد أن ينبه فينا كامن الحس بما يبث من الايحاء الصامت، و يهيي ء جوهر النفس لما سماه «تولستوي» عدوي الشعور،و هو ذو أثر بعيد فعال في تكوين الشخصية الممتازة.و قصة حياة الحسين لا تدعنا نخرج بتأمل سلبي تختلط فيه الدهشة بالاعجاب فقط، بل تزودنا بما يدعونه «الاشتراك في الوعي» أي بتأمل ايجابي يجعل فينا اشتراكا في الصفة الشعورية.و كذلك تستحيل النفس الانسانية استحالة أخري بما أسميه «عدوي التاريخ». فعلينا لذلك أن نعرف كيف نستثمر التاريخ مثل قوة تنصب في شرايينا و عروقنا، و كيف نحول تياره المبعتر في اللج الباهت ليزيد حياتنا حركة، و حاضرنا اندفاعا و مضاء.و الحسين شخصية ايمان و مبادي ء، و شخصية دعة و سلام، و لقد أرانا في كل جانب ألوانا.فكان جزء من تاريخه عقيدة، و الجزء الآخر جهادا؛ فكتب الخلود له، و كتب علينا أن نأتم به لنجرب ايماننا في الجهاد و جهادنا في الايمان.و أية شخصية هي أحفل من شخصيتنا التي ندير الحديث عليها بمعنوياتها و فعالياتها، و أيها أحظي بآثارها، فلم يكن لنا معدل عن أن نتوخاها و نستفيد منها في الذكري، كما استفدنا منها في الحياة.و لست أزعم لنفسي شيئا من الفضل و ان جهدت في تفهمها زمنا غير يسير، فانني كلما أوغلت فيها رأيتني أحوج ما أكون الي ابتداء درسها مرة أخري بمعني جديد. و كذلك ستظل ينبوعا يرده الصادي و هو يجد في كل رشفة معني و لذة و نكهة، ثم لا يحور معناها و لذتها و نكهتها في مذهب احساسه و شعوره.

ص: 346

يوم المدينة

كنت تري الناس في المدينة يروحون أفواجا و يغدون أفواجا، و الغبطة تملأ جوانحهم بهذا الحدث المجيد. و هم و ان لم ينصبوا «قوس النصر» حقا، فقد كان معناه في قلوبهم الطافحة بكبرياء العقيدة و كبرياء المعني، و في عزائمهم الطافحة بكبرياء الذاتية و كبرياء المجد. و كان الناس يختلطون و يتحلقون في كل مكان، و علي أفواههم كلمات ضاحكة بسر المرح المنشور، فقد كان هذا اليوم يوم الظفر ببدر (1) .غدت المدينة، منذ هذا اليوم، بلد الدولة بعد أن لبثت زمنا و هي بلد العقيدة، و فازت بتجربتها الرائعة و خطت أبهي سطر في مجد العرب و مجد الانسانية جميعا. فلم يكن هذا النصر تسجيلا لهزيمة فريق و ظفر آخر، بل كان تسجيلا لظفر الانسانية الجديدة المحررة علي الانسانية الرعية العتيقة، انسانية الأغلال و القيود و انسانية الاستعباد الوحشي المنكر.كان هذا الظفر في حقيقته ظفر الفكرة الجديدة و العقلية المتطلعة، و ظفر

ص: 347


1- 272. مناسبة هذا الفصل من حيث ما ورد في الروايات من أن زواج علي بفاطمة كان بعد وقعة بدر الكبري، فمهدنا بهذا الفصل لفصل يوم القرآن....

المثالية و الأخلاق علي المادية الصارمة و الاباحية الجامحة، و كان يوم تحرير الانسان من شتي العبوديات الدينية و الاجتماعية، و يوم تجديد الانسان و انشائه انشاء آخر.غدت المدينة في أبهاتها و أمجادها الحفيلة بلدا جديدا، فلم تعد «يثرب القديمة» التي كان كغيرها وكرا من أوكار الفكر البالي و العقلية الجامدة، التي لا لون لهما سوي ذلك اللون القاتم و كان يشيع في جزيرة العرب، و لم تعد البتة بعد اليوم مركزا للنظام الاجتماعي المتأخر الموروث من شرائع الغاب و فيه الطبيعة البربرية، و كان يشيع بشتي مظاهره في كل العالم القديم. فالشعب ضحية الطبقات و هؤلاء جميعا ضحايا فرد مستبد يلاشي كيان الأمة في كيانه، و يحول تيار النشاط في الشعب الي ما يغذي أطماعه و يشبع ميوله و رغباته.غدت المدينة، منذ هذا اليوم، مركز الفكر الناهض المشع و النظام الاصلاحي في كل حقل من حقول الاجتماع، و مركز الدونة الجديدة الجديدة التي بدأت تنزع الأغلال السابغة عن كل انسان في كل مكان. و كذلك امتدت و انطلقت كما يمتد و ينطلق خيط النور سريعا سريعا حتي انتظمت معظم العالم القديم.لبثت المدينة أياما مديدة و هي غارقة ببهجاتها، منتشية بما أحرزت من نجاح،فقد حملت شعلة الاصلاح و غدت رسول المدائن و الأمصار، و هي لن تتنازل عن رسالتها الي العالم مهما كلفها تبليغ هذه الرسالة من تضحيات دامية و وثبات حمراء.احتضنت المدينة عقيدة خالدة و نظاما اصلاحيا خالدا، ثم ألفت حزبا خلاقا فدولة محررة. و كان من حظ بلاد العرب أنها شهدت لأول مرة تجربة نظام محمد الاجتماعي، و قد نجحت في حدودها و نجحت خارج حدودها، و فيها القدرة علي النجاح دائما...كان في أفواه الناس حديث واحد كله الاعجاب، منذ تسني لفئة قليلة مؤمنة، أن تحطم حملة كاملة جهزتها مكة و تمزقت شعاعا. و خطورة النصر ترجع الي أن المعركة لم تكن من نوع المعارك التي تحدث كثيرا و تقع كثيرا، و انما كانت

ص: 348

صراعا بين مبدأين و عقليتين و حياتين، و قد انتهي بغلبة الاصلح منهما في كل أولئك جميعا... فشاع في الناس كافتهم نوع من الفرح العقلي كالذي يحس به رجل الفكر و هو يجهد جهده بسبيل المعرفة، و نوع من الفرح النفسي كالذي يستخف المكافح الظافر و الآمل الواجد.و كان يمر بين جموع الناس رجلان يهوديان مطرقين في تأمل في أكثر تطوافهما، و أحيانا يأخذان بأطراف الحديث الخفيض الهامس و هما: مخيريق (1) و عبدالله بن سلام.قال مخيريق: لشد ما يدهشني و يروعني هذا الظفر الذي أحرزه محمد و حزبه، فقد كان ظفرا سريعا و ناجحا و لا ينشب أن يتخطي حدوده الضيقة و يشمل الجزيرة كلها بنظامه الاصلاحي القويم و تعاليمه الواعية الأخاذة، حتي لقد بلغ من مدي فاعليتها أنها تحقق لنفسها الانتشار السريع دون ما دعاية و تبشير.قال ابن سلام: لكأنك - يا مخيريق - تحس بما في نفسي و تنطق عن لساني، فاني دهش كدهشتك و مروع كارتياعك، و ما أحسب محمدا الا مفضيا الي منتهي عظيم جلل، و كل ما يبدو لي ينذرني بهذا المنتهي ان لم يكن أقل ما سيبلغ اليه.و محمد واثق كأشد ما يكون، فقد أوجد مادة حية و صححها تصحيحا معنويا، و ولد فيها قوي لا حد لها و غذاها بتعاليم تفاعلت مع نفسيات العرب تفاعلا يكفي أن يكون بينهم وحدة في الصفة العقلية و الشعورية، كما غرس في قلوبهم طبيعة الايمان الصحيح الذي يزدري هبة العاصفات، و حرر أفئدتهم من الأساطير

ص: 349


1- 273. هو مخيريق النضري الاسرائيلي. قيل من بني قينقاع و قيل من بني القيطون. و ذكر الواقدي و البلاذري أنه كان عالما و أسلم. قال لليهود يوم احد: ألا تنصرون محمدا و الله انكم لتعلمون أنه نصرته حق عليكم بمقتضي المعاهدة. فقالوا: اليوم يوم السبت. فقال: لا سبت. و اخذ سيفه و لحق بالنبي فجرح جراحا قاتلة، فلما حضره الموت قال: أموالي الي محمد يضعها حيث شاء. راجع الاصابة لابن حجر العسقلاني ج 6، ص 73.

و الأوهام و بلور عليهم الفكر و عودهم النظام و ألزمهم الطاعة و كلمة التقوي، فكانوا أحق بها و أهلها. و ليس يخطئني ظني في أنه لن تقوم لشريعته شريعة، و لن يثبت لقومه قوم:قال مخيريق: هيجت و ايم اله في نفسي حديثا طالما كنت أذوده عن لساني ذيادا حتي لا يجري به و لا أراني الا مفضيا به اليك.نظرت في شرائع العالم و نظمه علي اختلاف ألوانها و قلبتها علي شتي وجوهها، فانتهيت الي أنها تتناصر علي سحق قوي الأفراد و الجماعات و استغلالهم استغلالا أنانيا صارما. و هذه الشرائع و النظم متعاونة فيما بينها من أجل هذه الغاية التي لا تتفق بحال و الحرية الذاتية للبشر، فسبيلها القضاء علي الكفاءات و القابليات التي هي عنوان امتياز الانسان، ليحولوا دون أن يتم النشوء دورته، و بذلك يستسلم لهم القطيع.و لقد بات المجموع البشري من تأثير هذه الأدوار في روحية مريضة للغاية، و انكفأت الجماعات تهوي في أتون التنازع الساحق، حتي لكأن البشرية في دور احتضار لا تلبث معه طويلا أن تنقلب هامدة لا حراك فيها.فلم يعد في الأديان ما يروي ظمأ النفوس، بل علي العكس غدت الأديان مادة الظمأ، كطالب الري بالحنظل فانه لا يروي و لكنه يزيد شعورا بالحاجة الي الري. فالأديان الذاوية الكسيفة، و «الهرطقات» المستطيرة، و الأوضاع الاجتماعية الفاسدة، و النظم الاقتصادية التي أذكت نضال الطبقات بشرته المفظعة، و التداعي الاخلاقي، و يقظة الاباحية الطامسة، كل ذلك أعد العالم بقصد و دون قصد الي انتظار كلمة البناء العالمي. و لا أظن محمدا الا ذلك البناء العالمي الأعظم، و لا أظن دولته الصغيرة في حدود المدينة الا نواة تلك الدولة العالمية العامة التي ستصهر في بوتقتها الفوارق الملية و تستعلي علي الاجناس و الشيع، فالاسلام عقيدة و دولة و جنسية.عرف محمد سلسلة الارباب المترابطة في نسق، و عرف ان البشرية لن تتحرر من هذه العبوديات المركبة المتداخلة التي تؤلف خطرا علي الفكر البشري

ص: 350

و بوارز الامتياز الانساني، و تغل النشاط الحيوي بما ترزح به ككابوس ضاغط و جاثوم مروع الا بعمل عنيف، و عرف أن حجر الاساس في بناية العبوديات الشامخة هي الطبقة الروحية التي تسوق الجموع الطائعة بما تسيطر به علي مناطق اللاوعي و مراكز اللاشعور. فأعمل معوله الاقدس في بناية العبوديات الراسخة التي شهدت من نوع تلك العواصف شيئا كثيرا، فمزقت رياحها المتناوحة المزمجرة و بقيت في محلها شامخة راسخة. لكن محمدا عرف سر ثباتها فسدد ضربته الاولي الماضية الي هذه الطبقة و ربوبيتها (1) و تحداها في نوع من السخرية و الاستفزاز المثير، و ما هو الا أن تزلزل حجر الاساس و خرت صروح الربوبيات التي سخرت بالزمن مذرورة متناثرة في حالة تبعثر و تراكم.ثم وقف محمد فوق أطلالها شامخا يعلن حرية الانسان (2) و حقوقه في الاستقلال (3) الذاتي، و يعلن حرية (4) العمل و الانتاج و الجهد، و يقرر مبدأ (5) المسؤولية المسؤولية الشخصية في الحقوق و الجزاء و نظرية الجزاء للحق العام (6) ، و ينزع أغلال الفكر. فمحمد حارب الربوبية في شخص الاوثان الجامدة، و حارب الربوبية في شخص الاوثان الاجتماعية الحية، و بذلك حرر الفكر و حرر المجتمع.و المدهش - يا ابن سلام - في منهج محمد الاصلاحي انه قام علي الزلزلة

ص: 351


1- 274. قال تعالي (تعالوا الي كلمة سواء بيننا و بينكم ان لا نعبد الا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) سورة آل عمران.
2- 275. قال تعالي (فحشر فنادي. فقال أنا ربكم الاعلي، فأخذه الله نكال الآخرة و الاولي) سورة الذاريات. و قال (فاستخف قومه فأطاعوه) سورة الزخرف. و قال (لست عليهم بمصيطر) سورة الغاشية. و قال (ربنا انا اطعنا سادتنا و كبراءنا فاضلونا السبيلا) سورة الاحزاب.
3- 276. قال تعالي (لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت) سورة البقرة. و ينبغي ان يلاحظ ان القانون العام يخضع للقانون الادبي.
4- 277. قال تعالي (و ان ليس للانسان الا ما سعي. و ان سعيه سوف يري. ثم يجزاه الجزاء الاوفي) سورة النجم.
5- 278. قال تعالي (و كل انسان ألزمناه طائره في عنقه) و قال (و لا تزر وازرة وزر اخري) سورة الاسراء.
6- 279. قال تعالي (و لكم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلكم تتقون) سورة البقرة.

الفكرية، ليعد النفس التي خلصت (1) من وراثاتها الي اعتناق كل مبدأ صالح، مهما بدا نابيا و المبادي ء السائدة، و يفسح للافراد و الجماعات سبيل التفكير المنطقي الهادي ء الخالي من شوائب الافكار الاولي و نزغاتها. و كذلك لم يعمد الي تصحيح الأوضاع القائمة و تغييرها فقط كما عمد المصلحون من قبل، بل قصد الي تصحيح فكرة الحياة أولا ليضمن روحية جديدة يتوقي معها الردة و الانتكاس اللاشعوريين، و كانا آفة كل اصلاح خرج عن يد المصلحين السالفين.أولئك كانوا يصححون الأوضاع و يشيعونها في المجتمع، و روحية الجماعة لم تزل غارقة في الاوحال و الأمراض و لم تزل تالفة أشد ما يكون التلف. فلا تلبث الاوضاع أن تفسد بفساد روحية الجموع و يقع الانتكاس في المجتمع و تعاوده الحمي، و يكون المصلح لم يزد عن انه نجم التمع فجأة ءثم ابتلعه خضم الليل الحالك... و لكن محمدا لم يكن من طراز هؤلاء، فقد صحح فكرة الحياة و روحية الجماعة أولا ثم صحح النظم و الأوضاع، و بذلك ضمن سلامة المجتمع أبدا، و وقي الكائن الاجتماعي من الانتكاس و الحمي.فمحمد لم يصنع أمة في عداد الامم بل صنع أمة في عداد الرسل الي كل كل الامم، و أكبر ظني أن امته ستنطلق في جسم العالم المتداعي كما تنطلق العصارة و فيها الحرارة و الحياة و الحركة. فهذا اليوم - يا ابن سلام - بداءة دنيا جديدة و أول يوم من تاريخ عالم جديد، فقد استدار الزمان و بدأ يخط دورة أخري كما أراد محمد أن تكون، و كذلك يفرض المصلح نفسه علي الزمن.قال ابن سلام: أراك - يا مخيريق - تتكلم كلام من استهوته رسالة محمد و ما أبرئك، و مع ذلك فاني أنصفك بأنك. تجاوز المنطق في دائرة أولها الفكر

ص: 352


1- 280. قال تعالي (و اذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون) سورة البقرة. و في هذه الآية تحرير للعقل من الوراثات و دعوة الي نقدها علي ضوء المنطق و الفكر المجرد، و بذلك قضي القرآن علي الوراثات كأساس للفكر و حكم العقل بها فلم يشجب القديم الموروث مرة واحدة بل القديم الذي يصطدم بالمنطق في سنة النشوء و جاء تحريره للعقل من حيث انه قضي عليها كأساس للفكر.

و آخرها الحس. و لقد شاءت لي الظروف أن أجتمع ببعض من أتباعه، و هو و ان لم يكن له جلاء منطقك و دقة تحليلك فقد غمرتني روحيته و لعبت بي تياراتها، و ما أحسب نفسي أقل انجذابا منك.و أذكر اني سمعت آية (1) تدعو الي الايمان العقلي من قرآن محمد، و ما هي الا أن تمددت في قلبي و عقلي جميعا، فتمددت لها نفسي و أخذت طريقها الي ما وراء القوي الواعية، و مضت تفعل فعلها تارة في الفكر و تارة في مذاهب الشعور، حتي انتهت بتركيز فلسفتها علي و تركيزي عليها، و اذا بي أحس احساسا وجدانيا بأنها فلسفة ينبغي أن أعهدها في أول ما أعهد من قضايا العقل، و اذا بي احس احساسا عقليا بأنها كل المنطق حتي لم يعد لي معدل عن أن تكون مقدمة الفكر.و العجب - يا مخيريق - ان محمدا عالج قضايا الدين و العقل و الحياة و الاجتماع، و أعطي حلولا هي ما ظلت الانسانية تائهة عنها و عبثا تندشها. و لعل أعظم ما يستوقفني و يغريني حله لمعضلة الاديان فهو لم ينقضها بل صححها من الطفيليات العالقة عليها، فان في كل دين قضايا الحق الاولي و قد تناولها كل قبيل بنوع عقليته و ما ثبت فيها فلونها بلونه، و مازال يلبسها و يضيف اليها و يحمل عليها حتي اختفت قضايا الحق وراء أستار صفيقة، و غدت كاللباب تحجبه قشور قاسية. و الذي يثبت في عقل الجماعة مظاهر الأشياء دون حقائقها المحجوبة، فوقف ايمان الجموع عند حد المظاهر و عمل التاريخ عمله في هذا الايمان فتحجر عليها، رغم أن هذه المظاهر و الأشكال ليست سوي انعكاس من وراثات القبيل.و لكن محمدا استطاع باعجاب أن يكشف قضايا الحق الاولي و أن يبصر مكانها في كل دين رغم كل الاستار الصفيقة، فأعلن للناس علي اختلافهم وحدة الاديان و ان قضايا الحق الاولي واحدة في كل دين، و هي لا تتغير الا اذا تمني لناموس الطبيعة أن يتغير، و أعلن أن ما يتوهمه الناس لبابا هو قشور فقط، و بضربة حطمها، و أعطي تحديده الدقيق للدين الجديد. فكان عمله و جهاده فقط في

ص: 353


1- 281. قال تعالي (قل هذه سبيلي ادعو الي الله علي بصيرة انا و من اتبعني) سورة يوسف.

تجريد قضايا الحق مما ران عليها و علق بها، أو رد الناس الي حقائق دياناتهم، التي أفسدها النضال الطبقي و القومي و أفسد كل مجتمع من ورائها، رغم أن الاديان ما جاءت الا لمحو هذا النضال.و كما قلت - يا مخيريق - ليس من الممكن للمصلح، اذا أراد البناء المكين، أن يتجه الي العقل الملوث المنحرف و الفكر الغارق بالأوهام و يحمله رسالته، بل لابد من مهاجمة هذا العقل و هذا الفكر حتي اذا تطهرا اتجه اليهما من جديد و ذهب يبني، و بعبارة أصح ذهب يخلق، و كذلك فعل محمد و كان له ميزة علي المصلحين، و ينبغي أن نعرف أن محمدا لم يكن مغامرا يتستر بخطة الاصلاح، و انما كان مصلحا دفع المغامرة في طريق الاصلاح. و بينهما أن أولهما أناني بلحمه و دمه، يطلق العاصفة كعملاق و يدفع الجموع الي التواثب فوق القمم، و زلة في العاصفة تترك الجموع في فضاء الهاوية طيورا تحوم في المنحدر السريع السحيق، و دائما ينتهي بالتهديم ليقف من بعد علي أطلال الأشلاء مسخا جاحظا متقلصا. و ثانيهما يري في شعوره و ضميره، يضبط العاصفة و يصرف مخزونها فيما يعود علي المجتمع بالانشاء و توفير القوي و الطاقات، و دائما ينتهي بالبناء ليقف و أتباعه من بعد علي القمم.قال مخيريق: لله كم تفعل العقيدة في النفوس، فانها تصنع من الضعف قوة و قوة لا حد لها. ألا تري أصحاب محمد كيف غدوا، بفضل العقيدة الخلاقة، قوة لا تتصل بالضعف بعد أن كانوا ضعفا لا يتصل بالقوة... و هذا صحيح فان الفكرة تصنع الحياة و الحياة تصنع القوة، فلا قوة بدون فكرة تقذف الطاقة و الحياة جميعا.بلغني و انا مما بلغني في عجب، اخالك تعرف فتي قريش و طالما شاهدته هنا في المدينة، و هو من ينعتونه بحامي الاسلام «علي بن ابي طالب»، بلغني انه كان من استبساله و تفانيه في نصرة مبادي ء هذا الدين الجديد، ما جعله في بدر الكبري أمة من الابطال كأنها تنطلق في كل مجال اذا انطلق، فمن كل وجه علي،

ص: 354

و من كل صوب علي نفسه، حتي لأجد علي كل لسان: ان فتي قريش هزم الجموع من قريش.قال ابن سلام: أذكر اني أعرفه و أذكر أن له سيماء ناطقة بالصلابة و العزم القصي، و رغم حداثته فقد قذف في روعي أنواعا من التجلة و أنواعا من الاسر، حتي لا حسبني بت مأخوذا عن نفسي ساعة بشي ء لا أفهم كنهه و هو ما يسمونه سحر الشخصية.و أذكر أن حديثه اليوم علي كل لسان، و هم يشفعونه باعجاب طائف ممدود، (أليس الذي فعل الأفاعيل بقريش)، هذه عبارتهم التي لا تكاد تسقط من حديث أحد عنه، حتي غدت تقليدية و طبيعية. قال هذا، وسكت مطرقا و يده تداعب جبهته كالذي يريد أن يتذكر شيئا أقدر انه خطير، و علي فجاءة نقر جبهته نقرة شاع سرورها في مقلتيه و أساريره.قال: يا مخيريق سأخبرك خبر فتي قريش يوم تزمل في فراش محمد ليلة الهجرة ايهاما عنه... قال مخيريق: اذكر اني سمعت شيئا من ذلك... و مضي ابن سلام في حديثه: انها مغامرة يظنها البسطاء دون استبساله في معركة بدر، لكنها عندي من وجهة العقيدة أعظم شأنا و قد لا يعد لها موقف. فان الاستبسال قد تولده حماسة المشهد و أصوات الجموع المائجة، و قد تولده خيلاء الذاتية في موقف لا مفر من الظهور فيه، و كثيرا ما بدلت هذه المشاهد نفسية الجبان، كما لا تدل علي أثر العقيدة دائما.و لكن تلك، هي مغامرة العقيدة المجسمة، فقد كانت تعريضا للنفس دون تذرع، بأسباب الدفاع، و بكل هدوء، فليس فيها انفعال عنيف ينسي المرء ذاته و يدفعه الي عدم المبالاة دفعا قسريا، و هي مغامرة ان كانت تعبر عن شي ء فانما تعبر عن نسيان الذات علي كل حال، بفاعلية العقيدة وحدها التي طغت علي كل المشاعر و استبدت بها. ان التضحية رهيبة - يا مخيريق - دائما، و لكنها أرهب ما تكون في المواقف الهائدة التي لا تثير الاعصاب بشعور غير عادي.

ص: 355

ان محمدا عرف كيف يجعل النفس العربية مؤمنة ذات آفاق في الايمان، فكانت بذلك قوية ذات آفاق في القوة. خصوصا و ايمان محمد يجعل المرء لا يري في حدود الايمان و يري الايمان في حدود كل شي ء، كتلك الفراشة التي أسلمها المصباح اليه فهي لا تحول عنه و ان كان في ذلك أنها تحول عن الحياة. و بهذا صغرت الدنيا و الحياة و فكرة متاعهما في قلب أصحابه، لأن عقلهم لم يعد ينبعث من حدود غرائزهم بل من حدود تعاليمهم. و الاعتقاد نفسه غريزة طبيعية، و بين الغرائز كما بين سائر الأشياء تناحر علي الظهور و البروز، و أكثر ما تتم الغلبة للغرائز الدنيا لانها أدخل عضويا في تركيب الكائن الحي، و لا تتم الغلبة لهذه الغرائز البتة الا و تشد اليها العقل و القلب، فيفسد العقل و ينحط القلب.فعمل المصلح ينحصر في تنشيط غريزة الاعتقاد لكي تسيطر بروح الايمان الجديد، و هي تشد العقل و القلب اليها يصل العقل و يسمو القلب، حتي الغرائز الدنيا تصبح دنيا بمعني جديد. في لا تنبعث في شهوة الجسد بل في شهوة الروح المركزة بالايمان، و ان شهرة الروح الشعور بذاتيتها العليا في الفطرة و الأخلاق و الاجتماع، و لا يزال الايمان يعمل عمله حتي يجعل في الغرائز عقلا و في الشهوات ارادة و أخلاقا. فمحمد صح نفوسا و أوجد مادة مؤمنة تنطلق كما ينطلق القدر الواقع الي مصيرها و غايتها، و هي بهذا الشعور مجتمعة كمثلها متفرقة، فقلب الجماعة شعور متجاوب بين قلب و قلب.و يعجبني في فتي قريش أنه يملكه ايمانه حتي في أحرج ما تكون رهبة النفوس، و قليل هم الافراد الذين يملكهم الايمان، و هذه ميزة أصحاب محمد، بينما الآخرون يحاولون أن يملكوا الايمان، وفاتهم ان الايمان اما أن يكون كل شي ء في النفس و اما أن لا يكون شيئا فيها، و الفرق بينهما كالفرق بين من يصرفه الايمان و بين من يتصرف به.قال مخيريق: لشد ما تفعل العقيدة في النفوس، و لله أنت يا محمد كم هي أخاذة تعاليمك... قال هذا، و سكت يفكر في أمر يبدو مهما، و لبث طويلا يحاول أن يجد النقطة التي يبتدي ء منها الحديث، فاطرد ممعنا يقول:

ص: 356

يسرني اننا متفقان في الفكرة و الميل، و لكن ما الذي يحول باليهود عن محمد رغم ما يعلمون أنه سيغمرهم لا محالة، فاذا طاولوه كان لهم منه يوم كيوم «بختنصر»... و كان مجرد ذكر بختنصر كافيا لبعث آلامه القومية الدفينة، فتغشته سحابة حزن و لكنه و اصل حديثه:أعرف أن قومنا شردوا مرارا و اضطهدوا مرات و من شعوب مختلفة، فحقدوا علي كل امة و تآمروا بكل مجتمع، و بثوا روح الانتقام في كل تصاريفهم متخذين كل شعب هدفا، غير مفرقين بين قبيل و قبيل. و بذلك أخطأوا في عدم تحديد التبعة الذي اكسب نفوسهم صفة الغل السحيق و أفقدهم رغبة التعاون مع الآخرين، وصفة التبادل المخلص حتي مع قوم لم يكن منهم الا الاحسان اليهم، كهؤلاء العرب الذين احتضنونا بينهم و أحلونا محل أنفسهم و اختصونا بأنواع من العطف في هجرتنا الاولي (1) و الثانية الي جزيرتهم.قال ابن سلام: ان ما ذكرته سبب، و لكن وراءه أسبابا أكثر فاعلية فيما أعتقد، حتي لقد جعلت روحية اليهود من سوء أثرها البارز في كل دور معضلة اجتماعية؛ و عناصر هذه الروحية كما أحس:أ - المادية: التي استهوتهم استهواء فظيعا و حللت معنويتهم الي درجة جعلتهم لا يتورعون عن استخدام أسمي مثالياتهم و مثاليات من يحلون بينهم بسبيل المطامع، و لا يعوقهم عنها أنها دنيئة أحيانا. فكان لهذا أثر في توليد صفة الجشع و الشره و الافتراص، و حين تكون المادية هي مثالية الامة فقد باتت خطرا و شكلت معضلة دائما.ب - طبيعة التطفل: حق للفرد أن يجني ثمرة جهده، و حق للجماعة أن تجني ثمرات جهودها، و أما ان يجني المرء ثمرة جهد الآخرين فهذا عدوان منكر. و الحياة قائمة علي الجهد فمن لا يجهد لا يحي. هذا منطق الطبيعة، و خفف المصلحون من حدته بالتعاون الذي يحفظ توازن الطبقات، علي شكل ما تري في تعليم محمد

ص: 357


1- 282. راجع كتاب: «تاريخ اليهود في جزيرة العرب» للدكتور و لفنستون.

الجديد في نظام الزكاة و الصدقات و الكفارات. و اليهودي من طبيعته انه لا يبذل جهدا يوازي الفائدة، بلي يسعي الي أن يستحوذ علي أكبر فائدة بأقل مجهود. و هذا لا يأتي الا عن طريق التطفل علي جهد الآخرين و استغلالهم. فتولدت بينهم طبقات المرابين و المضاربين و ما شاكلهم، و هؤلاء جميعا يشكلون في النظر الاجتماعي بيئة طفيلية شديدة الخطر علي سلامة أي مجتمع كان.فاليهود طفيليون يمتصون المجتمع بشتي الطرق و الوسائل كالهوام التي تطلب حياتها علي جسم حي، و لذ لهم هذا الطريق الهين فألفوه و افتنوا في أشكاله مستفيدين من الوسائل الخاصة بكل عصر.ج - الفوضوية: عرف اليهود أن وسائلهم للامتصاص لابد أن تنكشف ما دام المجتمع في حالة من الهدوء، فأخذوا أنفسهم بايجاد أسباب الاضطراب و الفوضي، تارة باختراع مذاهب دينية و محافل سرية، و آونة ببث مبادي ء اجتماعية حديثة، و أخري بتزيين الحروب. و ثبتت هذه الفوضوية فيهم طبيعة حتي غدوا مادة الفوضي و الثورات في كل مجتمع.من هذه العناصر تألفت الروحية اليهودية.و اليهودي قد يصلح اذا ارتد الي الارض، و فارق صفة التجواب التي تجعله لا يخلص لأمة مهما عاش بينها، و استرد مثاليته الضائعة. ألست تلاحظ معي ان «بني قريظة «المزارعين أكثر ميلا للتعاون مع محمد و دولته الجديدة من «بني قينقاع» المرابين؟قال مخيريق: بلي نعم ما تلاحظ... و مضي ابن سلام في حديثه: و لست أتردد البتة في أن هذه الروحية البغيضة هي التي تحول بين اليهود و محمد الذي حارب هذا الخليط المنكر في روحيتهم.قال مخيريق: ألا تجيبني الي أمر قد يحقق فكرة انقاذ الشعب اليهودي التائه، و انتشاله من أوحال المادية الصارمة التي لا تلبث أن تقضي عليه و تحطمه؟ فأنت

ص: 358

حبر اليهود و لك محلك و مقامك ولي منزلي و مكاني، فتنضم و أنضم الي حزب محمد، فنضعضع من قوة موقفهم السلبي تجاه الحركة التحريرية المنقذة، و لابد أن نترك بينهم أثرا يكفل لنا عددا ان لم يكن اكبر عدد، خصوصا و نفسية الجماعة سريعة التردد سريعة الاستسلام.قال ابن سلام: هذا ما فكرت فيه، و عقدت العزم عليه، و كأن القدر ساقك لتشجيعي...و علي ذلك افترقا... فمضي مخيريق في الطريق المؤدي الي المسجد، مركز الدعوة و الدولة... و تمهل ابن سلام حتي يجعل لدخوله صدي أوسع انتشارا و أشد وقعا. و لكنه ظل شاخصا في اكبار لتصميم مخيريق الذي هو دليل النفس الكبيرة، و في اعجاب بمنطقه الدقيق الذي هو دليل الفكر النابغ...الاسلام عقيدة و عمل و حياة و نظام...و له في الأفراد و الجماعات تفاعلات علي أنحاء أربعة...تتفاعل العقيدة فيه مع الاوهام العالقة بالفكر، فيغدو فكرا جديدا بمنطق جديد...و يتفاعل العمل فيه مع الجهد المبدد، فيغدو جهدا منتجا...و تتفاعل الحياة فيه مع الحياة المغللة الكاسفة، فتغدو طلقة شامخة...و يتفاعل النظام فيه مع النظام المحموم، فيغدو انسانيا صحيحا...و الاسلام بعد ذلك فكرة و اعداد،و بينهما تتولد علي الدوام الامة و الدولة و المجتمع...

ص: 359

يوم القران

مضي، بين يوم المدينة و هذا الليل الذي استيقظ فيه النبي علي ذكري ناعمة كرجع الحنين و منعشة كلمسة الحب و شائقة كوقع الأمل، أيام ان شئت تحسبها بأسابيع (1) فذاك و ان شئت تحسبها بأشهر فقد تصيب.انجرد النبي من الليل و يده تمسح النوم عن جفونه التي أخذها رقاد هني ء رافه بأحلام الغد، و كانت نفسه تجيش بذكري محببة اليه قريبة منه حتي لكأنها ترجع الي أمس النهار الذي لم يفصل عنه يوم و غد.و هي ذكري ما كانت تمر في خاطره الا و تجيش بها نفسه و يشملها اطمئنان و رضي، علي أنها لم تكن تعبر مجازها في خياله الا و تترك علي مقلتيه دمعة متبخرة و أخري تذوب في خفقة رقيقة و زفرة غير طويلة. ذكري يحركها عنده طيف ابي طالب الذي كان يتراءي له و يلم به احيانا، و غدا بعد يوم المدينة كثيرا ما يراوحه. و كان الطيف يبدو بعد هذا اليوم مزدهيا تلفه من نواحيه نشوات، و متلفعا باشراقة تشيع عليه من أقطاره، و هي تعبر عن زهو المكافح الميت بمجد المكافح الحي.

ص: 360


1- 283. سكتت الروايات عن تقدير المدة بين وقعة بدر و اقتران علي بفاطمة.

كانت تمر عليه في طيف ابي طالب صور متحركة سريعة، تتصل بغار حراء و مكة و دار الاعداد و الدعوة «بيت الارقم» فيحس بالحنين العميق.و تمر به صور ما لاقيو تمر به صور الاوثان المنضدة التي تحداها في سخرية و هاجمها في تحطيم، فيحرق الأرم.و تمر به صور ما لاقي من عنت اجماعي و هو ماض في كفاحه لا يحفل و لا ينثني و لا يتردد، معتقدا الظفر رغم الجموع، و النجاح رغم تأشب الباطل و سورته. و كذلك المصلح الحق ينقطع الفكر بينه و بين العقبات، ليقول كلمته و يسمع صداها، و دائما يكون مزلزلا مرعدا.و يبدو ابوطالب من ورائه يدفع عنه و يشد ازره و يحمي حماه، فيشمله رضي بأنه أدي رسالته و شهد نجاحها في الخلق و الانشاء.و تمر به خديجة في هالة الحب الزوجي الاقدس، و في صورة من مقام المرأة و أثرها في حركات البعث و الانقلاب، فيعروه حزن صامت و تقدير خفي و اكبار يظهر أثرهما في مركز المرأة من التشريع الخالد... و تزوي تلك الصور و تثبت هذه الحقيقة:نجاح الحركات الخلاقة بدعائم ثلاث: رجل المبادي ء الذي يعمل بقواه المعنوية و الفكرية مجتمعة، و المرأة التي تعمل بروحيتها المشعة و عواطفها الواعية، و رجل الداع الذي يعمل بكل وسائله باخلاص...و تنتقل به الذكري و لا تنقطع، الي الهجرة، فيمر به علي و تضحيته الرهيبة في التزمل عنه، فيرنو في دهشة مكبرة.و يمر به غار أبي ثور و صاحبه الباسل أبوبكر، و الطريق المروع و هما ينهبان الأرض نهبا، فيشعر بأسي و ينكمش علي خاطر أن يغدو صانع المجد طريد المهد.و تمر به يثرب و جهوده في تثبيت العقيدة و استثمارها في بناء قواعد الدولة الجديدة، فيثغر في ابتسامة عريضة هادئة.

ص: 361

و تمر به سلسلة المعارك التي كان أهمها بدر، و يري الجمعين و قد تصافا للقتال، و يري أبطاله علي درجاتهم، و يري عليا صاعقته المدخرة تنقض في كل مجال، و يشهد النهاية الظافرة، فيهزه في مظهره الوقور سرور بعيد الغور... و تزوي تلك الصور أيضا و تثبت هذه الحقيقة:ان أباطالب كان أسد محمد و رسالته في دور التأسيس، و لم ينفض يده من الحياة الا بعد أن قدم، في فتاه علي، أسد محمد و رسالته في دور التشييد و الاعلاء..قام النبي و قد عزم علي أمر أرضي به ضميره و حبه معا، و خرج و و يشعر أنه أدي حقا. و مرت به فاطمة و هي تخطر لبعض شأنها، فقبلها قبلة اجتمع فيها شعور جديد أحست معناه غامضا مبهما، و لكنه استنبه فيها شيئا لم تدر كنهه الا أنه مبهج علي أي حال.لم يفصل النبي عن حجراته بعيدا حين أقبلت أسماء بنت عميس علي فاطمة تزورها، فأنست اليها كما لو كانت تنتظر لقاءها بلهفة و صبر نافذ... و المرأة تتكشف الي المرأة بحقيقتها العارية، و تظهر المرأة الي المرأة بكل ذاتيتها، و ليست تعطي الرجل الا نصف معناها و يبقي النصف الآخر مجهولا غامضا و يذهب في غموضه أبدا. فنحن نفهم المرأة نصف فهم لأنها لا تنكشف لنا الا نصف انكشاف و لا يخرجها من صدفتها للعراء الا الحب، و المرأة اذا تفتحت أنوثتها و نضجت، حنت حنينا مبهما فانها تجد نصف معناها في الرجل و النصف الآخر في الولد، و هي تريد أن تحل لغزها فيأخذها هذا الحنين.أقبلت أسماء اقبال من فهمت شيئا و تريد المزيد، و قالت لها: مررت بالنبي و هو في بهجة ضاحكة زادت شعاعا علي ما كنا نعهده بعد يوم المدينة و ان كانت لا تفارقه، حتي لقد خيل الي أنه غرم علي أمر فشاع سروره علي محياه البهي. و لا يبعد بي ظني أنك وقفت عليه، فقد أعلم أنه يستروح فيك روح النبوة و ما هو بغريب، فانك ولدت له بعد مبعثه و قد استحالت النبوة في معناه و غدت له ذاتية، فأنت ذكري من ذكريات الوحي الأولي.

ص: 362

استوت فاطمة و قد تألقت في عينيها اشراقة من حلاوة هذه الملاحظة، فقد كانت تعزو ما يلقاها به النبي من احتفاء و احتفال الي محض الحنان الأبوي. و ألقت في ابتسامة مفترة: اذن فأنا شي ء منه كالوحي أو كالنبوة، و طيف سماوي في خيال أبي عندك يا أسماء.قالت أسماء: و أنا و ايم الله ما جلست اليك الا شعرت بروحانية هذا الطيف المتألق و جماله، و شملتني سكينة لا أحد دها الا بما تترك في نفسي من اطمئنان لاذ رغيب. و لا تحسبيني من هذا الشعور كما قيل «تخيل ثم خالا» بل هو واقع نفسي كالري علي الظمأ أو كالأمل الندي.قالت فاطمة: يسرني أنك تحبينني هذا الحب، و لكن ما وجه الأمر الذي عزم عليه أبي علي ما انتهي اليه حدسك؟ فقد طاف بنفسي شي ء كالذي طاف بنفسك، و انه عراني احساس غامض حين قبلني أبي في هذا الصباح قبلة جديدة المعني، و بث في قبلته الي جانب الحنان الذي عودنيه شعور من يخشي فراقي، و كان في بهجته المشرقة نفسها التي لم تزايله حين مررت به.و كانت حجرات النبي تشرف علي المسجد فرأتا شبحا لم تتبيناه جيدا، يدخل مسرعا و يخرج سريعا، فاشرأبت أسماء تنظر و أطلت من قريب، و علمت أنه أبوبكر عرض عليه شيئا فلم ينبسط اليه. و لم يغادر بعيدا و يتواري حتي جاء عمر فساره بشي ء لم تتبينه أسماء أيضا، فلم ينبسط اليه و ظهرت عليه حركة اعراض غير خافية. و ما جاوز المسجد حتي أقبل علي فتلقاه ببهجته التي لحظتها عليه ساعة أبصرته أول النهار، فساره طويلا و النبي ينبسط اليه و يحتفل به، فقام و علي ثغره ابتسامة عريضة لم يجتهد في اخفائها و انما تركها تنطلق الي منتهاها.فانقلبت الي فاطمة تقص عليها ما رأت، و مر بخاطرها، و قد ضمت قدميها للجلوس، شي ء اطمأنت اليه في تفسير ما شهدت و غمغمت: لعل... لعله أن يكون.و عرض لها ما ثبت هذا الخاطر عليها، فقالت بينها و بين نفسها: لذلك.. لذلك لم يكاشفها بالأمر الذي عزم عليه.

ص: 363

و رأت أسماء أنها أحرجت حينما قالت لها فاطمة: لعلك وقفت من الأمر علي جليته أو علي ما يتصل به. فأدارت الحديث بلباقة الي وجه آخر البسته شكل المفاجأة لتكسب اهتمامها بما تريد أن تصرفها اليه.فقالت: نسيت شيئا كنت أريد أن أخبرك به و قد ذكرته الآن. فبدا الاهتمام علي وجه فاطمة و أصغت في كثير من التلهف و الشوق الي هذا النبأ الجديد... فواصلت تقول:سمعت الناس في طريقي هذا الصباح يقولون: ان عبدالله بن سلام حبر اليهود أعلن اسلامه و كاشف به. و كان نبأ شديد الوقع علي اليهود حتي لقد باتوا يخاطب بعضهم بعضا بكلمات مختلطة امتحانا لحواسهم التي بدأوا يشكون في سلامتها، فان ابن سلام رمز ديني من رموز اليهود، و عجيب أن يميل الي دين أبيك. و توقع الناس أن يكون لهذا الصدي الذي أحدث أثر كبير في الاضعاف من سلبية موقفهم ازاء الدعوة الجديدة، كما تدارك اليهود خوف عميق من أن يفضح لأبيك سر الروحية التي يجتهدون في جعلها لغزا. و لكن رغم ما أحدثه اعتناقه الاسلام من صدي عكسي عنيف و وقع مزلزل، لن يؤثر في سلبية اليهود الا أثرا ضئيلا علله ابن سلام بما في طبيعتهم من «البهت».كما أن القومية اليهودية وحدها قامت علي الدين الموروث و الكنيس الرمزي في هذا الشكل حسب، و بعبارة أصح ان القومية اليهودية كنيس فقط و لا شي ء وراء هذا التقليد الديني. فهم لا يتمسكون بدينهم رغم الكوارث بحكم صحته، بل بحكم أنه قاعدة قومية تكفل وحدتهم، فاليهودي لا يرفض مبدأ لأنه فاسد أو ليس بصحيح بل لأنه لا يتفق و مثله القومي الذي يجب أن يقبله بدون مناقشة. و هو قد يعتقد عدم صلاحيته كطب للروحية البشرية و لكنه يقبله علي أي حال، لأنه الضمانة الأكيدة لسلامة الوحدة اليهودية. فاليهودي لا يعمل عقله في مثله بل لا يحب أن يعمل عقله، مادامت هذه المثل تحفظ عليه وحدته العامة التي تتصل ببقائه، فلو فرض و اتسع اليهود كمجموع بشري يعيش علي شتي الأمم لاتباع أي المبادي ء التي تروق لهم لذابوا و غمرتهم اللجة. فمعتقدهم الديني الموروث حفظ

ص: 364

وحدتهم و بقاءهم أمة و كقبيلا من البشر يمتاز بخصائصه، و حفظ اتصال تاريخهم، و بذلك كان لهم عنصرا أوليا كالارض بالنسبة الي غيرهم من ذوي القوميات الخطيرة في الزمن.قالت أسماء: بهذا يعلل ابن سلام سلبية اليهود الصليبة و ليس ازاء الاسلام خاصة بل ازاء كل المبادي ء و كل الاديان، حذرا من تفسخ وحدتهم و تبعثرهم في الأمم... قد يري يهودي يروج لمبدأ و آخر يروج لمبدأ ثان و لكنهما لم يؤمنا البتة بما يروجان له، و انما يفعلان ذلك بما في طبيعتهم من عنصر الفوضوية و محبة اشاعتها في كل مجتمع، ليتسني لهم العمل و النجاح.و بينا هي في حديثها دخل النبي فهبت اليه فاطمة و تبعتها أسماء و وجت اذ ذاك فرصة مكنتها من اذنها، فانطلقت قدما وراء خاطر سنح لها عند الخروج، بأن أنسا خادم النبي الذي لا يكاد يفارقه عنده من خبر المسجد هذا الصباح شي ء كثير. فقصدت اليه، و كانت أمه احدي صويحباتها، و ما ظهرت في الباب حتي استقبلتها أم أنس بالخبر كبشري فذة، و كان فيما روت لها عن ابنها:«أن أبابكر أقبل الي النبي فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..قال: و ما ذاك؟قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه... فرجع أبوبكر الي عمر، و هو يقول: هلكت.قال عمر: و ما ذاك؟قال: خطبت فاطمة الي النبي فأعرض عني.قال: مكانك حتي آتيه فأطلب مثل الذي طلبت.فأتي عمر النبي فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..

ص: 365

قال: و ما ذاك؟قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه...فرجع الي أبي بكر، فقال: انه ينتظر أمر الله بها... قم بنا الي علي نسحثه أن يطلب مثل الذي طلبنا.فأتياه و هو يعالج فسيلا له، فقالا: انا جئناك من عند ابن عمك بخطبة... فقام يجر رداءه حتي أتي النبي فقعد بين يديه.فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..قال: و ما ذاك؟قال: تزوجني فاطمة... فأشرق وجه النبي، و قال: فما عندك؟قال: فرسي و بزتي.قال: أما فرسك فلابد لك منها، و أما بزتك فبعها.فغادر و باعها بأربعمائة و ثمانين و جاء بها حتي وضعها في حجر النبي، فقبض منها قبضة.فقال: أي بلال. ابغنا بها طيبا (1) «.شاع الخبر في المدينة سريعا كما يشيع الاريج العابق في كل مكان مع النسم الندي، فكانت أسماء لا تمر بمحلة من دور الانصار الا و تري المرأة تميل الي المرأة و تقول لها في بشر ظاهر:أما بلغك النبأ؟ علي خطب فاطمة، و بارك النبي العقد. و انه لنعم الحدث. ليس لهذه السيدة المصطفاة الا هذا السيد المصطفي. هي ربيبة الوحي و الرسالة، و هو ربيب الوحي و بطل الرسالة.

ص: 366


1- 284. راجع كتاب الرياض النضرة للمحب الطبري ج 2، ص 180 الي 184.

و في استدارتها صوب منزلها سمعت رجلا يسمر الي آخر في ناحية من الحي و يقول:ان النبي لم يزوج عليا، و انما كرم البطولة الخالدة المظفرة في شخص البطل الخالد المظفر، و ان من حق البطولة تكريمها، و ما فات النبي أن يكرم البطولة بأعز ما عنده و أقرب ما هو الي قلبه، فان فاطمة قلب النبي مصورا في انسان املاكي أو ملاك انساني. و ليس في هذا القرآن معناه بل معني التكريم، فان محمد في حقيقته رسالة و دعوة و هو المبتدأ، و ان عليا في حقيقته ايمان و اجابة و هو الخبر، و لا شك في أن فاطمة رابطة الاسناد.و ما فات أسماء أن تسمع ما رد به الآخر و كان من المهاجرين الاولين، كما تقول. و أيضا لقد كرم النبي بهذا القران بطولة أخري هانئة في أبديتها المشرفة الواعية، انه كرم أباطالب النصير البر و المجاهد الأول.قال الانصاري: فهذا القران اذا تكريم مزدوج ضاعف معناه، و أخلد بهذا اليوم يوم تكريم البطولات، انه ليستخفني بمعناه الكبير... رنت أسماء في الظلام و أحدت بصرها كمن رأي شبحا، فاذا شخص يقبل عليهما و اذ تبيناه هتفا جميعا: أهلا بك سلمان.و كان سمع بعض الحديث، و وقف منذ حين علي الخبر، فقال:انه جدير أن يستخفك يا هذا، انه تكريم لأكبر مما كنا نصنع نحن الفرس في جاهليتنا: من اقامة تمثال جامد تخليدا للبطل. فان محمدا منح تمثالا حيا أسمي تخليدا للبطولة الحق؛ فكل ما في عمل الفرس و غيرهم أنه تخليد بمقدار ما في الحجر من القوة علي البقاء و لكن الفناء، في طبيعته. و هذا تخليد بمقدار ما في الروح من القوة علي البقاء، و لكن الابدية في طبيعتها.. و أغرق ثلاثتهم في تأمل صامت طال عليهم، و جعل أسماء لا تنتظر و تلج المنزل.أخذها الليل بنوم هادي ء تخللته أحلام بهيجة استيقظت منه علي لذتها،

ص: 367

فخفت الي حجرات النبي بقدم شاعرة تحت قصد غير شاعر، و كانت فاطمة تتحينها أيضا و تنتظر منها شيئا. فان أباها الليلة أخذ بها في أحاديث شتي كما تشاء الابوة، و لكنها لم تفصح لها عن شي ء يضع حدا لتساؤلها، بيد أنها تريد أن تعلم، و من لها غير اسماء؟بدرتها فاطمة: لعلك أتيتني اليوم بخبر اسلام كعب الاشراف و فلان فلان..فابتسمت أسماء و أدركت انها تريد أن تعلم علم ما كان بالامس.فقالت: كأنه لا يهمك كثيرا اسلام هؤلاء...قالت: بلي يهمني و لكني لحظت بالامس أنك حدت عن حديث بحديث.قالت اسماء: كان الامر يتعلق بابن عمك علي... و أفاضت في اطرائه مثل معجبة اتصل بها اعجاب و حب.قالت فاطمة: و قد شعرت أنها تحيد أيضا... و ما أنا من هذا الآن؟قالت أسماء: أولست تحبينه و تعجبين به؟ و ليس من أحد اليوم ال و هو يحبه و يعجب به، ثم لا يمل الحديث عنه؟قالت فاطمة: بلي، اني لأحبه بحب أبي له و أعجب.. فقاطعتها أسماء: و انك سوف تحبينه بحب قلبك و حب أبنائك أيضا..جمدت فاطمة ساعة، و صبغها لون قد يكون أزهر و قد يكون ناطقا. ثم قالت بعد لأي: حسبك لقد فهمت الآن، فهمت كل شي ء. انه يحبه و يحبه الي حد كبير و لكن... و ضغطت علي كلامها و أخذتها اطراقة مفكرة لم تحاولها أسماء صرفا عنها، و رأت حسنا أن تنصرف و تتركها الي خواطرها و أفكارها.بعد أيام من حوارهما أدناها النبي اليه، و أعلمها في أحاديث بين الحنان و الاشفاق... فمرت فاطمة في سبات و اجم، و كان طويلا غالب فيه عواطفها مغالبة شاقة، و قالت في جهد من مشاعرها:

ص: 368

«يا رسول الله! زوجتني برجل فقير لا شي ء له.فقال النبي: أما ترضين يا فاطمة، ان الله اختار من أهل الأرض رجلين جعل أحدهما أباك، و الآخر بعلك (1) .»و كان لكلمة النبي في أذن فاطمة معني كما تحمل الالفاظ، و في قلبها معني آخر هذه الفاظه: ان الغني ليس شيئا في المال و هو اصطلاح زائف اخترعه مكر الشهوات في عقل المدنية المدخول، و انما الغني شي ء في المعني الانساني الذي هو ناموس خالد يدور عليه التفاضل في ظل الوجود. فالزهرة تكون أبهي و احب و أغني بما فيها من المعني الزهري الذي هو الجمال و العبير و ليس بما يعلق عليها و هو خارج عن معناها. و الضوء يكون أغني بما فيه من المعني الضوئي كذلك. و الاسد يكون أغني بما فيه من المعني الاسدي، و هكذا كل شي ء يكون غناه علي مقدار ما فيه من معناه... فالغني ذاتية مطلقة ثابتة، و المال نسبية مضمحلة و لا تكون شيئا اذا لم تكن الشهوات كل شي ء، و لا تجد قيمتها الا في مدي مساف الغرائز و مساقطها.و المرأة تستكمل معناها بانسانية الرجل دون بهيميته و ما يزين هذه البهيمية و يكملها، كما يستكمل الرجل معناه بانسانية المرأة دون بهيميتها و ما يكملها. و المال مكمل للبهيمية الطائشة، و ليس شيئا وراءها أو بعيدا عنها. و لن تشعر المرأة بذاتينها و تعتد بكبرياء معناها اذا كان المال شاريا و الرجولة من ورائه كسيفة خائبة و بائرة متوارية، و انما يأخذها احساس عميق بأنه لم يضم به معني الي معني بل حيوانية مبذولة وجدت ضعفها الي حيوانية باذلة وجدت قوتها. فتذهب تلك ذاوية و يأخذها تلاش سريع، و تذهب هذه منتفخة و يأخذها جبروت سريع، و ينتهي المال و قد عمل عمله بأنه الصق عبدا برب، و لم يضم انسانية الي انسانية تجدان وحدتهما، بل تباين علي مثل الطير في مخلب الطير تكون الدعابة منه نهسة يشعره فيها بهوانه، و انه في مكان النهاية من فمه. و تكون نهاية زواج المال استرقاقا أو افتراسا في شعور القلب، و تكون في شعور المجتمع اختلالا في توازن

ص: 369


1- 285. راجع كتاب الرياض النضرة للمحب الطبري.

الاسرة يصيبها بالفساد و يتجاوز بأثره الي توازن الجماعة فتختل و تضطرب. و في كلمتي: زواج و قران رائحة هذا المعني، بيد أن الاولي قصد فيها الي الروح و أحساسيسها، و الثانية قصد فيها الي الواقع الاجتماعي و ارتساماته. فزواج المال ليس فيه معناه، و انما فيه معني العقد الذي هو احتيال بقانون.و الانثي اذا لم تنر فضاء الرجل النفسي فما تزيد عن انها جسد فقط، و الرجل اذا لم ينر فضاء المرأة النفسي فما يزيد عن انه جسد فقط، و الزواج في حس الروح فضيلة تكمل فضيلة، و نور يمده نور.و كان معني اختيار علي الي جنب النبي جمع كل الانسانية فيه، و جاء معه علامة علي أن الانسانية بكل ما ثبت فيها لن تنحرف عن النبوة الجديدة بكل ما ثبت فيها. فكانت فاطمة منهما بين مصدر اشراق النور و مجلي انعكاسه، و موجات الشعاع تمور متألقة في جو نفسها المتسامية ابدا.و مر في نجوي قلبها، ان أبي يقول في تعبير آخر، ظهرت حقيقة الخلق في عالم الابداع الالهي بمظهرين: مظهر النبي الكامل، و مظهر الانسان الكامل، و حبيب الي نفسي أن يكون حظي هذا الانسان.«و أمر النبي أن يجهزوا فاطمة فحمل لها سريرا مشرطا بالشرط، و قال لعلي: اذا أتتك فلا تحدث شيئا حتي آتيك... فجاءت مع أم أيمن حتي قعدت في جانب البيت و علي في جانب، و جاء رسول الله فقال:- ههنا أخي؟قالت أم أيمن: أخوك و قد زوجته ابنتك!قال: نعم...و دخل رسول الله البيت، فدعا بماء، فقال فيه ما شاء الله ان يقول، و دعا فاطمة فجاءت خرقة من الحياة تعثر في مرطها، فنضح عليها و قال لها:- اني لم آل ان انكحك أحب أهلي الي، اللهم اني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم...

ص: 370

و رأي رسول الله سوادا وراء الباب، فقال:- من هذا؟قالت: أسماء.قال: أسماء بنت عميس؟قالت: نعم.قال: أمع بنت رسول الله جئت كرامة؟قالت: اي و ايم الله... فدعا لي دعاء انه لأوثق عملي، ثم خرج فمازال يدعو لهما حتي ضمه منزله» (1) .يظل الزمان حقيقة موهومة، لولا بعض الاعمال الخالدة التي تؤرخه...و تكون هذه الاعمال أكبر من الزمن، لأن حقيقته بعض هباتها...فيوم علي و فاطمة، أكبر من الزمن و أخلد من التاريخ!...أثبتت النبوة معناها الخالد في روحية الانسان علي وجه...و أثبتت النبوة ذاتيتها الخالدة في دم الانسان علي وجه...فيوم علي و فاطمة، بداءة حياة النبوة الخالدة في الدماء!...كانت النبوة ستظل ذكري فقط...

ص: 371


1- 286. راجع كتاب الرياض النضرة 2 ص 181 و 182.

و لكن شاء الله أن تكون حياة أيضا...فيوم علي و فاطمة، ابقاء لحياة النبوة علي الدهور!...تضع الحقيقة الكبري خصائص معناها في النواة، لأنها تريد البقاء...و النواة لا تختلف في خصائصها، الا اذا كان لناموس الوراثة الطبيعي أن يختلف...فيوم علي و فاطمة، يوم بروز النواة عن مثل خصائصها في شكل آخر!.تذهب النواة التي هي مخزون الخصائص، تتم دورتها و تعطي أشياءها...و النبوة فكرة السماء المصلحة في محيط البشر...فيوم علي و فاطمة، طبع لعقلية النبوة في عقل الناس!...اجتمعت في علي قابليات لا حد لها...و اجتمعت في فاطمة اشراقات لا حد لها...فيوم علي و فاطمة، يوم نظر النبوة الي نفسها في المرآة!..

ص: 372

يوم الايمان الشامخ

جمدت في مآقي الناس دمعة حري لم يكن الحزن كل معناها كما لم تخل من بعض معناه، فقد اتصلت بكل قلب أسباب حزن مرير، حين استفاق الناس بعد «أحد (1) » علي مشهد البطولة الكليمة الجريحة.و جراح البطولة لا تقذف في النفوس ضعف الألم بل كبرياءه، و لا تلفها بذلة التجربة و لكن بتجديدها في عزيمة تضاعفت حقيقتها و تمددت في كل أشياء الحس. فان الألم مع الايمان ظهور لذاتية الوجود بقوتها، كما يكون الالم مع الجحود ظهورا لذاتية العدم بتلاشيها.و ان الالم في غايته تحد، و تحدي القوة مبالغة القوة في اظهار طبيعتها و معناها، و تحدي الضعف مبالغة الضعف في اظهار طبيعته و معناه.و تزأر القوة اذا أصيبت زئير القنبلة اذا انفجرت، و هي تعبر عن أن في بعض

ص: 373


1- 287. جبل في الحجاز قرب المدينة كانت فيه معركة شهيرة بين النبي و أتباعه و بين المشركين و شنهما المشركون كمعركة ثأرية بمعركة بدر الكبري و وقعت الواقعة في صفوف أتباع النبي لأنهم تركوا المواقع الستراتيجية التي عينها لهم النبي قبل نهاية المعركة و ان ظهرت تباشير الظفر أو لا في جانبهم، كما هو معروف في كتب السير و التاريخ.

الكسر ما هو انطلاق لأعمق القوات الكامنة. و ترعد ارعاد الأسد اذا خانه الموقف، و هو يعبر عن أنه الاسد بطبيعته المخزونة التي شاء الموقف أن يطلقها به. و تلك القوات و هذه الطبيعة لا تنطلقان الا بكسر أو جرح، و هما تحسان به احساس المادة الملتهبة بالنار لا تميل بها الي ضمور العدم بل الي كبرياء الوجود، ثم لا تدفعها الي استسلام كسيف و صموت طامس بل الي اعتداد رهيب ورد مصم، و يكون الكسر أو الجرح قد أضاف الي معناها معني جديدا أو سمح لكل طبائعها بالظهور.و كذلك يكون شعور القوي بالألم اغراء لقوته علي أن تنطلق و تنقض متنمرة ظامئة، كما يكون شعور الضعيف بالألم اغراء لضعفه علي أن يبرز و يبدو في أتعس أشكال العبوديات الذليلة (1) مهانة و خورا.و الايمان قوة تصنع البطولات المستهينة، و يوم أحد يوم أصيبت البطولة فيه، فكان ابتداء احساسها بالألم ابتداء شموخها الذاهب في السماء و المتحدب مع الآفاق... و الدماء الصبيبة لا تلهم الابطال روعة الدم الراهبة بل رجفة الدم النابضة، و لا تمر بهم الا و قد استحالوا قوي مرعدة منقضة في مسافات أشواطها لا يحول دونها الا ما قدر له أن لا يكون.و الالم للايمان كالحركة للحياة يمريان الحرارة فيهما، و كما تذهب الحياة بدون الحركة في ضمور، يحور الايمان بدون الالم في تلاش و يأخذه همود سحيق. و الايمان قوة و لكن سرعان ما تتفلل حرارته في أعماق النفس اذا لم يركزها الالم و يقربها من عملية الحياة.و ان حركات التاريخ برمته تقع بين جواذب الالم و دوافعه، بل خطي النشوء للكل الاجتماعي تنتظم بين هذا الدفع و هذا الجذب، و كانت أكبر الحركات لا تزيد في جوهرها عن أنها ايمان بفكرة و ألم في الايمان، و أبدا لا يشتد الايمان و يخطو صعدا الا اذا قدح الألم زناده و طاير بالشرر. و في محيط المادة كما في محيط الروح

ص: 374


1- 288. العبوديات الذليلة هي عبودية الانسان للانسان علي اشكالها. و أما العبودية لله التي جاءت بها الأديان فانها تحرير لنفس الانسان من شتي العبوديات و اشعارها بكبرياء الذات.

نفس الناموس، فان الجسم المادي الضعيف يلين علي الالم بينما الجسم القوي يشتد و يهيج حتي يملأ الفضاء مشيرا الي قوته و أنه لم يهن.فاذا كان في يوم بدر بعض الظفر، ففي يوم أحد كل الظفر لأن الايمان أحس بقوته و أنه شي ء، و بدأ يخطو في ذاتية و اعتداد.اندفع الناس الي الناس «يهني ء بعضهم بعضا» بأنهم ان خسروا المعركة فقد ربحوا الايمان بالمبادي ء و ربحوا العقيدة التي ظهرت سلامتها، و أنها رباط تسني له أن يجمع قلبا الي قلب و يمزج نفسا بنفس، و أنه لن يتفلل علي الضغط مهما كان عنفوانه، و مهما جاء منه.ظهر أنهم لا تجمعهم جامعة من شهوات الارض بما اكتظت به من أهواء و احتفلت به من مطامع، و انما تجمعهم جامعة من رغبات السماء، و رغبة السماء في تطهير ما علي الارض من شهوات و أرجاس تمور مورانا و تسوق الجموع الانسانية بعنف و قسر الي حيث لا تكون انسانيتها و تخسر معناها.. و كانت معركة أحد تجربة سعيدة لاختبار بناية محمد الجديدة في أعماق النفوس، فقد ثبتت علي العاصفة التي تمزقت رياحها علي صخرات الايمان الشامخ.ما الشهوات النهمة؟ما اللذائذ الدنيا؟ما البلهنية و الترف؟انها لا شي ء في مذهب رغباتهم الكبيرة، انها لا تمر بأفئدتهم التي بلورها السمو بمعناه القدسي، و حاطها حتي لا تهوي مسفة و ترتطم بالأوحال، انها أوحال من سفساف الأرض، فهم ينظرون اليها بتقزز و استعلاء.هم فكرة من التطهير و فكرة من الاصلاح و العمران، و صيرهم الجهاد فكرة من التنظيم، فكانوا معلمين أطلقهم الايمان الجيد ليحلوا في عقل المجتمع المحموم كما يحل الاكسير الذي يحمل في معني الدواء أبدية النشاط و خلود الحرارة و الحركة و الحياة.

ص: 375

لم يكن فساد المجتمع بمعني ذاته و انما كان بفكرة أهوائه التي نفذت الي محل الضمائر و تمددت، فوقف الفرد للفرد و الجماعة للجماعة في كل مكان، و قد تملأوا بضراوة وحشية كالحة و ذهب كل حي يكافح التيار، و المجتمع يطفو و يرسب في فوضي اللجة العاتية النكراء.لو تأتي لأتباع محمد الظفر دائما لتحول الايمان، بدون شعور، الي فكرة مادية من الغنائم و الاسلاب و تبخر عليهم معناه، و لكن شاء الله أن يكون جهادهم جهاد ايمان فقط، فكان في ظفرهم و اخفاقهم ظفر لفكرة الاصلاح التي يحملونها، ذاك في التفوق و حيزه الواقع، و هذا في التركيز وحيزه النفس.و قد أظهروا أنهم مؤمنون فقط استهوتهم الفكرة و أخذت عليهم أحاسيسهم و تفجرت في خلايا نفوسهم ينابيع، فهم لا يندفعون بدافع من شهوة الناس في لذة الحياة بل بدافع من تطلع العقل و شعور القلب في لذة الايمان. و قد أراد النبي أن يلقنهم درسا بالغا في أن الايمان لا تظهر حقيقته الا في الألم، و أن الايمان في مظهر الغضارة الرخية ايمان بليد منحل أو ليس شيئا خالدا في شعور النفس.«اذن مؤذن رسول الله غداة منصرفه من أحد بالخروج في طلب العدو، و ان لا يخرج الا من حضر معركة الأمس، و أتباعه مثخنون بالجراح.قال رجل من بني عبد الأشهل لأخيه: أتفوتنا غزوة مع رسول الله؟... و و الله ما لنا دابة نركبها و ما منا الا جريح ثقيل. فخرجنا و كنت أيسر جرحا منه، فكان اذا غلب حملته عقبة و مشي عقبة، حتي انتهينا الي ما انتهي اليه المسلمون. و كان النبي قد انتهي الي حمراء الاسد و هي من المدينة علي ثمانية أميال، و أقام بها الاثنين و الثلاثاء و الاربعاء» (1) .كان رجع الألم في الايمان هبة لا تعرف الوني و لا تتصل بالفتور و الاستخذاء، انها انطلقت أشد مضاء و أكثر اندفاعا، فقد أحست القوة باعتداديتها و غمرتها

ص: 376


1- 289. راجع سيرة ابن هشام ج 2، ص 90.

موجة الكبرياء لأنهم تحدوها و استثاروها؛ و القوة اذا استثيرت تنشر طاقات في اخري أكبر منها، حتي تسد الآفاق و تملأ أقطار الفضاء، كمادة الفحم و فيها مخزون من القوة تعلق بها شرارة و تتصل حتي تؤجج بالشرر.قالت الانسانية الجديدة بعد التحدي و انتظار الرجع (أنا) و هي شامخة بمعناها. و ولت الانسانية العتيقة المتهرئة متساقطة متواردة الي أوكارها، و هي شامخة بخيال المعني الضائع و المصادفة العارضة، كالذي تعثر به قدمه فيهوي الي حفير فيه كنز، فانه يحس بالارتياح الي ما صادف من الثروة و لكنه لا يحس أبدا بفخار الثروة، لأنها لا تتصل بذاته اتصال الايجاد، و انما تتصل بأطماعه اتصال الرغبة بما يثيرها و يحركها.و كان الفرق بين الشاعر بمعناه و الغائض فيه معناه، كالفرق بين من يسقط في حفير فينسي الألم و يشتد في احساس أنه لم يزل حيا و سيعيد التجربة، أو يطمئن في احساس أنه حي بحياة المبدأ الذي قضي دونه... و بين من يسقط في حفير فينسي الحياة و القوة و يهون في احساس جراحاته و كسوره، أو ييأس في احساس انه مضغة بين فكي العدم الصامت. فأولهما يطرد ضعفا بقوة، و ثانيهما يضيف ضعفا الي ضعف... و مر علي مسرح أحد صورة هذين الرجلين:«أرسل النبي من يبحث عن سعد بن الربيع، أفي الأحياء هو، أم في الأموات؟.. فنظر فوجده جريحا و به رمق في القتلي.فقال له: ان رسول الله أمرني أن أنظر أفي الاحياء أنت ام في الاموات.قال: أنا في الاموات. فأبلغ رسول الله عني السلام، و قل له ان سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزي نبيا عن أمته. و ابلغ قومك عني السلام، و قل لهم: ان سعدا يقول: الا انه لا عذر لكم عند الله ان خلص الي نبيكم و فيكم عين تطرف (1) «

ص: 377


1- 290. راجع سيرة ابن هشام ج 2، ص 86.

كلمات كلها يقين و اطمئنان و رضي بهذا المصير و هذه النهاية التي يحس أنها كبيرة خالدة.«قاتل قزمان قتالا شديدا فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، و كان ذا بأس فأثبتته الجراحة. فاحتمل الي دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون له:و الله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.قال: بماذا أبشر، فوالله ان قاتلت الا عن احساب قومي... فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه (1) «و سدل التاريخ من دونهما ستاره و أعلن هذه الحقيقة: قضي أولهما دون فكرة العقيدة فكان بطلا و تلفع بالخلود. و قضي ثانيهما دون فكرة الأحقاد و نزغات الاعصاب فانحل بانحلالها و تلفع بالعدم.وقف النبي و أصحابه في «حمراء الاسد» وقفة الأسد في وثبته الحمراء، و تحدي طويلا و رجع الفضاء دويه الرهيب، و صمت كل شي ء، و بقي الصدي يعلن غلبة الانسان الجديد.لفت المدينة أيام لم يكن فيها من سواد الأسي أثر كبير، و هي الي أنها أيام تأبين أقرب منها الي أنها أيام أحزان و دموع، علي أن من الحزن ما هو بهيج وليد شعور بالاعجاب، و من الدمع ما هو ضاحك وليد شعور بالامل.حين شاع الايمان بمعناه الهيامي في الناس شاعت البطولة بمعناها الرائع في الرجال و النساء جميعا، و أعطوا صورا خالدة تضاف الي أشياء التاريخ الكبيرة، فكان لنا من يوم أحد أبطال في شخص الشهداء كحمزة، و أبطال في شخص

ص: 378


1- 291. راجع سيرة ابن هشام ج 2، ص 82.

الاحياء كعلي، و أبطال في شخص النساء كنسيبة المازنية (1) ، حتي الطفولة (2) لم يفتها نصيب من البطولة...في ظلال النخيل التي بدت واجمة في اطراقة الحالم، كان الشاعر يستوحي و يستلهم، و جرت علي خدي حسان عبرات الاعجاب الذي اتصل بعاطفة ملتاعة محزونة، و كانت نفسه مكتظة بمشاعر شتي اكتظاظ اليوم الغابر بالروائع الخالدة، و مرت به نسمات أجاشت عليه شاعريته فأطلقها علي هينتها في كل مجال.لقد كان هذا اليوم مادة الملحمة العربية المفقودة، لو تأتي لشاعر خالد ان يستلهمه و يبرز ما قد طفا علي سطحه من روائع، ينقلها نقلا أمينا لا تقل عن روعة واقعها. فان ملحمة تكون مادتها هذا اليوم تظل بدون ريب أداة بعث في كل يوم من أيام العرب و المسلمين، و تتجدد كلما جدد العرب و المسلمون حركات الانبعاث و عزمة النهوض. و كانت أبرز ما تركت معركة احد هذه الحقائق:ان نجاح الأعصاب في الكفاح علي مقدار نجاح الايمان من السيطرة، و ان قيمة الكفاح علي مقدار قيمة الفكرة التي يحتدم من أجل تركيزها، و ان الكفاح الظافر لا يكون الا حيث تكون العقيدة الصليبة، و اذا لم يكن الايمان فلا يزيد الكفاح عن أنه فورة خامدة و حركة محتضرة، و لا يزيد هذا البعث عن أنه بعث فيه برودة الموت و مغزي الانحلال.و طلع عليه و هو في لذة انشائه و انشاده الحجاج بن علاط السلمي، و كان

ص: 379


1- 292. كان من قصتها أنها خرجت في يوم احد و معها سقاء تسقي منه الجرحي و الريح للمسلمين، فلما هبت عليهم انحازت الي النبي و باشرت القتال عنه تذب بالسيف و ترمي عن القوس حتي حصلت الجراحة لها، و فيها قال النبي ما التفت يمينا و لا شمالا يوم احد الا و رأيتها تقاتل دوني. راجع السيرة الحلبية ج 2، ص 230.
2- 293. قتل سمرة بن جنوب لما رده النبي يوم احد لصغر سنه و أجاز رافع بن خديج، قال لزوج أمه أجاز النبي رافعا و انا اصرعه، فقال النبي: تصارعا فصرعه فأجازه و ضمه الي الجيش. راجع السيرة الحلبية ج 2، ص 220.

شاعرا مفتون الشاعرية ببطولة علي يوم أحد، فراح يفتن بألوانها و يتغني بآياتها. فأوسع له حسان في مجلسه:و قال: كنت أشتهي لقاءك منذ اليوم، و أحسب ما يقال من أن في قلوب الاخلاء آذانا تتصل بكل ما في النفس من رغبات و خلجات، و تحس بها لحينها، حقيقيا جدا.فقال السلمي في دعابة مفترة: و لا سيما اذا كان الامر بين شاعرين شيطانا هما ألمعيان.فلم يبد علي حسان ما كان ينتظر من أثر الدعابة العارضة، و انما أخذه اطراق خاشع حتي لقد أحس السلمي أنه لا يشاركه المجلس و الحديث.فقال له: ما بك؟ أراك كالمأخوذ عن نفسه!قال حسان: تعاظمني يوم احد بتهاويله حتي لقد ضاقت شاعريتي ببعض ما جمع، و احسب أن القول فيه الهام من الالهام و ليس شعرا من الشعر. أما بلغك نبأ مخيريق؟قال السلمي: أنباء اسلامه الذي فاجأ به منذ حين غير بعيد؟قال حسان: كلا. و لكن نبأ استشهاده الرائع الذي جعل نفسي و كل نفس تذهب في الدهشة كل مذهب.قال السلمي: ماذا تقول؟!قال حسان: نعم! انه استبسل دون العقيدة التي عهدها جديدة في قلبه، استشهاد من يريد الموت أو الحياة في دنيا الفكر الجديد.قال السلمي: عجيب أنت يا محمد. و عجيب ايمانك الذي يقتلع رسيس النفس بل النفس من أقطارها و نواحيها حتي لا يحس المرء بشي ء وراء معناه.و نهض الرجلان في استغراق الشاعر حتي أفضيا الي الحي، و ما انتبها الا علي

ص: 380

حديث الناس «أن النبي لما انتهي الي أهله ناول سيفه ابنته، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله لقد صدقني اليوم... و ناولها علي بن ابي طالب سيفه، فقال: و هذا أيضا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدق اليوم رسول الله... فقال النبي: و صدق اليوم القتال سهل بن حنيف و أبودجانة».كانت فاطمة تمر بها هذه الاحداث و هي بمرأي و مسمع، و في أحشائها (1) روح جديدة تتآلف أمشاجها، فكان في جملة عناصرها بل اكبر عناصرها، عنصر التضحية الدامية للفكرة و العقيدة.وقفت فاطمة تزيل أثر الدماء و قد ضمت سيفا الي سيف أي (2) قوة الي قوة، فان السيف رمز العزم علي العمل، و كان معناه أن سيف العقيدة مصلت في مدي سيف المبادي ء، و أنهما معا ينجحان جميعا. فأحدهما سيف المبادي ء و فعله في الفكر، و ثانيهما سيف العقيدة و فعله في المجتمع، و بهما تتكون الروحية العامة الظافرة. فكل منهما يكون في حاجة الآخر، و هما جميعا في حاجة الأمة اذا أريد خلقها أو بعثها من جديد. فالنبي حينما خلق الأمة جري علي هذا الطريق، و نحن حينما نريد تجديد الامة نجري علي نفس الطريق.ضمت فاطمة سيفا الي سيف، و كان معناه أن حركات الخلق لا تنجح الا بقوة الفكرة و قوة التضحية لها. و كان معني اصلات النبي سيفه، أن صاحب الفكرة ينبغي أن يكون أشد المؤمنين بها و المكافحين من أجلها و لو علي أمر صورة.فنحن نجل محمدا لرسالته الي حد كبير، و نجل محمدا لكفاحه و استبساله

ص: 381


1- 294. لا يظن أن هذا القول يدخل في حد الخيال الشعري بل هو حقيقة نفسية تثبت علي البحث الجديد، فقد قرر العلمآء وراثة الجنين لكل ما يختلف و يتراوح علي الأم في دور الحمل من تأثرات و مشاعر و احساسات.
2- 295. ان السيف في كلامنا رمزي بحت يشير الي القوة، فسيف النبي رمز لقوة المبادي ء و سيف علي رمز لقوة العقيدة. و لا يتوهمن أن كلامنا يدور علي السيف الآلة المحددة بل نعني القوة الأدبية. و هذا التنبيه لكي لا يتوهم البسطاء ان الاسلام كانت قاعدته السيف و اننا نهيب بالناس الي نهضة السيف قاعدتها.

و آلامه في سبيلها اجلالا غير محدود، فان الذي يعطي فكرة و لا يوقف كل أشياء حسه و نفسه عليها جهادا و تضحية، يبلبل فكر الجماعة ثم لا ينقذ المجتمع، بل يزيد في معني دائه، فان فكرة الاصلاح لا تكون شيئا نبيلا اذا لم يجعلها الكفاح كل شي ء.ان الفكرة قد تشير الي امتياز ملهمها، و لكنها لا تشير الي خلوده الا اذا تحمل آلامها. و قد بارك الله آلام محمد الخالد حين أدي رسالته و حمل ثقل الكفاح و الجهاد (ألم نشرح لك صدرك، و وضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك). و الوزر في الآية بمعني الثقل، و هو ثقل آلام الكفاح بسبيل الرسالة الجديدة.و كان وضع الثقل عنه اعلانا بأن انسانية محمد أخذت طريق نجاحها، و قامت علي قاعدتها، و نفت مرارة الدواء ألم الداء المصمت الجهيد...بعد حين، تراءي أحد النبي من بعيد، فأثار فيه ذكريات عذبة بأشيائها الكبيرة، و أطيافها اللامعة الرائعة...و كانت هذه الذكريات قد استحالت الي حنين فحب، جعلاه رمزا من رموز الانبعاث و الانقلاب و التجديد في ضمير المؤمنين الشاعرين...فقال النبي يكرمه «ان أحدا جبل يحبنا و نحبه»، يحبنا لانه رضي عن استبسالنا و ثباتنا، و نحبه لأنه رمز هذا الاستبسال و هذا الثبات...و كأن النبي «دشن»، بهذا المقال في أحد، تمثال الايمان الشامخ...كان يوم أحد يوم الشهداء...و الشهيد في سبيل أمة ذكري حية في ضميرها، و مادة هامة في كبرياء مجدها...

ص: 382

فيوم أحد يوم الذكريات الحية الخالدة، و لذلك أحبه النبي و نحن نحبه و لا ننسي عظته الناطقة في الضمير!....استحال يوم أحد الي ذكري من الروائع...و استحالت الذكري الي حب و هيام بالامجاد، مادام علي الارض عرب أو مسلمون...و أبرز الغيب بعد ذلك روحا جديدة، جمعت طائفة هذه المعاني و سماها النبي حسينا...و دار الزمن دورة قصيرة، و ثار الحسين و صوت الحق يدوي في صوته المرسل...و انطلق الناس يقول بعضهم لبعض:تحرك اليوم أحد مرة أخري، و ثار بركان الاصلاح يزلزل بالحمم..!

ص: 383

يوم الميلاد

تنادت نساء الحي أن فاطمة أجاءها المخاض، و كن يلممن بدارها كوكبات كوكبات، و ينتظمن هنا و هناك كما شاء المجلس لهن. و مرت لحظات أخذت عليهن كل ما كان يبدو من حركات شاءها الظرف و البشر، و شملهن صموت خاضع فيه بادية الحذر، حتي ليخيل للناظر أنهن دمي مجنحة تطمح الي شي ء في غير مرأي العين.و كانت أسماء بنت عميس وحدها تري غادية رائحة، و مر بها خاطر أنكرت معه موضعها. فقد تراءي لها أنها في معبد اكتظ بالمجنحات التي تطل في صورها ملائك في فرحة خاشعة.و سبحت مع خاطرها و راحت في مقعد الأحلام، حتي لقد انفصلت فوق حدود الزمان و المكان، فكان لها عالمها الجديد الذي يغاديها برؤي يقظي علي خيوط النور.حسبت كل شي ء واقعا و حسبت أنها تغدو و تروح في عالم ما تري. انها أحست بلذاذاته طافحة حتي لقد غمرتها.لا يمكن أن يكون هذا حلما، انه لأكبر من الحلم في مذهب الحسس

ص: 384

البادي.. هكذا تناجت في حديث نفسها حينما أنبهتها زغردات النساء التي بدأت همسات حلوة ناعمة:فقد أسلمت فاطمة وليدها..و لكن أين ما كنت أري؟. أين هو أو أين أنا! لست، لست أدري. أحسبني في معرض العجائب. أحسبني في عرس الاملاك. حقا ان للانسان عوالم شتي و هو يعيش في أقلها تطرية، أو يجعلها واقع الزمان و المكان أقل تطرية و بهجات. هناك في غير واقع الزمان و المكان يحس الانسان بالاشياء مكبرة و يتصل بكليات معانيها لأنه يحس بكل نفسه، و أما هنا فانه يحس ببعض نفسه علي مقدار ما يسمح الواقع الجامد، و يبقي كل النفس ظامئا.لم يكن ما رأيت حلما؟؟ انه خالطني حتي لألمسه. نعم. نعم. لقد أدركت الآن، و الآن فقط، سر النبوات و سر القداسات و سر الالهام و الهيام في الفكر و الفن و الاشياء.. و ان يكن حلما فليتني أظل حالمة، و لكن هيهات أن يكون في كل يوم مثل وليد فاطمة أري علي وجهه أو أحلم.. هكذا كانت تقول بينها و بين نفسها قبل أن انطلقت و غابت في الجموع المائجة الفرحة، وضاع وقع خطاها في الرنين الضاحك...كان (جميلا) كخفقة الضوء، و بهيا كقطرة الندي و قد تحاضنتها أكمام الزهر حتي لكأنها في جو الأحلام ذابت فيه النشوات و استحالت الي أريج تهدهده أيدي النسيم، و كان لألاء كزنبقة الغور و قد مصت اشراقة الغروب التي خلفت فيها الشمس ذكراها السعيدة الي الليل، و كان مل ء العين و الهوي حتي لقد قلن ان الجمال اختصر به أو ان سنا الوجود المفرق جمع عليه، و كانت تحوطه الي ذلك هالة مشعة فيها (جلال النبوة) و جمال الطهر البري ء، و كان عابقا كأن السماء اطلعت علي الارض بالاريج.خرج الحضور عن صموتهم، و غمرت الاثير موجة بشر ظاهرة خفق لها خفقات كانت مؤذنة بالوليد السعيد...

ص: 385

برز النبي (ص) وسط الجموع كما تبرز المنارة وسط الضباب، هادية بشعاعتها المستطيلة في انبثاق و تدفق. و أخذ وليده السني بيدين كانت حركات أناملهما تعبر عن فرط السرور، و حنا عليه حنو المرضعة يهمس في أذنه كلمة الاسلام الشامخة «الله أكبر! الله أكبر!»و غام علي أسماء، فقد كانت اليوم في حساسية جد نافذة، و شعرت حيال هذا المشهد أن الاحياء بنزغاتهم هم ضباب الحياة، و كثيرا ما يكون مطبقا داكنا، حتي لتبدو الحياة نفسها كرة من الضباب، تدور في مثل حركة الاعصار هادرة بما فيها من الاهواء. و لكن الشمس تطلع من ورائها فتبخر ما استوي فيها و تراكب عليها و علق بأنحائها، و تمدها بمعني الضياء فتغدو مزدهية متألقة، و يخشع الانسان عندها في محراب الله الأزلي. انه خرج من التيه، و نض غبار البيداء و استعلي علي السراب.أف.. للذين يظنون ان الحياة ضباب منتشر في آفاق هذا الوجود، و الانسان يطفو و يرسب مغمض العينين.. ان وجودهم لم تشرق عليه هذه الشمس التي تغمرنا بشعاعها، ان صورة الحياة في خيال الأعمي ملأي بالظلام، و في خيال الأعشي مليئة بالرماد أو الضباب، و لكن هل الحياة كما تنعكس في مرائيهم المتحجبة؟ ان شمس النبوة و فيها المعني الاتم المشرق للانسانية و الحياة لم تسطع في سماوة فضائهم.هنا و في هذا المكان، أجد حقيقة الحياة العارية تحت ينبوع النبوة و شعاعتها الخالدة.. هنا و في هذا المكان، حيث يبارك النبي انسانية جديدة و يتفرع منه رافد نمير و ثمد فوار في صلب الانسانية الحية، في دمائها المنصبة الي بحيرة المستقبل البعيد القرار، يجد الظماء ما يبرد حرارة عقولهم و قلوبهم، يجدون الينبوع الذي حجبهم عنه سراب الفكر المدخول...قال قائل في الظلام - و الناس يخرج أحدهم في اثر الآخر - ايه أبارافع.. و ربت علي كتفه: أرأيت أعجب من اليوم، النبي يسر في أذن الوليد و كأنه يقول شيئا!..

ص: 386

قال أبورافع: نعم. انه «أذن في أذنه كما يؤذن للصلاة».قال الرجل: و لكن أتري أنه له نفسا مدركة تعي ما يقال لها و ما تخاطب به؟قال أبورافع: نعم. و ماذا تظن أنت؟ لعلك انصرفت بظنك الي أن نفس الوليد خلاء من القوي، ان كان ذاك فبعد ما تظن. انها واعية كأتم ما تكون نفس من الوعي، و لكنها غائمة بما في التركيب العضوي من الوهن و ضعف الحساسية.و النبي توجه الي هذا الوعي و هو في أكمامه ليضع فيه شيئا خالدا، ليضع فيه كلمة الله فلا يحول عنها و لا يزول مهما اضطربت عليه بواعث الشباب و اضطرمت فيه نزواته، لأنها سوف تأسره بحنين الصوت البعيد.انه وضع، في آخر مرحلة التخلق و أول مرحلة التفتح و الازدهار، عبق المثل الآلهية، عبق الحقيقة المطلقة، الذي ينفح و لا ينقطع، الذي يفيض و لا يغيض.. تمر به الأهوية الهادرة الهابة فلا تغير فيه و انما يغير فيها، بما يحملها من أريجه الفواح، فتغدو و قد فقدت ما تنذر به بما تبشر، انها حملت روح الزهرة في الحقل...ان النبي لنا اليوم زهرة الحقل، و هو يمد يده في أحشاء الزمن بزهرة حقل المستقبل، فعسي أن يتركها الانسان تضمخ فضاء الغور في عين الشروق و الغروب، و لا تلتف عليها أفعي الشهوات فتقضمها، اني لحذر، اني... تلعئم و وضع يده علي قلبه مخافة السقوط و أغمض عينيه في خيال رهيب.و كان أبورافع مولي للنبي، فلم يطق ما مر بخياله و تحامل علي صاحبه مدة، ظل فيها صامتا صموت الليل الذي تزيد في رهبته أصوات متقطعة للذئاب.و شمل الرجل تيار أبي رافع فاستغرق في وجوم، و سارا يقطعان الليل في خطوات تعبر عن أنها ذاهلة لا تقصد الي شي ء و لا تتصل بما تنتهي اليه. و ما استفاقا الا علي صوت الانسان في الغلس ينادي بكلمة الله الارواح الشاردة

ص: 387

الهائمة. و اختلط الصوت بسكون الليل فعبر عن انه قال كلمته، و استحال الي صدي فيه شرود السكون.خف الناس من كل مكان و في أعينهم بقايا الحلم السادر، متوافدين مع النداء الي حيث يمتزجون بالمجهول، الي حيث يصححون ضمائرهم في عمل الحياة، الي حيث يجددون عقودهم مع الله علي الخير و الحب و المثل، بجعلها مبدأ عمل و واقع حياة... مد الرجل خطاه وهب يطلب ما يطلب سائر الناس.فقال أبورافع: علي رسلك يا هذا، اننا لم نزل في صلاة مذ خطونا!قال الرجل: و الآن نصل صلاة بصلاة. (1) .قال ابورافع: نعم. و لكن رويدك، فان النبي رأي جماعة تتراكض الي الصلاة، فقال «ليأت أحدكم الصلاة هونا». و هو يشير بهذا الي أن الصلاة لا تكون واعية الا اذا تلبست فكر فاعلها و نفسه، فهي ليست عملا خالصا بل فكر في العمل و بذلك يكون لها عمل في الفكر، و الاعجال يضيع علي الفكر اطراده و انسجامه. و النبي يريدنا أن نبدأها صلاة بالفكر صلاة بالروح، و الا فهي صلاة شاردة غير واعية، لروح أكثر امعانا في الشرود.

ص: 388


1- 296. لا ريب في ان الصلاة عقد «كونترا» بين الله و الانسان. و اذا تأملنا الفاتحة نجد فيها شروط عقد متبادل. و علي ضوء هذه الملاحظة ينكشف لنا سر تكرار الصلاة اليومية علي الشكل المعروف في الاسلام و جعلها ليلية و نهارية. و هذا السر هو تجديد العقد و توكيده حتي لا تضعف فعاليته و حتي لا تمر بالمرء ساعات فتور و استرخاء يخل فيها باحكام العقد فيظل بذلك دائما طرفا في عقد جديد. و كما هو معروف علي البحث أن الضمير و الوجدان و العقائد تتولد من التكرار و التلقين، و الصلاة صيغة تلقين و عملية تكرار معا. هذا فهمنا للصلاة في الاسلام من ناحية عملية. و أما هي من ناحية فلسفية فانها أصح طريقة و اسلوب، و اصح شكل و صيغة لما يسميه (ساندرسون) أحد علماء النفس التطبيقي معبد الرؤيا، هذا المعبد الذي يتأمل فيه المرء منفردا و يخشع مستغرقا متفكرا، و هو يري أنه لا صلاح للفرد و بالتالي للجماعة الا بمعبد الرؤيا، او ساعة التأمل اليومية و قد ضمنها الاسلام علي شكل مدهش من التكرار في صخب النهار و في هدوء الليل، و كأن الاسلام بصلاة النهار ينتزع الانسان انتزاعا ليغرقه في التأمل و الاشراق و لو لحظات.

قال الرجل: ان حديثك مل علي نفسي منذ الليل، و لقد مازجتني حسرة حين قطع الوجوم عليك الحديث...قال ابورافع: لعل صلة الحديث الذي انقطع بيننا، تجر الشجون الي استداركها يوما من اليوم.قال الرجل: و لكني أجد في نفسي أسر الحديث و مد الداعية اليه، و لعل نفسي لا تجتمع كما اجتمعت علي الليلة من أقطارها، و أجدني أشد ما أكون انصرافا الي مغزي الأذان في أذن الوليد و مغزي الاذان الذاهب كل يوم مرات فوق ضجيج الحياة و صخبها، الاذان القارع في دنيا الاباطيل.قال أبورافع: انني لم أزل أخشع تحت ذكري الرنات الهامسة التي أرسلها النبي في أذن وليده، لتكون كلمة الله أول شي ء يتمدد في فضاء تلك الروح، و أول شي ء تتموج به و تشتمل عليه. و بذلك يبقي فضاؤها خليا من الضباب، فلا تمر به حلكة قاتمة و لا تجثم فيه ظلامية أو دجنة، فيتكور فضاء الروح تكور الفلك علي الشمس.و الأذان الذي يقصد به الي الروح لا تكون فيه ألفاظ الاذان بل روحانيته، لانها تسمو، بمحلها و مستواها، عن الالفاظ و مذاهبها في التعبير، هذه الالفاظ التي تؤلف كائنا آليا لا حس فيه، و استأتي به الانسان الي اكمال آلية الحياة و حركاتها الرتيبة. و لذا ظل كائننا الداخلي المجهول أكثر انفعالا بالمعاني المطلقة عن الاداء، كالالحان التي هي في حقيقتها معان لم تستحجر، فتتجه الي احساس الروح قدما فتتموج بها سريعا، بينما الاداء الآلي «الالفاظ» يمر في الفكر و ما وراءه من معابر؛ حتي يتجرد (1) و يستحيل معني مطلقا في احساس الروح.

ص: 389


1- 297. توجد الفاظ في اللغة لم تستحجر بما اغدق عليها الشعور حتي لتتصل بما وراء القوي الواعية و تحركها رأسا بدون ان تمر في الفكر كالفاظ الجنة و النار في حس المتدينين، فهي الفاظ تكمن فيها روح، و يمكن لنا ان نسميها لغة روحية و تضم كل الالفاظ التي تملك خيالا و ذكري كالفاظ القومية و الحب. و هناك الفاظ تتصل بمواطن الحياة و تؤثر متخطية الفكر ايضا او تمر به مرا سريعا، و هي الفاظ الغرائز و ما اليها و نسميها لغة حيوية. و ما بقي من الفاظ اللغة الآخري، فهي الفاظ فكر لانها تؤثر عن طريقه و نسميها لغة آلية مستحجرة.

فهذه الروح الجديدة - التي لم تحلها آلية الحياة المخترعة بعد بأشيائها والتي لا تزال غضة لم تتحجر أطرافها - تموجت أول ما تموجت، و اتسعت، أول ما اتسعت، لكلمة الله الخالدة. فمهما مر بها من العواصف المتناوحة فلن تنطلق مع الهوي. انها مركزة بجاذبية الكلمة الاولي، و هي اذا رمت بالزبد فلن يكون الا حباب المثل المتراكب. فانسانية هذا الوليد السعيد جاءت كما شاءت النبوة.انني لا تمر بي ذكري الاذان في اذن الوليد الا و أخشع معها، انها تفعل بي فعلا عنيفا و عميقا، و لا أدري كيف أطوع الفاظ اللغة لتعبر عنها...فصلت منذ بعيد و أنا دهش بالأذان الذي يعدولي مذكرا الحياة بقاعدتها،و الانسانية بأنبل مثلها الخوالد، و يصغي الوجود كلمة الله في فم الانسان كأنه يشهد.و علا ضجيج الناس بالتكبير، و كانا قد بلغا باب المسجد فانتظما في صفوف المصلين، و عاد الكون الي صموته يصغي الي صوت النبي المرسل في اذن الفجر يقرأ:«الحمد لله الذي وهب لي علي الكبر اسماعيل و اسحق ان ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دعاء».في حقل البشرية الشائك، غرس النبي نواة...عملت فيها النواميس، فبرزت زهرة لم تتفتق عنها الاكمام...و مسحها النبي بيديه كلتيهما، فنورت بين أصابعه...و ماست فواحة تملأ الحقل بالعبير، حتي ليخيل ان الحقل زهر كله!..قصدت اليها من بعيد، افعي فاحمة لماعة الاديم...

ص: 390

و كانت تفح فحيحا لاهبا، و يؤج من فيها الحمم...و التفت عند أصل الزهرة، و تكورت كعقد القضاء...و في هدأة الليل، حين كان الكون في سبات قضمتها...و عادت و قد عاد الحقل شوكا ملهبا، و غدت زهرة الحقل ذكري رمز سعيد!..زهرة كانت من صنع النبوة في افتنانها و سموها...و النبوة شعلة في الحياة، و شفق في الفكر لا يتناهي مداه...و زهرة الحقل نثرها باطل الانسان، و لكنها اجتمعت في الذكري الخالدة...فقد غرستها نبوة صناع و النبوة، لا تحور...!زهرة وضعت فيها اللانهاية أسرارها...فلبثت رغم باطل الانسان و لن تدركها نهاية...و حار الباطل الي رماد في زوبعة الرياح...!تحول الباطل، فكان ظلال الحياة...و تحول الحق، فكان شمس الحياة...و أخيرا، و بعد حين، ضاع الظل في الشمس!

ص: 391

مشاهد

مضي، بين يوم الميلاد و هذا اليوم الذي تقاطرت فيه زرافات الناس من كل مكان، «أسبوع» متألق و ضي ء كأنما تنفست في جوه السعادة، و طفرت من أعماق الحلم لتموج في واقعية الجموع و دنيا الحياة.كان البصر يذهب مذاهبه ثم لا يقع الا علي أوزاع مجتمعين و متفرقين، فقد حفل النبي بسابع أيام وليده و عق عنه.افتداه «بكبش» ذهب خيره في أشابة الفقراء، و كان مغزاه أن الانسانية المثالية السامية، أول ما تقوم عليه هو اهراق النزوات الحيوانية و نزغات ضراوتها، مجتمعة في حيوان يهراق. فاذا كان في نحر الحيوان من أجل الغذاء معني الجسد و توكيد أنه حيوان قرم، فان في نحر الحيوان من أجل الفداء معني الروح المتسامية الي العلاء، و كان وحي و اشارة لشي ء آخر مترتب ترتيب النتائج علي المقدمات: الحيوان يفدي به الانسان الشاعر بمعناه، ليتعلم هذا الانسان كيف يفدي فكرة الانسانية و كيف يضحي بسبيل مثالياتها.. و لذا لم يجد (1) المكافحون

ص: 392


1- 298. كان من عادة الجنود في القديم نحر حيوان تحت العلم و علي مرأي من الجند، و بقيت هذه العادة حتي زمن محمد علي باشا خديوي مصر.

المستبسلون الي زمن قريب رمزا لصدق الكفاح الدامي و للارتكاض الي الموت سوي اهراق حيوان بين يدي الصراع مشيرين الي المصير و لو كان هولا.و طعمته جموع الفقراء ليكون معناه: أن تضحية الانسان جانب الحيوانية فيه، كي يملأ الفراغ في هذا الجانب مجماعات المجتمع المحرومة، فيجد في شعورهم شعوره و في آلامهم ألمه و في سعادتهم سعادته. فقد مزجهم بنفسه و خلطهم بهواه، و قامت طبيعة الانسانية فيه علي ثنائية من الفردية المهذبة و الغيرية النبيلة، يجد في طبيعته سر الجماعة و في الجماعة سره، و بهذا يتم التواصل الانساني الصحيح الذي لم يزل خياليا و كان في وليد النبي واقعا.طبيعة سمت عن الأنانيات، فان النبي استطاع في مجتمعه أن يذيب «أنا» في «نحن»، و حارب طوال جهاده الذين أذابوا بأحابيلهم «نحن» في «أنا»، فكان لكل امري ء في مجتمع محمد أن يقول «نحن» و ليس فيها كبرياء الفردية و عتوها، و انما فيها نبل الغيرية و وحدتها، و اشتراكيتها و تعاونها.و قد تركت ذكري هذا الفداء في طبيعته بعد أن استوي رجلا رمزها الانساني و معناها النبيل. فلم يبال تحت ذكراه أن يحقق فيه مغزاه، و أن يقدم في نفسه فداء الفكرة التي اذا تجرد الانسان منها، عاد مخلوقا بغيضا ينحط عن أن يكون فداء الحيوان ذي الطبيعة الساذجة و فيها ايثار دون قصد، و فيها قناعة دون شعور، و فيها رغبات (1) قاصرة...أشرف النبي في هناء الجموع و بهاء الحفل قال:

ص: 393


1- 299. نعني بالرغبات القاصرة أن الحيوان ينفعل بباعث الغريزة كالجوع، فاذا سقط علي طعام تناول منه حاجته و عف عن الباقي، بينما الانسان يتناول حاجته ثم تتحرك فيه رغبة النعم حركتها فتحمله علي الادخار و احتجاز ما فضل عنه دون الآخرين. فلدي الحيوان ايثار دون شعور. و بالجملة تكون رغباته قاصرة بينما رغبات الانسان شرهة صارمة. و التناحر لدي الحيوان علي المقومات الحيوية لا يكون الا حين الشعور بباعث الغريزة و الحاجة.، و لكن التناحر لدي الانسان عليها قائم علي ادخارها شرها فاحشا فكان الحيوان بالطبيعة أفضل من الانسان.

«أروني ابني ما سميتموه؟قال علي: سميته حربا.فقال: بل هو حسين!»تهامس الناس بعضهم الي بعض: سماه النبي حسينا و هو كذلك في سمته و نفسه.قال عمران بن سليمان: هو كذلك حسين و لكن فيه معني التكبير.فقال قائل له: لكأن النبي كره اسم حرب.قال عمران: نعم. ان الحرب شذوذ في طبيعة الانسان يصيبها بالانتكاس، و النبي نصير الانسانية يكره ما هو من الحرب و لو بمنزلة الاسم، لأنه جاء ليقيم الانسان علي قاعدة الاحسان.قال الرجل: ففيم حربنا اذن؟قال عمران: ان الحرب هو العدوان طمعا و عتوا و اضطهادا، و هو رجوع الي الحيوانية الضارية التي تستضيق، علي رحابة الوجود، بغير ذاتها، فتستجيب الي العدوان و تنازع الآمنين علي بقائهم. و أما نحن فاننا نكافح هذا العدوان لنخلص الانسانية من أدران الضراوة الباغية، فلسنا نحارب منازعة علي البقاء بل تعميما لحرية البقاء؛ و هذا ليس حربا بل نضال ضد الحرب، و ان النضال من أجل حقوق الانسان و دونها احسان.فالنبي جاء بالاحسان مبدأ علي شتي وجوهه و من أقطاره، ليطفي ء نار الحرب في السلم الظالم و في الصراع العاتي، و ليرد ذئاب البشر الي الذئاب بتمزيق أقنعتهم فيسلم الانسان.و بهذا كان النبي اول من حارب الحرب و ألغي مشروعيته و أعلن حرمة الانسان أيا كان، و روي التاريخ نبل الجهاد... و كان في تسميته الوليد حسينا بعد تسميته حربا، اعلان بأن طبيعة الحرب لن تتحرك عليه الا احسانا و في سبيله...

ص: 394

و في تهامس الناس «أن الوليد» أنه ألم زاهقة، كانت ايذانا بختانه. و كان مغزي الختان، في اشراق الروح، أن في طبيعة الغرائز زائدة تذهب في شذوذها و التوائها حدا تضعها في مساف المساقط و مآتيها. فلابد من تشذيب الغرائز لسمو الروح و كمالها، و لابد من تقليم الغرائز لدرك المثالية و نبالتها التي بها جميعا يملك البشري انسانية صحيحة تضعه فوق الواقع و دون الأحلام...بعد حين، كثيرا ما كان يري هذا الوليد السعيد، يموج في حجر جده العظيم...و هو يرمي بعينين سادرتين، أرخت عليهما الجفون كللها لا تزحزح الا بفتور...ضجعة في جو الأحلام، كان يرتضع فيها الوليد «ابهام جده» البطل النبي...و لم يكن في هذا الرضاع معني الثدي بل معني القلب، فلا بدع أن كان له من النبوة طباعها و من البطولة تضحياتها...ضجعة كأنها ضجعة الملاك في هالة النور، او ضجعة النجم في الأفق المسحور!..أغفي فيها اغفاءة الخشف علي ثدي الاموية الحانية...و ارتسمت ظلال هذا المشهد علي لوح، كان صورة لبطولة تغذيها نبوة!...ابهام كان صلة معني بمعني، و شريطا تسري عليه روح الي روح...

ص: 395

فلما استوت نفس الوليد تألقت، و كانت بطولة مضية من ورائها نبوة تمدها بالضياء...هناك في وادي العقيق (1) كانت جموع السمار تنتظم حلقات حلقات في عفو و دون تكلف، و كان هذا النوع من السمر محببا الي اهل المدينة بما في طبيعتهم من روح مرحة لا كلفة فيها و لا تعقيد. و لم يكن مرحهم أثر روح مكدودة عراها تطير و تشاؤم بالحياة و أسبابها، فهي تفر الي الخلاء الي الفضاء الرحب، و هي تصطنع هذا النوع من المرح لتنسي همومها المشتعلة و ضناها اللغوب، و هي تنضو اثوابها الثقيلة و أغلالها الآسرة العانية لتنسي ذاتيتها بما فيها من عنصري المكان و الزمان المرهقين، لتعبث لتلهو هاربة مذعورة... تلك طبيعة روح معقدة حجرها الجد الخشن، فهي لا تفتأ شاعرة بالخشونة فيشيع فيها التجهم و التقطيب.لم تكن هذه الطبيعة تتصل بطبيعة أهل المدينة في قليل أو كثير من قرب أو من بعد، و انما بنيب طبيعتهم أول ما بنيت علي مرح كاد يكون مجونا دون قيد، و علي يسر كاد يكون انطلاقا من كل قيد، فشاعت فيهم سماحة مشرقة و انطبعت علي أفواههم بسمات مشعة تمدها نعومة في الطبع تأبي الا ان تظهر في دعابة منطلقة عارضة، و هي ان جدت تكون متكلفة في الجد، كما تكون تلك الطبيعة متكلفة في المرح.و أي شي ء هذه الحياة اذا كانت لا تمنحنا قلبا سعيدا لم تتحجر فيه السعادة، و الجد لا يصل المرء بالسعادة، لانها انطلاق، و هو جمود يحجرها كما يحجر كل شي ء يتصل به، فيضيع فيه حيويته و يعزله من روحه... هكذا كان يتحدث

ص: 396


1- 300. ان العرب تقول لكل مسيل يشق الارض و يوسعها عقيقا. و في بلاد العرب اربعة أعقة و منها العقيق الذي هو بناحية المدينة فيه عيون و نخيل و قصور و دور و منازل. راجع معجم البلدان لياقوت ج 6، ص 198.

في مجمع وادي العقيق «نعيمان (1) «طرفة اهل المدينة الذي لولا ما دخله من عنصر المادة الحية لكان روح النادرة المبدعة...ليلة كانت من هبات القمر، و هو يدنو فيها كثيرا و يشع كثيرا حتي ليخيل أنه يتحدي الشمس في بهاء و طراوة يشعران بالجمال. و دعاها العرب «أضحيانة» كأنما جمع فيها الضحي أو جمعت فيه، و الضحي اغراء باليقظة، بيد ان ضحي الشمس اغراء بحياة التكاليف و الذكري و اليقظة علي الجسد و الواقع القطوب، و ضحي القمر اغراء بحياة وراء الحياة، كلها حرية و انطلاق، و كلها نسيان و ولادة من جديد في اللحظات.ان الذكري و فيها عنصر الثبات و الجمود الحياة ضربة لازب في مرارتها و سآمتها و ملالها، و النسيان سيل من التجدد و الصيرورة يجعل الحي في كل الآنات مولودا جديدا يتقلب في اسباب الطفولة الناعمة الهانئة. فمدار الشمس دنيا من العمل و الوعي الجهيد، و مدار القمر دنيا من النشوة و اللاوعي الحالم... كذا قال نعيمان و هو يتدفق في تندره، و كان يسمي ليالي القمر ضحي الاحلام لأنها صحوات في أعمق سكر، و لحظات شعرية تفر من عتبات الابدية التي أدنانا القمر المسحور من آفاقها المطلقة القريبة.قال رجل من الحضور: لو شاء نعيمان حدثنا حديث هداياه (2) التي

ص: 397


1- 301. هو نعيمان بن عمرو بن رفاعة من بني النجار. توفي في زمن معاوية. كانت تغلب عليه روح الفكاهة و النادرة، و كان يداعب النبي كثيرا. ذكره الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة و المزاح، و دكره ابن الجوزي في كتاب الظراف و المتماجنين، و ترجم له بتوسع ابن حجر العسقلاني في كتاب الاصابة ج 6، ص 250.
2- 302. ذكر خبرها ابن حجر في الاصابة قال: كان لا يدخل المدينة طرفة الا اشتري منها ثم جاء بها الي النبي فيقول ها أهديته لك. فاذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمن أحضره الي النبي و قال: اعط هذا ثمن متاعه، فيقول النبي: أو لم تهده لي؟ فيقول: انه و الله لم يكن عندي ثمنه و لقد أحببت أن تأكله، فيضحك و يأمر لصاحبه بالثمن، و ذكرها ابن الجوزي في كتاب الظراف، و غير واحد من المؤلفين في النوادر.

ستبقي رمز خلوده و ان كانت تطفيلا في الكرم يشبه في المعني التطفيل في النهم و ليست تضله، و علي اي حال فانها سخاء مضحك و هو معها ضحكة الاسخياء... فسرت بين الحضور رنة ضاحكة، انطلقت و ترامت ابعد ما تترامي الاصداء في مطارح الخطاء.قال نعيمان: اما انت فضحكة البخلاء، و معناه انك اكثر من بخيل. و انا يسرني ان اكون كما تقول اكثر من كريم. و اني لا اراك في طبيعتك الا كمثل زهرة الحنظل... فارتفعت الاصوات من كل جانب: و ما مثل الزهرة الذي ذكرت؟قال نعيمان: زعموا ان فراشة ملونة تخال كأنها زهرة حية طائرة، مسها نصب الترنيق و لغب الطنين الذي هو نشيد أماني الفراش و هي قاصدة الي الحقول. فحطت مغتبطة علي زهرة حنظل كانت تميس بين أيدي الرياح في غضارة و تملأ حتي لتحسب انها تفيض عصارة و مائية، فدارت عليها الفراشة دورات يائسة كظامي ء سقط علي آل حفي، فمدت جناحيها و خفت تطير.قالت الزهرة: اذا عدت بعد حين فسأسقيك من ماء ثماري الوفير.قالت الفراشة: اذا كنت و أنت زهرة من بنات السراب، فان ماءك و أنت ثمرة عصارة مستنقع كريه؛ فزهرك باطل بين الزهر و ثمرك باطل بين الثمر، فان الزور اذا استحال فانما يستحيل الي زور اكبر.و هداياي التي كنت أسوقها الي النبي ان كانت تعبر عن شي ء، فانما تعبر عن مكان الندي و السماحة من قلب النبي الكبير، و هو لا يفتأ يأخذنا بألوان منه و يملأ جو حياتنا بطراوته، و قصاراه انه اخرجنا من بداوة الطبع و زودنا بقلب الانسان.قال ابوهريرة، و كان احد الحضور: ان الحديث ذو شجون، و قد اذكرتني

ص: 398

بلحن حديثك واقعة شهدتها. كنت عند النبي «و قد اخذ وليده الحسين يدلع له لسانه فيري الصبي حمرته فيهش اليه، و عيينة بن بدر حاضر فقال:يا رسول الله تصنع هذا بهذا، فوالله ان لي الولد و ما قبلته قط.قال النبي: من لا يرحم لا يرحم».قال أبوالدرداء و كان حكيما: كم كنت جد محسن يا نعيمان بقولك «و قصاري النبي انه زودنا بقلب الانسان» فقد جمعت غاية ما يقال في أخصر مقال، و انه ليوحي بشي ء كثير.. ثم أطرق في تأمل لم يطل به كثيرا و لكنه مس الجمع، فنقلهم من جو أنفسهم في مرحه الي جو نفسه في تأمله... و ما هو الا ان اطرد يقول: لا أدري ماذا ترك في انفسكم خبر ابي هريرة، فانه أيقظ نفسي علي السر الالهي في محيط الكون الذي هو مصدر ما فيه من تناسق و نظام و جمال و تناغم. و اذا كانت قصة المثل (1) تعبر عن واقعية كونية فانه يقع علي قمتها، و ذلك السر هو الرحمة، فانها المعني الازلي الذي انبثقت منه الحقائق و كان الوجود احدي ظاهراتها و هي فيه مقياس القيم؛ و نحن لن نتصل بالحقيقة الاخلاقية و الطبيعية و ننفذ الي أغوار المطلق الا من طريقها و علي اضوائها الملتمعة، علي ان الخير الذي اعتبرته قصة المثل رأسا ليس في حقيقته الا امتداد الرحمة و ظاهرة من تحركها، و الجمال تجسد للرحمة باكثر مما هو تجسد للخير، فهي ألفة الحقائق التي بها نفهم الكونية و الاخلاقية فهما مطلقا، و نضع اليد علي مقياس القيمة الحق.و ميزة الاسلام انه جعل الرحمة دعامته و قام عليها، و لعله الدين الوحيد الذي تهدي بها الي فهم الوجود و قياس الاخلاق و تركيز القانون و الاجتماع، و جعلها نظرية فلسفته الاولي. فقد سمي الله احيانا رحيما و احيانا رحمانا، و حين تحدث عن الكون قال في مقام «وسعت رحمتي كل شي ء» و في مقام آخر قال

ص: 399


1- 303. اي قصة المثل الافلاطونية التي تجعل الخير رأس المثل.

«كتب ربكم علي نفسه الرحمة»، و حين تحدث عن المجتمع العام قال «و ما ارسلناك الا رحمة للعالمين» و عن الاسرة قال «و جعل بينكم مودة و رحمة» و قال النبي يصف نفسه «أنا الرحمة المهداة»، و حين تحدث عن الاخلاق قال «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء»؛ و ما حدثكم به ابوهريرة الآن «من لا يرحم لا يرحم». ففلسفة الاسلام قامت علي قاعدة الرحمة التي عالج بها نظام الحياة من شتي وجوهه و جوانبه و بثها في قانونه و أناظيمه، و دخل بها الي الهيكل المستغرق الخاشع و المجتمع الصاخب الداوي، و كسر بها شرة الانانيات الضارية و حد بها من مد الرغبات النهمة.و بالرحمة عالج الاسلام طبيعة الانسان المعقدة، ليبلغ بها مبلغ المثل الاعلي الذي عبر عنه بقوله «رحماء بينهم» و ليحقق بها مبدأ التآخي العام «انما المؤمنون اخوة».و ليس هناك كلمة كفيلة بان تدل علي روح الاسلام الشائعة في كل اوضاعه و تعاليمه سوي الرحمة، فهي رمز جامع لمجموعة حقائقه. كالمحبة التي هي الرمز الجامع للمسيحية من اقطارها و حواشيها؛ و فرق ما بينهما ان في طبيعة الرحمة توازن القانون، و في طبيعة الثانية خيالية التجريد.و علي اساس من الرحمة يقيم النبي التربية و يضع مناهج الربابة (1) السمحة التي تأذن لكل الطبائع بالنماء في تقدير موزون، دون ما كبت يورث انتكاسا و التواء في الطبيعة المتفتحة. و لذا ذهب وليده بحنانه و لا يفتأ يغاديه بشآبيب حبه النمير.قال شداد بن الهادي: لله درك أباالدرداء فان فيما اذكره الآن شاهدا علي ما تقول «ان رسول الله خرج علينا في احدي صلاتي العشاء و هو حامل حسينا، فتقدم النبي فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجوده فرفعت رأسي فاذا الصبي

ص: 400


1- 304. من وضعنا الجديد بمعني تربية الطفل.

علي ظهر رسول الله و هو ساجد، فرجعت الي سجودي، فلما قضي الصلاة قيل: يا رسول الله انك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة اطلتها حتي ظننا انه قد حدث امر أو انه يوحي اليك، قال: كل ذلك لم يكن و لكن ابني ارتحلني فكرهت ان اعجله حتي يقضي حاجته».فقال أسامة بن زيد «طرقت النبي ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج النبي و هو مشتمل علي شي ء لا ادري ما هو. فلما فرغت من حاجتي قلت: ما الذي أنت مشتمل عليه؟. فكشفه فاذا حسن و حسين علي وركيه، فقال: هذان ابناي و ابنا ابنتي، اللهم اني احبهما فأحبهما و احب من يحبهما».و استأنف أبوالدرداء حديثه فقال: ان الرحمة في العضويات و مظهرها الرقة و الحدب هي سر كيان الموجود الاجتماعي و بقائه، و ان الطفولة اذا لم تؤخذ برحمة الكبر فلابد أن تقع هوة بين الطورين تذهب متسعة كلما ذهبت الايام ممتدة، و تمتلي ء بالكراهيات و تطفح بالأحقاد، فتخبو النشوات المغرية بالحياة. لأن الطفل لم يعد يجد حاضره اللاذ في الكبير، و لأن الكبير لم يعد يجد في الطفل مستقبل وجوده كحلم الخمرة في العنقود.فمثل نظرة عيينة بن بدر الي الطفل تؤرث البغض الخفي، و تذكي الصراع بينهما علي نحو غير مشعور به، فلا تتجاذب اجزاء الكائن بل تتدافع و لا تتجانس بل تتنافر، و بذلك يندثر حب الذات في مظهره الاجتماعي و تبهت أحلامه فتبدو خابية.ان النبي يبث في الشباب المستوي، الرحمة علي شتي أطوارها: بالشيخوخة لأنها الماضي فهو يستميلنا بالحنين، و بالطفولة لأنها المستقبل فهو يستهوينا بالأمل، فتتواصل أطراف الكائن و تتحد في بقاء طويل، و محال أن يقوم مجتمع علي القسوة. فنحن و آباؤنا و ابناؤنا أطوار كائن كروي واحد، يدور و يرينا في كل وضع و حين وجها؛ و كرة هذا الكائن انما تدور بالرحمة فاذا نفدت جمدت الكرة و ذوت فيها الروح. و الحياة لابد أن تتفسخ و تجتوي اذا لم تكن

ص: 401

دنيا من الرحمة، و هذا ما حققه النبي في فردوسه الذي تزهو به أرض العرب، و يلتمع الي بعيد في اغراء.ان الطفل حيوان يعيش بالغريزة، و بالرحمة يستطاع جعله انسانا يعيش بالقلب.قال نعيمان و لم تفارقه دعابته: لا ريب أن كانت كل أضراسك - أباالدرداء - ضرس عقل، او لعل لك وحدك من بيننا ذلك الضرس.. فضحكوا و هم يتنادون متواثبين الي الرواح، (و سالت بأعناق المطي الأباطح)...في بلاد العرب المتبدية وضع النبي تصميم مدينة فاضلة...و ما هي حتي استوت علي قواعدها حتي وجد فيها الظماء التائهون هيكل السعادة الشارد...و دحيت لبناتها من كل مثالية التقي فيها الفكر و العمل، فلم تغل بالمثالية فتطير بها اللبنات و تذهب في شرود...و كانت الرحمة ناموس تماسكها و تجاذبها...في هياكل هذه المدينة السعيدة كان حسين يحبو...و هو يتسامي في منبثق اشراقاتها يوما بعد يوم، كما تتسامي اللآلي ء في رقارق النمير العذب...فكان كائنا كالالماس صقلته الأضواء و انطبعت فيه...و غدا، بعد حين، مشكاة متألقة تميس في فضاء الهيكل السعيد...و تهب الحائرين طمأنينة النفوس و أحلام السعداء!...

ص: 402

يوم الدولة

أصبح النبي و قد جمع اليه جزيرة العرب الا قليلا، علي ان ذلك القليل كان ذاهبا ايضا في طريق سائرها، كما تذهب الرحي راسمة خط دائرتها في غير توقف. و كان لابد لهذه الرحي، و فيها انطلاق و فيها حياة، أن ترسم دوائرها واحدة في اخري اوسع منها، حتي تتصل أبعد ما يكون الافق المطبق، الذي هو في نفسه اقصي الدوائر في طاقة الحياة.و النبي الي هذه البرهة من الزمن كان قد قذف الدين في حياة العرب روحا، و سوي الدولة قطب الرحي في حركة الحياة الجديدة، فانطلقت و لم تقف و تفرجت و لم تنكمش. و ابدا يقع مقياس الحياة الشامخة في الحركة بمقدار ما تستطيع ان تخط خطوطا جديدة دائما، و تنثر في مدي خطوطها حيوات لا تغيض دفقاتها و لا تخبو اشعاعاتها و لا تبهت الوان احلامها...كانت سنة سبع و كان الناس يستقبلون بها عهدا جديدا، فقد هيأ النبي الاسباب للاعلان عن ولادة دولة جديدة في المنأي البعيد المجهول القوي و الممدود الرغبات. فنظم طائفة من الرسل الي ممالك العالم القديم تحمل رسالة الدين و الدولة جميعا، فقد اضحي نبي فكرة و زعيم دولة.

ص: 403

و كانت الفكرة التي انبجست من ينبوع النبوة قد امتدت و هي تمتد، فكان لابد للدولة و قد تركزت ان تتحرك لتمتد ايضا. و دائما تظل الفكرة في احساس التاريخ هزيلة، اذا لم ترافقها الدولة التي تجعلها خلاقة و مغيرة، و الفكرة لا تكون قابلة لتقوم علي اساسها الدولة دائما، و انما هي فقط الفكرة التي اجتمعت (1) فيها كل قوي التاريخ و قابلياته الراكدة، و انبعثت فيها علي شكل من الحياة، و بذلك تكون في اعتبار الزمن أنها منه، و مصير الافكار الاخري أنها تستحيل الي نأمات غامضة في أذن الدهر و سمع التاريخ.و من طبيعة الفكرة التي تجتمع فيها قوي تاريخية كبري و تنجح في اقامة دولة جديدة و خلق تاريخ جديد، أن تكون فيها عناصر الثورة كاملة، الثورة التي هي ظاهرة من يقظة قوي التاريخ الراكدة.و لأن تعاليم النبي من هذا النوع الذي اجتمعت فيه قوي التاريخ، كانت لا تتصل بمجتمع الا و تعمل فيه عملها فتلهبه و تحرق عليه زيوفه و تغيره تغييرا تاما، حتي كأن ما ليس منها ليس من الحياة. بذلك نجحت نبوة محمد و نجحت دولته، و فيها القوي لتنجح كلما حركت و انبعثت.و كانت كتب النبي الي الملوك أول دعوة من نوعها في التاريخ، دعوة دولية عامة للدخول في النظام الجديد، وجهت علي شكل كتاب رسمي. كما كانت اعلانا بولادة دولة الاسلام و العرب التي في ضمير الزمن عنها: أنها كلما ولدت يتغير وجه التاريخ.في هذه الفترة كنت تحس في كل نحو من أنحاء المدينة بحركة نشاط غريبة،

ص: 404


1- 305. و معني اجتماع قوي التاريخ الراكدة في الفكرة ان تشتمل الفكرة الجديدة علي كل الضرورات الاصلاحية سواء في الاخلاق و الحياة و الاجتماع، و مثاله: ان القوي التاريخية التي ظهرت في دولة فارس ثم تخلفت، و كذلك في دولة الرومان و دول الارض اذ ذاك، وجدت سبيل ظهورها و قابلية انبعاثها في الفكرة الجديدة التي دل عليها النبي محمد، فانبعث فيها كل قوي التاريخ التي كانت قد ركدت في الامم حينئذ، و كذلك كل فكرة في كل دور لا تملك قوة الامتداد و الحياة و السيطرة الا اذا كانت فيها قابلية لا نبعاث القوي التاريخية فيها التي تخلفت في اوضاع الامم الاخري.

و تسمع همسات مستطيلة متصلة الهمهمات، و لم يكن للناس حديث الا حديث الكتب، و ماذا سيكون رجعها ورد الملوك عليها؟ و كان في الطريق الآخذ الي العوالي، جماعة انتحت بنفسها ناحية ظليلة تكاثفتها أوراق الأغصان الوارفة.فقال قائل: أما ترون أنها محاولة خطرة، قد تؤلب علينا جماعات الأمم و هي تحيط بجزيرتنا احاطة السوار بالمعصم، فان نفسي تنتاشها المخاوف و تتقسمها شعاعا.قال المقداد بن الاسود: لا ينتفخ سحرك بالأوهام، و لا ترع، و سر عنك. ان لنا من قوانا الجميعة ما يجعلنا كتلة من الصلب من ورائها الايمان يشدنا، و من وراء الايمان الله واهب القوي و القدر؛ فلسنا نرهب عاتيا من البشر. و ان النفس التي رأت وجودها في الله، تتطاول بها القوي، و تتقاصر في مدي اعتبارها أية قوي أخري، فتنقذف و هي قلة راعدة من مصدر القوة الكبري. و حظ الانسان من الحياة كما هو في مرآة نفسه التي هي ينبوع المطلق، و ليس كما هو في مرآة الوجود التي لا تعكس الا نسبية و ظلالا خادعة مختلطة. و ان الوجود كائن بسيط و هو لا يملك الا حقائق بسيطة، و أما حقائق الوجود العظمي فهي من هبات الانسان علي الوجود. و الانسان كائنا منفصلا من الوجود فقط، بل هو أداة خلق و تكميل فيه.. فالحياة و أشياؤها و الوجود المعنوي و فكرته، بدعة هذا الانسان العجيب الذي لولاه لظل الوجود بسيطا ساذجا خلوا من الاغراء.و الانسان الذي لا يفتأ يطلب كبرياء الوجود و يحس بنشوة وجوده في حدود هذه الكبرياء، بل لا يحس بالوجود بعيدا عنها، ليس كائنا طبيعيا؛ و الا هو، ككائن طبيعي، شي ء تافه مثل أي كائن آخر ينمو و يذوي بين فترات من الزمن.و الايمان بالله الذي دعا اليه الاسلام، في حقيقته، ايمان بالانسان و هدم للايمان

ص: 405

بالوجود الصامت الذي هو و ثنية تحول بين الانسان و الايمان بنفسه و معرفتها؛ و الي هذا يرمز قول النبي الأعظم «من عرف نفسه فقد عرف ربه».فالانسان كائن الآهي اذا فهم نفسه، و كلما رسب الي الطبيعة و آمن بقواها فقد رسب و تلاشي في غمار الوجود الصامت و عاد كحفنة هامدة من الرمال. و النبي بشر بالانسان «و لقد كرمنا بني آدم» و حارب الوثنية لأنها كفر به و ارتداد الي تأليه مظاهر الوجود الخادعة، و جاء بتوحيد الالهة لأنها كلما تعددت فقد تلاشي الانسان في ساحتها.و ما انكسف قمر الانسان في أمة و ارتدت بعبادتها الي تقديس الطبيعة دون الانسان، الا هوت مضمحلة و كان ذلك أول علائم احتضارها، فان الانسان وحده هو الحقيقة الكبري في الحياة و الوجود (فقد خلقه الله علي صورته).و القوة - يا هذا - كيفية لا كمية، و ليست كما هي في مرآة الوجود بل كما هي في وجدان الانسان، و الظفر دائما يكون بخيال القوة و مبالغاتها في النفس «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله». (فوالله لو قذف بنا النبي الي برك الغماد و الي كل مدائن كسري و قيصر ما ونينا و لا نكلنا) و نحن أيضا لابد ظافرون.قال سعد بن عبادة: عهدنا بك انك بطل، فها أنت حكيم أيضا...قال المقداد: ان البطولة معرفة الانسان نفسه، فاذا برزت في العمل قيل عنها بطولة، و اذا برزت في الفكر قيل عنها حكمة. فالبطولة حكمة صامتة، و لن يكون المرء بطلا الا اذا سبق و عرف نفسه أي كان حكيما، و النبي سبق و عرفنا بانفسنا فلا جرم أن كان كل أتباع محمد أبطالا.و بيناهم علي تبسطهم في الحديث، عرض راكب مجد يغذ الخطي غذا، و حين حاذاهم قام اليه الجمع و حفوا به ملقين اليه رؤوسهم.و قالوا بلهجة المنتظر: ما وراءك؟ و كان هو الرسول الذي بعثه النبي بالكتاب الي كسري.

ص: 406

قال الراكب و قد ألوي رأسه حتي حاذي رؤوسهم: ان كسري بلغت به حماقته أنه مزق كتاب رسول الله مستخفا حانقا، فما أتت عليه ليلته سالما عدا عليه ابنه فقتله، و قام مقامه و شمل الناس كافتهم نوع بل انواع من الذهول و الدهشة و الاضطراب، و تركتهم و هم يموجون كالآذي العرم.. فتعلقوا بمساءلته من كل جانب، و لكنه حث مطيته و انطلق يسير، فانقلبوا الي بعضهم يتعجبون.قال سعد بن عبادة: لقد صدق المقداد و الله حين قال، ان الايمان اذا خبا، حل محله جهل الانسان قيمته.. و المثل العليا و المعنويات الخالدة و هي تنبع من معرفة الانسان بنفسه لا يعود لها وجود في جوه و فضائه، فيسيطر عليه نوع حاد من التفاهة يقعد به عن المجد و نوع حاد آخر من الملال يهبط به الي الرغام. و فيما نقل الينا الرسول الآن من حال الفرس شاهد جد خطير؛ فهم أمة جهل الانسان فيها قيمته فلابد أن تعود و لا قيمة لها، رويد أن تشرق عليهم شمس انسانيتنا الجديدة.و لم يكن طويلا حتي خفوا بعضهم في اثر بعض و وافوا المدينة، و كان الناس يموجون موجا، فقد هبط ايضا الرسول الي قيصر و هو ينقل مقدار احترام قيصر للكتاب، و هبط سائر الرسل الآخرون ينقلون مثل ذلك. فباركهم النبي و نادي المؤذن «حي علي الصلاة حي علي الفلاح» فاستوي النبي في مصلاه و خف الناس ينتظمون صفوفا.قال قائل لآخر و قد توجه الناس يكبرون بالصلاة: اني ليستخفني شعور عنيف أنا معه جد مغتبط، فقد طفرنا الي قمة التاريخ و غدونا أولي فكرة اسمي ما يكون الفكر، و أولي مجتمع أسمي ما يكون المجتمع. و انه سيظل لنا تذكاران خالدان: يوم الهجرة و هو تذكار نجاح النبوة، و يوم الرسل او السفراء و هو تذكار نجاح الدولة. «و جاء حسين يشتد بين الصفوف و قد سجد النبي يصلي فالتزم عنقه فقام و أخذه بيده فلم يزل يمسكه حتي ركع»...مضت سنة سبع و أهلت سنة ثمان، و كان الحسين قد شارف الرابعة

ص: 407

او عبرها، حين اتجه النبي لدك آخر معقل من معاقل الاوهام (مكة) التي هوت بالانسان الي درك التاريخ و ملأت أجواءه بالاساطير، حتي انقلب معها و هو أسطورة حية، و انقلبت دنياه التي يحياها و هي حياة في اسطورة.هبطت جموع النبي مكة من كل صوب و دلفوا اليها من كل حدب، و برز النبي كالنسر الطائر و هو رمز فكرة و تفوق، و سار حتي دخل البيت، و من أية جهاته أوهام متجسدة «أصنام» عبدها الانسان، فكان يشير اليها بيديه كلتيهما و يهتف بكلمة الله القارعة «جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا». فهوت مكبة و غاب رجع صداها في الغور السحيق، و تمجد الحق يوما في دنيا الانسان، و عرا الناس جلال الموقف، و راحوا في يقظة استغراق كانت واعية، و جري علي لسان فضالة الليثي:لو ما رأيت محمدا و جنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت نور الله اصبح بيننا و الشرك يغشي وجهه الاظلام و حشدت قريش أشابات أشابات، و راح النبي يخطر بينهم، و رؤسهم قد ساوت الصدور.فقال: ما تروني فاعلا بكم؟قالوا: اخ كريم و ابن اخ كريم!فقال و قد جمع نبل الانسان من اطرافه: اذهبوا فأنتم الطلقاء!...و ردد الصدي في كل مكان «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، الذي كان اعلانا للبشرية بان هذا يوم حريتها. فلم تكن حرب النبي عتوا و اضطهادا و قد وجد سبيله اليهما، و انما كانت خلاصا و تحريرا لكي يتنفس الانسان بمل ء رئتيه في العراء...و تردد في الدهر أن محمدا أطلق القفير، و كسر قيوده...و راح الفراش يطن في الحقول تتحاضنه أيدي الزهرات.

ص: 408

قفل النبي راجعا الي المدينة و قد ازدهت ببهجاتها، و اصبحت و في كل بيت صدي فرحة انطلقت متماوجة و كبيرة، و كان النبي يلبي دعواتهم و يشاركهم مراح الظفر و فخاره.قال يعلي بن مرة: «خرج رسول الله الي طعام و انا معه، فاذا حسين في السكة مع غلمان يلعب. فتقدم النبي امام القوم و بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا و هاهنا، و جعل رسول الله يضاحكه حتي اخذه، فوضع احدي يديه تحت قفاه و الاخري تحت ذقنه و قبله، و قال:حسين مني و انا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، و حسين سبط من الاسباط».نحب النبوة لانها خلود للذات...و في الحسين كان النبي يري خلود ذاته...فلاجرم ان كان يغمره بهذا الحب لانه استمرار ذكري النبوة...ضمه اليه مليا بين الحب و المجد...و حنا طويلا عليه بين القلب و الفكر...فكان له من قلبه و فكره جميعا...و ظل أبدا رمز مجد شامخ، و قبلة حب كتنفس ازهار السحر و عبق الخلد!...الحب شعور الي شعور، و خفقة قلب الي خفقة قلب...و الشعور جوهر فرد ليس ينقسم...

ص: 409

فكان حسين منه و كان من حسين!...اذهبوا فأنتم الطلقاء!...خطاب لقريش مشيرا الي كل انسان في كل مكان...ليقف شاعرا بوجوده علي حطام الاغلال و رفات ارباب القيود...فهذا صوت من السماء يؤذن بالحرية و ينادي بالخلاص...اذهبوا فأنتم الطلقاء!...كلمة صدرت من رسالة محمد و بيت محمد...فكانت ايذانا بان موكب الحرية من هذا البيت يسير، و في الطليعة ابدا يكون...و طبيعة الطليق، لا تجعله باعباء هذا الامر خليقا!...فأبناء الاسار ينطبعون علي شهورة الأسر!..فقد عششت القيود في روحيتهم و تولدت منها عقليتهم!...و لكن حاول الطليق الانتهاز و كان...فعادت قيود السجن و السجان...فحمل حسين - هو راموز بيت الحرية و حارسها - الشعلة المقدسة الي كل مكان...فقد سمع زمجرة تحرق الأرم من وراء القبور، فأعلن النكران...و هب تحت صوت الواجب يغالب البحران... و هو و ان لم يكبح جماح الطغيان...فقد ترك فب جنبه ثورة البركان...

ص: 410

دموع

كثيرا ما كان النبي يري، في أخريات أيامه، بين ذويه و ابنائه يؤانسهم و يطمئن في نشوة خفية الي اشياء لهوهم البري ء و مرحهم الحلو، و يعاطيهم اسباب هذا اللهو و هذا المرح و يمد لهم فيهما، فقد حقق حلم المجد وادي غاية الرسالة القصوي، فهو يشعر بالاطمئنان و الرضي و يحس بتزاحم سرور عميق.و كان يأنس كثيرا الي هذا الجو الذي تشيع فيه حركات الطفولة ناعمة ببراءتها، هانئة بسذاجتها، منتشية بطراوتها... و هي رغم قسوتها احيانا تجد وقعها اللذيذ، فان البراءة جمال علي شتي صورها و ألوانها.و الطفولة وحدها أثبت حقائق الحياة، و ماوراءها سخريات و اشباه سخريات تبدو خشنة، و كلما او غلنا في مدي الحياة تزيد خشونة و توعرا. و حين تدركنا لذتها عرضا فانما تكون في شكل من اشكال الرجعة الي الطفولة، و في انضاء زيوف ثقيلة من أثواب التكلف المرهقة.. و التكلف رياء و انانية علي كل وجوهه، و لذلك انصرف جهد النبي الي ان يضع في كل الحياة براءة الطفولة.و نحن لا نستطيع الرجعة الي الطفولة و بعثها من جديد علي اية صورها، كما نعجز دائما عن خلق جوها المترف فنطلبها في الطفل بتشوق ملح و في نوع

ص: 411

من الحنين الآسر، ليغمرنا بروحيتها التي تظل فينا املا منشودا و رغبة حادة.و النبي كان يجد طفولة حياته اللاذة في ابنائه كما كانت و علي ما كانت، فيأخذهم بصنوف اللعاب في حنان و افترار. و كثيرا ما كان يري الحسن و الحسين يصطرعان و هو يحمسهما، او يلعبان بالمداحي (1) و هو يعب الهناءة عبا و يتملأ منها، و يتذوق «حلواء البنين» التي هي النشوة الكبري في ظلال العمر.. فان لذاذة الحياة تقوم في نشوتين: نشوة بالطفولة، و نشوة بذاكراها في الطفل، و ما بقي من فصول الحياة هجير كهجير الظهيرة و لذع كلذع اللهب و حرقة تنتهي بمرارتها.و الطفل طائر يرف بين أيدينا لنلحق به الي جو حقائقه و احلامنا، و كأن الحياة تضع الحقيقة العارية السعيدة بكل فتونها بين يدي الطفل فيغرق في خمارها زمنا، و لكنها تنأي و هو في قمة شعوره باللذة المطلقة، فيحبو وراءها في لهفات، ثم يعدو في لهثات، و هي تنأي و تنأي حتي تحور في كون من الضباب يحول الافق دونها، و ينقطع بالحي المسير فيستغرق حالما، هائما، فقد سقط في السراب تطوف به و تتنازعه احلام الماء.و اذ يصطرعان، كان النبي يهيج حركات طفولتهما المتشابكة التي هي رمز عبث في جد، و جد في عبث تنتظمها براءة مارحة.فيقول: «ايها حسن».قالت فاطمة: أتستنهض الكبير علي الصغير؟!قال: هذا جبريل يقول: «ايها حسين!».و جبريل رمز من المطلق و اسم من المثال، و في لحظة استغراق و استعلاء

ص: 412


1- 306. المداحي: احجار؛ كانوا يحفرون حفيرة و يدحون فيها بتلك الاحجار فان وقع الحجر فيها فقد غلب (بفتح الغين) صاحبها، و ان لم يقع غلب (بضم الغين)؛ و الدخو رمي اللاعب بالحجر و الجوز و غيره.

طافت بنفس النبي صورة من التجريد برزت مجسمة و مكبرة، و هي تشاركه نشوته و بهجة ما يجد حيال مرح سبطيه. و لم يكن جبريل غريبا عن جوه فهو رمز رسالته. و لم يكن حسين بعيدا عن قلبه فهو رمز حبه. و في هذا الاستنهاض التمثيلي رمزية تشير الي أن الحسين سيكون رائد الرسالة و علم الهدي، ففي اعماق ضمير صوت من الغيب يتردد ابدا: ايها حسين!..مع الاصيل كان في اقصي الصحراء راكب يسير بين الجد و الهوينا آخذا نحو المدينة، و هو يبدو من بعيد كرة يدحرجها الافق علي الرمال، و الصحراء هيكل ابدية مكشوفة تتمدد في النفس علي رحبها فتتمدد بها النفس لا متناهية تطالع المجهول.و كان الراكب أباذؤيب الشاعر الحزين الذين ضفر الحزن علي هامته اكليلا تناثرت اوراقه، و بقيت اشواكه القاسية تأبره في خطرات الذكري، و خلجات الحنين، و رجفة الهوي، و تأودات الطيف.و الصحراء ينبوع ذكريات سيما لنفس انسان محزون تكسرت اصداء الاسي في اذنيه، فهو يحس بوقرها في الخلاء ضاجا عنيفا؛ و النفس البائسة يزداد فيها صدق الحس و الحس، و تتأثر بالفواجع من بعيد و برعشات الغيب و المجهول.عرته و المطية تتهادي به هزة شجي، و تأودت في اعطاف الصحراء أمام ناظريه طيوف رامزة. «و كان قد بلغه ان النبي عليل، و كان استشعر حزنا مذيبا، و كان قد بات بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها و لا يطلع نورها قبل ان ابتدأ المسير؛ فهوم مع السحر فسمع صوت الشاعر يهتف به في الاحلام:خطب أجل أناخ بالاسلام بين النخيل و معقد الآطام قبض النبي محمد، فعيوننا تذري الدموع عليه بالتسجام قال: فأصحيت من منامي فزعا فنظرت فلم أر الاسعد الذابح، فأولته ذبحا يقع في العرب، و علمت ان النبي قد قبض.

ص: 413

فحثثت راحلتي و سرت. فلما اصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعرض لي شيهم قد قبض علي صل هي تلتوي عليه و الشيهم يقضمها حتي اكلها، فزجرت ذلك و قلت: شيهم، شي ء هم. و التواء الصل: تلوي الناس علي القائم بعد رسول الله».فادركتني حيرة متلظية عرض لي فيها شبح انسان مجد نفقت تحته راحلته من طول ما حملها و راح يحملها، و لم يقعد به الانقطاع بل هب في غير توقف، يخطو خطوات و اسعات، فقلت في نفسي: لامر ما جدع قصير أنفه!!«فمددت الخطي مدا عنيفا حتي هبطت المدينة، و لها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج اذا اهلوا بالاحرام، و هم في ذهول مستطيل و وجوم.فقلت: ما الخبر؟قالوا: قبض النبي!فجئت الي المسجد فوجدته خاليا، فأتيت بيت النبي فوجدت بابه مرتجا؛ و قيل: هو مسجني و قد خلا به اهله. فقلت أين الناس؟قيل: في سقيفة بني ساعدة».و فيما أنا في بعض طرق المدينة أمشي مشية الحزين الحائر، رأيت عارض الصحراء فتبينته، فاذا هو معاذ بن جبل عرته سحابة حزن صامت مكظوم، فتلقيته بين يدي، و قلت: أأنت؟!فانفجر و انفجرت معه بدموع حرار تزيد الحوي لوعة و الاسي لذعا، و كان نشيجه مريرا كمن ثكل كل ذويه في ميتات متقطعة متلاحقة، لا تفصل بينها الا هنيهات و فينات. و كان الحزن يشتد به دراكا حتي لم يعد يتماسك، فاخذته الي و هو نضو يتشنج و شلو يتنزي.و بعد لأي افاق و كانت افاقته جد مريرة، فقد هب كالممرور يطلب شيئا و انا وراءه، حتي انتهي الي كل باب يقرعه و لا يلبث ان يرتد عنه. فقد كان

ص: 414

يرغب في ان يري الناس ليخرج من وحدته الممضة القاتلة، و لكنه لا يكاد يري احدا حتي تزيد أزمة نفسه و تجدد له ذكري تبعث نفسه أشد التياعا.و لم يزل يدنو و ينأي في رغبة و رهبة حتي قاده المطاف الي بيت علي، و كأنه اراد ان يداوي الاسي بالاسي و يلاشي الالم بالالم. و أحس بالارتياح العميق حقيقة، فان الالم كله يذوب في مضاعفات الالم، و يتلبس النفس شعور سلبي مبهم لا يتجاوب معه في النفس غلواء الالتياع و برحاء الاحزان، فان المشاعر علي اختلافها نسبية و لا فواصل بين اطرافها، فهي اذا بلغت غايتها هبوطا او ارتفاعا تتحول او تهمد.رغب كثيرا، و اطمأن الي ان يجابه الاسي في هيكله، ليستغرق في لحظات المرارة المطلقة التي تتجرد في الاطلاق عن معناها و وقعها الاليم، فقد غدت لا عضوية دون أعصاب تتقلص أو تتمدد، انها اصبحت خفقة روح في غير لون.فمضي معاذ باحساس وجداني عفوي الي بيت علي، ليواجه اشد انواع الاسي في شخص النسر الحزين و فراخه الحياري، فهو يشتهي و يفضل كثيرا حيرة الاسي الاشاعرة و الغفوة في الالم علي ان يظل في يقظ الآلام.وقف دون البيت طويلا ثم قرع الباب، و ما اشدها و امرها مصادفة فقد «برزت اليه فاطمة» تجول في مآقيها عصارة حب خالد، و تعلقت في اهدابها الواسعة دمعة كبيرة، ليتها سقطت!...و في ناحية من البيت رأي الحسين وليد النبي المحبب منكمشا علي نفسه، يدير لحاظه فلا يري الا دموعا، فغرق في الدموع. و كان بين حين و آخر يناجي نفسه و يطارحها في حديث خفيض مسموع.أبتاه!.. أين هو؟ لم اعد اراه! اليس لي ان اراه بعد اليوم؟ بالامس القريب كان يلاعبني؛ كيف نأي؟ لم يعد لي، بعد الآن، حنان ذلك القلب الكبير!!فيزيد الفجيعة و يحرك النشيج، و معاذ حالم امام هذا المشهد مستغرق، انه

ص: 415

لم يعد يحس بشي ء، انه غدا خلاء من كل شعور...مات محمد البشري ليخلد محمد النبي...فاستعبر الحسين لأولهما بالعاطفة و الحنين...و افتدي ثانيهما بالدم القاني الصبيب...حينما حاول مس جلال الخلود، غواة محمقون...بعد اشهر معدودات رزي ء امه الزهراء و ملاكه الآخر...الذي كان يشع عليه بالامل الهاني و السعادة الحالمة...فجمدت في عينه دموع و في قلبه دموع...جعلته، في حياته كلها، ينظر الي الافق البعيد...يود لو يذوب في الشفق الملتمع من كوي الأبديات باغراء...مرارة قاتلة علي قلب غض، هبطت فجأة فانتقلت به من حال الي حال...و استوي دفعة فنظر الي الحياة من فوق كوة الرغبات فرأي حمأتها...فوجه تياره الطهور فتمددت و انتفخت متجهمة تريد الصراع...فتقززها و استعلي، فقد ترك فيها دفقات من الينبوع الاقدس و هو لابد مطهرها.و لم يزل يستعلي حتي لم يعد يري، الا نجما يتواري في التحليق باشعاعات و اغتماضات...

ص: 416

مع خليفة

في قمة المجد العربي حينما كانت الراية الاسلامية تنسج و تنظم خيوطها من ممالك العالم القديم، و تتهادي متطاولة في الفضاء، كأنها توشح الآفاق و تطل علي عالم يمور بالخلود، و تحتضن جداول الابديات بما فيها من فتون، وقف عمر ابن الخطاب يبارك هذا المجد و يقول كلمته بلسان التاريخ، و يودع عالما يدفعه بمنكبيه و يستبل عالما بكلتا يديه.عالم من طوبي محمد، و لكنها طوبي متحيزة تحيز الواقع و متألقة تألق الشعاع، و هي الي هذا مل ء السمع و البصر و مراد الأماني... عالم انطبع علي آفاقه وجه محمد في هالة القرآن، و القرآن هو اللوحة التي شاءت الحقيقة الخالدة ان تبرز فيها كاملة قد نضت عنها شتي الاثواب.جلس علي اريكة هذا العالم الجديد الذي هو من عمل نبي الخلود، و لم تكن هذه الاريكة او العرش الا منبر المسجد الذي كان محمد يقف عليه و يهتف بلسان السماء يهدي التائهين، و الاثير من ورائه يردد النداء ابعد ما يتناهي، فمحا كونا و اثبت كونا، و ظل تمثال الحقيقة الباقية بين الكونين، و صوت الله في وعي العالمين متجاوبا بصدي الابد.

ص: 417

لم يكن في عالم محمد عرش لانه لم يكن فيه عبودية، و لم يكن فيه «بلاط» لانه لم يكن فيه ارهاب و استصناع عظمات مزيفات، و انما كان المنبر فيه هو العرش؛ و المنبر رمز يشير الي الكوة التي شع منها الهدي و انبثق منها الضياء. و كان المسجد فيه هو البلاط؛ و المسجد رمز يشير الي التلاشي في الروح، و الفناء في الاشراق، و النشوة الواعية في التأمل و الاستغراق.وقف عمر يتكلم و كأنما زوي العالم اليه من اقطاره، و تآزح في حدود موضعه، و الناس كأن علي رؤوسهم الطير يصغون، و الكون من ورائه يسمع و يخشع.. و من أقصي المسجد جاء يخطر بين الصفوف الحسين وليد النبي، حتي بلغ مرقاة المنبر فما تهيبها، بل صعد رابط الجأش حتي انتهي الي حيث يجلس عمر فشاركه موضعه.و كان منظرا بدا غريبا اعطي الناس لحظة انتباه شرعوا معها يتلعون رؤوسهم و يتهامسون، فلحظات ذكري انتقلت بهم من حال الي حال و من زمن يعيشون فيه الي زمن يحنون اليه، و قد ظل شائعا حيا في الخطرات الحلوة يوم كان الحسين يتخذ موضعه الي جنب جده العظيم، في هذا الشكل و هذه الصورة.ذكري سعيدة جرت وراءها نوعا من اللاشعور، و تمددت في تأمل طويل، و كان استغراقا كله السكينة و الاطمينان و ان بدا كالوجوم الراني.شخص الناس الي الغلام ينتظرون ما سيجي ء به و يصدر عنه، و كان الغلام أكثر منهم استغراقا و أكثر نفوذا في الذكري، فراح يملي ء ناظريه و يمتعهما ممن استيقظت نفسه علي أنه جده.هو شديد الحنين و شديد الهوي الي أن يري جده و قد فصل عنه زمن كان طويلا في حس القلب، و كان خيالا شديد الأسر له، فلما لم يجد فيه جده و جم ملتاعا، فقد انهار ما اجتمع في خياله من لذاذات دفعة، كمن حيل بينه و بين ما يشتهي و هو في أدق فترة من لذة التذوق، فرسب فيه خيال بهتت به لذة وطفا فيه خيال استوي معه ألم.

ص: 418

فقال له في شي ء من التحدي الصارم: «انزل عن منبر أبي و اذهب الي منبر بيك»... فاشتمله عمر و حنا عليه طويلا ثم قال له في اشياء من ديمقراطية الحق و الاعتراف الفكه الجميل:«انه لم يكن لأبي منبر»... و مال عمر عليه ثانية فقال له في شي ء من الترقب و الامتحان النفسي: «من علمك؟».فقال الحسين في اشياء من الذاتية المتفتحة: «و الله ما علمني أحد»... و كأنما رد عليه: بانه شعور النفس بالنفس و تحسس الشخصية علي محلها و موضعها.و خف الناس يشد بعضهم الي بعض يقولون: ان الحسين يطل من نافذة مقلتيه البطل...و كان عمر قد أعجب به في غير حد، و كان قد أخذ بشخصيته القوية في غير مقدار، فرأي لزاما عليه ان يبرزه في حياة الجد الحاكمة، و ان يأخذه باسباب التوجيه و الاشراف علي تصريف المقدرات العليا، فقال له:«بابي! لو جعلت تغشانا»... و انقضي وقت قبلما اجتمع اليه ثانية، و تخللت أحداث، فقد رفعت اليه شكوي من اطراف الشام علي معاوية، فاهتم لها عمر، و كان رجلا صليبا، فاستقدمه مع البريد مسرعا و خلا به، و كانت الطريق قد جمعت الحسين بعبد الله بن عمر فقصدا الي مقر الخليفة يزورانه، فطلب ثانيهما الدخول، فقيل له:«انه خال بمعاوية»... فانقلب ابن عمر و انقلب الحسين معه، و فصل زمن لم يكن بعيدا حين صادف عمر، في بعض طرقات المدينة، الحسين فقال له:«لم أرك».. فروي له كيف حيل بين عبدالله ابنه و الدخول، و كيف رجع معه، فتصور عمر بشكل الجد اشعارا بالفرق الكبير، و قال و صوت الحق يدوي في مقاله:«أنت أحق من ابن عمر. انما انبت ما تري في رؤوسنا، الله ثم أنتم».. و صمتا يمشيان، و وقف التاريخ من ورائهما يرددها كلمة خالدة في سمع الدهر و أذن الأبد...

ص: 419

جهاد الشباب

حين كان الفتح الاسلامي يضع احدي قائمتيه في أقصي الشرق، و الاخري عند باب الغرب - يقرع عليه هجوعه و ينفض عن جفني الغرب الباقيات من رقدة الأيام، و الهباءة التي استحالت الي ظلام كثيف حالك حول مقلتيه و بين يدي حياته، كأنما لم تنعشه بعد اول اشراقة من ضحوة الشمس - ذهب حسين شرقا و ذهب غربا كأنه يضع بكلتا يديه حجر الأساس في قاعدتي قوس النصر مباركا.كان حسين يناهز الثانية و العشرين من سنيه، حينما ذهب جنديا يلوح بشعلة البعث و الاصلاح في الحملة الي الغرب.و كان جوا حماسيا ذلك الجو الذي صبغ المدينة، فقد تحولت من بلد ناء مجهول تحيط به الصحراء و تغمره من كل جانب - و الصحراء محيط زاخر تقوم في الرمال مقام الماء - الي عاصمة مركزية تتولد فيها الحرارة و توزعها، الي قلب عالمي تخفق فيه الحياة و ينبض بالخلجات الي كل مكان.في هذا الجو الحماسي كان التسابق علي الجهاد قد اتخذ شكل مباراة بين الشباب و الكهول، و من دون الشباب و من فوق الكهول.

ص: 420

هي أمة جديدة بعثتها روح جديدة، فانطلقت و في عروقها عصارات من حيوات فائضة تجريها في جسم العالم الممدد المحتضر و تصل عروقه بعروقها، فتمشي، طائفة عليه دائرة فيه، مشي الروح التي تمسه بتيارها.كان السائر في طرق المدينة و منعطفاتها لا يسمع الا الأصداء قوية مزهوة، هي بقايا هتافات تثير الاعصاب. و كان الغلمة يتقاذفون بالازهار، و العلية يتحايون بالعمار (1) ؛ فقد تركوا لاعصابهم المائجة بصنوف الفخار و المجد، سبيل هواها و مجالات التعبير عن ازدهائها. فقد وردت الانباء بالانتصار المؤزر في «برقة» و انكفاء البربر هناك.و كنت لا تجد كيفما سرت و أني ذهبت الا جموعا تموج في جموع من ظاهر المدينة الي داخلها، و علي فجأة اخذ بصرم فارسا يطوي الهضاب و هو يمر بينها مرا سريعا، فشملتهم هدأة غطت علي الضجيج و ضمتهم لحظة انتباه و سكون القتهم في صموت متسائل ناطق؛ و ما حل بينهم حتي التفوا عليه و أحاطوا به احاطة السوار بالمعصم، و أخذوه بسيل من الأسئلة من كل جانب، فاستوي علي الركاب منتصبا، و خاطبهم بصوته الجهوري الحاد النبرات و المشتعل المقاطع و الكلمات:ايها الانصار! ايها الابطال! اليوم يومكم. فقد دقت ساعة الكفاح. افسحوا لي الطريق الي المسجد الي مقر الخليفة و اتبعوني!فتدافع الناس عن طريقه صاخبين هاتفين: اليوم يومنا. الي مقر الخليفة... وقف الرجل علي مقربة من الخليفة و وجه مقاله تارة للجموع و تارة اليه:«ان جرجير المملك، ما بين طرابلس الي طنجة، اشب الجموع وحشد الجند من اطراف مملكته، للاحداق و الايقاع بجيش العرب - و هو يتربص بنا الدوائر،

ص: 421


1- 307. الأزهار و الريحان تجعل باقات و يحيا بها، قال عبيد بن الأبرص «سجدنا له و رفعنا العمارا».

و بات الخطب علي قاب قوسين أو ادني. و ان عقبة بن نافع قائدنا المظفر قد با في ضائقة من الامر، و لكنه مستبسل اشد استبسال «يكافح كفاح المستميت في الدفاع و الهجوم و مداورة الخصوم، و هذا يوم له ما بعده.فالي الجهاد ايها المؤمنون! الي القيام بالتزامات العقد بينكم و بين الله علي تجديد العالم و اخذه بالمبادي ء الانسانية الفضلي: «ان الله اشتري من المؤمنين أنفسهم و اموالهم بان لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن، و من أوفي بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، و ذلك هو الفوز العظيم». ان اخوانكم من قبل رووا الرمال الرابية الي افريقية بدمائهم الصبيبة و هم اسخياء، و بنوا من جماجمهم معاقل الصحراء. و ها هي دماؤهم اليوم تناديكم و تستصرخكم بصوتها الرجاف الرعود من وراء الرجم و تستند بكم الي التضحية.فالي الكفاح! الي النصر!و ما هو حتي اختلط صوته باصوات الجموع و ذاب في دويها العميق: بل الي الشهادة! الي الموت!... و بقيت الاصداء يرددها الفضاء و يطوف بها الاثير في كبرياء و خيلاء.و تدفق الناس علي التطوع، و كان في «مقدمتهم الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس و علية لا تحصي» و خفوا راحلين:أجمعوا امرهم بليل فلما اصبحوا اصبحت لهم ضوضاءمن مناد و من مجيب و من تصهال خيل خلال ذاك رغاءو لم يكن طويلا حتي هبطوا مصاف القتال، فاخذوا مواضعهم و دارت رحي الحرب أمدا ليس بالقصير ضاق الخناق فيه علي البربر، فانكفأوا متمزقين يتيهون بين الحزون و السهول، و بين الاودية و الهضاب...و بعد بضع سنين «انتظم الحسين في الجيش الذاهب شرقا الي طبرستان»

ص: 422

باذلا نفسه مضحيا حوباءه بسبيل كلمة الله التي عاش لها و قضي كريما تحت ظلالها الدامية و بنودها الحمراء.كانت الانباء عن تضحية الشباب و استبسالهم، ترد الي المدينة طافحة اعجابا و بشرا. و كانت حديث اليوم بين الناس في الأندية و المنازل و في منعطفات الطرق، حيث يحلو الوقوف عند الاصيل لفئة تجد في هذا النوع من اللهو تسلية رائعة، و تحس بظمأ الي الصخب يمده الفضول أحيانا فتملأ جو نفسها المقفر بهذا اللون من الانغماس في الضجيج.و في طرف من اطراف المدينة انفرد جمع بينهم البراء بن عازب، يتجاذبون اطراف الحديث عن ابطال الجهاد الشباب. فقال: ان الشباب معناه تفتح براعم الصبا عن حياة الجد و الواجب و عن تبعات الحياة؛ و فئة الشباب هم اشعة حاضرنا في وقدة تألقها، فاذا بدت كسيفة كليلة فقد خسرنا الحاضر و المستقبل جميعا، و كانوا اعلانا عن اننا غير جديرين بالحياة.فان الحياة قوي سائبة كمثل الرقارق علي وجه الرمال، و لكنها تتجمع في فترة الشباب بمثل خزان الماء، فتتكسر عند حناياه القوي و تتولد فيها التيارات فتتدفق جياشه هادرة.فالشباب مجموعة من تيارات قوي الحياة، فاذا كان الخزان مملوءا بالثقوب و الشقوق، انسابت المياه في كل وجه و تبعثرت قواها و غاضت بين الوهاد و الحزون مترسبة في مستنقعات آجنة. و حين لا يكون للشباب حصانات و مناعات يمدها شعور بالحقوق و الواجبات و حس مرهف بالتبعات، فقد عاد شبابا رخوا، افضل منه شيخوخة فانية.و شبابنا الذين ابتعثتهم المبادي ء ابتعاثا، لا محيد عن ان تنطلق بهم تيارات القوي، انطلاقا ينتهي بالسيل الاسلامي المطهر الجارف الي غايته، فغمر حتي الربي، لينكشف، عن حياة جديدة و دنيا جديدة.

ص: 423

و نحن الذين قمنا بواجبنا مع صاحب الرسالة و كان ادني من بذلناه انفسنا، و ما بقاؤنا في عين اليوم الا ذكري جهاد و تمثال كفاح - لا يسعنا الا ان نبارك شبابهم الغض و جهادهم المظفر. و اذا كان لشي ء ان يأخذ بانتباهنا طويلا فانما هو ذلك الاقبال علي التضحية بسبيل المبادي ء للمبادي ء دون ما انانية رعناء و زنانية (1) حقود؛ فقد ذابت عظامية «ارستقراطية» من كان منهم عظاميا في بوقة الايمان. و الرسالة الناجحة هي التي تستطيع أن تكفل تحويل العظامية من قاعدة الدماء و الثراء، الي قاعدة المبادي ء و التضحيات.فهذا الحسين سبط النبي له من عظامية الدم ما ليس لاحد اليوم او قبل اليوم، و مع ذلك فهو يمضي تحت راية الواجب كأي جندي تحدوه مثل غايته. و لا أراه الا معتقدا أن القديم، انما يجد روحه في الجديد ليغدو كائنا حيا رائعا، و الا فالقديم وحده ان كان يعتبر عن شي ء، فانما يعبر عن مومياء مجد فقد تظل رمزا من رموز التاريخ... فاطرق الجمع و شملهم صمت واع ثم خفوا الي رواحلهم و هم يرددون قوله:«و الا فالقديم وحده ان كان يعبر عن شي ء فانما يعبر عن مومياء مجد فقط...»

ص: 424


1- 308. الزنانية ترادف الانانية تماما عند العرب القدامي؛ و الزناني: الاناني كذلك.

في الثورة

من المدينة الي كل مكان، كمصر و العراق و اليمن و الشام، خيم جو مكفهر ينذر بشي ء. و كانت الوانه مختلطة مختلفة الا أنها بدأت تستحيل خيطا بعد خيط و تتكشف عن لون أحمر قان، كأنه لون الدم الحانق أو لون الشق الذي اطبق به ليل بهيم.و كان الهمس في أي مكان يطول و لا يقصر، و يتناوح في زفرات تبعث أسي، و لكنه من نوع الأسي الغاضب الذي يزداد اشتعالا بالذكري و الترداد. فقد استفاق الناس علي وضع غير محبب بل كريه بغيض، استفاقوا علي مجتمع بدأ يتعقد و تطفو علي سطحه طبقات تجر وراءها نضالا هادرا و تناحرا رهيبا، بعد ان كانوا شعبا يقوم علي قاعدة المساواة، فهو مجتمع منسجم.كثرة معدمة و هي معتدة بذاتها شاعرة بشخصيتها فخور بما أبدت من قوة و قدمت من تضحيات، و قلة زاد بها الثراء زيادة جعلها تحرز كل قوي النشاط و تدخر مقومات الحياة كافة. و لم يكن وسطا درج علي السخرية و العمل في الارض فيظل النضال فيه خفيا و بطيئا في اعطاء نتائجه، بل كان وسطا فروسيا؛ و الفروسية اعتدادية و شعور بوجود الذات، و زادتها الفتوح احساسا بقيمتها، فكان

ص: 425

أن تفاعلت تفاعلا تنافريا مع الوضع الجديد، و كان ان انقدحت و قذفت بالشرر الي مكان قصي.و الشعور بالذات قاعدة الأمة الناهضة، فهي لا تقبل سيادة و لا تتولد فيها الاسياد من أي نوع كان، و تظل أبدا تواقة الي الاصلاح آخذة بأسبابه متقلبة في مدي أطواره.ركدت الفتوح فنضبت أهم موارد الدولة، و كان العمل السياسي قد اتجه، فيما سبق هذه الحقبة، الي جعل العرب مادة حرب فقط، فلم ينالوا نصيبا في الارض. و لكن الجندي لن يبقي جنديا أبدا خصوصا و الدولة العربية قد أخذت الامم بحرب اصلاحية عالمية، فكانت حاجتها الي الجنود كبيرة غير مقتصدة، فشملت العرب عامة، و سرعان ما وفق العرب الي غايتهم، و سرعان ما أدوا رسالتهم، فركدت حرارة الفتح الي درجة الهمود، و عجزت الدولة بعد ذلك عن كفايتهم؛ فاذا هم طبقة فقيرة غاية في الفقر و الخصاصة و العدم، و اذا بجانبهم طبقة أخري ثرية غاية في الثراء، و هي لم تجهد أي جهد و لم تبل أي بلاء، و انما امتصت و تملأت.كبر علي هؤلاء أن يستسيغوا وضعية نابية بغيضة علي هذا الشكل، لا سيما و الاسلام في تشريعه جعل للمحارب نصيبا في المغانم كافة، و بذلك مكنه من أن يتحول رجلا مدنيا دون أن يكون كلا علي الدولة و الخزينة العامة. و لم يقرر الاسلام الجندية نظاما دائما لأنه لا يرمي الي أن يجعل من حكومته دولة حرب، بل سن الجندية، عند الضرورة، من المدنيين أنفسهم، و بهذا ضمن شيئين خطيرين:(1)جعل مسؤولية الدفاع عامة لكي يشعر بها الشعب شعورا شاملا بدون تفاوت.(2)الحد من طغيان الجند و روحيتهم حتي لا يدفعوا الدولة كل حين الي مضايق حروب جديدة، فالاسلام وضع في نظامه ما يحول بين الدولة المشتقة من طبيعته، و بين حرب الاطماع.

ص: 426

و كانت الهوة تتسع بين الطبقات اتساعا عظيما و علي شكل مخيف، كما أخذ الوضع يتطور من سي ء الي أسوأ حتي استفحل شره، و بات ينذر بخطب خطير و انكفاء انقلابي كبير الاثر. و زاد في يقظة الخطب تناحر الاحزاب الكثيرة (1) فهناك أحزاب رئيسية أهمها:حزب الامويين: و أكبر رجاله المنتسبين اليه ابوسفيان و ابنه معاوية و مروان ابن الحكم و المغيرة بن شعبة.و الحزب الشعوبي: و أكبر رجاله ابولؤلؤ و جفينة النجراني و كعب الاحبار، و هذا الحزب كان صنيعة للحرب الاموي و منفذا لأغراضه الدموية و مآربه الارهابية.و حزب المحافظين: و أكبر رجاله علي بن ابي طالب و أبوايوب الانصاري و عبدالله بن عباس و عمار بن ياسر و المقداد بن الاسود.و حزب الشعب: و أكبر رجاله ابوذر الغفاري و عبدالله بن سبأ و محمد بن ابي بكر و الاشتر النخعي و عبدالله بن حذيفة، و كان هذا الحزب يستنيم الي سياسة حزب المحافظين، و طابعه انه ثوري عنيف.و حزب اهل المدينة: و أكبر رجاله سعد بن عبادة و ابنه قيس و الحباب بن المنذر و عبدالرحمن بن حسان، و كان أهم أهدف هذا الحزب مناهضة الحزب الاموي و تحطيم محاولاته.و الي جانب هذه الاحزاب كانت تقوم أحزاب أخري ثانوة أهمها:حزب طلحة و الزبير: و أكبر المنتسبين اليه عائشة.و حزب أبناء عمر بن الخطاب: و أكبر المنتسبين اليه ابوموسي الاشعري.

ص: 427


1- 309. راجع تفصيل الكلام عليه في الحلقة الثانية من هذا الكتاب، فصل الحزبية الذي هو أول بحث من نوعه في تاريخ الخلفاء الراشدين.

و الحزب الاموي المنشق: و كبير أقطابه عمرو بن العاص.و ما أن استحوذ الحزب الأموي علي شؤون السلطة العليا في عهد عثمان، حتي الفت بعض هذه الأحزاب جبهة معارضة قوية. فقد شاء البيت الأموي أن يجعل من نفسه طبقة حاكمة، و شاء الي ذلك أن يجعل من قريش طبقة عظامية «أرستقراطية». و هؤلاء الأمويون لم يكتفوا بأن يفرضوا أنفسهم و وجودهم الخالي من الحياة و الجهد، بل تجاوزوا هذا الي تعبئة المجتمع في طبقات لها امتيازاتها و قيمها التي تهبها حقوقا دون ما واجبات، و بسببها تفتات لنفسها من الاعتبارات الاجتماعية ما يخولها انتهاب كل غنم، يغرم بسبيل حيازته سواد الجمهور.و كلما وجدت لجماعة ما حقوق دون واجبات فقد وجد لديها شر أنواع التطفل الاجتماعي، و حينما تنتقل هذه الاعتبارات الي القانون ينتقض الانسجام و التوازن الاجتماعيان، و ينساق المجتمع كرها في مآزق التناحر الذي يبدأ من أجل الذاتية و ينتهي من أجل الحياة، و هنا يأخذ شكله الدامي و مظهره الكالح الرهيب، و الي هذا يشير قول النبي (انما أهلك من قبلكم أنه اذا أثم فيهم الشريف تركوه، و اذا أثم فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). فاذا بأبي سفيان يقول عندما ولي الخلافة عثمان «يا بني أمية تداولوها بينكم تداول الكرة، فوالذي يحلف به ابوسفيان مازلت انتظرها لكم و لتصيرن الي أبنائكم وراثة»، و اذا بسعيد بن العاص يجعل سواد العراق بستانا لقريش، و اذا بالثروات الفاحشة تصير و تجتمع في أيدي الأمويين و أنصارهم، و اذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا علي هواه، و اذا بأكثر الأقاليم تذهب اقطاعات بين فلان و فلان، و اذا بالقانون يعبث به فلا يطبق أحيانا و كثيرا، بل ذهبوا به مع الهوي الي حد أشعر الناس أنهم لم يعودوا سواء في نظرية الحق و نظرية الجزاء... فسبق الي الأذهان أن هناك فوضي دون ما شك، و أن هناك فسادا في أداة الحكم سبب هذه الفوضي دون ما ريب، و الفساد يبيح الثورة، فتدافعت الجموع في تياراتها.كان الرائد الطواف بين مصر و الحجاز و العراق، و الذي يجوب مترددا بين

ص: 428

هذه الأقاليم يلمس و يري من فواجع الوضع القائم ما يملأه حنقا و ثورة؛ كان يري بؤسا في غير حد و شقاء مخيفا و فقرا متغولا، و كان هذا الفقر و الشقاء و البؤس تتوزع هنا و هناك، لتجتمع و تأتلف خصوصا في بيئات الذين كانوا الي زمن قريب رمز الفخار العربي و الاسلامي، رمز الكفاح و الجهاد في كل مكان.نعم كانت هذه الطوائف تنعم بذكري أمجادها الكبيرة، و لكنها تتحرق أيضا و هي تري مقدار ما تبذخ به أقلية نفسها و استحوذت علي الثروة دون أي جهد و سابقة كفاح. فيعلي ابن أمية يملك ما قيمته مائة الف دينار عدا عقاراته الكثيرة، و عبدالرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار، و زيد ابن ثابت يملك من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس الخ... و أيضا رأوا أن هذا البذخ المترف جر وراءه أنواعا من المجاوزات في السلوك الذي سن نهجه النبي، و عهدهم به لم يكن بعيدا. كما كونت هذه الغضارة و اللدانة، في بيئات الأقلية المذكورة، طائفة من الآراء المتطرفة وجدت سبيل شيوعها في المجتمع، فقابلها بكثير من الاستنكار؛ و لكن لم تعدم مع ذلك جماعة من الانصار، فتولدت في الوسط دعوة الي هذا الجديد المائع المثير، و دعاة الي التجديد الرخو.بيد ان الكثرة محافظة متمسكة بذلك القديم الذي وجدت فيه سبيل قوتها، و انتشرت مؤمنة بأفكاره و صلاحيته كطب للبشرية اللاهثة المحتضرة، فهم جنود رسالة جاءتهم بهذا القديم الذي لمسوا فيه خيرهم. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد و لا بدع ان تحدوا أنصاره و اتهموهم بالمروق، و لا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفيا ثم امتد حميا.و صادف، في هذه الفترة اللاهبة، تطواف رجل نعرف ان اسمه عبدالله بن سبأ، و كان علي ما يظهر، ان صح انه وجد، صاحب نفس حساسة شاعرة و صاحب فكرة منظمة اصلاحية، من ورائهما روح حرة ثائرة. فاتصل بكل وسط اسلامي اذ ذاك، و استلهم الحياة العامة التي انعكست بصورتها و ألوانها في نفسه، فاستعر ضميره، و اتقدت جوانحه، فلم يكن بد من أن يلتهب، و لم يكن مناص من أن يهتف

ص: 429

بالاصلاح و ضرورة تغيير الوضع البائس اليائس؛ و كان عنيفا في طبيعته، و زادته الحالة العامة عنفا، فقد تفاعلت الصفة الحيوية الشائعة في المجتمع بطبيعته تفاعلا جعله يثور، و جعله يبشر بمبادي ء الاصلاح الثورية. و لم يكن المجتمع حينذاك في حاجة الي أكثر من التنادي به و استصراخه، فقد كان بحالة من التوتر و التفاعل الي درجة القدح بالأوار.و هو الي هذا قد اجتمع بأقطاب الحركة الثورية في مصر و الشام و العراق و تأثر بهم، و لا سيما ابوذر الغفاري ركز (1) أفكار عبدالله بن سبأ، و هذا وجد فيه ينبوعا دينيا و معينا خصبا يمكنه أن يستمد من أخباره عن النبي ما يجعله سندا لأفكاره، فان أباذر كان يحدث من قبل ورود ابن سبأ الي الشام بأحاديثه المسندة الي النبي، و كلها تحمل عناصر الافكار التي انطلق ابن سبأ يروج لها. و الذي لدينا من وثائق التاريخ يشهد أن اعلان ابي ذر عن هذه الأفكار وقع قبل اول التقاءة بينهما، كما يشهد أيضا أن تكون شخصية ابن سبأ كان بعد أول لقاء. فالتاريخ و كتب الحديث تعرف جيدا ان أباذر كان يحدث في الشام بمثل هذه القصة التي هي من وقائعه عهد النبي.

ص: 430


1- 310. يظن البسطاء من المؤرخين، تبعا لتقديرات استشراقية مرسلة ارسالا، أن عبدالله بن سبأ - تلك الشخصة التي هي شبه تاريخية أي خرافية من شدة غموضها الي حد يبيح لنا انكارها مرة - فتن مجتمعا باسره؛ و هذا منقوض علي ضوء البسيكولوجية الاجتماعية. و فتن اباذر الذي ساير النشوء الديني الجديد في كل أطواره. و يتبين لنا درجة ما فيها من سخف حينما نعرف أنهم بخشصية شبه تاريخية يريدون تغيير مجري حادثة تاريخية هامة، و لا شك أنها طريقة ميتافيزيقية يراد بها تعليل المعلوم بالمجهول، و ما يدرينا فلعل عبدالله ابن سبأ عنتر اجتماعي مثل عنتر الفروسي؟ و انا اذا كنت أستطيع أن أقر بهذا الشي ء المدعو عبدالله بن سبأ فانما استطيع الاقرار به علي أنه تلميذ المدرسة الغفارية، و يؤكد هذا أنه من أنصار علي بن أبي طالب في الجانب السياسي و الديني من أفكاره؛ و معروف أن أباذر من أنصار علي، فلو فرضنا أنه جاء بافكار مزدكية فلماذا لم يختر الا مناصرة علي، و كان اروج لدعوته لو ناصر ذكري ابي بكر و عمر. و السبب في نظرنا الذي أدي الي نشوء مدرسة ابي ذر و دعوته انما هو ذلك التورط و التهالك علي مسلك الثراء المتطرف الذي أخذت باسبابه الاقلية الاموية و أعوانها و بروزها ذلك البروز الارستقراطي و استعبادها الاقطاعي، فكان في ذلك ما أغري اباذر علي فهم الشريعة ذلك الفهم. راجع الحلقة الثانية من هذا الكتاب.

قال: (ساببت رجلا - و هو بلال - فعيرته بأمه و كانت رقيقة.فقال لي النبي: يا أباذر، أعيرته بأمه؟! انك امرؤ فيك جاهلية. اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، و ليلبسه مما يلبس، و لا تكلفوهم ما يغلبهم فان كلفتموهم فأعينوهم).يروي أبوذر مثل هذه الواقعة، في حق الموالي الارقاء بالقانون، قصد محاربة الوضع الذي شاءت به الاقلية جعل سواد المجتمع أرقاء اجتماعيين.فالذي لا ريب فيه اذن أن ابن سبأ كان يحمل أفكارا استلهمها من حالة المجتمع القائمة، و لكنه سقط عند أبي ذر علي ما يركزها و يوضحها، و يعطيها العنصر الديني المفقود لديه من قبل، و كان سبب تخوفه من نشر أفكاره الحرة و بالحري أفكار الشريعة علي طريقة ابي ذر، فمضي يبشر في طول البلاد و عرضها بما انه الدين أيضا.رأينا كم كانت أقاليم المجتمع الاسلامي الكبيرة متوترة مستوفزة، و رأينا الي أي حد قد أحس الشعب أن الأقلية الحاكمة تحيك حوله مؤامرة واسعة النطاق تبالغ حتي تتصل بحياته، فانكفأ الشعب كله في الاقاليم يتآمر بها و ينسج من حولها شباكه، و لقد باتت الحالة العامة تجي ء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب، و شعب يتآمر بالحكومة، و لكن للشعب الكلمة الاخيرة و العليا دائما.و عبدالله بن سبأ أيان مر و اين انطلق يصادف جموعا تعتلج علي جموع، و كتل المؤامرة تنتشر في كل مكان و تتوزع لتحتشد. و لقد أحسن التعبير عن أماني الجماعات و تصوير أحلامهم و آمالهم، فافتتنوا به وافتتن بهم، و لم يكن يربط بين هذه الجموع الا رابطة الشعور بضرورة الاصلاح السريع؛ فقد بلغ من شدة الفساد أن كان أكثر الناس تحمسا للثورة هم أهل المدينة، و المعروف عن هؤلاء انهم يشتملون علي اكبر عدد من أرباب الحل و العقد و هم مرجع السلطة العليا، و من شأن هؤلاء انهم يحاولون شتي المحاولات للترقيع و التوجيه، فكان شعورهم بضرورة الثورة معناه ان الخرق قد اتسع علي الراقع، و ان حالة الفوضي لا ينجع

ص: 431

معها الا القمع العنيف فتخلوا عن طريق الجمهور، أو قل كانوا في الطليعة.و لكن مع ذلك فقد ظل حزب علي أو حزب المحافظين يبذل جهودا جبارة بسبيل تقريب وجهة النظر بين كتلة العشب و كتلة الحكومة، و يحول جهد المستطاع بين الجمهور و بين مآربه الدامية، و كثيرا ما جعل من نفسه ضمانة لهيئة الحكم. و الشي ء الجدير بالتسجيل و نصاعة الذكران هذا الحزب بقي مواليا، بعطف صادق، للحكومة الي الساعة الأخيرة التي لم يعد ممكنا فيها ضبط أعصاب الجمهور الثائرة، فطغي علي الحواجز و بدأ التهديم.و من الانصاف الخير أن نذكر أن الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد أتصل بأولياء الامور و السلطة و طالب مستشفعا بممثليه مرارا و تكرارا، و لكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل، و كان فشلا ذريعا متواصلا من النوع المثير، فلا بدع ان هب الشعب هبته الغضبي و تركزت الثورة الانتقامية في رأسه تركز الفكرة الثابتة لا يحول عنها في كثير أو قليل.هبطت وفود الامصار المدينة مرة و أخري الي مرات كثيرة، و كانت في كل مناسبة تحمل طائفة من أمانيها و هي ملأي بالرجاء تود لو صدقت أحلام آمالها، و كانت ترجع في كل مرة بوعود معسولة، و لكن لا تلبث أن تستحيل الي صدي يأس فيه غرور السراب.ساءها في كل تجربة و كل محاولة اخفاق المنقلب، فأغيظت كذي النفس الجريحة علي من لا يفتأ ينكأ جراحه و يجري دماءه، و لم يسعها كظم عواطفها الملتهبة فهدرت صاخبة محتجة تريد وضع حد لآلامها و بأسائها المستعرة، فكانت تصطدم تكرارا و مرارا بما يوقظ فيها شعور الخيبة المنتقم. لذلك لم تكن الجماعات تري في أي مكان الا ملتئمة علي بعضها تتهامس في أمر خطير.و في هذه الفترة الملتهبة كان يطوف، كما قلنا، في أقطار المجتمع الاسلامي عبدالله بن سبأ، فما حل بقعة الا و سمع فيها تجاوب نأمة واحدة مستنكرة، فاشتمل علي حفيظة متحرقة تتأكل في حناياه غيظا و تحرق الارم. و ما هو الا أن

ص: 432

هبط الشام فاتصلت أسبابه بأسباب أبي ذر، فقد سمعه ينتقد و لا يبالي علي أي وجه فسر عليه انتقاده، و يتحدي المجتمع (1) و الدولة و كل أسرة الحكم تحديا جارحا بمنطق الدستور الاسلامي العام الذي هو القرآن و السنة و مناهج السلوك التقليدية، و يأخذ علي الانطلاقيين المتجاوزين مذاهب سلوكهم.رأي و لمس مقدار تهاوي الناس في الترف بالعدوي و تهافتهم علي الرفاه من أي طريق، و تستتبع خطة هذا السلوك اباحية و لا مبالاة، فجعل من نفسه و أتباعه حاجزا يقاوم التيار، فوقف في كل مكان يبشر بمبادئه و بعبارة أصح يقرع سمع الناس بما قد عهد عليه النبي و بما قد سمعه منه و وعاه بين يديه، و لكن بعضا من الناس كانوا قد استناموا الي هذا الجديد و تذوقوه و لذتهم اشياؤه، فأبوا عليه و أبي عليهم، فانطلق لا يبالي غضبا و لا رضي.و كان أبوذر يري أن فكرة الحياة الانسانية هي الفضيلة، و الانسان هو الفاضل فقط. فعلي الناس اذا أن يحلوا أشياء الفضيلة بينهم، و أن يوفروا كل جهودهم علي تحقيقها و انتهاج سننها و أساليبها. و أما أولئك الذين يجمعون أكبر جهدهم و همهم علي التزيد من مخارف الحياة الناعمة و أسباب العيش الرفيه، فانهم لا يفضلون في اعتباره عن سائمات وجدت سبيل حظوظها. و الانسان عنده اذا جمع همه هذا الجمع فانه ينقلب حيوانا فقط ميزته أنه أقدر علي التحيل بما فيه من الفكر، و أما الانسانية فانها عنصر غريب عنه. و لكي يكون انسانا و يظل كذلك لابد له من حياة أخري مادتها الفضيلة، و الفضيلة في نظره هي التجرد و العمل.هو يريدنا أن نعمل و نكافح بما استطعنا الي ذلك، كما يريدنا أن نتجرد أيضا فلا ننغمس في مدي الفتوة، يريد منا سيرا بما فينا من حياة عضوية ذات حرارات، و استعلاء بما فينا من روح لا تفتأ تنشد السمو.و ليس أضر علي الكائن الانساني من أن يسير بالحياة فقط، اذ بهذا

ص: 433


1- 311. تفصيل رأينا في مدرسة ابي ذر و تفصيل آرائه في الحياة و غايتها و في المجتمع و نظامه و في الحرية الادبية و علاقة الحي بالله تجده في كتابنا: «مدرسة ابي ذر و الثورة الكبري في الاسلام».

يشبه سير الرحي تتحرك و هي قابعة بمحلها. و فرق ما بين الانسان و الحيوان أن الثاني تسير به الحياة و الاول يسير بالحياة و يستعلي دوما بالروح التي هي فكرة الحياة و غايتها و ضميرها و أخلاقيتها. و اذا كانت الحركة ضرورية للحياة، و الفضيلة التي هي التجرد ضرورية للانسانية، فلكي نكون أحياء انسانيين يجب أن نعمل و يجب أن نتجرد، و أما اذا عملنا فقط فقد نحرنا عنصر الانسانية فينا و أسففنا، كما تتعقد الحياة حين نضعها في معترك أطماعنا و شباك شهواتنا. فكان يوصي و يلح أن نعمل و أن نتجرد أي نعمل و لا ندخر، فحض بأقسي أسلوب و أعنفه علي عدم الكنز، و لوح ما شاءت له فكرته و شاء ضميره بقوله تعالي:(و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكون بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).و هو يري أيضا ان الدولة كالفرد سواء بسواء، فاذا كنزت و لم تتجرد انحطت و تولدت لديها الاطماع، فتحدي الدولة كما تحدي الافراد، و حارب الكنز الاجتماعي كما حارب الكنز الفردي. و شنها شعواء علي دنيا القصور و حياة الترف، فقد نظر اليها نظره الي مأتم للمثالية العليا و الأحلام السامية، فموكب الانسانية لابد أن يتوقف و يتوحل، و ينقلب موكب رجم اذا شئنا الولوج به في دنيا الشهوات.و من ناحية أخري أحس بآلام البؤس في الناس، و أحس أن الدولة تتوسل بالتسميات القانونية الي انتهاب المسميات الحقوقية من أربابها و الاستحواذ علي الثروة الاجتماعية و تبديدها دون مستحقيها، فقدر و استنتج أن الحكومة المنتخبة هي ذات الحق الاول في التصرف بالاموال الشائعة. فتسميتها مال الخزينة بمال الله التي يراد منها الشيوع، وسيلة اذا للتلاعب و الاستحواذ، فحمل حملة نكراء علي هذه التسمية المغلوطة و نادي أنها مال المسلمين، هذه التسمية التي تؤدي في تسلسلها المنطقي الحقوقي الي منع حرية التصرف، و الي وجوب توزيعها عليهم و تعلق حقوقهم بها.

ص: 434

و بلغ من شدة و طأة هذه الدعوة أن جعل الأنانيون الطامعون يفرون من طريقه كلما رأوه، و زاد في تأثير دعوته و انتشارها أقواله هذه بأحاديث مأثورة سمعها من النبي. فوجد عبدالله بن سبأ في هذه الأفكار التي يسمعها من أبي ذر ما هو العلاج الناجع لروح المجتمع البائسة و وجد فيها أيضا محض أفكاره، و فوق ذلك وجد فيها ما تتوق اليه رغبة المطالبين بالاصلاح الحائرين، فانطلق علي سنة أبي ذر يبشر و لا يحفل.توقف في الكوفة و هو يذرع الأقطار، فرأي فيها حركة أقوي من سائر الحركات الأخري في المدن و العواصم، فانخرط فيها و نظمها، و هناك وضعت (عريضة الحق) أو «مطالب الاصلاح» فلم تقابل من الهيئة الحاكمة بالحسني بل بالاعراض، فتألبوا و كان أن توسط علي بن ابي طالب بينهم و بين الخليفة فوعدوا خيرا، و ما أن بارحوا المدينة حتي أو عزت السلطة العليا الي معاوية (بالقبض عليهم) في حمص، و بعد لأي أفرج عنهم فعادوا الي المطالبة مرة أخري، بيد أنهم استعدوا للخصومة مهما نجم عنها و مهما احتبكت ألوانها الكالحة. و كانت عريضة الحق تشتمل علي:أ- ابعاد البطانة المشرفة علي تسيير الأمور حاليا و لا سيما مروان بن الحكم.ب- الرجوع الي سياسة الاموال التي درج عليها النبي دون السياسة التي جري علي سنتها الخليفة الثاني و لا تزال.ج ضرب اليد علي طماعية قريش.د- الحد من صلاحية الولاة و الامراء، فيقيد تصرفهم بالحراج و الاموال العامة.ه- الحيلولة دون الأمراء و استذلال الأهلين.و فدت الوفود تحت ستار الحج و هي تخفي أعراضها الدامية الثورية و شاع الهمس في المدينة و انطلقت عبارات الانتقاد تؤج كالنار في الهشيم و قد اتصلت

ص: 435

بعلي أخبارهم فتخوف مغبة الأمر و بادر الي الاجتماع بعثمان فقال له:«الناس و رائي و قد كلموني فيك، و و الله ما أدري ما أقول لك، و ما أعراف شيئا تجهله و لا أدلك علي أمر لا تعرفه.انك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك الي شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي ء فنبلغكه، و ما خصصنا بأمر دونك. و قد رأيت و سمعت و صحبت رسول الله و نلت صهره، و ما ابن أبي قحافة بأولي بعمل الحق منك و لا ابن الخطاب بأولي بشي ء من الخير منك... ثم يقول:فالله الله في نفسك. فانك و الله ما تبصر من عمي، و تعلم من جهل، و ان الطريق لواضح بين.. فاذا اعتذر عثمان اليه بأنه يقتفي أثر عمر أجابه علي:سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فانما يطأ علي صماخه، ان بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصي الغاية. و أنت لا تفعل، ضعفت و رفقت علي أقر بائك.. فاذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن و لاه عمر مدة خلافته كلها و انه يقتدي كذلك بعمر في توليته، أبان له علي الفرق بين العملين فقال:أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من «يرفأ (1) » غلام عمر؟... قال: نعم. قال علي: ان معاوية يقتطع الامور دونك و أنت تعلمها، فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك و لا تغير علي معاوية».و لكن معاوية لم يزل بعثمان يوغر صدره علي علي، و يضرب له المثل بشدته عليه فيقول:«هكذا يستقبلك و أنت امامه و سلفه و ابن عمه و ابن عمته، فما ظنك بما غاب عنك منه؟.» و كذلك يقول سعيد بن العاص و سائر بطانته (حتي اجمع ألا يقوم دونه). و علي حيال تردد عثمان لم يسعه الا أن يقول:

ص: 436


1- 312. يرفأ: اسم غلام و كان اذا رآه يرعد منه رعبا، فضرب المثل به في الرعب.

(ما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش ليس منهم أحد الا و قد تسبب بطائفة من الارض، يأكل خراجها و يستذل أهلها).و كان عمرو بن العاص في هذه الأثناء يحرض الناس علي عثمان و يجبه سياسته علانية و يتجسس عليه و يفضح الاحاديث التي تجري داخل داره، و لا يلقي أحدا الا أدخل في روعه كراهيته و يستغل المناسبات و الظروف حتي قال يصف نفسه:«أنا ابوعبدالله اذا حككت قرحة نكأتها، ان كنت لألقي الراعي فأحرضه علي عثمان».. و هذا عثمان يستشيره في جماعة من صحبه فيقول له عمرو:«أري انك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعتدل، فان أبيت فاعتزم أن تعتزل، فان أبيت فاعتزم عزما وامض فيه قدما».. و يقابله حينما خطب عثمان علي ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله:«يا أمير المومنين: انك قد ركبت نهابير و ركبناها معك، فتب نتب».. و هذه عائشة تجتري ء و هو يخطب فتقول و قد نشرت قميص النبي:«هذا قميص النبي لم يبل، و قد أبليت سنة»... و هذان طلحة و الزبير يعينان الثائرين بالمال.و الجموع المتألبة الوافدة من كل مكان، حيال ما تري و حيال ما تحس به من آلام في قرارتها، تفتحت ثائرتها و مضت في اندفاعها متنمرة غاضبة. فبذل علي كل جهد لتخفيف ثائرتهم و تبريد غلوائهم، و حمل عثمان علي اعطائهم مهلة ثلاثة أيام. فلما انتهت اجتمعوا علي بابه (مثل الجبال) علي حد تعبير المؤرخين؛ قال عثمان لمروان «أخرج و كلمهم فاني أستحيي أن أكلمهم» فخرج مروان الي الباب (و الناس يركب بعضهم بعضا) فقال:«ما شأنكم قد اجتمعتم كأنما جئتم لنهب؟. شاهت الوجوه، كل انسان آخذ باذن صاحبه؟. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟. أخرجوا عنا. اما

ص: 437

و الله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر لا يسركم، و لا تحمدوا غب رأيكم. ارجعوا الي منازلكم و الله ما نحن بمغلوبين علي ما في أيدينا».كانت هذه الخطبة المملوءة حمقا و رعونة، شرارة شديدة الأثر في اذكاء الثورة و تقريب خطواتها؛ و مروان لم يفلح فيها باثارة الناس فقط، بل أفلح أيضا باثارة علي نفسه الذي ضمن للجمهور تسوية الامور علي ما يرغب، و قد أسقط في يده حقا و ما وسعه تحت عاصفة نفسه و عاصفة الجمهور المائج الا أن يقول مقالته المشهورة:«ما رضيت من مروان و لا رضي منك، الا بتحرفك عن دينك و عن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به. و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا في نفسه. و ايم الله لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، و ما انا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك و غلبت علي أمرك».و دخلت عليه امرأته نائلة ابنة الفرافصة، فقالت:«أتكلم أو أسكت».. فقال: تكلمي. فقالت:«قد سمعت قول علي لك و انه ليس يعاودك، و قد أطعت مروان يقودك حيث شاء»... قال: فما أصنع؟... قالت:«تتقي الله و تتبع سنة صاحبيك من قبلك، فانك متي أطعت مروان قتلك. و مروان ليس له عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة، و انما تركك الناس لمكان مروان منك، فارسل الي علي فاستصلحه فان له منك قرابة و هو لا يعصي»... فأرسل عثمان الي علي فأبي أن يأتيه و قال: «قد أعلمته انني لست بعائد»..كبر علي علي مثل ذلك المنطق الذي فاجأ به الجموع، مروان بلسان الخليفة، و هو يعلم انه لم يكن بينهم في هذه المرحلة العصيبة و بين التلظي و التهام الوضع القائم، الا كلمة رعناء كالتي فاه بها مروان؛ علي أنها هدمت قيمة وساطته و ألقت في روع الناس ارتيابا حقيقيا حادا في جدوي مداخلته، لهذا - و هو في مقياس كل عصر

ص: 438

مبرر - تنحي و اعتزل و اعتصم في حدود هذا التنحي و الاعتزال. و لكن عليا مع كل ما هو عاتب و واجد، لم يزل يقدر و يذهب في مدي تقديره بعيدا فينتهي الي الكارثة و يتراءي له شبحها، فيرهب هولها و يخشي وقوعها؛ يجب اذا أن لا يظل بعيدا، و ان تواري من الميدان ازاء موقف بطانة عثمان من الجمهور هذا الموقف النابي المثير، فبادر الي تقديم ولديه - لاعتباراتهما التقديرية - و مواليه، ينهنهوا عوادي الأحداث و طائشات الخطوب. و حين بلغه (أن الناس حصروا داره و منعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب، و قال للحسن و الحسين: اذهبا بسيفيكما حتي تقوما علي بابه و لا تدعا أحدا يصل اليه بمكروه، و كان أن خضب الحسن بالدماء و شج قنبر مولاه).و بات علي مطمئنا فقد رتب الأمور جيدا، و هو واثق من أن مجري الحادث سيسير علي هذا الشكل: يضطر عثمان تحت ضغط الجمهور الي اجابة مطالب الاصلاح و تنحية بطانته و لا سيما مروان، و لوجود ابنيه و مواليه اطمأن من عدم دنو الخطب منه. فان وجودهم يعبر عن معارضة عملية أكيدة من جانبه، فلا يتصل به مكروه دام يضع حدا لحياته، و انما كل ما في الأمر أنه سيضع حدا لأساليب الحكم الاستبدادية و مهازله العابثة. و ما كان يدري أن المغرضين ذوي المآرب كانوا قد اندسوا في الجمهور الذي غدا جد حساس وجد متأثر، فتدفق السيل جارفا و (جري الوادي فطم علي القري).هذا ما عرف التاريخ عن علي و بنيه ازاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية أن عثمان و هو محاصر كتب الي معاوية و هو بالشام:(ان أهل المدينة قد كفروا، و أخلفوا الطاعة و نكثوا البيعة فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام علي كل صعب و ذلول) فاذا بمعاوية حينما جاءه كتابه (يتربص به فقد كره - علي حد دعواه - مخالفة أصحاب الرسول و قد علم اجتماعهم علي ذلك).و من تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص علي قتل عثمان، و تجبهه

ص: 439

عائشة علانية، و يتخلي معاوية عن نجدته، و يعين عليه طلحة و الزبير كلاهما؛ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا و هناك، يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة و حذره من هذا المصير، و كان مجنه دون رواكض الخطوب.بين حق و باطل و مستصرخ و ناكل، تراقص المحيط مضطربا مترنحا كبحر استقبل بين حناياه العاصفة...فقد عبثت العاصفة بأبدية السكون الجاثمة عليه، و هدوء اللانهاية الغامضة الحائمة فيه...شعر البحر (1) الشامخة في أرجائه ليست من طبيعته...فاستدار عليها يزمجر ثائرا هادرا، فقد أيقن أنها مكمن العاصفة فهو ينوء باقتلاعها...و حين طاولته طما عليها و تجاهل وجودها...و هو، و ان لم يقتلعها، ردها الي حيث لا يكون لها حساب في كبرياء الوجود...

ص: 440


1- 313. كناية عن الشعب الذي هو في الواقع بحر حيوي يفيض بالقوي، و تاريخه سيل من الهدوء و العواصف و التيارات و التناحرات بين أحيائه.

ان كبرياء الواحد تجاهل لوجود الآخرين...و لكن وجودهم في حس الواقع، أكبر من وجوده في حس الخيال...فان وجوده قبضة من الظلام، و وجودهم قبضة من الشعاع...و ما تقابلا الا ذاب الأول في الثاني دون ما أثر يقفو...ان الكبرياء صفة ذاتية للكثرة، و هي تشير الي العدد...و اذا نجح الفرد في ابتلاع الكل أحيانا، فانه متعرض الخطر التمزع دائما.فالكل قنبلة قد تبرر حينا، و لكن فيها امكانية التفجر أبدا...في طبيعة البحر رشاقة الحركة، و في طبيعة الصخر سكون بليد و أيضا قاس متجهم...و بينهما وقف انسان (1) فيه وعي السكون و قصد الحركة، يصل أسباب أحدهما بأسباب الآخر...و كانت كبرياء الصخر عمياء فلم تقنع بغير وجودها، فانطلقت أعاصير البحر تزأر في مثل الفحيح.و وقف هذا الانسان عند الشاطي ء ينظر متفجعا، فاذا الوجود المخدوع - الذي أضحي غورا - ترقص فوقه موجة مارحة... في نغمة تخبر: أنه كان هنا شي ء فيما زعموا...مضي ذلك الانسان و قد أبصر و سمع، مطرقا مرددا: بهذا نطق الحق في صدي الموج...

ص: 441


1- 314. كناية عن كل مصلح انساني يعمل في وعي المبادي ء كعلي.

و روي هذا الانسان لولده (1) أمثولة البحر، فلبث متأملا يعبر عن أنه وعي...و لم يكن طويلا، حتي كان بنفسه رجفة رعشات و خلجات، و رجعة أصداء الموج...و شرع الناس يروون، بعد ذلك، أمثولة ابن الانسان...

ص: 442


1- 315. كناية عن أسمي أبناء الوعي الجديد كالحسين.

في الزوبعة

عن مأساة حمراء اختلطت فيها الاشلاء بالدماء، انكشف الفصل الاخير من فصول الثورة التي كانت تمثل علي أرض المدينة و في بطحائها الفسيحة المدي البعيدة الآفاق، و التي كانت تتجاوب بأصدائها الهادرة هنا و هناك، قريبة بعيدة، فتتفاعل مع الاحياء تفاعلا ملون الرعشات، فمن بيضاء ناصعة كالزبد، و من سوداء فاحمة كالقار، و من حمراء قانية كالعنم، و أعصاب الجماعات تتمدد و تتقلص و تعلو و تهبط، فجذلان هناك و غضبان هنا، و بين هذا و ذاك تنبعث نأمات محترقة أو زفرات مختنقة أو بقايا هتافات مغتبط طروب.و هم و ان لم يجمعهم الاسي، فقد تنفس سائرهم الصعداء؛ و لكن لم تلبث أن دارت الثورة علي نفسها بالغة عنيفة، فقد افتلت قيادها و هبت طائشة علي قطبها، شاردة في لولبها.كان الجمهور قد التهب بروحية الدماء و شرتها فغدا دمويا شرسا، يصر علي أسنانه في شكل كريه كأنه يتأكلها أو كأنما يتأكل الاشباح و الطيوف التي استوت في مكان الحس من نقمته، فهو يتوعد ضاربا بقبضته في الهواء كمن يبحث في مكامن الفضاء عمن أثار عليه حفيظته، و الحفائظ قاسية نهمة اذا انطلقت في مدي الشعور المتضري؛ واعصاب الحي حينما تضري و تهيجها النقمة المحترقة لا تذهب

ص: 443

في انتقامها الي الايقاع الساحق بمن أسعرها فقط، بل تروح ماضية وراء ذلك بعيدا. فهي لم ترو حرقة الظمأ الفائر، فتطلب سحق أخيلتها و تصارع الخيال البغيض الذي تمدد عليها في ثورة الدماء؛ و مثل هذا الجمهور لا يرعي للموت قداسة و حرمة، و كذلك كان فقد حال بين جسد الخليفة المفؤود و بين الدفن؛ انه حانق لا يطيق أن يري شيئا يجدد له الذكري أشد هولا.انطلق الناس في مذهب أعصابهم المتأزمة المتعقدة دون هوادة أو لين، يدكون معالم الماضي القريب كيف حلا لهم و يصخبون كيفما شاءت أهواؤهم؛ و في هذا التجمهر الكبير قام الاشتر منتصبا فوق الجموع ملوحا بسيفه، هادرا بمنطقه الناري المتقد الذي كان يخرج ممتدا كألسنة اللهب قائلا:ألا سحقا لبطانة الخليفة الاشرار؛و ويل للظالمين من أتون الشعب الفوار؛فيد الله من وراء الغيب تعتصر المستبدين الفجار؛و لابد للظلم من أن يلتهمه في ضمير الكون أفعوان جبار؛و رحم الله الخليفة الرفيق الذي لينه معهم الي انقياد و صغار؛و حيا الله غضبة الاحرار؛و كبرياء بطشة الشعب اذا ثار؛التي انتصفت للمظلومين الأبرار؛فهؤلاء الي الجنة، و أولئك أعداء الشعب الي النار؛و حذرا أن تتركوا للعادين فرصة الفرار و النفار؛فهلموا كالسيل اندفاعا الي بطل الأحداث الكبار؛فقد أعطيت القوس باريها و تم الانتصاف و الانتصار؛

ص: 444

و اطمأن مشردو الطغيان في القفار،و انتحر العدوان و أنصاره أي انتحار؛و اعتلي الحق علي الباطل و ذابت حلكة الليل في رائعة النهار.فانطلق الناس يموج بعضهم في بعض، و تدافعوا في كل طريق كالقلل الساقطة المتدحرجة الي دار علي ينادون به خليفة و زعيما.كان في مسجد المدينة جماعة يتجاذبون أطراف الحديث، في شي ء من التنافر في الرأي و النظر الي الحدث الدامي الذي تم علي أيدي الثائرين.قال حسان بن ثابت: لقد عدا الثائرون أقدارهم و ايم الله، و استطالوا علي مقام الخلافة، و لم يرعوا حصانة العهدة التي تمت بالانتخاب، و لكن:من سره الموت صرفا لا مزاج له فليأت مأسدة في دار عفانالتسمعن و شيكا في ديارهم الله أكبر يا ثارات عثماناقال المغيرة بن شعبة: ماذا تقول؟! عدوا أقدارهم فقط! بل هم أئمة سفاكون، و نحن لم يفتنا من اثمهم، بل نصيب كبير مما اقترفوا. كانت جناية ما ما أهولها!. اني لأنظر الي أيدينا نحن، نعم، نحن، فلا أراها الا ملطخة بالدم الزكي البري ء. لقد شاركنا هؤلاء المجرمين الي حد كبير، بل كنا أكثر من ذلك، كنا مطايا الجريمة.لعلكم لا تدرون أن في الحادثة يدا مجهولة حاكت هذه المؤامرة الطاغية من أطرافها و أحكمت أسبابها، نعم استطيع أن أتهم و أعلن بمل ء فمي: أن وراء الأكمة ما وراءها... و ابتسم ابتسامة صفراء كالفحيح في شفاه ملتوية مقلوبة صحبها تكسر في الجفون كأنه يشير... و لكنها أكمة شفافة تري من خلالها الأشباح.تنمر جهجاه الغفاري و رد عليه: بل باء أصحابك بشر أعمالهم، و ان من بقي منهم لينتظره يوم أكثر سوءا، و لو كانت الأمور الي لما ترددت في أن

ص: 445

أبطش بك أول ما أبطش، فأنت هو رأس الأفعي، و بنفسي ان أروي بك أعصابي الظامئة.فيك و في أصحابك قال عمر بن الخطاب: «متي استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، ألم يقلها لعمرو بن العاص و ابنه يوم ساما المصري البري ء و اضطهداه استعلاء في الأرض و عتوا. قال هذا فيكم و لم تتربعوا علي دست الحكم و لما تصر مقاليد الامور و أسباب السلطان الي أيديكم، فكيف و قد تسودتم؟ أردتموها فرعونية و ربوبية، و ركبتم الناس بالبغي مطايا شهوات.. و ثارت به حفيظته فانقلبت سحنته و تجهم علي شكل منكر، و بدرت منه حركة تنذر بشر، لولا ان خف عمار بن ياسر فحال دونه و تناول الحديث:«كما تقول - يا مغيرة - ان وراء الأكمة ما وراءها، و لكن كم يسقط في يدك اذا لم يكن وراء الأكمة الا بطانة الخليفة الراحل نفسها، ثم لم تنكشف عن أحد سواهم، فأنا أري كما تري و أقدر مثلما تقدر، بيد أني كلما حدقت بين الخلال و أطلت التحديق و أنعمت النظر، فلست أري وراء الأكمة الا من ذكرت لك ثم لا أري الا اياك و أصحابك.نعم في مصرع الخليفة الفظيع مؤامرة أنتم نظمتموها بأنفسكم، و قد يقع غريبا عليك أن يتآمر المرء بنفسه، و قد تسخر في سرك من قولي، و لكن المتهور الطائش طالما نال نفسه بحسامه، كذلك الصائد الذي حمل فخاخه و انطلق يريد الظباء، فقال لنفسه: لو حملتها مفتوحة مهيأة لكنت أسرع الي نيل الغاية و أرجي في الفائدة، ففعل و سار.. و لم يمض بعيدا حتي أطبق به فخ مع حركات المسير، فسقط يفحص في الأرض و قد قنص نفسه في شهوة الظباء.انك أدري من غيرك بما كان من سياسة بطانة الخليفة القائمة علي العسف، حتي لكأنها تمشي علي الجماجم و تنعم علي أشلاء الاحياء. لقد ضنوا عليهم حتي بما يسد رمقهم و يبل حاوقهم، و بخلوا عليهم بأقل من القليل، و ساموهم اذلالا، و أوردوهم مورد التهلكة.

ص: 446

قنعت تلك البطانة بسكني القصور المبثوثة بالرياش، و أصموا آذانهم علي الأنين الصارخ المنبعث من كل مكان، و أوهموا الخليفة الرقيق الحاسة أن الشعب في أسعد ما يكون حياة، و ضربوا بينه و بين الناس بأسوار و حجب و منعوه عن الشعب و منعوا الشعب عنه، و سمموا رأيه في الناصحين المخلصين و جعلوا من أنفسهم أوصياء علي الخليفة الذي شاؤوا الحجر عليه، و غفلوا عن أن القصور التي اعتصموا بها قامت علي أجساد حية تتحسس بالآلام، و كان في انتفاضة من انتفاضاتها ما أحال دنيا تلك القصور أطلالا و خرائب.ان هؤلاء الثائرين لم تحدهم فكرة الجريمة و لا شهوتها، و انما حداهم تنفس الحرية المضغوطة ضلوعهم، كما راموا باخلاص انقاذ الخليفة من بطانته، و رفع وصايتها القسرية عنه؛ و ان كان خليقا بهذه الوصاية حقا، و بمثل هؤلاء الاوصياء فما هو و الخلافة اذن؟و لكن طاش بالثائرين السهم فأصاب من لم يكن هدفا، بيد انه يعزي أن البطانة اصيبت في مقتلها بمصابه، فمصابه و ان يكن خطأ في حساب الشعور، فان سقوط تيك البطانة كل العدل في حساب الفكر، و الجمهور الشاعر لا يحدد التبعة بمنطق القانون بل بمنطق الألم، فليس بدعا اذا تجاوز و استفحل. و لو تناولنا الموقف حتي بمنطق القانون فان دعوي التغرير به لا تنقذه من الجزاء، و لقد ألف الشعب محكمته، فله الكلمة الاولي و الاخيرة، و لقد قالها بكل وضوح.و اذا كان حقا ما تقول من أن الثائرين عصبة مجرمة، فان تيك البطانة أهول جريمة حين دخلوا بها الي كل بيت. و لست بهذا أريد «تبرير» المصاب، و لكنني أقصد الي هدم فكرة الجريمة عليك التي تعلنها و لعلك تعي.فقال جهجاه الغفاري: تقول لعله يعي؟ أأنت غريب عن شباكه و أحابيله. انه يريد بقصد تسميم رأي الناس و بلبلتهم، و لا يلبث هو و من فاتنا من بطانة الخليفة، حتي يلوحوا بين الناس بالعثمانية و يجعلوا من عثمان موضوعا ثأريا قصد القاء الشعب في الفوضي و انكفائه كتلا علي نفسه، و ما أسرع تردد الجموع فهي لا تحاكم و لكنها تشعر بمبالغات.

ص: 447

فهذا - و أشار الي المغيرة - يعتمد علي روحية الجمهور، قصد المحاربة بالعنصر النفسي القلق لا يجاد حالة فوضي شاملة، و هو لا يأبه بسبيل ما يريد أن تندك معالم مجتمعنا العظيم. لنفرض ان عثمان صرع بقصد أن يصرع فقد صرع عمر من قبله، و ما تهمنا فروق الملابسات التي تجد قيمتها في الاعتبار الفردي دون الاعتبار الاجتماعي، فهما كحادثين سواء بسواء. فلماذا يحرض بالاتهام و يستثير بالتفجع و التوجع، ان لم يكن يقصد شرا؟قال عمار بن ياسر: نعم اجدي علينا و أولي بنا أن نعتبر بالحادث و لو لم يخل من خطأ، فنداوي الوضع و نجتهد جيدا بحسن التأتي، كي نحول بين الشعب بمنع الاسباب و بين العودة الي ارتكاب خطأ جديد من شاكلته. فقد مات الميت و بقي الحي مضطربا فلنعرف كيف ندخل الاطمئنان الي نفسه، و بذلك نكون قد أصلحنا الخطأ و ربحنا المصيبة. و أما ترويع الجمهور بتهمة الاجرام و الدم، فانه تكبير لدائرة الخطأ و توسيع لحواشي الدماء، و ما أري هذا الا دعوة جاهلية تقوم علي الانتقام في غرضها القريب، و علي المؤامرة بالنظام في غرضها البعيد... و قطع حسان عليه تسلسل حديثه حين انتهي الي هذه النقطة، فقد مضي يردد قول الشاعر:قومي همو قتلوا أميم أخي فاذا رميت يصيبني سهمي أصبح علي الخليفة و اجتمعت في يديه مقاليد الامور، فثاب الي المجتمع هدوؤه مشفوعا بالامل و ارتقاب فجر جديد.و بدأ علي أول ما بدأ باعطاء الحق الي الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة لم يبت فيها بشي ء، فعطف علي آلام هذا الجمهور و واساه بنفسه و قلبه ما وجد الي ذلك سبيلا.و ذهب مع تقديره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه علي برنامج غير مكتوب، يظل عرضة للعبث و التلاعب و التصرفات التي من شأنها أن تضيره، اذا لم يقصد أولا و قبل كل شي ء الي الاختيار و انتقاء الشخصيات التي تضم الي الكفاءة، الاخلاص و الضمير. بل من رأي علي أن الاصلاح حتي في المجتمعات التي

ص: 448

يستوي النظام فيا علي برامج مكتوبة، لا يتم علي وجه مضمون الا بالشخصية المنتقاة؛ و لمس الي ذلك أن اكبر عناصر الشكوي و أهم أجزائها هو الجزء الخاص بالامراء و الولاة، فبادر قدما الي تغيير التعيينات.و كان طلحة و الزبير كلاهما مرشحا لولاية من ولايات الامصار الكبري، فلما أظهرا علي أن التعيينات الجديدة لم يصبهما منها نصيب، امتعضا نوع امتعاض و لمسا في الظرف الذي لم يزل قلقا مضطربا ما يمكنهما من القيام بحملة ضغط علي الخليفة الجديد، لا سيما و قد وجدوا في الناس من يطالب باقامة الحد الشرعي علي الذين باشروا الاغتيالات بالنفس.و علي لم يؤخرهما من حيث انهما ليسا بالجديرين، فهما من ذوي السابقة و من أقدر العناصر، بل لأن الظرف لم يزل يعج بالحزبية و لم يزل متشبعا بروحها. فاذا بعث بهما الي الاقاليم التي تناصرهما كالكوفة بالنظر الي الزبير و البصرة بالنظر الي طلحة، فقد سهل لهما حرية التصرف و الانفراد بالرأي لمكان الثقة الحزبية. و حرية التصرف هي التي بات يشكو الناس منها كما كان الحال بمعاوية في الشام علي عهد عثمان، علي أن الأمير يصبح بهذه الحزبية المناصرة قليل الاهتمام بأوامر السلطة العليا، مما تتخذ به الأقاليم في كل مكان شكل اقطاعيات لا تتصل بالمرجع الأعلي الايجابي المسؤول الا اتصالا اسميا... و اذا تأزمت العلاقة بين الرئاسة العليا و الامير، استطاع الانفراد باقليمه و قطع العلاقة التي لم تكن تعبر عن اتصال ايجابي. و هذا خطر يهدد الدولة وداء و بيل في جسم الحكم، خصوصا اذا تواطأ طائفة من أمراء الأقاليم علي العصيان باتفاق المصالح الموجبة، فانه يقع الخطر الحقيقي علي الكيان الحكومي، كما تظل هذه الصلة الاسمية للاقليم الاقطاعي ينبوع ضرر للرئيس الاعلي، و ذلك حين لا يحفل الأمير بالأوامر التي تصدر له و لا يرهب مرجعه فيعبث كيف شاء، و يكون المسؤول عن تصرفه هو الرئيس الاعلي في نظر الشعب فيتهم بالتواطؤ معه أو بالتغافل عنه، رغم أنه في الواقع لا يستطيع أن يحيك معه حيكا، مثلما كان الحال في زمن عثمان، فقد أصبح اتصال الاقاليم بمركز الخلافة اسميا، و الامير الاقطاعي يتصرف كيف حلا له، لا ينتظر

ص: 449

أمرا و لا يخضع لأمر. و انما يستخدم ذلك الطابع «الاكليشه» (هذا أمر الخليفة) ستارا فقط كما كان يفعل معاوية في الشام، فاتهم الخليفة و استحمق و نشبت الفوضي.و اذا بعث بهما علي الي الاقاليم الاخري و ليس لهما فيها أنصار و أشياع بل علي العكس أعداء حزبيون، فقد أعاد الوضع الي القلق و دفع الجمهور الي التمرد بالشكوي المصطنعة؛ فعمد الي مداواة الحالة العامة و خنق الحزبية و عنعناتها و ايجاد جسم اجتماعي سليم أولا... فبين يديه مجتمع مريض و هو يتطلب شخصيات جديدة لم تنخرط في الحقل العام و الحياة السياسية الصاخبة المتناحرة، حتي اذا تم له ما يريد عاد ففكر فيهما و في سواهما. و لكنهما فسرا اغفالهما بالعداء، فانصرفا الي ايجاد الوسائل القمينة بالضغط فوجها وجههما شطر مكة. و بينا هما في بعض الطريق لقيا عائشة و هي قافلة من مكة، فرويا لها ما كان من أمر الثائرين و عثمان، و ما كان من أمرهم و علي، و كاشفاها بما عزما عليه. و صادف هذا رغبة خفية في ضميرها و هوي كامنا، كما استطاع الزبير بما له من دالة عليها و هو زوج أختها أسماء، و والد من استخلصته لنفسها من أبنائه، حتي اختارت لكنيتها اسمه و ذلك هو عبدالله ابنه. فحملاها علي الرجوع و سهلا لها الخوض في معمعة سياسية طاحنة، اتصلت حتي انقلبت دموية حادة.و لما هبطوا مكة وجدوا فيها فلول الامويين، ففكروا جميعا باستغلال الموقف و ترتيبه علي هذا الشكل:يعصي بالشام معاوية و هم يعصون بالعراق حتي اذا استقام لهم الامر و استقروا، حاصروا الحجار و انتزعوا مقدرات السلطة العليا و أرغموا الخليفة علي التسليم بمطالبهم.اتصل بعلي كل ما دار بخلدهم و ما عزموا عليه، و اتصل به فوق ذلك ان الخطب سيعدو دائرته، الضيقة، لنزول عائشة الي الميدان بما تبعثه من خامدات النفوس، و في المحيط العربي خصوصا. أليست امرأة و امرأة لها قيمتها و منزلتها الروحية الفريدة؟ فهي زوج النبي و ابنة الخليفة الاول و مرجع علمي فقهي.

ص: 450

و من ناحية ثانية أليس الموضوع نفسه حساسا مثيرا؟ أليس كل الثائرين الذين تم الحادث علي أيديهم في صفوف علي؟ أليست نفسية الجموع شديدة الحساسية بفظاعة الدم المطلوب و ضعيفة المحاكمة و الموازنة؟ أليس الظرف متبلبلا يميد بالفوضي؟! ففي الأمر اذا عقدة خطيرة، و لابد أن يستغلها هؤلاء الواجدون.فكر و قدر و قلب وجوه الرأي حتي انتهي الي أن الحالة الناشبة البادية، ستستحيل الي فوضي فظيعة قد تنكدت معها معالم المجتمع الاسلامي، و انتهي أيضا الي أن صفة التبلبل و هي تساعد علي الدرس و الانتهاز لا يحسمها الا عمل سريع عنيف. و فكر كثيرا قبل أن ابتدأ بطلحة و الزبير و من ورائهما عائشة، فقد لمس خطر هؤلاء الذين يملكون من أسباب السيطرة و التأثير الروحي قدرا كبيرا، و قد أوضحه يقوله:(بليت بأنض الناس، و أنطق الناس، و أطوع الناس في الناس. يريد بأنض الناس يعلي بن امية و كان أكثر الناس مالا و ناضا، و أنطق الناس طلحة بن عبيدالله، و أطوع الناس في الناس عائشة).و من ناحية ثانية فقد استجلي طبيعة البصرة علي ضوء الروحية التي كانت بارزة في العراق اذ ذاك، فوضع يده علي مكان التفكك و التفسخ و عدم الانسجام و التماسك، بينما الشام كانت علي العكس متماسكة بوحدة الدم و التغرير. فالبصرة اذا أقل عناء و أكثر خطرا و أبعد نفوذا، بما يملك اللاجئون اليها من صدي بعيد، عميق التجاوب في النفسية العربية العامة. فكان لزاما أن ينبعث فوره اليهم و يتخذ البصرة هدف ضربته الاولي الخاطفة الساحقة، فيرهب بها المتمردين في كل مكان و مجال.و أقام خطته علي حرب السرعة ليكون نجاحها مضمونا، فيعيد الثقة المفقودة، بعد الثورة، الي الهيئة الحاكمة الجديدة و يضبط العاصفة. كما استعان بالنقد و الدعاية أداة حربية فظيعة الفتك، و أدرك ضرورة هذا العنصر في الحرب، فدفع أم سلمة زوج النبي و هي من أعوانه الي انتقاد عائشة علي شكل حاد، فيما أقدمت عليه من مغامرة فكتبت اليها، و من جهة ثانية أذيع الكتاب و هو:

ص: 451

(من أم سلمة زوج النبي، الي عائشة أم المؤمنين؛ فاني أحمد الله اليك الذي لا اله الا هو.أما بعد: فقد هتكت سدة بين رسول الله و أمته. جمع القرآن ذيولك فلا تسبيها، و سكر خفارت فلا تبتذليها، فالله من وراء هذه الامة... لو علم رسول الله ان النساء يحتملن الجهاد عهد اليك، أما علمت انه قد نهاك عن الفراطة في الدين. فان عمود الدين لا يثبت بالنساء ان مال، و لا يرأب بهن ان انصدع. جهاد النساء غض الاطراف و ضم الذيول، و قصر الموادة. ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك ببعض هذا الفلوات، ناصة قعودا من منهل الي منهل. و غدا تردين علي رسول الله، و اقسم لو قيل لي يا أم سلمة ادخلي الجنة لا ستحييت أن ألقي رسول الله هاتكة حجابا ضربه علي.. فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك، فانك أنصح ما تكونين لهذه الامة ما قعدت عن نصرتهم. و لو اني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله لنهشت نهش الرقشاء المطرقة. و السلام.)و كان لهذه الدعاية الحربية أثرها الكبير، فأم سلمة أم المؤمنين أيضا و هي تشجب علي عائشة حركتها و تتنقدها انتقادا لاذعا. و قد تركت أثرها المرغوب فيه و المتوخي نيله؛ و كان أبرز ما تركت أثران:(1)اعطاء صورة نابية عن محاولة النساء مثل هذه المحاولة فقد رووا (أن ابن أبي عتيق - و عائشة عمته - لقيها في بعض مآتي الطرق راكبة علي بغلة، فقال:الي أين يا أماه؟.قالت: أصلح بين حيين من أحياء المسلمين تقاتلا.قال: عزمت عليك الا رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتي نعود الي يوم البلغة).(2)شجع الزعماء و الأمراء علي أن ينكروا عليها، فقد كتب اليها زيد بن صوحان ردا علي كتابها اليه:

ص: 452

(سلام علي أما بعد: فانك أمرت بأمر و أمرنا بغيره، أمرت أن تقري في بيتك و أمرنا أن نقاتل الناس حتي لا تكون فتنة. فتركت ما أمرت به و كتبت تنهيننا عما أمرنا به و السلام)... و مضي الخطباء يحصون عليها تبلبلها و تناقضها، فبعد أن كانت تشير بعلي في زمن عثمان، و كذلك طلحة و الزبير ينصحان بأن يكون علي الخليفة، اذا بهم يخرجون جميعا لحربه و مقارعته في أخرج الساعات العصيبة، و بذلك يسهلون سبيل العمل للانتهازيين النفعيين.فخرب الدعاية التي اصطعنها علي وقذف بها خصومه، أثرت أثرها الكبير و فككت الوحة في المعسكر الاخر. (فاعتزل بالجلحاء - من البصرة علي فرسخين - الأحنف بن قيس، و اعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم).و علي هذا الوضع فاجأهم علي بجنده (و فيه ثمانمائة من الانصار و أربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان، و كانت راية علي مع انبه محمد ابن الحنفية و علي ميمنته الحسن و علي ميسرته الحسين، و علي الخيل عمار بن ياسر و علي الرجالة محمد بن ابي بكر و علي المقدمة عبدالله بن عباس. و زحف علي نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الانصار و حوله بنوه حسن و حسين و محمد، و دفع الراية الي محمد و قال: اقدم بها حتي تركزها في عين الجمل.يا بني تزول الجبال و لا تزل، عض علي ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد في الارض قدمك، ارم ببصرك أقصي القوم و غض بصرك. و اعلم أن النصر من عند الله). فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه: رويدا حتي تنفد سهامهم.. فأنفذ علي يستحثه، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه. و قال له: اقدم لا أم لك. ثم أدركته رقة عليه، فتناول الراية منه بيده اليسري و ذو الفقار مشهور في يمني يديه، و نادي بعقر الجمل فوقعت الهزيمة).كانت معركة الجمل بدون ريب أو كادت تكون، هي المعركة الفاصلة، و ان تنقلب من حيث القيمة ثانوية، و ان تعتبر حركة رعية لتطهير بعض عناصر الشغب الباقية، خصوصا و المقاومة الكفاية آخذة بهذا الشكل من السرعة و الدعاية

ص: 453

الموفقة التي اشعرت الناس كافة بالشمئزاز من شغب المشاغبين. بيد أن الحال تبدلت و جعلت لصفين الصفة الحاسمة الرئيسية لاعتبارات:(1)استحالة فكرة العقيدة و روحيتها الاخلاقية عند علي الي فكرة ثابتة، و الفكرة من الثوابت تصرف كل قوي المرء الروحية و المعنوية اليها، و تقف جهوده العملية في سبيلها و مدي غايتها، فقد تركزت تركز الاعصاب، صاحبها لا يفكر و لا يري و لا يحس أولا يحب أن يفكر و أن يري و أن يحس الا في مواقع ميولها، كما لا يدبر و يقدر الا علي ضوئها. لذلك لم تكن سياسة علي مشتقة من صميم الحياة كما هي بمساوئها، بل من روح الحياة كما ينبغي أن تكون بفضائلها. فهذا الرجل الذي عرفناه دمويا في قضية الانتصار للعقيدة، نراه شديد الكراهية لسياسة الدماء و أساليبها في قضية قمع حركات المتمردين، فهو يفرق جيدا بين الكفر و العصيان. و لكن وسطه لم يكن يفهم هذا الفرق فهما حسنا او لا يفرق بينهما البتة، فقد رأينا عثمان الخليفة يسمي تمرد أهل المدينة كفرا في كتابه الي معاوية، و نري عمارا و محمد بن ابي بكر و من ورائهما سائر الناس ينظرون الي خصومهم نظرة المارقين من الدين، و بالتالي يجب أن يطبقوا عليهم أحكام الكفار و قانون الارتداد.كان الجمهور متشبعا بهذه الفكرة و ما يترتب عليها و يلابسها، فاذا بعلي المتشرع العبقري و المسلم الواعي لحقيقة الاسلام يحمل علي أساس هذه الفكرة، لئلا يتورط الناس في استباحة مقتضياتها القانونية التي تخولها حالة الحرب في الاسرة و المال و الملك و القيمة الشخصية التي يتبع فقدها الاسر و الاسترقاق. و بين للناس بمنطقه العميق أن هناك صفة ثالثة هي الفسق و هو لا يبعد بالمرء البتة عن دائرة الايمان، كما لا تترتب عليه الاستباحة بل التأديب فقط.و انظر كيف يستأتي الي اقناعهم بخطأ فكرتهم حين قالوا «أحل لنا دماءهم و حرم علينا أموالهم» فقال علي:«هي السنة في أهل القبلة».قالوا: ما ندري ما هذا؟!

ص: 454

قال: فهذه عائشة رأس القوم أتتساهمون عليها!.قالوا: سبحان الله!. امنا.قال: فهي حرام!.قالوا: نعم.قال: فانه يحرم من أبنائها ما حرم منها»... فنادي في الناس: لا يسلبن قتيل و لا يتبع مدبر و لا يجهز علي جريح و لا يحل متاع. و لكن الجمهرة الكبري ساذجة بسيطة في فكرة التدين، فوقع عليهم هذا النداء وقع اليأس في محل الامل، و جعلهم يلغطون كثيرا و يتأففون كثيرا و حملهم علي تفكير طويل فيما هو الفرق بين الكفر و العصيان، و فيما هو الفرق بينهما و بين الايمان.فأما أولئك البداة الأعراب الذين لم يفهموا الدين الا علي شكل سطحي، استعصي علي تفكيرهم فهم الفروق الدقيقة بينهما فمضوا علي أنه لا فرق، و اقتنعوا بما انتهوا اليه. و اشتملوا علي نوع من التسخط الخفي كان غير مشعور به الا قليلا، لأنهم بمقتضي نظريتهم حال الخليفة بينهم و بين حقهم في الغنم و منعهم اياه. و من هؤلاء كانت نواة الخوارج، و قد صاغوا فكرتهم هذه فيما بعد بان مرتكب الكبيرة كافر.و أولئك الذين صحبوا النبي طويلا و عرفوا كثيرا من منطق الدين، اشتملوا علي اطمئنان كبير حينما أوضح لهم علي الفرق كما لو لمسوه. و كان بين هؤلاء من فهم الفرق بين الكفر و الفسق علي نوع مبالغة و تكبير، فقال بالمنزلة (1) بين المنزلتين. و كانت هذه الاستنتاجات المختلفة كلها حول الموضوع الذي أثارته مشكلة الغنائم بعد يوم الجمل، أفكارا غير واضحة كثيرا و اتخذت سبيل وضوحها فيما بعد، و قامت علي أساسها الفرق الاسلامية التي عرفت باسمائلها أخيرا.

ص: 455


1- 316. أخطأ مؤرخو الفرق حين توهموا ان فكرة الاعتزال في المنزلة بين المنزلتين لم تعرف الا في حلقة الحسن البصري علي لسان و اصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، و انما انشأها بعد معركة الجمل خيال مشكلة الغنائم و توضيح علي الفرق بين الكفر و العصيان.

(2)نظريته في خصومه أنهم مسلمون فلا يجوز أخذهم في غير حدود الاسلام و قانونه، و هو يستفتي بهم «أمشركون هم؟قال: من الشرك فروا... قيل: فمنافقون هم؟.قال: ان المنافقين لا يذكرون الله الا قليلا. قيل: فما هم؟قال: اخواننا بغوا علينا... و كان لا يفتأ يقول: لا تقولوا كفر أهل الشام،و لكن قولوا فسقوا و ظلموا». فلابد اذا أن يفاوضهم، و لابد من ان يقيم الحجة عليهم، و لابد من ان يلاينهم ما وسعه ذلك و وجد فيهم أملا، دون لجوء الي العنف الذي لا يستحله الا بعد أن يعنتوه.فنراه يفاوض معاوية و يرسل اليه الرسول بعد الرسول و الكتاب تلو الكتاب، حتي استعمل معه أسلوبا يقرب من الرجاء. فاذا به يذكره بموقف أبيه منه، و اذا به يتهمه بالعقوق في رفق. قال في بعض كتبه اليه:«و قد كان أبوك أبوسفيان أتاني حين قبض رسول الله، فقال ابسط يدك أبايعك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، فكنت انا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين المسلمين لقرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان أعلم بحقي منك، و ان تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك و الا فنتعين الله عليك».و لكن معاوية كان قد ساوره الطمع و لعبت أحلامه الكبري أمام ناظريه، و قد فهم مثالية علي و تقواه فعمد لاستغلالهما. فاذا به يصانعه و يظهر له خيوطا واضحة من الأمل بعد أن يضع عقدة يتعايي بها، فيعذره علي و يمضي في مفاوضته. و معاوية لم يكن يريد من ذلك الا اكتساب الوقت لتهيي ء نفسه و بعث روح الملل في جيش علي، فهو يتمني طول الوقت و طول الصراع مع ظهوره بمظهر المستسلم اذا انحلت العقد او اقنعه بحلها، و بهذا المظهر يضمن أن لا يأخذه علي بحرب خاطفة جبارة بل يرفق به، فتتحول المعركة الجدية الي حرب انهاك و ازعاج، و هي لا محالة ستشيع صفة التململ و اليأي في جيش علي.

ص: 456

أضف الي هذا أن هذا الجيش منذ حين قد خرج من معركة كبري، و من قبل كان منهوكا بالفتوح في كل مكان، و لا يلبث أن يدور هذا التململ دورته و يعمل عمله، و لابد أن يترك صدوعا و اختلافا في الرأي، فينقسم الجيش شيعا و يفلت من يعد علي الزمام،أما يراه يجيبه حينما طلب تأجيل الحرب شهرا، أليس يسمح لجيش الشام، حين استولي جيشه علي الشريعة، بالسقيا «حتي ازدحم عليها السقاة من العسكرين و ما يؤذي انسان انسانا» (1) فطال أمد المعركة مائة و عشرين يوما، و هذا وقت طويل في عمر حرب من هذا النوع، و سمح طول الوقت للافكار التي نبتت في رؤوس الجموع أن تنمو و تستفحل و تشكل نظرية لها أسرها و تأثيرها في قرارتهم، و كان هذا النماء مشفوعا بعاصفة من الملل و اليأس.و لم يكن شي ء من هذا خافيا علي علي، بل كان ينظر و يبتسم، فهو يريد أن يحل المشكلة القائمة، و لكن علي طريقته المثالية و بمنطق القانون الذي يقدسه. و علي، و ان لمس أن الظرف يتأزم عليه و الوقت يتعقد و الفرصة تكاد تفلت منه الي خصمه، يريد أن يحارب حرب الحق و ينتصر للعدالة بالعدل و الا فهو في نظره يخدع ضميره و يخدع الناس، اذا سمح لنفسه بانتهاك قداسة الحق بسبيل تأييد قضايا الحق.علي انه كان راضيا فلم يبتئس لأنه واثق من أن النهاية الظافرة في متناول يده يضمها اليه ساعة يريد، و كذلك كان حين يئس منهم و ضربهم الضربة القاصمة التي ألجأتهم الي حيلة رفع المصاحف المعتادة كثيرا، فقد رفعت غير مرة يوم الجمل، فهي اذن لا تملك تأثير المفاجأة بل معتادة باردة الأثر ضعيفة المفعول،

ص: 457


1- 317. روي التاريخ أن جيش الشام سبق الي الشريعة فطلب علي السماح لجيشه فأبي معاوية عليه، فلما غلبه عليها و طلبوا اليه ذلك سمح لهم. فبرهن بهذا علي علي أنه يحارب للحق و ليس يحارب للغلبة و شهوة السلطان، و أعطي مثلا فذا في التاريخ كله، اذا اضطر انسان الي الحرب، كيف يجب أن يكون انسانا شريفا قبل أي اعتبار.

لولا ما كان قد استحوذ علي الجموع من استفحال الافكار الخطرة التي سبق و أشرنا اليها، فتصدعت وحدة الصفوف بهذا السبب.لقد عادت الزوبعة الي الهبوب مرة أخري أشد عنفا، فتمزق شراع السفينة و ميلتها الامواج المتعاظمة المتكسرة علي جوانبها في جبروت. و علي في هذه الغمرة الطائشة كان ينشط الي كشف المهزلة و سحق طواغيتها، و لكن بجيش مريض فتعايي عليه و تركه حيث يشاء في الميدان.. لم يجد بدا من مسايرة الجمهور الكبير، و لم يجد بدا من الخوض في تيار المهزلة علي ضوء النفسية الاجتماعية، الا الأخذ بالناس حتي نهاية الطريق في مدي ما استحوذ عليهم، فان الأمراض الاجتماعية من نوع الهيستيريا الحادة يداوي معها الوهم بالوهم، و علي ذلك نزل عند رأيهم ليهي ء الظرف المناسب من جديد.فعلي اذا لم يشأ قصدا أن يستغل سرعته، و هي تقتضي البطش، استغلالا دمويا، و كان هو الواجب اذ ذاك من وجهة نظر عسكرية. نحن نعرف عليا بطل الحرب، فلماذا انصرف هذا الانصراف و اختار البطء في الايقاع بالخصم بعد تلك السرعة الموفقة الانتقال و الاعداد؟. لأن عليا لم يكن يطلب السلطان من أجل السلطان، بل من أجل احقاق الحق و احلال المثل الاعلي الاجتماعي في دنيا الناس، و الا فالسلطان في كبرياء معنويته «لا يساوي عفطة عنز» كما كان يقول.هو يريد السلطان من أجل الحق، فاذا انتهك الحق من اجل السلطان فقد خنق ضميره و اعتصر بيديه قلبه في قسوة و وحشية.فماذا يريد من كفاحه اذن؟ انه يريد تطبيق قضايا العدل حتي في الساعة التي يجوز فيها الجور، انه يريد الحق حتي في ساعة جيشان الباطل و طغيان المنكر. و لكن هم قلة الذين تساموا الي فهمه، و هيهات لحياة الأطماع المحدوة بالشرايين و الاعصاب، ان تنبض بمثل خلجات قلبه و تحس بحسه و تندي بمثل شعوره. كان أكبر من محيطه و لا بدع، و أسمي من مجتمعه و لا

ص: 458

ريب، فهو ربيب محمد المتبلور من سناء الوحي و ضياء النبوة، و هو أكبر اللآلي ء التي انكشفت عنها دنيا القرآن. فهل يعبث بوجوده و ضميره في ملهي يديه طائعا مختارا، و من اجل ما لا يراه شيئا؟!انه لم يكن يؤمن بما يقال «اذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون»، فهذه خطة صغار و خيانة و جبن و خور، بل كان يؤمن بغاية أسمي و يبشر بمبدأ:اذا لم تكن الحياة كما تريد، فحاول أن تجعلها كذلك. فاذا لم تنجح أيضا فلا تخن ضميرك، و عش وحدك متالا للحياة الفاضلة. و لا تأل جهدا، كي يبقي للحق في تاري الباطل مثلا يضربه...ان الذين ينتهكون كل قداسة بسبيل الفوز ساقطون في ميزان الاخلاق و قسطاس الروح، و علي ليس من طينتهم، بل ذلك الأسلوب، في حس علي، أبرز أسلوب من أساليب الخيانة و أنكرها. و الغلبة تكون مقياس النجاح في حس الجامدين جمود المادة و الطبيعة الصماء، بينما مقياس نجاحك، في حس الشاعرين، بمقدار ما تكون أبيض ناصعا في ضوء المصباح و سني الفجر.و الوجود نوعان: وجود بالحياة، و وجود في أبدية المبادي ء؛ و الثاني منهما اكبر الوجودين، فان عمر أولهما في حدود اللحم و الدم، و عمر ثانيهما في حدود الخلود، و أين مداه؟...و اذا بقي ذو الوجود الأول فانما يبقي في ذكري التاريخ شوهة مومياء، بينما يظل ذو الوجود الثاني في ذكري الابد مشكاة حياة تفيض بالنور.و لم يشأ علي و قد أخذ بمقود السفينة ان يتركها هائمة، و يترك للخاطفين (القرصان) انتهابها. فعالجها بمقدار و مقدار كبير، و العواصف تتناوح من حولها و بين يديها، و علي كالربان الماهر يرخي الشراع أحيانا، فيمضي في مدي ميل الجمهور، و يرضي بالتحكيم، و يشد الشراع أحيانا فيضرب ضربته بالنهروان.و خروج الخوارج انما تم باستفحال فكرة أن لا فرق بين الكفر و العصيان،

ص: 459

فان قضية الايمان و الكفر في تفكيرهم كقضية الحق و الباطل، و ليس يمكن أن يكون بينهما واسطة يلتقيان فيها. فالتحكيم اذا خطأ و الخطأ معصية و المعصية كفر، فانتهوا في سلسلة النتائج الي ضرورة الايمان من جديد. و هذه الفكرة في جوهرها لا تزيد عن عقدة مسرحية، الا أنها مع ضعف المحاكمة العقلية و النقد الفكري تبدو عقدة عسيرة الحل. فلدي البداة تسليم عفوي بكل خاطرة و ان تكن سخيفة، و في نفسيتهم قابلية للاستحجار و التصلب علي شكل عفوي أيضا، بحيث تستحيل اماعته الا بتحطيم الرؤوس التي تحمله، و كذلك حدث.و لقد تملأ الحسين بعظات موقف أبيه في كل مراحله، و حللها في نفسه، و أحلها من قلبه محلا ثابتا. و خاض مع والده العظيم الصراع علي شتي ألوانه و كان له أثر أي أثر، و لم يقف عند الشاطي ء مترقبا بل عائما خائضا تقوم به لجة و تقعد به اخري، و تدفعه موجة لتستقبله الموجة الثانية، و التقي (1) سيفه بسيف أخيه محمد فشكلا قوسا قاعدتها المبادي ء التي من أجلها خاض أبوهما الكبير، الكفاح دون هدنة أو هوادة.و بقي في سمع التاريخ و بصره ماثلا حيا:أن عليا بطل الحق في السلم و في الحرب، و هو الانسان الذي استحال الي طاقة في وجود الحق و كيانه...شاء الله ان لا يحقق مغزي امثولة علي الا ابنه الحسين، ابنه الحبيب...فردد علي شكل آخر: اذا لم تكن الحياة كما تريد، فحاول ان تجعلها كذلك...

ص: 460


1- 318. اشارة الي ما ذكر المؤرخون من ان احمر بني أمية بصر بعلي فاراد قتله، فخرج اليه كيسان مولي علي فاختلفا ضربتين سقط بينهما كيسان، فجذب علي احمر بني أمية و ضرب به الارض فكسر منكبه و عضديه، و شد عليه ابنا علي حسين و محمد فضرباه باسيافهما فقتلاه.

فاذا لم تنجح ايضا، فلا نحن ضميرك و عش وحدك مثالا للحياة الفاضلة... و لا تأل جهدا، كي يبقي للحق في تاريخ الباطل مثلا يضربه...علي أنه أضاف اليها امثولته الاخري...اذا لم تكن الحياة كما تريد، فليكن الموت كما تريد...و الا فهيهات ان تشعر بحلاوة المثالية في الايمان، و تكون من الأحرار...بقي طابع الانسان الكامل «علي»، الذي لا يحركه الحقد و لا تميل به للنزغات و النزوات...طابعا لا بنائه، فقد قيل لابنه محمد: دسا توليدا للموجدة...لم يدفع بك أبوك في الحرب و لا يدفع بالحسن و الحسين...فقال بوحي القلب المثالي: هما عيناه و أنا يمناه، و هو يدفع عن عينيه بيمينه...هذا طابع علي في الاخوة و الاخاء، فأي دنيا بل اي خلد سعيد، لو تسني الحياة ان تبرز بطوابعه الاخري...

ص: 461

التياع

في دارة قريبة من الكوفة انعقد أول مؤتمر سياسي ارهابي، و انفض عن مؤامرة دموية واسعة النطاق تولي أمرها ثلاثة نفر فدائيون كلهم خارجي. فقد كان لمعركة النهروان التي انكشفت عن مأساة مريرة، وقع حاد في نفوس الخوارج كافة، فنشطوا تحت الحاح سورة الانتقام يجتمعون هنا و هناك و يوالون الاجتماع في كل مكان. فما من بيت الا و دخلته طائفة من الأرزاء و انطلقت العيون كأفواه القرب تتحدر عن مثل خيوط القطرات المرفضة ارفضاض عقد نظيم، و بالاحري المتحدرة مؤتلفة ائتلاف عقد شتيت.و كان عبدالرحمن بن ملجم من أبناء الهوي و الشباب، فهو عاشق مدنف الفؤاد متيم الصبوة، لقي قطام ابنة الشجنة من تيم الرباب في أصيل ليلة من ليلات الصحراء التي يختلط فيها سكون الجمال و جمال السكون، برجفات القوافل، و هي تهوم راجعة او منطلقة، كأنها سارحة في طفل الابد أو سانحة مع رأد الامل الخابي.و قطام هذه فتاة افتنت بها طبيعة الجمال أي افتنان و مشت في تقاطيعها روائع الحسن و آيات الفن، فبرزت كالزهرة أول ما تتشقق عنها الاكمام، أو كالفتنة الحية المائجة التي أضافت اليها الصحراء انبهامها، فجاءت بساطة في

ص: 462

تركيب، و وضوحا في غموض... تخطر كيفما اتفق لها، فتثير في مدي خطاها تهاويل السحر و عبقا من عبق الهوي المسفوح و ضجة الجوي الشرود.و الجمال، في الغواني و في كل شي ء، أرادته الطبيعة لتعبر عن تذوقها الفني، و عن أن غاية التفاعل الكوني ينتهي بالكون الي الفن و يجتمع عليه، و ان بقاء الوجود قائم علي الارادة الفنية فقط.فالطبيعة الصامتة تحاول محاولاتها تحت الارادة الفنية لتنتهي الي الفن الصامت الذي هو روح الطبيعة الجمود، و تبتدي ء الحياة أو الطبيعة الحية من الفن الصامت لتنتهي كذلك الي الفن الحي الذي هو روح الحياة أيضا، و تبتدي ء الطبيعة الانسانية من الفن الحي لتنتهي في غايتها الي الفن الواعي الذي هو المثل العليا.و الي هذا الفن الواعي تنتمي فكرة الروح و الخلد، حتي الله في الاديان فكرة الفن المطلق، و الوجود انما يتحرك بارادة الفن ليسمو تحت هذه الرغبة الجاذبة بالشوق. و الي هذا يشير قول النبي «خلق الله آدم علي صورته»، من حيث ان في الانسان أكبر قسط من جمال فن الوعي أو فن القصد اذ فيه تحولت حركة الطبيعة الفنية من حركة لا قاصدة، الي قصد في الحركة... هذا حديث فاه به ابن أبي عتيق في أمسية من أماسي الطائف، عند مغني نضير، جمعه و عمر ابن أبي ربيعة و الثريا و زمرة كبيرة ممن يطلبون الحياة اللاهية الحالمة كان بينهم ابن ملجم.فقال عمر يحاوره: لكأني بك - يا ابن أبي عتيق - و أنت حشية فتون و دنيا غرام، و لم أخطئك الصفة حينما قلت:أهجرنها؟! و أنت زينتها لي أنت مثل الشيطان للانسان و قهقه مشيرا الي الثريا.قال ابن أبي عتيق: لا تثريب عليك «فالله جميل يحب الجمال». و نحن بارادة الفن يستخفنا سحره فنتواقع علي الرمال منتشين بموجة الزبد، و لعل ثرياك أكبر موجات الزبد الحائم في شاطي ء الفن المسحور.

ص: 463

قالت الثريا: فأنا في خيالك اذا - يا ابن أبي عتيق - بعض من غاية الكون في تفاعله الابدي، لانني بعض من فتنة الفن فيه... و راحت ترمق ابن أبي ربيعة...قال عمر: ماذا تقولين؟! لأنت و الله كل فتنة الفن ان كان هذا يفي بموقعك في قلبي، و لأنت كل غاية الكون ان كانت للكون غاية... فراحت تضحك في خفر، و كانت ضحكة تعبر عن نشوتها «فالغواني يغرهن الثناء»؛ و لم تلبث هنيهة حتي قالت:«لو أنا ناديتك و اعمراه فماذا تقول؟... و كأنها استخفته فهب يفعل كالمثوب. أقول. أقول: لبيكاه. لبيكاه. لبيكاه» و مد صوته...لاول لقاءة بين عبدالرحمن و قطام، مرت في مخيلته قصة أمسية الطائف و شعر بحلاوة الحلم، لو كان له من قطام من كان لعمر من الثريا.و كان أن رأت قطام منه ما رأي منها، و أحست بمثل ما اجتمع في أحاسيسه من أحلام، فقد تواصل بينهما هوي، و مشي بين فؤاديهما غرام، و لفهما وجد، و استدار علي قلبيهما جوي و هيام. كان في نقطة الدائرة قلبها، و في اطار الدائرة قلبه يدور و لا يدري من اين ابتدأ او الي اين ينتهي، و دائما يكون قلب المرأة من الثوابت، فهي غنية بالاغراء، و قلما تكون غنية بالحس، و هي قلما تتحرك بالحب، و لكنها دائما تتحرك بالكراهية و البغض.كان بينهما لقاء اثر لقاء و كم تمنيا لو أفنيا العمر في لقاءة سكري تضل عن صحوها، أو تدفع بهما في لا نهاية الفناء قبل فنائها.عند مهوي أحد الكثبان الذي حفظ لهما اول انتشاءة من غرامهما و آخر انتشاءة، كانا يحلمان و ما أصحيا الا علي صوت النعي أن وقعة النهروان ذهبت بكل الشيوخ و أكثر الفتيان، و ان تيار الارزاء جري علي كل بيت و غمر أعلي العرصات حتي أدني الاودية. فتمايلت معي النعي مرتعدة كما تمايلت قصبات الغور في حروف الاودية و المنعرجات، و انهمرت عيناها بالدموع المتناثرة تناثر

ص: 464

البرد، و ثارت ثائرة ابن ملجم علي لحن دموعها القانية.. و تحت عوامل الثأر الفائر و سورة الانتقام العاصف، آلي أليته الرهيبة لينتقمن لها و له و ليشفين نفسها و نفسه و ليقرن عينها و عينه!و طبيعة الجبروت في الرجل تأبي ان تظهر بمبالغاتها الا في فضاء نظر المرأة، كما تأبي طبيعة الاغراء في المرأة ان تظهر بمبالغاتها الا في فضاء نظر الرجل،كأنهما بعد تناحر طويل اصطلحا علي ان تستنيم المرأة الي جبروته، فهي تطالبه به في الخطوب، و علي ان يستنيم الرجل الي اغرائها، فهو يطالبها به في النشوات و هينمات الاحلام و دغدغات السكون الذي يتمدد في فضاء النفس باسترخاء.في دارة لا تبعد كثيرا عن الكوفة، تسارع اليها مفجوعون و مفجوعات، و للبثوا يرعدون و يبرقون تحت ايحاء الماساة الحمراء التي كانت تتصل باعصابهم فتحركها متصلبة متعقدة تشتهي لو تمددت خانقة ساحقة...قام الخريت بن راشد الناجي يخطبهم:لقد كبر علينا و الله مصرع اخواننا الابرار. و ما بقاؤنا بعدهم؟ انتظرون ان يتخطفكم جيش علي زمرة بعد زمرة و طائفة بعد طائفة؟ انه لا ينتظركم منه الا الموت، الموت الذليل الوضيع! الموت الغائل الزؤام! ألا فانفروا و موتوا في عقر الحراب و لا تموتن في عقر الديار!فهب القطري بن الفجاءة ينشدهم:اقول لها و قد طارت شعاعا من الابطال ويحك لن تراعي فانك لو سألت بقاء يوم علي الاجل الذي لك لن تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع و لا ثوب البقاء بثوب عز فيطوي عن أخي الخنع اليراع سبيل الموت غاية كل حي فداعيه لاهل الارض داعي و من لا يعتبط يسأم و يهرم و تسلمه المنون الي انقطاع و ما للمرء خير في حياة اذا ما عد من سقط المتاع

ص: 465

و وقف فروة بن نوفل الاشجعي فقال:ألا فاسمعوا: ان عليا أراد ان يتخذ من وقعة النهروان أمثولة رهيبة، يلوح بها في وجه خصمه فيفل غربه و يدخل الروع الي قلبه و يخذل عليه اعصابه، فبطش بنا تلك البطشة الساحقة.ان عليا في احوج ما يكون - و قد تهيأ لحرب خصمه - الي مثل جبار مرعد يعيد به الي الاذهان مثل رهبة معركة الجمل، و يدخل في روع خصومه مثل آثارها فيمتلئون ذعرا و خوفا، كما اراد ايضا ان يعيد الثقة الي نفوس جيشه، فقد عراها وهن وخور، و ان يعيد الثقة بالجيش و هو يقبل علي مغامرة كبري فاصلة.و علي لم يضربنا ضربته تلك في النهروان الا بعد ان بذل اقصي الجهد للعودة اليه او الفيئة الي مشاركته في نزال خصمه، و لقد ارخي لنا من عنانه حتي اخذنا سهل بن حنيف، و انتم تعرفون سابقته و لا تجهلون مكانه، فوجد اذ ذاك السبيل لتجربته، و هو و ايم الله قد أعذر.و لست اقول هذا تثبيطا عنه، بل احتياطا لدمائنا؛ و علي «لم يزل عندنا الشبهة و الشك»... و ها اني معتزل.فوثب الخريت يخفق برأسه و يبرق بعينيه و يرعد بصوته و يلوح بكلتا يديه: أدعوة الي النفاق و الكفر؟! انتفخ سحرك و جبنت و هدرت دماء الاطهار. ألا فميتة السوء لكم ان كنتم لا تنفرون! و ها اني نافر ثائر!فاشتعلت حماسة الشباب خصوصا، و اندفعوا في تيار اصواتهم كالجنون يرددون: الا فميتة السوء لنا ان كنا لا ننفر و ننتقم!... و انكشف الجمع عن اعتزال فروة الاشجعي بشهرزور، و نفار الخريت الناجي بالاهواز ثم بالاسياف.و لكن الشباب تنادوا الي بعضهم و والوا الاجتماع و ترتيب الخطط و برامج السير بالمؤامرة الانتقامية، فهم لا يستطيعون العمل جهرا، فليعملوا سرا، و ليعمدوا الي الغيلة.

ص: 466

و كان اكثر هؤلاء الشبان تحمسا، عبدالرحمن بن ملجم الذي اندفع بحفيظة الحب، و عمل كي يرضي قلبا بات معمودا... انه سيجازف كيفما شاءت المجازفة، و كيفما كانت خطورتها.أليس فيها ما يرضي محبوبته المفجوعة بأبيها و أخيها؟ أليست ستشيعه برعشات قلبها و خفوقه؟أما ستحتفظ له بذكري نابضة تشيع بين اهتزازاتها ابتسامة حب باكية و مني هوي كسيف؟في احساس ابن ملجم ان هذا كاف بل كثير، لا سيما و قد جعلت قتل علي مهر قلبها و حبها و جسدها؛ فليعترض اذا كل خطر، و لتقم في طريقه أية العقبات فهو لابد مقتحمها. انه لم يعد يفكر و لا يري سوي عروس احلامه تباركه و تنظر اليه بتشجيع و تخوف.أليست الآن تودعه و هي بين عاطفتين متصارعتين تهتز تحت عنيف صراعهما، ها هي تتكه ينطلق، مسرورة تحت فورة الثأر و الموجدة، ثم لا يكاد يخطو، حتي يطغي حبه في حنايا روحها فتنبعث و لهي وراءه، تشده اليها و تعتنقه اعتناقا عنيفا.انها بين عاطفتين قاسيتين بموقعهما علي قلبها، فهي تخاف عليه ان يفعل و تخاف منه ان لا يفعل. انها في حيرة يقظي ليس تغفي، و نفسها سكري تعربد. ظلت حينا بين سخاء به فتشرق علي وجهها ابتسامة راعدة، و بين بخل به فتتوله و تذوب ابتسامتها في موجة من الاسي الساهم. بيد أنها لم تطق فأعيت بين عواطفها المتناوحة، فاستندت اليه و جفونها غافية تحت أطباق من الدموع، غير انها رمقته أخيرا و قالت له في كثير من الخفوت:«التمس غرته، فان أصبت شفيت نفسك و نفسي و يهنئك العيش معي، و ان قتلت فما عندالله خير من الدنيا و زينتها و زينة أهلها»... لقد صح عزمها في النهاية علي الانتقام.

ص: 467

و انطلق ابن ملجم الي حيث كان جماعته ينتظرون عند الحطيم في مكة، و كان لا يسمع كيفما سار الا اصواتا رهيبة النأمات، فيتلفت يمينا و شمالا فلا يري شيئا و لكنه يقف كالمذعور يشده اليه موضعه آنا، و ينطلق آنأ كالهائم المسرور تتقاذفه طريقه مثل كرة، لقد غدا تحت ما تجيش به نفسه و يعتلج بين حناياه منها كالممرور، لم يكن من شي ء بين يديه و لا من خلفه و انما كانت تنعكس أصداء نفسه في أذنيه، و يسمع ضجتها في الخلاء حزينة او مغتبطة.انتهي الي اصحابه و أترابه «فتذاكروا أمر الناس، و عابوا علي ولاتهم، و ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم، و قالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم. اخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم و الذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا الرؤوس فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد و ثأرنا بهم اخواننا.قال ابن ملجم - و تعرض له طيف قطام يبتسم له و يباركه - أنا أكفيكم علي بن ابي طالب.و قال البرك بن عبدالله: انا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان.و قال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.. فتعاهدوا و تواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه حتي يقتله او يموت دونه».بعد ما غاب ابن ملجم عن عيني قطام، شعرت بغبطة لم تلبث ان مازجتها حسرة كانت تنساب الي قلبها علي شكل موجات متدفقة، و لم تلبث ان فارت و اصطخبت. فخفت الي الطريق الذي سلك تود لو أدركته، و لكنها توقفت و لم تسقط له علي اثر و لو في القتام. فظلت ترنو جاحظة و شفتها بين اسنانها، و ظلت تمسك و جيب قلبها بيد و تكفكف من غرب دمعها بيد، و طال بها المقام و لفها الليل كأنه يجلببها بثوب الحداد.سمعت بعد حين، ان عبدالرحمن هبط الكوفة فهالها ما سوف يقدم عليه، فضمت اليه من قومها رجلا اسمه و ردان، تمنت في أقصي عواطفها لو أنه سقط طعم الفريسة و نجا صيادها الحبيب المفدي.

ص: 468

ما لبث ابن ملجم ان لقي أصحابه في الكوفة و كاتمهم أمره، ثم سار الي «شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا و الآخرة؟قال: و ما ذاك؟.قال: قتل علي بن ابي طالب.قال: ثكتك أمك. لقد جئت شيئا ادا، كيف تقدر عليه؟قال: أكمن له في المسجد فاذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فان نجونا شفينا أنفسنا و أدركنا ثأرنا، و ان قتلنا فما عندالله خير من الدنيا و ما فيها.قال: ويحك! لو كان غير علي لكان اهون علي، قد عرفت بلاءه في الاسلام و سابقته مع النبي (ص) و ما أجدني أنشرح لقتله.قال: أما تعلم انه قتل اهل النهر العباد الصالحين؟قال: بلي.. فأجابه، و أتي الثلاثة الي قطام و هي معتكفة في المسجد الاعظم، فدعت لهم بالحرير فعصبتهم به و أخذوا أسيافهم و جلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي... قال محمد بن الحنفية: اني لأصلي تلك الليلة في المسجد الاعظم في رجال كثير من أهل المصر، ما هم الا قيام و ركوع و سجود ما يسأمون من اول الليل الي آخره، اذ خرج علي لصلاة الغداة فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة، الصلاة. فنظرت الي بريق و سمعت: الحكم لله يا علي لا لك و لا لأصحابك! فرأيت سيفا ثم رأيت ثانيا ثم سمعت عليا يقول: لا يفوتنكم الرجل! و شد الناس عليه من كل جانب، فأخذ و أدخل علي علي فقال:النفس بالنفس ان أنا مت، و ان بقيت رأيت فيه رأيي.. ثم التفت الي ذويه فقال: يا بني عبدالمطلب. لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل أميرالمؤمنين. قتل أميرالمؤمنين. ألا لا يقتلن الا قاتلي، انظر يا حسن، ان انا مت من ضربته فاضربه ضربة بضربة و لا تمثل بالرجل، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول: اياكم و المثلة و لو أنها بالكلب العقور... و لما أحس دنوه جمع اليه الحسن و الحسين فقال:

ص: 469

اوصيكما بتقوي الله و الا تبغيا الدنيا و ان بغتكما و لا تبكيا علي شي ء زوي عنكما، و قولا الحق و ارحما اليتيم و أغيثا الملهوف و اصنعا للآخرة و كونا للظالم خصما و للمظلوم ناصرا، و اعملا بما في الكتاب و لا تأخذكما في الله لومة لائم.. ثم نظر الي محمد بن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم. قال: فاني أوصيك بتوقير أخويك، العظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما و لا تقطع أمرا دونهما. ثم قال: أوصيكما به فانه شقيقكما و ابن أبيكما، و قد علمتما أن أبا كما كان يحبه... ثم لم ينطق الا بقول: لا اله الا الله. حتي قبض»...فليتها اذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر!خاض علي الكفاح الاسلامي و لم يدرك مدرك الرجال، و قضي في ساحة هذا الكفاح و هو أسمي الرجال...و كأنه بكفاحه أتم علي الاسلام كفاحه؛ فالنبي كافح الشرك، و علي كافح النفاق...و النبي ظفر بالمعركة الاسمة، و علي ظفر بمعركة التطهير الحاسمة أيضا...في كل عين أنت قرتها في كل جيل أنت علياه!شاء الحق أن يقدم في دنيا الناس نموذجه فكان عليا...و شاءت الانسانية العليا أن تعترض متألقة في أفق الأحياء فكانت عليا...و شاءت السماء أن لا تسلمه الي أطباق الثري المظلم، فاختارته مل ء عين الحق شهيدا!...

ص: 470

استعبر الحسن و توله الحسين ملتاعا فقد دقت ساعة مات فيها البطل...و أعوزه الدمع و لكن عليا لا يشيع بالدموع...فان تكريم البطل لا يكون الا بتضحية في بطولة و بطولة في التضحية...فبكاه و لكن لم يبكه بالدموع بل بالدماء الخالدات!...تنظم علي رأس الحسين الكليل أسي، و لكنه اكليل غار يعبر عن خالد المجد.. فقد ضم جده و أمه و أباه في احتباك و ضي ء...و كان شعاره أني سار و كيف سعي...و ظل الاكليل كأن فيه محلا لزهرة حمراء أيضا...فلم يلبث أن كان بنفسه تلك الزهرة الحمراء...و ظل الكليل الغار العظيم ذكري رائعة في ضمير الوجود!...استغرق الحسين في أسي مذيب و جري علي لسانه من مرثية أبي الأسود الدؤلي:اذا استقبلت وجه أبي حسين رأيت البدر راع الناظرينالقد علمت قريش حيث كانت بانك خيرها حسبا و دينا...ثم تمتم: لماذا؟ لماذا يقول «أبي حسين»؟...لا شك أن اباالأسود يناديني، يناديني أنا...و خليق بي أن أجيب النداء!...

ص: 471

في الهيكل

هجر الناس الي المسجد، و سئم الحياة الصاخبة و قد امتدت اليه بأرزائها، و اتصلت الي قرارة حوبائه بأسباب بأسانها، فما بشت في وجه الا قليلا، علي ان ذلك القليل لم يكن الا كالفترة بين تجهمين.بله فكرته عن الحياة و كانت لا تزيد في اعتباره عن مسرحية مرسلة ارسالا لا تتقيد بوحدة زمان و مكان، تسر في بعض منها و تشقي في بعض، و تضحك و تبكي و تلذ و تؤلم. و هي مع ذلك لا تؤلم حقيقة كما لا تلذ حقيقة، و لكنها تغري بالألم و اللذة اذا استجاب الي أشيائهما الشعور، فتلون بها و تعلق في الفكر رغبة تصديقها، و الا فهي في حقيقتها ضحكة نحن نفتعلها و نحن نعود فنصدقها و نؤكدها.أما أنها واقع فأبعد ما تكون عن ذلك، و الا فلماذا تكون مصائب قوم عند قوم فوائد؟.. و لماذا لا تمتلكنا مشاعر واحدة حيال الحادث الواحد؟أليس هو حادثا واحدا لا يملك هذا التباين، فمن أين جاء اذن؟ ان كان الحادث علة و المشاعر المتباينة تنشأ عنه بالعلاقة السببية، فكيف اختلفت؟و لماذا أقتنع أنا بأسلوب و منطق لا يقتنع بهما الآخر في زمان و مكان ليس

ص: 472

مختلفين؟ و يحس كل منا أن الواقع هو ما انطوي عليه و شعر به شعورا فكريا او معنويا.. أما يحس كل منا اذا اقتنع بأمر او برأي، أنه انتقل من واقع لم يعد له هذا الاسم الي واقع ليس سواه خليقا باطلاق الاسم؟ ألسنا لا نبتئس و نحن نعبث جذلين باشلاء الاعداء و دمائهم؟فالطبيعة الحية اذا تهدم العلاقة السببية في نفسها ثم لا نخضع لناموسها، و العلاقة السببية هي ظاهرة الواقع، فلا بدع بعد هذا ان كانت الحياة ليست واقعا او لا تعبر عن واقع في كثير او قليل.ان الحياة انما تجد واقعها في انفعالنا الضميري (1) او الوجداني، فكل ما لا يجد طريق انتهائه الي مركز الانفعال الضمري ليس بحياة. فلكي يكون اذا للعلاقة السببية عمل في الطبيعة الحية فتنتج وحدة أثر، لابد من وحدة زمان و وحدة مكان و وحدة حادث و وحدة ضمير، و هذه الأخيرة أهم الوحدات من حيث تجد الحياة الانسانية في بيدائها واقعها. فأشياء الحياة لا تجد حياتها و بعبارة أخري لا تجد حقيقتها الا اذا استجاب اليها الشعور، و الا فاين الألم و اللذة؟ و أيان تقوم المغريات و الفتون؟ فلنجرب اذن جيدا أن لا نصحب ألوان الحياة التي تمر بنا باستجابة الشعور، فتنقلب مسرحية تافهة القيمة.. و نحن من هذه المسرحية نفسها - و هي افتعالنا - نسر و نأسي اذا استجبنا اليها بشعورنا، فسر ما ينتابنا من شقاء الحياة او سعادتها قائم في الاستجابة الشعورية فقط، فالحياة ليست تملك سوي اسماء نحن نفرغ فيها مسمياتها. فاذا حلنا بين الشعور و الاستجابة، أدركنا سر الحياة و حقيقتها، و استشعرنا بهينمات الخلد، و انثنينا نتقلب في حياة ذابت عليها كبرياء أبدية السماء و كبرياء معانيها و أحلامها.. رن في أذن الحسين و هو في مذهب تفكيره هذا أو تأمله،... فلنتجرد! هلم الي الهيكل! الي محراب المعبد، محراب الروح و الجمال و الحب و الخير!ظل في حياة تموج بالنشوة و سكرة الحلم و حنين الروح و رفة الطهر و خفقة

ص: 473


1- 319. نعني بالضمير هنا المغمر اي المعني اللغوي دون المعني الاخلاقي، و كذلك الوجدان.

الحب، و ظل الناس خارج الهيكل يتقلبون في حياة نموج بالفتون و الشهوات و رشحات الاعصاب من لذة و ألم، و لكنها دنيا من السراب.كان كأنه في محرابه بيت القصيد في أنشودة الحياة، أو أنشودة الطهر في شعر الوجود..ظل في محراب الروح رانيا شاخصا زمنا طويلا، في حساب من دون حدود الهيكل، و ان كان في حسابه لم يفن اللحظة الاولي بعد، و هل في لحظة الاشراق وجود للزمن؟! ان لحظة الاشراق لحظة أبد، و أول اعتبار في الأبد الغاء فكرة الزمان منه.و في لحظة الاشراق سر الحياة، و لمكان هذا السر فينا لا نفتأ ننشد النشوة في الحب و في الفن. و لأن في لحظة الاشراق لحظة أبدية، لا يشعر المحبون بدنيا الحياة و ما اجتمع فيها ثم لا يشعرون بغير دنياهم، لقد انتشوا فهم يحلمون...في كل أشياء الوجود لفتات اشراق، و هي تتنادي بالحي الي التأمل لينجو من عباب السراب، قبلما يعتصر في الالتماع الساخر.ان لحظة الاشراق في الفن تنتهي بلحظة الاشراق في الحب، و لحظة الاشراق في الفن تنتهي بلحظة الاشراق في الهيكل اي التأمل، و هنا ترتفع سدود الشعور في القلب فتتدفق لجج الاشراق و في عبابها بات الحسين يطفو حالما يسمو به المد. انه نشوان. أليست حشاشته تنديها خمرة الله، تراب بفمي: انها تندي برحيق الأزل.بدأ الحسين لا يري شيئا الا رأي الله وراءه، و انتهي و هو لا يري شيئا الا رأي الله امامه، و معناه انه لا يري شيئا، فقد فنيت الظلال كلها في الاشراق.فلا بدع ان استوي قلبه علي قاعدته كما استوي فكرة عن نفسي القاعدة، و تملأ ضميره بالمثالية و شاع في وجدانه الحق بقضاياه العليا. فهو خصب الروح اكثر ما تكون خصوبة، و من فؤاده يتدفق نمير صالح الخير الانسانية و الانسان،

ص: 474

و تتفجر من أعماق نفسه ينابيع الفضائل. فظل مصدر نموذجات تشير الي المكارم التي قيل عنها: انها احلام الشاعر و أغنية العندليب، ألا لقد كانت هذه الأحلام العليا تشير الي الحسين و تقول: اني هنا!كان قد استطير قلبه بالحقيقة الآلهية فهو لا يفتأ ينشدها و يستغرق متأملا في بيداء جمالها، فكأنه و هو في المحراب قد أبرز المحراب فيه معناه. فلم يعد يمد خيال الانسان بل غدا يمد واقع الانسان، حين اضحي معني المحراب انسانا يعيش في الناس، فكان مثال الخير كل الخير و مثال الطهر كل الطهر، فلم يكن يري الا مصليا حتي كأن حياته جاءت علي مقدار الصلاة، و الا سخيا جوادا حتي كأن غاية الحياة في غاية الجود، و الا ممتطيا صهوات خيوله الي مكة كأنه يشعر بالحج أنه - مثلما نعبر اليوم - تسجيل للاسم في سجل التشريفات، و ليس اشهي الي قلبه من معاودة ذلك؟لذا كان الحسين، بجاذبية الروح، مهوي القلوب و ندي الأفئدة تحوم من حوله كأنها تروي غلتها، فقد سقط العطاش منه بعد التيه علي رقارق الينبوع، فما كنت تري الناس «الا عكفا حوله» منتشين، ينعمون بين يديه بالحنين الي المجهول «كأن علي رؤوسهم الطير».فكان محله من الناس محل جده النبي، تجد فيه الارواح الشاردة الحائرة ما تشتهي من طمأنينة و ما تشاء من سكينة. فاذا بعبد الله بن عباس علي مكانته يأخذ بركابه في شعور و دون شعور، و اذا قيل له في ذلك، قال «ان هذا ابن رسول الله، أفليس من سعادتي ان آخذ بركابه؟»... و اذا بأبي هريرة يسير و الحسين في جنازة فأعيا الحسين و قعد، «فجعل أبوهريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال: و انت يا اباهريرة تفعل هذا؟فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما اعلم لحملوك علي رقابهم!»... و اذا بعبد الله بن عمر «يري الحسين مقبلا و هو جالس في ظل الكعبة في جماعة، فيقول: هذا احب اهل الارض الي اهل الارض و الي اهل السماء اليوم».

ص: 475

و كان علي هذه المكانة لا تزدهيه كبرياء المتخايل، فان الكبرياء شعوره بنقص الذات و جبر لهذا النقص بالتظاهر، و ما حاجة العظيم الي الاثواب، و العظمة ذاتية تكون اكثر أسرا كلما كانت اكثر عريا.فالكبرياء مرض بين ان يكون في الذات او ان يكون في الادراك، و في كلتا حالتيها تعبر عن انها كشجرة الاوراق في الخريف او كزغب النعام في الاعصار.زعموا ان تفاحة نبتت في اصل شجرة بلوط فأطلت عليها من عليائها الشامخ بخيلاء و ازدهاء، و قالت: انت حقيرة، حقير جناك الذي تحملين، حتي صوتك حقير في نجوي النسيم ساعة ينطلق في السحر يغازل غانيات الاشجار و يسامرها... و انتفضت تصفق، فقد مر الريح يهدهدها و ذهبت تضحك متمايلة في سخرية و كبرياء. و هبت في اثر الريح اعاصير تزأر فطالت ضحكتها و استحالت قهقهة لم تزل تمتد، و لكنها انقلبت فجأة الي مثل حشرجة رهيبة انكفأت معها ترتطم بالارض عند قدم التفاحة، فمالت هذه عليها راثية تقول:لعلك الآن - ايتها الاخت - اصدق رمزا في الكبرياء..و مر سائر طريق جد به المسير فوقف عندهما تعبا ضاويا، و أهوت يده تطعم من ثمر البلوطة، فخبطته مرارة حادة فتقزز مستنفرا كالذي مسته أفعي و تزايد به الظمأ، و تلبث في حيرة طويلا قبل ان اخذ من ثمر الاخري، فاحلولي و شاع الري في جوانحه، فقال:مباركة انت! فانك تحملين عصارة الذات في شكل خدود الحسان، و أما أنت الاخري فبعدا لك! انك تحملين عصارة الكبرياء في شكل ثفر الجمال.! فسمعت كلتاهما حكم الحقيقة عليهما، فما تاهت احداهما و هي كبيرة الذات كبيرة الوجود، و قد تضاءلت الاخري و هي عديمة الذات كبيرة في العدم، و راحت و قد احتضرت عليها الكبرياء كأنها تنظر الي أشلائها ممزقة.. و قيل بعد حين ان المواقد انتهبتها، و حالت في الرماد و الدخان تقول ايضا: انني لم ازل كبرياء تعلو...!

ص: 476

«مر الحسين بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء. فنزل و قال: ان الله لا يحب المتكبرين. فتغدي ثم قال: قد اجبتكم فاجيبوني، قالوا: نعم... فمضي بهم الي منزله، و قال لخادمه: اخرجي ما كنت تدخرين».و الحسين كان و هو في الهيكل لا يفتأ يمعن النظر في حياة الناس و ان لم يكن يغشاها، يصلح فيها و يصلح لها حتي آذنه الهيكل بالخروج، كما خرج جده من غار حراء قبل، ليأخذ الحياة طبق قاعدة الاصلاح؛ فتحدته اوثان الاحياء فحاربهم منتشرين و مجتمعين.فالنبي الجد، من قبل، حارب الوثنية في الفكر و دحضها. و الحسين السبط حارب الوثنية في المجتمع، و هو و ان لم يدحضها، فقد رسم الطريق لحربها، و اباح ثورة التحرر علي أية صورها و اشكالها.ذابت حقيقة الحياة في القشور...و راح الاحياء يتعلقون منها بالغثاء و الظلال...في نشوة كنشوة الخمر تعبر عن انها باطلة، تمد بالعربدة دون ما أحلام!..و قليل هم الذين نفذوا من القشور الي اللباب...فطعموا الحياة التي هي هبة الابدية...فاستعلوا و وقفوا علي هام القشور ينظرون الي العلاء...و تحدث هؤلاء انهم رأوا عند افق الابدية انسانا يمعن في السماء...عرفوا في طلعته انسان الهيكل الذي اغراهم باللحاق!...

ص: 477

في وجه الظلم

في جوف الليل العميق عميق الأبدية و المجهول حين كان الظلام ينتشر علي شكل أردية فاحمة، تلفع وجه الكون و تلقيه في سكون حائر و سبات و اجم مخيف، انطلقت أنة تتبعها أخري و أخري في تلاحق بدأ بطيئا ثم كر سريعا، و كانت أنات تسمع جريحة و يخيل أنها تري دامية كليمة، تجتمع فتشكل صرخة باغتة او بغتة صارخة، و تتوزع متقطعة متناوحة فتؤلف لنا فانيا، كأنه لحن التلاشي المحتضر او نغمة القناء الذائب في افواه القبور.أصغي الحسين الي ما يتناهي في سمعه و مال بأذنه كأنه يسأل: ماذا؟! و قد خف قلبه اليها يسابق السمع، و لكن النأمات اختلطت فأدار اذنيه كلتيهما الي الجهات كلها، وهفا قلبه يتوثب يمينا و شمالا، بيد أنها ظلت تقول في منطق الصدي: أواه! و ظل كأنه يقول: ماذا؟ و اختلطت الآهات و انبهمت.. فهب يشتد خارج الهيكل مستطلعا و هو يردد:الليل ليل، و هو ويل ويل و سال بالقوم الطغاة السيل ويل للظلم و الظالمين، «الظلم ظلمات يوم القيامة».أطل من الهيكل و أطلع رأسه و الناس متجمهرون علي بعضهم كالغمام المرف

ص: 478

يقولون: أفي كل يوم ضحية جديدة و دم يطل؟ أفي كل يوم تمزق أكباد و تنثر أشلاء؟لقد جاء النعي بأن حجر بن عدي طل دمه منذ ليال في نفر من صحبه، و هؤلاء وجوه اهل الكوفة يستصرخون و ينتصفون.قال الحسين: رباه ما اسمع. أحجر يقتل و لا نصنع شيئا؟ فيا حياة أشيحي و اغربي، و يا دنيا الآثمين ذوبي و اضمحلي!و كان قد آذنهم الفجر بالصلاة فعاجوا الي المسجد و التأموا صفوفا، و ما انصرفوا حتي تحلقوا علي شكل دوائر في بعضها... فقام رجل من أهل الكوفة فقال:ايها الناس: أنتم هنا في المدينة بقية اصحاب النبي، و اليكم تتجه الانظار من كل مكان و الي ظلالكم يفيئون قصد تطهير المجتمع من الأدران.انتم هم الانصار، و بينكم ترعرعت النبوة و اشتدت قوادمها و ربت خوافيها. فاستوي النسر و حلق صعدا في كل مجال، و ارتعدت فرائص البغاث و أهوي الخفاش الي الحفائر يستخفي. و لقد عاد النسر الآن الي و كره و أخذه رقاد عميق، فاستنسر البغاث وعدت الهوام في كل مكان. ان المدينة هي نسر النبوة، فأهيبوا بالنسر الي التحليق لترتعد الهوام من جديد، و تنسحق في الرغام ابدا.ألا فأنتم حفظة الوحي، و حامو ذمار الرسالة دون العابثين. ألا لقد ارتد ألمجتمع الي جاهليته الرعناء، و لكن بأثواب أخري تتماوج من خلالها، و ليت هذا فقط، انه ضم الي جاهليته قبل الرسالة جاهلية كل أمة و كل قبيل.انظروا! انظروا! لقد بعث محمد عدوا للملكيات؛ فبتنا نتقلب في أردا أشكالها. و علم محمد ضرورة الحد من طغيان رجال المال؛ فصارت كل القوي في ايديهم. و أطلق محمد حرية الفرد و أعطاه الحق بالحياة كيف شاء في حدود الصالح الاجتماعي العام و في حدود الاخلاق المسلكية و الضمير الانساني الشامل؛ فاذا بنا نحيا في استعباد اجتماعي منكر، حتي لقد تناهوا فانتزعوا حق الحياة

ص: 479

من ايدينا، و باتوا ينعمون علينا، اذا شاءت شهواتهم، بقدر حقير بليد من الحياة البائسة الشقية؛ و أفضل منها الموت خطة، و الله.و ضج الكنديون من أطراف الجموع و بينها: يا لثارات حجر! و انطلق المتكلم الكوفي يصل ما انقطع ملتاعا مهتاجا: لقد أذكرتني ثاراتهم مصرع حجر بن عدي الكندي؛ و من يجهله؟ لقد كان من اكبر أعلام الرجال و نقطة الفضل منهم، فقد صحب النبي و أظهر أروع انواع البطولات في فتح الشام مع أبي عبيدة. و كان من خبره «أن معاوية لما ولي الغيرة بن شعبة الكوفة سنة احدي و أربعين، دعاه و أوصاه بشتم علي و ذمه و العيب علي أصحابه و الاقصاء لهم، و باطراء شيعة عثمان و الادناء لهم و الاستماع منهم. فأقام المغيرة عاملا لمعاوية سبع سنين و أشهرا، لا يدع ذم علي و الوقوع فيه و الدعاء لعثمان بالرحمة، و التزكية لاصابه و المطالبين بدمه.فكان حجر اذا سمع ذلك قال: بل اياكم فذمم الله و لعن... ثم قام فقال: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، و أنا أشهد أن من تذمون و تعيرون لأحق بالفضل»... ألا لقد كان ذلك من معاوية سياسة تدل علي عدم فهم جيد لنفسية الجماهير و عدم تغلغل بين حناياها و في خلالها، فقد كان في هذا التنقص مما يكفي لبعث الدفائن و اذكاء نار الحفائظ اذكاء جهنميا ساجرا، قد يأتي علي أركان الدولة و يطوح بها شر طياح، كما يجعل كل نفس تنطوي علي أحقاد طامسة تروح و تغدو في ائتمارات تروي بها سخائمها. نعم هي حماقة و ان كان يرمي بها الي جملة غايات:(أ) التشفي و توكيد ما سبق و نشره من دعايات ضد علي في الشام و سائر مناطق نفوذه.(ب) بث عقيدة سيئة تنمو مع الايام لدي الناس في البطل الاسلامي الخالد علي و في بنيه، و بذلك يأخذ الطريق دونهم اذا راموا محاولة من نوع المحاولات الكبري، فقد سمم الجو عليهم؛ و غير خفي ان الآراء و المعتقدات انما تنشأ بالتلقين و التكرار و المعاودة.

ص: 480

(ج) تحريك أنصار علي للتمرد و استثارتهم للشغب علي رجال الدولة و الدولة، و بذلك يجد السبب لادانتهم و أخذهم واحدا بعد واحد، و هذا ما وقع لحجر بن عدي و جماعة كبري هنا و هناك.و لكن رغم أنها تقصد الي كل هذا، فقد كانت سياسة هوجاء أعشي فيها عنصر الانتقام علي قصد السلم الضروري اذ ذاك، لايجاد حالة تواصل صحيح مخلص بين الدولة و الشعب.و المغيرة كان الي ذلك حسن التأتي فهو يفعل ما يأمر به مرجعه، و يترك للناس حريتهم في التعليق كيف شاؤوا. «و لما هلك سنة احدي و خمسين، جمعت الكوفة و البصرة لزياد بن سمية، فصعد المنبر و ذكر عثمان و اصحابه فقرظهم و ذكر قتلته و لعنهم، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة؛ و رجع زياد الي البصرة، و ولي الكوفة عمرو بن الحريث، فبلغه أن حجرا يجتمع اليه شيعة علي و يظهرون ألمهم و البراءة من معاوية و عمله. فشخص الي الكوفة و خطب الجمعة و أطال الخطبة و أخر الصلاة، فقال حجر: الصلاة! فمضي في خطبته. ثم قال: الصلاة! فمضي في خطبته، فلما خشي فوت الصلاة ثار اليها و ثار الناس معه. و لم يسع زيادا الا النزول و الصلاة بالناس، و كتب الي معاوية في أمره فكتب اليه معاوية: أن شده في الحديد ثم احمله الي... فاخذ زياد حجرا و حبسه ثم حمله الي معاوية، فلما دخل عليه سلم فقال له: و الله لا اقيلك و لا استقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه... فقال حجر للذين يلون امره:- دعوني حتي أصلي ركعتين!قالوا: صله... فصلي ركعتين خفف فيهما، ثم قال:لولا ان تظنوا بي غير الذي انا عليه لأحببت ان تكونا أطول مما كانتا، و لئن لم يكن فيما مضي من الصلاة خير فما في هاتين خير.. ثم قال لمن حضره من أهله:لا تطلقوا عني حديدا و لا تغسلوا عني دما، فاني ألاقي بها معاوية غدا علي

ص: 481

الجادة»... ثم تتبع اصحابه واحدا بعد آخر فقتل عمر بن الحمق و رفاعة بن شداد الي كثير كثير لا يحصون.ألا يا سبط محمد! ان مبادي ء محمد تناديك، و قرآن محمد يهيب بك، الي العمل، الي العمل السريع، فلم يعد في القوس منزع، و لا في الصبر معتصم فقد تشقق الحزام علي الطبيين، أو تهر في مثل نسيل الزغب.و هبت تعول اخت حجر بن عدي بقولها:ترفع أيها القمر المنير لعلك ان تري حجرا يسيريسير الي معاوية بن حرب ليقتله كما زعم الخبيرتجبرت الجبابر بعد حجر و طاب لها الخورنق و السديرو اصبحت البلاد به محولا كأن لم يأتها يوم مطيرالا يا حجر حجر بني عدي تلقتك السلامة و السروراخاف عليك.. ما اردي عديا و شيخا في دمشق له زئيرالا يا ليت حجرا مات موتا و لم ينحر كما نحر البعيرفان يهلك فكل زعيم قوم الي هلك من الدنيا يصيرو علي اثر ذلك قام قيس بن فهدان يقول و هو مفعم الحزن كالذي فقد كل ذويه او كل بنيه:يا حجر يا ذا الخير و الأجر يا ذا الفضائل نابه الذكركنت المدافع عن ظلامتنا عند الظلوم و مانع الثغركانت حياتك اذ حييت لنا عزا، و موتك قاصم الظهريا طول مكتأبي لقتلهم حجرا، و طول حزازة الصدرقد كدت أصعق جازعا أسفا و أموت من جزع علي حجرفدمعت مقلتا الحسين، و قال بصوت بينه و بين نفسه: لولا ببعة سبقت لسرت بالناس، وثرت بالظالمين، حتي يحكم الله بيني و بينهم، و الله خير الحاكمين.

ص: 482

و بينما هم جلوس لم يتفرقوا بعد، جاء البريد بكتب الي الحسين و عبدالله بن عباس فكان هذا أسرعهما الي فض الكتاب. فاذا بزياد «يعتذر في شأن حجر و أصحابه، فألقي الكتاب راجفا مرتعدا و هو يقول كذب! كذب! ثم أنشأ يحدث: اني حينما كنت في البصرة كبر الناس بي تكبيرة، ثم كبروا الثانية و الثالثة، فدخل علي زياد فقال:هل انت مطيعي يستقيم لك الناس... فقلت: ماذا؟فقال: أرسل الي فلان و فلان ناس من الاشراف، فاضرب رقابهم فانه يستقيم لك الأمر.. فعلمت أنه صنع بحجر و أصابه مثل ما أشار به علي».و كان علي المدينة يومئذ مروان بن الحكم فترقي الخبر اليه، فكتب الي معاوية «يعلمه ان رجالا من أهل العراق قدموا علي الحسين و هم مقيمون عنده يختلفون اليه.. فكتب معاوية الي الحسين:أما بعد: فقد انتهت الي امور عنك لست بها حريا، ان كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، و لعمر الله ان من أعطي الله عهده و ميثاقه لجدير بالوفاء، و ان أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته، من كان مثلك في خطرك و شرفك و منزلتك التي أنزلك الله بها. و ان كان الذي بلغني باطلا، فانك انت اعدل الناس لذلك. فعظ نفسك، و بعهد الله أوف، فانك متي تنكرني انكرك، و متي تكدني اكدك. فاتق شق عصا هذه الامة، و أن يردهم الله علي يديك في فتنة. فقد عرفت الناس و بلوتهم، فانظر لنفسك و لدينك ولأمة محمد، و لا يستخفنك السفهاء و الذين لا يعلمون».و كان وقع كتاب معاوية عند الحسين و هو يري من مهازل الحكم و مآسيه وقع النار في الهشيم، فما تلبث حتي كتب الي معاوية كتابه الخالد الذي كان وثيقة اتهامية خطيرة للسلطات العليا و قائمة احصاء بالاعمال الاغتيالية التي ارتكبتها، و كان الي هذا استجوابا و انذارا شعبيا، قال:«اما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر فيه، انه انتهت اليك عني امور انت

ص: 483

لي عنها راغب و انا بغيرها عندك جدير، و ان الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد اليها الا الله تعالي.و أما ما ذكرت انه رقي اليك عني، فانه انما رقاه الي الملاقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجمع، ما أردت لك حربا و لا عليك خلافا، و ان كنت لأخشي الله في ترك منك و من الاعذار فيه اليك و الي أوليائك القاسطين.. الست القاتل حجر بن عدي اخا كندة و اصحابه المصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و لا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة و المواثيق المؤكدة، جراءة علي الله و استخفافا بعهده؟ او لست قاتل عمرو ابن الحمق صاحب رسول الله العبد الصالح الذي ابلته العبادة، فنحل جسمه و اصفر لونه، فقتلته بعد ما أمنته و اعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟ او لست قد سلطت زيادا علي الناس يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم و يسمل أعينهم و يصلبهم علي جذوع النخل، كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك؟ او لست قاتل الحضرمي الذي كتب اليك فيه زياد أنه علي دين علي، و دين علي هو دين ابن عمه الذي اجلسك مجلس الذي انت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء و الصيف؟و قلت فيما قلت: انظر لنفسك و لدينك و لأمة محمد، و اتق شق عصا هذه الأمة و أن تردهم الي فتنة. و اني لا أعلم فتنة أعظم علي هذه الأمة من ولايتك عليها، و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد أفضل من أن أجاهدك، فان فعلت فانه قربة الي الله و ان تركته فاني أستغفر الله لديني و أسأله توفيقه لارشاد أمري.و قلت فيما قلت: اني ان أنكرتك تنكرني و ان أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فاني لأرجو أن لا يضرني كيدك، و أن لا يكون علي أحد أضر منه علي نفسك. لانك قد ركبت جهلك و تحرصت علي نقض عهدك، و لعمري ما وفيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلهم بعد الصلح و الأيمان

ص: 484

و العهود و المواثيق، فقتلتهم من غير ان يكونوا قاتلوا و قتلوا. و لم تفعل ذلك بهم الا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا.فابشر يا معاوية بالقصاص و استيقن الحساب، و اعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا أحصاها. و ليس الله بناس لاخذك بالظنة، و قتلك أولياءه علي التهم، و نفيك أولياءه من دورهم الي دار الغربة. ما أراك الا قد خسرت نفسك و تبرت دينك، و غششت رعيتك، و اخربت أمانتك، و سمعت مقالة السفيه الجاهل، و أخفت الورع التقي، و السلام».كان جديرا بهذ الكتاب ان يحرك في هيئة الحكم ضمائرهم و يردهم عن غواياتهم، و يضع حدا لسياسة الدماء أو علي الاقل يخفف من اساليب البطش و الاعتساف. فان صلة الراعي بالرعية صلة العاطفة المخلصة، و كلما كانت صلة المنفعة الخالصة فهناك يوجد افظع شكل من اشكال اللصوصية و الاغتصاب.نعرف ان احصاء الاخطاء علي المخطي ء يدفعه نفسيا الي تصحيح الخطأ، الا اذا بنيت النفس علي الشذوذ، كمن يتعطش الي الدماء بما فيه من وحشية كامنة، فهذا يحس بلذة في نهر الدماء و اهراقها و تأخذه نشوة خفية بتردادها و تعدادها. الا اذا استحال حب الذات الي فكرة ثابتة، فيستحيل الخطأ الي صفة نفسية ثابتة ايضا هي قصد الخطأ، فلا يزال صاحبها يقصد الاخطاء و يفعل الاجرام بمحض الرغبة في توفير شهوات الذات و تنمية كبريائها.و هذا ما قد حدث بالفعل في حاشية معاوية، فلم يكن للكتاب من أثر سوي ما عبرت عنه رواية التاريخ أبلغ تعبير: «لما قرأ معاوية الكتاب قال:لقد كان في نفسه ضب ما أشعر به.فقال يزيد: يا اميرالمؤمنين. اجبه جوابا يصغر اليه نفسه تذكر فيه اباه بشر فعله... و دخل محمد بن عمرو بن العاص، فقال معاوية:أما رأيت ما كتب الحسين؟

ص: 485

قال: و ما هو؟.. فأقرأه الكتاب. فقال: و ما يمنعك أن تجيبه بما يصغر اليه نفسه. قال يزيد:أرأيت - يا أميرالمؤمنين - رأيي؟! فضحك معاوية و قال:اما يزيد فقد أشار علي بمثل رأيك.قال محمد: قد اصاب يزيد.قال معاوية: أخطأتما. أرأيتما لو اني ذهبت لعيب علي، فما عسيت أن اقول فيه، و متي ما عبت رجلا بما لا يعرفه الناس لم يحفل به و لا يراه الناس شيئا و كذبوه، و ما عسيت أن أعيب حسينا و الله ما أري للعيب فيه موضعا. قد رأيت أن أكتب اليه أتوعده و اتهدده، ثم رأيت ألا أفعل».بعد هذا لم يسع الحسين الا أن يشرف كثيرا من دنيا الهيكل التي يتحنثها و يحياها، الي دنيا الناس التي تعج بمجموعة الاحياء و تختلط و تمور بالبغي، يصلح منها ما وسعه اصلاحه و يحد ما استطاع من طغيان السلطات علي الجماعات و الافراد.و يظهر أن السلطة في كل مكان كانت قد اتخذت لنفسها منهاج عمل شاذ، فهي تسعي للحيازة ما وسعها دون التقيد بقانون أو نظام، فضاعت حقوق الضعفاء ضياعا تاما، و اضطر الافراد الي استعمال وسائل قوتهم للاحتفاظ بحقوقهم أو دفع عادية الضيم عنهم، حتي اضطروا اخيرا الي احياء الوسائل الشائعة و اعتمادها قبل نشوء الحكومة النظامية من مثل ما يسمونه «حلف الفضول»، و هو يعبر عن تكتل أفراد أو جماعات علي وجهة نظر تتعلق بالخير و حماية الضعيف. و تكون مثل هذه الوسائل ضرورية في غير وسط الحكومة النظامية بالطبع، و لكن الحاجة اليها في وسطها معناه أن الحكومة نفسها باتت خطرا علي الأمن و الحقوق«كان بين الحسين و بين الوليد بن عتبة، و هذا يومئذ أمير علي المدينة، منازعة في مال كان بينهما، فتحامل علي الحسين في حقه لسلطانه. فقال الحسين:

ص: 486

احلف بالله لتنصفنني من حقي أو لآخذن سيفي، ثم لا قومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول!فقال عبدالله بن الزبير و هو عند الوليد: و أنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتي ينصف من حقه أو نموت جميعا.. و بلغت المسور ابن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك، و بلغت عبدالرحمن بن عثمان التيمي فقاله».. و يظهر أن الخلاف رفع الي معاوية و استصرخه الوليد علي الحسين، فكان من معاوية تدخل، و كان منه ميل بالضرورة الي جانب الوليد.«فقال الحسين لمعاوية: اختر مني ثلاث خصال، اما أن تشتري مني حقي، و اما أن ترده علي، أو تجعل بيني و بينك ابن عمر أو ابن الزبير، و الا فالرابعة و هي الصيلم.قال معاوية: و ما هي؟قال: اهتف بحلف الفضول.. ثم قام فخرج مغضبا، فمر بعبدالله بن الزبير فأخبره فقال: و الله لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدن، أو قاعد لأقومن، أو قائم لأمشين، أو ماش لاسعين، ثم لتنفذن روحي مع روحك أو لينصفنك! فبلغت معاوية فقال: لا حاجة لنا بالصيلم.. ثم أرسل اليه: أن أبعث فانتقد مالك، فقد ابتعناه منك».ان حلف الفضول كان يعبر عن ثورة منظمة غير هائجة و لا متخطبة، دائمة الحياة دائمة الترويع، يطلقها الشعب بمقدار و يضمها بمقدار، يجمعها الصالح الاجتماعي كما ينشرها هو أيضا في تقدير موزون.في جسم الباطل حاول الحق أن يجد نقطة يتركز فيها...و ما هو حتي امتد و تفرع، و أخذ علي الباطل سبيل امتداده...فذهب في ضمور شيئا وراء شي ء، و ضاقت به الحياة فلفظته...

ص: 487

و اذا به يبحث عن وجوده في عراء العدم، و هو خضم لا يمد بالوجود...في المحيط الملح ينبثق نبع عذب يكون بيئة اللآلي ء...فأغري المحيط بلآلئه فراح يعتصر طبيعته في مثلها...و لكنه تمخض طويلا و انكشف عن حصي تارة، و تارة عن دنيا من الملح المرير..في لوح حالك وقعت نقطة نور...فنشرت أشعتها، و كان السواد أكثر اظهارا لطبيعتها، و ابداء لما اجتمع في وجودها من سني و سناء...و راح السواد كلما تغيظ و بالغ في اظهار طبيعته، يضيف الي كوكبة النور جدة اشراق...و كان كلما ذهب يقول: «أنا» يشرق بحسك الشعاع و أشواك الضياء، فتحتضر كلمته دون لسانه...فلم يقع في سمع الحياة، الا كلمة قالتها كوكبة النور، و مشت بها الحياة في التاريخ، و رجعتها أبدية الضمير...

ص: 488

مع ارنيب

هناك علي شاطي ء دجلة في زاوية خليج البصرة، كانت «الأبلة» (1) مهوي متماجنين و متماجنات، و مهبط وحي الهوي و الشباب، و ملهي كل فتي و فتاة بلور المرح طبيعتهما ثم أطل ينظر الي صورته فيها. و ليس في حس هؤلاء عن الحياة، سوي انها شي ء يحلو و يلهو، كانداء السحر في شفاه الاقاح و الياسمين، و كلؤلؤات الطل في خدود الورود و الرياحين... فهم يفنونها سكري مرح و نشاوي مجون... و لا يطيف بسمعهم سوي نغمات تتناهي متلاشية في هذا القرار:يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب ففي أعماقهم صوت يهيب بهم الي التجنيح في فضاء المراح، و الفناء في لا وعي الظرف الغزل... و هل الحياة من واجهة الشباب سوي اغراءة تقوم في اللهو العابث الي اخري تستوي في المجانة اللاعبة؟ ثم هل الدنيا سوي اغراء متجلبب باغراء، يبالغ في اسره حتي ليستدني اليه من احتضر الشباب في قلوبهم بالعمر أو بالفكر، فيستويهم و ربما استغواهم أيضا بما يتنفس به من خلب:ان بالحيرة قسا قد مجن فتن الرهبان فيها و افتتن ترك الانجيل حينا، للصبا و رأي الدنيا مجونا... فركن

ص: 489


1- 320. نهر الابلة كان منتزها معدودا في جنات الدنيا الثلاث.

هذه قصة شاب احتضر الشباب بين برديه بفكرة التقوي، و لكنه أطل الي الحياة من كوة المعبد المتكلل بالصمت الوقور، فرأي ما تجيش به من اغراء و ما يتموج فيها من فتون. فملأت عليه نفسه و استوت طيوفها في ناظريه، فاستيقظ شبابه الغافي و مشت روح الشباب تتراقص في قلبه سكري.مضي في ظنه ساخرا.. يجرب هذا المجون حينا فقط و يروي ظمأة الصبا المكبوح، ثم يعود فيحمل كتاب تقواه. بيد أنه رأي الدنيا لا تتكشف الا عن مجون. و كلما نضت ثوبا مسته لمسة فتون، ودب في حناياه عن شواظ الشباب طائف جنون، فكان طبيعيا أن ركن... و اذا بفكرة التقوي لديه تنقلب هي التجربة، و يستنيم مسترخيا علي متن موجة مزبدة، من مجانة هذا الوجود المسحور. بهذا كان يتحدث «الدلال (1) » في جمع من ظرفاء الحجاز جمعهم التصادف في الأبلة بينهم أشعب، فقال له هذا:من ثم لم يكن من همك أبدا الا جمع الرجال الي النساء، و مل ء الدنيا بصخب المجون و عربدات الجنون. ان كل هذا رأيك فعسي أن تضع الاقدار في طريقك صاحبنا الاعرابي الشوهة، فتمع حوباء قلبك بالمجانة اليه أسخن الله عينك، ان المجون لا يملح الا مع جمال أو ظرف... فقهقه الدلال، و انقلب الصحب يسائلون أشعب عن خبره فحدثهم:دخلت يوما علي الحسين بن علي، و عنده «أعرابي» قبيح المنظر أشد ما يكون قبحا، مختلف الخلقة مشوهها، فسبحت متأففا، و زاد بي التأفف، فقلت للحسين: بأبي أنت و أمي. أتأذن لي ان أسلح عليه... فابتسم يظن أن الاعرابي يعرفني بالمزاح فيحتملها مني.فقال الاعرابي متهكما: ان شئت.. و معه قوس و كنانة، ففوق نحوي سهما، و واصل: و الله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها.. و انقدحت عيناه، و لمست

ص: 490


1- 321. شخصية فنية غزلة، و كان يتعاطي سمسرة الزواج، و له اشبه ما يسمي اليوم بمكتب الزواج، راجع اخباره في الاغاني.

منه الجد في الشر، فقلت، للحسين: جعلت فداك. أخذني القولنج و عسر الخروج!» و طفق الصحب يضحكون في رنين متجاوب طويل.كان يوما مفعما بسيل من غرانيق الفتيان و غواني الفتيات، هذا النيروز.. حتي كأن الحياة اتخذت فيه معروضها، فأطلعت أقصي ما في ابداعها الفني من آيات الجمال الناطقة بالهوي و الداعية بألق الاغراء الي الحب، و المشيرة بأسر السحر في العيون و الشفاه الي فردوس الخلد السعيد؛ و لا عجب فنهر الأبلة معدود أحد مسارح الجنان علي الأرض في حس هؤلاء.و كان يزيد - الشاب الطرير الذي بالغ فيه نزق الشباب و ذاب في لعابه - قد ذهب موغلا في الصحراء منذ حين يصيد الظباء، و يتبع آثار السوانح من الجآذر و الآرام و الوعول و الأيائل كيفما ذهبت و انعرجت. و لذته المطاردة و أخذته نشوتها، فمضي يلهو و لا يألو، و زمرة لهو تتبعه، انه لا يلوي علي شي ء في مداه.لم يشعر الا و هو بين جموع اللاهين في نهر الأبلة، فالتفت يضحك الي رفاقة متعجبا. لقد قطعنا صحراء الشام الي العراق و نحن لم ندرك... و مال يربت علي كتف ترب من أترابه ضاحكا منتشيا، و يتأبط ذراع هذا، و يدفع ذاك لاهيا عابثا. انه يحس بحياة جديدة و دنيا جديدة.راح يتنقل بين الجموع و في اثره «سرجون» راعي طفولته و صباه، و لكنه وقف فجأة عند سرادق منيف عرف انه سرادق امير العراق عبدالله بن سلام القرشي. فقد أخذته بغتة وجه غانية نصف، كبغتة بدر انشق عنه الغمام و استعري دونه لل بهيم حالك فرج نفسه رجا عنيفا و تلبسه دوار الجمال الذي مال يتلاشي بطيئا لينكشف عن غفوة في حب القلب و تلهف العقل السليب، مده يقظة في الغرائز المفعمة.كان في خياله وجه يتنفس بمثل عبق الزهر، و عينان تبثان مثل السحر، و شفتان تنطلقان بمثل ذوب الغرام. و زاده بها أن قلبها لا يتجاوب بصدي عواطفه،

ص: 491

فتدور عاطفته نصف دورة و تنكسر متلاشية فلا تتم دورتها، بل تمحي رسومها في انبهام كالح و غموض يائس منجهم و تغور فيه ضجيج الانتحار..و المرأة تزيد فيها جاذبية الأنوثة نضجا و رواء اذا أضحت زوجة، فقد انحسرت أكمام طبيعتها المغلفة تنشر أريجها كالزهرة مياسة ناعمة في الهواء. ان المرأة تحس بشي ء مبهم و هو جوهرة الانوثة في أقصي كيانها، فهي ترعاه بسياج الحياء كأنها تحتضنه، فاذا استحالت زوجة فقد استحالت الآن فقط أنثي كاملة المعني. لقد أضحت لؤلؤة الانوثة الخبيثة في حقاقها و المنطوية عليها صدفتها، و هي حلية منشورة.فيما بعد عرف يزيد عن عروس أحلامه هذه، أنها أرينب ابنة اسحق الامير، و سيدة السرادق. فعرضت في خاطره كلمات متقطعة هاذية فراح يحدث نفسه:كيف لي بها؟ بيني و بينها هوة سحيقة و مسافة تزيد مع الايام تنائيا و بعدا...و تلبث زمانا لم يكن بالقصير، يرود مغناها و يراود قلبها، و لكنها عربية الاعراق و ان كان هو الشاب النضير، فبينها و بين قرينها ما شاء الهوي العبق و ما شاءت سعادة الازواج الخلطاء.بات كاسفا أرقا يردد و لا يفتأ:و في الحي نعم قرة العين و الهوي و أحسن من يمشي علي قدم نعم و تخوف مربيه سرجون فزين له الرجوع الي الشام لعله يسلو، فأجابه و عاد بصحبه يريدون دمشق. و بينما هو آخذ بمحاجز الصحراء و مفاوزها، حانت من يده لمسة وقعت علي قوسه الذي فصل في غدوه يصيد به الظباء، فتذكر ريمه الذي صاده.. فشد القوس اليه و اعتصره بين يديه في ثورة قلب:حطم القوس علي صحرائه و اتكي يسقيه من ماء الشكاةأيهذا القوس أنت مثل مثل قلبي، حطمته العاصفات و سأحييك بمنهل الدموع انما دمع المحبين حياة...

ص: 492

لم يزده بعاده في دمشق الا كمدا و أسي و لم يورثه الهجران الا لهفة و جوي، شأن الذين يحبون بغرائزهم؛ فعواطفهم أبدا تكون عنيفة مهتاجة علي الذكري لأنها وحي الأعصاب... بينما العواطف اذا كانت من وحي القلب أو حاسة الفن فانها تذكو و تسمو بالتلهف العاطفي، فالحب الذي يكون عامله القلب أو حاسة الفن، يذهب في استحالات متواصلة: عذريا، فمثاليا. بينما حب الاعصاب يشتهي أعصابا و جسدا فقط، يهيج بالفراغ، و يهمد بالامتلاء.فتناهي «أمر يزيد الي ضمور» و سلوي المتع و الانكماش علي نفسه في أي مكان اشتمل عليه.. فهذا الذي كان يملأ القصر لهوا و مرحا، و يقطع الليل عربدة سكري، و يزين معاني الانس بشاشة و حبورا.. و الذي لم يكن من همه الا أن يقطف من رياض الغواني الكواعب باقات زنابق و ورود، و يهتصر منهن غصونا لدنة، و يعتصر عليهن رمانا شهيا، غدا ذاهلا ذهول المقبل علي الموت، ضاويا كأنه نضو فلاة أو منزوف دماء، حبيس هوي و مبلس خيال، غير شهي الي شي ء من ملاهيه التي كان لا يستطيع عنها صبرا و لها مجانبة و في انتهاجها احتشاما. حتي اضطر معاوية أن يزجره في رفق و يأخذ عليه تهتكه في تحيل، فقال:«يا بني: ما أقدرك علي أن تصير الي حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك و قدرك، و أنشده:انصب نهارا في طلاب العلا و اصبر علي هجر الحبيب القريب حتي اذا الليل أتي بالدجي و اكتحلت بالغمض عين الرقيب فباشر الليل بما تشتهي فانما الليل نهار الأريب كم فاسق تحسبه ناسكا قد باشر الليل بأمر عجيب»أما اليوم فهو مدنف كلف مصروف الهوي، لا يري الا منتحيا الي نفسه في ظل شجيرات كان يتشهي فيئها ساعة غزل أو طرب.

ص: 493

و كان سرجون مربيه يراقبه من بعيد، و يلزمه دون أن يراه أو يلمحه. فانتهي الي سمعه من نجوي يزيد لنفسه:أواه، أرينب! يا من لا تشعرين بوجودي و آلامي و خلجات قلبي، و أراك مل ء الدنيا لذاذة و متعة و نعيما. آه ليتك تشعرين! اذن لكنت سعيدا.آه! هل تصدق أحلامي فأراك عند يد، تنحنين علي فتضمدين جراح فؤادي، و تملئين وجودي اشراقا بألق وجهك العبقري الحسن. حلم سعيد، و لكن دونه مفاوز الجحيم العبقرية الاشواك و الأهوال أيضا. ثم أطرق و تناهي به الاطراق، و لبث طويلا كأنما ابتلعه ضباب المساء في ليلة رمي بها الشتاء في العاصفة. علي أنه رفع رأسه أخيرا، و عيناه تدوران في بريق مخيف يقول:لا! لا! انني لن أنتظر هبة الأقدار حتي تضعها في طريقي و ردة مصوحة، ان الضعيف في شرع الطبيعة الحية حمل منهوب، و القوي هو ابن الطبيعة البكر و قد وهبته سائغا زلالا، كل ما استطاعت أن تلفه قوته، أو مر في جوها.هذه هي الحقيقة الفذة التي نراها بين أدني الاحياء و أعلاها، من بدي النبات الي أرفع الانسان.و أما أولئك الذين شرعوا الشرائع و النظم، و حددوا مسير الحي فيما سموه أخلاقا فانهم جبناء ضعفاء و أنانيون أيضا، قعدت بهم قوتهم عن أن يدركوا أي نصيب من متع الحياة و لذاتها أو أدركوا نصيبا حقيرا، فابتكروا قانون الأخلاق و القانون، و حددوا سعي الأحياء علي طبقها، فأوجدوا لأنفسهم أوفر فرص الحياة الماتعة.ان هؤلاء أدنأ من أن أحترمهم، انهم ضعفاء مموهون خلبوا الناس بأساطيرهم، فيا ويح الجاهلين.انهم شاؤوا العيش علي حسابنا نحن الأقوياء، و حيازة النصيب الأوفر أيضا، ألا كيف يفكر الناس الحمقي التعساء؟! لا أدري...انني لا أفهم معني لهذه النظم سوي أنها سموم الضعفاء، ينفثونها في جونا

ص: 494

نحن الأقوياء لنسترخي، فيجد الضعف في جو القوة فرصة البقاء.ان ما أفهم هو هذا فقط: ان الحياة و اللذة و السعادة فرص، و القوة وحدها سبيل الاستحواذ عليها، فالحياة هي القوة.ان الأسد قد يعف - و هو نهيك جوع - عن الطعام الحقي الوضيع لأنه لا يجد فيه لذة القوة، و لكنه لا يعف البتة عن الضراوة، و عن و الختل و الافتراص أحيانا و هي مجلي القوة. فالذي تمليه طبيعة الاحياء: قسوة، و بغي، و لذات. هذا ما نجده كلما حللنا عناصر الحياة و أنواع الاحياء، فمن أملي علي أولئك الجبناء أساطيرهم؟ انه ليس أحدا، سوي الجبن و العجز و خوف الآلام.و استبدت مرة واحدة انما العاجز من لا يستبدنعم! نعم! انما العاجز من لا يستبد!أرينب! أنت حلم سعيد و قد بت متعة قريبة المنال مني!أرينب! لتقم في سبيلك سيول الدماء و رابيات الجماجم و الاشلاء، فانني سأسير عليها اليك في ابتسامة القسوة و قهقهة جبروت البطش! ان أنين الفريسة - و عظامها تتقضقض بين فكي الاسد - يطربه و يشهيه، لأنه مقاطع من أنشودة كبرياء الذات و كبرياء الوجود، فان معني نشيد الأنين: أنت أنت هو الجدير بالوجود وحدك... و لذا كان الأسد لا يطعم الا علي ألحان ناي الأشلاء.أرينب! أنت عروس أحلامي، و ستصبحين عما قريب عروس لذاتي! فما أجملها نشوة و جسمك البض أهتصره بين ذراعي المشتعلين و اعتصره في وقدة الضلوع المتلظية، و قوامك يتأطر و يتثني تثني الأفعوان و يتلوي تلوي الخيزران. فما أحيلي قربك!.. انه دنيا من اللذات العذاب، و لو لف في جحيم العذاب!أرينب! انني سوف ألهو بك أمدا كالزهرة ترودها النحال بتلهف الي الامتصاص، ثم سيان عندي أذكرتك أم نسيتك بعد، ألست أمرأة، و المرأة لعبة

ص: 495

الرجل و متعته فقط، و لا شي ء وراءهما؟ ثم أليست النساء في النوع رياحين كما قيل، و هي تذهب في شمات أو دونها و تبلي فتنتها.. فاغتنميها فرصة لذاذة كبري معربدة، و أنت فيها فواحة بالعبير.آه! ان ظمئي لا يرويه الا سيل من دماء، اذا وقف في وجهي ذل العلج ابن سلام. انني أحس بأسناني تتأكل كأن عليها حكة جرب، انها تشتهي مضغة من كبده ألوكها! انني لأشعر أن في أسناني أسنان هند جدتي يوم أحد و هي تحرق الأرم علي كبد حمزة! سوف أبارزه فأقتله أو أترصده فأغمد فيه وراء السيف يدي.. و لم يزل مع طيوفه التي أخذت تتجسم له، فيراها قريبة منه دانية اليه، و كأن طيف ابن سلام عرض له في بعض الطيوف فهب يخترط سيفه و قبض علي قائمته، و هزه في الهواء هزات، ضحك في اثرها ضحكا عصبيا. و فجأة تقلصت تقاطيع وجهه و ارتد الي الوراء فزعا متعقد الأيدي يقول، و قد عرض له طيف العدالة: انني يزيد! يزيد الامير.. و لكنه لم يزل يرتد الي الوراء في ذعر يقول: لست،لست أنا! هي هي أغرتني!.. و عراه دوار فقد أخذته أعراض حمي خبيثة و كان يهذي تحت وطأة الداء، فوجل سرجون وجلا شديدا، و لم يجد بدا من أن يتعرض له و يقطع عليه ما هو فيه من خيالات.أفاق بعد حين، و زايله ما كان فيه من هذيان، فقد تماثل نحو الشفاء و الابلال من الداء، و بقي في تصميمه ثابتا اغتيال الرجل و انتزاع معشوقته انتزاعا، رضيت أم أبت. و عرف منه سرجون ذلك العزم و خشي مجازفته، فأسر الي والدته ميسون ابنة بجدل الكلبية بكل خبره، فأطرقت برأسها، و قالت:فذاك مرضه اذن.. و كان يزيد وليدها الاوحد المفدي، فلم تطق آلامه في سبيل امرأة، و لم تطق البتة لرجل مهما كان خطره و منزلته أن يحول بين ابنها و رغباته، فقالت تخاطب سرجون: و من هذا ابن سلام زوجها؟قال: هو أمير العراق من قبلك الملك... فانقلبت ضاحكة تقول:يكون من عمالنا و يقيم له يزيد هذا الوزن؟ اننا نحن نرفعه أو نخفضه. ثم هل

ص: 496

هو الا منفذ لرغباتنا عليه، هو صنيعتنا فيجب أن تكون زوجته احدي امائنا، نتصرف فيه و فيها كيفما نهوي. انني لا أطيق أن أري يزيد و اجما من أجل امرأة يشتهيها، و لست اطيق أن أسمع انه يمنع عنها بالغة ما بلغت منزلتها.بلغ الملك أني لا أطيق أن أري يزيد محزونا يبكي، بلغه أن هذه المرأة يجب أن تكون في جملة اماء يزيد يعبث بها و يلهو!قال سرجون: لعل زوجها لا يرضيه تركها، أو لعلها لا ترضي هي ان كان منه ذلك...قالت و ضربت بيدها علي و سادة بجنب مقعدها: و ما قيمة رضاه أو رضاها؟ اننا نريد ذلك و كفي!فابتسم سرجون و قال: أظن الاميرة لا تعني تماما ما تقول أو لا تجد كل الجد. فلابن سلام خطره، و لو لم يكن بذي خطر فلا يسعنا انتهاكه انتهاكا مكشوفا و تحديه في شرفه. و لكن نستأتيه في غير شعور منه.قالت متأففة متبرمة و هي تهز كتفيها: انني لا أفهم معني لخشيتك...فقال و تمثل له عهده في بلاط الغساسنة و هو أكثر رعاية للحقوق: و لكنك تفهمين فقط معني خدش كرامة الرجل؟!قالت: اذا كنت تري في ذلك بأسا فاستأت كيف شئت، فأنا أريد أن يصل يزيد الي غرضه كيفما كان، و ليست تهمني الطرق التي ستسلكها. انني أريد أن تقر عين يزيد بها، و لا يعنيني ما وراء ذلك... فاستدار سرجون علي عقبيه و هو يقول:أما كذلك فنعم...دخل سرجون مجلس الملك و من حوله حاشيته يتدبرون أمر يزيد و ما عساه أن يكون طرأ عليه. و بدا معاوية مغتما، فهو لا يطيق سماع ان يزيد مكتئب، و هو

ص: 497

بكر الامارة المترع بالدلائل، و في قرارة نفسه أن يقر به عينا و هو ولي عهده، كما زاد به ضنا بعد أن «أصاب منه سيف الخارجي مسري البنين».كان فيما يسيطر علي المجلس من وجوم، ما جعل سرجون يقف طويلا قبلما أسر الي معاوية بشأن ابنه البكر، رغم قربه من معاوية و منزلته المرفوعة الحجاب لديه. و ظل واجما هو أيضا. فقد عدته روح المجلس و سيطر عليه جوه حتي قطع الوجوم عمرو بن العاص بقوله:و ماذا تظنون أصابه و هو في جسم الفيل و نشطة النمر؟.. و ابتسم؛ لعل احدي غانياته المدللات فاركته و قطعت أسباب وده.قال معاوية: ما هذا يا عمرو؟!قال: لم يقع في مدي خاطري سوي هذا، و علي كل «فهو أمر لا يوقف عليه الا من جهة والدته»، لعلها تنتزع من بين شفتيه كلمة سره الرهيب... و أطالها كالساخر.. و هنا وجد سرجون مناسبة الافضاء اليه، فمال علي أذنه يساره و ما لبث أن ضحك معاوية و هو يقول:عند ظنك يا عمرو، و لكنها غانية جديدة!قال عمرو: و ان شئت قل صيدة جديدة... فابتسم الحضور، و طلب معاوية أن يخلو بنفسه سوي عمرو. فقال:من ارينب؟ و هل تعرف عنها شيئا؟قال: نعم. هي من «أعرق الحجازيات نسبا، و أكثرهن مالا و مثل في الجمال بين غرائز زمانها»، كانت عند عدي بن حاتم من قبل، ثم صارت الي عبدالله بن سلام أمير العراق اليوم.قال معاوية: تري أنه عزز علينا اصطيادها؟قال: هو ذاك، و أمنع ما تكون.

ص: 498

قال: و لكن كيف برغبة يزيد الحارة، فلانه يحز في نفسي أن يبيت آسفا، لا يقضي لبانته و يشبع شهوة نفسه و يروي ظمأ قلبه.قال: و ما هذا؟؟ أأنت أيضا تسايره في مجونه و عبثه، و ما يدريك لعل ما يتظاهر به من كمد هو من حيله علي المجون، و من دلاله علي التنويل كي يجعل منا مطايا شهوات و اوطار. ان الناس تحملوا منا ضراوة في السياسة و ضراوة في الاموال الي ضراوة و ضراوة في الأحكام، و لا أراهم الا ثائرين بنا اذا جعلنا بيوتهم هدفا لضراوة شهواتنا ايضا...قال معاوية: هو ذاك. و لكن كيف لي بالترفيه عن يزيد، فاني لا أقدر أن أراه كاسفا؟ ألا ففكر معي و تحايل ما وسعتك لباقة الحيلة. ففكرا مليا و كان عمرو أسبقهما فهتف: لقد وجدتها، و ان كان فيها تسخيرك اياي حتي لشهوات ولدك ايضا.قال معاوية بغبطة: هات! هات! و عساها أن تكون من وحي شيطانك يوم صفين، و خدعة كخدعة رفع المصاحف... يعني موفقة...قال عمرو: أتأخذها علي و بها أنقذتك و بوأتك عرشك، و جمعت بها عليك ما هو مجتمع في يديك من أسباب الملك، و محتبك عليك من مظاهر السلطان؟قال: كانت من أجل دنيا جزيناك عليها بدنيا، و ما أظنني بخستك الأجر. و كسر جفن عينه اليسري، و كان لا يفعل هذا الا «و هو يتحدي»، و ما يجهل عمر منه ذلك.فقال و شملته رهبة: رويدك اني لا أتحداك و انما ظننتك تغمز علي.. فضحك و معاوية و قد أدرك سر رهبته و قال:لك العتبي يا عمرو حتي ترضي، و هل مثلك يبخس قدره و يروع؟ و انما قصدت مداعبتك فلا تثريب عليك. طالما خدمت آل أبي سفيان، فلست أنسي

ص: 499

بالامس كيف أنقذتني و كانت لك عندي، و أنا أعرف اليوم تأتيك لا نقاذيدا يزيد ولدي. و هي يد لك عنده ليس ينقصها.قال عمرو: حماداك، فاني عند ظنك.. رأيت أن تستدرج ابن سلام بالألطاف «و كرائم الأموال و الخلع»، و تريه جانب الود منك و تغريه بزيارتك و القدوم عليك...قال معاوية: و بعد؟قال عمرو: ذلك علي حينه...فصل عبدالله بن سلام مذ اقترن بأرينب و هو يري حلم سعادته ينتشر ليجتمع في حدودها، فأحلها منه محل القلب، فكان اذا خلا الي قلبه وجد أرينب، و اذا خلا الي أرينب وجد قلبه. و كثيرا ما كان يقول لها: ليخيل الي أنك لست سوي قلبي مصورا، و شاء أن يتجسد في شكل بنات الخلد، فيريني كم هو سعادة و كم يجب أن أكون به سعيدا. لوددت يا أرينب أنني أتحول هالة في أبدية عينيك الفاتنتين... أرينب! آه أرينب!...آه! يا ما أسعد الأزواج اذا كان لكلهم مثل أرينب!..و كانت أرينب لا تقل عنه احساسا بسعادتها به، فقد عاطته منها أيضا مثل عواطفه فقالت: أو قل ما أسعدهن حقا اذا كان لكلهن مثل عبدالله.قالت له صباح يوم و قد قطفا أول اشراقة من شعاعة الشمس: لا أدري لماذا؟ لماذا يعاودني في أقصي هواجسي العميقة خفية منذ ليال، انك لم تعد لي، و تعتادني طيوف خبيثة أظل منها في رهبة؟ و تعلقت به. اني خائفة!ترقرقت في عينيها دمعتان كبيرتان، تراخت احداهما ساقطة و استمسكت الاخري متبلورة بين جفنيها اللذين كانا في نصف اغماضة، فأهوي يضمها اليه ضما عنيفا كأنه يحاذر، فقد عراه مثل هاجسها أو شر منه، عراه أن هناك

ص: 500

من يحاول اختطافها فهو يشدها اليه يضن بها و يفتديها.استويا في مقعدهما ثم لم يخطوا الا قليلا في حديقة القصر، حتي استأذن حامل البريد يسلمه كتاب الملك.استطير فرحا و استخفه الانعام الملكي عليه، و كان مفاجئا حتي لقد ذهل عن أنه يغادر زوجته الحفية عنده دون أن يلقي عليها نظرة وامقة تشير الي انه سيعود اليها بعد متعة قصيرة بالنظر الي ما اهدي اليه.وقفت تنظر باهتة و عاودتها هواجسها، فلم تطق وقوفها طويلا، فانثنت الي مقعد قامت من فوقه متعانقات «البواري» في شكل جعل منه وكن عاشقين أو طيري حب. و قالت تناجي نفسها: آه! لقد وقع ما كنت أهجس به في خاطري، و الذي كان يحيك في صدري من وساوس. ليت الهدايا التي استخفته كانت عند قدمي لأطأها مستخفة بأنفس ما فيها، و لا أقطع علي نفسي لحظة قلب كان يخفق فيها بمعني الحب و هو كل الحياة و كل السعادة...أتقطعه عني هدايا حقيرة، مهما بلغت نفاستها فلن تكون الا حقيرة بجنب ما هو دون حسوة طائر من نشوة ما كنا فيه، بل بجنب خلجة راعشة من تلك الخلجات المفعمة...الآن فقط، بدا لي طفلا تفتنه لعبة عن لعبة، و يأخذ أيما وقع عليه بكل بصره. لم يكن اذا الا طفلا، و لم أكن كل هذا الوقت سوي لعبة كبيرة يلهو بها، و دمية حية تمتع قلبه البارد بحرارة أنفاسها المنداة... و هؤلاء الذي يرون المرأة دمية ذات حرارات، هم باردو القلوب و انما يطلبون فيها الاصطلاء و الدف ء فقط، أما أنا و أحس بقلبي مشتعلا فأريد قلبا مشتعلا أيضا يفنيان علي بعضهما في تلهب جميعا..أف للرجل! انه طفل في حس القلب و لا يزيد، ثم لا يشعر من العاطفة الا علي مقدار العبث، و ليست للاشياء قيمة عنده الا علي قدر ما تملك من ايحاء اللهو عليه و تشيعه فيه.

ص: 501

لا، لا! لست أرضي أن اكون عنده متاعا صنو هذه الهدايا، بل خيل الي أني أحقر منها في نظره. فغادرني يخف اليها، و لم يترك، عند موقفنا، نظرة أشغل بها حتي يؤوب، انها أخذت بكل هواه حتي لم أعد شيئا أذكر...أف للرجل! انه في دنيا القلب طفل، و أيضا طفل ذو طبع بليد خشن...يا لك من هدايا مشؤومة! انك هدايا فيك كل ما في السموم من روح، و كل ما في الافاعي من معني مخيف و وجود رهيب.. و ما يدريني فلعلها حبائل و شباك منسوجة من حمات العقارب و أوبارها... و ما هو حتي رأته مقبلا مغتبطا، تشيع الابتسامة المشعة الضاحكة في وجهه، يحمل بين يديه كرائم الجوهر و عقود اللآلي ء البعيدة السطوع، المتماوجة بالسني و السناء، يقول و هو يقلبها في كفيه:اليك! اليك! لقد جاءت كأنها تقول كنت يتيمة حتي وجدتك! أما تسمعين؟ أما تسمعينها؟... و راح في نشوة ضاحكة، و لكنها ظلت جامدة لا تحير جوابا. فبهت و عراه خدر كالذهول، فاسترخي كفاه و تساقط ما استوي عليهما من ثمين الاحجار الكريمة و هو لم يحس. و كانت تنظر و تري، فألمت بما عراه فاغتبطت، و لم تلبث حتي أخذته بين ذراعيها نشوي.عند شرفة الصباح، بعد أيام، حيث كانا واقفين ينظران الي الافق البعيد، قال و هو يحبس بعضا من أنفاسه التي أحس أنها تخرج جملة ثم لا تعود:لعلي لا أغيب عنك طويلا، و سوف... قالت مرتعدة:تغيب عني؟ ماذا تقول؟! و الي أين؟قال: رأيت منك يوم الهدايا أنك غير مغتبطة فلم أخبرك، جاء في كتاب الملك أيضا أنه يعزم علي بالحضور، و لا أدري لماذا؟ هدايا مفاجئة و دعوة مفاجئة! و لكني أظن أن سعادتي بك جذبت الي سعادة أخري.. و ربت علي كتفها.انتفخت أوداج أرينب و غصت الكلمات في حلقها، و لكنها حاولتها كأنها تلوك حروفها لوكا:

ص: 502

أيتها النفس أجملي جزعا فان ما تحذين قد وقعافقال يداعبها: هذا قول أوس بن حجر يرثي به. و ها أنا فجسي يدي.. قالت و وضعت يدها علي فمه تأخذ عليه سبيل الاستمرار، فقد أرهبها ما ذهب اليه ظنه و لو مداعبة:انني لست أرثي سوي نفسي الي نفسي.. و حاول الكلام فقطعته عليه «بقولها:لست مغتبطة بسفرك، و بودي انك لا تذهب، بل بودي أن ترد عليه عمله و تعتزل. فلي من أموالي الكثيرة و دنياي ما يغنيك عن أمواله و دنياه، و لك من سيادتك و نشبك ما يغنيك عن التسود به.انه يرهبني! انني لا أطمئن اليه، و به تحيط عصابة لا أدري بماذا أنعتها... انتزعتها من لسانها كلمة. انها دموية تجري وراء شهوات حمراء، ثم لا يحول بها عنها شي ء من عرف.قال: هو ذاك. و لكني لا أدري كيف أرد عليه. ان هي الا أيام قصيرات المدي، أعود الي علي اثرها و أصير الي رغبتك باعتزال عمله.. و لكنها ظلت ترغب اليه أن لا يرحل، و حانت منها لفتة فرأت أفراس البريد جاءت تحمله. فلم تطق تراه يسير، فذهبت تدفن وجهها في راحتيها و تجهش في نشيج مرير، وردد عبدالله و قد تمادي به المسير و لفه قتام الركب:و كم تشبث بي يوم الرحيل ضحي و أدمعي مستهلات و أدمعه أستودع الله في بغداد لي قمرا بالكرخ من فلك الازرار مطلعه ودعته و بودي لو يودعني صفو الحياة، و اني لا أودعه..كان عند معاوية بعد أيام لم تكن طويلة في غير حس أرينب و حساب عبدالله، فتلقاه بالألطاف و الانس الناعم، فعجب كثيرا و فكر كثيرا، و لكنه لم يهتد لوجه

ص: 503

لامر، و تحير به تقديره فلم يطمئن الي أي وجه انصرف اليه. بيد انه مع ذلك كان مغتبطا، و تزايد به الاغتباط ازاء ما يلقي من حفاوة و احترام و رعاية مقام، حتي لم و بعد يفكر بشي ء الا أنه مخلوق جديد لا عهد له بالزمن.لمس صدقا في كل ما يلقاه من مظاهر، و بات آملا بشي ء لم يدر كنهه الا أنه وجه بشري علي أي حال. لم يكن يري الا مدعوا الا مجالس أنس معاوية و أندية السمر الغزلية، و الا منتشيا علي مثل الطيش في ليالي القصور الشرقية الماجنة التي كانت ذات نسب قريب بليالي الف ليلة الغارقة في أحلام الشهوات المعربدة.استيقظت في نفس ابن سلام صبوة لم يكن يعهدها، صبوة من نوع الصبوات الحادة، فلم يعد يفكر في مدي انطلاقها الا باروائها، و دارت فيه نهمة كأنها انفطرت من طبيعة الظمأ. فقد هبط من فردوس الحب القلبي السعيد، انبعثت جياشة عليه، نزوات كان يكبتها القلب في نشواته العبقرية الالتهاب، المتلظية بالشعل الحمراء.كان في هذا الجو الخمري اللذات الممهود بخمائل الشهوات، ما أحال أرينب في جو نفسه الي ذكري من الضباب لم تزل تتلبد و تحتجب، و عاد لا يذكر الا ما هو فيه، و تمني لو طال أمد هذه المتعة اللازوردية في لسان اللهب، و تشهي أن لا تنقضي، و غير منذ قريب لا يستطيع ساعة بعاد عن أرينب مهاته النابضة بالطهر في و ثبات الحب القلبي الخالص...انه أسف منحدرا الي محيط من الحمأة البعيد القرار، و أضفت علي ناظريه الوحول فلم يعد يري، و انما بات يحس في طراوة الوحول نعومة الزبد، فراح يهيم في خيال الوحول.ان الحب في حقيقته رغبة بالاستحالة، و بتعبير آخر رغبة في التحول، و لمكان الشعور بوجود الذات يذهب الكائن، اذا صدم مشاعره انفعال خدر كانفعالات اللذة علي أنواعها، يحاول الاستحالة بهذا الانفعال الي وجود شعوري آخر.

ص: 504

و لا يزال يبالغ، تحت تأثير هذا الانفعال الذي يتزايد وضوحا، رغبة بالاستحالة حتي يطلب ملاشاة كيان في كيان حينما تستوي هذه الرغبة في الاعصاب، و كلما زادت تمكنا و استواء زاد الكائن نهما، و هذا الشعور هو الذي انطق ابن الرومي بقوله:أعانقها و النفس بعد مشوقة اليها، و هل بعد العناق تداني؟و ألثم فاها كي تزول صبابتي فيشتد ما القي من الهيمان كأن فؤادي ليس يشفي غليله سوي أن يري الروحين تمتزجان فالحب البقائي أو الزواجي رغبة بالاستحالة في الولد، و الحب العاطفي رغبة بالاستحالة في العاطفة، و الحب الشهوي رغبة بالاستحالة في الشهوة.و اذا كانت رغبة الاستحالة في كل الوجود، ففي طبيعة الوجود اذن طبيعة الحب، بل البقاء لحظات متواصلة من رغبة الاستحالة و استحالات بالفعل، فاذا انقطعت تقلصت أسباب البقاء و ذهب مضمحلا.تملك ابن سلام، في ليالي القصر المسحور، انفعالات حب شهوي طلب معها التمادي في دنيا الشهوات، و امتلأ رغبة بالتعرف الي كل فنونها و شتي ألوانها.في ليلة ماتعة من ليالي القصر الزاهية العبقة، أدناه معاوية منه و عاطاه حديثا مذهب الأطراف مغري البدوات. و قال له فيما قال:هل لك زوجة؟قال: نعم.. فضرب يدا علي يد و أصاب وجهه ببعض يده، فمال علي أذنه عمرو و قد أظهر أنه اغتم من اجابته، و ساره:يا عبدالله! ان الملك أراد أن يزوجك ابنته لما عرف من شرفك «و أنت نعرف أن بنات الملوك لا تدخل علي ضرائر».فقال لعمرو: كيف الحيلة؟قال له: اذا دخلت غدا و سألك، «فقل ليس لي زوجة فقد طلقتها»

ص: 505

و أشهدت أباهريرة و أباالدرداء.... بات ليلته أرقا، فقد استيقظت ذكري أرينب الغافية في أعماق نفسه قوية عنيفة، و أخذته طيوفها البادية كالملائك في أثواب طهارتها...فراح يتمتم: أأنا أخونها. أأنا؟ كلا يا ملاكي! لن أفعل من أجل شهوات رعناء تذوب لذاتها سريعا، و تبقي آلامها مستطيرة مستفحلة.. و اذا به يبدو مبتسما، قد باركه طيفها. و لكن لا يلبث حتي تستجيش به شهوات موارة، تريه الدنيا و السعادة بل و الخلد في حدودها، و تطلع له رؤوس فتونها فيسترخي و هو يري السلطان و الجاه و كبرياء الحكم تعنو أمام قدميه، اذا استجاب الي معاوية و رضي منه بالاقتران الي ابنته... و تمتم:حسب أرينب بكرنا خالد، و أنا اذا طلقتها فلم أفارقها و الي الابد، فصلة بيننا أبدا وليدنا العزيز.. و صمت قليلا و عاد يناجي نفسه:و أنا اذا فعلت، ألست أخون خالدا أيضا فوق خيانتي أمه؟ ألست أكون قد دفعته الي الحقد علي؟ و كيف أطيق هذا و لو في التصور و الخيال؟ انني لا أطيق.. و بدا له طيف ولده خالد في طفولته الساذجة الموحية بالحب، كأنه يرجو اليه أن لا يفعل. و ساورته عاطفة قلبه مساورة، فصرخ معها:لا. لا. لن أفعل... و استغرق في لحظة تهويم انكشفت له فيها زوايا المجهول من المستقبل، ثم استفاق و علي لسانه:أليس في هذا التسود الشامخ ما يخدم ولدي في مستقبل أمره، فلا شك في أنه يغفر لي خيانتي، و لا شك في أن أرينب تغفرها لي أيضا. فأصبح و قد عزم علي الخيانة يعلل نفسه: بأنه لم يخنها خيانة قلب و لذلك هو لن ينساها، و حمل الهواء قبلة وداع من بعيد، بهذا آخر العهد بأرينب...و تعرضت له أطياف راقصة من بدوات الأطماع الكبري، فسار في بهجتها كأنه يجنح طائرا، و كان يجتهد ألا يذكر شيئا، يجتهد أن يشعر أنه مخلوق اليوم، و ليس له عهد سابق بالوجود.

ص: 506

سار غير مثقل بأية ذكري من التاريخ و أية فكرة تتصل بماضيه، انه وليد مصادفة جديدة و وليد بهجة جديدة، يقبل عليها بما تشاء من بهجات. فكان منه ما أشار عليه به عمرو بن العاص، فقال معاوية لأبي الدرداء و ابي هريرة:«ادخلا علي ابنتي فأعلماها بالامر علي وجهه»... فتظاهرت لديهما بالاهتمام و السرور، و صرفتهما لتسأل عن دخلة أمره «و أثنت علي ابن سلام».و لكن ابن سلام شعر فور طلاقه أرينب أن معاوية لم يعد له كما كان، بل غدا يلقاه بفتور نفس و انكماش لقاء. فأوجس شرا «و أسرع الي ابي الدرداء و صاحبه يستحثهما»، فأتيا ابنة معاوية فقالت:«انها سألت عنه فوجدته غير موافق لما تريد»... فلما بلغاه جن جنونه و أسقط في يده، و علم أنه ذهب ضحية خدعة لئيمة ليس يدري غايتها.انقلب الي الدار التي أعدت لنزوله فوجدها تعج بالأشباح المخيفة، و تزأر في مثل تجاوب الذئاب، فاستطير ذعرا و مشي في أنفاسه هلع نكير. ففر يعدو الي الخلاء و قد انطبعت الاشباح في عينيه، و التفت الاصوات تمور في أذنيه. فراح يغمض عينيه و كفاه علي أذنيه يجري، انه يريد أن لا يري و لا يسمع، يريد غفوة في الذهول و لا هذه اليقظة المجنونة. و ما استرخت كفاه عن أذنيه حتي استعوي به صوت:خائن! خائن! و علي يديك دماء الجريمة، تمشي عليها أرواح ضحايا ثلاث: قلب زوجة هي تمثال الاخلاص في الحب، و قلب غلام هو تمثال طفولة الأحلام البريئة البيضاء، و الثالثة هو قلبك انت...بعد ذلك أضحي ينطلق كالذي فار في خياله جنون، ينقل الواقعة و يبث الشكاة و ينثر الطعن نثرا دون رهبة أو وعي. و تسامع الناس بالخبر و علقوا عليه باشمئزاز و نفور، و بات الكثير ينظر بعضهم الي بعض في شفاه مقلوبة و تنكر، «و هكذا ذاع أمره و شاع، و تداقله الناس الي الامصار، و تحدثوا به في الاسمار».

ص: 507

و رثوا كثيرا لما انتهي اليه حاله، فكنت لا تسمع في كل مكان الا من يقول:أتبلغ القحة بهذه العاصبة حد التآمر بسعادة أسرة هانئة، تمرح في حب و تسرح في اخلاص؟ أما يسرها يوم، أما تحلو لها حياة، الا اذا و لغت في دم أو عبثت بكرامة؟ لقد عدوا أقدار أنفسهم، فلا يرون الا راقصين علي الاشلاء، لاهين بالجماجم.و تناهت بعبدالله الحال الي حيرة بائسة و ذهول شقي يائس، تلاحقه طيوف و تتنكر له أشباح، و تتفور من حوله الآلام، و كان يفتأ يقول يناجي نفسه:لوددت اني أفر الي أرينب، و لكن هيهات! أنا الذي نكبتها و أشقيتها، أأزيدها شقاء بوجهي الذي غدا تمثال الخيانة الزوجية علي أقبح صورها؟ فلأ تجرع آلام قلبي و غصص ضميري و مراراتي وحيدا منعزلا! كيف القالها؟ كيف أعتذر اليها؟ كيف أستغفر وليدي الصغير؟...رحماك ربي و حنانيك! أبق اللهم علي لبي لا يتمزع.!ظللت أرينب منذ غادرها زوجها الحبيب، لا تشيع علي شفتيها الا ابتسامة متماوتة اذا ألحت عليها أحاديث و صيفاتها بالابتسام.و كان الاكتئاب يتزايدها يوما بعد يوم، في احساس يلح عليها بهول غامض تشعر به في أعماقها ينذر بالويل.و كان لها في كل يوم جلسة تارة عند مقعد اصطباحهما في افياء البواري المخيمات، و تارة في شرفة المساء تودع النهار و تستقبل كواكب الليل تبثها نجواها و زفراتها، و تتوله في وقفة الي ذوب الشفق الذي كأنه ذوب قلبها.و في يوم علي عادتها و هي في شرفة المساء، رأت عند أقصي الصحراء - التي تسترخي متكئة علي عتبة دارها و في فنائها - قافلة كأنها مقبلة من جانب

ص: 508

الشام. فلبثت تنشد فيها أملها، و ان تطمح به فلا أقل من أن ترسم هذه القافلة في نفسها رسوما مبهمة الا أنها مفرحة ايضا، تنتنفس في فؤادها بندي روي.مرت القافلة تخب تحت شرفتها، و كان حادي الابل يشجي الركب بصوته العذب النغمات:أرينب ليتني و سدت قبرا و لم أفعل، ففي الاحشاء نار«ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار»يطيف علي فؤادي روح آه و ذوب أسي، و في كبدي انفطارأرينب، أنت ذكري من نعيم و من طهر، و من عبق يثارأرينب، هل ترف علي دنيا من الاحلام؟ هل ثوب يعار؟ذكرت و في فؤادي نوح با ك هوانا، و الضمير به أوارو هل قدر يطالعنا بفجر و يمرح في مسارحه النهارفنسعد، و الأصيل له افترار و ننشي، و الغدو له ازدهار.فسقطت علي نفسها هلكي. و لم تك الا أيام من حلول الركب حتي شاع خبر عبدالله في العراق و تناهي الي سمعها، فلم تعد تعي. و كانت لا تري الا مولهة حتي عن وحيدها المفدي. و كانت لا تري الا معتنقة له تشده اليها مدلهة كأنها تطلب فيه ريا، و لكنها ظلت ظمأي و ظلت كأنها لا هثة تطلب الندي و الري.لم تطق بقاء في العراق بعد، فقد اسودت نواحيه في نواحي نفسها، فانطلقت بحشمها و ذويها الي المدينة تطلب فيها دنيا جديدة، تغري خيالها في أنها أصبحت مخلوقا جديدا احتضر في نفسه الماضي و الذكريات. رثت لها نساء المدينة و ذهبن يواسينها بكل ما عند المرأة من خصب عاطفة؛ و النساء يحسسن بالمآسي بنوع خاص مكبرة ذات مبالغات، و في شعورهن شيوع. فهن يحسسن بأنفسهن في كل مأساة تقع، و يجدن قلوبهن في النكبات، و هذا الشيوع في الشعور جعلهن يشعرن بأحداث الآلام قبل وقوعها، و جعلهن أصدق تطلعا و أرهف حسا بالجانحات الصاعدات من أعماق المجهول، و الغاربات الهابطات الي أعماقه.

ص: 509

فتجاوبت المدينة بمأساة أرينب علي ما أضاف اليها النساء من روحهن الآسية، فكانت مأساة لاذعة الوقع وقيذة الاثر شائكة في نواحي الضمير...أرسل معاوية أباالدرداء و أباهريرة رسولين من قبله يخطبان أزينب علي ابنه يزيد، فذهبا الي العراق، فبلغهما انها انتقلت الي المدينة، فثنيا رواحلهما اليها.و كان الحسين اذ ذاك قبس الهداية و مشكاة الطهر و نموذج الاخلاق الفاضلة و قبلة الأنظار، و كان الي ذلك مفزع الهاربين من وجه الظلم، و في رحابه ينتصف مهضومو الحقوق الضعفاء، فما من أحد الا و يحس في أعماقه أن واجبا عليه أن يخشع بالمثول بين يديه، بل يشعرون فوق ذلك أنه رأس الواجبات. فلم يجد كل من أبي الورداء و صاحبه حينما هبطا المدينة بدا من أن يبدآ بزيارته قبل أي واجب آخر مهما سمت به قيمته، فلما مثلا بين يديه يقدمان اليه أنواع الاحترام بمناسبة قدومها، أنس اليهما و قابلهما بحفاوته التي تعودها الناس منه علي اختلاف منازلهم، و كانت فيه خليفة و طبيعة.لكنه أحس مع ذلك أن في مقدمهما المفاجي ء حدثا هاما، فقال لهما:ألأمر قدمتما؟قالا: نعم.قال: و ما هو؟ فما كتماه ان معاوية وجههما في خطبة أرينب علي ابنه يزيد. فابتسم الحسين ابتسامة من قد أدرك كل شي ء، و من قد فهم غاية المناورة التي بات معاوية يحيك خيوطها و ينسجها كالعنكبوت حول فريسته.. و نغي الي نفسه «خدعة معاوية حتي طلق امرأته، و انما أرادها لابنه. فبئس من استرعاه الله أمر عباده و مكنه في بلاده و أشركه في سلطانه، يطلب أمرا بخدعة من جعل الله اليه أمره».. و واصل: لن تهنأ لي حياة الا باعادة مياه حياتهما الي مجراها، و لن تقر عيناي و أسعد، الا اذا قرت عيناهما بالعودة و سعدا، ففي سعادة قلبين

ص: 510

مخلصين ينبضان بالحب و يخفقان بالعاطفة البريئة سر سعادتي. فعلي أن أهدم علي معاوية أحابيله و أصيده بشباكه. أف للغاشمين الذين يرقصون علي الأشلاء و يبتسمون في دموع الناس؟ لقد استغواه فبات ابن سلام طعما في الطعم.فقال الحسين لهما: لقد «كنت أردت نكاحها، و قصدت الارسال اليها، فاخطبا علي و عليه و اعطياها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه و لتتخير».. استأذناها بالدخول، و بعد أن استوي بهما مقعدهما، قال ابوالدرداء:أي بنية! انك لم تزالي شابة في عنفوان الشباب و ميعة النشاط، و انا بك جد ضنين أن تذهبي نهبا للخواطر، و تذهب نضارتك شعاعا في اكتئاب. و اذا ساءك من ابن سلام ما ليس من الوفاء و ما لم تكوني به جديرة، فعسي أن يكون لك في سواه بدل خير.قالت: معاذ الله يا أبت، فقد خبرت الرجال و بلوت عاطفة قلوبهم فما حمدتها، و بحسبي فتاي أرعاه.قال أبوهريرة: تمنيت لو كنتك، و فعلت ما يشير به أبوالدرداء... فابتسمت و هي لا تنتظر من مثله مداعبة، و واصل: و هل مثل ابي الدرداء يرد و يختلف عليه... و لم يزالا بها، و تعرضت لها خيانة عبدالله فمالت الي النكاية و رغبت بالانتقام.فقالت: و بعد... فعرفا بذلك اجابتها.فقال أبوالدرداء: أرادك لنفسه «أمير هذه الامة و ابن ملكها و ولي عهده و المليك من بعده يزيد بن معاوية، و كذلك أرادك الحسين ابن بنت رسول الله و سيد شباب أهل الجنة. و قد جئناك خاطبين عليهما، فاختاري أيهما شئت».. و هي ما سمعت اسم معاوية و يزيد حتي و جمت و كظمت بركان حفيظتها، و هل هدم سعادتها و هناءة ما كانت فيه الا هذان و عصابتهما؟ و هي التي طالما حذرت شقيق قلبها من شباكهما و ودت لو اعتزل عملهما، فهل تلقي نفسها بكل اختيار و طواعية في قبضتهما القاسية الرهيبة، فتعتصر؟ لا! لا! اني لست فاعلة و لو أوطأني يزيد الديباج و أحاطني بمثل زغب النعام!

ص: 511

ليت شعري! كيف أرضي به، و هل اجتويت الحياة الا بسبيل منهما؟ و هل فررت و تشردت الا عنهما؟. لوددت اني أعيش في دنيا لا تعرف عصابتهما أو لا يعرفونها. و طال بها الصمت و هي في معرض خواطرها، فقال أبوالدرداء:علام عولت؟ و أيهما اخترت؟ فقد خيل لي صمتك انك غدوت دمية لا تنطقين.. فانقطعت سلسلة خواطرها و كرهت رد و سيلتهما، فقالت:و من تختار انت؟قال الأمر اليك.فقلت محرجة له و علمت أنه لن يفضل يزيد بحال: لو أن «هذا الأمر جاءني و أنت غائب، لأشخصت فيه الرسل اليك و اتبعت فيه رأيك، فكيف و أنت المرسل. فقد فوضت أمري اليك»، فاختر لي أرضاهما.فقال: أي بنية! ان «ابن بنت رسول الله أحب الي و أرضي عندي، و الله أعلم بخيرهما اليك»... فانبعث أبوهريرة يقول:نعم. نعم. و أنا و الله «لا أقدم أحدا علي صاحب فم قبله رسول الله»، فيا لغبطتك بهذا الفم و هاتين الشفتين! ليتني كنت أرينب اذن لسال لعابي! و تلمظ.. فقالت و هي تضحك من قوله:قد اخترته... فتزوجها الحسين و ساق لها مهرا عظيما، و بلغ ذلك معاوية فتعاظمه و لامهما أشد لوم، و لكنه انقلب مع ذلك يردد «ان الباطل كان هوقا».كان جهد الحسين بعد ذلك معها أنه يواسيها، و اذا ذكرت ابن سلام و ما سمته خيانة زوجية، أثني عليه و هون فعلته، و أفهمها اياها غير الوجه الذي راحت تفهمها عليه، و أبان لها أن الحادث ان كان فيه ما هو عظيم نكير، فانما هو اقدام من هيأ لهما أسباب الشقاء، ثم ألم تقولي في بعض كلامك أنه طفل، فلا عجب اذا اختلبوا فيه عقله و استبدوا بهواه. فاذا بها تنظر الي ما اقترف ابن سلام من

ص: 512

أفق جديد، و اذا بها تري فيه أنه لم يكن الا ضحية أغراض و أهواء و شهوات مثلها، و اذا بها تدرك أن من واجبها أن تواسيه جهدها و قد بات شقيا. فبدأت تحن اليه، و بدأت تعاودها ذكراه في رغبة قلب. و كان الحسين يحس هذا منها، فيفيض بشرا و يطفح بشاشة و اشراقا، فقد نجح و أدني قلبا بات نفورا، من قلب بات و قد تشطر ويلا و ثبورا.أما عبدالله بنت سلام فقد ظل في الشام يرمي الهيئة الحاكمة بكل شناء، و يطعن فيها أبلغ ما وسعه الطعن، و هو لا يبالي غضبا و لا رضي، انه مفجوع موتور.فاطرحه معاوية لمكان هذا الطعن و التعريض بالتشنيع، و عزله من امارة العراق و قطع عنه روافده، فقل ما في يديه قلة بات معها معدما، و غدا مثلا للبؤس المالي و الشقاء النفسي.و تحت الحاج البؤس عليه، تذكر أنه كان قد استودع أرينب مالا عظيما، و تذكر أنها أضحت في عصمة الحسين: و هو لن يدع لها سبيلا للانتقام «فتجحده اياه لطلاقها من غير شي ء». فانتقل الي المدينة و لقي الحسين و ذكر له ذلك، و هو في شكل الضحية الشقية و الفريسة الطرية التي لم تزل آثار أنياب السبع بارزة فيها، راسمة انكر آيات وحشيتها، فرثي لمرآه، ورق له كثيرا و واساه كثيرا، فدخل الحسين عليها و حضها علي رد ماله اليه، فقالت:ها هو بطابعه لم أمسسه.. و قصد حسين أن يدخله عليها بشقائه، فلابد أن تتلقاه بشفقتها و حنانها دون غلظة أو جفوة، و كذلك كان. فتلاقيا و استصبرا طويلا في ذهول و وجوم، و غفلا عن وجود الحسين يقربهما، فتواقفت نظراتهما ناطقة بالحب و الدمعة طافية، يخيل لمن رآهما أن من وراء عينيهما قلبين يطلان، و قد تدانيا كثيرا حتي رسما دائرة تدور فيها لحظة حب نشوي.

ص: 513

و كانت عينا الحسين تشعان بالسرور... و أخذ طريقه الي الهيكل و قد انصرف عنهما زوجين، كي يشتمل عليه المحراب من جديد، انه جد مغتبط الروح...حطت فراشة بيضاء كأنها الزهرة علي كتف غصن يميس، و كانت ناعمة تلهو بأغاني سعادتها..فبصر بها عنكبوت صغير، ود لو يروي بهناءتها شهوات نفسه الحري...و ما لبث حتي جاء قرم العناكب يبادر، و راح ينسج شباكه من حولها...و اذا ذاك حوم بلبل غريد كان ينشر بألحانه في الأرواح نشوات منعشات، و حط حيث انتصبت أشراك المأساة...فنقد القرم نقدة، و مضي يغرد تغريدا كان معناه: و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين...ظن «الصغير» ان القوة هي كل شي ء و فوق كل شي ء...و ظن «الكبير» ان الحيلة هي كل شي ء و فوق كل شي ء...و لكن حين وقع الحق في شخص الانسان الكامل، بطل ما كانوا يعلمون فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين!...

ص: 514

تقوي

كان يوما ازدهت فيه دمشق بكل أفانينها و برزت فيه بكل فنونها، هذا اليوم الذي أطل معه الربيع في ابتسامة الأزهار و عبق ابتسامها، مرصعا بخيوط الشمس المتقنعة بقناع من المزن الرقيق الشفاف.كان عادة عند ناسها استقبال الربيع بأشياء الأنس و الحفاوة، و بما توحيه المتعة المستبشرة، فكان يخيل للمشاهد أنهم نسوا حتي الزمان في وجودهم، ثم لم يذكروا الا ما هم فيه من أسباب اللهو العابث البري ء فيقبلون عليه بلهفة الظامي ء علي الينبوع و ينطلقون في مدي كل مغني نضير، و ينتثرون انتثار الطير في كل فضاء.فمن هنا تنبعث ضحكات، و من هناك تنطلق زقزقات من غنن الطفولة، و من هذا الوجه جمع يحلمون في أنس و متعة شرود، و علي ذاك الوجه قوم ينعمون في مثل أبز الظباء و خطرات الوعول، و تلفعت الآفاق، في حس هؤلاء اللاهين، بكلل من ألق فرحة كبري.و كان هذا اليوم كأنه في حس الفلك ساعة من لا وعي الزمن، يسبح منها في عربدة حالمة أو أحلام معربدة. و عزيز علي الحي الشاعر، أن تطيف به هذه

ص: 515

الساعة من لا وعي الزمان، و لا يغرق معها في خضم النسيان و الانطلاق من قيود الوعي و الفكر.في هذا اليوم كان معاوية في قصره المشيد و في الجناح الغارق بالمتع، يقطف مع جمع من حاشيته زنبقة زهو اليوم. و كان بديح مولي عبدالله بن جعفر يؤنسهم بطرائف أخباره و ملح نوادره، فانتهي به الحديث الي أخبار صابئة الاغريق الحرانيين و عجائب ما شاهد بينهم، و كان فيما قال:كأن نساءهم خلقن من طبيعة الجمال ان لم تكن فكرةالجمال صيغت من طبيعتهن، بل لعلهن في بحر الجمال لآلئه. فقد افتن فيهن ابداع الخلق حدا أبرزهن مثلا ناطقة بالفن.. فأية تقاطيع في أي وجه؟؟.. و دار به ناظره كالذي تذكر صبابة قديمة طبع عليها الاخفاق، فأرسل آهة طويل اختنقت في حلقه قبل نهايتها...قال بعض من حضر: لكأن لك بينهن ذكري طرية بموقعها علي قلبك و ان قدم بها العهد.. فراح يحاول الاخفاء علي شتي مذاهبه و أساليبه، و لكن كان في عينيه ما يفصح بكل خبر قلبه، فقد غدتا تغفيان تحت هباءة كثيفة من الذهول، حتي ليظن الناظر الي مقلتيه أنهما جمدتا في غير حياة، لولا بصيص رفيع الخيوط كانتا ترسلانه قلقا، علي أنه مال يتخافت فيما تموهت به عيناه من دمع رقيق، لما يؤذن له فينحدر.و بينا هم علي ترسلهم و تبسطهم، استأذن الحاجب، و أعلم الملك أن كبير النخاسين أتي بجارية فائقة «يود عرضها» فقد كان متعارفا أنه يبدأ بالقصر فيعرض عليه ما يهبط من الغلمان، فأذن الملك و أجريت «مراسيم» الدخول.و كان عجب الحضور كبيرا حينما مثلت بينهم، فهي تتمتع بأكبر قسط من جمال الرؤي، حتي لقد كان يتراءي للكثيرين منهم أنهم انما يبصرون منظرا من جمال فن خيالي، يجي ء من دونه كل ما في طاقة الحياة من فن الجمال.هبطت علي جمعهم هبوط اليرعة علي جماعة الطير في الغاب مع ظلام

ص: 516

المساء، فاهتزت أعصابهم كالأوتار، و نطقت بلحن الحنين المواج فحامت في مدي بدوات هذا الابداع. كانت علي أعصابهم صدمة جمال فعلت فيها مثلما تفعل صدمة الضوء أو النغم التي يتجاوب معها فضاء النفس الخلاء بنوع اهتزازها، فتميد أو تذهل، و الصدمة الشعورية كلما كانت أشد تمكنا من الأعصاب كانت أكثر تأثيرا و أدوم أمدا.و هذه الفتاة الكاعب تركت فيهم أثرا أخاذا حادا لم يزل يتزايد، حتي باتوا منها مثل النحال و قد عرض لها مصباح كثير التوقد و الألق في لسان الشعاع.و كان في هذا الذهول الذي عراهم، ما جعل أحدا لا يفطن الي ما استبد بيديح من اضطراب و ما تملكه من تلهف. كما لم يفطن أحد أيضا الي ما ساورها من خلجات عنيفة كظمتها، فعر بدت علي قمم مقلتيها ناطقة باللحظ الوثاب. كان لناظر أن يقدر أن بديحا أكثرهم أخذا بها لأنه كان أكثر تذوقا للجمال. و اما أن يقدر أنها بالذات نفس فاتنته التي احتفظ بها ذكري ندية بالغرام، و عرضت لنفسه منذ هنيهة في بعض الحديث، فهذا ما لم يكن يقع في مذهب الخاطر المرسل.لقد قطع هدأة وجوم الانجذاب معاوية بقوله مخاطبا كبير النخاسين: لشد ما أدهشتنا حوراؤك، فمن أين هي؟ «و ما اسمها»؟قال الرجل: «اسمها هوي»... فانبعث بسر بن أرطاة انبعاثا يقول:«هي و الله كاسمها هوي»، تخفض منه و ترفع، و تطيل به و تقصر، و تنشر منه و تطوي.قال عمرو بن العاص: و ماذا يكون الهوي ان لم تكنه؟؟.. و كان بديح قد ضبط أرشية قلبه الفائر بالذكري و الحب و الآلام و البعد و القرب» أو القرب الذي كان في معناه نقطة الغور في البعد السحيق. شعر الآن فقط أنها نأت عنه و الي الأبد، أما عرضت علي الملك و نالت استحسانه و حظت باعجابه، فهو لا محالة

ص: 517

سيضمها الي جملة وصائف القصر و ولائده، فكان في حس نفسه كأنه بعض علي جانب قلبه يمضغه.كيف لم يبتعثه القدر الي الخروج منذ هنيهة و يتلقاها عرضا، فقد كان يحول بينها و بين الدخول و يحظي بها لنفسه، و هو الذي ظل يتمني حياته لحظة لقاء منها. لقد مده القدر بساعة لقاء عفوا، و لكن فيها مرارة النكاية و التلويع، ففاضت نفسه حسرات. بيد أنه ظل يعالج مشاعره و يحتمي وراء براقع صفيقة من التجلد فقال:مثلما هي براعم الازهار كانت حقا للجمال و العبير في الزهرة، للعواطف الحية حقاق أو براعم، تتفتق عن زهرة جمال أحيانا، و عن زهرة هوي أحيانا، و عن زهرات معان أخري أيضا.و هذه الغادة كما أراكم تحسون - برعمة الهوي في دنيا القلب الشاعر - تتنفس بأريجه مع السحر الندي كما تتنفس الورود. و في حسي ان الازهار تعبر عن العواطف المجتمعة في قلب الطبيعة الصامتة، كما تعبر هذه الغانيات عن العواطف المجتمعة في ضمير الطبيعة الحية و قلب الانسان.و في غابر أيامي مع نزوة من نزوات شباب القلب أحدثت هوي و أحدثت فيه بهذا المعني شعرا:يا وردة في رياض الحب يانعة تزجي الهوي، كلما مر الهوا فيهاهيا انشري عطرك الفاني الذي امتزجت به الدموع، وروته مآقيهافسر عطرك هذا، أدمع سكبت علي جذورك في نجوي لياليهاثم استحالت عبيرا من طهارتها فنوهي بالهوي ما شئت تنويهافانت ذكري محب طالما احتبست انفاسه، ثم خانته خوافيهاكم من صريع هوي، قد عاج منتحيا الي ظلالك شاقته مغانيها

ص: 518

فراح ينظم آهات مقطعة و راح ينثر معني من معانيهاحتي انتهي، في خضم الدهر مثل صدي و أنت ذكري هواه بت تحييهاو كان بديح ينشدها بصوت زافر الرنات خافت المقاطع و الكلمات، و بوجه ساهم النظرات بادي الذهول، حتي لقد خيل لكثير ممن حضر أنه استحال صدي، كما راح ينشد و يقول.فقال معاوية: لكأني بك - يا بديح - أحدثت بها هوي جديدا.قال بديح: بل انما تعلقت بأسباب هوي قديم، و استيقظ في قلبي رسيس حب ضاق به النسيان.. و انقطع بهم عارض الحديث، فعاد النخاس الي مقاله:و هي صابئة المنبت و النجار، ترقي الي أنها أعدت لتكون كاهنة في هيكل ربة الجمال عندهم، و الصابئة يتحرون في مثلها أن تكون نسقا في الملامح و التقاطيع و الشكل مع آلهتهم، لتبرز لهم في المواسم و الأعياد و كأن ربة الجمال برزت لهم أو تقمصتها، فانتهت بها صروف الاقدار الي حيث تري.و العجب - يا اميرالمؤمنين - أنها ذات فلسفة في الحياة رغبت بها عن متع الحياة، و القتها في مثل الزهد.و أعجب من هذا أنها سكنت الي الاسلام و اطمأنت اليه فاعتنقته، و أتت في فهمه بالعجب العجاب...قال معاوية ناشطا: كيف تقول:قال: نعم هو ما أقول لك... فضمها الي قصره، و قد بذل فيها «مائة الف درهم». و واصل: لقد صدق و الله بديح في ما مضي يحدثكم به...و لكن لم تبعد الوصاء بها، حتي استوي و كان متكئا، فقال:«لمن تصلح هذه الجارية»؟

ص: 519

قال عمرو بن العاص: من «سوي أميرالمؤمنين تصلح له»؟ و كذلك «قال آخر و آخر»، و معاوية يقول لا، و يبتسم كالذي يعاييهم.و بعد أن أخذ منهم التشوف مأخذه و تزايد التلهف - و الراغب يكون آملا أبدا - فكان أكثرهم تشوفا بديح، فقد عرض في خاطره أن معاوية قرأ قلبه، و بعد أن نطقت الحيرة البادية علي وجوههم ايضا، و بعد لأي، قال لهم معاوية:انها بروحيتها و كمالها لا تصلح الا للحسين، «فانه أحق بها، لما له من الشرف، و لما كا قد شجر بيننا و بين ابيه».. فارتسمت علي وجه الحضور آثار مشاعر مختلفة متناقضة. أما بديح فكان محلا لأنواع شتي من الشعور، فقد انشرح واكتأب و طرب و حزن في درجة واحدة من الانفعال. انه أمل أن يكون موضعا لسقوط هذا الندي و تمني و هو الظامي ء بالهوي أن تكون ريه هذه الغادة حواشي هذا الاكتئاب عنده انشراح، مصدره ان الحسين و هو المنتشي برحيق الهيكل و المستغرق في التأمل الالهي و الطافح بخير الانسان، لن يبخل بها عليه، و ان لم يكن، فلا أقل من أن مقامها أضحي صنو مقامه بين آل ابي طالب؛ هو لم يكن، فلا أقل من أن مقامها أضحي صنو مقامه بين آل ابي طالب؛ هو يتشهي أن تكون قريبة منه و كفي، انه يريدها متعة قلب و قد سقط علي أمنيته منها.ففار في نفسه ينبوع بشر ضحك معه ضحكا خفيا في الخيال، و زاد به حتي انفجر يضحك كالمعربد الغرد، مما جعل الحضور يرمقونه باستغراب، و طاف علي السنتهم: ما بال بديح؟.. و لكن قطعه عليهم بقوله:انها ستكون مفاجأة لذيذة الوقع علي الحسين، لا سيما و قد كانت كاهنة في هيكل ربة الجمال، و هو الحالم الهائم بالجمال المفعم به ضمير الوجود.بعد ما تناولتها الوصائف بالتطرية و الهندمة مع أسلوب القصر، برزت كالربة التي تحلم و البحيرة تصطفق بأمواجها الرقيقة عند الشاطي ء.كانت ساحرة الفتنة مغرية الجمال، و لكنها تري مع ذلك كالهائمة في ضميرها. فلم تكن بمنظرها تثير أصداء الشهوات بل تنشر أحلاما نشوي من

ص: 520

أحلام الروح، تلقي الناظر قسرا في مثل المحراب الذي يشيع في القلب مثل معني صلاة خاشعة.و هذا اللون من الجمال غير محبب الا للهائمين في دنيا ضمائرهم، و أما الآخرون الذين يهيمون في دنيا أعصابهم و يتطلقون في مدي رسومها، فانهم ينفرون من هذا الجمال الذي يغريهم بمعني مبهم لا يتذوقونه، فيطعمون فيه مرارة الفقد، ثم لا يحرك أي وتر من أوتار قيثارة خيالهم المركبة تركيبا لا تنطق معه بمثل ريشة هذا الجمال، أو تنطق بنغمات متنافرة توحي بالمرارة.ان طبيعة الانسان المعنوية مركبة تركيبا نغميا (موسيقيا)، و هي - علي نسق أوتارها المتحركة بريشة البواعث، اذا صح هذا التعبير، متنوعة الالحان و الايحاء. فمنها ما يوحي بالشهوة، و منها ما يغري بالتأمل، و منها ما يجيش بالدماء، و منها ما يمور بالحنان و الحب، و منها ما يدفع الي الاستعلاء. ان اللذة في حقيتها انطباعات و ارتسامات، فاذا مرت بالنفس نماذجها استجابت اليها و تحركت معها حركة انسجام لاذة.أمضت «في القصر أربعين يوما»، كانت لا تفتأ خلالها تفكر في مصادفة هذا اللقاء مع بديح و هي التي باتت في يأس من لقائه، و قد باعدت بينهما أسباب و أزمان.و ذهبت تناجي نفسها: ويح بديح، انه لم يزل في مثل يقظة عواطفة ليلة لقائنا للمرة الاولي بين أروقة هيكل «فينوس». ويح بديح! لقد كابد في سبيلي كثيرا و تجرع أمر الغصص و الآلام من أجلي، ثم تناهي به بعاد يعتصر عليه قلبه، فكم ذا يقاسي؟.يا ما ألذ وقفة انتظار، في لحظات توله و تلهف، كنت أقفها عند بعض أعمدة الهيكل، و بديح مقبل تحت رداء الليل يمتعني بنفسه في جلوة قلب مغرم، أضفت عليها خلوة الاحلام! ياما أقدس تلك الرعشات، و أعذب وقعها!!.اني لأذكر تلك الليلة و قد هبت فيها الاعاصير و لعبت في مسرحها العاصفة،

ص: 521

و كانت الآفاق تزأر زئيرا مخيفا، و الغمام يهبط مع جنح الظلام كثيفا كثيفا كأنه شاء أن يطمر الارض بما هو منزرع فيها من الحياة و الأحياء، و كانت الرمال تتعالي و تتعانق في شكل الأقواس، و ذعرت فيها حتي طيور الليل فانكفأت منكمشة في المغاور و الحفائر، و قد أمسكت حتي الركز من نأمتها.و اني لتمنيت و أنا واقفة عند عمود الرواق الداخلي، أنه لا يأتي في ليلة بركان السماء. و بينا أنا واجفة مخطوفة اللب بالتخوف و الترقب أحرق قلبي للربة قربانا كي تحوطه و ترعاه، اذا هو مقبل كأنما رمي به الاعصار في العراء و تمخضت عنه العاصفة و وضعته في التيار الدائر في جنون.أسرعت اليه أعتنقه دون الهيكل و هو يلفني كتلة طفولة، حذرا علي من طيش هذا الليل، و في الهيكل استند الي صدري كالذي خرج من المعركة ظافرا يجدد حياته في حس مخلوق جديد، انه خرج ظافرا من معركة العناصر و قد استدارت عليه بضراوتها. استند الي صدري و اطمأن كأنه يجد فيه ينبوع حياة، فهو يستمده بعض ما انتهبته العاصفة، و هو يصارع الاعصار.قلت له و أنا أدغدغ جبهته و أعبث بشعره المتطلل (1) الذي كمنت فيه أصابع العاصفة: لماذا ركوبك الاعصار الي محراب حبنا؟. لكأنك من عدم مبالاتك محب فوق بركان.. فابتسم و أخذ وجهي بين كفيه يقول:أأعرف أنك تصلين في محراب الحب و لا أسعي اليك في أجنحة الطير، كي أشاركك ترنيمة الهوي و ترتيلة الهيام؟ انك لتقسين علي في الظن بي.قلت: عفوك! أردت أن تتخذ لنفسك محرابا في الذكري و لا تتجسم هذه الاخطار الي.قال: ان محراب الذكري يغري بالظمأ في الحب و يضاعف شعوره، و اما الري في الحب فانما يهبط في محراب هذا الصدر الذي يمرح في فضائه قلب يمد بندي الغرام.

ص: 522


1- 322. نعني بالمتطلل المتخذ شكل الاطلال؛ و تفعل بهذا المعني قياسي.

ايه غادة أحلامي! ليست العاصفة الرعوب هي التي تشهدين في حواشي هذا الليل، و انما هي عاصفة القلب و قد فارت فيه فائرة التياع، بل تلك، بجنب هذه، زغردات و ابتسامات و زقزقات ترسلها الطير مع السحر.. قسما لو حالت دونك أرض زرعت فيها كل البراكين، لتخطيتها اليك مغتبطا مسرورا.فقلت معترضة: لا تبالغ، فان هذا بين البشر لا يكون، و انما هو من طباع الربات و الأرباب.. فذهب ضاحكا يقص علي قصة ذلك العاشق الكردي الذي طلبت منه فتاة هواه و ردة حمراء و أخري صفراء؛ و كانت حديقة الورود في يقظة حراس أشداء و في عين أسود غضاب، و يفصل دونها نهر يعج بالتيارات، فانطلق العاشق في مدي رغبتها يخوض النهر، و تقلب في حديقة الورود يبحث عن الوردة الحمراء فلمي يجدها. فعاد مبلل الثياب يقول لها مبتهجا: لقد أتيتك بهما.. فانه كان يحمل في يده الوردة الصفراء، و أما الوردة الحمراء فكان يحملها في صدره ثغرة فوارة بالدماء، فقد أصاب سهم الحراس قلبه فشطره..قلت له متفجعة: أيكون ذلك حقا؟!قال: ليس هو بعيدا عنك، ألا فامتحني في العاشق الكردي. أقول لك و أنا اعني ما أقول، لو تحدتني كل أرباب الأولمب كما تحدت «هرقل» لقاومتها في سبيلك ساخرا بقوتها.. فأخذت عليه سبيل الاستمرار و قلت له:بحقي لا «تجدف» علي الأرباب، و أيضا في هيكل ربة الجمال «فينوس»، أني أخاف عليك.. فانقلب يقهقه قائلا:لماذا لا تفكرين أنك انت الربة الحقيقية، و أما «فينوس» فربة خيالية أثيرية فقدت حرارتها، و بابرازك كاهنة في هيكلها يمدون وجودها البارد في الخيال، بحرارة أنت تنشرينها و توزعينها. فوضعت يدي متولهة علي فمه أقول:لا! لا أريد أن أسمع منك تجديفا. آه لقد فجعتني، أأنت أيضا يا بديح تتكلم «بالهرطقات»؟!.. لقد كنت في ذلك الحين مؤمنة بقدرة الربات، و أنا

ص: 523

أرغب علي من أحب بأن يكون مثلي رأيا و ايمانا، لكنني عرفت بعد ذلك أن بديحا كان أعمق مني معرفة و أهدي تفكيرا.لقد كنت مفعمة بالايمان، فصوره لي حديثه صورة منكرة توحي بالشر الكريه، فانقبضت عنه و ذعرت منه، و بالغ بي هذا اذعر فكرهته، وعدت بعد ذلك أتحاشاه و أنفر منه، أود أن لا أراه. و كنت أسائل نفسي: أيكون بديح مجدفا؟ و هو في نفسي صورة من ملاك؟ كلا لا أود أن أخنق بيدي بديحا العائش في خيالي، أود أن لا تشوه صورته في نفسي، و أنا اذا اجتمعت الي بديح ستمتد يده الي تشويه ما استوي في خيالي عنه، و لكن بديحا الخيالي محبب الي الحب كله، و أتمني أن أظل متمتعة به منتشية بمثاليته، و مثلي كاهنة راضت نفسها علي الأحلام، انما تحب في أحلام الروح دون حب في أحلام الاعصاب، فكان طبيعيا ان كنت أتواري كلما تعرض لي بعد ذلك. و هذ ما يقع اذا لم يكن الايمان فكرة في النفس، بل كان عقدة في الروح أو أزمة في الوجدان. و كلما كان ايمان المرء عقدة في الروح تكون عواطفه قاصرة علي من يشاركه هذا الايمان دون سواه، بل يتعدي ذلك فتساوره نزعات يتحرك معها تعصبه.أما الفكر المجرد فانه لا يعرف تعصبا، و انما التعصب عقد في مكان الوجدان من النفس، فهي تتحكم بالعواطف علي لونها. و كلما كان الفكر أكثر ضيقا و الوجدان أكبر عقدا، فهناك يوجد شر أنواع التعصب، و عنده يستضيق المرء حتي بوجود من لا يشاركونه عقيدة الايمان. و لا شك في أن هذا بعض من طبيعة الانانية في الانسان، فاذا كان في التدين فكرة ايمان فهناك تدين صحيح علي نهج انساني، و اما اذا كان في التدين انانية ايمان فهناك أخطر شكل من أشكال اللاانسانية النكراء.فنزعة التدين الصحيحة هي التي تجعلنا نحكم الايمان بالفكر، دون العكس الذي يتولد من ازمة نفس و يولد أزمة نفس و حياة ايضا. أما الفكر فليس يقبل عقدة بل من وظيفته أن يحل العقد في النفس الانسانية و الحياة و الوجود، و هو اذا قبل العقد أحيانا فانما قبلها في ضرب من الامتحان و في ضروب خفية من الارتياب.

ص: 524

فالفكر يرادف الامتحان أو النقد المجرد، و تقدم الانسان معناه تقدمه في الفكر الذي ينتج حل اكبر مقدار من العقد، و في ظني اليوم أن تقدم الفكر ليس معناه القدرة أو الغني في التفكير بل معناه الكفاءة علي التفكير بدون اعصاب أي بتجرد للفكر، و من ثم لا نحب أو نكره و لا يضر بنا القرب أو البعد بل تمحي فكرتهما ثم لا تتصرف بعواطفنا تبعا لهما.ليتني كنت أعرف هذا من قبل، اذن لما جافيته و نفرت منه و ظللنا في متعة الحب الخالدة... لقد رأي بديح مني ذلك الاعراض فلم يطق الحياة و اجتواها، فذهب علي وجهه، لا أدري أين وقعت به يد الأقدار؟و لقد احسست و الله بعد ما فقدته بالأسي الفظيع، فطلبت السلوة في الشرود بالمعرفة، فاندفعت الي فكر جديد. فهجرت الهيكل و ابتدأت رحلتي وراءه من من نقطة هائمة، فانتهت بي قراصنة الروم الي حيث مكاني، و كان قدرا ماتعا، فقد رأيت بديحا...بعد مقام قصير في البلاط «حملت الي المدينة مشفوعة بأموال عظيمة و هدايا كثيرة متنوعة، و محاطة بكوكبة من الفرسان، و زود الملك رئيس الركب كتابه الي الحسين جاء فيه:ان اميرالمؤمنين اشتري جارية فأعجبته فآثرك بها».أدخلت علي الحسين و هو منصرف الي القرآن، سابح في مدي تأملاته يقرأ «و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلي دلوه، قال يا بشري، هذا غلام. و أسروه بضاعة، و الله عليم بما يعملون».و كان في الجو الذي يكتنف الحسين ما أعاد اليها ذكري الهيكل، و نقلها الي مثل المحراب، و زاد بها هذا الشعور فاعتقدت يقينا أنها لم تعد في شي ء مما يتصل بدنيا الناس، فحفتها سكينة و لفتها هدأة الروح و غرقت في خضم بعيد القرار من الابديات، و أحست أنها مثل غرنيق - طير الماء - تترجح به الامواج

ص: 525

الحالمات، و كانت سكري بما يتساقط الي سمعها من نغمات مسحورة، تشعر بها في مدي روحها عذبة ندية.كانت لها هدأة طويلة لم تفق منها الا علي صوت الحسين يستقبل رئيس الركب، و راح هذا يحبره بكل خبرها و يروي له كل ما ترقي الي سمعه من أنبائها. فالتفت الحسين اليها في ابتسامة مواسية يقول:لظني بك، و أنت جديدة عهد بالاغتراب، أنك موحشة النفس، و بودي أن تتداركك حال تأنسين بها و تطمئنين.قالت له هوي: كنت خليقة بالوحشة في غير مكانك، و لكنني و أنا فيه فاني جديرة باطمئنان في النفس و الضمير... شاعت علي وجه الحسين ابتسامة هادئة هانئة، و قال دهشا:لقد سبق الي ظني أنك لا تجيدين العربية علي نسق ما أسمع، و لكن أما و أنت مثل أصيلة في اللسان، فلن تكوني غريبة عن حياة بيئتنا العربية، ان لم تتذوقيها مثل أصيلة فيها أيضا.. فابتسمت في استحياء و اغضاء و قالت:بل - يا مولاي - لأحس في كنفك أني عربية صليبة عريقة الهوي و القلب في مواقع رغباتها و ميولها. و لقد حبب الي لسان العرب أنه يتمتع بأكبر قسط من وحي الطبيعة و الفطرة، ففيه صور و اصداء، و مناظر تامة صادقة انتزعت من الطبيعة مباشرة و سكبت في قوالب الألفاظ بدقة و حقيقة، بل لقد أفرغت الطبيعة أشياء ذاتيتها في الكلمات كأنها طلبت حركتها الحية في اللغة.و في لسان العرب أيضا مشاعر و أحاسيس انسانية و حيوية، لم تتحرف و تتكسر بتحكم الفكر و اختلاقه، و بعبارة أصح تشويهه. فهذا اللسان طبيعة و حياة و انسانية في أصدق ألوانها، و مفرداته كلمات الطبيعة أول ما تحركت و نطقت؛ فقد تصيدها العربي و انتحتها و هو بعد يتوجه بالقريحة النقية، دون التواءات الفكر و التفافاته، فهي أنقي ما تكون لغة في مذهب التعبير.

ص: 526

و لقد عمدت الي كهف روحي فوجدته قاتما حالكا، و رأيت مصباح فكري خابيا و هو اذا توقد وشع، فلا يضي ء كهف روحي و أظل منه في ديجور، فقد حيل بينهما بسدود كثيفة صفيقة؛ لكنني وجدت دينكم الجديد قد حاول و نجح الي أكبر حد في رفع هذه السدود القائمة في دروب النفس، و أذكي شعلة الفكر فاتصل ما بين الفكر و الروح بالشعاع و بت متألقة المعني، فسكنت الي دينكم و طعمته أيضا فتعشقته، انه رفع السدود في دروب روحي و كانت هائمة متخبطة بين سد و سد، و أطلال خرافات و أساطير.قال: لله أنت! أكنت حكيمة أم اديبة؟ هل «تجيدين القرآن» تلاوة؟قالت: نعم.قال: «فاقرئي علي» ان شئت... فراحت تتلو «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو، و يعلم ما في البر و البحر، و ما تسقط من ورقة الا يعلمها، و لا حبة في ظلمات الارض، و لا رطب و لا يابس الا في كتاب مبين. و هو الذي يتوفاكم بالليل، و يعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي، ثم اليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. و هو القاهر وق عباده، و يرسل عليكم حفظة، حتي اذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا، و هم لا يفرطون. ثم ردوا الي الله مولاهم الحق، ألا له الحكم و هو أسرع الحاسبين»... و كانت تتواجد في تلاوتها تواجد من قد أخذ بنشوة مفعمة.قال لها: يخيل الي انك اكثر وعيا لهذه الآيات من كثير من العرب انفسهم، لما رأيت عليك من سبحات الخشية.قالت: بودي أن أكون عند ظن مولاي بي. و لم لا يعروني ما قد عراني؟ و أنا أتلو هذه الآيات القوارع التي تجعلني في محيط علم الله و كأني كل ما في المحيط أو ليس غيري فيه؛ علي أننا من هذه الحياة في مسرح نقوم عليه بأدوارنا، و لسنا ندري أمحسنون نحن في أدوارنا أم مسيئون؛ ثم هل هناك أنقي تصويرا لعلاقة الله السببية في الوجود، و لعلاقة الله الادبية بالانسان؟ أما في كل هذا ما يبعث علي

ص: 527

الدهشة و الخشية جميعا؟ أما فيه ما يغري الروح بلحظة سكينة و هدأة تأمل؟ و كان الحسين يقاطعها بقوله:ايه! ايه أي بنية، فقد أحسنت و الله!... و واصلت تقول:أما يجد مولاي في الوقوف عند هذا التعبير «مفاتح الغيب»، ما يبعث علي التأمل الطويل و ينشر في القلب و جمة تفكير مديد؟ هذا التعبير الذي يرسم الغيب في الخيال علي هيئة أدراج قامت عليها الاغلاق، و في كل أشياء الوجود و الطبيعة غيب مستور، أو فضاء و دنيا من عالم مبهم غيبي محجوب؛ فالشي ء من الوجود درج غيبي يسبح فيه عالم خفي مديد و عند الله مفتاحه، و ما محاولاتنا الحثيثة في استكناهه الا غوص و وقوف عند الشاطي ء بازاء المجهول.قال: لقد زدت علي الاحسان، أي بنية... و أضفي صموت طويل كان مسرح خواطر شتي، و لكن الحسين قطعه بقوله:الا تروين «شيئا من شعر العرب» و أدبهم؟قالت: بلي... و كانت لم تزل في اثارة من صوفيتها المفعمة، فأنشدته أبياتا جاء بينها:انت نعم المتاع لو كنت تبقي غير أن لا بقاء للانسان و لذها الانشاد في هذا اللون المبطن بالروح و لفتات الاشراق، فأنشدته شعرا سبق لها أنها أنشأته معبرة عن شعور نفسها «في مجلس معاوية»، و ما قد كونته من نظرة الي الحياة و قيمتها و جهد الحي فيها:«رأيت الفتي يمضي و يجمع جهده رجاء الغني، و الوارثون قعودو ما للفتي الا نصيب من التقي اذا فارق الدنيا عليه يعود»فلم يملك الحسين الا ان يتواجد، و ما هو الا أن فاض في قلبه ينبوع حنان تندت معه مقلتاه و تبلور فيهما مثل الدمع، و الا فهو عصارة شعور بعبق

ص: 528

التقوي. ثم قال لها: اذهبي «فانت حرة و ما بعث به معاوية معك فهو لك»، علي انك عندي ابدا مثل كريمة عزيزة المكان في هوي أهلها...و ما هو حتي اقبل بديح يستأذن عليه، فقد أوفده مولاه عبدالله بن جعفر الي دعوة الحسين، و لكنه ما مثل بين يديه حتي رأي مهاة قلبه مرة اخري، بيد أنه في هذه المرة كان أعنف شعورا بها، فقد جددت عهد هواه في دمشق، و قد احالت قلبه الذي كان كشلو تناهي في حب ضامر قديم، الي قلب جديد حياة، انصب فيه جديد حب ما فصل عنه امس و.. فتاهت حروف كلماته في فمه، و احتضرت مضطربة علي لسانه، و قسرا و جم في ذهول طال به مداه.. و تداركها مثل شعوره و غصة قلبه فانخطف لونها، و الحسين يري فأطرق اطراقة مائجة بالايحاء، مر في خاطره معها ان بديحا ينتهي الي مثل غربتها، فغير بعيد ان تكون ذات هوي به و ضرب الزمان بينهما، فباعدهما قدر عاد في دورة اخري يضمهما.. و جدير بي ان أكون خط النهاية في دورة القدر البهمة؛ فالتفت الي بديح و قال:كنت علي اهبة ان استقدمك الي يا بديح، فسقطت من نفسي علي موعد؛ أنت عندي مثل كريم عزيز، و هي عندي مثل... فاستخف ببديح عاصف فرحة كبري، حتي كأنه دفع الي الخلد من نافذة بعد أن حيل بينه و بين الباب طويلا. و لم ير الا مكبا علي يد الحسين يقبلها، في موضع تلاقي عليه ثغران: ثغره و ثغرها.و كان في منظر وضعهما ما أفعم قل الحسين بغبطة الروح «ففاضت مقلتاه» بدمع السرور، السرور غير المحدود. و بذل لهما «الف دينار، و قام الي صلاته» هاني ء القلب ريان، ناعم الضمير نشوان...جاؤوا يقتنصونه بغانية من فتون الدنيا...لعلهم يهبطون به الي مثل حضيضهم و رغامهم...

ص: 529

بيد أنها ما استهوته. عل أنه قد استهواها...فقد مسها بشعلة من الاشراق، غدت بها خلقا آخر...و جد قلبا حائرا يبحث عن قلب تائه...و كلما أوشكا ان يلتقيا، يضيعان الطريق مرة اخري...فكان همه ان يصنعهما سعيدين... فضم قلبا الي قلب و مزج نفسا بنفس!...

ص: 530

استشارة

أفاق من في البلاط الأموي، علي حركات غير عادية امتازت بالنشاط في تجمعات تشاور هامس، و كان جو هذا التجمع مطبوعا بطابع الاهتمام و الجد، فقد أزمع أساطينه احداث انقلاب خطير يمس القاعدة الأساسية للحكم. و فوق ذلك أزمعوا علي أخذ العرب بحكومة الفرد، بعد أن راضوهم عليها أمدا ليس بالقصير، و باساليب كلها العنف و الاعتساف في فترة طالت ذؤابتها، فكانت تاريخا امتلأ بشهداء الحرية و الشعبية في مذهب الحكم.و كان قد سبق الملك و وجه دعوة عامة الي أمراء الأمصار، فاجتمعوا لديه ينتظرون سماع المفاجأة التي من شأن هذا الاهتمام ان ينطوي عليها..وما هو الا أن تلكم المغيرة بن شعبة، و كانت السن قد تناهت به فلم يكن صوته يبين، فقال:تعرفون أنكم الشعار دون الدثار عند الملك، فعليكم يعتمد، و أنتم البطانة التي عليها يتكل، فمصالحكم بمصالحه مرتبطة، و أمركم بأمره متصل؛ و قد اتجه رأي الملك الي أمر خطير أحب أن يفاوضكم به، و يستشيركم قبل أن يعتزمه و يعقده.. فاشرأبت أعناقهم و تطلعوا في اصغاء مرهف، و واصل المغيرة:رأي الملك ان لا يترك الناس بعده سدي «كالضأن لا راعي لها»، و قد اختار

ص: 531

ابنه الرشيد يزيد؛ و من اكفأ بأعباء هذا الامر منه؟! و رماهم بنظرة فاحصة متحدية، و راحوا ينظر بعضهم الي بعض و لفهم صمت طويل قطعه زياد بقوله:«ان علاقة امر الاسلام و ضمانه عظيم، و يزيد صاحب رسلة و تهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فرويدنا بالأمر.. فأقمن أن يتم لنا ما نريد. و لا نعجل، فان دركا في تأخير، خير من تعجيل عاقبته الفوت».. فقذفه المغيرة بنظرة شزرة صاعقة و قال:اكنت تظن ان المشورة هنا معناها ابداء الرأي؟ و هل نحن بحاجة الي رأي امثالك؟ ان المشورة هنا معناها السماع و التنفيذ و الطاعة فقط حسب.. فهب عبيد بن كعب النميري، و كان مستشار زياد، يشرح كلامه و ما قصد اليه قال:نعم. هو ما تقول، فليس علينا الا السمع و الطاعة و زياد «لم يرد ان يفسد علي الملك رأيه و يمقت اليه ابنه. و انما قصد ان يخوف يزيد من خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، فتستحكم للملك الحجة علي الناس و يسهل له ما يريد.فقال معاوية: نعم ما قلت، و نعم ما ذهب اليه زياد»..و لم يكن زمن طويل حتي أعلن ذلك في مسجد دمش علي الناس، و كان معاوية قد حفل له و طلب الوفود من كل الأمصار، «و قرأ علي الجموع عهده و فيه عقد الولاية ليزيد» فأصيب بعض بمثل الذهول، و بعض بمثل الطيش، و كان بين هؤلاء و هؤلاء صنائع ذهبوا يطربون و يزينون، «فقام الضحاك بن قيس فقال:يا أمير المؤمنين: انه لابد للناس من وال بعدك، و الأنفس يغدي عليها و يراح، و ان الله قال كل يوم هو في شأن، و لا تدري ما يختلف به العصران. و يزيد ابن امير المؤمنين في حسن معدنه و قصد سيرته، من افضلنا حلما و أحكمنا علما، فوله عهدك و اجعله لنا علما بعدك. فانا قد بلونا الجماعة و الألفة، فوجدناها احقن للدماء و آمن للسبل و خيرا في العاقبة و الآجلة).و قال عمرو بن سعيد:

ص: 532

«ايها الناس: ان يزيد امل تأملونه، واجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع. اذا صرتم الي عدله و سعكم، و ان طلبتم رفده أغناكم، جذع قارع، سوبق فسبق، و موجد فمجد، و فورع فقرع. خلف من امير المؤمنين، و لا خلف منه»...فقال معاوية: اجلس - أباامية - فلقد اوسعت و أحسنت...فقال الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين: «انت اعلم بيزيد في ليله و نهاره، و سره و علانيته، و مدخله و مخرجه، فان كنت تعلمه لله رضي و لهذه الامة، فلا تشاور الناس فيه، و ان كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا و أنت تذهب الي الآخرة».. فأحمس يزيد بن المقفع، فوثب مرعدا مبرقا و قال:«أمير المؤمنين هذا...» و أشار الي معاوية؛ «فان هلك فهذا..» و أشار الي يزيد؛ «فمن أبي فهذا..» و أشار الي السيف.فقال معاوية: اجلس فانك سيد الخطباء...و قام المسكين الدارمي الشاعر فانشد:اذا المنبر الغربي خلاه ربه فان امير المؤمنين يزيدو تهيأ معاوية فدعا الناس الي المبايعة «فقال رجل: اللهم اني أعوذ بك من شره».قال معاوية له: تعوذ من شر نفسك فانه أشد عليك، و بايع.فقال: اني أبايع و أنا كاره للبيعة.قال له: بايع أيها الرجل، فان الله يقول: فعسي ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا».و ما هو الا أن حمل الناس علي البيعة في الشام و العراق، فتوجه معاوية لاعداد الرأي العام في المدينة من اجل البيعة «فكتب الي مروان بن الحكم،

ص: 533

و كان عامله علي المدينة، أن أدع الناس عندك الي بيعة يزيد، فان اهل الشام و العراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضهم علي الطاعة و حذرهم الفتنة، و دعاهم الي بيعة يزيد، و قال هي سنة ابي بكر الهادية المهدية».فكان لهذه الدعوة وقع النار في الهشيم، و سرت بين الجموع نأمات استنكار و أصوات تسخط، و تزايد بهم هذا الاستنكار و هذا التسخط، فاندفعوا يطعنون و يقذعون في الطعن، و مضوا ينثرون الاحتجاج نثرا دون رعاية او حذر.فقال عبدالرحمن ابن ابي بكر: «ما صدقت، ان أبابكر ترك الاهل و العشيرة، و بايع لرجل من بني عدي رضي دينه و امانته و اختاره لأمة محمد».. و ترادا طويلا، و انتقل بهما التجاوب الي التناوش و المهاترة من قبل مروان فقال:أيها الناس: ان «هذا المتكلم هو الذي انزل الله فيه، و الذي قال لوالديه أف لكما اتعدانني ان أخرج و قد خلت القرون من قبلي. فقال عبدالرحمن:أفينا تتأول القرآن».. و قطع الحسين عليهما اذ هب واقفا، و علي سيمائه مشت غضبة مكظومة راحت تنطلق و قد وجدت سبيلها:«أالي النار؟ تدفعون الناس بعد العار»، لقد حملوا أطماعكم متبرمين، و تركوا لكم انتهاب الدنيا كما شئتم و شاء الهوي و لكن احلولي في افواهكم المستوخم فتخطيتم الدنيا الي العبث بالدين، فأحر بنا أن ندفع النار بالنار... و ما هو حتي هب الناس ينكرون ولاية يزيد في مثل الزئير الدامي.فكتب مروان الي معاوية بذلك، فأقبل الي المدينة في ألف، فلما قاربها تلقته الجموع عند مآتيها و مداخلها، و ما أخذ نظره الحسين حتي قال: مرحبا «بسيد شباب المسلمين»، قربوا دابة لأبي عبدالله. و قال مثل ذلك او قريبا منه لعبدالرحمن بن ابي بكر و لابن الزبير. ثم انطلق بهم حتي أتي مكة فقضي حجه، و لم أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت و أمر بالمنبر فقرب من الكعبة، و هنا بدأ مفاجأته الانتخابية دون تقيد بعرف أو قانون، فأرسل الي الحسين و عصبته، و هؤلاء لم يخف عليهم ما يعتلج في نفسه، فاجتمعوا و تدبروا الأمر من كل وجوهه،

ص: 534

و تركوا المرادة و المدارهة لابن الزبير، فأقبلوا علي معاوية فرب بهم، و قال:«قد علمتم نظري لكم و تعطفي عليكم و صلتي أرحامكم، و يزيد اخوكم و ابن عمكم. و انما أردت ان أقدمه باسم الخلافة، و تكونوا أنتم الآمرين الناهين بين يديه». فرد ابن الزبير:«عندنا احدي ثلاث، ايها اخذت فهي لك رغبة و فيها خيار، ان شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله (ص)، قبضه الله و لم يستخلف، فدع هذا الامر حتي يختار الناس لانفسهم.. و ان شئت فما صنع ابوبكر: عهد الي رجل من قاصية قريش، و ترك من ولده و من رهطه الاذنين من كان لها اهلا.. و ان شئت فما صنع عمر: صيرها الي ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، و ترك ولده و اهل بيته، و فيهم من لو وليها لكان لها أهلا».قال معاوية: هل غير هذا؟.. قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن علي ما قال ابن الزبير. فقال معاوية اني اتقدم اليكم و قد اعذر من انذر، «فأنا قائم فقائل مقالة، و أقس بالله لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمته حتي يضرب رأسه».. و أمر ان يقوم علي رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، و خرج و أخرجهم معه حتي رقي المنبر، و حف به اهل الشام، و اجتمع الناس.فقال بعد حمد الله و الثناء عليه: «انا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: ان حسينا و ابن ابي بكر و ابن عمر و ابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، و هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم لانبرم امرا دونهم و لا نقضي امرا الا عن مشورتهم، و اني دعوتهم سامعين مطيعين، فبايعوا و سلموا و اطاعوا»... ثم قربت رواحله فركب و مضي الي الشام، تاركا الناس في دهشة المفاجأة ينظر بعضهم الي بعض، علي انهم انهالوا أخيرا علي الحسين و اصحابه يستثبتونهم فأجابوا: «كادنا بكم و كادكم بنا».كذلك انتهت المفاجأة التي حبكها معاوية و طلع بها علي الناس، غير عابي ء بانه اقام ولاية ولده علي البركان، و أطلق القنبلة في أسس البناء.

ص: 535

فان الحسين - الذي شهد المثل الاعلي للحكم أزمان جده و ابيه و من بينهما، و تقلب في الثورة علي الحكم الشاذ، و خاض معمعة البطشة الكبري التي كالها والده في كل مكان تأشب عليه اعداء الشعب و خصوم حريته، و رافق حركة التطهير التي بذل فيها من قلبه و نفسه - يجب ان يغضب و ان يتنمر و ان يندفع متلظيا و ان يثور مهدما فبناء.فان البناء علي الفساد ترميم للفساد و اصطناع لفساد آخر جديد. بيد انه في صورته الجديدة فساد مركب، و هو اعقد امرا و اكثر حيوية و اطول بقاء و نضالا.لذلك كان عمل المصلحين الحقيقيين هدما و بناء، و لذلك كان الشطر الاول دائما أروع و اشق و اقدس، فهو كفاح و تضحية و تعبيد.و بهذا و له فقط، و رأينا الحسين يولي وجهه قبل الثورة، قبل الانشاء و الخلق من جديد.قلما يبرز الأسد، الا عندما تتناوح الأرجاء بالعواصف...كأنه يأبي عليها أن تبدد أمن الغاب و سكون جلاله...و عندما احتدمت عواصف الاهواء، انطلق اسد الانساني يدفع العاديات عن الانسان...البركان نذير بالانقلاب...و كان الحسين بركان الاصلاح...و قد مضي كل مصلح بقبس من ذلك البركان، يرسله منارا يهدي في الحلك!...

ص: 536

الي الله

في صبيحة يوم من رجب سنة ستين، أفاق الناس في المدينة علي اصوات الغلمة، يمرحون في الأزقة و هم يتناشدون مقال عبدالله بن هلال السلولي:اصبر يزيد... فقد فارقت ذا مقة و اشكر حباء الذي بالملك حاباكالا رزء اعظم في الاقوام قد علموا مما رزئت، و لا عقبي كعقباكافادركوا ان معاوية قد قضي، و ان يزيد قد خلفه. فانقلبوا و بعضهم يحرق الأرم و يتميز حنقا، و بعضهم يشد غضونه تجهما و يدع وجهه يتمدد و يتقلص دهشة و رعبا. و مشي الخبر كما يمشي النعي حتي انتهي الي الحسين فغين عليه، كأن الارض دارت به دورتها سريعة سريعة، و ألم به اطراق عنيف كان مزيجا من اللوعة المرة و الأسي الحاد و التنمر الغضوب. علي أنه طفق يناجي نفسه، و قد تبدت له ماضيات النبوة و دنيا القرآن و جلائل العدل الاسلامي:الهي! ماذا أسمع؟ أيكون يزيد خليفتك في عبادك، و هو من عرفته صارما لا يشعر بغير وجوده، او يشعر بوجود الآخرين و لكن في مذهب نهمه

ص: 537

الدامي المفترس مثلما تشعر الذئاب بوجود فرائسها الذي هو مبالغة في عدم الشعور بغير وجودها فقط، انه يشعر بهم شعور الامتصاص و ارواء نهم الذات، ان ظمأته تطيف بهم محاولة لو تحيلهم قطرة تندي بها لعابها.أيكون يزيد القائم علي شريعة رسولك؟ و شريعته ذوب رحمة في ذوب عدالة و رفق، و هيهات ان تجد مكانها في غير ضمير فيه من معناها و فيه من روحها، و الا فهي عافية كالطلل، و ذاوية كالهشيم يعبث بها الهوي و يتقاذفها مثل اوراق الخريف، في اودية الشهوات و بين المغاور و الكهوف الضاجة بالفسوق.ان الشريعة، ككل تعليم، كائن يزودج بالحياة، فينفعل بها ليحيا و يفعل فيها لترقي. فاذا لم يتماسا ظلت الحياة جامحة فاجرة، و ظلت الشريعة مثل شرارة مخزونة لم تنقدح في فم المصباح فتحيا به و ينطق بها، صادعا بلسان الضياء و معلنا بنداء النور.ان شريعة رسولك وجدت حياتها في حياته، و استمدت روحها من روحه فترامت بالضياء الي كل مكان و طبعت بحقيقتها مادة الزمان، فسعدنا حينا بدنيا القرآن.علي انه عاد الي استغراقه و كان ايضا عميقا، و لكن لم يبرح حتي ساوره غضب مكظوم اشتعل في عينيه، وراح يناجي نفسه في نبرات حادة كأنها تلتهب:نعم. نعم. نحن بايعنا الله علي التقوي، و لن نبايع الا عليها أو نموت في سبيلها. ألا انه اختارنا لحمل امانته العظمي، و انتظر منا الوفاء و الافتداء بكل عظيم. و من نذر نفسه لله فقد أرخصها له.«ان الله اشتري من المؤمنين انفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن، و من أو في بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، و ذلك هو الفوز العظيم».

ص: 538

ان السموأل - و هو جاهلي لم يتأنس قلبه بالاشراق - عاهد انسانا، و استجاب حين دعاه الوفاء و كان داميا.استجاب جاهلي للشرف، فكيف لا استجيب للايمان، اني اذن لنك... خوار...«الموت خير من ركوب العار...و العار خير من دخول النار...و الله من هذا و هذا، جاري»...فكيف اذن بالعار و النار، أجمعهما علي نفسي في دنيا الظالمين..!و بينما الحسين في سبحانه القدسية و نجواه المائجة بروح الاصطفاء، تبدي لناظريه في وجهة قلبه اطياف يشتمها الرضي و تلفعها نشوة الاغتباط، و هي تباركه و تشد عزمه و تهيب به الي الوثبة، الي الوثبة الكبري، فهتف مستبشرا:رباه! ماذا أري؟ انها أطياف جدي المصطفي، و ابي الشهيد، من ورائهما الملائك، تدعوني الي اله، الي التضحية العظمي.كان الكبش، في يوم، فداء نبي...و لكن النبي الاعظم، انما يكون له الفداء الاعظم...و حبيب الي نفسي أن أكون ذلك الفداء...كان الحسين لم يزل في نجواه، حين «استأذن عليه، و هو في المسجد، رسول الوليد بن عقبة يدعوه، و كان يومئذ امير المدينة، فأمره الحسين بالانقلاب اليه، و قام الحسين و جمع بعضا من غلمانه و مواليه، و أمرهم بحمل السلاح، فانتهي الي الوليد، و قال لاصحابه:

ص: 539

اذا دخلت فاجلسوا علي الباب، و ان دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا، فاقتحموا علي بأجمعكم، و الا فلا تبرحوا حتي اخرج اليكم.. فدخل الحسين علي الوليد - و مروان عنده - و جلس، فأقرأه الوليد الكتاب و نعي اليه معاوية، فقال الحسين:انا لله و انا اليه راجعون، أما البيعة فان مثلي لا يعطي بيعته سرا، و لا اراك تقنع بها مني كذلك.. قال أجل. قال: فاذا خرجت الي الناس فدعوتهم الي البيعة دعوتنا معهم، فكان الأمر واحدا. فقال له الوليد: علي اسم الله، حتي تأتينا مع جماعة الناس.قال مروان لما ولي: عصيتني و الله، لا قدرت منه علي مثلها أبدا، حتي تكثر القتلي بينكم و بينه.. و كان مروان قد اشار عليه أن ابعث الي الحسين، فان بايع، و الا فاضرب عنقه.قال الوليد: ويحك! أتشير علي بقتل الحسين؟ و الله ان الذي يحاسب بدم الحسين، يوم القيامة، لخفيف الميزان عند الله».رغم ما يعتلج في قلب الحسين من عاصف يكاد ينطلق، و بركان يكاد يثور، أبدي في هذا الموقف الحرج الدقيق أقصي ما يتصور من ضبط الاعصاب، و حسن التأتي الفائق في تصريف الامور، و اللباقة البالغة في الحوار السياسي.خرج الحسين من مكان الوليد مزمعا علي خطة، و ان تكن رهيبة، خفق لها قلبه، و استجاب اليها بكل مشاعره، حتي لبدت علي سيمائه و جرت علي لسانه، و هو قاصد الي مسجد المدينة، فقد سمعه ابوسعيد المقبري يتمثل بقول يزيد بن مفرغ:لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيرا، و لا دعيت يزيدايوم أعطي من المهانة ضيما و المنايا يرصدنني أن احيدا

ص: 540

و ما هو حتي هبط بأهله مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين، و لبث فيها حتي يوم التروية من ذي الحجة...في مكة حيث الذكريات الملهمات التي تضفو علي كل مكان من ارضها و سمائها، و عند معتنق الارض و السماء، حيث يقع الافق المكلل بالوحي، لبث الحسين يرنو و قدذابت في نظراته اوهام الناس في الموت و الحياة.ان نظرة اعتلق بالابد الفسيح الذي تبدو الدنيا بكل أشيائها من آفاقه، صدفة حقيرة في لج الفناء.و قد رأي هناك ان الاحياء يعيشون في عالم اعمالهم علي حقائقها، و الاعمال فيه ليست مآتي فقط تتقضي مع آنها، بل هي موالي يحياها المرء في حلاواتها و مرارتها، و في نورها و ظلامها. و المرء لا يحس بالألم او اللذة و القبح او الجمال احساسا مثلما هو شأن احساس الفناء، بل تحيا فيه كليات هذه المعاني حياة جوهرها.و كانت تلك الذكريات الخالدات لا تفتأ تتنادي به الي استئناف الجهاد، استئناف الجهاد الاول الذي يدأه جده المصطفي مكافحا وحيدا و بطلا فريدا، حتي أمال دنيا و أثبت دنيا، و ما قعد به أن الناس كلهم علي الباطل الب، و هو وحده الذي يدعو الي سبيل الرب.ان كلمة الله في فم الانسان تنتشر مثل شعلات.تحرق في مداها كل ما ليس منها.فاذا لها علي الارض ضياء كما لها في السماء ضياء.الله نور السموات و الارض...كانت تمر به هذه التصورات و قد مسحها جو مكة بما فيه من اقداس

ص: 541

و ذكريات عزم لا يقهر، فهب ناشطا في مثل الزئير الذي يبادر الانطلاق، غير ثابت أمام ناظريه الا «و لكم في رسول الله أسود حسنة».و أسوتي به، ان أجالد جلاده و ان اكافح كفاحه و ان انتهي لغايته.ألا ان رسول الله غل البغي و الباغي و دك دنيا الأوثان بما فيها، و ان الباغي اليوم يحاول الانفلات، و أوثان الآلهة استولدت أوثان الناس. فكيف اتلبث دون ان اغل ذاك و اعتصر هذا، و ما أبالي أكانت فيه منيتي ام امنيتي...و ان محمدا أخرج مهاجرا يدعو الي الله في مبالغة العيون و الاصاد، فكيف لا اخرج داعيا اليه غير مبال بالحياة، و لا مكترث بالموت في سبيله؟و لست أبالي حين أقتل مسلما علي اي جنب كان في الله مصرعي و كفي بعملي عند الله رضي، ان يكون الهجرة الثانية.ان الهجرة الاولي، هجرة رسول الله، كانت، و غايتها البناء.و ان الهجرة الثانية، هجرة سبط رسول الله، كانت، و غايتها المحافظة علي البناء.و ما هو حتي تسامع الناس بعزم الحسين، و ما هو حتي مشي الكثيرون بينه و بين غايته، يرغبون عليه أن لا يفعل و يثبطون منه و يوهنون ما استوي عليه عزمه. فقال ابن عباس، و قال ابن الزبير، و بده هذا، و ثني ذاك، الي كثير كثير، و كلهم قرم عشير و فخر قبيل.و كان الحسين يستمع اليهم و كأنه بطل المعركة المنتظر، يري في تحامي الفرسان جبنا أكبر عارا، فيزيده تلظيا وحمية، و في تقهقر الشجعان خورا ابلغ غورا و أثرا، فيوقده عزما و يصطنعه شكيما.مر نسر يحلق فوق الآكام، فتكنفته بغات النسور من كل مكان...

ص: 542

تهيب به أن لا يمضي بعيدا، فهناك صقور تعبث فسادا و تبث رعبا.و لكن النسر... شد جفنيه طويلا، كأنه لا يصدق أن هذه لغة نسر...علي انه مضي و هو يقول: ان النسر شي ء في المعني و ليس شيئا في الشكل...فاذا استحال المعني شكلا فقط، فهناك مسوخ لا نسور!...و انطلق يهوي غير مبال بما سوف يعترضه.و ما هو حتي و اثبته جماعة الصقور، فنال منها كثيرا و نالت منه مقتلا...علي انه كان مغتبطا أيضا فقد همس في انفاس المحتضر...سوف يظل في الاجيال أنه هنا يرقد نسر وجد حقيقته...و هناك تحيا نسور فقدت حقيقتها...انني أقضي، و يبقي في ضمير الوجود: أن اقتحام الطريق، دائما في الامكان...انطلق الحسين مودعا الكعبة بيت الله، حاملا روحها بين جنبيه و شعلتها بكلتا يديه...تواكبه الملائك و تباركه، و تطيف به كأنها حذرة عليه...فانه البقية من ارث السماء علي الارض!...رعيا لذكراك أباعبدالله، فقد أحسست بروح الأخلاق في روح الوجود...فأردت الحياة دنيا من الأخلاق و الفضيلة و الحب...و أرادها الآخرون دنيا من الشهوات و الرذيلة و الاحقاد...أردتها كونا من لذة الروح، و لو في شعور الأعصاب بالألم...و أرادوها كونا من لذة الاعصاب، و لو في شعور الروح بالألم...

ص: 543

فاستحالت الآلام الكبري، في حس الناس، لذة كبري في حسك!...حتي لقد شعرت حيال الدم المسفوح، أنه شفق من شعاع الروح...و رأيت، في حمرة الدماء، لؤلؤة جمال الحسن...و لا بدع، فقديما قيل:«ان الحسن أحمر»...

ص: 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.