استشهاد الحسين علیه السلام

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الطبري، محمدبن جرير، 224؟ - ق 310

عنوان العقد: [تاريخ الرسل والملوك. اختيار]

لقب واسم المنشئ: استشهاد الحسين علیه السلام/ ابي جعفر محمدبن جرير الطبري؛ تحقيق و دراسة السيد الجميلي

مواصفات النشر: بيروت : دارالكتاب العربي ، 1417ه. = 1997م. = 1376.

مواصفات المظهر: ص 221

حالة الاستماع: القائمة السابقة

القائمة السابقة كتابنامه: ص. 219 - 217؛ أيضا مع الترجمة

ملحوظة: تاريخ الرسل والملوك. برگزيده

موضوع : اسلام -- تاريخ -- متون قديمي تا قرن 14

موضوع : تاريخ جهان -- متون قديمي تا قرن 14

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلاآ، ق 61

المعرف المضاف: جميلي، سيد، محقق ، Jumayli, al - Sayyid

تصنيف الكونجرس: DS35/63 /ط2ت 2012 1376

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-30042

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة لدار الكتاب العرابی بیروت

الطبعة الأولى سبتمبر ١٤٠٦ ه_ - ١٩٨٥ م

دار الکتاب العربی

الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع تلفون : 805178/800811/800832

تلکس L.E40139 ... کتاب برقيا: الكتاب ص.ب: 5769-11 بیروت - لبنان

ص: 2

استشهاد الحسين

ص: 3

ص: 4

الهدا

إليك ... يا ابن أبي طالب ... بمالك من سوابق الخير، وفضائل السبق إلى الإسلام ومناقب أهل البيت التي انجلت فيك كواسطة العقد النظيم ، أرجو أن تقبل هذه الرسالة إلى مقامك السني الرفيع ودرجتك العالية في دار البقاء مني من دار الفناء .

ص: 5

ص: 6

دعاء

«اللهم أشفلنا بذكرك، و أعذنا من سخطك، و أولجنا الي عفوك، فقد ضن خلقك برزقك، فلا تشفلنا بما عندهم عن طلب ما عندك، و رغبنا عن الدنيا و رغبنا في الآخرة و زودنا لها بالتقوي».

ص: 7

ص: 8

تقديم

الحمدلله رب العالمين و الصلاة و السلام علي رسوله الأمين محمد صلي الله عليه و علي آله و صحبه أجمعين... و بعد.لقد تعرضت أمة الاسلام بعد انتقال رسول الله صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي الي فتن قاصمة و نوائب داهمة كادت أن تودي بالدولة الاسلامية لولا أن الله سبحانه و تعالي أراد لها البقاء و القوة والمنعة.و الفتق الذي لا يرتق و الثلمة التي لم تسد و الصدع الذي لم يرأب انما جرح الأمة الاسلامية في فلذة كبدها و لا تزال تتألم من المرارة و الحسرة و الحدب، انه مقتل الامام الحسين بن علي رضي الله عنه في لحظة من أحرج اللحظات و أصعبها علي أمة الاسلام و المسلمين.و لم يختلف المؤرخون بل و الناس مثلما اختلفوا في مقتل الحسين رضي الله عنه، ولكن مهما كان الاختلاف له أو عليه انما الجرم لا يغسل أدرانه أنهار الدنيا جميعا الي يوم القيامة انه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمة السيدة فاطمة الزهراء ابنة الحبيب المصطفي عليه الصلاة و السلام.و قد روي الشيخان عن رسول الله صلي الله عليه و سلم قوله: - «فاطمة بضع - و في رواية

ص: 9

بضعة - مني» (1) .و أن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسب رسول الله صلي الله عليه و سلم و سببه و صهره.و كان حب النبي عليه الصلاة و السلام للحسن و الحسين يفوق كل وصف و يربو علي كل تقدير و هو القائل: - الحسن مني و الحسين من علي» (2) .و قد روي الترمذي مرفوعا حسنه عن يعلي بن مرة الثقفي و كذلك ابن ماجه في سننه قوله صلي الله عليه و سلم: - «حسين مني و أنا من حسين» (3) .و هذا فضل لا ريب فيه و منة و كرم لابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و نحن أولي الناس أجمعين بعرفان هذا الفضل لأنه سنة من سنن نبينا عليه أفضل الصلاة و السلام.و النظرة التاريخية الفاحصة بعيدا عن الشطط أو الاغراق أو المغالاة تجعلنا في حيرة أي حيرة لأن كل فريق له رأيه و له حجته فيما انتهي اليه، و علينا أن ندعوا لهم و نستغفر الله لنا و لهم، ربنا اغفرلنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان، و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا انك رؤوف رحيم.و الحسين كان مصرا علي عدم مبايعة يزيد لأنه أحق بالخلافة منه لقربه من رسول الله صلي الله عليه و سلم، ثم انه كان قدوة صالحة طيبة و نموذجا للامام العادل الصادق القوي في الحق.

ص: 10


1- و في زيادة (فمن أغضبها أغضبني) و الحديث رواه أحمد و الحاكم و البيهقي بلفظة (بضعة)، راجع كشف الخفا للعجلوني (112: 2).
2- ذكر الشعراني في البدر المنير بغير عزو، و فيه قال العلماء لأن الحسن كان الغالب عليه الحلم كجده صلي الله عليه و سلم ا.ه. كما أن الغالب علي الحسين الجرأة و الاقدام فالشبه معنوي و قيل صوري. كشف الخفا (112: 2).
3- و قد ذكر السيوطي في الجامع الصغير (148: 1) قوله صلي الله عليه و سلم: - «حسين مني و أنا منه، أحب الله من أحب حسينا، الحسن و الحسين سبطان من الأسباط» البخاري في الأدب المفرد، و الترمذي و ابن ماجه و الحاكم و حسنه السيوطي ا. ه. راجع ترجمة الحسين بن علي رضي الله عنه في تهذيب ابن عساكر (311: 4) و خطط علي مبارك (93: 5) و ابن الأثير (19: 4) و اليعقوبي (216: 2) و صفة الصفوة (321: 1).

ولكن الوارد أن معاوية أخذ البيعة ليزيد علي رؤوس الأشهاد اذ حمد الله و أثني عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، و صفحي عنكم، و حملي لما يكون منكم، و يزيد ابن أميرالمؤمنين أخوكم، و ابن عمكم و أحسن الناس لكم رأيا، و انما أردت أن تقدموه باسم الخلافة، و تكونوا أنتم الذين تنزعون و تؤمرون، و تجبون و تقسمون لا يدخل عليكم في شي ء من ذلك (1) .و مع ذلك و بالرغم من كل ذلك فان الأمر لا يخلو من الغموض الشديد الذي يكتنفه الابهام، فقد احتوشته أقوال كثيرة مختلطة ضاعت بينها الحقائق التي أصبح الوقوف عليها متعذرا و نحن هنا نعرض الآراء جميعا ثم نناقشها بالمنطق العلمي و الرأي السديد.يقول القاضي أبوبكر بن العربي في كتابه الشهير (العواصم من القواصم) ص 222: «فعدل - أي معاوية بن أبي سفيان - الي ولاية ابنه و عقد له البيعة. و بايعه الناس، و تخلف عنها من تخلف، فانعقدت البيعة شرعا، لأنها تنعقد بواحد و قيل باثنين (2) .فان قيل ان من شروط الامامة العدالة و العلم، و لم يكن يزيد عدلا و لا عالما، فان الحكم في ذلك متعذر، كما أن امامة المفضول موضع جدل و خلاف بين العلماء (3) .و قد اكثروا القول علي يزيد و رماه بعضهم بالمنكرات فقيل انه كان خمارا فان ذلك لا يحل الا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟ و قد روي يحيي بن

ص: 11


1- راجع العواصم من القواصم للقاضي أبي بكر بن العربي المتوفي سنة 543 ه بتحقيق محب الدين الخطيب ط السلفية ص 222 - ص 224.
2- و قد ذكر ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل و الأهواء و النحل) (131- 129: 4) ط. السلام العالمية كيفية انعقاد البيعة و شروطها فعرضها عرضا دقيقا فأرجو الرجوع اليها.
3- راجع ابن كثير في البداية و النهاية ط. دارالفكر العربي ج 8 ص 219.

بكير عن الليث بن سعد، قال الليث، «توفي أميرالمؤمنين يزيد في تاريخ كذا» فسماه الليث أميرالمؤمنين بعد ذهاب ملكهم و انقراض دولتهم، و لولا كونه عنده كذلك ما قال توفي يزيد.و قد روي الثبت العدل عن عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان عن محمد ابن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد «ان كان خيرا رضينا، و ان كان شرا صبرنا» (1) .و قد رأيت أكثر الشيعة مغرقين في حملهم علي يزيد بأقوال كثيرة متضاربة لا تصدق (2) و أغلبها مكذوب مفتري كذلك فان ابن العربي و ان كان دقيقا في بحثه و تحرياته الا أن القاري ء قد يشعر بميوله الي بني أمية، و منا فحته عن يزيد (3) في كثير مما احتوشه من الاتهامات.و ان الحيرة و الدهشة لتأخذنا عندما نبحث و نحقق هذه الأمور ممن عاصروها و ممن كانوا قريبي الصلة بها.تأمل قول ابن كثير في وصف يزيد بن معاوية: -«و كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم و الحلم و الفصاحة و الشعر و الشجاعة و حسن الرأي في الملك، و كان ذا جمال حسن المعاشرة، و كان فيه أيضا اقبال علي الشهوات و ترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، و اماتتها في

ص: 12


1- العواصم من القواصم ص 225، ص 226 بتصرف.
2- و قد ورد أن عبدالله بن مطيع مشي هو و أصحابه الي محمد بن الحنفية (محمد بن علي بن أبي طالب) في المدينة فأراده علي خلع يزيد فأبي عليهم، فقال ابن مطيع: انه يشرب الخمر - أي يزيد - و يترك الصلاة، و يتعدي حكم الكتاب، فقال لهم: ما رأيت فيه ما تذكرون، و قد حضرته و أقمت عنده، فرأيته مواظبا علي الصلاة متحريا للخير، يسأل عن الفقه، ملازما للسنة. و هذه الشهادة من الثقة العدل ابن الحنفية رضي الله عنه لها التقدير و الاعتبار.
3- راجع ترجمة يزيد بن معاوية في الطبقات الكبري لابن سعد (250: 6) و منهاج السنة (254 - 237: 2) و ابن الأثير (49: 4) و مختصر تاريخ العرب (76 - 71) و اليعقوبي (215: 2) و جمهرة الأنساب (103) و بلغة الظرفاء (19) و المسعودي (67: 2) و ما بعدها. [

غالب الأوقات» (1) .و قال الحافظ أبو يعلي: حدثنا الحكم بن موسي ثنا يحيي بن حمزة عن هشام بن الغاز عن مكحول عن أبي عبيدة، أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: - «لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتي يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد» (2) .و قد ورود أنه صلي الله عليه و سلم قال: - «أول من يغير سنتي رجل من بني أمية» عن أبي ذر، رواه ابن خزيمة عن بندار عن عبدالوهاب (3) .و قد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شي ء، و أجود الأحاديث في موضوعها ما أورده ابن كثير في تاريخه علي ضعف أسانيده، و انقطاع بعضه والله أعلم بالصواب. و الحقيقة المرة أن قتل الحسين فجيعة لا نظير لها و لا مثيل لفظاعتها استبشعها البر و الفاجر و الخب و اللئيم.و قد ذكر ابن كثير في تاريخه أن ابن زياد لما قتل الحسين و من معه بعث برؤوسهم الي يزيد، فسر بقتلهم أولا و حسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث الا قليلا حتي ندم! فكان يقول: - «و ما كان علي لو احتملت الأذي و أنزلته في داري و حكمته فيما يريده، و ان كان في ذلك و كف (4) و وهن في سلطاني (5) ! حفاظا لرسول الله صلي الله عليه و سلم و رعاية لحقه و قرابته، ثم يقول: - «لعن

ص: 13


1- البداية و النهاية (250 - 249: 8) بتصرف.
2- و هذا الحديث منقطع بين مكحول و أبي عبيدة، بل معضل و قد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبدالله الدمشقي عن هشام بن الغاز عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة عن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: - «لا يزال أمر هذه الأمة قائما بالقسط حتي يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد».
3- و الحديث رواه البخاري في التاريخ، و أبو يعلي عن محمد بن المثني عن عبدالوهاب، ثم قال البخاري: و الحديث معلول و لا نعرف أن أباذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب. راجع البداية و النهاية (250: 8).
4- الوكف: الضعف و الذلة والاثم و العار.
5- و أقول ان الندم هنا ظاهري ولو كان حقيقيا لعاقب عبيدالله بن زياد و عمرو بن سعد و شمر بن ذي الجوشن، ولو فرض أن الندم كان حقيقيا فهو لشعوره بأنه آذي شعور المسلمين و اكتسب سخطهم الي يوم القيامة فالندم ليس من الجريمة نفسها.

الله ابن مرجانة فانه أحرجه و اضطره، و قد كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني، أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتي يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبي عليه و قتله، فبغضني بقتله الي المسلمين، و زرع في قلوبهم العداوة فبغضني البر و الفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسنا، مالي و لابن مرجانة قبحه الله و غضب عليه (1) .و في يقيني أن أمر النزاع بين الحسين و يزيد يجب الامساك عن الخوص فيه لأن هذا أفضل من الكلام لأن الحق لم يصرح عن محضه.و صفوة القول أن الحسين قد أفضي الي ربه شهيدا مجاهدا من أجل انتشال الأمة من كبوتها و عثرتها ولكن الشهادة سعت اليه و هو يذب عن شرف أمته و كرامتها من وجهة نظره و طالما أخلص النية فان جزاءه عليها ينتظره في جنات النعيم رضي الله عنه، و أرضاه و ألحقنا بالصالحين في دار المقامة (2) .و عن حياة امام و سيدالشهداء الحسين بن علي رضي الله عنه قال ابن عبد البر عنه في الاستيعاب: قتل الحسين يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم - لعشر مضين من المحرم - بموضع يقال له كربلاء من أرض الكوفة و يعرف بالطف أيضا و عليه جبة خز دكناء، و هو ابن ست و خمسين سنة، قاله نسابه قريش الزبير بن بكار، و مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيها قصرت الصلاة، و تزوج رسول

ص: 14


1- البداية و النهاية لابن كثير (251: 8) بتصرف. و اننا لا ندري هل كان هذا الكلام في قلب يزيد و من داخل طويته أم أنها سياسة عمد بها الي تصحيح موقفه بعد فوات الأوان و مهما كان من أمر فان الثلمة لا تسد و الفتق لا يرتق.
2- و عن هذا الصراع الدموي الأليم العنيف بين الحسين و يزيد أقول: (يفصل الله بينهم يوم القيامة) فاني لا أجرؤ - بما توافر لدي من آراء و أبحاث و مراجع - علي القول بغير هذا عفا الله عنا و عنهم.

الله صلي الله عليه و سلم أم سلمة و اتفقوا علي أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة احدي و ستين و يسمي عام الحزن، و قتل معه اثنان و ثمانون رجلا من الصحابة مبارزة (1) .يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه الشهير الاصابة في تمييز الصحابة: - «الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبوعبدالله، سبط رسول الله صلي الله عليه و سلم و ريحانته، قال الزبير و غيره، ولد في شعبان سنة أربع و قيل سنة ست، و قيل سنة سبع، و ليس بشي ء.قال جعفر بن محمد: لم يكن بين الحمل بالحسين بعد ولادة الحسن الا طهر واحد، قلت: اذا كان الحسن ولد في رمضان، و ولد الحسين في شعبان، احتمل أن يكون ولدته لتسعة أشهر، و لم تطهر من النفاس، الا بعد شهرين.«و قد حفظ الحسين أيضا عن النبي صلي الله عليه و سلم، و روي عنه، أخرج له أصحاب السنن أحاديث يسيرة» (2) ا. ه.ثم يقول ابن حجر العسقلاني: - «و قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث و الثمين، و الصحيح و السقيم، و قد صح عن ابراهيم النخعي أنه كان يقول: - لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحيت أن أنظر الي وجه رسول الله صلي الله عليه و سلم» (3) .قال حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم فيما يري النائم نصف النهار أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت بأبي و أمي يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين و أصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فكان ذلك اليوم الذي قتل فيه.و عن عمار عن أم سلمة: سمعت الجن تنوح علي الحسين بن علي، قال

ص: 15


1- التذكرة في أحوال الموتي و أمور الآخرة للامام القرطبي رحمه الله ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان (665 - 664: 2) بتصرف.
2- الاصابة في تمييز الصحابة لشيخ الاسلام ابن حجر العسقلاني (248: 2) ط. الكليات الأزهرية.
3- المرجع السابق نفسه (253 - 252: 2) بتصرف.

الزبير بن بكار نسابة قريش قتل الحسين يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء و يعرف بالطف أيضا و عليه جبة خز دكناء و هو ابن ست و خمسين سنة، و مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيها قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلي الله عليه و سلم أم سلمة (1) .و اختلفت الأقوال في يوم قتله فالبعض قال قتل يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و الأصح الأول.و اتفق علي أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة احدي و ستين و كذا قال الجمهور و شذ من قال غير ذلك (2) ، و كان يوم الجمعة هو يوم عاشوراء (3) .و من فضائل الامام الحسين بن علي رضي الله عنه ما رواه أبوأحمد عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: - «من أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني» يعني حسنا و حسينا.و قد قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر و عفان، عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس، أن رسول الله صلي الله عليه و سلم «كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر اذا خرج لصلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت».«انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا» (4) و قد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به (5) .عن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يخطبنا اذ جاء الحسن

ص: 16


1- التذكرة للقرطبي (665 - 664: 2) بتصرف نقلا عن الاستيعاب لابن عبد البر.
2- الاصابة لابن حجر (253: 2).
3- العقد الفريد لابن عبد ربه (380: 4) و هو يؤيد الاجماع.
4- الأحزاب (33: 33) راجع تفسير الآية الكريمة في مختصر ابن كثير (94: 3) و الكشاف للزمخشري (425: 3) و صفوة التفاسير (1120: 21).
5- و قال الترمذي: «غريب لا نعرفه الا من حديث حماد بن سلمة» ا. ه.

و الحسين و عليهما قميصان أحمران، يمشيان و يعثران، فنزل رسول الله صلي الله عليه و سلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله: انما أموالكم و أولادكم فتنة (1) . نظرت الي هذين الصبيين يمشيان و يعثران، حتي قطعت حديثي و رفعتهما (2) .و قد صح عنه صلي الله عليه و سلم أنه قال: «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة» رواه الترمذي من حديث سفيان الثوري و غيره عن يزيد بن أبي زياد و قال: حسن صحيح (3) .و قال محمد بن سعد أنبأنا قبيصة بن عقبة، ثنا يونس بن أبي اسحاق، عن العيزار بن حريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، اذ رأي الحسين مقبلا فقال: هذا أحب أهل الأرض الي أهل السماء و قال الزبير بن بكار نسابة قريش: حدثني سليمان بن الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه «أن رسول الله صلي الله عليه و سلم بايع الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس و عبدالله بن جعفر و هم صغار لم يبلغوا و لم يبايع صغيرا الا منا» (4) .و قد حج الحسين خمسا و عشرين حجة ماشيا، و نجائبة تقاد بين يديه و روي آخر أن الحسين بن علي حج خمسا و عشرين حجة ماشيا و نجائبه تقاد وراءه (5) .

ص: 17


1- التغابن (15: 64) و قدم علي الأولاد المال لأن فتنة المال أشد. راجع الصابوني (1564: 28) و البداية و النهاية (222: 8).
2- و هذا لفظ الترمذي و قال «غريب لا نعرفه الا من حديث الحسين بن واقد» ا. ه.
3- و قد تكلم المحبي في كتابه (الجنتين) علي هذا الحديث باسهاب، و مما قاله فيه: و يرد علي هذا الزام سيادتهم المرسلين لأنهم داخلون في هذا التأويل، و جوابه أنه عام خصص بالاجماع، فان المرسلين أفضل من غيرهم باتفاق. راجع حاشية كشف الخفا للعجلوني (429: 1) ط. التراث الاسلامي حلب.
4- و هذا حديث مرسل غريب كما قال ابن كثير (225: 8).
5- قال ابن كثير في البداية و النهاية (و الصواب أن ذلك انما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاري) ا. ه.

و من مناقب الامام الحسين بن علي (1) رضي الله عنه ايثاره لأخيه الحسن أنه جري بينهما كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن علي الحسين، فأكب علي رأسه يقبله، فقام الحسين رضي الله عنه فقبله أيضا، و قال: ان الذي منعني من ابتدائك بهذا - أني رأيت أنك أحق بالفضل مني، فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني.و حكي الأصمعي عن ابن عون، أن الحسن كتب الي الحسين يعيب عليه اعطاء الشعراء. فقال الحسين: ان أحسن المال، ما وقي العرض.و قد أورد الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة الحسين قصيدة للفرزدق قالها في الحسين بن علي و هو يطوف بالبيت و أراد أن يستلم فما وسع له الناس فقال رجل: يا أبافراس! من هذا فأجاب الفرزدق (2) :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

و البيت يعرفه و الحل و الحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

اذا رأته قريش قال قائلها

الي مكارم هذا ينتهي الكرم

يغضي حياء و يغضي من مهابته

فما يكلم الا حين يبتسم

في كفه خيزران ريحها عبق

بكف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نسبته

طابت عناصره و الخيم و الشيم

ص: 18


1- راجع الطبقات الكبري لابن سعد (279 - 278: 8) بتحقيق احسان عباس ط. دار صار بيروت.
2- لعل الفرزدق يكون قد قالها في علي بن أبي طالب و ليس في الحسين فان الفرزدق لم ير الحسين الا و هو مقبل الي الحج و الحسين ذاهبا الي العراق، فسأل الحسين الفرزدق عن الناس خلفه فضمه الفرزدق الي صدره و قبله و قال: أعطاك الله سؤلك و أملك فيما تحب. ثم قال الفرزدق: قلوب الناس معك، و سيوفهم مع بني أمية، و القضاء ينزل من السماء و الله يفعل ما يشاء. و الوارد - حسب الروايات الوثيقة التي بين أيدينا - أن الحسين بن علي رضي الله عنه قد قتل بعد مفارقته للفرزدق بأيام قليلة، فمتي رآه الفرزدق و هو يطوف بالبيت؟ و لا سيما أنه لم يحدث لقاء بينهما قبل ذلك و الله سبحانه و تعالي اعلم.

لا يستطيع جواد بعد غايته

و لا يدانيه قوم ان هموا كرموا

من يعرف الله يعرف أولية ذا

فالدين من بيت هذا ناله أمم

أي العشائر هم ليست رقابهم

لاولية هذا أوله نعم

ص: 19

ص: 20

رأينا الخاص في هذه القضيه

لم يختلف المؤرخون فيما عرض لهم و عرض عليهم من مسائل التاريخ مثلما اختلفوا في قضية مقتل الامام الحسين، من بدايتها حتي نهايتها من الدوافع الأولية الي الخديعة و خيانة الأعراب.و قد اختلطت كما أسلفنا الروايات الحقيقية بالمكذوبة التي افتراها البعض و روجوا لها بأسلوب يهدر كل القيم و المثل و مهما كان من أمر فان الجريمة بشعة لكنها لا تخرج عن منافحة و مجاهدة في سبيل الحق، رجل رغب عن الدنيا و رغب في الآخرة، و كلف بالباقية فهانت عليه الفانية، فنال خير ما يتمني الصالحون نال الشهادة و هي أعظم و أجل ما يطمح اليه و يطمع فيه المسلم الصدوق.ولكن لي في هذه المسألة جملة من الخواطر و الآراء أوجزها فيما يلي:أن الحسين بن علي رضي الله عنه قد أحسن الظن بالأعراب فكان تعويله علي خطاباتهم و رسلهم اليه ثقة مطلقة لم يضع لها احتمالا للخيانة أو الخديعة.اصرار الحسين علي الخروج رغم تحذير أقربائه و أصحابه و ناصحيه فلم يأخذ برأي أي منهم كانت نقطة عليه لاله، و كأنه نسي قول جده صلي الله عليه و سلم: - «ما خاب من استخار و ما ضل من استشار»

ص: 21

لما قتل مسلم ابن عقيل روي ابن كثير أن الحسين اقتنع في آخر لحظة بالقفول و الاياب من حيث خرج لكن أخوة مسلم بن عقيل أصروا علي التقدم و لم يمتثلوا ارادة الحسين رضي الله عنه مصممين علي الأخذ بالثأر لأخيهم فكان الحسين في أعصي جند.و ذلك مثل الذي حدث لأبيه علي اذ خذله الشيعة، و لذلك قال معاوية: «نصرت علي علي بأربع: كان يفشي سره و كنت أكتمه، و كان في أعصي جند و كنت في أطوع جند... ألخ».الذي يدان به يزيد أنه أضمر الانتقام رغم دهاء سمته الذي ورثه عن أبيه معاوية و عن جده أبي سفيان و ان لم يعدم الحلم الموروث عنهما الا أنه كان مصرا علي أشد الانتقام عندما عمد الي تعيين عبيدالله بن زياد في قيادة الجند و وكل اليه و شمر بن ذي الجوشن مواجهة الحسين تحت قيادة عمرو بن سعد و هؤلاء الثلاثة معروفون بعدائهم الشديد و سخيمتهم الملتهبة وحدة شرتهم نحو أهل البيت لذلك فلم يراعوا الله في ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و شددوا عليه و حصروه و أحصروا بجنوده و رجاله و قد احتوشوهم جميعا و أعملوا في رقابهم السيف اثخانا و تنكيلا بلا رحمة أو هوادة، ثم يأتي بعد ذلك يزيد فيقول: «قبحه الله ابن مرجانة - و في رواية سمية - أما والله لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبدالله و غفر له (1) .فان كان الذي حدث لم يكن يرضي يزيد فكيف يكون ذلك متمشيا مع المنطق و مع الواقع، و هل تم القتل و الاثخان من أهل البيت و الكلاب المسعورة الضالة تحتوشهم من كل جانب تلغ في دمائهم هل تم ذلك الا بأمره و هل كان عبيدالله بن زياد أو عمرو بن سعد أو غيرهما الا مأمورين من يزيد؟؟!!و لماذا لم يعاقب يزيد بن معاوية القاتل أو القتلة علي هذه الجريمة النكراء؟ثم يقال بعد ذلك انه كان حزينا مغتما، و كيف ذلك و يروي لنا القرطبي

ص: 22


1- العقد الفريد لابن عبد ربه (381: 4).

في التذكرة (667: 2) أن يزيد بن معاوية وضع رأس الحسين في طست من ذهب و جعل ينظر اليه و يقول هذه الأبيات:صبرنا و كان الصبر منا عزيمة و أسيافنا يقطعن كفا و معصمانعلق هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلماثم يقول القرطبي بعد ذلك «ثم تكلم بكلام قبيح، و أمر بالرأس أن تصلب بالشام» ا. ه.فكيف يقال بد ذلك أن يزيد أظهر الضيق و الندم، و قد كان حريا به أن يكون أقرب الي العفو منه الي الانتقام و التشفي و التمثيل، و كان ذلك أكرم و أطيب و لذلك فمهما بدر من الحسين، كان خليقا بيزيد أن يتجمل و يشدد علي رجاله ألا يقربوه بسوء و أن يحملوه اليه، و لا جرم أن يزيد فجع القلوب و جرح الخواطر و قطع الرحم بذلك و ألب عليه الرأي العام في عصره و في كل العصور و الأمصار الي يوم القيامة.أنني أري - و هذا رأي خاص - أن الحسين انتصر علي المدي البعيد، فهو ان لم يظفر بمراده في معركة حربية و مواجهة عسكرية الا أن نيله الشهادة في حذ ذاته كان انتصارا له ثم أنه زرع بذور الحسيكة و الحقد و السخيمة في قلوب الناس جميعا نحو بني أمية و لا يخامرني شك في أن الحسين انتصر علي المدي البعيد و كان استشهاده سببا مباشرا في زلزلة عرش دولة الأمويين، مع انصباب جام اللعنات و السخطات عليهم بسبب و من جراء هذه الجريمة البشعة.أخيرا... نقول اننا مأمورون بالاستغفار لهؤلاء و هؤلاء و الدعاء لهم فاذا ما بعثوا يوم القيامة يفصل الله بينهم فأمرهم راجع الي ربهم فهو وحده الذي يعلم السر و أخفي و هو وحده أعرف بحقيقة نوايا كل منهم و هو أعلم بالسرائر.اللهم انا نسألك العفو و الصفح و النجاة من النار و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 23

ص: 24

للأمام الطبري

اشارة

هو أبوجعفر محمد بن جرير الطبري، كان مولده في سنة أربع و عشرين و مائتين، و كان أسمر أعين مليحا وجهه مديدة قامته، ذرب اللسان فصيح البيان، جمع الكثير و حصل الجم الغفير، و رحل الي آفاق بعيدة في طلب الحديث، و له تفسير كامل فريد لا نظير له.و قد روي أن الطبري رحمه الله مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة. قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد و أقام بها الي حين وفاته و كان من أكابر العلماء و الأئمة، ثم يقول: - و كان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، و كان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الأحكام، عالما بالسنن و طرقها، و صحيحها و سقيمها، و ناسخها و منسوخها، عارفا بأقوال الصحابة و التابعين و من بعدهم.و للامام الطبري كتابه القيم التاريخ الطبري الذي سرد فيه تاريخ الأمم و الملوك و كتابه في التفسير لم يصنف أحد مثله و قد أجمع العلماء أنه لم يسبقه أحد فيه، لقوة مادته و شموخ بنائه.و له كتاب اسمه: تهذيب الآثار يقول فيه ابن كثير: لم أر سواه في

ص: 25

معناه (1) الا أنه لم يتمه. كما أن لابن جرير كثير من المصنفات في أصول الفقه و تفرد بآراء و مسائل أثرت عنه و حفظت له، و أبوبكر الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخته (2) .و قد روي الخطيب عن امام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير الطبري في ستين من أوله الي آخره ثم قال «ما أعلم علي أديم الأرض أعلم من ابن جرير» (3) ا. ه.و قد شهد كثير من الناس له بالزهد و الورع و التقوي و العبادة، و القوة في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم، و شهد له بأنه من كبار الأئمة الصالحين العارفين، و قد طلب من الخليفة المقتدر أن يأمر الشرطة أن يمنعوا السؤال يوم الجمعة فلا يدخلوا الي مقصورة الجامع فنفذ الخليفة له ما طلب و أمر بذلك من فوره.و كان الامام أبوجعفر محمد بن جرير الطبري ينفق علي نفسه و بيته من فعل قرية بطبرستان تركها أبوه له.و قد جاوز الامام الثمانين من عمره بخمس سنين أو ست سنين حسب بعض الأقوال، و كان كثير سواد شعر الرأس و اللحية، و قد توفي وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر و ثلثمائة (4) و قيل توفي يوم السبت آخر النهار في السادس و العشرين من شوال. (5) .

ص: 26


1- البداية و النهاية لابن كثير (145: 11) ط. دار الفكر العربي.
2- و فيات الأعيان لابن خلكان (332: 3) ط. السعادة.
3- البداية و النهاية (146: 11).
4- المرجع السابق نفس الصفحة، و مروج الذهب للمسعودي (308: 4) بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. ط. دار المعرفة بتصرف.
5- و فيات الأعيان لأبن خلكان (332: 3) ط. السعادة بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. و أرجو مراجعة ترجمة الامام محمد بن جرير الطبري في ارشاد الأريب (423: 6) و تذكرة الحفاظ للذهبي (351: 2) و الوفيات لابن خلكان (456: 1) و طبقات السبكي (140 - 135: 2) و مفتاح السعادة (205: 1) و ما بعدها و تاريخ حكماء الاسلام (29) و ميزان الاعتدال (35: 3) و لسان الميزان (100: 5) و كشف الظنون (437) و تاريخ بغداد (162: 2).

و دفن الطبري في بيته، نزولا علي اكراه الجهلة و الرعاع من الحنابله، الذين افتروا عليه و نسبوه الي الرفض زورا و بهتانا و احتدوا عليه حيا و لم يصفحوا عنه ميتا، اذ منعوا و رفضوا دفنه نهارا في مقابرهم، و قد بلغ بالجهلة الأمر الي أن رموه بالالحاد، و حاشاه من ذلك كله و هو الامام العالم العامل بعلمه يتيم عصره و فريد أترابه، و الذي قال فيه قاضي القضاة ابن خلكان (تاريخه أصح التواريخ و أثبتها). ه.و لعل ثمة سرا وراء هذا التهويل و تلك الحملة الهوجاء الرعناء التي شنها علي الطبري خصومه، فان الدافع الي ذلك و الذي أوقد نار هذه الفتنة و أسعر حزامها هو أبوبكر محمد بن داود الفقيه الظاهري حيث تكلم في الرجل و رماه بالعظائم و الرقص.و لعن الله الحرص و الحقد، و قاتل الله السخيمة و قبح الله من أيقظ الفتنة، فان لها كثيرا من الضحايا الأبرياء الشرفاء في كل عصر و مصر و لم تمنع هذه الافتراءات تقدير الناس و الخلصاء و الصالحين لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري فقد ورد أنه لما توفي هرع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره أرسالا ثم دفنوه بها.و ليس هذا فحسب انما يروي لنا ابن كثير في تاريخه المشهور أن الناس كانوا بل ظلوا يترددون علي قبره شهورا يصلون عليه بكرامته و علمه و فقهه الذي طبق الآفاق.و فيه يقول القاضي ابن العربي صاحب أحكام القرآن و مصنف كتاب (العواصم من القواصم) أه. ص 248: -«انما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق - المنافقين و الملحدة و الجهلة - و خاصة من المفسرين و المؤرخين، و أهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو علي بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، و لا تقبلوا رواية الا عن أئمة الحديث، و لا تسمعوا لمؤرخ كلاما الا للطبري، و غير ذلك هو الموت الأحمر، و الداء الأكبر».

ص: 27

و هذه شهادة من القاضي ابن العربي لها قيمتها، و هل يقدر الرجال و يقيم شخصياتهم، و هل يعرف فضائل الرجال و أقدارهم الا الرجال و لا يعرف الفضل لأولي الفضل الا ذوو الفضل.رحم الله الامام أباجعفر محمد بن جرير الطبري، و جزاه عنا و عن الاسلام خيرا و الحقنا به في دار كرامته و جمعنا و اياه و الصالحين في سوق الجنة.القاهرة في شوال سنة 1404 ه يوليو سنة 1984 م.السيد الجميلي

ص: 28

خلافه يزيد بن معاويه

اشاره

و في هذه السنة (60 ه) بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه للنصف من رجب في قول بعضهم و في قول بعض لثمان بقين منه علي ما ذكرنا قبل من وفاة والده (1) معاوية فأقر عبيدالله بن زياد علي البصرة و النعمان بن بشير علي الكوفة.و قال هشام بن محمد عن أبي مخنف ولي يزيد في هلال رجب سنة 60 (2) و أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و أمير الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري و أمير البصرة عبيدالله بن زياد و أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص و لم يكن ليزيد همة حين ولي الا بيعة النفر الذين أبوا علي معاوية الاجابة الي بيعة يزيد حين دعا الناس الي بيعته و انه ولي عهده بعده و الفراغ من أمرهم فكتب الي الوليد:بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد أميرالمؤمنين الي الوليد بن عتبة أما بعد فان معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله و استخلفه و خوله و مكن له فعاش

ص: 29


1- و هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلم هو و أبوه أبوسفيان عام الفتح و قد عهد اليه رسول الله صلي الله عليه و سلم بكتابة الوحي. راجع ابن الأثير (2: 4) و اليعقوبي (192: 2) و المسعودي (42: 2).
2- العقد الفريد لابن عبد ربه (375: 4) ط. دار الكتاب العربي و الامامة و السياسة لابن قتيبة (174: 1) و ما بعدها ط. دار المعرفة.

بقدر و مات بأجل فرحمه الله فقد عاش محمودا و مات برا تقيا و السلام (1) .و كتب اليه في صحيفة كأنها أذن فأرة أما بعد فخذ حسينا و عبدالله ابن عمر و عبدالله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتي يبايعوا و السلام فلما أتاه نعي معاوية فظع به و كبر عليه فبعث الي مروان بن الحكم فدعاه اليه و كان الوليد يوم قدم المدينة قدمها مروان متكارها فلما رأي ذلك الوليد منه شتمه عند جلسائه فبلغ ذلك مروان فجلس عنه و صرمه (2) فلم يزل كذلك حتي جاء نعي معاوية الي الوليد فلما عظم علي الوليد هلاك معاوية و ما أمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، فزع عند ذلك الي مروان و دعاه فلما قرأ عليه كتاب يزيد استرجع و ترحم عليه و استشاره الوليد في الأمر و قال كيف تري أن نصنع قال فاني أري أن تبعث الساعة الي هؤلاء النفر فتدعوهم الي البيعة و الدخول في الطاعة فان فعلوا قبلت منهم و كففت عنهم و ان أبوا قدمتهم فصرفت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فانهم ان علموا بموت معاوية وثب كل امري ء منهم في جانب و أظهر الخلاف و المنابذة و دعا الي نفسه لا أدري أما ابن عمر فاني لا أراه يري القتال و لا يحب أنه يولي علي الناس الا أن يدفع اليه هذا الأمر عفوا فأرسل عبدالله بن عمرو بن عثمان و هو اذ ذاك غلام حدث اليهما يدعوهما فوجدهما في المسجد و هما جالسان فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس و لا يأتيانه في مثلها فقال أجيبا الأمير يدعوكما فقالا له انصرف

ص: 30


1- و قد ذكر صاحب العقد الفريد خطبة ليزيد بعد ثلاثة أيام من موت أبيه اذ خرج و عليه أثر الحزن فصعد المنبر و أقبل الضحاك فجلس الي جانب المنبر و خاف عليه الحصر، فقال له يزيد: يا ضحاك، أجئت تعلم بني عبد شمس الكلام! ثم قام خطيبا فقال: الحمدلله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطي، و من شاء منع، و من شاء خفض و من شاء رفع، ان معاوية بن أبي سفيان كان حبلا من حبال الله، مده الله ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، فكان دون من قبله، و خيرا ممن يأتي بعده، و لا أزكيه و قد صار الي ربه، فان يعف عنه فبرحمته، و ان يعذبه فبذنبه و قد و ليت بعده الأمر، و لست أعتذر من جهل و لا أتي عن طلب و علي رسلكم، اذا كره الله شيئا غيره، و اذا أراد شيئا يسره». العقد الفريد (375: 4).
2- يقال صرم الرجل: قطع كلامه من صرم الشي ء اذا قطعه، و منه الانصرام و هو الانقطاع.

الآن نأتيه ثم أقبل أحدهما علي الآخر فقال عبدالله بن الزبير للحسين ظن فيما تراه بعث الينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها فقال حسين قد ظننت أن طاغيتهم قد هلك فبعث الينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر فقال و أنا ما أظن غيره قال فما تريد أن تصنع قال أجمع فتياني الساعة ثم أمشي اليه فاذا بلغت الباب احتسبتهم عليه ثم دخلت عليه قال فاني أخافه عليه اذا دخلت قال لا آتيه الا و أنا علي الامتناع قادر فقام فجمع اليه مواليه و أهل بيته ثم أقبل يمشي حتي انتهي الي باب الوليد و قال لأصحابه اني داخل فان دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم و الا فلا تبرحوا حتي أخرج اليكم فدخل فسلم عليه بالامرة و مروان جالس عنده فقال حسين كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية الصلة خير من القطيعة أصلح الله ذات بينكما فلم يجيباه في هذا بشي ء و جاء حتي جلس فأقرأه الوليد الكتاب و نعي له معاوية و دعاه الي البيعة.فقال حسين انا لله و انا اليه راجعون و رحم الله معاوية و عظم لك الأجر أما ما سألتني من البيعة فان مثلي لا يعطي بيعته سرا و لا أراك تجتزي ء بها مني سرا دون أن نظهرها علي رؤوس الناس علانية قال أجل قال فاذا خرجت الي الناس فدعوتهم الي البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا فقال له الوليد و كان يحب العافية فانصرف علي اسم الله حتي تأتينا مع جماعة الناس فقال له مروان و الله لئن فارقك الساعة و لم يبايع لا قدرت منه علي مثلها أبدا حتي تكثر القتلي بينكم و بينه أحبس الرجل و لا يخرج من عندك حتي يبايع أو تضرب عنقه فوثب عند ذلك الحسين فقال يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو كذبت والله و اثمت (1) ثم خرج فمر بأصحابه فخرجوا معه حتي أتي منزله فقال مروان للوليد عصيتني لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا قال الوليد و بخ غيرك يا مروان انك اخترت لي التي فيها هلاك ديني والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس و غربت عنه من مال الدنيا و ملكها و أني قتلت حسينا سبحان الله أقتل حسينا ان قال لا أبايع والله اني لا أظن امرءا يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله

ص: 31


1- البداية و النهاية لابن كثير (159: 8).

يوم القيامة فقال له مروان فاذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت يقول هذا له و هو غير الحامد له علي رأيه.و أما ابن الزبير فقال الآن آتيكم ثم أتي داره فكمن فيها فبعث الوليد اليه فوجده مجتمعا في أصحابه متحرزا فألح عليه بكثرة الرسل و الرجال في اثر الرجال فأما حسين فقال كف حتي تنظر و ننظر و تري و نري و أما ابن الزبير فقال لا تعجلوني فاني آتيكم أمهلوني فألحوا عليهما عشيتهما تلك كلها و أول ليلها و كانوا علي حسين أشد ابقاء و بعث الوليد الي ابن الزبير موالي له فشتموه و صاحوا به يا ابن الكاهلية والله لتأتين الأمير أو ليقتلنك فلبث بذلك نهاره كله و أول ليلة يقول الآن أجي ء فاذا استحثوه قال والله لقد استربت (1) بكثرة الارسال و تتابع هذه الرجال فلا تعجلوني حتي أبعث الي الأمير من يأتيني برأيه.و أمره فبعث اليه أخاه جعفر بن الزبير فقال رحمك الله كف عن عبدالله فانك قد أفزعته و ذعرته بكثرة رسلك و هو آتيك غدا ان شاء الله فمر رسلك فلينصرفوا عنا فبعث اليهم فانصرفوا و خرج ابن الزبير من تحت الليل فأخذ طريق الفرع هو و أخوه جعفر ليس معهما ثالث و تجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب و توجه نحو مكة فلما أصبح بعث اليه الوليد فوجده قد خرج فقال مروان و الله ان أخطأ مكة فسرح في أثره الرجال فبعث راكبا من موالي بني أمية في ثمانين راكبا فطلبوه فلم يقدروا عليه فرجعوا فتشاغلوا عن حسين بطلب عبدالله يومهم ذلك حتي أمسوا.ثم بعث الرجال الي حسين عند المساء فقال أصبحوا ثم ترون و نري فكفوا عنه تلك الليلة و لم يلحوا عليه فخرج حسين من تحت ليلته و هي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة 60 و كان مخرج ابن الزبير قبله بليلة خرج ليلة السبت فأخذ طريق الفرع فبينا عبدالله بن الزبير يساير أخاه جعفر اذا تمثل جعفر يقول صبرة الحنظلي.

ص: 32


1- استربت: أخذتني الريبة.

و كل بني أم سيمسون ليلة و لم يبق من أعقابهم (1) غير واحدفقال عبدالله سبحان الله ما أردت الي ما أسمع يا أخي قال والله يا أخي ما أردت به شيئا مما تكره فقال فذاك والله أكره الي أن يكون جاء علي لسانك من غير تعمد (2) قال و كأنه تطير منه (3) و أما الحسين فانه خرج ببنيه و اخوته و بني أخيه و جل (4) أهل بيته الا محمد بن الحنفية (5) فانه قال له يا أخي أنت أحب الناس الي و أعزهم علي و لست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية و عن الأمصار (6) ما استطعت ثم ابعث رسلك الي الناس فادعهم الي نفسك فان بايعوا لك حمدت الله علي ذلك و ان أجمع الناس علي غيرك لم ينقص الله بذلك دينك و لا عقلك و لا يذهب به مروءتك و لا فضلك.اني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار و تأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم فمنهم طائفة معك و أخري عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة فاذا خير هذه الأمة كلها نفسا و أبا و أما أضيعها دما و أذلها أهلا.قال له الحسين فاني ذاهب يا أخي قال فانزل مكة فان اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك و ان نبت بك لحقت بالرمال و شعف الجبال و خرجت من بلد الي بلد حتي تنظر الي ما يصير أمر الناس و تعرف عند ذلك الرأي فانك أصوب ما يكون رأيا و أحزمه عملا حتي تستقبل الأمور استقبلا و لا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا.

ص: 33


1- الأعقاب: النسل و الأبناء و الحفدة.
2- من غير تعمد: من غير قصد.
3- تطير منه: بتشديد الياء أي تشاءم منه قال تعالي: (قالوا، انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم) يس (18: 36).
4- جل أهل بيته: أكثرهم.
5- راجع ترجمة محمد بن الحنفية في وفيات الأعيان لابن خلكان بتحقيق محمد محي الدين عبدالحميد (310: 3).
6- الأمصار: الأقطار و البلدان مفردها مصر.

قال يا أخي قد نصحت فأشفقت فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا.قال أبومخنف و حدثني عبدالملك بن نوفل بن مساحق عن أبي سعد المقبري قال نظرت الي الحسين داخلا مسجد المدينة و انه ليمشي و هو معتمد علي رجلين يعتمد علي هذا مرة و علي هذا مرة و هو يتمثل بقول ابن مفرغ.لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيرا و لا دعيت يزيدايوم أعطي من المهابة ضيما (1) و المنايا يرصدنني أن أحيداقال فقلت في نفسي والله ما تمثل بهذين البيتين الا لشي ء يريد قال فما مكث الا يومين حتي بلغني أنه سار الي مكة ثم ان الوليد بعث الي عبدالله بن عمر فقال بايع ليزيد فقال اذا بايع الناس بايعت فقال رجل ما يمنعك أن تبايع انما تريد أن يختلفوا الناس بينهم فيقتتلوا و يتفانوا فاذا جهدهم ذلك قالوا عليكم بعبدالله بن عمر لم يبق غيره بايعوه قال عبدالله ما أحب أن يقتتلوا و ما يختلفوا و لا يتفانوا ولكن اذا بايع الناس و لم يبق غيري بايعت قال فتركوه و كانوا لا يتخوفونه قال و مضي ابن الزبير حتي أتي مكة و عليها عمرو بن سعيد فلما دخل مكة قال انما أنا عائذ و لم يكن يصلي بصلاتهم و لا يفيض بافاضتهم كان يقف هو و أصحابه ناحية ثم يفيض بهم وحده و يصلي بهم وحده قال فلا سار الحسين نحو مكة قال فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين فلما دخل مكة قال فلما توجه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل.و في هذه السنة (2) عزل يزيد الوليد بن عتبة (3) عن المدينة عزله في شهر رمضان فأقر عليها عمرو بن سعيد (4) الأشدق.

ص: 34


1- الضيم: الحيف و الظلم.
2- أي سنة 60 ه.
3- لأنه رأي فيه لينا و هوادة و تعاطفا مع الحسين.
4- و كان يزيد قد عمد الي تعيين عمرو بن سعيد بن العاص انما لأنه شديد العداوة و السخيمة لأهل البيت، فجاء تعيينه لقصد و هدف و تخطيط قتالي و ليس أمرا عرضيا، أو لقاء مصادفة. و في ترجمة عمرو بن سعيد بن العاص أرجو مراجعة كتاب الاصابة لابن حجر العسقلاني (112 - 111: 7) مكتبة الكليات الأزهرية.

و فيها قدم عمرو بن سعيد بن العاص المدينة في رمضان فزعم الواقدي أن ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورد نعي معاوية و بيعة يزيد علي الوليد و أن ابن الزبير و الحسين لما دعيا الي البيعة ليزيد أبيا و خرجا من ليلتهما الي مكة فلقيهما ابن عباس و ابن عمر جاءيين من مكة فسألاهما ما وراء كما قالا موت معاوية و البيعة ليزيد فقال لهما ابن عمر اتقيا الله و لا تفرقا جماعة المسلمين و أما ابن عمر فقدم فأقام أياما فانتظر حتي جاءت البيعة من البلدان فتقدم الي الوليد بن عتبة فبايعه و بايعه ابن عباس.و في هذه السنة وجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير الي أخيه عبدالله بن الزبير لحربه.

ذكر الخبر عن ذلك

ذكر محمد بن عمر أن عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قدم المدينة في رمضان سنة 60 فدخل عليه أهل المدينة فدخلوا علي رجل عظيم الكبر مفوه قال محمد ابن عمر حدثنا هشام بن سعد عن شيبة بن نصاح قال كانت الرسل تجري بين يزيد ابن معاوية و ابن الزبير في البيعة فحلف يزيد أن لا يقبل منه حتي يؤتي به في جامعة و كان الحارث بن خالد المخزومي علي الصلاة فمنعه ابن الزبير فلما منعه كتب يزيد الي عمرو بن سعيد أن ابعث جيشا الي ابن الزبير و كان عمرو بن سعيد لما قدم المدينة ولي شرطته عمرو بن الزبير لما كان يعلم ما بينه و بين عبدالله بن الزبير من البغضاء فأرسل الي نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا قال محمد بن عمر حدثني شرحبيل بن أبي عون عن أبيه قال نظر الي كل من كان يهوي هوي ابن الزبير فضربه و كان ممن ضرب المنذر بن الزبير و ابنه محمد بن المنذر و عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام و خبيب بن عبدالله بن الزبير و محمد بن عمار بن ياسر فضربهم الأربعين الي الخمسين الي الستين وفر منه عبدالرحمن بن عثمان و عبدالرحمن بن عمرو بن سهل في أناس الي مكة فقال عمرو بن سعيد لعمرو بن الزبير من رجل نوجه الي أخيك قال لا توجه اليه رجلا أبدا أنكأ له مني فأخرج لأهل الديوان عشرات و خرج من موالي أهل المدينة ناس كثير.

ص: 35

و توجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة فوجهه في مقدمته فعسكر بالجرف فجاء مروان بن الحكم الي عمرو بن سعيد فقال لا تغز مكة واتق الله و لا تحل حرمة البيت و خلوا ابن الزبير فقد كبر هذا له بضع و ستون سنة و هو رجل لجج (1) والله لئن لم تقتلوه ليموتن فقال عمرو بن الزبير والله لنقاتلنه و لنغزونه في جوف الكعبة علي رغم أنف من رغم فقال مروان والله ان ذلك ليسوءني فسار أنيس بن عمرو و الأسلمي حتي نزل بذي طوي و سار عمرو بن الزبير حتي نزل بالأبطح فأرسل عمرو بن الزبير الي أخيه بريمين (2) الخليفة و اجعل في عنقك جامعة من فضة لا تري و لا يضرب الناس بعضهم بعضا و اتق الله فانك في بلد حرام قال ابن الزبير موعدك المسجد فأرسل ابن الزبير عبدالله بن صفوان الجمحي الي أنيس بن عمرو من قبل (3) ذي طوي و كان قد ضوي الي عبدالله بن صفوان قوم ممن نزل حول مكة فقاتلوا أنيس بن عمرو فهزم أنيس بن عمرو أقبح (4) هزيمة و تعوق عن عمرو جماعة أصحابه فدخل دار علقمة فأتاه عبيدة بن الزبير فأجاره ثم جاء الي عبدالله بن الزبير فقال اني قد أجرته فقال أتجير من حقوق الناس هذا ما لا يصلح قال محمد بن عمرو فحدثت هذا الحديث محمد بن عبيد بن عمير فقال أخبرني عمرو بن دينار قال كتب يزيد بن معاوية الي عمرو بن سعيد أن استعمل عمرو بن الزبير علي جيش و ابعثه الي ابن الزبير و ابعث معه أنيس بن عمرو قال فسار عمرو بن الزبير حتي نزل في داره عند الصفا و نزل أنيس بن عمرو بذي طوي فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس و يصلي خلفه عبدالله بن الزبير فاذا انصرف شبك أصابعه في أصابعه و لم يبق أحد من قريش الا أتي عمرو بن الزبير و قعد عبدالله بن صفوان فقال مالي لا أري عبدالله بن صفوان أما والله لئن سرت اليه ليعلمن أن بني جمح و من ضوي اليه (5) من غيرهم قليل فبلغ عبدالله بن صفوان كلمته هذه فحركته فقال لعبد

ص: 36


1- رجل لجوج: أي متردد امعه، يقال الحق أبلج و الباطل لجلج.
2- بريمين الخليفة: أن كن بارا به صادق الوفاء له.
3- من قبل: بكسر القاف و فتح الباء أي من ناحية.
4- كذا وردت في بعض النسخ و الأصح بدون واو.
5- من ضوي اليه: أوي اليه.

الله بن الزبير اني أراك كأنك تريد البقيا علي أخيك فقال عبدالله أنا أبقي عليه يا أباصفوان والله لو قدرت علي عون الذر عليه لاستعنت بها عليه فقال بن صفوان فأنا أكفيك أنيس بن عمرو فاكفني أخاك قال ابن الزبير نعم فسار عبدالله بن صفوان الي أنيس بن عمرو و هو بذي طوي فلاقاه في جمع كثير من أهل مكة و غيرهم من الأعوان فهزم أنيس بن عمرو و من معه و قتلوا مدبرهم و أجهزوا (1) علي جريهم و سار مصعب بن عبدالرحمن اليعمرو و تفرق عنه أصحابه حتي تخلص الي عمرو بن الزبير فقال عبيدة بن الزبير لعمرو تعال أنا أجيرك فجاء عبدالله بن الزبير فقال قد أجرت عمرا فأجره لي فأبي عبدالله أن يجيره و ضربه بكل من كان ضرب بالمدينة و حبسه بسجن عارم قال الواقدي قد اختلفوا علينا في حديث عمرو بن الزبير و كتبت الي كل ذلك.حدثني خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي الجهم قال لما قدم عمرو بن سعيد المدينة واليا قدم في ذي القعدة سنة 60 فولي عمرو بن الزبير شرطته و قال قد أقسم أميرالمؤمنين أن لا يقبل بيعة ابن الزبير الا أن يؤتي به في جامعة فليبر يمين أميرالمؤمنين فاني أجعل جامعة خفيفة من ورق أو ذهب و يلبس عليها برنسا و لا تري الا أن يسمع صوتها و قال:خذها فليست للعزيز بخطة و فيها (2) مقال لامري ء متذللأعامر ان القوم ساموك خطة (3) و مالك في الجيران عدل معذلقال محمد و حدثني رياح بن مسلم عن أبيه قال بعث الي عبدالله بن الزبير عمرو بن سعيد فقال له أبوشريح لا تغز مكة فاني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول انما أذن الله لي في القتال بمكة ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها فأبي عمرو أن يسمع قوله و قال نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ فبعث عمرو جيشا مع عمرو و معه أنيس بن عمرو الأسلمي و زيد غلام محمد بن عبدالله بن

ص: 37


1- وردت في الأصول (و أجازوا) و هذا تحريف و الأصح ما أوردناه.
2- شطر البيت الثاني من بحر الطويل و كذلك البيت الثاني من بحر الطويل ولكن الشطر الأول من البيت الأول من بحر الكامل و هذا يقتضي أن يزيد حرفا في أوله فيصبح من الطويل فيقول (و خذها) بدلا من خذها فيتحول من الكامل الي الطويل.
3- ساموك خطة: أي أولوك اياها و أرادوك عليها.

الحارث بن هشام و كانوا نحو ألفين فقاتلهم أهل مكة فقتل أنيس بن عمرو و المهاجر مولي القلمس في ناس كثير و هزم جيش عمرو فجاء عبيدة بن الزبير فقال لأخيه عمرو أنت في ذمتي و أنا لك (1) جار فانطلق به الي عبدالله فدخل علي ابن الزبير فقال ما هذا الدم الذي في وجهك يا خبيث فقال عمرو.لسنا علي الأعقاب تدمي كلومنا (2) ولكن علي أقدامنا يفطر الدمافحبسه و أخفر عبيدة و قال أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحل لحرمات الله ثم أقاد عمرا من كل من ضربه الا المنذر و ابنه فانهما أبيا أن يستقيدا و ماتا تحت السياط قال و انما سمي سجن عارم لعبد كان يقال له زيد عارم فسمي السجن به و حبس ابن الزبير أخاه عمرا فيه قال الواقدي حدثنا عبدالله بن أبي يحيي عن أبيه قال كان مع أنيس بن عمرو ألفان (و في هذه السنة) وجه أهل الكوفة الرسل الي الحسين عليه السلام و هو بمكة يدعونه الي القدوم عليهم فوجه اليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه (3) .

ص: 38


1- و أنا لك جار: أي مجير و ناصر. و ان لم نعثر في مراجع اللغة علي هذا الاشتقاق فربما يكون قصد به (جار) من الجوار.
2- الكلام: جمع مفرده كلم و هو الجرح. و تجمع أيضا علي كلوم.
3- راجع مروج الذهب للمسعودي (68 -67: 3) ط. دار المعرفة.

ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين للمصير و امر مسلم بن عقيل

اشاره

حدثني زكرياء بن يحيي الضرير قال حدثنا أحمد بن جناب المصيصي و يكني أباالوليد قال حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبدالله القسري قال حدثنا عمار الذهني قال قلت لابي جعفر حدثني بمقتل الحسين حتي كأني حضرته قال مات معاوية و الوليد بن عتبة بن أبي سفيان علي المدينة فأرسل الي الحسين ابن علي ليأخذ بيعته فقال له أخرني و ارفق فأخره فأخرجه فخرج الي مكة فأتاه أهل الكوفة و رسلهم انا قد حبسنا أنفسنا عليك و لسنا نحضر الجمعة مع الوالي فأقدم علينا و كان النعمان بن بشير الأنصاري علي الكوفة قال فبعث الحسين الي مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فقال له سر الي الكوفة فانظر ما كتبوا به الي فان كان حقا خرجنا اليهم فخرج مسلم حتي أتي المدينة فأخذ منها دليلين فمرا به في البرية فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين و كتب مسلم الي الحسين يستعفيه فكتب اليه الحسين أن امض الي الكوفة فخرج حتي قدمها و نزل علي رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة قال فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمة دبوا اليه فبايعوه فبايعه منهم اثنا عشر ألفا قال فقام رجل ممن يهوي يزيد بن معاوية الي النعمان بن بشير فقال له انك ضعيف أو متضعف قد فسد البلاد فقال له النعمان أن أكون ضعيفا و أنا في طاعة الله أحب الي من أن أكون قويا في معصية الله و ما كنت لأهتك سترا ستره الله فكتب بقول النعمان الي يزيد فدعا مولي له يقال له سرجون و كان يستشيره فأخبره الخبر فقال له أكنت قابلا من معاوية لو

ص: 39

كان (1) حيا قال نعم قال فاقبل مني فانه ليس للكوفة الا عبيدالله بن زياد (2) فولها اياه و كان يزيد عليه ساخطا و كان هم بعزله عن البصرة فكتب اليه برضائه و انه قد ولاه الكوفة مع البصرة و كتب اليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله ان وجده قال فأقبل عبيدالله في وجوه أهل البصرة حتي قدم الكوفة متلثما و لا يمر علي مجلس من مجالسهم فيسلم الا قالوا عليك السلام يا ابن بنت رسول الله و هم يظنون أنه الحسين (3) بن علي عليه السلام حتي نزل القصر فدعا مولي له فأعطاه ثلاثة آلاف و قال له اذهب حتي تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر و هذا مال تدفعه اليه ليتقوي فلم يزل يتلطف و يرفق به حتي دل علي شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة فلقيه فأخبره فقال له الشيخ لقد سرني لقاؤك اياي و قد ساءني فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له و أما ما ساءني فان أمرنا لم يستحكم بعد فأدخله اليه فأخذ منه المال و بايعه و رجع الي عبيدالله فأخبره فتحول مسلم حين قدم عبيدالله بن زياد من الدار التي كان فيها الي منزل هاني ء بن عروة المرادي و كتب مسلم بن عقيل الي الحسين بن علي عليه السلام يخبره ببيعته اثني عشر ألفا من أهل الكوفة و يأمره بالقدوم و قال عبيدالله لوجوه أهل الكوفة مالي أري هاني ء بن عروة لم يأتني فيمن أتاني قال فخرج اليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه و هو علي باب داره فقالوا ان الأمير قد ذكرك و استبطأك فانطلق اليه فلم يزالوا به حتي ركب و سار حتي دخل علي عبيدالله و عنده شريح القاضي فلما نظر اليه قال لشريح أتتك بحائن رجلاه فلما سلم عليه قال يا هاني ء أين مسلم قال ما أدري فأمر عبيدالله مولاه صاحب الدراهم فخرج اليه فلما رآه قطع (4) به فقال أصلح الله الأمير والله ما دعوته الي منزل ولكنه جاء فطرح نفسه علي قال ائتني به قال والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال ادنوه الي فادني فضربه علي حاجبه فشجه قال و أهوي هاني ء الي سيف

ص: 40


1- أي أنه يحدب عليه و يشفق عليه حدب الأب و اشفاقه.
2- لأن عبيدالله بن زياد كان مجرما و شديد الكراهة لأهل البيت من الهاشميين، و بني طالب.
3- و لعل هذا مما زاد في غضب ابن زياد و حنقه.
4- قطع به: كسر في ذرعه من هول المفاجأة.

شرطي ليسله فدفع عن ذلك و قال قد أحل الله دمك فأمر به فحبس في جانب القصر و قال غير أبي جعفر الذي جاء بهاني ء بن عروة الي عبيدالله بن زياد عمرو بن الحجاج الزبيدي.

ذكر من قال ذلك

حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبوقتيبة قال حدثنا يونس بن أبي اسحاق عن العيزار بن حريث قال حدثنا عمارة بن عقبة بن أبي معيط فجلس في مجلس ابن زياد فحدث قال طردت اليوم حمرا فأصبت منها حمارا فعقرته فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي ان حمارا تعقره أنت لحمار حائن فقال ألا أخبرك بأحين من هذا كله رجل جي ء بأبيه كافرا الي رسول الله صلي الله عليه و سلم فأمر به أن يضرب عنقه فقال يا محمد فمن للصبية قال النار فأنت من الصبية و أنت في النار قال فضحك ابن زياد.

رجع الحديث الي حديث عمار الدهني عن أبي جعفر

قال فبينا هو كذلك اذ خرج الخير الي مذحح فاذا علي باب القصر جلبة (1) سمعها عبيدالله فقال ما هذا فقالوا مذحج فقال لشريح اخرج اليهم فأعلمهم أني انما حبسته لأسائله و بعث عينا عليه (2) من مواليه يسمع ما يقول فمر بهاني ء بن عروة فقال له هاني ء اتق الله يا شريح فانه قاتلي فخرج شريح حتي قام علي باب القصر لا بأس عليه انما حبسه الأمير ليسائله فقال صدق ليس علي صاحبكم بأس فتفرقوا فأتي مسلما الخبر فنادي بشعاره فاجتمع اليه أربعة آلاف من أهل الكوفة فقدم مقدمته وعبي ميمنته و ميسرته و سار في القلب الي عبيدالله و بعث عبيدالله الي وجوه (3) أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر فلما سار اليه مسلم انتهي الي باب القصر أشرفوا علي عشائرهم فجعلوا يكلمونهم و يردونهم فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتي أمسي في خمسمائة فلما اختلط الظلام ذهب

ص: 41


1- الجلبة: الصخب و الضجيج.
2- العين: الجاسوس.
3- وجوه أهل الكوفة: وجهاؤها من الأعيان.

أولئك أيضا فلما رأي مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق حتي أتي بابا فنزل عليه فخرجت اليه امرأة فقال لها اسقيني فسقته ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ثم خرجت فاذا هو علي الباب قالت يا عبدالله ان مجلسك مجلس (1) ريبة فقم قال اني أنا مسلم بن عقيل فهل عندك مأوي قالت نعم ادخل و كان ابنها مولي لمحمد بن الأشعث فلما علم به الغلام انطلق الي محمد فأخبره فانطلق محمد الي عبيدالله فأخبره فبعث عبيدالله عمرو بن حريث المخزومي و كان صاحب شرطه اليه و معه عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث فلم يعلم مسلم حتي أحيط (2) بالدار فلما رأي ذلك مسلم خرج اليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه عبدالرحمن الأمان فأمكن من يده فجاء به الي عبيدالله فأمر به فأصعد الي أعلي القصر فضربت عنقه و ألقي جثته الي الناس و أمر بهاني ء فسحب الي الكناسة فصلب هنالك و قال شاعرهم في ذلك:فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري الي هاني ء في السوق و ابن عقيلأصابهما أمر الامام فأصبحا أحاديث من يسعي بكل سبيلأيركب أسماء الهماليج (3) آمنا و قد طلبته مذحج بذحولو أما أبومخنف فانه ذكر من قصة مسلم بن عقيل و شخوصه الي الكوفة و مقتله قصة هي أشبع و أتم من خبر عمار الدهني عن أبي جعفر الذي ذكرناه ما حدثت عن هشام بن محمد عنه قال حدثني عبدالرحمن بن جندب قال حدثني عقبة بن سمعان مولي الرباب ابنة امري ء القيس الكلبية امرأة حسين و كانت مع سكينة ابنة حسين و هو مولي لأبيها و هي اذ ذاك صغيرة قال خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم فقال للحسين أهل بيته لو تنكبت (4) الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب قال لا والله لا أفارقه حتي يقضي الله ما هو أحب اليه.

ص: 42


1- الريبة: الشك و التهمة.
2- أحيط بالدار: أحصرت و احتوشوها.
3- الهماليج: يقال فرس هملاج و هو يهمج براكبه و خيل هماليج. راجع أساس البلاغة للزمخرشي ص 1066 ط. الشعب.
4- تنكب الطريق: تجنبه و اعتزله.

قال فاستقبلنا عبدالله بن مطيع (1) فقال للحسين جعلت فداك أين تريد قال أما الآن فاني أريد مكة و أما بعدها فاني أستخير الله قال خار الله لك و جعلنا فداك فاذا أنت أتيت مكة فاياك أن تقرب الكوفة فانها بلدة مشؤمة بها قتل أبوك و خذل أخوك و اغتيل بطعنة كادت تأتي علي نفسه الزم الحرم فانك سيد العرب لا يعدل بك والله أهل الحجاز أحدا و يتداعي اليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فذاك عمي و خالي فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك فأقبل حتي نزل مكة فأقبل أهلها يختلفون (2) اليه و يأتونه و من كان بها من المعتمرين و أهل الآفاق و ابن الزبير بها قد لزم الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار و يطوف و يأتي حسينا فيمن يأتيه فيأتيه اليومين المتواليين و يأتيه كل يومين مرة و لا يزال يشير عليه بالرأي و هو أثقل خلق الله علي ابن الزبير قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه و لا يتابعونه أبدا مادام حسين بالبلد و أن حسينا أعظم في أعينهم و أنفسهم منه و أطوع في الناس منه فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف (3) أهل العراق بيزيد و قالوا قد امتنع حسين و ابن الزبير و لحقا بمكة فكتب أهل الكوفة الي حسين و عليهم النعمان ابن بشير - قال أبومخنف فحدثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشر الهمداني قال اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد (4) فذكرنا هلاك معاوية فحمدنا الله عليه فقال لنا سليمان بن صرد ان معاوية قد هلك و ان حسينا قد تقبض علي القوم ببيعته و قد خرج الي مكة و أنتم شيعته و شيعة أبيه فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه و مجاهدو عدوه فاكتبوا اليه و ان خفتم الوهل (5) و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه قالوا لا بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه قال فاكتبوا اليه فكتبوا اليه.

ص: 43


1- راجع ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان (145 - 144: 5).
2- يختلفون اليه: يذهبون اليه.
3- أرجف القوم: زلزلوا و اضطربوا، و الارجاف واحد أراجيف الأخبار، و قد أرجفوا في الشي ء أي خاضوا فيه. راجع مختار الصحاح ص 235.
4- و كان سليمان بن صرد من شيعة علي رضي الله عنه.
5- الوهل: الفزع.

(بسم الله الرحمن الرحيم) لحسين بن علي من سليمان بن صرد و المسيب بن نجبة و رفاعة ابن شداد و حبيب بن مظاهر و شيعته من المؤمنين و المسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فانا نحمد اليك الله الذي لا اله الا هو أما بعد فالحمدلله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزي (1) علي هذه الأمة فابتزها أمرها و غصبها فيأها (2) و تأمر عليها بغير رضي منها ثم قتل خيارها و استبقي شرارها و جعل مال الله دولة (3) بين جبابرتها و أغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود ليس علينا امام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك علي الحق و النعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة و لا نخرج معه الي عدو لوقد بلغنا أنك قد أقبلت الينا أخرجناه حتي نلحقه بالشأم ان شاء الله و السلام و رحمة الله عليك قال ثم سرحنا بالكتاب مع عبدالله بن سبع الهمداني و عبدالله بن وال و أمرناهما بالنجاء (4) فخرج الرجلان مسرعين حتي قدما علي حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة ثم لبثنا يومين ثم سرحنا اليه قيس بن مسهر الصيداوي و عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدن الأرجي و عمارة بن عبيد السلولي فحملوا معهم نحوا من ثلاثة و خمسين صحيفة من الرجل و الاثنين و الأربعة قال ثم لبثنا يومين آخرين ثم سرحنا اليه هاني ء السبيعي و سعيد بن عبدالله الحنفي و كتبنا معهما (بسم الله الرحمن الرحيم) لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين و المسلمين أما بعد فحيهلا (5) فان الناس ينتظرونك و لا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل و السلام عليك و كتب شبث بن ربعي و حجار بن أبجر و يزيد بن الحارث و يزيد بن رويم و عزرة بن قيس و عمرو بن الحجاج الزبيدي و محمد بن عمير التميمي أما بعد فقد اخضر الجناب و أينعت الثمار و طمت (6) الجمام فاذا

ص: 44


1- يقال انتزي و هو يتنزي الي الشر أي يتسرع اليه.
2- فيأها: أشياؤها، و يقال فلان لا يقرب من أفيائه.
3- دولة: أي جعله كرة و كرة و المقصود أنه جعل المال يروح و يغدو بين أيدي هذه الطوائف التي ذكرها المفهوم أن المستحقين له كانوا محرومين منه و هذا هو الحيف و الضيم.
4- النجاء: من نجا ينجو نجاء بالمد و نجاة بالقصر. المختار ص 648.
5- حيهلا: اسم فعل بمعني أقبل أو اقبلوا.
6- طمت الجمام: استوت.

شئت فأقدم علي جند لك محند (1) و السلام عليك و تلاقت الرسل كلها عنده فقرأ الكتب و سأل الرسل عن أمر الناس ثم كتب مع هاني ء بن هاني ء السبيعي و سعيد بن عبدالله الحنفي.و كان آخر الرسل (بسم الله الرحمن الرحيم) من حسين بن علي الي الملا من المؤمنين و المسلمين أما بعد فان هانئا و سعيدا قدما علي بكتبكم و كانا آخر من قدم علي من رسلكم و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم و مقالة جلكم انه ليس علينا امام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك علي الهدي و الحق و قد بعثت اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي و أمرته أن يكتب لي بحالكم و أمركم و رأيكم فان يكتب الي أنه قد أجمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجي (2) منكم علي مثل ما قدمت علي به رسلكم و قرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا ان شاء الله فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق و الحابس نفسه علي ذات الله و السلام قال أبومخنف و ذكر أبوالمخارق الراسي قال اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبدالقيس يقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ أياما و كانت تشيع و كان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه و قد بلغ ابن زياد اقبال الحسين فكتب الي عامله بالبصرة ان يضع المناظر و يأخذ بالطريق قال فأجمع يزيد بن نبيط الخروج و هو من عبدالقيس الي الحسين و كان له بنون عشرة فقال أيكم يخرج معي فانتدب معه ابنان له عبدالله و عبيدالله فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة اني قد أزمعت علي الخروج و أنا خارج فقالوا له انا نخاف عليك أصحاب ابن زياد فقال اني والله لو قد استوت أخفافهما بالجدد (3) لها علي طلب من طلبني قال ثم خرج فقوي في الطريق حتي انتهي الي حسين عليه السلام فدخل في رحله بالابطح و بلغ الحسين مجيئه فجعل يطلبه و جاء الرجل الي رحل الحسين فقيل له قد خرج الي منزلك فأقبل في أثره و لما لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره و جاء البصري فوجده في رحله جالسا

ص: 45


1- كذا ورد بالأصل و الأصح (مجندة).
2- الحجي: العقل و الفهم.
3- الجدد: جمع مفرده جادة و هي الطريق.

فقال بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا قال فسلم عليه و جلس اليه فأخبره بالذي جاء له فدعا له بخير ثم أقبل معه حتي أتي فقاتل معه فقتل معه هو و ابناه ثم دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي و عمارة بن عبيد السلولي و عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدن الأرحبي فأمره بتقوي الله و كتمان أمره و اللطف فان رأي الناس مجتمعين مستوثقين عجل اليه بذلك فأقبل مسلم حتي أتي المدينة فصلي في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و ودع من أحب من أهله ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به فضلا الطريق و جارا و أصابهم عطش شديد و قال الدليلان هذا الطريق حتي ينتهي الي الماء و قد كادوا أن يموتوا عطشا فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي الي حسين و ذلك بالمضيق من بطن الخبيت أما بعد فاني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق و ضلا و اشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا و أقبلنا حتي انتهينا الي الماء فلم ننج الا بحشاشة أنفسنا (1) و ذلك الماء بمكان يدعي المضيق من بطن الخبيت و قد تطيرت من وجهي هذا فان رأيت أعفيتني منه و بعثت غيري و السلام فكتب اليه حسين أما بعد فقد خشيت ألا يكون حملك علي الكتاب الي في الاستعفاء من الوجه الذي و جهتك له الا الجبن فامض لوجهك الذي و جهتك له و السلام عليك فقال مسلم لمن قرأ الكتاب هذا ما لست أتخوفه علي نفسي فأقبل كما هو حتي مر بماء لطي ء فنزل بهم ثم ارتحل منه فاذا رجل يرمي الصيد فنظر اليه قد رمي ظبيا حين أشرف له فصرعه.فقال مسلم يقتل عدونا ان شاء الله ثم أقبل مسلم حتي دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد و هي التي تدعي اليوم دار مسلم بن المسيب و أقبلت الشيعة تختلف اليه فلما اجتمعت اليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين فأخذوا يبكون فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد فاني لا أخبرك عن الناس و لا أعلم ما في أنفسهم و ما أغرك منهم والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه والله لأجيبنكم اذا دعوتم و لأقاتلن معكم عدوكم

ص: 46


1- يقال «ما بقي منه الا حشاشة، و ما بقي من الشمس الا حشاشة نازع». أساس البلاغة ص 176.

و لأضربن بسيفي دونكم حتي ألقي الله لا أريد بذلك الا ما عندالله فقام (1) فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ثم قال و أنا والله الذي لا اله الا هو علي مثل ما هذا عليه ثم قال الحنفي مثل ذلك الحجاج بن علي فقلت لمحمد بن بشر فهل كان منك أنت قول فقال ان كنت لأحب أن يعز الله أصحابي بالظفر و ما كنت لأحب أن أقتل و كرهت أن أكذب و اختلفت الشيعة (2) اليه حتي علم مكانه فبلغ ذلك النعمان بن بشير.قال أبومخنف حدثني نمر بن وعلة عن أبي الوداك قال خرج الينا النعمان بن بشير فصعد المنبر فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد فاتقوا الله عباد الله و لا تسارعوا الي الفتنة و الفرقة فان فيهما يهلك الرجال و تسفك الدماء و تغصب الأموال و كان حليما ناسكا يحب العافية قال اني لم أقاتل من لم يقاتلني و لا أثب علي من لا يثب علي و لا أشاتمكم و لا أتحرش بكم و لا آخذ بالقرف (3) و لا الظنة و لا التهمة ولكنكم ان أبديتم صفحتكم لي ونكثتم (4) بيعتكم و خالفتم امامكم فوالله الذي لا اله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر أما اني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل قال فقام اليه عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال انه لا يصلح ما تري الي الغشم ان هذا الذي أنت عليه فيما بينك و بين عدوك رأي المستضعفين فقال أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب الي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم نزل و خرج عبدالله بن مسلم و كتب الي يزيد بن معاوية أما بعد فان مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فان كان لك بالكوفة حاجة فابعث اليها رجلا قويا ينفذ أمرك

ص: 47


1- كذا ورد بالأصل و الأصح (فقام فقال).
2- اختلفت الشيعة اليه: ذهبوا اليه.
3- القرف: مخالطة الخطيئة.
4- نكث البيعة: نقضها و رجع فيها.

و يعمل مثل عملك في عدوك فان النعمان بن بشير رجل ضعيف (1) أو هو يتضعف فكان أول من كتب اليه ثم كتب اليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ثم كتب اليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك قال هشام قال عوانة فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم الا يومان دعا يزيد بن معاوية سرجون مولي معاوية فقال ما رأيك فان حسينا قد توجه نحو الكوفة و مسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سي ء و أقرأه كتبهم فما تري من أستعمل علي الكوفة و كان يزيد عاتبا علي عبيدالله بن زياد فقال سرجون أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه قال نعم فأخرج عهد عبيدالله علي الكوفة فقال هذا رأي معاوية و مات.و قد أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه و ضم المصرين الي عبيدالله و بعث اليه بعهده علي الكوفة ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كان عنده فبعثه الي عبيدالله بعهده الي البصرة و كتب اليه معه أما بعد فانه كتب الي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتي تأتي اهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتي تثقفه (2) فتوثقه أو تقتله أو تنفيه و السلام فأقبل مسلم ابن عمرو حتي قدم علي عبيدالله بالبصرة فأمر عبيدالله بالجهاز و التهي ء و المسير الي الكوفة من الغد.و قد كان حسين كتب الي أهل البصرة كتابا قال هشام قال أبومخنف حدثني الصعقب بن زهير عن أبي عثمان النهدي قال كتب حسين مع مولي لهم يقال له سليمان و كتب بنسخة الي رؤوس الأخماس (3) بالبصرة و الي الأشراف فكتب الي مالك بن مسمع البكري و الي الاحنف بن قيس و الي المنذر بن الجارود و الي مسعود بن عمرو و الي قيس بن الهيثم و الي عمرو بن عبيدالله بن معمر

ص: 48


1- يقصد ضعيف الشخصية أو هو يتضعف أي أنه قوي لكنه ليس بحازم يمكن التعويل عليه في البطش و التنكيل.
2- تثقيفه: تدركه، و يوثقه: يربطه و يكبله بالقيود.
3- الأخماس: جمع مفرده خميس و هو الجيش، و سمي الجيش بالخميس لأنه خمس فرق: المقدمة و القلب و الميمنة و الميسرة و الساق.

فجاءت منه نسخة واحدة الي جميع أشرافها أما بعد فان الله اصطفي محمدا صلي الله عليه و سلم علي خلقه و أكرمه بنبوته (1) و اختاره لرسالته ثم قبضه الله اليه و قد نصح لعباده و بلغ ما أرسل به صلي الله عليه و سلم و كنا أهله و أولياءه و أوصياءه (2) و ورثته و أحق الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا و كرهنا الفرقة و أحببنا العافية و نحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه و قد أحسنوا و أصلحوا و تحروا الحق فرحمهم الله و غفرلنا و لهم و قد بعثت رسولي اليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم الي كتاب الله و سنة نبيه صلي الله عليه و سلم فان السنة قد أميتت و ان البدعة قد أحييت و أن تسمعوا قولي و تطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد و السلام عليكم و رحمة الله.فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه غير المنذر بن الجارود فانه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عبيدالله فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق الي الكوفة و أقرأه كتابه فقدم الرسول فضرب عنقه و صعد عبيدالله منبر البصرة فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد فوالله ما تقرن بي الصعبة و لا يقعقع لي بالشنان و اني لنكل لمن عاداني و سم لمن حاربني أنصف القارة من راماه يا أهل البصرة ان أميرالمؤمنين و لاني الكوفة و أنا غاد اليها الغداة و قد استخلفت عليكم عثمان بن زيد بن أبي سفيان و اياكم و الخلاف و الارجاف (3) فوالذي لا اله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه و عريفه و وليه و لآخذن الأدني بالأقصي حتي تستمعوا لي و لا يكون فيكم مخالف و لا مشاق أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطي ء الحصي و لم ينتزعني شبه خال و لا ابن عم.ثم خرج من البصرة و استخلف أخاه عثمان بن زياد و أقبل الي الكوفة و معه مسلم بن عمر و الباهلي و شريك بن الاعور الحارثي و حشمه و أهل بيته حتي

ص: 49


1- لاصطفائه و اختصاصه بها.
2- كذا بالأصل و الأصح (و أوصياءه) و هو تصحيف. [
3- الارجاف: الاضطراب و الجمع أراجيف، و الأراجيف هي الأخبار، و قد أرجفوا في الشي ء اذا خاضوا فيه.

دخل الكوفة و عليه عمامة سوداء و هو متلثم و الناس قد بلغهم اقبال حسين اليهم ينتظرون قدومه فظنوا حين قدم عبيدالله أنه الحسين فأخذ لا يمر علي جماعة من الناس الا سلموا عليه و قالوا مرحبا بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم فرأي من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ما ساءه فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا تأخروا هذا الأمير عبيدالله بن زياد فأخذ حين أقبل علي الظهر و انما بضعة عشر رجلا فلما دخل القصر و علم الناس أنه عبيدالله بن زياد دخلهم من ذلك كآبة و حزن شديد و غاظ عبيدالله ما سمع منهم و قال ألا أري هؤلاء كما أري.قال هشام قال أبومخنف فحدثني المعلي بن كليب عن أبي وداك قال ما نزل القصر نودي الصلاة جامعة قال فاجتمع الناس فخرج الينا فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد فان أميرالمؤمنين أصلحه الله و لاني مصركم و ثغركم و أمرني بانصاف مظلومكم و اعطاء محرومكم و بالاحسان الي سامعكم و مطيعكم و بالشدة علي مريبكم و عاصيكم و أنا متبع فيكم أمره و منفذ فيكم عهده فأنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البروسوطي و سيفي علي من ترك أمري و خالف عهدي فليبق امرؤ علي نفسه الصدق ينبي عنك لا الوعيد.ثم نزل فأخذ العرفاء و الناس أخذا شديدا فقال اكتبوا الي الغرباء و من فيكم من طلبة أميرالمؤمنين و من فيكم من الحرورية و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق فمن كتبهم لنا فبري ء و من لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف و لا يبغي علينا منهم باغ فمن لم يفعل برئت منه الذمة و حلال لنا ماله و سفك دمه و أيما عريف وجد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحد لم يرفعه الينا صلب علي باب داره.و ألغيت تلك العرافة من العطاء و سير الي موضع بعمان الزارة - و أما عيسي بن يزيد الكناني فانه قال فيما ذكر عمر بن شبة عن هارون بن مسلم عن علي بن صالح عنه قال لما جاء كتاب يزيد الي عبيدالله بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبدالله بن الحارث بن نوفل و شريك بن الأعور و كان شيعة لعلي فكان أول من سقط بالناس شريك فيقال انه تساقط غمرة و معه ناس ثم سقط عبدالله بن الحارث و سقط معه ناس و رجوا أن يلوي عليهم عبيدالله

ص: 50

و يسبقه الحسين الي الكوفة فجعل لا يلتفت الي من سقط و يمضي حتي ورد القادسية و سقط مهران مولاه فقال أيا مهران علي هذه الحال ان أمسكت عنك حتي تنظر الي القصر فلك مائة ألف قال لا و الله ما أستطيع فنزل عبيدالله فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن ثم اعتجر (1) بمعجرة يمانية فركب بغلته ثم انحدر راجلا وحده فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا اليه لم يشكوا أنه الحسين فيقولون مرحبا يا ابن رسول الله و جعل لا يكلمهم و خرج اليه الناس من دورهم و بيوتهم و سمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه و علي خاصته و انتهي اليه عبيدالله و هو لا يشك انه الحسين و معه الخلق يضجون فكلمه النعمان فقال أنشدك الله ألا تنحيت عني ما أنا بمسلم اليك أمانتي و مالي في قتلك من أرب (2) فجعل لا يكلمه ثم انه دنا و تدلي الآخر بين شرفتين فجعل يكلمه فقال افتح لا فتحت فقد طال ليلك فسمعها انسان خلفه فتكفي الي القوم فقال أي قوم ابن مرجانة و الذي لا اله غيره فقالوا ويحك انما هو الحسين ففتح له النعمان فدخل و ضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا.و أصبح فجلس علي المنبر فقال أيها الناس اني لأعلم أنه قد سار معي و أظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد و غلب عليه و الله ما عرفت منكم أحدا ثم نزل و أخير أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة و أنه بناحية الكوفة فدعا مولي لبني تميم فأعطاه مالا و قال انتحل هذا الأمر و أعنهم بالمال و اقصد لهاني ء و مسلم و انزل عليه فجاء هانئا فأخبره أنه شيعة و أن معه مالا و قدم شريك بن الأعور شاكيا فقال لهاني ء مر مسلما يكون عندي فان عبيدالله يعودني.و قال شريك لمسلم أرأيتك ان أمكنتك من عبيدالله أضاربه أنت بالسيف قال نعم و الله و جاء عبيدالله شريكا يعوده في منزل هاني ء و قد قال شريك لمسلم اذا سمعتني أقول أسقوني ماء فاخرج عليه فاضربه و جلس عبيدالله علي فراش شريك و قام علي رأسه مهران فقال اسقوني ماء فخرجت جارية بقدح فرأت

ص: 51


1- اعتجر: لف العمامة علي رأسه.
2- أرب: هدف أو أمنية.

مسلما فزالت فقال شريك اسقوني ماء ثم قال الثالثة و سلكم تحموني الماء أسقونيه ولو كانت فيه نفسي ففطن مهران فغمز عبيدالله فوثب فقال شريك أيها الأمير اني أريد أن أوصي اليك قال أعود اليك.فجعل مهران يطرد به و قال أراد و الله قتلك قال و كيف مع اكرامي شريكا و في بيت هاني ء و يد أبي عنده فرجع فأرسل الي أسماء بن خارجة و محمد بن الأشعث فقال ائتياني بهاني ء فقالا له انه لا يأتي الا بالأمان قال و ماله و للامان و هل أحدث حدثا انطلقا فان لم يأت الا بأمان فآمناه تأتياه فدعواه فقال انه ان أخذني قتلني فلم يزالا به حتي جاءا به و عبيدالله يخطب يوم الجمعة فجلس في المسجد و قد رجل هاني ء غدير تيه فلما صلي عبيدالله قال يا هاني ء فتبعه و دخل فسلم فقال عبيدالله يا هاني ء أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة الا قتله غير أبيك و غير حجر و كان من حجر ما قد علمت ثم لم يزل يحسن صحتك ثم كتب الي أمير الكوفة ان حاجتي قبلك هاني ء قال نعم فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني قال ما فعلت فأخرج التميمي الذي كان عينا عليهم فلما رآه هاني ء علم أن قد أخبره الخبر فقال أيها الأمير قد كان الذي بلغك و لن أضيع يدك عني فأنت آمن و أهلك فسر حيث شئت.فكبا عبيدالله عندها و مهران قائم علي رأسه في يده معكزة فقال و اذلاه هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك فقال خذه فطرح المعكزة و أخذ بضفيرتي هاني ء ثم أقنع بوجهه ثم أخذ عبيدالله المعكزة فضرب به وجه هاني ء و ندر الزج فارتز في الجدار ثم ضرب وجهه حتي كسر أنفه و جبينه و سمع الناس الهيعة (1) و بلغ الخبر مذحج فأقبلوا فأطافوا بالدار و أمر عبيدالله بهاني ء فألقي في بيت و صيح المذحجيون (2) و أمر عبيدالله مهران أن يدخل عليه شريحا فخرج فأدخله عليه و دخلت الشرط معه فقال يا شريح قد تري ما يصنع في قال أراك حيا قال وحي أنا مع ما تري أخبر قومي أنهم ان انصرفوا قتلني فخرج الي عبيدالله فقال

ص: 52


1- الهيعة: يقول صاحب مختار الصحاح: المهيعة بوزن المشرعة، الجحفة و هي ميقات أهل الشام، و المهيع هو الطريق الواسع البين. و هنا بمعني الارتجاج.
2- المذحجيون: قوم مذحج. راجع هذه القصة في الامامة و السياسة لابن قتيبة (4: 2) ط. دار المعرفة بيروت.

قد رأيته حيا و رأيت أثرا سيئا قال و تنكر أن يعاقب الوالي رعيته أخرج الي هؤلاء فأخبرهم فخرج و أمر عبيدالله الرجل فخرج معه فقال لهم شريح ما هذه الرعة السيئة الرجل حي و قد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه فانصرفوا و لا تحلوا بأنفسكم و لا بصاحبكم فانصرفوا.و ذكر هشام عن أبي مخنف عن المعلي بن كليب عن أبي الوداك قال نزل شريك بن الأعور علي هاني ء ابن عروة المرادي و كان شريك شيعيا و قد شهد صفين مع عمار و سمع مسلم بن عقيل بمجي ء عبيدالله و مقالته التي قالها و ما أخذ به العرفاء و الناس فخرج من دار المختار و قد علم به حتي انتهي الي دار هاني ء بن عروة المرادي فدخل بابه و أرسل اليه أن اخرج فخرج اليه هاني ء فكره هاني ء مكانه حين رآه فقال له مسلم أتيتك لتجيرني و تضيفني فقال رحمك الله لقد كلفتني شططا (1) و لولا دخولك داري و ثقتك لأحببت و لسألتك أن تخرج عني غير أنه يأخذني من ذلك ذمام و ليس مردود مثلي علي مثلك عن جهل أدخل فآراه و أخذت الشيعة تختلف اليه في دار هاني ء بن عروة و دعا ابن زياد مولي يقال له معقل فقال له خذ ثلاثة آلاف درهم ثم أطلب مسلم بن عقيل و اطلب لنا أصحابه ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف فقال لهم استعينوا بها علي حرب عدوكم و أعلمهم أنك منهم فانك لو قد أعطيتها اياهم اطمأنوا اليك و وثقوا بك و لم يكتموك شيئا من أخبارهم ثم اغد عليهم و رح ففعل ذلك فجاء حتي أتي الي مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم و هو يصلي و سمع الناس يقولون ان هذا يبايع للحسين.فجاء فجلس حتي فرغ من صلاته ثم قال يا عبدالله اني امرؤ من أهل الشأم مولي لذي الكلاع أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت و حب من أحبهم فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و كنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عليه و لا يعرف مكانه فاني لجالس آنفا في المسجد اذ سمعت نفرا من المسلمين يقولون هذا رجل

ص: 53


1- شططا: أي بعيدا و غلوا و مجاوزة للحد.

له علم بأهل هذا البيت و اني أتيتك لتقبض هذا المال و تدخلني علي صاحبك فأبايعه و ان شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه فقال احمد الله علي لقائك اياي فقد سرني ذلك لتنال ما تحب و لينصر الله بك أهل بيت نبيه و لقد ساءني معرفتك اياي بهذا الأمر من قبل أن ينمي مخافة هذا الطاغية و سطوته فأخذ بيعته قبل أن يبرح و أخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن و ليكتمن فأعطاه من ذلك ما رضي به.ثم قال له اختلف الي أياما في منزلي فأنا طالب لك الاذن علي صاحبك فأخذ يختلف مع الناس فطلب له الاذن فمرض هاني ء بن عروة فجاء عبيدالله عائدا له فقال له عمارة بن عبيد السلولي انما جماعتنا و كيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك الله منه فاقتله قال هاني ء ما أحب أن يقتل في داري فخرج.فما مكث الا جمعة حتي مرض شريك بن الأعور و كان كريما علي ابن زياد و علي غيره من الأمراء و كان شديد التشيع فأرسل اليه عبيدالله اني رائح اليك العشية فقال لمسلم ان هذا الفاجر عائدي العشية فاذا جلس فاخرج اليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك و بينه فان برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت الي البصرة و كفيتك أمرها.فلما كان من العشي أقبل عبيدالله لعيادة شريك فقام مسلم بن عقيل ليدخل و قال له شريك لا يفوتنك اذا جلس فقام هاني ء بن عروة اليه فقال اني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك فجاء عبيدالله بن زياد فدخل فجلس فسأل شريكا عن وجعه و قال ما الذي تجد و متي أشكيت فلما طال سؤاله اياه و رأي أن الآخر لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول ما تنظرون بسلمي أن تحيوها أسقنيها و ان كانت فيها نفسي فقال ذلك مرتين أو ثلاثا فقال عبيدالله و لا يفطن ما شأنه أترونه يهجر (1) فقال له هاني ء نعم أصلحك الله مازال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح (2) حتي ساعته هذه ثم انه قام فانصرف فخرج مسلم

ص: 54


1- يهجر: أي يلفظ بكلمات غير مفهومة.
2- عماية الصبح: أوله.

فقال له شريك ما منعك من قتله فقال خصلتان أما احداهما فكراهة هاني ء ان يقتل في داره و أما الأخري فحديث حدثه الناس عن النبي صلي الله عليه و سلم ان الايمان قيد الفتك و لا يفتك مؤمن (1) .فقال هاني ء أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا ولكن كرهت أن يقتل في داري و لبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ثم مات فخرج ابن زياد فصلي عليه و بلغ عبيدالله بعد ما قتل مسلما و هانئا أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه انما كان يحرض مسلما و يأمره بالخروج اليك ليقتلك فقال عبيدالله و الله لا أصلي علي جنازة رجل من أهل العراق أبدا و والله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا ثم أن معقلا مولي ابن زياد الذي دسه بالمال الي ابن عقيل و أصحابه اختلف الي مسلم بن عوسجة أياما ليدخله علي ابن عقيل فأقبل به حتي أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور فأخبره خبره كله فأخذ ابن عقيل بيعته و أمر أباثمامة الصائدي فقبض ماله الذي جاء به و هو الذي كان يقبض أموالهم و ما يعين به بعضهم بعضا يشتري لهم السلاح و كان به بصيرا و كان من فرسان العرب و وجوه (2) الشيعة و أقبل ذلك الرجال يختلف اليهم (3) فهو أول داخل و آخر خارج يسمع أخبارهم و يعلم أسرارهم ثم ينطلق بها حتي يقرها في أذن ابن زياد قال و كان هاني ء يغدو و يروح الي عبيدالله فلما نزل به مسلم انقطع من الاختلاف و تمارض (4) فجعل لا يخرج فقال ابن زياد لجلسائه مالي لا أري هانئا فقالوا هو شاك فقال لو علمت بمرضه لعدته.قال أبومخنف فحدثني المجالد بن سعيد قال دعا عبيدالله محمد بن الأشعث و أسماء بن خارجة قال أبومخنف حدثني لحسن بن عقبة المرادي أنه بعث معهما عمرو بن الحجاج الزبيدي.قال أبومخنف و حدثني نمر بن وعلة عن أبي الوداك قال كانت روعة أخت

ص: 55


1- و السنة تنهي عن ترويع المؤمن و ازهاق روحه، الا بحقها.
2- وجوه الشيعة: وجهاؤها.
3- يختلف اليهم: يتردد عليهم.
4- تمارض: تظاهر بالمرض و ادعاه من غير علة.

عمرو بن الحجاج تحت هاني ء بن عروة و هي أم يحيي بن هاني ء فقال لهم ما يمنع هاني ء بن عروة من اتياننا قالوا ما ندري أصلحك الله و انه ليتشكي قال قد بلغني أنه قد برأ (1) و هو يجلس علي باب داره فالقوة فمروه ألا يدع ما عليه في ذلك من الحق فاني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حتي وقفوا عليه عشية و هو جالس علي بابه فقالوا ما يمنعك من لقاء الأمير فانه قد ذكرك و قد قال لو أعلم انه شاك لعدته فقال لهم الشكوي يمنعني فقالوا له يبلغه أنك تجلس كل عشية علي باب دارك و قد استبطأك و الابطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك لما ركبت معنا فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلة فركبها حتي اذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان فقال لحسان بن أسماء بن خارجة يا ابن أخي اني و الله لهذا الرجل لخائف فما تري.قال أي عم و الله ما أتخوف عليك شيئا و لم تجعل علي نفسك سبيلا و انت بري ء و زعموا أن أسماءهم لم يعلم في أي شي ء بعث اليه عبيدالله فأما محمد فقد علم به فدخل القوم علي ابن زياد و دخل معهم فلما طلع قال عبيدالله أتتك بحائن رجلاه و قد عرس عبيدالله اذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة فلما دنا من ابن زياد و عنده شريح القاضي التفت نحوه فقال:أريد حباءه و يريد قتلي عذيرك من خليليك المرادو قد كان له أول ما قدم مكر ما ملطفا فقال له هاني ء و ما ذاك أيها الأمير قال ايه يا هاني ء بن عروة ما هذه الامور التي تربض (2) في دورك لأميرالمؤمنين و عامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك و ظننت أن ذلك يخفي علي لك قال ما فعلت و ما مسلم عندي قال بلي قد فعلت قال ما فعلت قال بلي فلما كثر ذلك بينهما و أبي هاني ء الا مجاحدته و مناكرته دعا ابن زياد معقلا ذلك العين فجاء حتي وقف بين يديه فقال أتعرف هذا قال نعم و علم هاني ء عند ذلك أنه كان عيناه (3) عليهم و أنه قد أتاه

ص: 56


1- برأ: شفي.
2- تربص: أي تتربص و قد حذفت احدي التاءين للتخفيف.
3- عينا: جاسوسا.

بأخبارهم فسقط في خلده (1) ساعة ثم ان نفسه راجعته فقال له اسمع مني و صدق مقالتي فوالله لا أكذبك و الله الذي لا اله غيره ما دعوته الي منزلي و لا علمت بشي ء من أمره حتي رأيته جالسا علي بابي فسألني النزول علي فاستحييت من رده و دخلني من ذلك ذمام فأدخلته داري و ضفته و آويته و قد كان من أمره الذي بلغك فان شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا و ما تطمئن اليه ألا أبغيك سوءا و ان شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتي آتيك و أنطلق اليه فآمره أن يخرج من داري الي حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه و جواره فقال لا والله لا تفارقني أبدا حتي تأتيني به فقال لا و الله لا أجيئك به أبدا أنا أجيئك بضيفي تقتله قال و الله لتأتيني به قال و الله لا آتيك به.فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي و ليس بالكوفة شأمي و لا بصري غيره فقال أصلح الله الأمير خلني و اياه حتي أكلمه لما رأي لجاجته و تأبيه (2) علي ابن زياد أن يدفع اليه مسلما.فقال لهاني ء قم الي ههنا حتي أكلمك فقام فخلا به ناحية من ابن زياد و هما منه علي ذلك قريب حيث يراهما اذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان و اذا خفضا خفي عليه ما يقولان فقال له مسلم يا هاني ء اني أنشدك الله أن تقتل نفسك و تدخل البلاء علي قومك و عشيرتك فوالله اني لأنفس بك عن القتل و هو يري أن عشيرته ستحرك في شأنه أن هذا الرجل ابن عم القوم و ليسوا قاتليه و لا ضائريه (3) فادفعه اليه فانه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة انما تدفعه الي السلطان قال بلي والله أن علي في ذلك للخزي و العار أنا أدفع جاري و ضيفي و أنا حي صحيح أسمع و أري شديد الساعد كثير الأعوان و الله لو لم أكن الا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتي أموت دونه فأخذ يناشده و هو يقول و الله لا أدفعه اليه أبدا فسمع ابن زياد ذلك فقال ادنوه مني فأدنوه منه فقال و الله لتأتيني به

ص: 57


1- سقط في خلده: خطر علي باله فالخلد بفتحتين البال، و يقال وقع ذلك في خلدي أي في قلبي.
2- تأبيه علي ابن زياد: ترفعه عليه.
3- ضائروه: أي ظالموه أو محدثو سوء به.

أو لأضربن عنقك قال اذا تكثر البارقة حول دارك فقال والهفا عليك (1) أبا البارقة تخوفني و هو يظن أن عشيرته سيمنعونه فقال ابن زياد ادنوه مني فأدني فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه و جبينه و خده حتي كسر أنفه و سيل الدماء علي ثيابه و نثر لحم خديه و جبينه علي لحيته حتي كسر القضيب و ضرب هاني ء بيده الي قائم سيف شرطي من تلك الرجال و جابذه (2) الرجل و منع فقال عبيدالله أحروري سائر اليوم أحللت بنفسك قد حل لنا قتلك خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار و أغلقوا عليه بابه و اجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به فقام اليه أسماء ابن خارجة فقال أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتي اذا جئناك به و أدخلناه عليك هشمت وجهه وسيلت دمه علي لحيته و زعمت أنك تقتله فقال له عبيدالله و انك لههنا فأمر به فلهز و تعتع به ثم ترك فحبس.و أما محمد بن الأشعث فقال قد رضينا بما رأي الأمير لنا كان أم علينا انما الأمير مؤدب و بلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل فأقبل في مذحج حتي أحاط بالقصر و معه جمع عظيم ثم نادي أنا عمرو بن الحجاج هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة و قد بلغهم أن صاحبهم يقتل فأعظموا ذلك فقيل لعبيدالله هذه مذحج بالباب فقال لشريح القاضي ادخل علي صاحبهم فانظر اليه ثم اخرج فأعلمهم أنه حتي لم يقتل و أنك قد رأيته فدخل اليه شريح فنظر اليه.قال أبومخنف فحدثني الصقعب بن زهير عن عبدالرحمن بن شريح قال سمعته يحدث اسماعيل بن طلحة قال دخلت علي هاني ء فلما رآني قال يا الله يا للمسلمين أهلكت عشيرتي فأين أهل الدين و أين أهل المصر تفاقدوا يخلوني و عدوهم و ابن عدوهم و الدماء تسيل علي لحيته اذ سمع الرجة علي باب القصر و خرجت و ابتعني فقال يا شريح اني لا أظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين أن دخل علي عشرة نفر انقذوني قال فخرجت اليهم و معي حميد بن بكر

ص: 58


1- والهفا عليك: يا حسرة عليك.
2- يقال جابذه بألف المفاعلة أي جاذبه.

الأحمري أرسله معي ابن زياد و كان من شرطه (1) ممن يقوم علي رأسه و أيم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به فلما خرجت اليهم قلت ان الأمير لما بلغه مكانكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول اليه فأتيته فنظرت اليه فأمرني أن ألقاكم و أن أعلمكم أنه حي و أن الذي بلغكم من قتله كان باطلا فقال عمرو و أصحابه فأما اذ لم يقتل و الحمدلله ثم انصرفوا.قال أبومخنف حدثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشير الهمداني قال لما ضرب عبيدالله هانئا و حبسه خشي أن يثب الناس به فخرج فصعد المنبر و معه أشراف الناس و شرطه و حشمه (2) فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله و طاعة أئمتكم و لا تختلفوا و لا تفرقوا (3) فتهلكوا و تذلوا و تقتلوا و تحفوا و تحرموا ان أخاك من صدقك و قد أعذر من أنذر قال ثم ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتي دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون و يقولون قد جاء ابن عقيل قد جاء ابن عقيل فدخل عبيدالله القصر مسرعا و أغلق أبوابه.قال أبومخنف حدثني يوسف بن يزيد عن عبدالله بن حازم قال أنا والله رسول ابن عقيل الي القصر لأنظر الي ما صار أمر هاني ء قال فلما ضرب و حبس ركبت فرس و كنت أول أهل الدار دخل علي مسلم بن عقيل بالخبر و اذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين يا عثرتاه يا ثكلاه فدخلت علي مسلم بن عقيل بالخبر فأمرني أن أنادي في أصحابه و قد ملأ منهم الدور حوله و قد بايعه ثمانية عشر ألفا و في الدور أربعة آلاف رجل فقال لي ناد يا منصور أمت فناديت يا منصور أمت و تنادي أهل الكوفة فاجتمعوا اليه فعقد مسلم لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي علي ربع كندة و ربيعة و قال سر أمامي في الخيل ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي علي ربع مذحج و أسد قال انزل في الرجال فأنت عليهم و عقد لابن ثمامة الصائد علي ربع تميم و همدان و عقد لعباس بن جعدة الجدلي علي ربع

ص: 59


1- شرطه: رجال شرطته.
2- حشمه: خدمه.
3- لا تفرقوا: أصلها لا تفرقوا و حذفت احدي التاءين للتخفيف.

المدينة ثم أقبل نحو القصر فلما بلغ ابن زياد اقباله تحرز في القصر و غلق الأبواب.قال أبومخنف و حدثني يونس بن أبي اسحاق عن عباس الجدلي قال خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف فلما بلغنا القصر الا و نحن ثلثمائة قال و أقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتي أحاط بالقصر ثم ان الناس تداعوا الينا (1) و اجتمعوا فوالله ما لبثنا الا قليلا حتي امتلأ المسجد من الناس و السوق و مازالوا يثوبون (2) حتي المساء بعبيدالله ذرعه و كان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر و ليس معه الا ثلاثون رجلا من الشرط و عشرون رجلا من أشراف الناس و أهل بيته و مواليه و أقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين و جعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون اليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة و أن يشتموهم و هم لا يفترون علي عبيدالله و علي أبيه و دعا عبيدالله كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة و يخذل الناس عن ابن عقيل و يخوفهم الحرب و يحذرهم عقوبة السلطان و أمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة و حضر موت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس و قال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي و شبث بن ربعي التميمي و حجار ابن أبجر العجلي و شمر بن ذي الجوشن العامري و حبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا اليهم لقلة عدد من معه من الناس و خرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل.قال أبومخنف فحدثني ابن جناب الكلبي أن كثيرا ألفي رجلا من كلب يقال له عبد الأعلي بن يزيد قد لبس سلاحه يريد أبن عقيل في بني فتيان فأخذه حتي أدخله علي ابن زياد فأخبره خبره فقال لابن زياد انما أردتك قال و كنت وعدتني ذلك من نفسك فأمر به فحبس و خرج محمد بن الأشعث حتي وقف عند دورتي عمارة و جاءه عمارة بن صلخب الأزدي و هو يريد ابن عقيل عليه سلاحه فأخذه فبعث به الي ابن زياد فحبسه فبعث ابن عقيل الي محمد بن الأشعث من

ص: 60


1- تداعوا الينا: أقبلوا علينا.
2- يثوبون: يرجعون.

المسجد عبدالرحمن بن شريح الشبامي فلما رأي محمد بن الاشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحي و يتأخر و أرسل القعقاع بن شور الذهلي الي محمد الأشعث قد حلت علي ابن عقيل من العرار فتأخر عن موقفه فأقبل حتي دخل علي ابن زياد من قبل دار الروميين فلما اجتمع عند عبيدالله كثير بن شهاب و محمد و القعقاع فيمن أطاعهم من قومهم فقال له كثير و كانوا مناصحين لابن زياد أصلح الأمير معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس و من شرطك و أهل بيتك و مواليك فاخرج بنا اليهم فأبي عبيدالله و عقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه و أقام الناس مع ابن عقيل يكبرون و يثوبون حتي المساء و أمرهم شديد فبعث عبيدالله الي الأشراف فجمعهم اليه ثم قال أشرفوا علي الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة و الكرامة و خوفوا أهل المعصية الحرمان و العقوبة و أعلموهم فصول الجنود من الشام اليهم.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن عبدالله بن حازم الكبري الأزدي من بني كبير قال أشرف علينا الأشراف فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتي كادت الشمس أن تجب (1) فقال أيها الناس الحقوا بأهاليكم و لا تعجلوا الشر و لا تعرضوا أنفسكم للقتل فان هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت و قد أعطي الله الأمير عهدا لئن أتممتم علي حربه و لم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء و يفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام علي غير طمع و أن يأخذ البري ء بالسقيم و الشاهد بالغائب حتي لا يبقي له فيكم بقية من أهل المعصية الا أذاقها وبال ما جرت أيديها و تكلم الأشراف بنحو من كلام هذا فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون و أخذوا ينصرفون.قال أبومخنف فحدثني المجالد بن سعيد أن المرأة كانت تأتي ابنها او أخاها فتقول انصرف الناس يكفونك و يجي ء الرجل الي ابنه أو أخيه فيقول غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب و الشر انصرف فيذهب به فما زالوا يتفرقون و يتصدعون حتي أمسي ابن عقيل و ما معه ثلاثون نفسا في المسجد حتي صليت

ص: 61


1- تجب الشمس: تختفي.

المغرب فما صلي مع ابن عقيل الا ثلاثون نفسا فلما رأي أنه قد أمسي و ليس معه الا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة فلما بلغ الأبواب و معه منهم عشرة ثم خرج من الباب و اذا ليس معه انسان و التفت فاذا هو لا يحس أحدا يدله علي الطريق و لا يدله علي منزل و لا يواسيه بنفسه ان عرض له عدو فمضي علي وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتي خرج الي دور بني حبلة من كندة فمشي حتي انتهي الي باب امرأة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا و كان بلال قد خرج مع الناس أومه قائمة تنتظره فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه فقال لها يا أمة الله اسقيني ماء فدخلت فسقته فجلس و أدخلت الاناء ثم خرجت فقالت يا عبدالله ألم تشرب قال بلي قالت فاذهب الي أهلك فسكت ثم عادت فقالت مثل ذلك فسكت ثم قالت له في ء لله سبحان الله يا عبدالله فمر الي أهلك عافاك الله فانه لا يصلح لك الجلوس علي بابي و لا أحله لك فقام فقال يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل و لا عشيرة فهل لك الي أجر و معروف و لعلي مكافئك به بعد اليوم فقالت يا عبدالله و ما ذاك قال أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم و غروني قالت أنت مسلم قال نعم قالت ادخل فأدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه و فرشت له و عرضت عليه العشاء فلم يتعش و لم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت و الخروج منه فقال و الله انه ليريبني (1) كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة و خروجك منه ان لك لشأنا قالت يا بني اله عن هذا قال لها و الله لتخبرني قالت أقبل علي شأنك و لا تسألني عن شي ء فألح عليها فقالت يا بني لا تحدثن أحدا من الناس بما أخبرك به و أخذت عليه الايمان فخلف لها فأخبرته فاضطجع و سكت و زعموا أنه قد كان شريدا من الناس و قال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له و لما طال علي ابن زياد و أخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا فأشرفوا فلم يروا أحدا قال فانظروا لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم ففرعوا بحابح المسجد و جعلوا يخفضون شعل النار في

ص: 62


1- يريبني: يشككني.

أيديهم ثم ينظرون هل في الظلال أحد و كانت أحيانا تضي ء لهم و أحيانا لا تضي ء لهم كما يريدون فدلوا القناديل و أنصاف الطنان تشد بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلي حتي تنتهي الي الأرض.ففعلوا ذلك في أقصي الظلال و أدناها و أوسطها حتي فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلما لم يروا شيئا علموا ابن زياد ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر و خرج أصحابه معه فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة و أمر عمرو بن نافع فنادي ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة و العرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلي العتمة الا في المسجد فلم يكن له الا ساعة حتي أمتلأ المسجد من الناس ثم أمر مناديه فأقام الصلاة فقال الحصين بن تميم ان شئت صليت بالناس أو يصلي بهم غيرك و دخلت أنت فصليت في القصر فاني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك فقال مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون و در فيهم فاني لست بداخل اذا فصلي بالناس ثم قام فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد فان ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتي ما قد رأيتم من الخلاف و الشقاق فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره و من جاء به فله ديته اتقوا الله عباد الله و الزموا طاعتكم و بيعتكم و لا تجعلوا علي أنفسكم سبيلا.يا حصين ابن تميم ثكلتك أمك ان صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل و لم تأتني به و قد سلطتك علي دور أهل الكوفة فابعث مراصدة علي أفواه السكك و أصبح غدا و استبر الدور و جس خلالها حتي تأتيني بهذا الرجل.و كان الحصين علي شرطه و هو من بني تميم ثم نزل ابن زياد فدخل و قد عقد لعمرو بن حريث راية و أمره علي الناس فلما أصبح جلس مجلسه و أذن للناس فدخلوا عليه و أقبل محمد بن الأشعث فقال مرحبا بمن لا يستغش و لا يتهم ثم أقعده الي جنبه و أصبح ابن تلك العجوز و هو بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل فغدا الي عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن

ص: 63

عقيل عند أمه قال فأقبل عبدالرحمن حتي أتي أباه و هو عند بن زياد فساره (1) فقال له ابن زياد ما قال لك قال أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا (2) فنحس (3) بالقضيب في جنبه ثم قال قم فاتني به الساعة.قال أبومخنف فحدثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث الي عمرو بن حريث و هو في المسجد خليفته علي الناس أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس و انما كره ان يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل فبعث معه عمرو بن عبيدالله بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس حتي أتوا الدار التي فيها ابن عقيل فلما سمع وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال عرف أنه قد أتي فخرج اليهم بسيفه و اقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتي أخرجهم من الدار ثم عادوا اليه فشد عليهم كذلك فاختلف هو و بكيز بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا و أشرع السيف في السفلي و نصلت لها ثنيتاه فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة وثني بأخري علي حبل العاتق كادت تطلع علي جوفه فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه (4) من فوق ظهر البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة و يلهبون النار في أطنان القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت فلما رأي ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه (5) في السكة فقاتلهم فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال يا فتي لك الأمان لا تقتل نفسك فأقبل يقاتلهم و هو يقول:

أقسمت لا أقتل الا حرا ***و ان رأيت الموت شيئا نكرا كرا

كل أمري ء يوما ملاق شرا *** و يخلط البارد سخنا مرا

رد شعاع الشمس فاستقرا *** أخاف أن أكذب أو أغرا

ص: 64


1- ساره: تحدث اليه سرا.
2- دورنا وردت في الأصل دونا و ما أوردناه أصح.
3- نخس بالقضيب في جنبه: وكزه به.
4- أشرفوا عليه: اطلعوا عليه من فوق.
5- مصلتا بسيفه: مشهرا أياه.

فقال له محمد بن الأشعث انك لا تكذب و لا تخدع و لا تغر ان القوم بنو عمك و ليسوا بقاتليك و لا ضاربيك و قد أثخن بالحجارة و عجز عن القتال و أنبهر (1) فأسند ظهره الي جنب تلك الدار فدنا محمد بن الأشعث فقال لك الأمان فقال آمن أنا قال نعم و قال القوم أنت آمن غير عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي فانه قال لا ناقة لي في هذا و لا جمل و تنحي.و قال ابن عقيل أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم و أتي ببغلة فحمل عليها و اجتمعوا حوله و انتزعوا سيفه من عنقه فكأنه عند ذلك آيس (2) من نفسه فدمعت عيناه ثم قال هذا أول الغدر قال محمد بن الأشعث أرجو ألا (3) لا يكون عليك بأس قال ما هو الا الرجاء أين أمانكم انا لله و انا اليه راجعون و بكي فقال له عمرو بن عبيدالله بن عباس ان من يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك قال اني و الله ما لنفسي أبكي و لا لها من القتل أرني و ان كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ولكن أبكي لأهلي المقبلين الي أبكي لحسين و آل حسين.ثم أقبل علي محمد بن الأشعث فقال يا عبدالله اني أراك و الله ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلا علي لساني يبلغ حسينا فاني لا أراه الا قد خرج اليكم اليوم مقبلا أو هو خرج غدا هو و أهل بيته و ان ما تري من جزعي لذلك فيقول ان ابن عقيل بعثني اليك و هو في أيدي القوم أسير لا يري أن تمشي حتي تقتل و هو يقول ارجع بأهل بيتك و لا يغرك أهل الكوفة فانهم أصحاب أبيك الذي كان يتمني فراقهم بالموت أو القتل ان أهل الكوفة قد كذبوك و كذبوني و ليس لمكذوب (4) رأي فقال ابن الأشعث و الله لأفعلن و لأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.

ص: 65


1- انبهر: يقال بهره غلبه و بابه قطع، و البهر بالضم تتابع النفس و بالفتح المصدر، و انبهر أي تتابع نفسه. راجع المختار (ص 67). بتصرف.
2- آيس: يائس.
3- لا زائدة.
4- ليس لمكذوب رأي لأنه كما قال صلي الله عليه و سلم: «ان الرائد لا يكذب أهله.»

قال أبومخنف فحدثني جعفر بن حذيفة الطائي و قد عرف سعيد بن شيبان الحديث قال دعا محمد بن الأشعث اياس بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة و كان شاعرا و كان لمحمد زوارا فقال له الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب و كتب فيه الذي أمره ابن عقيل و قال له هذا زادك و جهازك و متعة لعيالك فقال من أين لي براحلة فان راحلتي قد أنضيتها (1) قال هذه راحلة فاركبها برحلها ثم خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال فأخبره الخبر و بلغه الرسالة فقال له حسين كل ما حم نازل (2) و عندالله نحتسب أنفسنا و فساد أمتنا و قد كان مسلم ابن عقيل حيث تحول الي دار هاني ء بن عروة و بايعه ثمانية عشر ألفا قدم كتابا الي حسين مع عابس بن أبي شيبب الشاكري. أما بعد فان الرائد لا يكذب أهله و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجل الاقبال حين يأتيك كتابي فان الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي و لا هوي و السلام و أقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل الي باب القصر فاستأذن فأذن له فأخبر عبيدالله خبر ابن عقيل و ضرب بكير اياه فقال بعدا له فأخبره محمد بن الأشعث بما كان منه و ما كان من أمانه اياه فقال عبيدالله ما أنت و الأمان كأنا أرسلناك تؤمنه انما أرسلناك تأتينا به فسكت و انتهي ابن عقيل الي باب القصر و هو عطشان و علي باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط و عمرو بن حريث و مسلم بن عمرو و كثير بن شهاب.قال أبومخنف فحدثني قدامة بن سعد أن مسلم بن عقيل حين انتهي الي باب القصر فاذا قلة باردة موضوعة علي الباب فقال ابن عقيل اسقوني من هذا الماء فقال له مسلم بن عمرو أتراها ما أبردها لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتي تذوق الحميم في نار جهنم قال له ابن عقيل ويحك من أنت قال أنا ابن من عرف الحق اذا أنكرته و نصح لامامه اذ غششته و سمع و أطاع اذ عصيته و خالفت أنا مسلم بن عمرو الباهلي فقال ابن عقيل لأمك الثكل ما أجفاك و ما أفظك

ص: 66


1- أنضيتها: أهزلتها، و يقال النضو: البعير المهزول، و الناقة نضوة و قد أنضتها الأسفار فهي منضاة، و أنضي بعيره هزله، و يقال نضا ثوبه خلعه.
2- كل ما حم نازل: أي كل مقدور لا فرار منه و لا محيص عنه.

و أقسي قلبك و أغلظك أنت يا ابن باهلة أولي بالحميم و الخلود في نار جهنم مني ثم جلس متساندا الي حائط قال أبومخنف فحدثني قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلا ماله يدعي سليمان فجاءه بماء في قلة فسقاه.قال أبومخنف و حدثني سعيد بن مدرك بن عمارة أن عمارة بن عقبة بعث غلاماله يدعي قيسا فجاءه بقلة عليها منديل و معه قدح فصب فيه ماء ثم سقاه فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه فقال الحمدلله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته و أدخل مسلم علي ابن زياد فلم يسلم عليه بالامرة فقال له الحرسي ألا تسلم علي الأمير فقال له ان كان يريد قتلي فما سلامي عليه و ان كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عليه فقال له ابن زياد لعمري لتقتلن قال كذلك قال نعم قال فدعني أوص الي بعض قومي فنظر الي جلساء عبيدالله و فيهم عمر بن سعد فقال يا عمر ان بيني و بينك قرابة ولي اليك حاجة و قد يجب لي عليك نجح حاجتي و هو سر فأبي أن يمكنه من ذكرها فقال له عبيدالله لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك فقام معه فجلس حيث ينظر اليه ابن زياد فقال له ان علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني و انظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها و ابعث الي حسين من يرده فاني قد كتبت اليه أعلمه أن الناس معه و لا أراه الا مقبلا فقال عمر لابن زياد أتدري ما قال لي انه ذكر كذا و كذا قال له ابن زياد انه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن أما مالك فهو لك و لسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت و أما حسين فانه ان لم يردنا لم نرده و ان أرادنا لم (1) نكف عنه و أما جثته فانا لن نشفعك فيها انه ليس بأهل منا لذلك قد جاهدنا و خالفنا و جهد علي هلاكنا و زعموا أنه قال أما جثته فانا لا نبالي اذا قتلناه ما صنع بها ثم ان ابن زياد قال ايه يا ابن عقيل أتيت الناس و أمرهم جميع و كلمتهم واحدة لتشتتهم و تفرق كلمتهم و تحمل بعضهم علي بعض قال كلا لست أتيت ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم و سفك دماءهم و عمل فيهم أعمال كسري و قيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل و ندعو الي حكم الكتاب قال

ص: 67


1- أي لو غزانا.

و ما أنت و ذاك يا فاسق أو لم نكن نعمل بذاك فيهم اذ أنت بالمدينة تشرب الخمر قال أنا أشرب الخمر و الله ان الله ليعلم انك غير صادق و انك قلت بغير علم و اني لست كما ذكرت و ان أحق بشرب الخمر مني و أولي بها من يلغ في دماء (1) المسلمين ولغا فيقتل النفس التي حرم الله قتلها و يقتل النفس بغير النفس و يسفك الدم الحرام و يقتل علي الغضب و العداوة و سوء الظن و هو يلهو و يلعب كأن لم يصنع شيئا فقال له ابن زياد يا فاسق ان نفسك تمنيك ما حال الله دونه (2) و لم يرك أهله قال فمن أهله يا ابن زياد قال أميرالمؤمنين يزيد فقال الحمدلله علي كل حال رضينا بالله حكما بيننا و بينكم قال كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا قال و الله ما هو بالظن ولكنه اليقين قال قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام قال أما انك أحق من أحدث (3) في الاسلام ما لم يكن فيه أما انك لا تدع سوء القتلة و قبح المثلة و خبث السيرة و لؤم الغلبة و لا أحد من الناس أحق بها منك.و أقبل ابن سمية يشتمه و يشتم حسينا و عليا و عقيلا و أخذ مسلم لا يكلمه و زعم أهل العلم أن عبيدالله أمر له بماء فسقي بخزفة ثم قال له انه لم يمنعنا أن نسقيك فيها الا كراهة أن تحرم بالشرب فيها ثم نقتلك و لذلك سقيناك في هذا ثم قال اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ثم اتبعوا جسده رأسه فقال يا ابن الأشعث أما و الله لولا أنك آمنتني ما استسلمت قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك ثم قال يا ابن زياد أما و الله لو كانت بيني و بينك قرابة ما قتلتني ثم قال ابن زياد أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف و عاتقه فدعي فقال اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه فصعد به و هو يكبر و يستغفر و يصلي علي ملائكة الله و رسله و هو يقول اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و كذبونا و أذلونا و اشرف به علي موضع الجزارين اليوم فضربت عنقه و أتبع جسده رأسه.

ص: 68


1- يقال ولغ الكلب في الاناء يلغ و لوغا أي شرب ما فيه بأطراف لسانه، و يقال ولغ بشرابنا و في شرابنا و من شرابنا.
2- ما حال الله دونه: ما لم يرد تحقيقه.
3- أحدث في الاسلام: ابتدع فيه ما ليس منه.

قال أبومخنف حدثني الصقعب بن زهير عن عوف بن أبي جحيفة قال نزل الأحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلما فقال له ابن زياد قتلته قال نعم قال فما كان يقول و أنتم تصعدون به قال كان يكبر و يسبح و يستغفر فلما أدنيته لأقتله قال اللهم احكم بيننا و بين قوم كذبونا و غرونا و خذلونا و قتلونا فقلت له أدن مني الحمدلله الذي أقادني (1) منك فضربته ضربة لم تغن شيئا فقال أما تري في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد فقال ابن زياد و فخرا عند الموت قال ثم ضربته الثانية فقتلته.قال و قام محمد بن الأشعث الي عبيدالله بن زياد فكلمه في هاني ء بن عروة و قال انك قد عرفت منزلة هاني ء بن عروة في المصر و بيته في العشيرة و قد علم قومه أني و صاحبي سقناه اليك فأنشدك الله لما وهبته لي فاني أكره عداوة قومه هم أعز أهل المصر و عدد أهل اليمن. قال فوعده أني يفعل فلما كان من أمر مسلم ابن عقيل ما كان بدالة فيه و أبي أن يفي له بما قال قال فأمر بهاني ء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال أخرجوه الي السوق فاضربوا عنقه قال فأخرج بهاني ء حتي انتهي الي مكان من السوق كان يباع فيه الغنم و هو مكتوف فجعل يقول و امذ حجاه و لا مذحج لي اليوم و امذ حجاه و أين مني مذحج فلما رأي ان أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش (2) به رجل عن نفسه. قال و وثبوا اليه فشدوه وثاقا ثم قيل له أمدد عنقك فقال ما أنا بها مجد سخي و ما أنا بمعينكم علي نفسي.قال فضربه مولي لعبيدالله بن زياد تركي يقال له رشيد بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا فقال هاني ء الي الله المعاد اللهم الي رحمتك و رضوانك ثم ضربه أخري فقتله.قال فبصر به عبدالرحمن بن الحصين المرادي بخازر و هو مع عبيدالله بن زياد فقال الناس هذا قاتل هاني ء بن عروة فقال ابن الحصين قتلني الله ان لم أقتله

ص: 69


1- أقادني منك: أي اقتص لي منك و القود هو القصاص.
2- يجاحش به: و يقال للرجل اذا كان مستبدا برأيه، و يسمي جحيش وحده و هو ذم.

أو أقتل دونه فحمل عليه بالرمح فطعنه فقتله ثم ان عبيدالله بن زياد لما قتل مسلم ابن عقيل و هاني ء بن عروة دعا بعبد الأعلي الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان فأتي به فقال له أخبرني بأمرك قال أصلحك الله خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذني كثير بن شهاب فقال له فعليك و عليك من الأيمان المغلظة ان كان أخرجك الا ما زعمت فأبي أن يحلف فقال عبيدالله انطلقوا بهذا الي جبانة السبع فاضربوا عنقه بها قال فانطلق به فضربت عنقه قال و أخرج عمارة ابن صلخب الأزدي و كان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره فأتي به أيضا عبيدالله فقال له ممن أنت قال من الأزد قال انطلقوا به الي قومه فضربت عنقه فيهم فقال عبدالله بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل و هاني ء بن عروة المرادي و يقال قاله الفرزدق:ان كنت لا تدرين ما الموت فانظري الي هاني ء في السوق و ابن عقيلالي بطل قد هشم السيف وجهه و آخر يهوي من طمار (1) قتيلأصابهما أمر الأمير فأصبحا أحاديث من يسري بكل سبيلتري جسدا قد غير الموت لونه و نضح دم قد سال كل مسيلفتي هو أحيي (2) من فتاة حيية و أقطع من ذي شفرتين (3) صقيلأيركب أسماء الهماليج (4) آمنا و قد طلبته مذحج بذحولتطيف حواليه مراد و كلهم علي رقبة من سائل و مسولفان أنتم لم تثأروا بأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليلقال أبومخنف عن أبي جناب يحيي بن أبي حية الكلبي قال ثم ان عبيدالله ابن زياد لما قتل مسلما و هانئا بعث برؤوسهما مع هاني ء بن أبي حية الوادعي و الزبير ابن الأروح التميمي الي يزيد بن معاوية و أمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب

ص: 70


1- طمار: أثواب و مفرده طمر بالكسر الثوب الخلق. الجمع أطمار و الواحد الطومار، و قد يجمع علي طوامير.
2- أحي: أكثر حياء.
3- أقطع من ذي شفرتين: أشد قطعا من السيف.
4- سبق شرحها.

الي يزيد بن معاوية بما كان من مسلم و هاني ء فكتب اليه كتابا أطال فيه و كان أول من أطال في الكتب فلما نظر فيه عبيدالله بن زياد كرهه و قال ما هذا التطويل و هذه الفضول اكتب أما بعد فالحمدلله الذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقه و كفاه مؤنة عدوه أخبر أميرالمؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ الي دار هاني ء بن عروة المرادي و اني جعلت عليهما العيون و دسست اليهما الرجال و كدتهما حتي استخرجتهما و أمكن الله منهما فقدمتهما فضربت أعناقهما و قد بعثت اليك برؤوسهما مع هاني ء بن أبي حية الهمذاني و الزبير بن الأروح التميمي و هما من أهل السمع و الطاعة و النصيحة فليسألهما أميرالمؤمنين عما أحب من أمر فان عندهما علما و صدقا و فهما و ورعا و السلام فكتب اليه يزيد أما بعد فانك لم تعد أن كنت كما أحب عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش (1) فقد أغنيت و كفيت و صدقت ظني بك و رأيي فيك و قد دعوت رسوليك فسألتهما و ناجيتهما فوجدتهما في رأيهما و فضلهما كما ذكرت فاستوص بهما خيرا و انه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق فضع المناظر و المسالح و احترس علي الظن و خذ علي التهمة غير ألا تقتل الا من قاتلك و اكتب الي في كل ما يحدث من الخبر و السلام عليك و رحمة الله.قال أبومخنف حدثني الصقعب بن زهير عن عون بن أبي جحيفة قال كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة (2) 60 و يقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة 60 من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكة مقبلا الي الكوفة بيوم قال و كان مخرج الحسين من المدينة الي مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة 60 و دخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان فأقام بمكة شعبان و شهر رمضان و شوال و ذاالقعدة ثم خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل.

ص: 71


1- رابط الجأش: قوي القلب.
2- راجع العقد الفريد لابن عبد ربه (378: 4).

و ذكرها هارون بن مسلم عن علي بن صالح عن عيسي بن يزيد أن المختار بن أبي عبيد و عبدالله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم خرج المختار براية خضراء و خرج عبدالله براية حمراء و عليه ثياب حمر و جاء المختار برايته فركزها علي باب عمرو بن حريث و قال انما خرجت لأمنع عمرا و أن الأشعث و القعقاع بن شور و شبث بن ربعي قاتلوا مسلما و أصحابه عشية سار مسلم الي قصر ابن زياد قتالا شديدا و أن شيئا جعل يقول انتظروا بهم الليل يتفرقوا فقال له القعقاع انك قد سددت علي الناس وجه مصيرهم فافرج لهم ينسربوا و أن عبيدالله أمر أن يطلب المختار و عبدالله بن الحارث و جعل فيهما جعلا فأتي بهما فحبسا.و في هذه السنة (1) كان خروج الحسين عليه السلام من مكة متوجها الي الكوفة.

ص: 72


1- أي سنة 60 ه.

ذكر الخبر عن مسيره اليها و ما كان من أمره في مسيره ذلك

قال هشام عن أبي مخنف حدثني الصقعب بن زهير عن عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي قال لما قدمت كتب أهل العراق الي الحسين و تهيأ للمسير (1) الي العراق أتيته فدخلت عليه و هو بمكة فحمدت الله و أثنيت عليه ثم قلت أما بعد فاني أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة فان كنت تري أنك تستنصحني و الا كففت عما أريد أن أقول فقال قل فوالله ما أظنك بسي ء الرأي و لا هوي القبيح من الأمر و الفعل قال قلت له انه قد بلغني أنك تريد المسير الي العراق و اني مشفق عليك من مسيرك انك تأتي بلدا فيه عماله و أمراؤه و معهم بيوت الأموال و انما الناس عبيد لهذا الدرهم (2) و الدينار و لا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره و من أنت أحب اليه ممن يقاتلك معه فقال الحسين جزاك الله خيرا يا ابن عم فقد و الله علمت أنك مشيت بنصح و تكلمت بعقل و مهما يقض من أمر يكن أخذت برأيك أو تركته فأنت عندي أحمد مشير و أنصح ناصح قال فانصرفت من عنده فدخلت علي الحارث بن خالد بن العاص بن هشام فسألني هل لقيت حسينا فقلت له نعم قال

ص: 73


1- تهيأ للمسير: استعد له.
2- و هذه طبيعة الناس التي طبعوا عليها و فطروا بها و هي أنهم عند الدراهم و الدنانير تذل أعناقهم، و تذهب أخلاقهم لعن الله الحرص.

فما قال لك و ما قلت له قال فقلت له قلت كذا و كذا و قال كذا و كذا فقال نصحته و رب المروة الشهباء أما و رب البنية ان الرأي لما رأيته قبله أو تركه ثم قال:رب مستنصح يغش و يردي (1) و ظنين (2) بالغيب يلفي (3) نصيحاقال أبومخنف و حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عتبة بن سمعان أن حسينا لما أجمع المسير الي الكوفة أتاه عبدالله بن عباس فقال يا ابن عم انك قد أرجف الناس أنك سائر الي العراق فبين لي ما أنت صانع قال اني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين ان شاء الله تعالي فقال له ابن عباس فاني أعيذك بالله من ذلك أخبرني رحمك الله أتسير الي قوم قد قتلوا أمرهم و ضبطوا بلادهم و نفوا عدوهم فان كانوا قد فعلوا ذلك فسر اليهم و ان كانوا انما دعوك اليهم و أميرهم عليهم قاهر لهم و عماله تجبي بلادهم فانهم انما دعوك الي الحرب و القتال و لا آمن عليك أن يغروك و يكذبوك و يخالفوك و يخذلوك و أن يستنفروا اليك فيكونوا أشد الناس عليك فقال له حسين و اني أستخير الله و أنظر ما يكون قال فخرج ابن عباس من عنده و أتاه ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم و كفنا عنهم و نحن أبناء المهاجرين و ولاة هذا الأمر دونهم خبرني ما تريد أن تصنع فقال الحسين و الله لقد حدثت نفسي باتيان الكوفة و لقد كتب الي شيعتي بها و أشراف أهلها و أستخير (4) الله فقال له ابن الزبير أما لو كان لي بها مثل

ص: 74


1- يردي: يهلك.
2- ظنين: متهم.
3- يلقي: يوجد، و ألفيته: وجدته.
4- أي يطلب من الله أن يختار له ما فيه العافية و السلام و قد وردت سنة الاستخارة و حديثها صحيح أورده الامام البخاري في الدعوات (158 - 155: 11) و كذلك رواه أحمد في مسنده (1444) و الترمذي (2152). و كان شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما ندم من استخار الخالق و شاور المخلوقين، و ثبت في أمره و قد قال سبحانه و تعالي: - (و شاورهم في الأمر. فاذا عزمت فتوكل علي الله) آل عمران (159: 3) و قال قتاده: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله الا هدوا الي أرشد أمرهم. و في قضية المام الحسين رضي الله عنه أنه لم يشاور أحدا و كل من قدم له النصح أو المشورة لم يقبلها علي أساس أنه خدع من الأعراب و المنافقين.

شيعتك ما عدلت بها قال ثم انه خشي أن يتهمه فقال أما انك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا ما خولف عليك ان شاء الله ثم قام فخرج من عنده فقال الحسين ها ان هذا ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحب اليه من أن أخرج من الحجاز الي العراق و قد علم أنه ليس له من الأمر معي شي ء و ان الناس لم يعدلوه بي فود أني خرجت منها لتخلو له قال فلما كان من العشي أو من الغد أتي الحسين عبدالله بن العباس فقال يا ابن عم اني أتصبر (1) و لا أصبر.اني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك و الاستئصال ان أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فانك سيد أهل الحجاز فان كل أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب اليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم فان أبيت الآن تخرج فسر الي اليمن فان بها حصونا و شعابا و هي أرض عريضة طويلة و لأبيك بها شيعة و أنت عن الناس في عزلة فتكتب الي الناس و ترسل و تبث دعاتك فاني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية فقال له الحسين يا ابن عم اني و الله لأعلم أنك ناصح مشفق ولكني قد أزمعت (2) علي المسير فقال له ابن عباس فان كنت سارا فلا تسر بنسائك و صبيتك فوالله اني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان و نساؤه و ولده ينظرون اليه.ثم قال ابن عباس لقد أقررت عين ابن الزبير و بتخليتك اياه و الحجاز و الخروج منها و هو يوم لا ينظر اليه أحد معك والله الذي لا اله الا هو لو أعلم أنك اذا أخذت بشعرك و ناصيتك حتي يجتمع علي و عليك الناس أطعتني لفعلت ذلك قال ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بعبدالله بن الزبير فقال قرت عينك يا ابن الزبير ثم قال:يا لك من قنبرة بمعر خلالك الجو فبيضي و اصفري و نقري ما شئت أن تنقري

ص: 75


1- أتصبر و لا أصبر: أتجلد و لا أطيق الجلد و الصبر.
2- يقال أزمعت علي المسير، و أزمعت المسير لازما و متعديا بمعني شرعت في المسير و نوبت عليه.

هذا حسين يخرج الي العراق و عليك بالحجاز.قال أبومخنف قال أبوجناب يحيي بن أبي حية عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبدالله بن سليم و المذري بن المشمعل الأسديين قالا خرجنا حاجين من الكوفة حتي قدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فاذا نحن بالحسين و عبدالله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحي فيما بين الحجر و الباب قالا فتقربنا منهما فسمعنا ابن الزبير و هو يقول للحسين ان شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فآزرناك و ساعدناك و نصحنا لك و بايعناك فقال له الحسين ان أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش فقال له ابن الزبير فأقم ان شئت و توليني أنا الأمر فتطاع و لا تعصي فقال و ما أريد هذا أيضا قالا ثم انهما أخفيا كلامهما دوننا فما زالا يتناجيان (1) حتي سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين الي مني عند الظهر قالا فطاف الحسين بالبيت و بين الصفا و المروة و قص من شعره و حل من عمرته ثم توجه نحو الكوفة و توجهنا نحو الناس الي مني.قال أبومخنف عن أبي سعيد عقيصي عن بعض أصحابه قال سمعت الحسين بن علي و هو بمكة و هو واقف مع عبدالله بن الزبير فقال له ابن الزبير الي يا ابن فاطمة فأصغي اليه فساره قال ثم التفت الينا الحسين فقال أتدرون ما يقول ابن الزبير فقلنا لا ندري جعلنا الله فداك فقال قال أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس ثم قال الحسين و الله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب الي من أن أقتل داخلا منها بشبر و أيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتي يقضوا في حاجتهم و والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت.قال أبومخنف حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان قال لما خرج الحسين بن مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيي بن سعيد فقالوا له انصرف أين تذهب فأبي عليهم و مضي و تدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط ثم ان الحسين و أصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا و مضي

ص: 76


1- يتناجيان: يتساران: قال الفراء: و قد يكون النجوي و النجي اسما و مصدرا.

الحسين عليه السلام علي وجهه فنادوه يا حسين ألا تتقي الله تخرج (1) من الجماعة و تفرق بين هذه الأمة فتأول حسين قول الله عزوجل (لي عملي و لكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل و أنا بري ء مما تعملون) قال ثم ان الحسين أقبل حتي مر بالتنعيم فلقي بها عيرا قد أقبل بها من اليمن بعث بها بحير بن ريسان الحميري الي يزيد بن معاوية و كان عامله علي اليمن و علي العير الورس (2) و الحلل ينطلق بها الي يزيد فأخذها الحسين فانطلق بهم قال لأصحاب الابل لا أكرهكم من أحب أن يمضي معنا الي العراق أوفينا كراءه (3) و أحسنا صحبته و من أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء علي قدر ما قطع من الأرض قال فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه و من مضي منهم معه أعطاه كراءه و كساه.قال أبومخنف عن أبي جناب عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم و المذري قالا أقبلنا حتي انتهينا الي الصفاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر فواقف حسينا فقال له أعطاك الله سؤلك و أملك فيما تحب (4) فقال له الحسين بين لنا نبأ الناس خلفك فقال له الفرزدق من الخبير سألت قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية و القضاء ينزل من السماء و الله يفعل ما يشاء فقال له الحسين صدقت لله الأمر و الله يفعل ما يشاء و كل يوم ربنا في شأن ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله علي نعمائه و هو المستعان علي أداء الشكر و ان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته و التقوي سريرته ثم حرك الحسين راحلته فقال السلام عليك ثم افترقا.قال هشام بن عوانة بن الحكم عن لبطة بن الفرزدق ابن غالب عن أبيه قال حججت بأمي فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج و ذلك في

ص: 77


1- و كانوا قد عدوا الحسين منشقا و خارجا علي الجماعة لأن الجماعة بايعت يزيد علي الخلافة.
2- الورس: بوزن الفلس نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الفمرة للوجه، و ورس الثوب توريسا: صبغة بالورس.
3- كراءه: أجره.
4- أي حقق لك ما تتمني من أمنيات.

سنة 60 اذ لقيت الحسين بن علي خارجا من مكة معه أسيافه و تراسه (1) فقلت لمن هذا القطار فقيل للحسين بن علي فأتيته فقلت بأبي و أمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج فقال لو لم أعجل لأخذت قال ثم سألني ممن أنت فقلت له امرؤ من العراق قال فوالله ما فتشني عن أكثر من ذلك و أكتفي بها مني فقال أخبرني عن الناس خلفك قال فقلت له القلوب معك و السيوف معي بني أمية و القضاء بيد الله قال فقال لي صدقت قال فسألته عن أشياء فأخبرني بها من نذور و منلك قال و اذا هو ثقيل اللسان من برسام (2) أصابه بالعراق قال ثم مضيت فاذا فسطاط (3) مضروب في الحرم و هيئته حسنة فأتيته فاذا هو لعبدالله بن عمرو بن العاص فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي فقال لي ويلك فهلا اتبعته فوالله ليملكن و لا يجوز السلاح فيه و لا في أصحابه قال فهممت و الله أن ألحق به و وقع في قلبي مقالته ثم ذكرت الأنبياء و قتلهم فصدني ذلك عن اللحاق بهم فقدمت علي أهلي بعسفان قال فوالله اني لعندهم اذا قبلت (4) عير قد امتارت (5) من الكوفة فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتي اذا أسمعتهم الصوت و عجلت عن اتيانهم صرخت بهم ألا ما فعل الحسين بن علي قال فردوا علي ألا قد قتل قال فانصرفت و أنا ألعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال و كان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر و ينتظرونه في كل يوم و ليلة قال و كان عبدالله بن عمرو يقول لا تبلغ الشجرة و لا النخلة و لا الصغير حتي يظهر هذا الأمر قال فقلت له فما يمنعك أن تبيع الوهط (6) قال فقال لي لعنة الله علي فلان يعني معاوية و عليك قال فقلت لا بل عليك لعنة الله قال فزادني (7) من اللعن و لم

ص: 78


1- تراسه جمع مفرده ترس.
2- البرسام: علة معروفة، و في التهذيب البرسام بالفتح.
3- الفسطاط: بيت من شعر كما قال صاحب المختار (ص 503) و هو الخيمة المعزوية، و فسطاط مدينة مصر.
4- عير: الابل التي تحمل الميرة و الميرة هي الطعام.
5- امتارت: الامتيار مثل المير و امتارت أي حملت بالميرة.
6- الوهط: حائط لعبدالله بن عمر بالطائف.
7- زاد: فعل يتعدي لمفعول و مفعولين و ثلاثة مفاعيل من غير تضعيف أو زيادة همزة، تقول زادني فهما، و زاد محمد عليا ميرة و زاد عمر زيدا فضلا عميما.

يكن عنده من حشمه أحد فألقي منهم شرا قال فخرجت و هو لا يعرفني و الوهط حائط لعبدالله بن عمرو بالطائف قال و كان معاوية قد ساوم به عبدالله بن عمرو و أعطاه به مالا كثيرا فأبي أن يبيعه بشي ء قال و أقبل الحسين مغذ (1) لا يلوي علي شي ء حتي نزل ذات عرق.قال أبومخنف حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال لما خرجنا من مكة كتب عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الي الحسين بن علي مع ابنيه عون و محمد أما بعد فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فاني مشفق عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك و استئصال أهل بيتك ان هلكت اليوم طفي ء نور الأرض فانك علم المهتدين و رجاء المؤمنين فلا تعجل بالسير فاني في أثر الكتاب و السلام قال و قام عبدالله بن جعفر الي عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه و قال اكتب الي الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان و تمنيه فيه البر و الصلة و توثق له في كتابك و تسأله الرجوع لعله يطمئن الي ذلك فيرجع فقال عمرو بن سعيد اكتب ما شئت و أتني به حتي أختمه فكتب عبدالله بن جعفر الكتاب ثم أتي به عمرو بن سعيد فقال له اختمه و ابعث به مع أخيك يحيي بن سعيد فانه أحري أن تطمئن نفسه اليه و يعلم أنه الجد منك ففعل و كان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية علي مكة قال فلحقه يحيي و عبدالله بن جعفر ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيي الكتاب فقالا أقرأناه الكتاب و جهدنا به (2) و كان مما اعتذر به الينا أن قال اني رأيت رؤيا فيها (3) رسول الله صلي الله عليه و سلم و أمرت فيها بأمر أنا ماض له علي كان أولي فقالا له فما تلك الرؤيا قال ما حدثت أحدا بها و ما أنا محدث بها حتي ألقي ربي قال و كان كتاب عمرو بن سعيد الي الحسين بن علي بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد الي الحسين بن علي أما بعد فأني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك (4) و أن

ص: 79


1- مغذا سيره لا يلوي علي شي ء: منطلقا من غير توان.
2- جهدنا به: أي بذلنا الوسع في اقناعه و الحمل عليه.
3- و الرؤيا: كثير من الأحيان تكون ظنية، أو أن لها تأويلا لا يدركه الرائي، و في هذا من الخطورة علي الرائين، و خير مثال علي هذا رؤيا الحسين رضي الله عنه.
4- يوبقك: يهلكك و يرديك.

يهديك لما يرشدك بلغني أنك قد توجهت الي العراق و اني أعيذك بالله من الشقاق فاني أخاف عليك فيه الهلاك و قد بعثت اليك عبدالله بن جعفر و يحيي بن سعيد فأقبل الي معهما فان لك عندي الأمان و الصلة و البر و حسن الجوار لك الله علي بذلك شهيد و كفيل و مراع و وكيل و السلام عليك قال و كتب اليه الحسين أما بعد فانه لم يشاقق الله و رسوله من دعا الي الله عزوجل و عمل صالحا و قال انني من المسلمين و قد دعوت الي الأمان و البر و الصلة فخير الأمان أمان الله و لن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا (1) فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة فان كنت نويت بالكتاب لصلتي و بري فجزيت خيرا في الدنيا و الآخرة و السلام.

ص: 80


1- و هذا معني حديث شريف قال صلي الله عليه و سلم: «لا يجمع الله سبحانه و تعالي علي عبده خوفين و أمنين، اذا خافه في الدنيا أمنه في الآخرة، و اذا أمنه في الدنيا خافه في الآخرة:

مرجع الحديث الي حديث عما الرهيني عن أبي جعفر

حدثني زكرياء بن يحيي الضرير قال حدثنا أحمد بن جناب المصيصي قال حدثنا خالد بن يزيد بن عبدالله القسري قال حدثنا عمار الدهني قال قلت لأبي جعفر حدثني مقتل الحسين حتي كأني حضرته قال فأقبل حسين بن علي علي بكتاب مسلم بن عقيل كان اليه حتي اذا كان بينه و بين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له أين تريد قال أريد هذا المصر (1) قال له ارجع فاني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه فهم أن يرجع و كان معه اخوة مسلم بن عقيل فقالوا و الله لا نرجع حتي نصيب بثأرنا أو نقتل فقال لا خير في الحياة بعدكم فسار فلقيته أوائل خيل عبيدالله فلما رأي ذلك عدل (2) الي كربلاء فأسند ظهره الي قصباء و خلا كيلا يقاتل الا من وجه واحدد فنزل و ضرب أبنيته و كان أصحابه خمسة و أربعين فارسا و مائة راجل و كان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيدالله بن زياد الري و عهد اليه عهده فقال اكفني هذا الرجل قال اعفني فأبي أن يعفيه قال فأنظرني الليلة فآخره فنظر في أمره فلما أصبح غدا عليه راضيا

ص: 81


1- المصر: البلد و الجمع أمصار.
2- عدل الي كربلاء: اتجه اليها، و غير وجهته اليها.

بما أمر به فتوجه اليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين اختر واحدة من ثلاث اما ان تدعوني فأنصرف من حيث جئت و اما أن تدعوني فأذهب الي يزيد و اما أن تدعوني فألحق بالثغور قبل ذلك عمر فكتب اليه عبيدالله لا و لا كرامة حتي يضع يده في يدي فقال له الحسين لا و الله لا يكون ذلك أبدا فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم و فيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته و جاء سهم فأصاب ابنا له معه في حجره فجعل يمسح الدم عنه و يقول اللهم احكم بيننا و بين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ثم أمر بحبرة (1) فشقققها ثم لبسها و خرج بسيفه فقاتل حتي قتل صلوات الله عليه قتله رجل من مذحج و حز رأسه و انطلق به الي عبيدالله و قال:أوقر ركابي فضة و ذهبا فقد (2) قتلت الملك المحجباقتلت خير الناس أما و أبا و خيرهم اذ ينسبون نسبا (3) و أوفده الي يزيد بن معاوية و معه الرأس فوضع رأسه بين يديه و عنده أبوبرزه الأسلمي (4) فجعل ينكت بالقضيب علي فيه و يقول:يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلمافقال له أبوبرزة ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فا (5) رسول الله صلي الله عليه و سلم علي

ص: 82


1- حبرة، بردة يمانية و الجمع حبر و حبرات بفتح الباء.
2- و ورد الشطر الثاني من البيت بلفظ (أنا) في مروج الذهب للمسعودي (70: 3) و العقد الفريد (381: 4). أنا قتلت الملك المحجبا. و في التذكرة للقرطبي (665: 2) بلفظة (أني) أني قتلت الملك المحجبا. و الوارد هنا فقد يكسر وزن البيت و يستقيم الوزن مع (أني).
3- لأنه نسبه رسول الله صلي الله عليه و سلم.
4- و قد أنكر ابن تيمية أن يكون الناكت يزيد بقوله: «أن أبابرزة الأسلمي لم يكن موجودا في الشام و قتذاك عند يزيد» و هذا القول - في رأينا - حجة واهية فما المانع أن يكون أبوبرزة الأسلمي في أي مكان ثم اختلف وقتها الي أميرالمؤمنين يزيد، و لاسيما في ذلك الوقت الحرج الذي يتقرر مصير دولة الاسلام و الخلافة فيه.
5- فا: فم و هي منصوبة لأنها مفعول به.

فيه يلثمه (1) و سرح عمر بن سعد بحرمه و عياله الي عبيدالله و لم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي عليه السلام الا غلام كان مريضا مع النساء فأمر به عبيدالله ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه و قالت و الله لا يقتل حتي تقتلوني فرق لها (2) فتركه و كف عنه قال فجهزهم و حملهم الي يزيد فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشأم ثم أدخلوهم فهنئوه بالفتح قال رجل منهم أزرق أحمر و نظر الي وصيفه من بناتهم فقال يا أميرالمؤمنين هب لي هذه فقالت زينب لا و الله و لا كرامة لك و لا له الا أن يخرج من دين الله قال فأعادها الأزرق فقال له يزيد كف عن هذا ثم أدخلهم علي عياله فجهزهم و حملهم الي المدينة فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبدالمطلب ناشرة شعرها واضعة كمها علي رأسها تلقاهم و هي تبكي و تقول:ماذا تقولون ان قال النبي لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأممبعترتي (3) و بأهلي بعد مفتقدي منهم أساري و قتلي ضرجوا بدم (4) ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحميحدثني الحسين بن نصر قال حدثنا أبوربيعة قال حدثنا أبوعوانة عن حصين بن عبدالرحمن قال بلغنا أن الحسين عليه السلام.و حدثنا محمد بن عمار الرازي قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد بن العوام قال حدثنا حصين أن الحسين بن علي عليه السلام كتب اليه أهل الكوفة انه معك مائة ألف فبعث اليهم مسلم ابن عقيل فقدم الكوفة فنزل دار هاني ء بن عروة فاجتمع اليه الناس فأخبر ابن زياد بذلك زاد الحسين بن نصر في حديثه فأرسل الي هاني ء فأتاه فقال ألم أوقرك ألم أكرمك ألم أفعل بك قال بلي قال فما جزاء ذلك قال جزاؤه أن أمنعك قال تمنعني قال فأخذ قضيبا مكانه فضربه به و أمر فكتف ثم ضرب عنقه فبلغ ذلك مسلم بن عقيل فخرج و معه

ص: 83


1- يلثمه: يقبله.
2- رق لها: حدب و أشفق عليها.
3- عترة الرجل: نسله و رهطه الأدنون.
4- ضرجوا بدم: أي تضرجوا بالدم أي تلطخوا به.

ناس كثير فبلغ ابن زياد ذلك فأمر بباب القصر فأغلق و أمر مناديا فنادي يا خيل الله اركبي (1) فلا أحد يجيبه فظن أنه في ملا من الناس قال حصين فحدثني هلال بن يساف قال لقيتهم تلك الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار فلم يكونوا يمرون في طريق يمينا و لا شمالا الا ان ذهبت منهم طائفة الثلاثون و الأربعون و نحو ذلك قال فلما بلغ السوق و هي ليلة مظلمة و دخلوا المسجد قيل لابن زياد و الله ما نري كثير أحد و لا نسمع أصوات كثير أحد فأمر بسقف المسجد فقلع ثم أمر بحرادي فيها النيران فجعلوا ينظرون فاذا قريب خمسين رجلا قال فنزل فصعد المنبر و قال للناس تميزوا أرباعا أرباعا فانطلق كل قوم الي رأس ربعهم فنهض اليهم قوم يقاتلونهم فجرح مسلم جراحة ثقيلة و قتل ناس من أصحابه و انهزموا فخرج مسلم فدخل دارا من دور كندة فجاء رجل الي محمد بن الأشعث و هو جالس الي ابن زياد فساره فقال له ان مسلما في دار فلان فقال ابن زياد ما قال لك قال قال ان مسلما في دار فلان قال ابن زياد لرجلين انطلقا فأتياني به فدخلا عليه و هو عند امرأة قد أوقدت له النار فهو يغسل عنه الدماء فقالا له انطلق الأمير يدعوك فقال اعقدا لي عقدا فقالا ما نملك ذاك فانطلق معهما حتي أتاه فأمر به فكتف ثم قال هيه هيه يا ابن خلية قال الحسين في حديثه يا ابن كذا جئت لتنزع سلطاني ثم أمر به فضربت عنقه قال حصين فحدثني هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ ما بين واقصة الي طريق الشأم الي طريق البصرة فلا يدعون أحدا يلج (2) و لا أحدا يخرج فأقبل الحسين و لا يشعر بشي ء حتي لقي الأعراب فسألهم فقالوا لا و الله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج و لا نخرج قال فانطلق يسير نحو طريق الشأم نحو يزيد فلقيته الخيول

ص: 84


1- كان ناس أتو رسول الله صلي الله عليه و سلم فقالوا: نبايعك علي الاسلام، و ذكرت قصة رواها أبوالشيخ في الناسخ و المنسوخ عن سعيد بن جبير، و فيها فأمر النبي صلي الله عليه و سلم فنودي في الناس (يا خيل الله اركبي) فركبوا، لا ينتظر فارس فارسا. و في المغازي لابن عائذ عن قتادة قال بعث رسول الله صلي الله عليه و سلم يومئذ - أن يوم قريظة يوم الاحزاب - مناديا ينادي يا خيل الله اركبي) راجع كشف الخفا للعجلوني (531: 2) بتصرف.
2- لا يلج: لا يدخل و مشتق منه الولوج الدخول.

بكربلاء فنزل يناشدهم الله و الاسلام قال و كان بعث اليه عمر بن سعد و شمر بن ذي الجوشن و حصين بن نمير فناشدهم الحسين الله و الاسلام أن يسيروه الي أميرالمؤمنين فيضع يده في يده فقالوا لا الا علي حكم ابن زياد و كان فيمن بعث اليه الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي علي خيل فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم و الله لو سألكم هذا الترك و الديلم ما حل لكن أن تردوه فأبوا الا علي حكم ابن زياد فصرف الحروجه فرسه.و انطلق الي الحسين و أصحابه فظنوا انه انما جاء ليقاتلهم فلما دنا منهم قلب ترسه و سلم عليهم ثم كر علي أصحاب ابن زياد فقاتلهم فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمة الله عليه و ذكر أن زهير ابن القين البجلي لقي الحسين و كان حاجا فأقبل معه و خرج اليه ابن أبي بحرية المرادي و رجلان آخران و عمرو بن الحجاج و معن السلمي قال الحصين و قد رأيتهما قال الحصين و حدثني سعد بن عبيدة قال ان أشياخا من أهل الكوفة لوقوف علي التل يبكون و يقولون اللهم أنزل نصرك قال قلت يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه قال:فأقبل الحسين يكلم من بعث اليه ابن زياد قال و اني لأنظر اليه و عليه جبة من برود (1) فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بني تميم يقال له عمر الطهوي بسهم فاني لأنظر الي السهم بين كتفيه متعلقا في جبته فلما أبوا عليه رجع الي مصافه و اني لأنظر اليهم و انهم لقريب من مائة رجل فهم لصلب علي بن أبي طالب عليه السلام خمسة و من بني هاشم ستة عشر و رجل من بني سليم حليف لهم و رجل من بني كنانة حليف لهم و ابن عمر بن زياد قال و حدثني سعد بن عبيدة قال انا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد اذ أتاه رجل فساره و قال له قد بعث اليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي و أمره ان لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك قال فوثب الي فرسه فركبه ثم دعا سلاحه فلبسه و أنه علي فرسه فنهض بالناس اليهم فقاتلوهم فجي ء برأس الحسين الي ابن زياد فوضع بين يديه فجعل يقول بقضيبه و يقول ان أباعبدالله قد كان شمط (2) قال وجي ء بنسائه و بناته

ص: 85


1- البرود: جمع مفرده برده و هي كساء أسود مربع فيه صقر تلبسه الاعراب، و يجمع علي برود و برد.
2- شمط: الشمط بفتحتين بياض شعر الرأس يخالط سواده.

و أهله و كان أحسن شي ء صنعه ان أمر لهم بمنزل في مكان معتزل و أجري عليهم رزقا و أمر لهم بنفقة و كسوة قال فانطلق غلامان منهم لعبدالله بن جعفر أو ابن ابن جعفر فأتيا رجلا من طي ء فلجآ (1) اليه فضرب أعناقهما و جاء برؤوسهما حتي وضعهما بين يدي ابن زياد قال فهم بضرب عنقه و أمر بداره فهدمت قال و حدثني مولي لمعاوية بن أبي سفيان قال لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه قال رأيته يبكي (2) و قال لو كان بينه و بينه رحم ما فعل هذا قال حصين فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتي ترتفع قال و حدثني العلاء بن أبي عاثة قال حدثني رأس الجالوت عن أبيه قال ما مررت بكربلاء الا و أنا أركض دابتي حتي أخلف المكان قال قلت لم قال كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان قال و كنت أخاف أن أكون أنا فلما قتل الحسين قلنا هذا الذي نتحدث قال و كنت بعد ذلك اذا مررت بذلك المكان أسير و لا أركض.حدثني الحارث قال حدثنا ابن سعد قال حدثني علي بن محمد عن جعفر بن سليمان الضبعي قال قال الحسين و الله لا يدعوني حتي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فاذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتي يكونوا أذل من فرم (3) الأمة فقدم للعراق فقتل بنينوي يوم عاشوراء سنة 61 قال الحارث قال ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر قال قتل الحسين بن علي عليه السلام في صفر

ص: 86


1- لجأ اليه: لاذبه.
2- و هل كان يبكي يزيد من الندم الحقيقي علي هذه الجريمة البشعة النكراء؟!! و اذا كان نادما حقا فلم لم يعاقب عبيدالله بن زياد أو عمرو بن سعد أو شمر بن ذي الجوشن؟! انني أعتقد أن ذلك كان أحد أمرين: الأول: تظاهر بالندم لأن الجريمة بشعة حتي يلطف من حدة التوتر و الغيظ الذي ملأ قلوب الناس حقدا و وغرا و سخيمة علي بني أمية. الثاني: قد يكون هذا الفم و الندم حقيقيا ربما لان يزيد شعر بأن خطرا قد يتهدده و يطيح بملكه بعد حين و بعد أجل قصيرا كان أم طويلا بعيدا أم قريبا. و الله أعلم بالسرائر.
3- يقال استفرمت المرأة اذا تضيقت بالفرم، و يقال أذل من فرم الأمة. أساس البلاغة للزمخشري (ص 713).

سنة 61 (1) و هو يومئذ ابن خمس و خمسين حدثني بذلك أفلح بن سعيد عن ابن كعب القرظي قال الحارث حدثنا ابن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر عن أبي معشر قال قتل الحسين لعشر خلون (2) من المحرم قال الواقدي هذا أثبت قال الحارث قال ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا عطاء بن مسلم عمن أخبره عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال أول رأس رفع علي خشبة رأس الحسين رضي الله عن الحسين و صلي الله علي روحه قال أبومخنف عن هشام بن الوليد عمن شهد ذلك قال أقبل الحسين بن علي بأهله من مكة و محمد بن الحنفية بالمدينة قال فبلغه خبره و هو يتوضأ في طست قال فبكي حتي سمعت و كف (3) دموعه في الطست.قال أبومخنف حدثني يونس بن أبي اسحاق السبيعي قال و لما بلغ عبيدالله اقبال الحسين من مكة الي الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه حتي نزل القادسية و نظم الخيل ما بين القادسية الي خفان و ما بين القادسية الي القطقطانة و الي لعلع و قال الناس هذا الحسين يريد العراق.قال أبومخنف و حدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتي اذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي الي أهل الكوفة و كتب معه اليهم بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الي اخوانه من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم فاني أحمد اليكم الله الذي لا اله الا هو أما بعد فان كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم و اجتماع ملئكم علي نصرنا و الطلب بحقنا فسألت الله أن يحسن لنا الصنع وأن يثيبكم علي ذلك أعظم الأجر و قد شخصت (4) اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي

ص: 87


1- و يقول ابن عبد ربه (قتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء سنة احدي و ستين، و قتل و هو ابن ست و خمسين سنة) ا. ه. العقد الفريد (380: 4) بتصرف.
2- راجع التذكرة للقرطبي (664: 2).
3- و كف دموعه: غزير دموعه، و يقال فلان يستوكف الأخبار أي يستمطرها، و تقال أيضا يتوكف الأخبار.
4- شخص اليهم: اتجه اليهم.

الحجة يوم التروية فاذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدوا فاني قادم عليكم في أيامي هذه ان شاء الله و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته و كان مسلم ابن عقيل قد كان كتب الي الحسين قبل أن يقتل لسبع و عشرين ليلة أما بعد فان الرائد لا يكذب أهله ان جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي و السلام عليك قال فأقبل الحسين بالصبيان و النساء معه لا يلوي (1) علي شي ء.و أقبل قيس بن مسهر الصيداوي الي الكوفة بكتاب الحسين حتي اذا انتهي الي القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به الي عبيدالله بن زياد فقال له عبيدالله اصعد الي القصر فسب الكذاب ابن الكذاب فصعد ثم قال أيها الناس ان هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله و أنا رسوله اليكم و قد فارقته بالحاجر فأجيبوه ثم لعن عبيدالله بن زياد و أباه و استغفر لعلي بن أبي طالب قال فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمي به من فوق القصر فرمي به فتقطع فمات ثم أقبل الحسين سيرا الي الكوفة فانتهي الي ماء من مياه العرب فاذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي و هو نازل ههنا فلما رأي الحسين قام اليه فقال بأبي أنت و أمي يا ابن رسول الله ما أقدمك و احتمله فأنزله فقال له الحسين كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب الي أهل العراق يدعونني الي أنفسهم فقال له عبدالله بن مطيع أذكرك الله يا ابن رسول الله و حرمة الاسلام أن تنتهك أنشدك الله في حرمة رسول الله صلي الله عليه و سلم أنشدك الله في حرمة العرب فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك و لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا و الله انها لحرمة الاسلام تنتهك و حرمة قريش و حرمة العرب فلا تفعل و لا تأت الكوفة و لا تعرض (2) لبني أمية قال فأبي الا أن يمضي قال فأقبل الحسين حتي اذا كان بالماء فوق زرود.قال أبومخنف فحدثني السدي عن رجل من بني فزارة قال لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين التي أقطعت

ص: 88


1- لا يلوي علي شي ء: أي مقبل لا يثنيه شي ء و لا يميل.
2- أصلها تتعرض فحذفت احدي التاءين للتخفيف.

بعد زهير بن القين من بني عمرو بن يشكر من بجيلة و كان أهل الشأم لا يدخلونها فكنا محتبين فيها قال فقلت للفزاري حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي قال كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شي ء أبغض الينا من أن نسايره في منزل فاذا سار الحسين تخلف زهير بن القين و اذا نزل الحسين تقدم زهير حتي نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدا من أن ننازله فيه فنزل الحسين في جانب و نزلنا في جانب فبينا نحن جلوس تتغذي من طعام لنا اذ أقبل رسول الحين حتي سلم ثم دخل فقال يا زهير بن القين ان أباعبدالله الحسين بن علي بعثني اليك لتأتيه قال فطرح كل انسان ما في يده حتي كأننا علي رؤوسنا الطير (1) .قال أبومخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين قالت فقلت له أيبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت قالت فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستشرا قد أسفر (2) وجهه قالت فأمر بقسطاطه و ثقله و متاعه فقدم و حمل الي الحسين ثم قال لامرأته أنت طالق الحقي بأهلك فاني لا أحب أن يصيبك من سببي الا خير ثم قال لأصحابه من أحب منكم أن يتبعني و الا فانه آخر العهد اني سأحدثكم حديثا غزونا بلنجر ففتح الله علينا و أصبنا غنائم فقال لنا سلمان الباهلي أفرحتم بما فتح الله عليكم و أصبتم من المغانم فقلنا نعم فقال لنا اذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم فأما انا فاني أستودعكم الله قال ثم و الله مازال في أول القوم حتي قتل.قال أبومخنف حدثني أبوجناب الكلبي عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبدالله بن سليم و المذري بن المشمل الأسديين قالا لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة الا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره و شأنه فأقبلنا ترقل (3) بنا ناقتانا مسرعين حتي لحقناه بزرود فلما دنونا منه اذا نحن برجل من

ص: 89


1- كأن علي رؤوسنا الطير: من الصمت.
2- أسفر وجهه: تهلل من البشري.
3- ترقل بنا: تسرع.

أهل الكوفة قد عدل (1) عن الطريق حين رأي الحسين قالا فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه و مضي و مضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه اذهب بنا الي هذا فلنسأله فان كان عنده خبر الكوفة علمناه فمضينا حتي انتهينا اليه فقلنا السلام عليك قال و عليكم السلام و رحمة الله ثم قلنا فمن الرجل قال أسدي فقلنا فنحن أسديان فمن أنت قال أنا بكير بن المثعبة فانتسبنا له ثم قلنا أخبرنا عن الناس وراءك.قال نعم لم أخرج من الكوفة حتي قتل مسلم بن عقيل و هاني ء بن عروة فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق قالا فأقبلنا حتي لحقنا بالحسين فسايرناه حتي نزل الثعلبية ممسيا فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا فقلنا له يرحمك الله ان عندنا خبرا فان شئت حدثنا علانية و ان شئت سرا قال فنظر الي أصحابه و قال ما دون هؤلاء سر فقلنا له أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس قال نعم و قد أردت مسألته فقلنا قد استبرأنا (2) لك خبره و كفيناك مسألته و هو ابن امري ء من أسد منا دو رأي و صدق و فضل و عقل و انه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتي قتل مسلم ابن عقيل و هاني ء بن عروة و حتي رآهما يجران في السوق بأرجلهما فقال انا لله و انا اليه راجعون رحمة الله عليهما فردد ذلك مرارا فقلنا ننشدك الله في نفسك و أهل بيتك الا انصرفت من مكانك هذا فانه ليس لك بالكوفة نار و لا شيعة بل نتخوف أن تكون عليك قال فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب (3) .قال أبومخنف حدثني عمر بن خالد عن زيد بن علي بن حسين و عن داود بن علي بن عبدالله بن عباس أن بني عقيل قالوا لا و الله لا نبرح (4) حتي ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا (5) .

ص: 90


1- عدل عن الطريق: تركه و سلك غيره.
2- استبرأنا خبره: أن طلبنا غاية ما عنده لقطع الشبهة، و استبرأ من بوله اذا استنزه.
3- و هنا نري أن الحسين مثلما كان أبوه من قبله كان في أعصي جند، فانهم كانوا سبب هذه النازلة الكبري.
4- لا نبرح المكان: لا نتركه.
5- و هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب.

قال أبومخنف عن أبي جناب الكلبي عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم و المذري بن المشعل الأسديين قالا فنظر الينا الحسين فقال لا خير في العيش بعد هؤلاء قالا فعلمنا أنه قد عزم له رأيه علي المسير قالا فقلنا خار الله (1) لك قالا فقال رحمكما الله قالا فقال له بعض أصحابه انك و الله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع قال الأسديان ثم انتظر حتي اذا كان السحر (2) قال لفتيانه و غلمانه أكثروا من الماء فاستقوا و أكثروا ثم ارتحلوا و ساروا حتي انتهوا الي زبالة.قال أبومخنف حدثني أبوعلي الأنصاري عن بكر بن مصعب المزني قال كان الحسين لا يمر بأهل ماء الا اتبعوه حتي انتهي الي زبالة سقط اليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبدالله بن بقطر و كان سرحه الي مسلم بن عقيل من الطريق و هو لا يدري أنه قد أصيب فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية فسرح به الي عبيدالله بن زياد فقال اصعد فوق القصر فالعن الكذاب بن الكذاب ثم انزل حتي أري فيك رأيي قال فصعد فلما أشرف علي الناس قال أيها الناس اني رسول الحسين بن فاطمة بن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم لتنصروه و توازروه (3) علي ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر به عبيدالله فألقي من فوق القصر الي الأرض فكسرت عظامه و بقي به رمق (4) فأتاه رجل يقال له عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه فلما عيب ذلك عليه قال انما أردت أن أريحه قال هشام:حدثنا أبوبكر بن عياش عمن أخبره قال و الله ما هو عبدالملك بن عمير الذي قام اليه فذبحه ولكنه قام اليه رجل جعد طوال يشبه عبدالملك بن عمير قال فأتي ذلك الخبر حصينا و هو بزبالة فأخرج للناس كتابا فقرا عليهم بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فانه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل و هاني ء بن

ص: 91


1- خار الله: أي استخار الله فخاره الله أي اختار له.
2- السحر: الجزء الأخير من الليل قبيل الصبح.
3- كذا وردت بالأصل و الأصح تؤازروه بالهمزة، لأن توازروه من التوزير و الأوزار، و تؤازروه المؤازره و المعاونة و الأخيرة هي المقصودة.
4- بقي به رمق: بقي به بقية.

عروة و عبدالله بن يقطر و قد خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام قال فتفرق الناس عنه تفرقا فأخذوا يمينا و شمالا حتي بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة و انما فعل ذلك لانه ظن انما اتبعه الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له (1) طاعة أهله فكره أن يسيروا معه الا و هم يعلمون علام يقدمون و قد علم أنهم اذا بين لهم لم يصحبه الا من يريد مواساته و الموت معه قال فلما كان من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء و أكثروا ثم سار حتي مر بطن العقبة فنزل بها.قال أبومخنف فحدثني لوذان أحد بني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام أين تريد فحدثه فقال له اني أنشدك الله لما انصرفت فوالله لا تقدم الا علي الأسنة وحد السيوف فان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال و وطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا فأما علي هذه الحال التي تذكرها فاني لا أري لك أن تفعل قال فقال له يا عبدالله انه ليس يخفي علي الرأي ما رأيت ولكن الله لا يغلب علي أمره ثم أرتحل منها. و نزع يزيد بن معاوية في هذه السنة الوليد بن عتبة عن مكة و ولاها عمرو بن سعيد بن العاص و ذلك في شهر رمضان منها فحج بالناس عمرو بن سعيد في هذه السنة حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره عن اسحاق بن عيسي عن أبي معشر و كان عامله علي مكة و المدينة في هذه السنة بعد ما عزل الوليد بن عتبة عمرو بن سعيد و علي الكوفة و البصرة و أعمالها عبيدالله بن زياد و علي قضاء الكوفة شريح بن الحارث و علي قضاء البصرة هشام بن هبيرة.

ص: 92


1- قد استقامت له طاعة أهله: استوت و كملت و تمت.

ثم دخلت سنه أحدي و ستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك مقتل الحسين رضوان الله عليه قتل فيها في المحرم لعشر خلون منه كذلك حدثني أحمد بن ثابت قال حدثني محدث عن اسحاق بن عيسي عن أبي معشر و كذلك قال الواقدي و هشام بن الكلبي و قد ذكرنا ابتداء أمر الحسين في مسيره نحو العراق و ما كان منه في سنة 60 و نذكر الآن ما كان من أمره في سنة 61 و كيف كان مقتله.حدثت عن هشام عن أبي مخنف قال حدثني أبوجناب عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم و المدري بن المشمعل الأسديين قالا أقبل الحسين عليه السلام حتي نزل شراف فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ثم ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتي انتصف النهار ثم ان رجلا قال الله أكبر فقال الحسين الله أكبر ما كبرت قال رأيت النخل فقال له الأسديان ان هذا المكان ما رأينا به نخلة قط قالا فقال لنا الحسين فما تريانه رأي قلنا نراه رأي هوادي (1) الخيل فقال و أنا و الله أري ذلك فقال الحسين أما لنا ملجأ نلجأ اليه نجعله في ظهورنا و نستقبل القوم من وجه واحد فقلنا له بلي هذا ذو حسم الي جنبك تميل اليه عن يسارك فان سبقت القوم اليه فهو كما تريد قال فأخذ اليه

ص: 93


1- هوادي الخيل: جمع مفرده هاد و هادية، و تجمع أيضا علي هاديات. و هوادي الخيل: متقدماتها، و يقال ضرب هاديته أي ضرب عنقه.

ذات اليسار قال و ملنا معه فما كان فأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها و عدلنا فلما رأونا و قد عدلنا عن الطريق عدلوا الينا كأن أسنتهم اليعاسيب (1) و كأن راياتهم أجنحة الطير (2) القوم و هم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي (3) حتي وقف هو و خيله مقابل الحسين في حر الظهيرة و الحسين و أصحابه معتمون متقلدو أسيافهم فقال الحسين لفتيانه اسقوا القوم وارووهم من الماء و رشفوا الخيل ترشيفا فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفا فقام فتية و سقوا القوم من الماء حتي أرووهم و أقبلوا يملؤن القصاع و الأتوار و الطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فاذا عب فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه و سقوا آخر حتي سقوا الخيل كلها.قال هشام حدثني لقيط عن علي بن الطعام المحاربي كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأي الحسين ما بي و بفرسي من العطش قال أنخ الراوية و الراوية عندي السقاء ثم قال يا ابن أخي أنخ الجمل فأنخته فقال أشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين اخنث السقاء أي اعطفه قال فجعلت لا أدري كيف أفعل قال فقام الحسين فخنثه فشربت و سقيت فرسي قال و كان مجي ء الحر بن يزيد و مسيره الي الحسين من القادسية و ذلك أن عبيدالله بن زياد لما بلغه اقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي و كان علي شرطه فأمره أن ينزل القادسية و أن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة الي خفان و قدم الحر بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حسينا قال فلم يزل موافقا حسينا حتي حضرت الصلاة صلاة الظهر فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن فأذن فلما حضرت الاقامة خرج الحسين في ازار و رداء و نعلين فحمدالله و أثني عليه ثم قال أيها الناس انها معذرة الي الله عزوجل و اليكم اني آتكم حتي أتتني كتبكم و قدمت علي رسلكم أن أقدم علينا فانه ليس لنا امام لعل الله يجمعنا بك علي الهدي فان كنتم علي

ص: 94


1- اليعاسيب جمع مفرده يعسوب و هو ذكر النحل.
2- من سرعة سيرها.
3- نسبة الي قبيلة بني يربوع من أحد بطون مكة.

ذلك فقد جئتكم فان تعطوني ما أطمئن اليه من عهودكم و مواثيقكم أقدم مصركم و ان لم تفعلوا و كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الي المكان الذي أقبلت منه اليكم قال فسكتوا عنه و قالوا للمؤذن أقم فأقام الصلاة فقال الحسين عليه السلام للحر أتريد أن تصلي بأصحابك قال لا بل تصلي انت و نصلي بصلاتك قال فصلي بهم الحسين.ثم انه دخل و اجتمع اليه أصحابه و انصرف الحر الي مكانه الذي كان به فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع اليه جماعة من أصحابه و عاد أصحابه الي صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان (1) دابته و جلس في ظلها فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤا للرحيل ثم انه خرج فأمر مناديه فنادي بالعصر و أقام فاستقدم الحسين فصلي بالقوم ثم سلم و انصرف الي القوم بوجهه فحمدالله و أثني عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فانكم ان تتقوا و تعرفوا الحق لأهله يكن أرضي لله و نحن أهل البيت أولي بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم و السائرين فيكم بالجور (2) و العدوان و ان أنتم كرهتمونا و جعلتم (3) حقنا و كان رأيكم غير ما أتتني كتبكم و قدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم فقال له الحر بن يزيد انا و الله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر فقال الحسين يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم الي فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم فقال الحر فانا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك و قد أمرنا اذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتي نقدمك علي عبيدالله بن زياد فقال له الحسين الموت أدني اليك من ذلك ثم قال لأصحابه قوموا فاركبوا فركبوا و انتظروا حتي ركبت نساؤهم فقال لأصحابه انصرفوا بنا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم (4) و بين الانصراف فقال الحسين للحر ثكلتك أمك ما تريد قال أما و الله لو غيرك من العرب يقولها لي و هو علي مثل

ص: 95


1- عنان الداية: هو ما ظهر منها و بلغ السماء أي نواحيها. و عنان الداية ناصيتها.
2- الجور: الظلم و الحيف.
3- كذا ورد بالأصل و الأصوب (و جهلتم) حسب السياق و هذا تحريف من الناسخ.
4- حال القوم بينهم و بين الانصراف: منعوهم منه.

الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان ولكن و الله مالي الي ذكر أمك من سبيل الا بأحسن ما يقدر عليه فقال له الحسين فما تريد قال الحر أريد و الله أن أنطلق بك الي عبيدالله بن زياد قال له الحسين اذن و الله لا أتبعك فقال له الحر اذن و الله لا أدعك فترادا القول ثلاث مرات و لما كثر الكلام بينهما. قال له الحر اني لم أومر بقتالك و انما أمرت أن لا أفارقك حتي أقدمك الكوفة فاذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة و لا تردك الي المدينة لتكون بيني و بينك نصفا حتي أكتب الي ابن زياد و تكتب أنت الي يزيد بن معاوية آن أردت أن تكتب اليه أو الي عبيدالله بن زياد ان شئت فلعل الله الي ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشي ء من أمرك قال فخذ ههنا فتياسر (1) ، عن طريق العذيب و القادسية و بينه و بين العذيب ثمانية و ثلاثون ميلا ثم ان الحسين سار في أصحابه و الحر يسايره.قال أبومخنف عن عقبة بن أبي العيزار ان الحسين خطب أصحابه و أصحاب الحر بالبيضة فحمدالله و أثني عليه ثم قال أيها الناس ان رسول الله صلي الله عليه و سلم قال من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد (2) الله مخالفا لسنة رسول الله صلي الله عليه و سلم يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان فلم يغير عليه بفعل و لا قول كان حقا علي الله ان يدخله مدخله ألا و ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد و عطلوا الحدود و استأثروا بالفي ء (3) و أحلوا حرام الله و حرموا حلاله و أنا أحق من غير و قد أتتني كتبكم و قدمت علي رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني (4) و لا تخذلوني فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم نفسي مع أنفسكم و أهلي مع أهليكم فلكم في أسوة و ان لم تفعلوا و نقضتم عهدكم و خلعتم (5) بيعتي من

ص: 96


1- تياسر: اتجه ناحية اليسار.
2- ناكثا لعهد الله: ناقضا له.
3- استأثروا بالفي ء: أي دون مستحقيه.
4- من السلم: أي انتقاص الحق.
5- خلعتم بيعتي من أعناقكم: تنكرتم لها و رجعتم فيها.

أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي و أخي و ابن عمي مسلم و المغرور من اغتربكم فحظكم أخطأتم و نصيبكم ضيعتم و من نكث فانما ينكث علي نفسه و سيغني الله عنك و السلام عليك و رحمة الله و بركاته. و قال عقبة بن أبي العيزاز قام حسين عليه السلام بذي حسم فحمد الله و أثني عليه ثم قال انه قد نزل من الأمر ما قد ترون و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر (1) معروفها و استمرت جدا فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء و خسيس (2) عيش كالمرعي الوبيل (3) ألا ترون أن الحق لا يعمل به و أن الباطل لا يتناهي عنه.ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فاني لا أري الموت الا شهادة و لا الحياة مع الظالمين الا برما قال فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه تكلمون أم أتكلم قالوا لا بل تكلم فحمدالله فأثني عليه ثم قال قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك و الله لو كانت الدنيا لنا باقية و كنا فيها مخلدين الا أن فراقها في نصرك و مواساتك لآثرنا الخروج معك علي الاقامة فيها قال فدعا له الحسين ثم قال له خيرا و أقبل الحر يسايره و هو يقول له يا حسين اني أذكرك الله في نفسك فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن و لئن قوتلت لتهلكن فيما أري فقال له الحسين أفبالموت تخوفني و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ما أدري.ما أقول لك ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه و لقيه و هو يريد نصرة رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال له أين تذهب فانك مقتول فقال:سأمضي و ما بالموت عار علي الفتي اذا ما نوي حقا و جاهد مسلماو آسي الرجال الصالحين بنفسه و فارق (4) مثبورا يغش و يرغماقال فلما سمع ذلك منه الحر تنحي عنه و كان يسير بأصحابه في ناحية و حسين في ناحية أخري حتي انتهوا الي عذيب الهجانات و كان بها هجائن النعمان ترعي هنالك فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة علي رواحلهم

ص: 97


1- أدبر معروفها: تولي و انصرم.
2- الخسيس: الدني ء.
3- الوبيل: الثقيل الوخيم.
4- مثبورا: هالكا.

يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل و معهم دليلهم الطرماح بن عدي علي فرسه و هو يقول:يا ناقتي لا تذعري من زجري و شمري قبل طلوع الفجربخير ركبان و خير سفر حتي تحلي بكريم النجرالماجد الحر رحيب الصدر أتي به الله لخير أمرثمت أبقاه بقاء الدهر قال فلما انتهوا الي الحسين أنشدوه هذه الأبيات فقال أما و الله اني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله قتلنا أم ظفرنا قال و أقبل اليهم الحر بن يزيد فقال ان هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك و أنا حابسهم أو رادهم فقال له الحسين لأمنعهم مما أمنع منه نفسي انما هؤلاء أنصاري و أعواني و قد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشي ء حتي يأتيك كتاب من ابن زياد فقال أجل لكن لم يأتوا معك قال هم أصحابي و هم بمنزلة من جاء معي فان تممت علي ما كان بيني و بينك و الا ناجزتك (1) قال قف عنهم الحر قال ثم قال لهم الحسين أخبروني خبر الناس وراءكم فقال له مجمع بن عبدالله العائذي و هو أحد النفر الأربعة الذين جاءوه أما أشراف الناس فقد أعظمت (2) رشوتهم و ملئت غرائرهم يستمال ودهم و يستخلص به نصيحتهم فهم ألب واحد (3) عليك و أما سائر الناس بعد فان أفئدته تهوي (4) اليك و سيوفهم غدا مشهورة (5) عليك.قال أخبرني فهل لكم برولي اليكم قالوا من هو قال قيس بن مسهر الصيداوي فقالوا نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث - الي ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك و يلعن أباك فصلي عليك و علي أبيك و لعن ابن زياد و أباه و دعا الي

ص: 98


1- ناجزه: أي بادله، و قال أكثم بن صيفي حكيم العرب: اذا أردت المحاجزة قيل المناجزة و يقال ناجزه القتال.
2- و الرجال مهما كبرت شخوصهم و همومهم فهم صغار أمام المال و عبيد للحرص و حياله يفقدون صوابهم.
3- يقال تألب عليه: تمرد و ثار، و هم ألب واحد عليك أي مجتمعون علي مقاومتك و الثورة عليك.
4- تهوي: تميل.
5- مشهورة: مشرعة مرفوعة عليك.

نصرتك و أخبرهم بقدومك فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر فترقرقت عينا حسين عليه السلام و لم يملك دمعه ثم قال منهم من قضي نحبه (1) و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا. اللهم اجعل لنا و لهم الجنة نزلا و اجمع بيننا و بينهم في مستقر من رحمتك و رغائب مذخور (2) ثوابك.قال أبومخنف حدثني جميل بن مرثد بن بني معن عن الطرماح ابن عدي أنه دنا من الحسين فقال له و الله اني لأنظر فما أري معك أحدا ولو لم يقاتلك الا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفي بهم و قد رأيت قبل خروجي من الكوفة اليك بيوم ظهر الكوفة و فيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه فسألت عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون الي الحسين فأنشدك الله ان قدرت علي ألا تقدم عليهم شبرا الا فعلت فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتي تري من رأيك و يستبين لك ما أنت صانع فسر حتي أنزلك مناع جبلنا الذي يدعي أجأ امتنعنا و الله به من ملوك غسان و حمير و من النعمان بن المنذر و من الأسود و الأحمر و الله ان دخل علينا ذل قط فأسير معك حتي أنزلك القرية ثم نبعث الي الرجال ممن بأجأ و سلمي من طي ء فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتي يأتيك طي ء رجالا و ركبانا ثم أقم فينا ما بدا لك فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك فأسيافهم و الله لا يوصل اليك أبدا و منهم عين تطرف فقال له جزاك الله و قومك خيرا انه قد كان بيننا و بين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه علي الانصراف و لا ندري علام تنصرف بنا و بهم الأمور في عاقبة.قال أبومخنف فحدثني جميل بن مرثد قال حدثني الطرماح بن عدي قال فودعته و قلت له دفع الله عنك شر الجن و الانس اني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة و معي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثم أقبل اليك ان شاء الله فان ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك قال فان كنت فاعلا فعجل رحمك الله قال فعلمت أنه مستوحش الي الرجال حتي يسألني التعجيل قال فلما بلغت أنه

ص: 99


1- قضي نحبه: قضي أجله.
2- مذخور ثوابك: آجله.

مستوحش الي الرجال حتي يسألني التعجيل قال فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم و أوصيت فأخذ أهلي يقولون انك لتصنع مرتك هذه شيئا ما كنت تصنعه قبل اليوم فأخبرتهم بما أريد و أقبلت في طريق بني ثعل حتي اذا دنوت من عذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه الي فرجعت قال و مضي الحسين عليه السلام حتي انتهي الي قصر بني مقاتل فنزل به فاذا هو بفسطاط مضروب.قال أبومخنف حدثني المجالد بن سعيد عن عامر الشعبي أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال لمن هذا الفسطاط فقيل لعبيدالله بن الحر الجعفي قال ادعوه لي و بعث اليه فلما أتاه الرسول قال هذا الحسين بن علي يدعوك فقال عبيدالله بن الحر انا لله و انا اليه راجعون و الله ما خرجت من الكوفة الا كراهة أن يدخلها الحسين و أنا بها و الله ما أريد أن أراه و لا يراني فأتاه الرسول فأخبره فأخذ الحسين نعليه فانتعل ثم قام فجاءه حتي دخلت عليه فسلم و جلس ثم دعاه الي الخروج معه فأعاد اليه ابن الحر تلك المقالة فقال فالا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الا هلك قال أما هذا فلا يكون أبدا ان شاء الله ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتي دخل رحله.قال أبومخنف حدثني عبدالرحمن بن جندب عن عقبة بن سمعان قال لما كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثم أمرنا بالرحيل ففعلنا قال فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل و سرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه و هو يقول انا لله و انا اليه راجعون و الحمدلله رب العالمين قال ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا قال فأقبل اليه ابنه علي بن الحسين علي فرس له فقال انا لله و انا اليه راجعون و الحمدلله رب العالمين يا أبت جعلت فداك مم حمدت الله و استرجعت (1) قال يا بني اني خفقت (2) برأسي خفقة فعن لي (3) فارس علي فرس فقال القوم يسيرون و المنايا تسري (4) اليهم فعلمت أنها أنفسنا نعيت الينا قال له يا أبت لا أراك الله سوءا ألسنا علي الحق قال بلي و الذي اليه مرجع العباد

ص: 100


1- استرجع: قال: انا لله و انا اليه راجعون.
2- خفق برأسه: اضطرب.
3- عن لي فارس: ظهر و بدأ.
4- المنايا: الموت.

قال يا أبت اذا لا نبالي نموت محقين فقال له جزاك الله من ولد خير ما جزي ولدا عن والده قال فلما أصبح نزل فصلي الغداة ثم عجل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم فيرده فجعل اذا ردهم الي الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا فلم يزالوا يتسايرون حتي انتهوا الي نينوي المكان الذي نزل به الحسين قال فاذا راكب علي نجيب له و عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة فوقفوا جميعا ينتظرونه فلما انتهي اليهم سلم علي الحر بن يزيد و أصحابه و لم يسلم علي الحسين عليه السلام و أصحابه فدفع الي الحر كتابا من عبيدالله بن زياد فاذا فيه. أما بعد فجعجع (1) بالحسين حين يبلغك كتابي و يقدم عليك رسولي فلا تنزله بالعراء في غير حصن و علي غير ماء و قد أمرت رسولي أن يلزمك و لا يفارقك حتي يأتيني بانفاذك أمري و السلام قال فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر هذا كتاب الأمير عبيدالله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه و هذا رسوله و قد أمره أن لا يفارقني حتي أنفذ رأيه و أمره فنظر الي رسول عبيدالله يزيد بن زياد بن المهاصر أبوالشعثاء الكندي ثم النهدي فعن له فقال أمالك بن النسير البدي قال نعم و كان أحد كندة فقال له يزيد بن زياد ثكلتك أمك ماذا جئت فيه قال و ما جئت فيه أطعمت امامي و وفيت ببيعتي فقال له أبوالشعثاء عصيت ربك و أطعمت امامك في هلاك نفسك كسبت العار و النار قال الله عزوجل (و جعلنا منهم أئمة يدعون الي النار و يوم القيامة لا ينصرون) فهو امامك.قال و أخذ الحر بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان علي غير ماء و لا في قرية فقالوا دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوي أو هذه القرية يعنون الغاضرية أو هذه الأخري يعنون شفية فقال لا و الله ما أستطيع ذلك هذا رجل قد بعث الي عينا فقال له زهير بن القين يا ابن رسول الله ان قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم فلعمري ليأتينا من بعد من تري ما الا قبل لنا به فقال له الحسين ما كنت لأبدأهم بالقتال فقال له زهير بن القين سر بنا الي هذه القرية حتي تنزلها فانها حصينة و هي علي شاطي ء الفرات فان منعونا قاتلناهم فقتالهم

ص: 101


1- جعجع: الجعجعة صوت الرحي.

أهون علينا من قتال من يجي ء من بعدهم فقال له الحسين و أية قرية هي قال هي العقر فقال الحسين اللهم اني أعوذ بك من العقر ثم نزل و ذلك يوم الخميس و هو اليوم الثاني من المحرم سنة 61 فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف قال و كان سبب خروج ابن سعد الي الحسين عليه السلام أن عبيدالله بن زياد بعثه علي أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم الي دستبي و كانت الديلم قد خرجوا اليها و غلبوا عليها فكتب اليه ابن زياد عهده علي الري (1) و أمره بالخروج فخرج معسكرا بالناس بحمام أعين فلما كان من أمر الحسين ما كان و أقبل الي الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال سر الي الحسين فاذا فرغنا مما بيننا و بينه سرت الي عملك فقال له عمر بن سعد ان رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل فقال له عبيدالله نعم علي أن ترد لنا عهدنا قال فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد أمهلني اليوم حتي أنظر قال فانصرف عمر يستشير نصحاءه فلم يكن يستشير أحدا الا نهاه قال و جاء حمزة بن المغيرة بن شعبة و هو ابن أخته فقال أنشدك الله يا خال أن تسير الي الحسين فتأثم بربك و تقطع رحمك فوالله لأن تخرج من دنياك و مالك و سلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقي الله بدم الحسين فقال له عمر بن سعد فاني أفعل ان شاء الله قال هشام حدثني عوانة بن الحكم عن عمار بن عبدالله بن يسار الجهني عن أبيه قال دخلت علي عمر بن سعد و قد أمر بالمسير الي الحسين فقال لي ان الأمير أمرني بالمسير الي الحسين فأبيت ذلك عليه فقلت له أصاب الله بك أرشدك الله أحل فلا تفعل و لا تسر اليه قال فخرجت من عنده فأتاني آت و قال هذا عمر بن سعد يندب الناس الي الحسين قال فأتيته فاذا هو جالس فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قد عزم علي المسير اليه فخرجت من عنده قال فأقبل عمر بن سعد الي ابن زياد فقال أصلحك الله انك و ليتني هذا العمل و كتبت لي العهد و سمع به الناس فان رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل و ابعث الي الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغني و لا أجزأ عنك في الحرب منه.فسمي له أناسا فقال له ابن زياد لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة و لست

ص: 102


1- مكافأة له علي الخروج لملاقاة الحسين و قتاله.

أستأمرك فيمن أريد أن أبعث ان سرت بجندنا و الا فابعث الينا بعهدنا فلما رآه قد لج قال فاني سائر قال فأقبل في أربعة آلاف حتي نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوي قال فبعث عمر بن سعد الي الحسين عليه السلام عزرة بن قيس الأحمسي فقال ائته فسله ما الذي جاء به و ماذا يريد و كان عزرة ممن كتب الي الحسين فاستحيا منه أن يأتيه قال فعرض ذلك علي الرؤساء الذين كاتبوه فكلهم أبي و كرهه قال و قام اليه كثير بن عبدالله الشعبي و كان فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شي ء فقال أنا أذهب اليه و الله لئن شئت لأفتكن به فقال له عمر بن سعد ما ريد أن يفتك به ولكن ائته فسله ما الذي جاء به قال فأقبل اليه فلما رآه أبوثمامة الصائدي قال للحسين أصلحك الله أباعبدالله قد جاءك شر أهل الأرض و أجرأه علي دم و أفتكه فقام اليه فقال ضع سيفك قال لا و الله و لا كرامة انما أنا رسول فان سمعتم مني أبلغتكم ما أرسلت به اليكم و ان أبيتم انصرفت عنكم فقال له فاني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك قال لا و الله لا تمسه فقال له أخبرني ما جئت به و أنا أبلغه عنك و لا أدعك تدنو منه فانك فاجر قال فاستبا ثم انصرف الي عمر بن سعد فأخبره الخبر قال فدعا عمر قره بن قيس الحنظلي فقال له ويحك يا قرة الق حسينا فسله ما جاء به و ماذا يريد قال فأتاه قرة بن قيس فلما رآه الحسين مقبلا قال أتعرفون هذا فقال حبيب بن مظاهر نعم هذا رجل من حنظلة تميمي و هو ابن أختنا و لقد كنت أعرفه بحسن الرأي و ما كنت أراه يشهد هذا المشهد قال فجاء حتي سلم علي الحسين و أبلغه رسالة عمر بن سعد اليه له فقال الحسين كتب الي أهل مصركم هذا أن أقدم فأما أذكر هوني فأنا أنصرف عنهم قال ثم قال له حبيب بن مظاهر ويحك يا قرة بن قيس أني ترجع الي القوم الظالمين انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة و ايانا معك فقال له قرة أرجع الي صاحبي بجواب رسالته و أري رأيي قال فانصرف الي عمر بن سعد فأخبره الخبر فقال له عمر بن سعد اني لأرجو أن يعافيني الله من حربه و قتاله.قال هشام عن أبي مخنف قال حدثني النضر بن صالح بن حبيب بن زهير العبسي عن حسان بن فائد بن بكر العبسي قال أشهد أن كتاب عمر بن سعد

ص: 103

جاء الي عبيدالله بن زياد و أنا عنده فاذا فيه.بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاني حيث نزلت بالحسين بعثت اليه رسولي فسألته عما أقدمه و ماذا يطلب و يسأل فقال كتب الي أهل هذه البلاد و أتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت فأما اذ كرهوني فبدالهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم فلما قري ء الكتاب علي ابن زياد قال:الآن اذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص (1) .قال و كتب الي عمر بن سعد:بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني كتابك و فهمت ما ذكرت فأعرض علي الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو و جميع أصحابه فاذا فعل ذلك رأينا رأينا و السلام قال فلما أتي عمر بن سعد الكتاب قال قد حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال جاء من عبيدالله بن زياد كتاب الي عمر بن سعد أما بعد فحل بين الحسين و أصحابه و بين الماء و لا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أميرالمؤمنين عثمان بن (2) عفان قال فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج علي خمسمائة فارس فنزلوا علي الشريعة و حالوا بين حسين و أصحابه و بين الماء أن يسقوا منه قطرة و ذلك قبل قتل الحسين بثلاث قال و نازله عبدالله بن أبي حصين الأزدي و عداده في بجيلة فقال يا حسين ألا تنظر الي الماء كأنه كبد السماء و الله لا تذوق منه قطرة حتي تموت عطشا فقال حسين اللهم اقتله عطشا و لا تغفر له أبدا قال حميد بن مسلم و الله لعدته بعد ذلك في مرضه فوالله الذي لا اله الا هو لقد رأيته يشرب حتي بغر ثم يقي ء ثم فيشرب حتي يبغر فما يروي فمازال ذلك دأبه حتي لفظ غصته يعني نفسه قال و لما اشتد علي الحسين و أصحابه العطش دعا العباس بن علي بن أبي طالب أخاه فبعثه في ثلاثين فارسا و عشرين راجلا و بعث معهم بعشرين قربة (3) فجاءوا حتي دنوا من الماء ليلا و استقدم

ص: 104


1- لات حين مناص: أي هيهات له ذلك.
2- لأن قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه فعلوا به مثل ذلك و هو في داره.
3- القربة: ما يحفظون فيه الماء، و جمعها قرب.

امامهم باللواء نافع بن هلال الجملي فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي من الرجل فجي ء ما جاء بك قال جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا (1) عنه قال فاشرب هنيئا قال لا و الله لا أشرب منه قطرة و حسين عطشان و من تري من أصحابه فطلعوا عليه فقال لا سبيل الي سقي هؤلاء انما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء فلما دنا منه (2) أصحابه قال لرجاله املؤا قربكم فشد الرجالة فملؤا قربهم و ثار اليهم عمرو بن الحجاج و أصحابه فحمل عليهم العباس ابن علي و نافع بن هلال فكفوهم ثم انصرفوا الي رحالهم فقالوا امضوا و وقفوا دونهم فعطف عليهم عمرو بن الحجاج و أصحابه و اطردوا قليلا ثم ان رجلا من صداء طعن من أصحاب عمرو بن الحجاج طعنه نافع بن هلال فظن أنها ليست بشي ء ثم انها انتقضت بعد ذلك فمات منها و جاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه.قال أبومخنف حدثني أبوجناب عن هاني ء بن ثبيت الحضرمي و كان قد شهد قتل الحسين قال بعث الحسين عليه السلام الي عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري أن القني الليل بين عسكري و عسكرك قال فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا و أقبل حسين في مثل ذلك فلما التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه و أمر عمر بن سعد أصحابه بمثل قلك قال فانكشفنا (3) عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما و لا كلامهما فتكلما فأطالا حتي ذهب من الليل (4) هزيع ثم انصرف كل واحد منهما الي عسكره فأصحابه و تحدث الناس فيما بينهما ظنا يظنونه أن حسينا قال لعمر بن سعد اخرج معي الي يزيد بن معاوية و ندع العسكرين قال عمر اذن تهدم داري قال أنا أبنيها لك قال اذن تؤخذ ضياعي قال اذن أعصيك خير امنها من مالي بالحجاز قال فتكره ذلك عمر قال فتحدث الناس بذلك و شاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا و لا علموه.

ص: 105


1- حلأتمونا عنه: منعتمونا اياه.
2- دنا منه: اقترب منه.
3- انكشفوا: ابتعدوا.
4- هزيع: الثلث الأخير من الليل.

قال أبومخنف و أما ما حدثنا به المجالد بن سعيد و الصقعب بن زهير الأزدي و غيرهما من المحدثين فهو ما عليه جماعة المحدثين قالوا انه قال اختاروا مني خصالا ثلاثا اما أن أرجع الي المكان الذي أقبلت منه و أما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيري فيما بيني و بينه رأيه و اما أن تسيروني الي أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لي ما لهم و علي ما عليهم.قال أبومخنف فأما عبدالرحمن بن جندب فحدثني عن عقبة بن سمعان قال صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة الي مكة و من مكة الي العراق و لم أفارقه حتي قتل و ليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة و لا بمكة و لا في الطريق و لا بالعراق و لا في عسكر الي يوم مقتله الا و قد سمعتها الا و الله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس و ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية و لا أن يسيروه الي ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتي ننظر ما يصير أمر الناس (1) .قال أبومخنف حدثني المجالد بن سعيد الهمداني و الصقعب بن زهير أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا حسين و عمر بن سعد قال فكتب عمر بن سعد الي عبيدالله بن زياد أما بعد فان الله قد أطفأ النائرة و جمع الكلمة و أصلح أمر الأمة هذا حسين قد أعطاني أن يرجع الي المكان الذي منه أتي أو أن نسيره الي أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم أو أن يأتي يزيد أميرالمؤمنين فيضع يده في يده فيري فيما بينه و بينه رأيه و في هذا لكم رضي و للأمة صلاح قال فلما قرأ عبيدالله الكتاب قال هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق علي قومه نعم قد قبلت قال فقام اليه شمر بن ذي الجوشن فقال أتقبل هذا منه و قد نزل بأرضك الي جنبك و الله لئن رحل من بلدك و لم يضع يده في يدك ليكونن أولي بالقوة و العز و لتكونن أولي بالضعف و العجز فلا تعطه هذه المنزلة فانها من الوهن ولكن لينزل علي حكمك هو و أصحابه فان عاقبت فأنت ولي العقوبة و ان غفرت كان ذلك لك و الله لقد بلغني أن حسينا

ص: 106


1- ما يصير اليه أمر الناس: ما ينتهون اليه.

و عمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل (1) فقال له ابن زياد نعم ما رأيت الرأي رأيك.قال أبومخنف فحدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال ثم ان عبيدالله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له اخرج بهذا الكتاب الي عمر بن سعد فليعرض علي الحسين و أصحابه النزول علي حكمي فان فعلوا فليبعث بهم الي سلما و ان أبوا فليقاتلهم فان فعل فاسمع له و أطع و ان هو أبي فقاتلهم فأنت أمير الناس و ثب عليه فاضرب عنقه و ابعث الي برأسه.قال أبومخنف حدثني أبوجناب الكلبي قال ثم كتب عبيدالله بن زياد الي عمر بن سعد أما بعد فاني لم أبعثك الي حسين لتكف عنه و لا لتطاوله و لا لتمنيه السلامة و البقاء و لا لتقعد له عندي شافعا، أنظر فان نزل حسين و أصحابه علي الحكم و استسلموا فابعث بهم الي سلما و ان أبوا (2) فازحف اليهم حتي تقتلهم و تمثل بهم فانهم لذلك مستحقون فان قتل حسين فأوط الخيل صدره و ظهره فانه عاق مشاق قاطع ظلوم و ليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ولكن علي قول لو قد قتلته فعلت هذا به ان أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع و ان أبيت فاعتزل عملنا و جندلأا و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر فانا قد أمرناه بأمرنا و السلام.قال أبومخنف عن الحارث بن حصيرة عن عبدالله بن شريك العامري قال لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هو عبدالله بن أبي المحل و كانت عمته أم البنين ابنة حزام عند علي بن أبي طالب عليه السلام فولدت له العباس و عبدالله و جعفرا و عثمان فقال عبدالله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب أصلح الله الأمير ان بني اختنا مع الحسين فان رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت قال نعم و نعمة عين فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا فبعث به عبدالله بن أبي المحل مع مولي له يقال له كزمان فلما

ص: 107


1- عامة الليل: أكثره.
2- أبوا: رفضوا.

قدم عليهم دعاهم فقال هذا أمان بعث به خالكم فقال له الفتية أقري ء خالنا السلام و قل له أن لا حاجة لنا في أمانكم أمان الله خير من أمان ابن سمية قال فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيدالله بن زياد الي عمر بن سعد فلما قدم به عليه فقرأه و قال له عمر مالك ويلك لا قرب الله دارك و قبح الله ما قدمت به علي والله اني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به اليه أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح لا يستسلم و الله حسين ان نفسا أبية لبين جنبيه فقال له شمر أخبرني ما أنت صانع أتمضي لأمر أميرك و تقتل عدوه و الا فخل بيني و بين الجند و العسكر قال لا و لا كرامة لك و أنا أتولي ذلك قال فدونك و كن أنت علي الرجال قال فنهض اليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم قال و جاء شمر حتي وقف علي أصحاب الحسين فقال أين بنو أختنا فخرج اليه العباس و جعفر و عثمان بنو علي فقالوا له مالك و ما تريد قال أنتم يا بني أختي آمنون قال له الفتية لعنك الله و لعن أمانك لئن كنت خالنا أتؤمننا و ابن رسول الله لا أمان له قال ثم ان عمر بن سعد (1) نادي يا خيل الله اركبي و أبشري فركب في الناس ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر و حسين جالس امام بيته محتبيا بسيفه اذ خفق برأسه علي ركبتيه و سمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت قال فرفع الحسين رأسه فقال اني رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم في المنام فقال لي انك تروح الينا قال فلطمت أخته وجهها و قالت يا ويلتا فقال ليس لك الويل يا أخيتي اسكني رحمك الرحمن و قال العباس بن علي يا أخي أتاك القوم قال فنهض ثم قال يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي حتي تلقاهم فتقول لهم مالكم و ما بدا لكم و تسألهم عما جاء بهم فأتاهم العباس فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين و حبيب بن مظاهر فقال لهم العباس ما بدا لكم و ما تريدون قالوا جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا علي حكمه أو ننازلكم (2) قال فلا تعجلوا حتي أرجع الي أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم قال فوقفوا ثم قالوا القه فأعلمه ذلك ثم القنا بما يقول قال فانصرف

ص: 108


1- راجع ترجمه عمر بن سعد في الطبقات الكبري لابن سعد (168: 5).
2- ننازلكم: نقاتلكم.

العباس راجعا يركض الي الحسين يخبره بالخبر و وقف أصحابه يخاطبون القوم فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين كلم القوم ان شئت و ان شئت كلمتهم فقال له زهير أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلمهم فقال له حبيب بن مظاهر أما و الله لبئس القوم عندالله غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام و عترته و أهل بيته صلي الله عليه و سلم و عباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار و الذاكرين الله كثيرا فقال له عزرة بن قيس انك لتزكي نفسك ما استطعت فقال له زهير يا عزرة أن الله قد زكاها و هداها فاتق الله يا عزرة فاني لك من الناصحين أنشدك الله با عزرة أن تكون ممن يعين الضلال علي قتل النفوس الزكية قال يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت انما كنت عثمانيا قال أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم أما والله ما كتبت اليه كتابا قط و لا أرسلت اليه رسولا قط و لا وعدته نصرتي قط ولكن الطريق جمع بني و بينه فلما رأيته ذكرت به رسول الله صلي الله عليه و سلم و مكانه منه و عرفت ما يقدم عليه من عدوه و حزبكم فرأيت أن أنصره و أن أكون في حزبه و أن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله و حق رسوله عليه السلام قال و أقبل العباس بن علي يركض (1) حتي انتهي اليهم فقال يا هؤلاء ان أباعبدالله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتي ينظر في هذا الأمر فان هذا أمر لم يحر بينكم و بينه فيه منطق فاذا أصبحنا التقينا ان شاء الله فاما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه و تسومونه أو كرهنا فرددناه و انما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتي يأمر بأمره و يوصي أهله فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد ما تري يا شمر قال ما تري أنت أنت الأمير و الرأي رأيك قال قد أردت ألا أكون ثم أقبل علي الناس فقال ماذا ترون فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي سبحان الله و الله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليها و قال قيس بن الأشعث أجبهم الي ما سألوك فلعمري لصبحنك بالقتال غدوة فقال و الله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية قال و كان العباس بن علي حين أتي حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد قال ارجع اليهم فان استطعت أن تؤخرهم الي غدوة و تدفعهم

ص: 109


1- يركض: يثب برجليه.

عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة و ندعوه و نستغفره فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له و تلاوة كتابه و كثرة الدعاء و الاستغفار.قال أبومخنف حدثني الحارث بن حصيرة عن عبدالله بن شريك العامري عن علي بن الحسين قال أتانا رسول من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال انا قد أجلناكم الي غد فان استسلمتم سرحنا بكم الي أميرنا عبيدالله بن زياد و ان أبيتم فلسنا تاركيكم.قال أبومخنف و حدثني عبدالله بن عاصم الفائشي عن الضحاك بن عبدالله المشرقي بطن من همدان أن الحسين بن علي عليه السلام جمع أصحابه.قال أبومخنف و حدثني أيضا الحارث بن حصيرة عن عبدالله بن شريك العامري عن علي بن الحسين قالا جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد و ذلك عند قرب المساء قال علي بن الحسين فدنوت منه لأسمع و أنا مريض فسمعت أبي و هو يقول لأصحابه: أثني علي الله تبارك و تعالي أحسن الثناء و أحمده علي السراء و الضراء اللهم اني أحمدك علي أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا القرآن و فقهتنا في الدين و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة و لم تجعلنا من المشركين أما بعد فاني لا أعلم أصحابنا أولي و لا خيرا من أصحابي و لا أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعا خيرا ألا و اني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ألا و اني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.قال أبومخنف حدثنا عبدالله بن عاصم الفائشي بطن من همدان عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال قدمت و مالك بن النضر الأرحبي علي الحسين فسلمنا عليه ثم جلسنا اليه فرد علينا و رحب بنا و سألنا عما جئنا له فقلنا جئنا لنسلم عليك و ندعو الله بالعافية و نحدث بك عهدا و نخبرك خبر الناس و انا نحدثك أنهم قد جمعوا علي حربك فر رأيك فقال الحسين عليه السلام حسبي الله و نعم الوكيل قال فتذممنا و سلمنا عليه و دعونا الله له قال فما يمنعكما من نصرتي فقال مالك بن النضر علي دين ولي عيال فقلت له ان علي دينا و ان لي لعيالا

ص: 110

ولكنك ان جعلتني في حل من الانصراف اذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا و عنك دافعا قال قال فأنت في حل فأقمت معه فلما كان الليل قال هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتي يفرج الله فان القوم انما طلبوني ولو قد أصابوني لهوا (1) عن طلب غيري فقال له اخوته و أبناؤه و بنو أخيه و ابنا عبدالله ابن جعفر لم نفعل لنبقي بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا بدأهم بهذا القول العباس ابن علي ثم انهم تكلموا بهذا و نحوه فقال الحسين عليه السلام يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنت لكم قالوا فما يقول الناس يقولون انا تركنا شيخنا و سيدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرم معهم بسهم و لم نطعن معهم برمح و لم نضرب معهم بسيف و لا ندري ما صنعوا لا و الله لا نفعل ولكن تفديك أنفسنا و أموالنا و أهلونا و نقاتل معك حتي نرد موردك فقبح الله العيش بعدك.قال أبومخنف حدثني عبدالله بن عاصم عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال فقام اليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال أنحن نخلي عنك و لما نعذر الي الله في أداء حقك أما و الله حتي أكسر في صدورهم رمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي و لا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتي أموت معك قال و قال سعد بن عبدالله الحنفي و الله لا نخليك حتي يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلي الله عليه و سلم فيك و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتي ألقي حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك و انما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا قال و قال زهير بن القين و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتي أقتل كذا ألف قتلة و أن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك قال و تكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد فقالوا و الله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا و جباهنا و أيدينا فاذا نحن قتلنا كنا و فينا و قضينا ما علينا.

ص: 111


1- لهوا: أي تلهوا.

قال أبومخنف حدثني الحارث بن كعب و أبوالضحاك عن علي بن الحسين ابن علي قال اني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها و عمتي زينب عندي تمرضني اذا اعتزل أبي بأصحابه في خباء له و عنده حوي مولي أبي ذر الغفاري و هو يعالج سيفه و يصلحه و أبي يقول:يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيلمن صاحب أو طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديلو انما الأمر الي الجليل و كل حي سالك السبيلقال فأعادها مرتين أو ثلاثا حتي فهمتها ما أراد فخنقتني عبرتي (1) فرددت دمعي و لزمت السكون فعلمت أن البلاء قد نزل فأما عمتي فانها سمعت ما سمعت و هي امرأة و في النساء الرقة و الجزع فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ثوبها و انها لحاسرة (2) حتي انتهت اليه فقالت و اثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت فاطمة أمي و علي أبي و حسن أخي يا خليفة الماضي و ثمال (3) الباقي قال فنظر اليها الحسين عليه السلام فقال يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان قالت بأبي أنت و أمي يا أباعبدالله استقتلت نفسي فداك فرد غصته و ترقرقت عيناه و قال لو ترك القطا ليلا لنام قالت يا ويلتي أفتغصب نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي و أشد علي نفسي و لطمت وجهها و أهوت الي جيبها و شقته و خرت (4) مغشيا عليها فقام اليها الحسين فصب علي وجهها الماء و قال لها يا أخية اتقي الله و تعزي بعزاء الله و اعلمي أن أهل الأرض يموتون و أن أهل السماء لا يبقون و أن كل شي ء هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته و يبعث الخلق فيعودون و هو فرد وحده أبي خير مني و أمي مني و أخي خير مني ولي و لهم و لكل مسلم برسول الله أسوة قال فعزاها بهذا و نحوه و قال لها يا أخية اني أقسم عليك فأبري

ص: 112


1- عبرتي: دمعتي.
2- حاسرة: مكشوفة.
3- ثمال الباقي: خلاصته، و يقال ما بقي من الماء الا ثمل و شرب ثمالة اللبن أي رغوته، و ثمل: انتشي.
4- خرت: سقطت.

قسمي لا تشقي علي جيبا و لا تخمشي (1) علي وجها و لا تدعي علي بالويل و الثبور (2) اذا أنا هلكت قال ثم جاء بها حتي أجلسها عندي و خرج الي أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض و أن يدخلوا الأطناب (3) بعضها في بعض و أن يكونوا هم بين البيوت الا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم.قال أبومخنف عن عبدالله بن عاصم عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال فلما أمسي حسين و أصحابه قاموا الليل كله يصلون و يستغفرون و يدعون و يتضرعون قال فتمر بنا خيل لهم تحرسنا و ان حسينا ليقرأ ألا ليحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم انما لهم ليزداد اثما و لهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب: فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال نحن و رب الكعبة الطيبون ميزنا منكم قال فعرفته فقلت لبرير بن حضير تدري من هذا قال لا قلت هذا أبوحرب الشبيعي عبدالله بن شهر و كان مضحاكا بطالا و كا شريفا شجاعا فاتكا و كان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية فقال له برير بن حضير يا فاسق أنت يجعلك الله في الطيبين فقال له من أنت قال أنا برير بن حضير قال انا لله عز علي هلكت و الله هلكت و الله يا برير قال يا أباحرب هل لك أن تتوب الي الله من ذنوبك العظام فوالله انا لنحن الطيبون ولكنكم لأنتم الخبيثون قال و أنا علي ذلك من الشاهدين قلت ويحك أفلا ينفعك معرفتك قال جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل قال ها هو ذا معي قال قبح الله رأيك علي كل حال أنت سفيه قال ثم انصرف عنا و كان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي و كان علي الخيل قال فلما صلي عمر بن سعد الغداة يوم السبت و قد بلغنا أيضا أنه كان يوم الجمعة و كان ذلك اليوم يوم عاشوراء خرج فيمن معه من الناس قال و عبأ الحسين أصحابه و صلي بهم صلاة الغداة و كان معه اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه و حبيب بن مظاهر

ص: 113


1- لا تخمش: اي لا تخدش وجها.
2- الثبور: الهلاك.
3- الأطناب: جمع طنب و هي حبال الخباء.

في ميسرة أصحابه و أعطي رايته العباس بن علي أخاه و جعلوا البيوت في ظهورهم و أمر بحطب و قصب كان من رواء البيوت تحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم قال و كان الحسين عليه السلام أتي بقصب و حطب الي مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية فحفروه في ساعة من الليل فجعلوه كالخندق ثم ألقوا فيه ذلك الحطب و القصب و قالوا اذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتي من ورائنا و قاتلونا القوم من وجه واحد ففعلوا و كان لهم نافعا.قال أبومخنف حدثني فضيل بن خديج الكندي عن محمد بن بشر عن عمرو الحضرمي قال لما خرج عمر بن سعد بالناس كان علي ربع أهل المدينة يومئذ عبدالله بن زهير بن سليم الأزدي و علي ربع مذحج و أسد عبدالرحمن بن أبي سبرة الحنفي و علي ربع ربيعة و كندة قيس بن الأشعث بن قيس و علي ربع تميم و همدان الحر بن يزيد الرياحي فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين الا الحر بن يزيد فانه عدل الي الحسين و قتل معه و جعل عمر علي ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي و علي ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن حبيل (1) بن الأعور بن عمر بن معاوية و هو الضباب بن كلاب و علي الخيل عزرة بن قيس الأحمسي و علي الرجال شبث بن ربعي اليربوعي و أعطي الراية ذويدا مولاه.قال أبومخنف حدثني عمرو بن مرة الجملي عن أبي صالح الحنفي عن غلام لعبدالرحمن بن عبد ربه الأنصاري قال كنت مع مولاي فلما حضر الناس و أقبلوا الي الحسين أمر الحسين بفسطاط فضرب ثم أمر بمسك فميث في جفنه عظيمة أو صحفة قال ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطلي بالنورة قال و مولاي عبدالرحمن بن عبد ربه و برير بن حضير الهمداني علي باب الفسطاط تحتك مناكبهما فازدحما أيهما يطل علي أثره فجعل برير يهازل عبدالرحمن فقال له عبدالرحمن دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل فقال له برير و الله لقد علم قومي أني ما

ص: 114


1- و لأبي شمر بن ذي الجوشن و هو ذوالجوشن الضبابي قصة هدايا أهداها و هو مشرك للنبي صلي الله عليه و سلم فرفض النبي قبولها حتي يسلم فرفض الاسلام الا بعد أن ينتصر المسلمون و قيل انه ندم بعد ذلك ندما شديدا لأنه لم يلب رغبة النبي صلي الله عليه و سلم عندما طلب منه أن يسلم. راجع الطبقات الكبري (48 - 46: 6).

أحببت الباطل شابا و لا كهلا ولكن و الله اني لمستبشر بما نحن لاقون و الله ان بيننا و بين الحور العين الا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم و لوددت أنهم قد مالوا علينا فأسيافهم قال فلما فرغ الحسين دخلنا فاطلينا قال ثم ان الحسين ركب دابته و دعا بمصحف فوضعه أمامه قال فاقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا فلما رأيت القوم قد صرعوا أفلت و تركتهم.قال أبومخنف عن بعض أصحابه عن أبي خالد الكاهلي قال لما صبحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه فقال اللهم أنت ثقتي في كل كرب و رجائي في كل شدة و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من هم يضعف فيه الفؤاد و تقل فيه الحيلة و يخذل فيه الصديق و يشمت فيه العدو أنزلته بك و شكوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته و كشفته فأنت ولي كل نعمة و صاحب كل حسنة و منتهي كل رغبة.قال أبومخنف فحدثني عبدالله بن عاصم قال حدثني الضحاك المشرقي قال لما أقبلوا نحونا فنظروا الي النار تضطرم في الحطب و القصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا اذ أقبل الينا منهم رجل يركض علي فرس كامل الأداة فلم يكلمنا حتي مر علي أبياتنا فنظر الي أبياتنا فاذا هو لا يري الا حطبا تلتهب النار فيه فرجع راجعا فنادي بأعلي صوته يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة فقال الحسين من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن فقالوا نعم أصلحك الله هوهو فقال يا ابن راعية المعزي أنت أولي بها صليا (1) فقال له مسلم بن عوسجة يا ابن رسول الله جعلت فداك ألا أرميه بسهم فانه قد أمكنني و ليس يسقط سهم فالفاسق من أعظم الجبارين فقال له الحسين لا ترمه فاني أكره أن أبدأهم و كان مع الحسين فرس له يدعي لاحقا حمل عليه ابنه علي بن الحسين قال فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها ثم نادي بأعلي صوته بصوت عال دعاء يسمع جل الناس أيها الناس اسمعوا قولي و لا تعجلوني حتي أعظكم بما لحق لكم علي حتي أعتذر اليكم من مقدمي عليكم فان قبلتم عذري و صدقتم قولي

ص: 115


1- صليا: أي تصلية.

و أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد و لم يكن لكم علي سبيل و ان لم تقبلوا مني العذر و لم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا الي و لا تنظرون ان وليي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولي الصالحين قال فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن و بكين و بكي بناته فارتفعت أصواتهن فأرسل اليهن أخاه العباس بن علي و عليا ابنه و قال لهما أسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن قال فلما ذهبا ليسكتاهن قال لا يبعد ابن عباس قال فظننا أنه انما قالها حين سمع بكاؤهن لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن فلما سكتن حمدالله و أثني عليه و ذكر الله بما هو أهله و صلي علي محمد صلي الله عليه و آله و علي ملائكته و أنبيائه فذكر من ذلك ما الله أعلم و ما لا يحصي ذكره قال فوالله ما سمعت متكلما قط قبله و لا بعده أبلغ في منطق منه ثم قال أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم أرجعوا الي أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم صلي الله عليه و سلم و ابن وصيه و ابن عمه و أول المؤمنين بالله و المصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه أو ليس حمزة سيدالشهداء عم أبي أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذوالجناحين عمي أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله صلي الله تعالي عليه و آله و سلم قال لي و لأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة فان صدقتموني بما أقول و هو الحق و الله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله و يضر به من اختلقه و ان كذبتموني فان فيكم من ان سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري أو أباسعيد الخدري أو سهل بن سعد الساعدي أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلي الله عليه و سلم لي و لأخي أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي فقال له شمر بن ذي الجوشن هو يعبد الله علي حرف ان كان يدري ما تقول فقال له حبيب بن مظاهر و الله اني لأراك تعبد الله علي سبعين حرفا و أنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله علي قلبك ثم قال لهم الحسين فان كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري منكم و لا من غيركم أنا ابن بنت نبيكم خاصة أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة قال فأخذوا لا يكلمونه قال فنادي يا شبث بن ربعي و يا حجاز بن أبجر

ص: 116

و يا قيس بن الأشعث و يا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا الي أن قد أينعت الثمار و اخضر الجناب و طمت الجمام و انما تقدم علي جند لك مجند فأقبل قالوا له لم نفعل فقال سبحان الله بلي و الله لقد فعلتم ثم قال أيها الناس اذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الي مأمني من الأرض قال فقال له قيس بن الأشعث أولا تنزل علي حكم بني عمك فانهم لن يروك الا ما تحب و لن يصل اليك منهم مكروه فقال له الحسين أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل لا و الله لا أعطيهم بيدي اعطاء الذليل و لا أقر اقرار العبيد عباد الله اني عذت بربي و ربكم أن ترجمون أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب قال ثم انه أناخ راحلته و أمر عقبة بن سمعان فعقلها و أقبلوا يزحفون نحوه.قال أبومخنف فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قتل يقال له كثير بن عبدالله الشعبي قال لما زحفنا قبل الحسين خرج الينا زهير بن القين علي فرس له ذنوب شاك في السلاح فقال يا أهل الكوفة نذار (1) لكم من عذاب الله نذار ان حقا علي المسلم نصيحة أخيه المسلم و نحن حتي الآن اخوة و علي دين واحد و ملة واحدة ما لم يقع بيننا و بينكم السيف و أنتم للنصيحة منا أهل فاذا وقع السيف انقطعت العصمة و كنا أمة و أنتم أمة ان الله قد ابتلانا و اياكم بذرية نبيه محمد صلي الله عليه و سلم لينظر ما نحن و أنتم عاملون انا ندعوكم الي نصرهم و خذلان الطاغية عبيدالله بن زياد فانكم لا تدركون منهما الا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان أعينكم و يقطعان أيديكم و أرجلكم و يمثلان بكم و يرقعانكم علي جذوع النخل و يقتلان أماثلكم و قراءكم كم أمثال حجر بن عدي و أصحابه و هاني ء بن عروة و أشباهه قال فسبوه و أثنوا علي عبيدالله بن زياد و دعوا له و قالوا و الله لا نبرح (2) حتي نقتل صاحبك و من معه أو نبعث به و بأصحابه الي الأمير عبيدالله سلما فقال لهم عباد الله ان ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود و النصر من ابن سمية فان لم تنصروهم

ص: 117


1- نذار لكم: اسم فعل بمعني أنذركم مثل حذار.
2- لا نبرح: لا نزال معك.

فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلوا بين هذا الرجل و بين ابن عمه يزيد بن معاوية فلعمري ان يزيد ليرضي من طاعتكم بدون قتل الحسين قال فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم و قال اسكت أسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك فقال له زهير يا ابن البوال علي عقبيه ما اياك أخاطب انما أنت بهيمة و الله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزي يوم القيامة و العذاب الأليم فقال له شمر ان الله قاتلك و صاحبك عن ساعة قال أفبالموت تخوفني فوالله للموت معه أحب الي من الخلد معكم قال ثم أقبل علي الناس رافعا صوته فقال عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف (1) الخافي و أشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد صلي الله عليه و سلم قوما (2) هراقوا دماء ذريته و أهل بيته و قتلوا من نصرهم و ذب عن (3) حريمهم قال فناداه برجل فقال له ان أباعبدالله يقول لك أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه و أبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء و أبلغت لو نفع النصح و الابلاغ.قال أبومخنف عن أبي جناب الكلبي عن عدي بن حرملة قال ثم ان الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له أصلحك الله مقاتل أنت هذا الرجل قال اي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤس و تطيح الأيدي قال أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضي قال عمر بن سعد أما و الله لو كان الأمر الي لفعلت ولكن أميرك قد أبي ذلك فأقبل حتي وقف من الناس موقفا و معه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس فقال يا قرة هل سقيت فرسك اليوم قال لا قال انما تريد أن تسقيه قال فظننت و الله أنه يريد أن يتنحي فلا يشهد القتال و كره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه فقلت له لم أسقه و أنا منطلق فساقيه قال فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه قال فوالله لو أنه أطلعني علي الذي يريد لخرجت معه الي الحسين قال فأخذ يدنو من حسين قليلا قليلا فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس ما تريد يا ابن يزيد أتريد أن

ص: 118


1- الجلف: الجاف الخشن الأخلاق.
2- ذب عن حريمهم: دافع و نافح عنهن.
3- ذب عن حريمهم: دافع و نافح عنهن.

تحمل فسكت و أخذه مثل العرواء فقال له يا ابن يزيد و الله ان أمرك لمريب و الله ما رأيت منك في موقف قط مثل شي ء أراه الآن ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك فلما هذا الذي أري منك قال اني والله أخير نفسي بين الجنة و النار و والله لا أختار علي الجنة شيئا ولو قطعت و حرقت ثم ضرب فرسه فلحق بحسين عليه السلام فقال له جعلني الله فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع و سايرتك في الطريق و جعجعت بك في هذا المكان و الله الذي لا اله الا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا و لا يبلغون منك هذه المنزلة فقلت في نفسي لا أبالي أن أضيع القوم في بعض أمرهم و لا يرون أني خرجت من طاعتهم و أما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم و و الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك و اني قد جئتك تائبا مما كان مني الي ربي و مواسيا لك بنفسي حتي أموت بين يديك أفتري ذلك لي توبة قال نعم يتوب الله عليك و يغفر لك ما اسمك قال أنا الحر بن يزيد قال أنت الحر كما سمتك أمك أنت الحر ان شاء الله في الدنيا و الآخرة انزل قال أنا لك فارسا ساخبر مني راجلا أقاتلهم علي فرسي ساعة و الي النزول ما يصير آخر أمري قال الحسين فاصنع يرحمك الله ما بدالك فاستقدم أمام أصحابه ثم قال أيها القوم ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه قتاله قالوا هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه فكلمه بمثل ما كلمه به قبل و بمثل ما كلم به أصحابه قال عمر قد حرصت لو وجدت الي ذلك سبيلا فعلت فقال يا أهل الكوفة لأمكم الهبل و العبر اذ دعوتموه حتي اذا أتاكم أسلمتموه و زعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم غدوتم عليه لتقتلوه أمسكتم بنفسه و أخذتم بكظمه و أحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتي يأمن و يأمن أهل بيته و أصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا و لا يدفع ضرا و خلأتموه و نساءه و أصيبيته و أصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي و المجوسي و النصراني و تمرغ فيه خنازير السواد و كلابه و ها هم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا أسقاكم يوم الظمأ ان لم تتوبوا و تنزعوا عما أنتم عليه من يومكم

ص: 119

هذا في ساعتكم هذه فحملت عليه رجاله لهم ترميه بالنبل فأقبل حتي وقف أمام الحسين.قال أبومخنف عن الصقعب بن زهير و سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال و زحف عمر بن سعد نحوهم ثم نادي يا زويد أدن رايتك قال فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمي فقال اشهدوا أني أول من رمي.قال أبومخنف حدثني أبوجناب قال كان منا رجل يدعي عبدالله بن عمير من بني عليم كان قد نزل الكوفة و اتخذ عند بئر الجعد من همدان دارا و كانت معه امرأة له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد فرأي القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا الي الحسين قال فسأل عنهم فقيل له يسرحون الي حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال و الله لو قد كنت علي جهاد أهل الشرك حريصا و اني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه اياي في جهاد المشركين فدخل الي امرأته فأخبرها بما سمع و أعلمها بما يريد فقالت أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك افعل و اخرجني معك قال فخرج بها ليلا حتي أتي حسينا فأقام معه فلما دنا منه عمر بن سعد ورمي بسهم ارتمي الناس فلما ارتموا أخرج يسار مولي زياد بن أبي سفيان و سالم مولي عبيدالله بن زياد فقالا من يبارز ليخرج الينا بعضكم قال فوثب حبيب بن مظاهر و برير بن حضير فقال لهما حسين اجلسا فقام عبدالله بن عمير الكلبي فقال أباعبدالله رحمك الله أئذن لي فلأخرج اليهما فرأي حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين فقال حسين اني لأحسبه للأقران قتالا اخرج ان شئت قال فخرج اليها فقالا له من أنت فانتسب لهما فقالا لا نعرفك ليخرج الينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن خضير و يسار مستنتل أمام سالم فقال له الكلبي يا ابن الزانية و بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس و يخرج اليك أحد من الناس الا و هو خير منك ثم شد عليه فضربه بسيفه حتي برد فانه لمشتغل به يضربه بسيفه اذ شد عليه سالم فصاح به قد رهقك العبد قال فلم يأبه له حتي غشيه فبدره الصربة فاتقاه الكلبي بيده اليسري فأطار أصابع كفه

ص: 120

اليسري ثم مال عليه الكلبي فضربه حتي قتله و أقبل الكلبي مرتجزا و هو يقول و قد قتلهما جميعا.ان تنكروني فأنا ابن كلب حسبي ببيتي في عليم حسبياني امروء ذو مرة و عصب و لست بالخوار (1) عند النكباني زعيم لك أم وهب بالطعن فيهم مقدما و الضربضرب غلام مؤمن بالرب فأخذت أم وهب امرأته عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له فداك أبي و أمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد فأقبل اليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت اني لن أدعك دون أن أموت معك فناداها حسين فقال جزيتم من أهل بيت خيرا ارجعي رحمك الله الي النساء فاجلسي معهن فانه ليس علي النساء قتال فانصرفت اليهن قال و حمل عمرو بن الحجاج و هو علي ميمنة الناس في الميمنة فلما أن دنا من حسين جثوا له علي الركب و شرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم علي الرماح فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا و جرحوا منهم آخرين.قال أبومخنف فحدثني حسين أبوجعفر قال ثم ان رجلا من بني تميم يقال له عبدالله بن حوزة جاء حتي وقف امام الحسين فقال يا حسين يا حسين فقال حسين ما تشاء قال أبشر بالنار قال كلا اني أقدم علي رب رحيم و شفيع مطاع من هذا قال له أصحابه هذا ابن حوزة قال رب نحزه الي النار قال فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه و تعلقت رجله بالركاب و وقع رأسه في الأرض و نفر الفرس فأخذه يمر به فيضرب برأسه كل حجر و كل شجرة حتي مات.قال أبومخنف و أما سويد بن حية فزعم لي أن عبدالله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسري في الركاب و ارتفعت اليمني فطارت وعدا به (2) فرسه يضرب رأسه كل حجر و أصل شجرة حتي مات.

ص: 121


1- الخوار: الكثير الضعف و الوهن.
2- عدا به فرسه: جري به مسرعا.

قال أبومخنف عن عطاء بن السائب عن عبدالجبار بن وائل الحضرمي عن أخيه مسروق بن وائل قال كنت في أوائل الخيل ممن سار الي الحسين فقلت أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين فأصيب به منزلة عند عبيدالله بن زياد قال فلما انتهينا الي حسين تقدم رجل من القوم يقال له ابن حوزة فقال أفيكم حسين قال فسكت حسين فقالها ثانية فأسكت حتي اذا كانت الثالثة قال قولوا له نعم هذا حسين فما حاجتك.قال يا حسين أبشر بالنار قال كذبت بل أقدم علي رب غفور و شفيع مطاع فمن أنت قال ابن حوزة قال فرفع الحسين يديه حتي رأينا بياض ابطيه من فوق الثياب ثم قال اللهم حزه الي النار قال فغضب ابن حوزة فذهب ليقحم اليه الفرس و بينه و بينه نهر قال فعلقت قدمه بالركاب و جالت به الفرس فسقط عنها قال فانقطعت قدمه و ساقه و فخذه و بقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب قال فرجع مسروق و ترك الخيل من ورائه قال فسألته فقال لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا قال و نشب القتال.قال أبومخنف و حدثني يوسف بن يزيد عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس و كان قد شهد مقتل الحسين الحسين قال و خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة و هو حليف لبني سليمة من عبدالقيس فقال يا برير بن حضير كيف تري الله صنع بك قال صنع الله و الله بي خيرا و صنع الله بك شرا قال كذبت و قبل اليوم ما كنت كذابا هل تذكر و انا أماشيك في بني لوذان و أنت تقول ان عثمان بن عفان كان علي نفسه مسرفا و ان معاوية بن أبي سفيان ضال مضل و ان امام الهدي و الحق علي بن أبي طالب فقال له برير اشهد أن هذا رأيي و قولي فقال له يزيد بن معقل فاني أشهد أنك من الضالين فقال له برير بن حضير هل لك فلأ بأهلك و لندع الله أن يلعن الكاذب و أن يقتل المبطل ثم اخرج فلأ بارزك قال فخرجا فرفعا أيديهما الي الله يدعو انه أن يلعن الكاذب و أن يقتل المحق المبطل ثم برز كل واحد منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شيئا و ضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر

ص: 122

و بلغت الدماغ فخر (1) كأنما هوي من حالق و ان سيف ابن حضير لثابت في رأسه فكأني أنظر اليه ينضنضه من رأسه و حمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريرا فاعتركا ساعة ثم ان بريرا قعد علي صدره فقال رضي أين أهل المصاع و الدفاع قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه فقلت ان هذا برير بن حضير القاري ء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد فحمل عليه (2) بالرمح حتي وضعه في ظهره فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه و قطع طرف أنفه فطعنه كعب بن جابر حتي ألقاه عنه و قد غيب السنان في ظهره ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتي قتله قال عفيف كأني أنظر الي العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه و يقول أنعمت علي يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا قال فقلت أنت رأيت هذا قال نعم رأي عيني و سمع أذني فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته أو أخته النوار بنت جابر أعنت علي ابن فاطمة و قتلت سيد القراء لقد أتيت عظيما من الأمر و الله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا.و قال كعب بن جابر:سلي تخبري عني و أنت ذميمة غداة حسين و الرماح شوارعألم آت أقصي ما كرهت و لم يخل علي غداة الروع ما أنا صانعمعي يزني لم تخنه كعوبه و أبيض مخشوب الغرارين (3) قاطعفجردته في عصبة ليس دينهم بديني و اني بابن حرب (4) لقانعو لم ترعيني مثلهم في زمانهم و لا قبلهم في الناس اذ أنا (5) يافعأشد قراعا بالسيوف لدي الوغا (6) ألا كل من يحمي الذمار (7) مقارع

ص: 123


1- خر: سقط.
2- حمل عليه بالرمح: شرد عليه ليقتله.
3- يقصد به السيف.
4- يقصد بابن حرب: يزيد بن معاوية.
5- يافع: كبير.
6- الوغي: وهن الحرب. (الوغا) كذا وردت بالأصل و الأصح بالياء.
7- الذمار: الحمي.

و قد صبروا للطعن و الضرب حسرا (1) و قد نازلوا (2) لو أن ذلك نافعفأبلغ عبيدالله اما لقيته بأني مطيع للخليفة سامعقتلت بريرا ثم حملت نعمة أبا منقذ لما دعا من مماصع (3) قال أبومخنف حدثني عبدالرحمن بن جندب قال سمعته في امارة مصعب ابن الزبير و هو يقول:يا رب انا قد وفينا تجعلنا يا رب كمن قد غدر فقال له أبي صدق و لقد و في و كرم و كسبت لنفسك سوءا قال كلا اني لم أكسب لنفسي شرا ولكني كسبت لها خيرا قال و زعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد علي كعب بن جابر جواب قوله فقال:لو (4) شاء ربي ما شهدت قتالهم و لا جعل النعماء عندي ابن جابرلقد كان ذاك اليوم عارا و سبة (5) يعيره الأبناء بعد المعاشرفياليت أني كنت من قبل قتله و يوم حسين كنت في رمس (6) قابرقال و خرج عمرو بن فرظة الأنصاري يقاتل دون حسين و هو يقول:قد علمت كتيبة الأنصار أني سأحمي حوزة الذمارضرب غلام غير نكس شاري دون حسين مهجتي و داريقال أبومخنف عن ثابت بن هبيرة فقتل عمرو بن قرظة بن كعب و كان مع الحسين و كان علي أخوه مع عمر بن سعد فنادي علي بن قريظة يا حسين يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي و غررته حتي قتلته قال ان الله لم يضل أخاك

ص: 124


1- حسرا: مكشوفين.
2- نازلوا: قاتلوا من النزال و هو القتال.
3- يماصع: يقاتل بعنف و رجل مصع شديد.
4- الأبيات من بحر الطويل و تفعيلاته كالآتي: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن و هذا يقتضي أن تزيد الواو في أول بيت فتصبح: و لو شاء ربي ما شهدت قتالهم.
5- سبة: عار.
6- الرمس: القبر.

ولكنه هدي أخاك و أضلك قال قتلني الله ان لم أقتلك أو أموت دونك فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه فحمله أصحابه فاستنقذوه فدووي (1) بعد فبرأ.قال أبومخنف حدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي أن الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال رجل من بني تميم من بني شقرة و هم بنو الحارث بن تميم يقال له يزيد بن سفيان أما و الله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان قال فبينا الناس يتجاولون و يقتتلون و الحر بن يزيد يحمل علي القوم مقدما و يتمثل قول عنترة:مازلت أمريهم بثغرة و لبانه (2) حتي تسربل (3) بالدمقال و ان فرسه لمضروب علي أذنيه و حاجبه و ان دماءه لتسيل فقال الحصين بن تميم و كان علي شرطة عبيدالله فبعثه الي الحسين و كان مع عمر بن سعد فولاه عمر مع الشرطة المجففة ليزيد بن سفيان هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمني قال نعم فخرج اليه فقال له هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة قال نعم قد شئت فبرز له قال فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول والله لبرز له فكأنما كانت نفسه في يده فما لبثه الحر حين خرج اليه أن قتله.قال هشام بن محمد عن أبي مخنف قال حدثني يحيي بن هاني ء بن عروة أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ و هو يقول:أنا الجملي (4) أنا علي دين علي. قال فخرج اليه رجل يقال له مزاحم بن حريث فقال أنا علي دين عثمان فقال له أنت علي دين شيطان ثم حمل عليه فقتله فصاح عمرو بن الحجاج بالناس يا حمقي أتدرون من تقاتلون فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرزن لهم منكم أحد فانهم قليل و قل مايبقون و الله لو لم ترموهم

ص: 125


1- دووي: أي عولج.
2- لبانه: صدره.
3- تسربل بالدم: تلطخ به. و البيت غير مستقيم الوزن و هو في الأصل: «مازلت أرميهم بثغرة نحره و لبانه حتي تسربل بالدم» .
4- نسبة الي موقعة الجمل بين علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان.

الا بالحجارة لتقتلتموهم فقال عمر بن سعد صدقت الرأي ما رأيت و أرسل الي الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلا منهم.قال أبومخنف حدثني الحسين بن عقبة المرادي قال الزبيدي انه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم و جماعتكم و لا ترتابوا في قتل من مرق (1) من الدين و خالف الامام فقال له الحسين يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس أنحن مرقنا و أنتم ثبتم عليه أما و الله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم و متم علي أعمالكم أينا مرق من الدين و من هو أولي بصلي النار قال ثم ان عمرو بن الحجاج حمل علي الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات فاضربوا ساعة فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين ثم انصرف عمرو بن الحجاج و أصحابه و ارتفعت الغبرة (2) فاذا هم به صريع فمشي اليه الحسين فاذا به رمق (3) فقال رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة منهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا.و دنا منه حبيب ابن مظاهر فقال عز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة فقال له مسلم قولا ضعيفا بشرك الله بخير فقال له حبيب لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتي أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة و الدين.قال بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله و أهوي بيده الي الحسين أن تموت دونه قال أفعل و رب الكعبة قال فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم و صاحت جارية له فقالت يا ابن عوسجتاه يا سيداه فتنادي أصحاب عمرو بن الحجاج قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه ثكلتكم أمهاتكم انما تقتلون أنفسكم بأيديكم و تذللون أنفسكم لغيركم تفرحون

ص: 126


1- مرق من الدين: خرج منه.
2- الغبرة: رهج الحرب.
3- رمق: بقية.

أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة أما و الذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين أفيقتل منكم مثله و تفرحون قال و كان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبدالله الضبابي و عبدالرحمن ابن أبي خشكارة البجلي قال و حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة علي أهل الميسرة فثبتوا له فطاعنوه و أصحابه و حمل علي حسين و أصحابه من كل جانب فقتل الكلبي و قد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه هاني ء بن ثبيت الحضرمي و بكير بن حي التيمي من تيم الله بن ثعلبة فقتلاه و كان القتيل الثاني من أصحاب الحسين و قاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا و أخذت خيلهم تحمل و انما هم اثنان و ثلاثون فارسا و أخذت لا تحمل علي جانب من خيل أهل الكوفة الا كشفته فلما رأي ذلك عزرة بن قيس و هو علي خيل أهل الكوفة أن خيله تنكشف من كل جانب بعث الي عمر بن سعد عبدالرحمن بن حصن فقال أما تري ما تلقي خيلي مذ اليوم (1) من هذه العدة اليسيرة ابعث اليهم الرجال و الرماة فقال لشبث بن ربعي ألا تقدم اليهم فقال سبحان الله أتعمد الي شيخ مصر و أهل مصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا و يجزي عنك غيري قال و ما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله قال و قال أبوزهير العبسي فأنا سمعته في امارة مصعب يقول لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا و لا يسددهم لرشد ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب و مع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا علي ابنه و هو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية و ابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال قال و دعا عمر بن الحصين بن تميم فبعث معه المجففة و خمسمائة من المرامية فأقبلوا حتي اذا دنوا من الحسين و أصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم و صاروا رجالة كلهم.قال أبومخنف حدثني نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول أنا و الله عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشأته (2) سهما فما لبث أن أرعد الفرس

ص: 127


1- مذ اليوم: منذ اليوم.
2- حشأه سهما: رشقه به.

و اضطرب و كبا (1) فوثب عنه الحر كأنه ليث و السيف في يده و هو يقول:ان تعقروا بي فأنا ابن الحر أشجع من ذي لبد (2) هزبرقال فما رأيت أحدا قط يفري (3) فريه قال فقال له أشياخ من الحي أنت قتلته قال لا و الله ما أنا قتلته ولكن قتله غيري و ما أحب اني قتلته فقال له أبوالوداك و لم قال أنه كان زعموا من الصالحين فوالله لئن كان ذلك اثما لأن ألقي الله باثم الجراحة الموقف أحب الي من أن ألقاه باثم قتل أحد منهم.فقال له أبوالوداك ما اراك الا ستلقي الله باثم قتلهم أجمعين أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا و رميت آخر و و وقفت موقفا و كررت عليهم و حرضت أصحابك و كثرت أصحابك و حمل عليك فكرهت أن تفر و فعل آخر من اصحابك كفعلك و آخر و آخر كان هذا و أصحابه يقتلون أنتم شركاء كلكم في دمائهم فقال له يا أباالوداك انك لتقنطنا من رحمة الله ان كنت ولي حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك ان غفرت لنا قال هو ما أقول لك قال و قاتلوهم حتي انتصف النهار اشد قتال خلقه الله و أخذوا لا يقدرون علي أن يأتوهم الا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم و تقارب بعضها من بعض قال فلما رأي ذلك عمر بن سعد أرسل رجالا يقوضونها (4) عن أيمانهم و عن شمائلهم ليحيطوا بهم قال فأخذ الثلاثة و الأربعة من اصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون علي الرجل و هو يقوض و ينتهب فيقتلونه و يرمونه من قريب و يعقرونه فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال احرقوها بالنار و لا تدخلوا بيتا و لا تقوضوه فجاءوا بالنار فأخذوا يحرقون فقال حسين دعوهم فليحرقوها فانهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا اليكم منها و كان ذلك كذلك و أخذوا لا يقاتلونهم الا من وجه واحد قال و خرجت امرأة الكلبي تمشي الي زوجها حتي جلست عند رأسه تمسح عنه

ص: 128


1- كبا: تعثر و انكفأ علي وجهه.
2- ذو لبد هزبر: الأسد.
3- يفري الجلد: يقطعه، و يفري فرية يختلق و يستحدث أكذوبة و أحدوثة مفتراة:
4- يقوضونها: يهدمونها.

التراب و تقول هنيئا لك الجنة فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمي رستم اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها قال و حمل شمر بن ذي الجوشن حتي طعن فسطاط الحسين برمحه و نادي علي بالنار حتي أحرق هذا البيت علي أهله قال فصاح النساء و خرجن من الفسطاط قال و صاح به الحسين يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي علي أهلي حرقك الله بالنار.(قال أبومخنف) حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال قلت لشمر بن ذي الجوشن سبحان الله ان هذا لا يصلح لك أتريد أن تجمع علي نفسك خصلتين تعذب بعذاب الله و تقتل الولدان و النساء والله ان قتلك الرجال لما ترضي به أميرك قال فقال من أنت قال قلت لا أخبرك من أنا قال و خشيت و الله أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان قال فجاءه رجل كان أطوع له مني شبث بن ربعي فقال ما رأيت مقالا أسوأ من قولك و لا موقفا أقبح من موقفك أمر عبا للنساء صرت قال فأشهد أنه استحيا فذهب لينصرف و حمل عليه زهير بن القين في رجال من أصحابه عشرة فشد علي شمر بن ذي الجوشن و أصحابه فكشفهم عن البيوت حتي ارتفعوا عنها فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه فكان من أصحاب شمر و تعطف الناس عليهم فكثروهم فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل فاذا قتل منهم الرجل و الرجلان تبين فيهم و أولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم.قال فلما رأي ذلك أبوثمامة عمرو بن عبدالله الصائدي قال للحسين يا أباعبدالله نفسي لك الفداء اني أري هؤلاء قد اقتربوا منك و لا و الله لا تقتل حتي أقتل دونك ان شاء الله و أحب أن ألقي ربي و قد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها قال فرفع الحسين رأسه ثم قال ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين نعم هذا أول وقتها ثم قال سلوهم أن يكفوا عنا حتي نصلي فقال لهم الحصين بن تميم انها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر لا تقبل زعمت الصلاة من آل رسول الله صلي الله عليه و سلم لا تقبل و تقبل منك يا حمار قال فحمل عليهم حصين بن تميم و خرج اليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب و وقع عنه و حمله أصحابه فاستنقذوه و أخذ حبيب يقول:

ص: 129

أقسم لو كنا لكم أعدادا أو شطركم (1) و ليتم أكتادا (2) .يا شر قوم حسبا و آدا (3) قال و جعل يقول يومئذ:أنا حبيب و أبي مظاهر فارس هيجاء و حرب تسعرأنتم أعد عدة و أكثر و نحن أوفي منكم و أصبرو نحن أعلي حجة و أظهر حقا و أتقي منكم و أعذر (4) و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف علي رأسه فقتله و كان يقال له بديل بن صريم من بني عقفان و حمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع فذهب ليقوم فضربه الحسين بن تميم علي رأسه بالسيف فوقع و نزل اليه التميمي فاحتز رأسه فقال له الحصين اني لشريكك في قتله فقال الآخر و الله ما قتله غيري فقال الحصين أعطنيه اعلقه في عنق فرسي كيما يري الناس و يعلموا أني شركت في قتله ثم خذه أنت بعد فامض به الي عبيدالله بن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه علي قتلك اياه قال فأبي عليه فأصلح قومه فيما بينهما علي هذا فدفع اليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه ثم دفعه بعد ذلك اليه فلما رجعوا الي الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه (5) ثم أقبل به الي ابن زياد في القصر فبصر به ابنه القاسم بن حبيب و هو يومئذ قد راهق (6) فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه و اذا خرج خرج معه فارتاب به فقال مالك يا بني تتبعني قال لا شي ء قال بلي يا بني أخبرني قال له ان هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتي أدفنه قال

ص: 130


1- شطرهم: نصفهم.
2- يقال و لوا أكتادهم و أكتافهم، و يقال ولوا أكتادا مبالغة في توليهم الأكتاد. أي ولوا أدبارهم مسرعين.
3- آدا: منكرا.
4- أعذر: صار ذا عذر.
5- لبان الفرس: صدره.
6- راهق: بلغ سن المراهقة.

با بني لا يرضي الأمير أن يدفن و أنا أريد أن يثيبني الأمير علي قتله قوابا حسنا قال له الغلام لكن الله لا يثيبك علي ذلك الا أسوأ الثواب أما و الله لقد قتلته خيرا منك و بكا فمكث الغلام حتي اذا أدرك لم يكن له همة الا اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة (1) فيقتله بأبيه فلما كان زمان مصعب بن الزبير و غزا مصعب بأجمير ادخل عسكر مصعب فاذا قاتل أبيه في فسطاطه فأقبل يختلف في طلبه و التماس غرته فدخل عليه و هو قائل (2) نصف النهار فضربه بسيفه حتي برد.(قال أبومخنف) حدثني محمد بن قيس قال لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذلك حسينا و قال عند ذلك أحتسب نفسي و عماة أصحابي قال فأخذ الحر يرتجز و يقول:آليت لا أقتل حتي أقتلا و لن أصاب اليوم الا مقبلاأضربهم بالسيف ضربا مقصلا لا ناكلا (3) عنهم و لا مهللاو أخذ يقول أيضا:أضرب في أعراضهم (4) بالسيف عن خير من حل مني و الخيففقاتل هو و زهير بن القين قتالا شديدا فكان اذا شد أحدهما فان استحلم (5) شد الآخر حتي يخلصه ففعلا ذلك ساعة ثم ان رجالة شدت علي الحر بن يزيد فقتل و قتل ابوثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوا له ثم صلوا الظهر صلي بهم الحسين صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم و وصل الي الحسين فاستقدم الحنفي امامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا و شمالا قائما بين يديه فمازال سرمي حتي سقط و قاتل زهير بن القين قتالا شديدا و أخذ يقول:

ص: 131


1- غرة: غفلة.
2- قائل: مستريح وقت القيلولة.
3- يقال نكل عند العدو: جبن.
4- أعراضهم: جمع مفرده عرض.
5- استحلم: التحم.

أنا زهير و أنا ابن القين (1) أذودهم بالسيف عن حسينقال و أخذ يضرب علي منكب حسين و يقول:أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم تلقي جدك النبياو حسنا و المرتضي عليا و ذا الجناحين الفتي الكمياو أسد الله الشهيد الحيا قال فشد عليه كثير بن عبدالله الشعبي و مهاجر بن أوس فقتلاه قال و كان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه علي أفواق نبله فجعل يرمي بها مسمومة و هو يقول:أنا الجملي أنا علي دين عليفقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوي من جرح قال فضرب حتي كسرت عضداه و أخذ أسرا.قال فأخذه شمر بن ذي الجوشن و معه أصحاب له يسوقون نافعا حتي أتي به عمر بن سعد فقال له عمر بن سعد ويحك يا نافع ما حملك علي ما صنعت (2) بنفسك قال ان ربي يعلم ما أردت قال و الدماء تسيل علي لحيته و هو يقول و الله لقد قتلت منكم اثني عشر سوي من جرحت و ما ألوم نفسي علي الجهد و لو بقيت لي عضد و ساعد ما أسرتموني فقال له شمر اقتله أصلحك الله قال أنت جئت به فان شئت فاقتله قال فانتضي (3) شمر سيفه فقال له نافع أما و الله ان لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقي الله بدمائنا فالحمد الله الذي جعل منايانا علي يدي شرار خلقه فقتله قال ثم أقبل شمر يحمل عليهم و هو يقول:خلوا عداة الله خلوا عن شمر يضربهم بسيفه و لا يفرو هو لكم صاب و سم و مقر

ص: 132


1- يزود: يطرد و يدفع.
2- ما حملك علي ما صنعت: ما دفعك اليه؟
3- انتضي سيفه: استله.

قال فلما رأي أصحاب الحسين أنهم قد كثروا و أنهم لا يقدرون علي أن يمنعوا حسينا و لا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه فجاءه عبدالله و عبدالرحمن ابنا عزرة الغفاريان فقالا يا أباعبدالله عليك السلام حازنا العدو اليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمنعك و ندفع عنك قال مرحبا بكما ادنوا مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه و أحدهما يقول:قد علمت حقا بنوغفار و خندق بعد بني نزارلنضربن معشر الفجار بكل عضب (1) صارم بتار (2) يا قوم ذودوا عن بني الأحرار بالمشرفي و القنا الخطارقال و جاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع و هما ابنا عم و أخوان لأم فأتيا حسينا فدنوا و هما يبكيان فقال أي بني أخي ما يبكيكما فوالله اني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين قالا جعلنا الله فداك لا و الله ما علي أنفسنا نبكي ولكنا نبكي عليك نراك قد أحيط (3) بك و لا نقدر علي أن نمنعك.فقال جزاكما الله يا ابني أخي بوجدكما من ذلك و مواساتكما اياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين قال و جاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حسين فأخذ ينادي يا قوم اني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم و ما الله يريد ظلما للعباد و يا قوم اني أخاف عليكم يوم التناد (4) يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم و من يضلل الله فما له من هاد، يا قوم لا تقتلوا حسينا يسحتكم الله بعذاب و قد خاب من افتري فقال له حسين يا ابن أسعد رحمك الله انهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم اليه من الحق و نهضوا اليك ليستبيحوك و أصحابك فكيف الآن و قد قتلوا اخوانك الصالحين.

ص: 133


1- عضب: يقال ناقة عضباء أي مشقوقة الأذن، و كانت ناقة رسول الله صلي الله عليه و سلم اسمها العضباء و لم تكن مشقوقة الأذن. و الصارم البتار القاطع و هو السيف.
2- أحيط به: أحصر و حصر و يقال أحصروه. و حصروه و أحصروا به، و احتوشوه.
3- أحيط به: أحصر و حصر و يقال أحصروه. و حصروه و أحصروا به، و احتوشوه.
4- يوم التناد: يوم القيامة.

قال صدقت جعلت فداك أنت أفقه مني و أحق بذلك أفلا نروح الي الآخرة و نلحق باخواننا فقال رح الي خير من الدنيا و ما فيها و الي ملك لا يبلي.فقال السلام عليك أباعبدالله صلي الله عليك و علي أهل بيتك و عرف بيننا و بينك في جنته فقال آمين آمين فاستقدم فقاتل حتي قتل قال ثم استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان الي حسين و يقولان عليك يا ابن رسول الله فقال و عليكما السلام و رحمة الله فقاتلا حتي قتلا قال و جاء عابس بن أبي شبيب الشاكري و معه شوذب مولي شاكر فقال يا شوذب ما في نفسك أن تصنع قال ما أصنع أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم حتي أقتل قال ذلك الظن بك امالا فتقدم بين يدي أبي عبدالله حتي يحتسبك كما احتسب غيرك من اصحابه و حتي احتسبك أنا فانه لو كان معي الساعة أحد أنا أولي به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتي أحتسبه فان هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه فانه لا عمل بعد اليوم و انما هو الحساب قال فتقدم فسلم علي الحسين ثم مضي فقالت حتي قتل قال ثم قال عابس بن أبي شيبة يا أباعبدالله أما و الله ما أمسي علي ظهر الأرض قريب و لا بعيد أعز علي و لا أحب الي منك و لو قدرت علي أن أدفع عنك الضيم (1) و القتل بشي ء أعز علي من نفسي و دمي لفعلته السلام عليك يا أباعبدالله أشهد الله أني علي هديك و هدي أبيك ثم مشي بالسيف مصلتا (2) نحوهم و به ضربة علي جبينه.(قال أبومخنف) حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم قال لما رأيته مقبلا عرفته و قد شاهدته في المغازي و كان أشجع الناس فقلت أيها الناس هذا الأسد الأسود هذا ابن شبيب لا يخرجن اليه أحد منكم فأخذ ينادي ألا رجل لرجل فقال عمر بن سعد ارضخوه (3) بالحجارة قال فرمي بالحجارة من كل جانب فلما رأي ذلك ألقي

ص: 134


1- الضيم: الظلم.
2- مصلتا: مشروعا.
3- ارضخوه: رضوه بالحجارة.

درعه و مغفره ثم شد علي الناس فوالله لرأيته يكرد (1) أكثر من مائتين من الناس ثم انهم تعطفوا عليه (2) من كل جانب فقتل قال فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول أنا قتلته و هذا يقول أنا قتلته أتوا عمر بن سعد فقال لا تختصموا هذا لم يقتله (3) سنان واحد ففرق بينهم بهذا القول.قال أبومخنف حدثني عبدالله بن عاصم عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا و قد خلص (4) اليه و الي أهل بيته و لم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي و بشير بن عمرو الحضرمي قلت له يا ابن رسول الله قد علمت ما كان بيني و بينك قلت لك أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا فاذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف فقلت لي نعم قال فقال صدقت و كيف لك بالنجاء (5) ان قدرت علي ذلك فأنت في حل قال فأقبلت الي فرسي و قد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلت بها حتي أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت و أقبلت أقاتل معهم راجلا فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين و قطعت يد آخر و قال لي الحسين يومئذ مرارا لا تشلل لا يقطع الله يدك جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك صلي الله عليه و سلم فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويت علي متنها (6) ثم ضربتها حتي اذا قامت علي السنابك رميت بها عرض القوم فأفرجوا لي و أتبعني منهم خمسة عشر رجلا حتي انتهيت الي شفية قرية قريبة من شاطي ء الفرات فلما لحقوني عطفت عليهم فعرفني كثير بن عبدالله الشعبي و أيوب بن مشرح الخيواني و قيس بن عبدالله الصائدي فقالوا هذا الضحاك بن عبدالله المشرقي هذا ابن عمنا ننشدكم الله لما كففتم عنه فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم بلي و الله لنجيبن اخواننا و أهل

ص: 135


1- يكرد اكثر من مائتين: يستظهر عليهم و يسوقهم أمامه.
2- تعطفوا عليه من كل جانب: أحاطوا به و مالوا عليه.
3- و هنا تدرك عزيزي القاري ء مدي اللذة و المتعة التي كانوا يشعرون بها و هم يحصدون أعناق الرجال بل يتنازعون في الفخر بذلك... لا حول و لا قوة الا بالله.
4- خلص اليه: انتهي اليه بعد قتل أعوانه.
5- النجاء بالمد و النجاة بالقصر.
6- متنها: ظهرها.

دعوتنا الي ما أحبوا من الكف عن صاحبهم قال فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون قال فنجاني الله.قال أبومخنف حدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد و هو أبو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثي علي ركبتيه بين يدي الحسين فرمي بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم و كان راميا فكان كلما رمي قال أنا ابن بهدله فرسان العرجلة و يقول حسين اللهم سدد رميته و اجعل ثوابه الجنة فلما رمي بها قام فقال ما سقط منها الا خمسة أسهم و لقد تبين لي أني قد قتلت خمسة نفر و كان في أول من قتل و كان رجزه يومئذ.أنا يزيد و أبي مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر (1) يا رب اني للحسين ناصر و لابن سعد تارك و هاجرو كان يزيد بن زياد المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد الي الحسين فلما ردوا الشروط علي الحسين مال اليه فقاتل معه حتي قتل فأما الصيداوي عمرو بن خالد و جابر بن الحارث السلماني و سعد مولي عمر بن خالد و مجمع بن عبدالله العائذي فانهم قاتلوا في أول القتال فشدوا مقدمين بأسيافهم علي الناس فلما و غلوا (2) عطف عليهم (3) الناس فأخذوا يحوزونهم و قطعوهم من أصحابهم غير بعيد فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم فجاؤا قد جرحوا فلما دنا منهم عدوهم شدوا فأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتي قتلوا في مكان واحد.قال أبومخنف حدثني زهير بن عبدالرحمن ابن زهير الخثعمي قال كان آخر من بقي مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخنثعمي قال و كان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر ابن الحسين بن علي و أمه ليلي ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي و ذلك أنه أخذ يشد علي الناس و هو يقول:

ص: 136


1- خادر: ساتر.
2- الايغال: السير السريع و التقدم بامعان و يقال توغلوا.
3- عطف عليهم الناس: أحاطوا بهم و مالوا عليهم.

أنا علي بن حسين بن علي نحن و رب البيت أولي بالنبيتا لله لا يحكم فينا ابن الدعي قال ففعل ذلك مرارا فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي فقال علي أثام العرب ان مر بي يفعل مثل ما كان يفعل ان لم أثكله أباه فمر يشد علي الناس بسيفه فاعتضره مرة بن منقذ فطعنه فصرع و احتو له الناس فقطعوه بأسيافهم.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال سماع أذني يومئذ من الحسين يقول قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم علي الرحمن و علي انتهاك حرمة الرسول، علي الدنيا بعدك العفاء (1) .قال و كأني أنظر الي امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي يا أخياه و يا ابن أخاه قال فسألت عليها فقيل هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و سلم فجاءت حتي أكبت (2) عليه فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها الي الفسطاط و أقبل الحسين الي ابنه و أقبل فتيانه اليه فقال احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه حتي وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه قال ثم ان عمرو بن صبيح الصدائي رمي عبدالله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه علي جبهته فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه ثم انتحي له بسهم آخر ففلق قلبه فاعتورهم (3) الناس من كل جانب فحمل عبدالله بن قطبة الطائي ثم النبهاني علي عون عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فقتله و حمل عامر بن نهشل التيمي علي محمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فقتله قال و شد عثمان بن خالد بن أسير الجهني و بشر بن سوط الهمداني ثم القابضي علي عبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه و رمي عبدالله بن عزرة الخثعمي جعفر بن عقيل بن أبي طالب فقتله.

ص: 137


1- العفاء: التراب.
2- أكبت عليه: مالت و انعطفت عليه.
3- اعتوروهم: أحصروا بهم.

قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال خرج الينا غلام كأن وجهه شقة قمر في يده السيف عليه قميص و ازار و نعلان قد انقطع شسع (1) أحدهما ما أنسي أنها اليسري فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي و الله لأشدن عليه فقلت له سبحان الله و ما تريد الي ذلك يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم قال فقال و الله لأشدن عليه فشد عليه فما ولي حتي ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه فقال يا عماه قال فجلي (2) الحسين كما يجلي الصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها (3) من لدن المرفق فصاح ثم تنحي عنه و حملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من حسين فاستقبلت عمرا بصدورها فحركت حوافرها و جالت (4) الخيل بفرسانها عليه فتوطأته (5) حتي مات و انجلت (6) الغبرة فاذا أنا بالحسين قائم علي رأس الغلام و الغلام يفحص (7) برجليه و حسين يقول بعدا لقوم قتلوك و من خصمهم يوم القيامة فيك جدك ثم عز و الله علي عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوت و الله كثر واتره (8) و قل ناصره ثم احتمله فكأني أنظر الي رجلي يخطان في الأرض و قد وضع حسين صدره علي صدره قال فقلت في نفسي ما يصنع به فجاء به حتي ألقاه مع ابنه علي بن الحسين و قتلي قد قتلت حوله من أهل بيته فسألت عن الغلام فقيل هو القاسم ابن الحسن بن علي بن أبي طالب قال و مكث الحسين طويلا من النهار كلما انتهي اليه رجل من الناس انصرف عنه و كره أن يتولي قتله و عظيم اثمه عليه قال و ان رجلا من كندة يقال له مالك ابن النسير من بني بداء أتاه فضربه علي رأسه

ص: 138


1- الشسع: واحد شسوع النعل التي تشد الي زمامها.
2- جلي: كشف.
3- أطنها: سددها.
4- جالت الخيل: طافت و ذهبت و جاءت.
5- توطأته: أي وطأته.
6- انجلت الغبرة: انكشف رهج الاشتباك.
7- يفحص برجليه: يركل بهما.
8- واتره: مساعده و ناصره.

بالسيف و عليه برنس له فقطع البرنس و أصاب السيف رأسه فأدمي رأسه فامتلأ البرنس دما فقال له الحسين لا أكلت بها و لا شربت و حشرك الله مع الظالمين قال فألقي ذلك البرنس ثم دعا بقلنسوة فلبسها و اعتم (1) و قد أعيا و بلد و جاء الكندي حتي أخذ البرنس و كان من خز فلما قدم به بعد ذلك علي امرأته أم عبدالله ابنة الحر أخت حسين بن الحر البدي أقبل يغسل البرنس من الدم فقالت له امرأته أسلب ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم تدخل بيتي أخرجه عني فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيرا بشر حتي مات قال و لما قعد الحسين أتي بصبي له فأجلسه في حجره زعموا أنه عبدالله بن الحسين.قال أبومخنف قال عقبة بن بشير الأسدي قال لي أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين ان لنا فيكم يا بني أسد دما قال قلت فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أباجعفر و ما ذلك قال أتي الحسين بصبي له فهو في حجره اذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه فتلقي الحسين دمه فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال رب ان تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير و انتقم لنا من هؤلاء الظالمين قال و رمي عبدالله بن عقبة الغنوي أبابكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله فلذلك يقول الشاعر و هو ابن أبي عقب:و عند غني قطرة من دمائنا و في أسد أخري تعد و تذكرقال و زعموا أن العباس بن علي قال لاخوته من أمه عبدالله و جعفر و عثمان يا بني أمي تقدموا حتي أرثكم فانه لا ولد لكم ففعلوا فقتلوا و شد هاني ء بن ثبيت الحضرمي علي عبدالله بن علي بن أبي طالب فقتله ثم شد علي جعفر بن علي فقتله و جاء برأسه و رمي خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم ثم شد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله و جاء برأسه و رمي رجل من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله و جاء برأسه. قال هشام حدثني أبو الهذيل رجل من السكون عن هاني ء بن ثبيت الحضرمي قال رأيته جالسا في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبدالله و هو

ص: 139


1- في الأصل (اغتم) و هو تصحيف.

شيخ كبير قال فسمعته و هو يقول كنت ممن شهد قتل الحسين قال فوالله اني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل الا علي فرس و قد جالت الخيل و تصعصعت اذ خرج غلام من آل الحسين و هو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه ازار و قميص و هو مذعور (1) يتلفت يمينا و شمالا فكأني أنظر الي درتين في أذنيه تذبذبان (2) كلما التفت اذ أقبل رجل يركض حتي اذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف قال هشام قال السكوني هاني ء بن ثبيت هو صاحب الغلام فلما عتب عليه كني عن نفسه قال هشام حدثني عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال عطش الحسين حتي اشتد عليه العطش فدنا ليشرب من الماء فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقي الدم من فمه و يرمي به الي السماء ثم حمدالله و أثني عليه ثم جمع يديه فقال اللهم أحصهم عددا و أقتلهم بددا و لا تذر علي الأرض منهم أحدا. قال هشام عن أبيه محمد بن السائب عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال حدثني من شهد الحسين في عسكره أن حسينا حين غلب علي عسكره ركب المسناة يريد الفرات قال فقال رجل من بني أبان بن دارم ويلكم حولوا بينه (3) و بين الماء لا تتام اليه شيعته قال و ضرب فرسه و أتبعه الناس حتي حالوا بينه و بين الفرات فقال الحسين اللهم أظمه (4) قال و ينتزع الأباني بسهم فأثبته في حنك الحسين قال فانتزع الحسين السهم ثم بسط كفيه فامتلأتا دما ثم قال الحسين اللهم اني أشكو اليك ما يفعل بابن بنت نبيك قال فوالله ان مكث الرجل الا يسيرا حتي صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروي قال القاسم بن الأصبغ لقد رأيتني فيمن يروح عنه و الماء يبرد له فيه السكر و عساس فيها اللبن و قلال فيها الماء و انه ليقول ويلكم اسقوني قتلني الظمأ فيعطي القلة أو العس كان مرويا أهل البيت فيشربه فاذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول ويلكم اسقوني قتلني الظمأ قال فوالله ما لبث الا يسيرا حتي انقد بطنه انقداد بطن البعير.

ص: 140


1- مذعور: مروع أو مرتاع.
2- تذبذبان: أي تتذبذبان بحذف احدي التاءين للتخفيف.
3- حولوا بينه و بين الماء: احرموه منه.
4- أظمه: أي أجعله يظمأ.

قال أبومخنف في حديثه ثم ان شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو من عشرة من رجالة (1) أهل الكوفة قبل (2) قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله و عياله فمشي نحوه فحالوا بينه و بين رحله فقال الحسين ويلكم ان لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون يوم (3) المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب امنعوا رحلي و أهلي من طغامكم (4) و جهالكم.فقال ابن ذي الجوشن ذلك لك يا ابن فاطمة قال و أقدم عليه بالرجالة منهم أبوالجنوب و اسمه عبدالرحمن الجعفي و القشعم بن عمرو بن يزيد الجعفي و صالح بن وهب اليزني و سنان بن أنس النخعي و خولي بن يزيد الأصبحي فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرضهم فمر بأبي الجنوب و هو شاك في السلاح فقال له أقدم عليه قال و ما يمنعك أن تقدم عليه أنت فقال له شمر ألي تقول ذا قال و أنت لي تقول ذا فاستبا فقال له أبوالجنوب و كان شجاعا و الله لهممت أن أخضخض السنان في عينك قال فانصرف عنه شمر و قال و الله لئن قدرت علي أن أضرك لأضرنك قال ثم ان شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ثم انهم أحاطوا به احاطة و أقبل الي الحسين غلام من أهله فأخذته أخته زينب ابنة علي لتحبسه فقال لها الحسين احبسيه فأبي الغلام و جاء يشتد الي الحسين فقام الي جنبه قال و قد أهوي بحر بن كعب بن عبيدالله من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة الي الحسين بالسيف فقال الغلام يا ابن الخبيثة أتقتل عمي فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها الا الجلدة فاذا يده معلقة فنادي الغلام يا أمتاه فأخذه الحسين فضمه الي صدره و قال يا ابن أخي اصبر علي ما نزل بك و احتسب في ذلك الخير فان الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله صلي الله عليه و سلم و علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن بن علي صلي الله عليهم أجمعين.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال

ص: 141


1- الرجالة: الذين يقاتلون مترجلين.
2- قبل منزل الحسين: تجاهه.
3- يوم المعاد: يوم القيامة.
4- الطغام: أوغاد الناس، و جهالهم.

سمعت الحسين يومئذ و هو يقول اللهم أمسك عنهم قطر السماء و امنعهم بركات الأرض اللهم فان متعتهم الي حين ففرقهم (1) فرقا و اجعلهم طرائق قددا (2) و لا ترض عنهم الولاة أبدا فانهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا قال و ضارب الرجالة حتي انكشفوا عنه قال و لما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر يماني محقق ففزره و نكثه لكيلا يسلبه فقال له بعض أصحابه لو لبست تحته تبانا قال ذلك ثوب مذلة و لا ينبغي لي أن ألبسه قال فلما قتل أقبل بحر بن كعة فسلبه اياه فتركه مجردا.قال أبومخنف فحدثني عمرو بن شعيب عن محمد بن عبدالرحمن أي يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء ينضحان الماء و في الصيف ييبسان كأنهما عود.قال أبومخنف عن الحجاج بن عبدالله بن عمار بن عبد يغوث البارقي و عتب علي عبدالله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين فقال عبدالله بن عمار ان لي عند بني هاشم ليدا قلنا له و ما يدك عندهم قال حملت علي حسين بالرمح فانتهيت اليه فوالله لو شئت لطعنته ثم انصرفت عنه غير بعيد و قلت ما أصنع بأن أتولي قتله يقتله غيري قال فشد عليه رجالة ممن عن يمينه و شماله فحمل علي من عن يمينه حتي ابذعروا (3) و علي من عن شماله حتي ابذعروا و عليه قميص له من خز و هو معتم (4) قال فوالله ما رأيت مكسورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط (5) جأشا و لا أمضي جنانا منه و لا أجرا مقدما و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشاف المعزي اذا شد فيها الذئب قال فوالله انه لكذلك اذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته و كأني أنظر الي قرطها يجول بين أذنيها و عاتقها و هي تقول ليت

ص: 142


1- فرقا: خوفا.
2- قددا: أي فرقا.
3- ابذعروا: ذعروا.
4- معتم: أي قد لف عمامته.
5- أربط جأشا: أقوي قلبا.

السماء (1) تطابقت علي الأرض و قد دنا عمر بن سعد من حسين فقالت يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبدالله و أنت تنظر اليه قال فكأني أنظر الي دموع عمر و هي تسيل علي خديه و لحيته قال و صرف بوجهه عنها.قال أبومخنف حدثني الصقعب بن زهير عن حميد بن مسلم قال كانت عليه جبة من خز و كان معتما و كان مخضوبا بالوسمة (2) قال و سمعته يقول قبل أن يقتل و هو يقاتل علي رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية و يفترض (3) العورة و يشد علي الخيل و هو يقول أعلي قتلي تحاثون (4) أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني و أيم الله (5) اني لأرجو أن يكرمني الله (6) بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون أما و الله ان لو قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكم بينكم و سفك دماءكم ثم لا يرضي لكم حتي يضاعف لكم العذاب الأليم قال و لقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس ان يقتلوه لفعلوا ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض و يحب هولاء أن يكفيهم هؤلاء قال فنادي شمر في الناس و يحكم ماذا تنظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم قال فحمل عليه من كل جانب فضربت كفه اليسري ضربة ضربها زرعة بن شريك التميمي و ضرب علي عاتقه ثم انصرفوا و هو ينوء (7) و يكبو (8) قال و حمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع ثم قال لخولي بن يزيد الأصبحي احتز رأسه فأراد أن يفعل فضعف فأرعد فقال له سنان بن أنس فت الله عضديك (9) و أبان يديك فنزل اليه فذبحه و احتز رأسه

ص: 143


1- تطابقت: انطبقت و هوت.
2- الوسمة: من وسم من باب وعد.
3- يفترص الصورة: اغتنمها.
4- تحاثون: أصلها تتحاثون و حذفت احدي التاءين للتخفيف و تحاثون أي يحث بعضهم بعضا.
5- و أيم الله: قسم.
6- هوان: ذلة.
7- ينوء و يكبو: ينزغ و يتعثر و يضطرب.
8- يكبو من كبا الجواد لوجهه اذا سقط.
9- فت الله عضديك: دعاء عليه.

ثم دفع الي خولي بن يزيد و قد ضرب قبل ذلك بالسيوف.قال أبومخنف عن جعفر بن محمد بن علي قال وجد بالحسين عليه السلام حين قتل ثلاث و ثلاثون طعنة و أربع و ثلاثون ضربة (1) قال و جعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين الا شد عليه مخافة أن يغلب علي رأسه حتي أخذ رأس الحسين فدفعه الي خولي قال و سلب الحسين ما كان عليه فأخذ سراويله بحر بن كعب و أخذ قيس بن الأشعث قطيفته و كانت من خز و كان يسمي بعد قيس قطيفة و أخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود و أخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم فوقع بعد ذلك الي أهل حبيب بن بديل قال و مال الناس علي الورس و الحلل و الابل و انتهبوها قال و مال الناس علي نساء الحسين و ثقله و متاعه فان كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتي تغلب عليه فيذهب به منها.قال أبومخنف حدثني زهير بن عبدالرحمن الخثعمي أن سويد بن عمرو بن أبي المطاع كان صرع فأثخن (2) فوقع بين القتلي مثخنا فسمعهم يقولون قتل الحسين فوجد فاقة فاذا معه سكين و قد أخذ سيفه فقاتلهم بسكينه ساعة ثم انه قتل قتله عروة بن بطار التغلبي و زيد بن رقاد الجنبي و كان آخر قتيل.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال انتهيت الي علي بن الحسين بن علي الأصغر و هو منبسط علي فراش له و هو مريض و اذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون ألا نقتل هذا قال فقلت سبحان الله أنقتل الصبيان انما هذا صبي قال فمازال ذلك دأبي أدفع عنه كل من جاء حتي جاء عمر بن سعد فقال ألا لا يدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد و لا يعرضن لهذا الغلام المريض و من أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم قال فوالله ما رد أحد شيئا قال فقال علي بن الحسين جزيت من رجل خيرا فوالله لقد دفع الله عني بمقالتك شرا قال فقال الناس لسنان بن أنس قتلت حسين بن علي و ابن فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و سلم قتلت أعظم العرب خطرا جاء الي هؤلاء يريد أن يزيلهم

ص: 144


1- راجع التذكرة للقرطبي (665: 2).
2- أثخن: جرح.

عن ملكهم فأت أمراءك فاطلب ثوابهم و انهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلا فأقبل علي فرسه و كان شجاعا شاعرا و كانت به لوثة (1) فأقبل حتي وقف علي باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادي بأعلي صوته:أوقر ركابي فضة و ذهبا أنا (2) قتلت الملك المحجباقتلت خير الناس أما و أبا و خيرهم اذ ينسبون نسبافقال عمر بن سعد أشهد أنك لمجنون ما صحوت (3) قط أدخلوه علي فلما أدخل حذفه بالقضيب ثم قال يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام أما و الله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك قال و أخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان و كان مولي للرباب بنت امري ء القيس الكلبية و هي أم سكينة بنت الحسين فقال له ما أنت قال أنا عبد مملوك فخلي سبيله فلم ينج منهم أحد عيره الا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كان قد نثر نبله و جثا علي ركبتيه فقاتل فجاءه نفر من قومه فقالوا له أنت آمن اخرج الينا فخرج اليهم فلما قدم بهم عمر بن سعد علي ابن زياد و أخبره خبره سيره الي الزارة قال ثم أن عمر بن سعد نادي في أصحابه من ينتدب للحسين و يوطئه فرسه فانتدب عشرة منهم اسحاق بن حيوة بن سلامة الحضرمي فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتي رضوا ظهره و صدره فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذلك بزمان أتاه سهم غرب و هو واقف في قتال ففلق قلبه فمات قال فقتل من أصحاب الحسين عليه السلام اثنان و سبعون (4) رجلا و دفن الحسين و أصحابه أهل الغاضرية (5) من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم و قتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية و ثمانون رجلا سوي الجرحي فصلي عليهم عمر بن سعد و دفنهم قال و ما هو الا أن قتل الحسين فسرح برأسه من يومه ذلك مع خولي بن يزيد و حميد بن مسلم الأزدي الي عبيدالله بن زياد فأقبل به خولي فأراد

ص: 145


1- لوثة: أي قصر عقلي و رعونة و حماقة.
2- و في بعض الأصول (أني).
3- ما صحوت قط: أي ما صحا من الجنون فهو مغرق فيه.
4- راجع مروج الذهب للمسعودي (72 - 71: 3).
5- و في مروج الذهب الغاضرية بالغين المعجمة.

القصر فوجد القصر مغلقا فأتي منزله فوضعه تحت اجانة (1) في منزلة و له امرأتان امرأة من بني أسد و الأخري من الحضرميين يقال له النوار ابنة مالك بن عقرب و كانت تلك الليلة ليلة الحضرمية قال هشام فحدثني أبي عن النوار بنت مالك قالت أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت اجانة في الدار ثم دخل البيت فأوي الي فراشه فقلت له ما الخبر ما عندك قال جئتك بغني الدهر هذا رأس الحسين معك في الدار قالت فقلت ويلك جاء الناس بالذهب و الفضة و جئت برأس ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم لا و الله لا يجمع رأسي و رأسك بيت أبدا قالت فقمت من فراشي فخرجت الي الدار فدعا الأسدية فأدخلها اليه و جلست أنظر قالت فوالله مازلت أنظر الي نور يسطع مثل العمود من السماء الي الاجانة و رأيت طيرا بيضا ترفرف حولها قال فلما أصبح غدا بالرأس الي عبيدالله بن زياد و أقام عمر بن سعد يومه ذلك و الغد ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل الي الكوفة و حمل معه بنات الحسين و أخواته و من كان معه من الصبيان و علي بن الحسين مريض.قال أبومخنف فحدثني أبوزهير العبسي عن قرة بن قيس التميمي قال نظرت الي تلك النسوة لما مررن بحسين و أهله و ولده صحن و لطمن وجوههن قال فاعترضتهن علي فرس فما رأيت منظرا من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك و الله لهن أحسن من مهي يبرين قال فما نسيت من الأشياء لا أنسي قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا و هي تقول يا محمداه يا محمداه صلي عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا (2) مزمل (3) بالدما مقطع الأعضا يا محمداه و بناتك (4) سبايا و ذريتك مقتلة تسفي (5) عليها الصبا (6) قال فأبكت و الله كل عدو و صديق قال و قطف رؤوس الباقين فسرح

ص: 146


1- الاجانة: واحدة الأجاجية. المختار ص 7.
2- بالعرا: العراء الفضاء.
3- مزمل بالدماء: غارق في دمائه، و يقال تزمل بثيابه أي تدثر بها.
4- سبايا: اماء و أسري.
5- تسفي الريح: تذر التراب.
6- الصبا: ريح مهبها المستوي أن تهب من مطلع المشس اذا استوي الليل و النهار، و تقابلها الدبور.

باثنين و سبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن و قيس بن الأشعث و عمر بن الحجاج و عزرة بن قيس فأقبلوا حتي قدموا بها علي عبيدالله بن زياد.قال أبومخنف حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال دعاني عمر بن سعد فسرحني الي أهله لأبشرهم بفتح الله عليه و بعافيته فأقبلت حتي أتيت أهله فأعلمتهم ذلك ثم أقبلت حتي أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس و أجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم و أذن للناس فدخلت فيمن دخل فاذا رأس الحسين موضوع بين يديه و اذا هو ينكت بقضيب (1) بين ثنيتيه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له أعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالذي لا اله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلي الله عليه و سلم علي هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضخ الشيخ يبكي فقال له ابن زياد أبكي الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت (2) و ذهب عقلك لضربت عنقك قال فنهض فخرج فلما خرج سمعت الناس يقولون و الله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله قال فقلت ما قال قالوا مر بنا و هو يقول ملك عبد عبدا فاتخذهم تلدا أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة و أمرتم (3) ابن مرجانة فهو يقتل خياركم و يستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل قال فلما دخل برأس حسين و صبيانه و أخواته و نسائه علي عبيدالله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها و تنكرت و حف بها اماؤها فلما دخلت جلست فقال عبيدالله بن زياد من هذه الجالسة فلم تكلمه فقال ذلك ثلاثا كل ذلك لا تكلمه فقال بعض (4) امائها هذه زينب ابنة فاطمة قال فقال لها عبيدالله الحمدلله الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم (5) فقالت الحمدلله الذي أكرمنا بمحمد صلي الله عليه و سلم و طهرنا تطهيرا لا كما تقول أنت انما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر

ص: 147


1- ينكت بالقضيب: يعبث و يزدري به.
2- خرفت: ذهب عقله.
3- أمرتم: بتشديد الميم المفتوحة أي جعلتموه أميرا.
4- بعض امائها: بعض خدمها و حشمها.
5- أحدوثتكم: ما يتحدث به عنكم و يقص سيرتكم.

قال فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك قالت كتب عليهم القتل فبرزوا الي مضاجعهم و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاجون (1) اليه و تخاصمون (2) عنده قال فغضب ابن زياد و استشاط (3) قال فقال له عمرو بن حريث أصلح الله الأمير انما هي امرأة و هل تؤاخذ المرأة بشي ء من منطقها انها لا تؤاخذ بقول و لا تلام علي خطل (4) فقال لها ابن زياد قد أشفي الله نفسي من طاغيتك و العصاة المردة (5) من أهل بيتك قال فبكت ثم قالت لعمري لقد قتلت كهلي و أبرت (6) أهلي و قطعت (7) فرعي و اجثثت (8) أصلي فان يشفك هذا فقد اشتفيت فقال لها عبيدالله هذه شجاعة قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعا قالت ما للمرأة و الشجاعة ان لي عن الشجاعة لشغلا ولكني نفي ما أقول.قال أبومخنف عن المجالد بن سعيد ان عبيدالله بن زياد لما نظر الي علي بن الحسين قال لشرطي انظر هل أدرك هذا ما يدرك الرجال فكشط ازاره عنه فقال نعم قال انطلقوا به فاضربوا عنقه فقال له علي ان كان بينك و بين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن فقال له ابن زياد تعال أنت فبعثه معهن.قال أبومخنف و أما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال اني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين فقال له ما اسمك قال أنا علي بن الحسين قال أو لم يقتل الله علي بن الحسين فسكت فقال له ابن زياد مالك لا تتكلم قال قد كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتله الناس قال ان الله قد قتله قال فسكت علي فقال له مالك لا تتكلم قال الله يتوفي الأنفس حين موتها

ص: 148


1- فتحاجون اليه: تختصمون اليه و الأصل تتحاجون.
2- و أصلها تتخاصمون.
3- ازداد غضبه.
4- خطل: منطق فاسد فاحش.
5- المردة: المتمردون المنشقون.
6- أبرت أهلي: اجتثثتهم.
7- قطعت فرعي: بقتل رجالها.
8- اجتثثت و اجثثت لغة فيها.

و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله قال أنت و الله منهم ويحك انظروا هل أدرك و الله اني لأحسبه رجلا قال فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال نعم قد أدرك فقال اقتله فقال علي بن الحسين من توكل (1) بهؤلاء النسوة و تعلقت به زينب عمته فقالت يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا و هل أبقيت منا أحدا قال فاعتنقته فقالت أسألك بالله ان كنت مؤمنا ان قتلته لما قتلتني معه قال و ناداه علي فقال يا ابن زياد ان كانت بينك و بينهم فرابة قابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الاسلام قال فنظر اليها ساعة ثم نطر الي القوم فقال عجبا للرحم و الله اني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه دعوا الغلام انطلق مع نسائك قال حميد بن مسلم لما دخل عبيدالله القصر و دخل الناس نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد الأعظم فصعد المنبر ابن زياد فقال الحمدلله الذي أظهر الحق و أهله و نصر أميرالمؤمنين يزيد بن معاوية و حزبه و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شيعته فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حتي وثب اليه عبدالله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي ثم أحد بني والبة و كان من شيعة علي كرم الله وجهه و كانت عينه اليسري ذهبت يوم الجمل مع علي فلما كان يوم صفين ضرب علي رأسه ضربة و أخري علي حاجبه فذهبت عينه الأخري فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه الي الليل ثم ينصرف قال فلما سمع مقالة ابن زياد قال يا ابن مرجانة ان الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك و الذي ولاك و أبوه يا ابن مرجانة أتقتلون ابناء النبيين و تكلمون بكلام الصديقين فقال ابن زياد علي به قال فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه قال فنادي بشعار الازد يا مبرور قال و عبدالرحمن بن مخنف الأزدي جالس فقال ويح غيرك أهلكت نفسك و أهلكت قومك قال و حاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل قال فوثب اليه فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا به أهله فأرسل اليه من أتاه به فقتله و أمر بصلبه في السبخة فصلب هنالك.قال أبومخنف ثم ان عبيدالله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به في الكوفة ثم دعا زحر بن قيس فسرح معه برأس الحسين و رؤس

ص: 149


1- توكل بهؤلاء: تعهد اليه حراستهم.

أصحابه الي يزيد بن معاوية و كان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي و طارق بن أبي ظبيان الأزدي فخرجوا حتي قدموا بها الشأم علي يزيد بن معاوية قال هشام فحدثني عبدالله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي عن أبيه عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير قال والله انا لعند يزيد بن معاوية بدمشق اذ أقبل زحر بن قيس حتي دخل علي يزيد بن معاوية فقال له يزيد ويلك ما وراءك و ما عندك قال أبشر يا أميرالمؤمنين بفتح الله و نصره ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته و ستين من شيعته فسرنا اليهم فسألناهم أن يستسلموا و ينزلوا علي حكم الأمير عبيدالله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال علي الاستسلام فعدونا عليهم (1) مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتي اذا اخذت السيوف مأخذها من (2) هام القوم يهربون الي غير وزر و يلوذون (3) منا بالآكام (4) و الحفر لواذا كما لاذ الحمائم من صقر فوالله يا أميرالمؤمنين ما كان الا جزر جزور أو نومة قائل حتي أتينا علي آخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة و ثيابهم مزملة و خدودهم معفرة تصهرهم الشمس و تسفي عليهم الريح زوارهم العقبان (5) و الرخم (6) بقي سبسب قال فدمعت عين يزيد (7) و قال قد كنت أرضي من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين (8) و لم يصله بشي ء قال ثم ان عبيدالله أمر بنساء الحسين و صبيانه فجهزن و أمر بعلي بن الحسين فغل بغل الي عنقه ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العاذي عائذة قريش و مع شمر بن ذي الجوشن فانطلقا بهم حتي قدموا علي يزيد فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة

ص: 150


1- عدونا عليهم: هجمنا عليهم.
2- هام الرجال: رؤوسهم.
3- يلوذون: يلجأون.
4- الآكام: جمع أكمة و هي التل.
5- العقبان: طيور جوارح.
6- الرخم: طيور جارحة أيضا.
7- و هذا تظاهر بالندم فلو كان ذلك حقيقة لحاسب عبيدالله بن زياد و عمرو بن سعد علي ذلك.
8- فكان لذلك الندم قولا لا فعلا فلم لم يعاقب القتلة؟!

حتي بلغوا فلما انتهوا الي باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته فقال هذا محفز بن ثعلبة أتي أميرالمؤمنين باللئام الفجرة قال فأجابه يزيد بن معاوية ما ولدت أم محفز شر و ألأم.قال أبومخنف حدثني الصقعب بن زهير عن القاسم بن عبدالرحمن مولي يزيد بن معاوية قال لما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد رأس الحسين و أهل بيته و أصحابه قال يزيد:يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا (1) أعق و أظلماأما و الله يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك.قال أبومخنف حدثني أبوجعفر العبسي عن أبي عمارة العبسي قال فقال يحيي بن الحكم أخو مروان بن الحكم.لهام بجنب الطف أدني قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل (2) سمية أمسي نسلها عدد الحصي و ليس لآل المصطفي اليوم من نسلقال فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيي بن الحكم و قال اسكت قال و لما جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ثم دعا بعلي بن الحسين و صبيان الحسين و نساءه فأدخلوا عليه و الناس ينظرون فقال يزيد لعلي يا علي أبوك الذي قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت قال فقال علي ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها فقال يزيد لابنه خالد اردد عليه قال فما دري خالد ما يرد عليه فقال له يزيد قل ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير ثم سكت عنه قال ثم دعا بالنساء و الصبيان فأجلسوا بين يديه فرأي هيئة قبيحة فقال قبح الله ابن مرجانة لو كانت بينه و بينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم و لا بعث بكم هكذا (3) .

ص: 151


1- أعق بهمزة أصح مما ورد بالأصل.
2- الوغل: المتطفل.
3- راجع الامامة والسياسة (7 - 6: 2).

قال أبومخنف عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت علي قالت لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق (1) لنا و أمر لنا بشي ء و ألطفنا قالت ثم ان رجلا من أهل الشأم أحمر قال الي يزيد فقال يا أميرالمؤمنين هب لي هذه يعنيني و كنت جارية وضيئة (2) فأرعدت (3) و فرقت (4) و ظننت أن ذلك جائز لهم و أخذت بثياب أختي زينب قالت و كانت أختي زينب أكبر مني و أعقل و كانت تعلم أن ذلك لا يكون فقالت كذبت و الله و لؤمت ما ذلك لك و له فغضب يزيد فقال كذبت و الله ان ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلت قالت كلا و الله ما جعل الله ذلك لك الا أن تخرج من ملتنا و تدين بغير ديننا قالت فغضب يزيد و استطار ثم قال اياي تستقبلين بهذا انما خرج من الدين أبوك و أخوك فقالت زينب بدين الله و دين أبي و دين أخي و جدي اهتديت أنت و أبوك و جدك قال كذبت يا عدوة الله قالت أنت أمير مسلط تشتم ظالما (5) و تقهر بسلطانك قالت فوالله لكأنه استحيا فسكت ثم عاد الشامي فقال يا أميرالمؤمنين هب لي هذه الجارية قال أعزب (6) و هب الله لك حتفا (7) قاضيا قالت ثم قال يزيد بن معاوية يا نعمان بن بشير جهزهم بما يصلحهم و ابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا و ابعث معه خيلا و أعوانا فيسير بهم الي المدينة ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار علي حدة معهن ما يصلحهن و أخوهن معهن علي بن الحسين في الدار التي هن فيها قال فخرجن حتي دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة الا استقبلتهن تبكي و تنوح علي الحسين فأقاموا عليه المناحة ثلاثا و كان يزيد لا يتغدي و لا يتعشي الا دعا علي بن الحسين اليه قال فدعاه ذات يوم و دعا عمرو بن الحسن بن علي و هو غلام صغير فقال لعمرو بن الحسن أتقاتل هذا الفتي يعني خالدا ابنه قال لا

ص: 152


1- رق لنا: حدب علينا و أشفق علينا.
2- وضيئة: من الوضاءة و هي الصباحة و الجمال.
3- أرعدت: أي ارتعدت من الاضطراب.
4- فرقت: من الفرق و الخوف.
5- ظالما: أي و هو ظالم.
6- أعزب: أي أبعد عني.
7- حتف: موت و هلاك.

ولكن أعطني سكينا و أعطه سكينا ثم أقاتله فقال له يزيد و أخذه فضمه اليه ثم قال شنشنة أعرفها من أخزم هل تلد الحية الا حية قال و لما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين ثم قال لعن الله ابن مرجانة أما و الله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا الا أعطيتها اياه و لدفعت الحتف (1) عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضي ما رأيت كاتبني و أنه كل حاجة تكون لك قال و كساهم و أوصي بهم ذلك الرسول قال فخرج بهم و كان يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه فاذا نزلوا تنحي عنهم و تفرق هو و أصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم و ينزل منهم بحيث اذا أراد انسان منهم وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا و يسألهم عن حوائجهم و يلطفهم حتي دخلوا المدينة و قال الحارث بن كعب فقالت لي فاطمة بنت علي قلت لأختي زينب يا أخيه لقد أحسن هذا الرجل الشأمي الينا في صحبتنا فهل لك أن نصله فقالت و الله ما معنا شي ء نصله به الا حلينا قالت لها فنعطيه حلينا قالت فأخذت سواري و دملجي (2) و أخذت أختي سوارها و دملجها فبعثنا بذلك اليه و اعتذرنا و قلنا له هذا جزاؤك بصحبتك ايانا بالحسن من الفعل قال فقال لو كان الذي صنعت انما هو للدنيا كان في حليكن ما يرضيني و دونه ولكن و الله ما فعلته الا لله و لقرابتكم من رسول الله صلي الله عليه و سلم.قال هشام و أما عوانة بن الحكم الكلبي فانه قال لما قتل الحسين وجي ء بالأثقال و الأساري حتي وردوا بهم (3) الكوفة الي عبيدالله فبينا القوم محتبسون اذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط و في الكتاب خرج البريد بأمركم في يوم كذا و كذا الي يزيد بن معاوية و هو سائر كذا و كذا يوما و راجع في كذا و كذا فان سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل و ان لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان ان شاء الله قال فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة اذا حجر قد ألقي في السجن و معه كتاب مربوط و موسي و في الكتاب أوصوا و اعهدوا فانما ينتظر البريد يوم كذا

ص: 153


1- الحتف: القتل و الهلاك.
2- الدملج: المعضد.
3- وردوا بهم الكوفة: نزلوها.

و كذا فجاء البريد و لم يسمع التكبير و جاء كتاب بأن سرح الأساري الي قال فدعا عبيدالله بن زياد محفز بن ثعلبة و شمر بن ذي الجوشن فقال انطلقوا بالثقل و الرأس الي أميرالمؤمنين يزيد بن معاوية قال فخرجوا حتي قدموا علي يزيد فقام محفز بن ثعلبة فنادي بأعلي صوته جئنا برأس أحمق الناس و ألأمهم فقال يزيد ما ولدت أم محفر ألأم ولكنه قاطع ظالم قال فلما نظر يزيد الي رأس الحسين قال (1) :يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلماثم قال أتدرون من أين أتي هذا قال أبي علي خير من أبيه و أمي فاطمة خير من أمه و جدي رسول الله خير من جده و أنا خير منه و أحق بهذا الأمر منه فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه و علم الناس أيهما حكم له و أما قوله أمي خير من أمه فلعمري فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و سلم خير من أمي و أما قوله جدي خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله و اليوم الآخر يري لرسول الله فينا عدلا و لا ندا ولكنه انما أتي من قبل (2) فقهه و لم يقرأ (قل اللهم مالك الملك تؤت الملك من تشاء و تنزع الملك من تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير انك علي كل شي ء قدير) ثم أدخل نساء الحسين علي يزيد فصاح نساء آل يزيد و بنات معاوية و أهله و ولولن (3) ثم انهن أدخلن علي يزيد فقالت فاطمة بنت الحسين و كانت أكبر من سكينة أبنات رسول الله سبايا يزيد فقال يزيد يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره قالت و الله ما ترك لنا خرص (4) قال يا ابنة أخي ما آتي اليك أعظم مما أخذ منك ثم أخرجن فأدخلن فأدخلن دار يزيد بن معاوية فلم تبق امرأة من آل يزيد الا أتتهن و أقمن المأتم و أرسل يزيد الي كل امرأة ماذا أخذ لك و ليس منهن امرأة تدعي شيئا بالغا ما بلغ الا قد أضعفه لها فكانت سكينة تقول ما رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية ثم أدخل الأساري اليه

ص: 154


1- و الأصح (و قال).
2- و في رواية (من قلة فقهه).
3- ولولن: ندبن.
4- خرص: كذب.

و فيهم علي بن الحسين فقال له يزيد ايه يا علي فقال علي ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها ان ذلك علي الله يسير لكيلا تأسوا علي ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور فقال يزيد ما أصاب من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير ثم جهزه و أعطاه مالا و سرحه الي المدينة.قال هشام عن أبي مخنف قال حدثني أبو حزة الثمالي عن عبدالله الصمالي عن القاسم بن بخيت قال لما أقبل وفد أهل الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق فقال لهم مروان بن الحكم كيف صنعتم قالوا ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا و الله علي آخرهم و هذه الرؤوس و السبايا فوثب مروان فانصرف و أتاهم أخوه يحيي بن الحكم فقال ما صنعتم فأعادوا عليه الكلام فقال حجبتم عن محمد يوم القيامة لن أجامعكم (1) علي أمر أبدا ثم قام فانصرف و دخلوا علي يزيد فوضعوا الرأس بين يديه و حدثوه الحديث قال فسمعت دور الحديث هند بنت عبدالله بن عامر بن كريز و كانت تحت يزيد بن معاوية فتقنعت بثوبها و خرجت فقالت يا أميرالمؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله قال نعم فأعولي (2) عليه و حدي علي ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم و صريحة (3) قريش عجل عليه (4) ابن زياد فقتله الله ثم أذن للناس فدخلوا و الرأس بين يديه و مع يزيد قضيب فهو ينكت به في ثغره ثم قال ان هذا و ايانا كما قال الحصين بن الحمام المري.يفلقن هاما من رجال أحبة (5) الينا (6) و هم كانوا أعق و أظلماقال فقال رجل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم يقال له أبوبرزة الأسلمي (7) .

ص: 155


1- لن أجامعكم علي أمر: لن أوافقكم عليه.
2- اعولي عليه: من التعويل و هو التعديد.
3- صريحة: خلاصة و صفوة.
4- عجل عليه: قضي عليه.
5- أحبة: جمع مفرده حبيب.
6- من بعض النسخ (علينا) و كلاهما صحيح.
7- راجع ترجمته في الطبقات الكبري (268: 6).

أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا لربما رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم يرشفه أما انك يا يزيد تجي ء يوم القيامة و ابن زياد شفيعك و يجي ء هذا يوم القيامة و محمد صلي الله عليه و سلم شفيعه ثم قام فولي (1) قال هشام حدثني عوانة بن الحكم قال لما قتل عبيدالله بن زياد الحسين بن علي وجي ء برأسه اليه دعا عبدالملك بن أبي الحارث السلمي فقال انطلق حتي تقدم المدينة علي عمرو بن سعيد بن العاص فبشره بقتل الحسين و كان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ قال فذهب ليعتل له فزجره و كان عبيدالله لا يصطلي بناره فقال انطلق حتي تأتي المدينة و لا يسبقك الخبر و أعطاه دنانير و قال لا تعتل و ان قامت بك راحلتك فاشتر راحلة قال عبدالملك فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش فقال ما الخبر فقلت الخبر عند الأمير فقال انا لله و انا اليه راجعون قتل الحسين بن علي قال فدخلت علي عمرو بن سعيد فقال ماوراءك فقلت ما سر الأمير قتل الحسين بن علي فقال نادي بقتله فناديت بقتله فلم أسمع و الله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن علي الحسين فقال عمرو بن سعيد وضحك:عجت نساء بني زياد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرنبو الأرنب وقعة كانت لبني زبيد علي بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبدالمدان و هذا البيت لعمرو بن معد يكرب ثم قال عمرو هذه واعية بواعية عثمان ابن عفان ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.قال هشام عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن عبدالرحمن بن عبيد أبي الكنود قال لما بلغ عبدالله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنية مع الحسين دخل عليه بعض مواليه و الناس يعزونه قال و لا أظن مولاه ذلك الا أبا اللسلاس فقال هذا ما لقينا و دخل علينا من الحسين قال فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله ثم قال:يا ابن اللخناء (2) أللحسين تقول هذا و الله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه

ص: 156


1- ولي: انصرف.
2- اللخناء: النتنة العفنة.

جتي أقتل معه و الله انه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهون علي المصاب بهما انهما أصيبا مع أخي و ابن عمي مواسيين له صابرين معه ثم أقبل علي جلسائه فقال الحمدلله عزوجل علي بمصرع الحسين أن لا يكن آست حسينا يدي فقد آساه ولدي قال و لما أتي أهل المدينة مقتل الحسين خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب و معها نساؤها و هي حاسرة تلوي بثوبها و هي تقول:ماذا تقولون ان قال النبي لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأممبعترتي و بأهلي بعد مفتقدي منهم أساري و منهم ضرجوا بدمقال هشام عن عوانة قال قال عبيدالله بن زياد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين يا عمر أين الكتاب الذي كتبت به اليك في قتل الحسين قال مضيت لأمرك و ضاع الكتاب قال لتجيئن به قال ضاع قال و الله لتجيئني به قال ترك و الله يقرأ علي عجائز قريش اعتذارا اليهن بالمدينة أما و الله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص كنت قد أديت حقه قال عثمان بن زياد أخو عبيدالله صدق و الله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل الا و في أنفه خزامة (1) الي يوم القيامة و أن حسينا لميقتل قال فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيدالله.قال هشام حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن أبي المقدام قال حدثني عمرو بن عكرمة قال أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فاذا مولي لنا يحدثنا قال سمعت البارحة مناديا ينادي و هو يقول:أيها القائلون جهلا حسينا أبشروا بالعذاب و التنكيلكل أهل السماء يدعو عليكم من نبي و ملك (2) و قبيلقد لعنتم علي لسان ابن داو د و موسي و حامل الانجيلقال هشام حدثني عمرو بن حيزوم الكلبي عن أبيه قال سمعت هذا الصوت.

ص: 157


1- خزامة: ثقب في وترة الأنف.
2- و هذا الشطر مكسور و الأصح أن يقول: من نبي مقرب و قبيل.

ص: 158

ذكر اسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين و عدد من قتل من كل قبيلة من القبائل النبي قاتلته

اشارة

قال هشام قال أبومخنف و لما قتل الحسين بن علي عليه السلام جي ء برؤوس من قتل معه من أهل بيته و شيعته و أنصاره الي عبيدالله بن زياد فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا و صاحبهم قيس بن الأشعث و جاءت هوازن بعشرين رأسا و صاحبهم شمر بن ذي الجوشن و جاءت تميم بسبعة عشر رأسا و جاءت بنمو أسد بستة أرؤس (1) و جاءت مذحج بسبعة أرؤس و جاء سائر الجيش بسبعة أرؤس فذلك سبعون رأسا قال و قتل الحسين و أمه فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم قتله سنان بن أنس النخعي ثم الأصبحي و جاء برأسه خولي بن يزيد و قتل العباس بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين ابنة حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد قتله زيد بن رقاد رقاد الجنبي و حكيم بن الطفيل السنسي و قتل جعفر بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين ايضا و قتل عبدالله بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين أيضا و قتل عثمان بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين أيضا رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله و قتل محمد بن أبي طالب و أمه أم ولد قتله رجل من بني أبان بن دارم و قتل أبوبكر بن علي بن أبي طالب و أمه ليلي ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل بن نهشل بن دارم و قد شك في قتله و قتل علي بن الحسين بن علي و أمه ليلي ابنة أبي مرة بن عروة بن أبي طالب

ص: 159


1- أرؤس: جمع مفرده رأس و تجمع علي رؤوس أيضا.

و أمه أم البنين أيضا و قتل عثمان بن علي بن أبي طالب و أمه البنين يضا رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله و قتل محمد بن علي بن أبي طالب و أمه أم ولد قتله رجل من بني أبان بن دارم و قتل أبوبكر بن علي بن أبي طالب و أمه ليلي ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل بن نهشل بن دارم و قد شك في قتله و قتل علي بن الحسين بن علي و أمه ليلي ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي و أمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب قتله مرة بن منقذ ابن النعمان العبدي و قتل عبدالله بن الحسين بن علي و أمه الرباب ابنة امري ء القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب قتله هاني ء بن ثبيت الحضرمي و استصغر علي بن ثبيت الحضرمي و استصغر علي بن الحسين بن علي فلم يقتل و قتل أبوبكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب و أمه أم ولد قتله عبدالله بن عقبة الغنوي و قتل عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب و أمه أم ولد قتله حرملة بن الكاهن رماه بسهم.و قتل القاسم بن الحسن بن علي و أمه أم ولد قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي و قتل عون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب و أمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح من بني فزارة قتله عبدالله بن قطبة الطائي ثم النبهاني و قتل محمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب و أمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن الحارث بن تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل قتله عامر بن نهشل التيمي و قتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب قتله بشر بن حوط الهمداني.و قتل عبدالرحمن بن عقيل و أمه أم ولد قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني و قتل عبدالله بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم ولد رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله و قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم ولد ولد بالكوفة.و قتل عبدالله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب و أمه رقية ابنة علي بن أبي طالب و أمها أم ولد قتله عمرو بن صبيح الثدائي و قيل قتله أسيد بن مالك الحضرمي و قتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل و أمه أم ولد قتله لقيط بن ياسر

ص: 160

الجهني و استصغر الحسن بن الحسن بن علي و أمه خولة ابنة منظور بن زيان بن سيار الفزاري و استصغر عمرو بن الحسن بن علي فترك فلم يقتل و أمه أم ولد و قتل من الموالي سليمان مولي الحسين بن علي قتله سليمان بن عوف الحضرمي و قتل منجح مولي الحسين بن علي و قتل عبدالله بن يقطر رضيع الحسين بن علي.قال أبومخنف حدثني عبدالرحمن بن جندب الأزدي أن عبيدالله بن زياد بعد قتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيدالله بن الحر ثم جاءه بعد أيام حتي دخل عليه فقال أين كنت يا ابن الحر قال كنت مريضا قال مريض القلب أو مريض البدن قال أما قلبي فلم يمرض و أما بدني فقد من الله علي بالعافية فقال له ابن زياد كذبت ولكنك كنت مع عدونا قال لو كنت مع عدوك لري ء مكاني و ما كان مثل مكاني يخفي قال و غفل عنه ابن زياد غفلة فخرج ابن الحر فقعد علي فرسه فقال ابن زياد أين ابن الحر قالوا خرج الساعة قال علي به فأحضرت الشرط فقالوا له أجب الأمير فدفع فرسه ثم قال أبلغوه أني لا آتيه و الله طائعا - أبدا.ثم خرج حتي أتي منزل أحمر بن زياد الطائي فاجتمع اليه في منزله أصحابه ثم خرج حتي أتي كربلاء فنظر الي مصارع القوم فاستغفر لهم هو و أصحابه ثم مضي حتي نزل المدائن و قال في ذلك:قول أمير غادر حق غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمةفياندمي أن لا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادمهو أني لأني لم أكن من حماته لذو حسرة ما ان تفارق لازمهسقي الله أرواح الذين تأزروا علي نصره سقيا من الغيث دائمهوقفت علي أجداثهم و مجالهم فكاد الحشي ينفض و العين ساجمهلعمري لقد كانوا مصاليت في الوغي سراعا الي الهيجا حماة خضارمهتأسوا علي نصر ابن بنت نبيهم بأسيافهم آساد غيل ضراغمه (1) .

ص: 161


1- ضراغم: جمع ضرغام و هو الأسد.

فان يقتلوا فكل نفس (1) تقية لدي الأرض قد أضحت لذلك واجمه (2) و ما ان رأي الراؤون أفضل منهم لدي الموت سادات و زهرا قماقمه (3) أتقتلهم ظلما و ترجو ودادنا فدع خطة ليست لنا بملائمهلعمري لقد راغمتمونا بقتلهم فكم ناقم منا عليكم و ناقمهأهم مرارا أن أسير بجحفل (4) الي فئة زاغت عن الحق ظالمهفكفوا و الا ذدتكم في كتائب أشد عليكم من زخوف الديالمه (5) و في هذه السنة قتل أبوبلال مرداس بن عمرو بن حدير من ربيعة بن حنظلة.

ص: 162


1- الشطر مكسورة و الأصح أن يقول: فانه حصدوا فكل نفس تقية... علي الأرض... ألخ.
2- واجمة: حزينة.
3- قماقمة: يقال اغتسل بالقمقم و القمقمة، و القمقام هو البحر. و قماقم جمع مفرده القمقم.
4- الجحفل: الجيش.
5- الديلمة: الديالمة الأعداء.

ذكر سبب مقتله

قال أبوجعفر الطبري قد تقدم ذكر سبب خروجه و ما كان من توجيه عبيدالله بن زياد اليه أسلم بن زرعة الكلابي في ألفي رجل و التقائهم بآسك و هزيمة أسلم و جيشه منه و من أصحابه فيما مضي من كتابنا هذا و لما هزم مرداس أبوبلال أسلم ابن زرعة و بلغ ذلك عبيدالله بن زياد سرح اليه فيما حدثت عن هشام بن محمد عن أبي مخنف قال حدثني أبوالمخارق الراسبي ثلاثة آلاف عليهم عباد بن الأخضر التميمي فأتبعه عباد يطلبه حتي لحقه بتوج فصف له فحمل عليهم أبوبلال و أصحابه فثبتوا و تعطف الناس عليهم فلم يكونوا شيئا و قال أبوبلال لأصحابه من كان منكم انما خرج للدنيا فليذهب و من كان منكم انما أراد الآخرة و لقاء ربه فقد سبق ذلك اليه و قرأ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته و ما له في الآخرة من نصيب فنزل و نزل أصحابه معه لم يفارقه منهم انسان فقتلوا من عند آخرهم و رجع عباد بن الأخضر و ذلك الجيش الذي كان معه الي البصرة و أقبل عبيدة بن هلال معه ثلاثة نفر هو رابعهم فرصد عباد بن الأخضر فأقبل يريد قصر الامارة و هو مردف ابنا له غلاما صغيرا فقالوا يا عبدالله قف حتي نستفتيك فوقف فقالوا نحن اخوة أربعة قتل أخونا فما تري قال استعدوا الأمير قالوا قد استعديناه فلم يعدنا قال فاقتلوه قتله الله فوثبوا عليه فحكموا و ألقي ابنه فقتلوه و في هذه السنة ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان و خراسان.

ص: 163

ذكر سبب توليته اياه

حدثني عمر قال حدثني علي بن محمد قال حدثنا مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد قال و قد سلم بن زياد علي يزيد بن معاوية و هو ابن أربع و عشرين سنة فقال له يزيد يا أباحرب أوليك عمل أخويك عبدالرحمن و عباد فقال ما أحب أميرالمؤمنين فولاه خراسان و سجستان فوجه سلم الحارث بن معاوية الحارثي جد عيسي بن شبيب من الشأم الي خراسان و قدم سلم البصرة فتجهز و سار الي خراسان فأخذ الحارث بن قيس بن الهيثم السلمي فحبسه و ضرب ابنه شبيبا و أقامه في سراويل و وجه أخاه يزيد بن زياد الي سجستان فكتب عبيدالله بن زياد الي عباد أخيه و كان له صديقا يخبره بولاية سلم فقسم عباد ما في بيت المال في عبيده و فضل فضل فنادي مناديه من أراد سلفا فليأخذ فأسلف كل من أتاه و خرج عباد عن سجستان فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم و كان بينهما جبل فعدل عنه فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف قال فأخذ عباد علي فارس ثم قدم علي يزيد فقال له يزيد أين المال قال كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس قال و لما شخص سلم الي خراسان شخص معه عمران بن الفصيل البرجي و عبدالله بن خازم السلمي و طلحة بن عبدالله بن خلف الخزاعي و المهلب بن أبي صفرة و حنظلة بن عرادة و أبوحزابة الوليد بن نهيك أحد بني ربيعة بن حنظلة و يحيي بن يعمر العدواني حليف هذيل و خلق كثير من فرسان البصرة و أشرافهم فقدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية الي عبيدالله بن زياد بنخبة ألفي رجل ينتخبهم و قال غيره بل نخبة ستة آلاف قال فكان سلم ينتخب الوجوه و الفرسان و رغب قوم في الجهاد فطلبوا اليه أن يخرجهم فكان أول من أخرجه سلم حنظلة بن عرادة فقال له عبيدالله بن زياد دعه لي قال هو بيني و بينك فان اختارك فهو لك و ان اختارني فهو لي.قال فاختار سلمان و كان الناس يكلمون سلما و يطلبون اليه أن يكتبهم معه و كان صلة بن أشيم العدوي يأتي الديوان فيقول له الكاتب يا أبا الصهباء ألا أثبت اسمك فانه وجه فيه جهاد و فضيل فيقول له أستخير الله و أنظر فلم يزل

ص: 164

يدافع حتي فرغ من أمر الناس فقالت له أمرأته معاذة ابنة عبدالله العدوية ألا تكتب نفسك قال حتي أنظر ثم صلي و استخار الله.قال فرأي في منامه آتيا أتاه فقال له أخرج فانك تربح و تفلح و تنجح فأتي الكاتب فقال له أثبتني قال قد فرغنا و لن أدعك فأثبته و ابنه فخرج سلم فصيره سلم مع يزيد بن زياد فسار الي سجستان، قال و خرج سلم و أخرج معه أم محمد ابنة عبدالله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي و هي أول امرأة من العرب قطع بها النهر قال و ذكر مسلمة بن محارب و أبوحفص الأزدي عن عمان بن حفص الكرماني أن عمال خراسان كانوا يغزون فاذا دخل الشتاء قفلوا من مغازيهم الي مرو الشاهجان فاذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان في مدينة من مدائن خراسان مما يلي خارزم فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضا و لا يهيج أحد أحدا و يتشاورون في أمورهم فكان المسلمون يطلبون الي أمرائهم في غزو تلك المدينة فيأبون عليهم فلما قدم سلم خراسان غزا فشبا في بعض مغازيه قال فألح عليه المهلب و سأله أن يوجهه الي تلك المدينة فوجهه في ستة آلاف و يقال أربعة آلاف فحاصرهم فسألهم أن يذعنوا له بالطاعة فطلبوا اليه أن يصالحهم علي أن يفدوا أنفسهم فأجابهم الي ذلك فصالحوه علي نيف و عشرين ألف ألف قال و كان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضا فكان يأخذ الرأس بنصف ثمنه و الدابة بنصف ثمنها و الكيمخت بنصف ثمنه فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف فحظي بها المهلب عند سلم و اصطفي سلم من ذلك ما أعجبه و بعث به الي يزيد مع مرزبان مرو و أوفد في ذلك وفدا.قال مسلمة و اسحاق بن أيوب غزا سلم سمرقند بامرأته أم محمد ابنة عبدالله فولدت لسلم ابنا فسماه صغدي - قال علي بن محمد ذكر الحسن بن رشيد الجوزجتني عن شيخ من خزاعة عن أبيه عن جده قال غزوت مع سلم بن زياد خوارزم فصالحوه علي مال كثير ثم عبر الي سمرقند فصالحه أهلها و كانت معه امرأته أم محمد فولدت له في غزاته تلك ابنا و أرسلت الي امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليا فبعثت اليها بتاجها و قفلوا فذهبت بالتاج.و في هذه السنة عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة و ولاها الوليد بن

ص: 165

عتبة حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن حدثه عن اسحاق بن عيسي عن أبي معشر قال نزع يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد لهلال ذي الحجة و أمر الوليد بن عتبة علي المدينة فحج بالناس حجتين سنة 61 و سنة 62 و كان عامل يزيد بن معاوية في هذه السنة علي البصرة و الكوفة عبيدالله بن زياد و علي قضاء البصرة هشام بن هبيرة و علي قضاء الكوفة شريح.و فيها أظهر ابن الزبير الخلاف علي يزيد و خلعه و فيها بويع له.ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة و توليته عليها الوليد بن عتبةو كان السبب في ذلك و سبب اظهار عبدالله بن الزبير الدعاء الي نفسه فيما ذكر هشام عن أبي مخنف عن عبدالملك بن نوفل قال حدثني أبي قال لما قتل الحسين عليه السلام قال ابن الزبير في أهل مكة و عظم مقتله و عاب علي أهل الكوفة خاصة و لام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمدالله و أثني عليه و صلي علي محمد صلي الله عليه و سلم أن أهل العراق غدر فجر الا قليلا و ان أهل الكوفة شرار أهل العراق و أنهم دعوا حسينا لينصروه و يولوه عليهم فلما قدم عليهم ثاروا اليه فقالوا له اما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك الي ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه و اما أن تحارب فرأي و الله انه هو و أصحابه قليل في كثير و ان كان الله عزوجل لم يطلع علي الغيب أحدا أنه مقتول ولكنه اختار الميتة الكريمة علي الحياة الذميمة فرحم الله حسينا و أخزي قاتل حسين لعمري لقد كان من خلافهم اياه و عصيانهم ما كان في مثله واعظ وناه ولكنه ما حم نازل و اذا أراد الله أمرا لن يدفع أفبعد الحسين نطمئن الي هؤلاء القوم و نصدق قولهم و نقبل لهم عهدا لا و لا نراهم لذلك أهلا أما و الله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار صيامه أحق بما هم فيه منهم و أولي به في الدين و الفضل أما و الله ما كان يبدل بالقرآن الغناء و لا بالبكاء من خشية الله الحداء و لا بالصيام شرب الحرام و لا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب (1) الصيد يعرض بيزيد فسوف

ص: 166


1- تطلاب: طلب.

يلقون غيا فثار اليه أصحابه فقولوا له أيها الرجل أظهر بيعتك فانه لم يبق أحد اذا هلك حسين ينازعك هذا الأمر و قد كان يبايع الناس سرا و يظهر أنه عائذ بالبيت فقال لهم لا تعجلوا و عمرو بن سعيد بن العاص يومئذ عامل مكة و قد كان أشد شي ء عليه و علي أصحابه و كان مع شدته عليهم يداري و يرفق فلما استقر عند يزيد بن معاوية ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة أعطي الله عهدا ليوثقنه في سلسلة فبعث بسلسلة من فضة فمر بها البريد علي مروان بن الحكم بالمدينة فأخبر ما قدم له و بالسلسلة التي معه فقال مروان:خذها فليست للعزيز بخطة (1) و فيها مقال لامري ء متضعفثم مضي من عنده حتي قدم علي ابن الزبير فأتي ابن الزبير فأخبره بممر البريد علي مروان و تمثل مروان بهذا البيت فقال ابن الزبير لا و الله أكون أنا ذلك المتضعف ورد ذلك البريد ردا رقيقا.و علا أمر ابن الزبير بمكة كاتبه أهل المدينة و قال الناس أما أذهلك الحسين عليه السلام فليس أحد ينازع ابن الزبير.ثنا نوح بن حبيب القومسي قال حدثنا هشام بن يوسف و حدثنا عبيدالله بن عبدالكريم قال حدثنا عبدالله بن جعفر المديني قال حدثنا هشام بن يوسف و اللفظ لحديث عبيدالله قال أخبرني عبدالله بن مصعب قال أخبرني موسي بن عقبة عن ابن شهاب قال أخبرني عبدالعزيز بن مروان قال لما بعث يزيد بن معاوية ابن عضاه الأشعري و مسعدة و أصحابهما الي عبدالله بن الزبير بمكة ليؤتي به في جامعة لتبر يمين يزيد بعث معهم بجامعة من ورق و برنس خز فأرسلني أبي و أخي معهم و قال اذا بلغته رسل يزيد الرسالة فتعرضا له ثم ليتمثل أحدكما:فخذها فليست للعزيز بخطة و فيها مقال لامري ء متذلل

ص: 167


1- لا يستقيم وزن البيت الا بحذف الواو فيقول: - خذها فليست للعزيز بخطة فيها مقال لامري ء متضعف و البيت من بحر الكامل.

أعامر ان القوم ساموك (1) خطة و ذلك في الجيران غزل بمغزلأراك اذا ما كنت للقوم ناصحا يقال له بالدلو أدبر و أقبلقال فلما بلغته الرسل الرسالة تعرضنا فقال لي أخي اكفينها فسمعني فقال أي ابني مروان و قد سمعت ما قلتما و علمت ما ستقولانه فأخبرا أباكما:اني لمن نبعة (2) صم مكاسرها اذا تناوحت (3) القصباء (4) و العشرفلا ألين لغير الحق أسأله حتي يلين لضرس الماضغ الحجرقال فما أدري أيهما كان أعجب زاد عبدالله في حديثه عن أبي علي قال فذاكرت بهذا الحديث مصعب بن عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير فقال قد سمعته من أبي علي نحو الذي ذكرت له و لم أحفظ اسناده قال هشام عن خالد بن سعيد عن أبيه سعيد بن عمرو بن سعيد أن عمرو بن سعيد لما رأي الناس قد أشرأبوا (5) الي ابن الزبير و مدوا اليه اعناقهم ظن أن تلك الأمور تامة له فبعث الي عبدالله بن عمرو بن العاص و كانت له صحبة و كان مع أبيه بمصر و كان قد قرأ كتب دنيال هنالك و كانت قريش اذ ذاك تعده عالما فقال له عمرو بن سعيد أخبرني عن هذا الرجل أتري ما يطلب تاما له و أخبرني عن صاحبي الي ما تري أمره صائرا اليه فقال لا أري صاحبك الا أحد الملوك الذين تتم لهم أمورهم حتي يموتوا و هم ملوك فل يزدد عند ذاك الا شدة علي الزبير و أصحابه مع الرفق بهم (6) و المداراة لهم ثم ان الوليد بن عقبة و ناسا معه من بني أمية قالوا ليزيد بن معاوية لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير و بعث به اليك فسرح الوليد بن عتبة علي الحجاز أميرا و عزل عمرا و كان عزل يزيد عمرا عن الحجاز و تأميره عليها الوليد بن عتبة في هذه السنة أعني سنة 61.

ص: 168


1- ساموك: من سوم.
2- نبعة: شجرة.
3- تنادحت: من ناحت.
4- القصباء و الحلفاء و الطرفاء واحد.
5- اشرأبوا اليه: تطلعوا اليه.
6- الرفق بهم: الحلم و الأناة و الترفق و التحنن.

قال أبوجعفر حدثت عن محمد بن عمر قال نزع يزيد عمرو بن سعيد بن العاص لهلال ذي الحجة سنة 61 و ولي الوليد بن عتبة فأقام الحجة سنة 61 بالناس و أعاد ابن ربيعة العامري علي قضائه. و حدثني أحمد بن ثابت قال حدثت عن اسحاق بن عيسي عن أبي معشر قال حج بالناس في سنة 61 الوليد بن عتبة و هذا مما لا اختلاف فيه بين أهل السير و كان الوالي في هذه السنة علي الكوفة و البصرة عبدالله بن زياد و علي قضاء الكوفة شريح و علي قضاء البصرة هشام بن هبيرة و علي خراسان سلم بن زياد.

ص: 169

ص: 170

ثم دخلت سنه ي اثنين و ستين

اشارة

ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك مقدم وفد أهل المدينة علي يزيد بن معاوية ذكر الخبر عن سبب مقدمهم عليهو كان السبب في ذلك فيما ذكر لوط بن يحيي عن عبدالملك بن نوفل بن مساحق عن عبدالله بن عروة أن يزيد بن معاوية لما سرح الوليد بن عتبة علي الحجاز أميرا و عزل عمرو بن سعيد قدم الوليد المدينة فأخذ غلمانا كثيرا لعمرو و موالي له فحبسهم فكلمه فيهم عمرو فأبي أن يخليهم و قال له لا تجزع يا عمرو فقال أخوه أبان بن سعيد بن العاص أعمر يجزع و الله لو قبضتم علي الجمر و قبض عليه ما تركه حتي تتركوه و خرج عمرو سائرا حتي نزل من المدينة علي ليلتين و كتب الي غلمانه و مواليه و هم نحو من ثلثمائة رجل اني باعث الي كل رجل منكم جملا و حقيبة و أداته و تناخ لكم الابل في السوق فاذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن ثم ليقم كل رجل منكم الي جمله فليركبه ثم أقبلوا علي حتي تأتوني فجاء رسوله حتي اشتري الابل ثم جهزها بما ينبغي لها ثم أناخها في السوق ثم أتاهم حتي أعلمهم ذلك فكسروا باب السجن ثم خرجوا الي الابل فاستووا عليها ثم أقبلوا حتي انتهوا الي عمرو بن سعيد فوجدوه حين قدم علي يزيد بن معاوية فلما دخل عليه رحب و أدني مجلسه ثم أنه عاتبه في تقصيره في أشياء كان يأمره بها في ابن الزبير فلا ينفذ منها الا ما أراد فقال يا أميرالمؤمنين الشاهد يري ما لا يري الغائب و ان جل أهل مكة و أهل المدينة قد كانوا مالوا اليه و هووه و أعطوه الرضا و دعا بعضهم بعضا سرا و علانية و لم يكن معي جند

ص: 171

أقوي بهم عليه لو ناهضته و قد كان يحذرني و يتحرز (1) مني و كنت أرفق به و أداريه لأستمكر منه فأثب عليه مع أني قد ضيقت و منعته من أشياء كثيرة لو تركته و اياها ما كانت له الا معونة و جعلت علي مكة و طرقها و شعابها (2) رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتي يكتبوا الي باسمه و اسم أبيه و من أي بلاد الله هو و ما جاء به و ما يريد فان كان من أصحابه أو ممن أري أنه يريده رددته صاغرا و ان كان ممن لا أتهم خليت سبيله و قد بعثت الوليد و سيأتيك من عمله و أثره ما لعلك تعرف به فضل مبالغتي في أمرك و مناصحتي لك ان شاء الله و الله يصنع لك و يكبت عدوك يا أميرالمؤمنين فقال له يزيد أنت أصدق ممن رقي هذه (3) الأشياء عنك و حملني بها عليك و أنت ممن أثق به و أرجو معونته و أدخره لرأب الصدع (4) و كفاية المهم و كشف نوازل الأمور العظام فقال له عمرو و ما أري يا أميرالمؤمنين أن أحدا أولي بالقيام بتشديد سلطانك و توهين (5) عدوك و الشدة علي من نابذك (6) مني و أقام الوليد بن عتبة يريد ابن الزبير فلا يجده الا متحذرا متمنعا و ثار نجدة بن عامر الحنفي باليمامة حين قتل الحسين وقار ابن الزبير فكان الوليد يفيض من المعرف و تفيض معه عامة الناس و ابن الزبير واقف و أصحابه و نجدة واقف في أصحابه ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه و نجدة بأصحابه لا يفيض واحد منهم بافاضة صاحبه و كان نجدة يلقي ابن الزبير فيكثر.

ص: 172


1- يتحرز من: يحترس و يحتاط.
2- الشعاب: جمع مفرده الشعب و هو الطريق بين جبلين.
3- رقي الأشياء: نماها و رفعها.
4- رأي الصدع: سد الثلمة و رتق الفتق و اصلاح الفاسد.
5- توهين: اضعاف دمنه الوهن و الوهي.
6- من نابذك: من شتمك و عاداك.

راس الحسين

اشاره

للامام العلامة شيخ الاسلام تقي الدينأبي العباس أحمد بن تيمية728 - 661 هتحقيق و دراسةالدكتور السيد الجميلي

ص: 173

ص: 174

للامام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحر اني الدمشقي

ولد الامام العلامة ابن تيمية (1) سنة 661 ه في أيام الملك الظاهر بيبرس و الذي كان حاكما علي مصر و الشام آنذاك، و قد كان من أقوي الملوك المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي.و قد ولد ابن تيمية بعد تدمير بغداد بخمس سنوات، و دخل التتار حلب و دمشق قبل مولده بثلاث سنوات فلما شب و كبر و حكي له معاصر و هذه الحملات الضارية و الوحشية من التتار، حتي أن مسقط رأسه (حران) لم تسلم من أذي هؤلاء القوم المجرمين الذين لم يراعوا الله و لا الانسانية في هذه البلاد الآمنة. و سمع ابن تيمية و رأي و هو صبي أنهار الدماء المسفوك المسفوح تجري حوله من كل مكان و هو ابن سبع سنين تقريبا في بلدته حران التي نشأت فيها أسرته و بيته.و في هذه الجو المشحون بالكمد و الاحن نهض لفيف من العلماء و الأئمة الكبار و الفقهاء أمثال ابن الصلاح و النووي و العز بن عبدالسلام و المزي و الذهبي، كما نبغ في عصر ابن تيمية أيضا قاضي القضاة كمال الدين

ص: 175


1- راجع ترجمة شيخ الاسلام ابن تيمية في فوات الوفيات (45 - 35: 1) و الدرر الكامنة (144: 1) و البداية و النهاية (135: 14) و ابن الوردي (284: 2) و آداب اللغة (243: 3) و النجوم الزاهرة (271: 9) و تهذيب ابن عساكر (28: 2) و دائرة المعارف الاسلامية (109: 1).

الزملكاني، و القزويني و السبكي و ابن حيان التوحيدي. و رغم وجود هؤلاء العلماء الأفذاذ الا أن العلماء كان مقسما بالبساطة و السطحية و قلة التعمق في المسائل الفقهية و الشرعية.و اتسم الفقه آنئذ بالجمود و التحجر و ليس ثمة أضر علي الاسلام و المسلمين من تحجر الفكر و جمود القرائح و هذا ما حدث ابان الحروب التترية و الصليبية في عصر ابن تيمية.و اذا احتدمت الحروب لجأ الناس الي الدين، و ما أضر الناس و لا أضر المسلمين مثل القضايا الجدلية و المسائل الكلامية و الفلسفة السفسطائية التي تظهر فصاحة و بيانا و تضمر جهلا مشينا بحقائق الدين و فطرته الجميلة.و قد كانت أسرة العلامة الفقيه الحافظ ابن تيمية أسرة علم و فضل علي مذهب الامام أحمد بن حنبل بل كانت زعيمة للمذهب الحنبلي في تلك الديار اذ كان جده اماما للمذهب الحنبلي في عصره.قال الذهبي: - «قال لي شيخ الاسلام ابن تيمية بنفسه أن الشيخ ابن مالك كان يقول: لقد ألان الله الفقه لممجد الدين بن تيمية كما ألان الحديد لداود عليه السلام» ا. ه.و قد درس ابن تيمية العلوم المعروفة في عصره و عني عناية خاصة باللغة العربية و النحو و الصرف كما اهتم بدارسة الحساب و الرياضة و الحظ و أبدي اهتماما خاصا بالفقه و علم الأصول و الحديث و التفسير و علم الفرائض، و لعل علم التفسير كان من أحب العلوم و آثرها عند ابن تيمية حتي قيل انه كان يقرأ في الآية الواحدة نحو مائة تفسير، تأمل قوله في ذلك: -«ربما طالعت علي الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم و أقول يا معلم آدم و ابراهيم علمني، و كنت أذهب الي المساجد المهجورة و نحوها، و أمرغ وجهي في التراب و أسأل الله و أقول: يا معلم ابراهيم فهمني» ا. ه.

ص: 176

و قد كان ابن تيمية رحمه الله متوقد الذكاء كثير الزكانة و الفطنة سريع الفهم و الاستيعاب فقد كان يفتي في أمور الدين و هو ابن الثانية و العشرين من عمره.و مصنفات ابن تيمية و مؤلفاته تدل علي سعة اطلاعه و عمق ثقافته و قوة شخصية فهو عندما يعرض لمسألة من المسائل أو قضية من القضايا يحشد لك كل البراهين و الأدلة العقلية و العلمية ليقوي بها حجته و يؤكد بها رأيه و هو لا ينفك يستشهد بآيات القرآن الكريم في كل ما يتعرض له من أدلة و اثباتات فقهية أو شرعية و هو بذلك لا يترك القاري ء حتي يقنعه تماما بوجهة نظره و صلابة رأيه.و لا يخفي علي أحد أن تيمية حمل لواء بعث الفكر الاسلامي و تجديد العلوم الشرعية و رفع لواء التوحيد و محاربة البدع و الأهواء و الردود العنيفة القوية علي الفرق الهالكة التي كادت للاسلام و نقده العنيف المر للفلسفة و الميتافيزيقا و علم الكلام و ترجيح منهج الكتاب و السنة و أسلوبهما علي كل أسلوب و منهج.لقد كان ابن تيمية حربا حامية الوطيس لم يخمد لظاها و ما أخبي سعيرها علي رعونة المبتدعين في عصره انما كان سيفا مصلتا علي رقاب الخارجين و المارقين المرجفين.و قد أورد الحافظ ابن كثير في كتابه التاريخي المشهور (البداية و النهاية) كثيرا من مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره.و قد كانت ثمة صراعات شتي بين ابن تيمية و تلميذه ابن القيم الجوزية من ناحية و بين الصوفية من ناحية أخري و قد شدد علي أقطابهم و لاسيما الذين قالوا بالحلول و بالوحدة أمثال محيي الدين بن عربي و الحلاج و رماهم بالزندفة و الكفر و الالحاد.و لقاء اخلاصه في دعوته كابد ابن تيمية رحمه الله و عاني من البطش و التعذيب فقد كاد له خصومه و أعداؤه و دخل السجن مرات عديدة، و قد توفي و هو في السجن رحمه الله و جزاه عن الاسلام خيرا و ألحقنا به في دار كرامته. آمين.السيد الجميلي.

ص: 177

ص: 178

عملنا في هذا الكتاب

قمنا بتحقيق النصوص من مجموع الفتاوي لابن تيمية و قد تضمنها المجلد السابع و العشرون من ص 450 الي ص 490.

ناقشنا آراء ابن تيمية و في حالة عدوله عن الحقيقة - بحسن نية طبعا - رددنا عليه بآراء العلماء و المؤرخين الكبار الذين أخذ عنهم مثل الطبري و المسعودي و ابن عبد ربه و القاضي ابن العربي و الامام القرطبي.

قمنا بتصويب الأخطاء الاملائية و التصحيفات و التحريفات و شرحنا معاني الألفاظ الغامضة.

خرجنا الآيات و الأحاديث التي أوردها ابن تيمية رحمه الله حتي تكتمل الفائدة و يتيسر النقع.

أبدينا رأينا الشخصي في بعض المواضع التي تقتضي ذلك.رحم الله ابن تيمية و من نهج نهجه و حمل لواءه في نصر السنة و قمع البدعة.

ص: 179

ص: 180

بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، و هداة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين، و أعانهم علي تحقيق الحق المبين، و اخماد شغب المبطلين: في المشهد المنسوب الي الحسين رضي الله عنه بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا؟و هل حمل رأس الحسين الي دمشق، ثم الي مصر، أم حمل الي المدينة من جهة العراق؟.و هل لما يذكره في بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان من صحة أم لا؟.و من ذكر أمر رأس الحسين، و نقله الي المدينة النبوية دون الشام و مصر؟.و من جزم من العلماء المتقدمين و المتأخرين بأن مشهد عسقلان و مشهد القاهرة مكذوب، و ليس بصحيح؟و ليبسطوا القول في ذلك، لأجل مسيس الضرورة و الحاجة اليه، مثابين مأجورين ان شاء الله تعالي.

ص: 181

ص: 182

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله

بل المشهد المنسوب الي الحسين بن علي - رضي الله عنهما - الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع اليهم المسلمون في مثل ذلك، لعلمهم و صدفهم. و لا يعرف عن عالم مسمي معروف بعلم و صدق أنه قال: ان هذا المشهد صحيح. و انما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف، علي عادة من يحكي من مقالات الرافضة (1) و أمثالهم من أهل الكذب.فانهم ينقلون أحاديث و حكايات، و يذكرون مذاهب و مقالات. و اذا

ص: 183


1- و من الروافض السبئية الذين أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه، فقال بعضهم لعل أنت الاله، فأحرق عي قوما منهم، و نفي زعيمهم عبدالله بن سبأ الي ساباط المدائن، و هذه ليست فرقة اسلامية لأنهم قالوا أن عليا اله. ثم افترقت الرافضة - بعد زمان علي رضي الله عنه أربعة أصناف: زيدية و امامية، و كيسانية و غلاة، و افترقت الزيدية فرقا و الامامية فرقا، و الغلاة فرقا، و كل فرقة تكفر سائرها، و جميع فرق الغلاة خارجون عن فرق الاسلام، و قد جعل البغدادي فرقة الزيدية من الرافضة، مع أن الزيدية أتباع زيدين علي الباقين علي اتباع و الرافضة هم الذين كانوا معه ثم تركوه. راجع الفرق بين الفرق للبغدادي بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد ص 21 بتصرف ط. دار المعرفة بلبنان، و مقالات الاسلاميين (129: 1) و مروج الذهب للمسعودي (220: 3) ط. دار المعرفة أيضا. و عن الكيسانية أرجو مراجعة مروج الذهب (87: 3) و عن الامامة تحدث المسعودي أيضا (236: 3) فراجعه.

طالبتهم بمن قال ذلك و نقله؟ لم يكن لهم عصمة يرجعون اليها. و لم يسموا أحدا معروفا بالصدق في نقله، و لا بالعلم في قوله. بل غاية ما يعتمدون عليه. أن يقولوا: أجمعت طائفة الحقة. و هم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، و سائر الأمة كفار.و يقولون: انما كانوا علي الحق لأن فيهم الامام المعصوم، و المعصوم عند الرافضة الامامية الاثني عشرية (1) : هو الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري، سنة ستين و مائتين. و هو الي الآن لم يعرف له خبر، و لا وقع له أحد علي عين و لا أثر.و أهل العلم بأنساب أهل البيت (2) يقولون: ان الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل و لا عقب. و لا ريب أن العقلاء كلهم لا يعدون مثل هذا القول.و اعتقاد الامامة و العصمة في مثل هذا: مما لا يرصاه لنفسه الا من هو أسفه الناس، و أضلهم و أجهلهم. و بسط الرد عليهم له موضع غير هذا (3) .و المقصود هنا: بيان جنس المقولات و المنقولات عند أهل الجهل و الضلالات.فان هذا المنتظر عند الجهال الضلال: يزعمون أنه عند موت أبيه. كان عمره اما سنتين، أو ثلاثا، أو خمسا، علي اختلاف بينهم في ذلك.و قد علم بنص القرآن و السنة المتواترة، و جماع (4) الأمة: أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه و ماله. فتكون نفسه محضونة مكفولة لمن

ص: 184


1- و الامامية خمس عشرة فرقة منها الاثنا عشرية. راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ص 23 بتصرف.
2- مثل الزبير بن بكار نسابة قريش.
3- راجع كتابه (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة و القدرية).
4- كذا ورد بالاصل و لعل الأصوب (اجماع).

يستحق كفالته الشرعية، تحت من يستحق النظر في ماله من وصي أو غيره. و هو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة. فاذا بلغ السبع أمر بها، فاذا بلغ العشر و لم يصل أدب علي فعلها. فكيف يكون مثل هذا اماما معصوما، يعلم جميع الدين، و لا يدخل الجنة الا من يؤمن به؟!ثم بتقدير وجوده، و امامته و عصمته، انما يجب علي الخلق أن يطيعوا من يأمرهم بما أمرهم الله به و رسوله، و ينهاهم عما نهاهم عنه الله و رسوله، فاذا لم يروه و لم يسمعوا كلامه، لم يكن لهم طريق الي العلم بما يأمر به و ما ينهي عنه، فلا يجوز تكليفهم طاعته، اذ لم يأمرهم يشي ء، و طاعة من لا يأمر، ممتنعة لذاتها، و ان قدر أنه يأمر، و لم يصل اليهم أمره، و لا يتمكنون من العلم بذلك، كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به، و التمكن من العلم شرط في الأمر، لاسيما عند الشيعة المتأخرين، فانهم من أشد الناس منعا لتكليف ما لا يطاق، لموافقتهم المعتزلة في القدر و الصفات أيضا.و ان قيل: ان ذلك بسبب ذنوبهم، لأنهم أخافوه أن يظهر.قيل: هب أن أعداءه أخافوه، فأي ذنب لأوليائه و محبيه، و أي منفعة لهم من الايمان به، و هو لا يعلمهم شيئا و لا يأمرهم بشي ء؟ثم كيف جاز له - مع وجوب الدعوة عليه - أن يغيب هذه الغيبة التي لها الآن (1) أكثر من أربعمائة و خمسين سنة.و ما الذي يسوغ له هذه الغيبة، دون آبائهم الموجودين قبل موتهم: كعلي، و الحسن، و الحسين، و علي بن الحسين، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد، و موسي بن جعفر، و علي بن موسي، و محمد بن علي، و علي بن محمد، و الحسين بن علي العسكري؟!فان هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس و قد أخذ عن علي و الحسين

ص: 185


1- الآن أي عصر ابن تيمية رحمه الله المتوفي سنة 728 ه و من هذه الغيبة الي عصرنا هذا 1137 سنة ه.

و الحسين، و علي بن الحسين، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد - من العلم ما هو معروف عند أهله، و الباقون لهم سبر معروفة، و أخبار مكشوفة.فما باله استحل هذا الاختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة، و هو امام الأمة، بل هو علي زعمهم، هاديها و داعيها و معصومها، الذي يجب عليها الايمان به. و من لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم؟فان قالوا: الخوف.قيل: الخوف علي آبائه كان أشد، بلا نزاع بين العلماء، و قد حبس بعضهم.ثم الخوف انما يكن اذا حارب. فأما اذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين و تعليمهم لم يكن عليه خوف.و بيان ضلال هؤلاء طويل.و انما المقصود بيانه هنا: أنهم يجعلون هذا أصل دينهم.ثم يقولون: اذا اختلفت الطائفة الحقة علي قولين، و أحدهما يعرف قائله، و الآخر، لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله الحق، و هكذا وجدته في كتب شيوخهم، و عللوا ذلك، بأن القول لا يعرف هو قائله يكون من قائليه الامام المعصوم، و هذا نهاية الجهل و الضلال.و هكذا ما ينقلونه من هذا الباب، ينقلون سيرا و حكايات و أحاديث، اذا ما طالبتهم باسنادها، لم يحلوك علي رجل معروف بالصدق، بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله، أو قرأه في كتاب ليس فيه اسناد معروف، و ان سموا أحدا: كان من المشهورين بالكذب و البهتان. لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرفه علماء السنة الا عن مجهول لا يعرف، أو عن معروف بالكذب.و من هذا الباب نقل الناقل: أن هذا مشهد الحسين رضي الله عنه، بل و كذلك مشاهير غير هذا مضافة الي الحسين، بل و مشاهد مضافة الي قبر

ص: 186

الحسين رضي الله عنه، فانه باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع و أربعين و خمسمائة و أنه نقل من مشهد بعسقلان! و أن ذلك المشهد - بعسقلان - كان قد أحدث بعد التسعين و أربعمائة.فأصل هذا المشهد القاهري: هو ذلك المشهد العسقلاني. و ذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة و ثلاثين سنة، و هذا بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة، و هذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، علي اختلاف أصنافهم - كأهل الحديث، و مصنفي أخبار القاهرة، و مصنفي التواريخ، و ما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة (1) . و هذا بينهم مشهور متواتر، سواء قيل: ان اضافته الي الحسين صدق أو كذب - لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية.و اذا كان أصل هذا المشهد القاهري هو ما نقل عن ذلك المشهد العسقلاني باتفاق الناس و بالنقل المتواتر، فمن المعلوم أن قول القائل: ان ذلك الذي بعسقلان هو مبني علي رأس الحسين رضي الله عنه: قول بلا حجة أصلا. فان هذا لم ينقله أحد من أهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا لا من أهل الحديث. و لا من علماء الأخبار و التواريخ، و لا من العلماء المصنفين في النسب: نسب قريش أو نسب بني هاشم و نحوه.و ذلك المشهد العسقلاني: أحدث في آخر المائة الخامسة، لم يكن قديما، و لا كان هناك مكان قبله، أو نحو مضاف الي الحسين، و لا حجر منقوش و لا نحوه مما يقال، انه علامة علي ذلك.فتبين بذلك: أن اضافة المضيف مثل هذا الي الحسين قول بلا علم أصلا. و ليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدا، لا نقل صحيح و لا ضعيف، بل لا فرق بين ذلك و بين أن يجي ء الرجل الي بعض القبور التي

ص: 187


1- يقول القرطبي في التذكرة (668: 2): «و الامامية تقول ان الرأس أعيد الي الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من القتل، و هو يوم معروف عندهم يسمون الزيادة فيه زيادة الأربعين، و ما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشي ء باطل لا يصح و لا يثبت» م ه.

بأمصار المسلمين، فيدعي أن في واحد منها رأس الحسين أو يدعي أنه قبر نبي من الأنبياء، أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب و الضلال.و من المعلوم أن مثل هذا القول غير مقبول باتفاق المسلمين.و غالب ما يستند اليه الواحد من هؤلاء: أن يدعي أنه رأي مناما، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل علي صلاح ساكنه: اما رائحة طيبة، و اما خرق عادة و نحو ذلك، و اما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يعظم ذلك القبر.فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب، و قد عرفنا في زماننا بمصر و الشام و العراق من يدعي أنه رأي منامات تتعلق ببعض البقاع انه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، و نحو ذلك، و يكون كاذبا. و هذا الشي ء منتشر.فرائي المنام قد يكون كاذبا، و بتقدير صدقه: فقد يكون الذي أخبره بذلك شيطان.و الرؤيا المحضة التي لا دليل يدل علي صحتها لا يجوز أن يثبت بها شي ء بالاتفاق، فانه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، و رؤيا مما يحدث به المرء نفسه، و رؤيا من الشيطان» (1) .

ص: 188


1- قال تعالي: «لهم البشري في الحياة الدنيا و في الآخرة» قالوا انها الرؤيا الصادقة يراها المؤمن أو تري له. أما الرؤيا التي تنجم عن حديث المرء نفسه فهذه ترجع الي اضطرابات نفسية ينطلق فيها اللاشعور بالرغبات المكبوتة فيري الحالم أمنياته الشاقة التي لم تتحقق في اليقظة يراها تتحقق في المنام. أما رؤيا الشياطين و هي الأحلام فقد ورد فيها قوله تعالي: «قالوا أضفاث أحلام، و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» يوسف (44:12) و في الحديث الصحيح أن النبي صلي الله عليه و سلم أتاه رجل فقال يا رسول الله رأيت كأن رأسي قطع و أنا أتبعه، فقال لا تتحدث بتلاعب الشيطان بك في المنام. راجع تعطير الأنام في تعبير المنام للنابلسي طبعة الحلبي (4: 1).

فاذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلابد من تمييز نوع منها من نوع.و من الناس - حتي من الشيوخ الذين لهم علم و زهد - من يجعل مستنده في مثل ذلك: حكاية يحكيها عن مجهول. حتي يقول: حدثني أخي الخضر أن قبر الحسين بمكان كذا و كذا - و من المعلوم الذي بيناه في غير هذا الموضع أن الخضر قد مات (1) - أو رأي شخصا يقول: اني الخضر، أو ظن الرائي أنه الخضر، ان كل ذلك لا يجوز.و أما ما يذكر من وجود رائحة طيبة، أو خرق عادة أو نحو ذلك بتعلق بالقبر: فهذا لا يدل علي تعينه، و أنه فلان أو فلان، بل غاية ما يدل عليه - اذا ثبت - أن ذلك دليلا علي صلاحه، و أنه قبر رجل صالح أو نبي (2) .و قد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض المكتسبين من القبر، فان هذا مما يفعله من هؤلاء، كما حدثني بعض أصحابنا: أنه ظهر بشاطي ء الفرات رجلان، كان عند أحدهما قبر تجبي عليه أموال ممن يزوره و ينذر له من الضلال، فعمد الآخر الي قبر - زعم أنه رأي في المنام أنه قبر عبدالرحمن بن عوف - و جعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة.و قد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع - الذي يقال انه قبر نوح - و كان قد ظهر قريبا في أثناء المائة السابعة، و أصله: أنهم شموا من قبر

ص: 189


1- و الخضر عليه السلام قد مات بنص القرآن القطعي لقوله تعالي: «و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» الأنبياء (34: 21) و أرجو أن تراجع تفسير هذه الآية في الجامع لأحكام القرآن (283: 11) ط. دارالكتب، زاد المسير (348: 5) و مختصر ابن كثير (507: 2). و تقول بعض الفرق الهالكة ان الخضر لم يمت و أنهم عيانا و يتحدثون اليه و يتحدث اليهم و يستمدون منه أصول التشريع و يطمئنهم علي معتقداتهم، تلك كلها ضلالات شيطانية يا عزيزي القاري ء فلا تتوقف عندها، لأن الخضر مات كأي بشر، و هو ليس أفضل من رسول الله صلي الله عليه و سلم و هو صاحب كل فضل و فضيلة و كان أولي بالخلود من الخضر و غيره.
2- و قبر سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم هو القبر النبوي الوحيد الذي اتفق عليه بالاجماع و ما سواه من قبور الأنبياء لم يحصل عليه الاجماع مثله.

رائحة طيبة و وجدوا عظاما كبيرة، فقالوا: هذه تدل علي كبر خلق الجنة فقالوا - بطريق الظن - هذا قبر نوح، و كان بالبقعة موتي كثيرون من جنس ذلك الميت (1) .و كذلك هذا المشهد العسقلاني قد ذكر طائفة: أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسي بن مريم.و قد يوجد عند قبور الوثنيين أشياء من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين من أمتنا، بل يزعم الزاعم أنه قبر الحسين ظنا و تخرصا.و كان من الشيوخ المشهورين بالعلم و الدين بالقاهرة من ذكروا عنه أنه قال: هو قبر نصراني.و كذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: انه قبر أبي كعب. و قد اتفق أهل العلم علي أن أبيا لم يقدم دمشق، و انما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقولون: انه قبر نصراني، و هذا غير مستبعد. فان اليهود و النصاري هم ائمة في (2) تعظيم القبور و المشاهد، و لهذا قال النبي صلي الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود و النصاري: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا» (3) .

ص: 190


1- و منذ فترة يسيرة طالعتنا الصحف و المجلات بخبر عن اكتشاف علمي صارخ و هو العثور علي مومياء يوسف الصديق عليه الصلاة و السلام و أخذت وسائل الاعلام تروج لهذه الأساطير التي تفتقد الدليل العلمي و الديني القوي الذي يوثقها بل و تفتقر الي المنطق السوي المستقيم، قلت: لا حول و لا قوة الا بالله، في القرن العشرين و لا زلنا موضع سخرية من الواقع الأليم، خرافات و أساطير تفرخ و تطير في كل ناحية من غير دليل أو برهان أو سند من علم أو فقه أو كتاب أو سنة.
2- تأمل شيخ الاسلام ابن تيمية و هو يسخر منهم بقوله (هم الأئمة في تعظيم القبور و المشاهد) رحمه الله و جمعنا به في دار كرامته.
3- فقد روي عن عائشة و ابن عباس رضي الله عنهما انه صلي الله عليه و سلم كشفها عن وجهه و هو يقول: - «لعنة الله علي اليهود و النصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا» و الحديث رواه البخاري (386: 6) - (422: 1) و (116: 8) و مسلم (67: 2) و النسائي (115: 1) و الدارمي (326: 1) و أحمد (218: 1) و (34: 6).

و النصاري أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: «ن النبي صلي الله عليه و سلم ذكرت له أم حبيبة و أم سلمة رضي الله عنهما كنيسة رأرض الحبشة، و ذكرنا من حسنها و تصاوير فيها. فقال: ان أولئك اذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا علي قبره مسجدا، و صوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة».و النصاري كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم. فلا يستعبد أنهم ألقوا الي بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون، ليوافقوهم علي تعظيمه.كيف لا؟ و هم قد أضلوا كثيرا من جهال المسلمين حتي صاروا يعمدون أولادهم، و يزعمون أن ذلك يوجب طول العمر للولد (1) ، و حتي جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس و البيع، حتي صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصاري، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصاري، و يلتمسون البركة من قسيسيهم و رهابينهم و نحوهم.و الذين يعظمون القبور و المشاهد: لهم شبه شديد بالنصاري، حتي انه لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض فضلاء الرهبان، و ناظرني في المسيح و دين النصاري، حتي بينت له فساد ذلك، و أجبته عما يدعيه من الحجة، و بلغني بعد ذلك أنه صنف كتابا في الرد علي المسلمين، و ابطال نبوة محمد صلي الله عليه و سلم، و أحضره بعض المسلمين، و جعل يقرؤه علي لأجيب عن حجج النصاري و أبين فسادها (2) .و كان من أواخر ما خاطبت به النصراني: أن قلت له: أنتم مشركون

ص: 191


1- و من دواعي الأسف الشديد أن جهال المسلمين يأخذون بهذه الضلالات و الوثنيات فيدخلوا في نطاق الشرك و هو لا يشعرون، حتي أصبحوا يقلدون اليهود و النصاري في طقوسهم الوثنية.
2- راجع كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في الرد علي أوهام و أغلاط النصاري و كشف ما هم فيه من زيف و ضلال.

و بينت من شركهم ما عليه من العكوف علي التماثيل و القبور و عبادتها، و الاستغاثة بها.فقال لي: نحن ما نشرك بهم و نعبدهم: و انما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون اذا جاءوا الي قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه و نحو ذلك.فقلت له: و هذا أيضا من الشرك، و ليس هذا من المسلمين، و ان فعله الجهال؟ فأقر أنه شرك، حتي ان قسيسا كان حاضرا في هذه المسألة، فلما قرأها قال: نعم، علي هذا التقدير: نحن مشركون.و كان بعض النصاري يقول لبعض المسلمين: لنا سيد و سيدة، ولكن س يد و سيدة، لنا السيد المسيح و السيدة مريم، ولكم السيد حسين و السيدة نفيسة.فالنصاري يفرحون بما يفعله أهل البدع و الجهل من المسلمين مما يوافق دينهم و يشابهونهم فيه، و يحبون أن يقوي ذلك و يكثر، و يحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين و قسيسيهم مثل قضاة المسلمين، و يضاهؤون المسلمين، فان عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الاسلام، بل يقولون: هذا طريق الي الله، و هذا طريق الي الله.و لهذا يسهل اظهار الاسلام علي كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم، فان عنده: أن المسلمين و النصاري كأهل المذاهب من المسلمين، بل يسمون الملل مذاهب، و معلوم أن أهل المذاهب - كالحنفية و المالكية و الشافعية و الحنبلية - دينهم واحد. و كل من أطاع الله رسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنا سعيدا باتفاق المسلمين.فاذا اعتقد النصاري مثل هذا من الملل يبقي انتقال أحدهم عن ملته كانتقال الانسان من مذهب الي مذهب. و هذا كثيرا ما يفعله الناس لرغبة أو

ص: 192

رهبة، فاذا بقي أقاربه و أصدقاؤه علي المذهب الأول لم ينكر ذلك، بل يحبهم و يودهم في الباطن. لأن المذهب كالوطن، و النفس تحن الي الوطن، اذا لم تعتقد أن المقام به محرم.فلهذا يوجد كثير ممن أظهر الاسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين و أهل الكتاب.ثم منهم من يميل الي المسلمين أكثر، و منهم من يميل الي ما كان عليه أكثر. و منهم من يميل الي أولئك من جهة الطبع و العادة، أو من جهة الجنس و القرابة و البلد، و المعاونة علي المقاصد. و نحو ذلك.و هذا كما أن الفلاسفة و من سلك سبيلهم من القرامطة (1) و الاتحادية (2) و نحوهم، يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين و اليهود و النصاري.و معلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين.فمن لم يقر باطنا و ظاهرا بأن الله لا يقبل سوي الاسلام (3) ،

ص: 193


1- و القرامطة اسم شهرة للاسماعيلية و سموا بالباطنية، لأنهم قالوا أن لكل ظاهر باطنا و لكل تنزيل تأويلا، و لهم أتعاب كثيرة سوي هذه علي لسان قوم قوم: فبالعراق يسمون الباطنية و القرامطة و المزدكية، و بخراسان يسمون التعليمية و الملحدة، و هم يقولون نحن الاسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم. راجع الملل و النحل للشهرستاني (192: 1) ط. الحلبي و الباطنية درجات في دعوتهم. راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ص 301.
2- الاتحادية: و هي فرقة هالكة خرجت علي السنة و الجماعة و فحوي دعوتها الزندقية أن المخلوق اتحد بالخالق فأصبح الاثنان ذاتا واحدة فالخالق عندهم و المخلوق سواء، كذلك القائلين بالحلول مثل محيي الدين بن عربي صاحب الفتوحات المكية الذي قال أن الله روحه حلت في كل الموجودات و كلا الحلوليين و الاتحاديين زنادقة كفرة لتأويلاتهم و شطحاتهم و قد كفرهم ابن تيمية و ابن القيم و ابن الجوزي و علماء السلف الغيورين علي عقيدة التوحيد. راجع في الحلولية التبصير (ص 77) و الفرق بين الفرق (ص 259).
3- لقوله تعالي في صريح النص القرآني: - «ان الدين عندالله الاسلام» آل عمران (19: 3) كذلك لقوله: - «و من يبتغ غير الاسلام دينا قلن يقبل منه» آل عمران (85: 3) راجع تفسير الطبري. (575: 6).

فليس بمسلم.و من لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلي الله عليه و سلم ليس مسلم الا من آمن به و اتبعه باطنا و ظاهرا (1) ، فليس بمسلم. و من لم يحرم التدين - بعد مبعثه صلي الله عليه و سلم - بدين اليهود و النصاري، بل من لم يكفرهم و يبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين.و المقصود هنا: أن النصاري يحبون أن يكون المسلمين ما يشابهونهم به ليقوي بذلك دينهم، و لئلا ينفر المسلمون من دينهم.و لهذا جاءت الشريعة الاسلامية بمخالفة اليهود و النصاري، كما قد بسطناه في كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).و قد حصل للنصاري من الجهال كثير من مطلوبهم، لاسيما من الغلاة من الشيعة، و جهال النساك و الغلاة في المشايخ؛ فان فيهم شبها قويا للنصاري في الغلو، و البدع في العبادات و نحو ذلك، فلهذا يلبسون علي المسلمين في مقابر تكون من قبورهم، حتي يتوهم الجهال أنها من قبور صالحي المسلمين.و اذا كان ذلك المشهد العسقلاني قد قال طائفة: انه قبر بعض النصاري أو بعض الحواريين - و ليس معنا ما بدل أنه قبر مسلم - فضلا عن أن يكون قبرا لرأس الحسين - كان قول من قال: انه قبر مسلم - الحسين أو غيره - قولا مردودا علي قائله.فهذا كاف في المنع من أن يقال: هذا مشهد الحسين.

ص: 194


1- و البعض الصوفيون هم الذين جعلوا للقرآن ظاهرا و باطنا و قالوا أن العلماء و الفقهاء هم أهل الظاهر أما الصوفية فهم أهل الأسراء و أهل الباطن.

فصل

ثم نقول: بل نحن نعلم و نجزم بأنه ليس رأس الحسين، و لا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدا للحسين، من وجوه متعددة.منها: أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه و اظهاره الي ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة، و دولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة و بضع و خمسين سنة. و قد جاءت خلافة بني العباس و ظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق و غير العراق ما كان كثير منها كذبا. و كانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هنالك مشهدا. و كان ينتابه أمراء عظماء. حتي أنكر ذلك عليهم الأئمة، و حتي ان المتوكل تقدم فيه بأشياء، يقال: انه بالغ في انكار ذلك، و زاد علي الواجب.دع خلافة بني العباس في أوائلها، و في حال استقامتها، فانهم حينئذ لم يكونوا يعظمون أبدا المشاهد، سواء كانت صدقا أو كذبا، كما حدث فيما بعد. لأن الاسلام كان حينئذ يغد في قوته و عنفوانه. و لم يكن علي عهد الصحابة و التابعين و تابعيهم في شي ء في بلاد الاسلام - لا الحجاز، و لا اليمن و لا الشام، و لا العراق، و لا مصر، و لا خراسان، و لا المغرب - مشهد، لا علي قبر نبي، و لا صاحب، و لا أحد من أهل البيت، و لا صالح أصلا. بل عامة المشاهد محدثة بعد ذلك.

ص: 195

و كان ظهورها و انتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، و تفرقت الأمة و كثرت فيهم الزنادقة المنتسبون الي الاسلام. و علت فيهم كلمة أهل البدع. و ذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فانه اذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية (1) بأرض الغرب. ثم جاءوا بعد ذلك الي أرض مصر.و قريبا من ذلك: يقال انه حدثت المكوس (2) في الاسلام.و قريبا من ذلك: ظهر بنو بويه الأعاجم: و كان في كثير منهم زندقة و بدع قوية. و في دولتهم قوي بنوعبيد القداح بأرض مصر، و في دولتهم أظهر المشهد المنسوب الي علي رضي الله عنه بناحية النجف، و الا فقيل ذلك لم يكن أحد يقول: ان قبر علي هناك، و انما دفن علي رضي الله عنه بقصر الامارة بالكوفة، و انما ذكروا أنه حكي عن الرشيد. أنه جاء الي بقعة هناك، و جعل يعتذر الي المدفون فيها، فقالوا: انه علي، و انه اعتذر اليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا هو قبر علي، و قد قال قوم: انه قبر المغيرة بن شعبة، و الكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع.فاذا كان بنو بويه و بنو عبيد - مع ما كان في الطائفين من الغلو في التشيع. حتي انهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله، مثل تعليق المسوح علي الأبواب، و اخراج النوائح بالأسواق، و كان الأمر يفضي الي قتال تعجز الملوك عن دفعه. و بسبب ذلك خرج الخرقي صاحب المختصر في الفقه من بغداد، لما ظهر بها سب السلف. و بلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق (3) في تلك الأوقات: أنهم أخذوا الحجر الأسود، و بقي معهم مدة، و أنهم قتلوا الحجاج و ألقوهم ببئر زمزم.

ص: 196


1- و الذين جاءوا الي مصر و لقبوا أنفسهم بالفاطميين نسبة الي فاطمة الزهراء، و هي بريئة منهم، لأنهم كذابون فجار و ثنيون أدخلوا الطقوس و الرقص و الطرب في دولة الاسلام و أحالوا شعائر الدين و عباداته الي حانات لمعاقرة المنكرات، و أكثر من عالم مخلص كشف ما هم فيه من زيف و بهتان.
2- و في الحديث الشريف (لا يدخل صاحب مكس الجنة).
3- أي بشرق الجزيرة العربية علي شاطي ء الخليج الفارسي.

فاذا كان مع هذا لم يظهر حتي مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون أعلم بذلك من المتأخرين، فاذا كان مع توفر الهمم و الدواعي و التمكين و القدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب مثل من يدعي أنه شريف علوي: و قد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم علي ذلك لو كان صحيحا، فانه بهذا يعلم كذب هذا المعي، و بمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص علي علي، أو غير ذلك من الأمور التي تتوفر الهمم و الدواعي علي نقلها و لم ينقل.الوجه الثاني أن الذين جمعوا أخبار الحسين و مقتله - مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، و أبي القاسم البغوي و غيرهما - لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل الي عسقلان، و لا الي القاهرة.و قد ذكر نحو ذلك أبوالخطاب بن دحية في كتابه الملقب بالعلم المشهور في فضائل الأيام و الشهور،! ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا علي أن الرأس لم يغترب (1) ، و ذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق: و أنه لا أصل له، و بسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك.الوجه الثالث أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء و المؤرخين أن الرأس حمل الي المدينة (2) و دفن عند أخيه.

ص: 197


1- اي لم يذهب به الي أمصار غريبة عنه.
2- يقول القرطبي: - «لما ذهب بالرأس الي يزيد بعث به الي المدينة فأقدم اليه عدة من موالي بني هاشم و ضم اليهم عدة من موالي أبي سفيان ثم بعث بثقل الحسين و جهزهم بكل شي ء و لم يدع لهم حاجة بالمدينة الا أمر لهم بها، و بعث برأس الحسين عليه السلام الي عمرو بن سعيد بن العاص و هو اذ ذاك عامله علي المدنية فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به الي، ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن و دفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة و السلام» التذكرة (668: 2). و قد نقل القرطبي هذا الرأي عن العلامة الحافظ أبوالعلا الهمذاني و هذا ما نطمئن اليه و نثق فيه. المحقق. و ان كانت الامامية تقول ان الرأس أعيد الي الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما أو الي عسقلان في مشهد هناك أو في المشهد القاهري المعروف فهذا شي ء باطل لا يصح و قد أنكره القرطبي أيضا و دفع ببطلانه و نحن نؤيده في رأيه. و ابن كثير يؤيد رأي القرطبي فيقول: - «روي محمد بن سعد أن يزيد بعث برأس الحسين الي عمرو بن سعيد نائب المدينة، فدفنه عند أمه بالبقيع» ا. ه. البداية و النهاية (221: 8). و قد ذكر ابن جرير الطبري أن موضع قتل الحسين بن علي رحمه الله بكربلاء قد عفي أثره حتي لم يطلع أحد علي تعيينه بخبر. البداية و النهاية. (221: 8) بتصرف. و قد كان أبونعيم - الفضل بن دكين - ينكر علي من يزعم أنه يعرف قبر الحسين. (السابق).

و من المعلوم: أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، و محمد ابن سعد كاتب الواقدي، صاحب الطبقات، و نحوهما من المعروف بالعلم و الثقة و الاطلاع: أعلم بهذا الباب، و أصدق فيما ينقلو به (1) من المجاهيل و الكذابين، و بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم و لا أصدقهم، بل قد يكون الرجل صادقا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد. حتي يميز بين المقبول و المردود، أو يكون سي ء الحفظ أو متهما بالكذب، أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الاخبارين و المؤرخين، و لاسيما اذا كان مثل أبي مخنف لوط بن يحيي (2) و أمثاله.و معلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي و أبيه محمد بن السائب و أمثالها، و قد علم كلام الناس في الواقدي، فان ما يذكره هو و أمثاله يعتضد به، و يستأنس به. و أما الاعتماد عليه بمجرده في العلم: فهذا لا يصلح.فاذا كان المعتمد عليهم يذكرون أنه دفن بالمدينة، و قد ذكر غيرهم: أنه اما أنه عاد الي البدن، و اما أنه بحلب، أو بدمشق، أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، و لم يذكر من يعتمد عليه أنه بعسقلان - علم أن ذلك باطل، اذ يمتنع أن يكون أهل العلم و الصدق: علي الباطل. و أهل الجهل و الكذب: علي الحق في الأمور النقلية، التي تؤخذ عن أهل العلم و الصدق،

ص: 198


1- كذا وردت بالأصل و الأصح (ينقلونه).
2- ذكره ابن عدي و قال: - (شيعي منحرف) و قال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال أنه لوط بن يحيي أبومخنف و قال فيه: (أنه لا يوثق به).

لا عن أهل الجهل و الكذب.الوجه الرابع الذي ثبت في صحيح البخاري «أن الرأس حمل الي قدام عبيدالله بن زياد، و جعل ينكت بالقضيب علي ثناياه بحضرة أنس بن مالك» (1) و في المسند «أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي» (2) ولكن بعض الناس روي باسناد منقطع «أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية» و هذا باطل. فان أبابرزة، و أنس بن مالك، كانا بالعراق لم يكونا بالشام، و يزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين، فمن نقل أنه نكث بالقضيب بحضرة هذين قدامه فهو كاذب قطعا، كذبا معلوما بالنقل المتواتر.و معلوم بالنقل المتواتر: أن عبيدالله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، و قد ثبت بالنقل الصحيح: أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد مقدما علي الطائفة التي قاتلت الحسين، و امتنع عمر من ذلك، فأرغبه و أرهبه حتي فعل ما فعل (3) .و قد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة: أنه لما كتب أهل العراق الي الحسين، و هو بالحجاز: أن يقدم عليهم، و قالوا: انه قد أميتت السنة، و أحييت البدعة. و أنه، و أنه، حتي يقال: انهم أرسلوا اليه كتبا مل ء صندوق و أكثر، و أنه أشار عليه الأحباء الأنباء. فانه كما قيل:و ما كل ذي لب بمؤتيك نصحه و ما كل مؤت نصحه بلبيبفقد أشار عليه مثل عبدالله بن عباس، و عبدالله بن عمر، و غيرهما

ص: 199


1- راجع التفاصيل في التذكرة للقرطبي (667 - 666: 2) نقلا عن صحيح البخاري.
2- ولكن الامام الطبري يقول أن يزيد بن معاوية هو الذي نكث بالقضيب في وجود أبي برزة الأسلمي. راجع تاريخ الطبري (356: 4) و نفس القول يؤيده المسعودي في مروج الذهب و معادن الجوهر (71 - 70: 3).
3- راجع البداية و النهاية (170: 8) و الاصابة (17: 2).

بأن لا يذهب اليهم. و بذلك كان قد وصاه أخوه الحسين (1) : و اتفقت كلمتهم علي أن هذا لا مصلحة فيه، و أن هؤلاء يكذبونه و يخذلونه، اذ هم أسرع الناس الي فتنة، و أعجزهم فيها، و أن أباه كان أفضل منه و أطوع في الناس، و جمهور الناس معه. و مع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه و الخذلان له ما الله به عليم. حتي صار يطلب السلم بعد أن كان يدعو الي الحرب. و ما مات الا و قد كرههم كراهة الله بها عظيم. و قد دعا عليهم و تبرم بهم.فلما ذهب الحسين رضي الله عنه، و أرسل ابن عمه عقيل (2) اليهم، و تابعه طائفة. ثم لما قدم عبيدالله بن زياد الكوفة، قاموا مع ابن زياد، و قتل عقيل و غيرهما. فبلغ الحسين ذلك، فأراد الرجوع، فوافه سرية عمر بن سعد، و طلبوا منه أن يستأسر لهم، فأبي، و طلب أن يردوه الي يزيد بن عمه، حتي يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من اجابته الي ذلك، بغيا و ظلما و عدوانا. و كان من أشدهم تحريضا عليه: شمر بن الجوشن (3) . و لحق بالحسين طائفة منهم، و وقع القتل حتي أكرم الله الحسين و من أكرمه من أهل بيته بالشهادة، رضي الله عنهم و أرضاهم. و أهان بالبغي و الظلم و العدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، و استحله من دمائهم (و من يهن الله فما له من مكرم، ان الله يفعل ما يشاء) (4) و كان ذلك من نعمة الله علي الحسين، و كرامته له، لينال منازل الشهداء، حيث لم يحصل له من أول الاسلام من الابتلاء و الامتحان ماحصل لسائر أهل بيته، كجده صلي الله عليه و سلم، و أبيه و عمه، و عم أبيه رضي الله عنهم. فان بني هاشم أفضل قريش، و قريشا أفضل العرب، و العرب أفضل بني آدم، كما صح ذلك عن النبي صلي الله عليه و سلم، قوله في الحديث الصحيح: «ان الله اصطفي

ص: 200


1- كذا بالأصل و الأصح (الحسن).
2- مسلم بن عقيل: و هو رسول الحسين الي عبيدالله بن زياد و قتله ابن زياد و كان أول رسول مبعث يقتل في الاسلام.
3- و شمر بن ذي الجوشن كان أبرص قبحه الله و لعنه، و كان معروفا بشدة عدائه و سخيمته علي أهل البيت.
4- الحج (18: 22).

بني اسماعيل، و اصطفي كناية من بني اسماعيل، و اصطفي قريشا من كنانة، و اصطفي بني هاشم من قريش».و في صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».و في السنن: «أنه شكا اليه العباس: أن بعض قريش يحقرونهم، فقال: و الذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتي يحبوكم لله و لقرابتي».و اذا كانوا أفضل الخلائق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال (1) .و كان أفضلهم رسول الله صلي الله عليه و سلم، الذي لا عدل (2) له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش و العرب، بل و بني اسرائيل و غيرهم.ثم علي و حمزة و جعفر و عبيدة بن الحارث: هم من السابقين الأولين من المهاجرين. فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل. و لهذا لما كان يوم بدر أمرهم النبي صلي الله عليه و سلم بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة. فقال النبي صلي الله عليه و سلم: «قم يا حمزة. قم يا عبيدة. قم يا علي» فبرز الي الثلاثة ثلاثة من هاشم.و قد ثبت في الصحيح: أن فيهم نزل قوله: (هذان خصمان اختصموا في ربهم - الآية) (3) و ان كان في الآية عموم.و لما كان الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و كانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الاسلام، و لم ينلهما من الأذي و البلاء ما نال سلفهما الطيب،

ص: 201


1- قال تعالي: - (رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد) هود (73: 11) و معني الآية: أي رحمكم الله و بارك فيكم يا أهل بيت ابراهيم. الصابوني (620: 12).
2- العدل: الند و النظير.
3- الحج (19: 22) راجع تفسير القرطبي (26: 12) لهذا الآية، و الفخر الرازي الكبير (22: 23) و صفوة التفاسير (882: 17).

فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء، ليرفع درجاتهما. و ذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة و عليا و جعفرا و عمر و عثمان و غيرهم بالشهادة.و في المسند و غيره: عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبة، و ان قدمت، فيحدث لها استرجاعا (1) ، الا أعطاء الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها».فهذا الحديث رواه الحسين، و عنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه.و قد علم الله أن مصيبته تذكر علي طول الزمان.فالمشروع اذا ذكرت المصيبة و أمثالها أن يقال: (انا لله و انا اليه راجعون) «اللهم آجرنا في مصيبتنا و اخلف لنا خيرا منها». قال تعالي: (و بشر الصابرين. الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا: انا لله و انا اليه راجعون) قال تعالي: (أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون).و الكلام في أحوال الملوك علي سبيل التفصيل: متعسر أو متعذر، لكن يعلم من حيث الجملة، و هم أنهم هم و غيرهم من الناس ممن له حسنات و سيئات يدخلون بها في نصوص الوعد (2) ، أو نصوص الوعيد (3) .و تناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه

ص: 202


1- الاسترجاع: أن يقول عند نزول المصيبة (انا لله و انا اليه راجعون) و قد قال صلي الله عليه و سلم: - «ليسترجع أحدكم في كل شي ء حتي في شسع نعله فانها من المصائب» رواه ابن السني في عمل (اليوم و الليلة) رقم 354 و في سنده يحيي بن عبدالله التيمي لم يوثقه غير ابن حبان و باقي رجاله ثقات. و قال تعالي: - (و بشر الصابرين، الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله و انا اليه راجعون) البقرة (155: 2) و (156: 2).
2- وعد: و أوعد تقال في الخير و الشر أما الوعيد و الايعاد ففي الشر. راجع المختار ص 728 بتصرف.
3- وعد: و أوعد تقال في الخير و الشر أما الوعيد و الايعاد ففي الشر. راجع المختار ص 728 بتصرف.

الله، موافقا للسنة (1) . فان النبي صلي الله عليه و سلم قيل له: «الرجل يقاتل شجاعة، و يقاتل حمية، و يقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».و كذلك شمول نصوص الوعيد له مشروط بأن لا يكون متأولا تأويلا مخطئا. فان الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ و النسيان.و كثير من تأويلات المتقدمين و ما يعرض لها فيها من الشبهات معروفة بما يحصل بها من الهوي و الشهوات؛ فيأتون ما يأتونه بشبهة و شهوة.و السيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة، و قد تزول بحسنات ماحية، و مصائب مكفرة. و قد تزول بصلاة المسلمين عليه، و بشفاعة النبي صلي الله عليه و سلم يوم القيامة في أهل الكبائر (2) . فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم و نحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر - كالحجاج و أمثاله - لأنهم لا يلعنون أحدا بعينه، بل يقولون كما قال الله تعالي: (ألا لعنة الله علي الظالمين) (3) فيلعنون من لعنه الله و رسوله عاما، كقوله صلي الله عليه و سلم: «لعن الله الخمر و عاصرها و معتصرها، و بائعها، و مشتريها، و ساقيها و شاربها، و حاملها و المحمولة اليه و آكل ثمنها» و لا يلعنون المعين.كما ثبت في صحيح البخاري و غير: «أن رجلا - كان يدعي حمارا - و كان يشرب الخمر، و كان النبي صلي الله عليه و سلم يجلده، فأتي به مرة، فلعنه رجل، فقال النبي صلي الله عليه و سلم: «لا تلعنه. فانه يحب الله و رسوله».و ذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، و الوعيد العام قد ينتفي في حق

ص: 203


1- و قد كرر شيخ الاسلام ابن تيمية في أكثر من موضع في مصنفاته القيمة الكثيرة أن الله لا يقبل عملا ما لم يتوفر فيه شيئان: الأول: أن يكون خالصا لوجه الله تعالي الثاني: أن يكون صوابا أي علي السنة خاليا من البدع و الضلالات. رحمه الله ابن تيمية.
2- و في الحديث الصحيح يقول النبي صلي الله عليه و سلم: - «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
3- هود (18: 11).

المعين لأحد الأسباب المذكورة، من توبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة. و غير ذلك.و طائفة من العلماء يلعنون المعين، و طائفة بازاء هؤلاء يقولون: بل نحبه، لما فيه من الايمان يوالي عليه، اذ ليس كافرا.و المختار عند الأئمة: أنا لا نلعن معينا، و لا نحب معينا، فان العبد قد يكون فيه سبب هذا و سبب هذا اذا اجتمع فيه من حب الأمذبن.اذ كان من أصول أهل السنة، التي فارقوا بها الخوارج (1) و المعتزلة (2) و المرجئة (3) : أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات و سيئات، فيثاب علي حسناته، و يعاقب علي سيئاته. و يحمد علي حسناته، و يذم علي سيئاته. و أنه من وجه: مرضي محبوب، و من وجه: بغيض مسخوط، فلذا كان لأهل الأحداث: هذا الحكم.و أما أهل التأويل المحض، الذي يسوخ تأويلها: فأولئك مجتهدون مخطئون خطؤهم مغفور لهم. و هم مثابون علي ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم و اجتهادهم في طلب الحق و اتباعه. كما قال النبي صلي الله عليه و سلم: «اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. و اذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر».و لهذا كان الكلام في السابقين الأولين و من شهد له بالجنة، كعثمان و علي و طلحة و الزبير و نحوهم: له حكم آخر، بل و من هو دون هؤلاء، مثل أكابر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة. و كانوا أكثر من ألف و أربعمائة..و قد ثبت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «لا يدخل النار أحد بايع الشجرة».

ص: 204


1- راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ص 24.
2- المرجع السابق ص 24.
3- السابق ص 25.

فهؤلاء و نحوهم فيما شجر بينهم: اما أن يكون عما أحدهم سعيا مشكورا أو ذنبا مغفورا، أو اجتهادا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم و ديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، رضي الله عنهم و أرضاهم - لاسيما و المنقول عنهم من العظائم كذب مفتري، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه امر بقتل عثمان، أو أعان عليه، و كان بعض من يقاتله يظن ذلك فيه، و كان ذلك من شبههم التي قاتلوه بها و هي شبهة باطلة. و ان علي يحلف - و هو الصادق البار -: «اني ما قتلت عثمان، و لا أعنت علي قتله» و يقول «اللهم شئت قتلة عثمان في البر و البحر و السهل و الجبل» و كانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتله عثمان من شبههم في قتاله. و علي لم يكن متمكنا من أن يعمل. كل ما يريده من اقامة الحدود، و نحو ذلك، لكون الناس مختلفين ملتاث أمرهم، و عسكره و أمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به. فان التفرق و الاختلاف يقوم فيه من الشر و الفساد و تعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة و الاسلام.و يزيد بن معاوية: قد أتي أمورا منكرة منها: وقعة الحرة، و قد جاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «المدينة حرم ما بين عاثر الي كذا. من أحدث فيها حدثا، أو أوي محدثا فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا» و قال «من أراد أهل المدينة بسوء امامه الله كما ينماع الملح في الماء».و لهذا قيل للامام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، و لا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟.و قيل له: ان قوما يقولون: انا نحب يزيد: فقال: و هل يحب يزيد أحد يؤمن بالله و اليوم الآخر؟ فقيل: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: و متي رأيت أباك يلعن أحدا. انتهي.

ص: 205

و مذهب أهل السنة و الجماعة: أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، و لا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد اذا كانت له حسنات و سيئات: فأمره الي الله تعالي.و هذا الذي ذكرناه: هو المتفق عليه بين الناس في مقتله رضي الله عنه.و قد رويت زيادات: بعضها صحيح، و بعضها ضعيف، و بعضها كذب موضوع.و المصنفون من أهل الحديث في ذلك - كالبغوي، و ابن أبي الدنيا، و نحوهما: كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات - هم ذلك أعلم و أصدق بلا نزاع بين أهل العلم. لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة؛ بخلاف الاخباريين؛ فان كثيرا مما يسندونه: يسندونه عن كذاب أو مجهول. أما ما يرسلونه: فظلمات بعضها فوق بعض، و هؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندا أو مرسلا.و أما أهل الأهواء و نحوهم: فيعتمدون علي نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة و لا ضعيف، و أهون شي ء عندهم الكذب المختلق، و أعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله الي عمدة، بل الي سماعات عن المجاهيل و الكذابين، و روايات عن أهل الافك المبين.فقد تمن أن القصة التي يذكرون فيها حمل الرأس الي يزيد، و نكته بالقضيب: كذبوا فيها: و ان كان الحمل الي ابن زياد - و هو الناكت بالقضيب - و لم ينقل باسناد معروف أن الرأس حمل الي قدام يزيد.و لم أر في ذلك الا اسنادا منقطعا؛ قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منها و أظهر - نقلوا فيها: أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم (1) من ذلك.

ص: 206


1- و قال في ذلك الامام محمد بن حرير الطبري: - «... فدمعت عين يزيد و قال: قد كنت أرضي من طاعتكم بدون مقتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما و الله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين» ا.ه. ثم بعد ذلك يقول: - «أن يزيد بن معاوية قال لما وضعت الرؤوس بين يديه - رأس الحسين و أهل بيته و أصحابه - قال يزيد: يفلقن هاما من رجال أعزة علينا، و هم كانوا أعق و أظلما أما والله يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك» ا.ه. تاريخ الطبري (352: 4).

و قال: لعن الله أهل العراق، لقد كنت أرضي من طاعتهم بدون هذا.و قال في ابن زياد: أما انه لو كان بينه و بين الحسين رحم لما قتله (1) ، و أنه ظهر في داره الندب لقتل الحسين، و أنه لما قدم عليه أهله و تلاقي النساء تباكين، و أنه خبر ابنه عليا بين المقام عنده و السفر الي المدينة، فأختار السفر الي المدينة فجهزه الي المدينة جهازا حسنا.فهذا و نحوه مما نقلوه بالأسانيد التي هي أصح و أثبت من ذلك الاسناد المنقطع المجهول: يبين أن يزيد لم يظهر الرضي بقتل الحسين، و أنه أظهر الألم لقتله. و الله أعلم بسريرته.و قد علم أنه يأمر (2) بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه، و لا عاقبهم علي ما فعلوا، اذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه، ولو قام بالواجب في الحسين و أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، و لم يظهر له من العدل و حسن السيرة ما يوجب حمل أمره علي أحسن المحامل، و لا نقل أحد أنه كان علي أسوا الطرائق التي توجب الحد، ولكن ظهر من أمره في أهل الحرة ما لا نستريب أنه عدوان محرم و كان له موقف في القسطنطينية - و هو أول جيش غزاها - ما يعد من الحسنات.و المقصود هنا: أن نقل رأس الحسين الي الشام لا أصل له في زمن يزيد، فكيف بنقله بعد زمن يزيد؟ و انما الثابت: هو نقله الي أمير العراق عبدالله بن (3) زياد بالكوفة، و الذي ذكر العلماء، أنه دفن بالمدينة.

ص: 207


1- قال يزيد: - «قبح الله ابن مرجانة لو كانت بينه و بينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم، و لا بعث بكم هكذا» تاريخ الطبري (353: 4).
2- لعل الأصح و المقصود (لم يأمر).
3- كذا ورد بالأصل و الأصح (عبيدالله بن زياد).

و أما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، و لا له المام بمعرفة المنقول: من أن أهل البيت سبوا، و أنهم حملوا علي البخاتي، و أن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان: فهذا الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله. فان البخاتي لا تستر امرأة، و لا سبي أهل البيت أحد، و لا سبي منهن أحد. بل هذا كما يقولون: الحجاج قتلهم.و قد علم أهل النقل كلهم. أن الحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم، كما عهد اليه خليفته عبدالملك، و أنه لما تزوج بنت عبدالله بن جعفر: شق ذلك علي بني أمية و غيرهم من قريش، و رأوه ليس بكف ء لها، و لم يزالوا به حتي فرقوا بينه و بينها. بل بنو مروان علي الاطلاق لم يقتلوا أحدا من بني هاشم، لا آل علي، و لا آل عباس، الا زيد بن علي (1) المطلوب بكناسة الكوفة، و ابنه يحيي.الوجه الخامس أنه لو قدر أنه حمل الي يزيد، فأي غرض لهم في دفنه بعسقلان، و كانت اذ ذاك ثغرا بقيم بها المرابطون؟ فان كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره، لكثرة من ينتابها للرباط، و ان كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال: انه عدو له مستحل لدمه، ساع في قتله؟ثم من المعلوم: أنه دفنه قريبا عند أمه و أخيه بالبقيع أفضل له.الوجه السادس أن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم، فانهم كانوا في الفتن، اذا قتل الرجل فيهم - لم يكن منهم - سلموا رأسه و بدنه الي أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله و صلبه، ثم سلمه الي أهله.و قد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، و أن ما كان بينه و بينه من الحروب: أعظم بكثير مما كان بين الحسين و بين خصومه، فان ابن الزبير ادعاها بعد مقتل الحسين، و بايعه أكثر الناس، و حاربه يزيد حتي مات و جيشه محاربون له بعد الحرة.

ص: 208


1- و قد خرج علي هاشم بن عبدالملك بن مروان لينتزع الملك و الخلافة منه فقتله هشام بن عبدالملك في صفر سنة 122 ه.

ثم تولي عبدالملك غلبه علي العراق مع الشام، ثم بعث اليه الحجاج ابن يوسف، فحاصره الحصار المعروف حتي قتل، ثم صلبه، ثم سلمه الي أمه.و قد دفن بدن الحسين في مصرعه بكربلاء، و لم ينبش، و لم يمثل به، فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه الي أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير الي أهله، و اذا تسلم أهله رأسه، فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه و أمه و أخيه، و قريبا من جده صلي الله عليه و سلم، و يدفنونه بالشام، حيث لا أحد اذ ذاك ينصرهم علي خصومهم؟ بل كثير منهم كان يبغضه و يبغض أباه. هذا لا يفعله أحد.و القبة التي علي العباس (1) يقال: ان فيها مع العباس الحسن، و علي ابن الحسين و أباجعفر محمد بن علي و جعفر بن محمد. و يقال: ان فاطمة تحت الحائط، أو قريبا من ذلك و أن رأس الحسين هناك أيضا.الوجه السابع أنه لم يعرف قط أن أحدا، لا من السنة، و لا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، و لا يزورونه و لا يأتونه، كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف الي الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب.فاذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها (2) و لا يقصدونها، و انما كانوا ينتابون كربلاء، لأن البدن هناك. كان دليلا علي أن الناس فيما مضي لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شي ء من هذه البقاع، ولكن الذي اعتقدوه: هو وجود البدن بكربلاء، حتي كانوا ينتابونه في زمن أحمد و غيره، حتي ان في مسائله: مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبوبكر الخلال في جامعة الكبير في زياة المشاهد.و لم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يزورون التي بالشام موضع الرأس

ص: 209


1- بالبقيع في المدينة.
2- ينتابونها: ينتهون اليها.

في شي ء من هذه البقاع غير المدينة.فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم. ولو اعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعمله، و لأظهروا ذلك و تكلموا به، كما تكلموا في نظائره.فلما لم يظهر عن المتقدمين - بقول و لا فعل - ما يدل علي أن الرأس في هذه البقاع: علم أن ذلك باطل. و الله أعلم.الوجه الثامن أن يقال: مازال أهل العلم في كل وقت و زمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب الي الحسين: أنه كذب و مين (1) ، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة، مثل المشاهد المنسوبة بدمشق الي أبي بن كعب و أويس القرني، أو هود أو نوح أو غيرهما: و المشهد المنسوب بحران الي جابر بن عبدالله (2) ، و بالجزيرة الي عبدالرحمن بن عوف، و عبدالله بن عمر و نحوهما. و بالعراق الي علي رضي الله عنه و نحوه، و كذلك ما يضاف الي الأنبياء غير قبر نبينا محمد صلي الله عليه و سلم، و ابراهيم الخليل عليه السلام.فانه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقا، كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق، و الكتب و المصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا. يعرف ذلك من تتبعه و طلبه.و مازال الناس في مصنفاتهم و مخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات، و يذكرون ذلك في المصنفات، حتي من سكن هذا البلد من العلماء بذلك.فقد ذكر أبوالخطاب بن دحية في كتابه «العلم المشهور» في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة و غير ثابتة، و مع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالاجماع، و بين أنه نقل من عسقلان في آخر الدولة العبيدية،

ص: 210


1- المين: بفتح الميم و سكون الياء: الكذب و الافتراء.
2- و كذلك قبر سيدي جابر بالاسكندرية كذب مفتري روجت له طائفة من المنتفعين.

و أنه وضع لأغراض فاسدة، و أنه بعد ذلك بقليل أزال الله تلك الدولة و عاقبها بنقيض (1) قصدها.و مازال ذلك مشهورا بين أهل العلم حتي أهل عصرنا من ساكني الديار المصرية: القاهرة، و ما حولها.فقد حدثني طائفة من الثقات، عن الشيخ أبي عبدالله محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد، و طائفة عن الشيخ أبي محمد عبدالمؤمن ابن خلف الدمياطي، و طائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، و طائفة عن الشيخ أبي عبدالله محمد القرطبي، صاحب التفسير و شرح أسماء الله الحسني، و طائفة عن الشيخ عبدالعزيز الديريني - كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، و حدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثه من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد و يقول: انه كذب، و انه ليس فيه الحسين و لا رأسه. و الذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: ان فيه نصرانيا، بل القرطبي و القسطلاني ذكروا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما. و بينا فيها أنه كذب، كما ذكره أبوالخطاب بن دحية.و ابن دحية هو الذي بني له الكامل دار الحديث الكاملية، و عند أخذ أبوعمرو ابن الصلاح و نحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء و اللغات، و ليس الاعتماد في هذا علي واحد بعينه، بل هذا اجماع من هؤلاء.و معلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم و أدين (2) من هؤلاء و نحوهم.فاذا كانوا متفقين علي أن هذا كذب و مين: علم أن الله قد برأ منه الحسين.

ص: 211


1- و أصعب و أشق الأمور معاقبة الجاني بنقيض مقصوده و قد أقر الشارع هذا في ال فقه الاسلامي فان قاتل والديه لا يورث، اذ أنه قتل ليتعجل الميراث فعامله الشرع بنقيض مقصودة فقال لا يرث.
2- كذا ورد بالأصول و قصد المؤلف رحمه الله أن يقول: - أعلم و أدين أي أكثر علما و أخلص دينا.

و حدثني من حدثني من الثقات: أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بأن لا يظهروا ذلك عنه؛ خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم و الفساد. اذ كانوا في الأصل رعية للقرامطة (1) الباطنيين، و استولوا عليها مائتي سنة. فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين، و أهل الجهل المبتدعين، و أهل الكذب الظالمين: ما لم يمكن أن ينقلع الا بعد حين، فانه قد فتحها أهل الايمان و السنة في الدولة النورية و الصلاحية، و سكنها من أهل الاسلام و السنة من سكنها، و ظهرت بها كلمة الايمان و السنة نوعا من الظهور، ولكن النفاق و البدعة فيها كثير متور، و في كل وقت يظهر الله فيها من الايمان و السنة ما لم يكن مذكورا،و يطغي فيها من النفاق و الجهل ما كان مستورا.و الله هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه و يرضاه، من الهدي و السداد و يعظم علي عباده الخير بظهور الاسلام و السنة. و يحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته، و ظهور أهل الايمان.و كثير من الناس قد تخلق بأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار و المنافقين و ان لم يكن بذلك من العارفين، كما يشارك النصاري في أعيادهم، و يعظم ما يعظمونه من الأمكنة و الأزمنة و الأعمال. و هو لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل و لا يعرف أن ذلك من خصائصهم، فاذا عرف ذلك انتهي عنه و تاب منه.و كذلك كثير من الناس تخلقوا من أخلاق أهل النفاق بأمور، لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين، و اذا عرف ذلك كان الي الله من التائبين. و الله يتوب علينا و علي جميع المذنبين.و هذا كله كلام في بطلان ذلك، و في كذبه.ثم نقول: سواء كان صحيحا أو كذبا، فان بناء المساجد علي المقابر ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلي الله عليه و سلم و اتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء

ص: 212


1- و لا تزال أرض القرامطة حتي الآن موجودة في بني عبيد، و هي من أعمال مديرية الدقهلية من القطر المصري.

المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون علي النهي عن ذلك، و أنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي و لا غير نبي، و كل من قال: ان قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني (1) علي قبر أو مشهد، أو غير ذلك: أو مشروع، بحيث يستحب ذلك و يكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه: فقد مرق من الدين، و خالف اجماع المسلمين. و الواجب أن يستتاب، فان تاب و الا قتل.بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي علي القبور (2) ، ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يفعل ذلك لا اتفاقا و لا ابتغاء، لما في ذلك من التشبه بهم، و الذريعة الي الشرك، و وجوب التنبيه عليه و علي غيره، كما قد نص علي ذلك أئمة الاسلام من أهل المذاهب الأربعة و غيرهم. منهم من صرح

ص: 213


1- كذا بالأصل و الأصح (نبي) و هو تصحيف.
2- و لما كان مرض النبي صلي الله عليه و سلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية - و قد كانت أم سلمة و أم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها و تصاويرها قالت: فرفع النبي صلي الله عليه و سلم رأسه فقال: - «أولئك اذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا علي قبره مسجدا ثم صورا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» و الحديث رواه البخاري (422 - 416: 1) و مسلم (66: 2) و النسائي (115: 1): و أحمد (51: 6) و ابن سعد في طبقاته (241 - 240: 2). و قال الحافظ بن رجب في فتح الباري (2: 82: 65): «و هذا الحديث يدل علي تحريم بناء المساجد علي قبور الصالحين و تصوير صورهم فيها كما يفعله اليهود و النصاري و لا ريب أن كل واحد منهما محرم علي انفراده» ا. ه. و من حديث آخر عن جندب بن عبدالله البجلي أنه سمع النبي صلي الله عليه و سلم قبل أن يموت بخمس و هو يقول: - «قد كان لي فيكم اخوة و أصدقاء، و اني أبرأ - أنكر - الي الله أن يكون لي فيكم خليل، و ان الله عزوجل قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا، و لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبابكر خليلا، ألا و ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم (68 - 67: 2) و أبو عوانه (401: 1) و الطبراني في معجمه الكبير (2: 84: 1) كذلك رواه ابن سعد (340: 2) مختصرا دون ذكر الأخوة و اتخاذ الخليل. ولكن الحافظ نور الدين الهيثمي ضعفه في مجمع الزوائد (45: 9). و قد كان من دعائه صلي الله عليه و سلم: - «اللهم لا تجعل قبري و ثنا يعبد، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه أحمد رقم (7352) و ابن سعد (242 - 241: 2) و أبونعيم في الحلية (317: 7) بسند صحيح.

بالتحريم (1) . و منهم من أطلق الكراهة. و ليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة. فان تلك منهم من يعلل النهي عنها بنجاسة التراب، و منهم من يعلله بالتشبه بالمشركين.و أما المساجد المبنية علي القبور. فقد كرهوه، معللين بخوف الفتنة (2) بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي و غيره من سائر أئمة المسلمين.و قد نهي النبي صلي الله عليه و سلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، و عند غروبها، و قال «انه حينئذ يسجد لها الكفار» فنهي عن ذلك، لما فيه من المشابهة لهم، و ان لم يقصد السجود الا للواحد المعبود (3) .

ص: 214


1- و قد ذهب الشافعية الي أنه كبيرة فقد قال الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (120: 1): - «الكبيرة الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادة و السابعة و الثامنة و التاسعة اتخاذ القبور مساجد و ايقاد السرج عليها، و اتخاذها أوثانا و الطواف بها و استلامها و الصلاة اليها» و عقب علي ذلك الامام محمود الألوسي بقوله: - (و هذا كلام يدل علي فهم و فقه في الدين). راجع روح المعاني للألوسي (31: 5). أما مذهب الحنفية فهو الكراهة التحريمية، فالكراهة عند الحنفية انما يقصد بها التحريم يقول تلميذ أبي حنيفة الامام محمد: - «لا نري أن يزداد علي ما خرج من القبر، و نكره أن يجصص أو أو يطين أو يجعل عنده مسجدا» راجع كتاب الآثار ص 45. أما المالكية فمذهبهم التحريم: يقول القرطبي رحمه الله: - «قال علماؤنا: و هذا يحرم علي المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء و العلماء مساجد» الجامع لأحكام القرآن (38: 10) ط. دار الكتب المصرية. أما مذهب امام أهل السنة أحمد بن حنبل فهو التحريم: يقول ابن القيم: - «... و علي هذا فيهدم المسجد اذا بني علي قبر كما ينبش الميت اذا دفن في المسجد، نص علي ذلك الامام أحمد و غيره فلا يجتمع في دين الاسلام مسجد و قبر، بل أيهما طرأ علي الآخر منع منه، و كان الحكم للسابق، فلو و صعا معا لم يجز و لا يصح هذا الوقف و لا يجوز، و لا تصح الصلاة في هذا المسجد لنبي رسول الله صلي الله عليه و سلم عن ذلك و لعنه من اتخذ القبر مسجدا، أو أوقد عليه سراجا فهذا دين الاسلام الذي بعث الله به رسوله و نبيه و غربته بين الناس كما تري!». راجع زاد المعاد لابن القيم (22: 3) ط. الكردي.
2- و هذا قبيل سد الذرائع. راجع تفسير القرطبي (57: 2) و الموافقات للشاطبي (253 - 241: 2) و (122: 4) و اعلام الموقعين لابن القيم (136: 3).
3- و لذلك فنحن في صلاة الجنازة لا نسجد ولكن نصلي قياما أو قائمين و الحكمة في ذلك أي في خلو صلاة الجنازة من السجود انما لسد ذريعة السجود لغير الله، حتي لا يظن السجود لغير الله. فتأمل عزيزي القاري ء عافاك الله و جعلنا و اياك من المقربين تدبر و تأمل دقة التشريع في سد الذريعة...!!.

فكيف بالصلاة في المساجد التي علي القبور؟و هذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب.و انما كان المقصود: تحقيق مكان رأس الحسين رضي الله عنه، و بيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر و الشام: أنها مشهد الحسين، و أن فيها رأسه فهي كذب و اختلاق، و افك و بهتان. و الله أعلم.

ص: 215

ص: 216

المراجع

القرآن الكريم

١ - الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ط مصر سنة ١٩٣٩م .

2 - الإعلام للزركلي ط. العربية بمصر سنة ١٣٤٧ه_

٣ - البداية والنهاية لابن كثير .ط. مصر سنة ١٣٥٨ه_ . وط . دار الفكر العربي بدون تاريخ .

٤ - بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب لمحمود شكري الألوسي ط ثانية بمصر سنة ١٩٢٤.

5 - البيان والتبيين للجاحظ بتحقيق عبد السلام هارون ط. لجنة التأليف سنة ١٣٦٩ه_.

٦ - تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري ط . مصر سنة ١٢٨٢ه_.

7-تاريخ آداب العرب للرافعي ط. مصر سنة ١٣٣٢ه_.

8- تاریخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري ط. الاستقامة بمصر سنة ١٩٣٩ء . وط . الأعلمي ببيروت 1983م . [ الأصل ]

9 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني ط . السلفية بمصر بدون تاريخ .

10 - تذكرة الحفاظ للذهبي ط. حيدر آباد سنة ١٣٣٤ه_ .

11 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي بتحقيق الدكتور أحمد حجازي السقاط . العلمية بيروت سنة ١٩٨٢م.

ص: 217

12- تفسير المنار لمحمد رشید رضا

١٣ - تفسير الطبري

١٤ - تفسير القرطبي

١٥ - تفسير ابن كثير ومختصر ابن كثير للصابوني .

١٦ - تهذيب ابن عساکر ط دمشق سنة ١٣٥١ه_.

17 - تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني .ط. حيدر آباد الدكن سنة ١٣٢٧ه_.

18 - الجامع الصغير للسيوطي ط. العلمية سنة ١٩٥٤م .

19 - جمهرة أشعار العرب لابن أبي الخطاب ط . مصر سنة ١٣٠٨ه_.

20 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم ط . مصر سنة ١٩٤٨م .

٢١ - حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني .ط. مصر سنة ١٣٥١ه_.

22 - حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور لابن كفري بردى ط . بروكلي كليفورنيا سنة ١٩٣٠م .

٢٣ - خطط الشام لمحمد كرد علي ط . دمشق سنة ١٣٤٧ه_.

٢٤ - دائرة المعارف الإسلامية . ط . مصر سنة ١٩٥٧م.

٢٥ - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثانية لابن حجر العسقلاني ط. حيدر آباد سنة ١٩٥٠م .

26- زاد المعاد لابن قيم الجوزية مؤسسة الرسالة ط سنة 1981م.

27 - صفة الصفوة لابن الجوزي ط . حيدر آباد سنة ١٣٥٥ه_.

28- صفوة التفاسير للشيخ الصابوني سنة ١٣٩٩ه_.

٢٩ - الطبقات الكبرى لابن سعد ، دار صار بيروت بدون

٣٠ - العقد الفريد لابن عبد ربه بتحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وابراهيم الإيباري ط . دار الكتاب العربي سنة ١٩٨٢م.

31- العواصم من القواصم للقاضي ابن العربي بتحقيق محي الدين الخطيب

32 - فتوح البلدان للبلاذري ط . مصر سنة ١٣١٩ه_.

٣٣ - الفرق بين الفرق للبغدادي بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط. دار المعرفة -لبنان بدون تاريخ .

٣٤ - الفصل في الملل والنحل لابن حزم ط . مصر سنة ١٣٢١ه_ .

٣٥ - فوات السوفيات لابن شاكر الكبتي ط مصر سنة ١٢٩٩ه_.

ص: 218

٣٦ - الكامل لابن الأثير ط . مصر سنة ١٣٠٣ه_.

37 - كشف الخفا للعجلوني دار التراث بمصر بدون تاريخ .

38 - الكشاف للزمخشري

39 - کشف الظنون ط . استنبول سنة ١٩٤١م .

40- لسان العرب لابن متطور ط . بولاق بمصر سنة ١٣٠٨ه_.

41- لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ط. حيدر آباد سنة ١٣٣١ه_ .

٤٢ - مختار الصحاح للرازي بتحقيق محسود خاطر ط دار المعارف بمصر سنة ١٩١٦.

٤٣ - مروج الذهب للمسعودي ط . باريس سنة ١٩٣٠م . وط. دار المعرفة

٤٤ - الملل والنحل للشهرستاني - هامش الفصل لابن جزم سنة ١٣٢٠ه_

٤٥ - الوافي بالوفيات للصفدي ط . استنبول سنة ١٩٣١م

٤٦ - وفيات الأعيان لابن خلكان ط مصر سنة ١٣١٠ه_ .

ص: 219

ص: 220

الفهرس

الصورة

ص: 221

الصورة

ص: 222

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.