درة التنزيل و غرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: اسكافي خطيب

عنوان واسم المؤلف: دره التنزيل و غره التاويل في بيان الايات المتشابهات في كتاب الله العزيز/ الخطيب الاسكافي بروايه ابن ابي الفرج الاردستاني مشخصات نشر : بيروت

خصائص المظهر: ص 544

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : العربية

ملحوظة : پشت جلد لاتيني شده Al -KHATIB AL-ISKAFI DURRAT AT-TANZIL Wa GHURRAT AT Taawil.

ملحوظة : كتابنامه به صورت زيرنويس

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 70473

ص: 1

اشارة

دره التنزيل و غره التاويل في بيان الايات المتشابهات في كتاب الله العزيز

ص: 2

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى : 1422 ه_ 2002 م

ISBN 9953 - 420 - 54 - 8

دار المعرفة

للطباعة والنشر والتوزيع

DAR EL-MAREFAH

Publishing Distributing

جسر المطار - شارع البرجاوي - ص ب : ٧٨٧٦هاتف: ٨٣٤٣٠١- ٨٥٨٨٢٠ ، فاكس ٨٣٥٦١٤، بيروت - لبنان

Airport Square, P.O.Box :7876,Tel : 834301, 858820, Fax: 835614, Beirut - Lebanon http: // www.marefah.com/ E.mail: info@marefah.com

ص: 4

[المقدمة]

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قال إبراهيم بن علي بن محمد المعروف: بابن أبي الفرج الأردستاني رحمه اللّه:

هذه المسائل بيان الآيات المتشابهة لفظا بأعلام نصبت عليها من المعنى، أملاها أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الخطيب رحمه اللّه تعالى في القلعة الفخرية، إملاء لمّا خلا فيها، و لم يحضره غيري ممن يسوغ له حمل ما يكتب فيه و يكتب به، فكتبت عن لفظه المسائل و الأجوبة، و سألته أن يصدرها بخطبة، فارتجلها كارتجاله سائر الكلام بعدها و اللّه أعان و يسر و له الحمد.

الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم (أما بعد): فاعلموا حملة الكتاب المتين الحكيم، و حفظة القرآن المبين الكريم وفقكم اللّه تعالى لحق علمه بعد حق تلاوته، و أذاقكم من لذة قراءته و برد شراب معرفته ما يشغف قلوبكم بحلاوته، أني مذ خصني اللّه بإكرامه و عنايته، و شرفني بإقراء كلامه و درايته، تدعوني دواع قوية يبعثها نظر و رويّة في الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة و المختلفة، و حروفها المتشابهة المنغلقة و المنحرفة، تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، و تختص الكلمة بآيتها دون أشكالها، فعزمت عليها بعد أن تأملت أكثر كتب المتقدمين و المتأخرين، و فتشت عن أسرارها معاني المتأولين المحققين المتبحرين، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كنهها، كيف و لم يقرع بابها و لم يفترّ لهم عن نابها، و لم يسفر عن وجهها! ففتقت من أكمام المعاني ما أوقع فرقانا، و صار المبهم المتشابه و تكرار المتكرر تبيانا، و لطعن الجاحدين ردا، و لمسلك الملحدين سدا، و سميته: (درة التنزيل، و غرة التأويل) و ليس للّه بمنكر مستبدع أن يعثر خاطر عبد ربي ء على كنز حكمة في القرآن خبي ء، أو يبلغه في لطيف من لطائف كلامه حدا لا يبلغه أحدا و إن كان أوحدا، فإذا عرفتم ما نحونا إليه من سنن الآثار أمنتم عند القراءة مخوف العثار، ثم تطلعون بعده على علوم تبدو للنفس و تحتقرون معها بيان اللبس، و ترون ممالك لم يملكها قبلكم أمة، و مسالك لم يجل في مدارجها همة، فتعلمون أن كلام اللّه جل ذكره و علا شأنه و أمره بحر لا تستنفذ جواهره، و ذو عجائب لا تستدرك بواطنه و ظواهره، و ذو عمق لا يبلغ آخره، و ذو طول و عرض لا تقطع مزاخره،

ص: 5

و هو الغنم الذي من حازه ظفرت يداه، و لم يجزع لفوت ما عداه، فالدنيا قد تبرج بزخارفها، و تخدع نفس عارفها، إلا نفسا غلب نور قلبها ضياء بصرها و تصور العواقب من ثمرها، لا البوادي من زهرها، و ساءه ما تناضر منها بالفكر في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (1) فلا تحزن إن أجدبت مراعيها المنجعة، و لا إن زويت عنه عواريها المرتجعة، فحق من دلكم عليه أن تدعوا له بالمغفرة و الرحمة، و المعونة على شكر ما أولى من النعمة، و تبلغه من حسن الجزاء غاية، بأن يقرأ له في كل يوم آية يفي ء أجرها و لا يبخسك، و يزيده ثوابها فلا ينقصك. شغلنا اللّه بالحق عما يلهى من أحوال العاجلة، و بالعمل على ما يهون أهوال الآجلة إنه لطيف قريب سميع مجيب.

و من الآن أبين الطريق الذي سلكته، و أفضى به إلى علم ما عرفته، و أذكر ما نبهني على ما ادعيته لأريكم مثل ما رأيته، و باللّه أستعين و هو حسبي و نعم المعين.

ثم اعلموا أن الأحسن و الأولى أن تكون المسألة الأولى من هذا الكتاب مسألة من الحروف المقطعة؛ لأن الأسئلة عليها متفرعة مفرعة، لكني قد أفردت لها كتابا مفردا، جردت لحرف إشكالها مبردا، و الأسئلة عليها تربو على مائة، و الأجوبة عنها تغني عن فئة، فأردت أن تكون مميزة عن أخواتها، مخلصة من الآفة تخليص التمرة عن نواتها، و سترونها بعد إن شاء اللّه و لا قوة إلا باللّه.

ص: 6


1- سورة: يونس، الآية: 58.

2- سورة البقرة ثلاث و عشرون آية

الآية الأولى منها

فأول آية ابتدأت بها قوله تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ (1) و قال في سورة الأعراف (2): وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فعطف «كلا» على قوله اسْكُنْ بالفاء في هذه السورة، و عطفها عليه في سورة البقرة بالواو، و الأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء، و كان الأول مع الثاني بمعنى الشرط و الجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً (3) فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء، لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها، فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، و الأكل متعلق وجوده بوجوده: يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف (4): وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ فعطف كُلُوا على قوله: اسْكُنُوا بالواو دون الفاء؛ لأن «اسكنوا» من السكنى، و هي المقام مع طول لبث، و الأكل لا يختص وجوده بوجوده؛ لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه، و إن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء، وجب العطف بالواو دون الفاء، و على هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا و بقي أن نبين المراد بالفاء في قوله تعالى: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من سورة الأعراف مع عطفه على قوله: اسْكُنْ و هو أن السكن يقال لمن دخل مكانا، و يراد به: الزم المكان الذي دخلته و لا تنتقل عنه، و يقال أيضا لمن لم يدخله اسكن هذا المكان يعني: ادخله

ص: 7


1- سورة: البقرة، الآية: 35.
2- الآية: 19.
3- سورة: البقرة، الآية: 58.
4- الآية: 161.

و اسكنه كما تقوله لمن تعرض عليه دارا ينزلها سكنى، فتقول: اسكن هذه الدار، و اصنع ما شئت فيها من الصناعات، معناه: ادخلها ساكنا لها، فافعل فيها كذا و كذا، فعلى هذا الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا بالفاء الحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى؛ لأنه عز من قائل لما قال لإبليس: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً (1) فكأنه قال لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فقال: اسْكُنْ يعني: ادخل ساكنا ليوافق الدخول الخروج، و يكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، و الآخر بعده، مبالغة في الإعذار و توكيدا للإنذار، و تحقيقا لمعنى قوله عز و جل: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.

الآية الثانية

قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (2) و قال في هذه السورة بعد العشرين و المائة: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (3) فقدم في الأول قبول الشفاعة على أخذ الفدية، و في الثاني قبول الفدية على نفع الشفاعة، و الوجه في الأول أنه لما قال: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً بمعنى: لا يغني أحد عن أحد شيئا فيما يلزمه من العقاب، و لا يكفر سيئاته ماله من الثواب، و هو كقوله عز من قائل: وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً (4) فهذه الأشياء التي ذكر في الآية امتناع وقوعها في الآخرة أربعة أنواع يتلقى بها المكاره، و يداوي بها الشدائد، أ لا ترى العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة، و ارتهنت نفسه بعظيمة، و حاولت أعزته دفاع ذلك عنه و تخليصه منه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته و جلده، فإن رأى من لا قبل له بممانعته، و لا بدّ له من مدافعته، عاد بوجوه الضراعة و صنوف المسألة و الشفاعة، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان، و لم تنجه الخلتان من الخشونة و الليان، لم يبق بعدهما إلا فداء الشي ء بمثله، و فكه من الأسر بعد له إما بمال و إما غيره، فإن لم تغن هذه الثلاثة في العاجلة تعلل بما يرجوه من نصر في

ص: 8


1- سورة: الأعراف، الآية: 18.
2- سورة: البقرة، الآية: 48.
3- سورة: البقرة، الآية: 123.
4- سورة: لقمان، الآية: 33.

الآجلة و دالة في الخاتمة كما قال تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ (1) و قال تعالى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (2) على أحد وجوه التفسير فأخبر اللّه تعالى: أن ما يغني في هذه الدنيا عن المجرمين، و ترتب هذه المراتب بين العالمين، لا يغني شي ء منه في الآخرة عن الظالمين. و الفائدة في قوله تعالى في الآية الثانية، و تقديم قبول الفدية على نفع الشفاعة هي أنه لما قال: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً و معناه ما ذكرنا عقبه بنفي الفداء؛ لأن النفس لا تجزي عن النفس بفداء موقت يرتهن عنها مدة معلومة، و يكون بعد ذلك فداء يفك الرهن و يخلصه من التبعات، فيكون معنى لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً: لا تغني عنها بفداء محصور بوقت، و لا بفداء يخلصه على وجه الرهن و يكون بعد ذلك، وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ معناه: و لا تخفف مسألة من عذابها، و لا ينقص شفيع من عقابها، وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ، و هو الوجه الرابع الذي ذكرناه أخيرا في شرح الآية المتقدمة.

الآية الثالثة

قوله تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ (3) و قوله عز من قائل في سورة إبراهيم (4) عليه السّلام: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فأدخل الواو في قوله: وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ في سورة إبراهيم، و حذفها منه في سورة البقرة، و جعل يُذَبِّحُونَ بدلا من قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فالقول في ذلك: أنه إذا جعل يُذَبِّحُونَ بدلا من قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ لم يحتج إلى الواو، و إذا جعل يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ عبارة عن ضروب من المكروه هي غير ذبح الأبناء، لم يكن الثاني إلا بالواو، و في الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون خصصت لها الآية في سورة إبراهيم بالعطف بالواو هي أنها وقعت هنا في خبر قد ضمن خبرا متعلقا به؛ لأنه قال قبله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) ثم قال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ

ص: 9


1- سورة: الحج، الآية: 60.
2- سورة: الإسراء، الآية: 33.
3- سورة: البقرة، الآية: 49.
4- الآية: 6.
5- سورة: إبراهيم، الآية: 5.

فضمن إخباره عن إرسال موسى بآياته إخباره عن تنبيهه قومه على نعمة اللّه و دعائهم إلى شكرها. فكان قوله: وَ يُذَبِّحُونَ في هذه السورة في قصة مضمنة قصة يتعلق بها هي قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا و القصة المعطوفة على مثلها تقوي معنى العطف فيها، فنختار فيما كان يجوز فيه العطف فيه على سبيل الإيثار، لا على سبيل الجواز، و ليس كذلك موقع «يذبحون» في الآية التي في سورة البقرة؛ لأنه تعالى أخبر عن نفسه بإنجائه بني إسرائيل، و هناك أخبر عن موسى عليه السّلام أنه قال لقومه كذا بعد أن أخبر عنه أنه أرسله إليهم بآياته فافترق الموضعان من هذا الوجه.

الآية الرابعة

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا (1) ففي هذه الآية ست مسائل، إذا قوبلت بالآية التي تشابهها من سورة الأعراف (2) و هي قوله تعالى: وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا ...

المسألة الأولى: عطفه كُلُوا على ما قبله بالفاء في سورة البقرة و بالواو في سورة الأعراف في قوله تعالى: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ و هذه قد مر الكلام فيها مستقصى.

و أما المسألة الثانية: فجمعه للخطيئة على الخطايا في سورة البقرة، و على الخطيئات في سورة الأعراف على قول أكثر القراء ...

و أما المسألة الثالثة: فزيادته رَغَداً في سورة البقرة و حذفه له في سورة الأعراف ...

و أما المسألة الرابعة: فتقديم قوله: حِطَّةٌ في سورة الأعراف و تأخيره له في سورة البقرة ..

ص: 10


1- سورة: البقرة، الآيتان: 58، 59 ..
2- الآية: 161.

و المسألة الخامسة: إدخاله الواو على سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في هذه السورة، و إسقاطها منها في سورة الأعراف.

و أما المسألة السادسة: فزيادة «منهم» في الأعراف في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ و سقوطه في سورة البقرة منها، فأما الكلام في الخطايا و اختيارها في سورة البقرة، فلأنها بناء موضوع للجمع الأكثر و الخطيئات جمع السلامة و هي الأقل (و الدليل) على ذلك إنك إذا صغرت الدراهم قلت: دريهمات فتردها إلى الواحد و تصغره ثم تجمعه على لفظ القليل الملائم للتصغير، و كذلك الخطايا لو صغرتها لقلت: خطيات فرددتها إلى خطية، ثم صغرتها على خطية، ثم جمعتها جمع السلامة الذي هو على حد التثنية المنبئ عن العدد الأقل من الجمع، فإذا ظهر الفرق بين الخطايا و الخطيئات، و كان هذا الجمع المكسر موضوعه للكثير، و المسلم موضوعه للقليل استعمل لفظ الكثير في الموضع الذي جعل الإخبار فيه عن نفسه بقوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا و شرط لمن قام بهذه الطاعة ما يشرطه الكريم إذا وعد من مغفرة الخطايا كلها، و قرن إلى الإخبار عن نفسه جل ذكره ما يليق بجوده و كرمه، و أتى باللفظ الموضوع للشمول، فيصير كالتوكيد بالعموم كما لو قال:

نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ كلها أجمع، و لما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه عز اسمه، و إنما قال: وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فلم يسم الفاعل أتى بلفظ الخطيئات و إن كان المراد بها: الكثرة كالمراد: بالخطايا إلا أنه أتى في الأول لما ذكر الفاعل بما هو لائق بضمانة من اللفظ، و لما لم يسم الفاعل في الثاني في سورة الأعراف وضع اللفظ غير موضعه للفرقان بين ما يؤتى به على الأصل، و بين ما يعدل عنه إلى الفرع.

و أما الثالثة: ففي الإتيان بقوله: رَغَداً في هذه السورة و حذفها في سورة الأعراف.

الجواب عنها كالجواب في الخطايا و الخطيئات؛ لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه تعالى كان اللفظ الأشرف للأكرم فذكر معه الإنعام الأجسم، و هو أن يأكلوا رغدا، و لما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه لم يكن مثل الفعل الذي في سورة البقرة، فلم يذكر معه ما ذكر فيها من الإكرام الأوفر، و إذ تقدم اسم المنعم الكريم اقتضى ذكر نعمته الكريمة.

و المسألة الرابعة: في هذه الآية تقديم قوله عز من قائل: وَ قُولُوا حِطَّةٌ في

ص: 11

سورة الأعراف، و تأخيره في سورة البقرة عن قوله: وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً.

الجواب: عن ذلك مما يحتاج إليه في مواضع من القرآن في هذه الآية التي قصدنا الفرق بين مختلفاتها، و هو أن ما أخبر اللّه تعالى به من قصة موسى عليه السّلام و بني إسرائيل، و سائر الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه، و ما حكاه من قولهم قوله عز و جل لهم لم يقصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، و إنما قصد إلى اقتصاص معانيها، و كيف لا يكون كذلك و اللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فإذا حكاية اللفظ زائلة و تبقى حكاية المعنى، و من قصد حكاية المعنى كان مخيرا بأن يؤديه بأي لفظ أراد، و كيف شاء من تقديم و تأخير، بحرف لا يدل على ترتيب كالواو، و لو قصد حكاية اللفظ، ثم وقع في المحكي اختلاف لم يجز، فلو قال قائل حاكيا عن غيره: قال فلان: زيد و عمرو ذهبا و كان هذا لفظا محكيا ثم قال ثانيا قاصدا إلى حكاية هذه اللفظة من كلامه: عمرو و زيد ذهبا لم يجز له ذلك؛ لأنه غير قوله و أخر ما قدمه، و إن قصد حكاية المعنى كان ذلك مرخصا له.

و المسألة الخامسة: في هذه الآية إثبات الواو في قوله: وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في هذه السورة، و حذفها في سورة الأعراف منها، و الفرق بين الموضعين المؤثر في الموضع الذي قصد الفرق فيه دقيق، و هو أن قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ادخلوا في موضع المفعول من «قلنا» و المفعول يكون مفردا، و يكون مكانه جملة، و الفاعل عند البصريين لا يكون إلا مفردا، و لا تصح الجملة مكانه، و لذلك يقولون في قوله تعالى:

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ (1) إن فاعل «بدا» هو البداء الذي دل عليه الفعل؛ لأن الفعل دال على مصدر و كذلك قوله: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا (2) فاعل «يهد» عندنا مفرد محذوف، و عند الكوفيين تصح الجملة أن تقوم مقام الفاعل فعلى مذهبنا وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا الذي أقيم مقام فاعل «قيل» مفرد لا يصح أن يكون جملة، و لا يجوز أن يكون اسْكُنُوا مكان الفاعل كما كانت مكان المفعول في قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا فعلى هذا التقدير يكون للقائم مقام الفاعل لفظا مفردا هو القول كما كان البداء فاعل قوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ، و إذا خرج قوله: اسْكُنُوا عن أن يكون فاعلا، و كان لفظه في موضع الفاعل، و لم يتعلق بالفعل الذي قبله تعلق الفاعل بفعله، و لا تعلق المفعول بفعله الواقع به في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا

ص: 12


1- سورة: يوسف، الآية: 35.
2- سورة: السجدة، الآية: 26.

صار كأنه منفصل عن الفعل في الحكم و إن كان متصلا به في اللفظ، و جواب الأمر الذي هو قوله: اسْكُنُوا قوله: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ.

الجواب: في حكم الابتداء ينفصل كما ينفصل، و لا دليل في اللفظ على انفصاله إلا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف، و هو سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، و بحذف الواو منه، و استئنافه خبرا مفردا، و هذه المسألة هي التي غلط فيها أبو سعيد السيرافي في أول ما شرحه من ترجمة الكتاب، و هو قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية، وعده للوجوه التي تحتملها هذه اللفظة، و ذكر في جملتها: هذا باب أن يعلم ما الكلم من العربية فجعل ما الكلم من العربية، و هي جملة في موضع الفاعل من يعلم و هذا ما يأباه مذهبه و مذهب أهل البصرة، و قد أومأت إلى غرضي فيما يجوز أن تكون الواو له محذوفة من قوله: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في سورة الأعراف، و ثابتة فيه في سورة البقرة فتأمله فإنه مسألة مشكلة في النحو تفهمه إن شاء اللّه تعالى.

المسألة السادسة: في هذه الآية قوله تعالى في هذه السورة: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ (1) و في سورة الأعراف (2) في هذه القصة: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.

للسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة «منهم» في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة و فائدة يقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟

الجواب أن يقال: إن قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا و إن لم يذكر فيه «منهم» معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا وَ قُولُوا حِطَّةٌ فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل و المغيرون لما قدم إليهم من القول، إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة «منهم» هناك، و لا يقتضيها هنا و هو أن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص و التمييز بدليل لفظة «من»؛ لأنه تعالى قال: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (3) فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدد صنوف إنعامه عليهم، و أوامره لهم، فلما انتهت قال:

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعمة اللّه

ص: 13


1- سورة: البقرة، الآية: 59.
2- الآية: 162.
3- سورة: الأعراف، الآية: 159.

عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليهم بلفظ «من» التي هي للتخصيص و التمييز بناء على أول القصة التي هي، وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ليكون آخر الكلام لأوله مساوقا و عجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم، فهناك ذكر أمة عادلة هادية، و هنا ذكر أمة جائرة عادية، و كلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر منهم في سورة الأعراف، و أما في سورة البقرة فإنه لم تبن الآيات التي قبل قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا على تخصيص و تبعيض، فتحمل الآية الأخيرة على مثل حالها، أ لا ترى أنه قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (1) ثم كرر الخطاب لهم إلى أن انتهى إلى قوله: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (2) و قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ و تعقبه بقوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فلم يحتج إلى «منهم»؛ لأنه لم يتقدمه ما تقدم في سورة الأعراف مما يقتضيها.

الآية الخامسة

قوله تعالى: في سورة البقرة (3): ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ بالألف و اللام، و قال في سورة آل عمران (4): إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ نكرة غير معرفة، و كذلك في هذه السورة وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ لَيْسُوا سَواءً (5).

الجواب عن ذلك: أن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عرفوا و عرفت أفعالهم، و مضت أزمنتهم و أحوالهم، فلما شهروا و شهر فعلهم بوقوعه منهم و قيل الحق ما قاله اللّه تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (6) و الحق هو: أن يكون قتل نفسا مؤمنة يجب عليها القتل، و القاتل مكلف أو أن يرتد أو يزني و هو محصن، فهذا معلوم يخبر عنه بلفظ المعرفة، و القتل وقع منهم من غير أن كان على الأوجه الثلاثة المعلومة على أن هذه الآية يسأل فيها، فيقال: قد كان في قوله:

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ كفاية؛ لأنه لا يقتل نبي؛ لأنه لا يرتكب واحدا من الأوجه الثلاثة التي توجب القتل، و عن هذا أجوبة منها ما ذكرنا، و الآخر أن يقال المعنى: أنهم كانوا يقتلونهم من غير أن وقع منهم ما يوجب عليه القتل عندهم و في دينهم، و ليس هذا موضع

ص: 14


1- سورة: البقرة، الآيات: 40، 47، 122.
2- سورة: البقرة، الآية: 57.
3- الآية: 61.
4- الآية: 21.
5- سورة: آل عمران، الآيتان: 112، 113.
6- سورة: الأنعام، الآية: 151.

ذكر هذه الوجوه، و إنما القصد في هذا المكان التفرقة بين لفظ النكرة و المعرفة في الآيتين، و الموضع الثاني الذي ذكر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك و يعتقدونه و يدينون به، أ لا تراه قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1) هؤلاء قوم لم يمضوا، و لم ينقرضوا، فلذلك قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و قال في أول الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ و لم يقل: إن الذين كفروا فلما لم تكن هذه الحال واقعة منهم كانت مخالفة للحال الواقعة التي جعلت خبرا عن قوم مضوا على هذه الأفعال فقال فيهم: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (2) و أما قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (3) فهو خبر عن قوم كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ (3) فكان خبرا عن اعتقادهم؛ لأنه لا يجوز أن يعاقبوا و تضرب عليهم الذلة و المسكنة بذنوب وقعت من آبائهم لا منهم، فيصيرون مثل الأولين الذين أخبر عنهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ في تمييزه عن القوم الذين كانوا في عصر موسى صلى اللّه عليه و سلم فقال لهم: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ (4) فاختير لفظ المعرفة في القصة التي وقعت و وقع الإخبار عنها، و لفظ النكرة في القصة التي وقع التهديد مقارنا لها ليمنع من وقوعها، و ما كان في حيز ما لم يقع فالذنب في حيز المذكور، و العقاب عليه مثله كالمنكور.

الآية السادسة

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (5) و قال في سورة المائدة (6):

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ و قال في سورة الحج (7): إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.

ص: 15


1- سورة: آل عمران، الآية: 21.
2- سورة: البقرة، الآية: 61.
3- سورة: آل عمران، الآية: 112.
4- سورة: البقرة، الآية: 61.
5- سورة: البقرة، الآية: 62.
6- الآية: 69.
7- الآية: 17.

للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق و تأخيرها و رفع «الصابئين» في آية و نصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك؟

الجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة، ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، و قد غير فيها لفظة كما كانت عليه في الأولى فلا بد من حكمة هناك تطلب، فإذا أدركتموها قد ظفرتم، و إن لم تدركوها؛ فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم. فأما الآية الأولى في هذه السورة، فإن فيها مسائل ليس هذا المكان مكانها؛ لأنه يقال: كيف قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أي: من آمن منهم باللّه و اليوم الآخر، و إذا وصفوا بأنهم آمنوا، فقد ذكر أنهم آمنوا باللّه و اليوم الآخر، إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين آمنوا بكتب اللّه المتقدمة مثل صحف إبراهيم، و الذين آمنوا بما نطقت به التوراة و هم اليهود، و الذين آمنوا بما أتى به الإنجيل و هم النصارى، فهذا ترتيب على حسب ما ترتب تنزيل اللّه كتبه، فصحف إبراهيم عليه السّلام قبل التوراة المنزلة على موسى عليه السّلام، و التوراة قبل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام، فرتبهم عز و جل في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة، ثم أتى بذكر «الصابئين» و هم الذين لا يثبتون على دين، و ينتقلون من ملة إلى ملة، و لا كتاب لهم، كما للطائفتين اللتين ذكرهما اللّه تعالى في قوله: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا (1) فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب، و أما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة و تقديم الصابئين على النصارى و رفعه هنا و نصبه هناك ترتيب ثان، فالأول على ترتيب الكتب، و الثاني على ترتيب الأزمنة؛ لأن الصابئين و إن كانوا متأخرين عن النصارى بأنهم لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم؛ لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السّلام، فرفع: «الصابئون» و نوى به التأخير عن مكانه كأنه قال بعد ما أتى بخبر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الصابئون هذا حالهم أيضا، و هذا مذهب سيبويه؛ لأنه لا يجوز عنده، و لا عند البصريين و كثير من الكوفيين: إن زيدا و عمرو قائمان، و الفراء يجيز هذا على شريطة أن يكون الاسم الأول المنصوب بأن لا إعراب فيه، نحو: إن هذا و زيد قائمان، و هذه من كبار المسائل ذوات الشعب، و يتعلق بالخلاف بين البصريين و الكوفيين في أن لها عملين النصب و الرفع على مذهب البصريين، و أن لها

ص: 16


1- سورة: الأنعام، الآية: 156.

عملا واحدا عند الكوفيين و هو النصب، إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، و هذه الآية تدل عليه؛ لأنه قدم فيها الصابئون، و النية بها التأخير على مذهب سيبويه، و إنما قدّم في اللفظ و أخر في النية؛ لأن التقديم الحقيقي التقديم بكتبه المنزلة على أنبيائه عليهم السّلام، فلذا فعل ذلك في الآية الأولى، و كان هاهنا تقديم آخر بتقديم الزمان، و جاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي قبل، ثم أقيمت في لفظه أمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلا على أن هذا الترتيب ترتيب بالأزمنة، و أن النية به التأخير و الترتيب بالكتب المنزلة، و أما الترتيب الثالث في سورة الحج: فترتيب الأزمنة التي لا نية للتأخير معه؛ لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتب لهم و هم: الصابئون و المجوس و الذين أشركوا عبدة الأوثان، فهذه ثلاث طوائف، و أهل الكتاب طائفتان، فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة، و أخر الذين أشركوا؛ لأنهم و إن تقدمت لهم أزمنة، و كانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات اللّه عليهم، فإنهم كانوا أكثر من مني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بهم و صلي بجهادهم، و كأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم كانوا أهل زمانه، و هذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين قدم ذكرهم.

الآية السابعة

قوله تعالى في هذه السورة: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً (1) و في سورة آل عمران (2): قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.

للسائل أن يقول: ما الفرق بين اللفظتين و لم كانت الأولى «معدودة»، و الثانية «معدودات»، و الموصوف في المكانين موصوف واحد، و هو قوله: «أياما»؟

الجواب عنه أن يقال: إن الجمع بالألف و التاء أصله للمؤنث نحو: مسلمة و مسلمات و صفحة و صفحات و مكسورة و مكسورات، و لا يكاد يجي ء الجمع الذي واحده مذكر هذا المجي ء إلا ألفاظا معدودة نحو: حمام و حمامات، و جمل سبطر و جمالات سبطرات، و أسد سبطر و أسود سبطرات، أي: تسبطر عند الوثبة، و أما قولهم: كوز مكسور

ص: 17


1- سورة: البقرة، الآية: 80 ..
2- الآية: 24.

و جرة مكسورة فإن ما فيه هاء التأنيث يجمع على مكسورات فيقال: جرار مكسورات و كيزان مكسورة و ليس قولك: كيزان مكسورات بأصل بل المستعمل المستمر في ذلك أن يقال: كيزان مكسورة، و ثياب مقطوعة، و سرر مرفوعة، و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة، فالصفة الجارية على جمع مذكر الواحد يستمر فيها التأنيث على الحد الذي بينته و علامة الجمع المؤنث الواحدة الألف و التاء في الأصل، فلما كان معدودة من المطرد المستمر استعمل لفظها في الأول، و لما كان الجمع بالألف و التاء في الأصل قد يكون فيما واحده مذكرا و إن قل، و كان على سبيل من سبيل المجاز استعمل ذلك فيه كقوله تعالى:

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ (1) و قال: فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (2) و الأيام جمع يوم و هو مذكر، فيكون هذا على أحد الوجهين: إما أن يكون المراد: اذكروا اللّه في ساعات أيام معلومات معدودات؛ لأن المراد من اذْكُرُوا اللَّهَ أن يكبروا في اليوم الواحد في أدبار الصلوات الخمس المعدودة، فحذفت الساعات، و أقيم المضاف إليها مقامها، و إما أن يكون ألحق بما في واحده علامة التأنيث، لاستوائهما في الجمع، و دخولهما في الفرعية التي يكتسبان لها لفظ المؤنث، فكما قيل: جرار مكسورة و الجرة مؤنثة جاز أيضا كيزان مكسورات حملا على الجمع الذي يساويه في التأنيث الذي ليس بحقيقي، و إن كان ذلك لذلك فمعدودة المذكورة في الآية التي في هذه السورة مستمرة في بابها و باب غيرها، و الجمع بالألف و التاء ليس بمستمر، و إنما هو على ضرب من التشبيه بما أصله الألف و التاء، فكان استعمالها أولا أولى، و لجواز الألف و التاء على غير طريق الاستمرار استعمل في الثاني ليشمل الأصل و الجائز بالاستعمال. فأما المعنى في القلة فسواء في قوله:

مَعْدُودَةً و مَعْدُوداتٍ و قد يقال أيضا: أيام معلومات على أن الأيام المعلومة في الأصل تسعة، فكل ثلاثة أيام منها معلومة، فتجمع هذه الثلاثات على الأيام المعلومات؛ لأن الواحد أيام معلومة و المعلومة تجمع على المعلومات.

الآية الثامنة

قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (3) و قال اللّه عز و جل في سورة الجمعة (4): فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.

ص: 18


1- سورة: البقرة، الآية: 203.
2- سورة: الحج، الآية: 28.
3- سورة: البقرة، الآيتان: 94، 95.
4- الآيتان: 6، 7.

للسائل أن يقول: هل في الآية الأولى ما يقتضي «لن» الناصبة، و في الثانية ما يوجب الاقتصار على «لا» و رفع الفعل بعدها؟

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى لما كانت مفتتحة بشرط علقت صحته بتمني الموت، و وقع هذا الشرط غاية ما يطلبه المطيع، و لا مطلوب وراءه ما ادعوه لأنفسهم، و هو أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم، و وجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه و أبلغه في معنى ما ينتفي شرطهم به، و كان ذلك بلفظة «لن» التي هي للقطع و البتات، ثم أكد بقوله: أَبَداً ليبطل تمني الموت الذي يبطل دعواهم بغاية ما يبطل به مثله. أ لا ترى أنه ليس بعد حصول الدار الآخرة خالصة لأمة من الأمم مقترح لمقترح و لا مطلب لمطلب .. و ليس كذلك الشرط الذي علق به تمني الموت في سورة الجمعة (1)، لأنه قال: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ و ليس زعمهم أنهم أولياء للّه من دون الناس المطلوب الذي لا مطلوب وراءه لأنهم يطلبون بعد ذلك إذا صح لهم هذا الوصف دار الثواب، فلما كان الشرط في هذا المكان قاصرا عن الشرط في المكان الأول، و لم تكن الدعوى دعوى غاية المطلوب لم يحتج في نفيه و إبطاله إلى ما هو غاية في بابه، فوقع الاقتصار على «لا يتمنونه» و ليس في لفظه معنى التأبيد و إنما حصل ذلك فيه بما قارنه من قوله: أَبَداً فكان الأول أوكد و أبلغ؛ لأن لفظ الاسم و الفعل للتأبيد فافترق الموضعان.

الآية التاسعة

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (2) و قال في هذه السورة أيضا: وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (3) و قال في سورة الرعد (4): وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ.

ص: 19


1- الآية: 6.
2- سورة: البقرة، الآية: 120 ..
3- سورة: البقرة، الآية: 145.
4- الآية: 37.

للسائل أن يسأل فيقول: «ما» في هذه المواضع بمعنى «الذي» فما الفائدة في إخراج بعضها على لفظ «الذي»، و إيقاع الأخرى على لفظ «ما»، و إدخال «من» على «بعد» في قوله: ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ و هل بين قولك: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ و قولك: بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فرق و هل بين «الذي» و بين «ما» فرق؟

الجواب عن ذلك أن يقال تبين أولا: الفرق بين «الذي» و بين «ما» ليصح الفصل، و يظهر موضع كل واحد منهما و المعنى الذي يليق بهما: اعلم أن «ما» إذا كانت بمعنى:

«الذي» فإنها توافقها بأنها تبين بصلتها، و تخالفها بأشياء كثيرة، فتصير «الذي» متضمنة من البيان ما لا تتضمنه «ما». فمن ذلك إنك تدخل على «الذي» أسماء الإشارة، فتكون «الذي» صفة لها كقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ (1) و قوله: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ (2) فيكتنف «الذي» بيانان أحدهما: الإشارة قبلها و الآخر: الصلة بعدها و لا يكون ذلك في «ما»؛ لأنها لا يوصف بها كما يوصف «بالذي»، لا تقول: أمن هذا ما هو جند لكم؟.

و الثاني: أن «ما» تنكر فيجري ما كان صلة لها صفة تبينها، و ليس ذلك في «الذي» و هو كقوله في الشعر:

ربما تكره النفوس من الأم ر له فرجة كحل العقال

و الثالث: أن «الذي» تثنى و تجمع و تؤنث، فتلحقها هذه العلامات بيانا لهذه المعاني و «ما» لا يلحقها ذاك، بل هي على لفظة واحدة في التثنية و الجمع و التأنيث.

و الرابع: أن «الذي» قد لزمتها أمارة التعريف و هي: الألف و اللام و لا شي ء مما ذكرناه في «ما»، و لشدة إبهامها خص التعجب بها؛ لأن سبب التعجب إذا استبهم كان أبلغ في معناه، فإذا تبينت أن «الذي» و «ما» التي بمعناها: اسمان مبهمان ناقصان، و «الذي» تزيد على «ما» في وجوه البيان الذي ذكرنا رجعنا إلى الآيات الثلاث، و بينا ما يليق من الاسمين بكل آية فقلنا قوله تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (3) أي:

لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتها، و لن ترضى عنك النصارى حتى تتبع ملتها، و اتباع

ص: 20


1- سورة: الملك، الآية: 20.
2- سورة: الملك، الآية: 21.
3- سورة: البقرة، الآية: 120.

الملتين في عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم كفر، و لذلك قال اللّه تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي: الإيمان الذي بعثتك به هو الطريق المؤدي إلى رضى اللّه و إلى ثوابه. ثم قال: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فمنعه من اتباع الفرقتين بالعلم الذي حصل له بصحة الإيمان و بطلان الكفر، «و الذي» في هذا المكان واقعة على العلم الذي ثبت به الإسلام و صح الإيمان، و كما أن هذا العلم مانع من الكفر الذي هو أكبر الذنوب، فالعلم الذي يمنع منه أفضل العلوم، فإذا عبر عنه بأحد هذين الاسمين المبهمين وجب أن يخص منهما بالأشهر، إذ كان للعلم المحيط بالأكثر و هو جملة الدين .. فأما الموضعان الآخران فليس القصد فيما عبر بلفظة «ما» عنه فيهما مثل القصد في الآية الأولى و ذلك أن قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ جاء بعد خبر اللّه تعالى عن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم في القبلة؛ لأنه قال عز اسمه: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إلى قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (1) فمنع عز و جل عن اتباع أهوائهم في أمر القبلة، و هو بعض الشرع بما حصل له من العلم بأن القبلة هي التي أمر النبي صلى اللّه عليه و سلم بالتوجه إليها، فإذا كان ذلك بعض الشرع كان العلم بصحته بعض علم الشرع، و لم يكن كالعلم في الآية الأولى الذي هو محيط بالشرع و كل الإيمان، فلما كان واقعا على بعض ما وقع عليه الأول لم يشهر شهرته، فعبر عنه باللفظ الأقصر لما خص الأول باللفظ الأشهر، و كذلك قوله تعالى في سورة الرعد (2): وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ إنما جاء بعد قوله: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ (3) فنهى اللّه تعالى عن اتباع أهوائهم في البعض بما أنزل اللّه عز و جل إليه، و هو الذي ينكره الأحزاب بما ثبت له من العلم بصحة هذا البعض الذي ينكرونه كما ثبت له بباقيه، فلما كان هذا العلم بعض العلم الذي عبر عنه بلفظة «الذي» صار كالشائع في أبعاض هي مجموعة في الأول الذي عبر عنه باللفظ الأشهر، فكان العلم المانع من اتباع أهوائهم فيه مثل العلم المانع من اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فعبر عنه بمثل ما عبر به عن ذلك. فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة «من»؟ فقال: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ و لم يكن ذلك في

ص: 21


1- سورة: البقرة، الآية: 145.
2- الآية: 37.
3- سورة: الرعد، الآية: 36.

قوله: بَعْدَ الَّذِي و لا في قوله في سورة الرعد: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ و هل لاختصاص هذا المكان فائدة دون المكانين الآخرين؟ .. قلت: هنا فائدة تقتضي «من» و ليست في الآيتين الأخريين، و هي أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة و أوقات مخصوصة لها في اليوم و الليلة مؤقتة، فخص ب «من» التي هي لابتداء الغاية، و القبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها و أمرت بالتوجه نحوها صرت من الظالمين، فلما تخصص بوقت مضيق محدود، لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، و ليس كذلك ما بعد قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت، إذ كان واجبا في الأوقات كلها، و لم يكن مما يجوز أن ينسخ؛ لأنه علم بالإيمان و صحة الإسلام، و بطلان الشرك و الكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة «من» التي هي للحد و ابتداء الغاية. و كذلك الآية التي في سورة الرعد لما كان العلم المانع من اتباع أهوائهم علما بأن جميع ما أنزل اللّه حق، و أن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الغرض فيها بوقت يجب حده بمن، بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول «من» في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. و مما يبين لك الأغراض التي أشرنا إليها في الآيات الثلاث، و أنها يجوز أن تكون مقصودة و اللّه أعلم ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه عن اتباع أهوائهم في قوله: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هو منع عن الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، و هو قوله: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ و الآية الأخيرة أيضا لما كان العلم بها مانعا من العلم بشطر من الدين، و ترك شطر منه كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، و كان مثله في الغلظة و هو قوله: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ و أما اتباع أهوائهم في أمر القبلة فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يصح تبديله و تغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون بالموضعين الآخرين، و هو قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن فعلت ذلك وضعت الشي ء في غير موضعه و نقصت الدين حقه، فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.

ص: 22

الآية العاشرة

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (1) و في سورة إبراهيم (2):

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً.

للسائل أن يسأل فيقول: لم كان في هذه السورة بلد نكرة، و في سورة إبراهيم معرفة؟

الجواب: عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقال: الدعوة الأولى وقعت و لم يكن المكان قد جعل بلدا فكأنه قال: اجْعَلْ هَذَا الوادي هَذَا الْبَلَدَ آمِناً لأن اللّه تعالى حكى عنه أنه قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (3) بعد قوله: اجْعَلْ هَذَا الوادي بَلَداً و وجه الكلام فيه تنكير «بلد» الذي هو مفعول ثان، و هذا مفعول أول ..

و الدعوة الثانية وقعت و قد جعلت بلدا فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته كما أردت، و مصرته كما سألت ذا أمن على من أوى إليه، فيكون: الْبَلَدَ على هذا عطف بيان على مذهب سيبويه و صفة على مذهب أبي العباس المبرد، و آمِناً مفعولا ثانيا، فعرّف حين عرف بالبلدية، و نكر حيث كان مكانا من الأمكنة غير مشهور بالتمييز عنها بخصوصية من عمارة و سكنى الناس.

الجواب الثاني: أن تكون الدعوتان واقعتين بعد ما صار المكان بلدا و إنما طلب من اللّه أن يجعله آمِناً و القائل يقول: اجعل ولدك هذا ولدا أديبا، و هو ليس بأمره بأن يجعله ولدا؛ لأن ذلك ليس إليه، و إنما يأمره بتأديبه، فكأنه قال: اجعله بهذه الصفة و هذا كما يقول: كن رجلا موصوفا بالسخاء و ليس يأمره أن يكون رجلا، و إنما يأمره بما جعله و صفا له من السخاء، فذكر الموصوف، و أتبعه الصفة، و هو كما تقول: كان اليوم يوما حارا، فتجعل يوما: خبر كان و حارا: صفة له، و لم تقصد أن تخبر عن اليوم بأنه كان يوما؛ لأنه يصير خبرا غير مفيد، و إنما القصد أن تخبر عن اليوم بالحر، فكان الأصل أن تقول: كان اليوم حارا و أعدت لفظ يوم لتجمع بين الصفة و الموصوف، فكأنك قلت: كان

ص: 23


1- سورة: البقرة، الآية: 126.
2- الآية: 35.
3- سورة: إبراهيم، الآية: 37.

هذا اليوم من الأيام الحارة، و كذلك تقول: كانت الليلة ليلة باردة، فتنصب ليلة على أنها خبر كان، و حكم الخبر أن يتم به الكلام، و لو قلت: كانت الليلة ليلة لم يكن الكلام تاما؛ لأن القصد إلى الصفة دون الموصوف، فكذلك قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً يجوز أن يكون المراد: اجْعَلْ هَذَا البلد بَلَداً آمِناً فتدعو له بالأمن بعد ما قد صار بلدا على ما مثلنا، و يكون مثل قوله: اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً و تكون الدعوة واحدة قد أخبر اللّه عنها في الموضعين. فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة كما تقول: رأيت رجلا فأكرمت الرجل فليس بشي ء، و ليس ما ذكره مثلا لهذا، و لا هذا المكان مكانه.

الآية الحادية عشرة

اشارة

من هذه السورة مفارقة الآي التي شرطنا الفرق بينها، فيما خالفها بلفظ يسير من الآية التي بإزائها غير أنها مثلها في التكرير و الحاجة إلى ذكر الفائدة في إعادتها و هي قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (1).

للسائل في ذلك سؤالان:

أحدهما: أن تقول: ما فائدة الآية و هي خبر يعلمه المخاطب قبل أن يخبر به، فلا يستفيد بذكره ما لم يكن علمه قبل؛ لأنه يعلم أن الأمة التي وصاها يعقوب عليه السّلام قد مضت و انقضت و لها ما كسبت من أجر، و عليها ما اكتسبت من إثم، و أن المخاطبين يؤاخذون بعملهم لا بعمل غيرهم، و لا يسألون عما عمله من تقدمهم. و إذا كان معنى الآية هذا فهو معلوم لكل مميز لا يحتاج إلى استفادته بإخبار مخبر.

و السؤال الثاني: هو عن تكرار هذه الآية؛ لأنها ذكرت في صدر العشر المفتتحة بقوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ (2) ثم أعيدت في خاتمة هذه العشر التي تنقطع إلى قوله: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (3).

ص: 24


1- سورة: البقرة، الآيتان: 134، 141.
2- سورة: البقرة، الآية: 131.
3- سورة: البقرة، الآية: 142.

الجواب: عن السؤال الأول و ذكر فائدة الآية مع وضوح معناها لكل ذي معرفة فمن وجهين:

أحدهما: أن يكون مثل هذا الكلام يقال: و إن كان معلوما للإنسان على سبيل التنبيه على العصيان، و البراءة إليه من فعله، و أنه هو المؤاخذ به من دون غيره فيخرج الكلام على حد من المعدلة و النصفة لا مذهب لأحد عنه، و يكون هذا أدعى له إلى التأمل و التدبر و أقرب إليه من التبصر كما قال تعالى لنبيه عليه السّلام: وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (1) فهذا أيضا معلوم إلا أنه على سبيل تخليتهم مع النظر لأنفسهم، و التبرّي مما يعود بسوء العاقبة عليهم. و على هذا الحد لكم دينكم ولي دين و هذا كثير و القصد به مفيد كما بينا.

و الوجه الثاني: من الجواب عن السؤال الأول أن يقال: إن هذه الآية تبكيت للمعاندين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن لزوم دينهم و شريعتهم مما أوجبه الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه على سلفهم و خلفهم، فاحتج عليهم بأن ما يدّعونه لا يقدرون فيه على أن يقولوا أنهم سمعوا ذلك منهم مشاهدة لقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي (2) على معنى: لم يكونوا شهداء، فإذا لم يثبت ذلك عندهم بمشاهدة ينقطع العذر و تلزم الحجة؛ لأن تلك الأمة قد خلت و انقضت و أدّت عن اللّه ما تحملت، و هو أن تكون التوراة قد أخبرت بمجي ء عيسى عليه السّلام و مجي ء النبي صلى اللّه عليه و سلم من بعده، فلها الأجر في صحة أدائها و إظهارها ما أخذ اللّه به الميثاق عليها في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (3) و معنى قوله: وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ إثم ما كسبتم لما نبذتم ذلك وراء ظهوركم و اشتريتم به ثمنا قليلا فهذا معنى قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ فتبين لك أنهم إذا لم يعلموا ما يدّعونه من طريق المشاهدة، لم يبق إلا أن يعلموه بخبر مخبر، و المخبر الذي بينهم و بين تلك الأمة ممن يجوز عليه الكذب، و هذا خبر اللّه تعالى و هو الخبر الذي لا يكذب نبيه على ذلك بقوله عند الانتهاء:

ص: 25


1- سورة: يونس، الآية: 41.
2- سورة: البقرة، الآية: 133.
3- سورة: آل عمران، الآية: 187.

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (1) أي إذا لم تعلموا ذلك من طريق مشاهدة لانقضاء تلك الأمة، فاللّه تعالى أعلم منكم، و قيله أصدق من قيلكم، و أنتم تعلمون فتكتمون ما عندكم من الشهادة حسدا و بغيا و طلبا للرئاسة، و اللّه تعالى قد أثبت ببعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم أنه رسوله و أن هذا القرآن تنزيله بحجج لائحة و براهين واضحة، و هو عز من قائل يخبر خبرا حقا و قولا صدقا: أن الذي يدعون نقله عنهم ليس بحق، فإذا بطل علم ذلك من طريق المشاهدة و من طريق الخبر لم يثبت لكم من الحجة ما يثبت عليكم، و يكون معنى قوله: وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ لا تسألون عن عملهم؛ لأنه لا حجة لكم فيه بل الحجة عليكم به؛ لأن عملهم إبلاغهم الرسالة، و فيها ما هو حجة عليكم، و قد قاموا به حق القيام، و ثبت لهم صدق هذا المقام، فلا تسألون عن عملهم الذي هو صفتهم و لا يقال لكم: هل أدوا ذلك إليكم؟ لوضوح الحجة به عليكم. و يجوز أن يكون في ضمن هذه الآية: و هم مسئولون عن عملكم تبكيتا لكم و تثبيتا لحجتهم عليكم، فذكر أحد الضدين، و اكتفى به عن الضد الذي ينافيه كما قال اللّه تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (2) و معناه: تقيكم الحر و البرد فكذلك قوله: وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ و هم مسئولون عن عملكم لقوله تعالى: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (3) فأخبر عز اسمه أنه يسأل عيسى عليه السّلام عن عمل القوم بعده، و ادعائهم عليه ما لم يقله تبكيتا للقوم، و تثبيتا للحجة عليهم، فكذلك معنى المحذوف من الآية بإزاء المثبت فيها اكتفاء بذكره عنها. و بقي الجواب عن فائدة تكرار الآية في أول هذه العشر و في آخرها و في أنها ذكرت بعد الأول في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ و معناه: أن إسرائيل عليه السّلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم، و وصاهم بها فقال تعالى لهؤلاء: أ تنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السّلام بنيه و تقريره إياهم و إقرارهم به و الأمة قد انقضت و حالها في عبادتها قد ثبتت، و من نفى ما ثبت من الدين فقد دخل في الكفر، فهذه الآية الأولى عقب ما

ص: 26


1- سورة: البقرة، الآية: 140.
2- سورة: النحل، الآية: 81.
3- سورة: المائدة، الآية: 116.

ثبت من تقرير يعقوب عليه السّلام لبنيه و إقرارهم له، و هذه الآية كررت بعينها بعد قوله تعالى:

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ الآية: أم أنتم مثبتون ما هو منتف؟ و من أثبت في الدين ما ليس فيه من هذا البهتان العظيم فهو في الإثم، كمن نفى عنه ما هو منه، ففي الأول: نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل، و في الثاني:

إثبات ما هو منفي من كون إبراهيم و إسماعيل هودا أو نصارى، و كل واحد من هذين يوجب من البراءة و يستحق به من غلظ الوعيد، و التخويف بالعقاب، و التنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قدم في الدعوى الأولى الكاذبة، فكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها و تنبيهه على فساد قوله كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، و حقها كما وقعت الأولى في محلها و مستحقها، فلم يكن ذلك تكرارا بل كان وعيدا عقب كبيرة، كما كان الأول وعيدا عقب كبيرة أخرى غير الثانية.

الآية الثانية عشرة

قوله تعالى في هذه السورة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (1) و قال تعالى شبيها لهذه الآية في سورة آل عمران (2): قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

للسائل أن يسأل: عن موضعين من هاتين الآيتين.

أحدهما قوله: أُنْزِلَ إِلَيْنا في الأولى و عَلَيْنا في الثانية.

و الموضع الثاني: تكرار أُوتِيَ في الأولى، و تركه في الثانية فنقول: هل لاختيار: إِلى مع قوله: أُنْزِلَ في هذه السورة فائدة يوجب اختصاصها؟ و هل لاختيار: عَلى مع: أُنْزِلَ في سورة آل عمران معنى يقتضيها؟ و لم كرر أُوتِيَ هنا و لم يكررها هناك؟.

ص: 27


1- سورة: البقرة، الآية: 136.
2- الآية: 84.

الجواب: المختصر المشار به إلى الفرق بين الموضعين في: عَلى و إِلى أن أول الآية التي اختصت بها على قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ و أول الآية التي اختصت بها إلى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ و شرح ذلك أن «على» موضوعة لكون الشي ء فوق الشي ء و مجيئه من علو، فهو مختص من الجهات الست كلها بجهة واحدة، و «إلى» للمنتهى، و يكون المنتهى من الجهات الست كلها، فإن توجه نحو الشي ء شي ء من عن يمينه أو عن شماله أو قدامه أو من ورائه أو من فوقه أو من تحته، فإنه إذا بلغه يقال فيه: انتهى إليه فلا يتخصص «إلى» بجهة واحدة كما يتخصص «على»، فقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ اختيرت فيها «إلى»؛ لأنها مصدرة بخطاب المسلمين، فوجب أن يختار له «إلى»، ثم جعل ما عطف عليه على لفظه بحق الاتباع، و إن صح فيه معنى الانتهاء فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، و إنما أنزل على الأنبياء، ثم انتهى من عندهم إليهم، فلما كان قُولُوا خطابا لغير الأنبياء، و كان لأممهم كان اختيار إِلى أولى من اختيار عَلى و لما كانت في سورة آل عمران قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم و هو قوله: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا كانت عَلى أحق بهذا المكان؛ لأن الوحي أنزل عليه، و في لفظ أُنْزِلَ دلالة على انفصال الشي ء من فوق ثم انتهى من عندهم إليهم أسفل و أن يقرب إليه ما يشاء كله فيما يستحقه من المعنى أولى، و إن كان القرآن قد نطق بجميع ذلك في الأنبياء و في غيرهم كقوله عز و جلّ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ (1) و أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ (2) و قال في موضع آخر: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (3) فالمنزل على الأنبياء منته إليهم، فلذلك صحت «إلى»، إلا أن على أصلها- إذا قصد الإيضاح بالمعنى- أن تستعمل فيمن نزل الوحي عليه، و شركة الأمة في اللفظ مجاز لا حقيقة، و «إلى» في ذكر الإنزال المتعلق بأمم الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه أشبه بحقيقة معناها «من على»، فلذلك خصنا في الموضعين باللفظين المختلفين، و جعل ما بعدهما يجري مجراهما كما يجب في حكم الاتباع. و أما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظة أُوتِيَ من سورة البقرة، و لم يعد فيما بإزائها من سورة آل عمران.

الجواب عنه أن يقال: إنما اختص هناك؛ لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله:

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ (4) فقدم ذكر إيتاء الكتاب و اكتفى به عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل

ص: 28


1- سورة: آل عمران، الآية: 3.
2- سورة: آل عمران، الآية: 7.
3- سورة: المائدة، الآية: 48.
4- سورة: آل عمران، الآية: 81.

التوكيد. و بيان ذلك أن هذه العشر مبنية على ذكر عهد اللّه إلى الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه و ما أخذ عليهم من المواثيق في تبيين ما أنزله إليهم للناس فقوله: وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ هو قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ في المعنى فلما تقدم هذا الذكر و جاء: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى اكتفى عن إعادة وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ بالذكر المتقدم، و لما لم يتقدم في سورة البقرة ذكر إيتاء النبيين ما أوتوا من الكتب في هذه العشر لم يكن فيه ما يغني عن التوكيد بإعادة اللفظ.

هذا الفرق بين الموضعين و اللّه أعلم.

الآية الثالثة عشرة

قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1) و قال بعده في هذه العشر: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2).

للسائل: أن يسأل عن الفائدة لتكرار هذه الآية في هذه العشر مع أن في كل واحدة كفاية.

الجواب عنه أن يقال: إن قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ هو الأمر الأول بالتوجه نحو القبلة التي هي الكعبة، و اللفظ للنبي صلّى اللّه عليه و سلم و ما بعده هو خطاب له و لأمته و هو قوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... و أما الآية الثانية و هي قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فالخروج خروجان. أحدهما:

خروج المصلي من مكان إلى مكان يرى فيه الكعبة، و هو: المسجد الحرام، فكأنه قال:

و من أي باب من أبواب المسجد خرجت فتوخّ استقبال الكعبة بالصلاة. و الخروج الثاني:

خروج من البلد الذي فيه المسجد الحرام و هو: الحرم فكأنه قال: و إن خرجت من البلد من أي باب خرجت فاجعل الكعبة قبلة تتوجه نحوها بصلاتك، فعلى هذا يكون لكل آية فائدة، فالأولى ليس فيها خروج، و الثانية هي خروج من أقرب الأماكن إلى الكعبة، و الثالثة خروج مما عدا ذلك عام في البلاد، و قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا يثبت مثلها

ص: 29


1- سورة: البقرة، الآية: 144.
2- سورة: البقرة، الآيتان: 149، 150.

للبعد، فوقعت مظاهرة بالأمر بتولي القبلة في القرب و البعد، و لفظة خَرَجْتَ لفظة الماضي و هي في موضع المستقبل؛ لأن المعنى معنى الشرط و الجزاء، «و حيث» و حدها و إن تضمنت معنى الشرط؛ فإنه لا يجزم بها الفعل المستقبل بل تقول: من حيث تخرج، فترفع الفعل، فإن أردت: من أي موضع يخرج، فأي موضع يجزم الفعل، «و حيث» لا تجزمه إلا إذا قارنتها «ما»، فتقول: حيثما تنزل أنزل، فإن قلت: حيث تنزل أنزل، بطل الجزم و وجب الرفع، فقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ. كنتم في هذا المكان في موضع فعل مجزوم، فكأنه قال: وَ حَيْثُ ما تكونوا فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و ليس كذلك وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، إلا أنه لا يخرج عن تضمن معنى الشرط. يبين ذلك دخول الفاء في الجواب و لو لا هذا المعنى ما احتيج إليها، فلهذا قلنا إن الماضي بعدها بمنزلة المستقبل، كما يكون في قولك: إن خرجت خرجت، إلا أن الماضي لا يجزم كما لا يجزم الفعل في صلة «الذي» و إن دخله معنى الشرط، إذا قلت: الذي يزورني فله درهم فأوجبت الدرهم بالزيارة، «و حيث» في هذا الموضع على غير ما هي عليه في قولك: قعدت اليوم حيث قعدت أمس؛ لأن تلك شائعة كشياع الأسماء التي تقع بمعنى الشرط و مجازاتها.

الآية الرابعة عشرة

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (1) و في هذه الآية موضعان يشابهان موضعين من آيتين أخريين. الأول قوله: ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا و بإزائه في سورة لقمان (2): وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. و الموضع الثاني قوله في سورة المائدة (3): أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ.

للسائل أن يسأل، فيقول: هل لتخصيص الموضع الذي في البقرة بقوله أَلْفَيْنا دون وَجَدْنا فائدة تخصه؟ و هل لتخصيص الموضع الثاني بقوله: لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً دون قوله لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً فائدة؟ و هل لتخصيص لا يَعْلَمُونَ في موضعه دون قوله: لا يَعْقِلُونَ في موضعه فائدة؟

ص: 30


1- سورة: البقرة، الآية: 170.
2- الآية: 21.
3- الآية: 104.

الجواب عن الموضع الأول و هو قوله: أَلْفَيْنا أن «ألفينا» يقصد بها بعض الوجوه التي يستعمل عليه «وجدنا»؛ لأنه يقال: وجدت الشي ء، فلا يحتاج إلى مفعول ثان إذا وجدته عن عدم، و لوجدان الضالة تقول: وجدت الضالة و تقول: وجدت زيدا عاقلا، فيكون الوجود متعلقا بالخبر الذي هو المفعول الثاني، و لا بدّ له في هذا الوجه منه، و لا يكتفي بالمفعول الأول، و أما قولهم «ألفيت» فإنها مخصوصة بهذا الوجه من وجوه «وجدت»، لا يقال: ألفيت درهما بمعنى: وجدت درهما، و لا: ألفيت الضالة بمعنى: وجدتها، و إنما يقال: ألفيت زيدا عاقلا، و ألفيته على الهدى و على الضلالة، فكان في الموضع الأول استعمال اللفظ الأخص أولى، و تأخير اللفظ المشترك إلى المكان الثاني أولى.

الجواب عن المسألة الثانية من هذه الآية في قوله عز و جل: لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ مع ما في سورة المائدة من قوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ أن يقال: إن لقوله: لا يَعْلَمُونَ رتبة ليست لقوله: يَعْقِلُونَ، و إذا وقفت على ما بينهما سهلت عليك معرفة ما أوجب تخصيص كل مكان باللفظ المخصوص به، فقول القائل يعلم معناه يدرك الشي ء على ما هو به مع سكون إليه، و قوله يعقل معناه:

يحصره بإدراك له عما لا يدركه، لذلك جاز أن يقول: يعلم اللّه كذا، و لا يجوز أن يقول يعقل اللّه كذا؛ لأن العقل يشد، و العاقل الذي يحبس نفسه عما تدعو إليه الشهوات، و لا شهوة للّه تعالى فيحتبس عنها، فلذلك لا يقال للّه عاقل، فيقال: عقل فلان الشي ء و هو يعقله بمعنى: حصره بإدراكه له عما لا يدركه و يفيده تمييزه له عن غيره مما لم يدركه، و هذا لا يصح في حق اللّه تعالى، فإذا كانت رتبة يَعْلَمُونَ زائدة على رتبة يَعْقِلُونَ، و أخبر اللّه عن الكفار في سورة المائدة (1)، فقال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ فبين أنهم ادعوا رتبة العلم بصحة ما كان آباؤهم عليه؛ لأنهم قالوا: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا و لفظة «حسبنا» تستعمل فيما يكفي في بابه و يغني عن غيره، فالمدرك للشي ء إذا أدركه على ما هو به و سكنت نفسه إليه فذاك حسبه، فاستعمل لفظة يَعْلَمُونَ و نفى عنهم النهاية؛ لأنهم ادعوها بقولهم حَسْبُنا، فكأنهم قالوا: معنا علم تسكن نفوسنا إليه مما وجدنا عليه آباءنا من الدين، فنفى ما ادعوه بعينه هو و العلم. و الموضع الأول الذي في سورة البقرة لم يحك عنهم فيه أنهم ادعوا تناهيهم في معرفة ما اتبعوا فيه آباءهم، بل كان قوله تعالى:وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ

ص: 31


1- الآية: 104.

اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا و لم يدعوا أن ما ألفوا عليه آباءهم كان كافيهم و حسبهم، فاكتفى بنفي أدنى منازل العلم لتكون كل دعوى مقابلة بما هو بإزائها مما يبطلها و السلام.

الآية الخامسة عشرة

قوله تعالى في هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) و جاء في ثلاثة مواضع بعده وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أولها في سورة المائدة (2): حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ و في آخر سورة الأنعام (3): قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ و في سورة النحل (4): فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فجاء في المواضع الثلاثة به مؤخرا، عن قوله: لِغَيْرِ اللَّهِ، و في الموضع الأول من سورة البقرة مقدما على قوله: لِغَيْرِ اللَّهِ.

للسائل أن يسأل فيقول: لما ذا اختلف الموضع الأول مع المواضع التي بعده؟

الجواب أن يقال: أما الموضع الأول، فإنه جاء على الأصل الذي يقتضيه حكم اللفظ؛ لأن الباء التي يتعدى بها الفعل في هذا المكان من جملة الباءات التي تجي ء كحرف من نفس الفعل تقول: ذهبت بزيد، ثم تقول: أذهبت زيدا، فتصير الباء كالهمزة المزيدة في بنية الفعل، فيجب لذلك أن تكون أحق بالتقديم، و ما يتعدى إليه الفعل باللام لا يترك، لأنه بمنزلة الحرف من نفس الفعل فصار قوله: أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بمنزلة ذبح لغير اللّه مسمى عليه اسم بعض الآلهة، فلما كان هذا الأصل في الأول جرت الآية الأولى عليه، و لما كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلا إذا كان لغير اللّه كان ما عدا الأصل بتقديم المستنكر أحق و أولى، أ لا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعنى،

ص: 32


1- سورة: البقرة، الآيتان: 172، 173.
2- الآية: 3.
3- الآية: 145.
4- الآيتان: 114، 115.

فيقولون: ضرب زيدا عمرو، فيقدمون المفعول على الفاعل؛ لأن الاهتمام بأمره أتم؛ لأن هذا ينفي منه ما فيه و هم متوهم، أو قول قائل: ضرب محمد زيدا، فيقع الخلاف في المفعول لا في الفاعل، فيقول المنكر لذلك المثبت صحة ما عنده: ضرب عمرا زيد لا محمدا، فإن ترك قوله: لا محمدا كان مكتفيا عنه بتقديم المفعول، و كذلك ما ينكره من الفضلات كالظرفين و الحال، فقال المخاطب إذ توهم: ضرب زيد عمرا اليوم، فقال المنكر: ضرب أمس زيد عمرا، فقدم أمس على الفاعل و المفعول به؛ لأنه هو الذي ينكره و يمنع أن يكون على ما توهمه، و الباقي من الكلام ليس فيه ما يستنكره، فالعناية بتقديم ما يزيل الشك عنه أتم، و هو بالتقديم أحق فذلك قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ مع قوله: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ في الآي الثلاث.

الآية السادسة عشرة

قوله عز و جل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) و قال في سورة الأنعام (2): فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و قال في سورة النحل (3): فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

للسائل أن يسأل فيقول: هل لاختلاف الألفاظ التي اتبعت قوله: اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ معنى يخصص كل مكان باللفظ الذي اختص به؟.

الجواب أن يقال: قصد اللّه تعالى في المواضع الثلاثة أن يبين للمضطر ما له أن يتناول من المحرم الذي يمسك به رمقه (4)، فذكر في الموضعين الآخرين فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فكان تعريضا بمغفرته لمن اضطر إلى تناول المحرم في حالته، فالموضع الأول بدأ فيه بصريح اللفظ بإسقاط الإثم، فقال: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ثم عقبه بما اتصف به من المغفرة و الرحمة، و في هذه الآي الثلاث سؤال آخر و هو أنه قال في الأولى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و في الثانية فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و في الثالثة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهل لاختصاص الأول و الأخير بذكر اللّه تعالى فائدة،

ص: 33


1- سورة: البقرة، الآية: 173.
2- الآية: 145.
3- الآية: 115.
4- الرمق: بقية الروح.

و لاختصاصه في الآية الثانية بقوله: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و عدوله عن ذكر اللّه إلى ذكر ربك فائدة مخصصة بمكانه.

الجواب عن ذلك أن يقال: لكل موضع معنى يوجب اختصاص اللفظ الذي ذكر فيه، فأما الأول فلأنه لما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (1) و ختم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ (2) كذا كان بما قدمه مثبتا عليهم إلهيته؛ لأن الإله هو الذي يحق له العبادة بما له من النعمة، فلما قدم ذكر ما رزقهم منها و طالبهم بشكرها أتبعه بقوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ و ختم الآية بأن قال: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: من أنعم عليكم غاية النعمة و استحق بها غاية التعبد و التذلل هو الذي يغفر لكم عند الضرورة تناول ما حرمه عليكم في حال الاختيار رحيم بكم، و كذلك الآية الثالثة مبنية على مثل هذا؛ لأن أولها فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (3) فكان مشبها لما قدمنا ذكره، فقال: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و أما الثانية فلأنه قدم عليها ذكر أصناف ما خلقه اللّه لتربية الأجسام فقال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ (4) فذكر الثمار و الحب، و أتبعه بذكر الحيوان من الإبل و البقر و الغنم، خص هذا الموضع بذكر الرب؛ لأن الرب هو القائم بمصالح المربوب، فكان هذا أليق بهذا المكان و اللّه أعلم.

الآية السابعة عشرة

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) و في سورة آل عمران (6): إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

للسائل أن يسأل فيقول: الإخبار في الموضعين عن أهل الكتاب الذين كتموا ذكر

ص: 34


1- سورة: البقرة، الآية: 172.
2- سورة: البقرة، الآية: 173.
3- سورة: النحل، الآية: 114.
4- سورة: الأنعام، الآية: 141.
5- سورة: البقرة، الآية: 174.
6- الآية: 77.

بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلم من كتابهم المنزل عليهم من التوراة و الإنجيل و التوعد في الموضعين مختلف و الكبيرة واحدة، فهل هناك معنى يوجب اختلاف الوعيد في المكانين؟.

الجواب أن يقال: الوعيد في مكان من المكانين على حسب ما ذكر من عظم الذنب و كبر الجرم، فقال في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فوصفهم بأنهم خالفوا اللّه في أمره و نقضوا ما قدم من عهده إليهم، حيث قال: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ (1) فهؤلاء لم يبينوا و كتموا، فخالفوا بارتكاب ما نهى اللّه عن ارتكابه و ترك ما أمر اللّه بإتيانه، ثم قال: وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: نصيبا يسيرا من الدنيا، فجاء على هذا غلظ الوعيد، و هو قوله: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي: هذا الحظ اليسير الذي نالوه من الدنيا بمطعم و مشرب إنما هو نار في أجوافهم، ثم قال:

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: ليسوا ممن ترجى نجاتهم فيجيئهم من قبل اللّه كلام أو سلام، كما قال في أوليائه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ (2) ثم قال: وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يطهرهم من ذنب الكفر بالعفو عنهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم قال:

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى (3) فكرر ذكر سوء اشترائهم و وعيدهم و أنهم باعوا الإسلام بالكفر، و اشتروا عذاب اللّه بالغفران، و اقتحموا عذاب النار فعل من يعجب من صبره عليها، فهذه أنواع كثيرة من التوعد اقترنت بما حصل من الذنب العظيم في كتمان ما لم يجب كتمانه، و الإعراض عن تبيين ما وجب تبيانه، و الآية التي في سورة آل عمران لم يذكر في أولها من الذنوب التي ارتكبوها مثل ما ذكر في أول هذه الآية، قال:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا فكان هاهنا ذكر بعض ما ذكر في الآية الأولى و هو وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فقرن به من الوعيد أقل مما قرن بالآية الأولى، و هو أن قال: لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي: لا نصيب لهم من الخير وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كما يكلم أولياءه وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ نظر رحمة وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

الآية الثامنة عشرة

قوله تعالى:وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا

ص: 35


1- سورة: آل عمران، الآية: 187.
2- سورة: الأحزاب، الآية: 44.
3- سورة: البقرة، الآية: 175.

تَقْرَبُوها (1) و قال في آخر هذه السورة: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها (2).

للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختص الموضع الأول بقوله: فَلا تَقْرَبُوها و الموضع الثاني بقوله: فَلا تَعْتَدُوها؟.

الجواب أن يقال: الأول خرج على أغلظ الوعيد، كما قال: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ (3) و إنما كان نهى عن أكلها لا الدنو منها، فخرج مخرج قول القائل إذا نهى عن الشي ء و شدد الأمر فيه: لا تقرب هذا الشي ء، و ما أحسن ما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم في المنع من مقاربة الحرام: «من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، و كما يروى عن بعض الصالحين إني لأحب أن يكثف الحاجز بيني و بين ما حرم اللّه، فلما كانت حالة هذه الموضع الأول نهيا: عن مواقعة النساء في حالة الاعتكاف في المساجد صار فيه تحذير من دواعي المواقعة، فاقتضى من المبالغة ما لم يقتضه قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فكأنه قال لا تتجاوزوها يعني: المرأة إذا افتدت لمهرها و خالعت زوجها لم يكن عليها إثم، و هذه حدود نهى عن تعديتها، و الحدود ضربان: حد هو منع من ارتكاب المحظور، و حد هو فاصل بين الحلال و الحرام، فالأول ينهى عن مقاربته، و الثاني ينهى عن مجاوزته، و هما المذكوران في هذه السورة و حد النهي عنهما و السلام.

الآية التاسعة عشرة

قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (4) و قال في سورة الأنفال (5): وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

للسائل أن يسأل فيقول: لأي فائدة قال في هذه السورة: وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ و لم يؤكد و عقبه بقوله: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ و في سورة الأنفال: وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فوكده و أتبعه قوله: فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

ص: 36


1- سورة: البقرة، الآية: 187.
2- سورة: البقرة، الآية: 229.
3- سورة: البقرة، الآية: 35.
4- سورة: البقرة، الآية: 193.
5- الآية: 39.

الجواب عن ذلك أن يقال: الآية الأولى في هذه السورة جاءت في قتال أهل مكة أ لا ترى ما قبلها وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ (1) ثم قال: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (1) و هذا مختص بقتال قوم مخصوصين من أهل الشرك و هم نازلة الحرم، فاقتصر على «الدين» من غير توكيد على معنى: حتى يكون الدّين حيث هؤلاء لا في كل مكان؛ لأنه لا يحصل بقتل مشركي مكة الدّين في كل البلاد، و قوله:

فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي: إن انتهوا عن كفرهم فلا عدوان عليهم، إنما العدوان على من أقام على الضلالة و ظلم نفسه بلزوم الجهالة، و أما ما في سورة الأنفال فالأمر ورد عاما في قتال كل الكافرين، أ لا ترى أن قبل الآية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (2) و ليس هذا في طائفة من الكفار دون طائفة فإذا كان ذلك كذلك، و قال بعده: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: لا يكون شرك و كفر اقتضى هذا أن يكون بعده وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فأمر بإبطال كل كفر قدروا عليه، و أتبعه قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي:

إن انتهوا و انتقلوا إلى الإيمان و كفوكم بما يظهرون من الإسلام عن قتالهم، فاللّه يعلم عملكم و عملهم على القراءتين جميعا، فيكون الخطاب للمقاتلين و لفظ المعاتبة للمقاتلين، و يمكن أن يقال: إن الخطاب في «يعملون» يشمل الكل؛ لأنه قال: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فكلهم قد صاروا مؤمنين، فلا جرم أن ضمهم خطاب واحد، و أعلمهم أنه مجاز لهم على عملهم مطلع على سرائرهم يعرف من كان انتهاؤه عن الكفر لرغبة من رغائب الدنيا، و من كان انتهاؤه عنه للتبصر، فسوّى بين السر و الجهر، و اللفظة في ضمنها إذا وردت من القادر الحكيم غاية التخويف و الوعيد في العقاب الأليم، و غاية الترغيب في الثواب العظيم لفرقتي الطاعة و العصيان، فهذا فرق و السلام.

الآية العشرون

قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (3) و قال في سورة آل عمران (4):أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا

ص: 37


1- سورة: البقرة، الآية: 191.
2- سورة: الأنفال، الآية: 38.
3- سورة: البقرة، الآية: 214.
4- الآية: 142.

الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ و قال في سورة التوبة (1):

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلف اللفظ في الثلاثة المواضع و هي فيها كلها نعت على الجهاد، و هل صلح ما هو في الأول للآخر أم اقتضاه مكانه بعينه دون غيره؟.

الجواب أن يقال: بل لكل معنى يقتضي اللفظ الذي خص به، فالآية الأولى من هذه السورة وردت عقيب قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (2) ثم قال: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ (2) يعني: الكتاب مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (2) فكانت هذه الحالة التي أخبر اللّه تعالى عنها مشبهة حال النبي صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين معه فيما دفعوا إليه من بغي المشركين و مقاتلتهم لهم مجاهدين، فقال:

أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها خالدين فيها و لم تفعلوا أفعال الأمم الماضية فيما دفعت إليه هي و أنبياؤها صلوات اللّه عليهم و سلامه من قتال الكفار من الشدة و المضرة و الانزعاج عن المواطن، حتى استعجلوا النصر لما استنفدوا الصبر، أعلمهم اللّه أن نصره قريب من أوليائه غير بعيد عن حزبه، فكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم و عاقبة أمرهم و ما لهم، و معنى قوله: تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ و ما يليه في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ (3) فكان في ذكر ذلك شحذا لبصائرهم في الجهاد و حملهم على الاقتداء بفرق الصلاح و أمم الأنبياء قبلهم، و تأنيس لهم بالصبر على ما حل بهم، حتى حمدوا عاقبة أمرهم. و أما الآية الثانية في سورة آل عمران و هي: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فهي خطاب للمسلمين الذين نالهم من قتال المشركين جراحات، قال فيها: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (4) فقال: أم حسبتم أن تنالوا الجنة و لما تجاهدوا الأعداء من الكفار، فيعلم اللّه ذلك منكم، و لما تصبروا صبرا زائدا على صبرهم فيرى ذلك من فضلكم عليهم، فإن الجنة لمن فعل ما أمر اللّه به في الوقت من قتال أهل الكفر و توطينهم النفس فيه على الصبر، فيخف عليه ما يجد من الألم بما تحقق من الفوز في الآجلة و العاجلة، و الحالة

ص: 38


1- الآية: 16.
2- سورة: البقرة، الآية: 213.
3- سورة: التوبة، الآية: 111.
4- سورة: آل عمران، الآية: 140.

التي رد فيها هذه الآية، اقتضت البعث على التشمير للقتال و الصبر بعد صبر الأعداء، و قد قيل لبعض العرب: ما كان سبب كثرة ظفركم بأعدائكم؟ فقال: كنا نصبر بعد صبرهم ساعة فيكون ذلك سبب الظفر. و أما الآية الثالثة في سورة براءة و هي: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فإنها خطاب للمجاهدين من المؤمنين، و توعدا لمن كان منهم يبقي على أقارب له عند الظفر بهم. لقوله بعده: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ (1) الآية فحذر المنافقين الذين ضاموا المؤمنين في قتال المشركين أن يعلم اللّه مجاهدتهم أعداءهم، و قد اتخذوا معها وليجة بينهم و بين المشركين «فالوليجة» هي المدخل الذي ذكره اللّه في الآية بعدها عند وصف المنافقين، فقال: وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (2) فقولك و لج بمعنى: دخل «فالوليجة» المدخل و هي الوسيلة التي يدخل بها الإنسان حريم الإنسان كالباب المفتوح له يفعل فعله، فكأنه كان التوعد يقتضي أن يقال لهم: أ ظننتم أن تتركوا و ما تظهرون من مجاهدتكم أعداءكم، و لم يكن منكم جهاد خالص للّه لا تمالئون فيه أبا و لا ابنا، و لا ترعون فيه حميما و لا قريبا، و لا تبقون على ذي معرفة إبقاء تتقربون به رجاء أن يجازوكم عليه، فإن قدرتم أن تتركوا مضامة المسلمين في القتال من غير أن يعلم منكم باطنا عاريا من هذه الحال، فقد أخطأ ظنكم، و أخلف تقديركم، فإنكم مطالبون بالتوفقة بين سركم و جهركم.

الآية الحادية و العشرون

قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ (3) و قال في سورة الطلاق (4): ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.

للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان الكاف في ذلك للمخاطب، فيجمع إذا كثروا،

ص: 39


1- سورة: التوبة، الآيتان: 23، 24.
2- سورة: التوبة، الآيتان: 56، 57.
3- سورة: البقرة، الآية: 232.
4- الآية: 2.

و يقال: ذلكم كما قال في الآية الأخيرة من الآيتين، و كما قال: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ و كما قال في مخاطبة الاثنين: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (1) و كما قال في مخاطبة النساء: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (2) فيثنى و يجمع على حسب المخاطب، كما يذكر و يؤنث و ينكر كقوله: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (3) فما بال قوله تعالى:

ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ في سورة البقرة فوحد الكاف من ذلك مع جمعها في نظيرها في سورة الطلاق؟

الجواب عن ذلك أن يقال: إن الكاف تجي ء في الكلام اسما للمخاطب و موضعها نصب، كقولك: رأيتك، و جر كما في غلامك، و تجي ء متصلة بالأسماء المبهمة التي للإشارة، و ليست باسم، و لكنها للخطاب، و يقاربها معنى آخر و هو تبعيد المشار إليه نحو ذاك و ذلك و أولئك، و الدليل على أنها ليست اسما، قوله: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ (4) و لو كان اسما مجرورا لما اجتمعت مع نون التثنية كما لا تجتمع معها في قولك: غلاماك، فلا تقول: غلامانك، و لا يجوز أن تكون الكاف بعد المبهمة اسما منصوبا لأنه ناصب، و شي ء آخر و هو أن هذه المبهمة معارف و لا تصح إضافتها، و الكاف بعدها ليست باسم مضاف إليه، فإذا عريت من الاسمية لم تعر من معنى الخطاب، و المعنى الذي يقاربها مع الخطاب في المبهم أنك تقول: ذا فيكون إشارة إلى قريب، فإذا قلت ذاك صار بالكاف إشارة إلى بعيد، فلما عريت الكاف من الاسمية قصد بها إلى أحد المعنيين اللذين وضعت لهما، كذلك في الأسماء المبهمة، لما قصد بها معنيان الخطاب و التبعيد جاز أن يعرى من أحدهما، و هو الخطاب، و يقتصر بها على معنى التبعيد حسب على حسب قصد القاصد، و إذا جاءت مثناة اللفظ، أو مجموعة على حسب حال المخاطبين، فهي على المعنيين، و تبيين الموضع الذي يقصد فيه التبعيد وحده لغرض من الأغراض، دون الخطاب و التبعيد معا يمكن باستقراء كل لفظ من القرآن جاءت فيه ذلك، و المخاطبون عدة، و تأمل موضعها من تأمل المواضع الأخر التي ثبتت فيها و جمعت، و استنباط حكمه يقتضي في ذلك الموضع استعمالها للتبعيد وحده دون الخطاب، و سنتأمل هذا على استكمال في كل مكان إن شاء اللّه تعالى.

و جواب آخر عن المسألة: و هو أن كل موضع أفردت فيه الكاف و الخطاب

ص: 40


1- سورة: يوسف، الآية: 37.
2- سورة: يوسف، الآية: 32.
3- سورة: مريم، الآية: 9.
4- سورة: القصص، الآية: 32.

لجماعة، فإنما قصد بالكاف المفردة مخاطبة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، ثم العدول عنها إلى مخاطبة أمته، كقوله عز من قائل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (1) فلم يمنعه قوله: إِذا طَلَّقْتُمُ و هو خطاب الجماعة عن أن يفرد للنبي صلّى اللّه عليه و سلم خطابا مخصوصا موحدا، و هو قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فكذلك قوله: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تكون الكاف في ذلك لخطاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و الكاف في منكم لخطاب لأمته، و كذلك كل موضع جاءت الكاف فيه هذا المجي ء.

الآية الثانية و العشرون

قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (2) و قال في آخر هذه العشر: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (3).

للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف و الباء، فقال: بالمعروف، و المكان الثاني بالتنكير و لفظة «من».

الجواب عن ذلك أن يقال: إن الأول تعلق بقوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهن بأمر اللّه، و هو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فالمعروف هاهنا أمر اللّه المشهور، و هو فعله و شرعه الذي شرعه و حث عليه عباده، و الثاني المراد به فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من جملة الأفعال التي لهن أن يفعلن من تزوج أو قعود، فالمعروف هاهنا فعل من أفعالهن يعرف في الدين جوازه و هو بعض ما لهن أن يفعلنه، و لهذا المعنى خص بلفظة «من» و نكر، فجاء المعروف في الأول معرف اللفظ لما أشرت إليه، و هو أن يفعلن في أنفسهن بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع من ذلك، و هو الوجه الذي دل اللّه عليه و أبانه، فعرف إذ كان معرفة مقصودا نحوه، و كذلك خص بالباء و هي للإلصاق، و الثاني كان وجها من الوجوه التي لهن أن يأتينه فأخرج مخرج النكرة لذلك.

ص: 41


1- سورة: الطلاق، الآية: 1.
2- سورة: البقرة، الآية: 234.
3- سورة: البقرة، الآية: 240.

الآية الثالثة و العشرون

قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (1) و قال في سورة النساء (2) في الموضع الأول: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ و في الموضع الثاني: وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (3) و قال في سورة الحديد (4): وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.

للسائل أن يسأل عن المواضع الأربعة، عن اختلاف اللفظين في الموضعين، و اتفاقهما في الموضعين، و اختصاص الموضعين بالواو، و اختصاص الموضعين الآخرين بأن، و أن يسأل فيقول: ذكر في الآية الأولى: «الكفار الأثيم» و في الآية الثانية: «الخوان الأثيم» و في الثالثة: «المختال الفخور» فهل في كل مكان معنى يوجب اختصاصه باللفظ المستعمل فيه و ما ذلك المعنى؟.

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في الكفار الذين استحلوا ما حرم اللّه، و عارضوا ما أنزل اللّه فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (5) حتى قال: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) فعظم كفرهم و سمي كل واحد منهم كفارا على لفظ المبالغة؛ لأن كفارا بعد كافر لمن هو مقيم على الكفر، و الكفر عادته كضارب و ضراب و خائط و خياط، ثم اتبعه بقوله: أَثِيمٍ أي: مبالغ في اكتساب الإثم، و أثيم أبلغ من آثم، فإذا كفر كفرا بعد كفر و أقام عليه، و هو وصف من أخبر عنه بالاستحلال للربا سماه كفارا، فصار أثيما بذلك، و سائر أبنية الأفعال التي تلحقها بالكفر، و أما الوضع الثاني و هو الأول من سورة النساء، فإنه أمرهم بالعبادة و ترك الشرك فقال: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً (6) أخبرهم بأنهم عبيد و العبد لا يحسن منه الاختيال و الفخر؛ لأن الرق و الذل يخالفانه، فلذلك عقبه بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً و عقبهما ب الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ لأنه بعد العبادة أمرهم بالإحسان إلى الوالدين و إعطاء ذي القربى و اليتامى و المساكين، فقال: إن اللّه لا يحب العبد المختال الفخور البخيل، و أما الموضع الثالث و هو الثاني من سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ

ص: 42


1- سورة: البقرة، الآية: 276.
2- الآيتان: 36 و 37.
3- سورة: النساء، الآية: 107.
4- الآيتان: 23 و 24.
5- سورة: البقرة، الآية: 275.
6- سورة: النساء، الآية: 36.

خَوَّاناً أَثِيماً فلأنه ذكر قبله وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً فأخبر عن حالهم فاقتضى تقدم الذكر هذا الوصف.

و الموضع الرابع: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ في سورة الحديد جاء بعد نهيه عن تمكين الحزن و الأسى من النفس على ما يفوت من أحوال الدنيا، و يفجع به الإنسان من مستفاد النعمى للعلم السابق بأنها عوار مرتجعة، فكذلك إذا خول منه الكثير لا يمرح بحبه و لا يبطر فيه، كما قال: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً (1) أي: فعل المختال فذم الإفراط في الجزع عند المصيبة و الفجيعة و الغلو في الفرح و المرح عند العطية و كثرة الشبعة، حتى يخرج عن التواضع مما يحول إلى الكبرياء، فيبطر و يمرح و يفتخر، فعقبه بقوله: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ و إنما عقبهم ب الَّذِينَ يَبْخَلُونَ لأن المتقدم عليه إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ (2) فكأنه حثهم على الصدقة و إقراض اللّه، فإن من لم يفعل ذلك يكون بخيلا، و اللّه لا يحب البخيل، و أما الفرق بين (الواو) و (إن)، فإن الواو في أكثر الأحوال لا تكون أجنبية مما قبلها بخلاف «إن»، فإنها كلمة أجنبية من الكلمتين وضعت لابتداء الكلام، ففي سورة البقرة و سورة الحديد الكلام متصل بعضه ببعض، فذكره بواو حيث قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ فوصلهما بالواو، و كذلك في الحديد وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ و الاختيال و الفخر إنما يكون من الفرح، فجمع بينهما بواو، و أما الموضعان الآخران في سورة النساء فقد تم الكلام فيهما؛ لأنه في الأول أمرهم بالعبادة و ترك الشرك و الإحسان بالوالدين و ذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و الجار و ملك اليمين، و قد تمت هذه الأوامر، ثم ابتدأ بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ كذا و كذا، و كذلك الموضع الثاني؛ لأنه نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم فأتم الكلام، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً فاختص كل مكان بالوصف الذي لاق به و السلام.

مضى الكلام فيما شابه من سورة البقرة مكانا آخر منها أو من غيرها عن اثنين و ثلاثين موضعا وقع فيها السؤال.

ص: 43


1- سورة: الإسراء، الآية: 37.
2- سورة: الحديد، الآية: 18.

3- سورة آل عمران سبع آيات

الآية الأولى منها

قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (1) و قال في سورة الأنفال (2): كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ و بعدها بآية كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (3).

للسائل أن يسأل في هذه الآي عن مسائل، أما في الآية الأولى، فعن قوله:

كَذَّبُوا بِآياتِنا و العدول بعده عن الإخبار عن النفس بالاسم المضمر إلى الاسم المظهر، و هو قوله: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ و لم يقل فأخذناهم، و هل هاهنا فائدة توجب العدول عن إجراء الكلام الثاني مجرى الكلام الأول في إسناد الفعل إلى ما أسند إليه فيما قبل؟

و المسألة الثانية: أن يسأل عن الكاف في كَدَأْبِ و وجه اتصالها بما قبلها و موضعها من الإعراب لأنها بمعنى «مثل»، و الكاف التي يصح مكانها «مثل» محكوم على موضعها برفع أو نصب أو جر.

و المسألة الثالثة: في الآية الثانية و مخالفتها للآية الأولى في إجراء الخبر كله على لفظة واحدة و هي لفظة «اللّه» لأنه قال تعالى: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ و لم يقل: كفروا بآياتنا كما قال في الأولى.

ص: 44


1- سورة: آل عمران، الآية: 11.
2- الآية: 52.
3- سورة: الأنفال، الآية: 54.

و المسألة الرابعة: في الآية الثالثة و هي أنه قال: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ و لم يقل:

بِآياتِنا كما قال في الأولى، و لا بِآياتِ اللَّهِ كما قال: في الثانية بل أتى بصفة من صفات اللّه عز و جل و هي الرب.

و المسألة الخامسة: فعن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضع لا يحجز بينهما إلا آية واحدة.

أما المسألة الأولى فقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا وقع الإخبار عن النفس كما يجب في مثله إذا أخبر المتكلم عن نفسه بفعل فعله فأتى بلفظ المضمر دون المظهر، ثم خالف ذلك اللفظ إلى غيره، فقال: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ.

الجواب عن هذا أن يقال: العدول عن المنهج الأول المستمر في الإخبار عن النفس إلى لفظ ظاهر هو لفائدة تضمنتها هذه اللفظة من الاحتجاج، و ليست هذه الفائدة في لفظة الإضمار، و كانت الآية التي قبلها قد وقع فيها مثل هذا العدول إلى هذه اللفظة للاحتجاج الذي من أجله وقع العدول في هذا المكان إليه، و هو قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (1) فقوله: رَبَّنا يقتضي أن يكون بعده: إنك لا تخلف الميعاد، كما قال: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (2) فلما قال تعالى في هذا الموضع:

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ فكان المعنى: إنك خلقت الدار الأولى للتكليف، و مكنت العباد فيها من الطاعة و العصيان، و رغبت المطيع في الثواب، و خوفت العاصي من العقاب، فوقع منك وعد و وعيد، فرغبت من الوفاء بهما بأنك تجمع الخلائق ليوم الجزاء؛ لأن من خلق و أنعم نعمة حقت بها العبادة، و لزمت من أجلها الطاعة، و هو معنى قولنا: إن اللّه إذا وعد صدق، فلا خلف في قوله و لا تبديل لكلماته، فلما كان معنى قولنا «اللّه» معنى الإله، و الإله مشتق من أله يأله إلاهة أي: عبد يعبد عبادة، فالإله هو الذي حقت عبادته لما عظمت نعمته، كان العدول إلى هذه اللفظة للاحتجاج بمعناها فائدة لم تكن لتحصل لو قال: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ فلما تقدمت هذه الآية التي وقع العدول فيها عن لفظ إلى لفظ لما قصد من الاحتجاج بمعناه، فكذلك بنيت هذه الآية التي تليها عليها في مثل هذا الحكم، لما ثبت من مثل هذا المعنى، فقال تعالى:كَدَأْبِ آلِ

ص: 45


1- سورة: آل عمران، الآية: 9.
2- سورة: آل عمران، الآية: 194.

فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فأتى بالضمير الفاعل، و كان يعقل من قوله:

كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: إنا عرضناهم للإيمان، و مكناهم من الإسلام، و أزحنا العلة، و نصبنا الأدلة، فكذبوا بها، فالذي حقت له العبادة، و عظمت منه النعمة أخذهم بذنوبهم، و اللّه يعاقب الكفار عقوبة تشتد عليهم، و لا تخفف عنهم لما قدموا من العصيان ما استمر مثله، و لم ينقل عنه قدم و لا عقبه بعد الإصرار عليه ندم. فهذه فائدة العدول إلى لفظة «اللّه» في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ دون قوله: فأخذناهم.

المسألة الثانية أن يسأل عن الكاف في كَدَأْبِ و وجه اتصالها بما قبلها و موضعها من الإعراب، لأنها بمعنى «مثل»، و الكاف التي يصح مكانها «مثل» محكوم على موضعها برفع، أو نصب، أو جر.

الجواب عنها أن يقال: يجوز أن تكون الكاف متعلقة بقوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ (1) فيكون موضع الكاف نصبا على معنى المصدر كأنه قال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مثل ما لم تغن عن آل فرعون أي: إذا جاء عقاب اللّه لم يدفعه المال و الولد، كما لم يدفع ذلك عن آل فرعون و الدأب أصله الهمز و هو العادة و ما جرى عليه قوم في معاملة، و يجوز أن تكون الكاف متعلقة بمعنى قوله: وَقُودُ النَّارِ (1) كأنه قال: و أولئك يصلون النار كما أجرى اللّه حكمه عادة لآل فرعون، و فيه وجه ثالث، و هو أن يكون موضع الكاف رفعا على أنه خبر ابتداء، كأنه قال: حال هؤلاء مثل حال آل فرعون و دأبهم كدأبهم.

المسألة الثالثة في الآية الثانية هي مخالفتها للآية الأولى في إجراء الخبر كله على لفظة واحدة، و هي لفظة «اللّه»؛ لأنه قال تعالى: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ و لم يقل: كفروا بآياتنا كما قال في الأولى.

الجواب عن ذلك أن يقال: إن الآية التي تقدمت هذه هي قوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (2) فجرى الخبر في هذه الآية على اللفظ الظاهر و هو وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ثم جاء بعدها:وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى

ص: 46


1- سورة: آل عمران، الآية: 10.
2- سورة: الأنفال، الآية: 49.

الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ (1) و لم يكن فيها خبر عن اللّه تعالى، و جاءت الآية التي هي كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ و فيها إخبار عن اللّه، فكان بناؤها على الآية التي قبلها أولى، كما كان في الآية التي في سورة آل عمران يقتضي بناؤها على الآية التي قبلها العدول عن لفظ الإضمار إلى لفظ الإظهار، ثم كان لفظ الصريح في معناه احتجاجا عليهم، كما كان في اللفظ الذي عدل إليه في الآيتين المتقدمتين من قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و قوله: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ.

المسألة الرابعة في الآية الثالثة هي أنه قال: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ و لم يقل بآيتنا كما قال في الأولى، و لا بايت الله كما قال في الثانية.

الجواب أن يقال: لما أخبر عن نعمته على عباده، و أن منهم من يغيرها بعصيانه، فيستحق بذلك تغيير النعمة عليه، و هو معنى قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (2) و المنعم على عباده ربهم؛ لأنهم مربون بنعمه، كان القصد في هذه الآية إلى ذكر تنعيمهم في الدنيا، و تغيير النعمة عليهم فيها، إذ لم يقوموا بحقها بعقاب من عقاب الدنيا مثله بما يفعله بعض الناس ببعض، فكذلك قال:

فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ فكأنه قال: كذبوا بآيات من أقام نفوسهم شواهد لربوبيته بتربيته إياهم بصنوف نعمته، و نقل الوليد عن أولى حاليه إلى غيرها مما يبلغ به غاية قوته، و سأشرح ذلك في جواب.

المسألة الخامسة: و هي السؤال عن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضعين لا يحجز بينهما إلا آية واحدة، و هذه المسألة قد أجاب عنها بعض أهل النظر بأن قال:

أخبر اللّه تعالى عن إجراء العادة فيهم بنوعين من العذاب مختلفين، و إذا كان كذلك لم يكن تكرارا؛ لأنه ذكر في الآية الأولى عقوبته إياهم عند الموت في البشارة التي أتتهم بعذاب الحريق، و أنه فعل بهم ذلك كما فعله بآل فرعون، و من كان قبلهم من الكفار، ثم ذكر في الثانية ما يفعله بهم من شدة عقابه بعد الموت كما فعله بآل فرعون، و من كان قبلهم من الكفار، و ما أجرى عليه العادة في تعذيبه إياهم بعد الموت في القبور و في غيرها.

الجواب عندي أنه أخبر في الأولى عما عاقبهم به من العذاب الذي لم يملك

ص: 47


1- سورة: الأنفال، الآية: 50.
2- سورة: الأنفال، الآية: 53.

الناس إيقاعه، و لم يمكن بعضهم من أن يفعل ببعض مثله، و هو ضرب الملائكة وجوههم و أدبارهم عند نزع أرواحهم، و إخبارهم إياهم بمصيرهم إلى عذاب يحرقهم، و في الثانية أخبر عما أنزله بهم من العذاب الذي مكن الناس من فعل مثله، و هو الإهلاك و الإغراق، لأن ذلك مما أقدر اللّه العباد عليه، فالنوعان هما: العذاب الأول من أحكام الآخرة بعد ظهور أشراط الساعة، و العذاب الثاني من أحكام عذاب الدنيا، و الذي يبين ذلك أنه قال في الأولى: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فأخبر عن أعظم ما ارتكبوه و هو الكفر، و ذكر آيات اللّه و هو الاسم الذي يفيد استحقاق العبادة التي هي مضادة للكفر، كما قال في سورة آل عمران: كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي: أخذهم من أنعم عليهم ليشكروا لما عصوا و كفروا بذنوبهم التي ارتكبوها، ثم قال: وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ و المراد به عقاب الآخرة، كما قال تعالى: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ (1) و يشهد لذلك قوله في الثانية:

كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فذكر هذا الاسم دون غيره؛ لأن فيه معنى أنه نعمهم و ثبتهم و رباهم و قام بمصالحهم، حتى بلغوا حد التكليف المبلغ الذي قدروا فيه على أداء حق الإنعام، فلما غيروا ما أنعم اللّه به عليهم من جهته، و صرفوه إلى معصيته و تقووا بنعمته على مخالفته، سلبهم ذلك في الدنيا بأن عجل هلاكهم فأغرقهم، و العقاب المؤخر ذكره في هذه الآية الأخيرة مما يفعله أهل الدنيا بعضهم ببعض، فذكره عقيب إنعامه عليهم، و تغييرهم له بوضع الكفر موضع الشكر، فغير اللّه سابق الأنعام بيد الانتقام. و كما غيروا غير عليهم، فالعقاب الأول أولى أن يكون المراد به عقاب الآخرة؛ لأن فيه الإخبار بالاحتراق، و الثاني هو العذاب بالإغراق. مثل قوله: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (2) و تعقيبه بقوله: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ و قوله في سورة آل عمران:

وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ فذكر أنهم وقود النار و ذلك في الآخرة، ثم قال: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ فذكر الاسم الذي يفيد ما هو حجة عليهم، كما ذكرنا قبل.

و جواب آخر و هو: أنه يجوز أن يكون الأول خبرا عن عادتهم في الأشر و البطر و الطغيان عند الاستغناء، و المعنى: جرت عادتهم بمقابلة الإحسان بقبيح العصيان، و يكون الأخير بعد ذكر اللّه معاقبتهم على فعلهم خبرا عما أجرى اللّه به العادة في عقاب مثلهم.

و كان معنى الأول: عودوا من أنفسهم عادة، و معنى الثاني: عودوا إذا فعلوا ذلك عادة،

ص: 48


1- سورة: طه، الآية: 127.
2- سورة: الأنفال، الآية: 50.

و هي سلب نعمة الدنيا، و النقل إلى عذاب الأخرى و اللّه أعلم بالمراد.

الآية الثانية

منها قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ (1) و قال في سورة المائدة (2): وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي.

للسائل أن يسأل: فيقول: إذا كان المذكور في الموضعين كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ و صلح أن يعود الضمير إلى مذكر و إلى مؤنث، فيراد: مثل هيئة الطير و هو مذكر، أو يراد: هيئة كهيئة الطير و هي مؤنثة، فما بال ما في آل عمران خص بالتذكير و ما في سورة المائدة خص بالتأنيث؟.

الجواب أن يقال: إن الأول الذي ذكر الضمير فيه إنما هو في إخبار اللّه عز و جلّ به عن عيسى عليه السّلام و قوله لبني إسرائيل: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ و عدد الآيات كلها عليهم منها: أني آخذ من الطين ما أصور منه صورة على هيئة الطير في تركيبه، فأنفخ فيه فينقلب حيوانا لحما قد ركب فيه عظم، و خالط دما، و اكتسى ريشا و جناحا كالطائر الحي، و القصد في هذا المكان إلى ذكر ما تقوم به حجته عليهم، و ذا أول ما يصور من الطين على هيئة الطير و يكون واحدا يلزم به الحجة، فالتذكير أولى به، و التي في سورة المائدة المخصوصة بتأنيث الضمير العائد إلى ما يلحقه هي في ذكر ما عدد اللّه من النعم على عيسى عليه السّلام، و ما أصحبه إياه من المعجزات، و ما أظهر على يده من الآيات و ابتداؤها إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي و الإشارة في هذه الآية ليست إلى أول ما يبديه لبني إسرائيل من ذلك محتجا به عليهم، و إنما هي إلى جميع

ص: 49


1- سورة: آل عمران، الآيتان: 48، 49.
2- الآية: 110.

ما أذن اللّه تعالى في كونه دلالة على صدقه من قلب الصور التي يصورها من الطين على هيئة الطير، و ذلك جمع، و التأنيث به أولى.

مسألة في ذلك: قال بعض أهل النظر في هذه الآية إنما قال: فيصير طائرا بإذن اللّه و أبرئ الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن اللّه، فذكر «إذن اللّه» في هذين الموضعين، و لم يذكر: «إذن اللّه» في قوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ و لا في قوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ و لا في قوله: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ لأن ما وصفه من هذه الأفعال إنما هي أفعاله، و لم تكن أفعالا للّه تعالى، فلهذا لم يذكر أن ذلك كان بِإِذْنِ اللَّهِ كما ذكر الإذن فيما وصفه من قبل مما فعله اللّه عز و جلّ دونه، و ذلك أنه لم يعن بالإذن أمره له بأن يطيعه في ذلك، و إنما عنى به أن اللّه تعالى هو الذي فعله، فلهذا جعل ذكر الإذن فصلا بين فعله و فعل اللّه عز و جلّ انتهى كلامه.

قلت: ذلك سهو منه؛ لأن الذي ذكر أنه لم يذكر معه إذن اللّه لأنه من فعل عيسى عليه السّلام، فقد نطقت سورة المائدة بخلافه و هو قوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي فسوى بين الفعلين اللذين ذكر من حكيت كلامه أنهما مختلفان، و أن أحدهما فعل عيسى، و الآخر غير فعله، فلهذا لم يذكر معه الإذن، ثم قال تعالى: وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي (1) فذكر الإذن في أربعة مواضع لأفعال دل من ذهب إليه من ذكرت كلامه بذكر الإذن في فعلين من سورة آل عمران على أنهما فعل اللّه، و ما لم يذكر معه الإذن فعل عيسى، و قد رأيت ما اعتد اللّه سبحانه و تعالى به عليه في سورة المائدة، ينطق أن ما ذكر أنه بغير إذنه هو بإذنه، و إذا كان كذلك وجب أن يكون المعنى في الآية من سورة آل عمران: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أقلبه بعد التركيب على مثال الطائر لحما و دما و عظما، ثم بالنفخ فيه أجعله حيوانا، و كل ذلك بِإِذْنِ اللَّهِ و يكون معنى قوله: فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ راجعا إلى كل ما ذكر أنه يفعله من مبتدإ قوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فجميع تلك الأفعال واقعة بِإِذْنِ اللَّهِ و إذن اللّه عبارة عن إرادته و خلقه على يده، فسهّل ذلك على عيسى عليه السّلام عند الاحتجاج به و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى ثلاثة أفعال لا تكون إلا بِإِذْنِ اللَّهِ عز و جلّ، و قوله: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ هذا و إن كان إخبارا من عيسى و فعلا من أفعاله، فإنه لا

ص: 50


1- سورة: المائدة، الآية: 110.

يصح أن يكون إلا بِإِذْنِ اللَّهِ و إلا فما يعلم ما يفعلونه في بيوتهم مما غيب عنه إلا بِإِذْنِ اللَّهِ عز و علا للملائكة في اطلاعه عليه و باللّه التوفيق.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (1) و قال:

في سورة مريم (2) مثله و قال في سورة حم الزخرف (3) حكاية عمن حكى عنه في السورتين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فزاد هو في هذه الآية من هذه السورة.

للسائل أن يسأل عما أوجب اختصاصها بهذا التوكيد دون الموضعين الأولين، و هي كلها فيما أخبر اللّه تعالى به عن عيسى عليه السّلام.

الجواب أن يقال: إنما لم يجب في الأوليين من التوكيد ما أوجبه اختيار الكلام في الموضع الثالث لأن قوله عز و جلّ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ حكاية عن عيسى بعد ما مضت آيات كثيرة في ذكره و ابتداء أمره من مبتدإ الآية التي نزلت في شأن مريم و هي: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (4) إلى آخر هذا العشر. فلما تناصرت هذه الآيات المتقدمة في ذكره، و دلت على إحداثه و خلقه كانت فيها دلالة على أنه مربوب مصنوع بكثرة الأفعال التي أسندت إليه و جعلت آيات له، و أنه عبد من عبيده، و اللّه ربه و مالكه و القائم بمصالحه، و أنه أصحبه معجزات تدل على صدقه في نبوته، و كذب من قال ببنوته، فصرفتهم تلك الأفعال التي تقدم ذكرها إلى العلم بأنه تعالى ربه، و كذلك في سورة مريم جاء قوله: وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ بعد ما مضت آيات كثيرة ابتداؤها وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ (5) و بعد عشرين آية مرت في قصتها قال: وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فكانت تلك الآية العشرون ناطقة بأن اللّه ربه، فاكتفى بما طال من الكلام المؤكد لحاله على حقيقتها عن التوكيد الذي جاء في سورة الزخرف، لأنه لم يذكر هذه الآية إلا بعد قوله: وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ (6) فالموضع الذي

ص: 51


1- سورة: آل عمران، الآية: 51.
2- الآية: 36.
3- الآية: 64.
4- سورة: آل عمران، الآية: 42.
5- سورة: مريم، الآية: 16.
6- سورة: الزخرف، الآيتان: 63 و 64.

خلا من الآيات الكثيرة الدالة على أن اللّه تعالى ربه و هو عبده لا ابنه، حسن تأكيد الكلام فيه صرفا للناس عما ادعوه من أنه ابن اللّه إلى أنه عبده، أ لا ترى إلى قوله في سورة مريم (1): ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ و اعلم أن التوكيد بقولك هو في مثل هذا الموضع يكون لأحد وجهين، إما أن يريد أنه على الصفة التي جعلها خبرا عنه لا على غيرها، و إما أن يريد أن صاحب هذه الصفة التي جعلت خبرا عنه إنما هو فلان لا غيره، إذا قال القائل:

إن زيدا هو أخوك أي: هو صديقك لا عدوك، أو يريد أن يقول: إنه أخوك لا عمرو، فكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ يحتمل التوكيدين إن يريد أنه هو خالقي و القائم بمصالحي لا غيره من الآلهة التي ترون عبادتها، و إن يريد أنه هو ربي لا أبي كما زعمت النصارى، تعالى اللّه عن أن يكون له ولد.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (2) فحذف النون من «أنا» و قال في سورة المائدة (3): وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ بإثبات النونات الثلاث.

للسائل أن يسأل فيقول: لم خص ما في سورة آل عمران «بأنا» و ما في سورة المائدة «بأننا؟» و الحرفان سواء و التخفيف جائز في الموضعين كما يجوز الإتيان به على الأصل فيهما.

الجواب أن يقال: إن الذي في سورة المائدة جاء على الأصل غير مخفف بالحذف؛ لأنه جاء أول كلام الحواريين في هذا المعنى، أ لا تراه خبرا عن اللّه تعالى أنه قال: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ و الذي هو في سورة آل عمران هو حكاية عن عيسى عليه السّلام أنه سألهم عما أقروا به للّه تعالى، فقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ

ص: 52


1- الآيتان: 35 و 36.
2- سورة: آل عمران، الآية: 52.
3- الآية: 111.

وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فكان ذلك منهم إقرارا ثانيا لرسوله عليه السّلام مثل ما أقروا به للّه تعالى، و الثاني يختار فيه من التخفيف ما لا يختار في الأول؛ لأن الأول قد وفّى العبارة حقها، و الثانية معتمدة على ما قبلها و هي مكررة، و العرب تستثقل المعاد ما لا تستثقل غيره، فاختير في سورة آل عمران ما لم يختر في سورة المائدة لذلك. ثم أذكر فصلا في هذه النون (مسألة) اعلم أن النون التي حذفت من «أنا» غير النون التي حذفت من «إني»، و قد جاء القرآن بهما جميعا، قوله تعالى: إِنِّي آنَسْتُ ناراً (1) و إِنِّي أَنَا رَبُّكَ (2) و جاء على الأصل بعده: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي (3) و قال إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ (4) وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (5) و قال: وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (6) في قصة صالح عليه السّلام، و من لم يرتض بهذا العلم يتوهم أن النون التي خفف بحذفها «إني» هي التي خفف بحذفها «أنا» و ليس الأمر كذلك؛ لأن التي حذفت من «إني» هي نون العماد اللاحقة مع الياء بدلالة حذفها من نظائرها إذا قلت: لعلي في لعلّني، و أما النون التي في «أنا» من قولك: أننا؛ فإنها مع الألف اسم المخبرين عن أنفسهم، فلا تسقط سقوط التي تجي ء مع الياء، فإذا قلت: «أنا»، فالنون الساقطة هي الأخيرة من «أن» دون النون اللاحقة مع الضمير بها، فاعرفه إن شاء اللّه تعالى.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (7) و قال في سورة الأنفال (8): وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما في الآية الأولى مما يوجب أن يأتي فيها بقوله:

لَكُمْ و ليس في الآية الثانية؟ و ما بال قوله: بِهِ قد أخر في الآية الأولى عن قوله قُلُوبُكُمْ و قدم في الآية الأخرى عليه؟.

الجواب أن يقال: أما قوله: لَكُمْ في هذه الآية و حذفه من الثانية مع العلم بأن

ص: 53


1- سورة: طه، الآية: 10.
2- سورة: طه، الآية: 12.
3- سورة: طه، الآيتان: 13 و 14.
4- سورة: القصص، الآية: 7.
5- سورة: يوسف، الآية: 61.
6- سورة: هود، الآية: 62.
7- سورة: آل عمران، الآية: 126.
8- الآية: 10.

اللّه تعالى جعل إخباره بإنزال الملائكة لنصرهم بشارة لهم، و أن (لكم) مضمرة في سورة الأنفال كما هي مظهرة في هذه السورة، فلأن الأولى جاءت على الأصل، و الثانية قد تقدمتها لَكُمْ فأغنت عن إعادتها بلفظها و معناها، و هي في قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (1) فلما قال: فَاسْتَجابَ لَكُمْ علم أنه جعل بشرى لهم فأغنت لَكُمْ الأولى بلفظها و معناها عن الثانية، و في الآية الأولى لم يتقدم ما يقوم هذا المقام، فأتى بقوله: لَكُمْ على الأصل. و أما تأخير بِهِ بعد قوله: قُلُوبُكُمْ فلأنه لما أخر الجار و المجرور في الكلام الأول، و هو قوله:

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ و عطف الكلام الثاني عليه، و قد وقع فيه جار و مجرور، وجب تأخيرها في اختيار الكلام ليكون الثاني كالأول في تقديم ما الكلام أحوج إليه و تأخير ما قد يستغنى عنه، و أما تقديم بِهِ في الآية الثانية، فلأن الأصل في كل خبر يصدر بفعل أن يكون الفاعل بعده، ثم المفعول و الجار و المجرور، و قد يقدم المفعول على الفاعل إذا كان اللبس واقعا فيه و أريد إزالته عنه كما تقول: ضرب عمرا زيد لا محمدا؛ لأن المخاطب عنده أن المضروب محمد، و لا خلاف بين المتخاطبين في أن الضارب زيد، فهو يبدأ بما هو أهم، و عنايته ببيانه أتم، و كذلك الجار و المجرور بمنزلة المفعول به في التقديم و التأخير و شبههما، و في هذا الموضع إذ لم يعرض في اللفظ من التوفقة ما يوجب إجراء الكلام على الأصل، كما كان في سورة آل عمران، فإن المعتمد بتحقيقه عند المخاطبين إنما هو الإمداد بالملائكة، و هو الذي أخبر اللّه تعالى عنه أنه لم يجعله إِلَّا بُشْرى فوجب أن يقدم في الكلام الثاني، و هو المضمر بعد الباء في قوله تعالى: بِهِ على الفاعل فقال تعالى: وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ و في هذه الآية مسألة أخرى و هي أن يقال: كيف اختلف الإخبار عن اللّه تعالى بالعز و الحكمة في الآيتين؟ فجاء في سورة آل عمران مجي ء الصفة، فقال تعالى: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ و جاء في سورة الأنفال بلفظ خبر ثان مستأنف فقال: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

الجواب أن يقال: القصد إعلام المخاطبين أن النصر ليس من قبل الملائكة، و لا من جهة العدد و العدة و فضل القوة، و لكنه من عند القادر الذي لا يغلب و لا يمنع عما يريد فعله، و الحكيم الذي يضع النصر موضعه، و الآية التي في سورة الأنفال إنما هي في

ص: 54


1- سورة: الأنفال، الآية: 9.

قصة يوم بدر و بيّن اللّه ذلك فيه بلفظ جعله كالعلة لكون النصر بيده، فكأنه قال في المعنى: النصر ليس إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يمنع عما يريد فعله، و الْحَكِيمِ الذي يضع النصر في موضعه، ففصل ذلك في خبرين على الأصل الواجب في توفية كل معنى حقه من البيان، و الآية التي في سورة آل عمران هي في قصة يوم أحد و هو بعد يوم بدر، و كان هذا البيان قد حصل فيما جعل خبرا عن النصر في اليوم الأول، فاقتصر من ذكر مثله في اليوم الثاني على خبر واحد يجري عليه معنى الخبر الثاني مجرى الوصف لاختصار المعنى عن البسط اعتمادا على ما فصل في الخبر عن الأول، فكان الاختصار بالثاني أليق و كان الثاني له أجمل فخص كل موضع بما رأيت لما ذكرت و اللّه أعلم.

الآية السادسة منها

قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (1) و قال في سورة العنكبوت (2): خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.

للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في هذه السورة بالواو من قوله: وَ نِعْمَ و إخلائها في سورة العنكبوت منها.

الجواب إن الآية من هذه السورة مبنية على تداخل الأخبار؛ لأن أولها: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ف. «أولئك» مبتدأ و «جزاؤهم» مبتدأ ثان و «مغفرة» خبر المبتدأ الثاني، و هو مع خبره خبر عن المبتدأ الأول، و الجزاء هو الأجر فكأنه قال: أولئك أجزيهم على أعمالهم محو ذنوبهم و إدامة نعمهم و هذا الأجر مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنسقت الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي هديت لرجاء الراجين و أكملت بها منية المتمنين، و الخبر إذا جاء بعد خبر في مثل هذا المكان الذي تفضل فيه المواهب المرغب فيها فحقه أن يعطف على ما قبلها بالواو، كقولك: هذا جزاء كذا و كذا، أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب و التنعيم في جنة الخلد و تفضيله على كل جزاء جوزي به عامل و ذلك تشريف و كرامة.

و أما الجواب عن الآية التي في سورة العنكبوت: فإن ما قبلها مبني على أن يدرج

ص: 55


1- سورة: آل عمران، الآية: 136.
2- الآية: 58.

الكلام فيه على جملة واحدة و هي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً (1) فقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ و قوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في موضع خبره و هذا الخبر يتصل به مفعولان الأول «هم» و الثاني «غرفا»، و غرفا نكرة موصوفة بقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و قوله: خالِدِينَ فِيها حال من التبوئة، فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد و هي جملة ابتداء و خبر و احتمل نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أن يجي ء بالواو و أن يجي ء من دونها اختير مجيئها بغير واو لتشبه ما تقدم من صفة بخبر لا على سبيل عطف و نسق بها، و يحتمل أن يكون في موضع خبر مبتدأ، كأنه قال: ذلك نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ و يكون قوله «ذلك» إشارة إلى ذكر اللّه سبحانه و تعالى و من إسكانهم الجنة فتجري بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام الأول كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ (2) فقوله «ذلك» و إن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى و كأنه قال: لهم ما يشاءون عند ربهم مشار إليه بأنه الفضل الكبير. و قوله: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: ذاك نعم أجر العاملين، و المعنى المشار إليه يتفضل على أجور العاملين، و إذا كان الأمر على ما ذكرت في الآيتين لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به فاعرفه.

الآية السابعة منها

قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (3) و قال في سورة الملائكة: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (4).

للسائل أن يسأل عن اختلاف الآيتين في إدخال الباء في قوله: وَ بِالزُّبُرِ في موضع و حذفها منها في موضع في قراءة الأكثرين.

الجواب أن يقال: إن الزبر و الكتاب في سورة آل عمران وقعا في كلام بني على الاختصار و الاكتفاء فيه بالقليل عن الكثير مع وضوح المعنى، فكان أول ذلك قوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ و التقدير: و إن يكذبوك، فوضع الماضي الذي هو أخف موضع المستقبل الذي

ص: 56


1- سورة: العنكبوت، الآية: 58.
2- سورة: الشورى، الآيتان: 22 و 23.
3- سورة: آل عمران، الآية: 184.
4- سورة: فاطر، الآية: 25.

هو أثقل بدلالة «إن» التي للشرط و حصول الخفة في اللفظ، ثم إن الفعل الذي جاء في جواب الشرط بني للمفعول و لم يسم فاعله، فكان الاختيار أن يجعل آخر الكلام كأوله بالاكتفاء بما قل عما كثر منه مع وضوح المعنى، و الآية التي في سورة الملائكة صدرت بما يخالف ذلك في الموضعين لأن الشرط جاء فيها على الأصل بلفظ المستقبل و هو وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ و جاء الجزاء أيضا مبنيا للفاعل و لم يحذف منه ما حذف من الأول، فلما قصد توفية اللفظ حقه أتبع آخر الكلام أوله في توفية كل معمول فيه عامله و هي حروف الجر التي استوفتها المجرورات، فلذلك اختلفت الآيتان و اللّه أعلم.

مضت سورة آل عمران عن سبع آيات و ثلاث عشرة مسألة.

ص: 57

4- سورة النساء

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (1) و قال في هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (2).

للسائل أن يسأل عن فائدة تكرار هذه الآية، و له أن يسأل فيقول: لم كان جواب من يشرك باللّه في الآية الأولى: فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً و جوابه في الآية الثانية فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً؟

الجواب عن التكرار فلأن هذه الصورة لما اشتمل صدرها على ذكر الأحكام و انتهى إلى ذكر التيمم ثم انقطع ذلك بقوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ (3) و هم اليهود الذين أوتوا التوراة فحرفوا ما فيه دلالة على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم إلى ما يدعو إلى ترك الإيمان به، ثم توعدهم إن أقاموا على الكفر بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً (4) أتبع ذلك ما دل به على عظم الكفر الذي هو شرك و ذلك في أمر اليهود، و يحتمل أن يقال: إنما سماهم مشركين لما قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (5) و من ادعى للّه ابنا فهو مشرك، و الموضع الثاني تقدمت فيه آية هي قوله: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6) و معناه: من عادى الرسول بعد ما ظهرت آياته و تظاهرت دلالاته و اتبع سبيل الكفار فإن اللّه يوليه ما تولى من

ص: 58


1- سورة: النساء، الآية: 48.
2- سورة: النساء، الآية: 116.
3- سورة: النساء، الآية: 44.
4- سورة: النساء، الآية: 47.
5- سورة: التوبة، الآية: 30.
6- سورة: النساء، الآية: 115.

الأصنام التي عبدها بأن يكله إليها ليستنصر بها و لا نصر عندها، و هؤلاء مشركو العرب، فدل على أن من تقدم ذكرهم و إن كانوا أوتوا الكتاب كهؤلاء المشركين الذين لا كتاب لهم كفرهم ككفرهم و سبيلهم كسبيلهم، فأعاد ذكر عظم الشرك توعدا لصنف آخر من الكفار لم يدخلوا في جملة من تقدم ذكرهم ليعلم أنهم و إن خالفوهم دينا فقد وافقوهم كفرا، فهذه فائدة التكرار، فأما إتباع الأول فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً فلأن من أريد بالآية الأولى قوم عرفوا صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم من الكتاب الذي هو معهم فكذبوا و افتروا ما لم يكن عندهم، فكان كفرهم من هذا الوجه الذي أضلوا به أتباعهم، و أما إتباع الثاني فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فلأن من أريد به مشركو العرب و هم لم يتعلقوا بما يهديهم و لا كتاب في أيديهم فيرجعوا إليه فيما يتشككوا فيه، فقد بعدوا عن الرشد و ضلوا أتم الضلال، فاقتضى المعنيون بالأول ما ذكره اللّه تعالى و المعنيون بالثاني ما أتبعه إياه و إن كان الفريقان مقترفين إِثْماً عَظِيماً و ضالين ضَلالًا بَعِيداً و اللّه أعلم.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (1) و قال بعده: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (2).

للسائل أن يسأل عن مسألتين في ذلك. إحداهما في الآية الأولى: وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا و في الثانية: وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا و الثانية عن ختم الآية الأولى بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً و الثانية بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.

الجواب عن الأولى أن معناها: إن خافت امرأة من زوجها ترفعا و نبوّا لملل أو إعراضا لموجدة أو بذل فلا إثم في أن يتصالحا على أن تترك له من مهرها أو بعض أثاثها ما يتراضيان به، وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ من أن يقيما على التباعد أو يصيرا إلى القطيعة و نفس

ص: 59


1- سورة: النساء، الآية: 128.
2- سورة: النساء، الآية: 129.

كل واحد منهما تشح بما لها قبل صاحبها، و قيل: المراد شحّهنّ على النقصان من أموالهن و أنصبائهن من أزواجهن، و هذا يقتضي مخاطبة الأزواج بمجانبة القبيح و إيثار الحسنى في معاملتهن، فبعث اللّه تعالى في هذا المكان على فعل الإحسان، فأما الآية الثانية فإنه جاء بعد قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ في محبتهن و الشهوة لهن؛ لأن ذلك ليس إليكم و إن حرصتم على التسوية بينهن فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ بأن تجعلوا كل مبيتكم و خلوتكم و جميل عشرتكم و سعة نفقتكم عند التي تشتهونها دون الأخرى فتبقى تلك معلقة لا ذات زوج و لا مطلقة، فاقتضى هذا الموضع أن يحث الأزواج على إصلاح ما كان بينهم من الانصباب إلى الواحدة دون ضرّاتها بالتوبة مما سلف و استئناف ما يقدرون عليه من التسوية و يملكونه من الخلوة و سعة النفقة و حسن العشرة فقال: وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا.

جواب المسألة الثانية: فقد بان و وضح بما ذكرت و بينت أنه لما قال: إن جافيتم القبيح و آثرتم الإحسان فاللّه به عالم و عليه مجاز و هذا قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً و لما عذر الأزواج في بعض الميل، و هو الذي لا يملكون خلافه حثهم على ما يطيقون فعله بما ذكرت و على إصلاح ما سلف منهم بما بينته، فإن اللّه يغفر لمن يقلع منهم عن قبائحه و يؤثر بعدها الحسنى من أفعاله و هذا قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (1).

للسائل أن يسأل في هذه الآيات عن مسألتين:

إحداهما عن تكرار قوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ثلاث مرات.

ص: 60


1- سورة: النساء، الآيات: 130- 132.

و الثانية: عما يتبع المكرر في قوله في آية: وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً و في أخرى وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا و الأولى لم يتبعها مثل ما أتبع الوسطى و الأخيرة.

الجواب عن المسألة الأولى و هي التكرار أنه إذا أعيد الكلام لأسباب مختلفة لم يسم تكرارا، فالأول بعد الأذن للرجل و المرأة في أن يتفرقا بطلاق و تسليتهما على الوصلة بأنه هو الذي يغني المحتاج منهما، و إن كان قبل ذلك أغنى كل واحد منهما بصاحبه، فإنهما بعد الفرقة يرجوان الغنى من عنده لأنه واسع الرزق و واسع المقدرة فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و أرزاق العباد من جملتها.

و أما الثاني فإنه بعد قوله: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي: اتقوه فإنه واسع النعمة و الفضل و الرحمة و قد أوسعكم منها و وصاكم و من قبلكم بتقواه و الاستجارة بطاعته من عقوبته، فإنكم إن عصيتم و كفرتم لم يكن باللّه حاجة إلى طاعتكم، و إنما أنتم تحتاجون إليها و اللّه غني حميد، فوجب عليهم طاعته؛ لأن له ما في السموات و ما في الأرض و هو غني بنفسه حميد؛ لأنه جاد بما استحمد به إلى خلقه من الإحسان إليهم و الإنعام عليهم فالمقتضى لذكره (له ما فى السماوات و ما فى الأرض) في الثاني غير المقتضى له في الأول.

و أما الثالث فلأنه لما ذكر أنه أوجب طاعته على من قبلهم و عليهم لأنه ملك ما في السموات و ما في الأرض، و أنعم عليهم من ذاك ما حقت به العبادة اقتضى ذاك أن يخبرهم عن دوام هذه القدرة له فكأنه قال: و له ذلك دائما و كفى به له حافظا، أي: لا زيادة على كفايته في حفظ ما هو موكول إلى تدبيره، و الوكيل القيم بمصالح الشي ء و قيل:

هو الحافظ و ما قام اللّه بمصالحه فهو حافظه فقد بان أن ذلك ليس بتكرار.

الجواب عن المسألة الثانية من اتباعه قوله: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً فقد تضمنه الجواب عما ذكرت من التكرار و هو كقوله: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ (1) أي: أنتم محتاجون إلى طاعته و لم يقتض ما تقدم غير هذا الوصف، و لما اتصف تعالى بالغنى و كان الغني إذا لم يجد من غناه مذموما و اللّه تعالى قد عم بعطائه المستحق و غيره من الكفار كان الغني الحميد .. و أما قوله بعد الثالث: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فإنه لما كان المعنى أنه دائم القدرة أخبر أن ما يحفظه مما في السموات و ما في الأرض من يكتفي به حافظا إذ ملكه عليه دائم و تدبيره فيه قائم.

ص: 61


1- سورة: الزمر، الآية: 7.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (1) و قال في سورة المائدة (2): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول ما الفائدة في تقديم قوله: بِالْقِسْطِ على قوله:

شُهَداءَ لِلَّهِ في الآية الأولى و تأخيره عنه في الآية الثانية؟.

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في الشهادة أمر عز و جلّ من عنده شهادة أن يقوم بالحق فيها و يشهد للّه على كل من عنده حق لغيره يمنعه إياه حتى يصل إليه فقال: قوموا بالقسط، أي: بالعدل في حال شهادتكم للّه على كل ظالم حتى يؤخذ الحق منه، فقدم القسط لأنه من تمام «قوّامين» إذ فعله يتعدى إلى مفعوله بالباء ... و أما «شهداء» فإنها إذا كانت حالا من الضمير في «قوامين» فإن حقها أن تجي ء بعد تمام «قوّامين»، و كذلك إن كانت خبرا ثانيا و إن كانت صفة لقوامين فإن حقها أن تجي ء بعده. و أما قوله: لِلَّهِ بعد شُهَداءَ فلتعلقه بالشهادة كأنه قال: كونوا شهداء للّه لا للهوى و الميل إلى ذوي القربى، و الدليل على ذلك أنه قال: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و شهادة الإنسان على نفسه أن يقر بالحق لخصمه، أي: افعلوا ذلك للّه و إن كان عليكم أو على الوالدين و ذوي القربى منكم ..

و قوله عز و جلّ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً أي: إن يكن من عليه الحق على أحد هذين الوصفين فانتهوا في أمره إلى ما أمر اللّه عز و جلّ به و لا يحملنكم الإشفاق من فقره على محاباته و لا يدعونكم غنى الغني إلى مداراته فإن اللّه أولى بالنظر لهما و لجميع عباده منهم لأنفسهم و لغيرهم .. و قوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أي: كراهة أن تعدلوا، و إن تلووا ألسنتكم بالشهادة و لم تفصحوا بها و لم تقوموا بما يجب عليكم فيها أو تتركوا ما يلزمكم منها فإن اللّه عليم بعملكم و هو مجازيكم على فعلكم .. و قيل: تَلْوُوا بمعنى تمطلوا من لويت الغريم: إذا دفعته، كأنه قال: إن تدفعوا الشهادة و لم تؤدوها وقت الحاجة إليها،

ص: 62


1- سورة: النساء، الآية: 135.
2- الآية: 8.

و من قرأ «تلوا» بضم اللام و واو واحدة، فالمعنى: أن تلوا أمر الناس من الولاية أو تتركوه، و يجوز أيضا أن يكون الأصل «تلووا»، فأبدلت من الواو المضمومة همزة ثم خففت بإلقاء حركتها على اللام و حذفها، و إن كان هذا مستضعفا في الهمزة العارضة ..

و أما الآية التي في سورة المائدة فإن فحواها يدل على أنها للولاة، فقال: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ لا لنفع و يكون بِالْقِسْطِ متعلقا بقوامين أي: كونوا قوامين لأجل طاعة اللّه بالعدل و الحكم فيه في حال كونكم شهداء أي: وسائط بين الخالق و الخلق، أو بين النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أمته كما قال: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1) فالقائم بتنفيذ أحكام اللّه بين خلقه إذا و فى بما عليه من حقه فهو شهيد على من وليه و الرسول صلّى اللّه عليه و سلم شهيد عليه بما نقله إليه، و الدليل على أن الخطاب لولاة الأحكام قوله بعده: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى و ذلك عام في المخالفين من أهل الأديان و الموافقين ممن حصلت لهم بغضة و عداوة، أي: اعدلوا على الولي و العدو عدلا واحدا، و قيل في هذه الآية إنها أيضا في الشهادة بالحقوق و قيل في الشهادة لأمر اللّه بأنه حق و قيل معناه: قوموا في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف و العمل به و النهي عن المنكر و تجنبه.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (2) و قال في سورة الأحزاب (3): إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً.

للسائل أن يسأل عن الآية الأولى: لم خص فيها «خير» و لم عم في الثانية بلفظ «شي ء»؟.

الجواب أن يقال: إنما خص في هذا الموضع الخير بالابتداء لأنه بإزاء السوء الذي قال فيه: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ (4) و المعنى: لا يحب اللّه أن يجهر بالقول السّيّئ غير المظلوم و هو أن يدعو على من ظلمه أو أن يخبر بظلمه له أو أن ينتصر منه بسوء مقاله فيه، فقال: إن أبديتم ثناء و ذكرا جميلا لمن يستحقهما أو

ص: 63


1- سورة: البقرة، الآية: 143.
2- سورة: النساء، الآية: 149.
3- الآية: 54.
4- سورة: النساء، الآية: 148.

أخفيتموهما أو سكتّم عمن أساء إليكم بالعفو عنه، فإن اللّه مع قدرته كثير العفو عن خليقته، فاقتضت في هذا المكان المقابلة أن يجعل بإزاء السوء الخير. و أما في الآية الثانية التي في سورة الأحزاب فلأن قبلها تحذيرا من إضمار ما لا يحسن إضماره في قوله عز و جلّ:

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ (1) و قوله: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ (2) فاقتضى هذا المكان العموم فقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا مما حذرتكم شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً و لم يزل عليما بما يكون كعلمه بما كان.

انقضت سورة النساء عن خمس آيات و سبع مسائل.

ص: 64


1- سورة: الأحزاب، الآية: 51.
2- سورة: الأحزاب، الآية: 53.

5- سورة المائدة

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (1) و قال في آخر سورة الفتح (2): وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

للسائل أن يسأل فيقول: لم رفع مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ في الآية الأولى و نصبها في الثانية؟.

الجواب أن يقال: لقوله: لَهُمْ في الأولى و مِنْهُمْ في الثانية فائدة، و ذلك أنه لما قال في الأولى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علم أنهم و عدوا بما هو حق لهم فعدل عن ذكر المفعول إلى جملة تضمنت معناه: و الجملة ابتداء و خبر، و هي في موضع مفرد منصوب كأنه قال: وعد اللّه الذين آمنوا مغفرة، و مثله قول الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاء و جنات و عينا سلسبيلا

كأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء، و عطف على موضع و جنات و عينا، فاللام في «لهم» داخلة على ضمير الصالحين فكأنها داخلة عليهم، و كأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء، و عطف على موضع الجملة التي هي لهم جزاء منصوبا إذ كان موضع الجملة موضع نصب .. و أما الآية الأخرى فإن منهم فيها متعلقة ب الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و هي من تمامها و لم يكن هناك ما ترتفع به مَغْفِرَةٌ فتعدى إليها الفعل الذي هو وعد فجرى على الأصل في نصب المفعول به ... فإن قال: كيف يحتمل أن يبعض

ص: 65


1- سورة: المائدة، الآية: 9.
2- الآية: 29.

و القوم الذين أخبر اللّه عنهم- بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ (1) مع سائر ما وصفهم اللّه به فأثنى عليهم بذكره- كلهم و عدا مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

الجواب: عن ذلك من وجهين. أحدهما أن يقال: إن «من» في هذا المكان ليست للتبعيض، إنما هي لتبيين الجنس، كأنه قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ. الذين هم هؤلاء كما قال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2) أي:

الرجس الذي هو الأوثان.

الجواب الثاني أن يكون التقييد للتحذير؛ لأنهم و إن علم اللّه منهم الثبات على ما هم عليه من العمل الصالح، فإنه لا يخليهم من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد على معنى:

دوموا على ما أنتم عليه، فإن من دام منكم عليه فقد وعده اللّه مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

فإن قال قائل: فلما ذا خصت الآية الأولى بأن جعل مفعولها الثاني جملة و الآية الثانية مفعولها مفردا؟. قلت: لأن الأولى خطاب لقوم حثهم على توخي العدل فيما يحكمون به، و هو أعم من حث الصحابة الذين ذكرهم في آخر سورة الفتح و أثنى عليهم بالشدة على الكفار و الرحمة للمؤمنين و ملازمة الركوع و السجود و ابتغاء رضوان اللّه تعالى، و إن مثلهم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ (3) إلى آخر الآية، فخص هؤلاء بصريح المغفرة، و ذكر أنه وعدهم ذلك و قال في الآية الأولى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فكان إخبارا عن وعده إياهم فقط، ثم أتى بخبر ثان فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ على معنى:

إن قاموا بذلك و لم يحبطوه بالسيئات فجوز منهم هذا، و لم يعلق المغفرة بوعد فيعزيه إليها، و في الآية الثانية حقق المغفرة لهم و عدى الفعل إليها، و كان كالحكم بأنهم يوافون الآخرة بأعمالهم الصالحة، و قد وعدهم اللّه تعالى عنها المغفرة و الأجر العظيم، فلاق بكل آية ما خصت به فاعرفه إن شاء اللّه.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (4) و قال تعالى بعده

ص: 66


1- سورة: الفتح، الآية: 29.
2- سورة: الحج، الآية: 30.
3- سورة: الفتح، الآية: 29.
4- سورة: المائدة، الآية: 13.

في هذه السورة: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ (1).

للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ و في الثانية مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ؟ و ما الفرق بين اللفظين و بين الموضعين حتى اختص كل واحد منهما باللفظ الذي خصه.

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في اليهود الذي حرفوا ما أنزل اللّه من كلامه عما علموه تأويلا له فيكون هذا تحريفا من جهة التأويل، و حرفوا أيضا من جهة التنزيل، كما قال: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (2). فقولك «عن» في كلام العرب موضوع لما عدا الشي ء يقول:

أطعمه عن جوع و كساه عن عري، و كانوا يعدلون بالكلم تأويله الذي له، و تنزيله الذي جاء عليه إلى غيره مما هو باطل، و «عن» في هذا الموضع تقرب من معنى «بعد»؛ لأنك تقول أطعمه بعد جوع و كساه بعد عري، إلا أن الأصل في هذا المكان أن يستعمل «عن»؛ لأن «بعد» قد تكون لما تأخر زمانه عن زمانه بأزمنة كثيرة و بزمن واحد، و «عن» لما جاوز الشي ء إلى غيره ملاصقا زمنه لزمنه و المراد إذا قال: أطعمه عن جوع و سقاه عن عطش ليس يراد به إلا أنه لما عطش سقاه و لما جاع أطعمه. و أما الآية الثانية فهي في قوم من اليهود أخبر اللّه تعالى عنهم بأنهم سَمَّاعُونَ لما تقوله ليكذبوا عليك و يخبروا بخلاف ما تقوله عنك و ينقلوا كلامك إلى قوم آخرين لم يأتوك .. و معنى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يحتمل أن يكون المراد من بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و سلم ليجعلوه على خلاف ما سمعوه منه و هذا موضع بعد لا موضع عن؛ لأنه ليس يعدوه إلى المحرف إليه فينفصل عما جاء عليه إلى الكذب مقارنا له، و إنما ذلك بعده بأزمنة كثيرة يتوقعون مضيها ليسهل كذبهم بعدها و يكون التقدير سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي: ناوون تحريفه من بعد وقوعه مواقعه و حصوله مواضعه، فمحرفين بمعنى: ناوين التحريف كقوله:

وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً (3) أي: ناوين السجود، و كذلك فَادْخُلُوها خالِدِينَ (4) أي: ناوين الخلود و مقدرين له، و هذا ظاهر في هذا الموضع لا يصلح فيه إلا ما نطق القرآن به.

ص: 67


1- سورة: المائدة، الآية: 41.
2- سورة: آل عمران، الآية: 78.
3- سورة: يوسف، الآية: 100.
4- سورة: الزمر، الآية: 73.

و يحتمل أن يكون المراد ما ذهب إليه أكثر أهل التفسير، و هو أن قوما أرسلوا هؤلاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم في قصة زان محصن، فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد بالجلد فحدوه و إن أفتاكم بالرجم فلا تقتلوه، و قال قتادة: كان هذا في قتيل منهم، فقالوا: إن أفتاكم محمد بالدية فاقبلوه، و إن أفتاكم بالقود فاحذروه، و كانوا حرفوا في القولين حكم اللّه تعالى الذي في التوراة من بعد أن عمل به في مواضعه، و لم يحرفوه ساعة نزوله و وجوب العمل به، و هذا معنى قوله عز و جلّ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا (1) و قيل:

إن هذا إشارة إلى دين اليهود أي: إن جاءكم محمد صلّى اللّه عليه و سلم بدينكم فاقبلوه، و إن لم يأتكم به فاحذروه، فقد بان الفرق بين الموضعين بما بيناه و اللّه أعلم.

الآية الثالثة منها

قوله عز و جلّ: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (2) و قال بعده: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ (3).

للسائل أن يسأل فيقول: نبه أهل الكتاب بمجي ء الرسول في الآية الأولى، و أخبر أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون من الكتاب و يعفو عن كثير، و قال في الآية الثانية: إنه قد جاء يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ فهل ما ذكر من التبيين في الثانية كان يجوز أن يقترن بالتنبيه الأول أم وجب لكل ما تبعه من الكلام؟.

الجواب أن قوله تعالى في الآية الأولى يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ معناه: يبين لكم كثيرا مما في التوراة و الإنجيل من وصف الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و سائر ما يدعو إلى الدخول في الإسلام و يترك كثيرا مما حرفتموه فلا يبينه؛ لأنه ليس في ذكره ما يلزمكم حجته و يجدد لكم ملة، فهذا التبيين حقه التقديم للاحتجاج به، و لذلك ردفه قوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ (4) يعني النبي: أي: يهديكم إلى منافع دينكم كما تهتدون بالنور إلى منافع دنياكم، و أما الآية الثانية التي بعد فمعناها جاءَكُمْ رَسُولُنا

ص: 68


1- سورة: المائدة، الآية: 41.
2- سورة: المائدة، الآية: 15.
3- سورة: المائدة، الآية: 19.
4- سورة: المائدة، الآية: 15.

يُبَيِّنُ لَكُمْ على حين دروس مما كان الرسل أتوا به مما يلزمكم في دينكم احتجاجا عليكم و قطعا لعذركم، لئلا تحتجوا بأنه لم يجئكم من يبشركم بالثواب و يخوفكم من العقاب، فالأول احتجاج لنبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و بعد تثبيته يبين الداعي إلى بعثته و هو ما ذكر في الآية الثانية.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) و قال بعدها:

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (2).

للسائل أن يسأل عن شيئين في هاتين الآيتين المتصلة إحداهما بالأخرى، أحدهما عن تكرار قوله: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما. و الثاني صلة الأول بقوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وصلة الثاني بقوله: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ .. و له أن يسأل عن قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ في سورة الفتح (3) زيادة «لكم» هناك و حذفها هنا.

الجواب أن يقال: إن هذه الآية في سورة الفتح نزلت في قوم تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من غير عذر و تأخروا عن الجهاد و قالوا: شغلتنا أموالنا و أهلونا، ثم سألوه صلّى اللّه عليه و سلم أن يستغفر لهم يكتمون بذلك نفاقهم و يظهرون وفاقهم و قصدهم استمالته كيلا تضرهم عداوته فقال عز و جلّ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا (4) و من يملك لكم ضرا إن أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً (4) فلما كان في قوم مخصوصين احتيج إلى «لكم» للتبيين، فأما في هذه السورة فإنها لم تنزل لفريق مخصوص دون فريق بل عم بها دليله إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فلما سيقت الآية إلى العموم لم يحتج إلى «لكم» التي للخصوص.

ص: 69


1- سورة: المائدة، الآية: 17.
2- سورة: المائدة، الآية: 18.
3- الآية: 11.
4- سورة: الفتح، الآية: 11.

الجواب عن التكرار أن يقال: إن الآية الأولى في النصارى خاصة، و هم الذين لما قالوا في عيسى إنه إله و الإله واحد صاروا كأنهم قالوا: اللّه هو المسيح ابن مريم، فرد اللّه ذلك عليهم بما دل به على أن عيسى عبد مخلوق مملوك للّه ليس هو بابن له و لا بإله؛ لأن أحدا لا يملك أن يدفع عن المسيح و أمه و سائر من في الأرض من الخلق ما يريد اللّه إيقاعه بهم من موت أو هلاك، و لا المسيح يملك ذلك، فدل هذا على أنه مخلوق و أن اللّه له مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما و المسيح من جملته مملوك مدبر، و لو كان إلها لكان شريكا للّه و لم يكن للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالقصد بذكر مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما في الآية الأولى أن يبين أن المسيح مخلوق و مملوك ليس بإله و لا بابن للّه، إذ لو كان إلها كما زعموا لم يكن اللّه مالكا لجميع السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما و لما تهيأ إهلاك المسيح، و كان هذا احتجاجا عليهم خاصة بأنه مملوك مخلوق و أن اللّه يخلق ما يشاء من أمثاله بدلالة أنه قادر على إهلاكه، و في ذلك جواب عن المسألة الثانية و هي صلة الأولى بقوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ .. و أما الآية الثانية و هي قوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ فروي عن ابن عباس رضى اللّه عنه أن جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم نقمات اللّه و عقوباته قالوا: لا تخوفنا فإننا أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ و قيل: إن اليهود تزعم أن اللّه أوحى إلى إسرائيل: إن ولدك بكري من الولد، و قال الحسن: إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد و النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قوله: أذهب إلى أبي و أبيكم، و قيل: بل لما قالوا المسيح ابن اللّه أجرى على القائلين بذلك مثل ما تجري العرب على الواحد من هذيل إذا قالوا: نحن الشعراء و المراد منا، و كما يجري رهط مسيلمة هذا الإطلاق عن قبيلتهم فيقولون: نحن الأنبياء لما قال واحد منهم ذلك و تابعه الباقون عليه، فلما كان هذا مقال الفرقتين رد اللّه عليهم قولهم مع اعترافهم بأنهم يعذبون بذنوبهم، إذ لو لم يقولوا ذلك لأباحوا ارتكاب الفواحش فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ و الأب المشفق على ولده لا يعذبه، و كذلك الحبيب لا يعذب من يحبه، فكان هذا احتجاجا عليهم بما يعتقدون صحته من عذاب الآخرة و اللّه تعالى يقول: إنكم لستم بأبنائي و لا أحبائي ثم قال: و هو المنفرد بملك السموات و الأرض و ما بينهما و أنه لا ولد له و لا نظير و لا شريك، له إذ لو ثبت ذلك تعالى اللّه عنه لما كان مالكا لجميعه، فلما احتج على إبطال قولهم بما يعتقدون صحته من عذاب المذنب منهم و ذلك من أحوال الآخرة، ثم احتج ب مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ على ذلك قرن إليه قوله: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: مآل الخلق إلى أن لا يملك أحد لهم نفعا و لا ضرا غيره تعالى، و في هذا جواب المسألة الثانية

ص: 70

من اقتران ما اقترن بذكره مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما في الآيتين.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (1) و قال في سورة إبراهيم (2): وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.

للسائل أن يسأل عن هذا التنبيه في الآية التي في سورة المائدة بقوله: يا قَوْمِ هل له فائدة لم يكن مثلها في الخطاب الواقع من سورة إبراهيم مع تركه؟

الجواب أن يقال: إن تسمية المخاطب بندائه مع الإقبال عليه يفيد مبالغة في التنبيه له فإذا قال القائل: افعل كذا يا فلان فكأنه قال: أعنيك بخطابي لا غيرك ممن يصح أن ينصرف الخطاب إليه، أ لا ترى أنه إذا عري من النداء صلح لكل مخاطب فإذا قارن النداء الأمر كان مقصورا على صاحب الاسم الذي دخله حرف النداء، و المبالغة في التنبيه حقها أن تكون في الأهم الأعم نفعا .. و قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يصح أن يجاب عنه بجوابين:

أحدهما أن يقال: لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام ليشكروه على هذه النعم العظام بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم يدعونهم إلى طاعة ربهم و يثنون أعنتهم عن المحظور من شهواتهم، و أن جعلهم ملوكا حيث أغناهم بما أنزله عليهم من المنّ و السلوى عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم و تكليف خدمتهم و أعمالهم و ما ملكهم من المال و العبيد و الإماء الذين كانوا يخدمونهم و يكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم، و المنة عليهم في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب و الملك الذي هو غاية ما تسمو إليه الهمم في دار التكليف، فنبهوا بأبلغ الألفاظ ليقوموا بشكر ما عليهم من الإنعام، و الآية التي في سورة إبراهيم عليه السّلام تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء، و ليس هو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء من صرف البلاء.

ص: 71


1- سورة: المائدة، الآية: 20.
2- الآية: 6.

جواب ثان: و هو أن الْمَنَّ وَ السَّلْوى (1) مما لم ينعم به على أحد قبلهم و لا بعدهم، فلذلك قال: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فلما نبهوا على شكر نعمة خصوا بها دون الناس كلهم كانت المبالغة في ذاك أولى.

جواب ثالث و هو أن يقال: لما جعل الخطاب بعد قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ (2) في آيتين و صدر المخاطبات نبه فيها المخاطبين بمناداتهم فيما حكى من أقوالهم كقوله تعالى بعده: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (3) و قوله: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ (4) و بعده قالوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها (5) و بعده قوله: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي (6) كان الاختيار أن يجري مجرى نظائره المتقدمة و المتأخرة، و لم يكن شي ء من ذلك في الآية التي في سورة إبراهيم عليه السّلام فلم يذكر هناك «يا قوم» لهذا .. و قد اختلف الناس فيمن يسمى ملكا، فقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص و زيد بن أسلم و الحسن: أقل الحال التي إذا كانت كان الإنسان بها ملكا الدار و المرأة و الخادم، و قال غيرهم: الملك الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال و تحمل المشاق للمعاش، و بنو إسرائيل سموا ملوكا لما منّ اللّه عليهم به من المن و السلوى و الحجر و العصا و الغمام، عن ابن عباس و غيره، و قال الحسن: لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم، و قال السدي: ملك كل واحد منهم نفسه و أهله و ماله، و قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم ... فأما قوله: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فيحتمل وجهين أحدهما: أن يريد من عالمي زمانكم كما قال: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (7) أي: على عالمي زمانكم، و يجوز أن يراد هاهنا:

آتاكم الْمَنَّ وَ السَّلْوى و هما ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ و قد ذكرته قبل.

الآية السادسة منها

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (8) و بعده:

فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) و بعده فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (10).

ص: 72


1- سورة: البقرة، الآية: 57.
2- سورة: المائدة، الآيتان: 15، 19.
3- سورة: المائدة، الآية: 21.
4- سورة: المائدة، الآية: 22.
5- سورة: المائدة، الآية: 24.
6- سورة: المائدة، الآية: 25.
7- سورة: البقرة، الآيتان: 47، 122.
8- سورة: المائدة، الآية: 44.
9- سورة: المائدة، الآية: 45.
10- سورة: المائدة، الآية: 47.

للسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذي وصف فيه من لم يحكم بكتاب اللّه بالكفر هل باين الموضع الذي وصف فيه تارك حكم اللّه بالظلم و الفسق؟

الجواب أن يقال إن الآية الأولى قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (1) قال فيها بعض أهل النظر: إن من فيها ليست كمن في المجازاة، و إنما هي بمعنى «الذين»، و يصح دخول الفاء في جوابها كما تدخل في جواب الشرط لتضمنها ذلك المعنى، و إن كان لا يجازى بها و هو كقوله: الذي يزورني فله درهم، فقد أوجب له بالزيارة الدرهم و إن لم يرد: من يزرني فله درهم، فقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في هذه الآية المراد به اليهود الذين كانوا يبيعون حكم اللّه بما يشترونه من ثمن قليل يرتشونه فيبدلون حكم اللّه باليسير الذي يأخذونه فهم يكفرون بذلك، فأما أن يكون الحكم بخلاف ما أنزل اللّه كفرا فهو مذهب الخوارج يذهبون بمن هنا إلى الشياع الذي يراد في المجازاة، و هذا مخصوص به اليهود الذين تقدم ذكرهم و تبديلهم حكم اللّه ليكذبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ذلك كفر .. و أما الآية الثانية فهي فيهم أيضا لقوله: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (2) و معناه:

كتبنا على هؤلاء في التوراة، فرد الذكر إلى الذين هادوا و هم الذين كفرهم لتركهم دين اللّه و الحكم بما أنزله، ثم وصفهم بعد خروجهم عن حكم اللّه في القصاص بين عباده في قتل النفس و قطع أعضائها بأنهم مع كفرهم الذي تقدم ذكره ظالمون، و كل كافر ظالم لنفسه، إلا أنه قد يكون كافرا غير ظالم لغيره، فكأنه وصف في هذه الآية بصفة زائدة على صفة الكفر باللّه و هي ظلمه لعباد اللّه بخروجه في القصاص عن حكم اللّه، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ في هذه الآية المراد بها: الذين لا يحكمون من اليهود .. و أما الآية الثالثة فإنه بعد قوله:

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ (3) و معناه: قيل لهم في ذلك الزمان، و أمروا أن يحكموا به وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه قال فيه من حكيت عنه من المتقدمين أنه بمعنى «الذي»، و الذي أذهب إليه أنا أن «من» هاهنا بمعنى المجازاة لا بمعنى الذي كما تقول فيمن لم يحكم بما أنزل اللّه منا أنه لا يبلغ منزلة الكفر، و إنما يوصف بالفسق، فلذلك قال: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فقد بان لك أن كل موضع من

ص: 73


1- سورة: المائدة، الآية: 44.
2- سورة: المائدة، الآية: 45.
3- سورة: المائدة، الآية: 47.

الآيات الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل بالكفر و الظلم و الفسق إنما وجب فيه ذلك و لم يحسن فيه غيره هناك فاعلمه.

الآية السابعة منها

قوله تعالى: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1) و قال في سورة براءة (2): لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و قال بعده: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (3) و قال في سورة النساء (4): وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و كان حقها أن تذكر في موضعها لكن لم تحضرني هناك فذكرتها مع أخواتها و إن كان ذكرها متقدما في القرآن، و قال في سورة الحديد (5): بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و في المجادلة (6): أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قال في سورة الطلاق (7):

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.

للسائل أن يسأل عن مسائل فيقول: لم لم يذكر في سورة براءة في الآية الثانية في قوله: تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لفظة «من» في قراءة الأكثرين و قد ذكر في الآي الأخر ...

و الثاني: لم حذف أَبَداً في بعض المواضع و لم يحذف في بعضها عنها .. و الثالث: لم

ص: 74


1- سورة: المائدة، الآية: 119.
2- الآيتان: 88، 89.
3- سورة: التوبة، الآية: 100.
4- الآية: 13.
5- الآية: 12.
6- الآية: 22.
7- الآية: 11.

ذكر في سورة النساء: وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و في سورة الحديد: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و في غيرها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ؟

الجواب عنه أن يقال: إن الآية الأولى و هي قوله: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و إن كانت عامة في كل صادق مؤمن فإنها خرجت على ما يبكت اللّه به النصارى من دعاويهم الباطلة و مقالاتهم الكاذبة منسوبة إلى عيسى عليه السّلام في قوله: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) فانكشف هذا عن صدقه عليه السّلام و كذب القوم لما أجاب و قال: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ (2) فلفظة الصادقين في قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و الصادقون يجوز أن يكون منصرفا إلى عيسى و أمثاله من الأنبياء صلوات اللّه عليهم الذين صدقوا في الدنيا فنفعهم صدقهم لقوله عز و جلّ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (3) أي: قال هم صادقون فتكون الإشارة بالألف و اللام إليهم صلوات اللّه عليهم، و إن كان كل صادق داخلا في حكمهم من الانتفاع بصدقهم، و كذلك الآية التي في آخر المجادلة خرجت على ذكر الرسل لقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (4) ثم قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي (5) ثم قال:

أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) فكان الذي أخبر عنهم بأن لهم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الأنبياء و غيرهم صلوات اللّه عليهم و «من» لابتداء الغاية، و الأنهار أشرف مباديها، و الجنات التي مباديها الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها فكل موضع ذكر فيه «من تحتها» إنما هو لقوم عام فيهم الأنبياء، و الموضع الذي لم يذكر فيه «من» إنما هو لقوم مخصوصين ليس فيهم الأنبياء، أ لا ترى إلى قوله في سورة براءة: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فجعل مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر أنها للصادقين و المؤمنين و الذين عملوا الصالحات و منهم الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام، لا بل هم أولهم، فالمعتاد أنها أشرف الأنهار، و الآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها؛ لأن اللفظ يشتمل عليهم فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت أشجارها، كما أخبر به عن الجنات التي جعلها اللّه لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السّلام، إذ لا موضع في القرآن ذكرت

ص: 75


1- سورة: المائدة، الآية: 116.
2- سورة: المائدة، الآية: 117.
3- سورة: الصافات، الآية: 37.
4- سورة: المجادلة، الآية: 21.
5- سورة: المجادلة، الآية: 22.

فيه الجنات و جري الأنهار تحتها إلا و قد دخلتها من سوى الموضع الذي لم ينطق ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السّلام، فهذا الكلام فيمن تحتها اعتبروا بما ذكرت ما في جميع القرآن.

أما الجواب عن حذف أَبَداً في بعضها و الإتيان بها في بعضها: أنها إنما حذفت من أول الآيتين اللتين في براءة و آخر آية في سورة المجادلة؛ لأنه ذكر قبل الآية التي في سورة براءة وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و بعد الآية التي في آخر المجادلة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فلأن في «خالدين» ما يدل على التأبيد، ثم قد نزل منزلته أخبار هي في مدحهم و هي قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ فلما تظاهرت هذه الأخبار التي هي ثناء من اللّه جل ذكره عليهم و مدح لهم و طال الكلام بها فاستغنى بذكر خالِدِينَ عن ذكر قوله:

أَبَداً و حسن حذفه، و لم يحسن في المواضع الأخر التي لم يتظاهر فيها مثل عدة هذه الأخبار الموجبة لهم دار الخلد و دوام النعيم، و أما في سورة النساء إنما لم يذكر أبدا لأنه ذكر بعده في مقابله خالِدِينَ و خالِداً فِيها (1) و لم يقل: أبدا فلو ذكر فيهما «أبدا» لطال الكلام، فاستغنى بقوله: خالِدِينَ و خالِداً فِيها عن أبدا و أما في سورة الحديد (2): لأنه ذكر قبله: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فلما طال الكلام في مدحهم ذكر بعد ذلك تأكيدا بقوله «هو» استغنى بقوله:

خالِدِينَ عن أبدا و هذا الجواب عن إدخال «هو» بعد «ذلك»؛ لأنه ذكر «ذلك» بدلا و تأكيدا عن «أبدا» و ليس كذلك في المواضع الأخر، و أما إدخال الواو في قوله:

وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ في سورة النساء المحذوف أبدا عنه فلإدخال الواو في قرينة الكافر وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (1)، فأدخل الواو فيه أي: و ذلك لهم الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و ليس كذلك في المواضع الأخر إذا قرأت ما قبلها و ما بعدها تبين لك ما قلت فاعرفه.

ص: 76


1- سورة: النساء، الآية: 14.
2- الآية: 12.

6- سورة الأنعام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (1) و قال في سورة الشعراء: (2) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.

للسائل أن يسأل فيقول: قد ذكر في إحدى الآيتين «فسوف» و «بالحق»، و في الآية الأخرى لم يذكر ما كذبوا به و جعل بدل «سوف» السين فهل كان يجوز أحدهما مكان الآخر؟

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى قد و فى المعنى فيها حقه من اللفظ؛ لأنها سابقة للثانية، و إن كانتا مكيتين فأشبعت الألفاظ الأولى مستوفية لمعناها، و في الآية الثانية اعتمد على الاختصار لما سبق في الأولى من البيان و اقتصر على «كذبوا»، و هذا اللفظ إذ أطلق كان لمن كذب بالحق، أ لا ترى إلى قوله عز و جلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (3) و إذا قيد جاز أن يقول: كذب الكذب و كذب الصدق و كذب مسيلمة و كذب النبي صلّى اللّه عليه و سلم، إلا أنه إذا عري من التقييد لم يصح إلا لمن كذب بالحق، فصار قوله تعالى في الشعراء من هذا القبيل بعد البيان الذي سبق في سورة الأنعام، و لما بنيت هذه الثانية على الاختصار و الاكتفاء بالقليل من الكثير جعل فيها بدل «سوف» السين وحدها و هي مؤدية معناها، و من النحويين من ذهب إلى أنها مأخوذة من «سوف» و إن كان ذلك عندنا غير صحيح.

الآية الثانية منها

قوله تعالى:أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ

ص: 77


1- سورة: الأنعام، الآية: 5.
2- الآية: 6.
3- سورة: المرسلات، الآية: 15.

نُمَكِّنْ لَكُمْ (1) و قال في سورة الشعراء (2): أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الألف في الآية الأولى دخلت على «لم»، و في الثانية دخلت على «و لم»؟ فكان بين الألف و «لم» واو عطف و لم يكن في هذه السورة، و ما يفصل بين «أ لم» «و أولم» و هل صلح ما في الشعراء مكان ما في سورة الأنعام أم لا؟

الجواب أن يقال: إن الألف تدخل على واو العطف في الاستخبار و الإنكار و التقريع على تقدير أن تكون الجملة التي فيها معطوفة على كلام قبلها يقتضيها، و ذلك كقولك للقائل يقول: هل رأيت زيدا ثمة أو زيد؟ مما يكون «ثمة» تصوره بصورة من ثبت ذلك عنده أو قاله فاستفهمته، و عطفت على ما توهمت أنه في علمه أو وهمه، و كل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تنكيب على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو، فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ كأن قائلا قال: كذبوا الرسل و غفلوا عن الفكر و التدبر فقال: فعلوا ذلك و لم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة، و كذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ (3) كأنه قال: كذبوا و لم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات، و كذلك قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ (4) لأن ذلك مشاهد و كل ما فيه واو مثل أَ وَ لَمْ يَرَوْا فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال له منبهة لكثرتها، فالتبكيت فيه أعظم فهذا كله في المشاهد و ما في حكمه، و ما ليس فيه واو مثل أَ لَمْ يَرَوْا فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده؛ لأنه من باب ما لا يكثر مثله و ذلك مما يؤدي إلى علمه الاستدلالات كقوله في سورة الأنعام (5): أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً إلى قوله: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ و هذا ما لم يشاهدوه و لكن علموه و كذلك قوله: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (6) هو مما الطريق إلى العلم به الاستدلال لا المشاهدة، فهذا و نحوه مما لم يكثر في معلومهم أشباهه فهم ينبهون عليه

ص: 78


1- سورة: الأنعام، الآية: 6.
2- الآية: 7.
3- سورة: الملك، الآيتان: 18، 19.
4- سورة: النحل، الآية: 48.
5- الآية: 6.
6- سورة: يس، الآية: 31.

ابتداء من غير تقديم تنبيه على شي ء مثله مما قبله. فإن عارض معارض بقوله تعالى:

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ (1) و قال: هذا من القسم الذي يشاهد و حقه أن يكون كقوله: أَ وَ لَمْ كما كان أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ و هما في شي ء واحد فما بالهما اختلفا من حيث وجب أن يتفقا؟ .. و الانفصال أن يقال:

إنا عللنا موضع أَ لَمْ بما يوجب أن يكون هذا الموضع من أماكنها، أ لا ترى أنا قلنا:

هو كل موضع ينبهون عليه ابتداء من غير تنبيه على شي ء مثله مما قبله فعللنا المشاهدات بما يخرج هذا عنها؛ لأن قبل هذه الآية: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ (2) فبنيت هذه الآية على الآية التي أخبر اللّه فيها عن أول أحوال الإنسان، و أنه أخرجهم أطفالا صغارا من بطون أمهاتهم لا يعلمون منافعهم فيقصدوها و لا مضارهم فيجتنبوها، ثم بصرهم حتى عرفوا و نبههم على ما يشاهده كل حي من تصرف الطير في الهواء و عجزه عن مثل ذلك، و كان هذا مقرونا بأولى الأحوال و لم يتقدمه أمثال له يقع التنبيه عليها قبله، فيكون في حكم ما يعطف على ما تقدمه، فإن عارض بقوله عز و جلّ:

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ (3) و قال: إن ذلك مما يعلم و لا يشاهد و حكمه أن يكون ب «أ لم» .. قيل له: التوسعة في الرزق و التقتير فيه لما كانت لهما أمارات ترى و تشاهد من أحوال الغني و الفقير صار أمرهما كالمشاهدات، فكانا مما شوهدت أمثالهما فعطف عليها .. فإن سأل سائل عما جاء بالفاء في قوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ (4) و قال: ما الفرق بين هذا المكان الذي جاءت فيه الفاء و بين الأماكن التي جاءت فيها الواو؟ و هل كان يصح في اختيار الكلام الواو مكان الفاء هاهنا؟.

الجواب أن يقال: الفاء هاهنا أولى لأن قبلها وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ (5) فكأنه قيل فيهم أنهم كذبوا اللّه و رسوله بما أنكروه من البعث فلم يفكروا

ص: 79


1- سورة: النحل، الآية: 79.
2- سورة: النحل، الآيتان: 78، 79.
3- سورة: الروم، الآيتان: 36، 37.
4- سورة: سبأ، الآية: 9.
5- سورة: سبأ، الآيات: 7- 8- 9.

و لم يخشوا عاقبة هذا المقال نقمة تنزل بهم، فقيل: لم يتفكروا و لم يخشوا أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: هم لا ينفكون من أرض تقلهم و سماء تظلهم، و الذي جعلها تحتهم و فوقهم قادر على أن يخسف الأرض بهم أو يسقط السماء عليهم، فهذا موضع الفاء لا موضع غيرها لما بينا و السّلام.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (1) و قال في سورة النمل (2): قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ و قال في سورة العنكبوت (3): قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ و قال في سورة الروم (4): قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: التي في سورة الأنعام جعل ما بين السير و النظر فيها مهلة متراخية عبّر عنها بثم، و سائر الآي جعلت المهلة بينهما أقل فعبر عنها بالفاء فما الذي خصص الأولى بثم و الباقية بالفاء؟.

الجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا يدل على أن السير يؤدي إلى النظر فيقع بوقوعه و ليس كذلك، ثم أ لا ترى أن الفاء وقعت في الجزاء و لم تقع فيه «ثم» فقوله في سورة الأنعام: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا لم يجعل النظر فيه واقعا عقيب السير متعلقا وجوده بوجوده؛ لأنه بعث على سير بعد سير لما تقدم من الآية التي تدل على أنه تعالى حداهم على استقراء البلاد و منازل أهل الفساد و أن يستكثروا من ذلك ليروا أثرا بعد أثرا بعد أثر في ديار قد عم أهلها بدمار لقوله تعالى:

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ (5) ثم قال: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ثم ذكر في قوله: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني: قرونا كثيرة قبلهم أهلكناهم، ثم قال: وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فدعا إلى العلم بذلك بالسير في البلاد و مشاهدة هذه الآثار، و في ذلك ذهاب

ص: 80


1- سورة: الأنعام، الآية: 11.
2- الآية: 69.
3- الآية: 20.
4- الآية: 42.
5- سورة: الأنعام، الآية: 6.

أزمنة كثيرة و مدد طويلة تمنع النظر من ملاصقة السير، كما قال في المواضع الأخر التي دخلتها الفاء لما قصد من معنى التعقيب و اتصال النظر بالسير، إذ ليس في شي ء من الأماكن التي استعملت فيها الفاء ما في هذا المكان من البعث على استقراء الديار و تأمل الآثار، فجعل السير في الأرض في هذا الموضع مأمورا به على حدة و النظر بعده مأمورا به على حدة، و سائر الأماكن التي دخلتها الفاء علق فيها وقوع النظر بوقوع السير، لأنه لم يتقدم الآية ما يحدو على السير الذي حدا عليه فيما قبل هذه الآية، فلذلك خصت بثم التي تفيد تراخي المهلة بين الفعلين و اللّه أعلم.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) و قال في سورة يونس (2): وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب أن يقرن إلى جملتي الشرط و الجزاء في الآية الأولى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ و يجعل جواب الشرط الثاني: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ثم قرن في الآية الثانية إلى جملتي الشرط و الجزاء وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ و جعل جوابه فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ فخالف الأولى.

الجواب أن يقال: إن السورتين اللتين وقعت فيهما الآيتان مكيتان و الأولى منهما قبل الثانية، فأما التي في سورة الأنعام و هي: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فمعناها: إن يمسك اللّه ضرا و هو سوء الحال فلا مزيل له غير اللّه، و لا يملك ما يعبد من دونه كشفه و معنى يمسسك: ينيلك؛ لأن المماسة في الأعراض مجاز و توسع في اللغة، فمعنى مسه اللّه بضرّ: أناله ضرا و أوصله إليه .. و قوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أي: ينلك خيرا يرج لأكثر منه، فإنه قادر عليه و على أمثاله، و الدليل على أن المعنى هذا أن الجزاء إذا كان جملة ابتداء و خبر فإن معنى الخبر يكون جزاؤه مقدرا في مكان الفاء كقولك: إن زرتني فأنا مكرم لك، و إن أحسنت إليّ فأنا قادر على مقابلتك، التقدير: إن زرتني أكرمك و إن أحسنت إليّ قدرت على مقابلتك، و في قولك: قدرت على

ص: 81


1- سورة: الأنعام، الآية: 17.
2- الآية: 107.

مقابلتك ضمان المقابلة، و أنت إذا قدرت قوله تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أن ينلك خيرا يقدر عليه لم يستقم الكلام؛ لأن الجزاء حقه أن يكون بعد الشرط، و القدرة على الفعل لا تكون بعده، و المعنى: أن ينلك خيرا يرج لأمثاله؛ لأنه قادر عليه و عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ و كونه تعالى قادرا من صفات النفس و إنالة الخير فعل من أفعاله، فلا يصح أن يكون كونه قادرا متأخرا عنها فالمعنى: أن نقلك إلى سوء حال لم يملك كشفه عنك غيره، و ذلك كشدائد الدنيا من الأمراض و الآلام و النقصان في الأموال، و إن نقلك إلى حسن حال كان بعده قادرا على أمثاله و مالكا لأضعافه؛ لأنه قادر على كل ما يصح أن يكون مقدورا عليه له، فلهذا وصفه بالقدرة على النفع و الضر. و أما الآية الثانية ففيها نفي أن يغالبه مغالب، و يمنعه عما يريد فعله مانع؛ لأن معناها: إذا أنزل بك مكروها لم يقدر أحد على دفع ما يريد إيقاعه بك، و إن أراد إحلال خير بك لم يرده أحد عنك، و هو معنى:

«لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت» و رتبة هذا الوصف بعد رتبة الوصف الأول؛ لأنه يوصف الفاعل أولا بقدرته على الضدين، و ليس كل من كان كذلك كان ممتنعا عن أن يقهره قاهر فيحول بينه و بين ما يريد فعله، فإذا وصفه بأنه قادر كان وصفه بأنه قادر غالب للقادرين لا يدفعه عن مراده دافع وصفا ثانيا، فلاق بكل موضع ما ورد فيه و نطق القرآن به، فالذي اقتضى هذا الوصف في الآيتين قوله قبل الأولى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) أي: إني لا أعبد إلها معه فأشرك به و قوله قبل الآية الثانية: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (2) و مثلهما قوله: قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ (3).

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (4) و قال تعالى في سورة يونس (5): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.

ص: 82


1- سورة: الأنعام، الآية: 14.
2- سورة: يونس، الآية: 106.
3- سورة: الزمر، الآية: 38.
4- سورة: الأنعام، الآية: 21.
5- الآية: 17.

للسائل أن يسأل عن موضعين في الآيتين: أحدهما عن الواو في أول الآية الأولى، و الفاء في أول الآية الثانية. و الثاني عن اختصاص آخر الآية الأولى بقوله: الظَّالِمُونَ و اختصاص آخر الآية الأخرى بقوله: الْمُجْرِمُونَ.

الجواب عن الأول و عطفه بالواو، فإن ما تقدم من قوله: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً إلى قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ (1) جمل عطف صدور بعضها على بعض بالواو، و لم تعلق الثانية بالأولى تعليق ما هو من سببها، فأجرى قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مجراها و عطف بالواو عليها، أ لا ترى قوله: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2) و بعده:

وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (2) الآية، و أما الثانية فإن ما قبلها عطف بعضها على بعض بالفاء، كقوله: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (3) فتعلق كل ما بعد الفاء بما قبله تعلق المسبب بسببه؛ لأن المعنى: لو أراد اللّه أن لا يوحي إلي هذا القرآن لما تلوته عليكم و لا عرفتكم إياه في هذا الوقت الذي أخبرتكم أن اللّه بعثني به إليكم، و هذا يؤديكم إلى أن تعلموا أني ثويت فيكم قبل هذا كثيرا من أيام عمري، و لم يتهيأ لي ذلك و لا تلوت عليكم شيئا مما تلوته الآن، فيؤديكم هذا إلى أن تعرفوا صحة ما أقول أنه من عند اللّه لا من فعلي و قولي، فعطف بعض هذا الكلام على بعض بالفاء ... و قوله بعده فَمَنْ أَظْلَمُ أي: إذا عرفتم أنه ليس من قولي لظهوره مني بعد ما لم يكن فيما مضى من عمري، فليس أحد أشد إضرارا بنفسه منكم في قولكم على اللّه ما لم يقله. فهذا موضع الفاء و كل موضع في القرآن يكون بعد هاتين الآيتين بالواو و بالفاء، فاعتبره بما بينته لك، و في الأعراف (4) أيضا فَمَنْ أَظْلَمُ بالفاء فالجواب عنه مثل ما مضى .. و الجواب عن السؤال الثاني أنه لما قال في الآية الأولى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً و كان المعنى أنه لا أحد أظلم لنفسه ممن وصف اللّه تعالى بخلاف وصفه فأوردها العذاب الدائم كان قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ عائدا إلى من فعل هذا الفعل أي: لا يظفر برحمة اللّه، و لا يفوز بنجاة نفسه من كان ما ذكر من فعله، فبناء الآخر على الأول اقتضى أن يكون إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و أما الآية الثانية في سورة يونس و تعقيبها بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ دون قوله: لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و إن كان الوصفان لفريق واحد فلأنه تقدمتها

ص: 83


1- سورة: الأنعام، الآيات: 19- 21.
2- سورة: الأنعام، الآية: 19.
3- سورة: يونس، الآية: 16.
4- الآية: 37.

الآية التي تضمنت وصف هؤلاء القوم بما عاقبهم به فقال: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (1) فوصفهم بأنهم مجرمون عند تعليق الجزاء بهم، و قال بعده: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ (2) إلى الموضع الذي أبطل فيه حجتهم، و دفع سؤالهم و هو: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ (3) فقال تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (4) ليعلم أن هؤلاء سبيلهم في الضلال سبيل القوم الذين أخبر عن إهلاكهم، و قال: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (5) ليوقع التسوية بينهم في الوصف كما أوقع التسوية بينهم في الوعيد.

الآية السادسة منها

قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ (6) و قال في سورة يونس (7): وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ.

للسائل أن يسأل عن قوله: مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ في الآية الأولى و توحيد الضمير العائد إلى «من» حملا على لفظها و عن قوله: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ في الآية الثانية و جمع الضمير العائد إلى «من» حملا على معناها. و لما ذا خص الأول بالتوحيد، و الثاني بالجمع؟

و هل كان يجوز في الاختيار عكس ذلك في المكانين؟

الجواب أن يقال: لكل من الموضعين ما يوجب اختصاصه باللفظ الذي جاء فيه ..

فأما قوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً فقد قيل فيه أنه في قوم من الكفار كانوا يستمعون إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و إلى قرآنه بالليل فإذا عرفوا بها مكانه رجموه و آذوه و منعوه من الصلاة خوفا من أن يسمعه منهم من تدعوه دواعي الحق فيسلم، و هذا في قوم قليلي العدد يرصدونه عليه السّلام بالليل، و كان اللّه يمنعهم عنه بنوم يلقيه عليهم و حجاب يحجبه به عنهم لقوله تعالى:وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ

ص: 84


1- سورة: يونس، الآية: 13.
2- سورة: يونس، الآيتان: 14، 15.
3- سورة: يونس، الآية: 15.
4- سورة: يونس، الآية: 17.
5- سورة: الأعراف، الآية: 40.
6- سورة: الأنعام، الآية: 25.
7- الآيتان: 42، 43.

وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (1) فصار ذلك كالكتاب على قلوبهم و كالصمم في آذانهم .. و أما قوله في الآية التي في سورة يونس و هي: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فهو في كل الكفار الذين يسمعون مسموعا هو حجة عليهم و هو القرآن و لا ينتفعون بسماعه، فكأنهم صم عنه، فلما كانت «من» تصلح للواحد فما فوقه و يجوز أن يعود الضمير إلى لفظه، و هو لفظ الواحد و إلى معناه و هو ما يراد به من واحد أو اثنين أو ثلاثة، و اختلف هذان المكانان في القلة و الكثرة حملت في موضع القلة على حكم اللفظ، و عاد الضمير إليها بلفظ الواحد فقال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ و في موضع الكثرة على حكم المعنى و عاد الضمير إليها بلفظ الجمع، فقال:

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ليفاد بالاختلاف هذا المعنى فلم يصح في كل مكان إلا اللفظ الذي خصه مع القصد الذي ذكرت .. فإن قال قائل: فعلى هذا وجب في الاختيار:

و منهم من ينظرون إليك لأنهم هم الأكثرون كالمستمعين .. قلت: إن المستمعين لما كانوا محجوجين بما يستمعونه من القرآن كانوا الأكثرين في الحجاج، و ليس كذلك المنظور إليه لأن الآيات التي رئيت بالعين لم تكثر كثرة آيات القرآن التي سمعت بالآذان، فباين السامعون الناظرين في الكثرة عند الحجاج، فلذلك عاد الضمير إليهم بلفظ الواحد.

الآية السابعة منها

قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2) و قال بعدها: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (3) فقال في هذين الموضعين أَ رَأَيْتَكُمْ و قال في هذه السورة: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ (4) و قال في سورة يونس (5): قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى قال في الموضعين اللذين قدمنا ذكرهما

ص: 85


1- سورة: الإسراء، الآية: 45.
2- سورة: الأنعام، الآية: 40.
3- سورة: الأنعام، الآية: 47.
4- سورة: الأنعام، الآية: 46.
5- الآية: 50.

أَ رَأَيْتَكُمْ و في الموضعين الآخرين أَ رَأَيْتُمْ و هل كان في الاختيار أن يكون أحدهما مكان الآخر أم لا؟.

الجواب أن يقال: إن النحويين في قوله: أَ رَأَيْتَكُمْ على مذهبين، أحدهما:

مذهب أهل البصرة، و هو أن الكاف في: أرأيتك زيدا عاقلا للخطاب كالكاف في ذلك، و ليست باسم، و يقولون للاثنين: أرأيتكما زيدا عاقلا. و للجماعة: أرأيتكم زيدا عاقلا، بمعنى: أعلمته عاقلا، و التاء لا تتغير عن الفتح و هو علامة الضمير دون الكاف، و اكتفى بتثنية الكاف و جمعها عن تثنية التاء. و من مذهب أهل الكوفة في الاثنين أن التاء اسم، و الكاف اسم مضمر و التقدير: أ رأيتم أنفسكم إن أتاكم عذاب الله فالتاء موحدة اللفظ مع الكاف التي تختلف باختلاف المخاطبين اكتفاء باختلافها عن اختلاف التاء، و لا اختلاف في ترادف الخطابين التاء و الكاف على المذهبين، و لا يترادفان إلا عند المبالغة في التنبيه، و المبالغة فيه هو أن يعلم المخاطب أن لا تنبيه بعده و ما يتصل بقوله: أَ رَأَيْتَكُمْ في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع لم ينفع عنده الزجر و التنبيه أ لا تراه يقول: أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ و عند إتيان العذاب و قيام الساعة لا ينفع الانتباه، و لا ينفع التنبيه، و «أرأيتكم» فعل متعد إلى مفعولين و الجملة التي هي إن أتاكم عذاب اللّه مضمنة مفعولية، و كذلك قوله: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ معناه: أعلمتم إن أتاكم العذاب مفاجأة من حيث لا يعلم أو عيانا من حيث يشاهد هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ و هم المخاطبون أي هَلْ يُهْلَكُ غيركم فإذا علق ب أَ رَأَيْتَكُمْ جملة تتضمن مفعوليها و معنى الجملة تناهى الأمر في تخويفهم بالخشونة إلى حيث ينقطع التنبيه عندها كان هذا الموضع أحق المواضع بالمبالغة فيه بمرادفة التنبيه، فلذلك أتى بالتاء و الكاف اللتين لا تخلوان من الخطاب على المذهبين، على أن مذهب الكوفيين في الآيتين صحيح محتمل، فالآية الأولى تقديرها أ رأيتم أنفسكم داعية غير اللّه إِنْ أَتاكُمْ عذاب اللّه، و الآية الثانية تقديرها أ رأيتم أنفسكم غير هالكة إن أتاكم عذاب اللّه بغتة أو جهرة، و أ رأيتم أنفسكم هَلْ يُهْلَكُ غيرها لأنهم هم الظالمون .. فأما الآيتان الأخريان اللتان اقتصر فيهما على أَ رَأَيْتُمْ و لم يترادف في كل واحد منهما الخطابان الدالان على أن التناهي في التنبيه إلى حيث لا تنبيه بعده بذكر غاية ما يفزعون به و ينذرون قرب حلوله، فلأن الجملتين بعدهما لم يتضمنا من المبالغة فيما يحذرون ما ينقطع التنبيه عنده، أما الأولى فقوله: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي: أعلمتم-

ص: 86

إن سلبكم اللّه صحة ما تحسون به المشاهدات و تعلمون به المغيبات- إلها غير اللّه يردها عليكم، و ليس هذا استئصالا كما في الآيتين المتقدمتين ... فأما قوله: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فلأن قبله وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1) مخبرا أنهم استعجلوا العذاب و قيام الساعة، فنزلوا منزلة من لا يخافون ما أوعدوا به، و كذلك قال: ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فلم يكن فيه صريح الاستئصال و الإفصاح بالهلاك، فكان كأن لم يبلغ حدا لا مزيد للتنبيه فيه، بل هم في ذلك الحال أحوج ما كانوا إلى الزجر إذ لم يبلغ منتهاه كما بلغ في الآيتين الأخريين، و صار التقدير: أعلمتم أي شي ء يستعجل المجرمون من عذاب اللّه أي: هم يستعجلون هلاكهم و لا يعلمون، و معناه: أعلموهم طالبين هلاك أنفسهم بما يستعجلونه من نزول عذاب اللّه بهم، فقد بان لك الفرق بين الآيات و ما ترادفت فيه علامتا الخطاب دون غيره مما جرى على أصل الكلام و العلم عند اللّه.

الآية الثامنة منها

قوله تعالى: وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ (2) و قال في سورة الأعراف (3): قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و قال في سورة العنكبوت (4): وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ فقدم اللهو على اللعب في هاتين الآيتين، و جاء في سورة الحديد (5): اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ فقدم اللعب على اللهو كما قدمه في سورة الأنعام.

للسائل: أن يسأل فيقول: إذا كانت الواو للجمع بين الشيئين و الأشياء بلا ترتيب فهل لتقديم أحد الاسمين على الآخر في موضع دون موضع، و تقديم الآخر عليه في غير ذلك الموضع فائدة تختصه، أم كان جائز في كل مكان تقديم أيهما شاء المتكلم لا لغرض يختصه؟

الجواب: أن يقال: أما الآية الأولى التي في هذه السورة فإنها في قوم من الكفار

ص: 87


1- سورة: يونس، الآية: 48.
2- سورة: الأنعام، الآية: 70.
3- الآيتان: 50، 51.
4- الآية: 64.
5- الآية: 20.

كانوا إذا سمعوا آيات اللّه هزلوا عندها، و استهزءوا بها، فهذا اتخاذهم دين اللّه لَعِباً وَ لَهْواً و هو كما قال في آية أخرى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (1) فقوله عز و جلّ: وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً كقوله: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ فهؤلاء قوم حضروا النبي صلّى اللّه عليه و سلم و سمعوا القرآن و عبثوا عند سماعه و تلاعبوا بآياته، و أجروها مجرى أفعال يستروح إليها و لا نفع في عقباها، ثم شغلوا بدنياهم عن تدبرها و ألهتهم بحلاوتها عن الفكر في صحتها، فأول أفعالهم لعب و ثانيها لهو، و اللعب فعل في طاعة الجهل تتعجل منه مسرة، و اللهو قال فيه صاحب العين: ما شغل الإنسان من هوى و طرب، فهؤلاء لما فعلوا عند سماع القرآن من الاستهزاء و العبث أطلق على فعلهم اسم اللعب، ثم لما شغلوا عنه باستحلاء الدنيا كان هذا لهوا منهم بعد اللعب، و كان أول دينهم لعبا و ما بعده لهوا، فلذلك قدم «لعب» على «لهو» في هذه الآية ... و أما قوله تعالى في سورة الأعراف (2): وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و تقديم اللهو على اللعب في هذه الآية فلأن الكافرين هنا لعامة الكفار غير مختص بمن سمع الآيات، فقدم فعل أكثرهم على فعل أقلهم، و هم الذين شغلتهم الدنيا و حلاوتها و الولادة و عادتها و استحلاء ما مرت عليه طباعها، و هذا هو اللهو، ثم كانت أفعالهم التي اقتدوا فيها بآبائهم لما طابت لهم و لم يجدوا في العاقبة نفعا عليهم كاللعب الذي ينطوي على أفعال تبطل في الآجل و إن سرت في العاجل، و هذا بعد الأول، و أكثر الكفار داؤهم اللهو و إن شغلهم الحال التي استصحبوها عن الكفر فيما يطرأ عليها. فوجب هنا تقديم ذكر اللهو لوجهين: لتقدمه على ما هو كاللعب، و لأنه فعل أكثرهم. و اللعب الذي أريد في الآية الأولى فعل أقلهم و هو هناك أول و هو ما ردّ به ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلم .. و أما قوله تعالى في سورة الحديد:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ و تقديم اللعب فيه على اللهو، فلأن معناه: الحياة الدنيا لمن اشتغل بها و لم يتعب لغيرها من أعمال الآخرة مقسومة من الصبا، و هو وقت اللعب و بعده لهو و هو الترويح عن النفس بملاعبة النساء، و يتبع ذلك أخذ الزينة لهن و تبرجهن و من أجل الزينة نشأت مباهاة الأكفاء

ص: 88


1- سورة: النساء، الآية: 140.
2- الآيتان: 50، 51.

و مفاخرة الأشكال و النظر، ثم بعده المكاثرة بالأموال و الأولاد، فترتبت الحياة على هذه الأحوال فوجب تقديم حال اللعب على حال اللهو، و اللهو إذا أطلق في كلامهم: هو اجتلاب المسرة بمخالطة النساء و لذلك قال امرؤ القيس:

أ لا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت و أن لا يحسن اللهو أمثالي

و قال آخر:

لهونا بمنجول البراقع حقبة فما بال دهر لزّنا بالوصاوص

و قيل في قوله تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (1) قيل في تفسير اللهو: المرأة، و قال قتادة: اللهو بلغة اليمن المرأة، أي: لفعلناه من حيث يختص بعلمنا فلا يطلع غيرنا عليه، تعالى اللّه عن الصاحبة و الولد، فعلى هذا سميت المرأة لهوا باسم الفعل لكثرة ما يقع ذلك بها. أما قوله تعالى في سورة العنكبوت: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فليس المراد به أن الحياة الدنيا كلها لهو و لعب، و ليست شيئا غيرهما كقوله: ما هي إلا همّا لأنه لو كان المراد هذا لكان للقائل أن يقول: ما هذه الحياة الدنيا إلا خوف و حزن فالخوف: ألم القلب لتوقع مكروه، و الحزن: ألمه لفقد محبوب، ثم إن هذه الحياة الدنيا تنطوي على أنواع عبادة اللّه و على تلاوة كتابه و على ما يكسب رضى اللّه عز و جلّ و يوجب ثوابه الدائم، فكيف يقال فيما يتضمن كل هذه الخيرات: ليس هو إلا لهوا و لعبا؟ بل المراد المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى، فكأنه قال: ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو و اللعب، و هي أزمنة تستقصر لشغل النفس بحلاوة ما يستعجل كما قال القائل:

شهور ينقضين و ما شعرنا بإنصاف لهنّ و لا سرار

و قال المتأخر:

و ليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق و فجر

و الدليل على أن المراد هذا ما ذكرت قبل ما ذكره اللّه بعد من قوله عز و جلّ: وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي: إن حياتها تبقى أبدا و لا تعرف أمدا ... و إنما قدم

ص: 89


1- سورة: الأنبياء، الآيتان: 16، 17.

اللهو هنا على اللعب؛ لأن الأزمنة التي يقصرها اللعب؛ لأن التشاغل به أكثر، فلما كانت معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة؛ لأن ذلك آخذ بالشبه و أبلغ في وصف المشبه، و لا خلاف أن الناس أزمنتهم المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب، و أن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم، و يتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها، فمعظم ما ترى الزمان الطويل قصير زمان اللهو بالنساء، و هو الذي نشأت منه فتنة الرجال و هلاك أهل الحب فهذا الكلام في هذه الآي و السلام.

الآية التاسعة منها

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ (1) و قال في سورة أخرى قبلها و بعدها: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (2).

للسائل أن يسأل فيقول: لم عطف الاسم على لفظ الفعل و لم يعطف عليه لفظ الفعل كما في السور الأخر، و إذا عطف عليه بلفظ الاسم و هو «مخرج الميت» هلا ذكر اللفظ الأول بالاسم فيقول: «مخرج الحي من الميت» فما الفائدة في ذلك و ما الفرق بينها و بين الآخر؟

الجواب: أن يقال: إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم، و هو فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى فكان اللائق به أن يقال: و مخرج الحي من الميت، و لكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف الصلة دفعة واحدة و هي: الواو من «و النوى»، و الياء من «النوى، و الواو من «و مخرج» واو العطف، نقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج و مخرج بمعنى واحد فقيل يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فجعل الجملة و هي: مخرج الحي من الميت خبر الابتداء كما يقول: إن زيدا ضارب عمرو و مكرم بكرا و مكرم جعفرا، فهذا أفصح من أن يقول: أن زيدا ضارب عمرو مكرم بكرا و مكرم جعفرا هذا أفصح من أن تقول: أن زيدا ضارب عمرو و مكرم بكر و مكرم جعفرا، فلهذا المعنى قال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فلما انتهى إلى العاطف من قرينته، و لم يكن فيه تلك

ص: 90


1- سورة: الأنعام، الآية: 95.
2- سورة: يونس، الآية: 31.

العلة التي كان في المعطوف عليه، فأجرى على ما أجرى عليه أول الآية: و هو فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و ما بعده فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً (1) و عاد إلى لفظ الاسم و هو وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ و عطفه على فالِقُ الْحَبِّ و ليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها و بعدها من الاسمية فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها و معطوفها، فبان الفرق بينهما على ما بينت و السلام.

الآية العاشرة منها

قوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (2) و الآية الثانية بعدها: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (3) و الآية الثالثة: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (4).

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في اختيار الكلام أن يقال في الآية الأولى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و في الثانية: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و في الثالثة:

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و هل صلح بعض ذلك مكان بعض أم في كل موضع معنى يخص اللفظ الذي جاء عليه؟

الجواب أن يقال: إن قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جاء بعد آيات نبهت على معرفة اللّه تعالى و هي من قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى (5) إلى قوله:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ (6) فكان جميع ذلك دالا على العلم باللّه و بوحدانيته، و هو أشرف معلوم، و لا لفظ من ألفاظ «يعقلون» و «يفقهون» و «يشعرون، إلا و لفظة «يعلمون» أعلى منه و لذلك صحت في الخبر عن اللّه تعالى و لم يصح فيه غيرها من الألفاظ التي ذكرت، فلما كان المعلوم أشرف المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف. و أما ما استعمل فيه «يفقهون» فهو بعد قوله: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ (7) فأخبر عن ابتدائه الإنسان و إنشائه إياه نبه بما أراه من تنقله من حال إلى حال: من عدم إلى وجود، و من مكان إلى مكان: من صلب إلى رحم، و من بطن أم إلى وجه الأرض، و من وجه

ص: 91


1- سورة: الأنعام، الآية: 96.
2- سورة: الأنعام، الآية: 97.
3- سورة: الأنعام، الآية: 98.
4- سورة: الأنعام، الآية: 99.
5- سورة: الأنعام، الآية: 95.
6- سورة: الأنعام، الآية: 97.
7- سورة: الأنعام، الآية: 98.

الأرض إلى بطنها على أنه كما نقل من موت إلى حياة، و من حياة إلى موت كذلك ينقل من الموت إلى الحياة، و من القبر إلى المحشر و منه إلى إحدى الدارين؛ لأن الاستيداع في الدنيا و المستقر في العقبى كما نقل في التفاسير، فنطقت تلك الأحوال الحادثة لمن يفهمها و يفطن لها و يستدل بشاهدها على مغيبها أن بعد الموت بعثا و حشرا و ثوابا و عقابا، و هذا مما يفطن له ف «يفقهون» أولى به. و أما قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بعد ما عدد نعمه على خلقه و ما وسعه من رزقه من الحب المعد للأقوات و من ضروب الأشجار و صنوف الثمار، و كان هذا مستدعيا للإيمان به المشتمل على شكر نعمته و القيام بما فرض من طاعته و أوجب من عبادته كانت الآيات في ذلك معرضة لمن آمن باللّه، فلذلك قال في الأخير: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

الآية الحادية عشرة منها

قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (1) و قال في سورة غافر (2): ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: لما ذا قدم في سورة الأنعام: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ و قدم في سورة غافر: خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ على قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ؟.

الجواب: أن يقال: لأن ما في هذه السورة جاء بعد قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ (3) فلما قال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع قول من جعل له شريكا فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال:

خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ و في سورة المؤمن جاء هذا بعد قوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4) فكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان لا على نفي الشريك عنه كما كان في الآية الأولى، فكان تقديم خالق كل شي ء هاهنا أولى و اللّه أعلم.

ص: 92


1- سورة: الأنعام، الآية: 102.
2- الآية: 62.
3- سورة: الأنعام، الآية: 100.
4- سورة: غافر، الآية: 57.

الآية الثانية عشرة منها

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (1) و قال بعده:

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (2).

للسائل أن يسأل فيقول: كيف قال: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ في الآية الأولى و في الثانية: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ و هل في المكانين ما يوجب اختلاف الاسمين؟

الجواب: أن يقال: إن الأولى قبلها وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً (3) أي: كان للأنبياء قبلك أذى من قبل العدو من الإنس و الجن، و لو شاء من ربّاك و قام بمصالحك لألجأهم إلى موافقتك و ترك مخالفتك- و إن كان من يقوم بربابتك يحجزهم عن مضرتك- و أن يظفروا بمرادهم من عداوتك، فقد تضمن قوله «ربك» هذا المعنى .. و قوله في الآية الأخرى:

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ جاء بعد قوله: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً (4) فأخبر أنهم أقاموا للّه الذي يحق إفراده بالعبادة شريكا، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أي: و لو شاء من نعمته عليهم نعمة توجب التأله له أن لا يعبدوا سواه ما تمكنوا من فعله، فهذا موضع لم يلق به إلا الاسم الذي يفيد معنى فيه حجة عليهم دون غيره من الأسماء، فأفاد كل اسم من الاسمين في مكانه ما لم يكن ليستفاد بغيره، و اللّه أعلم.

الآية الثالثة عشرة منها

قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (5) و في سورة ن القلم (6): إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.

للسائل أن يسأل عن الفرق بين اللفظين و حذف الباء و إثباتها، و هل كان يصح اللفظ الذي هاهنا هناك و الذي هناك هنا؟.

الجواب: أن يقال: إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، و بين اللفظين فرق في

ص: 93


1- سورة: الأنعام، الآية: 112.
2- سورة: الأنعام، الآية: 137.
3- سورة: الأنعام، الآية: 112.
4- سورة: الأنعام، الآية: 136.
5- سورة: الأنعام، الآية: 117.
6- الآية: 7.

المعنى يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له فقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ معناه: اللّه يعلم أي المأمورين يضل عن سبيله: أزيد أم عمرو، و هذا المعنى يقتضيه ما تقدم هذه الآية، و ما جاء بعدها مما تعلق بها فالذي قبلها وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (1) أي: إن تطع الكفار يضلوك عن طاعة اللّه و عبادته.

ثم إنه أخبر أنه يعلم من الذين يغوونه و يضلونه و من الذين لا يتمكنون من إضلاله، و بعد هذه الآية: وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (2).

و أما قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ فمعناه عنى معنى ما في الآية الأولى. أي: اللّه أعلم بأحوال من ضل كيف كان ابتداء ضلاله، و ما يكون من مآله أ يصرّ على باطله أم يرجع عنه إلى حقه؟ و قبلها فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (3) من جعل المفتون بمعنى: الفتون كالمفعول بمعنى الفعل، كان معناه: ستعلم و يعلمون بك أو بهم المفتون و خبال الرأي و فساد العقل، و من جعل المفتون للمبتلى بفساد التمييز و هو حكاية معنى قولهم: أنه صلّى اللّه عليه و سلم مجنون كان كما يقال: في أي الفرقتين المجنون، أي: في فرقة الإسلام، أو في فرقة الكفر، و الباء تقارب معنى «في» كما قال: فيه عيب و به عيب، فينوب كل واحد من الحرفين مناب الآخر في أداء المعنى .. و يجوز أن تكون الباء معناها على ما يقال: فلان باللّه و بك، أي: ثباته به و بك، معناه أي: سيعلم بأي الطائفتين ثبات الجنون و دوام الفتون .. و إذا كان مدار الكلام على أنه سيبصر بأيكم الخبال و الجنون كان قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي: اللّه أعلم بي و بكم المخبل المجنون مني أو منكم و إذا قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي: هو أعلم بابتداء ضلاله و انتهاء أمره و هل يقيم على كفره أم يقلع عن غيه لرشده، فقد بان لك أن كل موضع أتى فيه بما اقتضاه المعنى من اللفظ.

الآية الرابعة عشرة منها

قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (4) و قال في سورة يونس (5): كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما فائدة اختصاص المكان الأول بالكافرين، و الثاني بالمسرفين؟

ص: 94


1- سورة: الأنعام، الآية: 116.
2- سورة: الأنعام، الآية: 119.
3- سورة: القلم، الآيتان: 5، 6.
4- سورة: الأنعام، الآية: 122.
5- الآية: 12.

الجواب: أن يقال إن الأول قبله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و المراد بالميت هاهنا: الكافر، و النور: الإيمان، و حياته به، و من في الظلمات: من استمر به الكفر و لم ينتقل عنه، فكان ذكر الكافرين بعده أولى. و أما المكان الثاني فإن قبله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها (1) و هذا صفة الكفار نعموا أبدانهم و نسوا أديانهم، و اقتصروا على عمارة الحياة الدنيا و لم يتعبوا بطلب الأخرى و هم المسرفون الذين قال اللّه تعالى فيهم: وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (2) لأنهم غلوا في إيثار الدنيا و تعجل نعيمها و تجاوزوا الحد في عمارتها و الإعراض عما هو أهم منها .. و يجوز أن يكون الكفار سموا المسرفين لمجاوزتهم الحد في العصيان إذ يقال لمن أفرط في ظلم: أسرف، فالذين رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و غفلوا عن تدبر آيات اللّه يقال لهم مسرفون على وجهين، أحدهما:

المبالغة في تنعيم النفوس و جعلهم الدنيا حظهم بما عرضوا له من النعم .. و الثاني:

مجاوزتهم الحد في معصية اللّه. فلما قال: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (3) و أشار إلى من تقدم ذكرهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها ثم وصف حال الإنسان في الشدة و الرخاء، و انقطاعه في الشدة إلى الدعاء و نسيانه له في الرخاء فسمى الذين هذه صفتهم مسرفين على أحد الوجهين اللذين ذكرنا لإسرافهم في الحالين.

الآية الخامسة عشرة منها

قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (4) و قال في سورة هود (5): وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى غافِلُونَ و في الآخرة مُصْلِحُونَ؟

الجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من العقاب في قوله: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها (6) و بعده:يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ

ص: 95


1- سورة: يونس، الآية: 7.
2- سورة: غافر، الآية: 43.
3- سورة: يونس، الآية: 11.
4- سورة: الأنعام، الآية: 131.
5- الآية: 117.
6- سورة: الأنعام، الآية: 128.

عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا (1) يعني: العقاب في يوم القيامة؛ لأنه لم يكن ربك ليفعله من قبل أن يحتج عليهم برسل يهدونهم و ينذرونهم ما وراءهم من محذورهم و لا يتركونهم في غفلة من أمورهم، فاقتضى هذا المكان أن يقال: لم يؤخذوا و هم غافلون بل كانوا منبهين بالأعذار و الإنذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة و السلام ..

و أما الموضع الثاني الذي ذكر فيه: وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ فللبناء على ما تقدم و هو قوله تعالى: فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (2) فدل على أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ و كان نقيض الفساد في الأرض الصلاح فقال: لَمْ يَكُنْ اللّه ليهلكهم و هم مُصْلِحُونَ فاقتضى ما تقدم في كل آية ما أتبعت من الغافلين و المصلحين.

الآية السادسة عشرة منها

قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) و قال في سورة هود (4) في قصة شعيب: وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ و قال في سورة الزمر (5): قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

للسائل أن يسأل عن الآية التي في سورة هود لم جاءت بحذف الفاء من «سوف» و جاءت الآيتان الآخرتان بإثباتها فقال: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و هل يصلح ما فيه الفاء مكان ما لا فاء فيه؟

الجواب أن يقال: أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و سلم في سورة الأنعام بأن يخاطب الكفار على سبيل الوعيد: اعْمَلُوا عَلى طريقتكم و جهتكم أو على تمكنكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أنكم أسأتم إلى أنفسكم. و العمل سبب للجزاء الذي عبر عنه بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فالفاء متعلقة بقوله: اعْمَلُوا أو التقدير: اعملوا، فسوف تعلمون إِنِّي

ص: 96


1- سورة: الأنعام، الآية: 130.
2- سورة: هود، الآية: 116.
3- سورة: الأنعام، الآية: 135.
4- الآية: 93.
5- الآية: 39.

عامِلٌ فسوف أعلم، فحذف للعلم به، و كذلك ما في سورة الزمر من خطاب من اللّه تعالى للنبي صلّى اللّه عليه و سلم على هذا الوجه، و أما في سورة هود فإنه حكاية عن شعيب عليه السّلام لما تجاهل قومه عليه فقالوا له: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (1) فقال لهم: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ و تعرفون عملي و إن قلتم إنا لا نفقه أكثر ما تقوله، فجعل سَوْفَ تَعْلَمُونَ مكان الوصف لقوله: عامل، فلم يصح على هذا المعنى دخول الفاء، و قصد هذا المعنى لما أظهروا من جهلهم به و أنهم لا يعرفون ما يقوله لهم فقال لهم: إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عملي و تعرفونه بعد ما أنكرتموه.

الآية السابعة عشرة منها

قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (2) و قال في سورة النحل (3):

وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

للسائل أن يسأل هنا عن مسألتين:

إحداهما: أنه ذكر في الثانية مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ و لم يذكر في الأولى، و هل كان يجوز لو وصلت إحداهما بما وصلت به الأخرى؟

و الثانية: توكيد الضمير في سورة النحل، ثم العطف عليه، و في سورة الأنعام لم يؤكد و عطف عليه وَ لا آباؤُنا و الفصل الذي يقوم مقام التوكيد في المكانين حاصل.

الجواب أن يقال: قوله: ما أَشْرَكْنا مستغن عن ذكر المفعول به و إن كان في الأصل متعديا إليه لقوله: أن تشركوا به شيئا، و إنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه عَبَدْنا لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته و العبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته؛ لأنها تدل على معبود هو مثبت لا يصح نفيه فقوله: ما عَبَدْنا غير مستنكر أن يبدو، و إنما المستنكر أن يعبدوا غير اللّه شيئا، فكان تمام المعنى بذكر قوله: مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ و كذلك: وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ لا بدّ

ص: 97


1- سورة: هود، الآية: 92.
2- سورة: الأنعام، الآية: 148.
3- الآية: 35.

مع حَرَّمْنا من قوله: مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ لم يحتج إليه بعد قوله: ما أَشْرَكْنا لأن الإشراك دال على أن صاحبه يحرم شيئا من دون اللّه و لا يدل عَبَدْنا على ذلك فوفّى اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام.

الجواب عن السؤال الثاني: و هو: توكيد علامة الضمير في سورة النحل بنحن، و ترك ذلك في سورة الأنعام مع أن بعد واو العطف «لا» في الموضعين: هو أن كل ما أكد معنى الفعل- الذي ضمير الفاعل كالجزء منه إذا وليه، و لم تكثر الحواجز بينهما- قام مقام التوكيد بعلامة الإضمار مثل أنا و نحن، فقوله: ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا أشركنا منه منفي بما و «لا» بعد الواو مؤكد معنى «ما» الداخلة على الفعل، فكأنها مؤكدة للفعل، و إذا أكدت الفعل و علامة الإضمار جزء منه فكأنها أكدتها و مثله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ (1) وَ مَنْ تابَ عطف على المضمر لقوله: فَاسْتَقِمْ و صح لأن قوله: كَما أُمِرْتَ بمعنى استقامة مثل ما أمرت به، ف كَما أُمِرْتَ في موضع المصدر، و المصدر توكيد للفعل نفسه، فصار مثل توكيد ما هو كجزء منه فكان هذا المؤكد للفعل يليه في هذا المكان و في قوله: ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا فأما قوله:

ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ لم يكن الفعل مؤكدا لنفس الفعل كما كان المصدر في قوله: فَاسْتَقِمْ و كما كانت «لا» بعد واو العطف في قوله: وَ لا آباؤُنا مؤكدة معنى «ما» التي تنفي الفعل فتصير كأنها مؤكدة ما هو كبعض الفعل؛ لأن الفصل هاهنا بالمفعول به و هو مِنْ شَيْ ءٍ و بقوله: مِنْ دُونِهِ و معناه: ما عبدنا غيره شيئا، فيكون بمعنى الاستثناء و ليس شي ء من هذين مؤكدا لنفس الفعل، فلما لم يؤكداها و جاءت وَ لا آباؤُنا و كانت «لا» مؤكدة إلا أنها لم تل علامة الضمير المعطوف عليها لحجزة بينهما بقوله: مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ و الحواجز إذا كثرت و بعدت ما بين الكلمتين اختير إعادة العامل مع أن في المتقدم كفاية كقوله عز و جلّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (2) و كقوله: أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (3) و كقوله: أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (4) فلما بعد الخبر و هو مُخْرَجُونَ من أَنَّكُمْ الأولى أعيدت، و إذا كان الاختيار ما ذكرنا فيما طال الفصل به و كان الفصل في قوله: ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ قد طال بجارين و مجرورين بين علامة الضمير في «عبدنا» و بين «لا» المؤكدة التي تنفي الفعل الذي علامة الضمير في تضاعيفه كجزء من أجزائه و كحرف من حروفه احتاج الضمير في العطف عليه إلى ما

ص: 98


1- سورة: هود، الآية: 112.
2- سورة: الكهف، الآية: 30.
3- سورة: النمل، الآية: 67.
4- سورة: المؤمنون، الآية: 35.

يؤكده، فلذلك أدخل «نحن» هنا و لم يدخل هناك في قوله: ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا فافهمه فإنه من دقيق النحو وفقنا اللّه و إياكم لمعرفته و السلام.

الآية الثامنة عشرة منها

قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ (1) و قال في سورة بني إسرائيل: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ (2).

للسائل أن يسأل فيقول قوله عز و جلّ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ هو ما عليه الاختيار في كلام العرب من تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب بناء على قولك:

أعطيتكه، و الآية في سورة بني إسرائيل قدم فيها ضمير الغائب على ضمير المخاطب، فكأنها بنيت على قولك: أعطيتهوك، و هذا ليس بمختار، فما الذي أوجب اختصاص الأول بتقديم ضمير المخاطب، و أوجب اختصاص الثاني بتقديم ضمير الغائب؟

الجواب أن يقال: أولا ليس الضميران إذا اتصلا بالفعل كالضميرين إذا انفصل أحدهما و عطف على الآخر لأن قولهم: أكرمته و إياك، مثل قولهم: أكرمتك و إياه في أن كل واحد منهما مختار في مكانه الذي يوجب تقديم ما قدم و تأخير ما أخر، بخلاف ما يختار إذا اتصلا بالفعل في مثل: ما أعطيتكه. فأما قوله في سورة الأنعام: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ فلأن قبله: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي: من أجل إملاق و انقطاع مال و زاد و هذا نهي عن قتلهم مع فقرهم و خوفهم على أنفسهم إذا لزمتهم مؤنة غيرهم، فكأنه قال: الذي يدعوكم إليه من حالكم في أنفسكم ثم في غيركم لا يجب أن تشفقوا منه فإني أرزقكم و إياهم. و أما الآية الثانية فإنه قال فيها: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ و الإملاق غير واقع فكأنه قال: خوف الفقر على الأولاد، و كان عقيب هذا إزالة الخوف عنهم، ثم عن القاتلين أي: لا تقتلوهم لما تخشون عليهم من الفقر فاللّه يرزقكم و إياهم، فقدم في كل موضع من الموضعين ما اقتضى تقديمه و أخر ما اقتضى الموضع تأخيره.

ص: 99


1- سورة: الأنعام، الآية: 151.
2- سورة: الإسراء، الآية: 31.

الآية التاسعة عشرة منها

قوله تعالى في الوصية الأولى من هذه السورة: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1) و في الثانية: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (2) و في الثالثة:

ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (3).

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي اقتضى في الأولى: تَعْقِلُونَ و في الثانية:

تَذَكَّرُونَ و في الثالثة: تَتَّقُونَ و هل صلحت الثانية مكان الأولى في اختيار الكلام؟

الجواب أن يقال: قدم اللّه تعالى الوصية بالأشرف الأعظم و هو الإيمان بدل الشرك و فيه أداء حق أكبر المنعمين، ثم الإحسان إلى الوالدين و نعمتهما على الولد أكبر النعم بعد نعمة اللّه فحقهما يتلو حقه، ثم الإحسان إلى الأولاد بتربيتهم و ترك ما كانت عليه العرب في جاهليتها من وأد البنات للفقر و الإملاق، ثم أن لا يقربوا ما لعله أن يكون سبب ولد لا يصح نسبه و هذا في النهي عن سبب الإحداث، كالأول في النهي عن سبب الإهلاك، ثم أن يحقنوا الدماء و لا يسفكوها إلا بحقها و هو أن يقتلوها للقصاص و الزنا بعد الإحصان و الكفر بعد الإيمان. فهذه خمسة تتعلق بأكبر الحقوق و أوكد الأصول، و الشرك اعتقاد مذهب باطل بهوى، و ترك الإحسان إلى الوالدين يكون إما لمحبة مال لا يسمح به لهما، أو اتباع هوى يدعو إلى مخالفتهما، و وأد البنات لخوف الفقر و العار و الزنا و ما يقبح جدا من المعاصي تحمل عليه الشهوة، و قتل النفس بغير حق يدعو إليه شفاء غيظ النفس الأمارة بالسوء. و كل ذلك قبيح في العقول محتاج في ذمّ النفس عنها إلى زاجر من عقل يدفع الهوى فلهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تستعملون العقل الذي يحبس نفوسكم عن قبيح الإرادات و فواحش الشهوات، و بعد هذه الخمسة خمسة أخرى هي متعلقة بالحقوق في الأموال دون النفوس، فأولها: حفظ مال اليتيم عليه لأنه لا يقوى على حفظه و الأطماع تمتد إلى ماله و ذو الولد يفكر في حاله و ما يكرهه لولده فلا يستجيزه لولد غيره، و بعده التعديل في الكيل و إيفاء الكيل و الوزن بالقسط، و هو الذي توعد اللّه عليه في قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (4) و معنى قوله: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (5) أي: إذا اجتهدت في التحري و توخي القسط

ص: 100


1- سورة: الأنعام، الآية: 151.
2- سورة: الأنعام، الآية: 152.
3- سورة: الأنعام، الآية: 153.
4- سورة: المطففين، الآيات: 1، 2، 3.
5- سورة: الأنعام، الآية: 152.

فقد أسقط عنها ما يتعذر تجنبه من أقل القليل فيما يكال و يوزن، و الرابع: القول بالعدل و هو في الحكم و الشهادة، و الخامس: الوفاء بعهد اللّه و هو أن يحلف باللّه في غير معصية، و كل هذه قد دعي فيه الإنسان إلى تذكر حاله و رضاه في نفسه لو كان هو المعامل بما يعامل هو به غيره، أي: لو كان ولده اليتيم أو كان الذي يكال له و يوزن أو كان الذي يحكم عليه أو تقام الشهادة بما لا يلزمه أو يحلف باللّه على إذهاب حق له أو يحلف له بما يلزم الوفاء به، فلا يرضين من ذلك لغيره إلا ما يرضاه لنفسه، فذكرهم حالا مرت لهم أو يخافون مرورها عليهم، فلذلك قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. و أما الآية الأخيرة و هي:

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي: الشرع الذي شرعته لكم هو طريقي أشرعته إلى نعيمكم الدائم فاسلكوه، و لا تتبعوا الديانات المخالفة له فتبعدكم عن سبيله المؤدي إلى نعيمه لعلكم تتجنبون بلزومه معصيته و تتقون بطاعته عقوبته، فأتبع كل صنف من الوصية ما اقتضاه معناها و باللّه التوفيق.

ص: 101

7- سورة الأعراف

الآية الأولى منها

قوله تعالى: قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (1) و قال في سورة الحجر (2): قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.

للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان هذا في قصة واحدة و وقع في كلام اللّه حكاية عما قال إبليس و عما قيل له عند ما كان يظهر من عصيانه فلما ذا اختلفت الحكايتان و المحكي شي ء واحد؟.

الجواب ما قلته فيما قبله و أقوله فيما بعده: من أن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها، و إنما المقصود ذكر المعاني، فإن الألفاظ إذا اختلفت و أفادت المعنى المقصود كان اختلافها و اتفاقها سواء. فقوله عز و جلّ هنا: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ و قوله في الحجر: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ و قوله في سورة ص (3): يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أقوال ثلاثة في بعض ألفاظها اختلاف، و في المعنى اتفاق، و هي: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ و ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ و ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ... و أما قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ففيه زيادة إخبار عن حال لم تكن في الآيتين المتقدمتين، و لم يقل عندهما أنه لم يكن هناك خطاب إلا ما حكيناه فيهما، فتكون الزيادة

ص: 102


1- سورة: الأعراف، الآيتان: 12 و 13.
2- الآيات: 32- 34.
3- الآية: 75.

معدودة في الاختلاف ... و أما قوله و هو حكاية ما كان من جواب إبليس في سورة الأعراف و في سورة ص: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و في سورة الحجر: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ و في سورة بني إسرائيل: قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (1) فإنه يحصل للسامع من الآيات الأربع معنى واحد و هو ذكر ما حمله على ترك السجود لآدم عليه السّلام لما كان مخلوقا من النار و آدم مخلوقا من الطين. و رأى أصله أشرف من أصله، و إن كان في إحداهما ذكر بعض ما دعاه إلى ما فعل، و في الآخرتين ذكر كله من مقابلة أصله بأصله و توهمه أنه أشرف، و أن سجود الأشرف لما دونه لا يجوز و كذلك ما حكاه اللّه تعالى من قوله في سورة الأعراف قال: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ لا يخالف قوله في سورة الحجر (2): قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ و لا يخالف أيضا قوله في سورة ص (3): قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ لأنه إذا أمره بالخروج من الجنة أو من السماء فقد أمره بالهبوط إلى الأرض .. و قوله: وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ و لَعْنَتِي واحد لأن اللعنة في الحقيقة إبعاد اللّه من يعصيه عن الخير، ثم لعن الملائكة و الناس من التبع للعنة نعوذ باللّه منه.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (4) و قال في سورة الحجر و سورة ص: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (5).

للسائل أن يسأل عن إدخال الفاء في قوله: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي في سورتي الحجر و ص و حذفها منه في سورة الأعراف.

الجواب أن يقال: إن قوله: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ في سورة الأعراف وقع مستأنفا غير مقصود به عطف على ما يقع به هذا السؤال عقيبه فلم يحتج إلى الفاء.

الجواب: أيضا: لما لم يكن إجابة له إلى ما طلب لم يكن أيضا معطوفا عليه

ص: 103


1- سورة: الإسراء، الآية: 61.
2- الآيات: 34 و 35.
3- الآيات: 77، 78. و سورة: ص، الآيات: 79، 80 و 81.
4- سورة: الأعراف، الآيتان: 14، 15.
5- سورة: الحجر، الآيات: 36، 37، 38.

بالفاء، و إنما سأل تأخير أجله فقال: إنك في حكمي ممن أخر أجله لا لأجل مسألتك ..

و أما في الآيتين في سورتي الحجر و ص فإنه قال عز من قائل: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي و جاء بعد إخبار اللّه بلعنه له و كأنه قال: يا رب إذ لعنتني و آيستني من الخير فأخرّ أجلي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و هو يوم القيامة، و ليس يوم الإماتة إنما هو يوم البعث و الإحياء فلم تقع الإجابة إلى ما طلب، لأنه قال عز من قائل: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي: إلى الوقت الذي هو آخر أوقات الإحياء، فاقتضى إضمار: «إذ لعنتني يا رب» أن يأتي بالفاء، فيقول: فَأَنْظِرْنِي و يأتي في جوابه بها و هو: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ لأن التقدير: إن طلبت تقدير الأجل و تنفيس المهل من أجل أن لعنت فإنك مؤخر الموت بما حكمت به لك لا لإجابتك إلى مسألتك، فهو معطوف على السؤال عطف الكلام على الكلام الذي يقتضيه لا عطف الإيجاب على السؤال؛ لأن اللّه تعالى لن يجيب عاصيا مثله إلى ما يسأله، فدخول الفاء في الموضعين لتقدم ذكر اللعن و إن المعنى:

إن آيستني من رحمتك فأخر أجلي لأنال من عدوي الذي كان سبب ذلك ما أقدر عليه من الإغواء له و لمن يكون من نسله، و أستشفي بذلك لجهله، نعوذ باللّه من طاعة الهوى المؤدي إلى سبيل الردى.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (1) و قال في سورة الحجر (2): قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.

للسائل أن يسأل في هذه الآية عن شيئين، أحدهما: اختلاف المحكيات، ففي موضع فَبِما أَغْوَيْتَنِي و في آخر فَبِعِزَّتِكَ (3). و الثاني: حذف الفاء في سورة الحجر من قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي و إثباتها في الآيتين الآخرتين.

الجواب: عن اختلاف الألفاظ المحكية أن يقال: متى حملت الباء على القسم في قوله: بِما أَغْوَيْتَنِي في الآيتين بشهادة الآية الثالثة، و هي: فَبِعِزَّتِكَ لم يكن هناك

ص: 104


1- سورة: الأعراف، الآيتان: 16، 17.
2- الآيتان: 39، 40.
3- سورة: ص، الآية: 82.

اختلاف في المعنى؛ لأن المراد في قوله: بإغوائك إياي و هو يحتمل وجوها من المعنى أحدها: أن يكون المراد: بتخييبك إياي لأجتهدن في تخييبهم، و هذا ظاهر الكلام؛ لأن القسم متلقى باللام، و لأن قوله: فَبِعِزَّتِكَ في مقابلتهما من الآية الأخرى و تخييب اللّه إياه هو بعزته و منه قول الشاعر:

و من يغو لا يعدم على الغي لائما أي: من يخب لم ينل خيرا. يشهد لذلك صدر البيت و هو:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و الثاني: أن يكون المراد بإهلاكك إياي بأن لعنتني و هذا الفعل أيضا عزة من اللّه، و كذلك إن حمل على معنى الحكم بغوايته، فهو عزة من اللّه تعالى و إذا كان كذلك تساوت في المعنى و كلّ قسم، و الإغواء الذي هو التخييب أو الإهلاك أو الحكم بالغواية كل ذلك عزة من اللّه تعالى فالقسم به كالقسم بعزته.

الجواب: عن السؤال الثاني: و هو حذف الفاء من قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي فلأن الدعاء في المصدر يستأنف بعده الكلام و القصة غير مقتضاة لما قبلها كما اقتضاها قوله:

رَبِّ فَأَنْظِرْنِي و الفاء توجب اتصال ما بعدها بما قبلها، و النداء أولا يوجب القطع و استئناف الكلام سيما في قصة لا يقتضيها ما قبلها فلم تحسن الفاء مع قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي و الموضعان الآخران لم يدخل الكلام فيهما نداء يوجب استئناف ما بعده، فلذلك وصل القسم فيهما بالأول بدخول الفاء.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (1) و قال في سورة هود (2): وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.

ص: 105


1- سورة: الأعراف، الآيتان: 44- 45.
2- الآيتان: 18، 19.

للسائل أن يسأل: عن إعادة- «هم»- في سورة هود و ترك ذلك في هذه السورة.

الجواب أن يقال: إن الذي في سورة الأعراف جاء على أصله غير مزيد فيه ما يجري مجرى التوكيد، و الذي في سورة هود جاء بعد قوله: وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ فأشير إليهم ثم قال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فأظهر ذكر الظالمين في موضع الإضمار، و لو أجرى على الحكم في إضمار الاسم عقيب الذكر لكان أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عليهم؛ لأن المراد بالظالمين هم المشار إليهم بقوله:

هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ فلما أظهر مكان الإضمار تضمن معنى قوله:

و هم، أي: الظالمون هم الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ و أشير بالكلام المتقدم إليهم، فلما استمر الكلام على الإضمار بعد ذكر الظالمين صار الظاهر كأنهم غير المشار إليهم بقوله: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ فأعيد «هم» في قوله: هُمْ كافِرُونَ لتحقق الكفر عليهم بنسبة الأوصاف المتقدمة إليهم: و أولها كذبهم على ربهم، ثم ظلمهم لأنفسهم، و صدهم عن سبيل اللّه و وصفهم لها بدل الاستقامة بالاعوجاج، فكفرهم في هذه الأحوال باللّه و استحقاقهم به عقوبة اللّه في الآية، فلما لم يصرف الخبر الثاني في سورة الأعراف مصرف ما ليس هو بالأول لم يحتج إلى توكيده، و لما عدل في سورة هود عن إعادة الضمير إلى الأول و وضع مكانه ظاهرا يحتمل أن يكون غير الأول و عنى به أنهم هُمْ كان الموضع موضع توكيد لتحقيق الخبر عنهم بالكفر و تثبيته عليهم بأوكد لفظ، لأنا لما قلنا: هُمْ هم فهو المعاد في قوله: وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هم كافِرُونَ إلا أن يتبين بذلك أن المكان مكان توكيد ليفرق بينه و بين الأول.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ (1) و قال في سورة الفرقان (2):

وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً و قال في سورة الروم (3): اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ

ص: 106


1- سورة: الأعراف، الآية: 57.
2- الآيتان: 48، 49.
3- الآية: 48.

كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و قال في سورة فاطر (1): وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.

للسائل أن يسأل فيقول: هذه الآي الأربع قد خصت اثنان منها بقوله: يُرْسِلُ على لفظ المستقبل، و اثنان بقوله: أَرْسَلَ على لفظ الماضي، فهل في كل مكان ما يقتضي اللفظ الذي خصه أم كل جائز لو جاء عليه؟

الجواب: أن يقال: بل كل ما يوجب في الاختيار اللفظ الذي جاء عليه، و إن كان اللّه وصفه بأنه أَرْسَلَ الرِّياحَ فبسط بها السحاب فساقه فأنزل منه الأمطار فأحيا بها البلاد كوصفه بأنه يفعل ذلك في المستقبل، لأنه قادر كما كان، و قد عود فعل ذلك و أعلمناه مشاهدة، إلا أن الآية التي في هذه السورة جاء فيها يُرْسِلُ بلفظ المستقبل؛ لأن قبلها ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (2) فكان في ذلك بعث على الدعاء و التضرع و تعليق الخوف و الطمع بما يكون منه من الرحمة و صنوف ما رزق اللّه الخلق من النعمة، فكان لفظ المستقبل أشبه بموضع الخوف و الطمع للداعين و أدعى لهم إلى الدعاء، و أما في سورة الفرقان (3) و مجي ء هذا اللفظ فيها بلفظ الماضي فلأن قبل الآية: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فلما عدد أنواع ما أنعم به و كان إرسال الرياح في جملته عده بعد ما تقدمه و أخبر منه عما فعله و أوجده .. و أما في سورة الروم (4) فلأن قبل الآية: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ فبنى قوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ على البناء الذي جعل عليه ما هو من آياته فحث على الاعتبار بما يعتاد من فعله تبارك اللّه سبحانه .. و أما في سورة الملائكة و اختيار اللفظ الماضي فيها على المستقبل فلأن أولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا (5) بمعنى: فطر و جعل، و خاتمة هذه العشر من مبتدأ

ص: 107


1- الآية: 9.
2- سورة: الأعراف، الآيتان: 55- 56.
3- الآيات: 45، 46، 47، 48.
4- الآية: 46.
5- سورة: فاطر، الآية: 1.

السورة اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فلما افتتح العشر من أول السورة بالتمدح بما صنع أتبعه ما كان من جنسه مما فعل فكان الاختيار لفظ الماضي هاهنا كذلك، فافهمه فإنه يفتح عليك ما يشتبه إن شاء اللّه تعالى.

الآية السادسة منها

قوله عز و جلّ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (1) و قال في سورة هود (2): وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و قال في سورة المؤمنين (3): وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ.

للسائل أن يسأل: عن حذف الواو من وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا في هذه السورة و الإتيان بها في سورتي هود و المؤمنين.

الجواب أن يقال: إن الآيات التي تقدمت قوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً في هذه السورة إلى أن اتصلت به في وصف ما اختص اللّه به من إحداث خلقه و البدائع من فعله من حيث قال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (4) إلى أن ذكر الشمس و القمر و الرياح و النبات و الأمطار و السهل من الأرض الطيب و الحزن منها الصلد، و لم يكن فيها ذكر بعثة نبي و مخالفة من كان له من عدو، فصار كالأجنبي من الأول فلم يعطف عليه و استؤنف ابتداء كلام ليدل على أنه في حكم المنقطع من الأول، و ليس كذلك الآية في سورة هود؛ لأن أولها افتتح إلى قصة نوح بما هو احتجاج على الكفار بآيات اللّه التي أظهرها على أيدي أنبيائه و ألسنتهم صلوات اللّه على جماعتهم و توعد لهم على كفرهم، و ذكر قصة من قصص من تقدمهم من الأنبياء الذين جحد آياتهم أممهم فعطف هذه الآية على ما قبلها إذ كانت مثلها، أ لا ترى أن أول السورة: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (5) و بعد العشر منها: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ إلى قوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (6) ثم وصف حال من آمن باللّه و رسله و أخبت إلى ربه و حال من افترى على ربه و حصل على

ص: 108


1- سورة: الأعراف، الآية: 59.
2- الآية: 25.
3- الآية: 23.
4- سورة: الأعراف، الآية: 54.
5- سورة: هود، الآيتان: 1، 2.
6- سورة: هود، الآيتان: 12، 13.

خسران نفسه و شبههما في قوله بحال من انطوى على ذكره: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (1) فاقتضى تشابه القصتين عطف الثانية على الأولى .. و أما في سورة المؤمنين (2) فإن قبل هذه الآية منها: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثم قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (3) ثم انقطعت الآي إلى قوله تعالى: وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (4) فكان ما تقدم في هذا المكان مثل ما تقدم الآية في سورة الأعراف إلا أنه باينه بأن كان فيه: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ و قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ ثم انقطعت إلى قوله: وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ و الفلك التي يحمل عليها مما اتخذه نوح عليه السّلام فدخل واو العطف في قصة نوح عليه السّلام للفظتين المتقدمتين و هما: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ برءوس الآيتين و للمعنى المقتضي من ذكر الفلك الذي نجى اللّه عليه من جعله أصل الخلق و بذر هذا النسل.

الآية السابعة من هذه السورة

قوله تعالى متصلا بقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (5) و قال في سورة هود (6):

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ و قال في سورة المؤمنين (7): وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ.

للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكيات كقوله بعد: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ و في المؤمنين ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ و القصة قصة واحدة.

الجواب أن يقال: للأنبياء مقامات مع أممهم يكون فيها الإعذار و الإنذار و يرجع فيها عودا على بدء الوعد و الوعيد، و لا يكون دعاؤهم إلى الإيمان باللّه و رفض عبادة ما سوى اللّه في موقف واحد بلفظ واحد لا يتغير عن حاله، بل الواعظ يفتن في مقاله

ص: 109


1- سورة: هود، الآية: 24.
2- الآية: 12.
3- سورة: المؤمنون، الآية: 17.
4- سورة: المؤمنون، الآية: 22.
5- سورة: الأعراف، الآية: 59.
6- الآيتان: 25، 26.
7- الآية: 23.

و الجاحد المنكر تختلف أجوبته في مواقفه، فإذا جاءت المحكيات على اختلافها لم يطالب، و قد اختلف في الأصل باتفاقها، لأنه قال لهم مرة باللفظ الذي حكى، و مرة بلفظ آخر في معناه كما ذكر، و كذلك الجواب يرد من أقوام يكثر عددهم و يختلف كلامهم و مقصدهم و صدق الخبر يتناول الشي ء على ما كان عليه فلا وجه إذا للاعتراض بهذا و نحوه.

الآية الثامنة متصلة بهذه الآية من سورة الأعراف

قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) و قال في سورة هود (2): فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا و قال في سورة المؤمنين (3): فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ.

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى خلت في سورة الأعراف من الفاء، و قد جاء مثلها في السورتين بالفاء و هو فَقالَ؟

الجواب أن يقال: إن الموضعين اللذين دخلتهما الفاء ما بعدهما مما اقتضاه كلام النبي عليه الصلاة و السلام مما رواه الكفار جوابا له، فكان بناء الجواب على الابتداء يوجب دخول الفاء، و ليس كذلك الآية في سورة الأعراف؛ لأنّهم في جوابهم صاروا كالمبتدءين له بالخطاب غير سالكين طريق الجواب؛ لأنهم قالوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ فكان كلامهم له كالكلام الذي يبتدئ به الإنسان صاحبه، فلذلك جاء بغير فاء مخالفا طريقة ما الكلام بعده مبني بناء الجواب. و مما أخرج من الأجوبة مخرج الابتداء بالكلام و إن كان في ضمنه الجواب مثل قوله تعالى: وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (4) فلم يأت بالفاء في اللفظين اللذين كان ما بعد كل واحد منهما كالجواب لما قبله ... و مما يؤكد صحة هذا القول قوله تعالى فيما كان من جواب عاد لهود: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ

ص: 110


1- سورة: الأعراف، الآية: 60.
2- الآية: 27.
3- الآية: 24.
4- سورة: العنكبوت، الآية: 31.

أَ فَلا تَتَّقُونَ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنرئك فى سفاهة و إنا لنظنك من الكذبين (1) و لم يقل: فقال الملأ؛ لأن ما بعد «قال» هنا مسلوك به طريق الابتداء بالخطاب إذ رمي بالسفاهة كما رمي نوح عليه السّلام بالضلالة فلم يدخل على واحد منهما الفاء التي تجعل الثاني متعلقا بالأول تعلق الجواب بالابتداء.

الآية التاسعة من سورة الأعراف

قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2) و قال في قصة هود: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (3).

للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: وَ أَنْصَحُ لَكُمْ و بين قوله: وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ و ما الذي اقتضى الاسم في الآخر و الفعل في الأول و هل كان يصح أحدهما مكان صاحبه؟.

الجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما: أن يقال إن معنى كلام نوح عليه السّلام ما نطق به القرآن و معنى كلام هود عليه السّلام ما ذكره اللّه تعالى حاكيا عنه، و ليس لقائل أن يقول: إذا كان القولان صحيحين في موضعهما فهلا قال أحدهما قول الآخر. و الوجه الثاني: أن يقال إن قول نوح عليه السّلام جواب من ضلل؛ لأنه قيل له: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و هود عليه السّلام قيل له: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ و الضلال من صفات الفعل تقول: ضلّ فهو ضالّ، و السفاهة من صفات النفس و هي ضد الحلم، و هو معنى ثابت يولد الخفة و العجلة المذمومتين، و الحلم معنى ثابت يولد الأناة المحمودة، فكان جواب من عيّب بفعل مذموم نفيه بفعل محمود لا بل بأفعال تنفي ما ادعوه عليه و هي أن قال: لست ضالا و لكني رسول من رب العالمين أؤدي إليكم ما تحملت من أوامره و أدعوكم بإخلاص إلى صلاح أمركم و أعلم من سوء عاقبة ما أنتم عليه ما لا تعلمون، فنفى الضلال بهذه الأفعال، و هود عليه السّلام لما رمي بالسفاهة و هي من الخصال المذمومة البطيئة و ليست من الأفعال التي ينتقل الإنسان عنها إلى أضدادها في الزمن القصير مرارا كثيرة فكان نفيها بصفات ثابتة تبطلها أولى كما كان نفي الفعل المذموم بالفعل المحمود أولى .. فقوله ناصح أي: أنا

ص: 111


1- سورة: الأعراف، الآيتان: 66، 67.
2- سورة: الأعراف، الآية: 62.
3- سورة: الأعراف، الآية: 68.

ثابت لكم على النصح صفة في النفس لا تنتقل لكم عن النصح إلى الغش و لا تتبدل خيانة بالأمانة و كان جواب كل من الكلامين ما لاق به و اقتضاه.

الآية العاشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (1) و قال في سورة يونس (2): فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: لم اختصت الآية الأولى بقوله: فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ و الثانية بقوله: فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ و زاد فيها وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ.

الجواب أن يقال: السورتان مكيتان جميعا و الآية في سورة الأعراف و قوله:

فَأَنْجَيْناهُ أصل في هذا الباب؛ لأن أفعلت في باب النقل أصل لفعلت، و هو أكثر تقول: نجا و أنجيته، كما تقول: ذهب و أذهبته و دخل و أدخلته و خرج و أخرجته، فأما فعّلته فمن القلة بحيث يمكن عده نحو: فزع و فزّعته و خاف و خوّفته، و قد يجاء معه بالهمزة فيقال: أفزعته و أخفته و لا يجاء مع تشديد العين بالهمزة لا تقول: ذهّبته و لا دخلته في أذهبته و أدخلته، فالآية الأولى جاءت على الأصل الأكثر و لهذا أكثر ما جاء في القرآن جاء على أنجينا كقوله: فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا (3) و كقوله: وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (4) و قوله: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ (5) و ليست الجيم المزيدة في «نجّيناه» للكثرة، و إنما هي المعاقبة للهمزة بدلالة قوله في ذي النون: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ (6) و لا كثرة هناك. و أما قوله: وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فهو الأصل «و من» تجي ء بمعناها و تكونان مشتركتين في معان، و «الذين» خالصة للخبر مخصوصة بالصلة فاستعمل الأصل في اللفظتين «أنجينا» و «الذين» و لما كرر هذا الذكر كان العدول إلى اللفظين الآخرين اللذين هما بمعناهما و هما «نجينا» «و من» أشبه بطريقة الفصحاء و عادة البلغاء. فأما قوله: وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ في الآية الثانية فإنه زيادة في الخبر عن الخوالف الذين نجوا

ص: 112


1- سورة: الأعراف، الآية: 64.
2- الآية: 73.
3- سورة: الأعراف، الآية: 72.
4- سورة: الشعراء، الآية: 65.
5- سورة: العنكبوت، الآية: 24.
6- سورة: الأنبياء، الآية: 88.

من الغرق فصاروا خلفاء للهالكين و قيل: كانوا ثمانين نفسا و هلك سائر أهل الأرض. فإن قال: فالإغراق قبل أن جعلوا خلائف فكيف قدم عليه. قيل: يجوز أن يكون معنى:

وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ إنما قدم لأنه من صفة أنجيناهم، فلما أخبر عنهم بذلك ضم إليه الخبر الثاني و يجوز أن يكون معنى: وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي: حكمنا لهم بذلك، ثم كان الإغراق بعده على أن الواو لا ترتيب فيها و لا يمتنع أن يكون المذكور بعدها مقدما على ما قبلها.

الآية الحادية عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى في قصة صالح: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) و قال في سورة هود (2): وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ و قال في سورة الشعراء (3): قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف الخبر الواحد في الأماكن الثلاثة و هو حكاية ما قاله صالح عليه السّلام لقومه لما حذرهم التعرض للناقة.

الجواب أن يقال: إن هؤلاء سألوا أن يخرج لهم من هضبة ملساء ناقة فسأل اللّه تعالى صالح ذلك، و في خبر آخر أنه بدرهم بهذه الآية لا عن مسألة كانت منهم فانفرجت عن ناقة بعد ما تمخضت تمخض المرأة، و الناقة عشراء، فنتجت بعد ذلك فصيلا فكانت ترد ماء لهم بين جبلين يوما فتشربه كله و تسقيهم اللبن بدله و للقوم شرب يوم يخصهم، فثقل عليهم أمر شربها و انقطاع الماء يوما عن مواشيهم بسببها، و حذرهم صالح عليه السّلام التعرض لها إلى أن عقرها أحمر ثمود فصار سبب هلاكهم، فالآية الأولى من سورة الأعراف عامة في جمل ما كان من وعظه لهم؛ لأنه قال: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: آية تشهد بصحتها نفوسكم أنها من قدرة اللّه المختصة بفعله لا بفعل غيره، ثم قال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي: هي ناقة ليست ملك أحد منكم، و إنما هي للّه استخرجها

ص: 113


1- سورة: الأعراف، الآية: 73.
2- الآية: 64.
3- الآيتان: 155، 156.

من الصخرة أو الهضبة إمارة لصدق نبيه عليه السّلام لتؤمنوا عندها، فاتركوها ترع في الصحارى التي هي أرض اللّه من الكلأ الذي هو من نعمة اللّه، و لا تتعرضوا لها بسوء فيأخذكم عذاب ينال منكم و يؤلمكم، و هذه المعاني المجملة في الآية الأولى زيدت بيانا في الآيتين. فالآية الأولى: تحذير للقوم على طريق العموم. فأما قوله في الثانية: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ بعد ما قال في الأولى: أَلِيمٌ، فإنه اختص هذا المكان بقريب لما بعده من قوله: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ (1) فذكر المدة التي بينهم و بين هلاكهم و قرب ما توعدهم به من عذاب اللّه لهم، و القريب لا ينافي الأليم بل هو أشد ألما إذ لم يكن بعد مهل، فاختصاص الآية الثانية بقريب دون أَلِيمٌ لما ذكرنا من قرب الميعاد المقرون ذكره إلى ذكره. و أما الآية الثالثة، و اختصاصها بقوله: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (2) فلأن قبلها ذكر اليومين المقسومين بين الناقة و بينهم، كأنه قال لهم: إن منعتموها يومها بعقر تنزلونه بها أخذكم عذاب يوم عظيم، فيوم تؤلمونها فيه فيكون به يوم يؤلمكم اللّه فيه بعذاب الاستئصال و هو يوم عظيم عليكم، و كل ذلك بمعنى واحد، و هو أنهم إن عقروها عوقبوا، فالألفاظ المختلفة دائرة على هذا المعنى و اختلافها لاختلاف مواضعها المقتضية تغيير الألفاظ فيها.

الآية الثانية عشرة منها

قوله تعالى في قصة صالح عليه الصلاة و السّلام: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (3) و قال فيهم في سورة هود (4): فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ و قال في قصة شعيب عليه الصلاة و السّلام في سورة الأعراف (5):

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا و قال في هذه القصة في سورة هود (6): وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.

للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ و توحيد الدار في موضع، و جمعها في موضع و هل هناك فرقان بين موضع الواحد و موضع الجمع؟.

ص: 114


1- سورة: هود، الآية: 65.
2- سورة: الشعراء، الآية: 156.
3- سورة: الأعراف، الآية: 78.
4- الآية: 65.
5- الآيتان: 90، 91.
6- الآيتان: 94، 95.

الجواب أن يقال: إذا كان الجمع و التوحيد جائزين كان وجه التوحيد على طريقين، أحدهما: أن يراد بدارهم: بلدهم فيوحد ذهابا إلى معنى الدار و هو موحدا و يذهب به مذهب الجنس كما تقول: دينارهم شر من درهمهم كما قال:

دينار آل سليمان و درهمهم كنائلين حفّا بالعراقيب

بنى الكلام في اختصاص موضع بالتوحيد، و موضع بالجمع و أن يقال هل ذلك لفائدة تخصصه به؟ فيقال: إن اللّه تعالى وحد في كل مكان ذكر في ابتدائه و إلى وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً. و لم يذكر إخراج النبي و من آمن معه من بينهم، فجعلهم بني أب واحد و جعلهم كذلك أهل دار واحدة و رجا أيضا أن يصيروا بالإيمان فرقة واحدة، و كل موضع أخبر عن تفريقه بينهم و إخراج النبي و من آمن منهم معه أخبر عنهم الإخبار الدال على تفرق شملهم و تشتت أمرهم و ذهاب المعنى الذي كان يجمعهم لأب واحد و دار واحدة و أن يصيروا مع المؤمنين فرقة واحدة فقال: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا .... وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (1) و قال: وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (2) فإن قال: فقد قال في قصة شعيب عليه الصلاة و السّلام في سورة الأعراف (3): فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا فوحد الدار، و قد خرج شعيب عليه الصلاة و السّلام من بين أظهرهم و وقع الحكم بتفرق شملهم، فكان ما ذهب إليه يقتضي أن يجمع الدار فيقال: ديارهم في هذا المكان.

الجواب أن يقال: إنه لم يتقدم في هذا الموضع ذكر إخراجه من بينهم مع الذين آمنوا معه كما ذكر في الموضعين الآخرين في قصته عليه الصلاة و السّلام في سورة هود و في قصة شعيب عليه السّلام فيها، أ لا ترى أنه قال في قصة صالح عليه الصلاة و السّلام في سورة الأعراف، و سورة هود قبل أن أخبر أنه نجاه و من آمن معه منهم «لما جاء أمره» مرتين، فوحد الدار فيهما، و في الموضع الذي ذكره بقصته مع المؤمنين منهم جمع الدار فيهما و كذلك جاء في قصة شعيب في موضعين، أحدهما جمع فيه، و في الآخر وحده، و الجمع حيث ذكر إخراجه منهم مع المؤمنين معه فتدبره إن شاء اللّه تعالى.

ص: 115


1- سورة: هود، الآية: 66.
2- سورة: هود، الآية: 94.
3- الآيتان: 91، 92.

الآية الثالثة عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى في قصة صالح: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (1) و قال في قصة شعيب: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (2).

للسائل أن يسأل: عن إفراد الرسالة في قصة صالح و جمعها في قصة شعيب و ما الفائدة المخصصة لكل واحد من اللفظتين بمكانها؟.

الجواب عن ذلك أن يقال: إن الذي نطق به القرآن من تحذير صالح عليه السّلام قومه بعد أن أمرهم باتقاء اللّه تعالى و طاعته هو أمر الناقة و المنع من التعرض لها، فجعل «الرسالة» جملة لما لم يفصل ما أتى به شعيب حين نهاهم عن عبادة الأوثان بدلالة قوله: قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (3) ثم قال: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (4) ثم قال: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (5) و قال: وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ (6). قيل في التفسير: هم العشارون: عن قتادة و السدى، و قيل: كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا يتوعدونه و يصدونه عن دين اللّه، فهذه التي أمر شعيب بها قومه أشياء كثيرة ليس ما أمر به صالح قومه مثلها كثرة، فلهذا جمع الرسالة فقال: رِسالاتِ رَبِّي، و قال في قصة صالح عليه السّلام: رِسالَةَ رَبِّي.

و جواب ثان و هو ما يروى: أن أصحاب الأيكة غير مدين، و أن شعيبا بعث إلى أمتين و هذا عن قتادة، و قيل: الأيكة: الغيضة الملتفة، و أصحاب الأيكة هم أهل مدين، فإذا حمل على الأول كان إلى كل واحد من أمته رسالة، فجمع لاختلاف قومه و تخصيص كل منهم برسالة من اللّه ... فإن قال قائل: فبأي عذاب اللّه أهلكوا و قد نطق القرآن بالرجفة في أمرهم و نطق بالصيحة التي خروا لها و ماتوا و نطق بعذاب يوم الظلة، و هي:

ص: 116


1- سورة: الأعراف، الآية: 79.
2- سورة: الأعراف، الآيتان: 92، 93.
3- سورة: هود، الآية: 87.
4- سورة: الشعراء، الآيتان: 125، 126.
5- سورة: الشعراء، الآيات: 181- 183.
6- سورة: الأعراف، الآية: 86.

سحابة أظلتهم فأحرقهم الحر تحتها، و هذه أنواع من العذاب مختلفة و في كل واحد ما يغني عن الآخر في الإهلاك، فإذا أهلكوا بأحدها اكتفى به عن غيرها.

الجواب أن يقال: في التفسير عن محمد بن كعب، قال: عذب قوم شعيب بثلاثة أصناف من العذاب أصابتهم الرجفة فخرجوا من ديارهم، ثم أصابهم حر شديد ففرقوا من أن يدخلوا البيوت خوف الزلزلة فبعث اللّه عليهم الظلة، و هي: سحابة أنشئت لهم فصاح رجل منهم: هل لكم في الظلة هل لكم في الظلة؟ و في رواية: عليكم بالظلة فما رأيت كاليوم من ظل أطيب و لا أبرد، فلجئوا إليها هربا من الحر الذي أصابهم، فلما اجتمعوا تحتها أمطرتهم نارا فأحرقتهم، و قيل: صيح بهم صيحة واحدة فماتوا منها، فعلى هذا سلطت عليهم الأنواع الثلاثة من العذاب عذاب الاستئصال.

الآية الرابعة عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى: وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ (1) الآية و قال في سورة النمل (2): وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ و قال في سورة العنكبوت (3): وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.

ص: 117


1- سورة: الأعراف، الآيات: 80- 83.
2- الآيات: 54- 58.
3- الآيات: 28- 30.

للسائل أن يسأل في هذه الآي: عن مواضع:

فالأول: قوله في سورة الأعراف: شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و قال فيما وقع موقعه من سورة النمل: شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.

و الثاني: قوله بعد ذلك وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ في سورة الأعراف بالواو و قال فيما أشبهه من سورة النمل فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ. فما كان جواب قومه بالفاء و هل صلح أحدهما مكان الآخر في الاختيار؟

و الثالث: قوله في سورة الأعراف: إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ و قال في سورة النمل: إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ فأضمر في الأول، و أظهر في الثاني.

و الرابع: قوله في سورة الأعراف: إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ و في سورة النمل: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ.

و الخامس: قوله في الأعراف: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ و قال في سورة النمل: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.

و السادس: اختلاف المحكيات فإن في سورتي الأعراف و النمل: وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ و أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ. و قال في سورة العنكبوت:

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

فأما المسألة الأولى: و هو مجي ء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الأعراف و بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ في النمل فالمسرف يجهل بإسرافه و الجاهل مسرف في أفعاله، إذ الإسراف مجاوزة الحد الواجب إلى الفساد، فيجوز أن يكون لوط عليه السّلام لما كانت له مع قومه مقامات قال في بعضها هذا اللفظ، و قال في المقام الآخر اللفظ الثاني و لم يناف أحدهما صاحبه، ثم اختصاص «مسرفين» بسورة الأعراف فلأن الآيات التي قبلها فواصلها أسماء جمعت هذا الجمع من حيث قال: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ (1) فكانت فاصلة هذه الآية الْمُفْسِدِينَ و فاصلة ما بعدها

ص: 118


1- سورة: الأعراف، الآية: 74.

مُؤْمِنُونَ و ما بعدها كافِرُونَ و بعدها الْمُرْسَلِينَ و بعدها جاثِمِينَ و بعدها النَّاصِحِينَ، و بعد ذلك إذا انتهى إلى هذه الآية الْعالَمِينَ فكان الاسم أحق بالوضع في هذا المكان لتتساوى الفواصل، و في سورة النمل تقدم الآية التي فاصلتها بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (1) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (2) فلما تناسبت هذه الأفعال في هذه الفواصل التي قبل هذه الفاصلة كان بناؤها على ما قبلها على لفظ الفعل أولى بها، فجاء تَجْهَلُونَ في هذا الموضع و مُسْرِفُونَ في الأول لهذا القصد و اللّه أعلم.

و أما المسألة الثانية: في اختصاص الواو في سورة الأعراف في قوله: وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ و الفاء في سورة النمل فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ فلأن قبلها «مسرفون» و هو اسم و إن أدى معنى الفعل و «تجهلون» صريح لفظ الفعل و الأجوبة التي تتعلق بالأول المبتدإ به إنما أصلها في الأفعال التي تقع و توجد لوجود غيرها، و الواو و الفاء جائزتان في الموضعين إلا أنه يختار حيث جاء الأصل الذي وضعت الفاء فيه لتوجب ما بعدها لوجود ما قبلها و هو الفعل، و اختيرت الواو حيث كان الملفوظ به الاسم لتفرق بين الموضعين فتختار لكل ما هو به أليق، إذ ليس الاسم أصلا فيما جعلت الفاء الجواب فيه.

و أما المسألة الثالثة و هي إضمار آل لوط في الأعراف حيث قال: إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ و إظهاره في سورة النمل لما قال: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ.

الجواب عنه أن يقال: إن السورتين مكيتان و موجب هذا الإضمار و الإظهار أن يكون ما جاء فيه الإظهار نازلا قبل ما جاء فيه الإضمار، فلما أظهر في الآية المنزلة قبل اعتمد في القصة التي هي عند ذكرهم على الإضمار الذي أصله أن يكون بعد تقدم الذكر.

و أما المسألة الرابعة: و هي إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ في سورة الأعراف و في سورة النمل: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ.

الجواب عنه: ما يدل عليه الجواب على المسألة الثالثة و هو أن هذه القصة في سورة النمل نازلة قبل القصة في سورة الأعراف، بدليل الإضمار و الإظهار و إذا بنينا على هذا فإن قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي: كتبنا عليها أن تكون من الباقين في القرية الهالكين مع أهلها، فلما ذكر في الآية المنزلة أولا أحال في الثانية على

ص: 119


1- سورة: النمل، الآية: 55.
2- سورة: النمل، الآيات: 52، 53، 54.

الأولى في البيان فقال: كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي: في تقدير اللّه الذي قدره لها و أخبر فيما قبل عن حكمه عليها.

و أما المسألة الخامسة فعن قوله في سورة الأعراف: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ و قال في سورة النمل: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.

الجواب عنها: ما بينا و هو أن ذكر قصة لوط و قومه نزل القرآن به قبل ذكره في سورة الأعراف، و تبكيتهم على الفاحشة و تعظيم أمرها و فحشهم فيها قبل الإخبار عن سبقهم إليها فكان قوله: وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: لا تتكاتمون بها؛ لأنهم كانوا في مجالسهم لا يتحاشون عنها، و قيل: و أنتم تبصرون فحشها و شناعة قبحها، و هذه صفة ترجع إلى الفعلة نفسها، ثم إنهم لم يسبقوا إليها كما قيل في الخبر، ما رؤي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، و هذا وصف حقه أن يجي ء بعد توفية الفاحشة حق وصفها في نفسها فأخر ذكره إلى الحكاية الثانية لهذه القصة، و قد خاطبهم لوط عليه السّلام بذلك و بأكثر منه في مقامات إنكاره عليهم و دعائه لهم.

و أما المسألة السادسة فعن اختلاف المحكيات: إذ كان في سورة الأعراف و النمل: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ و أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ و قال في سورة العنكبوت: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

الجواب عن ذلك: إن هؤلاء لما كرر عليهم لوط عليه السّلام الإنكار و أعاد إليهم الإعذار و الإنذار قال في موقف ما حكاه اللّه تعالى، فكان جوابهم له في ذلك الموقف ما ذكره اللّه تعالى، و الجواب الثاني و إن خالف الجواب الأول فهو من جهتهم، و إذا خالفوا بين الأجوبة تناولت الحكاية مختلفها على أنه لو كان كل ذلك في موقف واحد لكان جائزا أن يكون جواب طائفة منهم ما ذكر أولا و جواب طائفة أخرى ما ذكر ثانيا و كل من الطائفتين قومه.

فإذا قيل ما كان جواب قومه أي: بعض قومه، فإذا قاله بعض و رضي به الآخرون فكلهم قائلون أو في حكم القائلين فلا يقدح ما جاء من اختلاف أجوبتهم في الآيات التي نزلت في هذه القصة على ما يظنه المعترض، و إنما يتعلق بمثله من جهل للأنبياء عليهم السّلام مواقفها و لم يعرف اللغات و مصارفها، و هذا كثير في قصة موسى عليه السّلام مع فرعون و حكايتها في هذه السورة و غيرها مما تقف عليه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 120

الآية الخامسة عشرة من سورة الأعراف تشتمل على ثلاثة مسائل

قوله تعالى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (1) و قال في سورة يونس (2): ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما اختلف من الآيتين المتشابهتين و اختصاص ما في سورة الأعراف بسقوط «به» من قوله تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ثم قال: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ و أثبت «به» في سورة يونس و هو:

بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.

الجواب عن ذلك: أن سقوط «به» من قوله: «كذبوا» هو للبناء على ما جعل صدرا لهذه الآيات التي نزلت في الترغيب و الترهيب و هو وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (3) فقوله: و لكن كذبوا لم يذكر له مفعول و انساقت الآيات بعد التحذير المتوالي بقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا (4) ثم ختمت بقوله: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فالمكذبون هنا هم المكذبون في قوله: وَ لكِنْ كَذَّبُوا (3) و لكن كذبوا يدل على ذلك بأن أجرى مجراه في حذف ما يتعدى إليه، و ما يتعدى إليه كذب إذا كان غير مميز يتعدى إليه بالباء كقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا و إذا كان من المميزين فإنه يتعدى إليه بغير حرف إضافة نحو كذبه كقوله تعالى: فَكَذَّبُوا رُسُلِي (5) فالمحذوف في هذا المكان هو المفعول به و هو الذي يتعدى إليه الفعل بالباء ... و أما قوله في سورة يونس (6): فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ و إثبات المفعول به هنا فلأن قبله قصة نوح، و هي:

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي ثم بعده فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ثم بعد: وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا (7) فجاء

ص: 121


1- سورة: الأعراف، الآية: 101.
2- الآية: 74.
3- سورة: الأعراف، الآية: 96.
4- سورة: الأعراف، الآية: 97.
5- سورة: سبأ، الآية: 45.
6- الآية: 74.
7- سورة: يونس، الآيات: 71، 73.

«كذب» أمام القصة المبنية على القصة التي قبلها متعدية إلى ما وجب لها في موضعها و نوعي تعديها، فلما وقعت الإشارة في قوله: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ (1) إلى تكذيب من كذب من قوم نوح اختير تعدية الفعل المكرر على الفعل الأول ليعلم أن هذا الفعل معنيّ به ما تقدم، فلما جاء ذاك متعديا جاء هذا مثله، و كما لم يجي ء في الآية التي في سورة الأعراف متعديا لم يجي ء فيما بني عليه إلا محذوف الفعل.

و أما الجواب عن اختلاف قوله: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ (2) و كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (1) فلأن الآية في سورة الأعراف مبنية على ما تقدمها من الآيات و هي تنتقل من الإضمار إلى الإظهار و من الإظهار إلى الإضمار أعني في إخبار اللّه عز و جلّ عن نفسه كقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً (3) أو أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى (4) و قوله بعده: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ (5) فأظهر و لم يقل أ فأمنوا مكرنا فلما وقع هذا الإخبار في هذا المكان ثم جاء بعده أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ (6)، فأجرى الفعل على إضمار فاعله، ثم عاد إلى ذكر الطبع في الآية الأخرى كان إجراؤه على إظهار الفاعل أشبه بما بنيت عليه الآيات المتقدمة من الانتقال من الإضمار إلى الإظهار المختار استعماله في هذا المكان .. و أما الآية التي في سورة يونس و هي: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فلأن ما قبلها جار على حد واحد و سنن لاحب و هو إضمار الفاعل من حيث أخبر في قصة نوح قبله و هي من مبتدأ العشر: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلى أن قال:

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ (7) فقال بعده:

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ و لم يتقدمه ما يخالف هذا المنهج و لم يبن على الطريقين فاتبع الأول و حمل عليه في إضمار الفاعل فيه.

و المسألة الثالثة في هذه الآية قوله في سورة الأعراف: عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (8) و في يونس: عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.

الجواب عنها: أن الآيات التي قد تقدمت في سورة الأعراف تضمنت وصف

ص: 122


1- سورة: يونس، الآية: 74.
2- سورة: الأعراف، الآية: 101.
3- سورة: الأعراف، الآية: 97.
4- سورة: الأعراف، الآية: 98.
5- سورة: الأعراف، الآية: 99.
6- سورة: الأعراف، الآية: 100.
7- سورة: يونس، الآيتان: 73 و 74.
8- سورة: الأعراف، الآية: 101.

الكفار؛ لأنه لا يحذر عذاب اللّه و مجيئه بياتا أو ضحى إلا الكفار، ثم إطلاق «الخاسرين» لا يكون إلا في «الكافرين»، فلما وقع التصريح بصفات الكفر صرح به عند ذكر الطبع، و لما كانت الآية في سورة يونس قد تقدمها في وصف الكفار ما كان كالكناية عنهم، و قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ و ما كل منذر كافر، كنى عن الكفار بعده عند ذكر الطبع بالمعتدين، و ما كل معتد كافر، فمخالفة كل واحدة من الآيتين للأخرى إنما هي لموافقة ما قبل كل واحدة منهما من طرح الكلام و قصد الالتئام.

الآية السادسة عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى في قصة موسى:

إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (1) و قال في سورة الشعراء (2) مكان قوله: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ.

للسائل أن يسأل في هذه القصة عن مسائل.

أولها: قوله في سورة الأعراف: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ.

ثم قال في سورة الشعراء: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فأخبر في الأولى: أن قائل ذلك الملأ من قومه، و في الثانية: أن فرعون هو القائل ذلك لملئه، و هذا اختلاف ظاهر في الخبرين.

الجواب أن يقال: إن قول الملأ فيما حكاه اللّه تعالى في سورة الأعراف قول فرعون و رؤساء قومه أدوا عنه ما كان من قوله إلى عامة أصحابه، و الدليل على أن ذلك

ص: 123


1- سورة: الأعراف، الآيات: 106- 115.
2- الآيات: 34- 38.

قوله: و أنهم فيه مؤدو رسالة عنه قول العامة في جوابه «أرجه و أخاه» فكان هذا خطابا لفرعون و لم يكن للملإ، إذ لو كان لهم لقيل: أرجوه و أخاه و إذا كان كذلك لم يخالف ما قاله في الشعراء من أنه قال للملإ حوله بل يكون هو البادي بذلك لمن حوله ليؤدوا إلى من بعد عنه قوله .. فإن قال: فكيف اختصت سورة الأعراف بحكاية ما قال الملأ و سورة الشعراء بما قال فرعون .. قيل: إن أول من رد قول موسى عليه السّلام فرعون ثم مالأه عليه ملأه و هو ما حكاه اللّه تعالى في سورة الشعراء فاقتضى حاله حيث أخبر عنه بما قاله: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (1) إلى أن انتهت الآيات إلى القصة المودعة ذكر السحرة فقال فرعون للملإ حوله ما أدوه عنه إلى غيرهم، و سورة الشعراء مكية كسورة الأعراف و ترتيب الاقتصاص يقتضي أن يكون قبلها، و في السورة الثانية أخبر عما أداه ملأه إلى الناس الذين أجابوه بأن أرجه و أخاه فكان قول فرعون للملإ حوله سابقا قول الملأ الذين أدوا إلى غيرهم فذكر حيث قوله قصد اختصاص أول ما دعاه موسى عليه السّلام إلى طاعة اللّه عز و جلّ.

الآية السابعة عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (2) و قال في سورة الشعراء (3): يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول ذكر في الأولى أنه قال: «يريد أن يخرجكم من أرضكم» فحسب، و ذكر في الثانية أنه قال: «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره»، و القول واحد فلما ذا اختلف؟.

الجواب أن يقال: لما أسند الفعل في الأولى إلى فرعون و حكى ما قاله و أنه قال للملإ من قومه: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ و كان أشدهم تمردا و أولهم تجبرا و أبلغهم فيما يرد به الحق كان في قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ذكر السبب الذي به يصل إلى الإخراج و هو بسحره فأشبع المقال بعد قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بأن ذكر أنه يريد إخراجكم بسحره، و أما الموضع الذي لم يذكر فيه بسحره فهو ما حكى من قول الملأ في سورة الأعراف حيث قال: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ و الملأ لم يبلغوا مبلغ فرعون في إبطال ما أورده موسى عليه السّلام و لم يجفوا في الخطاب جفاه فتناولت الحكاية ما قاله فرعون على جهته بتكرير

ص: 124


1- سورة: الشعراء، الآية: 18.
2- سورة: الأعراف، الآية: 110.
3- الآية: 35.

لفظ السحر من لفظه بعد ما أخرجه في صفته حيث قال: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. فإن قال قائل: فقد ذكر اللّه في سورة طه (1) عن الملأ أنهم قالوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قيل له قوله: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ (2) خبر عن فرعون و ملئه فلما كان في جملتهم غلب أمره على أمرهم أ لا ترى أن ابتداء ذلك: وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (3) و هذا خبر عن فرعون ثم قال بعده: أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ (4) و هو خطاب لفرعون و من تبعه، و يجوز أن يكون له وحده على ما يخاطب به الملوك من لفظ الجمع كما يخبرون بمثله عن أنفسهم، فذكر قوله «بسحره» فيما حكاه من كلام فرعون، فلذلك خلا منه الموضع الذي كان الخبر فيه عن الملأ من قومه فاعلمه إن شاء اللّه تعالى.

الآية الثامنة عشرة من سورة الأعراف

قوله تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (5) و قال في سورة الشعراء (6): قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى اختلف اللفظان في الآيتين، فكان في الأولى «أرسل» و في الثانية «و ابعث» و هل جاز أحدهما مكان الآخر؟

الجواب: أن يقال: اللفظتان نظيرتان تستعمل إحداهما مكان الأخرى، و قد جاء:

بعث الرسول و أرسله معا، إلا أن أرسل يختص بما لا يختص به بعث؛ لأن البعث لا يتضمن ترتيبا و الإرسال أصله تنفيذ من فوق إلى أسفل، و أرسل في سورة الأعراف حكاية قول العامة للملإ المؤدين كلام فرعون إليهم، فلما تعالى عليهم و لم يخاطبهم بنفسه كان قولهم في جواب ما استأمرهم فيه و استشارهم في فعله على الترتيب الذي رتب لهم في الخطاب، فكانت الحكاية باللفظ الذي يفخم به المخاطب كما فخم في تحميله ملأه أن يؤدوا كلامه إلى من دونهم، و لما تناولت الحكاية في سورة الشعراء ما تولاه فرعون بنفسه

ص: 125


1- الآية: 63.
2- سورة: طه، الآية: 62.
3- سورة: طه، الآية: 56.
4- سورة: طه، الآية: 57.
5- سورة: الأعراف، الآية: 111.
6- الآية: 36.

من مخاطبة قومه بإسقاط الحجاب بينهم و بينه و تسوية قدرهم بقدره لقوله: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ (1) كان هذا الموضع مخالفا للموضع الأول في مقتضى الحال من التفخيم فخص باللفظ الذي ليس فيه ما في الأول من التعظيم و هو قوله ابعث.

الآية التاسعة عشرة من الأعراف

قوله تعالى بعد ما قال يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً (2) و قال في سورة الشعراء (3) بعد سَحَّارٍ عَلِيمٍ: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً.

للسائل أن يسأل فيقول: المحكي في الشعراء أكثر من المحكي في سورة الأعراف بعد قوله: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ إلى أن انتهى قوله تعالى إلى ما هو خبر عن السحرة من قولهم لفرعون: أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً.

الجواب: ما دللنا عليه من أن ما في سورة الشعراء أشد اقتصاصا للأحوال التي كانت بين موسى و بين عدوه فرعون لاشتماله على ذكر ابتداء مبعثه إليه حيث قال: وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (4) فجاء في هذه الآيات التي في ذكر السحرة من بيان ما جرى ما لم يجي ء في سورة الأعراف فمنه قوله: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (5) كما قال تعالى في سورة طه (6): قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فهذا قوله:

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و في سورة الأعراف لما لم يبدأ القصة فيها بذكر مبعثه عليه السّلام و ابتداء أمره لم تكن مبنية على ما بينا عليه من اقتصاص معظم حاله و أول ما كان من مبعثه حيث يقول: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (7) فلما كان القصد في سورة الأعراف ذكر الجمل من بعض ما كان ذكر تفصيله كان الاقتصار بعد ذكر إرسال الحاشرين إلى السحرة و مجيئهم يغني عن تواعدهم ليوم يظهرون فيه حيلهم

ص: 126


1- سورة: الشعراء، الآية: 34.
2- سورة: الأعراف، الآية: 113.
3- الآيات: 38- 41.
4- سورة: الشعراء، الآيتان: 10، 11.
5- سورة: الشعراء، الآية: 38.
6- الآيات: 57- 59.
7- سورة: طه، الآيتان: 24 و 25.

و تمويهاتهم، إذ معلوم أن مثل ذلك الخطب العظيم و حشر العدد الكثير ينتهي إلى يوم يتواعد إليه مشهود و على هذا بني الكلام في أكثر متشابه هذه القصة.

الآية العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى في الآية التي قبل: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (1) و قال في سورة الشعراء (2): فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلفت الآيتان و كيف جاز: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا؟ و حق الكلام أن يكون في «قالوا» واو أو فاء نحو: جاء السحرة فرعون فقالوا: أئن لنا لأجرا؛ أو: و قالوا.

الجواب أن يقال: لما تقدم في سورة الشعراء ما شرحه أكثر و ما في سورة الأعراف أوجز و أخصر كان قوله في الأعراف: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بمعنى ما كان بإزائه في سورة الشعراء فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ فلم يحتج في جواب «لما» إلى فاء و لا واو، و كذلك هنا في سورة الأعراف لما قصد هذا المعنى دل بحذف العاطف على هذا القصد، فكأنه قال: فلما جآء السحرة قالوا إن لنا لأجرا.

الآية الحادية و العشرون

قوله تعالى في سورة الأعراف (3): قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ و قال في سورة الشعراء (4): قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.

للسائل أن يسأل: عن زيادة «إذا» في سورة الشعراء و خلو سورة الأعراف منها.

و الجواب: أن معنى قوله: إِذاً جواب و جزاء، و كان من قول فرعون لهم: إن غلبتم فجزاي أن أجازيكم بإعلاء رتبتكم و تقريب منزلتكم فلأجل ذلك أفعل هذا بكم، فاختصت سورة الشعراء بهذا دون غيرها؛ لأنها موضع بني على فضل اقتصاص لما جرى لم يبن غيرها عليه من نحو ما تقدم و ما يجي ء بعد.

ص: 127


1- سورة: الأعراف، الآية: 113.
2- الآية: 41.
3- الآيتان: 113، 114.
4- الآية: 42.

الآية الثانية و العشرون من الأعراف

قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (1) و قال في سورة طه (2): قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى

للسائل أن يسأل: عن اختلاف المحكي في الموضعين مع أن ذلك في شي ء واحد.

الجواب: أن المقصود معنى واحد و اختير في سورة الأعراف: وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ؛ لأن الفواصل قبله على هذا الوزن و اختير في سورة طه: وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى و مثله قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (3) في سورة الأعراف و سورة الشعراء لتكون الفاصلة فيها مساوية للفواصل قبلها و بإزاء ساجِدِينَ قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً (4) في سورة طه كذلك و مثله قوله: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (5) في السورتين للفواصل التي حملت هذه عليها و قال في سورة طه: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (6) فقدم «هارون» ليكون «موسى» فاصلة مثل الفواصل المتقدمة، فهذا و نحوه مما يراعى في الفواصل، أ لا ترى إلى قوله تعالى: وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا (5) فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (6) فزيدت الألف لا للبدل من التنوين إذ لا تنوين مع الألف و اللام، و إنما ذلك للتوفقة بينهما و بين الفواصل التي قبلهما و بعدهما نحو: تقتيلا و تبديلا و قريبا و سعيرا و بصيرا و بعدهما: كبيرا و وجيها و سديدا و عظيما.

الآية الثالثة و العشرون من الأعراف

قوله تعالى: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (7) و قال في سورة الشعراء مثله و قال في سورة طه: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (8).

للسائل أن يسأل فيقول: لم كررت «رب» في السورتين، و لم تكرر في سورة طه إنما قال: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى

ص: 128


1- سورة: الأعراف، الآية: 115.
2- الآية: 65.
3- سورة: الشعراء، الآية: 46.
4- سورة: طه، الآية: 70.
5- سورة: الأحزاب، الآية: 66.
6- سورة: الأحزاب، الآية: 67.
7- سورة: الشعراء، الآيتان: 47 و 48.
8- سورة: طه، الآية: 70.

الجواب أن يقال: إذا قيل: بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقد دخل فيهم موسى و هارون و هما دعوا إلى رب العالمين لما قالا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) إلا أنه ذكر في السورتين رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ ليدل بتخصيصهما بعد العموم على تصديقهما بما جاءا به عليهما الصلاة و السّلام عن اللّه تعالى، فكأنه قيل: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ و هو الذي يدعو إليه موسى و هارون، و أما في سورة طه فلم يذكر: بِرَبِّ الْعالَمِينَ؛ لأنه ما كان الكلام يتم به آية كما تم في السورتين فيكون مقطع الآية فاصلة مخالفة للفواصل التي بنيت عليها فواصل سورة طه فقال تعالى: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى و ربهما هو رب العالمين، و كان القصد حكاية المعنى لا أداء اللفظ على جهته بما دللنا عليه قبل.

الآية الرابعة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ (2) و قال في سورة طه (3) و الشعراء (4): قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.

للسائل أن يسأل عن موضعين من هذه الآية:

أحدهما: إظهاره اسم فرعون لعنه اللّه في سورة الأعراف في هذا اللفظ و إضماره له في مثله من سورتي طه و الشعراء.

و الثاني: قوله آمَنْتُمْ بِهِ و قال في الموضعين الآخرين: آمَنْتُمْ لَهُ. و وجه اختلافهما.

الجواب عن الموضع الأول: و هو إظهار الاسم في سورة الأعراف و إضماره فيما سواها: أن الذكر العائد إلى فرعون بعد في سورة الأعراف؛ لأنه جاء في الآية العاشرة من الآية التي أضمر فيها ذكره و هي قوله: قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (5) و جاء في الآية العاشرة من هذه السورة قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ و لم يبعد هذا الذكر في الآيتين اللتين في سورة طه و الشعراء؛ لأن فرعون مذكور في سورة طه في جملة قومه الذين أخبر عنهم بقوله: قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (6) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ

ص: 129


1- سورة: الشعراء، الآية: 16.
2- سورة: الأعراف، الآية: 123.
3- الآية: 71.
4- الآية: 49.
5- سورة: الأعراف، الآية: 114.
6- سورة: طه، الآية: 57.

وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (1) و هذا خطابه لفرعون و قومه و ضميرهم منطو على ضميره إلى قوله: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا (2) بذكر في قوله: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ إنما هو في السابع من الآي التي جرى ذكره فيها و كذلك في سورة الشعراء لم يبعد الذكر بعده في سورة الأعراف، أ لا ترى أن آخر ما ذكر فيما اتصل بهذه الآية قوله تعالى: قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (3) و ذكره بعد ذلك في الآية الثامنة من الآية التي جرى ذكره فيها، فلما بعد الذكر في سورة الأعراف خلاف بعده في السورتين إذ كان في إحداهما في السابعة و في الأخرى في الثامنة و هي في الأعراف في العاشرة أعيد ذكره الظاهر لذلك.

الجواب عن السؤال الثاني و هو قوله: آمَنْتُمْ بِهِ في سورة الأعراف و آمَنْتُمْ لَهُ في السورتين الأخريين: هو أن الهاء في آمَنْتُمْ بِهِ غير الهاء في آمَنْتُمْ لَهُ و كل واحدة تعود إلى غير ما تعود إليه الأخرى؛ فالتي في آمَنْتُمْ بِهِ لرب العالمين لأنه تعالى حكى عنهم قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (4) و هو الذي دعا إليه موسى عليه السّلام.

و أما الهاء في آمَنْتُمْ لَهُ فلموسى عليه السّلام و الدليل على ذلك أنها جاءت في السورتين و بعدها في كل واحدة منهما: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (5) فالهاء في «إنه» هي التي في آمَنْتُمْ لَهُ و لا خلاف أن هذه لموسى عليه السّلام و الذي جاء بعد قوله:

آمَنْتُمْ بِهِ قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ (6) أي: إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان برب العالمين وقع على تواطؤ منكم أخفيتموه لتستولوا على العباد و البلاد، و يجوز أن يكون الهاء في آمَنْتُمْ بِهِ ضمير موسى عليه السّلام؛ لأنه يجوز أن يقال: آمن بالرسول أي: أظهرتم تصديقه و أقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه و هذا لمكر مكرتموه و سر أسررتموه لتقلبوا الناس عليّ، فاقتضى هذا الموضع الذي ذكر فيه المكر إنكار الإيمان به، فأما الإيمان له في الموضعين الآخرين فاللام تفيد معنى الإيمان من أجله و من أجل ما أتى به من الآيات، فكأنه قال: آمنتم برب العالمين لأجل ما ظهر لكم على يدي موسى عليه السّلام من آياته، و في الموضع الذي ذكر فيه من أجله و عبر عنه باللام هو الموضع الذي قصد فيه إلى الإخبار بأنه كبيركم الذي علمكم السحر، فلذلك خص باللام و الأول خص بالباء، و قد تدل اللام على الإتباع فيكون المعنى: اتبعتموه لأنه كبيركم في عمل السحر و قد يؤمن بالخبر من لا يعمل عليه و لا يتبع الداعي إليه.

ص: 130


1- سورة: طه، الآيتان: 60- 61.
2- سورة: طه، الآية: 64.
3- سورة: الشعراء، الآية: 42.
4- سورة: الشعراء، الآية: 47.
5- سورة: طه، الآية: 71.
6- سورة: الأعراف، الآية: 123.

الآية الخامسة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (1) و قال في سورة طه (2): إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ و قال في سورة الشعراء (3): إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ.

للسائل أن يسأل فيقول: قال في الأعراف: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و لم يقل في طه، و لم أدخل الفاء في قوله: فَلَأُقَطِّعَنَّ و أما في سورة الشعراء فإنه أتى بسوف تعلمون مع اللام فقال: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فما وجه اختلاف هذه و اختصاص بعض بمكان دون غيره؟

الجواب أن يقال: إن قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من الوعيد المبهم المعرض به أي: فعلت بجهل ما تعرف من بعد نتيجته و طرحت بذر شر عند حصده تعلم نهايته، و هذا النوع من الوعيد أبلغ من الإفصاح بعذره على أنه قد قرن إليه بيانه و هو لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآية فنطق القرآن بحكاية التعريض بالوعيد و الإفصاح بالتهديد معا ..

فأما اختصاص سورة الشعراء بقوله: «فلسوف» و زيادة اللام فلتقريب ما خوفهم به من اطلاعه عليهم و قربه منهم حتى كأنه في الحال موجودا، و اللام للحال و الجمع بينها و بين «سوف» التي للاستقبال، إنما هو لتحقيق الفعل و إدنائه من الوقوع كما قال تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (4) فجمع بين اللام و بين يوم القيامة كما جمع بينها و بين «سوف» على ما قاله تعالى: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (5) .. و قد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصا لأحوال موسى عليه السّلام في بعثه و ابتداء أمره و انتهاء حاله مع عدوه، فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له المحقق وقوعه إلى اللفظ المفصح بمعناه، ثم وقع الاقتصار في السورة التي لم يقصد فيها من اقتصاص الحال ما قصد في سورة الشعراء على ذكر نقص ما في موضع البسط و الشرح و هو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به .. فأما في سورة طه فإنه اقتصر فيها على التصريح بما أوعدهم به و ترك فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و قال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ إلا أنه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها و يقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من ابتدائها إلى حين انتهائها و هو قوله بعده: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (6) فاللام و النون في «لتعلمن» للقسم و هما لتحقيق الفعل و توكيده

ص: 131


1- سورة: الأعراف، الآية: 123.
2- الآية: 71.
3- الآية: 49.
4- سورة: النحل، الآية: 124.
5- سورة: النحل، الآية: 77.
6- سورة: طه، الآية: 71.

كما أتى باللام في قوله: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لإدناء الفعل و تقريبه فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحالين من إعلاء الحق و إزهاق الباطل.

الآية السادسة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (1) و قال في السورتين طه (2) و الشعراء (3):

وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ بالواو.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص ما في سورة الأعراف بثم و الأخريين بالواو.

الجواب أن يقال: إن السورتين اللتين جاءت الواو فيهما بهذا اللفظ منهما هما المبنيتان على الاقتصاص الأكثر و البسط الأوسع و الواو أشبه بهذا المعنى؛ لأنه يجوز أن يكون ما بعدها ملاصقا لما قبلها كالتعقيب الذي يفاد بالفاء، و يجوز أن يكون متراخيا عنه كالمهلة التي يفاد بثم، لا بل يجوز أن يكون ما بعدها مقدما على ما قبلها و مجامعا لها إذ هي موضوعة للجمع و لا ترتيب فيها فكانت الواو أشبه بهذين المكانين، «و ثم» تختص بأحد المواضع التي يصلح الواو لجميعها فلما كانت مقتصرا بها على بعض ما وضعت له الواو و استعملت حيث اختصرت الحال فاقترن بكل من المكانين ما كان أليق بالمقصود فيه، فلذلك خصت «ثم» في سورة الأعراف و الواو في السورتين الأخريين و اللّه أعلم.

الآية السابعة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (4) و قال في سورة الشعراء (5): قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ.

للسائل أن يسأل: عن زيادة قوله لا ضَيْرَ على ما ذكر في سورة الأعراف و اختصاص تلك بها دون هذه.

الجواب أن يقال: إنهم قابلوا وعيده بما يهونه و يزيل ألمه من انتقالهم إلى ثواب

ص: 132


1- سورة: الأعراف، الآية: 124.
2- الآية: 71.
3- الآية: 49.
4- سورة: الأعراف، الآية: 125.
5- الآية: 50.

ربهم مع المتحقق من منقلب معذبهم، فجاء في سورة الشعراء و هي التي قصد بها الاقتصاص الأكبر لا ضَيْرَ أي: لا ضرر علينا فإن منقلبنا إلى جزاء ربنا فننعم أبدا و تعذب أنت أبدا، فالضرر الذي تحاول إنزاله بنا يكون بك نازلا و عليك مقيما و نحن نألم ساعة لا يعتد بها مع دوام النعيم بعدها فكأنه لم يلحقنا ضرر، و في سورة الأعراف وقع الاقتصار على قوله: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ و فيه كفاية و إبانة عن هذا المعنى و دلالة نبأ على ما قصد فيها مما بين و شرح فيما سواها.

الآية الثامنة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ (1) و قال في سورة يونس (2): وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.

للسائل أن يسأل عن الآيتين و تقديم النفع على الضرر في الأولى و تأخيره عنه في الأخرى، و هل ذلك لفائدة أوجبت في الاختيار تقديم المقدم و تأخير المؤخر؟.

الجواب أن يقال: إن الأولى بعد قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (3) و بعده: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3) فكان معنى قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا (4): لا أملك تعجيل ثواب و لا عقاب لها إلا ما ملكنيه اللّه فلا أملك إلا ما ملكت، و لا أعلم إلا ما علمت، و الذي تسألون عنه أخفى الغيوب و أنا لا أعلم منها ما هو أقرب إلى رجم الظنون فكيف ما يخص به علام الغيوب؟ و لو علمت الغيب لاستكثرت في السنة المخصبة ما يدفع كلب المجدبة و قيل: لاستكثرت من العمل الصالح الذي أتحقق أنه أرفع الأعمال عند اللّه تعالى درجة لأن من علم الغيب و عرف الأفضل عند اللّه لم يتركه إلى ما هو دونه و قوله: وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ (5) أي: ما بي من جنون كما زعم المشركون و قيل: الفقر لاستكثاري من الخير الذي يتدارك به الفقر عند شدة الزمان، و أما الآية في سورة يونس فإنها فيما كان يستعجله

ص: 133


1- سورة: الأعراف، الآيتان: 187- 188.
2- الآيتان: 48، 49.
3- سورة: الأعراف، الآية: 187.
4- سورة: الأعراف، الآية: 188.

الكفار من عذاب اللّه تعالى و قبلها: وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (1) أي: إن أريناك بعض ما نتوعد به هؤلاء الكفار من العذاب في عاجل الدنيا حتى تراه نازلا بهم في حياتك أو أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك و وفاتهم فإن ذلك لا يفوتهم؛ لأن مرجعهم إلى حيث يجازي فيه العباد، و لا يملك بعضهم أمر بعض، و يقول الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ما وعدكم اللّه من هذا العذاب و لا أن أدفع عنكم سوء العقاب كما لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إلا ما شاء اللّه أن يملكنيه منهما، فتقديم «ضر» على «نفع» في هذه الآية بخروجها على ذكر العذاب الذي قال اللّه تعالى فيه بعدها: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (2) إن اللفظة التي تزاوج لفظة الضر هي لفظة النفع و معناها في أنه لا يملك إلا ما يملك اللّه منه عباده واحد، فلذلك أتبع ذكره ذكره.

الآية التاسعة و العشرون من سورة الأعراف

قوله تعالى: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3) و قال في سورة حم السجدة (4): وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف سَمِيعٌ عَلِيمٌ على لفظ النكرة، و في سورة حم السجدة معرفتين بالألف و اللام مؤكدتين بهو؟

الجواب أن يقال: إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة أو أسماء مأخوذة من الأفعال من نحو قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (5) و بعده يخلقون و ينصرون و يبصرون و الجاهلين، فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل أعني النكرة و كان المعنى: استعذ باللّه إنه يسمع استعاذتك و يعلم استخارتك، و التي في سورة حم السجدة قبلها فواصل يسلك بها طريق الأسماء و هي ما في قوله تعالى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (6) فقوله: وَلِيٌّ حَمِيمٌ ليس من

ص: 134


1- سورة: يونس، الآية: 46.
2- سورة: يونس، الآية: 51.
3- سورة: الأعراف، الآية: 200.
4- الآية: 36.
5- سورة: الأعراف، الآية: 190.
6- سورة: فصلت، الآيتان: 34، 35.

الأسماء التي يراد بها الأفعال، و كذلك قوله: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (1) ليس في الحظ معنى فعل فأخرج سَمِيعٌ عَلِيمٌ بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل، فكأنه قال: إنه هو الذي لا يخفى عليه مسموع و لا معلوم فليس القصد الإخبار عن الفعل كما كان في الأولى: إنه يسمع الدعاء و يعلم الإخلاص فهذا فرق ما بين المكانين.

انقضت سورة الأعراف عن تسع و عشرين آية فيها ثمان و ثلاثون مسألة.

ص: 135


1- سورة: القصص، الآية: 79.

8- سورة الأنفال

اشارة

قد مر في سورة البقرة و آل عمران من الآيات التي تشبه الآيات التي من هذه السورة، و هي الآية التي نذكرها فيها قد سبقت نظيرتها في سورة الأعراف فذكرناها في هذا المكان و كرهنا إخلاء هذه السورة من تخصيصها بما خصصنا به أمثالها.

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (1) و قال في سورة الأعراف (2):

فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: إن الخبر في الموضعين عن الكفار فما بال أحدهما اختص بقوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ و الآخر اختص بقوله: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟

الجواب أن يقال: إن التي في سورة الأعراف خبر عن قوم ذكروا قبل هذه الآية في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ (3) أي: حظهم من العذاب المكتوب عليهم بقدر ما كسبوه من سيئات الأعمال حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم أي: يستوفونهم من بين غيرهم ليسوقوهم إلى النار، و هذا عن الحسن، و بين ذلك بعده بقوله: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (4) فأخبر أن أخراهم تسأل اللّه أن يضعف العذاب على أولاهم لأنهم ضلوا و أضلوا فيستحقون العقاب على قدر الاكتساب، فلذلك طلبوا أن يكون عذابهم ضعف عذاب هؤلاء لإثمهم فيما كسبوا بضلالهم في أنفسهم و إثمهم فيما اكتسبوا من

ص: 136


1- سورة: الأنفال، الآية: 35.
2- الآية: 39.
3- سورة: الأعراف، الآية: 37.
4- سورة: الأعراف، الآية: 38.

إضلال غيرهم، و قالت أولاهم لأخراهم: فما كان لكم علينا من فضل، أي: أنتم مثلنا في الضلال لم يكن لكم علينا فضل في تركه أو التقلل منه: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: يقول اللّه تعالى ذلك: فذوقوا العذاب بقدر ما كنتم تكسبون، فهذا موضع يقتضي ذكر الاكتساب و ما يجب على قدره من العقاب .. و أما قوله في هذه السورة في ذكر الكفار الذين قال اللّه تعالى فيهم: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً (1) أي: صفيرا و تصفيقا لم تكن صلاتهم تسبيحا و تمجيدا و خضوعا للّه تعالى كما يفعل المؤمنون فيقال لهم في الآخرة: ذوقوا العذاب بكفركم، و لم تتقدم هذه الآية ما يوجب قدرا من العذاب دون قدر حتى يقال: ذوقوا من العذاب بقدر كسبكم له كما كان في الآية الأولى و إنما ذكر كفرهم من حيث قال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2) و ذلك كله في كفار قريش، فلذلك جاء فيه: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ دون بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.

الآية الثانية من هذه السورة

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (3) و قال في سورة براءة (4): الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي قدم له في الآية الأولى ذكر «أموالهم و أنفسهم» على قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم ماله قدم ذكر فِي سَبِيلِ اللَّهِ في سورة براءة على ذكر «أموالهم و أنفسهم»؟

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في سورة الأنفال عقيب ما أنكره اللّه تعالى على من قال لهم: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (5) و هم أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم لما أسروا المشركين و لم يقتلوهم طمعا في الفداء فقال اللّه تعالى:

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (6) أي: فيما أخذتم من

ص: 137


1- سورة: الأنفال، الآية: 35.
2- سورة: الأنفال، الآيتان: 33 و 34.
3- سورة: الأنفال، الآية: 72.
4- الآية: 20.
5- سورة: الأنفال، الآية: 67.
6- سورة: الأنفال، الآية: 68.

هؤلاء الأسرى من الفداء، ثم قال اللّه تعالى لما غفر لهم ما كان منهم من ترك القتل إلى الأسر فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً (1). أي: استمتعوا بما نلتم من أموال المشركين و بما أخذتم من فدائهم، فعقب ذلك بهذه الآية التي مدح فيها من أنفق أمواله في سبيل اللّه لا من يجاهد طلبا للنفع العاجل فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقدم بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ على قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليعلموا أن ذلك يجب أن يكون أهم لهم و أولى بتقديمه عندهم صرفا لهم عما حرصوا عليه من فائدة الفداء، و لم تكن كذلك الآية التي في سورة براءة؛ لأنها بعد ما يوجب تقديم قوله في سبيل اللّه على ذكر المال؛ لأنه قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ (2) ثم قال في إبطال ما أتى به المشركون من عمارة المسجد الحرام و سقاية الحاج مع المقام على الكفر أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ (3) فكان المندوب إليه في هذه الآية بعد الإيمان باللّه الجهاد في سبيله فقال بعده مادحا لمن تلقى بالطاعة أمره الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (4) ثم ذكر بأموالهم و أنفسهم لما قدم ذكر ما اقتضى الموضع تقديمه و أن يجعل أهم إليهم من غيره، فخالف هذا المكان قوله في سورة الأنفال فقدم فيه ما أخر هناك فاعلمه و باللّه التوفيق.

انقضت سورة الأنفال عن آيتين و مسألتين.

ص: 138


1- سورة: الأنفال، الآية: 69.
2- سورة: التوبة، الآية: 16.
3- سورة: التوبة، الآية: 19.
4- سورة: التوبة، الآية: 20.

9- سورة التوبة

الآية الأولى منها

قوله عز و جلّ: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (1) بعد قوله: أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ و قال بعده: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ بعد قوله: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ (2) الآية و قال في هذه السورة: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ موصولا بقوله: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (3).

للسائل أن يسأل: عن تخصيص بعض هذه المواضع ب «الظالمين» و بعضها ب «الفاسقين» و بعضها ب «الكافرين» و هل ذاك لمعنى يخصه؟

الجواب: أن يقال: «الظالمون» في الآية الأولى المراد بهم: مشركو العرب الذين قاموا بسقاية الحاج و أنفقوا على المسجد الحرام رجاء الثواب مع المقام على الكفر و العصيان فهم لأنفسهم بالكفر ظالمون و بعملهم الذي يؤملون الانتفاع به مع مصامّة الكفر واضعون الشي ء غير موضعه، فلما فعل هؤلاء المشركون ذلك و كان كل مشرك ظالما و كل من وضع شيئا في غير موضعه ظالما، و إنما يكون غير ظالم إذا أنفق في حال الإسلام على المسلمين من الحجاج دون الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء و تصدية، عبر عنهم بالظالمين لانطواء هذه الصفة على الكفر و على المعنى الزائد بتضييع المال في حال الشرك و المعنى: لا يهديهم إلى نيل الثواب الذي له ينفقون و بسببه يعمرون و لا يدلهم على ثمرة ما يؤملون .. و أما الموضع الثاني و هو: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإنه تحذير لمن

ص: 139


1- سورة: التوبة، الآية: 19.
2- سورة: التوبة، الآية: 24.
3- سورة: التوبة، الآية: 37.

قال فيهم من المسلمين: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ (1) فعرفهم أن من آثر مراعاة هذه الأبواب التي عدها على طاعة اللّه التي أوجبها من الجهاد في سبيله فليتربص نازل عقاب اللّه به، و أنه بفعله ذلك من جملة الفاسقين و أن حكمه حكمهم و اللّه لا يهديهم إلى ما أعده للمؤمنين من الثواب لتعرضهم بمخالفة أمر اللّه تعالى للعقاب، فكان ذكر الفاسقين أليق بهذا المكان .. و أما الموضع الثالث و هو: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه بعد قوله في وصف الكفار:

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً (2) و هو ما كان بعض العرب يأتيه من تحليل بعض الأشهر الحرم و تحريم بدله من الشهر الذي ليس بمحرم ليوفي عدة الأربعة فيكون في ذلك تحريم ما حلله اللّه و تحليل ما حرمه، فأخبر اللّه تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم ثم عقبه بوصفهم بأنه لا يهديهم فكان أحق الأوصاف في هذا المكان لفظة «الكافرين» التي اقتضاها المعنى و الذكر المتقدم في مكانين من الآية و اللّه أعلم.

الآية الثانية من سورة التوبة

قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (3) و قال في سورة الصف (4): يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: قال اللّه تعالى في الآية الأولى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ و قال في الثانية: لِيُطْفِؤُا فما الذي أوجب اختصاص الأولى بما اختصت به و الثانية باللام دون أن تكون مثل الأولى بأن و هي الأصل في تعدي الإرادة إليه؟

الجواب أن يقال: إن الإرادة في الآية الأولى تعلقت بإطفاء نور اللّه بأفواههم، و إطفاء نور اللّه إنما هو بما حاولوه من دفع الحق بالباطل و الحق يسمى: نور اللّه؛ لأن حججه و براهينه تضي ء لطالبه فيهتدي بها إليه و الباطل هو قولهم بأفواههم و هو ما أخبر اللّه تعالى به قبل عن اليهود و النصارى

ص: 140


1- سورة: التوبة، الآية: 24.
2- سورة: التوبة، الآية: 37.
3- سورة: التوبة، الآية: 32.
4- الآية: 8.

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ (1) أي: هو قول لا حقيقة له و لا محصول و بمثله لا يدفع الحق و بالأفواه لا يطفأ هذا النور كما يطفأ السراج؛ لأن هذا النور و إن أشبهه في أنه يهدي و يبين الحق من الباطل فهو بخلافه في الامتناع من الإطفاء كما يتهيأ ذلك في السراج، و النور يجوز أن تكون الآية المنيرة و الحجة الساطعة و يجوز أن يكون المراد به القرآن و يجوز أن يكون المراد به النبي صلّى اللّه عليه و سلم كما قال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (2) فالسراج المنير يسمى:

نورا و كل واحد من الثلاثة إذا دفعوه جاز أن يقال: حاولوا إطفاءه و الخبر عن اليهود و النصارى الذين قال تعالى فيهم: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا (3) من قبل أن يشاكلوا بإثباتهم للّه ابنا و شريكا قول من أثبت مع اللّه آلهة وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (4) و هذا واضح و تعدي الإرادة إلى هذا المراد ظاهر و هو وجه الكلام و الأصل.

فأما الآية في سورة الصف و تعليق الإرادة فيها بالإطفاء مع زيادة الكفر فإن للنحويين في ذلك مذهبين أحدهما: أن اللام توضع موضع «إن» لكثرة ما يقال: زرتك لتكرمني فاللام لما شهرت بنيابتها عن «أن» و قيامها مقامها في الموقع كان تعدي الفعل إليها مع ما بعدها من الفعل كتعديه إلى «أن» و ما يتضمنه من المستقبل فيقال: قصدت أن تفرح، و قصدت لتفرح و هذا لا يكون إلا على سبيل التوسع دون الحقيقة، فأما المذهب الآخر فللمحققين و هو أن الفعل تعدى إلى مفعول محذوف و اللام الداخلة على الفعل المنصوب تكون مبينة عن العلة التي لها أنشئ الفعل و اللام في الآية على هذا التحقيق، و هو أن المراد: يريدون أن يكذبوا ليطفئوا نور اللّه بأفواههم، لأن قبلها وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ (5) فقوله: يُرِيدُونَ لم يذكر مفعول ما يريدونه اعتمادا على ما نبه عليه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فكأنه قيل: يريدون افتراء الكذب ليطفئوا نور اللّه و على هذا قوله:

أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل عاديّ نمته ثمود

أي: أردت أن أنزع سراويلي ليعلم الناس إذا رأوا طولها أنها على عادي القامة

ص: 141


1- سورة: التوبة، الآية: 30.
2- سورة: الأحزاب، الآيتان: 45، 46.
3- سورة: التوبة، الآية: 30.
4- سورة: التوبة، الآية: 31.
5- سورة: الصف، الآية: 7.

ثمودي الخلقة، فلهذا خصت الآية الثانية بدخول اللام على «يطفئوا» و لما كان المراد في الآية الأولى الإطفاء بالأفواه لما دل عليه مفتتح العشر و هو: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ كانت الإرادة معداة إلى إطفاء نور اللّه بأفواههم و هو ما حكى اللّه تعالى عنهم أنه قولهم بأفواههم أي:

يريدون أن يدفعوا الحق بالباطل من أفواههم و هذا واضح.

الآية الثالثة من سورة التوبة

قوله تعالى: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ (1) و قال في موضعين آخرين من هذه السورة: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (2) و بعدها: وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (3).

للسائل أن يسأل: عن الفرق بين هذه الأماكن حتى أعيد في الأول حرف الجر مع المعطوف و لم يعد في المكانين الآخرين.

الجواب أن يقال: لما كان الأول فيه إيجاب بعد نفي صار الخبر أوكد و إلى إمارة التوكيد أحوج أ لا ترى أن قوله: ما زيد إلا فاضل أوكد من قولك: زيد فاضل، و كذلك:

ما زيد إلا قائم أوكد من قولك: زيد قائم، فلما كان كذلك احتاج في المعطوف على قوله «باللّه» إلى توكيد لم يحتج إليه في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ إذ ليس واحد من الموضعين الآخرين متضمنا إيجابا بعد نفي كما تضمنه قوله: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (4) الآية و قال بعده:وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ

ص: 142


1- سورة: التوبة، الآية: 54.
2- سورة: التوبة، الآية: 80.
3- سورة: التوبة، الآية: 84.
4- سورة: التوبة، الآيتان: 54، 55.

وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (1).

للسائل أن يسأل في الآيتين عن أربع مسائل:

أولها: قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ بالفاء في الآية الأولى و قوله: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ في الآية الثانية.

و المسألة الثانية: تكرار «لا» في قوله: وَ لا أَوْلادُهُمْ و تركه في قوله: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ.

الثالثة: قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ باللام و قال في الآية الأخرى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ.

المسألة الرابعة: قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا في الآية الأولى و في الآخرة فِي الدُّنْيا من غير ذكر الحياة الموصوفة بها.

الجواب: عن المسألة الأولى في الفاء و الواو و مجي ء أول الآية على فَلا تُعْجِبْكَ و الآخر على وَ لا تُعْجِبْكَ و هو أن قبل الفاء قوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ (2) فأخبر عن المنافقين بما يقصدونه بأفعالهم التي يوقعونها في حالهم و استقبالهم على معنى: أن يكسلوك عن الصلاة و تتكرهوا الصدقات فإن اللّه ليس يجازيهم بما يسرهم من أموالهم و أولادهم، بل يعجل ذلك عذابا لهم مدة بقائهم بما ينالهم من النقص في الأموال مما أباح منه للمسلمين بالقتال، و ما يصيبهم في الأولاد من السبي و الاستعباد، ثم عند الفراق يكون الألم على قدر محبة الأحباب، هذا سوى سوء الانقلاب و ما أعد لهم من العذاب ليوم المآب، فلما كان الفعل الذي قبل الفاء بمعنى الشرط صار ما بعدها في موضع الجزاء فخصت بالفاء لذلك، أما الآية التي دخلتها الواو فإن قبلها أفعالا ماضية كقوله: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (3) و هذه الأفعال بمضيها و انقطاعها لا تكون شرطا فتعقب بالفاء التي تدل على الجزاء، فعطفت الآية بعدها على ما قبلها بالواو لبطلان المعنى الذي يقتضي الفاء، أ لا ترى أنه قال: وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ و لا يشترط فعل من قد مات فيعقب بذكر الجزاء، فلذلك اختلفا في الواو و الفاء.

ص: 143


1- سورة: التوبة، الآية: 85.
2- سورة: التوبة، الآية: 54.
3- سورة: التوبة، الآية: 84.

الجواب عن المسألة الثانية: و هي توكيد قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ بلا في قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ و تعرية الثانية منها حيث قال: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ هو أن الذي أنبأ عن معنى الشرط في الفعل الأول و هو: وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ بنى على أوكد ما تبنى عليه الأخبار من الإيجاب بعد النفي، فلما علقت الجملة الثانية به تعليق الجزاء بالشرط اقتضت من التوكيد ما قصد به مثله في الأول فكان ذاك أن وكد معنى النهي بتكرير «لا» في قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ و أما الآية الثانية فهي مخالفة للأولى في هذا المعنى؛ لأنه لا شرط ينطوي عليه الفعل الذي قبلها كما انطوى عليه الفعل الذي قبل الفاء و لم يتضمن أيضا من التوكيد المقتضي بناء ما يتعلق به عليه فخلا من الدواعي إلى التوكيد فلم يكرر فيه «لا» لذلك.

الجواب عن المسألة الثالثة: و هي وصل الإرادة باللام في الأول حيث قال:

لِيُعَذِّبَهُمْ بِها و وصلها بأن في الثانية حيث قال: أَنْ يُعَذِّبَهُمْ هو أن الأولى معناها:

إنما يريد اللّه أن يزيد في نعمائهم بالأموال و الأولاد ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، فمفعول الإرادة محذوف و اللام لام الصيرورة، و الآية الأخيرة مخالفة للأولى في ذلك؛ لأنها في الإخبار عن قوم قد ماتوا و انقرضوا على النفاق، فلم تتضمن الآية مفعولا و هو أن يزيد في نعمائهم لانقطاع الزيادة بالموت عنهم، فعديت الإرادة إلى ما آل إليه حالهم من تعذيبهم فصار المعنى: إنما يريد اللّه في حال إنعامه عليهم تعذيبهم به في الدنيا، ففرق بين الخبرين إذ كان أحدهما خبرا عن قوم معرضين لزيادة إنعام اللّه عليهم و الآخر خبرا عمن انقطعت أعمالهم و بلغت نعمة اللّه عليهم غاية لا مزيد فيها لهم و اللّه يريد تعذيبهم بذلك بعد كفرهم و مقامهم على نفاقهم.

الجواب عن المسألة الرابعة و هي: قوله في الأولى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجعل الدنيا صفة للحياة و قوله في الأخيرة فِي الدُّنْيا فأغنى بذكر الصفة عن ذكر الموصوف:

هو أن الثانية لما كانت بعد الأولى و قد نبه فيها على الموصوف كان في ذكره هناك غنى عن ذكره في هذا المكان لا سيما و الدنيا كاسم علم للحياة الأولى و الدار الدنيا فأغنى كل ذلك عن ذكر الحياة و الإتيان بالموصوف و هذه حال الصفة.

ص: 144

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (1) و قال بعد العشر الذي يلي هذه العشر: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (2).

للسائل أن يسأل هنا عن مسألتين:

إحداهما: قوله في الأولى وَ طُبِعَ بفعل ما لم يسم فاعله و في الثانية سمى فاعله بقوله: وَ طَبَعَ اللَّهُ.

و المسألة الثانية: قوله في الأولى: فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ و في الأخرى:

فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

الجواب عن المسألة الأولى أن قوله: وَ طُبِعَ في آخر آية افتتحت بقوله:

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (3) و المعنى: و إذا أنزل اللّه سورة، فلما صدرت الآية في فعل علم أن فاعله اللّه فيما لا يقتضي ذكر الفاعل بل يقام المفعول به مقامه كان مثل هذا الفعل في منتهى الآية محمولا عليه؛ لأنه معلوم أن اللّه يطبع كما علم أن اللّه ينزل السورة فكان التوفقة في ذلك بين آخر الآية و أولها الإخبار، و الآية الأخرى وقعت هذه اللفظة منها في موضع إشباع و تأكيد أ لا تراها في قوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ فجاءت «إنما» بعد نفي مكرر في قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (4) فنفى الحرج عمن قعد عن الجهاد لإحدى المعاذير التي ذكرها، ثم ألزم الحرج القوم الذين حالهم مضادة لأحوال أولئك فقال:

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي: الإثم يتوجه على من يستأذن في المقام و هو قادر على الجهاد بالغنى و اليسار و صحة الأبدان، رضوا بأن يكونوا مع النساء و الزمنى و الضعفاء و اللّه طبع على قلوبهم فهم لا

ص: 145


1- سورة: التوبة، الآيتان: 86، 87.
2- سورة: التوبة، الآية: 93.
3- سورة: التوبة، الآية: 86.
4- سورة: التوبة، الآيتان: 91 و 92.

يعلمون، فلما كان هذا الموضع موضعا يتبين فيه مضادة حالهم لأحوال غيرهم لتخالف بين أحوالهم و أحوال من فسح في القعود لهم كان موضع تنبيه و تأكيد و تخويف، و تحذير فسمى الفاعل و هو اللّه تعالى ليليق الفعل إذا جاء هذا المجي ء بمكانه.

الجواب عن المسألة الثانية هو: إن الذين ذكروا بالطول و هو الفضل في النفس و المال و القدرة على الجهاد إنما مالوا إلى الدعة و أخلدوا إلى الراحة و أشفقوا من الحر و لم يفطنوا أن الراحة في تحمل التعب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أن الدعة توجد بتحمل المشقة معه فطلبوا ما كان مطلوبهم ضده لو فقهوا له و فطنوا فكان هنا موضع يَفْقَهُونَ ... و أما الآية الأخرى و هي: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ أي العقاب متوجه على هؤلاء و هم لا يعلمون بما أعد اللّه لكل ذي عمل محق عمله ما يعلمه المؤمنون الذين يستجيبون للخروج و الذين تفيض مدامعهم إذا لم يعنهم بالركوب، فلما كان بإزائهم في الآيتين اللتين قبل ذكر من تحقق بالدين و علم الثواب و العقاب علم اليقين و خالفهم هؤلاء نفى عنهم ما أثبته لأولاء و هو العلم، فلذلك جاء في هذا المكان: فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

الآية السادسة من سورة التوبة

قوله تعالى: قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ (1) و قال بعده: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ (2).

للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان:

أحدهما: ذكره المؤمنين في الآية الأخرى و تركه في الأولى؟

و السؤال الثاني قوله في الآية الأولى: ثُمَّ تُرَدُّونَ و في الآية الثانية:

وَ سَتُرَدُّونَ و هل لاختلافهما معنى يوجبه و يخصصه بالمكان الذي يختصه؟

الجواب عن الأول: أن يقال: إن المخاطبين في الآية الأولى هم: المنافقون و المخاطبون في الثانية: هم المؤمنون؛ لأنه قال في الأولى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ و الثانية:

ص: 146


1- سورة: التوبة، الآية: 94.
2- سورة: التوبة، الآية: 105.

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (1) و بعده أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ (2) ثم قال:

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ. و إذا اختلف المخاطبون بما بينا في الآيتين كان قوله: وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ بعد قوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ معناه أن اللّه قد أخبرنا بأخباركم التي تخفونها في أنفسكم و تجاهرون بها من كان من المنافقين مثلكم و اللّه يرى ما سيكون منكم بعد و يرى رسوله باطلاع اللّه له عليه، و أعمالهم التي لأجلها يحكم عليهم بالنفاق يراها اللّه تعالى و يطلع عليها رسوله صلّى اللّه عليه و سلم و ما كل مؤمن يعلمها، فلذلك لم يقل في هذا المكان وَ الْمُؤْمِنُونَ بعد قوله: وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ.

و أما الآية الثانية فإنها فيمن أمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلم و هو الذي أوجب عليهم الصدقات بأن يقول لهم: اعملوا ما أمركم اللّه به من الطاعات كالصلوات و الصدقات فإن اللّه و رسوله و المؤمنين يرون ذلك، و هذه الأعمال مما ترى بالعين خلاف أعمال المنافقين التي تقتضي لهم النفاق لإضمارهم خلاف إظهارهم و هو مما لا يرى بالعين، و إنما يعلمه عالم الغيب، فلذلك لم يذكر المؤمنون في الأولى و ذكروا في الثانية.

الجواب عن المسألة الثانية: إن معنى قوله للمنافقين: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أي: سيعلم اللّه حقيقة عملكم و أنه عن غير صحة اعتقاد منكم و أن اعتذاركم قول بلسانكم لا يطابقه منطوى ضميركم، و هذا ظاهر بكون الجزاء عليه خلافه، ففصل بينه و بين ردهم إلى اللّه تعالى للجزاء عليه بقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ أي: عملكم يعلم اللّه من باطنه خلاف ظاهره، و قد أمرنا بالرضاء به و حقن دمائكم له، ثم إن الحكم إذا رددتم إلى اللّه تعالى في الآخرة بخلافه، فلبعد ما بين الظاهر من عملهم و ما يجازون به دخلت «ثم» و ليست كذلك الآية الأخيرة؛ لأن قبلها بعثا على عمل الخير لقوله: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ و هذا وعد و الأول وعيد و بعده «ستردون»؛ لأنه وعد مما يشاكل أفعالهم و يطابق أعمالهم من حسن الثواب و جميل الجزاء، و لم يبعد عنها كبعد جزاء المنافقين عما هو ظاهر من أعمالهم التي يراءون بها و يعلم اللّه تعالى خلافها منهم، فجرى الكلام على نسق واحد فقال: فسيرى اللّه عملكم و ستردون، و لم يدخل «ثم» التي هي للتراخي و التباعد، فاختصاص كل موضع بما اختص به من اللفظ لما ذكرنا.

ص: 147


1- سورة: التوبة، الآية: 103.
2- سورة: التوبة، الآية: 104.

الآية السابعة من سورة التوبة

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (1) و قال بعده:

وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2).

للسائل أن يسأل في ذلك عن مسألتين.

إحداهما: قوله تعالى في الآية الأولى: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ و قوله في الثانية: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ فحسب و لم يذكر عمل صالح كما ذكر في الأولى.

و المسألة الثانية: تعقيبه الأولى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ و تعقيبه الثانية بقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و وجه الاختلاف في هاتين الآيتين.

الجواب عن المسألة الأولى: هو أن في جملة ما ذكره تعالى مما أوجب لهم الأجر أشياء ليست من أعمالهم؛ لأن الظمأ ليس هو فعل الإنسان و النصب و المخمصة كذلك، فلما تضمن ما نسق بعضه على بعض ما ليس بعمل لهم و ما هو عمل لهم بقوله:

وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا (3) ألحق أجر ما ليس بعمل لهم بما هو عمل لهم فقال: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ (4) أي:

أجر عمل صالح، و ما ذكر في الثانية كله من أعمالهم و هو قوله: وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي: لا يخرجون من أموالهم ما دقّ أو جلّ و لا يقطعون في مسيرهم إلى أعدائهم واديا إلا كان ذلك محفوظا لهم معلوما مكتوبا أو كالمكتوب عند اللّه ليجزيهم عليه اللّه أحسن الجزاء، فلما كان ما في الثانية عملهم كتب على جهته لم يحتج إلى أن يكتب به عمل صالح؛ لأنه هو ... و الأول كان فيه ما ليس بعملهم فكتب به أجر مثل عملهم، فلذلك كانت الزيادة في الأولى و لم تحتج إليها الأخرى.

ص: 148


1- سورة: التوبة، الآية: 120.
2- سورة: التوبة، الآية: 121.
3- سورة: التوبة، الآية: 120.
4- سورة: التوبة، الآية: 120.

الجواب عن المسألة الثانية و هي تعقيب الأولى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ هو أن من أخبر عنه بأنه أصابه ظمأ و نصب و جوع فقد أخبر عنه بفعل غيره به و لم يخبر عنه بفعل فعله هو إلا أنه يجب له بما وصل إليه من ألم العطش و الجوع و التعب و النصب الأجر، فلذلك عقبه بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي: من أحسن طاعة اللّه و تعرض منها لما يلحقه فيه هذه الشدائد. و أما الآية الثانية و تعقيبها بقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فلأن جميع ما ذكر كان عملا لهم فوعدهم حسن الجزاء على عملهم، و ذلك ظاهر و اللّه أعلم.

انقضت سورة براءة عن سبع مواضع فيها ثلاث عشرة مسألة.

ص: 149

10- سورة يونس عليه السّلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ (1) و قال في سورة الفرقان (2): وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ.

للسائل أن يسأل عن تقديم: يَضُرُّهُمْ على: يَنْفَعُهُمْ في الآية الأولى و تقديم يَنْفَعُهُمْ على يَضُرُّهُمْ في الآية الثانية و هل صلح أحدهما مكان الآخر؟.

الجواب أن يقال: إنما قدم يَضُرُّهُمْ على يَنْفَعُهُمْ في الآية الأولى؛ لأن العبادة تقام للمعبود خوفا من العقاب أولا ثم رجاء للثواب ثانيا و قد تقدم في هذا المكان ما أوجب تقديم يَضُرُّهُمْ على يَنْفَعُهُمْ في الآية الأولى و هو قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (3) فكأنه قال: و يعبدون من دون اللّه ما لا يخافون ضررا في معصيته و لا يرجون نفعا في عبادته، و قدم ما لا يَضُرُّهُمْ على ما لا يَنْفَعُهُمْ في هذا المكان لهذا المعنى و لهذا اللفظ المتقدم .. و أما في سورة الفرقان فقد تقدمت قبلها آيات قدم فيها الأفضل على الأدون كقوله عز و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ (4) و قوله بعده: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (5) و صلة النسب أفضل من صلة المصاهرة كما أن العذب من الماء أفضل من الملح، و قال بعده وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ أي: يتكلفون المشقة بعبادة ما لا يرجونه لنفع و لا يخشونه لضر، فقدم الأفضل على الأدون لهذا المعنى و للبناء على ما تقدم من الآيات فجاء في كل موضع على ما اقتضاه ما تقدمه و صح في المعنى الذي اعتمد له.

ص: 150


1- سورة: يونس، الآية: 18.
2- الآية: 55.
3- سورة: يونس، الآية: 15.
4- سورة: الفرقان، الآية: 53.
5- سورة: الفرقان، الآية: 54.

الآية الثانية من سورة يونس

قوله تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (1) و قال في سورة المؤمن (2): وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ.

للسائل أن يسأل في هاتين الآيتين عن ثلاث مسائل:

إحداها: دخول الواو على كَذلِكَ في سورة المؤمن و خلوها منها في سورة يونس.

و الثانية قوله في الأولى: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا و في الثانية: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.

و الثالثة قوله في الأولى: أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و في الثانية أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ و عن الوجه في اختلاف ذلك.

الجواب عن المسألة الأولى و هي: ترك الواو في هذا الموضع و إثباتها في سورة المؤمن أن القصة بعد «كذلك» هي التي قبلها فهي مرتبطة بها بعودها إليها و بكاف التشبيه، فاستغنت بهذين الرباطين عن حرف العطف فهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون هم الذين خوطبوا بقوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ (3) و ليس كذلك ما في سورة المؤمن؛ لأنه و إن تعلق به و بكاف التشبيه فإنه ينقطع عنه بأن المذكورين بعد كذلك غير المذكورين قبلها، أ لا ترى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ (4) خبرا عن الذين كانوا قبل النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و ما بعد قوله: وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (5) إنما هو وعيده من في عصره عليه الصلاة و السّلام، فلما انقطع ما بعد «كذلك» هنا عما قبلها احتاج إلى الواو ما لم يحتج إليها ما في سورة يونس (6) عليه السّلام.

الجواب عن اختصاصه بقوله: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا في سورة يونس و اختصاص

ص: 151


1- سورة: يونس، الآيتان: 32، 33.
2- الآيتان: 5، 6.
3- سورة: يونس، الآية: 31.
4- سورة: غافر، الآية: 5.
5- سورة: غافر، الآية: 6.
6- الآية: 33.

ما في سورة المؤمن (1) بقوله: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فلأن الأولى في ذكر قوم أخبر عنهم بقوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فأخذ إقرارهم بأن اللّه تعالى هو الذي يرزقهم من مطر السماء و نبات الأرض و هو الذي يملك أسماعهم و أبصارهم، فإن أحب سمعوا و أبصروا، و إن لم يرد ذلك صموا و عموا، و هو الذي يخرج الحي من الميت كالفرخ من البيضة و يخرج الميت من الحي كالبيضة من الدجاجة، و إنه هو الذي يدبر أمور الخلق من ابتداء أحوالهم إلى انتهائها و كانوا ممن أخبر عنهم بقوله: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (2) فباينوا بإثبات الصانع و ما زعموه من معرفة الخالق من أنكره و جحد بآياته، و فسقوا- بأن عبدوا معه غيره و لم يثبتوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم و نبوته- الفسق الذي هو كفر لا ينتفع معه بالإقرار الأول فقال تعالى: هؤلاء الذين أقروا بالصانع و صفات فعلهم هم خرجوا عما دخلوا فيه بإنكار نبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و بعبادة آلهة مع اللّه تعالى كان ذلك فسقا لخروجهم عن حكم من يقر بما أقروا به ... و الفسق فسقان أحدهما: هو الكفر و تسميته به لهذا الوجه الذي قلناه و هو كقوله تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ (3) و الثاني: فسق ليس بكفر كقوله تعالى: وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) ليس المراد بهم الكافرين، فأخبر عن هؤلاء بالذين فسقوا في سورة يونس كذلك .. و أما في سورة المؤمن فإنه لم يتقدمه مثل ما تقدم هنا بل قال تعالى قبله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ (5) فأخبر عن الكفار الذين في عصرهم بأنهم كفروا بمجادلتهم في آيات اللّه فشبههم بالقوم الذين مضوا قبلهم حيث قال: وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ثم قال تعالى: وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ فلما أراد الذين قدم ذكرهم في أول القصة و هم الذين أخبر عنهم بقوله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (5) كان أن يصفهم بما وصفهم به قبل من الكفر أولى و أدل على أن المعنيين بوجوب النار لهم هم الذين قدم ذكرهم.

الجواب عن المسألة الثانية و هي قوله: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) و قوله في سورة المؤمن أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ فلأنه

ص: 152


1- الآية: 6.
2- سورة: الزمر، الآية: 3.
3- سورة: السجدة، الآية: 20.
4- سورة: النور، الآية: 4.
5- سورة: غافر، الآيتان: 4، 5.
6- سورة: يونس، الآية: 33.

تعالى أراد أن يبين أنهم و إن أقروا باللّه تعالى و أثبتوه خالقا قادرا صانعا غير مؤمنين، و ما داموا يعبدون غيره لا يؤمنون، فالقصد إلى إبطال ما بذلوه بألسنتهم من الإقرار بخالقهم، و القصد في الآية التي في سورة المؤمن توعدهم على كفرهم بالنار إذ لم يتقدم ذكر إقرار يشبه إقرار المؤمنين فيبطل بتركهم سائر ما أمر اللّه تعالى به.

الآية الثالثة من سورة يونس

قوله تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) و قال بعده في العشر التي تلي هذه العشر: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ (2) و قال بعده في هذه العشر: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا (3).

للسائل أن يسأل في ذلك عن مسائل:

إحداها: لما ذا كان في الآية الأولى «ما في السموات و الأرض» و في الثانية «من في السموات و من في الأرض»؟ و هل صلح «من» في الآية الأولى «و ما» في الثانية.

و المسألة الثانية: ما الذي دعا إلى التوكيد في «من» حتى أعيدت في قوله:

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ و لم تعد «ما» في الآية الأولى عند ذكر الأرض؟

و المسألة الثالثة: عما دعا إلى تكرير «ما» في قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و لم يكررها في الآية الأولى في قوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و لم يقل: و ما فى الأرض.

الجواب عن المسألة الأولى: و اختصاص «ما» حيث اختصت و اختصاص «من» حيث اختصت هو أن الأولى جاءت بعد قوله: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ (4) فكان المعنى: أن النفس الظالمة إذا رأت عذاب اللّه لو ملكت جميع ما في الأرض لبذلته فداء نفسها، و هي تحرص على اليسير من حطامها في ظلم أهلها، فكرر

ص: 153


1- سورة: يونس، الآية: 55.
2- سورة: يونس، الآية: 66.
3- سورة: يونس، الآية: 68.
4- سورة: يونس، الآية: 54.

على ذلك بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: النفس الظالمة لا تملك ما في الأرض فتفتدي به و لو ملكته لما قبل في فدائها و كيف يكون لها ذلك و اللّه مالك ما في السموات و الأرض و ليس للعبد ذلك و لا محله هنالك، فوجب لهذا المكان ما لقوله:

ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المراد تقايس ما في الأرض مما ملكه اللّه العباد. و أما الموضع الذي ذكر فيه من فلم يصح فيه غيرها؛ لأن قبله وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (1) و المعنى: لا يحزنك ما يتوعدك به الكفار من القتل و أنواع المكروه فإن القدرة للّه تعالى و هو لا يمنح الكفار قدرة على ما يريدونه منك بل يعطيك العزة عليهم و الغلبة لهم فإنه يملك من في السموات و من في الأرض و لا قوة لهم إلا به و لا قدرة لهم إلا من عنده فاقتضى هذا المكان «من» كما رأيت.

الجواب عن المسألة الثانية و السبب في إعادة «من» فيها و ترك إعادة «ما» في الآية الأولى فقال: وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ و قال هناك: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و لم يقل: و ما في الأرض فهو لأن المقصود بالذكر هو أنه قادر على أن يكفي النبي صلّى اللّه عليه و سلم أمره هو و من في الأرض من الكفار الذين بعث إليهم و خوفوه أذاهم، فقرن إلى ذكرهم ذكر من في السموات و هم أكبر شأنا و أعظم أمرا، فإذا ملكوا كان من دونهم أدون، فإعادة «من» مع ذكر الأرض للتوكيد الذي اقتضاه القصد إلى ذكرهم، و أما حذف «ما» في الآية الأولى عند ذكر الأرض فلأن ذكره قد تقدم و هو وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ (2)، فلما قال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كان ذكر ما في الأرض هناك و رجوع هذا إلى ذلك المعنى مثل ذكره في هذا الموضع فأغنى ذلك عن التكرير.

الجواب عن المسألة الثالثة و هي تكرير ما في قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مع حذفها من الآية الأولى هو أن قبله قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ. فنزه نفسه عن الولد، و أخبر أنه غني عما يجتلب باتخاذه و يستفاد بمكانه إذ كان مالكا لكل ما في السموات و ما في الأرض، فكان الموضع موضع تأكيد، فكأنه قال: إذا كان له كل ما في السموات و كل ما في الأرض فلما ذا يتخذ الولد؟ و لا يجوز عليه اجتلاب مسرة و انتفاع به؛ لأنه الغني بنفسه تعالى، فإعادة «ما» في هذا المكان لهذا الضرب من التوكيد أي: هو غني لا يحتاج إلى

ص: 154


1- سورة: يونس، الآيتان: 65 و 66.
2- سورة: يونس، الآية: 54.

ولد يعينه على شي ء في السموات و هو مالك له كله، و لا أن يعينه في شي ء ما في الأرض و هو مالك له بأسره، فلما توكد الكلام في مثل هذا المكان جاءت «ما» معادة لهذا الشأن و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) و قال في سورة النمل (2) في آخرها: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص هذا المكان «بالمؤمنين» و اختصاص آخر سورة النمل «بالمسلمين».

الجواب: إن قبل هذه الآية في سورة يونس قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (3) فقال بعده: و أمرت أن أكون منهم، أما في سورة النمل (4) فإن قبل هذه الآية منها وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ فكأنه قال: أمرت أن أكون ممن إذا سمع بآياته آمن بها و كان من المسلمين الذين مدحوا بأن النبي صلّى اللّه عليه و سلم يسمعهم، أي: ينتفعون بما يستمعونه منه، فلما تقاربت اللفظتان و كانتا تستعملان لمعنى واحد حملت كل واحدة منهما على اللفظ الذي تقدمها و لائمها.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (5) و قال في سورة النمل (6): فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف الموضعين و قوله في الأولى: وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما

ص: 155


1- سورة: يونس، الآية: 104.
2- الآية: 91.
3- سورة: يونس، الآية: 103.
4- الآية: 81.
5- سورة: يونس، الآية: 108.
6- الآية: 92.

يَضِلُّ عَلَيْها و في الثانية: وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ.

الجواب أن يقال: أما الآية الأولى فإنه لما قال فيها: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: منفعة اهتدائه له و هي دوام النعمة و الخلود في الجنة و اقتضى هذا في الضلال ضده فقال: و من ضل فإنما ضرر ضلاله عليه و هو دوام العقاب بأليم العذاب، و ما أنا عليكم بوكيل و ما يلزمني أن أقيكم ما لا تقونه أنفسكم، كالوكيل الذي يلزمه حفظ ما و كل به مما يضره، و أما الآية التي في آخر سورة النمل فإنها عدل بها عند ذكر الضلال عما حملت عليه في الآية التي في آخر سورة يونس لتحمل على الفواصل التي قبلها و هي مختومة بالواو و النون أو الياء و النون فقال تعالى: وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: ممن يعلمكم ما يلزمكم أن تحذروه و يخوفكم ما يجب عليكم أن تجتنبوه، فاشتمل هذا على معنى: «و من ضل فإنما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل»؛ لأن في قوله تعالى: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها تخويفا و إنذارا و فيه إذا قال: إنما أنا ممن ينذر أي: لست ممن يكره على ما يحميكم من النار و يقيكم حر العقاب كالوكيل الذي يحامي على ما و كل به أن يناله ضرر مثل: وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فجاء على لفظ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتكون الفاصلة مشاكلة للفواصل قبلها مع تأدية مثل المعنى الذي أدته الآية التي شابهتها.

انقضت سورة يونس عن خمس آيات فيها تسع مسائل، فذلك إلى هذه الغاية مائة و آيتان تشتمل على مائة و تسعة و ثلاثين مسألة و اللّه سبحانه و تعالى الموفق.

ص: 156

11- سورة هود عليه السّلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (1) و قال في سورة النحل (2): لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ.

للسائل أن يسأل: عما خصص كل واحد من اللفظين بمكانه دون الآخر.

الجواب أن يقال: الآية التي في سورة هود قد تقدمها قوله: وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (3) و إنما قال: يضاعف لهم العذاب؛ لأنه خبر عن قوم أخبر عنهم بالفعل الذي استحقوا به مضاعفة العذاب في قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (4) فإذا صدورهم عن الدين صدودا و صدوا غيرهم عنه صدا استحقوا تضعيف العذاب؛ لأنهم ضلوا و أضلوا فهذا موجب الأخسرين دون الخاسرين من طريق المعنى، و هاهنا ما يضاهيه من طريق اللفظ و هو أن ما قبله من الفواصل يُبْصِرُونَ (3) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (5) فما قبل الواو و النون متحركان لا يعتمدان على ألف قبلهما، و «الخاسرون» ليس قبل نونه و واوه متحركان مستندان إلى مدة قبلهما فاجتماع المعنى الذي ذكرنا و التوفقة بين الفواصل التي بينا أوجبا اختيار «الأخسرين» في هذا الموضع على «الخاسرين». و أما التي في سورة النحل فإنها في آية لم يخبر فيها عن الكفار بأنهم مع ضلالهم أضلوا من سواهم و إنما قال فيهم: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (6) فلم

ص: 157


1- سورة: هود، الآية: 22.
2- الآية: 109.
3- سورة: هود، الآية: 20.
4- سورة: هود، الآية: 19.
5- سورة: هود، الآية: 21.
6- سورة: النحل، الآية: 107.

يذكر ما يوجب مضاعفة العذاب، ثم كانت الفواصل التي حملت هذه عليها على وزن «الكافرين» و «الغافلين» فاقتضى هذان الشيئان أن يقال: «هم الخاسرون» كما اقتضى الشيئان في الأولى المخالفان للشيئين هنا أن يقال: «الأخسرون».

الآية الثانية من سورة هود

قوله تعالى في قصة نوح: قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (1) و قال في قصة صالح عليه السّلام في هذه السورة: قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً (2).

للسائل أن يسأل: عن مخاطبة النبيين نوح و صالح عليهم السّلام قوميهما باللفظين اللذين تساويا إلا فيما اختلفا فيه من تقديم المفعول الثاني في الآية الأولى على الجار و المجرور و تأخيره عنهما في الآية الثانية.

الجواب أن يقال: إن المعنيين واحد في الموضعين و قولاهما سواء للأمتين، و إنما اختلفا باختيار اللّه في موضع خبرا قدم فيه المفعول الثاني على الجار و المجرور لإجراء هذا الفعل و مفعوليه على ما جرى عليه الفعل الذي قبله و هو ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا (3) ف «بشرا» مفعول ثان من «نراك» و قوله: وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ (3) في موضع المفعول الثاني من نراك ثم بعده بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (4) فلما تقدمت أفعال ثلاثة كل واحد منها يتعدى إلى مفعولين و المفعول الثاني منها لا يحجزه عن الأول معمول فيه، كان إجراء هذا الفعل الذي هو وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ مجرى تلك الأفعال التي وقعت «آتاني» في جوابها و جاءت من كلام نوح عليه السّلام في مقابلتها أولى، و أما في قصة صالح عليه السّلام فإنه بإزاء قول قومه له يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا (5) فوقع خبر كان الذي هو كالمفعول لكان، و قد تقدمه الجار و المجرور فجرى جواب صالح عليه السّلام فيما صار عبارة عنه من العربية مجرى الابتداء في هذا المعنى، فترجح في هذا المكان تقديم الجار و المجرور في قوله: وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً على المفعول الثاني كما ترجح هناك تقديم المفعول الثاني على الجار و المجرور و كل جائز إلا أن كلامنا في الترجيح في الموضعين و في هذا القدر كفاية.

ص: 158


1- سورة: هود، الآية: 28.
2- سورة: هود، الآية: 63.
3- سورة: هود، الآية: 27.
4- سورة: هود، الآية: 27.
5- سورة: هود، الآية: 62.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى في قصة هود عليه السّلام و ذكر قومه: وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (1) و قال في قصة موسى عليه السّلام في هذه السورة و إرساله إلى فرعون و ملئه: وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (2).

للسائل أن يسأل: عن حذف «الدنيا» من الآية الثانية و إثباتها في الأولى و هل كان يجوز في الاختيار عكس ذلك؟

الجواب: أن الأولى أتى فيها بالموصوف و الصفة جميعا و هو الأصل الأول، ثم الاكتفاء بالصفة عن الموصوف بعده لقيام الدلالة على الموصوف، فيجوز لذلك حذفه و إقامة الصفة مقامه، و لما جاءت الآيتان في سورة واحدة وفيت الأولى ما هو أولى بها من الإجراء على الأصل و الإتيان بالموصوف و الوصف فقال تعالى في هذه «الدنيا» و اكتفى في الثانية لما قامت الدلالة على الموصوف بالصفة وحدها فقال: وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً.

الآية الرابعة من سورة هود

قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (3) و قال في سورة إبراهيم (4) عليه السّلام: وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.

للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ على الأصل مِمَّا تَدْعُونا بنون واحدة، و قال في الثانية: وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ على التخفيف فحذف إحدى النونات و هي المتوسطة، ثم جاء بعده تَدْعُونَنا بنونين؟

الجواب أن يقال: أما «تدعونا» في الأولى «و تدعوننا» في الثانية فلا يصح مكانهما

ص: 159


1- سورة: هود، الآية: 60.
2- سورة: هود، الآية: 99.
3- سورة: هود، الآية: 62.
4- الآية: 9.

غيرهما، فلا يجوز في الأولى إلا نون واحدة و لا يجوز في الثانية إلا نونان اثنتان؛ لأن الأولى خطاب لصالح عليه السّلام و النون مع الألف ضمير المتكلم، و تدعو فعل واحد لا نون فيه، و ليس كذلك «تدعوننا» في الثانية؛ لأنه خطاب للرسل و هم جماعة، و لا يقال لهم في حال الجمع إلا «تدعوننا» عند الرفع و لا تسقط النون إلا لناصب أو جازم نحو: لن تدعونا أو لم تدعونا، فأما إذا وقعت خطاب الجماعة لم تكن إلا «تدعوننا» و هذا من مبادئ هذا العلم و أما «إننا» في الأولى «و إنا» في الثانية مع جواز اللفظتين في كل مكان فلأن الضمير الذي دخلت عليه «إن» في هذا المكان هو على لفظ ضمير المنصوب المتصل بالفعل في قوله: أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ و ضمير المنصوب إذا اتصل بالفعل لم يغير له آخره كما يغير إذا اتصل به ضمير المرفوع نحو: ضربنا تسكن الباء لاتصال ضمير الفاعلين بها و لا تسكنها لاتصال ضمير المفعولين بها إذا قلت: ضربنا، فلما أشبه المنصوب بأن المنصوب في ضربنا و لم ينازعه شبه الفاعل سلم لفظ «إن» عند اتصالها به و لم يلحقه حذف، و لما كانت «إنا» في سورة إبراهيم- و إن كانت منصوبة- مشبهة للفظ الفاعل إذا قلت: ضربنا بكونها على لفظها و بوقوعها موقع المرفوع المبتدأ و بأن هذا اللفظ المتقدم عليها في الآية التي قبلها هو ضمير المرفوع خلاف ما تقدم الآية في سورة هود و هو قوله: كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ و قبل ذلك ضمير مرفوع على غير هذا اللفظ للذين لهم هذا اللفظ و هو الواو في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ (1) ثم قوله تعالى: إِنَّا كَفَرْنا حذفت منه النون تشبيها للضمير بعدها بالضمير المرفوع بعد الفعل، فكما أن الفعل يلحقه حذف حركة عند اتصال هذا الضمير به و كان الضمير الذي يحذف من «أن» النون حذفت ليقتضي لفظها عند اتصاله بما هو كالضمير المرفوع لفظا و معنى و موقعا حملا على ما تقدم، كما يكون عليه إذا لم يواصله و جاءت «تدعوننا» على مقتضى الإعراب الواجب لها بنونين، فهذا فرق ما بين الموضعين.

الآية الخامسة من سورة هود

قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (2) و قال في هذه السورة في قصة شعيب عليه السّلام:وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا

ص: 160


1- سورة: إبراهيم، الآية: 9.
2- سورة: هود، الآية: 67.

نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (1).

للسائل أن يسأل عن اختلاف الفعلين في اتصال علامة التأنيث بأحدهما و سقوطها من الآخر مع أن الفاعل في الموضعين شي ء واحد و هو «الصيحة» مع أن الحاجز بين الفعل و الفاعل في المكانين حاجز واحد و هو «الذين ظلموا».

الجواب أن يقال: إن مثل هذا إذا جاء في كلام العرب سهل الكلام فيه؛ لأنه يقال: حمل على المعنى، و الصيحة بمعنى الصياح كما أن قول الشاعر:

يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت

حمل على المعنى، إذ الصوت بمعنى الصيحة، غير أن السؤال الذي بنيت عليه الآيات لازم، و هو أن يقال: فهل كان يجوز مكان «أخذت» «أخذ» في القرآن؟ و هل لتخصيص قصة شعيب ب «أخذت» فائدة ليست لها في قصة صالح عليه السّلام؟

الجواب عن هذا الموضع هو أن يقال: إن اللّه تعالى أخبر عن العذاب الذي أهلك به قوم شعيب عليه السّلام بثلاثة ألفاظ منها الرجفة في سورة الأعراف (2) في قوله: وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا و ذكر ذلك قبله في مكان آخر و منها الصيحة في سورة هود (3) في قوله تعالى: وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ و منها الظلة في سورة الشعراء (4) في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ و في التفسير أن هذه الثلاث جمعت لهم لإهلاكهم واحدة بعد أخرى؛ لأن الرجفة بدأت بهم فانزعجوا لها عن الكن إلى البراح، فلما أصحروا نال منهم حر الشمس و ظهرت لهم ظلة تبادروا إليها، و هي سحابة سكنوا إلى روح تحت ظلها، فجاءتهم الصيحة فهمدوا لها، فلما اجتمعت ثلاث أشياء مؤنثة الألفاظ في العبارة عن العذاب الذي أهلكوا به غلب التأنيث في هذا المكان على المكان الذي لم تتوال فيه هذه المؤنثات، فلذلك جاء في قصة شعيب وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ.

ص: 161


1- سورة: هود، الآية: 94.
2- الآيات: 90- 92.
3- الآيتان: 94 و 95.
4- الآية: 189.

الآية السادسة من سورة هود

قوله تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (1).

للسائل أن يسأل عن صرف ثمود في قوله تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ و منعه الصرف بعد قوله تعالى: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ و هل كان يجوز أن يمنع الصرف اللفظ الأول و يصرف اللفظ الثاني؟

الجواب أن يقال: الأول بالصرف أولى و الثاني الامتناع منه أحق؛ لأنه في الأول ينحى به نحو الأب و الأقربين من أولاده إذ كان أولهم في الكفر، و إذا قصد هذا القصد انصرف الاسم، و في الثاني قصد ذكر الإهلاك و كان للقبيلة بأسرها لما أصرت عليه من كفرها فنحى نحو القبيلة منع الصرف للتعريف و التأنيث الحاصلين فيما خرج عن أخف الأصول، أ لا ترى إلى قوله تعالى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (2) فالكفر من أولهم و الإهلاك قصد به ذكر كلهم فكان معنى القبيلة به أولى و باللّه تعالى التوفيق.

الآية السابعة منها

قوله تعالى: قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ (3) و قال في سورة الحجر (4): فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ.

للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان .. أحدهما: أن يقول أنه استثنى في سورة هود من قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ و لم يستثن ذلك في سورة الحجر .. و الثاني قوله تعالى في سورة الحجر: وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ و تركه في سورة هود.

الجواب عن المسألة الأولى: أن الاستثناء في سورة الحجر أغنى عنه قوله تعالى فيما حكى عن الرسل: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ

ص: 162


1- الآية: 68.
2- سورة: هود، الآية: 95.
3- سورة: هود، الآية: 81.
4- الآية: 65.

أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (1) فهذا الاستثناء الذي لم يقع مثله في سورة هود أغنى عن الاستثناء من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.

و الجواب عن المسألة الثانية أن يقال: إنه لما اقتص في هذه السورة بعض ما اقتص في الأخرى فذكر أن الرسل قالوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ و المعنى:

لن يصلوا إليك و إلى المؤمنين من أهلك قيد ذلك من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ بأن أمروه بإخراج أهله من بين أظهرهم ليلا من غير أن يعرج أحد منهم على شي ء خلفه يعوقه عن المضي إلى حيث ما أمر به، و لما قال في سورة الحجر: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ إخبارا عن الرسل أنهم خاطبوا إبراهيم عليه السّلام به، ثم أخبر عن مخاطبتهم لوطا في هذه السورة بما يضاهي قولهم لإبراهيم عليه السّلام أردفوا قولهم له فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقولهم: وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ؛ لأنه إذا ساقهم و كان من ورائهم كان تحقيقا لخبرهم أنهم منجوهم أجمعين فزيد وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ لتجاوب مخاطبتهم لإبراهيم عليه السّلام بسببه.

الآية الثامنة من سورة هود

حكم هذه الآية أن يكون ذكرها في سورة الأعراف ثم لما تأخرت وجب أن تذكر في سورة العنكبوت، إلا أنا رأيناها تتعلق بهذه السورة فذكرناها فيها و هي قوله تعالى:

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ (2) و كذلك قال تعالى في سورة الأعراف (3): وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ و مثله في سورة العنكبوت (4) يخالفه بزيادة الفاء و هي قوله: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ففي كل القرآن وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ و في سورة العنكبوت خصوصا فَقالَ.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص هذا المكان بالفاء و خلو المكانين قبله منها.

الجواب أن يقال: إن مفتتح قصص الأنبياء عليهم السّلام في سورة الأعراف قوله:لَقَدْ

ص: 163


1- سورة: الحجر، الآيات: 58- 60.
2- سورة: هود، الآية: 84.
3- سورة: الأعراف، الآية: 85.
4- سورة: العنكبوت، الآية: 36.

أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (1) و بعده: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً (2) و بعده: وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً (3) و بعده: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً و كذلك في سورة هود على هذا النسق إلا أن قصة نوح مفتتحة بالواو: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (4) و هي في سورة الأعراف بلا واو، و قد ذكرنا السبب في ذلك، فلما تساوت هذه المعطوفات مع المعطوف عليها الأول فكان الفعل المضمر للمعطوف مثل المظهر أولا في التعلق بالمرسل و المرسل إليهم كعاد المرسل إليهم هود، و كثمود المرسل إليهم صالح، و كمدين المرسل إليهم شعيب عليه السّلام، جرى الجميع مجرى واحدا فكان التقدير: و لقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، و أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، و أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا، و لم يعترض بين القصص ما أضمر فيه خلاف ما أظهر قبل و هو: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و كان الأمر في ذلك في سورة العنكبوت مخالفا له بعض المخالفة؛ لأنه افتتحت القصة بقوله:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً (5)، و جاءت بعدها قصة إبراهيم و لوط عليهم السّلام فلم يجريا على الفعل الأول في التعلق بالمرسل و المرسل إليهم كما كان ذلك في قصة هود و صالح عليهما السّلام في السورتين بل جاء بعد قوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قوله: وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ (6) و قوله:

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (7)، و لم يكن المعطوف على قصة نوح عليه السّلام في هذه السورة مثل المعطوف عليها فيما تقدم من سورة الأعراف و هود، و لم يتعد الفعل المضمر تعدي الفعل المظهر، و كان جائزا أن يكون المعنى: و اذكر إبراهيم إذ قال لقومه، و اذكر: لوطا إذ قال لقومه، ثم جاءت قصة شعيب فأجريت مجرى القصة الأولى التي هي قصة نوح عليه السّلام في تعدي الفعل فيها إلى المرسل و إلى المرسل إليهم، و قد تخلل ذلك ما ليس مثله من الأفعال المضمرة، فجاء وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فأقيمت فيها دلالة على أن هذه القصة مجراة مجرى القصة البعيدة عنها دون القريبة منها، و كانت الأولى يتساوى عطفها على ما قرب منها و بعد عنها لاستواء الفعل المظهر و المضمر، فكانت تلك الدلالة التي تدل على أنها مردودة على القصة الأولى أن تتلقى بما تلقيت به تلك من الفاء مع صحة المعنى، فلما كان وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ (5) قبل:وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا یَقَوْمِ

ص: 164


1- سورة: الأعراف، الآية: 59.
2- سورة: الأعراف، الآية: 65.
3- سورة: الأعراف، الآية: 73.
4- سورة: هود، الآية: 25.
5- سورة: العنكبوت، الآية: 14.
6- سورة: العنكبوت، الآية: 16.
7- سورة: الأعراف، الآية: 80.

اعْبُدُوا اللَّهَ (1) تعلق ما بعدها بها بالفاء كما كانت الفاء في قوله فَلَبِثَ فِيهِمْ لما ذكرناه.

الآية التاسعة منها

قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ (2) و قال في سورة حم المؤمن (3): وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ و قال في سورة الزخرف (4): وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.

للسائل أن يسأل: فيقول: «السلطان المبين» من آيات اللّه فلم جاء في الآيتين المتقدمتين مع ذكر الآيات ذكر السلطان المبين و لم يجي ء في الآية الأخيرة إلا الآيات وحدها؟.

الجواب أن يقال: الآيات: الإمارات التي يكتفي بها في صدق الرسول عليه السّلام و يقوم الحجة على من يبعث إليهم، و السلطان المبين: هي الحجج القاهرة التي تقهر القوم كأنواع العذاب التي أنزلت على قوم موسى عليه السّلام و كانت عند قوله فلما كان القصد في الآيتين المتقدمتين ذكر جملة أمرهم إلى منتهى حالهم من هلاك الأبد، انطوت تلك الجملة على جميع ما احتج به عليهم إلى أن زال التكليف عنهم و أخبر عن مستقرهم من العقاب الدائم عليهم، أ لا ترى الكلام في الآية الأولى في سورة هود ينساق إلى قوله: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ (5) و كذلك في الآية الثانية ينساق الكلام فيها إلى قوله: وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (6) فذكر في الآيتين جميع ما احتج به عليهم من الآيات التي سخروا بها عند رؤيتها و الآيات التي فزعوا إلى مسألته عند مشاهدتها في كشفها لقوله: وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ (7) و أما الآية الثالثة التي اقتصر فيها على ذكر «آياتنا» دون «سلطان مبين» و هي التي في سورة الزخرف: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها (8)

ص: 165


1- سورة: العنكبوت، الآية: 36.
2- سورة: هود، الآية: 96.
3- الآيتان: 23، 24.
4- الآية: 46.
5- سورة: هود، الآيتان: 97، 98.
6- سورة: غافر، الآيتان: 45، 46.
7- سورة: الأعراف، الآية: 134.
8- سورة: الزخرف، الآيتان: 46، 47.

عذاب الأخرى بل كان بعده: وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1) فاقتص ما عوملوا به حالا بعد حال إلى أن هلكوا في الدنيا حيث قال: فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ (2) ... فإن قال فقد قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (3). و لم يذكر في هذه القصة أحوالهم المنتهية بهم إلى عقاب الأبد. قلت أولا: ليست الآية على سنن الآي التي ذكرنا مما افتح بقوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ فإنها مثل الآيتين المتقدمتين في تضمنها ذكر الجملة من ابتداء أحوالهم إلى ما كان من هلاكهم لقوله: فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (4) و المهلكون في الحقيقة هم المعاقبون بالنار و الخلود فيها- نعوذ باللّه منها- فقد صار كل ما ذكر فيه مع «آياتنا و سلطان مبين» هو ما اشتمل على جملة ما عوملوا به إلى أن استقر مقرهم من عذاب اللّه الدائم عليهم، و حقيقة السلطان من السليط: و هو الزيت الذي يضي ء به السراج و السلطان الحجة؛ لأنها تضي ء فتبين الحق من الباطل، و السلطان الذي يملك الناس ضياء يدفع ظلام الظلمة عنهم إذ كانوا لو لا هو لصاروا من التغاور و التناهب في ظلام يتزايد و لا يتناقص، كأنه ضياء يجلو ظلام الدنيا، و الآيات التي جاءت بعد التوراة و العصى و اليد جاءت و قد أنارت و أوضحت عندهم الحق حتى سألوا أن يمهلوا ليؤمنوا إذ كشف عنهم ما أظلهم و إن عادوا بعد كشفه جللهم.

الآية العاشرة من سورة هود

قوله عز و جلّ: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (5) و قال في سورة القصص (6): وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ.

للسائل أن يسأل عن الفرق بين وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى و بين قوله:

وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى و كيف اختصت الآية في سورة هود بلفظ الفعل في خبر كان و الأخريان بالاسم و هو «مهلك»؟

ص: 166


1- سورة: الزخرف، الآية: 48.
2- سورة: الزخرف، الآيتان: 55، 56.
3- سورة: المؤمنون، الآيتان: 45، 46.
4- سورة: المؤمنون، الآية: 48.
5- سورة: هود، الآية: 117.
6- الآية: 59.

الجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه اللام تسمى لام الجحود و لا تخلو منه و هي تخالف لام كي بأشياء منها: أن لام كي يصح إظهار «أن» بعدها إذا قلت: جئت لتكرمني، و هذه لا يصح فيها ذلك، لا تقول: ما كنت لأن أفعل، و منها «أن» المصدر الواقع موقعه أن مع الفعل يصح اللفظ به فتقول: جئت للإكرام، و لا يصح: ما كنت للإكرام، و منها أن اللام يصح حذفها و الإتيان بأن مكانها، فتقول: جئت أن تكرمني و لا يجوز ذلك في لام الجحود، و السبب في ذلك أن لام كي تدخل على ما هو عذر في إنشاء الفعل، و يصح أن يقصد به الماضي فحسب، فتقول: جئتك أمس لتكرمني فلم تفعل، فهذا و إن كان لفظه لفظ المستقبل، فإنه بمقارنة كان صار بمعنى الماضي كما تقول: كان زيد يركب على حكاية الحال التي يستأنف فيها الركوب، و يقول القائل: جئتك اليوم لتكرمني غدا، فمتى علق بزمان لم يصح فيه الزمان الآخر، و كذلك إن كان زيد فاعلا يصلح للماضي و الحال، و على معنى أنه كان على أن يفعل في أقرب الأوقات التي يستقبلها و ليس كذلك معنى «ما كنت لأفعل»؛ لأنه مبالغة في نفي هذا الفعل في الأزمنة كلها، و المعنى: كون هذا الفعل مناف لكوني، فإذا جعل السبب في نفي هذا الحدث كون المحدث و المحدث كونه فيما مضى كونه فيما يستقبل، و فيما هو للحال، فالمعنى لم يكن فيما مضى يقع مني هذا الفعل، و لا يقع فيما يستقبل، و لا في الحال لسبب ينافي وجوده، و هو كون الفاعل، و لذلك لا يصح من الأفعال في هذا المكان غير ما يتصرف لفظه من كان، و إذا كان كذلك، و كان هذا نهاية فيما يخاطب به العرب في نفي الفعل، و امتناع وقوعه خصه اللّه تعالى بالمكان الذي لا يقع منه ذلك أبدا و لم يقع منه قط، و هو أنه لم يكن فيما مضى يهلك القرى ظالما لها مع صلاح أهلها، و لا يفعله و لا يليق بعدله، و هو يتنزه عنه تعالى اللّه عن ذلك. و أما قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (1) فإنه لم يكن فيها صريح ظلم ينسب إليه، و لم يكن ملفوظا به فيؤتى باللفظ الأبلغ في نفيه كما كان في قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ (2) .. فإن قال: فلم ادعيت أن هذا أبلغ في الانتفاء من الظلم. قلت: أول ما يستدل به أن من عرف كلام العرب يعقل من قول القائل: ما كنت لأظلمك و ما كنت لأشتمك و ما كنت لأوذيك ما لا يعقله من قوله:

ما كنت ظالما لك، و ما كنت شاتما لك، و ما كنت مؤذيا لك؛ لأن ذلك نفي الظلم و الشتم في وقت دون وقت، و إذا قال: ما كنت لأشتمك، فكأنه قال: ما كنت بضام

ص: 167


1- سورة: القصص، الآية: 59.
2- سورة: هود، الآية: 117.

كوني شتيمة لك. فيجعل كونه منافيا لشتمه ... فإن قال: فلم ذا؟ ألزم لفظة الاستقبال و النصب .. قلت: لأن التقدير: ما كنت في شي ء من الأوقات بمستقبل شتمك، و ما كان كوني بضام شتمك، و هذا مستمر أبدا بيني و بينك، فكما لم أشتمك لكوني كذلك لا أشتمك لكوني .. فإن قال: فلأي معنى لم يجز إظهار «إن» كما جاز في لام كي. قلت:

لأنها لو ظهرت لوجب أن يصح الاسم مكانها، فلما ألزمت لفظة كنت و أكون وجب أن يكون النفي الداخل عليها خبرا أن كوني ينافي أن أفعل كذا و إني كما لم أحصل في حال وجودي على استئناف شتمك، كذلك لا أحصل على هذه الصفة و هي الشروع في شتمك إذ كان وجودي هو الذي ينافيه وجب أن يحفظ لفظ المستقبل المنصوب، فلم يكن بد من إضمار «أن» .. فإن قال: فهلا جوزت حذف اللام كما كان ذلك في لام كي .. قلت:

لأن اللام شأنها يسد عن الفعل المنصوب طرق العوامل، فكأنها أقيمت مقام «أن»؛ لأن اللام لا تدخل إلا على الاسم في المعنى و هذا موضع خبر كان فحفظ لفظ الفعل لما ذكرنا و ألزم الحذف المختص بالاسم ليدل به على أن الموضع موضع الاسم فافهمه .. فإن قال: فهذا الفعل الذي حفظت له لفظ الاستقبال و النصب كيف جاز أن يراد به الأزمنة كلها و هو مختص بزمان واحد؟. قلت: هذا اللفظ يصحب «كان» في الحال، و في الاستقبال تقول: قصدت فلانا فكان يصلي تريد به الحال، و تقول: قصدته فكان قد ركب تريد به المستقبل، و لو قلت: فكان ركب لم يحسن حسنه مع «قد» التي تقرب من معنى المستقبل، وعى هذا حمل قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (1) في بعض الأقاويل فكان ذلك عائدا إلى لفظ الاستقبال و ما يجوز لقربه منه في المعنى، فلذلك صلح النفي في الأول و استمراره في المستقبل.

الآية الحادية عشرة من سورة هود

قد تأخرت عن مكانها من السورة؛ لأنها سئل عنها بعد ما أملينا ما تقدم منها فذكرناها في آخرها، لئلا تغير تراجم السائل و ترتيب الآي فيها، فإن قال قائل في قوله تعالى في سورة هود (2): وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً و في آخر السورة في قصّة شعيب:

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً (3) فعطف «لمّا» على ما قبلها بالواو، و قال في قصتي صالح و لوط: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً (4) و قال:فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا

ص: 168


1- سورة: النساء، الآية: 90.
2- الآية: 58.
3- سورة: هود، الآية: 94.
4- سورة: هود، الآية: 66.

عالِيَها سافِلَها (1) فعطف «لما» بالفاء دون الواو، و ما الفرق الذي أوجب اختلاف حرفي العطف في المواضع الأربعة من هذه السورة.

الجواب أن يقال: إن هذا الحرف في قصة هود بعد خروج من خبر عنه حكاية لقوله إلى ما هو إخبار من اللّه عما كان من فعله، أ لا تراه قال تعالى: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ (2) إلى قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً (3) أن يهلككم و يقيم غيركم مقامكم فينزل بكم أكبر الضرر، و لا تضرونه شيئا بعبادتكم غيره، ثم قال: وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (4) فلم يتقدم تخويف يقرب ما أوعدوا به ليدل على اتصال الثاني بالأول، و اقتضاء العطف بالفاء، فكان الموضع موضع الواو؛ لأن المراد الجمع بين الخبرين من دون ذكر ما يقلل الزمان بين الفعلين، و كذلك قصة شعيب لم يدل فيها على أنهم أوعدوا بعذاب قد أظلهم و قرب منهم، و إنما أخبر عز و جلّ عن شعيب عليه السّلام أنه قال لهم: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (5) فلم يتوعدهم بالاقتراب بل دعاهم إلى الارتقاب فالتخويف قارنه التسويف لقوله تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فكان الموضع موضع الواو لخروج ما قبله عما يقتضي اتصال الثاني به، و ليس كذلك الموضعان اللذان نسقا على الأول بالفاء و هما قوله تعالى في قصة صالح: فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً (6) و قوله في قصة لوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها (7) فكان ذلك بعقبه غير متراخ عنه فاقتضى الفاء التي تدل على التعقب، و اتصال ما بعدها بما قبلها من غير مهلة بينهما، و كذلك جاء في سورة العنكبوت في قصة لوط في موضعين بالواو، و هما على هذه السبيل، فالأول قوله بعد قصة لوط و قوله لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ (8) إلى قوله:رَبِّ انْصُرْنِي

ص: 169


1- سورة: هود، الآية: 82.
2- سورة: هود، الآية: 54.
3- سورة: هود، الآية: 57.
4- سورة: هود، الآية: 58.
5- سورة: هود، الآية: 93.
6- سورة: هود، الآيتان: 65، 66.
7- سورة: هود، الآيتان: 81، 82.
8- سورة: العنكبوت، الآية: 28.

عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (1) فاستنصر اللّه عليهم، و لم يتوعدهم بقرب عذاب منهم، و جاء بعده، وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى (2)، فخرج عما كان بين لوط و بين قومه إلى قصة هي بين إبراهيم و الملائكة صلوات اللّه عليهم لما أتوه بالبشرى، و بإهلاك من في قرية لوط، فنزل لوط فيما كان من محاورتهم لإبراهيم منزلة الغائب عنهم، و كان الموضع موضع الواو لاختلاف القصتين، و خلو الأولى عما يقتضي قرب ما بين الحالين، و كذلك قوله بعده: وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً (3) خبر عن مجي ء رسل اللّه عز و جلّ من الملائكة إلى لوط و ارتياعه لهم، و فزعه لمجيئهم، و كان مجيئهم إلى إبراهيم عليه السّلام مجي ء المبشرين لما قالوا: سَلاماً قالَ سَلامٌ (4) فعطفت هذه القصة على الأولى بالواو لاختلاف مورديهما، و أنه لم يكن في الأولى منهما ما يقتضي التصاق الثانية بها، فتعطف بالفاء عليها.

انقضت سورة هود عن إحدى عشرة آية، و اثنتي عشرة مسألة، فكملت مائة و إحدى و خمسين مسألة و اللّه ولي التوفيق.

ص: 170


1- سورة: العنكبوت، الآية: 30.
2- سورة: العنكبوت، الآية: 31.
3- سورة: العنكبوت، الآية: 33.
4- سورة: الذاريات، الآية: 25.

12- سورة يوسف عليه السّلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (1) و قال في سورة القصص (2) في ذكر موسى عليه السّلام: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً.

للسائل أن يسأل عن الفائدة في تخصيص موسى بذكر بلوغ الأشد و الاستواء، و إخلاء يوسف من ذلك، و هل كان يصلح أحدهما مكان الآخر أم قصد الحكمة يمنع منه؟.

الجواب: أن يقال إن بلوغ الأشد مختلف فيه قيل: هو أن يبلغ ثلاثا و ثلاثين سنة و قيل: خمسا و عشرين سنة و قيل: من عشرين سنة و إحدى و عشرين؛ لأنه يقال: إن الصبي يثغر لسبع سنين و يبلغ لسبع بعدها، و يتناهى طوله لسبع بعدها، و حجة من قال ذلك أنه قال: آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (3) فإيتاء الحكم و العلم مجازاة على إحسان كان منه، و ذلك بعد البلوغ، و قيل: إن بلوغ الأشد هو أن يحتلم، و الأشد جمع شد و هو قوي من العقل يحتمل التكليف، و يجوز أن يكون البلوغ سمي الأشد؛ لأن الغلام إذا بلغ شدت أعماله، و كتبت حسناته و سيئاته بعد أن كانت محلولة عنه غير مشدودة عليه، و قد يأتي قبل البلوغ بحسنات يجازيه اللّه عليها و قيل في قوله: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى (4) أي: أدرك و استوت لحيته، و قيل الاستواء: أن يبلغ أربعين سنة، و هو معنى بيّن في الآية الأخرى حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (5) و الذي يفرق بين

ص: 171


1- سورة: يوسف، الآية: 22.
2- الآية: 14.
3- سورة: القصص، الآية: 14.
4- سورة: القصص، الآية: 14.
5- سورة: الأحقاف، الآية: 15.

المكانين، حتى لم ينتظر بيوسف عليه السّلام الاستواء بعد بلوغ الأشد هو أن يوسف عليه السّلام أخبر اللّه تعالى عنه أنه أوحى إليه لما طرحه إخوته في الجب حيث قال: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (1) و أراه عز ذكره الرؤيا التي قصها على أبيه، و موسى عليه السّلام لم يفعل به شي ء من ذلك إلى أن بلغ الأشد و استوى؛ لأنه لم يعلم ما أريد به إلا بعد أن استأجره شعيب عليه السّلام، و مضت سنون إجارته و سار بأهله، فهناك أتاه ما أتاه من كرامة اللّه تعالى، و قيل: إنه بعد الأربعين فلم ينتظر بيوسف في إيتاء الحكم و العلم و التشريف بالوحي ما انتظر به في موسى، و الحكم هو الفصل بين المتحاكمين المبني على العلم؛ لأنه يكون بحسب ما يدعو إليه، و قيل معنى استوى: كمل جسده و تمّ طوله و عرضه، و خرج عن جملة الأحداث.

الآية الثانية من سورة يوسف

قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى (2) و قال في سورة النحل (3): وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ و قال تعالى في سورة الأنبياء (4): وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ و قوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ فرق و لأي معنى خص موضع بحذف من، و موضع بإثباتها.

الجواب: أن يقال إن «من» لابتداء الغاية، «و قبلك» اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فكأنه قال: وَ ما أَرْسَلْنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل تحديه، و يستوعب بذكر طرفيه ابتدائه و انتهائه، و إذا قال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك فهو في الاستيعاب كالأول، إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، و ضبطه بذكر الطرفين و الزمان المتقدم قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا، فأكثر ما في

ص: 172


1- سورة: يوسف، الآية: 15.
2- سورة: يوسف، الآية: 109.
3- الآية: 43.
4- الآيتان: 7 و 8.

القرآن: «و ما أرسلنا من قبلك»، و لم يجي ء بحذف «من» إلا في موضعين أحدهما هذا و الآخر وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ (1) فأما الأول فإنه حذفت منه «من» بناء على الآية المتقدمة و هي: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (2) فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي صلّى اللّه عليه و سلم المذكور في قوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ و كانت قبل إذا عريت من «من» موضوعة للزمان المتقدم كله صار بناؤه على «قبل» مذكورا كالتوكيد الواقع بمن في سائر المواضع فأما قوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإنما لم يؤكد بمن؛ لأن المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، و هي أنهم يأكلون الطعام، و ليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، و أخبر اللّه تعالى به عنهم في قوله: وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا (3) .. فإن قال فقد جاء قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (4) و القصد ذكر حال الرسول و النبي، و هو المعتمد بالخبر فأكد مع ذلك «قبلك» بمن .. قلت: القصد ب «من» في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول و ذكر حاله، أ لا تراه قال: مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ فجمعهما في نفي ما نفى عنهما إلا ما أثبته لهما بعد قوله: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فلما كان المكانان معتمدين بالخبر صح التوكيد، و كان المقصود.

الآية الثالثة من سورة يوسف

قوله عز و جلّ: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا (5) و قال في سورة الروم (6): أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ.

للسائل أن يسأل عما جاء من هذا في القرآن بالفاء، و ما منه جاء بالواو و المعنى المقتضي لكل واحد من الحرفين.

الجواب: أن يقال: كل موضع تقدم قوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فإنه في

ص: 173


1- سورة: الفرقان، الآية: 20.
2- سورة: الأنبياء، الآية: 6.
3- سورة: الفرقان، الآية: 21.
4- سورة: الحج، الآية: 52.
5- سورة: يوسف، الآية: 109.
6- الآية: 9.

موضع يقتضي الأول وقوع ما بعده بالفاء، و كل موضع تقدم أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فإنه في المواضع التي لا تقتضي الدعاء إلى السير و البعث على الاعتبار فيكون ذاك مؤديا إليه، و إنما يكون بالواو عطف جملة على جملة، و إن كانت الثانية أجنبية من الأولى فقوله في سورة يوسف: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا قبله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى (1) معناه: كان الرسل من القرى التي بعثوا إليها، فلما طغوا نزل بهم من العذاب ما بقي أثره في ديارهم من الخسف و الانقلاب، فصار معنى قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: لم يكونوا إلا رجالا أرسلوا إليهم فخالفوهم، فاعتبروا أنتم بآثارهم و مشاهدة ديارهم لتجتنبوا ما يجلب عليكم مثل حالهم، و كذلك قوله تعالى في سورة الحج (2): أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها هو بعد قوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (3) فكأنه قال: إذا كان كذا فسيروا في الأرض و اعتبروا فأما قوله في الروم: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ فإنه لم يتقدمه ما يصير هذا كالجواب عنه، إذ لم يجر ذكر حال أمة من الأمم خالفت نبيها فعوقبت على فعلها، بل الآية التي قبلها قوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (4) فكان الموضع موضع الواو، و هذا مع أنه معطوف على قوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا و هو بالواو فكان حمله على ذلك مع اقتضاء المعنى للواو، و هو الواجب، و قوله في سورة الملائكة (5):

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ لم يتقدمه ما يكون هذا كالجواب عنه، فلم يحسن إلا الواو، و لأن الآية التي قبله ليست في وصف قوم عوقبوا على مخالفة نبيهم و بقيت آثار ما نزل بهم من العذاب في منازلهم و ديارهم. و كذلك قوله في سورة المؤمن (6): وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فالآيات التي تقدمت هذا ليس فيها ما يقتضي أن يكون

ص: 174


1- سورة: يوسف، الآية: 109.
2- الآية: 46.
3- سورة: الحج، الآية: 45.
4- سورة: الروم، الآية: 8.
5- الآية: 44.
6- الآيتان: 20- 21.

هذا كالجواب له، فلذلك جاء بالواو، فأما الآية التي في آخر هذه السورة و هي: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ (1) فإن ما قبلها يقتضي الفاء أ لا ترى قوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (2) فإنه في وصف من بعث من الأنبياء و مجي ء أمر اللّه فيمن خالفهم، و كيف خسر مبطلهم .. فإن قال: فقوله في سورة محمد (3) صلّى اللّه عليه و سلم: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها لم يتقدمه ما يقتضي الفاء ...

قلت قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (4) معناه: أن أولياء اللّه منصورون، و أن الكفار مخذولون، فليعتبروا بمن تقدمهم في الكفر ليعلموا أنهم صائرون إلى مثل حالهم.

الآية الرابعة من سورة يوسف

قوله تعالى: وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (5) و قال تعالى في سورة الأعراف (6): وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ و كان حق هذه الآية أن تذكر هناك إلا أنا ذكرناها لما انتهينا إلى هذا المكان و قد تقدمت نظيرتها، و هي قوله: وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (7).

للسائل أن يسأل في الآيتين عن موضعين أحدهما: قوله تعالى في سورة الأعراف:

وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ بوصف الدار: بالآخرة، و في الآية التي في سورة يوسف أضاف الدار إلى الآخرة. و الثاني قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ هناك و في هذا المكان: خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ.

الجواب عن الأول أن قبله فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى (8) فقوله: هذا الأدنى إنما يعني: هذا المنزل الأدنى، و هو و الدار الدنيا بمعنى

ص: 175


1- سورة: غافر، الآية: 82.
2- سورة: غافر، الآية: 78.
3- الآية: 10.
4- سورة: محمد، الآيات: 7- 9.
5- سورة: يوسف، الآية: 109.
6- الآية: 169.
7- سورة: الأنعام، الآية: 32.
8- سورة: الأعراف، الآية: 169.

واحد. فلما جعل الأدنى وصفا للمنزل ذكر الدار الآخرة بعده، فجعل الدار موصوفة و الآخرة صفة لها، و كل يؤدي معنى واحدا إلا أنه يختص ببعض اللفظ دون بعض لمشاكلة ما قبله و موافقته له. فأما قوله: وَ لَدارُ الْآخِرَةِ في يوسف فإن قبله أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً (1) و الساعة هي الساعة الآخرة و هي:

القيامة، فلما ذكرت الدار أضيفت إليها، فكأنه قال: و لدار الساعة الآخرة خير، فتقدم كل آية ما كان المذكور بعده أليق به.

الجواب عن المسألة الثانية و هي قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ في سورة الأعراف و قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا في سورة يوسف: هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم و هي خاوية على عروشها، ليعلموا أن دار الآخرة خير لمن اتقى منهم، و قوله في سورة الأعراف ترهيب لليهود الذين في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و ارتشائهم على كتمان أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و ترغيب لهم فيما عند اللّه إذا صدقوا عما في كتاب اللّه عز و جلّ، و الترغيب و الترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال للذين يتقون: أَ فَلا تَعْقِلُونَ و في هاتين الآيتين مسألة ثالثة و هي إدخال اللام على «دار الآخرة» في سورة يوسف، و إخلاؤها منها في سورة الأعراف في قوله: وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.

الجواب عن ذلك أن قوله: وَ لَدارُ الْآخِرَةِ جاء بعد قوله: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و معناه: فيعلموا كيف حال من قبلهم، و أن الدار الآخرة خير لهم. فاللام هي التي تدخل على المبتدأ فتعلق الفعل، و الفعل هو: فيعلموا لدار الآخرة خير. كما تقول: علمت لزيد أفضل من عمرو، و أما قوله: وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ في سورة الأعراف، فلم يتقدمه ما يقتضي اللام بل قوله: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ (2) من غير أن يتقدمه ما يجري مجرى التوكيد، و القسم الذي يتلقى باللام.

انقضت سورة يوسف عليه السّلام، عن أربع آيات و خمس مسائل.

ص: 176


1- سورة: يوسف، الآية: 107.
2- سورة: الأعراف، الآية: 169.

13- سورة الرعد

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً (1) إلى قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (1) و قال بعده: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ (2) إلى قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (3).

للسائل أن يسأل عن قوله: يَتَفَكَّرُونَ و قوله في الآية التي بعدها:

يَعْقِلُونَ هل كان يصح أحدهما مكان الآخر؟

الجواب: أن يقال: أن التفكر هو المؤدي إلى معرفة الشي ء و العلم بالآيات التي تدل على توحيد اللّه تعالى، و هو قبل فإذا استعمل على وجهه عقل ما جعلت هذه الأشياء أمارة له و دلالة عليه، فبدأ في الأول بما يحتاج إليه أولا من التفكر و التدبر المفضيين بصاحبهما إلى إدراك المطلوب، و خص الآخر بما يستقر عليه آخر التفكر من إدراك سكون النفس إلى عرفان ما دلت الآيات عليه، فكان في تقديم ما قدم و تأخير ما أخر إشارة إليه.

ص: 177


1- سورة: الرعد، الآية: 3.
2- سورة: الرعد، الآية: 4.

14- سورة إبراهيم

الآية الأولى منها

قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ (1) و قال في سورة النمل (2): أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها.

للسائل أن يسأل فيقول: قال في هذه الآية الأولى: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و قال في الثانية: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فما الذي أوجب ذكر «لكم» في الثانية، و لم يوجبها في الأولى؟

الجواب: أن «لكم» في آخر الآية الأولى مذكورة لأنه قال: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فأغنى ذكرها هناك عن ذكرها أولا، و الآية الثانية لما لم يكن في آخرها ذكر أنه فعل ذلك لهم ذكر في أولها «لكم»؛ لأن بعدها فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، و ليست «لكم» في قوله: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها يكفي من ذكرها في أولها؛ لأنها في معنى غير معنى: خلق لكم أصناف النعم.

ص: 178


1- سورة: إبراهيم، الآية: 32.
2- الآية: 60.

15- سورة الحجر

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1) و قال في سورة ص (2): وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ.

للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان المراد باللعنة و بلعنتي شيئا واحدا، فما بال اللفظين اختلفا، فجاء في سورة الحجر بالألف و اللام، و في سورة ص مضافا، و هل يصح في الاختيار أحدهما مكان الآخر؟.

الجواب: أن يقال: إن القصة في سورة الحجر ابتدئت في المعتمد بالذكر، و هو خلق الإنسان و الجن باسم الجنس المعرف بالألف و اللام بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (3) ثم قال: ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (4)، و كان ما استحقه إبليس بترك السجود من الجزاء ما أطلق عليه اللفظ الذي ابتدئت بمثله القصة، و هو اسم الجنس المعرف بالألف باللام، و كان الأمر في سورة ص بخلاف ذلك؛ لأن أول الآية: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (5) فلم تفتتح الآية بذكر الصنفين من الجن و الإنس باللفظ المعرف بالألف و اللام كما كان في سورة الحجر، و لما كان موضع ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ جاء بدله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ، ثم قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ فجعل بدل الساجدين «أن تسجد»، ثم قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فخصصه بالإضافة إليه دون واسطة يأمره بفعله،

ص: 179


1- سورة: الحجر، الآيتان: 34، 35.
2- الآية: 78.
3- سورة: الحجر، الآية: 26.
4- سورة: الحجر، الآية: 32.
5- سورة: ص، الآيات: 71- 75.

أجرى لفظ ما استحقه من العقاب، على لفظ الإضافة كما قال: بِيَدَيَّ فقال: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي فكان الاختيار في التوفقة بين الألفاظ الذي افتتحت بها الآية، و استمرت إلى آخرها هذا.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (1).

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جمع «الآية» في القصة التي وحدها فيها بعد فقال: لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ثم قال: لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ و هل كانت «الآيات» لو ذكرت في الثانية «و الآية» لو ذكرت في الأولى مما يكون في اختيار الكلام؟

الجواب: أن يقال ذلك في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ إشارة إلى ما قص من حديث لوط، و ضيف إبراهيم، و تعرض قوم لوط لهم طمعا فيهم، و ما كان من أمرهم آخرا من إهلاك الكفار، و قلب المدينة على من فيها و إمطار الحجارة على من غاب عنها، و هذه أشياء كثيرة في كل واحد منها آية، و في جميعها آيات لمن يتوسم أي: لمن يتدبر السمة و هي: ما وسم اللّه تعالى به العاصين من عباده، ليستدلوا بها على حال من عند عن عبادته فتجنبها، و كان ذكر الآيات هاهنا أولى، و أشبه بالمعنى. و أما قوله:

وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي: تلك المدينة المقلوبة ثابتة الآثار مقيمة للنظار، فكأنها بمرأى العيون لبقاء آثارها، و هذه واحدة من تلك الآيات، فلذلك جاء عقبها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.

ص: 180


1- سورة: الحجر، الآيات: 75- 77.

16- سورة النحل

الآية الأولى منها

قوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (1).

للسائل أن يسأل عن توحيد «الآية» أولا و آخرا و عن جمعها في المتوسطة، و لم كان ذلك الاختيار و في كل ذلك آيات كثيرة، و لم عبر عنها بآية واحدة لدلالتها بمجموعها على واحد؟

الجواب أن يقال: إنما وحد في الأول؛ لأن جميع ما أخبر عنه أنه خلقه إنما هو في جنس من صنعه، و نوع من خلقه، و هو كل ما نجم من الأرض مما فيه قوت الخلق، و الذي ذكر فيه الآيات الليل و النهار و هو إظلام الجو لغروب الشمس إلى طلوع الفجر، و بدو الضياء مقدمة طلوع الشمس إلى غروبها، و الشمس و القمر النيّران اللذان في كل واحد منهما آيات كثيرة، ثم النجوم السيارة، و غيرها على ما جعل اللّه تعالى لكل واحد منها من مسير في فلك، ثم ما أجرى العادة به من إحداث ريح أو مطر عند انتهاء أحدها إلى بعض المجاري، فكان ذكر الآيات هنا أولى، و ذكر الآية في الأولى أحق؛ لأن الأولى فيما يطلع من الأرض بالماء، و كأنه جمع و جميعها شي ء واحد و الثانية بخلافها، و لذلك اختلفا. و أما الثالثة: فهي وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ المعنى و اللّه أعلم: جميع جواهر الأرض كالذهب و الفضة و الحديد و غيرها من الفكر، و التنبيه على ما جعل فيها من المنافع للخلائق، و هي كلها كالشي ء الواحد في أنها عروق جارية مختلفة في

ص: 181


1- سورة: النحل، الآيات: 11- 13.

شي ء واحد هو أمها، و هي الأرض، و لذلك قدم الإنعام بالزرع و الثمار لعلم الخاصة و العامة بما فيها من قرب النفع و امتساك الخلق، ثم عقب ذلك بما هو أصله من الهواء، و ماء السماء و الكواكب التي جعلها قواما لتربية ما به ثبات البرية، فلما صرف العقول إلى ما نصب من الأمارات في أصناف ما بثه في البر أتبعه بما سخر له من البحر.

مسألة ثانية في هذه الآيات .. فإن قال قائل: فلم قال في الأولى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و قال في الثانية: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و في الثالثة: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.

الجواب: أن التفكر أعمال النظر لتطلب فائدة، و هذه المخلوقات التي تنجم من الأرض إذا فكر فيها علم أن معظمها ليس إلا للأكل، و إن الأكل به قوام ذي الروح، و إن المنعم عليه يحتاج أن يعرف المنعم به ليقصده بشكر إحسانه، فهذا موضع تفكر بعث الناس عليه ليفضي بهم إلى المطلوب منهم، و أما تعقيب ذكر الليل و النهار و ما سخر في الهواء من الأنواء بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فلأن متدبر ذلك أعلى رتبة من متدبر ما تقدم إذ كانت المنافع المجعولة فيها أخفى و أغمض، فمن استدرك الآيات فيها استحق الوصف بما هو أعلى من رتبة المتفكر المتدبر؛ لأنه المنزلة الثانية التي تؤدي إليها الفكرة، و هو أن يعقل مطلوبه منها و يدرك فائدته منها .. و أما الآية الثالثة و هي: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فلأنه لما نبه في الأوليين على إثبات الصانع نبه في الثالثة على أنه لا شبه له مما صنع؛ لأن من رأى المخلوقات أصنافا مزدوجة مؤتلفة أو مختلفة نفى عنه صفاتها، و علم أن خالقها يخالفها، لا يشبهها و لا تشبهه، و قال في سورة ق (1): وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: فعلنا ذلك لنبصركم و لنريكم آياتنا و لنذكركم بازدواجها مخالفة صانعها كما قال: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (2) فيعلم بعد العلم بما تقدم أنه لا صاحبة له و لا ولد و لا شبه له فيما أنشأ و برأ إذا تذكر حاله فيما اتفق فيه و اختلف.

الآية الثانية من سورة النحل

قوله تعالى:وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا

ص: 182


1- الآيتان: 7- 8.
2- سورة: الذاريات، الآية: 49.

مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1) و قال في سورة الملائكة (2): وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

للسائل أن يسأل: فيقول: أية فائدة خصت في الآية الأولى أن تقدم فيها:

مَواخِرَ على قوله: فِيهِ و أن تدخل فيه الواو على: وَ لِتَبْتَغُوا و أية فائدة خصت في الآية الثانية من سورة الملائكة أن يقدم فيها قوله: فِيهِ على:

مَواخِرَ، و أن تحذف الواو من قوله: لِتَبْتَغُوا.

الجواب أن يقال: لما ذكر اللّه تعالى في سورة النحل النعم التي سخر البحر من أجلها فقال: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لكذا و كذا فعد جملا ثلاثا من نيل سمكه، و استخراج حليه و طلب فضله بركوبه. كان وجه الكلام: أن يعطف الثالثة على ما قبلها بالواو، و لأن نعمة التسخير نظمها مع ما تقدمها و المشتركات في فعل حقها أن يعطف بعضها على بعض لتستوي في تعلقها به، و اجتماعها فيه، فلما ذكر النعمتين في قوله:

لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها احتاج ذكر النعمة الثالثة في عطفها على ما تقدم إلى وصف ما عليه البحر مما وطأه اللّه منه ليتمكن منه من الثالثة، و هي ما يطلب من فضل اللّه تعالى بأنواع التجارات في البحر، و نقل الأمتعة فيه من مصر إلى مصر إلى سائر ما علق به مصالح الخلق من الأودية المفترقة على وجه الأرض فقال:

وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ؛ لأن الابتغاء من فضل اللّه بتسهيل السير فيه و لا سبيل إليه إلا بالفلك و سيرها بشق الماء يمينا و شمالا لتجري إلى الجهة المقصودة، و ليس قوله: وَ تَرَى الْفُلْكَ عطفا على «تستخرجون منه»؛ لأنه خطاب واحد و ما قبله و ما بعده خطاب جمع فهو مباين لهما في ذلك و في العامل و الإعراب، و لهذه اللفظة اختصاص إذا استعملت يقصد بها كون الشي ء على تلك الصفة التي إذا استعمله طالب رآه عليها، و ليس الضمير لواحد مخصوص معين دون غيره لكنه كقوله: يا أيها الرجل و كلكم ذلك الرجل، و كما ترى العراقي أرق طبعا من الجبلي و ترى البصري أفصح من الواسطي و كما قال الشاعر:

ترى الرجل النحيف فتزدريه ***و في أثوابه أسد هصور

ص: 183


1- سورة: النحل، الآية: 14.
2- الآية: 12.

و على هذا الوجه قوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ (1) و كقوله: وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (2) و قوله تعالى:

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ (3) و كقوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا (4) في سورتي الزمر و الحديد و كقوله:

وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (5) و الدليل على ما ذكرنا من الآية أن قبل قوله: وَ تَرَى الْفُلْكَ فعل جماعة و هو: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها و بعدها أيضا فعل جماعة و هو: وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ و المعنى في كل ذلك: أنه على هذا الوصف فمن رآه رآه عليه، و إذا كان الأمر في موقع هذه الجملة من الجملتين المتقدمة و المتأخرة على ما بينا صار ما بعدها محمولا على ما قبلها، فوجب عطف الثالثة عليه بالواو، و لأن حجزها لا يعتد به و لأن الفعل الذي هو:

سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ يقتضي إشراكه فيما دخل فيه ما قبله، و لأن مَواخِرَ قد فصل قوله: فِيهِ بينها و بين قوله: وَ لِتَبْتَغُوا فاجتماع هذه الأسباب أوجب اختيار الواو في هذا المكان في قوله: وَ لِتَبْتَغُوا و أما تقديم: مَواخِرَ في هذا المكان على قوله: فِيهِ فلقوة حكم الفعل الذي اعتد اللّه بذكره على عباده في هذه الآية؛ لأنها مصدرة بقوله: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ و إذا قوي حكم الفعل في مكان وجب أن يرتب ما يتعدى إليه على ما يقتضيه في الأصل و هو أن يقدم في الفعل المتعدي إلى مفعولين مفعوله الأول: الذي أصله أن يكون معرفة، ثم مفعوله الثاني: الذي أصله أن يكون نكرة، ثم الظرف الذي هو كالفضلة، فجاء على هذا الأصل. فأما تقديم فِيهِ في الآية الأخرى على مَواخِرَ فلأن الفعل الذي قدم فيها و عطف هذا عليه بولغ في تقديم الجار و المجرور فيه مبالغة لا مدى وراءها و لا زيادة عليها، أ لا تراهما قدما على الفعل نفسه و هو وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا فلما عرض قوله: وَ تَرَى الْفُلْكَ بعد فعل هذه صفته و قد حصل فيه مفعولان و جار و مجرور قوي تقديم الجار و المجرور فيه على أحد مفعوليه، ليعلم أنه من جملة كلام بنى الفعل فيه على تقديم الجار و المجرور عليه .. و أما حذف الواو من قوله: لِتَبْتَغُوا فلأنه لم تبن الآية على فعل يقتضي استيعاب ينسق به كما كان في قوله: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لكذا و كذا

ص: 184


1- سورة: الشورى، الآية: 22.
2- سورة: الشورى، الآيتان: 44، 45.
3- سورة: الجاثية، الآية: 28.
4- سورة: الحديد، الآية: 20.
5- سورة: الزمر، الآية: 75.

و ذكر بعضه إثر بعض ثم صارت مَواخِرَ تلي قوله: لِتَبْتَغُوا و صح تعلق الكلام بمعنى المواخر؛ لأن معناها: التي تشق الماء و تسير بأهلها، و اللّه سخرها على هذه الصفة لتبتغوا من فضله فيما جعل الطريق إليه من المنافع التي لا تنال إلا بها، و قد ذكرنا نبذا منها فلما اتصلت مَواخِرَ بقوله: لِتَبْتَغُوا و لم يحجز بينهما ظرف استغنى عن الواو لذلك، و لأنه لم يتقدم فعل بنيت عليه الآية دال على تعلقه بنعم يجب أن ينسق بعضها على بعض، كما كان في قوله: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ إذ أول هذه الآية: وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ فبان الفرق بين الموضعين فيما يختار له إثبات الواو و تركها.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (1) و قال في سورة الزمر (2): قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ و قال في سورة المؤمن (3): ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.

للسائل أن يسأل: فيقول: ما بال الآية في سورة النحل خصت وحدها بدخول اللام على قوله: لبئس فيها و إخلاء الآيتين من السورتين مما فيما قبلهما؟

الجواب أن يقال: إن الآية من هذه السورة في ذكر قوم قد ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم، و هم الذين أخبر اللّه تعالى عن أتباعهم أنهم سألوهم عن القرآن فقالوا:

ليس من عند اللّه و إنما هو أساطير الأولين، قال تبارك و تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (4) و هؤلاء أكثر الناس آثاما و أشدهم عقابا و من هذه صفته اختير عند تغليظ العقاب له إلى المبالغة في تأكيد لفظه، فاختيرت اللام هنا لذلك؛ و لأن بعدها في ذكر أهل الجنة قوله: وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (5) فاللام في «لنعم» بإزاء اللام في «لبئس»، و ليس كذلك الآيتان في سورة الزمر

ص: 185


1- سورة: النحل، الآية: 29.
2- الآية: 72.
3- الآية: 76.
4- سورة: النحل، الآيتان: 24، 25.
5- سورة: النحل، الآية: 30.

و المؤمن؛ لأنهما في ذكر جملة الكفار قال اللّه عز من قائل: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً (1) و قال في سورة المؤمن: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إلى قوله: ادْخُلُوا (2) فلما كان المذكورون في سورة النحل فيمن لزمهم وزران عن ذنوبهم التي أتوها، و عن ذنوب غيرهم التي حملوا عليها، و لم يذكر من سواهم في الآيتين الأخيرتين يحمل أثقالا مع أثقالهم حسن التوكيد هناك فضل حسن، فلذلك خص باللام.

الآية الرابعة من سورة النحل

قوله تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) و قال في سورة الروم (4): وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و قال قبلها في سورة العنكبوت (5): فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

للسائل أن يسأل: فيقول: ما بال الآية في العنكبوت وحدها خصت بقوله:

وَ لِيَتَمَتَّعُوا و جاءت الآيتان الأخريان بلفظ الأمر على معنى التهديد، و هو: فَتَمَتَّعُوا؟

الجواب أن يقال: إن الآية الأولى افتتحت بخطاب الشاهد، فأجرى قوله:

فَتَمَتَّعُوا على هذا اللفظ، و الآية الأخيرة افتتحت بالإخبار عن الغائب، و هو: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و مر سائر الأفعال في هذه الآية على ذلك، و لم يكن لها نظيرة في لفظها ترد إليها، فأجرى قوله: وَ لِيَتَمَتَّعُوا عليه، و الآية التي في سورة الروم و إن افتتحت بلفظ الإخبار عن الغائب، فإن لها في لفظها نظيرة ردت إليها، و صارت كالفرع عليها و هي قوله: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ

ص: 186


1- سورة: الزمر، الآية: 71.
2- سورة: غافر، الآيات: 70- 76.
3- سورة: النحل، الآيات: 53- 55.
4- الآيتان: 33، 34.
5- الآيتان: 65، 66.

سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (1) فهذه الآية مفتتحة بمثل ما افتتحت به تلك، إلا أن هذه الآية لواحد من الناس، و تلك للجمع فصارت كالفرع على الأولى، فكان حملها في هذه اللفظة عليها أولى و السلام.

الآية الخامسة من سورة النحل

قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (2) و قال في سورة الملائكة (3): وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.

للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: بِظُلْمِهِمْ و قوله: ما تَرَكَ عَلَيْها و عن قوله في الثانية: بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها.

الجواب أن يقال: قد تقدم في العشر التي تليها وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ الخبر عن الذين نهوا أن يتخذوا إلهين اثنين، و أن يشركوا الأصنام في عبادته، و أن يجعلوا لها نصيبا من مالهم، و يدعوا الملائكة بنات ربهم، و أن يئدوا بناتهم خوف إملاقهم، و كل ذلك من أفعالهم ظلم منهم لأنفسهم مع ظلمهم لغيرهم، فقال تعالى: و لو يؤاخذهم اللّه بما ظلموا به غيرهم و أنفسهم و أجرى حكمه على معاجلة المذنبين بعقوباتهم، لأتى ذلك على نفس كل إنسان، إذ لا أحد يعد آباءه إلا و يجد فيهم من عصى ربه، فلو اخترم من عند خطيئته لا نقطع نسله و لا طريق إلى ولد لا يصح أصله، فذكر في هذه الآية التابعة لما أخبر به عن الظالمين أنواع الظلم التي نسقها في العشر التي تقدمها، ثم قال: ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ يريد على الأرض و ذلك من الإيجاز الذي يقوم مقام الإكثار و الإظهار، تقول العرب: ما فوقها أصدق من فلان، و لا تحتها أكذب من فلان، يعنون: فوق الأرض و تحت السماء. و قوي إضمار هذا الاسم لشهرة الاستعمال فيه، و لأن المذكور مشاهد لكل متكلم يقدر على الإشارة إليه يجري مجرى «أنا» «و أنت» في صحة العلم به و الأمن من لبسه بغيره. فأما قوله في السورة الأخرى وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا و المراد: ما كسبوا من الآثام، و إن كان «كسب» يستعمل في الخير و الشر كقوله تعالى:

ص: 187


1- سورة: الزمر، الآية: 8.
2- سورة: النحل، الآية: 61.
3- الآية: 45.

لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (1) فلما حذر الإنسان بهذه اللفظة ما تجنيه يداه، و يكون هو المؤاخذ به دون من عداه، و جاء بعده ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها و المراد ظهر الأرض و لم يذكر الظهر في الآية الأولى لتقدم الظاء في المبتدأ بعد «لو»، و الظاء تعز في كلام العرب، أ لا ترى أنها ليست لأمة من الأمم سوى العرب، فلما اختصت بلغتها و تجنبت إلا فيها استعملت في الآية الأولى في المبتدأ، و استعملت في الآية الثانية في جواب ما بعد لو لهذا، و لم تجى ء في هذه السورة إلا في سبعة أحرف تكررت نحو:

الظلم و النظر و الظل و ظل وجهه و الظفر و العظيم و الوعظ، و أجريت مجرى ما استعمل من الحروف، فلم يجمع بينهما في جملتين معقودتين عقد كلام واحد، و هما ما بعد «لو» و جوابها، و حسن التأليف و قصد الحروف مراعى في الفصاحة لا يخفى على أهل البلاغة.

الآية السادسة منها

قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).

للسائل أن يسأل في هذه الآي عن ثلاث مسائل:

إحداها: عن توحيد الآية في جميعها و منها ما فيه آيات.

و الثانية: عن قوله: يَسْمَعُونَ في الأولى و يَعْقِلُونَ في الثانية و يَتَفَكَّرُونَ في الثالثة.

و الثالثة: عن قوله: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ و قال في سورة المؤمنين (3): وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها فأعاد في أحد الموضعين ذكر المذكر، و في الآخر ذكر المؤنث و اللفظان سواء، فهل كان يجوز أن يكون

ص: 188


1- سورة: البقرة، الآية: 286.
2- سورة: النحل، الآيات: 65- 69.
3- الآية: 21.

حيث أعاد الذكر مذكرا يعود مؤنثا، و حيث عاد مؤنثا يعود مذكرا؟.

المسألة الأولى يجاب عنها فيقال: لما كان المذكور في كل آية صنفا واحدا جعل ما دل منه على الصانع آية واحدة .. فإن قال: فإن في الأنعام و ثمرات النخيل و الأعناب قد جمعت و ليس جميعها صنفا واحدا، و كان على نظر قضيتك يجب في الاختيار أن يقال هنا: إن في ذلك لآيات ... قيل له إن قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ثمرات النخيل و الأعناب دون الأنعام، و ذلك صنف واحد فلذلك قال: لَآيَةً و أما الأنعام فقد أسند بذكر الآية فيها قوله في ابتداء آيتها وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً فكأنه قال: لكم فيها آية إذ الاعتبار يؤدي إليها فخلصت «إن» في ذلك للصنف الواحد من ثمر الشجر.

و أما الثالثة: فمقصود بها النخل خاصة فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.

و المسألة الثانية: يجاب عنها فيقال: إنما ذكر يسمعون في الأولى توبيخا لمن أنكر البعث و استبعد الحياة الثانية، فكأنه قيل له: إن ذلك قبل التدبر مقرر في أول العقل، حتى إن من يسمعه يعترف به، و هو أن الأرض الميتة يسقيها اللّه بماء السماء، فتعود حية بنباتها، فكذلك لا يستنكر أن يحيي الخليقة بعد موتها، و أما اختصاص الثانية بقوله:

يَعْقِلُونَ فلأنه قال: نسقيكم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ و قد علمنا أن الفرث لا ينعصر منه ما يسوغ للشارب، و أن الدم أحمر، فيحول بقدرة اللّه لبنا أبيض طيبا بعد بعده مما استحال عنه في اللون و الطيب، ففيه عبرة لمن اعتبر، و لما قرن إليه ثمرات النخيل و الأعناب و ما يتحول من عصيرهما إلى ما يستلذ، و يجلب ما يسر سوى طيب رطبها و يابسها، احتاج ذلك إلى تدبر يعقل به صنع صانع لا يقدر غيره عليه، فلذلك قال في الثانية يَعْقِلُونَ. و أما اختصاص الثالثة بقوله: يَتَفَكَّرُونَ فلأن التفكر استعمال الفكر حالا بعد حال، و في النحل عجائب من صنع اللّه تتبع كل أعجوبة أعجوبة من طاعتها لرئيسها، ثم أشكال ما تبني من بيوتها التي لو حاول الإنسان مثلها بأمثلة يحتذيها، و تقديرات يقدمها لتعذر عليه، ثم إنها تجني من أزاهير النبات و الأشجار ما هداها إليه إلهام اللّه لها و أرشدها إليه، ثم تقلس ما يجتمع في جوفها عسلا، فهذه أشياء تقتضي فكرا بعد فكر، و نظرا بعد نظر، فلذلك عقبت بقوله: يَتَفَكَّرُونَ ..

و المسألة الثالثة: يجاب عنها بأن يقال: إن الأنعام في سورة النحل و إن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها، أ لا ترى أن الدر لا يكون لجميعها، و أن اللبن لبعض إناثها، فكأنه قال: و إن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه و لهذا ذهب من ذهب إلى أنه رد إلى النعم؛ لأنه يؤدي ما تؤديه الأنعام من المعنى، و المراد و اللّه أعلم ما

ص: 189

ذكرنا بالدلالة التي بينا و ليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين (1)؛ لأنه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فأخبر عن النّعم التي في أصناف النّعم إناثها و ذكورها، فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك.

الآية السابعة من سورة النحل

قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (2) و قال في سورة الحج (3): ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.

للسائل أن يسأل فيقول: ما الفرق بين قوله: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إذا لم يكن فيه «من»، و بين قوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً و لأي معنى اختصت الآية من سورة الحج بمن، و خلت منها الآية في سورة النحل؟

الجواب: أن يقال: ذكر في سورة النحل الجملة التي فصلت في سورة الحج، و كانت لفظة «بعد» لجملة الزمان المتأخر عن الشي ء قال: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ فأجمل ما فصل في السورة الأخرى و بعده ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي: يعزب عنه في حال الهرم ما كان يعلمه قبل من الحكم، و يستدركه من الآراء المصيبة و يرتكبه من المذاهب القويمة كان هذا موضع جمل لا تفصيل معها و لا تحديد، و لم يكن كذلك الأمر في سورة الحج (4)؛ لأنه قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: أصلكم و هو آدم عليه السّلام ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أولاده ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فذكر تفصيل الأحوال و مباديها فقال من كذا و من كذا الابتداء، كل حال ينتقل منه إلى غيره، فبنى ذكر الحال التي ينتقل فيها من العلم إلى فقده على الأحوال التي تقدم ذكرها، فكما حدد أوائلها ب «من» كذلك حدد الحال الأخيرة المنتقلة عما قبلها ب «من» فقال: مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ أي: فقد العلم من بعد أن كان عالما، فباين الموضع الأول لذلك.

ص: 190


1- الآيتان: 21، 22.
2- سورة: النحل، الآية: 70.
3- الآية: 5.
4- الآية: 5.

الآية الثامنة منها

قوله تعالى: أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (1) و قال في سورة العنكبوت (2): أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الآية من سورة النحل زيد فيها هم، و خلت منها الآية من سورة العنكبوت؟

الجواب: أن يقال: إن الكلام في سورة النحل قد نقل عن الخطاب الذي يصلح لغير الكفار إلى الإخبار عنهم و هو قوله: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ (3) ثم انتقل الكلام عن الخطاب العام إلى الإخبار الخاص فقال: أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فأكد الكلام بقوله: هُمْ لئلا يتوهم أن هذا الإخبار خطاب و هو بالتاء دون الياء إذ لا فرق في الخط بينهما، و لم يكن كذلك الأمر في سورة العنكبوت؛ لأن الإخبار المستمر في الآية التي قبل هذه أغنى عما يحصره للخبر دون غيره و هو قوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (4) فترادف الإخبار عن الغيب أغنى عن توكيده بما يحصره على الخبر، و ذلك واضح لمن تدبره.

انقضت سورة النحل عن ثمان آيات و إحدى عشرة مسألة، و اللّه الموفق للصواب.

ص: 191


1- سورة: النحل، الآية: 72.
2- الآية: 67.
3- سورة: النحل، الآية: 72.
4- سورة: العنكبوت، الآيات: 65- 67.

17- سورة الإسراء

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (1) و قال في هذه السورة: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (2) و قال في سورة الكهف (3): وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف هذه الآيات في قلة لفظ الأولى و التقديم و التأخير في الثانية و الثالثة.

الجواب: أن يقال: إن الأولى جاءت بعد إخبار عن المتمردين من الكفار، و عما آل إليه أمرهم من الزمان من مبتدأ السورة، ثم عما أقامه من الدلائل النيرة، و الآيات البينة، و ما علقه من الحساب بالأهلة و آية النهار المبصرة، إلى ما حذر من حال الآخرة، و اشتمال الكتاب على ما قدم من الحسنة و السيئة و ما بعد ذلك من الأوامر و النواهي، فجاء بعد ذلك كله قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فأبهم القول ليحيط بأنواع تصاريف الكلام من الخبر و العبر و ضرب المثل، و الأمر و النهي، و الوعظ و الزجر، إذ كان فيما قبله كل ذلك.

و أما الآية الثانية فإنها جاءت بعد الأولى و بعد أمثال ضربت نحو: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (4) و بعد تخويف النبي صلّى اللّه عليه و سلم و تحذيره

ص: 192


1- سورة: الإسراء، الآية: 41.
2- سورة: الإسراء، الآية: 89.
3- الآية: 54.
4- سورة: الإسراء، الآية: 72.

كتحذير الناس كلهم إذ يقول: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ (1) إلى قوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (2) فقال بعده و قدم الناس: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ تنبيها للناس و ليهتموا بتفهمه، و يعنوا بتدبره، و يقفوا عند أوامره، و ينتهوا عن زواجره، فكان موضع الآية يقتضي تقديم الناس على عادة العرب في تقديم ما عنايتهم بذكره أتم .. و أما الثالثة: فإنها وقعت في السورة التي تقدم فيها ذكر أصحاب الكهف، و ما سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن الإخبار به مما لم يقدر عليه إلا بأن يوحى إليه، و كان جميع ذلك من خبر موسى عليه السّلام مع من وعد لقاءه، و قصة ذي القرنين بعدهما مما أودع القرآن، و تضمنه الكتاب فقال في هذا المكان: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ للدلالة على ما طلبوه من النبي صلّى اللّه عليه و سلم و ما قد أوحى اللّه به إليه في كتابه، فكان تقديم ذلك في هذا المكان أولى و اللّه أعلم.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (3) و قال بعد ذلك بآيات:

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (4) ثم قال: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (5).

للسائل أن يسأل عن اختصاص خواتم هذه الآي الأربع ثُمَّ لا تَجِدُوا، و ثُمَّ لا تَجِدُ بما خصت به و هل كان يجوز أن تكون هذه مكان تلك و تلك مكان هذه؟.

الجواب: أن يقال إن الأولى بعد قوله: أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ و هو خطاب لمن ينجيهم من ضر البحر و يسلمهم إلى البر، فيعرضون عن ذكر ما كانوا فيه من المخافة عند الأمن، و يكفرون ما أنعم به عليهم من النجاة، فقال: الذي خفتموه من عذاب اللّه في البحر لا تأمنونه في البر؛ لأن الغرق الذي خفتموه هناك بإزائه الخسف، و إرسال الرياح الحاملة للحصباء، فلا يعجزه الآن ما أمكنه إذ ذاك ثم لا تجدوا من يقوم

ص: 193


1- سورة: الإسراء، الآية: 73.
2- سورة: الإسراء، الآية: 75.
3- سورة: الإسراء، الآيتان: 68 و 69.
4- سورة: الإسراء، الآية: 75.
5- سورة: الإسراء، الآية: 86.

مقامكم و يعصمكم مما يريد إنزاله بكم، و هذا أول ما يطلبه من أشرف على هلكة لينقله إلى نجاة، و أما قوله: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى يعني: في البحر فيغرقكم بما كفرتم، ثم لا تجدوا من يتبعنا إذا أهلكناكم بمطالبة بدمائكم، أو بإنكار ما أنزلناه بكم، فالذي يلجأ إليه إذا لم يغن الوكيل في دفع الضرر و وقوع الهلكة من يتبع ذلك بإنكار و انتصار و هذا أيضا مما لا تجدونه، و أما قوله للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ أي: لأنزلنا بك عند قليل الركون إلى الكفار ضعف عذاب الدنيا و ضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك عزا تمتنع به مما نريد إحلاله بك و هذا هو النصير و كذلك قوله: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (1): لأنسيناكه و لمحونا من القلوب و الكتب ذكره ثم لا تجد من يتوكل لك برد شي ء منه إليك، لكني دبرتك بالرحمة لك فأوليتك من النعم و الألطاف ما ثبت به على الإيمان، و سلمت به من الركون إلى ما دعاك إليه أهل الشرك، و كانوا قالوا له: لا نتركك تستلم الحجر حتى تلم بآلهتنا فقال في نفسه: ما علي أن أفعل ذلك و اللّه يعلم ما في نفسي فأتمكن من استلام الحجر، و قيل: إنهم قالوا له: اطرد عنك سقاط الناس و مواليهم و الذين رائحتهم رائحة الضأن- لأنهم كانوا يلبسون الصوف- إن كنت قد أرسلت إلينا لتجلس معنا و نسمع منك، فهمّ أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم، فنزل هذا الوعيد؛ لأن اللّه أمره بغير ذلك في قوله:

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (2) و قال: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ (3) و لذلك قال: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ (4) و هذان البابان اللذان همّ بأحدهما من غير عزم منه عليه، هما غير ما أوحى اللّه إليه، فقد تبين أن خاتمة كل آية واقعة موقعها، لا يصلح سواها مكانها و اللّه أعلم.

ص: 194


1- سورة: الإسراء، الآية: 86.
2- سورة: الأنعام، الآية: 52.
3- سورة: القصص، الآية: 88.
4- سورة: الإسراء، الآية: 73.

18- سورة الكهف

الآية الأولى منها

قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (1) بالواو.

للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ بلا واو و بين قوله: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بالواو و قد سوى النحويون بين الجملة التي تجري صفة للنكرة أو حالا للمعرفة إذا كان فيها ذكر الأول في أن دخول الواو عليها، و حذفها منها جائزان، قال الزجاج: دخول الواو هاهنا، و إخراجها من الأول واحد. فإن قال السائل: هل في اختصاص سبعة و عطف الجملة عليها فائدة تختصها ليست فيما قبلها؟.

الجواب: عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقال: إن الفرقة التي قالت: كانوا ثلاثة كانت بعدها فرقتان أخريان، و كذلك الثانية: التي قالت: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و أما السبعة فانتهت عندها العدة و انقطعت بها القصة و لم يكن هناك فرقة رابعة تذكر قولا رابعا، و الشي ء إذا تم و انتهى، و كانت الجملة فيما لم ينته يتصل بالأول اتصال الشي ء منه كانت الواو فيها دليلا على انقضائها، و الآخر في كلام العرب في حكم المنقطع منها في اللفظ، و إن كان اتصالها بها في المعنى كاتصال الأولين.

و الثاني: أن السبعة لما كانت أصلا للنهاية في تركيب العدد؛ لأن أصل الجمع واحد، و الواحد فرد و التركيب بعده بأن تضم فردا إلى فرد، فيصيران زوجا فيحصل بضمهما إلى الواحد السابق ثلاثة، فرد لم يضم إليه شي ء و فرد ضم إليه فرد، ثم ضما إلى

ص: 195


1- سورة: الكهف، الآية: 22.

فرد، فحصل به ضم زوج إلى فرد، و بلغت عدة المركبات ثلاثة و بقي أن يضم زوج إلى زوج، و هو اثنان يضمان إلى اثنين فتصير أربعة فإذا ضمت الأربعة إلى الثلاثة تكاملت التركيبات، فلا ترى بعدها تركيبا خارجا عن ذلك، فصارت السبعة أصلا للمبالغة في العدد، و لهذا خصت السموات بسبع من العدد و الأرضون مثلها و الكواكب و الأسبوع و قال:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (1) و قال: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (2) و للمفسرين في ذلك جواب ثالث و هو أن العرب تقول: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة و ثمانية فإذا بلغت الثمانية لم تجرها مجرى الأخوات التي لا يعطف بعضها على بعض كما يقال في الحروف المقطعة:

ألف با تا ثا و احتجوا بآيات من القرآن كقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ (3) فعطف الناهين على ما قبله و لم تدخل واو العطف على غيره و كذلك قالوا في قوله: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها (4)؛ لأن أبواب جهنم سبعة و قال: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها (5) في أبواب الجنة لأن أبوابها ثمانية، و قالوا مثل ذلك في قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (6) و إن كان هذا مخالفا لما تقدم إذ الثيبات لا توصف بالإبكار، و كانت الواو هنا من جهة أخرى لا يجوز تركها .. قلت:

و يمكن أن ينصر هذا القول و يعضد بطريق من القياس يختص بثمانية و هو أن الياء في ثمانية و ثماني ياء النسب التي في قولك: يمان و شآم و تهام و رباع في الفرس الرباعي و كان الأصل ثماني و شآمي و تهامي و رباعي و ثماني، فقلبت إحدى الياءين ألفا و قدمت على لام الاسم و بقيت الياء الأخيرة ساكنة، و ياء النسب من خصائص الأسماء التي لا تكون في غيرها، و هي إذا دخلت على ما خرج من الاسم عن بابه كمدين و طلحة إلى باب ما لا ينصرف إعادته إلى باب الاسم، و أبطلت عنه شبه غيره الموجب لمنع الصرف، فتقول:

مداني و طلحي فتصرفه، و إن صار بالياء أثقل مما كان، فلما دخل على ثمانية ما يخصصها بباب الاسم أجريت على حكم الاسم، و أزيل عنها حكم الحروف، فعطفت على ما قبلها بالواو .. فإن قال: إن هذا يلزمك في ثلاثة؛ لأن التأنيث من خصائص الاسم .. قلت:

هذه العلامة- أعني أمارة التأنيث- تتصل بالفعل في نحو: قامت و قعدت و تتصل بالحرف

ص: 196


1- سورة: التوبة، الآية: 80.
2- سورة: الحاقة، الآية: 32.
3- سورة: التوبة، الآية: 112.
4- سورة: الزمر، الآية: 71.
5- سورة: الزمر، الآية: 73.
6- سورة: التحريم، الآية: 5.

في نحو: ربة و ثمة، فيزول عنها الاختصاص .. فإن قال: فالتثنية ليس إلا في الاسم، فوجب في قولك اثنان أن يقول: واحد و اثنان .. قيل: لا يختلف البصريون في أن الكاف من ذلك ليست اسما و هي تثنى و تجمع في قولك: ذاكما و ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (1) و ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ (2)، فيزول بما ذكرناه اختصاص ما عارض به في المختص بالاسم دون غيره.

الآية الثانية من الكهف

قوله تعالى: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (3) و قال في سورة حم (4) السجدة: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى

للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: رُدِدْتُ و قوله في الثانية: رُجِعْتُ، و هل كان يجوز إحدى اللفظتين مكان الأخرى في الاختيار؟

الجواب أن يقال: إن الأولى بقوله: رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أولى، و ذلك لما تقدم من وصف الجنتين اللتين حوتا مراده و اشتملتا على ما أراده و تقديره فيهما أنهما يدومان له، و الرد عن الشي ء يتضمن معنى كراهية للمردود تقول: قصد فلان فلانا فرد عنه، و قصد فلانا فرجع عنه، فلما كان الأول ينقل عن جنته، و هو خلاف محبته كان استعمال اللفظ الذي يدل على الكراهة فيه أولى، و الثانية لم يتقدمها مثل ما تقدم هذه لأن قبلها لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (5) و ليس في «رجع» ما في «رد» من كراهة، و هو أن يلحقان المردود، و لا يلحقان المرجوع فافترقا لذلك.

ص: 197


1- سورة: يوسف، الآية: 37.
2- سورة: الطلاق، الآية: 2.
3- سورة: الكهف، الآيتان: 35، 36.
4- سورة: فصلت، الآية: 50.
5- سورة: فصلت، الآيتان: 49 و 50.

الآية الثالثة من سورة الكهف

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ (1) و قال في سورة السجدة (2): وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.

للسائل أن يسأل: عن استعمال الفاء في سورة الكهف في قوله: فَأَعْرَضَ عَنْها و استعمال: ثُمَّ في سورة السجدة.

الجواب أن يقال: إن الفاء «و ثم» مشتركان في أن ما بعدهما في اللفظ متأخر عما قبلهما في المعنى، و مختلفان في أن الفاء قرب ما بعدها مما قبلها، و في «ثم» تراخيا عنه و بعدا، فكان استعمال الفاء في سورة الكهف أولى و استعمال «ثم» هناك أحق و أحرى، و ذلك أن ما في سورة الكهف في ذكر قوم يستدعون إلى الإيمان، و لم تختم أعمالهم بالكفر لقوله تعالى: وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (3) فكأنهم عقبوا التذكير بآيات اللّه الإعراض و قبولهم للدين و إقبالهم عليه مرجوان منهم، و ليس كذلك قوله: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها الآية في وصف الكفار بعد موافاتهم القيامة لقوله: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (4) إلى قوله:

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها (5) أي: ذكر مدة عمره بآيات ربه، و تطاول الأمر بزجره و وعظه، ثم ختم ذلك بترك القبول، و بالإعراض، فكان هذا قولا يقال فيهم عند الانتقام منهم كما حكى في قولهم: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (6) و قد بان بما ذكرنا أن «ثم» هنا مكانها، و الفاء هناك مكانها.

الآية الرابعة من سورة الكهف

قوله تعالى في الحكاية عن موسى عليه السّلام لما خرق الخضر عليه السّلام السفينة: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (7) و لما قتل الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (8).

ص: 198


1- سورة: الكهف، الآية: 57.
2- سورة: السجدة، الآية: 22.
3- سورة: الكهف، الآية: 56.
4- سورة: السجدة، الآية: 12.
5- سورة: السجدة، الآيتان: 21 و 22.
6- سورة: السجدة، الآية: 12.
7- سورة: الكهف، الآية: 71.
8- سورة: الكهف، الآية: 74.

للسائل أن يسأل: عن الأمر و النكر، و هل كان يصلح أحدهما في موضع الآخر أم لكل واحد معنى يخصصه بمكانه؟.

الجواب أن يقال: قيل في الأمر: إنه الداهية و قيل: إنه العجب، و النكر: ما تنكره العقول و لا تعرفه و لا تجوزه، و روي عن قتادة أنه قال: النكر أعظم من الأمر؛ لأن الأمر إن حمل على الداهية، فهي التي تدهى الإنسان مما لم يخشه، فيحترز من وقوعه، و العجب قد يكون غير منكر، و النكر لا يستعمل إلا في المذموم الذي يخرج عن المعروف في العقل أو الدين، فاختص الأول بالأمر؛ لأن خرق السفينة التي لم يغرق فيها أحد أهون من قتل الغلام الذي قد هلك، و قيل: الأمر أعظم من النكر؛ لأن تغريق عدد من في السفينة أنكر من قتل نفس واحدة، و ليس كذلك؛ لأن الغرق لم يقع و القتل قد حصل.

الآية الخامسة من سورة الكهف

قوله تعالى في الحكاية عن الخضر عليه السّلام بعد قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (1) و بعد قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (2).

للسائل أن يسأل عن زيادة لك في الثانية و إخلاء الأولى منها.

الجواب أن يقال: إنه في الأولى لما قرر موسى صلّى اللّه عليه و سلم، و ذكره ما كان قد قدم القول فيه: من أن الصبر على ما يشاهده منه يثقل عليه فقال: أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً و هذا معناه في غالب ظني: أنك تعجز عن احتمال ما ترى، حتى تبادر إلى الإنكار، فلما رأى قتل الغلام، و عاد إلى الإنكار أكد التقرير الثاني بقوله: لَكَ كما يقول القائل: لك أقول و إياك أعني فيقدم لك و إياك، و لو قال: أقول لك و أعنيك بكلامي لاستويا في المعنى إلا في تأكيد الخطاب بالتقديم، فكأنه قال: أ لم يكن خطابي لك دون من سواك؟ و هذا وجب في الثاني لا في الأول الذي لم تتأكد حجة الخضر فيه عليه السّلام كتأكدها في الثانية.

الآية السادسة من سورة الكهف

قوله تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (3).

ص: 199


1- سورة: الكهف، الآية: 72.
2- سورة: الكهف، الآية: 75.
3- سورة: الكهف، الآية: 97.

للسائل أن يسأل عن: «اسطاعوا» في الأول لم خصت بحذف التاء دون الثانية في جل القرآن.

الجواب: أن يقال: الثانية تعدت إلى اسم، و هو قوله: نقبا فخفف متعلقها فاحتملت أن يتم لفظها، فأما الأولى فإنها تعلق مكان مفعولها بأن و الفعل بعدها و هي أربعة أشياء: أن و الفعل و الفاعل و المفعول الذي هو الهاء، فثقل لفظ استطاعوا، و كان يجوز تخفيفه حيث لا يقارنه ما يزيده ثقلا، فلما اجتمع الثقيلان، و احتملت الأولى التخفيف ألزم في الأول دون الثاني الذي خف متعلقه و احتمل.

انقضت سورة الكهف عن ست آيات، و ست مسائل.

ص: 200

19- سورة مريم عليها السلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (1) و قال في سورة الزخرف (2): فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف لفظي كفروا و ظلموا من الآيتين ما يخص أحدهما بمكانه؟ و الآخر بالموضع الذي جاء فيه.

الجواب: أن يقال: كلتا الآيتين في قصة عيسى عليه السّلام، و توعد من أثبته للّه تعالى ولدا لقوله تعالى في سورة مريم: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3) و قال في سورة الزخرف (4): وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ إلى قوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا (5) و الكفر أعظم من الظلم، و إن كان كل كافر ظالما لنفسه، فلما قالوا في عيسى عليه السّلام أنه ابن اللّه و كفروا بذلك، و ظلموا أنفسهم أخبر اللّه تعالى عنهم في القصة التي شرح فيها ابتداء أمره بالوصف الذي يتضمن لفظ أكبر الذنوب، و هو الكفر، و لما أجمل في السورة الثانية ما فصله في الأولى، وصفهم بالوصف الذي يدل على أنهم حرموا أنفسهم ما عرضوا له من الثواب، و أوجبوا عليها أليم العقاب، فبذلك ظلموها أعني بالكفر الذي كان منهم، لما دعوا للرحمن ولدا تقدس اللّه عنه.

الآية الثانية منها

قوله تعالى:فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ

ص: 201


1- سورة: مريم، الآية: 37.
2- الآية: 65.
3- سورة: مريم، الآية: 35.
4- الآية: 63.
5- سورة: الزخرف، الآية: 65.

الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (1) و قال في سورة الفرقان (2): وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الفعل في الآية الأخيرة أكد بذكر المصدر معه من دون الفعل في الآية الأولى؟

الجواب: أن يقال: أما الأول فإنه بعد قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (3) فكان موضع إيجاز لذكر المعاصي فبنى الكلام عند ذكر التوبة على ما بنى عليه عند ذكر المعصية، و لم يكن كذلك الموضع الثاني؛ لأنه بدئ بقوله: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً (4) فلما ذكر الكبائر و أن أولياء اللّه يجتنبونها، و أن من أتاها ضوعف له العذاب إلا أن يتوب و يعمل عملا صالحا كان الموضع موضع توكيد؛ لأنه لم يعمل العمل الصالح بعد ارتكاب الكبائر التي عدها، فلما أكد الكلام هناك وجب تأكيده هنا أعني عند محو السيئات المتقدمة بالحسنات المستأنفة، فاختلاف الآيتين في التوكيد، و اللّه أعلم لما ذكرنا.

ص: 202


1- سورة: مريم، الآيتان: 59 و 60.
2- الآيات: 68 و 69 و 70.
3- سورة: مريم، الآيتان: 59 و 60.
4- سورة: الفرقان، الآيات: 68 و 69 و 70.

20- سورة طه عليه السّلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) إلى قوله: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ (2) و قال في سورة النمل (3): إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَ أَلْقِ عَصاكَ.

للسائل أن يسأل فيقول: قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (4) و هل الاختلاف إلا هذا الذي جاء في سورة في الأخبار عن قصة واحدة مرة أنه قال لأهله: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً و في الآية الأخرى سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و قال في سورة القصص (5): لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ثم قوله: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (6) إلى قوله:

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى فأخبر عن أشياء قيلت لموسى عليه السّلام ثم جاء إلى ذكر العصا فقال: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى و في السورة الثانية:فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ

ص: 203


1- سورة: طه، الآيات: 9- 14.
2- سورة: طه، الآيتان: 17، 18.
3- الآيات: 7- 10.
4- سورة: النساء، الآية: 82.
5- الآية: 29.
6- سورة: طه، الآيتان: 11، 12.

بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَ أَلْقِ عَصاكَ (1) و كذلك جاء في سورة القصص (2): فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ.

الجواب: أن يقال: إن اللّه تعالى لم يخبر أنه خوطب موسى عليه السّلام باللغة العربية بألفاظ إذا عدل عنها إلى غيرها مما يخالف معناها كان اختلافا في القرآن قادحا فيه، بل معلوم أن الخطاب كان بغير هذه اللغة، و أنه تعالى أخبر في بعض السور ببعض ما جرى، و في أخرى بأكثر مما أخبر به في التي قبلها، و ليس يدفع بعضها بعضا، فأما قوله تعالى:

لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فهو معنى قوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ؛ لأن الخبر الذي يأتيهم به هو أن يجد على النار ما يهديه، و بخبره أن الطريق هو ما عليه أو غيره، و وجود الهدى و أن يخبر بخبر اهتدائه في طريقه أو غيره شي ء واحد لا اختلاف فيه. فأما قوله: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ فهو مما جرى و لم يخبر اللّه تعالى به في سائر السور و أخبر به في هذه، و كذلك القول في العصا و سؤاله و تقريره على ما وصف من حالها حيث يقول: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلى قوله: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى هو من ذلك.

الآية الثانية من سورة طه

قوله تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (3) إلى قوله: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (4) و قال في سورة الشعراء (5): وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ و قال في سورة القصص (6):اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ

ص: 204


1- سورة: النمل، الآيات: 8- 10.
2- الآيتان: 30، 31.
3- سورة: طه، الآيات: 24- 32.
4- سورة: طه، الآيات: 24- 36.
5- الآيات: 10- 14.
6- الآيات: 32- 35.

وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.

للسائل: أن يسأل عما حكى اللّه تعالى من قول موسى صلّى اللّه عليه و سلم لما بعثه إلى فرعون، و اختلافه في السور الثلاث؛ لأن ما في سورة طه سوى ما في سورة الشعراء و ما في سورة القصص.

الجواب: عن ذلك أن قوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي طلب أمان له من أن يقتل بمن قتله و هذا معنى قوله: أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي؛ لأنهم لو صدقوه ما خاف أن يقتلوه، و كذلك قوله في السورة الثالثة: قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ و قوله: وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ أي: سهله حتى أؤدي رسالتك، و إذا أمن من القتل فقد فعل ما طلبه، و أما قوله: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي فهو معنى قوله: وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ و كذلك في سورة القصص: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ فطلب أن يحل عقدة من عقد لسانه و أن يؤيد بأخيه فأجيب إليهما، و لم يطلب حل كل عقد لسانه لما حكاه اللّه تعالى من قول فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (1) و سائر ما ذكره في سورة و لم يذكر في الأخرى ليس من الاختلاف الذي يعاب .. و أما قوله: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى و قوله في الشعراء (2): أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ و قوله في القصص (3): إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ففي الآية الأولى: ذكر فرعون وحده؛ لأن قومه تبع له، و كأنهم مذكورون معه، و في الآية الثانية: ذكر قوم فرعون من دونه و معلوم أنه منهم، و مخاطب بمثل خطابهم، فإذا اتقوا و آمنوا كان فرعون وحده لا يقدر على مخالفتهم، فترك ذكره؛ لأنه في هذه الحالة في حكم التابع لهم، و خطابهم خطابه .. و أما الموضع الثالث: فإن الحكاية أتت على فرعون و ملائه فبينت ما انطوت عليه الآيات قبل من ذكر بعض و الاكتفاء

ص: 205


1- سورة: الزخرف، الآية: 52.
2- الآيتان: 10- 11.
3- الآية: 32.

به عن بعض، و هذا كما قال في موضع لموسى وحده: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ و في موضع آخر: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ لأن هارون تابع له و داخل في حكمه و أبان ذلك في موضع فقال: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) و قال بعده: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (2).

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ (3) و قال في سورة السجدة (4): أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ.

للسائل أن يسأل في هذه الآية عن موضعين:

أحدهما اختصاص الأولى بالفاء، و الثانية بالواو.

و الثاني: أنه قال في السجدة: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ.

فأدخل «من» على «قبلهم» هنا، و لم يدخلها هناك مع تساوي المعنيين و المكانين فقال للسائل عن ذلك: لما كانت هذه الآية مفتتحة بقوله: أَ فَلَمْ و تلك مفتتحة بقوله: أَ وَ لَمْ اختلفتا من هذه الجهة فكان ما دخلته الفاء؛ لأنه يتعلق بما قبله تعلق الجواب بالمبتدإ و الجزاء بالشرط، فتكون جملة تمامها بجملة قبلها يثقل يختار فيه التخفيف، و ما دخلته الواو لا يقتضي ما تقتضيه الفاء بنفسها، بل حقه الانقطاع عما قبله، و لذلك يجوز أن يكون المؤخر بعدها في اللفظ مقدما في المعنى. و أما دخول مِنْ و حذفها فقد بيّناه في قوله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ (5) و في موضع آخر بَعْدَ ما جاءَكَ (6)، و هو أن القائل إذا قال: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، و إذا قال:

مِنْ قَبْلِهِمْ، فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، و الزمان من أوله لآخره ظرف للإهلاك، لا يختصّ به بعضه دون بعض. فإن قال: فلم جاء في سورة طه:

أَ فَلَمْ يَهْدِ بالفاء .. قلت: لأنه تقدم قوله: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها (7)، و معناه: فتركت الاهتداء بها، ثم قررهم على

ص: 206


1- سورة: الشعراء، الآية: 16.
2- سورة: طه، الآية: 47.
3- سورة: طه، الآية: 128.
4- الآية: 26.
5- سورة: البقرة، الآية: 145.
6- سورة: الرعد، الآية: 37.
7- سورة: طه، الآيتان: 125، 126.

ما نصبه لهدايتهم، و احتجّ عليهم بتركهم الاهتداء به فقال: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ و التقدير: من تأته آياتنا فعليه الاهتداء بها و أنتم أتتكم آياتنا فلم توفوها حقها فهل فعلتم ما لزمكم فيها، فالذي أوجب الفاء في هذا المكان هذا المعنى، و لم يكن مثله في سورة السجدة من تعلق ما بعد أَ وَ لَمْ بما قبله تعلق هذه الآية بما تقدمها؛ لأن هناك وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ (1) فلما انفصل جاء بالواو، و لما جاء بالواو و لم يكن من شرطها تركيب جملتين يكونان كلاما واحدا فخف، و أدخل عليه «من» التي حذفت من الآية الأولى لتحد ابتداء الزمان فيكون أبلغ في الاستيعاب.

ص: 207


1- سورة: السجدة، الآيات: 23- 26.

21- سورة الأنبياء عليهم السلام

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (1) و قال في سورة الفرقان (2): وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.

للسائل أن يسأل عن: إظهار الفاعلين في رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سورة الأنبياء و إضمارهم في سورة الفرقان.

الجواب أن يقال: إن ما قبل الآية في سورة الأنبياء (3): كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فلم يجر للكفار ذكر في الآية التي قبل هذه، فكان الاختيار الإظهار، و أما في سورة الفرقان فإن قبل الآية: أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (4)؛ أي: أ لم ير الكفار في زمانك القرية التي أمطرت مطر السوء فيحذروا، فلما كان الذكر متقدما في أقرب الكلام إليها كان الاختيار الإضمار.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (5) و قال في سورة الشعراء (6): وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ.

ص: 208


1- سورة: الأنبياء، الآية: 36.
2- سورة: الفرقان، الآية: 41.
3- الآية: 35.
4- سورة: الفرقان، الآية: 40.
5- سورة: الأنبياء، الآيتان: 52، 53.
6- الآيات: 69- 74.

للسائل: أن يسأل عن اختصاص هذا المكان بقوله: بَلْ وَجَدْنا و خلو المكان الأول منها.

الجواب: أن يقال: إن الآية الأولى وقع السؤال فيها على وجه لا يقتضي بل في الجواب؛ لأنه قال: ما هذه الأصنام التي نحتموها تماثيل و عكفتم عليها؛ فكأنه سفه آراءهم و قال لهم: لم تفعلون ذلك و تعبدون ما تنحتون؟ فقالوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم، و في سورة الشعراء تقدم سؤال أضربوا عنه و نفوا ما تضمنه؛ لأنه قال: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (1) فقالوا مضربين عن هذه الأشياء التي وبخوا عليها من عبادتهم ما لا يسمع و لا ينفع و لا يضر، و ما يعلمون أنه جماد لا حياة فيه، و لا نفع و لا ضرر عنده، فكأنهم قالوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فلأن السؤال هنا يقتضي في جوابهم أن ينفوا ما نفاه صلّى اللّه عليه و سلم أضربوا عنه إضراب من ينفي الأول و يثبت الثاني، فاختصاص المكان ب «بل» لهذا.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (2) و قال في سورة الصافات (3): فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ.

للسائل أن يسأل فيقول: هذا في قصة واحدة جاء في موضع الْأَخْسَرِينَ، و في موضع الْأَسْفَلِينَ فهل في كلّ من المكانين ما يختص باللفظ الذي خص به؟.

الجواب أن يقال: ما في سورة الأنبياء فإن اللّه تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السّلام أنه قال: وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (4)، ثم أخبر عن الكفار لما ألقوه في النار و أرادوا به كيدا فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ و الكيد: سعي في مضرة ليورد على غفلة، فذكر مكايدة بينهم و بين إبراهيم عليه السّلام فكادهم و لم يكيدوه فخسرت تجارتهم، و عادت عليهم مكايدتهم؛ لأنه كسر أصنامهم و لم يبلغوا من إحراقه مرادهم فذكر: الْأَخْسَرِينَ؛ لأنهم خسروا فيما عاملهم به و عاملوه من المكايدة التي أضيفت إليهما. و أما التي في سورة الصافات، فإن اللّه تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من الْأَسْفَلِينَ و هو أنه قال:قالُوا ابْنُوا لَهُ

ص: 209


1- سورة: الشعراء، الآيتان: 72، 73.
2- سورة: الأنبياء، الآية: 70.
3- الآية: 98.
4- سورة: الأنبياء، الآية: 57.

بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (1) فبنوا له بناء عاليا و رفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أجّجوها، فلما علوا ذلك البناء و حطّوه منه إلى أسفل عادوا هم الأسفلين؛ لأنهم أهلكوا في الدنيا و سفل أمرهم في الآخرة و اللّه تعالى نجى نبيه و أعلاه عليهم، فانقلب عالي أمرهم في صعود البناء و سافل أمر إبراهيم عليه السّلام لما حط إلى النار أن صار ذاك سافلا و أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم عاليا فلذلك اختصت هذه الآية بقوله: فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (2). و قال في سورة ص (3): وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ.

للسائل: أن يسأل عن الفرق بين موضعي قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا و رَحْمَةً مِنَّا و قوله: وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ و هل في كل مكان من المكانين ما يختص ذلك دون غيره؟

الجواب: أن يقال: أخبر اللّه تعالى في سورة الأنبياء عن أيوب عليه السّلام بأنه نادى ربه و شكا إليه ما مسه من الضر و سوء الحال بالمرض الذي طالت به أيامه، حتى تآكل جسمه، و تساقط لحمه، ثم بالفقر الذي ناله و اجتاح ماله، و كان اللّه تعالى ابتلاه بجميع ذلك، و أحدث فيه المرض الذي أضعفه عن تعهد حاله حتى زال جميع ماله ليعطيه على صبره الثواب العظيم الجزيل، و ليعوضه من نعيم الجنة ما هو خير له مما سلبه من ماله و صحة بدنه، و كأنه لما قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ قال: مسني من عندك يا رب ما تعلم و أنت الأكرم الأرحم فقال: وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، أي:

كما كان الضر من عندنا كان كشفه و الرحمة مكانه من عندنا، و معنى: من عندنا، أي: من حيث لا تناله قدر العباد، و كل مكان اختص بقدرة اللّه وحده يطلق عليه عند اللّه .. و أما

ص: 210


1- سورة: الصافات، الآية: 97.
2- سورة: الأنبياء، الآيتان: 83، 84.
3- الآيات: 41- 43.

قوله: وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ فالمعنى: فعلنا به ما فعلنا رحمة له منا، و تذكرة لمن عبد اللّه وحده بإخلاص منه، فلا يحول عن حمده و طاعته مع ما تصرف عليه من شدائد الدنيا و مصائبها التي ينزلها اللّه به؛ بل يثبت معها على إدامة العبادة و إمدادها بالزيادة كما فعله أيوب عليه السّلام.

و أما في سورة ص فإن اللّه تعالى لما أخبر فيها عنه بأنه قال: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ و شكايته إلى اللّه تعالى ما يلحقه من أذى الشيطان بوسوسته إليه، و فنون احتياله عليه، ليضيق صدره و ينقص حمده و شكره، فهان عليه المرض الذي ينقص من الأبدان في جنب ما يؤثر في الأديان و يخل بالطاعات، و يشغل من الزمان بمدافعة الوسواس، فلما كان هذا له أهم، و خاف من جهته الضرر الأشد أعانه اللّه برحمة منه مضافة إليه مختصة بإرادته، إذ كانت أفعال اللّه تعالى منها ما يختص به و يضيفها إلى نفسه كقوله تعالى: أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ (1) و منها ما يأمر به بعض ملائكته و إن أخبر أنه من فعله و مختص به كقوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا (2) يقال أنه أمر جبريل عليه السّلام فنفخ الروح في فرجها، و خلق اللّه عيسى عليه السّلام في رحمها، فلما كانت شكوى أيوب عليه السّلام فيما أخبر اللّه تعالى به في سورة ص أعظم، و البلوى به أكبر، أخبر أنه رحمه رحمة و أنعم عليه نعمة لا يجري أمثالها على أيدي خلقه بل هي مما يختص بفعله، و لا يوليه مقربا من ملائكته، و إن كان ما يقدرهم عليه من مثل ذلك مضافا إلى قدرة اللّه تعالى، فهذا فرق ما بين قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا و رَحْمَةً مِنَّا. و أما قوله: وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ فلأن أولي الألباب أعم من العابدين، و استدفاع وساوس الشيطان أعم من الاستشفاء للأبدان، فخصّ بكل آية ما اقتضاه صدر الكلام، و تعرض أيوب عليه السّلام بالسؤال.

الآية الخامسة من سورة الأنبياء

قوله تعالى: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا (3) و قال في سورة التحريم (4): وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا.

ص: 211


1- سورة: ص، الآية: 75.
2- سورة: الأنبياء، الآية: 91.
3- سورة: الأنبياء، الآية: 91.
4- الآية: 12.

للسائل أن يسأل فيقول: هل كان مختارا أن يعود ضمير المذكور في الآية من سورة الأنبياء فيجي ء فَنَفَخْنا فِيهِ كما جاء في الآية الأخيرة أم لكل مكان ما يختص اللفظ الذي جاء عليه؟.

الجواب: أن يقال: لما كان القصد في سورة الأنبياء إلى الإخبار عن حال مريم و ابنها و أنهما جعلا آية للناس، و كان النفخ فيها مما جعلها حاملا، و الحامل: صفة الجملة، فكأنه قال: و التي أحصنت فرجها فصيّرها النفخ حاملا حتى ولدت، و العادة جارية أن لا تحمل المرأة إلا من فحل و لا يولد الولد من غير أب، فلما كان القصد التعجب من حالتها، و أنها بالنفخ صارت حاملا ردّ الضمير إلى جملتها إذ كان النفخ في فرجها نفخا فيها أوجب القصد إلى وصفها بعد النفخ بصفة ترجع إلى جملتها دون بعضها كان قوله:

فَنَفَخْنا فِيها أولى من قوله: فَنَفَخْنا فِيهِ ... و أما قوله في سورة التحريم:

وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا فلما لم يكن القصد فيه إلى التعجب من حالها بالحمل عن النفخ و ولادتها لا عن ضراب الفحل لم يكن ثم من القصد إلى وصف جملتها بغير الصفة التي كانت عليه قبلها ما كان في الآية الأولى، فجاء اللفظ على أصله، و المعنى: فنفخنا في فرجها، و لم يسق الكلام إلى ما سيق إليه في سورة الأنبياء من وصف حالها بعد النفخ، فاختلفا لذلك.

الآية السادسة من سورة الأنبياء

قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (1) و قال في سورة المؤمنين (2): وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

للسائل أن يسأل عن اختلاف فَاعْبُدُونِ و قوله: فَاتَّقُونِ في الآيتين و عن الواو و الفاء في قوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.

الجواب أن يقال في قوله تعالى: وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ثلاثة أقوال:

أحدها: أن تكون الإشارة بهذه إلى أمم الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه،

ص: 212


1- سورة: الأنبياء، الآيتان: 93، 94.
2- الآيتان: 52، 53.

و يكون المعنى أنهم أمتكم في حال كونهم جماعة واحدة و على دين واحد في أصول الشرع، كالتوحيد و صفات اللّه تعالى، و إثبات النبوات، و المقام على طاعة اللّه، فمتى تفرقوا في طرق الباطل لم يكن بينكم و بينهم نسبة.

و الثاني: أن يكون المعنى: و أن هذه أمتكم مقصودا بها دين واحد و الأمة كل جماعة يسلك بها مقصد واحد من أم إذا قصد أي: أممكم و إن تفرقت أزمنتها فإنها يقصد بها دين واحد فهي أمتكم مقصود بها التوحيد، و هو إفراد اللّه تعالى بالعبادة، و الإخلاص له فيها.

و الثالث: أن تكون الأمة: الملة و هي: الدين أي: هذه ملتكم ملة واحدة؛ لأنها الإسلام و قوله: وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي: و ربكم القائم بمصالحكم من ابتداء كونكم إلى انتهاء أحوالكم هو أنا فأخلصوا إلي العبادة وحدي.

و قوله: وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ جاء بالواو؛ لأنه لم يكن ما بعد الواو كالجواب لما قبلها كما كان ذلك في الفاء؛ لأنه يجوز أن يكون تقطعهم أمرهم قبل أن خوطبوا بقوله:

فَاعْبُدُونِ فلا تصلح الفاء، أ لا ترى أن تفرقهم فرقا و تقطعهم أمرهم قطعا فصار بعضهم يعبد اللّه وحده، و بعضهم يعبد معه غيره، و بعضهم لا يعبده كان قبل إخبار اللّه جميع الأنبياء صلوات اللّه عليهم و سلامه أن هذه الأمم أممهم جماعة واحدة غير جماعة متفرقة، و هو الذي دعا إلى أن نبههم فقال: خالقكم واحد و الذي يربكم هو، فاقصدوه بالعبادة دون من سواه، و إذا كان كذلك كان قوله: وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي:

تقطعوا أمر دينهم قطعا، و افترقوا فيه فرقا خبرا غير متعلق بما قبله تعلق الجواب بالابتداء بل ذلك هو ما بعد الفاء في عقيب هذه الآية فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ (1) أي: تفرقوا فرقا فمن كان من فرقهم يعمل الصالحات و هو مؤمن فإن سعيه مقبول، و هو على عمله مثاب، و من عمل صالحا و لا إيمان معه مثل معونة الضعيف، و إغاثة اللهيف، وصلة الرحم، و إفاضة النعم و الكف عن الظلم لم يقبل سعيه، و هو في ضمن قوله: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها (2) ... و أما قوله في الآية الأولى: وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ و اختصاصها بها دون قوله: فَاتَّقُونِ فلأنه خطاب للفرق التي تفرقت في طرق الباطل و لم تخلص العبادة للّه فنبأهم إلى أن يعبدوه، و التي في

ص: 213


1- سورة: الأنبياء، الآية: 95 ..
2- سورة: الأنبياء، الآية: 94.

سورة المؤمنين إنما هو خطاب للرسل لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (1) و قد جاء في خطاب الأنبياء صلوات اللّه و سلامه عليهم و المؤمنين و الصالحين بعد: ثم اتقوا اللّه، قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (2) و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (3) و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ (4) فلما كان أكثر من خوطب في السورة الأخيرة الأنبياء و المؤمنين و هم يعبدون اللّه جل ذكره و ضم إليهم غيرهم من الفرق و غلبوا عليهم، فخوطبوا بما يخاطب به المؤمنون، و هو: اتقوا اللّه إذ كان أكثرهم له عابدين، و معنى اتقوه: احترزوا بطاعته مما أعده لأهل معصيته، و امتنعوا بموجبات الثواب عن موجبات العقاب، فكان هذا موضع فَاتَّقُونِ، و في الأولى موضع فَاعْبُدُونِ .. و أما الفاء في سورة المؤمنين في قوله:

فَتَقَطَّعُوا فلأنه ذكر الذين صار قوله فَتَقَطَّعُوا كالجواب لما قبله؛ لأنهم قطعوا أمر دينهم كتبا منزلة من اللّه عز اسمه، فمنهم من دان بالتوراة و كفر بما سواها من الإنجيل و القرآن، و منهم من دان بالإنجيل و كفر بالتوراة و القرآن، فلما كان ما قبل الفاء خطابا للرسل و أممهم، و قال: كونوا جماعة واحدة ذات دين واحد صار كأنه قال: أمرتهم بالائتلاف و الاتفاق في الدين فتقطعوا أمرهم فيه قطعا، و افترقوا فيه فرقا، و كل يقدر أنه على الصواب و متمسك بما في الكتاب فهو فرح بما لديه، و معوّل عليه، فكان ما بعد الفاء هنا في تعلقه بالأول تعلق الجواب بالمبتدإ كما بعد الفاء في قوله في الآية الأولى، و هو:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ (5) في أنه متعلق بما قبله تعلق الجواب دون قوله: وَ تَقَطَّعُوا و اللّه أعلم.

ص: 214


1- سورة: المؤمنون، الآيتان: 51، 52.
2- سورة: الأحزاب، الآية: 1.
3- سورة: التوبة، الآية: 119.
4- سورة: الحشر، الآية: 18.
5- سورة: الأنبياء، الآية: 94.

22- سورة الحج

الآية الأولى منها

قوله تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (1) و قال في سورة السجدة (2): كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.

للسائل أن يسأل عن قوله: مِنْ غَمٍّ في سورة الحج و خلو الآية التي في سورة السجدة منه.

الجواب أن يقال: أنه تعالى لما وصف من أحوال أهل النار في هذه السورة في الآية المتضمنة لهذه اللفظة بقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (3) فأخبر أن النار تشتمل عليهم من جوانبهم كاشتمال الثياب. و قيل: ثياب نحاس من النار، و هي النهاية في الإحماء و الإحراق، ثم خصص الرءوس بصب الماء المغلي عليها، و قيل في التفسير: إنه ينفذ إلى أجوافهم فيسلت ما فيها و يذوب ما في بطونهم من الشحوم، و يتساقط ما عليهم من الجلود مع زبانية بأيديهم عمد من حديد يضربون بها رءوسهم إذا حاولوا الخروج من النار، فلما وصفهم بأن العذاب من جميع الجوانب اكتنفهم صاروا بإحاطة ذلك بهم و سد أنفاسهم عليهم بمنزلة البعير المغموم بالغمامة التي تسد منفسه، فلا يجد فرجة، و الطبق المغموم المستور، و قال القطامي:

إذا رأس رأيت به طماحا ***سددت له الغمائم و الصقاعا

ص: 215


1- الآية: 22.
2- الآية: 20.
3- سورة: الحج، الآيات: 19- 21.

و ليس الغم هاهنا الحزن، و إن كان أصله من ذلك لكنه تغطيتهم بالعذاب و الأخذ بكظمهم، فلما تقدمه وصف ما أحاط بهم ذكر هذا الغم أي: كلما أرادوا من الكرب الذي أخذ بكظمهم أن يخرجوا من النار التي جلبت عليهم كل ذلك أقبلت الزبانية نحوهم بما يدق رءوسهم .. و الآية التي في سورة السجدة لم تشتمل من إحاطة العذاب بهم من ذكر الثياب من النار وصب الحميم و إذابة الشحوم ما ذكر في هذه الآية قال: وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها (1) فلما لم يتقدم ذكر ما يطيف بهم و يغمهم و يصير كما يسد مخارج أنفاسهم لم يذكر أنهم يحاولون الخروج من أجل الغم الذي اقتضت الآية في الحج ذكره، و لم يقع مثله في سورة السجدة من مقتض، فلم يقع المقتضي لذلك.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها (2) و قال بعده بآيات: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (3).

للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: أَهْلَكْناها و قوله في الثانية: أَمْلَيْتُ لَها و هل لكل واحد ما يوجب اختصاصه بمكانه دون الآخر؟

الجواب أن يقال: إن قوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها جاء بعد قوله:

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ (4) إلى قوله: وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (5) فلما جاء عقيب ما وصف من إهلاكهم وصفهم بذلك و الثانية بعد قوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها (6) فذكر عقيب استعجالهم العذاب و اللّه يريد غيره من الإملاء لهم، و تأكيد الحجة عليهم، فكل لفظة في مكانها الذي تليق به.

ص: 216


1- سورة: السجدة، الآية: 20.
2- سورة: الحج، الآية: 45.
3- سورة: الحج، الآية: 48.
4- سورة: الحج، الآية: 42.
5- سورة: الحج، الآية: 44.
6- سورة: الحج، الآيتان: 47 و 48.

الآية الثالثة من سورة الحج

قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (1) و قال بعده بآيات: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (2).

للسائل أن يسأل فيقول: هل كان يجوز في الأولى في جنات النعيم؟ و في الثانية:

لهم مغفرة و رزق كريم، و ما المعنى الذي خصص كلّا من اللفظين بمكانه؟

الجواب: أن الأول خبر عن حال القوم في الدنيا لقوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (3). ثم قال: فالذين آمنوا و عدوا الغفران و الرزق الكريم، و لم يجز هنا أن يقال: هم في جنات النعيم إلا على ضرب من المجاز أنهم مستحقون لها فكأنهم فيها، و ليس كذلك الآية الأخيرة؛ لأنها خبر عن الحال في الآخرة لقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (4) أي: يوم القيامة يكونون في دار الثواب، فلما اختلف المقتضيان فذكر كل واحد في المكان الذي لاق به.

الآية الرابعة من سورة الحج

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (5) و قال في سورة لقمان (6): ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

للسائل أن يسأل عن تخصيص الآية من سورة الحج بالتوكيد في قوله: وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ و إخلائه منه في سورة لقمان.

و الجواب: أن الأولى وقعت في مكان تقدمت فيه توكيدات مترادفة في ستة مواضع و هي قوله:وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ

ص: 217


1- سورة: الحج، الآية: 50.
2- سورة: الحج، الآية: 56.
3- سورة: الحج، الآية: 49.
4- سورة: الحج، الآية: 56.
5- سورة: الحج، الآية: 62.
6- الآية: 30.

رِزْقاً حَسَناً (1) فاللام و النون مؤكدتان، و بعده: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (2) و اللام مع هو مؤكدان، و بعده لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ (3) و اللام و النون سبيلهما تلك السبيل، و بعده وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (4) اللام التي في خبر «إن» كذلك، و بعده لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (5) فلما ترادفت التوكيدات، و جاء في هذا الموضع، و جاء بعده خبر بين خبرين أكد و هو ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، و قوله:

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (6) اقتضت أشباهه مثله، فجاء الخبر الثاني الواقع بين الخبرين، و بعد الأخبار المؤكدة مؤكدا بقوله «هو» فقال: وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ و ليس كذلك ما جاء في سورة لقمان؛ لأنه لم تتقدمه التوكيدات التي تستتبع أمثالها كما تقدمت في الأولى.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (7) و قال في سورة لقمان (8) عليه السّلام: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.

للسائل أن يسأل عن إعادة ما في الآية الأولى في قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و إخلاء الثانية منها و هو قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و عن قوله في الأولى: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فأدخل اللام على «هو» و لم يدخلها في سورة لقمان.

الجواب عن ذلك نحو الجواب الأول و هو شاهد يحقق ما أجبنا به من اختيار التوكيد حيث يقصد بناؤه على الكلام المتقدم له؛ لأن هذه الآية تالية لتلك، لا يحجزها عنها إلا قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (9) فحملت على نظائرها المذكورة قبلها، و خالفت التي في سورة لقمان تلك لموقعها، فلم تؤكد كما و كدت الأولى كذلك.

ص: 218


1- سورة: الحج، الآية: 58.
2- سورة: الحج، الآية: 58.
3- سورة: الحج، الآية: 59.
4- سورة: الحج، الآية: 59.
5- سورة: الحج، الآية: 60.
6- سورة: الحج، الآية: 62.
7- سورة: الحج، الآية: 64.
8- الآية: 26.
9- سورة: الحج، الآية: 63.

23- سورة المؤمنون

الآية الأولى منها

قوله تعالى في قصة نوح عليه السّلام: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ (1) و قال بعد هذه القصة: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (2).

للسائل أن يسأل: عن تقديم «من قومه» في الآية الأخيرة، و تأخيره في الآية الأولى، و هل كان يصلح أحدهما مكان الآخر.

الجواب أن يقال: لما انقطعت صفة الملإ في الآية الأولى إلى المحكي من قولهم، قرن الوصف ب «الذين» إلى الموصوف، ثم جي ء بالجار و المجرور، فكان منتهى بيان فاعل قال، و لم يكن كذلك القصد في الآية الآخرة؛ لأنه عددت أفعال عطفت على الفعل الذي هو صلة «الذي»، فقدم الجار و المجرور، لئلا يحال بين الصفة و ما عطف عليها، فقال: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فكان كل ذلك مما أتبع قوله: كَفَرُوا و لو قال و قال الملأ: الذين كفروا من قومه و كذبوا بلقاء الآخرة لم يكن على النظم المرتضى فيما يستفصح من الكلام، و إن كان جائزا فلذلك قدّم الجار و المجرور في الأخيرة و أخّر في الأولى.

الآية الثانية من سورة المؤمنين

قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (3) و قال في سورة هود (4)، و كان حق ذلك أن يذكر هناك:حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا

ص: 219


1- سورة: المؤمنون، الآية: 24.
2- سورة: المؤمنون، الآية: 33.
3- سورة: المؤمنون، الآية: 27.
4- الآية: 40.

وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

للسائل أن يسأل فيقول: لم اختلف في الآيتين قوله: قُلْنَا احْمِلْ فِيها و قوله:

فَاسْلُكْ فِيها و هل كان يصلح كل واحد منهما مكان الآخر أو هناك معنى يخصص كلا بمكانه؟

الجواب أن يقال قوله: قُلْنَا احْمِلْ إخبار عما كان من اللّه تعالى إلى نوح عليه السّلام من الأمر بحمل ما يحمله في السفينة و من يحمله من المؤمنين، و تقدم إليه بإعدادهم للركوب معه، و منع من حظر عليه استصحابه، ثم بعد ذلك أمره بقوله: ارْكَبُوا فِيها (1) فالأول: أمر بتهيئة ما يستبقى من الحيوان، و ما يستبقى من المكلفين، و الثاني:

أمر بركوب السفينة، و الثالث: أمر بالهبوط منها بقوله: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ (2) فالذي جاء في سورة هود جاء على مقتضى أوامر اللّه المفصلة إعداد من يركب معه و من الركوب و من النزول. و أما قوله في سورة المؤمنين: فَاسْلُكْ فِيها فإنه مجمل على ما فصل في الآية الأولى إذ كان الشرح و البيان مقصورين عليها، و كانت الثانية مشتملة على بعض ما اشتملت عليه الأولى، و هو قوله: فَاسْلُكْ ما يتضمن احمل و اركب و اعبر، و من ذلك سمي الطريق: مسلكا، و سلكه ينابيع في الأرض أي:

أجراه، و سلك الطريق أي: نفذ فيه، فكان موضع الاختصار أولى بالمجمل من الكلام، و موضع البيان أولى بالبسط، فقصة نوح في سورة هود قد شغلت بها خمس و عشرون آية، و هي في سورة المؤمنين واقعة في ثمان آيات، فاقترن بكل من المكانين ما اقتضاه القصد من زيادة بيان، أو اختصار كلام.

الآية الثالثة من سورة المؤمنين

قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (3) و قال بعده في ذكر القرون: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (4).

للسائل أن يسأل: ما الذي أوجب في الأولى: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، و في الثانية:

لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ؟

ص: 220


1- سورة: هود، الآية: 41.
2- سورة: هود، الآية: 48.
3- سورة: المؤمنون، الآية: 41.
4- سورة: المؤمنون، الآية: 44.

الجواب أن يقال: إن القصة الأولى و إن خرجت عن لفظ التنكير فقال: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ (1) فإنه معلوم من المراد بالرسول و بالمرسل عليهم، فدل على ذلك بأن قال: أهلكتهم الصيحة، و هم قوم صالح عليه الصلاة و السّلام، فلما كان في أقوام معلومين أتى بذكرهم معرفة فقيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ و خص وصفهم بالظلم؛ لأنه شي ء عاملوا به غيرهم، و عاملوا به أنفسهم لتكذيبهم الرسل، و ظلمهم لهم بنسبتهم إلى ما هم منزهون عنه، ثم هم ظالمون لأنفسهم إن منعوها ما عرضوا له من نعيم الأبد و الثواب السرمدي. و أما قوله: فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ فإنه جاء بعد خاتمة قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (2) فلم يبين بالمعنى من المراد كما بين في الأولى، و كانوا منكورين للمسلمين، فلما أمرهم بلفظ الدعاء عليهم استعمل فيهم ما استعمل فيمن لم يتعين و لم يشتهر فنكر اللفظ، فقال: لقوم لا يؤمنون أي: أهلك اللّه كل قوم لا يؤمنون عند ظهور آيات اللّه لهم، و وجوب حجة اللّه تعالى عليهم، و المعنى: بعدا لكل قوم أليق بقوله: كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ (3) فأخبر خبرا عاما و أمر أن يدعى عليهم دعاء عاما، فوجب في كل موضع ما جاء فيه دون الآخر.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى (4): بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ و قال في سورة النمل (5): وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

للسائل أن يسأل عن تقديم توكيد المضمر المرفوع بقوله: «نحن» و تأخير المفعول و هو «هذا» في الآية الأولى، و عكس ذلك في الآية الثانية، و هل لذلك فائدة تقتضي لكل مكان ما خص به؟.

الجواب أن يقال: لما كان الأول في حكاية تظاهرت فيها أفعال أسندت إلى فاعليها

ص: 221


1- سورة: المؤمنون، الآيتان: 31، 32.
2- سورة: المؤمنون، الآية: 42.
3- سورة: المؤمنون، الآية: 44.
4- سورة: المؤمنون، الآية: 81- 83.
5- الآيتان: 67، 68.

متصلة بها، و هي: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ فهذان فعلان تعلق بهما هذا المحكي، و كل واحد منهما جاء بعده فاعله مواصلا له غير منفصل عنه، ثم بعده قالوا:

أَ إِذا مِتْنا فكل هذه الأفعال قصد بها حكاية ما جاء بعدها، فلما قال: لَقَدْ وُعِدْنا وجب في البناء على الأفعال المتقدمة أن يتمم حكم الفاعل، و هو توكيده و العطف عليه، فقدم «نحن و آباؤنا» على المفعول الثاني و هو «هذا»، لذلك و لأن الأصل إذا جرى عليه الشي ء أولى من غيره .. و أما الآية الثانية: من سورة النمل فإن الذي تقدمها وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا فأخر المعطوف على اسم كان الذي هو كالفاعل لها و هو قوله: وَ آباؤُنا عن المنصوب الذي هو كالمفعول لها و هو قوله: تُراباً فصار ما هو كالمفعول مقدما على ما هو معطوف على الفاعل، فاقتضى البناء عليه تقديم المفعول، ثم العطف على الفاعل المضمر، فجاء لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ لذلك.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عن خاتمة الآية الأولى بقوله: أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و خاتمة الآية الثانية بقوله: أَ فَلا تَتَّقُونَ و خاتمة الآية الثالثة بقوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ و ما الذي خص كلا بمكانه؟

الجواب أن يقال: إن هذه الآي جاءت بعد ما أخبر اللّه عن الكفار من إنكار البعث، و هي في الآية التي تكلمنا فيها و اتصلت هذه بها، فأمر نبيه صلّى اللّه عليه و سلم بأن يسألهم لمن الأرض و من فيها أي: من يملكها و يملك الناس الذين فيها، فإنهم يقرون أن جميع ذلك لخالقها، و هو اللّه تعالى، و إذا أقروا بذلك فقل لهم: أَ فَلا تَذَكَّرُونَ إذا قلنا لكم إنه ينشئ نشأة ثانية ما كان من النشأة الأولى كما قال: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (2)؛ أي: عندكم و في تقديركم الفاعلين منكم، فخصت بالتذكرة؛ لأنهم إذا

ص: 222


1- سورة: المؤمنون، الآيات: 84- 89.
2- سورة: الروم، الآية: 27.

أثبتوا الخلق الأول لزمهم الخلق الثاني .. و أما قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (1) فإنما معناه: من الذي به قوام السموات السبع و العرش العظيم، و لا يستغنى عنه و هذه الأشياء من أكبر ما يرى من خلق اللّه تعالى، و ما ثبت بالصدق من الخبر عندنا فمن كان مالك السموات و الأرض و العرش العظيم و أقررتم له بذلك، فلم لا تجتنبون معصيته و لا تتقون عقوبته؟ إذا كانت هذه الأجرام العظيمة لا تستغني عنه ساعة، فأنتم في ضعفكم أحوج إلى أن يربكم، و أن تقوموا بحق ربانيته لكم، فتمتنعوا بطاعته من موجب عقابه، فهذه لائقة بمكانها حالّة في موضعها .. و أما الثالثة:

و هي: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فإنها جاءت بعد تقرير ثالث و هو: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ (2)؛ أي: من الذي ملكه على الأشياء أتمّ ملك، و هو يمنع و لا يمتنع منه؟ أي: يمنع من المكروه من شاء، و لا يملك أحد منع من أراده بسوء، و هذا أعظم ملك و أبلغه، فإذا أقروا بذلك فقل لهم: كيف تخدعون عن عقولكم حتى تتخذوا الأوثان و الأصنام آلهة و هي لا تسمع و لا تبصر مع القادر العليم الذي قد أقررتم له بأتم الملك و بكل الخلق الذي يشهدكم و الذي يغيب عنكم و قوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؛ أي: من أين يأتيكم ما يغلب على عقولكم، فيخيل الباطل إليها حقا و القبيح عندها حسنا، أمّن علمكم بأن اللّه مالك الأرض و من فيها، أم من علمكم بأنه رب السموات السبع و رب العرش العظيم، أم من علمكم بأن له الملك الأغلب و العز الأغلب و أنه يمنع و لا يمنع منه و يحمي من عقابه و لا يحمى منه و ليس في شي ء من ذلك ما يرى الفاسد صحيحا و المعوج قويما، فهذا الذي ختم به الثالثة ناظم معناه بخواتيم ما قبله، و كل في مكانه اللائق به، و اللّه أعلم بالصواب.

ص: 223


1- سورة: المؤمنون، الآية: 86.
2- سورة: المؤمنون، الآية: 88.

24- سورة النور

الآية الأولى منها

قوله تعالى في آخر العشر من أول السورة: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (1) و قال في آخر العشرين من السورة: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2).

للسائل أن يسأل: عن خاتمة العشرين و اختلافهما بقوله في الأولى: تَوَّابٌ حَكِيمٌ و في الثانية: رَؤُفٌ رَحِيمٌ مع حذف جواب لو لا في الآيتين.

الجواب: أن يقال: لما ذكر في أول السورة حد الزنا و القذف، و ختم ذلك بقذف الرجل امرأته و الحكم فيه، اعتد عليهم بأن أمهلهم ليتوبوا، و لم يعاجلهم بالعقوبة على ما قارفوا فقال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ و أنه يرجع إلى من رجع إليه، و أن من تاب تاب اللّه عليه لعجل إهلاككم، و رمى بكم إلى العقاب الدائم، و العذاب الواصب، و هذا الجواب المحذوف قد ذكر في الآية التي في أهل الإفك و هي: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (3) فهذا معنى:

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ و معنى حكيم: أن أفعاله مبنية على الحكمة، و من الحكمة إن لم يعاجل كل مذنب بعقوبته عند وقوع خطيئته .. و أما خاتمة العشرين بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فإن معناه: لو لا أن اللّه أنعم عليكم و رحمكم، و قد أجرى حكمه بأن يرحم أمثالكم و يرأف بكم لما بقّاكم عند هذا الذنب الكبير و الإفك العظيم، فهذا موضع ذكر الرحمة لما تخولهم بالعظة فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (4) و الأول مطلق غير محصور على قوم

ص: 224


1- سورة: النور، الآية: 10.
2- سورة: النور، الآية: 20.
3- سورة: النور، الآية: 14.
4- سورة: النور، الآية: 17.

بأعيانهم، و إنما المراد: من فعل منكم ذلك فحدّه كذا و حدّه كذا في الدنيا و عذاب دائم في الآخرة، و مخاطبة أهل الإفك لأقوام معينين أكبر لعظم ذنبهم، و أنهم لم يهلكوا لرأفته بهم، فكان كل موضع من الموضعين مقتضيا لما اختص به من الآيتين.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (1).

للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ و قال في الثانية: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ؟

الجواب: أن في الأولى إشارة إلى ما تقدم ذكره فيما أوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ إلى قوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ (2) و جعل الأوقات الثلاثة آيات لهم، و علامات للمنع من دخول المماليك و الأطفال على النساء، و جوازه فيما سواها، و عبّر عنها بالآيات لما لم يكن تبيين الأوقات من الأفعال التي تتخصّص بقدرته، و لما كان بلوغ الحلم مما يختص بفعله، و لم يقدر فاعل على مثله إضافة إلى نفسه فقال: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ و يبين ذلك قوله في العشر الأخير بعد قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ (3) إلى قوله: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (4) بعد القربات التي أجاز تناول طعامها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (5) فلم يضفها إلى نفسه؛ لأنها آيات مثل الأول التي تقدمت في أنها لا تتخصص بقدرته أي: يبين لكم العلامات التي ينصبها على ما يبيح و ما يحظر و ما يضيق فيه و ما يوسع و مثله قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لما أشار إلى حد الزاني و القاذف و الفرق بين المكانين واضح، فاعرفه إن شاء اللّه.

ص: 225


1- سورة: النور، الآيتان: 58، 59.
2- سورة: النور، الآية: 58.
3- سورة: النور، الآية: 61.
4- سورة: النور، الآية: 61.
5- سورة: النور، الآية: 61.
6- سورة: النور، الآيتان: 17، 18.

25- سورة الفرقان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (1) و قال قبله في سورة الرعد، و كان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ (2).

للسائل أن يسأل: عن تقديم «نفع» على «ضر» في سورة الرعد، و عكس ذلك في سورة الفرقان، و ما الذي أوجب هذا الاختلاف؟.

الجواب: أن يقال: أما في سورة الرعد، فإنه قدم فيه الأفضل على الأنقص؛ لأن اجتلاب النفع أشرف من استدفاع الضر، و هو رتبة فوقه فمن فاته كمال ذلك طلب دفع الضرر فهو على وجهه في الترتيب، و أما في سورة الفرقان فإنه بنى على ما قبله، و هو لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ و قوله: لا يَخْلُقُونَ نفي وَ هُمْ يُخْلَقُونَ إثبات؛ فقدم النفي على الإثبات، و كان الضر نفيا و النفع إثباتا؛ أي: النفع إثبات المصالح و إيجادها و الضر نفيها، فكما قدم فيما قبله ما نفى على ما أثبت حمل المعطوف عليه، ليكون مشاكلا له.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (3) و كذلك في سورة يونس، و كان هناك يجب أن تذكر الآيتان:وَ يَعْبُدُونَ

ص: 226


1- سورة: الفرقان، الآية: 3.
2- سورة: الرعد، الآية: 16.
3- سورة: الفرقان، الآية: 55.

مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (1).

للسائل: أن يسأل في هاتين الآيتين عن مثل ما سأل في الأوليين.

الجواب أن يقال: أما في سورة يونس، فإنه بدأ بما هو أبلغ إذا ابتدئ به؛ لأن امتلاك الضر أسهل من امتلاك النفع، فالواحد منا يقدر لغيره من الضر على ما لا يقدر عليه من نفعه، و يتسهل عليه ضره ما لا يتسهل على الفاعلين فكيف ما يتعذر، ثم ذكر بعده، وَ لا يَنْفَعُهُمْ لاستيعاب ما في الباب.

و أما في سورة الفرقان، فإنه تبع لما قدم فيه الأفضل على الأنقص لقوله تعالى:

وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ (2) و قوله بعده: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً (3) فقدم خلطة النسب على خلطة السبب، و هي: المصاهرة، ثم جاء بعد ذلك وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ، فقدم النفع على الضر اتباعا لما تقدم.

ص: 227


1- سورة: يونس، الآية: 81.
2- سورة: الفرقان، الآية: 53.
3- سورة: الفرقان، الآية: 54.

26- سورة الشعراء

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (1) و قال في سورة الأنبياء (2) و هو ما وجب ذكره هناك: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.

للسائل أن يسأل: ما الذي خصص ذكر «الرحمن» بسورة الشعراء، و ذكر «ربهم» بسورة الأنبياء؟

الجواب: أنه إنما خص هذين الوصفين من صفات اللّه تعالى في هذين الموضعين؛ لأن الرب هو القائم بمصالح الخلق من ابتداء التربية إلى آخر العمر، و الرحمن هو المنعم عليهم في الدنيا بما خلق فيها، و المعرض للنعيم الدائم بعدها، و إيتائهم بالذكر من عنده و هو القرآن العظيم مما يصلحهم فوق ما تصلحهم الأغذية المخلوقة لهم، فذكر أن الرب الذي أصلح بأنواع ما خلق أجسادهم أصلح بما صرفهم عليه من طاعته أديانهم، فهو ما يقتضيه الوصف بالرب و الوصف بالرحمن ... و أما اختصاص سورة الشعراء بالرحمن، فلأن السورة مقصود بها ذكر الأمم الذين بعث إليهم الأنبياء عليهم السّلام، و ختم على كل قصة من قصصهم بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ و أولها قصة موسى عليه السّلام، وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى (3)، فاتّصف تعالى بالعزيز الرحيم لما يوجبانه من الخوف و الرجاء اللذين بهما لزوم الطاعات، و الرغبة فيما علا من الدرجات، و أراد بالرحمة: أن هذه الأمة أمهلت لتقلع عن تمردها، و تعود إلى ربها و تتوب

ص: 228


1- سورة: الشعراء، الآية: 5.
2- الآية: 2.
3- سورة: الشعراء، الآية: 10.

من ذنبها، فلما لم تفعل، عوقبت في الدنيا سوى ما أعدّ لها في الآخرة. و قال في أول هذه السورة: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (1) إلا أنه أراد أن لا يكونوا كالملجئين في دينهم إلى اعتقاد ما يعتقدونه، و أمهلهم رحمة منه بهم، فقال: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ، فاختص هذا الوصف هنا لذلك .. و أما قوله في سورة الأنبياء: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، فلأنه عدّ إصلاح أديانهم من جملة إصلاح أبدانهم، و الرب القائم بما يصلح العبد، و الدين أبلغ في إصلاحه مما يغذوه من طعامه، و خص هذا الموضع بذكر ربهم؛ لأنه قال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (2)، و لا يغفلون إلا إذا كانوا في رغد من عيشهم، و لا سبيل إليه إلا بمظاهرة النعمة من اللّه تعالى، و فعله هذا بهم، يقتضي وصفه بربهم.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (3) و قال في سورة الصافات (4): وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ.

للسائل أن يسأل: عن زيادة ذا في قوله في الصافات: ما ذا تَعْبُدُونَ، و إخلاء ما في الشعراء منها.

الجواب أن يقال: إن قوله: ما تعبدون معناه: أي شي ء تعبدون، و قوله «ما ذا» في كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن تكون «ما» وحدها اسما، و «ذا» بمعنى: الذي، و المعنى: ما الذي تعبدون، و تعبدون صلة لها. و الآخر: أن تكون «ما» مع «ذا» اسما واحدا بمعنى: أي شي ء، و هو في الحالين أبلغ من «ما» وحدها إذا قيل: ما تفعل، فما تعبدون في سورة الشعراء إخبار عن تنبيهه لهم؛ لأنهم أجروا مقاله مجرى مقال المستفهم، فأجابوه و قالوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ، فنبه ثانيا بقوله: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، و أما ما ذا تَعْبُدُونَ في سورة الصافات، فإنها تقريع، و هو حال بعد التنبيه، و لعلمهم بأنه يقصد توبيخهم و تبكيتهم لم يجيبوا كإجابتهم في الأول ثم أضاف تبكيتا إلى تبكيت، و لم يستدع منه جوابا فقال: أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، فلما قصد في الأول التنبيه كانت «ما» كافية، و لما بالغ و قرع استعمل اللفظ

ص: 229


1- سورة: الشعراء، الآية: 4.
2- سورة: الأنبياء، الآية: 1.
3- سورة: الشعراء، الآيات: 69- 71.
4- الآيات: 83- 87.

الأبلغ، و هو «ما ذا» التي إن جعلت «ذا» منها بمعنى: «الذي» فهو أبلغ من «ما» وحدها، و إن جعلا اسما كان أيضا أبلغ، و أوكد مما إذا خلت من «ذا».

الآية الثالثة من سورة الشعراء

قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (1).

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب إدخال هُوَ في قوله: وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ، و قوله: فَهُوَ يَشْفِينِ، و إخلاء قوله: وَ الَّذِي يُمِيتُنِي منها، و لم يقل: و الذي هو يميتني كما قال: وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي؟

الجواب: أن يقال: لو جاء: و الذي يطعمني و يسقين و إذا مرضت فهو يشفين، لكان معلوما أن مراده هو اللّه تعالى، و ذكر «هو» توكيدا لمعنى الكلام، و تخصيصا للفعل به دون غيره، و احتاج ذكر الإطعام و الشفاء إلى هذا التوكيد؛ لأنهما مما يدعي الخلق فعله، فيقال: فلان يطعم فلانا و الطبيب يداوي و يسبب الشفاء، فكان إضافة هذين الفعلين إلى اللّه تعالى محتاجة إلى لفظ التوكيد، لما يتوهم من تضيفه إلى المخلوق إلى ما لا يحتاج إليه إضافة الموت و الحياة؛ لأن أحدا لا يدعي فعلهما كما كان يدعي الأولين، فافترقا لهذا الشأن.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (2) و قال في قصة شعيب عليه السّلام: وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (3).

للسائل أن يسأل: عن الواو في قصة شعيب في قوله: وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، و حذفها من مثله في قصة صالح عليه السّلام.

ص: 230


1- سورة: الشعراء، الآية: 78- 81.
2- سورة: الشعراء، الآيتان: 153، 154.
3- سورة: الشعراء، الآيات: 184- 186.

الجواب أن يقال: إن قوم صالح في حال هذا الخطاب، لم يدفعوا أمره كما دفع أمر شعيب قومه، فيما حكى اللّه تعالى من قولهم لصالح عليه السّلام، إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، ثم لم يطلبوا منه ما ليس لهم طلبه؛ لأنهم قالوا: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، و هذا لا شطط فيه، و لا في قولهم: أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، و قولهم: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا؛ لأن اللّه تعالى يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و سلم: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (1)، و المسحرون فيه أقوال أحدها: الذين لهم سحر و روية و قيل:

المعللون بالطعام و الشراب كما قال امرؤ القيس:

أرانا موضعين لحتم غيب و نسحر بالطعام و بالشراب

و قال لبيد:

فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر

و قيل: المسحرون: المسحورون، كأنه سحر مرارا حتى خبل و فسد عقله و اضطرب رأيه، عن مجاهد و قتادة، و قيل: المسحرون: المخلوقون؛ عن ابن عباس، فالموضع الذي لا واو فيه هو بدل من الجملة التي قبله، ثم قال: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، و لهم أن يقولوا ذلك، و أما قوم شعيب فإنهم في خطابهم المحكي عنهم مشطون و مبالغون في رده و تكذيبه فقالوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، على خبرين عطف أحدهما على الآخر، و قالوا بعده: وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ على معنى: و إنا لنظنك كاذبا أي: الغالب في أمرك عندنا أنك كاذب، فلم يجعلوا الخبرين خبرا واحدا، بل جعلوها أخبارا ثلاثة قولهم: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ؛ أي: لست من الملائكة الذين هم رسل اللّه إلى خلقه، فلا يطعمون و لا يشربون، بل أنت من المغتذين بالطعام و الشراب، و قولهم: وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: لا فضل لك علينا، فهو خبر ثان، و قوله: وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ خبر ثالث، ثم طلبهم إسقاط كسف من السماء تكون أمارة لصدقه خلاف ما طلبته ثمود حين قالت: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، و لم تقترح بالحالة التي كانت فيها عند مخاطبة نبيها لها، و لم يقارنها من التمرد ما قارن حال قوم شعيب حين ردوا عليه في خبر بعد خبر، فكان موضع الواو في قصتهم لذلك، و لم يكن لها موضع في الأول لما بينا من إبدالهم الجملة الثانية من الأولى، و اقتصارهم على بعض ما انبسط فيه غيرهم.

ص: 231


1- سورة: الكهف، الآية: 110.

27- سورة النمل

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) و قال في سورة القصص (2): فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.

للسائل أن يسأل فيقول: في سورة النمل ما ليس في سورة القصص، و المحكي شي ء واحد، و الزيادة قوله: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، و في سورة القصص أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.

الجواب أن يقال: الحكايات ليس يشترط فيها إذا أديت معانيها دون ألفاظها استيعاب جميعها في مكان واحد؛ بل يجوز أن تفرق في أماكن كثيرة، فهذا وجه، و يكون معنى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي: من المرسلين الذين لا يخافون، و يجوز أن يكون إِلَّا مَنْ ظَلَمَ خارجا عن الحكاية، و يكون خبرا من اللّه تعالى يخبر به نبينا عليه السّلام، فيعترض بين جمل ما يحكي كما قال اللّه عز و جلّ فيما حكى من كلام صاحبة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (3) فيكون وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ غير محكي، و إنما يكون خبرا من اللّه تعالى معترضا بين ما حكى تصديقا لها ثم قال عائدا إلى حكاية قولها: وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ (4)، و يجوز في هذا المكان

ص: 232


1- سورة: النمل، الآيتان: 10، 11.
2- الآيتان: 31، 32.
3- سورة: النمل، الآية: 34.
4- سورة: النمل، الآية: 35.

معنى: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ من الحكاية على معنى أن الملوك تأثيرهم في القرى التي يدخلونها تخريبها و كذلك يفعل هؤلاء يعني: سليمان عليه السّلام و خيله، و معنى قوله في الآية إِلَّا مَنْ ظَلَمَ محمول على وجهين:

أحدهما: أن يكون استثناء من متصل لا من منقطع، فيكون مستثنى مما يدل عليه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، و هذا يدل على أن غيرهم يخافون، فترك ذكرهم لقوة الدلالة عليه كما قال: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (1)، فحذف البرد لعلم المخاطبين به، و إذا كان «لكن غير المرسلين يخافون» مقدرا إثباته كان الاستثناء منهم؛ أي: أنهم يخافون إلا من محى ظلمه بتوبة.

و الوجه الثاني: أن يكون استثناء منقطعا تقديره: لكن من ظلم من غير المرسلين، ثم بدل سيئة بحسنة، و محى خطيئته بتوبة، فاللّه غفور رحيم.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2).

للسائل أن يسأل عما ختمت به هذه الآيات بعد قوله: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ و هل تقدم ما يوجب اختصاص ذلك به دون غيره؟

الجواب: أن يقال قوله تعالى: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ بنيت عليه هذه الآيات

ص: 233


1- سورة: النحل، الآية: 81.
2- سورة: النمل، الآيات: 59- 64.

و تكلم أهل النظر في قولك: هذا أفضل من هذا، و هذا خير من هذا، فقال بعضهم يقال في الخير الذي لا شر فيه و الشر الذي لا خير فيه إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به هذا الخير: خير من الشر، و أنكر على من خالف هذا و علم ذلك عند أهل الأعراب، و هو: أن الأصل في باب أفعل من كذا للتفضيل، فإذا قيل: هذه الأسطوانة أطول من تلك، فقد وصفها بالطول، إلا أنه يزيد في طول إحداهما على طول الأخرى، و ألزم أفعل من ابتداء الغاية، كأن المعنى ابتداء زيادة طولها منتهى الأسطوانة الأخرى، فلا يقال: أفعل من كذا إلا و المفضل عليه فيه ذلك المعنى الذي زاد به المفضل عليه .. فأما قوله تعالى بعد وصف النار: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (1) إلى قوله: وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (2) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ (3)، و لا خير في الأول فإنما المعنى أن هؤلاء الكفار يحرصون على ما يكسبهم النار كأنهم يرونها خيرا لهم، ثم وصف ما يختارونه بصفته، و أتبعه الخير الذي لا شر فيه، فقال: فعلكم فعل من يرى النار خيرا له من الجنة فانظروا هل هي كذلك أم لا؟ و كذلك قوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (4)؛ أي: يتعرضون لها، و يكتسبونها، ففعلهم فعل من يصبر عليها، و كذلك قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أي: هم مشغولون بعبادة الأوثان عن عبادة الرحمن، و فعلهم ينبئ أنها تنفعهم فوق ما ينفعهم خالقهم، فكأنهم قالوا: إن تلك أنفع لهم منه تبارك و تعالى، ثم قررهم فقال: آلله أنفع لكم أم الأوثان؟ و فصل عظم المنافع التي أنعم اللّه بها و لم يشاركه غيره فيها فقال:

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً أي: إذا اعترفتم بأن اللّه سنى لكم المصالح، و يسر لكم المنافع، و خلق السموات و الأرض اللتين بهما أمسك الخلق، و أنزل المطر من فوق، و أنبت به قوام الناس من تحت من بساتين ذوات المناظر الحسنة سوى المآكل الطيبة، ثم قال: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أ يحتاج من يفعل هذا إلى عضد و معين؟ بل الكفار قوم يعدلون عن الحق، و قيل: يعدلون بمن يفعل هذا غيره، تعالى اللّه عن ذلك، فهذا موضع، بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ؛ لأن أول الذنوب: العدول عن الحق و قبوله و أن يثبت إلها مع اللّه، تعالى اللّه، فيعدله به، و قوله: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً (5) وصف ما أظهره اللّه من قدرته في البر و البحر مما به إمساك الأرض، ثم قال: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أ مع اللّه من يفعل مثل فعله، بل أكثرهم لا يعلمون ما لهم

ص: 234


1- سورة: الفرقان، الآية: 12.
2- سورة: الفرقان، الآية: 14.
3- سورة: الفرقان، الآية: 15.
4- سورة: البقرة، الآية: 175.
5- سورة: النمل، الآية: 61.

في عبادة اللّه تعالى و إخلاصها، و ما عليهم في إشراك غيره فيها أي: لو علموا ما تنتهي إليه عواقب هذين لما عدلوا عما هو لهم أنفع إلى ما هو لهم، أضر و هذا مكانه بعد قوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، و قوله بعد ذلك: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (1) ذكرهم بما لا يكاد يخلو منه أحد إذا دفع إلى شدة و اضطر إلى الانقطاع إلى اللّه تعالى فدعاه و كشف شدته، و قوله: وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؛ أي: يقيم المظلوم مقام الظالم في أرضه، و يجعل من في العصر الثاني خلفا ممن في العصر من قبله، و هذا موضع ينسى فيه الإنسان سالف شدته براهن نعمته فقال: قليلا تذكركم ما مر في ذكركم من بلائكم و شركم، و هذا موضع يليق به ما جاء فيه و هو قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، و قوله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (2) قوله: يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ معناه: ينجيكم منها بهدايته، و ما نصب لكم من آياته بالنجوم التي تعولون عليها في الماء و في البر إذا لم تهتدوا في الظلمات و هو مثل قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (3) فلما كانت هدايته في البر و تسييره جواري الفلك بالريح ضم إليه الريح الأخرى المبشرة بالقطر، فلما ختم الآية التي هي في معناها بقوله:

ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ختم هذه بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ لأن المذكورين في هذه الآية هم المذكورون في تلك .. و أما قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)؛ أي: من لابتداء كونكم و هو خلقكم و من لانتهائه و هو بعثكم لمجازاتكم- «و من» للحال المتوسطة بين هذين، و هو حفظ حياتكم بأقواتكم و أرزاقكم من السماء و الأرض- أ إله مع اللّه هاهنا من يعدل رب العالمين، هلموا برهانكم و ما يظهر في النفوس أن ما تقولونه حق و أن ما عداه باطل، فإنكم لا تقدرون إلا على ضده مما يدل على أن ما تقولونه باطل و ما عداه مما تخالفونه حق، فقد بان و وضح أن كل خاتمة لائقة بمكانها و السّلام.

ص: 235


1- سورة: النمل، الآية: 62.
2- سورة: النمل، الآية: 63.
3- سورة: الأنعام، الآيتان: 63، 64.
4- سورة: النمل، الآية: 64.

28- سورة القصص

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (1) و قال في حم عسق: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).

للسائل أن يسأل في هذا المكان عن مسألتين.

إحداهما: وَ ما أُوتِيتُمْ في الأولى بالواو، و في الثانية بالفاء، و ما الذي خصص كل مكان بما جاء فيه.

و الثانية: قوله تعالى في الأولى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها، فذكر الزينة في الأولى، و لم يذكرها في الأخرى.

الجواب عن ذلك أن يقال: هذه الآية جاءت بعد قوله: وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (3)، ثم خاطب الذين أوعدهم بمثل ما أهلك به من قبلهم، و أنه ليس لكم فيما تؤتونه في الدنيا عوض مما يفوتكم في الأخرى؛ لأن جميع ذلك لا ينفك مما تنتفعون به انتفاعا منقطعا، و إن تطاول أمده، أو تتزينون به، فجميع أغراض الدنيا مستوعب بهذين اللفظين، إما ما لا يستغني عنه الحي من مأكول و مشروب و ملبوس و منكوح، و يرى العاقل المتعة بها قليلة و إن كانت طويلة لانقطاعها بالموت و انتهائها إلى حسرة الفوت، و إما ما لا حاجة به إليه من فضول العيش مما يتزين به من الملابس الفاخرة، و الآلات الحسنة، و الدور المزوقة المنجدة و الخيل و البغال و الحمير، ما ركب منها للحاجة إليها، و ما

ص: 236


1- سورة: القصص، الآية: 60.
2- سورة: الشورى، الآية: 36.
3- سورة: القصص، الآية: 59.

اتخذ زينة يتجمل عند الأكفاء بها، فما كان محتاجا إليه فهو متاع أيام قليلة، و ما فضل عن ذلك فهو ما يقتنى لعدة و زينة، و الدليل على أن الخطاب خارج على هؤلاء و إن صلح عظة لجميع الناس التفصيل الذي جاء بعده في قوله: أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (1). أي: يحضرون العقاب لتقدم ذكر من يعطي الثواب، فلم يكن لعطف هذه الجملة على الجملة المتقدمة غير الواو، إذ لا معنى هاهنا من معاني الفاء .. و أما ذكر زينتها فلاستيعاب جميع ما بسط فيه الرزق للكفار ... و الآية الثانية قبلها: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (2) و لفظ ذلك عام، و معناه خاص إذ كانت المصائب تصيب من لم يذنب و لا عقاب عليه، فالمراد به: بعض المصابين و بعض المصائب ثم تبعه قوله: وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ (3) إن يشأ يفعل، أو لا يفعل أي: إن شاء أنجى أهلها، و إن شاء أهلكهم بذنوبهم، و قد لا يهلكهم فيعفو عمن يستحق العفو، و يمهل من علم منه الصلاح الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا (4) و هم الكفار، يعلمون و هم في السفن أنهم لا منجى لهم إلا باللّه و لطفه ثم خاطبهم، فقال: و إن أوتيتم السلامة و رزقتم بعدها العافية، فذلك قليل البقاء، و إن امتد أياما، فليس القصد في هذا المكان استيعاب جميع ما يتوهم في دنياهم، بل هو مطلوبهم في تلك الحال من النجاة و الأمن في الحياة، فلم يحتج إلى ذكر الزينة و لم يكن إلا موضع الفاء لأن تعلق ما بعدها بقوله: وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (5)؛ أي: يغلب على ظنونهم ذلك، فإن أنجاهم اللّه و أعطاهم مرادهم في تلك الحال، فإن ذلك سريع الزوال عنهم قليل البقاء معهم، و الذي أعده اللّه تعالى للمؤمنين خير و أبقى، ثم وصف المؤمنين بصفات ترغبهم في الكون عليها في قوله:

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ (6) إلى آخر القصة، كما زهدهم في التمسك بالدنيا الفانية، فالمراد بما يؤتونه إنما هو مطلوبهم من السلامة و النجاة من تلك الهلكة، و الأمن من أمثالها من الورطات، و ذلك عقيب ما أشرفوا عليه من الغرق، و لا موضع لهذا الكلام يحسن غير العطف على ما قبله بالفاء؛ لأنه عقب ما نالهم من المخافة بما أوتوه من الأمنة و حال السلامة إلى سائر ما للّه من النعمة، فقد تضمن ما ذكرنا الجواب عن المسألتين.

ص: 237


1- سورة: القصص، الآية: 61.
2- سورة: الشورى، الآية: 30.
3- سورة: الشورى، الآية: 32.
4- سورة: الشورى، الآية: 35.
5- سورة: الشورى، الآية: 35.
6- سورة: الشورى، الآية: 37.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عن تقديم الليل على النهار، و أنه لو قدم النهار هل كان على مقتضى الحكمة؟ و قوله عقيب هذا أَ فَلا تَسْمَعُونَ و عقيب الآخر أَ فَلا تُبْصِرُونَ؟

الجواب عن ذلك أن يقال: إن نسخ الليل بالنهار الأعظم أبلغ في المنافع بما ضمن من المصالح من نسخ النهار بالليل، أ لا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه؛ لأن الليل في دار التكليف للاستراحة و الاستعانة بالجمام و الراحة على ما يلزم من الكلف المتعبة، و المشاق المنصبة، و دار النعيم يستغنى فيها عن ذلك؛ لأنها مقصورة على نيل المشتهى، و على ما تلتذ به النفس و تهوى. فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي يمكّن من التصرف في المعايش و السعي في المصالح إلى ما لا يحصى كثرة من المنافع المتعلقة بالشمس أحق و أولى .. و قوله: أَ فَلا تَسْمَعُونَ أي: أ فلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل، و يحيط بأكثر ما جعل اللّه في النهار من المنافع، أم أنتم صمّ عن سماع ما ينفعكم، و قوله: يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ أي: أ فلا تستدركون من ذلك ما يجب استدراكه، فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر له و تفكر فيه و لم يجعله السامع دبر أذنه.

ص: 238


1- سورة: القصص، الآيتان: 71، 72.

29- سورة العنكبوت

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1) و قال في سورة لقمان (2): وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و قال في سورة الأحقاف (3): وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات الواردة في الوصاة بالإحسان إلى الوالدين و البر بهما إلا إذا دعوا إلى الشرك و بعثا على الكفر، و عن موقعها، و هل كان يصلح إحداها مكان الأخرى؟

الجواب أن يقال: أما موقع هذه الآية من سورة العنكبوت، فمشبه مواقع الآيات التي قبلها و التي بعدها، و ذلك أنه أجمل فيها الإحسان لقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (4) اشتمل هذا على جميع معاملة المؤمنين في الدنيا و الآخرة و هي في الدنيا إيمانهم و صالحات أعمالهم التي يكفر بها السيئات، فلا يؤاخذ بها من ضمن جزائه على أحسن عمله، و هو طاعة اللّه

ص: 239


1- سورة: العنكبوت، الآية: 8.
2- الآيتان: 14، 15.
3- الآية: 15.
4- سورة: العنكبوت، الآية: 7.

تعالى التي أخلصها له، و لم يقصد أن يعملها خلقه ثم قال: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً (1)؛ أي: ألزمناه حسنا في أمر والديه و قياما بحقوقهما عليه، ثم قال: و إن أراداك على الشرك فلا طاعة عليك لهما، فهذه جملة لم تتضمن ذكر السبب الذي أكد الحق بل اقتصر فيها على ما لا غنى عن علمه، و لا يعذر أحد في جهله، و أما الآية في سورة لقمان فإنها ذكرت بعد ما حكى اللّه تعالى عن لقمان من وصية ابنه إذ يقول: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2)، فذكر اللّه تعالى عقيب ذلك وصية الإنسان بهما و نبّه على السبب الذي له عظم حقهما فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ؛ أي:

ضعف حمل مضافا إلى ضعف المرأة، و قيل: ضعفا يتزايد على ضعف كما يتزايد ثقل الجنين، و أرضعته عامين، و هذان و إن انفردت بهما الأم فإن الأب يتحمل الشدائد في القيام بأمر الأم و الولد حتى يقدر على تربيته، و ربما ضيّق على نفسه فيما يصرف إليهما من نفقته، فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ، و المعنى: و وصيناه بأن اشكر لي و لوالديك، و أن بمعنى «أي» و هو تفسير الوصية و التنبيه على عظم النعمة، و وجوب شكر اللّه على قدر ما أولاه، إذ كان هو خلقه و سوى أعضاءه، و نفخ الروح فيه، و أنعم عليه قبل استحقاقه، ثم عرضه النعمة الشريفة و الدرجة العلية، و شكر بعض ذلك يستغرق الجهد و يفني الطوق، فأما شكر الوالدين، فهو أن يحسن إليهما و يبرهما و يكرمهما و يطيعهما، إلا إذا أمراه بمعصية اللّه تعالى، فتسقط عنه طاعتهما؛ لأنه مع إسقاط حق الخالق لا يثبت حق الوالدين لأن اللّه تعالى عقد شكرهما بشكره، فإذا دعواه إلى معصيته، فقد أبطلا به شكره، فانحل شكرهما المعقود معه، و قيل: إن هذه الآية نزلت في سعد بن مالك و هو سعد بن أبي و قاص، و روي عنه أنه قال: «كنت برا بأمي، فلما أسلمت قالت لي: يا سعد ما هذا الدين الذي أراك قد أحدثت، و اللّه لا آكل و لا أشرب، حتى أموت فتعير بي فيقال: قاتل أمه، فلم تأكل و لم تشرب يوما و ليلة فأصبحت و قد جهدت، فلما كانت القابلة لم تأكل و لم تشرب فأصبحت و قد اشتد جهدها، فقلت لها: يا أمه تعلمين و اللّه لو كان لك سبعون نفسا، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشي ء، فلما رأت ذلك أكلت و شربت، فأنزل اللّه هذه الآية فيّ»، فهذه الآية قد تضمنت من البيان و التفصيل ما لم تتضمنه الأولى؛ لأن تلك مذكورة مع الحمل، و هذه مذكورة لقصة مشروحة فيما بين آيات تضمنت الواجبات و المستحسنات فيما حكى اللّه عز اسمه في وصية لقمان لابنه، ثم كان في ذكر

ص: 240


1- سورة: العنكبوت، الآية: 8.
2- سورة: لقمان، الآية: 13.

أب وصى ابنه بمجانبة الشرك، و قرن إليه ما كان من خلاف ابن لأم بعثته جهدها على الكفر، و مما روي عن لقمان في معنى الوصية أنه قال: يا بني إن اللّه رضيني لك، فلم يوصني بك، و لم يرضك لي فأوصاك بي، و هذا كلام شريف له وقع كبير ذكرناه ليتدبر معناه.

و أما الآية الثالثة: فإنها وردت فيمن أوصي بوالديه و هما مؤمنان لا يمنعانه عن الإيمان، و هو من طاب نفسا و أصلا و رغب إلى اللّه أن يطيب فرعا؛ لأنه قال تعالى حكاية عنه: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي (1) و بعد هذه الآية ذكر ولد كافر استغاث اللّه والداه لإصراره على كفره و لما أعياهما من مداراة أمره ... فأما قوله: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (2) فالمراد: أقل حمله و هو ستة أشهر.

و يروى أن عثمان بن عفان رضى اللّه عنه أتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فشاور الناس في رجمها فقال ابن عباس رضى اللّه عنه: إن خاصمتكم إلى كتاب اللّه خصمتكم، قال اللّه تعالى:

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ، و قال: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، فالحمل ستة أشهر، و الفصال عامان، فخلى سبيلها و أما معنى قوله: وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: في انقضاء عامين؛ لأن الفصال هو الفطام: إذا فصل الولد عن الأم، فكانت الوصية الأولى في سورة العنكبوت وصية مجملة عامة للناس، و الثانية فيمن منعه أحد والديه عن الإيمان، و الثالثة فيمن آمن و آمن أبواه، و سأل اللّه أن يصلح أولاده، و كان هذا مذكورا مع آية في ذكر ولد كافر يجتهد والداه في دعائه إلى الإيمان، و الثالث في مؤمن أبواه مؤمنان، و الثاني في مؤمن أحد أبويه يمنعه من الإيمان، فالأول عام كما ترى، و قد استوعبت القصة ما يحتاج إلى ذكره في دعاء من يدعو ولده إلى كفره.

الآية الثانية من سورة العنكبوت

قوله تعالى: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (3) و قال في سورة حم عسق (4):وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

ص: 241


1- سورة: الأحقاف، الآية: 15.
2- سورة: الأحقاف، الآية: 15.
3- سورة: العنكبوت، الآية: 22.
4- الآيتان: 31، 32.

فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ.

للسائل أن يسأل عن فائدة قوله: وَ لا فِي السَّماءِ في سورة العنكبوت و الاقتصار على ذكر الأرض في هذه، و هل كان يصلح أحدهما مكان الآخر؟

الجواب أن يقال: إن الآية التي في سورة العنكبوت تحكي قول إبراهيم عليه السّلام لكفار قومه و فيهم نمرود بن كنعان الذي حاجّه، و في كثير من الأخبار أنه رام الصعود إلى الجو يوهم أنه يحاول السماء كما قال فرعون لهامان في بناء الصرح ما حكاه اللّه تعالى في كتابه في موضعين، فقال لهم إبراهيم عليه السّلام: لا تفوتون اللّه في الأرض كنتم أو في السماء، و لا سبيل لكم إليها كما قال اللّه تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (1). و أما الآية في سورة حم عسق (2) فإنها بعد قوله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ و هذا عام في المصائب و المراد به الخصوص؛ لأنه ليس مصيبة مستحقة باجترام إذ قد يصاب من لا جرم له، و من لم يبلغ حد التكليف، فيجب عقابه على ذنب يكون منه، و المخاطبون مخصوصون بالمعنى و إن عموا باللفظ، و قوله: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي:

عن ذنوب يتجاوز عنها و لا يؤاخذ بها، و لا يكون ذلك للكفار؛ لأن العفو مبذول لمستحقه، و إذا صح أن هذا الخطاب متوجه على المسلمين و تبعه قوله: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (3) علم أنه وعيد لهم، و ليسوا من القوم الذين يخاطبون بقوله: وَ لا فِي السَّماءِ، و معناه: لا تسلكون مسلكا تلتجئون إليه من عقاب اللّه إذا وجب عليكم، و قد جاء هذا بغير لفظ الأرض و السماء و هو قوله: وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (4) فيكون هذا مطلقا في كل ملجأ و مهرب. و قد قيل في قوله: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ؛ أي: لا تفوتون من في الأرض من الإنس و الجن و لا من في السماء يعني: من الملائكة، و هم خلق اللّه، فكيف تعجزون الخالق تعالى عن ذلك ..

و قول ثالث و هو أن يكون المراد: لا تفوتون أنفسكم ما يحق من عقاب اللّه عليكم إن هربتم في الأرض كل مهرب، و إن صعدتم في السماء كل مصعد لو استطعتموه كما قال:

ص: 242


1- سورة: الرحمن، الآية: 33.
2- الآية: 30.
3- سورة: الشورى، الآية: 31.
4- سورة: الزمر، الآية: 51.

فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ (1)؛ أي:

لا يكون ذلك أبدا، و في الجواب الأول كفاية في الفرق بين الموضعين، و ما يختار لكل واحد منهما.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (2) و قال بعده: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (3).

للسائل أن يسأل فيقول: قال في إنجاء إبراهيم عليه السّلام من النار: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، و قال في خلق السموات و الأرض: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فوحّد الآية هنا و جمعها هناك. و الآيات في خلق السموات و الأرض أكثر منها في تخليص إبراهيم عليه السّلام من النار.

الجواب أن يقال: إذا أخبر اللّه تعالى عن المؤمنين في كتابه فهو متناول من كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم و هم محدودون، و إذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فهو لأقوام لم يتناهوا، فكل من يؤمن إلى يوم القيامة منهم و داخل فيهم، و لكل دلالة و أمارة بينة فجمعت لعدتهم التي لم تتناه، و لما قال في خلق السموات و الأرض آية للمؤمنين و هم جماعة واحدة محصور عددهم و الآية الواحدة تجمعهم باين الخبر عنهم الخبر عمن وجد و عمن لم يوجد أكثرهم، فاختلفت بهم الدلالات و جمعت لهم الآيات لانتشار أعدادهم و تباين أمدادهم، فاختلف الموضعان لذلك.

الآية الرابعة منها

قوله تعالى: وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (4).

ص: 243


1- سورة: الأنعام، الآية: 35.
2- سورة: العنكبوت، الآية: 24.
3- سورة: العنكبوت، الآية: 44.
4- سورة: العنكبوت، الآيات: 47- 49.

للسائل أن يسأل: عن تسمية الجاحدين في الآية الأولى بالكافرين، و في الثانية بالظالمين، و أولئك ظالمون كما أن هؤلاء كافرون فلما ذا اختصاص الأولى بتلك الصفة و الثانية بهذه الصفة؟

الجواب: أن من جحد آيات اللّه فقد كفر نعمته و هذا أول ما يفعله؛ لأن ذلك متعلق بما قبله ممن تولى خلقه و أنعم عليه بما استوجب به شكره، فأول فعله كفر نعم اللّه، ثم إنه مسي ء إلى نفسه ظالم بأن أبدلها من النعيم الذي عرض له عذابا لا يطيقه، فكفره أول في الذكر، و ظلمه ثان؛ لأنه فوت نفسه عظيم الأجر آخرا في العمل، فقدم الكافرين على الظالمين لذلك.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (1) و قال في سورة آل عمران (2): أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.

للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة آل عمران بالواو في قوله: وَ نِعْمَ و إخلائها في سورة العنكبوت منها.

الجواب أن يقال: إن الآية من سورة آل عمران مبنية على تداخل الأخبار؛ لأن أولها: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، ف «أولئك» مبتدأ «و جزاؤهم» مبتدأ ثان، «و مغفرة» خبر المبتدأ الثاني، و هو مع خبره خبر المبتدأ الأول، و الجزاء: هو الأجر فكأنه قال: أولئك أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم و إدامة نعيمهم، و هذا الأجل مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنسقت الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي هدفت لرجاء الراجين، و أكملت بها منية المتمنين، و الخبر إذا جاء بعد خبر في مثل هذا المكان الذي تفضل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو، و كقولك: هذا الجزاء كذا و كذا أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب، و التنعيم في جنة الخلد، و تفضيله على

ص: 244


1- سورة: العنكبوت، الآيتان: 58، 59.
2- الآية: 136.

كل جزاء جوزي به عامل، و ذلك تشريف و كرامة .. و أما الآية التي في سورة العنكبوت فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة و هي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً فقوله: الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ و قوله:

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في موضع خبره فهذا الخبر يتصل به مفعولان الأول: هم، و الثاني قوله:

غرفا، و غرفا نكرة موصوفة بقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و قوله: خالِدِينَ فِيها حال من التبوء، فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد و هو جملة ابتداء، و خبر، و احتمل قوله: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أن يجي ء بالواو و أن يجي ء من دونها اختير مجيئها بغير واو ليشبه ما تقدم من عقد بخبر لا على سبيل عطف و نسق، و يحتمل أن يكون في موضع خبر مبتدأ، فكأنه قال: ذلك نعم أجر العاملين، و يكون قوله «ذلك» إشارة إلى ما ذكر اللّه تعالى من إسكانهم الجنة، فيجري بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام الأول كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ (1) فقوله: ذلِكَ و إن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى، و كأنه قال: لهم ما يشاءون عند ربهم مشار إليه بأنه الفضل الكبير و قوله:

نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: ذلك نعم أجر العاملين مشار إليه بالتفضيل على أجور العاملين، و إذا كان الأمر على ما ذكرنا في الآيتين لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به فاعرفه.

الآية السادسة من سورة العنكبوت

قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (2) و قال في سورة القصص (3): وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ... و قال في سورة حم عسق: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (4) و كذلك في سورة الرعد (5): اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا.

للسائل أن يسأل عن الآية الأولى، و تخصيصها بالذكر بقوله: مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ من دون قوله: «له» عن الأخريين و مجيئهما من اللفظتين عاريتين، و هما «من عباده» «و له».

ص: 245


1- سورة: الشورى، الآيتان: 22، 23.
2- سورة: العنكبوت، الآية: 62.
3- سورة: القصص، الآية: 82.
4- سورة: الشورى، الآية: 12.
5- الآية: 26.

الجواب عن ذلك أن يقال: أما الأولى في سورة العنكبوت فإنها جاءت بعد قوله:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (1) فلما ذكر: أن اللّه تعالى هو رازق جميع الحيوانات ما ادخر منها كالنمل، و ما لم يدخر كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا، فبيّن اللّه أنه كما كان في غيرنا من الحيوان ما هو موسع عليه، و ما هو مضيق عليه كذلك الأمر فينا ثم قال: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ و كان بعد القسمة الأولى من يبسط له الرزق في حال، و يضيق عليه في أخرى فقال: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ فالهاء في «له» ترجع إلى ما شاء من عباده، و من يشاء مفعول ببسط، فكان من يقدر له هو من يبسط له في وقتين مختلفين، فاقتضى هذا المكان اللفظ الذي جاء فيه بالمعنى الذي هو غير الأول من جمع البسط و القبض لواحد في حالين، و كذلك قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ (2)، و أما قوله في سورة القصص (3): وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ و المعنى: انتبهوا لأن اللّه يوسع الرزق لمن يشاء لا لكرامته كما وسع على قارون، و يضيقه على من يشاء لا لهوانه كما ضيق على كثير ممن آمن به، ثم قال تعالى حكاية عنهم: لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا (3)؛ أي: لو لا منّ اللّه علينا بأن صرف عنا الغنى الذي يقع الكفر معه لكفرنا نحن مثل كفره، و لخسف بنا كما خسف به فقوله: لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ أي: يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له، و يقدر لمن يشاء قدره عليه، فأضمر الفعل الثاني مثل ما تعدى إليه الفعل الأول و هو «من يشاء» لعلم المخاطب به، و أنه في المعنى غير الأول و إن كان في اللفظ مثله .. و أما الآيتان في سورة حم عسق و سورة الرعد، فإنهما مقصورتان على ذكر البسط و القبض فحسب، و التي في الرعد (4) جاءت مع قوله: وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا و فيه دليل على أنهم موسع عليهم في الرزق لقوله: وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا و لما قال لهم سُوءُ الدَّارِ أي: وسع عليهم في الدنيا ليس لكرامتهم، و أن من ضيق عليه فيها ليس ذاك لهوانه، فاقتضى المكان هذا لأجل المعنى، و وقع اختصار في اللفظ في الفصل الثاني؛ لأن ما تعدى إليه مثل ما

ص: 246


1- سورة: العنكبوت، الآية: 60.
2- سورة: سبأ، الآية: 39.
3- الآية: 82.
4- الآيتان: 25 و 26.

تعدى إليه المفعول الأول من المذكور بعده ... و كذلك قوله في سورة حم عسق: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ أجمل القول في التوسعة و التضييق، لما أخبر أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجا؛ أي: من أجناسنا أشكالا ذكورا و إناثا و من الأنعام مثلها، فإنه ينشئنا في هذا الخلق، فلا يزال الآخر مخلوقا في الأول في ظهور الآباء و بطون الأمهات إلى الوقت المعلوم، و هو يملك أرزاق هذا الجمع من السماء بالمطر و النبت «فواد خطا و واد مطر» على ما يشاء رب العالمين، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

الآية السابعة من سورة العنكبوت

قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1). و قال في سورة الجاثية (2): وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و قوله في سورة البقرة (3): إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.

للسائل أن يسأل عن الآية من سورة العنكبوت لما ذا خصت ب «من» في قوله:

مِنْ بَعْدِ مَوْتِها و أخلى الموضعان الآخران منها؟

الجواب أن يقال: إن التقرير يؤثر فيه من تحقيق الكلام ما لا يؤثر في غيره، و الظروف إذا حدت حققت، تقول: سرت اليوم فإن قلت: من أوله إلى آخره كان الحد تحقيقا؛ لأنه قد يطلق لفظ اليوم و إن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، و إن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحد زال هذا الوهم، فقوله: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها تحقيق؛ لأنه محدود بمن، و خص به التقرير؛ لأنه من أماكنه، و قوله تعالى في الآيتين الأخيرتين:

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ليس فيه تقرير كما كانت الأولى و إن كان يؤدي معنى المحدود إلا أنه ليس له لفظه فاختلف الموضعان بما ذكرت.

الآية الثامنة من سورة العنكبوت

قوله تعالى:وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ

ص: 247


1- سورة: العنكبوت، الآية: 63.
2- الآية: 5.
3- الآية: 164.

مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (1) و قال في سورة لقمان (2):

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: لا يَعْقِلُونَ و الثانية بقوله:

لا يَعْلَمُونَ.

الجواب أن يقال: إن الأولى في التنبيه على البعث و الإحياء بعد الموت، فاستعمل فيه لا يَعْقِلُونَ؛ أي: لا يفهمون عن هذا الفعل مثله و في مثل هذا يقال: عقلت من كلامه كذا؛ أي: استدركت و فهمت، و من تنبه على الشي ء علمه بعد أن لم يكن منتبها عليه يستعمل فيه مثل فطرته و عقله و إدراكه و شعوره، و إن صحب كل ذلك العلم إلا أنه علم على وصف، و كذلك لما فصل الآيات التي أقامها في السماء و الأرض، و في أصناف الخلق ذكرها في سورة الروم، و عقب بعضها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) و إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (3) و إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (3) و قال فيما معناه ما ذكرنا: وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) فخص ذلك بقوله: يَعْقِلُونَ دون ما تقدم من الآيات المختومة بغيره من الألفاظ، و ليس كذلك الآية من سورة لقمان؛ لأن الكفار فيها مقرّون بأن اللّه وحده خالق السموات و الأرض و هم يعلمون ذلك و يثبتون معه آلهة فكأنهم لا يعلمون، فلذلك قال:

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فإذا عبدوا الأصنام العبادة التي تحق لمن خلق السموات و الأرض بإقرارهم، فكأنهم لم يعلموا ما أقروا به و ثبت معلوما لهم.

الآية التاسعة منها

إنه حضر ذكرها في سورة العنكبوت بعد الفراغ مما جاء فيها فذكرناها آخرها قوله تعالى في سورة العنكبوت (5): وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ فأكد «لما» بأن قرن إليها «أن» و هي في سورة هود (6):

ص: 248


1- سورة: العنكبوت، الآية: 63.
2- الآية: 25.
3- سورة: الروم، الآيات: 21- 23.
4- سورة: الروم، الآية: 24.
5- الآية: 33.
6- الآية: 77.

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ فلم يؤكد «لما» فيها ب «أن» توكيدها في سورة العنكبوت، و ما الفرق بينها و بين ذكرها في سائر القرآن خالية من التوكيد بأن؟

الجواب أن يقال: اقتران «أن» بها في سورة العنكبوت تكملة لمعناها في نفسها ليدل بذلك على أنه قد قارن جوابها متصلا به ما يكمله، و يخلصه لتحقيق أو بطلان، فالتي في سورة العنكبوت قد اتصل بجوابها، سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ما يكمله و يخلصه لبطلان الذرع السابق إليه، و مثله: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً (1) فقوله: فَأَلْقِهْ جواب: لما، و قوله متصلا به: فَارْتَدَّ بَصِيراً تكملة للجواب و كذلك قول الشاعر:

و لما أن رأيت بني سميط و جوابه في البيت الثاني:

تجللت العصا و تكملته قوله متصلا به:

و علمت أني رهين مجلس أن يدركوني و كذلك قوله:

فلما أن تنشي قام خرق فهذا جواب «لما»، و بعده ما يدل على أنه عرقب ناقة سمينة له، فكان تكملة لجواب «لما» و هي في قوله في سورة هود لم يتصل بجوابها ما يخلصه لتحقيق أو بطلان إلا في الآية الخامسة عند قوله: قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ (2) فبعد هذا عن الجواب و لم يتصل به ما يكون من تمامه.

ص: 249


1- سورة: يوسف، الآية: 96.
2- سورة: هود، الآية: 81.

30- سورة الروم

الآية الأولى منها

قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها (1) و قال في سورة فاطر (2): أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ.

و قال في سورة المؤمن (3): أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ. و قال في آخر هذه السورة: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (4).

للسائل أن يسأل: عن اختلاف ألفاظ هذه الآيات، و اختصاص كل ما خالف منها الآخر بمكانه.

الجواب عن ذلك: أن يقال: أما التي في سورة الروم فإنها وقعت في سورة أجملت فيها القصص في ذكر الآيات، و المواعظ و الفرائض، فبنيت هذه الآية على ذلك أ لا ترى أن قبلها أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (5) و قال:أَ وَ لَمْ

ص: 250


1- سورة: الروم، الآية: 9.
2- الآية: 44.
3- الآية: 21.
4- سورة: غافر، الآية: 82.
5- سورة: الروم، الآية: 8.

يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ (1) و قال في تنزيه اللّه سبحانه و تعالى و تسبيحه في الصلوات: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ للصلاتين إذا أمسى وَ حِينَ تُصْبِحُونَ لصلاة الفجر، وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا لصلاة العصر وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (2) لصلاة الظهر، فأجمل القول فيما فسره على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، فلما كان الموضع موضعا قصد فيه ذكر الجمل قال: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و معنى «من قبلهم» «و قبلهم» واحد و العامل في الظرف كون محذوف؛ لأن الكون المذكور هو لكيفية العاقبة و هذا لكونهم قبلهم، و قد أظهر في سورة المؤمن حيث قال: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ثم استأنف الإخبار عنهم بأفعال فعلوها قدم ذكر أحدها، و نسق الباقي عليه فقال: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها إلى آخر أمرهم، فكان حذف الواو الاختيار في هذا المكان؛ لأن التقدير لما قال: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ صار كأن سائلا سأل فقال: كيف كانوا؟ و بما ذا عوملوا؟

فجاء كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً مجي ء الجواب المتضمن لأفعالهم ثم ذكر بعده ما تضمن الجزاء على أعمالهم، و إذا كان كذلك لم يحتج إلى الواو كما احتاج إليها ما في سورة الملائكة؛ لأن تلك تضم ما بعدها إلى ما قبلها، كأنه قال: انظروا كيف أذلوا و كانوا أعز منكم عزة؟ و كيف أضعفوا و كانوا أشد منكم قوة؟ أي: لحقهم ذلك في حال متناهية بهم من أحوال الدنيا فأبدلوا بأحوال غيرها و قبل ذلك فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (3)؛ أي ليس الكفار ينتظرون إلا الهلاك المستأصل لهم كما حكم اللّه به على الأمم قبلهم، و اللّه سنّ ذلك في أمة كل نبي بعده نبي آخر و حكم في هذه الأمة بأن لا تستأصل كما استؤصل غيرها، فلا الأمة التي حكم عليها بالهلاك يبدل حكمه فيها و يجعل مكان الاستئصال الاستبقاء، و لا التي حكم عليها بغير الاجتياح تجتاح فيحول إليها الحكم الذي سنه في غيرها، و هؤلاء الذين بعث على تدبر حالهم هم الذين أهينوا بعد عزة، و أضعفوا بعد قوة فبدلت حالهم، فكأنه قال:

أضعفوا و كانوا أشد منكم قوة، فكان وجه الكلام هنا الواو إذ لم يكن في ابتداء خبر ينسق عليه إخبار يخبر بها عن الكفار كما كان في الآية الأولى.

و أما التي في سورة المؤمنون أولا: فإنها في موضع بسط و شرح، أ لا ترى أنها

ص: 251


1- سورة: الروم، الآية: 10.
2- سورة: الروم، الآيتان: 17، 18.
3- سورة: فاطر، الآية: 43.

افتتاح قصة موسى عليه السّلام مع فرعون، و فيها نحو ثلاثين آية فاقتضى ذلك في هذه الآية الشرح الذي لم يكن في غيرها فقال: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فأظهر الكون الذي صار من قبلهم ظرفا له ثم قال: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «و هم» للفصل توكيد للخبر، فاختصّ التوكيد و الشرح بموضعهما ...

و أما التي في آخر هذه السورة، و هي: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ فقد تكلمنا في الفاء مكان الواو في «أولم» و هي: أنها في موضع جمل كالآية في سورة الروم؛ لأن قبلها وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (1) فبنيت الآية على الإيجاز الذي بنيت عليه تلك فقال:

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً فحذفت الواو من كانوا؛ لأنها استئناف أخبار، كأنه قال: كانوا أكثر منهم و كانوا أشد قوة و كانوا أكثر آثارا في الأرض، و مثله مما أجمل فيه القول:

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (2) و قوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها (3) و كانت لقريش رحل إلى الشام يجوزون فيها بديار عاد و ثمود فيرون آثارهم و يشاهدون ديارهم، فاستدعت هذه الآيات اعتبارهم فما اعتبروا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون.

الآية الثانية من سورة الروم

قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4).

للسائل أن يسأل: عما ختمت به هذه الآيات، فجاء في الأولى:إِنَّ فِي ذلِكَ

ص: 252


1- سورة: غافر، الآية: 78.
2- سورة: محمد، الآية: 10.
3- سورة: الحج، الآية: 46.
4- سورة: الروم، الآيات: 21- 24.

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. و في الثانية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. و في الثالثة:

لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. و في الرابعة: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

الجواب أن يقال: أما اختصاص الأولى بقوله: يَتَفَكَّرُونَ فإن الاختصاص بما ذكر قبله يؤدي الفكر فيه إلى معناه، و هو قوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها؛ أي: خلق لكم من جنسكم و شكلكم نساء، و هذا أدعى إلى الألفة و المحبة لوجود المشاكلة، و قوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها؛ أي: جعلها على حال تعظم المسرة بها، و يطمئن القلب إليها، فإذا فكر الإنسان في خلقها و نعمة اللّه على الرجال بها سوى أنهن أوعية الأولاد الذين إذا بروا فمن أكبر نعم اللّه على العباد فالفكر في ذلك و في المعاني التي لها خلقن يؤدي إلى العلم بقادر عليم، و صانع حكيم، و واحد قديم لا يقدر أحد كقدرته و لا يعرف حكيم حدا لحكمته، فحثنا بالتفكر على العلم بهذا كله .. و قوله: وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً؛ أي: ميل نفس بالمجانسة و رقة قلب تبعث على التعاطف، ليتكامل سرور كل منهما بصاحبه، و ذلك من فضل اللّه تعالى و نظره لخلقه ...

و أما قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ فلأنه جاء بعد قوله: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ (1) و لا أحد إلا و السماء تظله و الأرض تقله فلا ينفك منهما و لا يخلو من كونه بينهما يعلم ذلك باضطرار، و أما اختلاف الألسنة فالمراد: أن آلات الكلام متقاربة و أجناس الأصوات و النغم مختلفة، حتى يرى كل واحد من الناطقين مختصا بلطيفة من اللّه في صوته و في جرس لسانه لا يخفى بها على من عرفه إذا سمع كلامه، و المستمع يميز بينه و بين من سواه قبل أن يراه و يعلم هذا كله من نفسه و ممن يحاوره و يعاشره و يناطقه، حتى لا يكاد يرى اثنين في الدهر العظيم و العدد الكثير يتشابه صوتاهما، و يلتبس كلامهما، و هذه اللطيفة لا سبيل إلى وصفها، حتى يتهيأ وصف كل صوت بما يحصره على صاحبه، و يخصه بناطقه تبارك اللّه أحسن الخالقين، و كذلك قوله: وَ أَلْوانِكُمْ ليس المراد بها: السواد و البياض و السمرة و الحمرة و الأدمة و الصفرة، و إنما المعنى اختصاص كل واحد من الناس بخلقة، و انفراده بصورة يقارنها لفظ تدبير من اللّه تعالى يجعله على لون و نوع من التصوير يتميز به عن سائر أمثاله، حتى لا يلتبس بواحد من أشكاله، فلا تكاد تجد في بلد تحوي من لا يحصر بعدد اثنين يتشابهان

ص: 253


1- سورة: الروم، الآية: 22.

تشابه لبس، بل كلّ مخصوص بخصوصية في وجهه يعرف بها من غيره، و هو أيضا مما يعجز عنه بالنعت، و لا يمكن إبانة واحد من الآخر بالوصف، حتى يستغنى به عن المشاهدة، و يقوم من جهة الواصف له مقام الرؤية، فهذه آيات يشترك في معرفتها الناس كلهم، و إن استمرت الغفلة بهم، و وقع على تأمله سهو منهم فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ؛ أي: لجماعات الناس و كل جماعة منهم عالم.

و أما قوله: وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ (1) فهو من باب لف الخبرين المعنى: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ بالسكون وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بالنهار كما قال قبله: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (2) أي: لتسكنوا في الليل، و لتبتغوا من فضله بالنهار، و كل من سمع هذا علم أن النوم عجيبة من فعل اللّه تعالى لا يقدر الإنسان اجتلابه إذا امتنع و لا على دفاعه إذا ورد، ثم إنه بالنهار لا بدّ له من تصرف لمعاش و طلب قوت و طعام به قوام الأجساد، فلذلك قال:

يَسْمَعُونَ و قيل معنى قوله: يَسْمَعُونَ يستجيبون لما تدعوهم إليه الآيات و يصرفون أفكارهم إليها.

و أما قوله: يَعْقِلُونَ فقد ذكرناه في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (3).

الآية الثالثة من سورة الروم

قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (4) و قال في سورة الزمر (5): أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

للسائل أن يسأل: عن الموضع الذي ذكر فيه: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا و الموضع الذي ذكر فيه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و ما الذي أوجب اختصاص كل واحد من المكانين باللفظ الذي خص به.

ص: 254


1- سورة: الروم، الآية: 23.
2- سورة: القصص، الآية: 73.
3- سورة: العنكبوت، الآية: 63.
4- سورة: الروم، الآية: 37.
5- الآية: 52.

الجواب أن يقال: قوله تعالى في سورة الروم: أَ وَ لَمْ يَرَوْا جاء عقيب قوله:

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (1). و المعنى: إذا أنعمنا عليهم نعمة ترى عليهم، و تملأ مسارحهم و مراحهم، و تعمر أفنيتهم و آنيتهم ملكهم الفرح و استولى عليهم البطر، و إن أصابتهم عقوبة على ما قدموا من معصيته، و نالتهم شديدة من جدب و قحط يصفر لها الإناء و يفرغ منهما الفناء، حتى لا ترى لهم ثاغية و لا راغية لم يعتبروا، و لم يقلعوا عما أتوا مما جر عليهم تلك الشديدة، و فعلوا فعل من ييأس من أن يأتيه اللّه بعد ذلك بنعمة إن تدارك سيئة بتوبة، فكان الأليق بهذا المكان: أولم يروا أموال من بسط اللّه له الرزق فيعلموا أنه يوسع لمن يشاء و يضيق على من يشاء، و كلتا الحالتين مرئيتان عندهم مشاهدتان لديهم، فإن من بسط له الرزق رؤي ماله، و لم يخف على المشاهد حاله، و من انقلب أمره و انقطع خيره أدركت العين منه خلاف ما كان قبل، فلما جاءت هذه الآية بعد ذكر النعمة إذا وهبت و حال الإنسان فيها إذا سلبت و النعمة مرئية لاق بهذا المكان أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ.

و أما الآية في سورة الزمر فإن قبلها (2): فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ فقوله: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا و الضر: سوء الحال من مرض في النفس، و نقص في المال، و هو الذي شكاه أيوب عليه السّلام بقوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ (3) و قوله: ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا؛ أي: إذا أعطيناه بعد العلة صحة و بعد القلة ثروة ادعى أنه أوتي ما أوتي بعلمه، و أنه جلب العافية لنفسه بظنه، و أنه لم تعاوده الصحة من قبل ربه، و يقول فيما يحسن من حاله: إني افتقرت قبل لأني قصرت، و الآن علمت كيف التأتي للاكتساب و استعادة الغنى بعد الافتقار، و تلك النعمة من اللّه و هي فتنة له أي: تشديد في التكليف عليه؛ لأنه مطالب بمعرفتها التي ذهب عنها و عن حكمها، و غفل عن شكر واهبها، و ألهاه الانغماس في لذتها عن حمد من تفضل بها، و أكثر الناس يعلم بموجبها و كأنه لا يعلمه فهذا معنى: و لكن أكثر الناس لا يعلمون، ثم قال:قَدْ

ص: 255


1- الآية: 36.
2- الآيات: 49- 52.
3- سورة: الأنبياء، الآية: 83.

قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ؛ أي: قد كفر مثل كفرهم من كان من قبلهم فلما نزل عذاب اللّه بهم لم يملكوا دفعه بعلمهم و لا بمالهم، و لكن أصابتهم عقوبات ما ساء من أعمالهم، و الظالمون في عصرك يا محمد سيصيبهم عقوبة ما عملوا، ثم قال: أولم يعلموا أن اللّه يوسع على الفقير حتى يستغني و يفتح له أبواب الرزق حتى يثرى، و أنه يضيق على من يشاء أن يضيق عليه، و يسقم من شاء إسقامه، و يصح من شاء صحته، فقابل ما ادعوه من العلم لما قال كافرهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ فرد عليهم بأن قال: هلا علمتم ما هو واضح من أحوالكم فتعلموا أن الخصب و الجدب ليسا بأيديكم، و كذلك المرض و الشفاء ليسا إليكم و إنما ذلك مما تعلمونه من بسط اللّه الرزق إذا أرسل السماء عليكم مدرارا و ما تتألمون منه إذا ضن السحاب بقطره و ابتلى أحدكم بفقره، فكان أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أولى بهذا المكان من قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كما كانت أَ وَ لَمْ يَرَوْا في سورة الروم أولى، و اللّه أعلم.

الآية الرابعة من سورة الروم

قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1) و قال في سورة الجاثية (2): اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

فإن سأل سائل عن زيادة قوله: فِيهِ في سورة الجاثية و تركها في سورة الروم.

كان الجواب قريبا على من له أدنى معرفة، و هو أن الهاء في قوله: فِيهِ عائدة إلى البحر و قد ذكر في سورة الجاثية، فعاد إليه الضمير و هو قوله: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ و لم يتقدم للبحر ذكر في الآية التي ذكر فيها جري الفلك في سورة الروم، و إنما نبه على النعمة بالرياح و إظهار آياته فيها فقال: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ؛ أي: باجتلاب السحاب و اعتصاره للأمطار، و هو الذي يذيقنا من رحمته مع ما يلقح منه الأشجار في وقته لوقته، و قال: وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ؛ أي:

بالرياح إذا أذن اللّه تعالى لها، و هذا مما لا إشكال فيه.

ص: 256


1- سورة: الروم، الآية: 46.
2- الآية: 12.

31- سورة لقمان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (1) و قال في سورة الزمر (2): يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.

للسائل: أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و ما سواه إنما هو يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.

الجواب أن يقال: إن معنى قوله: يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يجري لبلوغ أجل مسمى، و قوله: يَجْرِي إِلى أَجَلٍ معناه: لا يزال جاريا حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له، و إنما خص ما في سورة لقمان بإلى التي للانتهاء و اللام تؤدي نحو معناها؛ لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى؛ لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية و الحشر و الإعادة فقبلها: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ (3) و بعدها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ (4) فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت، و هو الوقت الذي تكور فيه الشمس و تنكدر فيه النجوم كما أخبر اللّه تعالى، و سائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق و هو قوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ

ص: 257


1- سورة: لقمان، الآية: 29.
2- الآية: 5.
3- سورة: لقمان، الآية: 28.
4- سورة: لقمان، الآية: 33.

الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها (1) فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السموات و الأرض و ابتداء جري الكواكب، و هي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، و كذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر و البحر إذ يقول: وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلى قوله: وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (2) فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها، و اختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها.

ص: 258


1- سورة: الزمر، الآيتان: 5 و 6.
2- سورة: فاطر، الآيتان: 12 و 13.

32- سورة السجدة

الآية الأولى منها

قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (1) و قال في سورة سأل سائل: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (2).

للسائل أن يسأل فيقول: هذا اليوم جعل مقداره في السورة الأولى ألف سنة، و جعله في السورة الثانية خمسين ألف سنة، و قد قدره بألف سنة في موضع آخر من سورة الحج (3)، فقال: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فكيف يجمع بين هذه الأخبار!.

الجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أن يكون المعنى: أن اللّه يدبر أمر أهل الأرض في السماء من دعائهم إلى الطاعات و تكليفهم أنواع العبادات، فينزل به من يأمره من ملائكته ليبعث بذلك رسله، و يضم إليه آياته و كتبه، ثم يصعد الملك الذي جاء به إلى المكان الذي نزل منه في يوم من أيام الدنيا، و هذه المسافة التي قطعها الملك في النزول و الصعود مقدارها مسيرة ألف سنة من غيره؛ لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فيقع النزول و الصعود في يوم تستغرق أوقاته سير ألف سنة من السنين التي يعدها أهل الأرض في الدنيا، و هذا التدبير الذي يدبر في السماء لأهل الأرض هو ما يكلفون من العبادات، و ما يقدر من مدد أعمارهم، و ما يحدث في اللوح المحفوظ مما يدل الملائكة على أنهم مأمورون بأن ينزلوا به إلى المصطفين من عباده بالرسالة، ثم يعودون إلى أماكنهم في يوم

ص: 259


1- سورة: السجدة، الآية: 5.
2- سورة: المعارج، الآية: 4.
3- الآية: 47.

بقدر ألف سنة من أيام الدنيا.

و أما قوله في سورة الحج: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ؛ أي: يقع في يوم تنعيم المطيعين و تعذيب العاصين قدر ما يناله المنعم في ألف سنة من أيام الدنيا، و يعذب العصاة في يوم مقدار ما يعذب به الإنسان في ألف سنة لو بقي فيها، فعذابه في يوم واحد عذاب ألف سنة، و ذلك لما يتضاعف عليهما من الآلام و الملاذ، و يصل إليهما من الغموم و السرور، و الدليل على أن المراد في هذه الآية ذلك:

قوله قبله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فجهلهم باستعجالهم العذاب الذي هذا وصفه.

و أما قوله في سورة سأل سائل: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي: تصعد الملائكة و جبريل عليهم السّلام إلى حيث يعطي اللّه فيه الثواب أهل طاعته، و يحل فيه العقاب بأهل معصيته، و إن ذلك في يوم هو يوم القيامة، و يفعل اللّه تعالى فيه من محاسبة عباده و تبليغ كل منهم حقه ما لا يكون مثله في الدنيا إلا في خمسين ألف سنة.

و جواب ثان و هو: أنه يجوز أن يكون يوم القيامة يوما بلا آخر، و فيه أوقات مختلفة طولا و قصرا، كما كان في أيام الدنيا، كان الوقت بين صلاة الفجر و صلاة الظهر أطول مما بين الظهر و بين العصر، و كما كان ذلك بين صلاة العشاء الأولى و عشاء الآخرة، فبعضها ألف سنة، و بعضها خمسون ألف سنة.

و جواب ثالث و هو: أن يكون اليوم الذي أخبر اللّه تعالى عنه في السجدة و الذي في الحج هما من الأيام التي عند اللّه، و هي التي خلق فيها السموات و الأرض، و كل يوم منها ألف سنة من سني الدنيا.

و أما في سورة سأل سائل فإن المراد به أن لثقله على الكافرين، و استطالتهم له و صعوبته و هو له عليهم يصير بخمسين ألف سنة، و في كل واحد من الأجوبة التي ذكرنا ما يكفي في جواب السائل.

الآية الثانية من سورة السجدة

قوله تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا

ص: 260

فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (1) و قال في سورة سبأ (2): فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ.

للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في سورة السجدة أن يعود الوصف ب الَّذِي إلى العذاب الذي هو مذكر، و يعود مثله في سورة سبأ إلى النار الَّتِي هي مؤنثة و هل كان اختيارا لو جاء هذا على العكس، و كان ما في سورة السجدة يرجع الوصف فيه إلى النار، و ما في الأخرى يرجع الوصف فيه إلى العذاب؟.

الجواب أن يقال: إن النَّارِ. في قوله في سورة السجدة ظاهر موضع المضمر لتقدم ذكره في قوله: وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها فأضمرت أُعِيدُوا فِيها و أظهرت وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ؛ أي: عذابها، فوقعت مظهرة مكان المضمر، و التي في سورة سبأ لم تجى ء هذا المجي ء؛ لأنها في مكانها مظهرة، فلما كان المضمر لا يوصف بعد عن الوصف ما حل محله؛ لأنه سد مسده، فوصف ما أضيف إليه و هو العذاب، فجاء عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ و لما لم يتقدم ما في سورة سبأ ما منزلته منزلة المضمر، صح الوصف له، فأجري عليه، و جاء عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أ لا ترى أن أوله، وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ.

الآية الثالثة من سورة السجدة

قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ (3) فأتى بالنون في: تَكُنْ و قال تعالى في سورة هود في موضعين: فَلا تَكُ و كان حق ذلك أن يذكر هناك بغير نون، و هو قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (4) و قال

ص: 261


1- سورة: السجدة، الآية: 20.
2- الآية: 42.
3- سورة: السجدة، الآية: 23.
4- سورة: هود، الآية: 17.

في آخرها: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ (1).

للسائل أن يسأل: عن حذف النون حيث حذفت، و إثباتها حيث أثبتت، و ما الذي خصص كلا بمكانه؟

الجواب أن يقال: إن هذه النون في قوله: فَلا تَكُنْ لما أشبهت بسكونها حروف المد و اللين ثم كثرت استجيز حذفها للسببين جميعا، فإن تحركت خرجت عن شبهها، نحو: لم يكن الرجل منطلقا، لا يجوز: لم يك الرجل منطلقا، فأما إذا سكنت و تحرك ما بعدها، فلك أن تأتي بها، و لك أن تحذفها كما جاء في الموضعين، ثم إنه يختار فيها الحذف إذا تحرك ما بعدها متى تعلقت بالجمل الكثيرة، و يختار إثباتها إذا تعلقت بالقليلة؛ لأن الكثرة أحد سببي جواز حذفها، و هذه الكثرة- أعني أنها في أم الأفعال التي هي كان، و يعبر بها عن كل فعل، أ لا ترى أنه لا يجوز: لم يه زيد، و لم يص زيد في «لم يهن» «و لم يصن»، و كثرة الجمل هي التي تثقلها- تعلقت بها من قبلها أو من بعدها، فقوله في سورة هود: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ جاء بعد أن تعلق بآيات ذوات جمل تقدمته، و هي: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ (2) فقد تقدمته جمل جاء عقيبها متعلقا بها، فثقل من أجلها، فاختير تخفيفها بحذف نونها، و كذلك قوله:

وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (3) جاء بعد قوله: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (4) وقع في جواب اللّه تعالى له، بعد الكلام الذي كان منه لما بشر بالولد، فطال الكلام جدا، و خفف بالحذف في موضعه اختيارا. و كذلك قوله تعالى: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (5) تعلق هذا بقوله: وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (6) فأما قوله:قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ

ص: 262


1- سورة: هود، الآيتان: 108 و 109.
2- سورة: هود، الآية: 17.
3- سورة: مريم، الآية: 9.
4- سورة: مريم، الآيتان: 8 و 9.
5- سورة: مريم، الآية: 67.
6- سورة: مريم، الآيتان: 66 و 67.

الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (1) فإنه قلت الجمل قبله، و لم يتعلق بما تقدمه تعلق ما ذكرنا به، فلم يثقل، فاختير الإتمام على الأصل، و كذلك قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ لم يتقدمه ما يثقله من الجمل ما تقدم غيره مما ذكرنا، و هذه النون حذفها في حال سكونها لشبهها بحروف المد و اللين، إذ كانت صوتا جاريا في هواء الأنف، كما أن تلك أصوات تجري في هواء الفم، ثم انضاف إلى هذا السبب كثرتها في الكلام، و هي: أنها تدخل على كل فعل، فيقال: كان زيد فاعلا، و لم يك زيد فاعلا، فلما كانت الكثرة أحد سببي حذف النون في الأصل، صارت كثرة المتعلقات أحد سببي اختيار حذفها، فإن سأل عن قوله:

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ (2) و قبله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (3) و قد انقطع الكلام، و لا تعلق لقوله: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ بما قبله.

قلت: لم يثقل بمتعلقات الجمل التي فيها تكن بما قبلها دون ما بعدها، و هذه و إن لم تثقل بتعلقها بما قبلها، فإنها ثقلت بتعلقها بما بعدها، لقوله: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (2)؛ أي: لا تشك فيما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام، إنهم يعبدونها بحجة، فإنهم لا يعبدونها إلا تقليدا لآبائهم الذين كانوا يعبدونها من قبل، و كل يجزى بمستحقه، و هو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلم، و المراد به هو و من آمن به، فقد تعلقت فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ بهذا الكلام كله.

33- سورة الأحزاب

ليس فيها شي ء من ذلك.

ص: 263


1- سورة: مريم، الآية: 4.
2- سورة: هود، الآية: 109.
3- سورة: هود، الآية: 108.

34- سورة سبأ

الآية الأولى منها

قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (1) و قال بعده في هذه السورة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (2) و قال في سورة يونس (3): إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.

للسائل أن يسأل عن تقديم السموات على الأرض في الموضعين من سورة سبأ، و عن تقديم الأرض على السماء في سورة يونس، و كان موضع ذكر هذه الآية هناك، إلا أنها تأخرت إلى هذا المكان.

الجواب عنه أن يقال: إنما قدم ذكر السموات على الأرض في سورة سبأ؛ لأن هذه الآية مبنية على مفتتح السورة، و هو: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ (4) فقدم ذكر السموات؛ لأن ملكها أعظم شأنا و أكبر سلطانا، و كذلك الآية التي بعدها في سورتها.

و أما التي في سورة يونس، فإنها جاءت عقيب قوله: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فكان القصد إلى ذكر علمه بما يتصرف فيه العباد من خير أو شر، و ذلك في الأرض، فأتمه بقوله:وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ

ص: 264


1- سورة: سبأ، الآية: 3.
2- سورة: سبأ، الآية: 22.
3- الآية: 61.
4- سورة: سبأ، الآية: 1.

مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ و استوعب جميع ما في الأرض، ثم أتبعه ذكر السماء؛ لأن الابتداء وقع بما يتعلق بها و ما يعمل العباد فيها، فلذلك قدمت الأرض عليها.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ (1) و قال في سورة بني إسرائيل (2): قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا.

للسائل أن يسأل: عن إظهار اسم اللّه تعالى في سورة سبأ في قوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ و إضماره في سورة بني إسرائيل في قوله: مِنْ دُونِهِ و قد جرى الذكر قبل في الموضعين؛ لأن قبل هذه الآية: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (3) و هناك: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ (4).

الجواب أن يقال: إنما اختير الإضمار في سورة بني إسرائيل لقوة الذكر قبل، أ لا ترى أنه يكون في عشرة مواضع مضمرا و مظهرا لقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ (5) فربكم واحد، و في: أَعْلَمُ ضميره، و قوله: أَوْ إِنْ يَشَأْ فيه ضمير فاعل وَ ما أَرْسَلْناكَ النون و الألف ذكر له تعالى، وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ اسمان، وَ لَقَدْ فَضَّلْنا قوله: نا: اسمه، و كذلك وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فكان الإضمار تلو الإضمارات أولى بهذا المكان، فلذلك قال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ.

و أما في سورة سبأ، فإن الذي تقدمه: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (6) فالذكر تقدم في ثلاثة مواضع، و هناك في أكثر من عشرة مواضع، فحسن الإظهار هنا، و قوي الإضمار هناك، فلذلك اختلفا.

ص: 265


1- سورة: سبأ، الآية: 22.
2- سورة: الإسراء، الآية: 56.
3- سورة: سبأ، الآية: 21.
4- سورة: الإسراء، الآيتان: 55، 56.
5- سورة: الإسراء، الآية: 54.
6- سورة: سبأ، الآية: 21.

35- سورة فاطر

الآية الأولى منها

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ (1) و قال في سورة الأنعام (2)، و كان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فأضاف خَلائِفَ إلى الْأَرْضِ بغير واسطة في، و هناك نكرها و أضافها ب فِي.

للسائل أن يسأل عن التعريف أولا، و التنكير ثانيا و عما خصص كل مكان بما اختص به.

و الجواب: أن الذي في سورة الأنعام أجري مجرى المعرفة؛ لأنه بعد ذكر متكرر، و خطاب متردد، مبتدأ من مبتدأ قوله: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (3) فلما خوطبوا بألفاظ المعارف، أتبع ما في هذه الآية من ذكرهم في موضع النكرة، و هو المفعول الثاني من جَعَلَكُمْ ذكر المعرفة، فكسى لفظها، فصار التقدير:

و هو الذي جعل كل واحد منكم الخليفة في الأرض التي ورثها عمن تقدمه، فمنكم الأعلى، و منكم الأوسط، و منكم الأسفل، و ليس كذلك الأمر في سورة الملائكة؛ لأن ما تقدم هذه الآية منها ذكر أهل النار من مبتدأ قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ إلى قوله: فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) ثم قال:

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فأخرج لفظ: خَلائِفَ مخرج النكرة، كأنه قال:

ص: 266


1- سورة: فاطر، الآية: 39.
2- الآية: 165.
3- سورة: الأنعام، الآية: 151.
4- سورة: فاطر، الآيات: 36، 37، 38.

جعلكم خلفا لمن تقدمكم غير معلوم، إلا عند اللّه ما يكون من أمركم، فأنتم مجهولون عند أشباهكم و أمثالكم، فمن كفر منكم فضرر كفره راجع عليه، فكان التنكير أولى بهذا المكان؛ لأنه لم يتقدمه من الأسماء المضمرة التي للخطاب المعرفة بحكم الإضمار ما تقدم في سورة الأنعام، ثم نزلهم منزلة قوم مجهولين لا يتوقع ما يكون من أمرهم من إيمانهم أو كفرهم، فلم يجعلوا في حكم الخطاب الأول في قوم بأعيانهم للانقسام الواقع عليهم، فهذا فرق ما بين المكانين.

ص: 267

36- سورة يس

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (1) و قال في سورة القصص (2): وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ.

للسائل أن يسأل عن تقديم قوله: مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ على رَجُلٌ الذي هو الفاعل في سورة يس، و تأخيره في السورة التي قبلها.

و الجواب أن يقال: إن الفاعل في الموضعين لما كان نكرة، و المعنى: جاء جاء، و قد دل الفعل على جاء، و لا يكون الجائي من أقصى المدينة في الأعم الأغلب إلا رجلا، و كان الذي يفاد المخاطب أن يعرف أنه جاء من مكان بعيد إلى مجتمع الناس في القرية، و حيث لا يقرب من مجاري القصة، و لا يحضر موضع الدعوة و مشهد المعجزة، فقدم ما تبكيت القوم به أعظم، و التعجب منه أكثر، فقال: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ينصح لهم ما لا ينصحون مثله لأنفسهم، و لا ينصح لهم أقربوهم، مع أنه لم يحضر جميع ما يحضرونه، و لم يشهد من كلام الأنبياء ما يشهدونه، فبعثهم على اتباع الرسل المبعوثين إليهم، و قبول ما يأتون به من عند مرسلهم.

و أما الآية الأولى من سورة القصص، فإن المراد: جاء من لا يعرفه موسى من مكان لم يكن مجاورا لمكانه، فأعلمه ما فيه الكفار من ائتمارهم به، فاستوى حكم الفاعل و المكان الذي جاء منه، فقدم ما أصله التقديم، و هو الفاعل إذ لم يكن هنا تبكيت للقوم بكونه مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ كما كان ذلك في الآية المتقدمة.

ص: 268


1- سورة: يس، الآية: 20.
2- الآية: 20.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (1) و قال في سورة الفرقان (2): وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ.

للسائل أن يسأل: عن إظهار اسم اللّه تعالى في سورة يس و سورة مريم (3) في قوله: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا و إضماره في سورة الفرقان حيث قال: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.

الجواب عن ذلك أن يقال: أنه لما قال في سورة الفرقان فأخبر عن نفسه، لا كإخبار المتكلم بلفظ التاء و النون و الألف في مثل فعلت و فعلنا، بل كما يخبر المخبر عن غيره، فقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً إلى قوله:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (4) كان ذكر اللّه تعالى قد تقدم في الآيتين، فأجرى ذكره في الثالثة مجراه في الأوليين، على مقتضى كلام العرب في الإضمار بعد الذكر، و لم يكن كذلك الأمر في الآيتين في سورتي يس و مريم؛ لأن الذكر المتقدم إنما هو على لفظ المخبر عن نفسه لقوله: كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (5) ثم قال: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً؛ أي: اتخذوا من دون من تحق له العبادة أصناما يعبدونها و لا تحق عبادتها، فأظهر اسمه تعالى إذ كان لم يتقدم ظاهر يقع الإضمار بعده، و جهلوا بأن أشركوا باللّه ما ليس بإله، فقابلوا الحق بباطلهم، و أروا أن هذا الفعل من فاعلهم، و كذلك كان الأمر في سورة يس، حيث قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ إلى قوله: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً (6).

ص: 269


1- سورة: يس، الآية: 74.
2- الآية: 3.
3- الآية: 81.
4- سورة: الفرقان، الآيتان: 1 و 2.
5- سورة: مريم، الآيتان: 79، 80.
6- سورة: يس، الآيات: 71- 74.

37- سورة الصافات

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ قالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (1) و قال في هذه السورة: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (2).

للسائل أن يسأل: عن قوله: لَمَبْعُوثُونَ أولا، و فيما بعده: لَمَدِينُونَ، و لما ذا اختلفا في المكانين؟ و إن كانا فيما يراد من تحقيق الإحياء بعد الموت سواء.

الجواب أن يقال: الأول حكاية ما قاله الكفار من إنكار البعث، و المبعوث: هو الذي يبعث من قبره و يحيا بعد موته، و المدين: هو المجازى بما كان من كسبه، و البعث قبل الجزاء، و هو يفعل من أجله، و حكاية الآخر الذي قال: أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ إنما هي عند حصوله في النار، و هو الجزاء الذي أنكره لقوله تعالى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (3) فهذا المؤمن الذي حكى اللّه تعالى عنه قوله، و أنه أخبر عن قرينه في الدنيا بأنه كان ينكر أن يحيا و يدان بما صنع، هو الذي رآه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (4) فالتفريع على ما أنكر يقع إذا تحقق و حصل فيه من كفر، نعوذ باللّه من عقابه.

الآية الثانية من سورة الصافات

قوله تعالى في أواخر قصص الأنبياء عليهم الصلاة و السلام:سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي

ص: 270


1- سورة: الصافات، الآيتان: 15، 16.
2- سورة: الصافات، الآيات: 51- 53.
3- سورة: الصافات، الآيتان: 54، 55.
4- سورة: الصافات، الآيات: 55، 56، 57.

الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (1) و قال فيما بعدها في قصة موسى و هارون: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (2) و بعدها في قصة إلياس: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (3) فكل ذلك ختم بقوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إلى قوله: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (4) فجاء كَذلِكَ من دون إِنَّا في هذا الموضع وحده.

للسائل أن يسأل: عما أوجب اختصاص هذا المكان بسقوط إِنَّا منه، و إثباتها فيما سواه من الآيات التي أنهيت بها قصص الأنبياء عليهم السّلام.

الجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لما جعل أمارة لانتهاء كل قصة، و كانت قصة إبراهيم عليه السّلام متضمنة ذكره و ذكر ولده الذي رأى في المنام ذبحه، فقيل له بعد ما: تَلَّهُ لِلْجَبِينِ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فجاء: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (5) في هذا المكان، و قد بقيت من القصة آيات، و هي: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (6) ثم جاء ما جعل خبرا في آخر كل قصة من قصصهم وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فلم يذكر (إنا) هنا لشيئين: أحدهما: تقدم ذكرها في هذه القصة، حيث قال: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ و الآخر: أن يخالف بين منتهى هذه الآية؛ لأنها من القصة الأولى التي ختمت ب إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، و بين منتهى قصة يس؛ لأن ما قبلها منها فكأن: إِنَّا كَذلِكَ لما ذكرت في هذه القصة مرة اكتفى بها، و لم يكن منقطعا لها، فخالفت ما تقدمها و ما تأخر عنها لذلك.

ص: 271


1- سورة: الصافات، الآيتان: 79 و 80.
2- سورة: الصافات، الآيات: 119- 122.
3- سورة: الصافات، الآيات: 129- 132.
4- سورة: الصافات، الآيات: 107- 111.
5- سورة: الصافات، الآية: 105.
6- سورة: الصافات، الآيتان: 106، 107.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (1) و قال بعده: وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (2).

للسائل أن يسأل: عن تعدية الفعل الأول و هو: وَ أَبْصِرْهُمْ و حذف ما تعدى إليه وَ أَبْصِرْ في الثانية، ثم عن تكرير وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ.

الجواب أن يقال: إن هذا بعد ما بشر اللّه به عباده، حيث قال: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (3) و معناه أن المرسلين و من تبعهم من المؤمنين إذا حاربوا أعداء اللّه بأمر اللّه، فإن اللّه قد حكم لهم بالظفر و النصر في عاقبة أمورهم، و إن كان بعد مدة، فقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (4)؛ أي:

أعرض عن محاربتهم إلى الحين الذي يعلم اللّه أنه يظفرك بهم، و أبصرهم في الوقت الذي تنصر فيه عليهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قهركم لهم و ذلهم، فأما حذف «هم» من «أبصر» في الثانية، فلذكرها في الأولى، و لأن هناك معاني أخر تنضم إلى ذكرهم، فيترك ذكر المفعول ليشرع الفعل إلى تلك المعاني كلها، و يبين ذلك في الجواب عن فائدة تكرار العامل و هي أن قوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ إنما يراد به: الحين في الدنيا، و هو: الوقت الذي ينصر فيه المسلمون عليهم، و يقهرون بأيديهم، و قوله ثانيا: وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ؛ أي: بعد أن تنصر عليهم فيهلكوا في الدنيا، توقع ما يحل بهم في الأخرى، وَ أَبْصِرْهُمْ هناك، و أنواع العذاب التي تصب عليهم، و عمل النار فيهم، ثم ما لهم فيها من البقاء و الخلود مع تبديل الجلود، و سائر ما أعد اللّه من عذاب النار، فقوله: وَ أَبْصِرْ مودع كل ذلك فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تهدد لهم؛ أي: سوف يلقون ما أوعد اللّه به أهل معصيته من أليم عقوبته.

ص: 272


1- سورة: الصافات، الآية: 175.
2- سورة: الصافات، الآية: 179.
3- سورة: الصافات، الآيات: 171- 173.
4- سورة: الصافات، الآية: 174.

38- سورة ص

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (1) و قال في سورة ق (2): بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ بالواو في سورة ص، و اختصاصها بالفاء في سورة ق.

الجواب أن يقال: إن التي في سورة ق خبر عن عجبهم في أنفسهم، و اتصال قولهم به، فقال: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ فكان آخر الكلام راجعا إلى أوله الذي هو خبر عن ضميرهم من حصول العجب فيه، و قولهم عقيبه: هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ و ليس كذلك ما في سورة ص؛ لأن قوله هنا: وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ خبر عن عجبهم قولا و فعلا، و قولهم بعد ذلك ليس هو راجعا إلى قوله: وَ عَجِبُوا رجوع ما في سورة ق إليه؛ لأنه أخبر عنهم أنهم قالوا: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، فلم يرجع ساحِرٌ كَذَّابٌ إلى قوله: وَ عَجِبُوا رجوع قولهم إليه: هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ فيقع عقيبه، و يقتضي إلغاء اقتضاءه إذ لم يكن قولهم: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ من مقتضى عَجِبُوا كما كان قولهم: هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ منه.

الآية الثانية من سورة ص

قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ

ص: 273


1- سورة: ص، الآية: 4.
2- الآية: 2.

وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (1) و قال في سورة ق (2): كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.

للسائل أن يسأل عن اختلاف الترتيب في هاتين الآيتين، و عن قوله في خاتمتهما:

فَحَقَّ عِقابِ في سورة ص، و قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ في آخر سورة ق.

الجواب أن يقال: إن سورة ق مبنية فواصلها على أن يردف آخر حرف منها بالياء أو بالواو، و على ذلك جميع آياتها، و سورة ص بنيت فواصلها على أن تردف أواخرها بالألف، فكانت الآية التي من هذه العشر مختومة الفاصلة بوصف فِرْعَوْنُ بذي الْأَوْتادِ و بعدها أُولئِكَ الْأَحْزابُ فَحَقَّ عِقابِ و جاء بإزاء ذلك في سورة ق وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ و مكان: فَحَقَّ عِقابِ فَحَقَّ وَعِيدِ و كذلك في هذه السورة:

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (3) و في سورة و الصافات (4): وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ؛ لأن فواصل الآيات التي من سورة و الصافات مردفة أواخرها بالياء أو بالواو، و القصد: التوفقة بين الألفاظ مع صحة المعاني، كما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ في الشعراء (5)، و في سورة طه (6): بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى فاعرف ذلك، فإنه مما يكثر إن شاء اللّه تعالى.

ص: 274


1- سورة: ص، الآيات: 12- 14.
2- الآيات: 12- 14.
3- سورة: ص، الآية: 52.
4- الآيتان: 48، 49.
5- الآيتان: 47، 48.
6- الآية: 70.

39- سورة الزمر

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (1) و قال أيضا في هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (2).

للسائل أن يسأل عن المكان الذي خص بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ دون قوله: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ. و ما الفائدة المخصصة كل واحد من اللفظين بمكانها التي استعملت فيه؟.

الجواب أن يقال: قد تقدم قولنا في الفرق بين أَنْزَلْنا إِلَيْكَ و أَنْزَلْنا عَلَيْكَ، و أن «على» يتضمن معنى فوق، و أن يكون الوحي جاءه من تلك الجهة، و أن «إلى» للنهاية، فلا تختص بجهة دون جهة، و كذلك كان أكثر المواضع الذي ذكر فيها إنزال القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و سلم عدّي بعلى، كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ (3) و كقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (4) و قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ (5) و قال: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ (6) و أكثر ما جاء ذكر إنزاله على الناس جاء معدى بإلى، كقوله:

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (7) ثم كل موضع قيل فيه: أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فقد شدد فيه التكليف عليه، و نزل منزلة أمته فيما يجب على

ص: 275


1- سورة: الزمر، الآيتان: 2، 3.
2- سورة: الزمر، الآية: 41.
3- سورة: الكهف، الآية: 1.
4- سورة: النحل، الآية: 2.
5- سورة: الشعراء، الآيتان: 193، 194.
6- سورة: النحل، الآية: 89.
7- سورة: النساء، الآية: 174.

عالمهم تبيينه لمتعلمهم، كقوله في أول هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فقد أمر بإخلاص العبادة، و المراد: هو و أمته، و كقوله:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1) فكان المراد في المواضع التي استعملت فيها «إلى» أنه تناهى إلى حيث لا متعدي وراءه من عالم سنة مقصورة عليه، فكل موضع عدي فيه الإنزال بعلى، فإن المراد به: أنه شرفك و أعلى بذلك ذكرك لتؤدي ما عليك، فتنذر و تبشر فمن قبل فحظه أصاب، و من أعرض فنفسه أوبق، و يكون فيه تهديد لمن ترك القبول، لقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثم قال:

لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ (2) و كما قال في هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فقد أسقط عنه في ظاهر اللفظ القصد إلى الوعيد، ما ألزمه عند قوله في الآية التي في سورة النساء (3): إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فمن عرف حقيقة اللفظين و تخصيص كل مكان بواحد منهما، علم أن ما جاء عليه في أول هذه السورة هو مميز عما جاء عليه في وسطها، و لم يخف عليه الفرقان بينهما و السلام.

الآية الثانية من سورة الزمر

قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (4).

للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى عدى وَ أُمِرْتُ الأولى إلى قوله: أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ى دعو وَ أُمِرْتُ الثانية باللام، فقال: وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ؟ و ما فائدة اللام؟ و لو قال: وَ أُمِرْتُ أن أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لكان الكلام مستغنيا عن اللام.

الجواب أن يقال: إن القصد في الأمر الثاني غير القصد في الأمر الأول، و ذلك أن الأمر الأول يتعدى إلى العبادة، و الثاني معناه: و أمرت أن أعبد اللّه لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ؛ أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة للّه، و بعثت رسولا؛ لأن أكون أول من يبدأ بطاعة اللّه و عبادته على الإخلاص المطلوب، فاللام ليست مقحمة على ما ذهب إليه كثير

ص: 276


1- سورة: النحل، الآية: 44.
2- سورة: الكهف، الآية: 3.
3- سورة: النساء، الآية: 105.
4- سورة: الزمر، الآيتان: 11، 12.

من النحويين، و إنما معناه ما ذكرنا من الأمر بالعبادة لأجل أن يفعل أولا ما أمر به، ثم يحمل الناس على مثله، و هذا واضح، فاعرفه إن شاء اللّه تعالى.

الآية الثالثة من سورة الزمر

قوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (1) و قال في سورة النحل (2): ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

للسائل أن يسأل عن الموضع الذي استعمل فيه الَّذِي في قوله: أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ و ما في قوله: بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

الجواب أن يقال: إن كل واحدة من الآيتين تقدم فيها ما اقتضى حمل هذين المختلفين عليه، أعني: «الذي» و «ما»، و هما إذا كانتا موصولتين بمعنى، إلا في تصور «ما» عما يتبع له «الذي»؛ لأنك إذا قلت: رأيت ما عندك، لم يدخل تحتها المميزون، و إذا قلت: رأيت الذي عندك، دخل، فإنه يصلح للمميزين و البهائم و الجماد، ثم إنه يحسن حذف المبتدأ من صلة «الذي» إذا كان ضميرها، كقوله في قراءة من قرأ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (3) و المعنى: على الذي هو أحسن، و كما جاء: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، و لا يحسن ذلك في «ما»، و لا في «من» لو قلت:

رأيت ما عامر، تريد: ما هو عامر، و رأيت من هو عاقل، تريد: من هو عاقل، لم يحسن كحسنه في صلة «الذي»، لمزية «الذي» على «من» و «ما» في اللفظ و التصرف، و لوقوعها على الجنس، كقوله تعالى: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (4) و قوله في سورة الزمر (5): أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا و بِأَحْسَنِ الَّذِي

ص: 277


1- سورة: الزمر، الآية: 35.
2- الآيتان: 96، 97.
3- سورة: الأنعام، الآية: 154.
4- سورة: الزمر، الآية: 33.
5- الآية: 35.

كانُوا يَعْمَلُونَ إنما هو للبناء على ما تقدم و هو قوله: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فافتتحت الآية التي قبلها بالذي، و وصلت بفعل تعلق به قوله: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا و قصد جنس عملهم السيئ و جنس عملهم الحسن، فكان استعمال «الذي» في هذا المكان أولى، ليلتئم اللفظان المتعلق أحدهما بالآخر كما التأم معناهما.

و أما الآية التي في سورة النحل، فإن الأمر فيها على مثل ما في سورة الزمر من حمل اللفظ على نظيره مع مطابقة المعنى له، و ذلك أن أول الآية هناك: وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (1) فقال في الذي عند اللّه: ما عِنْدَ اللَّهِ ثم قال: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ و المعنى: الذي عندكم، فاستعمل «ما» في قوله: وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ فلما جاء ذكر الجزاء و هو ما عند اللّه، كان استعمال اللفظ الذي يرجع إلى ما تقدم أولى من استعمال غيره، فقال: وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و أحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ هو ما عند اللّه مما أعد الأجر له، ثم قال بعده: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاستعمل «من» و هي للمميزين عامة فيهم و بإزائها في غيرهم «ما»، فلما استعملت «من» هنا شرطا، كان استعمال «ما» التي هي قرينتها فيما يتعلق بجزاء شرطها أولى مما لا يلائمها، فلما كانت الَّذِي في سورة الزمر أحق بمكانها، كانت ما في سورة النحل أحق بموضعها، و السبب واحد فيهما.

الآية الرابعة من سورة الزمر

قوله تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (2) و قال في سورة الجاثية (3): وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.

للسائل أن يسأل عن اختصاص سورة الزمر بقوله: كَسَبُوا و سورة الجاثية بقوله: عَمِلُوا و عن الفائدة في ذلك؟.

ص: 278


1- سورة: النحل، الآيتان: 95، 96.
2- سورة: الزمر، الآية: 48.
3- الآية: 33.

الجواب أن يقال: إنما جاء قوله: كَسَبُوا في هذه السورة بناء على ما وقع الخبر به عن الظالمين في الآية التي قبل هذه، حيث يقول: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (1) ثم اعترضت آيات تؤكد ما على الظالمين من الوعيد و تقوي ما للمصدقين من الوعد إلى أن انتهت إلى ذكر هؤلاء الظالمين الذين قيل لهم: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فقال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (2) فكان المعنى: وَ لَوْ أَنَّ للظالمين الذين تقدم ذكرهم ما فِي الْأَرْضِ وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ ثم قال:

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: الجزاء على ما كسبوا من سيئاتهم كما قيل لهم:

ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؛ أي: جزاؤه، ثم أتبعه ذكر الكسب في الآيات التي بعدها في قوله: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (3) و أما الآية في سورة الجاثية، فالطريق في اختيار: عَمِلُوا فيها كالطريق في اختيار:

كَسَبُوا في سورة الزمر؛ لأن قبلها قوله تعالى: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (4) و بعده: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ (5) و تبع ذلك قوله: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) عَمِلُوا فبني على ما سبق كما بني هناك كَسَبُوا على ما تقدمه، فاعرفه إن شاء اللّه تعالى.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى في حال أهل النار: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (7) و قال في أهل الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (8)

ص: 279


1- سورة: الزمر، الآيتان: 24، 25.
2- سورة: الزمر، الآيتان: 47، 48
3- سورة: الزمر، الآيتان: 50، 51
4- سورة: الجاثية، الآية: 28
5- سورة: الجاثية، الآيتان: 29، 30
6- سورة: الزمر، الآية: 48
7- سورة: الزمر، الآية: 71
8- سورة: الزمر، الآية: 73

للسائل أن يسأل: عن الواو في قوله: وَ فُتِحَتْ و تركها في الأول و هل كان يجوز حذفها من الثاني و إثباتها في الأول؟.

الجواب عن ذلك: ما ذهب إليه بعض المفسرين أن في ذلك دلالة على أن أبواب جهنم كانت مغلقة ففتحت لما جاءوها، و أن أبواب الجنة كانت مفتوحة قبل مجي ء المؤمنين إليها، و هذا محتاج إلى بيان، و هو أن قوله: وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها جواب لقوله:

حَتَّى إِذا جاؤُها؛ لأن في إِذا معنى الشرط، و في جوابها معنى الجزاء، و لا بد لها منه، و أنت تقول إذا جئت زيدا: فتح لي الباب، أردت: أن الباب كان مغلقا ففتح لمجيئك، و تقول: إذا جئت زيدا: و فتح لي الباب، أردت: أن الباب كان مغلقا، فإن ما بعد الواو لا يقوم مقام الجزاء، و المخاطب متوقع عند سماع ذلك ما يتم به الكلام، فإن أراد المتكلم إضمار الجزاء و اكتفى بدلالة الشرط عليه و ذلك إذا كان لفظاهما واحد جاز حذفه و عطف ما بعده، فيكون المعنى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها فيحذف جاءوها الثانية لدلالة الأولى عليها، و على هذا قول امرئ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل

معناه: فلما أجرنا ساحة الحي أجزناها و انتحى بنا. فإن قال: و هل يختلف المعنيان إذا حذفت الواو و إذا أثبتت؟ قلت: يختلفان بأن الفتح يقع عند مجي ء أهل النار؛ لأن قوله: فُتِحَتْ جزاء للشرط، و حقه إذا كان فعلا أن لا يدخله واو و لا فاء و يكون عقيب الشرط، و إذا حذف الجزاء و عطف فعل عليه فقيل: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ و التقدير: حتى إذا جاءوها و أبوابها مفتحة، و هذا حكم اللفظ .. فأما حكم المعنى، فإن جهنم لما كانت أشد المحابس، من عادة الناس إذا شددوا أمرها أن لا يفتحوا أبوابها إلا لداخل و خارج، و كانت جهنم أهولها أمرا و أبلغها عقابا أخبر عنها الأخبار عما شوهد من أحوال الحبوس التي تضيق على محبوسها، فوقع الفتح عقيب مجيئهم ليتطابق لذلك اللفظ و المعنى و لم يكن هناك حذف، و أما الجنة فلأن من فيها يتشوقون للقاء أهلها و من رسم المنازل إذا بشر من فيها بإتيان أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارا بهم و تطلعا إليهم، و يكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن المؤمنين و حالهم على ما جرت به عادة الدنيا في أمثالهم، فيكون حذف الجزاء و إدخال الواو على الفعل المعطوف عليه لذلك، فاعرفه.

ص: 280

40- سورة غافر

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) و قال في سورة طه (2): إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها.

للسائل أن يسأل عن اللام الداخلة على: لَآتِيَةٌ في سورة المؤمن، و خلوها منها في سورة طه عليه الصلاة و السلام.

الجواب أن يقال: إن اللام التي تقع في خبر إن أو اسمها إذا حلّت محل الخبر تؤكد الكلام، و العرب تحرض على التوكيد في موضعه، و تركه في غير موضعه، قال اللّه تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (3) و قال قبل الآية في سورة غافر: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4) ..

و المعنى: أن القادر على خلق السموات و الأرض قادر على خلق الناس، و من قدر على خلق الناس أولا قادر على خلقهم ثانيا، و هذان من مواضع التوكيد، و تحقيق الخبر أن الساعة حق و أنها آتية لا ريب فيها، و الخطاب لقوم كفار ينكرونها، و التي في سورة طه (5) خطاب لموسى عليه السّلام، و هي في ضمن كلام اللّه تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ و قال: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها (6) و لم يكن موسى عليه السّلام ممن ينكر ذلك، فيؤكد الكلام عليه توكيده على منكريه و الجاحدين له على أنه تحميل له ليعلم قومه و هو: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (7) فإذا كان

ص: 281


1- سورة: غافر، الآية: 59.
2- الآية: 15.
3- سورة: الحجر، الآيتان: 85، 86.
4- سورة: غافر، الآية: 57.
5- الآية: 12.
6- سورة: طه، الآيتان: 14، 15.
7- سورة: طه، الآية: 16.

الأمر على ما بينا، وضح الفرق بين الموضعين بالذي ذكرناه.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (1) و قال في سورة يونس (2): إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ الآية.

للسائل أن يسأل فيقول: كيف أظهر النَّاسِ في موضع الإضمار في سورة المؤمن، و قد أضمر في موضع الإظهار في سورة يونس؟ و هل كان جائزا وقوع هذا موقع ذاك؟.

الجواب أن يقال: إن كل موضع يحتمل الإضمار لقرب الذكر، و يحتمل الإظهار لتعظيم الأمر و ذكر أخص الأسماء المقصود بالتقريع و التفنيد، فإنه يحمل على ما يلائم الآيات المتقدمة له ليكون قد جمع إلى صحة المعنى و اللفظ مشاكلة ما قبله من الآي ..

فأما قوله في سورة المؤمن: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ بعد قوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ و لو قال: و لكن أكثرهم لا يشكرون لقرب الذكر لكان من الجائز الحسن، فإنه محمول على الآيات التي قبله، و هي قوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3) و قال بعده: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (4) ثم جاء: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فأظهر ذكر الناس كما أظهر في الآيتين قبلها للمشاكلة و الملائمة، و ليس كذلك الأمر في سورة يونس عليه السّلام؛ لأن الكلام هناك بني على الإضمار في الآية المتقدمة، أ لا ترى أنه قال تعالى مخبرا عمن يدخل من الظالمين النار: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (5) فانقضى هذا الكلام و استؤنف خبر عن القوم الذين بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم إليهم، و قال: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (6) فأضمر ذكره في قوله: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ ثم قال بعده:أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ

ص: 282


1- سورة: غافر، الآية: 61.
2- الآيتان: 60، 61.
3- سورة: غافر، الآية: 57.
4- سورة: غافر، الآية: 59.
5- سورة: يونس، الآية: 52.
6- سورة: يونس، الآية: 53.

حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) فأضمر ما أضاف إليه أكثر، ثم انتهى إلى قوله بعده:

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ فاقتضى ما بني عليه الكلام في هذه الآي أن يكون ما بعد الشرط بلفظ الإضمار كما كان ما تقدمه، فاختلاف الموضعين في الإظهار و الإضمار لما ذكرنا.

الآية الثالثة من سورة غافر

قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (2).

للسائل أن يسأل: عن المواضع الثلاثة التي جاء فيها لا يَعْلَمُونَ و جاء فيها:

لا يُؤْمِنُونَ و جاء فيها: لا يَشْكُرُونَ؟ و عما يخص كلا بمكانه، و هل كان يجوز وضع أحدها موضع قرينه؟ أم كل آية اقتضت ما ختمت به؟.

الجواب أن يقال: من أقر بخلق السموات و الأرض و أنكر الإعادة و البعث، ثم نبه على أن يعلم أن من قدر على الأكبر قادر على الأصغر، و هذا موضع يفتقر إلى العلم الذي نفاه عمن لم يقر به، فقال: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فاختصّ هذا الموضع بنفي العلم، و العلم هو المحتاج إليه و المبعوث عليه، و قوله: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ فمن أنكر البعث محتاج إلى الإيمان به بعد علمه بأن القادر على خلق السموات و الأرض قادر على أن يخلق مثلهم، أما الآية الأخيرة فقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ؛ و من كان له فضل عليه فهو محتاج إلى أن يؤدي حقه بالشكر، فقال تعالى:

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لا يقابلون نعمة اللّه عليهم بما يستديمها لهم من الشكر الذي يربطها لديهم، فقد بان أن كل ما ختمت به آية هو في مكانه اللائق به و لا يقتضي سواه، و باللّه التوفيق.

ص: 283


1- سورة: يونس، الآية: 55.
2- سورة: غافر، الآيات: 57- 61.

41- سورة فصلت

الآية الأولى منها

قوله تعالى: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ (1).

للسائل أن يسأل فيقول: ذكر في هذه الآية أنه خلق الأرض في يومين، ثم قال:

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ يعني: الجبال مع سائر ما ذكر في أربعة أيام، و قضى السموات السبع في يومين، فهذه ثمانية أيام، و قد قال خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (2).

و ما أجاب به المفسرون هو أن معنى قوله: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؛ أي: في تتمة أربعة أيام، و يكون لخلق الأرض يومان، و لخلق ما فيها من الجبال و الأقوات و الشجر و غيرها من عامر و غامر يومان، فتكون الأربعة أيام المذكورة معها يوما خلق الأرض، قالوا: و هذا كما يقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، و سرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، و هو يعني: خمسة عشر مع العشرة التي سار فيها من البصرة إلى بغداد، فيخبر عن جملة الأيام التي وقع السير فيها، و كذلك أخبر اللّه تعالى عند ذكر ما خلقه في الأرض عن جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض و ما اتصل بها، و إنما ضم اليومين إلى اليومين المتقدمين، لاتصال خلق ما في الأرض بخلق الأرض، هذا ما أجاب به أهل النظر و أولو المعرفة بكلام العرب، و بقي سؤال يحتاج إلى جواب، و هو: أن يقال: ما الذي أوجب في العربية أن يضم اليومان اللذان أرسيت فيهما الجبال و أخرجت فيهما من الأرض المياه إلى اليومين اللذين وقع فيهما خلق الأرض؟ و هلا ذكر يوما ذلك مفردين على اليومين

ص: 284


1- سورة: فصلت، الآيات: 9- 12.
2- سورة: الفرقان، الآية: 59.

المتقدمين ليزول الإشكال و لا يقع الاعتراض؟.

الجواب عن ذلك: سوى ما يقول النظار من رد المتشابه إلى المحكم و بنائه عليه بموجب النظر ليتبين مزية أهل العلم و ما خصوا به من الفضل و وعدوه من جزيل الأجر، هو أن يقال: إن في الكلام ما أوجب ضم اليومين إلى اليومين الأولين، فذكر أربعة أيام في هذا المكان و هو من دقيق الكلام في الإعراب، و ذلك أنه قال تعالى: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فتمت «الذي» بصلتها و صلتها خلق الأرض، و انقطعت الصلة بقوله: وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ؛ لأن: وَ تَجْعَلُونَ معطوف على قوله: لَتَكْفُرُونَ فانقطعت الصلة بالعطف على ما قبل الموصول و الصلة، و قوله بعد ذلك: وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها عطف على قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ و لا يصح العطف على فعل هو صلة «الذي»، و قد حجز بينهما كلام أجنبي عنهما، فلو قلت: الذي خرج محمد و ركب، لم يجز؛ لأن قولك ركب: معطوف على خرج، و خرج: صلة «الذي»، و قد انقطعت بقولك: محمد، فلا يصح العطف على الصلة مع حجزه، و لو قلت: الذي خرج و ركب محمد صلح، و إذا كان كذلك و جاء قوله:

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ معطوفا على: خَلَقَ الْأَرْضَ و امتنع هذا العطف لما ذكرت لم يكن بدّ من أحد أمرين: إما أن تنوي بهذه الجملة المعطوفة التقديم حتى تعطف على خلق الأرض و تنوي بقوله: وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً التأخير، و هذا مما يجوز في ضرورات الشعر، و هو قبيح فيها أيضا، و إما أن يعطف على فعل مثل ما وقع في الصلة بدلالة الأول عليه، فيضمر خلق الإنسان و هو مما دل عليه الأول، ثم يعطف: وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ عليها، فيصير كأنه قال: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فيضم اليومان اللذان يقتضيهما خلق الأرض إلى اليومين اللذين هما لخلق ما فيها للمعنى الداعي إلى إضمار قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ بعد قوله: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ فهذا الذي أوجب من طريق اللفظ، و المعنى:

أن يتناول الخبر الثاني في المعطوف على الأول جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض و ما اتصل بها، و هو بين لمن تنبه إليه مفسر، فاعرفه.

الآية الثانية من سورة فصلت

قوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا

ص: 285

يَعْمَلُونَ (1) و قال في سورة الزخرف (2): حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ و قال قبله: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها (3) يعني: أبواب جهنم، و قال بعدها: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها (4) يعني: أبواب الجنة.

للسائل أن يسأل عن زيادة «ما» بعد «إذا» في سورة السجدة، و حذفها من الموضع الآخر.

الجواب أن يقال: إنه إذ قصد توكيد معنى الشرط الذي تضمنه «إذا» لقوة معنى الجزاء استعملت ما بعدها، و إذا لم يقصد ذلك لقرب معنى الجزاء من الشرط لم يستعمل «ما» بعدها، فقوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ شهادة السمع و سائر الجوارح من المعاني القوية التي لا يقتضيها الشرط الذي هو المجي ء، أ لا ترى استنكارهم لها حتى: قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فأجابوا بأن: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (5) و ليس كذلك: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها؛ لأن المجي ء يقتضي فتح الأبواب، و إن أضمر في الثاني الجزاء على معنى:

حَتَّى إِذا جاؤُها نالوا المنى عندها و أدركوا مطلوبهم و مرغوبهم فيها، فقد صار المكان مكان اختصار و حذف لما لا بد للكلام منه، فكيف يزاد فيه ما يستغنى عنه، و كذلك:

حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ: أي: قال الآدمي لقرينه من الجن- اللذين اشتركا في الدنيا في معصية اللّه، ثم اشتركا في العذاب في الآخرة-: ليتني لم أتبعك، و كان بعد ما بين المشرقين بيني و بينك، و هذا أيضا مما يتوقع كونه منهما ثم يتبرى بعض من بعض، فليس في الجزاء ما يوجب قوة الشرط من المعنى الذي لا يتوقع و لا يستفاد إلا به و منه، و لا يكون في الشرط تنبيه عليه و إشارة اليد، فيترك التوكيد حيث لا يدعو داع إلى الإتيان به أحسن، و إذا دعى الداعي إليه، فالإتيان به أحرى و أقمن.

الآية الثالثة من سورة فصلت

قوله تعالى: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) و قال في سورة الأعراف (7): وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ

ص: 286


1- سورة: فصلت، الآية: 20.
2- الآية: 38.
3- سورة: الزمر، الآية: 71.
4- سورة: الزمر، الآية: 73.
5- سورة: فصلت، الآية: 21.
6- سورة: فصلت، الآية: 36.
7- الآية: 200.

بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

. للسائل أن يسأل: عن التوكيد في سورة حم السجدة في قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و تعريفه الصفتين بالألف و اللام، و ترك التوكيد بقوله: هُوَ و ترك التعريف في:

سَمِيعٌ عَلِيمٌ من الأعراف؟.

الجواب أن يقال: إن الذي في سورة السجدة لما كان بعد دعاء إلى ما يشق على الإنسان فعله، و هو أن يدفع السيئة بالحسنة، و يقابل غلظة عدوه بالملاينة استكفافا لشره و أذاه، حتى يعود إلى اللطف في المقال و الجميل من الفعل، فيصير و إن كان عدوا كأنه صديق قريب القربى، ثم قال: وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (1)؛ أي: ما يوفق لذلك إلا من ملك أمر نفسه و صبر على احتمال الأذى من عدوه، و لا يوفق لذلك إلا من له نصيب وافر من الدين و حظ جزيل من الإسلام، و هذا الذي بعث اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلم و سائر المؤمنين عليه، ما ينتهز الشيطان الفرصة عليه عنده و يبعث على عداوته من تجلب عداوته ضره و يوسوس إلى العصيان بالحمية و الأنفة، فإذا كان الإنسان ثابت القدم و مالكا لنفسه عند الغضب فجاءه من قبل الشيطان مثل ما ذكرت مما يحمل على خلاف ما رغب اللّه تعالى فيه، و يدعو إلى معصية اللّه تعالى، و وجد في نفسه فسادا يتزين له من جهة شيطانه، و هو مأمور عند ذلك بالاستعاذة باللّه من الشيطان و من ضرر ما يحمل عليه ليعيذه اللّه تعالى منه، فلما كان الأمر الذي بعث اللّه تعالى عليه أولياءه شاقا عظيما، حتى قال: وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ كانت وسوسة الشيطان في مثله أعظم، و المؤمن لها أيقظ، و من قبولها أبعد، و كان الترغيب في مدافعته أبلغ، و تقدير علم اللّه تعالى بما يلاقي من ذلك أوكد، فجاء قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ أي: لا سميعا عليما قديما إلا هو، فهو لم يزل يعلم ما يكون قبل أن يكون، فكيف ما يتكلف به من المشاق فيما دعاك إليه؟ فهذا وجه التوكيد و التعريف في هذه الآية، و أما الآية التي في سورة الأعراف، فإن قبلها: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (2) و لم تعظم فيها الأفعال التي دعا إليها كما عظمت في سورة السجدة؛ بل كان ما هناك بعثا على أحسن الأخلاق، و لم يخص نوعا من المشاق كما خص في سورة السجدة، فلم تقع المبالغة في اللفظ، و اقتصر في الخبر على الأصل، و هو:إِنَّهُ

ص: 287


1- سورة: فصلت، الآية: 35.
2- سورة: الأعراف، الآية: 199.

سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: يسمع ما يكون منك، و يعلمه مع كل مسموع و معلوم، فجعل اسم إن معرفة، و خبرها نكرة، و ذلك الأصل قبل تأكيد الألفاظ لتأكد المعاني، فاعرفه إن شاء اللّه تعالى.

الآية الرابعة من سورة فصلت

قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (1) و قال في سورة حم عسق:

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (2).

للسائل أن يسأل: عن خلو هذه الآية من ذكر النهاية المذكورة في الأخيرة، و هو قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.

الجواب: أن خبر اللّه تعالى عما آتاه اللّه لموسى عليه السّلام من التوراة، يدل على أن أولئك القوم اختلفوا فيه كاختلاف من في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم في القرآن الذي أنزل عليه، ثم قال: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ؛ أي: لو لا أن اللّه تعالى قال: إني أوفي كلا من المطيع و العاصي حقه من الثواب و العقاب في الآخرة؛ لأنزل بكل ما يجب له و عليه عند فعله في الدنيا، فأخبر أن سبيلهم في الإمهال سبيلهم لما سبق من حكم اللّه تعالى، و قوله في تأخير المستحق من الثواب و العقاب إلى الآخرة، فأما اختصاص ما في سورة حم عسق بذكر النهاية في قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فلأن قبله: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فأخبر بمبتدإ كفرهم، و هو: إنكارهم بعد مجي ء العلم؛ أي: القرآن و الآيات التي أوقعت العلم بصحة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فلما قال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ و من لابتداء الغاية، و كان ذلك ابتداء كفرهم، ذكرت النهاية التي أمهلوا إليها ليكون ابتداء عقابهم فيكون الحد مذكورا مع الحد، و لأنه جرى ذلك محدودا من الطرفين، قال بعده: وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ (3)؛ أي: لو لا قوله:

إني أفصل في الآخرة لأفصل في الدنيا، و هذا بيّن واضح فاعرفه.

ص: 288


1- سورة: فصلت، الآية: 45.
2- سورة: الشورى، الآية: 14.
3- سورة: الشورى، الآية: 21.

الآية الخامسة منها

قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي (1) و قال في سورة هود (2): وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي.

للسائل أن يسأل فيقول: عن قوله في السجدة: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ و لم يكن في سورة هود عليه السّلام: مِنَّا و لا: مِنْ؟.

الجواب أن يقال: إن قوله: مِنَّا مما بالكلام إلى ذكره حاجة، و قد استغنى عنها في سورة هود عليه السّلام، لتقدم ذكرها في الآية التي قبلها و هي: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (3). و أما قوله: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فلأنه لما حد الرحمة و الجهة الواقعة منها حد الطرف الذي بعدها ليتشاكل المقترنان في التحقيق، لما لم يكن ذلك في الآية من سورة هود عليه السّلام من حد في الأول، لم يحتج إليه في الثاني.

الآية السادسة من سورة فصلت

قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (4) و قال في سورة الأحقاف (5): قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

للسائل أن يسأل: عن قوله: ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ في الأول، و قوله: وَ كَفَرْتُمْ بِهِ بالثاني، و هل يصلح كل واحد منهما مكان الآخر؟.

الجواب أن يقال: إن معنى قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أ رأيتم إن كان ما أتيتكم به من كلامه و سائر ما أديته إليكم من أمور دينه، و كان قصاراكم

ص: 289


1- سورة: فصلت، الآية: 50.
2- الآية: 10.
3- سورة: هود، الآية: 9.
4- سورة: فصلت، الآية: 52.
5- الآية: 10.

و آخر أمركم الكفر به، فهل ترون أضل منكم عن الصواب، فإن لم تحققوه فلا بد من أن تتأملوا فيه فتعلموا بعدكم عن الهدى و إيغالكم في الضلال، فذكر فعلين: أحدهما: إن كان من عند اللّه و ختمه بقوله: ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ على معنى: إنكم بعد إمهالي لكم لتدبره، و حثّي إياكم على تأمله، كان عاقبة أمركم الكفر به، فلم يحسن في المعنى إلا «ثم» للمهلة بين الاستدعاء إلى الحق، و خاتمة أفعالهم بالكفر و هو من مواضع «ثم». و أما في سورة الأحقاف فإن قوله: وَ كَفَرْتُمْ بِهِ لم يجعله آخر ما أخبر به في القصة، و خاتمة أمره معهم في الدعوة، بل ذكر: وَ كَفَرْتُمْ بِهِ و عطف عليها أفعالا بعدها، و هي:

وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ فكأنه قال: قابلتم بالكفر ما أتيت به و احتج عليكم من بني إسرائيل من قرأ الكتب و عرف ما أتيت به من الصدق فآمن و تكبرتم عما التزم من التذلل في طاعة اللّه ألا تكونون ظالمين بذلك و اللّه لا يهدي القوم الظالمين إلى ما يهدي إليه المؤمنين، فلما لم يجعل قوله: وَ كَفَرْتُمْ بِهِ الكفر الذي يوافي به الآخرة لما ذكر بعده من الاحتجاج عليهم، و توقع من إيمانهم، و شهادة من كان على دينهم و إيمانه و استكبارهم، خالف المكان الذي ختمت أفعالهم بالكفر فيه فاستعملت الواو بدل استعمال «ثم» هناك، و السلام، و اللّه الموفق.

ص: 290

42- سورة الشورى

اشارة

قد مرت منها آيات شابهت الآيات التي في السورة قبلها، و مما لم يمر به:

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (1) و قال قبله في سورة لقمان (2): يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.

للسائل أن يسأل: عما اقتضى توكيد الخبر باللام في سورة حم عسق في قوله:

لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ و تركه في سورة لقمان.

الجواب أن يقال: إن ما رغب اللّه تعالى فيه عبده من الصبر على ما آلم قلبه من جناية جان عليه حتى يغفر لمن ظلمه، و يهب له من القصاص حقه ترغيب فيما يشق على الإنسان فعله، إلا أن اللّه تعالى حسنه بما وعد من عفا عما يجب له من الأجر الذي ضمنه، ففيه مع جزيل الثواب إصلاح ما بين عشيرته و عشيرة الجاني عليه بإطفاء الثائرة عنهما، و إذا كان هذا من أصعب ما يتحمله الإنسان، وجب من توكيد الكلام فيه ما لا يجب في غيره، فأدخلت اللام على: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ على معنى أنه من الأمور التي تحتاج إلى توطين النفس عليها، و تخير أرفعها و أعلاها، و ليس كذلك ما في سورة لقمان؛ لأنه قال: وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ و ليس يختص صبرا على ظلم يلحقه فيرغب في العفو عن الظالم، بل تكون شدائد لا يهيج النفوس الانتصار فيها، و لا تدعو دواعي إلى الانتقام لها من الرزايا في الأنفس و الأموال، و ما يكون من قبل اللّه تعالى مما تعبدنا فيه بالصبر و ليس لنا غيره ... فأما الموضع الذي أبيح فيه الانتصاف، فالصبر فيه أحق، و كظم

ص: 291


1- سورة: الشورى، الآية: 43.
2- الآية: 17.

الغيظ معه أشد، و الكلام فيه إلى التوكيد أحوج، أ لا ترى أن صبر من قتل بعض أعزته رغبة فيما وعده اللّه من مثوبته، ليس كصبر من مات له بعض أحبته، فافتقر المكان الأول من تقوية الكلام فيما ينبه على الأصل إلى ما لم يحتج إليه المكان الآخر.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (1) و قال في سورة الروم (2): فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما انقطع إليه قوله: يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ فجاء في هذه السورة: ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ و في سورة الروم: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ.

الجواب أن يقال: إن قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ معناه: استقم أنت و من معك من المؤمنين على الدين المستقيم من قبل أن يجي ء يوم لا ينفع فيه الإيمان، فكأنه خاطب الناس بالاجتماع على الإيمان و التآلف على الإسلام قبل يوم القيامة الذي تتفرق فيه الجموع، ففريق في الجنة و فريق في السعير، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (3)، فلما كان قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أمرا للنّاس كلهم بالاجتماع على الحق و رفض الباطل، حذّرهم من التفرق في الآخرة و مصير المطيع إلى دار الثواب و العاصي إلى دار العقاب، فكان هذا ملائما لما قبله .. و الآية التي في سورة حم عسق جاءت بعد قوله: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (1) فلما قال: إن الظالمين لا وليّ لهم ينصرهم من دون اللّه قال عند ذكر اليوم الذي لا مرد له: ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ، أي: لا معقل لكم تعتصمون به من عذاب اللّه، و لا

ص: 292


1- سورة: الشورى، الآيتان: 46، 47.
2- الآية: 43.
3- سورة: الزلزلة، الآية: 6.

يمكنكم إنكار ما يحل بكم بدفعه عن أنفسكم بنصرة ناصر لكم، فاقتضى ما تقدم من ذكر أن لا ناصر لهم يدفع عذاب اللّه تعالى عنهم، سد طرق النجاة دونهم بأنه لا ملجأ لهم و لا ذابّ عنه، و من دهمه الخطب العظيم الذي لا يطيق احتماله فلم يجد مهربا و لا ناصرا لم يبق له إلا الاستسلام، و السلام.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (1) و قال بعده: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (2).

للسائل أن يسأل: عن مجي ء: عَلِيمٌ قَدِيرٌ بعد ذكر الذكران و الإناث من الأولاد و النعمة بهما على العباد، و مجي ء: عَلِيٌّ حَكِيمٌ بعد ذكر الجهة التي منها يرد أمر اللّه لعباده بطاعته، و نهيه لهم عن معصيته، و اختلاف أحوال الرسل في خطابه لهم، و أمره إياهم، و هل للصفتين الأولتين اختصاص بالآية التي ختمت بهما، و للصفتين الآخرتين اختصاص بما جاء بعده؟

الجواب أن يقال: لما نبه اللّه العباد على ما يشاهدون من خلقه لهم من أولادهم ذكورهم و إناثهم، و أنه يختص من يشاء بالإناث و يختص من يشاء بالذكور، أو يؤلفهم ببنات و بنين فيجمعهما للواحد، و من أراد أن يعقم من الوالدين حتى لا يكون له نسل حرمه الولد، و الناس في الأولاد لا ينفكون عن الأحوال الثلاث، قال عقيبه: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ أي: يعلم الغيب و يطّلع على العواقب، فيفعل ما يصلح دون ما لا يصلح، و هو قادر لا قدرة كقدرته، فاختلاف الأحوال التي ذكرها هو لعلمه بما يصلح منها، و قدرته على إيجادها، فاقتضى الفعل المتقدم هذين الوصفين ... و أما قوله: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ فالعلي: القادر على الشي ء القاهر له، و كذلك قال الشاعر:

اعمد لما تعلو فما لك بالذي *** لا تستطيع من الأمور يدان

ص: 293


1- سورة: الشورى، الآيتان: 49، 50.
2- سورة: الشورى، الآية: 51.

فجعل بإزاء تعلو: لا تستطيع، فالقادر على الشي ء أتمّ قدرة يكون عالما به قاهرا له، فذكر هذا الوصف يعد الأشرف من الأفعال من بعثة الرسل على اختلاف السبل، و أنه قاهر لما أراد فعله من ذلك، إنما أراد فعلا على وجه من الصواب لا مزيد عليه، و هو الذي تقتضيه الحكمة.

و جواب ثان في قوله: عَلِيٌّ حَكِيمٌ أنه يتعالى عن أن يكون كلامه لمن يكلم، ككلام غيره ممن يشاهد المكلم به المكلم له مشاهدة رؤية، فهو: عَلِيٌّ عن ذلك، و حَكِيمٌ في إبلاغهم كلامه من الوجه الذي ذكره، و القسم الذي قسمه، فقد ثبت أن كل آية اتبعت ما اقتضته ... و قد ذهب بعض أهل النظر إلى أن معنى قوله: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أنه يزوج ذكران عبيده بإناثهم، و هذا لا يكون ب «أو»؛ لأنه لا يهب الإناث و لا الذكور إلا أن يزوج ذكرانهم بإناثهم، فليس هو قسما ثالثا تدخله، أو حتى يقال فيه: هذا أو هذا، و إنما وجه الكلام ما ذكرنا، و القسمة التي لا مزيد عليها ما قسمنا فاعرفه.

ص: 294

43- سورة الزخرف

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (1) و قال في سورة الشعراء (2): قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ.

للسائل أن يسأل: عما أوجب التوكيد في قوله هنا: لَمُنْقَلِبُونَ و لم يوجبه في سورة الشعراء حتى لم تدخل اللام على خبر أن دخولها في الأول.

الجواب أن يقال: إن معنى قوله: وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى آخر الآية: لتذكروا إنعام اللّه عليكم و تشكروه و تخالفوا الكفار بأن تقروا بما أنكروه، فتؤمنوا بالبعث و الحياة بعد الموت، و هذا خطاب لكل من كان في ذلك العصر، و من يكون بعدهم إلى انقضاء الدهر، فالتوكيد لمثله لازم، و في الكلام الذي للتأييد واجب، و الذي في سورة الشعراء إنما هو خبر عن السحرة لما آمنوا و وصفوا حالهم و استهانتهم بما خوفوا أن ينالهم من عقوبة فرعون، إذ كان منقلبهم إلى ربهم و كانوا مجازين على إيمانهم و صدقهم و صبرهم، فلم يحتج من التوكيد إلى ما احتاج إليه ما هو على التأييد.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (3) و قال في سورة الجاثية (4): وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.

ص: 295


1- سورة: الزخرف، الآيتان: 13، 14.
2- الآية: 50.
3- سورة: الزخرف، الآية: 20.
4- الآية: 24.

للسائل أن يسأل: عما بعد قوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ في سورة الزخرف:

إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ و ما بعده من سورة الجاثية: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ و هل لاختصاص كل باللفظة التي تقارنها فائدة تقتضيها؟

الجواب أن يقال: إن قبل الآية من سورة الزخرف: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (1) فأخبر عنهم أنهم قالوا:

الملائكة بنات اللّه تعالى، و أن اللّه تعالى أراد أن يعبدوهم وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ و ليس ذلك عن علم، بل هم كاذبون فيما يدعونه و يخبرون به، فأبطل خبرهم بالتكذيب لهم، و هو الذي يليق بالموضع ... و الذي في سورة الجاثية خبر عن الكفار الذين دعاهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم إلى الإسلام بأنهم قالوا: لا بعث لنا، و إنما هو أن تموت الأسلاف و تحيى الأخلاف، فكلما هدم الدهر قوما فأفناهم، نشأ فيه آخرون فأحياهم، و هؤلاء لم يقولوا ما قالوا بمعرفة؛ بل قالوه على سبيل الظن، فكان: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ لائقا بهذا المكان كما لاق بالأول: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (2) ثم قال بعده: وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (3).

للسائل أن يسأل عن قوله: مُهْتَدُونَ في فاصلة الآية الأولى، و مُقْتَدُونَ في فاصلة الآية الثانية، و هل كانت تصلح هذه مكان تلك؟ أم هناك معنى يخصصها بمكانها؟.

الجواب أن يقال: إن الأولى حكاية قول الكفار الذين حاجّوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فقال مخبرا عنهم: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ (4)؛ أي: من قبل القرآن:فَهُمْ بِهِ

ص: 296


1- سورة: الزخرف، الآيتان: 19، 20.
2- سورة: الزخرف، الآية: 22.
3- سورة: الزخرف، الآية: 23.
4- سورة: الزخرف، الآية: 21.

مُسْتَمْسِكُونَ (1)؛ أي: كتابا فيه حجة بصحة دعواهم فهم متعلقون به، فأعرض عن ذلك، و قال تعالى: لا حجة لهم، لكنهم قالوا: وجدنا آباءنا على ملة و طريقة في الدين مقصودة، و نحن في اتباع آثارهم على هداية، فادعوا الاهتداء بسلوكهم سبيل آباءهم .. و أما الآية الثانية فإنها خبر عن الأمم الكافرة بأنبيائها، قال: ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قال ذووا النعم و الأموال من أهلها قريبا من قول هؤلاء الذين في عصرك، فكان أقصى ما احتجوا به أن: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ فاقتدينا بهم و لم يؤكّد الخبر عنهم بدعواهم الاهتداء كما أكده عمن كان في عصره ممن يدعيه، لبطلان قول الجميع و زوال الماضين عن احتجاجهم و ثبات هؤلاء في حجاجهم و قوله: قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ (2) خطاب لمن قال: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ دون الذين قالوا: مُقْتَدُونَ.

44- سورة الدخان

ليس فيها من ذلك شي ء.

ص: 297


1- سورة: الزخرف، الآية: 21.
2- سورة: الزخرف، الآية: 24.

45- سورة الجاثية

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عما ختمت به الآية الأولى و هو: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ و ما ختمت به الثانية و هو: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ و ما ختمت به الثالثة و هي: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؟

و عن الفائدة في اختصاص هذه بهذه دون تلك.

الجواب أن يقال: لما قال اللّه تعالى قبل خلق السموات و الأرض بالحق إن في ذلك لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ و قال في سورة ص (2): وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ فأخبر أن في خلقهما بالحق آية للمؤمنين، و أن خلقهما باطلا لا ليعبد فيهما و يطاع ظن الكافرين، كانت الآية الأولى من سورة الجاثية محمولة على ما تقدم من إثبات الآيات فيها للمؤمنين، و من تلك الآيات أنه لا شي ء أعظم في الموجودات منها، ثم اتّساق النجوم فيها و تسخيرها على انتظام مما يدل على مدبرها، ثم وقوفها مع عظمها و ثقل جرمها بغير دعامة من تحتها، و لا علاقة من فوقها تدل على قدرة قادر لا يشبهه قادر، فمن و فى النظر في ذلك و في سائر ما فيها من الآيات الأخر حقه أداه إلى الإيمان باللّه تعالى، فلذلك قال: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فخصّهم لانتفاعهم بها، و إن كانت الآيات منصوبة لهم و لغيرهم، إلا أنهم لما لم ينتفعوا بها صارت كأنها لم تكن لهم آيات، و أما قوله: وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فإن

ص: 298


1- سورة: الجاثية، الآيات: 3- 5.
2- الآية: 27.

العجائب في خلق الحيوان و ما له من الأعضاء و الحواس التي بها يدرك المحسوسات، ثم في باطنه من جواذب المواد التي بها قوام الحياة، ثم الروح التي بها ثبات الأجساد، أكثر من أن تحصى و تعدّ، فإن عرضت شبهة لملحد بأن كون الولد بإحبال الوالد أمه، و من نطفته يأخذ شبهه، فإنه يطرح ذاك و يرتاح بالآيات التي ليس إلى الوالد فعلها، و لا جارحة من جوارحه يحيط علمه بنشأتها، و الحكمة في تركيبها، فكيف أن يكون فاعلها تبارك و تعالى من صنعها و زينها بالعقل الذي هو أكبر نعمة، فهذا هو للمتفكر في ذلك ينتقل من ظن إلى علم و تيقن بعد شك، و اليقين علم يحصل بعد تشكك، و لذلك لا يوصف اللّه تعالى بأنه موقن، و يوصف بأنه عالم، فلهذا قال: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. و أما الآية الأخيرة و هي: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فقد تقدم من قولنا في الفرق بين: يَعْقِلُونَ و (يعلمون) ما يبين الجواب عن الفائدة في اختصاص هذه الآية بقوله: يَعْقِلُونَ كما قال تعالى في سورة البقرة (1): إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فخص هذا المكان أيضا بقوله:

يَعْقِلُونَ؛ لأن المعنى أنهم يفطنون بمعلوم آخر، فيعقلون من إحياء اللّه الأرض بالمطر حتى تكتسي بالنبات و الشجر أنه يحيى العظام و هي رميم، و هذا موضع يقال فيه: عقل من كذا كذا؛ أي: استدركه بالعلم بعد أن لم يكن مستدركا له، فكأنه في معنى: يفطنون، و يدرون، و يشعرون، كما أن أصل الوصف بالعاقل موضوع لحالة ثانية و معرفة طارئة، فلذلك خصّت الآية الثالثة بهذه اللفظة.

الآية الثانية من سورة الجاثية

قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2) و قال في سورة لقمان (3): وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.

ص: 299


1- الآية: 164.
2- سورة: الجاثية، الآيتان: 7، 8.
3- الآية: 7.

للسائل أن يسأل: عن فائدة قوله: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً و استغناء الكلام عنه في سورة الجاثية، مع أن القصتين مشتبهتان؟.

الجواب: أن هذا الكافر لما أخبر اللّه عنه في سورة لقمان بأنه يعرض عن القرآن إذا سمعه غير منتفع به، حتى كأنه لم يسمعه، و يستمر به هذا الحال كما يستمر بمن به صمم، و قوله في الجاثية: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها يدل على ما دل عليه:

كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً؛ لأن الإصرار عزم لا يتهم معه بإقلاع، فإذا أصر على التصامّ، فهو كمن في أذنيه وقر، فصار أحد اللفظين يغني عن الآخر، و يقوم مقامه، و يؤدي من المعنى أداءه، فلذلك لم يجمع بينهما، و كان الموضع الذي ذكر فيه: وَلَّى مُسْتَكْبِراً أحق بقوله: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً و الموضع الذي ذكر فيه الإصرار على ترك الاستماع أغنى عن ذكر: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً.

الآية الثالثة من سورة الجاثية

قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (1) و قال في سورة يونس (2): وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

للسائل أن يسأل عن اختلاف ما اختلف من الآيتين، و زيادة ألفاظ في سورة الجاثية على ما في سورة يونس عليه السّلام و إبدال ألفاظ مكان ألفاظ.

الجواب أن يقال: إن سورة الجاثية لم يذكر فيها من قصة بني إسرائيل غير هاتين الآيتين، و التي في سورة يونس عليه السّلام إنما هي بعد سبع عشرة آية قصرت على ذكر موسى عليه السّلام و ما دار بينه و بين فرعون، من حيث قال: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ (3) إلى الآية التي ذكر فيها غرق فرعون المختومة بقوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (4) و كانت هذه السبع عشرة آية قد اختصر فيها جميع ما بسط في الآيات الكثيرة من سورة طه عليه الصلاة و السلام و من سورة الشعراء،

ص: 300


1- سورة: الجاثية، الآيتان: 16، 17.
2- الآية: 93.
3- سورة: يونس، الآية: 75.
4- سورة: يونس، الآية: 92.

فكان الموضع موضع اختصار، فاختصر قوله: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ عما شرح في الآيتين اللتين في سورة الجاثية، فأودعت آية واحدة من سورة يونس عليه السّلام ما أودع في آيتين من سورة الجاثية .. فقوله: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي: أنزلناهم منزل اختيار و رفعة و جلالة و تفضيل و كرامة، و لا منزلة في الدنيا أعلى مما تجمع النبوة و الكتاب و الحكومة بين الناس لفضل العلم، فقوله: مُبَوَّأَ صِدْقٍ مشتمل على كل ذلك، و قوله: وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ في الآيتين سواء، و قوله: فَمَا اخْتَلَفُوا من تمام الآية من سورة يونس، و هو في آية مفردة من سورة الجاثية أولها: وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ؛ يعني أمر الدين فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ تضمّنت أربعة ألفاظ منها و هي الأمر بعد ما تضمنه لفظ واحد من الآية في سورة يونس عليه السّلام، و هي:

حَتَّى و ذلك أن حَتَّى للنهاية، أي: لم يختلفوا، و كانوا متفقين إلى أن جاءهم العلم و هو كتاب اللّه تعالى، فحتى لمنتهى الاتفاق، و قد دخلت على جاءَهُمُ الْعِلْمُ فمجي ء العلم منتهى ما تقدم، و مبتدأ الاختلاف الذي لم يكن إلا بعد وجوده، فاحتمل الآيتان من سورة واحدة في قصة واحدة من بسط الألفاظ، و شرح المعاني ما اختير اختصاره حيث شغلت بتلك القصة آيات كثيرة، و هي مع كثرتها مبنية على الإيجاز، فكان من البسط قوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما بدل قوله: حَتَّى و قوله: بَغْياً بَيْنَهُمْ بيان ما دعاهم إلى الاختلاف، و هو البغي و الحسد عداوة بعضهم لبعض، و قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في المكانين واحد، و اللّه أعلم.

46- سورة الأحقاف

ما فيها قد تقدم ذكره في غيرها.

47- سورة محمد صلّى اللّه عليه و سلم

ليس فيها شي ء من ذلك.

ص: 301

48- سورة الفتح

الآية الأولى منها

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (1) و قال بعد: وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (2).

للسائل: أن يسأل: عن قوله في الأولى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً و قوله في الثانية: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.

الجواب أن يقال: إن قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً (3) قد فسر على وجهين:

أحدهما: أنها نزلت عليه مرجعه من عام الحديبية، مبشّرة بما يكون من الفتح في قابل، و معناه: إنا قضينا بفتح مكة عن محاربة منك لأهلها، و مغالبتهم على دخولها ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخّر، و يتم نعمته عليك بما يملكك بعده جميع أرض العرب، و قد علم اللّه ما يكون قبل كونه، و قرن الحكمة بصنعه، و هو مبشر لكم بما لم يعجله في وقته لما اقتضت الحكمة من تأخيره، فهذا معنى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.

و الوجه الآخر: أن تكون قد نزلت لما فتح اللّه له مكة، و كان وعد اللّه قد سبق بها و بغيرها من البلدان، فلما فتحت مكة ازداد المؤمنون بصيرة إلى بصيرتهم لما صدق اللّه من وعدهم، فوثقوا أتم ثقة باعتلاء أمرهم، و قوله: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً؛ أي: بما يكون

ص: 302


1- سورة: الفتح، الآية: 4.
2- سورة: الفتح، الآيتان: 6 و 7.
3- سورة: الفتح، الآية: 1.

مما أخبركم به و بسائر المعلومات، حَكِيماً في أفعاله المخصوصة بالأوقات، فيقدّم و يؤخر على مقتضى الحكمة، لا على مقتضى إرادة الخليقة.

و أما قوله: وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ؛ أي: يملك من فيهما من الملائكة و الإنس، فإذا أراد تسليطهم على كفار عباده لينتقم منهم فعل، و قيل: لِلَّهِ أي: هم عبيد له، و قيل: لطاعة اللّه جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ؛ أي: خلقوا لذلك و منها نصرة دينه .. و أما قوله بعد: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فإنما جاء بعد قوله: وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ (1) فذكر قدرته على عقابهم و قهره لهم بعذابهم، فلما عذبهم بأن أذلهم و أباح للمؤمنين قتلهم و غنمهم أموالهم، كان هذا المكان مقتضيا أن يتصف اللّه تعالى بالقهر و العزة و الحكمة فيما يظهر من القدرة، فصار كل من خاتمتي الآيتين في موضعه، و هذا كما قال في هذه السورة في أهل البيعة تحت الشجرة: وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (2) فاتّصف بالعز و الحكمة لما كان في موضع القهر و الغلبة.

الآية الثانية من سورة الفتح

قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً (3)، و قال في سورة المائدة (4): قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

للسائل أن يسأل عن زيادة لكم في قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ في هذه السورة، و حذفها في سورة المائدة.

الجواب أن يقال: إن هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من غير عذر، و تأخّروا عن الجهاد معه و الغزو، و قالوا: شغلتنا أموالنا و أهلونا، ثم سألوه صلّى اللّه عليه و سلم أن يستغفر لهم، يكتمون بذلك نفاقهم، و يظهرون وفاقهم، و أنهم محتاجون إلى استغفاره لهم و قصد استمالته، و أن لا تضرهم عداوته، ثم قال: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً؛ أي:

من يملك لكم نفعا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا و من يملك لكم ضرا إن أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً

ص: 303


1- سورة: الفتح، الآية: 6.
2- سورة: الفتح، الآيتان: 18 و 19.
3- سورة: الفتح، الآية: 11.
4- الآية: 17.

و معناه: إن أراد إنزال العذاب بكم لم يكن لكم من يدفعه عنكم، كما أنه إن أراد الإنعام عليكم لم تضركم إساءة المسي ء إليكم، فلما كان في قوم مخصوصين، احتيج إلى قوله:

لَكُمْ ليتبين .. فأما الآية التي في سورة المائدة، فإنها لم تخرج عن أن تكون مخصوصة في فريق دون فريق، بل عمّ بها؛ أي: لا يملك أحد دون اللّه شيئا فيما يريده من خير و شر في عباده، و يدل عليه قوله: إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فلما سيقت الآية إلى العموم لم يحتج إلى:

لَكُمْ التي للخصوص.

الآية الثالثة من سورة الفتح

قوله تعالى: إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (1) و قال بعده: وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (2).

للسائل أن يسأل: عن الأولى لما ذا ختمت بقوله: خَبِيراً؟ و عن الثانية لما ذا ختمت بقوله: بَصِيراً؟.

الجواب أن يقال: لأن الأولى في ذكر ما أسرّه المنافقون من نفاقهم؛ لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا و طلبوا الاستغفار لهم، و لا إرادة فيه منهم، فكأنه قال: بل كان اللّه يخبر باطنكم، و الآية الثانية بعد قوله: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ؛ أي: بما قذف في قلوبهم من الرعب، وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بأن أمركم أن لا تحاربوهم، فيفعل كل ما أراده اللّه منهم، و اللّه أبصر فعلكم، و هذا ظاهر يوصف بأن اللّه تعالى يراه، و الذي في الأولى باطن يوصف بأن اللّه تعالى يخبره، فلذلك خصت الأولى بخبير، و الثانية ببصير.

49- سورة الحجرات

ليس فيها شي ء من ذلك.

ص: 304


1- سورة: الفتح، الآية: 11.
2- سورة: الفتح، الآية: 24.

50- سورة ق

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (1) و قال بعدها: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (2).

للسائل: أن يسأل: عن إدخال الواو في قوله: وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ و حذفها من الثاني حيث قال: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ؟.

الجواب أن يقال: إن القرين الأول فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الملك الشهيد عليه، و هو الشاهد لما يعمله الإنسان، فيكتبه عليه فيقول له يوم القيامة: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ محفوظ عليك و الوجه الآخر: أن يقول قرينه من الشياطين كان في الدنيا: هذا ما عندي من العذاب الحاضر المعد لي و لك، و على الوجهين هو خطاب للإنسان من قرينه.

و أما الآية الثانية، فإنها منفصلة؛ لأن القول هناك ليس للإنسان، و لا ما بعده خطابا له، فلما لم يكن القائل و لا المقول انقطع و استؤنف، أ لا ترى أنه للقرين و أنه يخاطب اللّه تعالى بقوله: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فلما لم يكن القائل المخاطب و لا المقول له المخاطب، صار كأنه مستأنف، فالآيات التي أجريت هذا المجرى بعده، و هي: قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ (3) و كقوله: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ (4) فلما لم يكن في واحد منهما واو عاطفة، كانت الأخرى كذلك.

ص: 305


1- سورة: ق، الآيتان: 22 و 23.
2- سورة: ق، الآيتان: 26 و 27.
3- سورة: ق، الآية: 28.
4- سورة: ق، الآية: 29.

الآية الثانية من سورة ق

قوله تعالى: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (1) و قال في سورة طه (2): وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها.

للسائل أن يسأل: عن الموضعين، و أن يقول: لم قال في سورة طه عليه الصلاة و السلام: وَ قَبْلَ غُرُوبِها و في هذه: وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ؟.

الجواب قريب، و هو: أن فواصل أكثر الآيات في سورة طه أواخرها ألف، فعدل إلى: غُرُوبِها و هو الأصل؛ لأن الطلوع مضاف إلى الشمس، و حق الغروب أن يكون مضافا إلى ضميرها، و ضميرها هاء بعدها ألف.

و أما سورة ق، فواصلها مردوفة بواو أو ياء، كالسجود و الجلود و القعيد و العتيد و المريج و الغروب، متى ذكر علم أنه أريد به غروبها، فكان ذلك أشبه بالفواصل التي تقدمتها في المكانين، فلذلك اختلفا.

ص: 306


1- سورة: ق، الآية: 39.
2- الآية: 130.

51- سورة الذاريات

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (1) إلى قوله: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (1) و قال في سورة الطور (2): إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما اختلف من الأخبار عن أهل الجنة في هاتين السورتين.

الجواب أن يقال: إنه تعالى أخبر عنهم في الذاريات أنهم صاروا إلى الجنة بأعمال عدّدها، و دعا العباد إليها ليفعلوا فعلهم لها فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ و المراد بالجنات: ما ذكره في سورة الرحمن، حيث قال: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (3) و بعده: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (4) ثم قال: وَ عُيُونٍ لما كان المعنى بالجنات: البساتين التي لها ظلال، و الظل و الماء مطلوبان للعرب، و لكل ما ذرأ اللّه من النسم، قرن إلى الجنات العيون، كما قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (5) و جعل ذلك بإزاء ما يعذب به أهل النار، حيث يقول: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ (6)؛ أي: يحرقون ليزال عنهم الخبث، و كلهم خبث لا يخلص منهم ما يستغني عن الإحراق، ثم قال:

ص: 307


1- سورة: الذاريات، الآيات: 15- 23.
2- الآيات: 17- 19.
3- سورة: الرحمن، الآية: 46.
4- سورة: الرحمن، الآية: 62.
5- سورة: المرسلات، الآية: 41.
6- سورة: الذاريات، الآيتان: 13، 14.

آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ؛ أي: متقبّلين عطية ربهم؛ لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا في فعلهم، فاقتدوا بهم لتكونوا كمثلهم، و أقلّوا الهجوع بالليل لتنالوا مثل نيلهم، و استغفروا لتفوزوا كما فازوا باستغفارهم، و أخرجوا فضلات أموالكم لمن يسأل من الفقراء و من يحرم نفسه بترك السؤال كما أخرجوها فغنموا بها، و اعتبروا بالآيات التي نصبها اللّه في الأرض، كالراسيات و العيون الجاريات، و ما يطلع منها من نام و غير نام من جواهر المعادن، فإنهم به اعتبروا و به وصلوا إلى ما وصلوا، و هذه الآية تدلّ على أنّ وصف أهل الجنة في هذه السورة بالأعمال التي قدموها تتضمن أمر المكلفين بمثل ما جعل خبرا عنهم أنهم فعلوه؛ لأن طريق قوله: وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (1) غير طريق وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (2) إذا لم يحمل على ما ذكرنا، فلما كان القصد في هذه السورة الحثّ على أفعال أهل الجنة بالآيات المتعلقة بوصفهم، المخلصة بخطاب من يدعى إلى مثل فعلهم، استمر الكلام على هذا النظم إلى أن انتهى إلى ذكر الأنبياء عليهم السّلام و أممهم الكافرة، و ما أنزله من العذاب بأمة أمة منهم، و أما الآية التي في سورة الطور فإنه وصف تعالى نعيمهم في الجنة و أصناف ما حصلوا فيه من اللذة، فقال: فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ؛ إلى قوله: هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (3)؛ لأنه إذا ذكرت الأفعال التي تستوجب بها الجنة، ذكر من الجزاء فيها ما تنتهي إليه اللذة و تقترحه الشهوة، و هو ما فصّله اللّه تعالى في سورة الطور، ثم ختم الآيات بقوله: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (4) فاختلاف الآيات في السورتين لما ذكرنا، و اللّه أعلم.

الآية الثانية من سورة الذاريات

قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (5).

للسائل أن يسأل: عن تكرار قوله: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ و عن موضع الإنذار مرة بعد أخرى في آيتين متواليتين؟.

ص: 308


1- سورة: الذاريات، الآية: 19.
2- سورة: الذاريات، الآية: 20.
3- سورة: الطور، الآيات: 18- 28.
4- سورة: الطور، الآية: 29.
5- سورة: الذاريات، الآيتان: 50، 51.

الجواب أن يقال قوله قبل هاتين الآيتين: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) و معناه: خلقنا من الحيوانات ذكرا و أنثى و من غيرها الشي ء و ما يزاوجه بما يماثله أو يضاده، فيقابله: لتذكروا أن خالقكم بعيد عن شبهكم، و أنه وحده لا نظير له يشاكله، و لا ضد له يناصبه و يقابله؛ لأن الخالق بخلاف خلقه لا يجوز ما ذكرنا في نعته:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ عما حذركم من معصيته إلى ما حثّكم عليه من طاعته، فإني أنذركم ما تواعدكم به من عقوبته، و هذا تحذير من المعاصي كلها، و بعث على الطاعات جميعها، ثم خص ما هو أعظم، فقال: وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ؛ أي: لا تتخذوا الأصنام آلهة تعبدونها مع عبادة اللّه تعالى، فإني أحذركم أن تجعلوا له مثلا، فالنذارة الأولى متعلقة بترك الطاعة إلى المعصية، و الثانية متعلقة بالشرك الذي هو أعظم المعاصي، و إذا كانت متعلقة بغير ما تعلقت به الأولى لم يكن ذلك تكرارا.

ص: 309


1- سورة: الذاريات، الآية: 49.

52- سورة الطور

آية واحدة

و هي قوله تعالى: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (1) و قال في سورة القلم (2): فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ.

للسائل أن يسأل عمّا انقطع إليه: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ في السورتين، فكانت في سورة الطور تنقطع إلى قوله: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ و في سورة القلم تنقطع إلى قوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ.

الجواب أن يقال: إن عبدة الأوثان من قريش مع ادّعائهم أنهم أهل الحجى و أولو النهى، ألزموا في سورة الطور إلزامات يستنكرونها و لا يقولون بها إذا صدقوا عقولهم عنها، و هي خمسة عشر إلزاما: أولها: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (3) بعد قوله: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (4) و القوم عرفوا الشعر و طريقه و هذا الكلام و أسلوبه، و لو تدبّروه علموا أنه ليس بشعر، و أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم ليس بشاعر.

و الثاني: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا (5)؛ أي: تدعوهم عقولهم إلى عبادة من هم فوقه؛ لأنهم أحياء و تلك أموات و هم يعقلون و تلك لا تعقل، و هذا على سبيل الإنكار،

ص: 310


1- سورة: الطور، الآيات: 40- 42.
2- الآيات: 44- 48.
3- سورة: الطور، الآية: 30.
4- سورة: الطور، الآية: 29.
5- سورة: الطور، الآية: 32.

و ما بعده على سبيل الإيجاب، و هو: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (1)؛ أي طالبون اعتلاء بالباطل و الظلم، و هذا ثالث.

و الرابع: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ (2)؛ أي: اختلق القرآن فإن كان عندهم كما زعموا فليأتوا بمثله و هو الذي عجزوا عنه فلزمتهم الحجة فيه و هذا رابع.

و الخامس: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ (3)؛ أي: أم خلقوا من غير خالق و لا يقولون به.

و السابع: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (3) فلا أمر عليهم و لا نهي، و هذا أيضا سادس. لا يقولونه: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (4) و هذا أيضا سابع لا يدعونه، و هو: أن السموات و الأرض ليس لهما خالق قديم لا يشبه المخلوقين و هم خلقوها؛ بل لا يسلكون طريق الفكر في ذلك ليؤديهم إلى برد اليقين.

و الثامن: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ (5)؛ أي: أم يملكون ما يخلقه اللّه لعباده من الأرزاق و ما في علمه أن ينعم به عليهم، فإذا علموا من أنفسهم عجزهم عنه، وجب أن يعلموا أن اللّه هو المالك لجميع ذلك فيفردوه بالعبادة. و التاسع: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (6)؛ أي: المسلطون على الناس و المقومون لهم و ليس لهم ذلك.

و العاشر: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (6)؛ أي: أم لهم ما يتسببون به إلى السماء و سماع كلام الملائكة و ما يتذاكرونه من أخبار ما يجريه اللّه في الأرض، فيعلمون بذلك أنهم على الحق، و من يدعوهم إلى الدين على الباطل، فإن كان كذلك، فليأت مستمعهم بحجة قاهرة، و هي: أخبار عن غيوب تصح، و ليس لهم ذلك.

و الحادي عشر: تعجب الخلق مما ادعوه من أن الملائكة بنات اللّه تعالى، فقال:

يرزقكم البنين و يجعل لنفسه البنات، و صاحب البنين أعلى كلمة من صاحب البنات.

و الثاني عشر: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (7)؛ أي: أم ثقل عليهم

ص: 311


1- سورة: الطور، الآية: 32.
2- سورة: الطور، الآية: 33.
3- سورة: الطور، الآية: 35.
4- سورة: الطور، الآية: 36.
5- سورة: الطور، الآية: 37.
6- سورة: الطور، الآية: 38.
7- سورة: الطور، الآية: 40.

تصديقك؛ لأنك ألزمتهم مالا يغرمونه لك أجرا على ما هديتهم له، و لا عذر لهم في ذلك لأنك لم تفعله.

و الثالث عشر: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (1)؛ أي: أم يدّعون علم الغيب و ما يكون في مستقبل الدهر، فيتصور لهم أن أمرك لا يثبت، و أنه يضمحل عن قريب، خلاف ما وعد اللّه تعالى في قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (2) و قيل: أم يعلمون الغيب بوحي من السماء فيكتبونه و يلقونه إلى الناس كما تفعله الأنبياء عليهم السّلام.

و الرابع عشر: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (3)؛ أي: أم يريدون بالممانعة و المدافعة و الانقياد للمتابعة احتيالا عليك لإبادة أصحابك و قتلك، و تدبير ذلك سرا منك، و الكفار هم الذين ينقلب عليهم ما يدبرونه على المؤمنين، فيكونون هم المقهورون المغلوبون، و الهالكون المقتولون، فانقطعت الآية الثالثة عشر عن الاحتجاجات إلى المطالبات بالمماكرات لاستيعاب أكثر ما في الباب، و ختمت هذه.

الخامس عشر و هي: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ (4)؛ أي: خالق يحق عليكم عبادته غير اللّه الذي خلق السموات و الأرض، و ذلك يجب أن يكون على صفة اللّه تعالى من القدرة و العلم و الإنعام بما يحق له العبادة. سبحان اللّه عن ذلك.

و أما الآية التي في سورة ن و القلم، فإنها الخامسة من إلزامات الكفار الذين دلت أفعالهم على أن المسلمين عندهم كالمجرمين، فأنكره اللّه تعالى و قال: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (5) ثم احتج لبطلان دعواهم، أنزل عليكم كتابا تعتمدونه و تتركون له ما دونه، و لا تلتفتون معه إلى ما يخالفه، و قد قامت الحجة به لكم فتمسكتم له بدعواكم، و أن لكم في الدنيا و الآخرة اختياركم. و قد علمتم أن هذا ليس منكم. و الثاني: أم لكم أن تحجوننا بأيمان باللّه حلفناها لكم بأنا لا نخالفكم فيما تحكمون به من اتخاذ الآلهة و إقامة العبادة لغير اللّه، فتلزموننا تصديق أيماننا لكم، و هل أقمنا كفيلا تدلون عليه بضمان ذلك لكم؟

و الثالث: أم تنسبون صحة ما تلزمونه إلى الآلهة التي جعلتموها شركاء للّه و هم يتبرءون منكم إذا جمعكم و إياهم يوم يكشف عن ساق، و يشتد الأمر و يستدعي منكم السجود الذي ترتفع فيه أستاهكم على رءوسكم، و هو ما أنفتم منه في دنياكم، فتبكتون و تقرعون بذلك،

ص: 312


1- سورة: الطور، الآية: 41.
2- سورة: التوبة، الآية: 33.
3- سورة: الطور، الآية: 42.
4- سورة: الطور، الآية: 43.
5- سورة: القلم، الآية: 35.

فلا تقدرون عليه فتخسرون به، و تعرفون أنكم تركتموه حيث ينفعكم حتى فاتكم. ثم الرابع و الخامس: مانع دنيا لغرامة تثقل عليكم بأجر النبي المبعوث إليكم، أم نزول كتاب عليكم بأن الحق فيما لديكم و كل ذلك لا حجة فيه لكم، فلما بان من هذه الأوجه أن المحق ليس كالمبطل، و أن المسلم ليس كالمجرم، دعا اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و سلم إلى لزوم الصبر، و توقع نزول النصر، و ترك العجلة في الأمر، و مباينة صاحب الحوت في التضجر بالكفر، فانقطعت الآي هنا إلى ذكره و وصف جمل أمره، بعد شرح كثير من حاله في السورة المتضمنة له.

ص: 313

53- سورة النجم

آية واحدة

و هي قوله تعالى: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ (1).

و قال بعده: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (2).

للسائل أن يسأل: عما انقطعت إليه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في الآيتين، و اختلافه و الفائدة في تقديم ما تقدم، و تأخير ما تأخّر، و هل كان يجوز عكس ذلك؟.

الجواب أن يقال: لما قال قبل الأولى: أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (3) ثم قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ؛ أي:

سميتم هذه الأصنام آلهة، و الملائكة بنات اللّه، تسمية باطلة لا حجة لكم بها، فلم يحصل لكم إلا ألفاظها، فأما المعاني فإنكم تتبعون فيها الظن و هوى النفس، و ما في الطبع من حب الإلف، و قد أتاكم من ربكم ما يثنيكم عنه إلى الرشاد، و من جاءه من اللّه الهدى فتركه لاتباع الهوى فقد ضل و هوى، فلما كان الذي يجذبهم إلى مقالتهم شيئان: ظن و هوى، ذكرا معا ليتبين صارفهم عن الحق، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فخص الذين يقولون الملائكة بنات اللّه بالذكر، توكيدا لإلزامهم الحجة عليهم، و أنهم يتبعون الظن في مقالتهم، و الظن لا يقوم مقام العلم و لا يغني غناه، و المراد

ص: 314


1- سورة: النجم، الآيتان: 22 و 23.
2- سورة: النجم، الآيتان: 27 و 28.
3- سورة: النجم، الآيات: 19- 21.

بالحق هاهنا هو: العلم، فوصف أن الذي يعتمدونه لا يجوز أن يعتمد؛ لأنه ظن و بإزائه علم يبطله، و هدى من اللّه تعالى يدفعه و يصرف عنه إلى الحق الذي لا مهرب منه، و من لم يقبله بعد وضوح الحجة له، فأعرض عنه، و هو قوله: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا (1) ففي الآية الأولى: ذكر صارفهم عن الحق و داعيهم إلى الباطل، فبين ما هو، و في الثانية: طعن على هذا الصارف و الداعي إلى الباطل، و إثبات الشي ء أولى في العقل، و وصفه بأنه صحيح أو سقيم ثان في الرتبة، فلذلك اختصت الأولى بما اختصت به، و الثانية بما تبعها.

ص: 315


1- سورة: النجم، الآية: 29.

54- سورة القمر

آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1).

للسائل أن يسأل: عن قوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ في ابتداء قصة عاد، و تكريره في آخرها؟ و قد سأل عن ذلك بعض أهل النظر، فأجاب: بأن الأول ليس هو تحقيقا لعاد، و أن الثاني لها، فلا يكون تكريرا إذ جعل كل واحد من الخبرين خبرا عن غير ما أخبر في الآخر، و هذا الذي ذهب إليه لا وجه له؛ لأنه قال: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ فلا يصلح أن تدخل الفاء في قوله، فكان عقيب إخباره عن عاد بأنها كذبت، ثم يصرف عن أن تتعلق به تعلق الجزاء بالشرط هذا، و لم يتقدم في السورة سوى قصة نوح و قومه، و قد عقب بقوله وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ و هذا الذي ذهب إليه من ذكرنا قوله: لا يصح إلا أن يراد: كَذَّبَتْ عادٌ فلم يعتبر: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ و لمن كذب قبلهم من قوم نوح، و يكون ذهابا عن الظاهر إلى إضمار لا دلالة عليه.

الجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقال: إن عادا اختصّ ما نزل فيها من كتاب اللّه بذكر عذابين لها، قال اللّه تعالى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (2) ف «كيف» الأول لعذاب الدنيا و الثاني لعذاب الآخرة.

ص: 316


1- سورة: القمر، الآيات: 17- 22.
2- سورة: فصلت، الآية: 16.

و يكون قوله في الثاني فَكَيْفَ كانَ يحتمل وجهين:

أحدهما: أن تجري مجرى: وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ (1) هو أن ما حق من وعيد اللّه هو كالكائن الواقع لصحته، فيخبر عن مستقبله كالإخبار عن ماضيه لاستوائهما في زوال المزية عن وجودها.

و الثاني: أن يكون المعنى في الأول: فكيف كان ما قدمت إليها من الوعيد الذي صح شطره، و هو وعيد الدنيا، و دل على وقوع ما في الأخرى كما وقع في الأولى.

و الجواب الثاني: أن يكون المعنى في الأول: فكيف كان وعيد عذابي و نذر لما حذرناهم قبل أن أوقعنا بهم، و يكون الثاني بعد إرسال الرياح عليهم و إيقاع العذاب بهم، و المعنى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي محققا، و نذيري مصدقا، و يسلم من التكرار.

ص: 317


1- سورة: الأعراف، الآية: 48.

55- سورة الرحمن آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (1).

للسائل أن يسأل: عن إعادة ذكر الميزان ثلاث مرات في أواخر هذه الآي، و قد كان حقها الإضمار، و هل في اختيار الكلام أن يتكرر في موضع السجع في النثر و القافية في النظم مثله؟ أو في ثلاثة أسجاع متوالية أو ثلاث قواف متواطئة حتى يرتضي في ثلاث فواصل مترادفة؟.

و الذي أجاب به عن ذلك أهل النظر: أنه أعيد ذكر الميزان؛ لأن هذه الآيات لم تنزل معا في وقت واحد، و لو نزلت معا لأضمر ذكر الميزان، و لكن لما نزلت متفرقة لم يجز إلا إظهار ذكر الميزان؛ لأنه لم يجر له ذكر في كل وقت أنزلت فيه إحدى هذه الآيات، و هذا إن تأتى في الميزان الثالث، فإنه لا يتأتى فيما قبله؛ لأن الثاني تفسير الأول، إن كانت «أن» بمعنى: أي، أو علة إذا كانت «أن» مقدرة معها اللام، أي: لئلا تطغوا، و كان ذلك لا يجوز مع انقطاع الثاني عن الأول، و لا الأول عن الثاني.

و قد أجيب عن ذلك بجواب آخر و هو: أن يكون أعيد ذكر الميزان لتكون كل آية مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى غيرها، إذ الإضمار تضمن الثاني الأول، فلا يقوم الثاني بنفسه و لا الثالث لو أضمر فيهما ذكر ما في الأول.

الجواب الذي يعتمد: هو أن يجعل لكل واحد معنى غير معنى الآخر، يريد:

و السماء رفعها و وضع البنية المعدلة، و هي: بنية الإنسان الذي خلق من أمشاج و من

ص: 318


1- سورة: الرحمن، الآيات: 7- 9.

تأليفات مختلفات على اعتدال من حرارة و برودة و رطوبة و يبوسة، و معنى رفع السماء و وضع بنية الاعتدال ما ذكره في قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما (1)، أي: رفعنا السماء على الأرض، و خلقنا الهواء بينهما، و لم يكن للحي الذي أراد خلقه بد من هواء تخترقه الروح و تنساب فيه، فخلق عز و جلّ آدم أبا البشر عليه السّلام من طين، و فيه مسارب للهواء، فجعل فيه الطين الأرضي و الماء الذي قال اللّه تعالى فيه: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ (2) و الهواء الذي تجتذب منه الأنفاس من خارج ما برد، و تخرج منه من باطن ما حم، و النار التي إذا فقدها الحي خمد و بطل، فلما دبر اللّه تعالى خلقه على الاعتدال من هذه الأصول، كان هذا الذي جمع ما ذكرنا مركبا من الأشياء التي وصفنا لكل معتدل عنده قبول، و له عن كل خارج عن حد الاعتدال نفار و نبوّ، حتى إن رأى مربعا مستوي التربيع، و آخر مختلفا خارجا عن الاعتدال في الأبنية و غيرها، يقبل الأول و يتأبى عن الثاني، و كما في الطبع قبول البيت من الشعر إذا اعتدلت أجزاؤه و اتزنت أفعاله التي وضع عليها، و رده للمتكسر الذي فقد التعديل في البناء، و هذا مما يضطر الإنسان إلى علمه كما يضطر في الأول إلى كراهة المعوجات و قبول المستويات، فقال تعالى: رفع السماء و ركب بنية الإنسان المعتدلة، و كان معنى ذلك: أن لا يجاوزوا في حكم المقابلة حد المعادلة، و الميزان الثاني: الأحكام التي حكم فيها على اعتدال و قدر في الطبائع كراهية ما خرج منها على اعتداء، كقتل نفسين بنفس و الجانية إحداهما، و قطع أذنين بأذن، و أنفين بأنف، وفقا عينين بعين، و أخذ أموال بمال، و دواب بدابة، إلى غير ذلك من مجاوزة الحد في القصاص و الأرش بما يثبت به حكم الطبع قبل حكم السمع، و كأن المعنى: عدل خلقة الإنسان ليتوخى المعدلة في الأحكام، و الميزان الأول: بنية الاعتدال، و هي: بنية الإنسان على الوصف الذي ذكرنا، و الميزان الثاني: الحكم بالعدل، و الثالث: آلة التعديل، و هي: التي يقع بها الأخذ و العطاء، فتبين بها مقادير الحقوق ليقتصر كل ذي حق على قدر ما يجب له منها، فلا يأخذ أكثر من ما له، و لا يعطى أقل من ما يجب عليه، و هو القسط الذي أمر اللّه تعالى به المتبايعين لا رجحان و لا نقصان، و إذا كان كذلك لم يكن في إعادة لفظ الميزان تكرار، إذا كان الأول لمعنى غير معنى الثاني، و الثاني لمعنى غير معنى الثالث، كما تخرج القوافي عن الإيطاء، إذا اتفقت ألفاظا و اختلفت معاني.

ص: 319


1- سورة: الأنبياء، الآية: 30.
2- سورة: الأنبياء، الآية: 30.

الآية الثانية من سورة الرحمن

قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (1) و تكريره إحدى و ثلاثين مرة.

للسائل أن يسأل: عن العدة التي جاءت عليها هذه الآية متكررة، و عن فائدتها.

الجواب أن يقال: نبه اللّه تعالى على ما خلق من نعم الدنيا المختلفة في سبع منها، و أفرد سبعا للترهيب و الإنذار و التخويف بالنار، و فصل بين السبع الأول و السبع الأخر بواحدة ثلاث آيات، سوّى فيها بين الناس كلهم فيما كتب اللّه من الفناء عليهم، حيث يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (2)؛ أي: من على الأرض، و هذه الفاصلة للتسوية بين الملائكة و بين الإنس و الجن في الافتقار إلى اللّه تعالى، و إلى المسألة و الإشفاق من خشية اللّه، و هي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (3) و إنما كانت الأول سبعا؛ لأن أمهات النعم خلقها اللّه سبعا سبعا، كالسماوات و الأرضين و معظم الكواكب، و كانت الثانية سبعا؛ لأنها على قسمة أبواب جهنم لما كانت في ذكرها، و بعد هذه السبع ثمانية في وصف الجنان و أهلها على قسمة أبوابها، و ثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دون الجنتين الأولتين؛ لأنه قال تعالى في مفتتح الثمانية المتقدمة: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (4) فلما استكملت هذه الآية ثماني مرار قال: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (5) فمضت ثمانية في وصف الجنتين و أهلهما، و ثمانية في وصف جنتين دونهما للثمانية المتقدمة إليه، فكان الجميع: إحدى و ثلاثين مرة.

فإن قال قائل: فقد سوّى بين الجنة و النار في الاعتدال بالإنعام على الثقلين بوصفهما، و إنما النعمة إحداهما دون الأخرى.

الجواب أن يقال: إن اللّه تعالى منعم على عباده نعمتين: نعمة الدنيا، و نعمة الدين، و أعظمهما الأخرى، و اجتهاد الإنسان و رهبته مما يؤلمه أكثر من اجتهاده و رغبته فيما ينعمه، فالترهيب زجر على المعاصي و بعث على الطاعات، و هو سبب النفع الدائم، فأية نعمة أكبر إذا من التخويف بالضرر المؤدي إلى أشرف النعم، فلما جاز عند ذكر ما أنعم به علينا في الدنيا و عند ذكر ما أعده للمطيعين في الأخرى أن يقول: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

ص: 320


1- سورة: الرحمن، الآية: 13، و تكررت الآية في
2- سورة: الرحمن، الآية: 26.
3- سورة: الرحمن، الآية: 29. السورة عدة مرات.
4- سورة: الرحمن، الآية: 46.
5- سورة: الرحمن، الآية: 62.

تُكَذِّبانِ جاز أن يقول عند ذكر ما يخوفنا به مما يصرفنا عن معصيته إلى طاعته التي تكسبنا نعيم جنته كذلك؛ لأن هذا أشوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعد فيهما من النعمة.

فإن قال: إن السبع الأول قد عرفت من ست منها نعمة اللّه علينا في البر و البحر، و السابعة هي كل من عليها فان، و أية نعمة في ذلك حتى تعد من نعمة الدنيا؟

الجواب أن يقال: فيه التسوية بين الصغير و الكبير، و الأمير و المأمور، و المالك و المملوك، و الظالم و المظلوم، في الفناء المؤدي إلى دار البقاء، و مجازاة المحسن و المسي ء بحقه من الجزاء، فالمظلوم يؤخذ حقه، و الظالم يقرع فيترك الظلم له، و سبب الفناء يعلمه الإنسان باضطرار، فلا نعمة إذا أكبر من هذه.

فإن قال: ذكر بعد قوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ثماني مرات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلى أن انتهى إلى قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ و جاءت بعده ثماني مرات قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كما جاءت بعد الجنتين الأولتين في أثناء الثمانية الأخر من معاني الجنتين ما في أثناء الثمانية الأول، فما الجنتان الأوليان؟ و ما الجنتان الأخريان حتى يبعث على طلب هاتين كما بعث على طلب تينك؟ و يجاب عن ذلك أجوبة:

أولها: أن يقال: بأن التثنية هاهنا في الجنتين لاتصال الجنان؛ أي: كلما كان الولي في جنة وصلت بأخرى، فلا تنقطع غرائب الجنان عنه أبدا، كما كان «حنانيك» دعاء و طلبا لرحمة متصلة، معناه: تحنن بنعمة لا تنقطع إذا كان كذلك، و كقولهم: لبيك و سعديك، و سائر ما جاء مثنى يراد به هذا المعنى، فإن قال قائل: فما معنى الجنتين الأخريتين و في الأوليتين كفاية إذا قصد المعنى الذي ذكرت؟ قلت: المراد بالجنتين الأوليتين: جنتان خارج قصره، و المعنى: كلما كان في جنة وصلت بثانية غريبة مستطرفة، ثم إذا كان في الثانية كانت حالها في اتصال أخرى بها كحال الأولى، و على ذلك أبدا، فكأنه قال: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ خارج قصره متتابعتان لا تنقطعان، و أما: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ فإن المراد بهما على هذا الوجه: إلى أقرب من هاتين الجنتين جنات داخل قصره، و هما في أن الجنة منهما متصلة بأخرى بعدها، فلا يزال المكرم فيها ينتقل من واحدة إلى أخرى مثلها.

ص: 321

و جواب ثان و هو أن تكون الجنان الأربع في الجهات الأربع: بين يديه و خلفه، و يمينه و شماله، و أقربها ما كان نصب عينيه و مرمى طرفه، فلا يحتاج أن يلتفت إلى خلفه.

و جواب ثالث و هو ما ذهب إليه الحسن من أن الجنتين الأوليتين للسابقين، و هم:

الذين سبقوا إلى اتباع الأنبياء صلوات اللّه عليهم، و وهبوا لطاعة اللّه حرمة الآباء و الأبناء، و جاهدوا معه في توطئة الإسلام، و بذلوا أرواحهم في قتال الكفار، أولئك أعظم درجة و أعلى رتبة، و من دون جنتيهم جنتان للتابعين، ثم على ذلك، كما قال اللّه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا (1).

ص: 322


1- سورة: الإسراء، الآية: 21.

56- سورة الواقعة

آية واحدة

و هي قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ (1) الآية و بعده: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (2) الآية و بعده: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (3) الآية و بعده: أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (4).

للسائل أن يسأل: عن ترتيب هذه الأشياء التي تختص بقدرة اللّه تعالى و تقديم بعضها على بعض، و هل كان يجوز تقديم ذكر النار على ذكر الماء؟.

الجواب أن يقال: الأول هو خلق الإنسان من نطفة، و النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة الأخر التي بعده، فوجب تقديمه ثم بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث، و هي الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي، و ذلك الحب الذي يختبز، فيحتاج بعد حصوله إلى حصول ما يعجن به، و هو: الماء، ثم إلى النار التي تعيده خبزا، فالترتيب على حسب الحاجة، و النعمة الثانية بعد الأولى، فإن قال: فقد قال في الأول: فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (5) و قال في الماء: فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (6) فهل كان يجوز أن يكون أحدهما مكان الآخر؟ قلت: الأولى تنبيه على البعث و الإعادة، و هي النشأة الثانية كالنشأة الأولى، و حمل على أن يتذكر الأول الذي هو الأصل، ليثبت به الثاني الذي هو فرع، على أن القادر كما كان لم يتغير. و أما قوله: فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ فإنه بعد قوله: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً (6)؛ أي: شديد الملوحة كماء البحر، كما قال: وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ (7) فهلا تشكرون أن جعله عذبا؟ فكل مكان لاق به ما ذكر فيه.

ص: 323


1- سورة: الواقعة، الآيتان: 58 و 59.
2- سورة: الواقعة، الآية: 63.
3- سورة: الواقعة، الآية: 68.
4- سورة: الواقعة، الآية: 71.
5- سورة: الواقعة، الآية: 62.
6- سورة: الواقعة، الآية: 70.
7- سورة: فاطر، الآية: 12.

57- سورة الحديد ثلاث آيات

الآية الأولى منها

قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) و قال في سورة الحشر: (2) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و قال في سورة الصف (3): سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و قال في سورة الجمعة (4):

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و قال في سورة التغابن (5): يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

للسائل أن يسأل: عما أوجب اختصاص فاتحة سورة الحديد بقوله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من غير إعادة: ما و قد أعيدت في فواتح السور الأخر؟.

الجواب أن يقال: لما كان هذا الكلام مستوفى إلى كلمات ثلاث، عقدت في كل واحدة منها السموات و الأرض في عقدة واحدة، جمع المخلوق فيها تحت لفظة واحدة، فكان معنى قوله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ سبح للّه الخلق في المكانين، فلفظة ما في هذا المكان عامة شاملة للخلق فيهما، فإذا أعيدت: ما في قوله: فِي الْأَرْضِ كانت الأولى خاصة للخلق في السموات دون الأرض، و الكلمات الثلاث التي عقدت السموات و الأرض في كل واحدة منها عقدة واحدة قوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (6) و قوله بعده: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (7) و قوله بعده: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (8) فلما كان افتتاح السورة ينتهي

ص: 324


1- سورة: الحديد، الآية: 1.
2- الآية: 1.
3- الآية: 1.
4- الآية: 1.
5- الآية: 1.
6- سورة: الحديد، الآية: 2.
7- سورة: الحديد، الآية: 4.
8- سورة: الحديد، الآية: 5.

إلى هذه الآيات بعدها، و هي تنظم المكانين نظما واحدا، اختير أن يجعل الخلق فيهما خلقا واحدا، فلا يفصل بينهما بخلقهما، و القصد جمعهما في نظام واحد، و لم يكن هذا المعنى موجودا في سائر السور، فكان الأصل فيه أولى، و هو إعادة: (ما) و الدليل على ذلك قوله في آخر سورة الحشر (1): يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ لأنه قال قبله: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ (2) فنظم تحت هذه الصفات مخلوقات السموات و الأرض، و كذلك قبله: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ (3) كذلك نظم المخلوق في المكانين فيما يكون من تسبيحهم و تقديسهم، حملا على الأول الذي هو الأصل.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4) و قال بعده بآيتين: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5).

للسائل أن يسأل: عن إعادة هذه اللفظة في المكان القريب من الأول، وصلتها في الأولى بقوله: يُحْيِي وَ يُمِيتُ ثم صلتها في الأخرى بقوله: وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ؟.

الجواب أن يقال: إن المعنى: له الملك أولا و آخرا، فالأول في الدنيا، و هو:

وقت الإحياء و الإماتة، و الآخر في الآخرة حين ترجع الأمور إليه، و لا يملك أحد سواه لا ملكا و لا ملكا، فقرن بالأول يحيي و يميت؛ لأنهما من أمارة الملك، و قرن بالآخر ما يكون في الآخرة من مرجع الخلق و جزائهم بالثواب و العقاب إليه، فجاء في كل مكان ما اقتضاه و ما شاكل معناه.

الآية الثالثة منها

قوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً (6) و قال فيما تقدم من سورة الزمر (7): ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً.

ص: 325


1- الآية: 24.
2- سورة: الحشر، الآية: 24.
3- سورة: الحشر، الآية: 23.
4- سورة: الحديد، الآية: 2.
5- سورة: الحديد، الآية: 5.
6- سورة: الحديد، الآية: 20.
7- الآية: 21.

للسائل أن يسأل: عن قوله في سورة الحديد: ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً و قوله في سورة الزمر: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً و هل كان وجه الكلام أن لو جاء أحدهما مكان الآخر؟.

الجواب أن يقال: إن الأفعال التي نسق هذا الفعل عليها في سورة الزمر، هي أفعال اللّه تعالى؛ لأنه قال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فهو معطوف على قوله: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً و الذي في سورة الحديد لم يسند الفعل المتقدم فيه إلى اللّه، فيستند إليه ما بعده، و إنما هو كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، فلم يصلح في كل مكان إلا ما جاء فيه من اختيار الكلام.

ص: 326

58- سورة المجادلة

آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) و قال: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (2).

للسائل أن يسأل: عن خاتمتي الآيتين و هما: عَذابٌ أَلِيمٌ و عَذابٌ مُهِينٌ؟

و عما أوجب اختصاص كل واحدة منهما بما ذكر فيها؟.

الجواب أن يقال: لما قال في الأولى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3)؛ أي:

يتبين ذلك لتؤمنوا باللّه و رسوله و الحدود التي حدها لعباده، ثم سمى من لم يؤمن كافرا باسمه، و توعده بالعذاب الموجع المبالغ فيه، و هو ما يخوف اللّه به عباده نعوذ باللّه منه، و أما قوله: عَذابٌ مُهِينٌ، فلأن قبله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا فضمن معنى الفعلين الشرط و الجزاء، فجعل الكبت جزاء من آثر حزبا غير حزب اللّه و رسوله، وحدا غير حدهما، و الكبت: الإذلال، و قيل: الغلب و القهر و التخييب، و كل ذلك متقارب، فلما أخبر اللّه تعالى بالكبت عمن حاد اللّه و رسوله و جانبهما، و صار في حد غير حدهما، وصف العذاب الذي ينزل به الإذلال و الإهانة، و إن كان كل مؤلم مهينا و كل مهين مؤلما، و مما يشهد لذلك قوله تعالى في آخر السورة: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (4) فقوله هنا: أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كقوله في الأول: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا فهذا في الكفار، و قد توعد المنافقين الذين تولوهم بمثله في هذه السورة، و هو قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ

ص: 327


1- سورة: المجادلة، الآية: 4.
2- سورة: المجادلة، الآية: 5.
3- سورة: المجادلة، الآية: 4.
4- سورة: المجادلة، الآية: 20.

عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (1)، أي: إنهم لما أظهروا الإيمان و أبطنوا النفاق، و ضعوا في أنفسهم أنه إن اطلع على حالهم حلفوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلم باللّه أن الأمر بخلافه، فيكلهم إلى أيمانهم، فهم يخرجون بهذا الظاهر في الحكم عن دلالة الكفر، و لهم عذاب يسلبهم هذا العز، و يبدلهم منه الهوان و الذل، و اللّه تعالى أعلم.

ص: 328


1- سورة: المجادلة، الآيات: 14- 16.

59- سورة الحشر آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (1) و قال قبله في سورة الأنفال (2): وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ و قال قبله في سورة النساء (3): وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً.

للسائل أن يسأل عن الإدغام في قوله: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ في سورة الحشر و عن تركه في سورتي الأنفال و النساء؟ مع أن مثله في لغة العرب يصح إدغامه و إظهاره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (4) وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (5).

الجواب أن يقال: إن الأصل في ذلك إذا قويت الحركة في القاف أن تدغم، أ لا ترى أن من جوز: اردد مكان ردّ، و كانت لغته الإظهار متى حرك الدال الأخيرة في قوله للاثنين: ردا، و قوله للجمع: ردوا لم يبق إلا الإدغام، و لم يجز: ارددا و لا ارددوا و لا ارددي، فقوله تعالى: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فقد قويت الحركة منه في القاف الأخيرة؛ لأنها لاقت كلمة قد لزم أولها السكون، و هي اللام الأولى من «اللّه»، و كانت تحرك لملاقاة الساكن بعدها في مثل: اعبد اللّه، حيث لا تضعيف يهرب من ثقله إلى تخفيف يرفع اللسان عن الحرفين دفعة واحدة، فقوله: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ لا يلاقي القاف هنا بها بالتعليق إلا ساكنا قد لزم الكلمة، فقويت الحركة في القاف التي تلاقي هذا الساكن؛ لأنها

ص: 329


1- سورة: الحشر، الآية: 4.
2- الآية: 13.
3- الآية: 115.
4- سورة: المائدة، الآية: 54.
5- سورة: البقرة، الآية: 217.

لا تلاقي سواه مما علق الفعل به، و ليس كذلك وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ؛ لأن القاف قد تلاقي ما يتعلق بها متحركا، و هو: وَ رَسُولَهُ؛ لأن التقدير: و من يشاقق رسول اللّه، فلم يخلص القاف فيما يتعلق بها للحركة كما خلصت له في الأول، و أما قوله: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى فليس الساكن من «الرسول» الذي يلاقيه القاف كالساكن من لفظة اللّه تعالى؛ لأنه قد يحذف فيصح لملاقاة القاف متحركا منه، نحو: و من يشاقق رسول اللّه، فالذي أوجب في سورة الحشر إدغام: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ هو: قوة الحركة في القاف، و قوتها أنه لا يصح أن تلاقي الاسم الذي بعدها إلا ساكنا لا يقوم مقامه متحرك في حال، و ما سواه من المواضع ليس على هذا الوصف، فبان الفرقان، و اللّه أعلم.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (1) و قال بعده: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (2).

للسائل أن يسأل: عن اختصاص خاتمة الآية الأولى بقوله: لا يَفْقَهُونَ و اختصاص الثانية بقوله: لا يَعْقِلُونَ؟.

الجواب أن يقال: لما قال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، أي:

خوفهم منكم أشد من خوفهم من اللّه، إنهم يعلمون ظاهرا و لا يعرفون ما استتر عنهم منه، و الفقيه من يستدرك من الكلام ظاهره الجلي و غامضه الخفي بسرعة فطنته و جودة قريحته، فلما رهبوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم و سننه ما لم يرهبوا اللّه عز و جلّ، صاروا كمن يعرف ما يشهده و يجهل ما يغيب عنه، و لو فقهوا لعلموا أن لما ظهر من الرسول صلّى اللّه عليه و سلم باطنا خفي عنهم من أمر اللّه تعالى، فلذلك وصفهم: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. و قيل: لا يَفْقَهُونَ: لا يستدركون عظمة اللّه، و يشهدون جلالة المؤمنين بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم، و لا يعلمون أن ذلك باللّه تعالى، و قيل: لا يَفْقَهُونَ من معنى المرسل، و الرسول معنى المرسل و عظمته، فيتقون اللّه حق تقاته، أما قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإنه جاء بعد قوله:بَأْسُهُمْ

ص: 330


1- سورة: الحشر، الآية: 13.
2- سورة: الحشر، الآية: 14.

بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى و معناه: ليس يجمعهم الحق على طريقة واحدة، بل هم أتباع أهوائهم، فهم مختلفون باختلاف آرائهم، و لو عقلوا الرشد من الغي لاجتمعوا على الحق، فاختلافهم لأنهم لا يعقلون ما يدعو إلى طاعة اللّه و يهدي إلى ما قال اللّه: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (1) فالحق سبيل واحد مستقيم، و الباطل سبل كثيرة تحمل عليها أهواء متشعبة، فقد بان لك أن كلا من الخاتمتين ختم بما يقتضيه، و اللّه أعلم.

ص: 331


1- سورة: الأنعام، الآية: 153.

60- سورة الممتحنة آية واحدة

و هي قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ (1) و قال بعده: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (2).

للسائل أن يسأل عن المعنى الذي أعيد له: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ و عن متعلق كل واحد من اللفظين؟ و هل يصلح الأول مكان الثاني أو الثاني مكان الأول؟.

الجواب أن يقال: إن الإسلام بني أوله على التبري من الآلهة و من عبدها و من الأصنام و عبادتها، أ لا ترى قول من يشهد بالتوحيد أنه ينفي الآلهة أولا بقوله: لا إله، و يثبت ثانيا بقوله: إلا اللّه الواحد الذي تحق له العبادة، فقال في الآية الأولى المتعلقة بالبراءة من الكفار و من فعلهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و أنهم يعادونهم، إلا أن يؤمنوا، فهذه الأسوة تفصل المؤمن من الكافر ليتميز عنه في الظاهر، و يتبرأ من صداقته، و يتحقق بعداوته، و الثانية معناها: بهم ائتسّوا لتنالوا مثل ثوابهم و تنقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم، مبشرين بالجنة غير خائفين من العقوبة.

ص: 332


1- سورة: الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة: الممتحنة، الآية: 6.

61- سورة الصف آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ (1). و قال قبله في سورة الأنعام (2): وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و قال فيها: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ (3)، و قال في آخر سورة العنكبوت (4): وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ و قال في سورة الأعراف (5): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ و قال في سورة يونس (6): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.

للسائل أن يسأل: عن هذا الموضع و اختصاصه بلفظ التعريف في الكذب، مع أن نظائره في الآي التي ذكرنا بلفظ التنكير؟.

الجواب أن يقال: إن الكذب مصدر يسمى به الكلام المكذوب فيه، و هو في قوله تعالى: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً على أصله مصدر غير منقول، و المصدر إذا عرف قصد به الجنس، و الفرق بين معرفته و نكرته إذا قال القائل: قلت كذبا؛ أي: قلت نوعا من أنواع الكذب التي هي كثيرة، و إذا قال: قلت الكذب، فكأنه قال: قلت القول الذي يشهد بالكذب و يشار إليه به، و ليس يراد به الجنس كله، كما لا يراد إذا قال: شربت الماء، كل الماء، و إنما يراد بعضه بدلالة العرف، و إنما يختار التنكير إذا قارنه لفظ يقتضيه أو كلام متقدم عليه يوجب له ذلك، و مما قارنه لفظ يقتضي له التنكير كل موضع جاء فيه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ فقوله: أَوْ كَذَّبَ يقتضي أحد كذبين،

ص: 333


1- سورة: الصف، الآية: 7.
2- الآية: 21.
3- سورة: الأنعام، الآية: 93.
4- الآية: 68.
5- الآية: 37.
6- الآية: 17.

و إذا ضم إلى الكذب الأول كذبا ثانيا يثنى به الأول المذكور، و ما يكون له أمثال يتنكر بعضها ببعض كما كان ذلك فيما يقع على واحد من أمة شائع فيها، فيكون فيها نكرة، فإذا جاءت بعد: كَذَّبَ قرينة تقتضي له التنكير، فأكثر ما جاء منكرا معها و هو: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أو: قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ أو:

كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أو: كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أو: كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فهذه خمسة مواضع تقدمها قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً و كانت مقارنة تقتضي التنكير في لفظها و أما قوله في سورة الأنعام (1): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فإنما معناه: و من أظلم لنفسه ممن يختلق كذبا يقصد به الضلال للناس، فكل من ضل منهم يكذبه فقد أضله كذب أخلقه، ففيه دليل أمثال له يقتضي تنكيره، و كذلك قوله تعالى في سورة هود (2): وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فكانت لفظة من: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لفظة واحدة، و المعنى: كل كاذب كذبا فمضامه أنواع الكذب لمضامه الكاذبين لهم يقتضي تنكير لفظه إذ صاروا واحدا من جماعة شائعا فيها، و أما تعريفه في سورة الصف فلأن القصد:

الإشارة إلى ذلك الكذب، و هو: تكذيب اليهود بآيات اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و تكذيب النصارى بها، و قد تقدمت قصتهما في قوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي (3) و بعده: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ (4) أي: و من أظلم ممن يكذب الكذب الذي تشير إليه الأمم من المسلمين و النصارى و اليهود على اختلاف اعتقاداتهم، فقد صح أنه الكذب المعروف عند المسلمين و عند علماء الطائفتين من أهل الكتاب، فالتعريف في هذا المكان فائدته التي تخصه ما ذكرنا، كما أن ما جاء منه منكرا اقتضاه مكانه على ما بينا.

62- سورة الجمعة

ما فيها قد تقدم ذكره في سورة البقرة.

ص: 334


1- الآية: 144.
2- الآية: 18.
3- سورة: الصف، الآية: 5.
4- سورة: الصف، الآيتان: 6 و 7.

63- سورة المنافقون آية واحدة

و هي قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عن قوله في آخر الآية الأولى: وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ و عن قوله: وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ في آخر الثانية، و ما أوجب اختصاص كل واحد بما اختص به من قوله: لا يَفْقَهُونَ و قوله: لا يَعْلَمُونَ؟.

الجواب أن يقال: إن معنى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ؛ أي: يأمرونهم بالإضرار بهم و حبس النفقات عنهم و لا يفطنون؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم دون من عند رسول اللّه؛ لأن اللّه لا يحبس ما قدر من أرزاقهم، فلا يضرهم إذا حبسوا إنفاقهم فهم لا يفقهون ذلك، و لا يفطنون له، و قوله في الثاني: لا يَعْلَمُونَ بعد قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ عندهم؛ لأن الْأَعَزُّ: من له القوة و الغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية، و لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من اللّه، فهي للّه و لمن يخصه بها من عباده، و المنافقون لا يعلمون أن الذلة لمن يقدرون فيه العزة، و أن اللّه معز أولياءه بطاعتهم له، و مذل أعدائه لمخالفتهم أمره، فقد اختصت كل آية بما اقتضاه معناها.

ص: 335


1- سورة: المنافقون، الآيتان: 7 و 8.

64- سورة التغابن آيتان

الآية الأولى

قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ (1) و قال بعده: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (2).

للسائل أن يسأل: عن تكرير «ما» في افتتاح السورة في: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و ترك ذلك في قوله: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثم تكرير «ما» في قوله: وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ؟ و هل كانت الفائدة تحصل بعكس ذلك، و تكرير «ما» حيث لم تكرر، و حذفها حيث لم تحذف؟.

الجواب أن يقال: لما كان تسبيح ما في السموات على خلاف تسبيح ما في الأرض كثرة و قلة و خلوصا من غير مقارنة المعاصي و اختلاطها بها، أعيدت لفظة: ما للاختلاف، و لم يكن الأمر في قوله: (ما) كذلك؛ لأن علمه نظم: (ما) فيهما نظما واحدا على حد واحد، فصار علمه بما تحت الأرضين كعلمه بما فوقها، و علمه بما في السموات كعلمه بما في غيرها، كما كان علمه بما يكون كعلمه بما كان لا يختلف، فلم يتباين فتعاد للمخالفة لفظة: (ما) للتمييز بها عما خالفها، و أما ما يُسِرُّونَ فإنه مخالف ل وَ ما يُعْلِنُونَ غاية المخالفة، فلم يصح إلا بإعادة: (ما) فقد بان و وضح الفرق بين المواضع الثلاثة.

الآية الثانية منها

قوله تعالى:وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي

ص: 336


1- سورة: التغابن، الآية: 1.
2- سورة: التغابن، الآية: 4.

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1) و قال بعده في سورة الطلاق (2): وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً.

للسائل أن يسأل: عما خصص الآية الأولى بقوله: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ و إخلاء الآية الثانية منه.

الجواب: أن الأولى جاءت بعد قوله مخبرا عن الكفار: فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (3) فهذه سيئات تحتاج إلى تكفير إذا آمن باللّه بعدها فقال: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً في مستقبل عمره يمسح عنه ما سبق من كفره ثم يوجب له جنات، و الآية الثانية لم يتقدمها خبر عن كفار بسيئات، فيوعدوا بتكفيرها إذا أقلعوا عنها و تابوا عنها و عملوا الصالحات مكانها، و كان مضمونا تكفير السيئات عند الإيمان و عمل الصالحات، فلم يحتج إلى ذكره كما كان الأمر في غيره، و اللّه أعلم.

ص: 337


1- سورة: التغابن، الآية: 9.
2- الآية: 11.
3- سورة: التغابن، الآيتان: 6، 7.

65- سورة الطلاق آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (1) و قال بعده: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ (2) و قال بعده: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (3).

للسائل أن يسأل: عن قوله في خلال ذكر الطلاق و العدد: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ثلاث مرات يفعل به كذا، و اختصاص كل جزاء بمكان، فأوله: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ و الثاني: يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً و الثالث: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً.

الجواب أن يقال: إنما اقترن بالطلاق و العدد هذا الوعظ؛ لأن الطلاق رفض حال متمهدة و قطع آمال متأكدة، و العدد باستيفائها يخلص النسب و يصح للزوج الثاني الولد، و لو لم يكن هذا الحد الذي حده اللّه تعالى، لكان الفساد متصلا إلى انقضاء الدنيا، فهو أحق الأشياء بالمراعاة و تأكيد المقال فيه و الوصاة، قال اللّه عز و جلّ بعد ذكر الطلاق: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، أي: من تمسّك بتقوى اللّه فيما يحل و يعقد و يصدر و يورد، فإن اللّه يلقيه في شدته فرجا، و يجعل له مما يكرهه مخرجا، و يتيح له محبوبه من حيث لا يقدر، و يوجه له رزقه من حيث لا يحتسب، و في ضمنه أنه إذا طلق لكراهة أحد القرينين لصاحبه و قارن ذلك تقوى اللّه، فإن اللّه يسبب له القرينة الصالحة و لها القرين الصالح، و يرزق أحدهما على يد الآخر من حيث لا يبلغه تقديره و لا

ص: 338


1- سورة: الطلاق، الآيتان: 2 و 3.
2- سورة: الطلاق، الآيتان: 4 و 5.
3- سورة: الطلاق، الآية: 5.

يدركه حسابه، و هذا وعد منه في الدنيا، و يصح له مثله في الآخرة؛ لأنه يجعل للمتقين منجى من عذابه و أمنا من مخافته، فيخرجهم من الغم إلى السرور، و من الفزع إلى الأمن، و يعدلهم من كرامته و ثوابه و نعمته ما يكتفون به و لا يحتاجون معه إلى غيره، و يكون قوله: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ مرادا به: حال الآخرة، إذ المتوكل على اللّه قد يضام في الدنيا و قد يقتل أيضا، هذا قول بعض أهل النظر و يجوز أيضا أن يراد بالتوكل: أن يكل أمره إليه، فيتبعه راضيا بما يصرفه إليه، كالدابة المواكل التي تسير بسير غيرها، منقاد لحكمه و سيره، فإذا كان المتوكل على اللّه من هذه صفته، فاللّه حسبه حافظا له ممن يحاول ظلمه، أو ينتقم منه إن رأى ذلك أنفع له، فهو يبلغ مراده في الوقت الذي قدره، إذ كان قد جعل لكل شي ء حينا يقع عنده، لا يتعجل قبله و لا يتباطأ بعده و أما قوله بعد ذكر عدة الحامل: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً؛ أي: من لزم التقى سهل اللّه عليه الصعب من أمره، كما يجعل أمر الولادة سهلا إذا قامت الأم عن ولدها سرحا، ثم عقب حال الدنيا بذكر ما يفعله في الآخرة من تكفير سيئاته و إعظام أجره، فكل شرط من تقى اللّه عز و جلّ قرن إليه من الجزاء ما لاق بمكانه الذي ذكر فيه، و الأخير لما كان مقدما على أحوال، احتاجت إلى غاية الترغيب، و إلى المبالغة في الترهيب، وعد عليه أفضل الجزاء، و هو ما يكون في الآخرة من النعماء، فتدبره تجده على ما ذكرت.

66- سورة التحريم

ما فيها قد مرّ في سورة الأنبياء عليهم السّلام

ص: 339

67- سورة الملك آية واحدة

و هي قوله تعالى: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (1).

للسائل أن يسأل: عن تقديم التوعد بالخسف على التوعد بالحاصب؟ و هل كان يختار التوعد بتقديم الحاصب على الخسف؟ أم لم يجز في الاختيار إلا ما جاء عليه الوعيد في الآيتين؟.

الجواب أن يقال: لما كانت الأرض التي خلقها اللّه لهم و مهدها لاستقرارهم، يعبدون عليها غير خالقها و يعظمون عليها الأصنام التي هي من شجرها أو حجرها، خوفهم بما هو أقرب إليهم من الأشياء التي أهلك بها من كان قبلهم، و الآية الثانية تخويف بالحاصب من السماء، و هي التي لا يصعد إليها الطيب من كلامهم، و لا الحسن من عملهم، إلا سيئات أفعالهم، و نتائج ما كتب عليهم، و تلك حال ثانية، فذكر في الثانية.

ص: 340


1- سورة: الملك، الآيتان: 16 و 17.

68- سورة القلم آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ (1) و قال في سورة المطففين (2): الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.

للسائل أن يسأل: عما انقطعت إليه الآية الأولى من الجزاء في الدنيا و الآية الثانية من الجزاء في الآخرة؟.

الجواب أن يقال: إن الموصوف في الآية الأولى موصوف بجامعة لخصال الذم فاضحة، و هي: الحلف بالكذب الذي يورث الضعة و المهانة و الوقيعة في الناس بما ليس فيهم، و هو يورث العداوة و النميمة، و هي: نقل الكلام للتعريف الذي يجلب الضغينة، و البخل الذي لا يدع خيره ينفع غيره، و الاعتداء، و هو: تجاوز الحق في المعاملة، و جفاء الطبع و الخليقة و غلظهما، و الدعوة التي تلصقه بقبيلة ليس منها، فيكون كالزنمة المتدلية من حلق الجدي.

فلما وصفه بهذه الأشياء الظاهرة القبح، جعل في مقابلتها نكالا ظاهرا بينا على الوجه، فقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ؛ أي: نشهره بعلامة تنبئ عن قبائحه و فضائحه، و أما الآية الأخيرة في المطففين، فإن قبلها: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فأخبر عنهم أنهم لا يؤمنون بالبعث، و أن الذنوب الذي قارفوها غلبت على قلوبهم حتى كأنها تنكرت لها، و لذلك قال الحسن: الرين: الذنب على الذنب حتى يسود القلب، فلما لم ينعتهم إلا بالكفر أخبر عن

ص: 341


1- سورة: القلم، الآيات: 10- 17.
2- الآيات: 11- 14.

جزائهم في الآخرة، و هو أن يحجبوا عما لا يحجب عنه المؤمنون من ثواب اللّه يوم القيامة، و أن يصلوا نار جهنم يلزمونها عقابا لهم على المعصية، فأتبع كلا من المكانين ما لاق به و صلح في مقابله ما تقدم عليه.

ص: 342

69- سورة الحاقة آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عن قوله: ما تُؤْمِنُونَ عقيب شاعِرٍ و قوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ عقيب: كاهِنٍ؟.

الجواب أن يقال: من نسب النبي صلّى اللّه عليه و سلم إلى أنه شاعر و أن ما أتى به شعر، فهو جاحد كافر، و لأنه يعلم أن القرآن ليس بشعر لا في أوزان آياته و لا في تشاكل مقاطعه، إذ منه آية طويلة و أخرى إلى جنبها قصيرة، كآية الدين في طولها، و الآية التي قبلها في قصرها، و هي: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2)، و أما اختلاف المقاطع، فإنه ينبئ أيضا العرب شاعرها و مفحمها أنه ليس بشعر، فمن نسبه إلى أنه شاعر، فهو لقلة إيمانه، و أما من قال: إنه كاهن، فلأن كلام الكهنة نثر غير نظم و فيه سجع، و هو مخالف للشعر أيضا، فمن قال: إنه ككلام الكهان، فإنه ذاهل عن تذكر ما بني عليه كلامهم من السجع الذي يتبعون به معاني ألفاظهم، و حق اللفظ في البلاغة أن يكون تابعا للمعنى و هو ما عليه القرآن، كقوله عز و جلّ:

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً (3) فلو تذكر قائل هذا القول أن هذا النثر مخالف لكلام الكهنة فيما ذكرنا، لما قال: إنه قول كاهن، فلذلك عقبه بقوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ.

ص: 343


1- سورة: الحاقة، الآيتان: 41 و 42.
2- سورة: البقرة، الآية: 281.
3- سورة: النمل، الآية: 61.

70- سورة المعارج آية واحدة

و هي قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (1) و قال قبله في سورة المؤمنين (2): وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

للسائل أن يسأل: عن الآيات المتجاوبة في السورتين لفظا و معنى؟ و عن اختصاص سورة سأل سائل بقوله: وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ و حذفه من سورة المؤمنين؟.

الجواب فيه عن ذلك أن يقال: لما أخبر اللّه تعالى في هذه السورة عن طبائع البشر، فقال: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (3) و كان معناه: إنه خلق متسرعا إلى ما يلتذه، غير متماسك عما يشتهيه و إن كان مكروهه، و كان مفرطا في ذلك، فإن مسه شر اشتد له قلقه، و إن مسه خير شحت به نفسه، ثم استثنى من هؤلاء بعد أن وصفهم بحال مذمومة مفرطة في معانيها من يفرط فيما يضادها، و يبالغ من طاعة اللّه فيما يخالفها، فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (4)، أي: إلا الذين يؤدون الصلاة و يقيمونها و يديمونها، ثم أكد ذلك في آخر هذه الآيات كرا عليها بقوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (5) و محافظتهم عليها مراعاتهم لأوقاتها،

ص: 344


1- سورة: المعارج، الآيات: 29- 35.
2- الآيات: 4- 11.
3- سورة: المعارج، الآيات: 19- 21.
4- سورة: المعارج، الآيتان: 22 و 23.
5- سورة: المعارج، الآية: 34.

و قيامهم بحقوقها المفروضة قبلها، و المفروضة عند افتتاحها، و المفروضة عند جملة حدودها إلى حين اختتامها، فهذا في وصف المصلين، و بعدهم المزكون و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم، يعطون ما يجب عليهم من زكوات أموالهم من يسألهم، و من يترك المسألة فيحرم مثل ما يعطاه السائل، و هذا أيضا مبالغة في وصف من يستشف أحوال الفقراء، فيعطيهم لما يعلمه من حاجتهم لا لما يشاهد من إلحاحهم في مسألتهم، و بعده: وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (1)؛ أي: يؤمنون بالبعث و الحساب و الجزاء، ثم أتبع ذلك التوكيد قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (2) و من صدق بيوم الدين أشفق من عذاب اللّه له على سيئات أعماله، فأراد أنهم يصدقون بيوم الدين، و يرهبون عذاب اللّه، فيعملون الصالحات طلبا للنجاة منه، و بعده: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ؛ أي: لا يطلقون فروجهم على معاصي اللّه، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ثم بالغ في تحذيرهم بأن قال: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي: من خرج عن هذا الحد إلى ما وراءه، و ذلك شامل للجهات كلها، فأولئك خارجون عن الحق إلى الظلم، و هذه الآية جاءت في سورة المؤمنين، و بعدها في السورتين: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ فوصفهم بأنهم يرعون أمانة اللّه عندهم، و أمانات الناس لديهم، و عهودهم قبلهم، ثم خص الآية في سورة سأل سائل بما أجرى عليه الآيات التي قبلها من المبالغة في الطاعات التي تضمنت ذكرها، فقال: وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ؛ أي: يؤدون بعد الأمانات التي في رقابهم و ذممهم- الأمانات التي في ذمم غيرهم و ثباتها بشهاداتهم، فوصف من يؤدي الأمانات التي في رقابهم و ذممهم إلى الأمانات التي يثبت بها حقوق تخصه إلى مستودعيها على غيرهم، فكان من المبالغة التي تقتضيها الآيات المتقدمة ذكر الشهادات عقيب أداء الأمانات، و قوله إخبارا وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ مردود إلى الآيات الأول و قد بينا ذلك أولا.

فإن قال قائل: كيف يصح أن يقال: خلق الإنسان هلوعا جزوعا منوعا؟ و هذا يوجب أن يكون الهلع و الجزع و المنع موجودة فيه في حال خلق اللّه له، و ليس هو كذلك لأنه لا يشعر بهذا للطفولية؟

قلت: أجيب عن ذلك بأن جعل معناه: خلق حيوانا ضعيفا لا يصبر على الشدائد إذا دامت عليه، و إجراؤه الصفة عليه في حال الخلق توسع و مجاز.

ص: 345


1- سورة: المعارج، الآية: 26.
2- سورة: المعارج، الآية: 27.

الجواب الذي أذهب إليه: أن الهلع: التسرع و القلق نحو الشي ء، فالحريص يهلع؛ أي: يتسرع إلى تمكين الحزن من نفسه و إدخال ألمه على قلبه، و الحريص يتسرع إلى مشتهاه اتباعا لهواه و إن كان فيه رداه، و الإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال؛ لأنه يتسرّع إلى الثدي و يحرص على الرضاع، و إن مسه ألم جزع و بكى، و إن تمسك بثدي فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب و بكاء، فلا يزال يفعل ذلك حتى يرد إليه الحيز الذي كان له، ثم هو على ذلك إلى آخر عمره، و الهلع في كلام العرب أصله:

القلق و التسرع في الحرص و الجزع، يقال: ناقة هلواع أي: مسرعة، و ظلمان هوالع أي:

مسرعات، و إذا كان كذلك لم يكن الهلوع و الجزوع و المنوع مجازا، فتبين بالمبالغات التي في الخصال المذمومة و إردافها بالمبالغات في الطاعة المحمودة الآيات التي في هذه السورة من الآيات التي في سورة المؤمنين التي لم يتقدمها مبالغات في مساوي الأخلاق، فإن قال: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق؟ قلت: الحكمة في خلق شهوة القبيح، ليمانع نفسه إذا نازعته نحوه، و يحارب شيطانه عند تزيينه معصيته، فيستحق من اللّه عقوبته، و يستوجب عليه جنته، و هذا واضح لمن تدبره، فاعرفه تصب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 346

71- سورة نوح عليه السّلام آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا (1) و قال في آخر السورة: وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً (2).

للسائل أن يسأل: عن الأول و اختصاصه بالإضلال، و عن الثاني و اختصاصه بالإهلاك الذي هو التبار؟.

الجواب أن الأول جاء بعد قوله: وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً (3)؛ أي: لما قالوا: لا تذرن آلهتكم، و لا تذرن ودا و لا سواعا، فأمروا أتباعهم بالتمسك بعبادة هذه الأصنام، و أضلوهم عن طريق الرشاد، دعا عليهم نوح عليه السّلام بأن يضلهم التواب بعد استحقاق العقاب ليجاوب قوله: وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً و أما الآخر، فإن معناه: زدهم هلاكا على هلاك، و عذابا فوق عذاب بما وافوا عليه القيامة من كفر و ضلال و ذلك عند دخول النار، فاقتضى كل من المكانين ما جاء فيه.

72- سورة الجن

ليس فيها شي ء من ذلك.

73- سورة المزمل عليه الصلاة و السلام

ليس فيها شي ء من ذلك.

ص: 347


1- سورة: نوح، الآية: 24.
2- سورة: نوح، الآية: 28.
3- سورة: نوح، الآيتان: 23 و 24.

74- سورة المدثر عليه الصلاة و السلام آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ (1).

للسائل أن يسأل: عما تكرر من قوله: (قدر) في ثلاثة مواضع، و عن الفائدة فيها.

الجواب أن يقال: كان الوليد بن المغيرة لما سأل عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قدر ما أتى به من القرآن، فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا قدرت ما أتى به على الشعر و لم يكن إياه، و كان يقصد في هذا التقدير: تكذيب الرسول عليه الصلاة و السلام بضرب من الاحتيال يمكنه تجويزه على العقلاء، فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من اللّه تعالى هي كالقتل إهلاكا له، فهذا معنى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: هلك هلاك المقتول كيف قد رأى هو في تقديره و نظره غير طالب لحق، بل هو مثبت باطلا، و إن كان القرآن ليس بشعر و لا يجوز مثله على من عرف النثر و النظم، فهو بالصدق في ذلك قاصد إلى تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام بوجه آخر يدّعيه على ما أتى به، و قوله: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، أي: إنه قال: و ليس ما أتى به من كلام الكهنة، فإن ادعينا ذلك عليه كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان، فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكا له، فهو في نفيه عن القرآن الأقسام الفاسدة قاصد إلى إبطاله و إلى إثبات قسم لا يصح إثباته، و هو قول اللّه تعالى حاكيا عنه، فقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (2) و إذا كان كذلك لم يكن في إعادة «قدّر» تكرار؛ بل المعنى ما ذكرناه من تعلق كل تقدير بمقدر غير الأول لفائدة تخصه جديدة.

ص: 348


1- سورة: المدثر، الآيات: 18- 21.
2- سورة: المدثر، الآيتان: 24 و 25.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (1) و قال في سورة الإنسان (2): إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف المكانين و قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا و قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ و الهاء ضمير مذكر و العائد يعود على مؤنث؟.

الجواب أن يقال: التذكرة مصدر من: ذكرت أذكر تذكيرا و تذكرة، كما يقال:

قدمت تقديما و تقدمة، و كرمت تكريما و تكرمة، فلما كانت الآيات المتقدمة فواصلها في الوقف هاء، كقوله: حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (3) و صُحُفاً مُنَشَّرَةً كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ عادت الهاء إلى مذكر دلت التذكرة عليه و هو بمعناها، و هو: التذكرة و التذكر لتتعادل الفواصل. معنى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ؛ أي: من شاء انتفع فيكون ذاكرا له، و إذا لم ينتفع به فيكون كالناسي له، و أما قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فهو بمعنى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ؛ لأن من انتفع بالذكر، سلك سبيل الطاعات التي تؤدي إلى ثواب اللّه، فعدل إلى قوله: اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا للتوفقة بين الفواصل من هذه السورة، إذ كانت مردفة بياء أو واو، و منقطعة بالألف، فحصل بالمكانين المعنيان متفقين مع ملائمة الفواصل في الموضعين.

ص: 349


1- سورة: المدثر، الآيات: 53، 56.
2- الآيتان: 29، 30.
3- سورة: المدثر، الآيتان: 50، 51.

75- سورة القيامة آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (1).

للسائل أن يسأل: عما أعيد من لفظ القمر في الفاصلتين المتواصلتين.

الجواب أن يقال: لما قال: بَرِقَ الْبَصَرُ؛ أي: تلألأ و لمع لهول ما شاهد، و هذا يلحق العيون عند شدة الأمر، و القمر يجوز أن يراد به: بياض العين، و خسوفه: غيبته، و البياض الذي فوق الحدقة يغيب إذا انقلبت العين، حتى يتعلق البياض الذي تحت السواد، و يكون قوله: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يجوز أن يكون المعنى: جمعا من مكان يقرب من المكان الذي فيه الناس، و يجوز أن يكون المراد: جمعا في سلب الضياء و فقد النور، فعلى هذا لا يكون القمر مكررا إذا أريد بالثاني غير الأول، و لا يكون معيبا إذا أريد به الأول أيضا؛ لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول، و الأشياء التي ليس خيالها أمثالها يجوز أن تقام ظاهرها مقام مضمرها، كقوله:

لا أرى الموت يسبق الموت شي ء نغص الموت ذا الغنى و الفقيرا

فهذا في كلام واحد في البيت، و الأول في كلامين و هو أحسن، و مثله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (2).

الآية الثانية منها

قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (3).

ص: 350


1- سورة: القيامة، الآيات: 7- 9.
2- سورة: آل عمران، الآية: 109.
3- سورة: القيامة، الآيتان: 34 و 35.

للسائل أن يسأل: عن تكرير ذلك و عن الفائدة فيه و عن حقيقة اللفظ و اشتقاقه.

الجواب أن يقال: اللفظة مشتقة من ولي يلي، إذا قرب منه قرب مجاورة، فكأنه قال: الهلاك قريب منك قرب مجاور لك، بل هو أولى و أقرب، و أما التكرير لفظا، فهو غير معيب إذا لم يتكرر لمعنى، فالأول يراد به الهلاك في الدنيا، و الثاني بعده يراد به الهلاك في الآخرة، و على هذا يخرج عن التكريرات المعيبة فاعرفه.

ص: 351

76- سورة الإنسان آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (1) و قال بعده: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (2).

للسائل: أن يسأل: عن قوله: وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ و هو فعل ما لم يسم فاعله، و بعده وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ و هو فعل سمي فاعله، و عن اختصاص كل من المكانين بواحد منهما و عن الفائدة فيه.

الجواب أن يقال: إن القصد في الأولى إلى وصف ما يطاف به من الأواني دون وصف الطائفين، فلما كان المعتمد بالإفادة ذاك بني الفعل مقصودا به ذكر المفعول لا الفاعل، فقال اللّه تعالى: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ؛ أي: آلات من فضة صفاؤها كصفاء القوارير، لا تمنع أن يرى ما وراءها، و قد قدرت على صفة فجاءت على ما قدرت وفقا لمنية المتمني، و قيل: قدرت تقدير ما يسع الريّ، و قيل:

قدرت على ما يريد الشارب أن يكون عليه لا زيادة و لا نقصان، ثم قال تعالى: وَ يُسْقَوْنَ فِيها (3) فوصف بعد الإناء الذي تسبق العين إليه ما يحويه من مشروب و طيبه، فلذلك لم يسم فاعله: وَ يُطافُ و لأنه جاء بعد قوله: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (4)، و أما الموضع الثاني الذي سمي فيه الفاعل، و هو قوله: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ فإن القصد فيه إلى وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية، فوجب ذكرهم لتعلق الصفة بهم، فقال تعالى:

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ و في مُخَلَّدُونَ ثلاثة أقوال: باقون أبدا، دائمون لا يموتون، و قيل: يبقون على هيئة الوصفاء فلا يشيبون، و قيل: مخلدون محلون، و الخلدة: القرط،

ص: 352


1- سورة: الإنسان، الآيتان: 15 و 16.
2- سورة: الإنسان، الآية: 19.
3- سورة: الإنسان، الآية: 17.
4- سورة: الإنسان، الآية: 14.

و قوله: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً في صفاء ألوانهم، و ضياء وجوههم، و حسنهم، و إشراقهم، و ماء النعيم المترقرق فيهم، و إذا كان كذلك، أوجب ما بني عليه الكلام أن لا يسمى الفاعل في الأول، و يسمى في الثاني كما جاءت عليه الآيتان.

ص: 353

77- سورة المرسلات آية واحدة

و هي قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (1).

للسائل أن يسأل: عن هذه الآية لما كررت عشر مرات، و تخصيص ما بعد كل منها بما قرن إليها، و الفائدة في تقديم ما بعد الأولى على ما بعد الثانية؟ ثم السؤال في الجميع على هذه الطريقة؟.

الجواب أن يقال: إن هذه السورة مقصورة على إثبات ما أنكره الكفار من البعث، و الإحياء بعد الموت، و الحساب، و الثواب، و العقاب، و تخويف المكذبين به ليرجعوا عنه و يتمسكوا بالحق دونه، فأقسم في أول السورة بما أقسم إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ في يوم الفصل بين المحسن و المسي ء، و العاصي و المطيع، و احتج على المكذبين فيما بين ثلاثة من المتكررات بما يحجهم بعد قوله: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (2)، أي: ويل لمن كذب بيوم القيامة، و هو اليوم الذي يفصل فيه بين المحسن و المسي ء بأعظم المثوبة و أشد العقوبة، و بدأ بعد إيجاب الويل في الآخرة لمن كذب بها بذكر من أهلك من أمم الأنبياء الأولين، كقوم نوح و عاد و ثمود، ثم أتبعهم الآخرين الذين أهلكوا من بعدهم قوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و آل فرعون و ملئه، ثم توعد المجرمين من أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أنهم يلحقون بأمثالهم إذا استمروا في التكذيب على مثالهم، فكان ذلك زجرا بالغا بما صح عندهم من أخبارهم، كما قال تعالى: أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ (3) فحذرهم نكالا يقع بهم كما يقع بمن عمل مثل أعمالهم، فقال بعد ذلك: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لمن كذب بالآخرة بعد أن احتج عليه من هذه الآية بإهلاك الأمة بعد الأمة، و أنهم على إثرهم في الهلاك إن أقاموا على الإشراك، ثم احتج عليهم في الثانية بقوله: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (4)، أي:

ص: 354


1- سورة: المرسلات، الآيات: 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49.
2- سورة: المرسلات، الآيتان: 14 و 15.
3- سورة: التوبة، الآية: 70.
4- سورة: المرسلات، الآية: 20.

جعلنا أشرف ما تشاهدون من أقل ما تعرفون، و هو النطفة التي أقرها في الرحم، و نقلها حالا بعد حال حتى بلغ حد التمام و الكمال، استواء جوارح و وصل مفاصل و أجرى هذا التقدير في جميع ما يولد من الحيوان، و خلق فيهم مجاري أغذيتهم و مشارب القوة المستفادة من أكلهم، فدل بما نبه عليه من النشأة في الابتداء على النشأة الثانية للانتهاء، فقال: ويل لمن كذب به بعد لزوم الحجة له، ثم احتج عليهم في الثالثة بقوله: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (1) أي: جعلناها تضم أحياءهم و موتاهم بما تخرج من أقواتها، كما قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (2) هذا مع ما أقام فيها من الجبال الثوابت الرفيعة التي هي أوتاد الأرض، و ما أجرى فيها للحيوان من الماء العذب، و في كل ذلك دليل على أنه قادر عليم و صانع حكيم، لم يخلق الناس عبثا، و لم يتركهم سدى، و هو كما يبدي يعيد ليحق منه الوعد و الوعيد، ثم قصرت ثلاثة على ما يكون من تبكيتهم على ما كذبوا به عند مشاهدتهم له، و هي: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (3)، أي: يقال لهم يوم القيامة ذلك، و الثاني من هذه الثلاثة: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (4) و الثالث: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (5) فأمروا أولا بالانطلاق إلى ما كذبوا به، و في الثاني معناه: امضوا إليها فلا عذر لكم و لا حجة، فقد أعذر إليكم في الدار الأولى من مكثكم، و في الثالث هذا يَوْمُ الْفَصْلِ و معناه معنى قوله: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (6)؛ لأنكم جمعتم في يوم يفصل فيه بين المطيع و العاصي، و المحق و المبطل، و معنى قوله: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (7)، أي: إن كنتم تغتاظون و تسخطون لمخالفة ما أمركم به، و اليوم قد عجزتم عن أنفسكم فإن قدرتم على ما كنتم تفعلونه قبل ما فعلوا، كما قال: وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (8) و بقيت أربعة بعد أولها: وصف أهل الجنة أنهم يجازون بأعمالهم و يصيروا إلى ثمرات أفعالهم، و بعد الثاني: خطاب لمن في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلم و مبالغة في زجرهم، و أنهم في إيثارهم العاجلة الفانية على الآجلة الباقية من جملة المجرمين، الذين قال فيهم عند مفتتح هذه الآية:

كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (9) فرجع عجز الكلام إلى صدره، كقوله:كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا

ص: 355


1- سورة: المرسلات، الآية: 25.
2- سورة: طه، الآية: 55.
3- سورة: المرسلات، الآية: 29.
4- سورة: المرسلات، الآية: 35.
5- سورة: المرسلات، الآية: 38.
6- سورة: يس، الآية: 59.
7- سورة: المرسلات، الآية: 39.
8- سورة: القلم، الآية: 42.
9- سورة: المرسلات، الآية: 18.

إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (1) و بعد الثالث: خبر عنه بأنهم مكرهون التجبية، كما يحكى عن هند بنت عتبة لما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم الفتح: «يا هند كيف ترين الإسلام»، قالت: بأبي و أمي ما أحسنه، لو لا ثلاث خصال، فقال: «و ما هن»، قالت: التجبية، و الخمار، و رقي هذا العبد الأسود فوق الكعبة، قال صلّى اللّه عليه و سلم: «أما التجبية فإنه لا صلاة إلا بركوع، و أما قولك الخمار، فلا شي ء أحسن و لا أستر من الخمار و أما قولك و رقي هذا العبد الأسود فوق الكعبة فنعم عبد اللّه هو». يقال: جبى الرجل يجبي تجبية، إذا ركع، و منه قوله:

كأن خصييه إذا ما جبا دجاجتان يلقطان حبا

فكراهتهم للتجبية من أجل ما يحكى عن أحدهم أنه قال: أكره أن تعلوني استي، و معنى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (2) إذا دعوا إلى الصلاة لم يصلوها لا بحجة و لا بشبهة، و لكن بباطل نحو ما حكيناه، و قيل: لم يصلوا لجهلهم بما في الصلاة من المنافع لصاحبها، و قيل: لم يصلوا لتكذيبهم بوجوبها، و بعد الرابع قوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (3)؛ أي: إذا كذبوا بالقرآن المتضمن لوجوب الصلاة، و بذل غاية الخضوع بالسجود و الركوع لمن له غايات الإحسان، فلم يصدقوا أنه من عند اللّه مع ما قارنه من واضح البرهان، فبأي كلام يسمحون بعده بالإيمان، و معنى قوله: ارْكَعُوا، أي: صلوا، و منه قوله تعالى: وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (4)، أي: مصلون، و إذا كان قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ردف كلام يدل على ما يجب تصديقه و ترك التكذيب به، و كانت المعاني مختلفة، سلم من التكرار و على الترتيب الذي بينا يتبين ما يختص بالتقديم مما يختص بالتأخير.

ص: 356


1- سورة: المرسلات، الآية: 46.
2- سورة: المرسلات، الآية: 48.
3- سورة: المرسلات، الآية: 50.
4- سورة: المائدة، الآية: 55.

78- سورة النبأ آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (1).

للسائل أن يسأل عن تكرار ذلك و فائدته.

الجواب أن يقال: إن الأول: وعيد بما يرونه في الدنيا عند فراقها من مقرهم، و الثاني: وعيد بما يلقونه في الآخرة من عذاب ربهم، و إذا لم يرد بالثاني ما أريد بالأول، لم يكن تكرارا، و قيل: الأول توعد بالقيامة و هولها، و الآخر توعد بما بعدها من النار و حرها.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً (2) و قال في وصف أهل الجنة:

وَ كَأْساً دِهاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (3).

للسائل أن يسأل: عن الجزاءين؟ و وصف الأول منهما بالوفاق و وصف الثاني بأنه حساب؟ و هل كان يصح أن يقال في العطاء: وفاقا، و في العقاب: حسابا؟.

الجواب أن يقال: إن اللّه تعالى قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (4) و قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (5) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها (6)

ص: 357


1- سورة: النبأ، الآيتان: 4 و 5.
2- سورة: النبأ، الآيتان: 25 و 26.
3- سورة: النبأ، الآيات: 34- 36.
4- سورة: الأنعام، الآية: 160.
5- سورة: القصص، الآية: 84.
6- سورة: الأنعام، الآية: 160.

فلما كانت الحسنة بأضعافها و السيئة بمثلها، استعمل في جزاء السيئة أنه وفاق لها غير زائد عليها و لا قاصر عنها، و لما كانت الحسنة بأضعافها، استعمل في جزائها أنه عطاء يكفي معطاه و يبلغ من مطلوبه منتهاه، فقال: عطاء بحسبه، أي: يكفيه مما يريد و يشتهيه، و يغنيه عن طلب زيادة إليه، و إذا كان كذلك لم يصلح لكل مكان إلا ما استعمل فيه.

ص: 358

79- سورة النازعات

آية واحدة

و هي قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (1) و قال في سورة عبس (2): فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ.

للسائل أن يسأل: عما سماه: الطَّامَّةُ الْكُبْرى و عما سماه: الصَّاخَّةُ؟ و هل صلح أن تستعمل الأولى مكان الثانية، و الثانية مكان الأولى؟.

الجواب أن يقال: إن الطَّامَّةُ تستعمل في الشديدة التي تنسى عندها الشدائد، فتطم على ما تقدمها، أي: تستره و تغطيه، و منه يقال: طمّ البئر إذا كبسها، و الطم:

الكبس، و القيامة: الطامة الكبرى؛ لأنها تنسي شدتها ما تقدم من شدائد الدنيا حتى يصير الناس فيها كما قال اللّه تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (3) أي:

تصير شدائد الدنيا عندها محتقرة بمنزلة ما لم يروه إلا ساعة كعشية أو ضحاها، و إنما استعملت: الطَّامَّةُ الْكُبْرى في هذه السورة؛ لأن فيها ذكر ما أوتي به فرعون من الطَّامَّةُ الْكُبْرى في الكفر، حيث قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (4) فهذه في الكبائر كشديدة الآخرة في الشدائد، فكأنه قرن إلى ذكر الكبيرة الموفية على أمثالها ذكر الطَّامَّةُ الْكُبْرى و أهوالها.

و أما: الصَّاخَّةُ فهي صيحة تطعن الآذان فتصمها، يقال: صخ الغراب بمنقاره في دبر البعير، أي: طعن، فالصاخة صيحة شديدة لشدة صوتها تحيى لها الناس كالصيحة الشديدة التي يتنبه لها النوام، فلما تقدم في هذه السورة من حالة الإنسان ما نطق به قوله:

ص: 359


1- سورة: النازعات، الآيتان: 34 و 35.
2- الآية: 33.
3- سورة: النازعات، الآية: 46.
4- سورة: النازعات، الآية: 24.

ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (1) كان الإنشار بالصاخة التي تطعن الآذان، فيقضي اللّه عندها إحياء الموتى، فقارن الآيات التي في السورة الأولى ما شاكلها، و الآيات في الآخرة ما شابهها، و السلام.

80- سورة عبس

مرّ ما فيها فيما قبلها.

ص: 360


1- سورة: عبس، الآيتان: 21، 22.

81- سورة التكوير آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (1) و قال في سورة انفطرت (2): وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: سُجِّرَتْ و اختصاص الثانية بقوله: فُجِّرَتْ؟.

الجواب أن يقال: إن الأفعال التي جاءت بعد: (إذا) في السورة الأولى في جملتها: وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (4) و لم يكن ذلك في السورة الثانية، و معنى: سجّرت البحار: أوقدت، فصارت نارا كما يسجر التنور، و قيل: المراد بها: بحار في جهنم تملأ حميما ليعذب بها أهل النار، فكان ذكر هذا المعنى حيث وقع التوعد بتسعير الجحيم أشبه و أولى.

و أما قوله: وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فإنما معناه: سيب ماؤها فأسيح، حتى فاضت على وجه الأرض، فتساوى بالماء و لجج البحار شعف الجبال، فكان هذا أولى بهن بهذا المكان؛ لأن قبلها خبرا عن الأشياء التي يحكم اللّه تعالى بمزايلتها أماكنها، كقوله: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ و معناه: انشقت، كما قال: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (5) و بعده: وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (6) و بعده: وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فبإزاء انتثار الكواكب انفجار البحار، فكان الإخبار عنها بهذا المعنى أولى بهذا المكان، لتقدم ما يشبهها من التغيير، و مجي ء ما هو تزييل عن مكانه من بعثرة القبور.

ص: 361


1- سورة: التكوير، الآيتان: 6، 7.
2- الآيتان: 3، 4.
3- سورة: التكوير، الآية: 12.
4- سورة: التكوير، الآية: 13.
5- سورة: الرحمن، الآية: 37.
6- سورة: الانفطار، الآية: 2.

الآية الثانية من سورة التكوير

قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (1) و قال بعدها في سورة انفطرت: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (2).

للسائل أن يسأل فيقول: قال اللّه تعالى: لما كانت القيامة و غيّر اللّه ما به قوام الدنيا لما يريد من إبطالها و تجديد أمر الآخرة، حينئذ علمت نفس ما أحضرت، و قال في السورة الأخرى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ فهل يصح مكان: ما أَحْضَرَتْ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ فيجاب في سورة التكوير بما أجيب به في سورة الانفطار، أم خصوص الفائدة توجب تخصيص اللفظة؟.

الجواب أن يقال: إن الأول لما جاء بعد ذكر النار و الجنة و هو قوله: وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (3)، أي: علمت عملا تستحق به الجنة أحضرت أم عملا تستحق به النار؟، و كذلك إذا نولت الكتاب و رأت الثواب و العقاب، و أما الثاني، فإنه بعد قوله: وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)، أي: قلب ترابها و جعل أسفلها أعلاها بإخراج موتاها، فلما كان آخر شرط، انقطع إلى ذكر الجزاء لفظا ذا نقيض، و هو:

البعثرة التي تجعل أسفل الشي ء أعلاه، كان أن يجعل الجزاء ما يتضمن لفظا ذا نقيض أولى من غيره، و هو: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ، و قيل: معناه: ما أقامت من طاعة اللّه و ما تركت، و قيل: علمت نفس جميع ما عملته مدة عمرها في الدنيا، و ما فعلته في أول شبابها، و ما فعلته آخر أيامها، و قيل: معناه: ما قدمت من عملها الذي انقطع بانقطاع حياتها، و ما أخرت من سنة سنتها، فعمل بها بعده، و إذا كان كذلك، فقد قرن إلى كل شي ء شرط جوابه الذي هو أشبه بما قاربه، و أولى لما قارنه.

82- سورة الانفطار

مرّ ما فيها في السورة التي قبلها.

ص: 362


1- سورة: التكوير، الآية: 14.
2- سورة: الانفطار، الآية: 5.
3- سورة: التكوير، الآيات: 12- 14.
4- سورة: الانفطار، الآية: 4.

83- سورة المطففين آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (1) و قال تعالى في كتاب الأبرار: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (2).

للسائل أن يسأل: عن قوله: كِتابٌ مَرْقُومٌ و انقطاع إلى قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، و انقطاعه الثاني إلى قوله: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ؟.

الجواب أن يقال: قوله في: سِجِّينٍ فسر على وجوه، قال أبو عبيدة: سِجِّينٍ شديد، و منه قول ابن مقبل: ضربا تواصوا به الأبطال سجينا، أي: شديد، و هذا يحمل على وجهين في حبس شديد كشدة السجن، ليدل به على خساسة منزلتهم، و قيل: سجين أي: أمر عظيم شديد عذابه و غمه، و قيل في سجين: في الأرض السابعة، و قيل في سجين أي: في سجن، و الياء للمبالغة، أي: كتاب سيئاتهم فوجب تخليد حبسهم، و قيل:

كتابهم لما دام التقريع به دام عقابهم له، و معنى قوله: وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ، أي: ليس هذا مما كنت تعلمه أنت و لا قومك لو لا ما أتاك به الوحي من عندنا، ثم فسّر فقال:

كِتابٌ مَرْقُومٌ؛ أي: كتاب معلم بعلامات تدل على دوام خزيهم و اتصال عذابهم بما فيه من سيئاتهم، ثم قال: ويل لهم؛ لأنهم كذبوا رسل اللّه، و أما قوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، أي: في مراتب عالية مكنوفة بجلالة، فلما فضلت الرتب، دلت على عظم شأنها بجمعها بالواو و النون، تشبيها بما يميز و يخاطب، و قيل: علّيون: السماء السابعة و فيها أرواح المؤمنين، و قيل علّيون: غرف الجنة، و قيل: سدرة المنتهى، و هي

ص: 363


1- سورة: المطففين، الآيات: 7- 10.
2- سورة: المطففين، الآيات: 18- 21.

التي ينتهي إليها كل شي ء من أمر اللّه، و هي في السماء السابعة، و قيل: عليون: علو على علو مضاعف، و الواحد علّيّ كشرّيب و سكّير و خمّير، فكأنه لأعلى الأمكنة، ثم جمع بالواو و النون لتفخيم شأنه، و قيل: هذا جمع لما لا يحد واحده كثلاثين و أربعين، فثلاثون كأن لفظه لفظ جمع ثلاث، قال الزجاج، و هو كما قال الشاعر:

فكان دهيدهين و ابيكرين فكان دهيدهين و هي: حاشية الإبل و صغارها، و ابيكرين: جمع ليس واحده معلوم العدد، و قوله في كتاب الأبرار: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، أي: كتاب معلم بعلامات تدل على ما يقرّ أعينهم و يوجب دوام سرورهم، لما أودع من حسناتهم المفضية بهم إلى جناتهم، فكان رقم كتاب الفجار ما يوجب المصير إلى النار، فانقطع إلى ما يوجب الويل لهم، و رقم كتاب الأبرار ما يوجب المصير إلى غرف الجنان، و رضى الرحمن، فانقطع إلى ذكر مشاهدة المقربين و تبشيره بدوام نعيم صاحبه.

الآية الثانية من سورة المطففين

قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (1).

للسائل أن يسأل: عن إفراد هذا في هذه السورة، مع تكراره في سورة المرسلات عشر مرات؟.

الجواب أن يقال: إن قوله: (ويل) لهم كلمة تقال في كل من وقع في هلكة لا يرجى خلاصه منها، و هي في سورة و المرسلات قد بينا وجه الفائدة فيما أعيد منها، و هي في هذه السورة مذكورة مرة واحدة؛ لأنها مقصورة على الترهيب من النار و وصفها، و معاقبة أهلها، و على الترغيب في الجنة، و نعيم أهلها، ليس في السورة غير هذين المعنيين، فلما جردت لهما ذكرت الكلمة عند ذكر ما كتب على المكذبين، و أعلم به كتابهم بما يكون إليه مآلهم، ثم شرع في وصف كتاب الأبرار و محله، و تبعيد ما بين جزائهم و جزاء غيرهم، فاكتفى بذكر الكلمة مرة لما بنى على اختصار السورة، و اللّه أعلم.

ص: 364


1- سورة: المطففين، الآيتان: 10 و 11.

84- سورة الانشقاق آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (1).

للسائل أن يسأل: عن تكرير قوله: وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ.

الجواب أن يقال: إن الأول للسماء، و الثاني للأرض، أمرت بالانصداع، فسمعت و انقادت لأمر اللّه تعالى و انصدعت و حق لها أن تسمع و تطيع، و معنى أذنت: سمعت، لا أنها سمعت بإذن، قال عدي:

في سماع يأذن الشيخ له و حديث مثل ما ذي مشار

و قوله: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، أي: بسطت بانتساف جبالها و تطأطؤ آكامها و تلالها، و ألقت ما حوته من الموتى و المعادن و الكنوز، و تخلت منها كما تتخلى المرأة الحاملة من حملها إذا ألقت ما في بطنها، و سمعت و أطاعت و حق لها ذلك، يقال: حقت فهي محقوقة و حقيق بكذا، و يقال لها أيضا: حق لها ذلك، فالأول لغير ما له الثاني فلا يكون تكرارا.

الآية الثانية منها

قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (2) و قال في سورة البروج: (3) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ.

ص: 365


1- سورة: الانشقاق، الآيات: 1- 4.
2- سورة: الانشقاق، الآيتان: 22 و 23.
3- سورة: البروج، الآيتان: 19، 20.

للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: يُكَذِّبُونَ و الثانية بقوله: فِي تَكْذِيبٍ؟.

الجواب أن يقال: معنى قوله: يُكَذِّبُونَ و هم: فِي تَكْذِيبٍ واحد، و اختلف اللفظان لاختلاف الفواصل في السورتين، أ لا ترى أن قبل الأولى: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (1) فكانت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الفواصل التي تقدمتها على يفعلون، فجعلت هذه تابعة لها مع صحة المعنى و اللفظ، و الثانية في فواصل مردفة بياء أو واو، و هي قوله: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (2) صحة اللفظ و المعنى.

85- سورة البروج

ليس فيها إلا ما ذكرناه.

86- 89 من سورة الطارق إلى البلد

ليس فيهن شي ء من ذلك.

ص: 366


1- سورة: الانشقاق، الآيات: 20- 22.
2- سورة: البروج، الآيات: 17- 20.

90- سورة البلد آيتان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (1).

للسائل أن يسأل: عن تكرير: (البلد) و جعله فاصلة بين الآيتين، و هل ذلك مما يرتضى في البلاغة و يعد من جملة الفصاحة؟.

الجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف، يوجب له حكما غير حكم الأول، كان من مختار الكلام، فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني، و هو: مكة؛ لأن معنى: أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي صلّى اللّه عليه و سلم، فقوله: وَ أَنْتَ حِلٌّ، أي: محل أحل لك منه ما حرم على غيرك، فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيما له، و هو مع أنه محرم على غيرك محل لك إكراما لمنزلتك، فالبلد في الأول محرم، و في الثاني محلل، و كان النبي عليه الصلاة و السلام أحل له قتل من رأى قتله حين أذن في قتال المشركين، فأمر بقتل ابن خطل صبرا، و هو متعلق بأستار الكعبة، و لم يحل لأحد قبله و لا يحل لأحد بعده ما أحل له، و إذا كان كذلك صار الثاني معنيا به غير ما عني بالأول، فكأنه ذكر وصفا غير وصفه المتقدم، فجمع فوائد من تعظيم البلد و تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و سلم حين أبيح له ما حظر منه على سواه، و قيل: أحلّت له ساعة من نهار و لم تحل لغيره.

و الآية الثانية منها

قوله تعالى: وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (2) و قال بعده في

ص: 367


1- سورة: البلد، الآيتان: 1 و 2.
2- سورة: البلد، الآيتان: 3 و 4.

و التين (1): لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.

للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما بعد لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في الموضعين؟

وصلة الأول بقوله: فِي كَبَدٍ و الثاني بقوله: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟.

الجواب أن يقال: قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أقوال، أولها: في شدة و نصب يكابد أمر الدنيا و أمر الآخرة، و الثاني: في انتصاب قامته، و سائر الحيوان كالمنكب على وجهه غير منتصب، و الثالث: هو مخلوق في شدة أمر تكوّنه، أولا في الرحم في ظلمات ثلاث، ثم ينتقل إلى القماط و الرباط، ثم عند البلوغ على الخطر العظيم مما يقوده إليه عمله من جنة أو نار، فالدنيا له دار كد و مشقة، و الآخرة له دار راحة و نعمة إن وافاها بما كلف من طاعته، و الرابع: أنه خلق في بطن أمه و رأسه قبل رأسها منتصبا كانتصابها، فإذا أرادت الولادة، انقلب الرأس إلى أسفل فيخرج رأسه قبل رجليه، و قد تخرج رجلاه قبل رأسه، و ذلك نادر، و الأول عام شائع، فهذه الأوجه الأربعة تعمّ جميع الناس لا يستثنى أحد منهم، ثم خص بعض الكفار بالذكر عن هذا العموم، فقال: أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (2) فلما تقدم القسم بوالد و ما ولد، و فيه قولان: أحدهما: آدم و ولده، و القول الثاني: كل والد و كل مولود، قرن إلى القسم العام بما يشبهه من الجواب العام، و أما قوله: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (3) فقد قيل فيهما: إن التين: دمشق، و الزيتون: بيت المقدس، و قيل: جبل عليه دمشق، و جبل عليه بيت المقدس، و قيل: مسجدان، فالتين:

مسجد نوح عليه السّلام، و الزيتون: مسجد دمشق، و قيل: التين: الذي يؤكل، و الزيتون: الذي يعصر، فالقسم واقع بأشياء مخصوصة من بقاع أو غيرها، فعلق بجواب وقع فيه تخصيص بالاستثناء، و هو: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ (4)؛ أي: خلقناه في أحسن صورة ثم رددناه، يعني: الكافر إلى أقبح صورة، حين حط من الخلق الأول إلى المحط الأسفل، فصار في أوحش منظر بعد أن كان في أحسن صورة، و قيل: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، أي: في خلقة قويمة، و دلالة على طريقة مستقيمة ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إلى أرذل العمر، و هو: الضعف الذي يفقد معه العلم، و لا يملك فيه إقامة الطاعات و الثبات على العبادات إلا المؤمنين، فإنهم يوفون أوقات العبادات التي كانوا يقيمونها إذا لم يقدروا مع الضعف الذي نقلهم اللّه إليه أجرهم، يدل على ذلك قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ و إذا كان

ص: 368


1- سورة: التين، الآية: 4.
2- سورة: البلد، الآية: 5.
3- سورة: التين، الآية: 1.
4- سورة: التين، الآيات: 4- 6.

معنى الآيتين ما ذكرنا، لاق بكلّ من القسمين الجواب الذي جاء له، و يمكن أن يجاب عن الفرق بين الموضعين بالفواصل؛ لأن القسم في سورة البلد بهذا اللفظ، و هو قوله:

وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (1).

ليس في الشمس و الليل و الضحى

شي ء من ذلك.

ص: 369


1- سورة: البلد، الآية: 30.

94- سورة الشرح

آية واحدة

و هي قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (1).

للسائل أن يسأل: عن فائدة تكراره.

و الجواب: أن اللّه تعالى وعد في عسر أن يعقبه بيسرين، و أن من كان في شدة، قطعها عنه إلى نعمة بعد نعمة، و لهذا قال عليه الصلاة و السلام: «لن يغلب عسر يسرين»؛ لأن العسر لما أعيد لفظه معرفا كالأول لم يكن إلا إياه، و يسر لما أعيد لفظه نكرة كان غير الأول، و إذا لم يكن ذاك لم يكن تكرارا.

95- سورة التين

قد تقدم ما فيها.

ص: 370


1- سورة: الشرح، الآيتان: 5 و 6.

96- سورة العلق آية واحدة

و هي قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (1).

للسائل أن يسأل: عن تكرير (خلق).

الجواب أن يقال: قوله: (خلق) بعد (الذى) عام في المخلوقات كلها سمائها و أرضها، ثم استأنف التنبيه على خلق المخاطبين أنفسهم، فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي: اعرف انقلابه من حال الدم إلى ما يشاهد، لتعرف حاله الثانية التي ليست بأبعد في نفسك من هذه الناشئة، و إن كان كذلك سلم من التكرار، و اللّه أعلم.

ليس في القدر و لم يكن إلى التكاثر

شي ء من ذلك.

ص: 371


1- سورة: العلق، الآيتان: 1 و 2.

102- سورة التكاثر آية واحدة

و هي قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (1).

للسائل أن يسأل: عن تكرير اللفظين.

الجواب: أن أحدهما توعد غير ما توعد به الآخر، فالأول: توعد بما ينالهم في الدنيا، و الثاني: توعد بما أعد لهم في الأخرى، و قيل: الأول: ما يلقونه عند الفراق إذا بشروا بالمصير إلى النار، و الثاني: ما يرونه من عذاب القبر، فكلاهما عذاب في الدنيا، إلا أن أحدهما غير الآخر، و هو مثله في الشدة، فذلك أعيد بتلك اللفظة، و إذا حمل على عذاب الدنيا و عذاب الآخرة لم يكن تكرارا.

ليس في العصر إلى الكافرين

شي ء من ذلك.

ص: 372


1- سورة: التكاثر، الآيتان: 4 و 5.

109- سورة الكافرون

إن سأل سائل عن التكرار في هذه السورة.

الجواب: أن واحدا في هذا الموضع، و هو أن يقال: معناه: لا أعبد الأصنام لعلمي بفساد ذلك، و لا أنتم تعبدون اللّه لجهلكم ما يوجب عليكم، و لا أعبد آلهتكم لتعبدوا اللّه مناوبة بيننا، و لا أنتم تعبدون اللّه من أجل أن يكون سبقت مني عبادة آلهتكم، و ذلك أن المشركين قالوا له عليه الصلاة و السلام: اعبد سنة ما نعبد، و نعبد سنة ما تعبد، و نشترك نحن و أنت في أمرنا كله، فقال في الأول: لا يكون مني عبادة الأصنام لعلمي ببطلانها، و لا تكون منكم عبادة اللّه لجهلكم بأنه وحده هو الذي تحق له العبادة، و قال في الثاني ما نفى العبادة التي دعوا إليها مناوبة منهم، فلم يقع تكرارا على هذا الوجه و لا على الوجه الآخر التي ذكرنا في جامع التفسير.

ليس فيما بعدها إلى سورة الناس

شي ء من ذلك.

ص: 373

114- سورة الناس

للسائل أن يسأل: عن تكرير: (الناس) في قوله في فواصل هذه السورة في خمسة مواضع، و هي ست آيات قد ختمت أواخر خمس منها بالناس، و واحدة بالخنّاس.

الجواب عن ذلك: أن يقال: إنما اتّصف اللّه تعالى أولا: بِرَبِّ النَّاسِ (1) ثم:

ب مَلِكِ النَّاسِ (2)، ثم: ب إِلهِ النَّاسِ (3)، لحكمة دعت إلى ذلك، أوجبت تقديم الأول و تعقيبه بالثاني و الثالث على الترتيب الذي جاء؛ لأن رب الشي ء هو القائم بإصلاحه و تدبير أمره، فنبّه بتقديمه على ما ترتّب من نعمه على الإنسان لما أنشأه و رباه، و هذه أولى أحواله، و الثانية: إنعامه عليه بالعقل الذي ثبتت عليه ملكته له، فعلم أنه عبد مملوك، و أن الذي بلغ به تلك الحال من حد الطفولية هو الذي يملكه و أمثاله، فجعل الوصف الثاني: مَلِكِ النَّاسِ و لما كان بعد ذلك تكليف العبادات التي هي حق اللّه تعالى على من عرّفه نفسه أنه عبد مملوك، و عرفه أنه عز و جلّ خالقه، و تلزمه طاعته ليلتزم غاية التذلل لمن له أكبر الإنعام و التطوّل جعل الوصف الثالث: إِلهِ النَّاسِ فصار:

(الناس) الذين أضيف إليهم: (رب) كأنهم غير: (الناس) الذين أضيف إليهم:

(ملك) و الذين أضيف إليهم (ملك) غير الذين أضيف إليهم (إله) و إذا أريد بالثاني غير الأول، لم يكن تكرارا؛ بل يكون كأنه قال: قل أعوذ برب الأجنة و الأطفال، الذين ربهم و رباهم وقت الإنشاء و التربية، و حين لم يقدر آباؤهم لهم على التغذية، و بمن بلغ بالوالدين حدا عرفوه فيه بالملكة و أنفسهم بالعبودية، ثم إله المكلفين المعرضين لأكبر النعم، و هم الذين بلغوا و قاموا بأداء ما كلفوا، فترتيب الصفات تنبيه على أن المراد بالناس ذوو الأحوال المختلفة في الصغر و الترعرع و البلوغ، فسلم على ذلك من التكرار، و يتضمن هذا المعنى اللطيف الذي دل عليه ترتيب الصفات تعالى اللّه و كلامه عن المعاب، و قوله:

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (4) فالمراد بالناس الأول: الأبرار، و بالناس

ص: 374


1- سورة: الناس، الآية: 1.
2- سورة: الناس، الآية: 2.
3- سورة: الناس، الآية: 3.
4- سورة: الناس، الآية: 5.

الثاني: الأشرار، فكان المعنى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ الأخيار من الجن، و أشرار الناس، فقد صار المعني بكل واحد على صفة غير الصفة المعني بالآخر، فكأنه غيره، و إن كان الجنس قد جمع هذا كله.

هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرّق منها إلى عيبها، و الحمد للّه وحده، و صلوات اللّه و سلامه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم.

ص: 375

فهرس المحتویات

الصورة

ص: 376

الصورة

ص: 377

الصورة

ص: 378

الصورة

ص: 379

الصورة

ص: 380

الصورة

ص: 381

الصورة

ص: 382

الصورة

ص: 383

الصورة

ص: 384

الصورة

ص: 385

الصورة

ص: 386

الصورة

ص: 387

الصورة

ص: 388

الصورة

ص: 389

الصورة

ص: 390

الصورة

ص: 391

الصورة

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.