دراسات تاريخية من القرآن الكريم

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

المجلد 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية

١٤٠٨ ه_ - ١٩٨٨ م

دار النهضة العربية

للطباعة والنشر

بروت - ص.ب ١١٠٧٤٩

الإدارة : بيروت، شارع مدحت باشا بناية

كريدية، تلفون: 303816

312213 /309830

برقياً : دانهضة ، ص . ب ٧٤٩-١١

تلکس : NAHDA 40290 LE

29354 LE

المكتبة : شارع البستاني، بناية اسكندراني

رقم ٣ غربي الجامعة العربية،

تلفون : ٣١٦٢٠٢

المستودع : بشر حسن ، تلفون : 833180

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الاول]

تقديم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الصلاة و السلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين لا ريب في أن القرآن الكريم كمصدر تاريخي، إنما هو أصدق المصادر و أصحها على الإطلاق، فهو موثوق السند، ثم هو قبل ذلك و بعده، كتاب الله الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)».

و من ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، ذلك لأن القرآن الكريم إنما دون في البداية بإملاء الرسول- صلوات الله و سلامه عليه- و تلي فيما بعد و حمل تصديقه النهائي قبل أن ينتقل- عليه أفضل الصلاة و السلام- إلى الرفيق الأعلى (2)، و لأن القصص القرآني إنما هو أنباء و أحداث تاريخية لم تلتبس بشي ء من الخيال، و لم يدخل عليها شي ء غير الواقع (3).

ثم إن الله سبحانه و تعالى قد تعهد بحفظه دون تحريف أو تبديل، يقول عزّ من قال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (4)»، و يقول «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (5)»، و من ثم فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف و التبديل و انقطاع السند، حيث لم يتكفل اللّه بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال

ص: 5


1- سورة فصلت: آية 42
2- محمد عبد اللّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 49
3- عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني ص 52
4- سورة الحجر: آية 9
5- سورة القيامة: آية 17- 19

تعالى: «وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (1)»، أي بما طلب إليهم حفظه.

و السر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جي ء بها على التوقيت لا التأييد، و أن هذا القرآن جي ء به مصدقا لما بين يديه من الكتب، و مهيمنا عليها، و صدق الله العظيم حيث يقول «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (2)» و من هنا كان القرآن الكريم جامعا لما في هذه الكتب من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، و كان سادا مسدها، و لم يكن شي ء منها يسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، و إذا قضى اللّه أمرا يسر له أسبابه، و هو الحكيم العليم (3).

و مع ذلك كله- و يا للعجب- فإن ميدان الدراسة في التاريخ القديم، قد حرم من هذا المنهل الغزير، ربما لأن هذا الميدان إنما قد ظلّ إلى عهد قريب يكاد يكون مقصورا على المستشرقين، و تلاميذهم من العرب غير المسلمين، و إن هؤلاء و أولئك لم يتطرقوا في دراساتهم إلى الأحداث التاريخية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، ربما لأن هذه الدراسة بعيدة عن أغراضهم، أو لأن مجال البحث فيها قد لا يستهويهم لسبب أو لآخر، أو لأن العرب منهم إنما كانوا يحسون بحرج إن تناولوا أحداث القرآن التاريخية بالبحث و الدراسة.

و أيا ما كان السبب، فإن ميدان البحث في التاريخ القديم، إنما قد 14

ص: 6


1- سورة المائدة: آية 44
2- سورة المائدة: آية 48
3- محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم ص 13- 14

خسر بذلك أصح مصادره و أصدقها على وجه الإطلاق، هذا فضلا عن أن الموقف إنما بقي كما هو، حتى بعد أن دخل نفر من المسلمين ميدان التخصص في التاريخ القديم، و حتى بعد أن حاولت قلة نادرة منهم- ربما لا يتجاوز عددها الواحد أو الاثنين- أن تعتمد في كتاباتها على ما جاء من محكم التنزيل، فقد ظل المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم، يعتمدون على المصادر التقليدية لدراسة هذا الفرع من فروع الدراسات التاريخية، و لم يكن القرآن الكريم منها، على أي حال.

و من عجب، فإن المؤرخين المحدثين- الاوربيين منهم و الشرقيين، المسلمين و غير المسلمين- إنما ينظرون إلى التوراة، و كأنها المصدر الأساسي لدراسة فترات معينة من تاريخ الشرق الأدنى القديم، رغم أنهم يجمعون- او يكادون- على أنها غير موثوقة السند، و رغم ان هناك مئات من الأبحاث التي كتبها المؤمنون بالتوراة- فضلا عن غير المؤمنين بها- و هي جميعا إنما تثير جدلا طويلا حول وثاقة نصها، بل حول نسبة هذا النص لهذا الشخص أو ذاك (1).

و رغم ذلك كله، لم يفكر واحد من هؤلاء المؤرخين في أن يرجع إلى القرآن الكريم، ذلك الكتاب السماوي العظيم، الذي تجمع آراء العلماء في العالم كله على وثاقة نصه، أو كما يقول «سير وليم موير»- و هو من أشد المتعصبين ضد الإسلام- «إن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن الكريم ظل أربعة عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه و دقته» (2)

ص: 7


1- أنظر عن التوراة كتابنا «إسرائيل» ص 19- 159 (القاهرة 1973)
2- محمد حسين هيكل: الصديق ابو بكر، القاهرة 1964 ص 323 و كذا 1923 ,hgrubnidE ,malsI fo yrotsiH dna dammahoM fo efiL ehT ,riuM mailliW riS

و يعود العالم الإنكليزي مرة أخرى ليؤكد أن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، و أنه قد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها و المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية في كل العصور و كل الأزمان (1)، و هذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع يعدّ أكبر حجة و دليل على صحة النص المنزل الموجود معنا (2).

و يؤكد «لوبلوا» أن القرآن الكريم هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير (3)، كما يقرر «نولدكه» أن النص القرآني

(1) قارن ذلك بما هو معترف به عن التوراة من جميع المؤمنين بها، حيث ترى أن هناك نسختين للتوراة عند اليهود، الواحدة لليهود و العبرانيين، و الأخرى لليهود السامريين، و كل منهما تختلف عن الأخرى في عدد أسفارها و في كثير من نصوصها، و لم يكن الأمر عند المسيحيين- و هم من المؤمنين بها إيمانهم بأناجيلهم المختلفة- بأفضل منه عند اليهود، ذلك لأن هناك على الأقل طبعتين للتوراة (العهد القديم)، الواحدة تستعملها الكنائس البروتستانتية، و الأخرى تستعملها الكنائس الكاثوليكية و الارثوذكسية الشرقية، و التي تزيد عن الأولى بأسفار عدة، اعتبرها البروتستانت أسفارا زائفة (أبو كريفا)، هذا فضلا عن الاختلاف في عدد إصحاحات أسفار توراة البروتستانت عنها في توراة الكاثوليك، بل إن أسماء الأسفار نفسها كانت- و لا تزال- موضع خلاف بينهما، و اخيرا فهناك الاختلاف في ترتيب الأسفار عند اليهود عنها عند المسيحيين (انظر: كتابنا «إسرائيل» ص 20- 21، قاموس الكتاب المقدس 1/ 451 (بيروت 1964) حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي، القاهرة 1971، ص 248- 249، حبيب سعيد: المدخل الى الكتاب المقدس، القاهرة ص 67- 68، فؤاد حسنين: التوراة الهيروغليفية، القاهرة 1968 ص 14- 15، و كذا-

ص: 8


1- 144. P, 1970, ogacihC, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M
2- محمد عبد اللّه دراز: مدخل الى القرآن الكريم ص 40، و كذا 33 .P ,naroK eL te tamohaM ,erialiH .tS .B .dammahoM fo efiL ehT ,riuM .W
3- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 40 و كذا. 47. P, 1887, siraP, euqiarbeH elbiB al te naroK el, siobbeL

إنما بقي على أحسن صورة من الكمال و المطابقة (1).

هذا و يؤكد العلماء في كل أنحاء الدنيا أن المصحف الذي كتب على أيام أبي بكر الصديق، هو نفس المصحف الذي كتب على أيام الرسول- صلوات الله و سلامه عليه- و هو نفس المصحف الذي كتب على أيام عثمان، و بالتالي فإن كل قراءة قرآنية يجب أن تكون متفقة مع نصه، و أن الشك فيه كفر، و أن الزيادة عليه لا تجوز، و أنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة (2).

و ليس من شك في أن القرآن الكريم، أنما يقدم لنا- عن طريق القصص القرآني- معلومات هامة و صحيحة تماما عن عصور ما قبل الإسلام، و أخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، و على سبيل المثال، فإنه يقدم لنا- عن طريق قصة الكليم عليه السلام- كثيرا من المعلومات الملكية الإلهية في مصر الفرعونية، و عن الأحوال السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية فيها (3)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى قصة الخليل- صلوات الله و سلامه عليه- حيث يقدم لنا الكثير من المعلومات عن العراق القديم (4).

ص: 9


1- أنظر: 16. P, 1961, snarauQ sed eihcihcseG, ekedleoN. T
2- محمد أبو زهرة: القرآن ص 43، تفسير القرطبي 1/ 80- 86، فتاوى ابن تيمية 13/ 420- 421، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 51- 55، و انظر كذلك: XXIX- VIX. P. P, tic- po riuM. W
3- انظر عن قصة موسى (البقرة: آية 47- 74، الأعراف: آية 103- 155، يونس: آية 75- 93، طه: آية 9- 99، الشعراء: آية 10- 68، القصص: آية 3- 44، غافر: آية 23- 54)
4- انظر عن قصة إبراهيم (البقرة: آية 258، الأنعام: آية 74- 83، إبراهيم: آية 35- 41، مريم: آية 41- 50، الأنبياء: آية 51- 73، الشعراء: آية 69- 89، الصافات: آية 83- 113.

و أما عن بني إسرائيل، فليس هناك من شك في أنه ليس هناك كتاب سماوي- حتى التوراة نفسها- قد فصل الحديث عن بني إسرائيل، و أفاض في وصف يهود و أحوالهم و أخلاقهم، و أبان مواقفهم من الأنبياء، كما فعل القرآن الكريم، و صدق الله العظيم حيث يقول «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (1)».

و أما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب الله الكريم تعالى جملة من الآيات الكريمة، تتحدث عن مملكة سبأ- في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام- هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد- دون غيره من الكتب المقدسة المتداولة اليوم- بذكر أقوام عربية بادت- كقوم عاد (2) و ثمود (3)- فضلا عن قصة أصحاب الكهف (4)، و سيل العرم (5)، و قصة أصحاب الأخدود (6)، إلى جانب قصة أصحاب الفيل (7)، و هجرة الخليل و ولده إسماعيل عليهما السلام، إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك (8) و صدق الله العظيم حيث يقول «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (9)»، و حيث يقول «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ

ص: 10


1- سورة النمل: آية 76
2- انظر: الأعراف: آية 65، هود: آية 50- 60، الشعراء: آية 123- 140
3- انظر: الأعراف: آية 73- 79، هود: آية 61- 68، الشعراء: آية 141- 159
4- سورة الكهف: آية 9- 26
5- سورة سبأ: آية 15- 19
6- سورة البروج: آية 4- 10
7- سورة الفيل
8- انظر: سورة البقرة: آية 124- 131، سورة إبراهيم: آية 35- 41
9- سورة هود: آية 49

لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (1)».

غير أن ذلك كله لا يعني بحال من الأحوال، أن القرآن الكريم كتاب تاريخ، يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، و إنما هو كتاب هداية و ارشاد للتي هي أقوم (2)، أنزله اللّه سبحانه و تعالى ليكون دستورا للمسلمين، و منها جا يسيرون عليه في حياتهم، و يدعوهم إلى التوحيد (3)، و إلى تهذيب النفوس، و إلى وضع مبادئ للأخلاق (4)، و ميزان للعدالة (5)، و استنباط لبعض الأحكام (6)، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية، فانما للعبرة و العظة (7).

و مع ذلك فيجب ألا يغيب عن بالنا- دائما و أبدا- أن القصص القرآني إن هو الا الحق الصراح، و صدق الله العظيم حيث يقول «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (8)» و يقول «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (9)» و يقول «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (10)» و يقول «وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ

ص: 11


1- سورة آل عمران: آية 44
2- سورة الإسراء: آية 9
3- انظر مثلا: في قصة نوح (سورة نوح: آية 2- 20) و في قصة يوسف (سورة يوسف آية 37- 40) و في قصة عيسى (النساء: آية 171- 172، آل عمران: آية 59، المائدة: آية 71، 76)
4- انظر مثلا: سورة البقرة: آية 44، الأعراف: آية 85- 87، هود: آية 84- 88
5- انظر مثلا في قصة داود (سورة ص: آية 21- 26)
6- انظر مثلا في قصة هابيل و قابيل: سورة المائدة: آية 27- 32، 42- 50، البقرة: آية 178- 179
7- انظر: عن أهداف القرآن و مقاصده: تفسير المنار 1/ 206- 293
8- سورة النساء: آية 87
9- سورة آل عمران: آية 62
10- سورة الكهف: آية 13

الكتاب هو الحق (1)» و يقول «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (2)» و يقول «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (3)» و يقول «وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (4)» و يقول «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (5)» و يقول «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (6)».

و يعلم الله، أنني منذ التحقت بقسم التاريخ في جامعة الاسكندرية، في الخمسينات من هذا القرن العشرين، كنت أسائل نفسي- عند ما أدرس أحداثا تاريخية تعرض لها القرآن الكريم بالإيجاز أو التفصيل- لم لم يرجع المؤرخون المسلمون- و فيهم الكثيرون ممن حفظوا كثيرا أو قليلا من القرآن الكريم بحكم نشأتهم الدينية، و عرفوا الكثير مما جاء من محكم التنزيل بحكم دراساتهم العلمية- أقول لم لم يرجعوا إلى ما جاء في القرآن الكريم عن هذه الأحداث؟ على الأقل ليتثبتوا من صحتها او عدم صحتها، طبقا لما جاء عنها في كتاب الله الكريم، و لكني لم أكن أهتدي إلى نوع من الإجابة يرضيني، أو على الأقل ينير أمامي الطريق، أزاء موقفهم هذا.

و بقيت كذلك في حيرة من أمري، حتى أكملت دراساتي العليا، و عينت مدرسا للتاريخ القديم بجامعة الإسكندرية في أخريات الستينات من هذا القرن العشرين، و بدأت اتجه نحو القرآن العظيم، نحو المصدر

ص: 12


1- سورة فاطر: آية 31
2- سورة الزمر: آية 2، و انظر الآية 41
3- سورة الجاثية: آية 6
4- سورة محمد: آية 2
5- سورة البقرة: آية 252
6- سورة آل عمران: آية 3

الذي يعلو فوق كل المصادر، و يبدو أنه مما يسر لي ذلك أن تخصصي إنما كان في تاريخ مصر و الشرق الأدنى القديم، فضلا عن نشأتي في بيئة إسلامية محافظة، في الصعيد الاقصى من أرض الكنانة، هيأت لي المناخ المناسب لحفظ القرآن الكريم، و لم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري بكثير، هذا إلى جانب دراسات إسلامية، قضيت فيها الشطر المبكر من حياتي العلمية في معاهد المعلمين، و أخيرا فلقد كان وجودي بين اعضاء هيئة التدريس في قسم التاريخ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فرصة طيبة، و حاسمة، للاتجاه إلى دراسة الأحداث التاريخية، التي جاءت في القرآن الكريم.

و هكذا عقدت العزم- بعد أن استخرت اللّه سبحانه و تعالى- على أن أكتب في الأحداث التاريخية التي تعرض لها القرآن الكريم- دون غيرها- سلسلة من الأبحاث تحت عنوان «دراسات تاريخية من القرآن الكريم (1)» في خمسة أجزاء، و التي أرجو أن يوفقني اللّه إلى اخراجها في صورة طيبة، و على النحو التالي:- 1- دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الأول- في بلاد العرب 2- دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الثاني- في العراق

ص: 13


1- يعني هذا العنوان أن هذه الدراسة في أجزائها الخمسة، لن تتعرض للأحداث التاريخية التي جاءت في غير القرآن الكريم، و إنما سوف تكون مقصورة- إن شاء اللّه- على ما جاء من محكم التنزيل من أحداث دينية و سياسية، و اقتصادية و اجتماعية ... الخ، في بلاد العرب و في العراق و في مصر و في سورية، ثم يكون ختام المسك من هذه السلسلة، سيرة أشرف الأولين و الآخرين، نبي الرحمة و رسول السلام، رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلّم، كما جاءت في القرآن الكريم: و لعل هذه الإشارة الموجزة إنما توضح عنوان هذه السلسلة (دراسات تاريخية من القرآن الكريم)، أي التاريخ الذي جاء في القرآن الكريم فحسب، دون التعرض فيها لما جاء في المصادر التاريخية التقليدية، و لم يرد له ذكر في القرآن العظيم.

3- دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الثالث- في مصر 4- دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الرابع- في سورية (فلسطين).

5- دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الخامس- في السيرة النبوية الشريفة.

و أما هذا الجزء الأول من هذه السلسلة، فإنما يتعرض للأحداث التي أشار إليها القرآن، و التي كانت أرض العروبة، و موطنها الأول، مسرحا لها، و من ثم فإننا نراه يتحدث عن إبراهيم الخليل، و عن الكعبة المشرفة، ثم عن العاديين قوم هود، و الثموديين قوم صالح، و المديانيين قوم شعيب، فضلا عن أحداث أخرى كان لها دوي كبير في تاريخ العرب قبل الإسلام، كسيل العرم، و قصة أصحاب الأخدود، و أخيرا غزوة الفيل، و التي كانت واحدة من إرهاصات كثيرة، سبقت مطلع النور من مكة المكرمة، حيث ولد خاتم النبيين، و سيد المرسلين، و رسول رب العالمين، محمد رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم) و أما الفصول الثلاثة الأولى، فكانت دراسة في القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف، و اخيرا علم التفسير، حيث اعتمدت هذه الدراسة على القرآن الكريم، بصفته مصدرها الأول و الأساسي، ثم على حديث رسول (صلى اللّه عليه و سلّم)، و تفسير القرآن الكريم، بصفتهما المفسرين الأساسيّين لكتاب الله الكريم، و من هنا كان لزاما علينا أن نقدم للقارئ صورة موجزة عن مصادرنا الأساسية لهذه الدراسة.

و أما غير القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف و علم التفسير من مصادر، لا شك أنها أفادتنا كثيرا في دراستنا هذه، فلم تقدم عنها دراسة مستقلة لأنها مصادر مساعدة أو مصادر ثانوية، لم يكن عمادنا عليها إلا في

ص: 14

تفسير بعض الأحداث، أو تقديم و جهات نظر مختلفة، قد نتفق معها أحيانا، و قد نختلف معها أحيانا أخرى، و لكنها في كل الأحوال مصادر إنسانية- و ليست سماوية- ثم إنها ليست مصادر أصيلة في هذه الدراسة التي تبحث في «الدراسات التاريخية من القرآن الكريم».

و بعد: فلعل من حسن الطالع أن يسبغ اللّه فضله على صاحب هذه الدراسة، و أن تشملها هي عناية الرحمن، فتهيأ لها وسيلة النشر عن طريق جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لتخرجها إلى الناس في ثوب قشيب، جزى الله القائمين بالأمر في هذه الجامعة الإسلامية عن صنيعهم الجميل هذا خير الجزاء.

و أخيرا، فهذا نوع جديد من الدراسة التاريخية، تهيبت كثيرا قبل أن أخوض في غمار بحره المتلاطم، و لكني وجدت آخر الأمر أن التردد ليس في مصلحة البحث العلمي في كل الأحوال، ثم إنني ما زدت عن كوني باحثا يستحث خطاه في أول الطريق، و من ثم فعليه أن يضع لبنة في بناء هذا الصرح الشامخ، و على غيره من الباحثين أن يضعوا لبنات أكثر قوة، و أشد رسوخا، حتى تأتي أجيال أخرى فتقيم صرح الدراسات التاريخية القرآنية، كما أقامت أجيال سبقت صرح الدراسات اللغوية و الفقهية و غيرها من الدراسات التي اعتمدت على محكم التنزيل، فالقرآن الكريم كان- و ما يزال و سيظل أبد الدهر- «لا يشبع منه العلماء، و لا يمله الاتقياء، و لا يخلق على كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه».

و أملي من الله كبير أن تنال هذه الدراسة بعض الرضا.

«وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ».

محمد بيومي مهران

ص: 15

ص: 16

الفصل الأول القرآن الكريم

اشارة

ص: 17

ص: 18

[1] التدوين في عهد النبي صلى اللّه عليه و سلّم

القرآن الكريم كتاب الله الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)»، نزل على رسول اللّه- صلوات اللّه و سلامه عليه- منجما في ثلاث و عشرين سنة (2)، حسب الحوادث و مقتضى الحال (3)، و كانت الآيات و السور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى (صلى اللّه عليه و سلّم) إذا ما انزلت عليه آية أو آيات، قال: «ضعوها في مكان كذا ... من سورة كذا»، فقد ورد أن جبريل- عليه السّلام- كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي، فيقول له، يا محمد إن اللّه يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا»، و لهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن «توقيفي»، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنما هو بأمر و وحي من اللّه (4)

ص: 19


1- سورة فصلت: آية 42
2- قارن صحيح البخارى 6/ 96
3- نزل القرآن منجما فيما بين عامي 13 ق. ه، 11 ه (610- 632 م) لأسباب: منها تثبيت قلب النبي أمام أذى الكافرين، و منها التلطف بالنبي عند نزول الوحي و منها التدرج في تشريع الأحكام السماوية، و منها تسهيل حفظ القرآن و فهمه على المسلمين، و منها مسايرة الحوادث و الوقائع و التنبيه عليها في حينها، و منها الارشاد إلى مصدر القرآن و انه تنزيل الحكيم الحميد (محمد علي الصابوني: التبيان في علوم القرآن ص 40- 49، محمد عبد اللّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 33، محمد سعيد رمضان: من روائع القرآن ص 36- 41) و منها أن العرب كانوا أمة أمية، و الكتابة ليست فيهم رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها، و أندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة، إذ يكون بسوره و آياته عسيرا عليهم أن يكتبوه و إن كتبوه لا يعدموا الخطأ و التصحيف و التحريف (محمد أبو زهرة: القرآن ص 23- 24)
4- نفس المرجع السابق ص 27، 47- 49، السيوطي: الاتقان في علوم القرآن 1/ 48، 63، الزركشي: البرهان في علوم القرآن ص 234، 237، 241، السجستاني: كتاب المصاحف ص 31، مقدمتان في علوم القرآن ص 26- 32، 40، 41، 58، تفسير القرطبي 1/ 60، محمد علي الصابوني: المرجع السابق ص 59

و هكذا تمر الأيام بالرسول الكريم- صلوات الله و سلامه عليه- و هو على هذا العهد، يأتيه الوحي نجما بعد نجم، و كتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية (1)، حتى إذا ما كمل التنزيل، و انتقل الرسول الأعظم- عليه الصلاة و السلام- إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله مسجلا في صحف- و إن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، و لم يلزموا القراء توالي سورها (2)- و في صدور الحفاظ من الصحابة- رضوان اللّه عليهم- هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار، الذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن و مدارسته، و يبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره و حفظه، و يعلمونه أولادهم و زوجاتهم في البيوت، حتى كان الذي يمر ببيوت الأنصار في غسق الدجى، لا يسمع فيها إلا صوت القرآن يتلى، و حتى كان المصطفى- صلوات الله و سلامه عليه- يمر على بعض دور الصحابة، فيقف عند بعضها يستمع القرآن في ظلام الليل، و حتى روي عنه (صلى اللّه عليه و سلّم) أنه قال: «إني لأعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، و أعرف منازلهم من أصواتهم بالليل بالقرآن، و إن كنت لم أر منازلهم بالنهار» [رواه الشيخان .

و من هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم) لا يحصون، و تلك- ويم الله- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن

ص: 20


1- لعل أشهر كتاب الوحي- و الذين يقال أن عددهم بلغ تسعة و عشرين كاتبا- الخلفاء الاربعة و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و المغيرة بن شعبة و الزبير بن العوام و شرحبيل و عبد اللّه بن رواحه (أنظر فتح الباري 9/ 18) و كانوا يضعون ما يكتبونه في بيت النبي عليه الصلاة و السلام، ثم يكتبون لأنفسهم منه صورا أخرى يحفظونها لديهم (البرهان 1/ 238، الاتقان 1/ 58، محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 34- 35، من روائع القرآن ص 49- 51)
2- الاتقان في علوم القرآن 1/ 59، البرهان في علوم القرآن ص 235، مقدمتان في علوم القرآن ص 32، مقدمة كتاب المصاحف لآرثر جفري ص 5، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 49- 50

العظيم، حين يسره للحفظ، «وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (1)»، فكتب له الخلود، و حماه من التحريف و التبديل، و صانه من تطرق الضياع إلى شي ء منه، عن طريق حفظه في السطور، و حفظه في الصدور (2) مصداقا لقوله تعالى «وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (3)»، و قوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (4)»، و قوله تعالى «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (5)».

و لعل من الأفضل هنا أن نشير إلى أن القرآن الكريم، إنما كان مكتوبا كله عند الصحابة، قد لا يكون الأمر كذلك عندهم جميعا، أو عند واحد منهم بعينه، و لكنه كذلك عند الجميع، و أن ما ينقص الواحد منهم يكمله الآخر، و من ثم فقد تضافروا جميعا على نقله مكتوبا، و إن تقاصر بعضهم عن كتابته كمل الآخر، و كان الكمال النقلي جماعيا، و ليس أحاديا

على أن هناك بعض المؤرخين- و كذا بعض المستشرقين- إنما يذهبون إلى أن القرآن الكريم، إنما بقي حتى انتقال الرسول- صلوات الله و سلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، لم يجمع سورا، و لم ينتظم كتابا، فبقيت الآيات التي نزلت فرادى لم تضم إلى غيرها على الصورة التي نراها

---

(6) محمد أبو زهرة: القرآن ص 28

(7) انظر: عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية 1/ 250- 251

(8) 22. P 1959, naroC ua noitcudortnI, erehcalB. R و كذا 16. P, 1961, snarauQ sed ethcihcseG, ekedleoN. T.

ص: 21


1- سورة القمر. آية 32
2- أنظر: الدكتور محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم ص 12- 14
3- سورة فصلت: آية 41- 42
4- سورة الحجر: آية 9
5- سورة القيامة: آية 17- 19، و انظر: تفسير الطبري 1/ 95- 97

اليوم، فلما كان الجمع رتبت السور و نظمت في كتاب (1)، بل إن بعضهم ليذهب إلى حد ان ينسب إلى زيد بن ثابت، أنه قال: «قبض النبي و لم يكن القرآن جمع في شي ء» (2) .... إلى غير ذلك من ادعاءات لا يقصد بها وجه الله، فضلا عن البحث العلمي لذاته.

و الحق أن هؤلاء و أولئك قد جانبهم الصواب فيما ذهبوا إليه، فالأمر الذي لا شك فيه أن الآيات إنما جمعت سورا على عهد رسول اللّه- صلوات الله و سلامه عليه- و بتوقيفه، لأسباب كثيرة، منها (أولا) أن الإمام مالك- رضي الله عنه- كان يقول: «إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم) (3)»، و منها (ثانيا) أن عبد اللّه بن مسعود يقول: «قرأت من فيّ رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم)، بضعا و سبعين سورة، و قرأت عليه من (سورة) البقرة إلى قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (4)» (أي إلى آخر الآية: 222)، و منها (ثالثا) ما رواه البخاري و مسلم، عن أنس بن مالك، أنه قال: «جمع القرآن على عهد النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم)، أربعة كلهم من الأنصار (5)».

و منها (رابعا) أن زيد بن ثابت قد قرأ القرآن كله على رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم)، و منها (خامسا) ما تظاهرت عليه الروايات بأن الأئمة الأربعة قد جمعوا القرآن على عهد النبي- عليه الصلاة و السلام- لأجل سبقهم

ص: 22


1- محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 307
2- أنظر: 1923, hgrubnidE, dammahoM fo efiL ehT, riuM mailliW riS
3- تفسير القرطبي 1/ 60، محمد أبو زهرة: القرآن ص 48، قارن: مقدمتان في علوم القرآن ص 49
4- نفس المرجع السابق ص 30، تفسير القرطبي 1/ 58
5- الزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/ 241- 243

للإسلام، و إعظام الرسول، (صلى اللّه عليه و سلّم)، لهم (1)، و منها (سادسا) ما ورد عن رسول الله، (صلى اللّه عليه و سلّم)- من طريق عثمان رضي الله عنه- من أنه «كان (صلى اللّه عليه و سلّم)، تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشي ء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا»، و منها (سابعا) قول زيد بن ثابت:

«كنا عند النبي (صلى اللّه عليه و سلّم)، نؤلف القرآن من الرقاع (2)، مما يدل على أن كتبة الوحي كانوا يتحرون أن تكون آيات كل سورة مجموعة مرتبة، بعضها إلى بعض، في مكان خاص، حتى يسهل عليهم تنفيذ أمر النبي عند ما ينزل الوحي، ليوضع في مكانه المحدد (3).

و منها (ثامنا) ما روي عن ابن عباس من أن النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم)، كان أجود الناس بالخير، و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي- (صلى اللّه عليه و سلّم) القرآن (4)، و في حديث فاطمة الزهراء- رضي اللّه عنها و أرضاها- قالت: «أسر إلي النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم)، أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، و أنه عارضني العام مرتين، و لا أراه إلا حضور أجلي» (5).

و منها (تاسعا) ما جاء في قصة إسلام عمر بن الخطاب، من أن الرجل قد شكا له ما أحدثه الدين الجديد من فرقة بين أهل مكة،

ص: 23


1- محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 308- 309
2- الاتقان في علوم القرآن 1/ 60، مقدمتان في علوم القرآن ص 41- 42
3- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن. القاهرة 1966 ص 78- 79
4- نفس المرجع السابق ص 52، صحيح البخاري 1/ 287 (طبعة المطبعة البهية 1299 ه).
5- ابن كثير: فضائل القرآن ص 44، البرهان 1/ 232، مقدمتان في علوم القرآن ص 26، مدخل إلى القرآن الكريم ص 36، مجموع فتاوى شيخ الإسلام احمد بن تيمية 13/ 395

اضطرت كثيرين منهم إلى الهجرة إلى الحبشة، فهداه تفكيره إلى أن الخلاص من هذه الأزمة الحادة، إنما يكمن في «قتل محمد الذي فرق أمر قريش و عاب دينها»، و من ثم فقد خرج متوشحا سيفه، فلقيه نعيم بن عبد الله، و أخبره أن اخته فاطمة و زوجها سعيد بن زيد بن الخطاب، قد أسلما و تابعا محمدا، فما كان من عمر إلا أن أسرع إليهما، و هناك سمع عندهما من يقرأ القرآن، فبطش بهما حتى شج أخته، غير أنه ما لبث غير قليل، حتى ندم على ما أصابها، و طلب منها أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون فيها- و كان بها سورة طه- و قرأ ابن الخطاب ما بالصحيفة، فأخذه إعجازها و جلالها و سمو الدعوة التي تدعو إليها، فذهب إلى الرسول- (صلى اللّه عليه و سلّم) و أسلم على يديه (1)، و ليس من شك في أن هذه الصحيفة لم تكن إلا واحدة من صحف كثيرة متداولة بين أيدي الذين أسلموا من أهل مكة، سجلت سورا أخرى من القرآن الكريم، و لقد ظل الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم) بين المسلمين في مكة و المدينة ثلاث عشرة سنة بعد إسلام عمر، كان يقول خلالها لأصحابه «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه»، و كان طبيعيا أن يكتب الصحابة كل ما يستطيعون كتابته من القرآن لتلاوته في الصلاة، و لمعرفة أحكام الدين الذي يؤمنون به، كما كان يكتب القرآن كذلك أولئك الذين كان يوفدهم النبي إلى القبائل لتعليم أهلها القرآن، و تفقيههم في الدين، و هم لم يكونوا يكتبونه آيات متقطعة، بل سورا متصلة، يمليها رسول الله، (صلى اللّه عليه و سلّم) (2).

و منها (عاشرا) أن ما كان يوحي إلى النبي متصلا بوحي سبق إليه

ص: 24


1- ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2/ 84- 87، ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب ص 11- 12، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 173- 174
2- محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 309- 310

كان الوحي يلحقه به، و من ذلك أن جبريل قال للنبي (صلى اللّه عليه و سلّم) حين أوحى إليه قوله تعالى «وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» «يا محمد ضعها في رأس ثمانين و مائتين من البقرة (1)»، و منها (حادي عشر) إن ترتيب السور و وضع البسملة في الأوائل، إنما هو توقيف من النبي، عليه الصلاة و السلام، حتى أنه عند ما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة، تركت بلا بسملة، و الأمر كذلك بالنسبة إلى تقديم سورتي البقرة و آل عمران، رغم نزول بضع و ثمانين سورة قبلهما، ذلك لأنه (صلى اللّه عليه و سلّم) كان يقول: «ضعوا هذه السورة موضع كذا و كذا من القرآن (2)».

و منها (ثاني عشر) أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم)، كثيرا ما كان يتلو في الصلاة- و في غير الصلاة- سورة كاملة، منها البقرة و آل عمران و النساء و الاعراف و النجم و الرحمن و القمر و الجن و غيرها، و هذا كله صريح في الدلالة على أن ترتيب الآيات في السور قد تمّ بتوقيف النبي، و أنه قبض و هذا الجمع تام معروف للمسلمين، ثابت في صدور القراء و الحفاظ (3)، و منها (ثالث عشر) ما نقله الرواة من أن رسول الله، (صلى اللّه عليه و سلّم)، قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: اقرأ القرآن في كذا ليلة يدعوه إلى التيسير، و هو يقول: إني اطيق أكثر من ذلك، إلى أن قال له: اقرأ القرآن في ثلاث ليال (4)، و منها (رابع عشر) أن هناك كثيرا من أحاديث الرسول، (صلى اللّه عليه و سلّم)، تتحدث عن فضائل سور معينة (5).

ص: 25


1- نفس المرجع السابق ص 310، تفسير القرطبي 1/ 60- 61، مقدمتان في علوم القرآن ص 41،
2- تفسير القرطبي 1/ 59- 60، 8/ 61
3- مقدمتان في علوم القرآن ص 26- 27، 29- 31، الصديق ابو بكر ص 311
4- انظر روايات أخرى للحديث الشريف (مقدمتان في علوم القرآن) ص 27- 28
5- مقدمتان في علوم القرآن ص 29- 30، 64- 74 [مقدمة كتاب المباني و مقدمة ابن عطية، و قد صححه و نشره الدكتور آرثر جفري- القاهرة 1954 م

و منها (خامس عشر) ما تدل عليه الأخبار المروية عن النبي (صلى اللّه عليه و سلّم)، في تسمية سورة «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» فاتحة الكتاب، فلو لا أنه (صلى اللّه عليه و سلّم)، أمر اصحابه بأن يرتبوا هذا الترتيب عن أمر جبريل عليه السلام، عن اللّه عز و جل، لما كان لتسمية هذه السورة «فاتحة الكتاب» معنى، إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا، فثبت أنها فاتحته نظما و ترتيبا و تكلما، (1)، و منها (سادس عشر) ما يروى عن ابن عباس أن النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم)، لم يكن يعلم ختم السورة حتى نزل «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، و هذا أيضا من أدل الدليل على أن ترتيب السور التي في أيدينا هو ما كان عليه في اللوح المحفوظ (2)، و أن السورة كانت تنزل في أمر يحدث، و الآية جوابا لسؤال، و يوقف جبريل رسول الله على موضع السورة و الآية، فاتساق السور كاتساق الآيات و الحروف، فكله عن رسول الله، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، و غير الحروف و الكلمات (3).

[2] جمع القرآن في عهد أبي بكر

و جاء الصديق- رضي اللّه عنه و أرضاه- (11- 13 ه- 632- 634 م)، و كانت حروب الردة التي أبلى المسلمون فيها بلاء حسنا، و ليس من شك في أن أشدها عنفا و ضراوة، تلك التي دارت رحى الحرب فيها بين المسلمين- بقيادة خالد بن الوليد من ناحية، و بين المرتدين- بقيادة مسيلمة بن حبيب الكذاب- من ناحية أخرى، في

ص: 26


1- نفس المرجع السابق ص 41- 42
2- نفس المرجع السابق ص 41
3- تفسير القرطبي 1/ 50- 51، 61 (القاهرة 1967)

مكان من الصحراء في طرف اليمامة يسمى «عقرباء» (1)، و انتهت بفرار مسيلمة و أتباعه، إلا أن المسلمين تبعوه، و اشتبك الفريقان من جديد، و قتل مسيلمة و عشرة آلاف من أتباعه، كما استشهد كثير من وجوه المسلمين و قراء القرآن الكريم- قيل سبعون، و قيل قريب من خمسمائة، و قيل سبعمائة- و سمي المكان الذي دارت فيه المعركة «حديقة الموت»، كما سمي يوم المعركة «بيوم اليمامة» (2).

و بدأ عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- يحس بالخطر الداهم، الذي لاحت نذره في معركة اليمامة، و يوشك أن يلتهم كل حفاظ القرآن من الصحابة- رضي اللّه عنهم- و هم الشهود العدول على وثاقة النص المكتوب، و قد كان مفرقا في لخاف و كرانيف و عسب. أضلاع و أكتاف، إلى جانب ما كان في الصدور، و لم يأخذ بعد صورة الكتاب الواحد، اللهم إلا في صدور الصحابة الذين جمعوه حفظا في عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم) و قد بدأت الحرب تقرضهم واحدا إثر واحد (3).

و هكذا- و كما يروي الإمام البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت (4)- أن الفاروق عمر جاء إلى أبي بكر، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، و إني أخشى أن يستمر القتل بالقراء في كل المواطن،

ص: 27


1- أنظر عن «عقرباء»: ياقوت 4/ 135، البكري 3/ 950، كتاب الحربي ص 616 (حيث يضعها مكان بلدة الجبيلية الحالية على ضفة وادي حنيفة) ثم قارن: صحيح الأخبار 1/ 196، 2/ 169، 5/ 93
2- ياقوت 2/ 232، 4/ 442، مروج الذهب 2/ 303، تاريخ ابن خلدون 2/ 74- 76 من القسم الثاني، صحيح الأخبار 1/ 196، ابن الاثير 2/ 360- 367، تاريخ الطبري 3/ 281- 301، الاتقان 1/ 59، تفسير القرطبي 1/ 50، فضل القرآن ص 15- 17، الصديق ابو بكر ص 152- 168
3- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 102
4- صحيح البخاري 2/ 196 (طبعة البهية)

فيذهب من القرآن كثير، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن»، و يتردد الصديق بعض الوقت، خشية إن يفعل ما لم يفعله رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم) ثم ما يلبث أن يشرح اللّه صدره لهذا العمل الجليل، فيأمر باستدعاء زيد بن ثابت، حيث يكلفه بجمع القرآن، و يتردد زيد- كما تردد الصديق من قبل- لأنه لا يريد كصحابي أن يقوم بعمل ما لم يقم به النبي أو يأمر به، و لأنه كمؤمن يتحاشى مثل هذا العمل الخطير خشية أبسط الأخطاء و أتفهها في تنفيذ مهمته، و أخيرا يشرح اللّه صدره لذلك، و يتم الأمر بما كان محفوظا في صدور الرجال، و بما كان يكتب بين يدي رسول اللّه- (صلى اللّه عليه و سلّم) و يحفظ المصحف الشريف عند الصديق، ثم عند الفاروق عمر (13- 23 ه- 634- 644 م) من بعده، ثم عند أم المؤمنين «حفصة بنت عمر»- رضي اللّه عنهم أجمعين (1).

و لعل هدف الفاروق- رضي اللّه عنه و أرضاه- من هذه الطريقة لم يقتصر على حفظ المدون من التنزيل في مأمن من الأخطار، و في صورة يسهل الرجوع اليها، و إنما كان يقصد ايضا إقرار الشكل النهائي لكتاب اللّه الكريم و توثيقه عن طريق حفظته الباقين على قيد الحياة، و اعتماده من الصحابة الذين كان كل منهم يحفظ منه أجزاء كبيرة أو صغيرة (2).

ص: 28


1- الاتقان 1/ 59- 60، ابن الاثير 3/ 112، تفسير الطبري 1/ 59- 62، كتاب المصاحف ص 5- 10، 20، فضائل القرآن ص 14- 16، مقدمتان في علوم القرآن ص 17- 21 و كذا البرهان في علوم القرآن ص 233- 234، 239، تفسير القرطبي 1/ 49- 50، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 50- 51، الصديق أبو بكر ص 303- 312، محمد أبو زهرة القرآن ص 30- 31، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 251- 252 و كذا 2- 1261. PP, 14, IE
2- محمد عبد اللّه دراز: مدخل الى القرآن الكريم ص 36، و انظر: م. ج رستوفدوني: تاريخ القرآن و المصاحف ص 26- 27 (مترجم).

و لعل من الأهمية بمكان هنا الاشارة إلى أن الخليفة الراشد أبا بكر الصديق كان موفقا التوفيق كل التوفيق في مهمته الجليلة- و الخطيرة كذلك- لثقة الناس فيه (1)، ثم لاختياره للصحابي الجليل «زيد بن ثابت»، ذلك الاختيار الذي توفرت له كل عوامل النجاح، لأسباب منها (أولا) أن زيدا كان شابا، و من ثم فهو أقدر على العمل من غيره، و هو لشابه أقل تعصبا لرأيه و اعتزازه بعلمه، و ذلك يدعوه إلى الاستماع لكبار الصحابة من القراء و الحفاظ، و التدقيق في الجمع دون إيثار لما حفظه هو، و منها (ثانيا) أن زيدا إنما كان من حفاظ القرآن الكريم، فقد وعاه كله، و رسول اللّه حي، ثم هو (ثالثا) من كتاب الوحي لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم) و هو فوق ذلك، كان معروفا بشدة ورعه، و عظم أمانته، و كمال خلقه، و استقامة دينه، فضلا عن نبوغ و ذكاء، و لعل كل ذلك، ما كان يعنيه الصديق من قوله: «إنك رجل شاب عاقل و لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم)، فتتبع القرآن فأجمعه» (2)، و منها (رابعا) أنه من المتواتر أن زيدا إنما حضر العرضة الاخيرة للقرآن، حين عرضه رسول اللّه على جبريل للمرة الثانية، في السنة التي كانت فيها وفاته، (3)، و منها (خامسا) أن زيد بن ثابت- و إن كان في حداثة من السن في جانب أكابر الصحابة- فقد كان من أكابرهم في الفقه و الرأي، و كانت الرئاسة له بالمدينة في القضاء و الفتيا،

ص: 29


1- 205. P, tic- op, ekedleoN. T
2- الاتقان 1/ 59 البرهان ص 233، تفسير القرطبي 1/ 50، فضائل القرآن ص 14، تاريخ القرآن للزنجاني ص 17، مقدمتان في علوم القرآن 18، 25، 26، 51، 52، و أنظر لوبلوا حيث يقول- بعد أن أورد هذه الرواية- «من ذا الذي لم يتمن لو أن أحدا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة»( 47 .P ,1887 ,siraP ,euqiarbeH elbiB al te naroK el ,siolbeL )
3- تفسير القرطبي 1/ 53، محمد أبو زهرة: القرآن ص 28، عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 107، محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 321

و القراءة و الفرائض في عهد عمر و عثمان و علي (1).

و بدهي أن عملية جمع القرآن لم يقم بها زيد بن ثابت وحده، و إنما عاونه فيها الحفظة الكرام من صحابة النبي الاعلام، و أن زيدا سلك في سبيل الجمع الخطة المثلى، فما كان ليعتمد على حفظه- و إنه لحافظ- و لا على حفظ من استعان بهم- و انهم لحفاظ أمناء- و لكنه كان لا بد أن يعتمد على أمر مادي، يرى بالحس و لا يحفظ بالقلب وحده، فكان لا بد أن يرى ما حفظه مكتوبا في عصر النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم) و أن يشهد شاهدان بأنهما هكذا رأوا ذلك المكتوب في عصر النبي، و بإملائه عليه الصلاة و السلام، و قد تتبع القرآن بذلك آية آية، لا يكتب إلا ما رآه مكتوبا عن النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم)، في عهده، و يشهد شاهدان أنهما رأيا ذلك المكتوب في عهد النبي و نقلاه، أو يرى ذلك المكتوب عند اثنين، فهو شهادة كاملة منهما (2)، و يروي ابن أبي داود- من طريق هشام بن عروة عن أبيه- أن أبا بكر قال لعمر و زيد: «أقعدا على باب المسجد، فمن جاء كما بشاهدين على شي ء من كتاب اللّه فاكتباه» (3).

و هكذا يمكننا القول أن زيدا اتبع طريقة في الجمع نستطيع أن نقول عنها في غير تردد، أنها طريقة فذة في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، و أنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث، و أن الصحابي الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، و أن هذه الدقة في جمع القرآن، متصلة بايمان زيد باللّه، فالقرآن كلام اللّه جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدا- في حسن إسلامه و جميل صحبته لرسول اللّه- أن يتنزه عنه، و لقد شهد المنصفون من

ص: 30


1- احمد أمين: فجر الاسلام ص 175، مقدمتان في علوم القرآن ص 50- 51
2- محمد أبو زهرة: القرآن ص 31- 32، الاتقان في علوم القرآن 1/ 60
3- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 106، الاتقان 1/ 60

المستشرقين جميعا بهذه الدقة، حتى ليقول «سير وليم موير»، «و الأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل أربعة عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه و دقته» (1).

و يعلق الاستاذ أبو زهرة على هذا العمل الجليل الذي اشترك فيه الشيخان- أبو بكر و عمر- و حمل عبأه زيد بن ثابت، مع جمع من المهاجرين و الأنصار، بحقيقتين هامتين، تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف و التغيير و التبديل، و أنه مصون بصيانة اللّه سبحانه و تعالى له، و محفوظ بحفظه، و إلهام المؤمنين بالقيام عليه و حياطته، أما أولى الحقيقتين، فهي أن عمل زيد هذا لم يكن كتابة مبتدأة، و لكنه إعادة لمكتوب، فقد كتب القرآن كله في عهد النبي، (صلى اللّه عليه و سلّم) و عمل زيد الابتدائي هو البحث عما كتب عليه و التأكد من سلامته، بشهادة اثنين على الرقعة التي توجد فيها الآية أو الآيتان أو الآيات، و بحفظ زيد نفسه، و بالحافظين من الصحابة- و قد كانوا الجم الغفير و العدد الكبير- فما كان لأحد أن يقول إن زيدا كتب من غير أصل مادي قائم، بل إنه أخذ من أصل قائم ثابت مادي، و أما الحقيقة الثانية، فهي أن عمل زيد لم يكن عملا آحاديا، بل كان عملا جماعيا من مشيخة صحابة رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم)، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده من القرآن شي ء مكتوب أن يجي ء به إلى زيد، و إلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، و اجتمع لزيد من الرقاع و العظام و جريد النخل و رقيق الحجارة، و كل ما كتب أصحاب رسول اللّه، و عند ذلك بدأ زيد يرتبه و يوازنه و يستشهد عليه، و لا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى اثباتها، كما أوحيت إلى رسول اللّه، و استمر الأمر كذلك، حتى إذا ما أتمّ زيد ما

ص: 31


1- محمد حسين هيكل: المرجع السابق ص 323، و كذا 1923 ,hgrubnidE ,malsI fo yrotsiH dna dammahoM fo efiL ehT ,riuM mailliW riS

كتب، تذاكره الناس، و تعرفوه و أقروه، فكان المكتوب متواترا بالكتابة، و متواترا بالحفظ في الصدور، و ما تمّ هذا لكتاب في الوجود غير القرآن، و تلك- ويم اللّه- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم (1).

[3] مصحف عثمان

و تمر الأيام، و تمضي السنون، و في عهد ذي النورين- عثمان بن عفان، رضي اللّه عنه و أرضاه- (24- 35 ه- 644- 656 م) تتسع الفتوحات الإسلامية، و يتفرق المسلمون في الأقطار و الأمصار، و يشرح اللّه صدر الخليفة الراشد إلى جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، و ذلك في العام الرابع و العشرين (أو أوائل الخامس و العشرين) من هجرة المصطفى- عليه الصلاة و السلام- ثم كتب منه سبعة مصاحف (2)، و بعث منها إلى كل من مكة و الشام و اليمن و البحرين و البصرة و الكوفة، و حبس بالمدينة واحدا (3)، و يبدو أن عبد اللّه بن مسعود، قد خالطه شي ء من غضب- كما سنوضح ذلك فيما بعد- و من ثم فقد أمر أصحابه بغل مصاحفهم، لما أمر عثمان بحرق ما عدا المصحف الإمام، غير أن الصحابي الجليل سرعان ما عاد إلى رأي جماعة المسلمين، و يروى أن الإمام علي- كرم اللّه وجهه- قال: «لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا»، و هكذا يتفق الأئمة الأربعة (أبو بكر و عمر و عثمان و علي)، على أن ذلك العمل العظيم، إنما كان من

ص: 32


1- محمد أبو زهرة: القرآن ص 33- 35، الصديق أبو بكر ص 322- 323
2- اختلف العلماء في عدد هذه المصاحف، فمن قائل أنظر أربعة، و أن الخليفة بعث بها إلى الكوفة و البصرة و الشام، و ترك واحدا بالمدينة، و من قائل خمسة، و من قائل أنها سبعة (الاتقان 1/ 62، البرهان 2/ 240 و كذا 234. P, tic- po, ekedleoN. T)
3- كتاب المصاحف ص 34

مصلحة الدين (1) و يرى العلماء أن الفرق بين جمع أبي بكر و جمع عثمان، أن الأول كان عبارة عن جمع القرآن و كتابته في مصحف واحد مرتب الآيات على ما وقفهم عليه النبي (صلى اللّه عليه و سلّم) خشية أن يذهب من القرآن شي ء، بسبب موت كثير من الحفاظ بعد موقعة اليمامة، و أن الثاني كان عبارة عن نسخ عدة نسخ من المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر لترسل إلى البلاد الإسلامية، و أن السبب في ذلك، إنما هو إختلاف بعض القراء في قراءة آيات من القرآن الكريم، ذلك أن «حذيفة بن اليمان»- فيما يروي الإمام البخاري في باب فضل القرآن، عن أنس بن مالك- قدم علي على عثمان بن عفان، بعد غزوة في أذربيجان و أرمينية، رأى فيها القوم من أهل العراق و الشام مختلفين على قراءة القرآن، فأخبره بالذي رأى، و طلب منه أن يدرك الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن إختلاف اليهود و النصارى في الكتب، و من ثم فإن الخليفة سرعان ما يرسل في طلب المصحف الذي عند حفصة، و يأمر زيد بن ثابت و سعيد بن العاص و عبد اللّه بن الزبير و عبد الرحمن بن هشام، أن ينسخوها في المصاحف، و قال لهم: «إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم»، ففعلوا ذلك حتى كتبت في المصاحف (2)، و يروى أن هناك خلافا قد حدث على كتابة كلمة

ص: 33


1- فضائل القرآن ص 18- 19 البرهان 1/ 230، تفسير القرطبي 1/ 52- 55، فتاوى ابن تيمية 4/ 399- 400، محمد أبو زهرة: القرآن ص 44- 46، و كذا 92. P, 2. 1938, snaruQ sed ethcihcseG, yllawhcS
2- الإتقان 1/ 60- 63، فتاوى ابن تيمية 15/ 251- 252، تفسير القرطبي 1/ 60- 62، السجستاني ص 18- 26 صحيح البخاري 6/ 98، فضائل القرآن ص 19، مقدمتان في علوم القرآن ص 51- 52، فتاوى ابن تيمية 13/ 396، قارن 13/ 409- 410، و كذا 53. P, tic- po, erehcalB. R و كذا 1078. P, IE و كذا عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 250- 252

«التابوت» التي جاءت في قوله تعالى: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» (1)، أ يكتبونه بالتاء أو الهاء، فقال زيد: إنما هو «التابوة»، و قال الثلاثة القرشيون: إنما هو «التابوت»، فتراجعوا إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم» (2).

و القضية التي ينبغي أن نناقشها الآن- فيما يرى الدكتور عبد الصبور شاهين- هي أهمية عمل عثمان من الناحية القرائية، فإذا كان عمل عثمان مقتصرا على نسخ مصاحف عدة من المصحف الذي كتبه زيد في عهد أبي بكر، فأية قيمة يمكن أن تكون لهذا العمل؟ و قد يزداد الأمر أهمية، إذا ما علمنا أن مصحف أبي بكر كان مكتوبا- كما هو المنطق- على حرف واحد، و الأمر كذلك بالنسبة إلى كتاب الوحي على عهد رسول اللّه، و إذا كان زيد بن ثابت- طبقا لما ورد في الأحاديث الصحيحة- من أكثر كتاب الوحي ملازمة لرسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم) ثم هو قد قام بكتابته على عهد أبي بكر، و على عهد عثمان، فان ذلك يدلنا على أن منهج الكتابة كان واحدا في المراحل الثلاثة تقريبا، إلا ما ارتآه عثمان من تجريد رسمه من الإعجام حتى يتسع الرسم لكثير من الوجوه التي صح نقلها عن النبي (صلى اللّه عليه و سلّم)، أي إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة التي كانت تدخل في إطار النص المدون، و لها أصل نبوي مجمع عليه، ثم إن هدفا آخر قد تحقق بعمل عثمان، هو التقريب اللغوي ما بين وجوه القراءة المتلوة آنذاك في الأمصار المختلفة، و القضاء على الخلاف الذي كاد أن يعصف

ص: 34


1- سورة البقرة: آية 248 و انظر: و تفسير الطبري 5/ 315- 328، تفسير الكشاف 1/ 293- 294 (دار الكاتب العربي- بيروت)، تفسير ابن كثير 1/ 445- 446، تفسير و جدي ص 51
2- تفسير القرطبي 1/ 54، فضائل القرآن ص 20، البرهان 1/ 376، الاتقان 1/ 98، مدخل الى القرآن الكريم ص 38- 39، مقدمتان في علوم القرآن ص 19، محمد أبو زهرة ص 39

بوحدة الجماعة، أي أن عمل عثمان كان من مقاصده أساسا نشر النص القرآني بلسان قريش، و إرساء هذا التقليد اللغوي الذي سبقته مقدمات كثيرة في عهد أبي بكر و عمر، رضي اللّه عنهما، ذلك لأن الخليفة الراشد إنما كان يعتبر التمارى في القرآن نوعا من الكفر (1).

و من ثم فليس صحيحا ما ذهب إليه البعض من أنه قد يكون هناك غرض سياسي بقصد التقليل من نفوذ القراء الذي تزايد بسبب أنهم وحدهم الذين يعرفون مضمون القرآن، بأن يوجد له نصا مقروءا (2)، فما كان للسياسة دخل عند صحابة رسول اللّه في شئون القرآن الكريم.

و على أي حال، فلقد ساعد عثمان على تحقيق أهدافه من جمعه للقرآن، أنه قد أمر بإحراق كل ما عدا مصحفه من صحف أو مصاحف كان قيّدها الصحابة و الآخذون عنهم، و قد انصاع الناس لأمره في سائر الأمصار، فيما عدا ما روي عن عبد اللّه بن مسعود من أنه عارض ذلك، و أمر الناس في الكوفة بالتمسك بمصحفه- كما أشرنا آنفا- لشبهة اعترته، هي ظنه أن زيدا قد انفرد بالعمل، و قد كان هو أولى من يقوم به، فلما علم بعد ذلك أن موقفه قائم على شبهة لا أكثر، و أن المصحف الذي أرسله عثمان هو نسخة من جمع أبي بكر، الذي أخذ عن صدور الرجال، و عن العسب و اللخاف، التي كتبت على عهد رسول اللّه و بإملائه، و إن زيدا لم ينفرد بالعمل، بل شاركه فيه جمع كبير من الصحابة، و أجمع عليه المسلمون جميعا، وافق اقتناعا أولا، و حفاظا على وحدة الأمة ثانيا، و بذلك تمت موافقة الأمة كلها على مصحف عثمان، حتى قال مصعب بن

ص: 35


1- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 116- 117، البرهان 1/ 235- 236، البخاري 3/ 196- 197
2- عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 252، قارن 60- 56. PP tic- co, erehcalB. R

سعد: «أدركت الناس متوافرين حين أحرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، و قال: لم ينكر ذلك منهم أحد»، و قال الإمام علي- كرم اللّه وجهه- لرجل كوفي عاب عثمان بجمع الناس على المصحف، «اسكت، فمن ملأ منا فعل ذلك، فلو وليت منه ما وليّ عثمان لسلكت سبيله» (1).

و يقرر «نولدكه» أن ذلك كله يعد أقوى دليل على أن النص القرآني على أحسن صورة من الكمال و المطابقة (2)، كما يؤكد «لوبلوا» أن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير (3)، و كان «سيروليم موير» قد أعلن من قبل: أن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، و لقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها و المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، و هذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة و دليل على صحة النص المنزل الموجود معنا (4).

و هكذا يبدو واضحا- من كل ما سبق- أنه ليس صحيحا ما يزعمه البعض من أن جمع القرآن قد تأخر إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان (5)،

ص: 36


1- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 117، كتاب المصاحف ص 13- 18، فضائل القرآن ص 22- 23، تفسير القرطبي 1/ 52- 54، مقدمتان في علوم القرآن ص 45- 46، ابن الاثير 3/ 111- 112، محمد أبو زهرة: القرآن ص 44، مدخل الى القرآن الكريم ص 49- 50
2- 93. P, tic- po, ekedleoN. T
3- مدخل إلى القرآن الكريم ص 40 و كذا،, tic- po siolbeL
4- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 40، و كذا dammahoM fo efiL ehT, riuM. W temohaM, erialiH. tS. B و كذا 33. P, naroK el te
5- عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 18، و كذا 59- 55. P. P. malsI, emuatliuG. A

ذلك لأن القرآن الكريم كان كله مسجلا في صحف- و إن كانت مفرقة- و في صدور الصحابة، قبل أن ينتقل الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم) إلى الرفيق الأعلى، و أنه قد جمع في مصحف واحد على أيام الصديق، و أن هذا المصحف قد أودع عنده، ثم عند الفاروق من بعده، ثم عند حفصة أم المؤمنين (1)، و في عهد عثمان- رضي اللّه عنهم أجمعين- نسخت منه عدة نسخ أرسلت إلى الآفاق الإسلامية، بمشورة من حضره من صحابة رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلّم)، و أن الإمام علي- كرم اللّه وجهه- قد ارتضى هذا العمل الجليل و حمد أثره (2)، و معنى هذا ببساطة أن المصحف الذي كتب على أيام أبي بكر- هو نفس المصحف الذي كتب على أيام الرسول- صلوات اللّه و سلامه عليه- و هو نفسه الذي كتب على أيام عثمان (3)، و بالتالي فإن كل قراءة قرآنية يجب أن تكون متفقة مع نصه، و أن الشك فيه كفر، و أن الزيادة عليه لا تجوز، و أنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة (4).

ص: 37


1- فضائل القرآن ص 15، كتاب المصاحف ص 5، مقدمتان في علوم القرآن ص 23، البرهان 1/ 59
2- هناك رواية تنسب فضل السبق في جمع القرآن إلى الإمام علي كرم اللّه وجهه، إذ يروي أشعث عن ابن سيرين أنه لما توفي الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم)، أقسم على ألا يرتدي برداء إلا لجمعة، حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل، فأرسل أبو بكر إليه بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا و اللّه، إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة، فبايعه ثم رجع، و يقول السجستاني: أن أحدا لم يذكر كلمة مصحف إلا أشعث، و هو لين الحديث، و إنما رووا حتى أجمع القرآن، يعني أتم حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القرآن، قد جمع القرآن (انظر: كتاب المصاحف ص 10، الاتقان 1/ 59، تاريخ القرآن ص 104- 105) و الأمر كذلك بالنسبة الى جمع عمر بن الخطاب (كتاب المصاحف ص 10- 11) إلا إذا كان المراد أول من أشار بجمعه (الاتقان 1/ 58)
3- للمقارنة بين تدوين القرآن الكريم و غيره من الكتب المقدسة، أنظر عن التوراة (كتابنا إسرائيل ص 24- 45) و عن الانجيل (المدخل الى الكتاب المقدس، احمد شلبي: المسيحية ص 153- 160)
4- محمد أبو زهرة: القرآن ص 43، تفسير القرطبي 1/ 80- 86، فتاوى ابن تيمية 13/ 420- 421، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 51- 55، و كذا XXIX- VIX. P, tic- po, riuM. W
[4] القرآن كمصدر تاريخي

القرآن الكريم كمصدر تاريخي لا ريب أنه أصدق المصادر و أصحها على الاطلاق، فهو موثوق السند- كما بينّا آنفا- ثم هو قبل ذلك و بعده كتاب اللّه الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)»، و من ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه (2) بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، فقد دون في البداية بإملاء الرسول، (صلى اللّه عليه و سلّم)، و تلي فيما بعد و حمل تصديقه النهائي قبل وفاته (3)، و لأن القصص القرآني إنما هو أنباء و أحداث تاريخية، لم تلتبس بشي ء من الخيال، و لم يدخل عليها شي ء غير الواقع (4)، و أنه كما يقول سبحانه و تعالى «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ» (5)، ثم أن اللّه عز و جل قد تعهد- كما أشرنا من قبل- بحفظه دون تحريف أو تبديل.

و يرى الدكتور دراز أن تسمية القرآن الكريم، بالقرآن و بالكتاب، إنما تعني الأولى كونه متلوا بالألسن، بينما تعني الثانية كونه مدونا بالأقلام، و أن في تسمية القرآن الكريم بهذين الاسمين، إشارة إلى أن اللّه سوف يحفظه في موضعين، لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور و السطور جميعا، أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى، فلا ثقة لنا لحفظ حافظ، حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، و لا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح

ص: 38


1- سورة فصلت: آية 42
2- طه حسين: في الأدب الجاهلي- القاهرة 1933 ص 68
3- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 49
4- عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني، القاهرة 1964 ص 52
5- سورة الإسراء: آية 105

المتواتر (1).

و بهذه العناية المزدوجة التي بعثها اللّه في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها، بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد اللّه الذي تكفل بحفظه، حيث يقول «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (2)، و لم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف و التبديل و انقطاع السند، حيث لم يتكفل اللّه بحفظها، بل و كلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: «وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ» (3)، أي بما طلب إليهم حفظه، و السر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جي ء بها على التوقيت لا التأييد، و أن هذا القرآن جي ء به مصدقا لما بين يديه من الكتب و مهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء اللّه زيادته، و كان سادا مسدها و لم يكن شي ء فيها يسد مسده، فقضى اللّه أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، و إذا قضى اللّه أمرا يسر له أسبابه، و هو الحكيم العليم (4).

غير أني أودّ أن أنبه- بعد أن أستغفر ربي العظيم كثيرا- إلى أن القرآن الكريم لم ينزّل كتابا في التاريخ، يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، و إنما هو كتاب هداية و إرشاد للتي هي أقوم (5)، أنزله اللّه، سبحانه و تعالى- ليكون دستورا للمسلمين، و منهاجا يسيرون

ص: 39


1- محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم، و نظرات جديدة في القرآن من 12، 13
2- سورة الحجر: آية 9
3- سورة المائدة: آية 44
4- محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم ص 13، 14
5- سورة الإسراء: آية 9

عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد (1) و إلى تهذيب النفوس، و إلى وضع مبادئ للأخلاق (2)، و ميزان للعدالة في الحكم (3)، و استنباط لبعض الأحكام (4)، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية، فإنما للعبرة و العظة (5).

و في الواقع إن في القرآن الكريم لقصصا شتى من غير قصص الدعوة، أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة، و لكنها تراد كذلك لعبرتها، و لا تراد لأخبارها التاريخية، و منها قصة يوسف، و قصة إسماعيل عليهما السلام، فقصة يوسف قصة إنسان قد تمرس منذ طفولته بآفات الطبائع البشرية، من حسد الأخوة، إلى غواية المرأة، إلى ظلم السجن، إلى تكاليف الولاية و تدبير المصالح في إبان الشدة و المجاعة، و قصة إسماعيل تتخللها هذه التجارب الإنسانية من عهد الطفولة كذلك، فيصاب بالغربة المنقطعة عن العشيرة و عن الزاد و الماء، و إن كان الأخطر من ذلك كله أن تكتب عليه التجارب الإنسانية ضريبة الفداء، و هي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت- في معظم مجتمعات الشرق القديم- لا تتورع عن الذبائح البشرية، و بين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة، و لكنها تتورع عن ذبح الإنسان، ثم يكتب لهذا الغلام الوحيد بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، أن تنتمي إليه أمة ذات شعوب و قبائل تتحول على يديها تواريخ العالم على مدى الأيام (6).

ص: 40


1- انظر مثلا في قصة نوح (سورة نوح آية 2- 20) و في قصة يوسف (يوسف: آية 37- 40) و في قصة عيسى (النساء: آية 171- 172، آل عمران: آية 59، المائدة: آية 71، 76)
2- أنظر مثلا (البقرة: آية 44، الاعراف: آية 85- 87، هود: آية 84- 88)
3- أنظر مثلا في قصة داود (ص: آية 21- 26)
4- أنظر مثلا في قصة هابيل و قابيل (المائدة: آية 27- 32، 42- 50، البقرة: آية 178- 179)
5- راجع عن أهداف القرآن و مقاصده: تفسير المنار 1/ 206- 293
6- عباس العقاد: الإسلام دعوة عالمية ص 218- 219

و هكذا، و عن طريق القصص القرآني، يقدم لنا كتاب اللّه العزيز، معلومات هامة عن عصور ما قبل الإسلام و أخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، فيقدم لنا- عن طريق قصة موسى- كثيرا من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية، و عن الأحوال السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية فيها (1)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى قصة إبراهيم، حيث تقدم لنا الكثير عن العراق القديم (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم، إنما هما قصتا إبراهيم و موسى عليهما السلام، فهما قصتان مسهبتان في أجزائه، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارة الإنسانية و هما أمة وادي النهرين و أمة وادي النيل، و من أجل ذلك كانت القصتان أو في القصص بين جميع قصص الأنبياء، و كانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم (3).

و أما عن بني إسرائيل، فليس هناك من شك في أنه ليس هناك كتاب سماوي- حتى التوراة نفسها- قد فصل الحديث عن بني إسرائيل، و أفاض في وصف يهود و أحوالهم و أخلاقهم، و أبان مواقفهم من الأنبياء، كما فعل القرآن الكريم، و صدق اللّه العظيم، حيث يقول: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (4).

ص: 41


1- انظر عن قصة موسى (البقرة: آية 47- 74، الأعراف: آية 103- 155، يونس: آية 75- 93، طه: آية 9- 99، الشعراء: آية 10- 68، القصص: آية 3- 44، غافر:آية 23- 54)
2- أنظر عن قصة إبراهيم (البقرة: آية 258، الإنعام: آية 74- 83، مريم: آية 41- 50، الأنبياء: آية 51- 73، الشعراء: آية 69- 89، الصافات: آية 83- 113
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 218
4- سورة النمل: آية 76

و أما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب اللّه الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام- و أعني بها سورة سبأ- هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد- دون غيره من الكتب المقدسة- بذكر أقوام عربية بادت، كقوم عاد (1) و ثمود (2)، فضلا عن قصة أصحاب الكهف (3) و سيل العرم (4)، و قصة أصحاب الأخدود (5) إلى جانب قصة أصحاب الفيل (6)، و هجرة الخليل و ولده إسماعيل عليهما السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك (7)، و صدق اللّه العظيم، حيث يقول «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (8)، و يقول: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ» (9)، و يقول: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (10)، و يقول: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً

ص: 42


1- الاعراف: آية 65، هود: آية 50- 60، الشعراء: آية 123- 140
2- الاعراف: آية 73- 79، هود: آية 61- 68، الشعراء: آية 141- 159
3- سورة الكهف: آية 9- 26
4- سورة سبأ: آية 15- 19
5- سورة البروج: آية 4- 10
6- سورة الفيل
7- سورة البقرة: آية 124- 131، سورة إبراهيم: آية 35- 41
8- سورة هود: آية 49
9- سورة يوسف آية 102
10- سورة آل عمران: آية 44

ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (1) و يقول: «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (2) و يقول «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (3) و يقول «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (4).

و صدق رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم) حيث يقول في وصف القرآن:

«كتاب اللّه تبارك و تعالى، فيه نبأ من قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه، هو حبل اللّه المتين و نوره المبين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، و هو الذي لا يزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة، و لا تتشعب معه الآراء، و لا يشبع منه العلماء، و لا يمله الأتقياء، و لا يخلق على كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه، و هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، من علم علمه سبق، و من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به أجر، و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم (5)».

على أنه يجب أن نلاحظ جيدا، أن هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ لهذا القصص، و إنما عبرا تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين،

ص: 43


1- سورة القصص: آية 44- 46
2- سورة هود: آية 120
3- سورة الكهف: آية 13
4- سورة يوسف: آية 111
5- الاتقان 2/ 151، سنن الترمذي 2/ 149، مقومتان في علوم القرآن ص 59، تفسير القرطبي 1/ 5، محمد ابو زهرة: القرآن ص 15

و زجرا لخصوم الإسلام من قريش، ثم تثبيتا لقلب النبي (صلى اللّه عليه و سلّم) أمام أذى الكافرين، حيث شاءت رحمة اللّه بالمصطفى المختار، أن تخفف عنه الشدائد و الآلام، عن طريق قصص الأنبياء و المرسلين، حيث يذكره اللّه- جل و علا- بما لاقاه أخوة كرام له من عنت الضالين، و بغي الكافرين، فما وهنوا و ما استكانوا، و ما ضعفوا و ما تخاذلوا، و لكنهم صبروا و صابروا، و من هنا يخاطب اللّه رسوله الكريم في كتابه العزيز: «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (1)، كما أن في هذا القصص بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، و الجبابرة الذين طغوا في البلاد، و أكثروا فيها الفساد، و اللّه من ورائهم محيط (2)، و مع ذلك فيجب ألا يغيب عن بالنا- دائما و أبدا- أن هذا القصص إن هو إلا الحق الصراح، و صدق اللّه حيث يقول «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (3)، و يقول «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (4)، و يقول: «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» (5)، و يقول: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» (6)، و يقول:

«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (7)، و يقول: «وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ» (8)، و يقول: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» (9)، و يقول «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ

ص: 44


1- سورة هود: آية 120
2- محمد أبو زهرة: القرآن ص 203
3- سورة النساء: آية 87
4- سورة آل عمران: آية 62
5- سورة البقرة: آية 252
6- سورة آل عمران: آية 3
7- سورة الكهف: آية 13
8- سورة فاطر: آية 31
9- سورة الرمز: آية 2 و أنظر الآية 41

يُؤْمِنُونَ» (1) و يقول «وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (2).

و من هنا فليس صحيحا ما ذهب إليه البعض، من أن المنطق العاطفي هو الذي يسود القصة التاريخية في القرآن الكريم، و معنى هذا أن القصص التاريخي في القرآن، إنما هو قصص أدبي أولا و أخيرا، و أن الأساس الذي كان يلحظه القرآن دائما في نفوس المعاصرين للنبي عليه الصلاة و السلام، إنما هو القدرة على التأثير (3) و أن مقابلة القصص القرآني و أحداثه و شخصياته بالحقائق التاريخية يكشف عن مفارقات كبيرة تفتح المجال لمن يريدون أن ينالوا من القرآن و أن يشككوا في صحته، و في صدق النبي، و أنه تلقى القرآن من السماء (4)، ذلك لأنك إن قرأت ما ورد في القرآن الكريم من قصص، فإنك لن تجد شيئا من المبالغات التي وصلت إلينا في كتب التاريخ، أو في توراة اليهود المتداولة اليوم، فضلا عن أن ما ذكره القرآن الكريم صحيحا تؤيده الاكتشافات الحديثة (5) و من عجب أن المستشرقين إنما قد سبقوا أصحاب هذا الإتجاه، إلى الشك فيما جاء في القرآن الكريم، و ليس له نظير في التوراة- كقصة عاد و ثمود- ثم سرعان ما تبيّن لهم أن عادا و ثمودا مذكورتان في جغرافية بطليموس، و أن هناك الكثير من النصوص التاريخية التي تتحدث عن ثمود- كما سنرى فيما بعد- فضلا عن أن الكتاب اليونان و الرومان، إنما ذكروا اسم عاد مقرونا باسم إرم، كما جاء في القرآن الكريم (6) و صدق اللّه العظيم، حيث

ص: 45


1- سورة الجاثية: آية 6
2- سورة محمد: آية 2
3- محمد احمد خلف اللّه: الفن القصصي في القرآن ص 137- 138، 248، 305، 337
4- مقدمة كتاب الفن القصصي في القرآن، و كذا ص 174- 177، عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني ص 295، 320- 339. و راجع: محمود شلتوت: تفسير القرآن الكريم، القاهرة 1973 ص 45- 50، 273 (رأيه في الأمثال المضروبة في القرآن). FFI 6. P, naroK eht fo secruoS ehT, lladsiT. S
5- جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص 13
6- عباس العقاد: مطلع النور، أو طوالع البعثة المحمدية ص 61

يقول: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (1)، و حيث يقول «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» (2)، و حيث يقول «وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» (3).

و ليس صحيحا كذلك ما ذهب إليه البعض من أنه لا شك أن إشارات القرآن الكريم إلى كثير من القصص، إنما هو دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائد الذي كان يتداوله الناس في بلاد العرب (4)، ذلك لأن العرب ما كانوا يعرفون شيئا عن كثير من قصص القرآن، و على سبيل المثال، فإن القرآن الكريم يختم قصة نوح بقوله تعالى «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا»، فلو كان العرب يعرفون هذه القصة مثلا، و أنها كانت من قصصهم الشعبي الذي يتداولونه في أسمارهم، أ فكان العرب- و فيهم أشد أعداء النبي- من يسكت على قوله تعالى «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا»؟

أ ليس من المنطق أن أعداء المصطفى، (صلى اللّه عليه و سلّم)- و قد كانوا دائما على يقظة يتمنون أقل ثغرة، ليوجهوا من خلالها ضرباتهم، و يحولوها إلى سخرية و استهزاء- سوف يجيبونه أنهم يعرفون القصة، بل و أنها من أساطيرهم التي تفيض بها مجالسهم و نواديهم، و لكن التاريخ لم يحدثنا عمن أنكر على الرسول هذه الآية الكريمة، مما يدل على أن ما جاء به القرآن الكريم

ص: 46


1- سورة المائدة: آية 48، و أنظر تفسير أبي السعود 3/ 33 و تفسير الكشاف 1/ 639- 640، تفسير روح المعاني 6/ 151- 155، تفسير الطبرسي 6/ 110- 113، في ظلال القرآن 6/ 178- 182 (دار إحياء التراث العربي- بيروت 1961)، تفسير الطبري 10/ 377- 391 (دار المعارف- القاهرة 1957)
2- سورة الإنعام: آية 92
3- سورة فاطر: آية 31
4- الأدب العربي الحديث ص 302 (من مقررات طلاب البكالوريا الأدبية السورية)، محمد سعيد رمضان البوطي: من روائع القرآن- دمشق 1972، ص 237.

من أخبار الأمم البائدة، كان شيئا يكاد يجهله العرب جهلا تاما، و إن كان يعلم بعضا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة و الإنجيل (1).

[5] القصص القرآني و التوراة

و ليس صحيحا كذلك ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن القرآن الكريم، قد اعتمد إلى حد كبير في قصصه على التوراة و الإنجيل (2)، و زاد بعض من تابعهم من الباحثين العرب على ذلك أن القرآن الكريم جعل هذه الأخبار مطابقة لما في الكتب السابقة، أو لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار، حتى ليخيل إلينا أن مقياس صدقها و صحتها من الوجهة التاريخية، و من وجهة دلالتها على النبوة و الرسالة، أن تكون مطابقة لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار (3)، و ذهب «مالك بن نبي» أن هناك تشابها عجيبا بين القرآن و الكتاب المقدس (التوراة و الانجيل)، و أن تاريخ الأنبياء يتوالى منذ إبراهيم إلى زكريا و يحيى و مريم و المسيح، فأحيانا نجد القرآن يكرر نفس القصة، و أحيانا يأتي بمادة تاريخية خاصة به مثل هود و صالح و لقمان و أهل الكهف و ذي القرنين (4)، و من عجب أن صاحب كتاب «من روائع القرآن» ينقل عنه- فيما يزعم- أن القرآن جاء بقصص الأنبياء السابقين و الأمم الغابرة، على نحو يتفق جملة و تفصيلا مع ما أثبتته التوراة و الإنجيل من عرض تلك الأخبار و القصص، و أن ذلك دليل لا يقبل الشك بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى (5)، و لكنه وحي من اللّه

ص: 47


1- نفس المرجع السابق ص 238- 240
2- جولدتسهير: العقيدة و الشريعة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى ص 12، 15، و كذا 62- 61. PP, 1964, (skooB nacileP), malsI, emualliuG derflA
3- محمد أحمد خلف اللّه: المرجع السابق ص 22، و أنظر ص 27- 28، 45، 174- 177، 182
4- مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 251
5- محمد سعيد البوطي: المرجع السابق ص 221

عز و جل (1).

و الحقيقة غير ذلك تماما لأسباب كثيرة، منها (أولا) أن الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم) لم يغادر مكة، إلا في رحلة يحيط بها الشك، صاحب فيها عمه أبا طالب، و هو في التاسعة من عمره (2)، و ثانية و هو في الخامسة و العشرين في فترة قصيرة كان لا يكاد ينفك فيها عن قومه و رفاقه، و قد ذهب بعض المستشرقين- و منهم جولدتسهير- (3) إلى أن لهذه الرحلة أثرا في نظام النبي الإصلاحي، غير أن بعضا آخر، إنما يشك في ذلك لعدم وجود أية إشارة في القرآن الكريم عن المظاهر الخارجية للديانة المسيحية، و إن كان يتوسع في الحديث عن أعماق روح المسيحية الشرقية (4)، و الواقع أن الرسول (صلى اللّه عليه و سلّم) حتى لو افترضنا جدلا بأنه قد اتصل بالمسيحية في ذلك الوقت- و هذا ما نرفضه- فإنه سوف لا يجد- فيما يرى سال- إلا ما ينفره من المسيحية، بسبب أطماع رجال الدين، و الانشقاق بينهم و الخلافات على أتفه الأسباب، و كان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم، قد انتهوا تقريبا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بفضل جدالهم المستمر حول

ص: 48


1- من عجب أن الدكتور البوطي ينقل كل ذلك دون تعليق، و المستشرقون المبغضون للقرآن لم يقولوا اكثر من ذلك، فضلا عن أن الجملة التي جاءت في كتاب «الظاهرة القرآنية» لا تعني ما ذهب إليه، و إن اقتربت منه
2- يتفق الباحثون الآن على أن مقابلة بحيري الراهب- إن صحت- فهي لا تعدو نبوءة في مضمونها توقع بعثة هذا الشاب (أي محمد) رسولا في المستقبل (انظر: هيورات: مصدر جديد للقرآن، الجريدة الأسيوية، عدد يوليو- اغسطس 1904)
3- 128 .P ,naroK uD ecruoS ellevuoN eno ,trauH raP etiC ,regnerpS 4 .P ,malsI'L edioL al te emgoD el ,rehizdloG و كذا. 8- 37. P. P, enirtcoD aS te eiv aS, temohoM, eardnA. T و كذا

طريقة فهمها (1)، و هكذا- و كما يقول تايلور- إن كل ما كان يقابله محمد (صلى اللّه عليه و سلّم) و أتباعه في كل اتجاه، لم يكن إلا خرافات منفرة، و وثنية منحطة و مخجلة، و مذاهب كنسية مغرورة، بحيث شعر العرب ذو العقول النيرة، بأنهم رسل من قبل اللّه مكلفين بما ألم بالعالم من فساد، و عند ما أراد «موشايم» وصف هذا العصر، رسم صورة مقارنة، أبرز فيها التعارض بين المسيحيين الأوائل و الأواخر؛ و خرج بأن الديانة الحقيقية في القرن السابع الميلادي، كانت مدفونة تحت أكوام من الخرافات و الأوهام، حتى إنه لم يكن في مقدورها أن ترفع رأسها (2)، و كما يقول الدكتور محمد عبد اللّه دراز، إن هذه الصفحات تبدو، و كأنها كتبت لتفسر الآية الكريمة (3) «وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (4)، و لعل كل هذه الأسباب هي التي دفعت «هوارت» إلى أن يقرر في النهاية أنه مهما كان إغراء الفكرة التي تقول بأن تفكير المصلح الشاب (يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلّم)) قد تأثر بقوة عند ما شاهد تطبيق الديانة المسيحية بسورية، فإنه يتحتم استبعادها، نظرا لضعف الوثائق و الأسس التاريخية الصحيحة (5).

ص: 49


1- 71 -68 .p ,emsitemoham el rus seuqitirC te seuqirotsiH snoitavresbO ,elaS segroeG
2- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 135- 138
3- نفس المرجع السابق ص 138
4- سورة المائدة: آية 14 و انظر: تفسير الطبري 10/ 135- 140 (دار المعارف- القاهرة 1957)، تفسير الكشاف 1/ 616- 617 (دار الكاتب العربي، بيروت)، تفسير روح المعاني 6/ 95- 97 (دار احياء التراث العربي، بيروت)، تفسير مجمع البيان 6/ 54- 55 (دار مكتبة الحياة، بيروت 1961)، في ظلال القرآن 6/ 104، 107- 108 (دار احياء التراث العربي، بيروت 1961)، تفسير الجواهر (طنطاوي جوهري) 3/ 151 (المكتبة الاسلامية- طبعة ثالثة 1974)
5- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 138 و كذا 129. P, 1904, naroK ud ecruoS ellevuon enu, trauH

و منها (ثانيا) أن النبي نشأ أميا لا يقرأ و لا يكتب (1)، و لم تكن نشأته بين أهل الكتاب حتى يعلم بالتلقين علمهم، و الفئة القليلة المستضعفة التي وجدت في مكة منهم، تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، و كانت تعد من أجهل سكان المدينة المقدسة و أحطهم مقاما في المجتمع الانساني، يحترفون بدني ء الحرف، كخدمة بعض العرب، أو الاتجار في أشياء حقيرة، كبيع النبيذ، و غير ذلك مما يقوم به المستضعفون الذين يقطنون الأحياء المنزوية (2)، ثم إن هؤلاء المطمورين لم يكونوا يجهلون دينهم فحسب، و لكن بصفة خاصة- و هنا تتركز حجة القرآن (3) كانت لغتهم الأجنبية حاجزا أمام النبي (4)، و في نفس الوقت كان قوم محمد (صلى اللّه عليه و سلّم)، أميين، لا يسود فيهم علم من أي طريق كان، إلا أن يكون علم الفطرة و البيان، و لم تكن عندهم مدرسة يتعلمون فيها، و لا علماء يتلقونه عليهم، لقد كانوا منزوين بشركهم عن أهل الكتاب، و المعرفة في أي باب من أبوابها، يقول سبحانه و تعالى «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ، وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (5)، و كانت رحلتا الصيف و الشتاء إلى الشام و اليمن تجاريتين لا تتصلان بالعلم في أي باب من أبوابه، و لا منزع من منازعه (6) و منها (ثالثا) أنه لم يثبت أنه كان بمكة أو ضواحيها أي مركز ثقافي

ص: 50


1- سورة العنكبوت: آية 48
2- مؤتمر سورة يوسف 2/ 1310، مدخل إلى القرآن الكريم ص 134، و كذا trauH و كذا 21. P, 1937, siraP, malsI'L, essaM 131. P. tic- po
3- سورة النحل: آية 103
4- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 135، و كذا 28. P, 1926, noitutitsnI te ecnayorC malsI'L, snemmaL ereP
5- سورة الجمعة: آية 2
6- محمد أبو زهرة: القرآن ص 363

ديني ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس التي عبر عنها القرآن (1)، و منها (رابعا) أنه لو كانت الفكرة اليهودية المسيحية قد تغلغلت حقا في الثقافة و البيئة الجاهلية، لكانت هناك ترجمة عربية للكتاب المقدس، الأمر الذي لم يثبت على الإطلاق، بل إن الآية الكريمة «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (2)، نشير إلى أنه لم يكن بين العرب من يعرف العبرية، فضلا عن عدم وجود ترجمة عربية للتوراة (3)، قبل عام 718 م، و أما ترجمة الانجيل، فلم تكن هناك حاجة إليها، إلا في القرن التاسع و العاشر الميلادي، بل إن القس «شيدياك» ليصرح بأنه لم يتمكن من الرجوع بتاريخ أقدم ترجمات العهد الجديد (الانجيل) باللغة العبرية إلى أبعد من القرن الحادي عشر الميلادي (4).

و منها (خامسا) الخلاف الجوهري بين القرآن و الانجيل في أمور

ص: 51


1- مالك بن نبي: المرجع السابق ص 310
2- سورة آل عمران: آية 93
3- مالك بن نبي: المرجع السابق ص 311- 312، راجع ترجمات التوراة في كتابنا «إسرائيل» ص 48- 51
4- انظر: شيدياك: دراسة عن الغزالي الفصل السابع، مقالة «مس بادويك» عن أصل الترجمة العربية للكتاب المقدس، مجلة «العالم الاسلامي» عدد آبريل 1939، مدخل إلى القرآن الكريم ص 138- 142، و كذا 35. P, tic- po, siolbeL و كذا 35. P, tic- po, lldsiT. S

رئيسية- كألوهية المسيح و صلبه و عقيدة التثليث (1)- فضلا عما أشار إليه القرآن من تحريف النصارى لإنجيل المسيح عليه السلام، و منها (سادسا) أن السور المكية- و هي التي نزلت قبل هجرة الرسول، (صلى اللّه عليه و سلّم)، الى المدينة، حيث يوجد اليهود، هي التي تعرض أطوار قصص التوراة بتفاصيلها الدقيقة (2)، و لم تترك للسور المدنية سوى فرصة استخلاص الدروس منها و غالبا في تلميحات موجزة (3)، و منها (سابعا) أن القرآن الكريم يختلف اختلافا جوهريا في أمور رئيسية مع التوراة كذلك، و من ثم فإن الخلاف بين قصص القرآن و حكايات التوراة واضح الى حد كبير.

ص: 52


1- أنظر: النساء: آية 171، المائدة 17، 72- 75، 116 و التوبة: آية 30- 31، النساء: آية 157 و انظر عن هذه الآيات الكريمة: تفسير الطبري 9/ 367- 377، 415- 424، 10/ 146- 150، 480- 486، 14/ 201- 212، 11/ 237- 238 (طبعة دار المعارف) تفسير روح المعاني 6/ 10- 12، 24- 40، 98- 103، 207- 211، 7/ 64- 69، تفسير البحر المحيط 3/ 536- 540، تفسير المنار 6/ 81- 98، 479- 487، 7/ 260- 276، تفسير الكشاف 1/ 584- 585، 593- 594، 617- 618، 663- 664، 694، تفسير مجمع البيان 5/ 279- 284، 299- 303، 6/ 57- 60، 161- 168، تفسير ابن كثير 2/ 458- 461، 615- 617، تفسير أبي السعود 2/ 49- 51، تفسير القرطبي 6/ 20- 25، 249- 251، 374- 377 (دار الكتب المصرية- القاهرة 1938)
2- انظر مثلا: الأعراف عن آدم (11- 25) و موسى (102- 176) يونس عن موسى (75- 92) و هود عن نوح (25- 49) و إبراهيم و لوط (69- 82) و سورة يوسف عن يوسف، و سورة الحجر عن آدم و إبراهيم و لوط (26- 77) و سورة الإسراء عن بني اسرائيل (4- 8) و سورة الكهف عن أهل الكهف (9- 25) و موسى (60- 82) و سورة مريم عن زكريا و يحيى و مريم و عيسى .. الخ (1- 33) و سورة طه عن موسى (9- 98) و سورة الأنبياء عن إبراهيم (51- 70) و داود و سليمان (78- 82) و سورة الشعراء عن موسى و إبراهيم و نوح .. الخ (10- 189) و سورة النمل عن موسى و داود و سليمان (7- 44) و سورة القصص عن موسى (3- 43) و قارون (76- 82) و سورة العنكبوت عن نوح و إبراهيم و لوط (14- 35) و سورة سبأ عن داود و سليمان (10- 14) و سورة ص عن داود و سليمان و أيوب (17- 14) و سورة الذاريات عن إبراهيم (24- 37)
3- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 156- 157

و أخيرا (ثامنا) فإن محمدا (صلى اللّه عليه و سلّم)، لم يكن له معلم من قومه الأميين قط، بل لم يكن له- عليه الصلاة و السلام- معلم من غيرهم من أمم الأرض قاطبة، و حسب الباحث في ذلك أن نحيله على التاريخ، و ندعه يقلب صفحات القديم منه و الحديث، و الإسلامي منه و العالمي، ثم نسأله: هل قرأ فيه سطرا واحدا يقول: إن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، لقي قبل إعلان نبوته فلانا من العلماء، فجلس إليه يستمع من حديثه عن علوم الدين، و من قصصه عن الأولين و الآخرين (1).

و أما الذين لقوه بعد النبوة، فقد سمع منهم و سمعوا منه، و لكنهم كانوا له سائلين، و عنه آخذين، و كان هو لهم معلما و واعظا، و منذرا و مبشرا (2).

على أنه يجب أن نلاحظ أن قصص التوراة إن كانت تحمل أوجه شبه بالقصص القرآني، فربما يرجع ذلك إلى أن التوراة- في الأصل- كتاب مقدس، و أن الإسلام الحنيف، إنما يؤمن بموسى- كنبي و كرسول و ككليم للّه عز و جل- ثم يقرر بعد ذلك- دونما لبس أو غموض- أن موسى جاءته صحف و أنزلت عليه توراة، إلا أن توراة موسى هذه، سرعان ما امتدت إليها أيد أثيمة، فحرفت و بدلت، ثم كتبت سواها، بما يتلاءم مع يهود، و يتواءم مع مخططاتهم، ثم زعموا- بعد كل هذا- أنها هي التوراة التي أنزلها اللّه على موسى (3)، «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» (4).

و الذي تولى هذا التصحيف و التأويل و التعمية، إنما هي طائفة

ص: 53


1- محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم ص 56- 57
2- نفس المرجع السابق ص 57
3- راجع كتابنا إسرائيل ص 21- 23
4- سورة الكهف: آية 5

متخصصة من أحبارهم، بغية الحفاظ على مكانتها و مكاسبها، و عن هذا يقول القرآن الكريم «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (1) و يقول «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (2)، و يقول: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (3).

هذا و قد عمد لفيف من رؤسائهم الدينيين إلى إخفاء بعض الأسفار في الهيكل- و هي التي عرفت بالأسفار الخفية (4)- ثم اختلفت نظرتهم إليها، إذ كان بعضها- فيما يعتقدون- غير مقدس، بينما بعضها الآخر موحى به من عند اللّه، و إن رأي الأحبار إخفاءه في الهيكل حتى لا يطلع عليه العامة من القوم، كما رأوا عدم إدراجه بين أسفار التوراة، ربما

ص: 54


1- سورة النساء: آية 46
2- سورة البقرة: آية 79
3- سورة المائدة: آية 13
4- انظر عنها كتابنا إسرائيل ص 95- 97

لأن ما بها من حقائق لا تتفق و أهواءهم، و ربما لأن ما بها من بشارات لا يتلاءم و ميولهم العنصرية و عن هذا يقول القرآن الكريم «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً» (1)، و من ثم فقد كان حكم الإسلام على كتاب اليهود هذا، أنه يحمل بعض لمحات من توراة موسى، ذلك لأن اليهود، إنما قد أوتوا نصيبا منها، و نسوا نصيبا و حظا، فلم يحفظوها كلها، و لم يضيعوها كلها، و أنهم قد حرفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا و معنويا (2).

[6] مقارنة بين القصص القرآني و روايات التوراة

و الرأي عندي أن خير ما نفعله لنثبت الخلاف الجوهري بين قصص القرآن و روايات التوراة، و أن المصدر الأول لم يعتمد على الثاني، بل إن محمدا (صلى اللّه عليه و سلّم) كما يؤكد الباحثون من المستشرقين- حتى المتعصبين منهم- لم يقرأ التوراة، أو أي كتاب آخر من كتب أهل الكتاب (3)، هو أن نقدم مقارنة بين بعض قصص القرآن، و نظائرها في التوراة.

و إذا بدأنا بقصة نوح- عليه السّلام- وجدنا أنها في القرآن (4)، غيرها

ص: 55


1- سورة الانعام: آية 91
2- تفسير المنار 1/ 213
3- 16. P, I, tic- po, ekedleoN. T
4- ذكر القرآن قصة نوح في سور كثيرة منها الأعراف (59- 64) و يونس (71- 73) و هود (25- 49) و الانبياء (76- 77) و المؤمنون (23- 30) و الشعراء (105- 122) و العنكبوت (14- 15) و الصافات (75- 82) و القمر (9- 17) ثم سورة كاملة هي سورة نوح، كما ذكر في مواضع متفرقة من النساء و الأنعام و التوبة و إبراهيم و الإسراء و الاحزاب و ص و غافر و الشورى و ق و الذاريات و النجم و الحديد و التحريم

في التوراة، و على سبيل المثال، لا الحصر، فإن القرآن وحده هو الذي يذكر أن نوحا- عليه السلام- إنما كان رسولا من رب العالمين، و أنه قد قضى من الوقت- ما شاء اللّه له أن يقضي- في دعوة قومه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، و أن اللّه- جل و علا- لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في سبيل دعوته كل صنوف الأذى و الاضطهاد، و إلا بعد أن جرب النبي الكريم كل سبل الإقناع دونما أية نتيجة، و إلا بعد أن يئس النبي من أن يؤمن به قومه (1)، و إلا بعد أن أوحى إليه «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ (2)»، و هكذا اتبع النبي الكريم كل ما يمكن اتباعه، تصديقا لقوله تعالى «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (3)»، و الأمر غير ذلك تماما في التوراة (4).

هذا فضلا عن أن القرآن الكريم هو وحده الذي يؤكد- التأكيد كل التأكيد- أن الناجين من الطوفان، إنما نجوا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحكيم، بل إن القرآن ليقص علينا- من بين ما يقص من أحداث- ما وقع مع ابن النبي الكريم، و كيف كان من الغارقين (5)، عملا بالمبدإ الإسلامي العظيم، «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (6).

ص: 56


1- سورة نوح: آية 1- 27
2- سورة هود: آية 36
3- سورة الاسراء: آية 15
4- أنظر مقالنا «قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة» مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد الخامس- الرياض 1975 ص 448
5- سورة هود: آية 25- 48
6- سورة فصلت: آية 46

«وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (1)»، «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (2)»، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (3)».

و القرآن الكريم وحده هو الذي لا نجد فيه نصا قطعيا على أن الطوفان قد شمل الأرض كلها- و هذا ما نميل إليه و نرجحه (4)- أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم- بعكس التوراة- إنما ينزه اللّه سبحانه و تعالى عن الندم على إحداث الطوفان، بل أن التوراة لتذهب إلى أبعد من ذلك، حين تزعم أن اللّه- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- قد عزم على ألا يحدث طوفانا بعد ذلك و أنه قد وضع علامة، هي القوس في السماء، ليتذكر وعده، فلا يكون طوفان يغرق الأرض أبدا (5)، كما تذهب التوراة

ص: 57


1- سورة فاطر: آية 18 و انظر: تفسير الطبري 22/ 126- 128، تفسير البيضاوي 2/ 270، تفسير الفخر الرازي 26/ 14- 15، تفسير القرطبي 14/ 337- 338، تفسير روح المعاني 22/ 186- 185، تفسير مجمع البيان 22/ 235- 237، تفسير و جدي (و انظر نفس الآية: الأنعام: 164، الإسراء: 15) و انظر قوله تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» من سورة البقرة: آية 141، و انظر عنها: تفسير المنار 1/ 400- 404، تفسير القرطبي ص 531 (دار الشعب- القاهرة 1969) تفسير ابن كثير 1/ 272- 273 (دار الشعب- 1971 م)، تفسير الطبري 3/ 128- 129 (دار المعارف) الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 140- 141، تفسير أبي السعود 1/ 265- 266، في ظلال القرآن 1/ 119، تفسير الكشاف 1/ 316، تفسير روح المعاني 1/ 401، تفسير الفخر الرازي 4/ 100، تفسير مجمع البيان 1/ 498، تفسير القاسمي (محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي- طبعة الحلبي 1957) 2/ 277- 278، تفسير و جدي ص 27، و انظر: محمود أبو ريدة: دين اللّه واحد، القاهرة 1970 ص 65- 67.
2- سورة النجم: آية 39- 40
3- سورة الزلزلة: آية 7- 8
4- راجع مقالنا: قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة ص 383- 457، تفسير المنار 12/ 106- 109
5- تكوين 9: 1- 17

كذلك إلى أن نوحا إنما قدم الأضاحي للرب بعد نجاته، و أن الرب ما لبث أن شمّ رائحة الشواء، فسكن غضبه، و تنسم رائحة الرضا (1)، و يرد القرآن الكريم على فحش يهود هذا، بقوله تعالى «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (2)، و يقول تعالى «فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (3)»، و ما أصدق القرآن الكريم حيث يختم هذه القصة بقوله تعالى «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (4)».

و في قصة أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل- عليه الصلاة و السلام- قد تفرد القرآن الكريم- دون غيره من الكتب المقدسة- بأن يقدم لنا الخليل- عليه السلام- في صورة المجاهد بنفسه و ولده و ماله لله، و الذي حطم الأصنام، و تحدى الجبابرة الطغام، و ألقى من أجل دعوته في النار، فأنجاه الله في كفاح طويل و جهاد موصول، كان للناس إماما، و على مدارجه أو من نسله درج الأنبياء (5)، و من أسف أن إبراهيم العظيم هذا، لم تصوره التوراة إلا رجلا لا همّ له، إلا جمع البقر و الغنم، و الأتن و الجمال، و الإماء و العبيد، متخذا من الوسائل أحطها، و من الطرق أحقرها، بل إن التوراة لم تجد وسيلة لجمع المال، إلا أن تجعل أبا الأنبياء- و حاشاه أن يكون كذلك- و كأنما هو يتاجر بامرأته سارة، متنقلا بها من بلد إلى بلد (6).

و من الغريب المؤلم أن مفسري التوراة لم يحاولوا رد هذه الروايات

ص: 58


1- تكوين 8: 20- 12، و أنظر عن رأى التوراة في نوح (تكوين 9: 20- 27)
2- سورة الحج: آية 37
3- سورة الحج: آية 28
4- سورة هود: آية 49
5- كمال عون: اليهود من كتابهم المقدس ص 107
6- تكوين 12: 10- 20، 20: 1- 18

الكذوب، و إنما جهدوا- قدر طاقتهم- لإثباتها، و هم أول من يعلم أن التوراة- أو العهد القديم- غير موثوقة السند، و راح بعضهم يتطاول على المقام السامي، دونما أي حذر أو حيطة، إثباتا لصحة نصوص التوراة، فيما يزعمون (1)، و كأن التوراة لا تكون كتابا مقدسا، إلا اذا صورت المصطفين الأخيار، من أنبياء الله الكرام في صورة مشوهة (2).

و يقدم لنا القرآن الكريم- بعكس التوراة تماما- خليل الرحمن، و هو يترك موطنه الأصلي في حاران (3)، مبشرا بدعوة التوحيد، في مكان غير هذه الأرض، التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن، و تقص علينا الآيات الكريمة من سورة مريم، كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه، يهديه بها صراطا مستقيما، غير أن أباه قد رفض الدعوة، بل و هدده إن لم ينته عنها، ليرجمنه و ليهجرنه مليا، فما كان من الخليل، تأدبا مع أبيه و حدبا عليه، إلا أن يدعو له بالمغفرة، و أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين، و لنقرأ هذه الآيات الكريمة: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا، قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

ص: 59


1- ف. ب. ماير: حياة إبراهيم ص 65، 221، حبيب سعيد: خليل اللّه في اليهودية و المسيحية و الاسلام ص 47، القس منيس عبد النور: إبراهيم السائح الروحي ص 26
2- انظر رحله في كتابنا اسرائيل ص 69- 86
3- انظر وجهات نظر مختلفة عن موطن الخليل و هجراته، في كتابنا «اسرائيل» ص 165- 196

وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (1)».

و هذه الآيات الكريمة تدل بوضوح على أن هناك حلافا عميق الجذور بين إبراهيم و أبيه، تأدي بالوالد أن يأمر ابنه بالهجرة، حيث لا أمل في اتفاق، و لكن الأمور سرعان ما تتأزم كذلك بين إبراهيم و قومه، إلى الحد الذي لا يجد القوم مخرجا منها، إلا أن يلقوا بابراهيم في نار أوقدوها لإحراقه، و هنا يفقد إبراهيم الأمل في ايمان القوم، و يقرر الهجرة، «وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (2)، و لم يجد من القوم من يؤمن به إلا ابن أخيه لوط (3)، «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)»، و هكذا كتب اللّه لإبراهيم- و كذا لابن أخيه- النجاة، بعد أن اعد القوم العدة لإحراقه، «قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (5)».

و لعل من المفيد الإشارة هنا إلى رأي عالم يهودي، يعترف فيه صراحة، بأن التوراة لم تأت على السبب الصريح لمهاجرة إبراهيم أرض آبائه، و إنما يؤخذ مما جاء فيها في مواضع مختلفة، أنه فضل ذلك كي يعبد اللّه عملا بما أنزل عليه من الوحي، و هذا يطابق ما جاء في القرآن من أنه إنما غادر أهله و بلاده، لأنهم كانوا عبدة أصنام، و كان يعبد اللّه فخاصمهم و ارتحل عنهم إلى حيث يبيت في مأمن منهم، و حيث تتسنى له

ص: 60


1- سورة مريم: آية 41- 48
2- سورة الصافات: آية 99، و أنظر عن تفسير هذه الآيات: تفسير الطبري 23/ 75- 76، تفسير القرطبي 15/ 97- 98، روح المعاني 23/ 126- 127
3- انظر عن رأي التوراة في لوط: تكوين 19: 30- 38، كتابنا إسرائيل ص 73- 74
4- سورة العنكبوت: آية 26
5- سورة الأنبياء: آية 68- 71

عبادة الحق دون معارضة أو خصام (1).

هذا، و قد انفرد القرآن الكريم- دون غيره من الكتب المقدسة- بأخبار إبراهيم و رحلته إلى الحجاز، و أنه ترك هناك ولده إسماعيل- و كذا زوجته هاجر- و إنه فعل ذلك امتثالا لأمر اللّه، و رغبته في نشر الإيمان باللّه، في بيئة جديدة، و في مناخ جديد، بعد أن قام بذلك في العراق و سورية، و فلسطين و مصر، ليربط ولده و بكره، بما ارتبط به هو من قبل، فإبراهيم الخليل يرجع في نسبه الأول إلى العرب البادية- كما يسميهم الاخباريون- و التي هاجرت في فترة لا نستطيع تحديدها على وجه اليقين من بلاد العرب إلى الرافدين (2).

و أخيرا، فإن القرآن الكريم- بعكس التوراة- إنما ينظر إلى إبراهيم، على أنه أبو الأنبياء، حيث أخرج اللّه من صلبه أنبياء بررة، حملوا الراية و توارثوا المشعل (3)، و هو خليل اللّه (4)، و هو الأسوة الحسنة للمؤمنين جميعا (5)، إذ «كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (6)، و من ثم فقد أوحى اللّه إلى حبيبه و نبيه المصطفى- صلوات الله و سلامه عليه- «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (7)»، و من هنا فلا يرغب عن ملته إلا من سفه نفسه (8)، ثم هو- أول من أعطى المسلمين اسمهم (9)، و أول من

ص: 61


1- شاهين مكاريوس: تاريخ الأمة الإسرائيلية ص 15
2- أنظر: كتابنا اسرائيل ص 195- 196
3- سورة الانعام: آية 84- 87
4- سورة النساء: آية 125
5- سورة الممتحنة: آية 4
6- سورة النحل: آية 120- 121
7- سورة النحل: آية 123
8- سورة البقرة: آية 130
9- سورة الحج: آية 78

دعا لهم ربهم أن يبعث فيهم رسولا منهم يهديهم سواء السبيل (1)، و هو باني كعبتهم الشريفة، و جاعل مكة أقدس بقاع الأرض قاطبة (2) و من دعا لهم «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ (3)»، و هو أول من أذن في الناس بالحج (4)، و أخيرا، فإلى الخليل يشرف بالانتساب كل أصحاب الديانات السماوية- اليهودية و المسيحية و الإسلامية- و تلك مكانة- علم الله- ما استطاعت التوراة أن تصل إلى شي ء منها، بالنسبة إلى الخليل- عليه السلام- و لكنه القرآن- كتاب اللّه الكريم- يعطي كل ذي حق حقه (5).

و الأمر كذلك بالنسبة إلى بقية قصص الأنبياء الكرام، كموسى و هارون، و قد تحدثنا عن قصتهما مع بني إسرائيل بالتفصيل في كتابنا إسرائيل (6)، و رأينا كيف لقي النبيان الكريمان من يهود عناء، ما بعده عناء، و كيف تختم التوراة قصتها برواية كذوب، مؤداها أن موتهما إنما كان بسبب خيانتهما للربّ، «عند مريبة قادش في برية صين»، «إذ لم يقدسا رب اسرائيل في وسط إسرائيل»، و من ثم فقد حرم اللّه الأرض

ص: 62


1- سورة البقرة: آية 129
2- سورة آل عمران: آية 96
3- سورة البقرة: آية 126
4- سورة الحج: آية 27
5- ذكر القرآن الكريم إبراهيم في عدة آيات من سورة، منها: البقرة (124- 140، 258، 260) و آل عمران (67- 68، 95- 97) و النساء (54- 163) و الانعام (74- 88) و التوبة (70، 114) و هود (69- 76) و يوسف (6، 38) و إبراهيم (35- 41) و الحجر (51- 60) و النحل (120- 123) و مريم (41- 50) و الانبياء (51- 73) و الحج (26- 33، 78) و الشعراء (69- 89) و العنكبوت (16- 27، 31- 32) و الاحزاب (7) و الصافات (83- 113) و ص (45) و الشورى (13) و الزخرف (26، 27) و الذاريات (24- 30) و النجم (37) و الحديد (26) و الممتحنة (4) و الاعلى (19) (6) كتابنا إسرائيل ص 254- 329

المقدسة عليها أبدا (1).

و لعل الذين يقولون بأن قصص القرآن، قد اعتمد على التوراة، يعلمون أن القرآن الكريم إنما يقدم لنا النبيين الكريمين و قد بذلا الجهد في تبليغ دعوة ربهما، و أفنيا عمرهما من أجلها، حتى لقيا ربهما مطمئنين إلى رضاه، و هكذا نرى القرآن الكريم يكرمهما أمجد تكريم، و ذلك حين يقول، «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا، وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (2)»، و حين يقول «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ، وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (3)» و يقول «وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (4) و يقول «يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (5)»، و يقول «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (6)» و يقول

ص: 63


1- سفر التثنية 32: 48- 52
2- سورة مريم: آية 51- 52 تفسير البيضاوي 2/ 36، تفسير روح المعاني 16/ 103- 104، تفسير الفخر الرازي 21/ 231، تفسير الطبري 16/ 94- 95، تفسير مجمع البيان 16/ 44- 46، تفسير القاسمي 11/ 4149، تفسير القرطي ص 4152- 4153
3- سورة الصافات: آية 114- 115 تفسير القرطبي 15/ 114، تفسير الفخر الرازي 26/ 159، تفسير الطبري 23/ 90، تفسير روح المعاني 23/ 138، تفسير ابن كثير 7/ 31 (دار الشعب 1972)، تفسير البيضاوي 2/ 298، تفسير و جدي ص 593
4- سورة الصافات: آية 118- 121 تفسير البيضاوي 2/ 298- 299، و تفسير القرطبي 15/ 114، تفسير الطبري 23/ 90- 91، تفسير الفخر الرازي 26/ 159، تفسير روح المعاني 23/ 138، تفسير و جدي ص 594، تفسير ابن كثير 7/ 31
5- سورة الاعراف: آية 144 تفسير الطبري 13/ 105 (دار المعارف) 1958، تفسير مجمع البيان 19/ 18- 20، تفسير القاسمي 7/ 2754، تفسير المنار 9/ 104- 113 (دار الشعب 1974)، تفسير القرطبي ص 2716 (دار الشعب 1970)، تفسير ابن كثير 7/ 471، تفسير وجدى ص 214.
6- سورة غافر: آية 53- 54

«وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (1)»، و يقول «وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (2)».

و هكذا يرفع القرآن الكريم هذين الرسولين الكريمين إلى الدرجة التي يستحقانها، ثم يطلب إلى المؤمنين به أن يرتفعوا إلى مستوى دينهم القويم، فلا يتأثروا بما يعرفون عن بني إسرائيل في حكمهم على موسى عليه السلام، فيقول «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (3)».

و تصور التوراة النبي الأواب داود عليه السلام، الذي آتاه اللّه الحكمة و فصل الخطاب، و هو يقضي وقته في نزهة فوق قصره يتطلع إلى حرمات الناس، فإذا ما رأى امرأة أعجبه حسنها، سرعان ما يأمر جنده بارسالها إلى فراشه، و حين يقضي منها وطره، و تثمر جريمته، يرسل في طلب زوجها من ميدان القتال، إيهاما له بأنه عنه راض، و لقضاء وقت جميل مع صاحبته موافق، و حين يتعفف الرجل من أن يكون بين أحضان امرأته، بينما اخوة له يجندلون بسيوف العدو، يدبر أمر قتله، و ما أن تنتهي المناحة

ص: 64


1- سور طه: آية 39 تفسير روح المعاني 16/ 93- 94، تفسير البيضاوي 2/ 49- 50 تفسير الفخر الرازي 22/ 50، تفسير الطبري 16/ 162- 167، تفسير الطبرسي 16/ 98- 100، تفسير القاسمي 11/ 4179، تفسير وجدى ص 408 تفسير القرطبى ص 4235- 4237 (دار الشعب 1970).
2- سورة طه: آية 41 تفسير القاسمي 11/ 4181، تفسير الطبرسي 16/ 98- 104، تفسير الطبري 16/ 168- 169، تفسير البيضاوي 2/ 50، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي) 2/ 50، تفسير روح المعاني 16/ 95- 96، تفسير الفخر الرازي 22/ 50، تفسير القرطبي ص 4235، 4238- 4239 (دار الشعب 1970)
3- سورة الاحزاب: آية 69، و انظر كتاب: عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 214 تفسير البيضاوي 2/ 253، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي) 2/ 253، تفسير القرطبي 14/ 250- 252، تفسير الفخر الرازي 25/ 233، تفسير الطبري 22/ 50- 53.

حتى يأمر بضم امرأته إلى حريمه (1) و الواقع أنه ليست هناك صورة تجمع بين النقيضين اللذين لا التقاء بينهما، كالصورة التي تقدمها التوراة لنا عن داود ملك اليهود القدير، فهو الشجاع قاتل جالوت الجبار بمقلاعه دون سيف في يده (2)، و بذا يصبح مطاردا من الفلسطينيين، و لكنه سرعان ما يشاركهم في محاربة عدو لهم، بل و يضع سيفه تحت تصرفهم ضد مواطنيهم اليهود، (3)، و هو يعمل حامل سلاح شاؤل الإسرائيلي يوما ما، ثم حارسا ل «أخيش» الفلسطيني يوما آخر (4)، و هو قد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين ثم أنهاه و قد قضى على نفوذهم تماما، و هو عدو شاؤل اللدود، و لكنه في نفس الوقت زوج ابنته، و حبيب ابنه «يوناثان»، و كثير من فتيات إسرائيل (5)، و هو يعمل مغنيا في بلاط شاؤل، لأنه يجيد الضرب على القيثار، و يغني أغانيه العجيبة بصوته الرخيم و لكنه في نفس الوقت الفارس المغوار، حامل سلاح الملك و قاتل أعدائه (6).

و هو قاس غليظ القلب- كما كان الناس في وقته و كما كانت قبيلته- و هي صور مستحبة في اذهان اليهود، خلعوها على إلههم «يهوه»، من بين ما خلعوا عليه من صفات، و لكنه في نفس الوقت كان مستعدا لأن

ص: 65


1- صموئيل ثان 11: 2 إلى 12: 12، و أنظر عن تهم كذوب أخرى ألصقتها التوراة بالنبي الأواب (صموئيل أول 21: 2، 18: 25، 27، ملوك أول 2: 8، 9، صموئيل ثان 13: 1- 14، 14: 24، 28، ملوك أول 15: 5، أخيار أول 20: 30، صموئيل ثان 2: 6- 19، و راجع كتابنا إسرائيل ص 79- 84)
2- صموئيل أول 17: 50
3- صموئيل أول 29: 2- 2
4- صموئيل أول 28: 1- 2
5- صموئيل أول 18: 1- 7
6- صموئيل أول 16: 21- 23

يعفو عن أعدائه، كما كان يعفو عنهم قيصر و المسيح، يقتل الأسرى جملة، كأنه ملك من ملوك الآشوريين، بل إنه ليبالغ حتى في النسوة، حين يأمر بحرق المغلوبين و سلخ جلودهم و وشرهم بالمنشار (1). و حين يطلب منه شاؤل مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته «ميكال»، إذا به يقتل مائتي رجل من الفلسطينيين (2)، و يقدم غلفهم مهرا لابنة شاؤل هذه (3)، و حين يوصي ولده سليمان- و هو على فراش الموت- بأن «يحدر بالدم إلى الهاوية (4)» شيبة شمعي بن جبرا، الذي لعنه منذ سنين طويلة.

و هو يأخذ النساء من ازواجهن قسرا، مستغلا في ذلك جاهه و سلطانه، فهو يشترط لمقابلة «أبنير قائد جيوش شاؤل، أن يأتي له بميكال ابنة شاؤل- و التي دفع مهرها من قبل رءوس مائتين من الفلسطينيين- من زوجها «فلطيئيل بن لايش»، الذي أدمى قلبه فراقها، ثم سار وراءها و هو يبكي حتى «بحوريم»، و لم يرجع من ورائها، إلا بأمر من أبنير، و إلا خوفا منه (5)، ثم يأخذ امرأة «أوريا الحيثي» بين نسائه، و يرسل بزوجها الى الصف الأول في ميدان القتال ليتخلص منه (6).

و هو يقبل زجر «ناثان» له في ذلة، و لكنه مع ذلك يحتفظ ب «بتشيع» الجميلة، و يعفو عن صموئيل عدة مرات، تكاد تبلغ اربعمائة و تسعين، و لا يسلبه الا درعه، حين كان في مقدوره أن يسلبه حياته، و يعفو عن

ص: 66


1- صموئيل ثان 12: 29- 31
2- كان الفلسطينيون- و هم غير ساميين- لا يختنون، و من ثم فقد كان الإسرائيليون- بعد ان تعلموا الختان في مصر- يقطعون غلف القتلى من الفلسطينيين
3- صموئيل أول 18: 25- 27
4- ملوك أول 2: 9
5- صموئيل ثان 3: 12- 16
6- صموئيل ثان 11: 2- 26

«مغيبوشت» و يساعده- رغم أنه حفيد شاؤل، و قد يكون من المطالبين بعرش عمه وجده من قبله (1)- و هو يعفو عن ولده «أبشالوم» بعد أن قبض عليه في ثورة مسلحة، و بعد أن دنس عرضه على ملأ من القوم (2)، بل إنه ليعفو عن «شاؤل» الذي كان يسعى لقتله، بعد أن تمكن منه عدة مرات، و في أمان مطلق و مناعة تامة (3).

و يعلق المؤرخ الأمريكي «ول ديورانت» على ذلك، بأن هذا وصف رجل حقيقي، لا رجل خيالي، اكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة، ينطوي على جميع بقايا الهمجية، و على كل مقومات الحضارة (4).

و أما في القرآن الكريم، فإن داود- عليه السلام- إنما هو «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (5)، و قد «آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» (6)، «وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (7)، «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (8)»، «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ» (9)، ثم يأمر اللّه نبيه الكريم محمد- صلوات اللّه و سلامه عليه-

ص: 67


1- صموئيل ثان 4: 4- 5
2- صموئيل ثان 16: 23، 18: 33
3- صموئيل أول 24: 2- 22
4- ول ديورانت: قصة الحضارة- ج 2 ص 331- 332، نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الادنى القديم ح 3 ص 362- 373
5- سورة ص: آية 30
6- سورة البقرة: آية 251
7- سورة النساء: آية 163
8- سورة النمل: آية 15
9- سورة سبأ: آية 10، 11

«اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ» (1)، «وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ» (2) و أخيرا، و ليس آخرا (3)، «وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» (4).

و أما أعظم ملوك إسرائيل، سليمان الحكيم، فليس في نظر التوراة، إلا ذلك الحاكم الذي يرتكب أبشع الجرائم في سبيل توطيد سلطانه، فيقتل أخاه الأكبر «أدونيا» (5) صاحب الحق الشرعي في العرش- ثم يقتل «يوآب» قائد جيش أبيه (6)، ثم هو- في نظر التوراة كذلك- ذلك الرجل الغارق في ملذاته، و الذي يجمع في بلاطه ألفا من النساء بين الزوجات و الحظيات، و من كل بلد و لون (7)، و يبدو أن كاتب سفر الملوك (8) لم يرضه كل ما الصقه من تهم بسليمان، فإذا به يحول النبي الكريم إلى كافر، و يجعل الرسول الجليل- و حاشاه أن يكون كذلك- مشركا، فإذا بغضب الرب يحل به، و اذا باللعنة تنزل عليه،

ص: 68


1- سورة ص: آية 17- 20
2- سورة ص: آية 25
3- ذكر القرآن الكريم داود عليه السلام في عدة آيات من سورة، منها البقرة (251) و المائدة (78) و الانعام (84) و الاسراء (55) و الانبياء (78- 80) و النمل (15- 16) و سبأ (10- 11) و ص (17- 26)
4- سورة ص: آية 30)
5- التوراة: ملوك أول 2: 13- 25
6- ملوك أول 2: 28- 35
7- ملوك أول 11: 1- 3
8- التوراة: سفر الملوك الأول 11: 4- 11، ثم قارن الآية الكريمة (102) من سورة البقرة، و انظر: تفسير الطبري 2/ 405- 457 (دار المعارف)، تفسير الكشاف 1/ 171- 173 (دار الكاتب العربي- بيروت).

و النقمة تحل بنسله من بعده و ينفذ رب اسرائيل وعيده، فيفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، و يمزق مملكته من بعده ليفوز عبده يربعام منها بنصيب الأسد، و لم ينس كاتب التوراة أن يذكر لنا أن تأجيل انحلال المملكة، ليس من أجل سليمان، فقد عصي ربه و استحق وعيده، و إنما من أجل داود عبده، و من أجل أورشليم مدينته التي اختارها (1).

و أما سليمان في القرآن الكريم (2)، فهو الملك النبي، أعطاه الله العلم بلغة الحيوان، و سخر له الطير، و سخر له الجن، و أوتي علم لغة النمل و الطير، يقول سبحانه و تعالى «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً، وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ، قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (3)» و يقول «وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (4)» و قد دعا سليمان ربه، «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَ الشَّياطِينَ

ص: 69


1- ملوك أول 11: 1- 13، قارن أخبار أول 22: 6- 19 حيث التعارض الصارخ بين نصوص التوراة.
2- ذكر القرآن الكريم سليمان عليه السلام في سورة البقرة (102) و النساء (163) و الانعام (84) و الانبياء (78- 82) و النمل (15- 44) و سبأ (12- 14) و ص (30- 40).
3- سورة النمل: آية 15- 19، و انظر تفسير الطبري 19/ 140- 143، تفسير البيضاوي 2/ 172- 173
4- سورة ص: آية 30

كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ، وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (1)» و في قصة مريم البتول يشير القرآن الكريم إلى أحداث لم ترد في التوراة- فضلا عن الإنجيل و أعمال الرسل- فالقرآن الكريم (2) وحده هو الذي يشير إلى كفالة نبي اللّه زكريا لها، «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ

ص: 70


1- سورة ص: آية 35- 40، و انظر: تفسير الطبري 23/ 156- 164، تفسير البيضاوي 2/ 309- 311، تفسير القرطبي 15/ 198- 207، تفسير الآلوسي 23/ 200- 205، و انظر موقف سليمان من ملكة سبأ في القرآن و في توراة اليهود- كما بسطناه في مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة «مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية، العدد السادس، 1976
2- ذكرت السيدة مريم في القرآن الكريم في عدة سور منها آل عمران (35- 37، 42- 48) مريم (16- 35) و الأنبياء (91) و التحريم (12)، و انظر: تفسير الطبري 6/ 328- 359، 393- 423 (دار المعارف)، 16/ 59- 88، 28/ 172، تفسير البيضاوي 2/ 30- 34، 448، تفسير روح المعاني 16/ 74- 95، 28/ 164- 165، تفسير الطبرسي 3/ 63- 69، 76- 85، 16/ 20- 39، 28/ 125- 130، تفسير القاسمي 16/ 5869- 5873، تفسير ابن كثير 4/ 443- 459 (دار الاندلس، بيروت)، 8/ 199- 200 (دار الشعب، القاهرة 1973)، تفسير الكشاف 1/ 354- 358، 361- 362، 2/ 504- 509، 4/ 132، الدرر المنثور 4/ 264- 271، تفسير النسفي 3/ 32- 36، تفسير أبي السعود 3/ 278- 282، تفسير القرطبي 11/ 89- 109 (دار الكاتب العربي) ص 6682- 6683 (دار الشعب 1970)، في ظلال القرآن 6/ 2305- 2309 و انظر: عبد اللّه محمود شحاتة: من نور القرآن، القاهرة 1973 ص 163- 165 و انظر الحديث الشريف: حيث يروى عن أنس بن مالك، أن النبي (صلى اللّه عليه و سلّم) قال: «خير نساء العالمين أربع: مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد رسول اللّه» (صحيح البخارى 6/ 320، 7/ 83، تفسير ابن كثير 2/ 139، البداية و النهاية لابن كثير 2/ 60، و انظر: روايات اخرى للحديث الشريف في: تفسير الطبري 6/ 393- 398، صحيح مسلم 2/ 243، صحيح البخاري 6/ 339، 7/ 100- 101، سنن الترمذي 4/ 365- 366، مسند الإمام احمد 3/ 135).

إِلَيْكَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (1)»، و القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى اصطفائها و فضلها على نساء العالمين، «وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (2)».

و أما قصة يوسف عليه السلام، فقد آثرنا أن نؤخرها- رغم أن التسلسل التاريخي يحتم علينا أن نضعها بين قصة إبراهيم و قصة موسى- لأننا أردنا أن نناقشها بشي ء من التفصيل، و ذلك بسبب الجدل الذي طال حولها- حتى زعم «الفرد جيوم» أنها إنما تدل على أن محمدا (صلى اللّه عليه و سلّم) لم يكن يعرف قصة الآباء الأول- كما جاءت في سفر التكوين من التوراة- فحسب، بل إنه يعرف كذلك التطور اليهودي المتأخر للقصة (3)، حيث تداخلت مصادر التوراة الثلاثة (اليهوي و الألوهيي و الكهنوتي)، و كونت قصة لا تمثل واحدا من هذه المصادر، و إنما تكوّن مزيجا عجيبا منها جميعا (4).

و لعل افضل ما نفعله هنا للرد على مزاعم «جيوم» و غيره من المستشرقين- بل و بعض المسلمين للأسف- أن نعقد مقارنة بين القصتين، ذلك لأن قصة التوراة، و إن كانت تحمل بعض أوجه شبه من القصة القرآنية (5)، فإن هناك خلافات جوهرية بين القصتين، منها (أولا)

ص: 71


1- سورة آل عمران: آية 44
2- سورة آل عمران آية 42
3- مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 251 و كذا 61. P, 1964, malsI, emualluG derflA
4- راجع عن مصادر التوراة، كتابنا إسرائيل ص 45- 48، حسن ظاظا: الفكر الديني الاسرائيلي ص 28- 31
5- جاءت قصة سيدنا يوسف في القرآن الكريم في سورة كاملة هي سورة يوسف، و في التوراة فى الاصحاح 37 ثم من 39 إلى 50 من سفر التكوين.

تلك الملامح الروحية التي تتميز بها القصة القرآنية، فضلا عن أن شخصية يوسف النبي، أكثر وضوحا في القصة القرآنية (1)، منها في رواية التوراة، و منها (ثانيا) أن حب يعقوب ليوسف إنما تصوره التوراة، على أن الصديق إنما كان يأتي لأبيه «بنميمة أخوته الرديئة»، و لأنه ابن شيخوخته، في الدرجة الأولى، ثم رؤيا يوسف في الدرجة الثانية (2)، و أما في القرآن الكريم، فإن السبب إنما هو الرؤيا الصادقة، ثم احساس عميق من يعقوب النبي، بما سوف يكون للصديق من مستقبل في عالم النبوة و تأويل الأحاديث (3)، و منها (ثالثا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن مؤامرة اخوة يوسف عليه، إنما بدأت قبل ان يذهب معهم، فضلا عن توضيح رأي أبناء يعقوب في أبيهم، و لنقرأ هذه الآيات الكريمة «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (4)».

و منها (رابعا) إن قصة التوراة تذهب إلى أن يعقوب هو الذي طلب من يوسف أن يذهب إلى إخوته الذين يرعون أغنامهم عند شكيم (5)- و التي يحتمل أنها تل بلاطة شرق نابلس الحالية- بينما يرى القرآن الكريم أن

ص: 72


1- راجع عن تفسير سورة يوسف: تفسير المنار 12/ 251- 324، 13/ 1 و ما بعدها+ تفسير سورة يوسف لرشيد رضا، تفسير البيضاوي 1/ 486- 511، تفسير الطبري 12/ 149- 238، 13/ 1- 91، تفسير القرطبي 9/ 118- 277، تفسير الآلوسي 12/ 170- 261، 13/ 1- 84 مؤتمر تفسير سورة يوسف (جزءان)، تفسير النسفي 2/ 210- 241
2- تكوين 37: 2- 11
3- سورة يوسف: آية 6
4- سورة يوسف: آية 7- 9
5- تكوين 37: 12- 16

أخوة يوسف هم الذين طلبوا من أبيهم أن يذهب يوسف معهم، لأن أباه إنما كان يخشى عليه من حقدهم، «قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1)»، و منها (خامسا) أن القرآن الكريم إنما يشير إلى ارتياب يعقوب في بنيه عقب تنفيذ المؤامرة- فضلا عن ارتيابهم في أنفسهم- «وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ، وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً (2)»، بينما تشير رواية التوراة إلى سرعة تصديق يعقوب لفرية أولاده، و يأسه عقب المؤامرة (3)، «فتحققه (أي قميص يوسف) و قال قميص ابني وحش ردي ء أكله، افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه، و ناح على ابنه أياما كثيرة» و منها (سادسا) أن الحيوان الذي ألصقت به تهمة قتل يوسف، إنما هو «تيس من المعزى» في التوراة (4)، و لكنه الذئب في القرآن الكريم (5).

و منها (سابعا) أن التوراة في عرضها لقصة يوسف مع امرأة العزيز، لم تحاول أن تركز على براءة يوسف، كما فعل القرآن الكريم الذي عرض البراءة في جلاء و وضوح، و منها (ثامنا) أن القرآن الكريم يصور لنا يوسف بعد حادث المراودة، و هو يفر من أمام امرأة العزيز، غير أنها سرعان ما تلحق به، فتتعلق بقميصه، و يتمزق منه ما علقت يدها به، و هنا يصل العزيز و يفاجأ بما لا يتصوره، فتبادر المرأة إلى دفع التهمة عن نفسها، و ترمي بها على يوسف في جرأة(6)، ثم لا تنتظر رأي العزيز في

ص: 73


1- سورة يوسف: آية 11- 12.
2- سورة يوسف: آية 17- 18.
3- مالك بن نبي: المرجع السابق ص 302.
4- تكوين 37: 33- 34.
5- تكوين 37: 31.
6- سورة يوسف: آية 13- 14، 17.

صحة الاتهام، فتغريه به و تعمل على توكيده في نفسه، بأن تطلب إليه رأيه في الجزاء الذي يجزّى به هذا المتهم (1)، يقول تعالى «وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)»، بينما تتجاهل رواية التوراة حضور العزيز، و تذهب إلى أن امرأة العزيز قد اخبرت أهل البيت بأن الرجل العبراني قد حاول الاعتداء عليها، و أنه لم يتركها إلا بعد أن استغاثت بمن في البيت، و من ثم فقد ترك ثوبه و خرج، و أبقت الثوب حتى إذا ما جاء بعلها أخبرته أن عبده العبراني حاول الاعتداء على شرفها و لما صرخت ترك ثوبه بجوارها و فر هاربا، و لعل من المفيد هنا الإشارة إلى ما في النص التوراتي من اضطراب، فمرة لا يوجد أحد في البيت، و مرة أخرى، فإن البيت ملي ء بأهله، و مرة يوصف يوسف بأنه رجل عبراني، و أخرى عبد عبراني و فرق بين العبارتين في مثل هذه الحالة النفسية (3) و منها (تاسعا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن الله- سبحانه و تعالى- قد أظهر براءة يوسف على يد شاهد من أهل امرأة العزيز نفسها، تروي كتب التفسير أنه صبي في المهد، و ذلك حين قال «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قالَ إِنَّهُ مِنْ

ص: 74


1- عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني ص 100
2- سورة يوسف: آية 25
3- تكوين 39: 11- 18

كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (1)»، كما شهدت ببراءته النسوة الآتي قطعن أيديهن بقولهن «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (2)»، بينما لم تذهب التوراة إلى أكثر من أن العزيز حين سمع بالقصة لم يزد عن «أن غضبه حمى، فأخذ يوسف و وضعه في بيت السجن (3)».

و منها (عاشرا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن عزيز مصر، حينما عرف الحقيقة، فإذا به يطلب من يوسف كتمان الأمر، و عدم إذاعته بين الناس، و في نفس الوقت فإنه يتجه إلى امرأته يأمرها ان تستغفر لذنبها و أن تتوب إلى ربها (4)، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، و أهل مصر- و إن كانوا وقت ذاك غير موحدين- إلّا أنهم إنما كانوا يعلمون أن الذي يغفر الذنوب و يؤخذ بها، إنما هو اللّه وحده، لا شريك له في ذلك (5)، و منها (حادي عشر) أن التوراة لم تتعرض لحادث النسوة اللاتي أخذن يرددن في المدينة، «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (6)».

و منها (ثاني عشر) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف- عليه السلام- قد فضل السجن، على أن يقترف الفاحشة، و ذلك حين خيّر، بين ان تنال المرأة منه ما تريد، و إلا فان أبواب السجن

ص: 75


1- سورة يوسف: آية 26- 28
2- سورة يوسف: آية 51
3- تكوين 39: 19- 20
4- سورة يوسف: آية 29
5- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 204 التفسير 4/ 22
6- سورة يوسف: آية 30- 31

مفتوحة على مصراعيها لاستقباله، «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (1)».

و منها (ثالث عشر) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يعقوب- عليه السلام- حينما فقد في عاصفة هو جاء من عواصف الفتنة و الحسد، أعز فلذات كبده- يوسف الصديق- لم يغلبه الحزن الذي عصف بقلبه، على الصبر الذي ملأ كيانه (2)، فإذا به يتقبل المأساة بما يتفق و مكان النبوة السامي، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (3)»، بينما تصوره التوراة في صورة لا نرتضيها للنبي الكريم، «فأبى ان يتعزى، و قال إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية» (4)، و حين تتكرر المأساة مرة أخرى، و يفقد يعقوب بنيامين- كما فقد يوسف من قبل- فإن الجواب في القرآن الكريم، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (5)»، و أما الجواب في التوراة- و حتى قبل وقوع الكارثة- «إذا أصابته أذية تنزلون شيبتي بشر إلى الهاوية (6)»، بل إن القرآن الكريم ليشير بوضوح إلى أن مر السنين، و كر الأيام، لا يفقد الأمل في نفس النبي الكريم، «يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (7)».

ص: 76


1- سورة يوسف: آية 33- 34
2- عبد الكريم الخطيب: المرجع السابق ص 211
3- سورة يوسف: آية 18
4- تكوين 37: 35
5- سورة يوسف: آية 83
6- تكوين 42: 36- 38، 44: 29- 31
7- سورة يوسف: آية 87

و منها (رابع عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير الى ان يوسف قد تنبأ بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون، بعد سبع سنوات من القحط (1)، و منها (خامس عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف بعد أن فسر الحلم لملك مصر، و رسم له الطريق الصحيح للخروج من الأزمة بسلام، رفض في إباء و شمم أن يقبل المنصب الخطير الذي عرض عليه، حتى يتحقق الملك و رجاله- بل و الناس جميعا- من براءته و نزاهة عرضه، مما نسب إليه بشأن امرأة العزيز، و كان سببا في أن يلبث في السجن بضع سنين، «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (2)»، و الآية الكريمة تفيد أن يوسف لم يشأ أن يقال عنه مجرم سرّ منه الملك، فعفا عن جريمته و أخرجه من السجن، و تجي ء الشواهد كلها- بعد بحث دقيق- بعفة الصديق و طهارته، و عندئذ يتقدم الصديق في ثقة و ثبات، «قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، و هكذا يتحمل يوسف المسئولية كاملة في صدق و شجاعة، و ينجح آخر الأمر في ان يرسي السفينة على مرفإ الأمن و السلامة (3)، و الأمر عكس ذلك تماما في التوراة، فما أن يفسر الصديق الحلم للملك، و ما أن يعرض الملك الأمر عليه، حتى يقبله فورا (4) و منها (سادس عشر) أن قصة يوسف إنما تشير إلى ان المصريين، ربما كانوا يعيشون في حرية شخصية إلى حد ما، حتى مع نفس الملك القابض على السلطة في مصر، و إن هذا الملك قد قبل أن يأمر بشي ء في حق عبد دخيل، فيأبى عليه ذلك العبد امتثال أمره، إلا بعد إجراء

ص: 77


1- سورة يوسف: آية 47- 49
2- سورة يوسف: آية 50، و انظر: تفسير الطبري 16/ 133- 137.
3- سورة يوسف: آية 46- 57
4- تكوين 41: 37- 46

التحقيق، مع أنه يمكنه الجمع بين امتثال إرادة الملك و أجراء التحقيق، بأن يبادر يوسف بالخروج من السجن، ثم يطلب من الملك التحقيق في قضيته (1).

و منها (سابع عشر) إن التوراة لم تشر إطلاقا إلى قيام يوسف- عليه السلام- بدعوة التوحيد، بعكس القرآن الكريم الذي يشير إلى أن الصديق قد انتهز الثقة المكينة التي اكتسبها بين السجناء، بسبب تفسير الرؤيا و تأويل الأحلام، فيقوم بدعوته الدينية، شارحا عقيدة الأنبياء جميعا في وحدانية اللّه الخالق العظيم. و هاتفا بمستمعيه (2)، «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3)»، و ذلك لأن يوسف لم يكن عالما يؤول الرؤيا فحسب، بل كان رسولا مصلحا، أرسله اللّه هاديا للناس في دنياهم و آخرتهم و معاشهم و معادهم، فما كان يرى فرصة يتنفس فيها برسالته إلا انتهزها، و لا نهزة صالحة للدعوة إلا علق بها (4)، و لهذا فإن الإشارة إلى الآخرة في قصة يوسف مقصورة على القرآن (5) دون التوراة.

ص: 78


1- مؤتمر تفسير سورة يوسف 2/ 839
2- محمد رجب البيومي: البيان القرآني ص 225 عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 140
3- سورة يوسف: آية 37- 40
4- محمد احمد جاد المولى و آخرون: قصص القرآن ص 103
5- سورة يوسف: آية 57

و منها (ثامن عشر) إن القرآن الكريم هو وحده الذي يشير إلى إعلان امرأة العزيز براءة يوسف، و أنها هي التي راودته عن نفسها، «قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (1)»، و هكذا تقدم لنا القصة القرآنية امرأة العزيز، و هي تتحدث بلغة تليق بضمير انساني وخزه الندم و ارغمته طهارة التضحية و نزاهتها على الاستسلام للحق، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها و تقر بخطيئتها (2).

و منها (تاسع عشر) إن يوسف عليه السلام قد وصف في القرآن الكريم بالصديق و بالعزيز (3)، و في التوراة ب «صفنات فعنج» (4)»، و منها (عشرون) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يتحدث عن نبوءة عزيز مصر الصادقة في يوسف الصديق، «وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (5)»، و منها (واحد و عشرون) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير في ختام قصة يوسف مع أبيه و أخوته إلى تحقيق حلمه الأول، «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ

ص: 79


1- سورة يوسف: آية 51- 52
2- مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 304- 305
3- سورة يوسف: آية 46، 48
4- تكوين 41: 45
5- سورة يوسف: آية 21

وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (1)».

و منها (عشرون) أن قصة التوراة تتحدث دائما عن ملك مصر، على أنه فرعون مصر (2)، بينما يتحدث القرآن على أنه الملك و ليس الفرعون (3)، و يرى الأستاذ حبيب سعيد أن هذه كانت هي العادة المتبعة في القرنين التاسع عشر و الثامن عشر ق. م (4)، و الحقيقة غير ذلك تماما، فمن المعروف تاريخيا أن كلمة «فرعون» في صيغتها المصرية، «بر- عا» أو «بر- عو»، كانت تعني- بادئ ذي بدء- البيت العالي، أو البيت العظيم، و كانوا يشيرون بها إلى القصر الملكي- و ليس إلى ساكنه- ثم سرعان ما تغيرت و غدت تعبيرا محترما، يقصد به الملك نفسه، و ذلك منذ الأسرة الثامنة عشرة (5)، و أما متى حدث هذا التغيير في استعمال لقب فرعون، فإن «سير ألن جاردنر»- العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة- يحدد ذلك بعهد الفرعون «تحوتمس الثالث» (1490- 1436 ق. م)، حيث بدئ في إطلاق الاصطلاح «أي فرعون) على الملك نفسه ثم في عهد الداعية الديني المشهور «أخناتون» (1367- 1350 ق. م)، مستندا في ذلك على خطاب من عهده، ثم استعمل منذ الأسرة التاسعة عشرة

ص: 80


1- سورة يوسف: آية 99- 101، و انظر: تفسير الطبري 16/ 264- 277 (دار المعارف- القاهرة 1969)
2- تكوين 40: 7- 41: 15، 46: 31- 50: 7
3- سورة يوسف: آية 43، 50، 54، 72، 76
4- حبيب سعيد: المدخل الى الكتاب المقدس ص 76
5- 102. P, 1963, ogacihC, tpygE tneicnA fo erutluC ehT, nosliW. A. J

(1308- 1184 ق. م) و فيما بعد، في بعض الأحايين، كمرادف لكلمة «جلالته»، و من هذا الوقت أصبحنا نقرأ: «خرج فرعون» و «قال فرعون ... و هكذا (1).

و من ثم، فإن القرآن الكريم- فيما يبدو لي- أراد أن يفرق بين حاكم مصر الأجنبي على أيام يوسف الصديق في عهد الهكسوس (2) فأطلق عليه لقب «ملك»، و بين حاكم مصر الوطني على أيام موسى- مثلا- الذي أطلق عليه لقب «فرعون»، و هو اللقب الذي كان يطلق على ملوك مصر منذ عهد إخناتون، هذا فضلا عن أن ذلك من إعجاز القرآن، الذي لا إعجاز بعده، و إذا ما عدنا إلى التوراة، لوجدنا أن الحقائق التاريخية تقف ضد ما أوردته التوراة بشأن استعمال لقب فرعون، إذ أنها تستعمله حين يجب أن تستعمل لقب ملك، و ذلك قبل الأسرة الثامنة عشرة، و تستعمل لقب ملك حين يجب أن تستعمل لقب فرعون، و ذلك منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق. م)، و فيما بعدها.

و لعل من الأهمية بمكان الاشارة إلى أن هناك اشياء ذكرتها التوراة لم يذكرها القرآن الكريم، و هي في أمور تتفق في بعضها و خلق يهود- كاتبي التوراة- و تبتعد في بعضها الآخر عن الحقائق التاريخية، و أما هذه الأمور، فأهمها (أولا) أن التوراة في عرضها لقصة الصديق- بعكس القرآن

ص: 81


1- 52. P, 1964, drofxO, shoarahP ehT fo tpygE, renidraG. H. A و كذا 75. P, 1966, drofxO, rammarG naitpyE, renidraG. H. A
2- حوالي (1725- 1575 ق. م.)، و انظر آراء أخرى في كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» دار المعارف 1975 ص 137- 138، و كذا ehT, orettoB. J soskyH ehT, drofdeR. B. D و كذا ,nosliW .A .J 23 .P ,1970 ,noitidarT dna yrotsiH ni noisavnI و كذا 165 .P ,shoarahP eht fo tpygE ,renidraG .H .A 393 .P ,1967 ,noitaziliviC ylrA ehT ,rsaE raeN و كذا 159. P, uc- po

الكريم- إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر، و لنقرأ هذا النص «خذوا أباكم و بيوتكم و تعالوا إليّ فأعطيكم خيرات أرض مصر، و تأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم و نسائكم و احملوا أباكم و تعالوا، و لا تحزن عيونكم على أثاثكم، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم» (1)، كما لم تهمل التوراة كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين الجياع إلى مصر، إنما كانت للقوت، و لكنها تؤكد أيضا أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض التي استضافتهم (2).

و منها (ثانيا) أن التوراة تزعم أن يوسف قد اشترى كل أرض مصر- من عليها و ما عليها- للفرعون (و هو اصطلاح لم يكن قد استعمل في مصر بعد، كما أشرنا آنفا) بعد أن امتلأت الأرض جوعا (3)، الأمر الذي لم يثبت تاريخيا، فضلا عن أنني- علم اللّه- لست أدري: لما ذا تريد التوراة- أو بالأحرى يريد كاتبوها- أن يصوروا النبي الكريم في صورة صوت عذاب على المصريين، يستغل حاجتهم للمعونات الضرورية للحياة نفسها، فيستولي على أرض مصر كلها- باستثناء أرض الكهانة- لمصلحة الملك الهكسوسي؟. ثم و هل كان ملك مصر على أيام الهكسوس- و هو العصر الذي نرجح فيه دخول بني إسرائيل إلى أرض الكنانة (4)- يسيطر على مصر كلها، حتى يستولي له يوسف- عليه السلام- على كل أراضيها؟

إن جمهرة المؤرخين، إنما ترى أن الهكوس لم يمدوا نفوذهم أبدا إلى أبعد من القوصية (5) جنوبا، اللهم إلا في احتلال مؤقت قصير لإقليم (بي

ص: 82


1- تكوين 45: 18- 20
2- تكوين 46: 1- 4
3- تكوين 47: 13- 26
4- راجع كتابنا «إسرائيل» ص 237- 245، و انظر
5- ..FF 18 .P ,zrutS rhi dnu netpygeA ni soskyH red tfahcsrreH eiD ,bibaL rohaP

حتحور)، قام به «أبو فيس»- ربما آخر من حمل هذا اللقب- و ليس هناك من دليل حقيقي على أن غيره من الهكسوس قد تم له هذا الأمر (1)، أما أمر جبايتهم للضرائب من مصر العليا و السفلى على السواء، فموضع شك على الأقل، ذلك لأن وجهة النظر التي ترى احتلال الهكسوس للبلاد كلها، ليست سوى و هم قضى عليه النص الكبير للملك «كاموزا» الذي يتضمن في وضوح أن الغزاة لم يتقدموا إطلاقا فيما وراء جبلين، و الذي يشير إلى أنهم اضطروا بعد قليل إلى إرساء حدهم عند «خمون» (الاشمونين مركزملوي) (2).

و منها (ثالثا) أن التوراة تصور لنا شعور المصريين تجاه الإسرائيليين بأنه شعور عدائي، أو على الأقل غير ودي، منذ اللحظة الأولى التي قدم الإسرائيليون فيها بأخيهم بنيامين، إذ نرى يوسف يولم وليمة تكريم لأخيه، و لكنه يضطر إلى أن تكون له وليمة خاصة، و ثانية لإخوته، و ثالثة للمصريين، و ذلك «لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين، لأنه رجس عند المصريين» (3)، و هكذا تبدو نظرة المصريين للعبرانيين واضحة لنا منذ أول لقاء بينهما، و في ضيافة يوسف العبراني نفسه، و هي نظرة لا تدل بحال من الأحوال على احترام المصريين للعبرانيين، و إنما تدل على أنفة المصريين و تأبيهم عن مخالطة العبرانيين، و عدم استعدادهم حتى للأكل معهم، رغم أنهم يعرفون أنهم إخوة يوسف عزيز مصر وقت ذاك، و الأمين على خزائنها، و الأثير عند مليكها، و ليس من شك أن هذا إن دلّ على شي ء، فإنما يدل على أن القطيعة بين الفريقين كانت واضحة لا تحتاج إلى بيان (4).

ص: 83


1- 168. P, tic- po, renidraG. H. A
2- , 168. P, dibI و كذا كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» ص 143- 145
3- تكوين 43: 32، قارن: الظاهرة القرآنية ص 305
4- كتابنا «اسرائيل» ص 243

و منها (رابعا) أن التوراة قد حددت اسم من اشترى يوسف و وظيفته، و أنه «فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة» (1) و بدهي أن القرآن الكريم لم يفعل ذلك، لأنه- كما قلنا من قبل- ليس كتاب حوادث و تواريخ، و إنما قصصه للعبرة و العظة، و إن لقّبه «بالعزيز»، و لا شأن للقرآن بروايات المفسرين عن اسمه و اسم ملك مصر في عهده و اسم امرأة العزيز، فتلك اجتهادات، و فوق كل ذي علم عليم (2).

و هنا لنا أن نتساءل عن وصف التوراة لفوطيفار بأنه «خصي فرعون (3)»؟ و هل يتزوج الخصيان؟ و الحق أنني لست أدرى كيف دار في خلد كاتب التوراة أن رئيس الشرطة المصري كان خصيا (4)؟ أو لم يكن شافعا له في دحض هذه الفرية بأنه كان زوج أجمل سيدة في البلاد، و لكن ما الحيلة و صاحب سفر التكوين- أول أسفار التوراة- يرى أن حاشية القصر كلها من الخصيان، و منهم رئيس السقاة و رئيس الخبازين (5)، و هو أمر ما اعتدناه في مصر الفراعنة، و ما حدثنا به تاريخها، و إنما ذلك رأي يهود الأسر البابلي، حين كتبوا توراتهم على ضفاف الفرات، متأثرين بكل الحضارات القديمة التي شاهدوها- أو التي عاشوا في ظلالها- من ناحية، و بحقدهم الأعمى على مصر من ناحية أخرى، حتى أعماهم هذا الحقد عن حقائق التاريخ، فجعلوا كل رجال البلاط المصري من الخصيان.

ص: 84


1- تكوين 39: 1
2- تفسير الطبري 12/ 174- 176 تفسير المنار 12/ 272، تفسير ابن كثير 4/ 17
3- تكوين 39: 1
4- من عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير (الطبري 12/ 175، القرطبي 9/ 160)، و ان رفضتهما جمهرة المفسرين (تفسير البيضاوي 1/ 491، تفسير المنار 12/ 272، تفسير الألوسي 12/ 207، مؤتمر تفسير سورة يوسف 1/ 434، 503، 504، قارن 1/ 525، 526، 2/ 873)
5- تكوين 40: 2

و لعل من المفيد أن نشير هنا إلى أن الآية الكريمة «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» قد تفيد أن الرجل كان عقيما، لم يكن له ولد، و ما كان يرجو أن يكون له، و لكنها لن تفيد أنه كان خصيا (1).

و منها (خامسا) ما تردده التوراة من أن يوسف إنما كان يتهم إخوته بأنهم «جواسيس جاءوا ليروا عورة الأرض،» فضلا عن أن يوسف إنما كان يكرر القسم بحياة فرعون (2)، الأمر الذي لا يتفق و مكانه النبوة بحال من الأحوال.

بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الاضطراب الواضح في قصة التوراة، ففي سفر التكوين (37: 26- 28) نجد أن يهوذا هو صاحب الكلمة، و قد اقترح على إخوته أن يبيعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا، في حين نرى في نفس السفر (37: 21- 24) أن راوئين هو صاحب الصوت الأعلى، يقترح القاءه في الجب فيوافق الجميع، حيث يأخذه التجار المديانيون، كما في (تكوين 37: 28) و الأمر كذلك بالنسبة إلى بيعه إلى فوطيفار، ففي أول القصة عن قوم من مدين (3)، بينما هم في آخرها من الإسماعيليين (4).

و بعد: فهذه نظرة سريعة إلى الفروق بين قصص القرآن و روايات التوراة، فإذا ما تذكرنا أن القرآن الكريم- كما هو معروف- جاء به محمد النبي الأمي، الذي لا يكتب و لا يقرأ، كما قال تعالى «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ

ص: 85


1- تفسير المنار 12/ 272، تفسير البيضاوي 1/ 491، روح المعاني 12/ 207، تفسير القرطبي 9/ 160
2- تكوين 42: 9- 16
3- تكوين 37: 36
4- تكوين 39: 1

قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» (1)، مما يدل بوضوح لا لبس فيه و لا غموض- أن هذا القرآن من عند اللّه، و أنه و إن اتفق مع التوراة في القليل، فإنه يختلف معها في أكثر الكثير، كما يدل كذلك على أن هذا النوع من العلم ما كان عند العرب، و ليس لهم به دراية، و أخيرا فهو يدل على أن هذا القرآن ليس حديثا يفترى، و ليس أساطير الأولين اكتتبها، و لا يمكن أن تملى عليه، و إذا كان بعض المشركين قد ادعوا أنه تلقاها من بعض الناس في مكة- كما يقول بعض المستشرقين الآن- فهو لم يثبت اتصاله به، و لسانه أعجمي، و هذا كتاب عربي مبين، و فوق ذلك في القرآن من صادق الأخبار، ما لم يكن في كتب أهل الكتاب المسطورة، و لا يأتيه الباطل فيما يقول (2)، و لست أدري إعجازا بعد هذا الإعجاز (3).

ص: 86


1- سورة العنكبوت: آية 48
2- محمد أبو زهرة: القرآن ص 364- 365، الباقلاني: إعجاز القرآن ص 53- 54
3- من إعجاز القرآن كذلك إخباره بأمور حدثت في المستقبل، منها إخباره بانتصار الروم على الفرس بعد أن كانت الهزيمة من نصيب الأولين (الروم 1- 2) و منها إخباره بنصر المسلمين في بدر قبل الموقعة الكبرى (الأنفال: آية 7) و أن ذلك سوف يقع في نفس الوقت الذي سيهزم فيه الفرس امام الروم (الروم 3- 5)، و غير ذلك من أمور لا يمكن أن تكون حدسا أو تقديرا شخصيا، و انما هي من عند علام الغيوب، كقيام دولة الاسلام الفتية على الارض (النور 55) و عجز كل القوى عن القضاء عليها (الانفال 36) و الانشقاق بين المسيحيين إلى يوم القيامة (المائدة 14) و الشتات الاسرائيلي (آل عمران 112) و التفوق المسيحي على اليهود حتى يوم القيامة (آل عمران 55) [انظر: الباقلاني: إعجاز القرآن ص 77- 79، تفسير القرطبي 1/ 73- 78، الكشاف 3/ 252، 4/ 440، 445، مناهل العرفان للزرقاني 2/ 273، تفسير الطبري 21/ 16- 21، 25/ 111- 115، تفسير البيضاوي 2/ 215- 216، 439، تفسير الجلالين ص 215- 216 (نسخة على هامش البيضاوي) تفسير الآلوسي 21/ 16- 22، تفسير الطبرسي 21/ 5- 9، تفسير الفخر الرازي 25/ 95- 98، تفسير روح المعاني 6/ 95- 97، تفسير الطبري 6/ 445- 464، 7/ 116- 118، 10/ 135- 140، 13/ 398- 407، 529- 534 (دار المعارف بمصر)، تفسير مجمع البيان 3/ 94- 96، 4/ 166- 169، 6/ 54- 55 (دار مكتبة الحياة،بيروت 1961): في ظلال القرآن 21/ 2753- 2759، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 150- 153، تفسير النسفى 3/ 266- 267 (طبعة الحلبي)، تفسير أبي السعود 4/ 179- 180، تفسير الطبرسي 21/ 5- 9، تيسير العلي القدير 3/ 304- 306، تفسير المنار 4/ 47- 58، تفسير القرطبي ص 1416- 1417 (دار الشعب) تفسير ابن كثير 2/ 77- 86 (دار الشعب)، تفسير الكشاف 1/ 366؛ 401- 402، 616 (دار الكاتب العربي- بيروت)، 3/ 213- 215 مدخل الى القرآن الكريم ص 177- 181، القصص القرآني ص 49- 50، التبيان في علوم القرآن ص 121- 127

و هكذا يبدو بوضوح أن القرآن الكريم مصدر لا يرقى إليه الشك بحال من الأحوال، يحدثنا عن أقوام بادت، و عن أحداث جرت في عصور ما قبل الإسلام، ثم إنه مرآة صادقة للحياة في الجاهلية، حيث يصور لنا الحياة الدينية و الاقتصادية و الاجتماعية و العقلية أصدق تصوير (1)، ففي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز، و ذكر لجدلهم مع الرسول صلى اللّه عليه و سلم في الإسلام، و في الحياة، و في المثل الجاهلية، كما تعرض القرآن الكريم لنواح اقتصادية و سياسية عندهم فضلا عن أمور جاهلية، تتصل بمعارضة قريش للقرآن و الإسلام.

و قد تعرض الإسلام للقانون الجاهلي، و بعبارة اخرى لعرف العرب و تقاليدهم في الجاهلية، و أقر بعضا، و أنكر بعضا، و عدّل بعضا، و مثال ما عدّله الإسلام بعض شريعة الجاهلية في الحج و الزواج و الطلاق و المهر و الخلع و الايلاء، و ألغى نظام التبني المعروف في الجاهلية و غير ذلك (2)، و كل تلك أمور يستطيع المؤرخ عن طريق دراستها أن يتعرف ما كان عليه القوم في جاهليتهم، و من ثم يستطيع التعرف على كثير من أحوالهم الاجتماعية.

و بدهي أننا لا نستطيع الافادة من القرآن الكريم على الوجه الصحيح،

ص: 87


1- احمد إبراهيم الشريف: مكة و المدينة في الجاهلية و عصر الرسول ص و- ط.
2- احمد أمين: فجر الإسلام ص 227

إلا إذا استعنا بمصدرين أساسيين آخرين، و أعني بهما: حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تفسير القرآن الكريم.

ص: 88

الفصل الثّاني الحديث

ص: 89

ص: 90

الحديث هو ما ورد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير (1)، و للحديث الشريف مكانة كبرى في الدين تلي مرتبة القرآن الكريم مباشرة، و صدق رسول اللّه عليه الصلاة و السلام حيث يقول «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما بعدي أبدا، كتاب اللّه و سنتي» (2)، ذلك أن كثيرا من آيات القرآن الكريم مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فبيّنها أو قيدها أو خصصها (3)، قال تعالى «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (4). و قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ، وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (5)، و قال تعالى «وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (6).

هذا و قد فرض اللّه على المؤمنين طاعة رسوله- عليه الصلاة و السلام- في غير آية من القرآن الكريم، يقول تعالى: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7) و يقول «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (8)، كما قرن سبحانه و تعالى طاعة النبي بطاعته عز و جل، يقول تعالى «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (9) و يقول «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ

ص: 91


1- أنظر تعريفات أخرى: مصطفى السباعي: السنة و مكانتها في التشريع ص 59- 60
2- الحديث رواه أصحاب السنن
3- فتاوى ابن تيمية 15/ 443، 13/ 29، 17/ 431- 432
4- سورة النحل: آية 44
5- سورة آل عمران: آية 164
6- سورة الشورى: آية 52
7- سورة الحشر: آية 7
8- سورة النور: آية 63
9- سورة النساء: آية 80

لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (1)، و ذلك لأن السنة- كما يقول الامام احمد بن حنبل- تفسر الكتاب و تبيّنه (2)، و يقول الإمام الشافعي إن اللّه سبحانه و تعالى، يقول في كتابه الكريم: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ» و يقول: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ»، ثم بيّن على لسان نبيه- صلى اللّه عليه و سلم عدد ما فرض من الصلوات و مواقيتها و سننها، و عدد الزكاة و مواقيتها، و كيفية أداء الحج و العمرة ...

و هكذا (3)، و من هنا كان الحديث الشريف هو المصدر الثاني للشريعة الاسلامية، ثم هو أصدق المصادر التاريخية- بعد القرآن الكريم- لمعرفة التاريخ العربي القديم فى عصوره القريبة من الإسلام بالذات.

غير أن الحديث الشريف لم يدون على أيام النبي صلى اللّه عليه و سلم كما دون القرآن الكريم، حتى لا يتخذ المسلمون مع القرآن كتابا يضاهى به، و حتى لا يعتمد الصحابة على الكتابة، فينصرفوا عن حفظ الحديث (4)، و من ثم وجدنا أحاديث تنهى عن تدوين الحديث، منها ما رواه مسلم- عن أبي سعيد الخدري- من أن النبي، صلى اللّه عليه و سلّم، قال: «لا تكتبوا عني، و من كتب عني غير القرآن فليمحه، و حدثوا عني فلا حرج، و من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» (5).

ص: 92


1- سورة الأحزاب: آية 36
2- تفسير القرطبي 1/ 39
3- محمد يوسف محمد: منزله السنة من الكتاب، ص 20- 23 من كتاب دفاع عن الحديث النبوي
4- ابن عبد البر: جامع بيان العلم و فضله 1/ 68، و انظر: سنن الدارمي 2/ 91 طبع الهند، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 3، 5، تقييد العلم ص 27، محمود ابو رية: المرجع السابق ص 46- 53
5- ابن كثير 1/ 6، صحيح مسلم 4/ 298، تفسير القرطبي 1/ 80، فتاوى ابن تيمية 13/ 366، قارن: تأويل مختلف الحديث ص 49، مشكل الآثار للطحاوي 1/ 171، ابن سعد 2/ 74، 75، بحوث في تاريخ السنة ص 142، أبو رية: المرجع السابق ص 59- 65

و مع ذلك فهناك ما يدل على أن صحفا من الحديث قد كتبت على عهد رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم، منها ما كتبه رسول اللّه- عليه الصلاة و السلام- لأهل نجران عند ما صالحهم، و ما كتبه لثقيف و لأهل دومة الجندل و لأهل هجر (1)، فضلا عن الرسائل التي ارسلها للملوك و الأمراء، و الوثيقة التي بيّن فيها حقوق المسلمين و المشركين و اليهود في المدينة عند ما قدمها (2)، و ما روى عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص من أنه كان يكتب كل ما سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم (3)، بل إن هناك من يذهب إلى أن أبا هريرة قد كتب كذلك، و رغم أنه نفسه لا يكتب، فإنهم يعللون ذلك بأنه قد تعلم الكتابة بعد ذلك (4) هذا إلى جانب أن هناك ما يشير إلى أن عبد اللّه بن مسعود، و سعد بن عبادة كانا يكتبان (5)، فضلا عن خطبة النبي صلى اللّه عليه و سلم التي كتبت لأبي شاه اليمني (6)، و ما كتبه الرسول لبعض عماله من كتب حدد فيها مقادير الزكاة في الإبل و الغنم، و أخيرا فإن الإمام علي- كرم اللّه وجهه- كانت عنده صحيفة فيها أحكام الدية، كما كان عند أبي رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كتاب فيه استفتاح الصلاة، بالإضافة إلى صحف سمرة بن جندب، و جابر بن عبد اللّه (7)، و يعلل بعض العلماء لهذا الخلاف في أن

ص: 93


1- أنظر: الأموال لأبي عبد اللّه ص 272، 276، 282، 287
2- نهاية الارب 18/ 159- 169
3- صحيح البخارى 1/ 34، جامع بيان العلم 1/ 70- 71، ابن سعد 7/ 189 أسد الغابة 3/ 233- 234
4- دفاع عن الحديث ص 16، فتح الباري 2/ 167، جامع بيان العلم 1/ 70.
5- ابن عبد البر 1/ 72، مسند الإمام احمد 5/ 285، قارن: مقدمة ابن الصلاح ص 170، الباعث الحثيث ص 148، دفاع عن الحديث ص 15
6- صحيح البخارى 3/ 110
7- بحوث في تاريخ السنة ص 147، دفاع عن الحديث ص 50

النهي عن الكتابة، إنما كان وقت نزول القرآن، خشية التباس القرآن بالحديث (1).

و هناك ما يشير إلى أن تدوين الحديث، إنما بدأ التفكير فيه على أيام الفاروق عمر بن الخطاب (13- 23 ه- 634- 644 م)، و لكن الخليفة الراشد سرعان ما عدل عن ذلك، حتى لا ينصرف الناس عن كتاب اللّه (2)، ثم تجددت الفكرة على أيام عمر بن عبد العزيز (99- 101 ه- 717- 719 م)، و كما يروي أبو نعيم- في تاريخ اصفهان- أن الخليفة قد كتب إلى أهل الآفاق: أنظروا إلى حديث رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم، فأجمعوه، و طبقا لرواية الإمام البخاري، فإن عمر قد كتب إلى أبي بكر بن حزم- نائبه في الامارة و القضاء على المدينة- أن «أنظر ما كان من سنة أو حديث فأكبته، فإني خفت دروس العلم و ذهاب العلماء»، غير أن الأمر لم يتم بسبب موت الخليفة، و تنحية ابن حزم عن إمارة المدينة، على أيام يزيد بن عبد الملك، و بقي الأمر كذلك إلى أن تولى هشام بن عبد الملك (105- 125 ه- 724- 743 م)، فجدّ في ذلك الأمر «ابن شهاب الزهري» (ت 124 ه)، و إن كان هناك ما يشير الى أنه قد أكره على ذلك في أول الأمر، غير أن هذه الكراهية ما لبثت أن صارت رضا (3).

و بقي الأمر كذلك، حتى جاء أبو جعفر المنصور العباسي

ص: 94


1- أحمد أمين: فجر الإسلام ص 209، قارن: تأويل مختلف الحديث ص 396، و أنظر المسند 10/ 766
2- ابن عبد البر 1/ 64- 65، تقييد العلم ص 52، أضواء على السنة المحمدية ص 47
3- نفس المرجع السابق ص 258- 262، إرشاد الساري شرح القسطلاني 1/ 7، تقييد العلم للخطيب البغدادي ص 107، ابن عبد البر 1/ 77، صحيح البخاري: باب العلم، الأحياء للغزالي 1/ 79، مقدمة المصحح لكتاب معرفة علوم الحديث ص ي، صبحي الصالح: مباحث في علوم الحديث: ص 38- 40، محمد الصباغ: الحديث النبوي ص 120- 122

(136- 158 ه- 754- 775 م)، الذي أراد أن ينسخ من موطأ مالك، الذي كتبه عام 148 ه، نسخا توزع على الأمصار، ليعمل الناس بها دون غيرها، إلا أن الإمام مالك قد رفض الفكرة من المنصور، كما رفضها من الرشيد (170- 193 ه- 786- 809 م) من بعده، و ذلك حين شاوره في أن يعلق الموطأ في الكعبة، و يحمل الناس على ما فيه، فأبى الإمام مالك، لأن أصحاب رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم، قد اختلفوا في الفروع، و تفرقوا في البلدان، و كل مصيب (1).

و على أي حال، فلقد تمّ تدوين الحديث في القرن الثاني الهجري، و يروي ابن حجر في شرح البخاري أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (ت 160 ه) و سعيد بن أبي عروبة (156 ه)، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، من أمثال الإمام مالك (93- 179 ه) بالمدينة، و عبد الملك بن جريح (ت 150 ه) بمكة، و الأوزاعي (ت 156 أو 157 ه) بالشام، و سفيان بن الثوري (ت 161 ه) بالكوفة، و حماد بن سلمة بن دينار (ت 167 ه) بالبصرة، و الليث بن سعد (ت 175 ه) بمصر، و هيثم (ت 188 ه) بواسط، و معمر باليمن (ت 153 ه) و ابن المبارك (ت 181 ه) بخراسان، و جرير بن عبد الحميد بالري، و كل هؤلاء من رجال القرن الثاني، و كانت مجموعات الحديث لهم مختلطة بأقوال الصحابة و فتاوى التابعين، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كل على حسب ما سنح له و انتهى إليه علمه (2).

ص: 95


1- احمد امين: المرجع السابق ص 221- 222، حياة محمد ص 66- 67، محمود ابو رية: المرجع السابق ص 298، الحافظ بن عبد البر: كتاب الانتقاد ص 41، مباحث في تدوين السنة المطهرة ص 186
2- فجر الاسلام ص 222، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 101، النجوم الزاهرة 1/ 351، دفاع عن الحديث ص 73- 74، كتاب معرفة علوم الحديث ص ي- يا

و على أي حال، فإنه من المتفق عليه- أو يكاد- تدوين الحديث إنما بصفة عامة و رسمية في نهاية القرن الأول الهجري، و لم يكد ينتهي القرن الثالث حتى كانت السنة كلها مدونة في الكتب من صحاح و سنن و مسانيد (1)، و أن بعض الصحابة و التابعين كانوا يدونون في القرن الأول الهجري، لا سيما بعد وفاة النبي، صلى اللّه عليه و سلم. (2).

و قد اتبع المسلمون الدقة- كل الدقة- في تدوين الحديث، إذ كانت الأحاديث تروى عن طريق سلسلة الحفاظ، أو ما يعرف «بالسند» أو «الإسناد»، حتى تصل إلى النبي، صلى اللّه عليه و سلم، أو إلى السلف الأول من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين (3)، هذا إلى جانب تقويم الرواة و تعديلهم أو تجريحهم، و وضعهم في درجات متفاوتة من الثقة فيما يروون (4)، و يروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أنهم لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا «سموا لنا رجالكم» (5).

و قد أبدعت الثقافة الإسلامية في هذا فنا قائما بذاته هو «الجرح

ص: 96


1- المسانيد: هي كتب الحديث التي ألفت في القرن الثاني الهجري، و أشهرها: مسند معمر بن راشد (ت 152 ه) و مسند الطيالسي (ت 204 ه) و مسند الحميدي (ت 219 ه) و مسند الإمام احمد بن حنبل (164- 241 ه) و مسند الديلمي و الشافعي و غيرها.
2- دفاع عن الحديث ص 122، مفتاح السنة ص 18
3- مقدمة ابن خلدون ص 452، حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 423، مباحث في تدوين السنة ص 88- 103، النيسابوري: كتاب معرفة علوم الحديث ص 5- 12، و كذا 201. P, 2, IE
4- عبد الستار الحلوجي: مقدمة لدراسة المراجع ص 62، و انظر: النيسابوري: المرجع السابق ص 14- 27
5- احمد امين: فجر الإسلام ص 216، محمود أبو رية: المرجع السابق ص 72- 73، 331، مباحث في تدوين السنة ص 89- 92، و انظر صحيح مسلم، سنن الترمذي

و التعديل» (1)، لا نشك في أن من أعظم ما مهد لنشأته كذب الوضاعين (2)، و افتراء أهل الأهواء، و نسبتهم إلى القرآن و السنة أقوالا يدعمون بها زيفهم و يحاربون بها الاتجاه الحق في العقيدة و في الشريعة، و قد كان المسلمون يأخذون الأخبار من أفواه الرجال، و مما قيدوه في نسخهم، ناظرين دائما إلى هيئة الرجل و صلاحه، فهم لم يكونوا يفصلون بين علم الفرد و سلوكه، فالفرد- في نظرهم الصائب- وحدة متكاملة، يؤثر فيها سلوكه على علمه، أو العكس، و لا مناص من بحث

ص: 97


1- انظر عن الجرح و التعديل: فجر الاسلام ص 216- 218، أضواء على السنة المحمدية ص 331- 341، محمد الصباغ: الحديث النبوي ص 143- 146، محب الدين الخطيب و آخرون: دفاع عن الحديث النبوي ص 90- 96، مباحث في تدوين السنة المطهرة ص 123- 160، النيسابوري: كتاب معرفة علوم الحديث ص 52- 58.
2- ترجع نشأة الاختراع في الرواية و وضع الحديث على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى آخريات أيام الخليفة عثمان بن عفان، و بعد الفتنة التي أودت بحياته، ثم اشتد الاختراع و استفاض بعد ذلك، و أما أسباب الوضع فتتلخص في نقاط، منها الخلافات السياسية، و منها نصرة المذاهب في أصول الدين و فروعه، و منها الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشا و نفاقا و قصدهم بذلك إفساد الدين و إيقاع الخلاف بين المسلمين، و منها الغفلة عن الحفظ، اشتغالا عنه بالزهد و الانقطاع للعبادة، و منها التعصب للجنس و القبيلة و البلد، و منها التقرب إلى أصحاب السلطان من الملوك و الأمراء، و منها الرغبة في إرضاء الناس و ابتغاء القبول عندهم، و منهم الوعاظ و القصاص الذين لا يهمهم إلا أن يبكي الناس في مجالسهم، و منها الرغبة في الإتيان بغريب الحديث من متن و إسناد، و منها الانتصار للفتيا، و منها الترويج لنوع من المأكل أو الطيب أو الثياب، و منها غفلة المحدث و اختلاط عقله في أخريات أيام حياته، و منها الرغبة في الخبر، و لكن مع جهل بالدين [أنظر: اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 2/ 232، 346، الباعث الحثيث ص 82، 86، 93، 94 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 208، رسالة التوحيد ص 7، 8، تاريخ بغداد 5/ 308، 13/ 335، مجلة المنار 27/ 747- 754، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 1/ 13، 5/ 7، فتح الباري 1/ 161، ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 338، 430، الموضوعات لابن الجوزي 1/ 42، و انظر امثلة للأحاديث الموضوعة في كتب: الحديث و المحدثون، تنزيه الشريعة لابن عراق، الاصابة في تمييز الصحابة، الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة، الاستيعاب في معرفة الأصحاب

حاله بحثا متقصيا، يتناول أدق تفاصيل حياته الذهنية و السلوكية ليمكن قبول نقله أو رفضه، و ما نظن أن ثقافة في الأرض قامت على مثل هذا الأساس النقدي المنهجي النزيه، فذلك شي ء تفرد به المسلمون (1).

و ليس من شك في أن كتب الحديث (2) و شروحها- رغم أنها مصدر فقهي أكثر منه تاريخي (3)- مورد غني من الموارد الأساسية لتدوين أخبار الجاهلية فيما قبيل الإسلام، على أن الغريب من الأمر، أن مؤرخي تلك الفترة قد تجاهلوا هذا المنهل الغزير، و بخاصة فيما يتصل بتاريخ عرب الحجاز، إلى حد كبير، و من ثم فقد خسروا واحدا من أهم مصادر التاريخ العربي القديم.

ص: 98


1- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص 82- 83
2- أشهر مجاميع الحديث: موطأ مالك و مسند ابن حنبل و سنن الدارميّ (ت 255 ه) و صحيح البخارى (194- 256 ه) و صحيح مسلم (204- 268 ه) و سنن أبي داود (202- 275 ه) و سنن الترمذي (209- 279 ه) و سنن النسائي (215- 303 ه) و سنن ابن ماجة (209- 273 أو 275 ه)
3- 7. P, 1952, siraP, iemohaM ed emelborP eL, arehcaiB. R

الفصل الثّالث التفسير

ص: 99

ص: 100

نزل القرآن الكريم بلغة العرب، و على أساليب العرب و كلامهم (1)، يقول تعالى «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)» و يقول «قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (3)»، و يقول «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (4)»، و يقول «وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (5)ابن قتيبة: رسالة في المسائل و الأجوبة ص 8(6)»، و هذا طبيعي لأنه أتى يدعو العرب- بادئ ذي بدء- ثم الناس كافة، إلى الإسلام، فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها، تصديقا لقوله تعالى «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (7).

و رغم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي، و في بيئة عربية كانت تفاخر من نواحي الحضارة بفن القول، فإنه لم يكن كله في متناول الصحابة جميعا يستطيعون أن يفهموه- إجمالا و تفصيلا- بمجرد أن يسمعوه، لأن العرب- كما يقول ابن قتيبة (7)- لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب و المتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض، و من هنا فليس صحيحا ما ذهب اليه «ابن خلدون» (8) من أن القرآن نزل بلغة العرب و على أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه،

ص: 101


1- أنظر تأويل مشكلات القرآن لابن قتيبة ص 62
2- سورة يوسف: آية 2
3- سورة الزمر: آية 28
4- سورة الزخرف: آية 3
5- سورة الشعراء: آية 192- 195، و انظر الرعد (37) و النحل (102- 103) و طه (113) و فصلت (1- 3، 44) و الشورى
6- و الأحقاف (12)
7- سورة إبراهيم: آية 4
8- مقدمة ابن خلدون ص 366

و يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه لأن نزول القرآن بلغة العرب، لا يقتضي أن العرب كلهم يفهمونه في مفرداته و تراكيبه، و إنما كانوا يختلفون في مقدار فهمه حسب رقيهم العقلي، بل إن ألفاظ القرآن نفسها لم يكن العرب كلهم يفهمون معناها، كما لم يدع أحد أن كل فرد في كل أمة يعرف ألفاظ لغتها (1). و ليس أدلّ على ذلك، مما يروى عن أنس بن مالك، أن رجلا سأل الفاروق عمر عن قوله تعالى «وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2)، ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التكلف و التعمق»، و روي عن عمر أيضا، أنه كان على المنبر، فقرأ «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (3)، ثم سأل عن معنى «التخوف»، فقال رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص (4).

و قريب من هذا، ما روي عن ابن عباس (3 ق. ه- 68 ه) أنه قال: ما كنت لأدري ما فاطر السموات و الأرض، حتى أحتكم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأت حفرها (5).

فإذا كان هذا شأن الفاروق، يلتبس عليه معنى «التخوف» إلى أن يفسره له شيخ من هذيل، لأن التخوف من لغة هذيل، و إذا كان هذا شأن ابن عباس- و هو حبر الأمة، و ترجمان القرآن، و من دعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقوله: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل، و من كان عنده أدق الفهم لإشارات القرآن و دقائق معانيه (6)- لا يدري معنى فاطر السموات

ص: 102


1- احمد امين: فجر الاسلام ص 196
2- سورة عيسى: آية 31
3- سورة النحل: آية 47
4- الموافقات 2/ 57- 58، فجر الاسلام ص 196
5- مصادر الشعر الجاهلي و قيمتها التاريخية، تفسير الطبري 14/ 77
6- الاتقان 2/ 179، 187، تفسير القرطبي 1/ 33، فتاوى ابن تيمية 4/ 93، 94، 13/ 365، 17/ 402، تفسير الطبري 1/ 90، مقدمتان في علوم القرآن ص 57- 58، 264

و الأرض، حتى يحتكم إليه أعرابيان في بئر، فيقول أحدهما أنا فطرتها، أي بدأت حفرها (1)، بل و يروى عنه كذلك أنه قال: ما كنت أدري معنى قوله تعالى «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» (2) حتى سمعت بنت ذي يزن، تقول لزوجها: تعال أفاتحك: أي أحاكمك (3)- إذا كان هذا شأن الفاروق و ابن عباس، فحريّ بالعامة من العرب- و من باب أولي حريّ بنا، وفينا العجمة التي غلبت في كل مكان- ألا يفهموا جميعا لغة القرآن؛ لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحد في فهم اللغة العربية (4) فضلا عن أن هناك إشارات كثيرة في القرآن الكريم إلى أشياء في التوراة و الانجيل، و الرد عليها، و هي أمور لا يكفي في فهمها معرفة اللغة العربية (5).

إلا أن هذا لا يمنعنا من القول، بأن الصحابة على العموم كانوا أقدر الناس على فهم القرآن، لأنه نزل بلغتهم، و لأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها القرآن، و مع ذلك فقد اختلفوا في الفهم حسب اختلافهم في أدوات الفهم، و ذلك لأسباب منها (أولا) أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم، و ان كانت العربية لغتهم و منها (ثانيا) ان منهم من كان يلازم النبي صلى اللّه عليه و سلم، و يقيم بجانبه، و يشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، و منهم من ليس كذلك، و منها (ثالثا) اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم و أفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في

ص: 103


1- تفسير القرطبي 1/ 44، التفسير و المفسرون 1/ 35، أمين مدني: التاريخ العربي و مصادره ص 47- 48
2- سورة الاعراف: آية 89
3- تفسير القرطبي 1/ 44
4- محمد أبو زهرة: القرآن ص 584
5- احمد أمين: فجر الاسلام ص 196.

الجاهلية، استطاع أن يعرف آيات الحج أكثر من غيره ممن لم يعرف (1).

و هكذا نشأ علم التفسير لفهم القرآن و تدبره، و لتبيان ما أوجز فيه، أو ما أشير إليه فيه إشارات غامضة، أو لما غمض علينا نحن من تشابيهه و استعاراته و ألفاظه أو لشرح أحكامه (2)، هذا و قد نشأ التفسير في عصر الرسول، صلى اللّه عليه و سلم، فكان النبي أول المفسرين له، ثم تابعه أصحابه من بعد (3)، على أساس أنهم الواقفون على أسراره، المهتدون بهدي النبي صلى اللّه عليه و سلم (4)، و لعل أشهر المفسرين من الصحابة، الإمام علي- كرم اللّه وجهه- و عبد اللّه بن عباس، و عبد اللّه بن مسعود (5).

و جاء عصر التابعين، الذين أخذوا عن الصحابة، و أشهرهم تلاميذ ابن عباس في مكة، كمجاهد (21- 103 ه) و عطاء بن رباح (27- 114 ه) و عكرمة (25- 105 ه) مولى ابن عباس، و سعيد بن جبير (45- 94 ه)، و من أهل المدينة عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، و محمد كعب القرضي (ت 117 ه) و رافع بن مهران، أو كما يكنى أبو العالية الرياحي (ت 93 ه)، و أما تلاميذ عبد اللّه بن مسعود في العراق، فمسروق بن الأجدع- و هو عربي من همدان- و قتادة أبو الخطاب السدوسي- و هو عربي كان يسكن البصرة- و عطاء الخراساني

ص: 104


1- نفس المرجع السابق ص 197- 198
2- عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص 16، و انظر: البرهان 2/ 13
3- فتاوى الإمام ابن تيمية 13/ 331- 333
4- اشتهر بتفسير القرآن عشرة من الصحابة، و هم الخلفاء الاربعة و ابن مسعود و ابن عباس و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و أبو موسى الاشعري و عبد اللّه بن الزبير، و أما الخلفاء فأكثر ما روي عنه هو الإمام علي، و الرواية عن الثلاثة نذرة جدا (كشف الظنون 1/ 178، الاتقان 2/ 187- 189، فتاوي ابن تيمية 13/ 364- 366، 17/ 402، فجر الاسلام ص 202- 204)
5- راجع شروط المفسر و آدابه (الاتقان 2/ 175- 187، تفسير المنار 1/ 17- 26، التبيان في علوم القرآن ص 177- 181)

(50- 135 ه)، فضلا عن الإمام الحسن البصري، ذلك العالم الزاهد، الذي ولد في المدينة المنورة، و شب في كنف الإمام علي بن أبي طالب، ثم استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، فسكن البصرة، و توفي بها عام 110 ه (1).

و في هذا العصر- عصر التابعين- تضخم التفسير بالإسرائيليات و النصرانيات، لأسباب كثيرة، منها (أولا) أن كثيرا من اليهود كان- إبان ظهور الإسلام و قبله- يقيمون في المدينة المنورة و في مجاوراتها، كبني قينقاع و بني قريظة و بني النضير، فضلا عن يهود خيبر و فدك و تيماء، و كان هؤلاء و أولئك قد حملوا معهم إلى بلاد العرب- يوم وفدوا إليها خلال القرنين، الأول و الثاني بعد الميلاد، على ما نرجح (2)- ما حملوا من ثقافات مستمدة من كتبهم الدينية، و ما يتصل بها من شروح، و ما توارثوه جيلا بعد جيل عن أنبيائهم و أحبارهم، هذا و قد كان لليهود في بلاد العرب مواضع يقيمون فيها عبادتهم و شعائر دينهم، و يتدارسون فيها أحكام شريعتهم و أيامهم الماضية، و أخبارهم الخاصة برسلهم و أنبيائهم و كتبهم و غير ذلك، عرفت عند الجاهليين «بالمدارس» أو «بيت

ص: 105


1- الاتقان 2/ 190، 224، 225، فتاوى ابن تيمية 13/ 332، 347، 368، 369، 15/ 67، 68، 201، مقدمتان في علوم القرآن ص 263، 264، فجر الاسلام ص 174، 184، 204، 205، التبيان في علوم القرآن ص 160- 170
2- يختلف المؤرخون في العصر الذي جاء فيه اليهود إلى بلاد العرب، ففريق يراه على أيام موسى (القرن 13 ق. م.) و فريق يراه على أيام داود (1000- 960 ق. م.) و فريق يراه عقب استيلاء سرجون الثاني على السامرة عام 722 ق. م.، و فريق يراه بعد استيلاء نبوخذ نصر على أورشليم عام 586 ق. م.، و أخيرا هناك من يراه بعد القضاء النهائي على اليهود في فلسطين على أيام تيتوس عام 70 م، و على أيام هدريان فيما بين عامي 132، 135 م، و هذا ما نرجحه (أنظر التفصيلات في كتابنا «بلاد العرب»، و هو الجزء الخامس، من «دراسات في تاريخ الشرق الادنى القديم- تحت الطبع)

المدارس» (1)، و يروي أبو داود عن ابن عباس، أن هذا الحي من الأنصار كانوا- و هم أهل وثن- مع هذا الحي من اليهود- و هم أهل كتاب- يرون لهم فضلا، و يقتدون بكثير من أفعالهم (2).

و منها (ثانيا) أن العرب كانوا يقومون برحلات إلى الشام و اليمن، و بدهي أنه كانت تتم بين العرب و اليهود الذين كانوا يستوطنون هذه البلاد، لقاءات لا شك أنها كانت عاملا قويا من عوامل تسرب الثقافة اليهودية إلى العرب الذين كانت ثقافتهم- بحكم بداوتهم و جاهليتهم- محدودة ضيقة، و زاد الطين بلة، أن اليهود الذين نقل العرب عنهم، كانوا في غالبيتهم بداة مثلهم، لا يعرفون من كتبهم، إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب (3).

و منها (ثالثا) دخول جماعات من علماء اليهود و أحبارهم في الإسلام، كعبد اللّه بن سلام، و عبد اللّه بن صوريا، و كعب الأحبار و غيرهم، ممن كانت لهم ثقافة يهودية واسعة، و كانت لهم بين المسلمين مكانة مرموقة و مركز ملحوظ، بهذا كله التحمت الثقافة الإسرائيلية بالثقافة الإسلامية، بصورة أوسع و على نطاق أرحب (4)، و منها (رابعا) ميل النفوس لسماع التفاصيل عما يشير اليه القرآن من أحداث يهودية و نصرانية (5)، و منها (خامسا) أن العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم، و إنما

ص: 106


1- أنظر: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي 2/ 120، رمزي نعناعة: الاسرائيليات و أثرها في كتب التفسير ص 107، صحيح البخارى 9/ 131، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة.
2- انظر: تفسير ابن كثير 1/ 261
3- محمد السيد الذهبى: الإسرائيليات في التفسير و الحديث ص 24- 25، مقدمة ابن خلدون ص 283- 284.
4- محمد السيد الذهبي: المرجع السابق ص 26
5- احمد امين: فجر الإسلام ص 205

غلبت عليهم البداوة و الأمية، و إذا ما تشوقوا إلى معرفة شي ء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكنونات و بدء الخليقة و أسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، و يستفيدون منهم (1)، لأنهم- كما يقول ابن إسحاق- أهل العلم الأول (2)، و كانت التوراة- و التلمود- من بعدها- تشتمل على كثير مما يشتمل عليه القرآن الكريم من وقائع و أحداث تتصل بالمصطفين و الأخيار، من أنبياء اللّه الكرام، و لكن بإسهاب و تفصيل، قد يغري، في كثير من الاحايين، عواطف العامة، اكثر مما يرضي عقول العلماء.

و منها (سادسا) أن العرب لم يكونوا يعرفون العبرية- لغة التوراة- و كان أحبار يهود- كما يروي عن أبي هريرة- يقرءون التوراة بالعبرية و يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام (3)، و من ثم فلم تكن هناك من وسيلة أمام المسلمين للتأكد من صدق يهود، فضلا عن أنهم كانوا أقل منهم دهاء و مكرا، و من ثم فقد راجت بينهم سوق أكاذيب ما يسمونهم أهل العلم الأول، و تساهل المفسرون و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، و التي كانت إما من التوراة، أو مما يفتري أحبار التوراة، و لهذا حذر «النظام» من بعض المفسرين، فإن بعضا منهم- و بخاصة عكرمة و الكلبي و السدي و الضحاك و مقاتل و ابو بكر الأصم- يقول بغير رواية إلى غير أساس، و كلما كان المفسر أغرب عند العامة كان أحب اليهم (4).

و منها (سابعا) ما يرويه «ابن النديم» من أن «أحمد بن عبد اللّه بن

ص: 107


1- مقدمة ابن خلدون ص 439- 440، و انظر: تفسير الطبري 6/ 9، 10، 17/ 10، 27/ 31، تفسير ابن كثير ابن كثير 3/ 102
2- معجم الأدباء 18/ 8
3- صحيح البخاري 2/ 285
4- الحيوان للجاحظ 1/ 343- 346

سلام» قد ترجم التوراة ترجمة دقيقة، (1) فاذا صح ذلك، فإن الرجل يكون قد قدم مادة جديدة خصبة من الاسرائيليات يضيفونها إلى تفسير القرآن الكريم، و من ثم فقد توسع المفسرون و المؤرخون في الاستعانة بهذه الترجمة- إن كانت قد وجدت حقا- في تصوير أخبار ما قبل البعثة و كانوا أحيانا يزيدون في هذه الأخبار، كلما استبد بالمفسر الميل إلى الإغراب و التقصي لجزئيات الأحداث، و قد جرأهم على ذلك ضعف ملكة النقد عند معاصريهم (2)، بل إن الأمر لم يقتصر على ضعف ملكة النقد هذه، و إنما تجاوزها إلى أن عدم معرفة العرب للغة العبرية جعلهم لا يعرفون مدى صحة هذه التوراة المترجمة، ثم إن اليهود أنفسهم- في دمشق و حلب مثلا- كانوا ينكرون على يهود بلاد العرب يهوديتهم، لأنهم لم يحافظوا على الديانة اليهودية التوحيدية (3)، كما أننا نعرف أن التوراة يصعب على رجل واحد القيام بترجمتها، فضلا عن أن تكون تلك الترجمة دقيقة (4)- و ان بخاصة الذي قام بها، فيما يزعمون، من يهود بلاد العرب، و هم ليسوا أعلم من العرب بكثير- و على أي حال، فالمعروف أن التوراة، إنما ترجمت إلى اللغة العربية حوالي عام 718 م، و بالتأكيد أن أحمد هذا لم يكن واحدا ممن شاركوا فيها.

و منها (ثامنا) أن معلومات العرب الجاهليين عن أسفار التوراة معلومات مشوهة، بل إن العربي الجاهلي كان ينظر إلى ما في أيدي الرهبان و الأحبار، نظرة احترام تمنعه من أن يجادل فيها، بل إن ما جاء في

ص: 108


1- الفهرست ص 32
2- رمزي نعناعة: المرجع السابق 198
3- اسرائيل و لفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 13، حسن إبراهيم: تاريخ الاسلام السياسى 1/ 73 و كذا setilearsI dna sbarA neewteB snoitaleR ehT, htuoilograM. S. D و كذا 75 ,51 .P .PIII ,sweJ eht fo yrotsiH ,ztaerG 60 .P ,malsI fo esiR eht ot roirP
4- راجع ترجمات التوراة في كتابنا اسرائيل ص 48- 51

«الفهرست» و في «الطبقات» ليؤكد لنا أن حرص المسلمين على حرفية ما ينقلونه من الأسفار إلى اللغة العربية، ليس بأقل من حرصهم على ما يرويه الأحبار و نقله حرفيا، و هذا ما جعل القصص اليهودي ينتشر كما هو بين العامة، و يصدقه ضعاف المؤرخين (1)، بل لقد بلغ الأمر بالبعض- و منهم كعب الأحبار و وهب بن منبه- إلى أن ينسب إلى التوراة، و غيرها من كتب الرسل، ما ليس فيها شي ء منه، و لا حومت حوله (2).

و منها (تاسعا) ما يروي من أن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، قد أصاب يوم اليرموك (15 ه- 636 م) (3)، زاملتين من أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، بعد ذلك، بقدر ما فهمه من حديث «حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج» (4)، و لعل هذا كله هو الذي دفع الإمام أحمد بن

ص: 109


1- أمين مدني: المرجع السابق ص 90
2- تفسير المنار 1/ 9
3- انظر عن معركة اليرموك: ابن الاثير 2/ 410- 415 و كذا تاريخ الطبري 3/ 394- 414، فتوح البلدان ص 137، فتوح الشام 2/ 120- 124، 237- 239، العقاد: معاوية في الميزان ص 41، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 184- 188.
4- فتاوى ابن تيمية 13/ 366، و انظر عن الحديث الشريف: صحيح البخارى 6/ 319- 320، هذا و هناك ما يشير إلى النهي عن الأخذ عن بني إسرائيل (أنظر: صحيح البخاري 3/ 181، 8/ 120، مسند الإمام احمد 3/ 387، فتح الباري 13/ 259، 404، تفسير ابن كثير 4/ 6- 8، البداية و النهاية 1/ 198، محمد السيد الذهبي: المرجع السابق ص 68- 71)، و يروي ابن حجر أن النهي كان قبل استقرار الأحكام الإسلامية، و القواعد الدينية خشية الفتنة، فلما زال المحظور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار (فتح الباري 6/ 388)، فضلا عن الاحتياج الى الرد على المخالف، بدليل نقل الأئمّة قديما و حديثا من التوراة، و إلزام اليهود بالتصديق لمحمد صلى اللّه عليه و سلم بما يستخرجونه من كتابهم (فتح الباري 17/ 309، و انظر وجهات نظر أخرى في: مقدمة من أصول التفسير ص 17- 20، 45- 46، عمدة التفسير، تعليق احمد شاكر 1/ 15، تفسير ابن كثير 1/ 4، محاسن التأويل للقاسمي 1/ 44- 45، البداية و النهاية 1/ 6- 7، تفسير البقاعي ص 89- 90، محمد السيد الذهبي ص 71- 90).

حنبل إلى أن يقول كلمته المشهورة «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير و الملاحم و المغازي، أي ليس لها إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل (1)، و إلى أن يقول ابن تيمية: «و الموضوعات في كتب التفسير كثيرة» (2).

و مع ذلك كله، فإن الأمر لم يكن خطيرا على أيام الرسول صلى اللّه عليه و سلم لأن صحابته كانوا أعرف الناس بأمور دينهم، إلا أن عصر التابعين كان جد مختلف، إذ كثر النقل فيه عن يهود، و من ثم فقد وجدت أسفار يهود و أناجيل النصارى طريقها إلى كتب التفسير، و زاد الطين بلة أن وجد في تلك الفترة جماعة من المفسرين أرادوا ان يسدوا ما يرونه ثغرة قائمة في التفسير، بما وصل إليهم من الإسرائيليات، فجاء ما روي عنهم في التفسير مليئا بقصص كله سخف و نكارة، كالذي نراه في كتب التفسير منسوبا إلى قتادة و مجاهد، ثم جاء في عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات و أفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا، و لا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروى لهم، و إن كان لا يتصوره عقل، و استمر الشغف بالإسرائيليات، و الولع بنقل الأخبار التي كان يعتبر الكثير منها نوعا من الخرافة، إلى أن جاء عصر التدوين (3).

و على أي حال، سواء أ كانت هذه هي كل الأسباب، أم أن هناك أسبابا أخرى، فالذي لا شك فيه أن كثيرا من كتب التفسير قد اتسع لما قيل من ذلك و أكثر، حتى أصبح فيها مزيجا متنوعا من مخلفات الأديان المختلفة و المذاهب المتباينة، التي ترامت إلى علم العرب (4)، و حتى حوت

ص: 110


1- ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير ص 14 (طبعة دمشق)، تفسير المنار 1/ 8، و أنظر: الأسرار المرفوعة ص 339، كشف الخفاء 2/ 402، المقاصد الحسنة ص 481، تمييز الطيب من الخبيث ص 198.
2- ابن تيمية: الرجع السابق ص 19
3- محمد السيد الذهبي: المرجع السابق ص 36- 37 مقدمة ابن خلدون ص 490- 491
4- أمين الحولي: التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم ص 10- 11، دائرة المعارف الاسلامية 9/ 415، محمد السيد الذهبي: التفسير و المفسرون 1/ 88

من الإسرائيليات كل عجيب و عجيبة، و استوت في ذلك تفاسير المتقدمين و المتأخرين، و المتساهلين و المتشددين (1)، على تفاوت بينها في ذلك قلة و كثرة، و تعقيبا عليها، و سكوتا عليها (2).

و أيا ما كان الأمر، و رغم هذه الشوائب، فالذي لا شك فيه، أنه في كتب التفسير (3)، ثروة تاريخية قيمة، تفيد المؤرخ في تدوين التاريخ العربي القديم، و تشرح ما جاء مجملا في القرآن العظيم، و تبسط ما كان عالقا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت عصر الإسلام، و تحكي ما سمعوه عن القبائل العربية البائدة، التي ذكرت على وجه الإجمال في القرآن الكريم، و ما ورد عندهم من أحكام و آراء و معتقدات

ص: 111


1- لعل أشهر كتب التفسير التي روت كثيرا من الاسرائيليات هي: تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150 ه) و الطبري (224- 310 ه) و الثعلبي (ت 427 ه) و الخازن (678- 741 ه)، و اما التي تحرجت عن التوسع فيها، فأشهرها: تفسير ابن كثير (700- 774 ه) و الألوسي (1217- 1270 ه) و محمد رشيد رضا (1282- 1354 ه) [أنظر: دارة المعارف الإسلامية 9/ 451- 452، محمد السيد الذهبي: الاسرائيليات في التفسير و الحديث ص 161- 249
2- نفس المرجع السابق ص 158، 283
3- أشهر كتب التفسير: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) و تفسير الثعلبي (الكشف عن بيان تفسير القرآن) (تفسير المرتضى) (آمالي الشريف) و تفسير المشكاة (مرآة الأنوار و مشكاة الأسرار) و تفسير البغوي (معالم التنزيل) و تفسير الزمخشري (الكشاف على حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل) و تفسير الطبرسي (مجمع البيان) و تفسير ابن العربي (أحكام القرآن) و تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) و تفسير الرازي (مفاتيح الغيب) و تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) و تفسير النسفي (مدارك التنزيل و حقائق التأويل) و تفسير النيسابوري (غرائب القرآن و رغائب الفرقان) و تفسير الخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل) و تفسير أبي حيان (البحر المحيط) و تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) و تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل و أسرار التنزيل) و تفسير الجواهر (الجواهر الحسان في تفسير القرآن) لعبد الرحمن الثعالبي الجزائري و تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) و تفسير الجلالين، و تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم) و تفسير الألوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني) و تفسير القاسمي (محاسن التأويل) و تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم) و تفسير و جدي (المصحف المفسر) و تفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) و تفسير طنطاوي جوهري (الجواهر في تفسير القرآن الكريم).

ص: 112

الفصل الرّابع إبراهيم الخليل جدّ العرب

اشارة

ص: 113

ص: 114

إبراهيم أبو الانبياء، و الجد الأعلى لرسول اللّه، و أشدّ الناس شبها به، خليل اللّه، و إمام المتقين، رمز الإيمان و الأسوة الحسنة للمؤمنين جميعا (1)، و أول من أعطى المسلمين اسمهم (2)، و أول من دعا لهم ربهم أن يبعث فيهم رسولا منهم، يهديهم سواء السبيل (3)، و صدق رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم، حيث يقول «أنا دعوة أبي إبراهيم» (4).

و تاريخ الحجاز لن يكون مفهوما إلا عن طريق دراسة تاريخ أبي الانبياء- سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام- فهو أبو العرب (5)، و هو باني كعبتهم (6)، و جاعل مكة أقدس بقاع الأرض قاطبة (7)، و هو أول من أذن في الناس بالحج (8)، و أول من دعا لهذه الأرض الطيبة بالأمن و السكينة، و الخير و البركة (9).

و هكذا كان الحجاز الشريف مهد خاتم الأنبياء و المرسلين، محمد رسول اللّه- صلوات اللّه و سلامه عليه- مهبط الوحي، و منزل القرآن، تتجه إليه ملايين قلوب المسلمين و وجوههم في كل يوم خمس مرات (10)،

ص: 115


1- سورة الممتحنة: آية 4
2- سورة الحج: آية 78
3- سورة البقرة: آية 129
4- تفسير القرطبي 2/ 131
5- سورة الحج: آية 78
6- سورة البقرة: آية 127
7- سورة آل عمران: آية 96، و انظر: تفسير الطبري 3/ 45
8- سورة الحج: آية 27
9- سورة البقرة: آية 126
10- سورة البقرة: آية 144

و تؤمه في كل سنة آلاف مؤلفة من الحجيج، استجابة لدعوة إبراهيم، و أداء للفريضة الخامسة من فرائض الإسلام (1).

و هكذا يبدو بوضوح أن الخليل عليه السلام، لم يرتبط بدين من الأديان، كما ارتبط بالإسلام، و لم يؤمن أصحاب دين بالخليل، كما آمن به المسلمون، و لم يتباه جنس بانتسابهم إلى الخليل، كما تباهى العرب بعامة- و قريش بخاصة- و لم يتمسك أصحاب دين بدعوة الخليل، كما تمسك بها المسلمون- رغم دعاوى يهود، و مزاعم النصارى- لأنهم ورثة الخليل في الإيمان و التوحيد الصحيح.

[1] مولد الخليل عليه السلام

تقدم لنا المصادر العربية عن مولد الخليل رواية مؤداها أنه ولد في عصر ملك دعوة «نمرود بن كنعان بن كوش» و الذي كان واحدا من ملوك أربعة ملكوا الأرض كلها (نمرود و بختنصر و هما كافران، و سليمان بن داود و ذي القرنين و هما مؤمنان). و أن أصحاب النجوم قد أخبروه أن غلاما- يقال له إبراهيم- سوف يولد في شهر كذا من سنة كذا من عهده، و أنه سوف يفارق دين القوم و يحطم أصنامهم، و من ثم فإن الرجل قد أمر بقتل كل غلام يولد في تلك الفترة، غير أن أم إبراهيم قد أخفت حملها، فضلا عن أنها قد وضعته سرا في مغارة قريبة من المدينة، و من ثم فقد نجا من القتل، ثم أعلمت زوجها بأن الغلام قد مات على زعم، و أخبرته بالحقيقة على زعم آخر، و على أي حال، فإنها- طبقا للرواية- قد أخذت تتردد على وليدها يوما بعد آخر، و أنها كانت تتعجب كثيرا، حينما كانت

ص: 116


1- سورة آل عمران: آية 97

تراه يشب في اليوم ما يشبه غيره في الشهر (1).

و الرواية على هذا النحو مزيج عجيب من روايات مختلفة، فضلا عن أن سهام الريب توجه إليها من كل جانب، و ليس بالوسع القول أنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، و لعل أهم ما يوجه إليها من شبهات يتلخص في نقاط: منها (أولا) أن تلك الأسطورة التي تتردد في المصادر العربية- دون غيرها من المصادر و الحقائق التاريخية- عن الملوك الاربعة الذين حكموا الدنيا بأسرها، لا تتفق و الحقائق التاريخية أبدا، فأول هؤلاء الملوك- و أعني به نمرود- قد لا يعلم أصحاب هذه الأسطورة أن التاريخ البابلي لا يعرف ملكا بهذا الإسم- حتى الآن على الأقل- و لست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون، و أكبر الظن أنهم أخذوه من توراة يهود، حيث جاء فيها «و كوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ... و كان ابتداء مملكته بابل و أرك و أكد و كلنه في أرض شنعار» (2)، على أن التاريخ يعرف بلدا باسم «نمرود»- على مجرى الزاب الأعلى- و قد كانت عاصمة للامبراطورية الآشورية على أيام سرجون الثاني (722- 705 ق. م.)، و هي نفسها مدينة «كالح» في التوراة (3)، و هكذا خلط كاتب سفر التكوين بين الملك و المدينة، ثم جاء مؤرخونا و نقلوا ما في التوراة، و كأنه التاريخ الذي يرقي فوق كل هواتف الريبة و الشك.

و أما «نبوخذ نصر»- أو بختنصر كما يدعونه- (605- 562

ص: 117


1- ابن الأثير 1/ 94- 95، الطبري 1/ 233- 237، أبو الفداء 1/ 13، ابن كثير 1/ 148، المحبر ص 392- 394، تفسير ابن كثير 3/ 181، 182، مروج الذهب 1/ 56، تاريخ الخميس ص 89- 91، 114، المقدسي 3/ 45- 48، 53، 54
2- تكوين 10: 8- 10
3- تكوين 10: 11

ق. م.)، فلم يكن ملكه يزيد- بحال من الأحوال- عن سورية بمعناها القديم، فضلا عن العراق، و مرة أخرى، ربما تأثر الكتاب المسلمون بروايات التوراة عن «نبوخذ نصر» الذي كتب له القضاء على البقية الباقية من الكيان السياسي لليهود في فلسطين، ثم القيام بالأسر البابلي المعروف في التاريخ (1)، و هكذا بدأ كتابنا يتأثرون بكتابات اليهود عن الرجل، حتى أنهم جعلوه يغزو بلاد العرب على أيام «عدنان» لسبب لا يخطر على بال مؤرخ، ذلك السبب هو الغيرة على أنبياء اللّه الذين قتلهم العرب، و لست أدري كيف قبل المؤرخون الإسلاميون هذه الاسطورة، و هم يعتقدون- في نفس الوقت- أن الرجل إنما كان كافرا، و قد يزول العجب حين ينسبون إصدار أمر الغزو إلى «برخيا» اليهودي، و كأن مذلّ اليهود، إنما يعمل بأمر اليهود (2)، ثم قد يعود العجب مرة أخرى، إذا علمنا أن توراة اليهود تخلو تماما من هذه الروايات، و أن الفترة ما بين عهد «عدنان» و عهد نبوخذ نصر جد بعيدة (3).

و اما سليمان بن داود- عليه السلام- فإن المصادر التاريخية جميعا، بما فيها التوراة، تتفق- هذا إذا استثنينا المصادر العربية- على أن ملك

ص: 118


1- انظر كتابنا اسرائيل ص 529- 535 و كذا 233 .P ,learsI dna tpygE ,yelretseO .E .O .W ,226 .P ,tsaP tneicnA eht morf thgiL ,nageniF .402 -399 .PP ,1965 ,II ,AHC ni ,kooC .S ,288 -285 .PP ,learsI fo yrotsiH ehT ,htoN .M ,225 -223 .PP .haduJ fo modgniK eht fo sraW tsaL ehT ,tamalaM .A 284 -280 .PP ,yrotsiH sa elbiB ehT ,relleK .W
2- تاريخ الطبري 1/ 558- 560، ابن الأثير 1/ 270- 272، المسعودي 2/ 130- 131، معجم البلدان 2/ 328- 331، الإكليل 2/ 286
3- أنظر: كتابنا «بلاد العرب»

النبي الكريم لم يتجاوز فلسطين بحدودها المعروفة (1)، بل إن التوراة نفسها- رغم المبالغات المعروفة عنها، بخاصة إذا كان الأمر يتصل بملك سليمان- ترى أن مملكة إسرائيل، في أقصى اتساع لها، و في أزهى العهود، إنما كان «من دان إلى بئر سبع» (2)، و هي حدود قد لا تشمل حتى فلسطين كلها.

و أما الإسكندر المقدوني (336- 323 ق. م.)- إن كان هو المقصود بذي القرنين، و هو أمر تحيط به الشكوك- فلعله أكثر الأربعة اتساعا في الملك، و لكنه بالتأكيد لم يملك الدنيا بأسرها، كما أنه لم يكن مؤمنا، بل إن الرجل إنما كان يؤله في كل بلد تضعه الأقدار تحت حكمه (3).

و منها (ثانيا) هذا التردد في معرفة آزر بمولد ولده، ألا يدعو إلى التساؤل: كيف أخفت أم إبراهيم وليدها عن أبيه؟ ثم مرة أخرى: آزر يخاف على وليده من الملك، فأي الروايتين هي الصحيحة؟ و منها (ثالثا) هذا الإصرار العجيب في المصادر العربية، على ترديد رواية إعلام المنجمين للملوك بمولد الأنبياء- يحدث هذا في مولد إبراهيم، كما يحدث في مولد الكليم و المسيح عليهما السلام، بل لقد رآه البعض كذلك في مولد «زرادشت» نبي الفرس المزعوم، و إن كانت الاسرائيليات تبلغ

ص: 119


1- أنظر مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة» مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس، 1976، ملوك أول 9: 11، 16، و كذا 206 -205 .P .P ,tic -po ,htoN .M ,433 .P ,tsaE raeN eht fo yrotsiH tneicnA ehT ,llaH .R .H ,368 .P ,yrutneC thgiE eht fo elddiM eht ot sgninnigeB stimorF ,learsI ,sdoL .A ,77 -76 .PP ,dlroW eht fo yrotsiH trohsA ,slleW .G .H 21 .P ,elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohsA .htoR .C .529 .P ,tseuqnoC naisreP ot semiT tseilraE eht morF ,tpygE fo yrotsiH A ,detsaerB .J
2- قضاة 20: 1، صموئيل أول 3: 20، صموئيل ثان 23: 2، أخبار أيام ثان 21: 31
3- و. و. تارن: الإسكندر الأكبر، ترجمة زكي علي، ص 178- 180

قمتها فيما يتصل بموسى عليه السلام، بل إن بعض المؤرخين إنما جعل بني إسرائيل انفسهم- و ليس المنجمين- هم الذين كانوا يرددون هذه النبوءة، و أن صاحبها هو الخليل نفسه (1).

و لعل سؤال البداهة الآن: لم يصرّ هؤلاء المؤرخون على أن يجعلوا المنجمين يعلمون الغيب من الأمر؟ حتى أنهم في قصة إبراهيم، إنما يحددون مولده بالسنة، بل و الشهر كذلك، و إن لم يقل لنا أصحابنا المؤرخون: متى كان هذا الشهر، و تلك السنة، ثم ألا تبدو الصنعة واضحة في ولادة الخليل في مغارة، ثم تركه وحيدا فيها، ثم زيارة أمه له يوما بعد يوم، دون أن يدري الملك- أو حتى أبو الخليل نفسه- شيئا عن ذلك، ثم من أين اتى المؤرخون بكل هذا القصص؟

و الرأي عندي أنه ربما صاحبت مولد الخليل عليه السلام بعض الخوارق، فذلك أمر لا ننكره، و ما كان لنا أن ننكره، و لكن أن تكون الخوارق بهذه الطريقة التي يذكرها مؤرخونا، و أن تتكرر مع بعض الأنبياء على نفس الوتيرة، مع تغيرات طفيفة في السرد القصصي، فذلك ما نراه أمر اختلاق، لعبت الإسرائيليات فيه الدور الأول، ثم شاء لمؤرخينا علمهم أن يزيدوا فيها، و هم يعلمون أن التوراة محرفة، فما زادوا- و الحال هذه- على أن نقلوا التحريف، بل و ربما في بعض الأحايين أن حرفوا التحريف نفسه، فأتت كتاباتهم على هذا النحو أو ذاك.

ص: 120


1- ابن الأثير 1/ 170، تاريخ الطبري 1/ 234- 237، 387- 388، ابن كثير 1/ 237- 238، تاريخ اليعقوبي 1/ 23، مروج الذهب 1/ 56، متى 2: 1- 22، قارن: تفسير المنار 1/ 313، المقدسي 3/ 45، تفسير الطبري 12/ 65- 67، قصة مشابهة عن قوم صالح عليه السلام.
[2] موطن الخليل و عصره

تروي التوراة أن الخليل عليه السلام، إنما هو «أبرام (1) بن تارح»، و من ثم فإن القرآن الكريم يختلف مع التوراة في اسم والد إبراهيم، حيث يقول سبحانه و تعالى «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» (2).

و يبدو أن بعض المفسرين و المؤرخين نظروا إلى رواية التوراة، و كأنها السند الصحيح (3)، و من ثم فقد حاولوا تأويل الآية الكريمة بما يخرجها عن صريح اللفظ، محاولين بذلك أن يقضوا على التناقض بين ما جاء في القرآن، و ما ذهبت إليه التوراة، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا إسرائيل، و ذهبنا إلى أن اسم والد الخليل، إنما هو «آزر»، طبقا لما جاء في القرآن الكريم و الحديث الشريف، فضلا عن أن الأدلة العلمية كلها تقف إلى جانبه، و من ثم فإن تأويلات المفسرين و المؤرخين لا معنى

ص: 121


1- دعت التوراة الخليل أبرام حتى التاسعة و التسعين من عمره، ثم إبراهيم بعد ذلك (انظر تكوين 11: 27- 31، 12، 4، 7، 9، 10، 14، 16- 18، 13: 1- 8، 12، 14، 18، 14: 13، 14، 19، 22، 23، 15: 1- 3، 13، 18، 16: 1- 6، 15، 17: 1- 6
2- سورة الأنعام: آية 74 و انظر: تفسير الطبري 11/ 465- 469 (دار الشعب- القاهرة 1957)، تفسير النسفي 2/ 53، الجواهر في تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوي جوهري) 4/ 56 (طبعة ثالثة 1974).
3- ابن الأثير 1/ 94، تاريخ الطبري 1/ 223، أبو الفداء 1/ 13، المقدسي 3/ 47، تاريخ اليعقوبي 1/ 23- 24، مروج الذهب 1/ 56، ابن خلدون 2/ 33، تفسير روح المعاني 7/ 194، تفسير القرطبي ص 2458 (طبعة الشعب) دائرة المعارف الاسلامية 1/ 52- 55، تفسير الطبري 11/ 465- 466، و مع ذلك فهناك من يجمعون على أن «آزر» هو ابو إبراهيم طبقا لتصريح القرآن (تفسير الطبري 11/ 468- 469، تفسير الفخر الرازي 3/ 72، تفسير البحر المحيط 4/ 163- 164، تفسير روح المعاني 7/ 194- 195، تفسير الجواهر 4/ 56، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 142 عباس العقاد: أبو الأنبياء ص 135- 136)

لها (1):

و أما قوم إبراهيم، فهناك من يجعلهم من المجموعة الآرامية التي تزوج منها إسحاق و يعقوب، و سواء أصح هذا أم لا، فأن قوم إبراهيم قد خرجوا من قلب الجزيرة العربية التي نشئوا فيها كجماعة من الجماعات السامية العديدة، و لعل في تفكير إبراهيم في إسكان زوجته المصرية، و ابنه إسماعيل منها في منطقة مكة المكرمة، هربا من ضرتها العجوز سارة، لم يكن على الأرجح بمحض الصدفة، ذلك لأن الصدفة لم يكن لها محل في تنظيم مثل هذه الخلافات العائلية عند رؤساء العشائر الأقدمين، و أذا كان إبراهيم قد اختار هذه المنطقة، فمما لا شك فيه أنه هو شخصيا كانت له صلات قرابة و صلات حلف و ذمة مع سكانها، و إلا لما اختار هذا المكان القفر البعيد مأوى لزوجته و ابنه (2).

و هكذا يمكن القول أن إبراهيم الخليل كان عربيا خالصا من سلالة العرب العاربة التي يرتفع نسبها إلى سام بن نوح، عليه السلام، كما أنه سوف يكون أبا العرب العدنانية الذين هم أبناء ولده إسماعيل، و هو بهذا جد العرب، قبل أن يكون جد الإسرائيليين.

هذا و يقدم لنا المؤرخون وجهتي نظر، فيما يتصل بأور موطن الخليل عليه السلام، الواحدة تذهب إلى أنها إنما تقع في جنوب العراق (3)، بينما تذهب الثانية إلى أن «أور» هذه ليست من بابل، و لا تقع على الخليج العربي، بل هي من إقليم العراق الأعلى في منطقة الجزيرة بين دجلة و «الفرات» و أن هناك كثيرا من الأدلة التي تؤيد هذا

ص: 122


1- كتابنا اسرائيل ص 160- 164
2- حسن ظاظا: الصهيونية العالمية و اسرائيل ص 26- 27.
3- تكوين 11: 28، 31، 15: 7، نحميا 9: 7 و كذا 42. P, tic- po, relleK. W

الإتجاه، موجودة في نصوص التوراة نفسها (1)، إلى جانب أدلة أخرى، سبق لنا مناقشتها في كتابنا إسرائيل (2)، و كلها تؤيد الفكرة القائلة أن «أور»، إنما كانت من مجاورات «حاران»، و بالذات إلى الشرق منها طبقا لتقاليد محلية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي، و لعل «إميانوس مركليوس» كان يعنيها في إشارة له من نفس التاريخ إلى قلعة تقع بين سنجار و الدجلة (3)، و من ثم فقد ارتضينا الرأي الذي يجعل من حاران- و ليس أور المشهورة في جنوب العراق (4)- موطنا للخليل (5).

هذا و قد اختلف المؤرخون كذلك في عصر الخليل (6)، فبينما يذهب «يونجر» إلى أنه ربما كان في الفترة (1261- 1986 ق. م.) (7)، بينما يرى «و يجال» أن الخليل إنما ولد في حوالي منتصف القرن الحادي و العشرين ق. م. (8)، و أما أطلس و ستمنستر، فيحدد

ص: 123


1- تكوين 24: 7، 40، 27: 43- 44، 28: 10، يشوع 24: 2، نجيب ميخائيل مصر و الشرق الأدنى 3/ 183، حسن محمود: حضارة مصر و الشرق القديم: ص 349، و كذا 166. p, tic- po, sdoL A و كذا 70. P, tic- po, nageniF. J
2- راجع كتابنا إسرائيل ص 165- 171
3- 6- 165. PP, tic- po, sdoL. A
4- تذهب بعض الروايات الإسلامية إلى أن موطن الخليل، إنما كان في كوثي من سواد العراق، و تذهب روايات أخرى إلى أنه في بابل، بينما تذهب رواية ثالثة إلى السوس من أرض الاهواز، و رابعة الى حران، غير سادسة تذهب إلى الوركاء، بل ان رواية سابعة ترى أنه ولد بغوطة دمشق (تفسير الطبري 20/ 142، ابن كثير 1/ 140، تاريخ اليعقوبي 1/ 23، تاريخ الطبري 1/ 223، ياقوت 2/ 235، 4/ 487، أبو الفداء 1/ 13)
5- جون الدر: الاحجار تتكلم ص 43، 44 و كذا 104 P ,tic -po ,yarG .J ,6 -165 .P .P ,tic -po ,sdoLL .A ,514 -492 .P .P ,noitaziliviC fo sgninnigeB ehT ,yellooW .L ,71 -70 .P .P ,tic -po ,nageniF .J ,31 -21 .P .P ,msiaduJ ,nitetspE .I
6- راجع كتابنا إسرائيل ص 171- 177
7- 14- 10. P. P, tic- po, regnU. M
8- 40. P, shoarahP eht fo yrotsiHA, llagieW. A

عصر الخليل فيما بين عامي 2000، 1700 ق. م. (1)، بينما حددت موسوعة و ستمنستر- اعتمادا على تقدير الأسقف يوشر- مولد الخليل بعام 1996 ق. م. (2)، و أما السير «ليونارد و ولي» فيراه معاصرا لعصر «لارسا»، أعني ما بين عامي 1920، 1800 ق. م.، مستشهدا في ذلك بما دونه العهد القديم، و بتحقيق كلمة «عابيرو» (3)، التي يرى أنها استعملت في ذلك الوقت للدلالة على العبرانيين (4).

و يذهب «كيلر» إلى أن الخليل قد عاش حوالي عام 1900 ق. م. (5)، و أما «جورج روكس» فيرى أن الرحلة التي قام بها إلى كنعان، قد تمت في حوالي عام 1850 ق. م.، أو بعد ذلك بقليل (6)، و هذا يعني أن الخليل قد ولد في الربع الأخير من القرن العشرين ق. م.،

و يحدد «جاك فينجان» عام 1900 ق. م.، كتاريخ لدخول إبراهيم كنعان، و أنه قد ترك ميز و بوتاميا في عصر الغزو الأموري و العيلامي، و أن الاضطرابات التي حدثت هي التي اضطرته إلى الرحيل من موطنه الأصلي (7).

و هناك طائفة من العلماء حاولت الربط بين إبراهيم الخليل، و بين حمورابي الملك البابلي الشهير، بصلة من نوع ما عن طريق «امرافل ملك

ص: 124


1- 234. P, elbiB eht ot saltA lacirotsiH retsenimts? W
2- عباس العقاد إبراهيم أبو الأنبياء ص 69، قاموس الكتاب المقدس ص 12
3- انظر عن كلمة عابيرو و صلتها بالعبرانيين، كتابنا إسرائيل ص 1- 5، حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 71، 14 -13 .PP ,tic -po ,nietspE .I ,212 .P ,tic -po ,yelretseO .O .W ,7 -406 .P ,tic -po ,tlaH .R .H
4- 512, 492. P. P, tic- po, yelooW. L
5- 69. P, tic- po, relleK. W
6- 215. P, qarI tneicnA, xuoR. G
7- 3- 72. P. P, tic- po, nageniF. J

شنعار» الذي هزمه إبراهيم عند محاولته إنقاذ ابن أخيه لوط (1)، و من ثم فقد رأى البعض أن امرافل، إنما هو «امرابل» والد حمورابي (2)، أو أنه حمورابي نفسه على رأي آخر (3)، أو على الأقل- فيما يرى فريق ثالث- أن إبراهيم كان يعيش في نفس الوقت الذي كان يعيش فيه حمورابي في بابل (4)، غير أن هناك من يرى ان عصر حمورابي متأخر عن عصر الوقائع التي تنسب إلى أمرافل بمائة سنة أو أكثر، و أن أمرافل و حمورابي لا يدلان على شخص واحد، هذا فضلا عن أن الرأي قد استقر بين العلماء، على أن تاريخ حمورابي إنما كان في الفترة (1728- 1686 ق. م.) فلو افترضنا جدلا أن إبراهيم كان يعاصر حمورابي على الأقل، و طبقا لنص التوراة- العبري أو السبعيني- فإن مدة إقامة آباء الإسرائيليين في كنعان قبل دخولهم مصر قدرت ب 215 سنة، و هذا يجعل دخولهم مصر في عام 1513 ق. م.، و هذا تاريخ يقع في أخريات عهد الفرعون تحوتمس الأول (1528- 1510 ق. م.)، و بعد طرد الهكسوس من مصر (في عام 1575 ق. م.)، بأكثر من نصف القرن، و الذين يفترض دخول الإسرائيليين مصر على أيامهم، هذا فضلا عن أنه رغم ما يذهب إليه البعض من أن «أمرافل» قريب من اسم حمورابي، فالأمر ما يزال مجال مناقشة و اعتراض من جانب العلماء، و أن اسم إمرافل هذا ما يزال حتى الآن يصعب تعيين صاحبه، كما يصعب تعيين زملائه الآخرين الذين

ص: 125


1- تكوين 14: 1- 23
2- ول ديورانت: قصة الحضارة 2/ 324 و كذا 17. P, learsI dna tpygE, eirteP. F. W
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 61- 64، و كذا 71- 70., airyssA foyrotsiH, ylraE ehT, htims. S و كذا انظر koobdnaH elbiB tekcaB ehT yellaH. H.
4- 74. p, tic- po, slleW. G. H 73. p, tic- po, nageniF. J

جاء ذكرهم في سفر التكوين (14: 1) (1).

و أخيرا فهناك من يوحّد إبراهيم ب «دمقي اليشو»، ذلك لأن «ديوتي» يترجم اسم «دمقي اليشو» بحبيب اللّه، من المقة بمعنى الحب، و الإيل بمعنى اللّه، و ضمير الاضافة، ثم جاء «جون فلبي» فظن أن هذا الإسم يطابق في الزمن و الصفة اسم الخليل إبراهيم، و أن الخليل كان ملكا من الملوك الذين حكموا جنوب العراق عند الخليج العربي، لأن الأقوال متواترة لمقام الخليل هناك في أور الكلدانيين، و لأن اسم «دمشقي إليشو» ورد في الآثار البابلية بين عدة ملوك يسمون بملوك الشاطئ أو ملوك الأرض البحرية، و هو اصطلاح يطلق على العرب من سكان تلك الجهات (2)، هذا و قد حدد «ديلابورت» لهذه الاسرة الفترة (1925- 1761 ق. م.) (3)، غير أن هناك عقبات تقف في وجه هذا الإتجاه، منها ان واحدا من الكتب المقدسة- مصادرنا الأصلية عن الخليل عليه السلام- لم يقل بأنه كان ملكا من الملوك، و منها ذلك الرأي الذي يجعل من حاران- و ليس أور- موطنا للخليل، و الذي ارتضيناه من قبل، و أخيرا فإن هذه الفكرة تجعل هجرة إبراهيم، بسبب استيلاء الكاشيين على بابل، و ليس من أجل دعوة التوحيد التي حمل لواءها طوال حياته.

و لهذا كله، فليس أمامنا سوى أن نفترض- حدسا عن غير يقين- أن الرأي الذي يجعل الخليل يعيش حوالي عام 1900 ق. م.، أقرب إلى الصواب من غيره، على أساس أن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر في أخريات القرن الثالث عشر ق. م.، في عصر مرنبتاح (1224- 1214

ص: 126


1- راجع كتابنا إسرائيل ص 175- 176
2- 1947, airdnaxelA, malsI fo dnuorgkcaB ehT, yblihP. B. J و كذا: عباس العقاد: المرجع السابق ص 64، 134
3- ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، ترجمة محرم كمال ص 74

ق. م.)، و أنهم جاءوها على أيام الهكسوس، حوالي عام 1650 ق. م.، و لما كانت مدة إقامتهم في مصر- كما يحددها سفر الخروج (1)- 430 سنة، فإن قدوم إبراهيم إلى كنعان يصبح حينئذ في حوالي عام 1850 ق. م.، و لما كان قد هاجر إلى كنعان، و هو في الخامسة و السبعين من عمره (2)، فهو قد ولد حوالي عام 1940 ق. م.، و بهذا يكون قد عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م.)، على أساس أنه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، و عمره 175 عاما (3).

[3] هجراته

كانت أولى هجرات الخليل- طبقا لرواية التوراة- من أور الكلدانيين، على اعتبار أنها الموطن الأول له، و هو أمر سبق أن ناقشناه، و خلصنا منه إلى أن ذلك إنما كان في حاران، و ليس في أور، و على أي حال، فإن التوراة تنسب هذه الهجرة إلى تارح، و ليس إلى إبراهيم، كما أنها تجعل كنعان هدف الرحلة من أور، و أن حاران لم تكن أكثر من محطة وقوف يستريح فيها المهاجرون أياما، أو يقيمون سنين عددا (4).

هذا و يرجح البعض أسباب هذه الهجرة إلى أن أور، إنما كانت في زمن إبراهيم قد فقدت شهرتها و طغت عليها بابل، فبارت تجارتها، و رسب الطين في مرفئها، و باتت الحياة فيها قلقة غير مستقرة، مما حمل أهلها على مغادرتها و الارتحال شمالا، و من هنا رحل إبراهيم من أور إلى حاران (5)، و تقول تعليقات «أبنجدون» أنه ربما كان من أسباب هذه

ص: 127


1- سفر الخروج 12: 40
2- تكوين 12: 4
3- تكوين 25: 7، (انظر ابن كثير 1/ 56- 57، و المقدس 3/ 53
4- تكوين 11: 31
5- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 8.

الهجرة اضطراب سياسي في جنوب العراق، أصابت جرائره معيشة أهل أور، فلم تستقر عليه أحوال المعيشة و التجارة في أور (1).

و يرى أستاذنا الدكتور الناضوري أن هجرة إبراهيم عليه السلام، تتصل اتصالا وثيقا بالأحداث التاريخية التي كانت سائدة في جنوب بلاد الرافدين في بداية الألف الثاني ق. م.، حيث كان عصر الاختلال الاموري و العيلامي، أو كما يطلق عليه أيضا عصر إيسين و لارسا، و هو المرحلة التاريخية التي حدثت أثناءها عدة تحركات بشرية مثل تحركات العناصر العيلامية من سوسة بعيلام، و تحركات العناصر الآمورية من سورية بحذاء نهر الفرات، مما أدى إلى ازدياد ظاهرة الصراع السياسي و الحضاري بين حكومات المدن السومرية و الأكدية، و تلك العناصر الوافدة، و كان ذلك من الأسباب المباشرة و التي أدت إلى هجرة إبراهيم عليه السلام و جماعته إلى حاران (2)، و هكذا ترجع هجرة الخليل إلى الأسباب السياسية و الاقتصادية في نفس الوقت، كما أنها كانت من «أور»، و لم تكن من حاران كذلك.

و ليس هناك من شك- فيما نعتقد- في أهمية الأسباب الاقتصادية و السياسية في الهجرات بصفة عامة، غير أن الأمر في حالة الخليل- عليه السلام- جد مختلف، و من ثم فعلينا أن نتذكر- بادئ ذي بدء- أن إبراهيم لم يكن ملكا من الملوك، و إنما كان نبيا رسولا، هذا إلى أن هجرة رجل بأسرته، لا تعني في كل الأحوال اضطراب الأمور في البلد الذي هاجر منه، إلا إذا كانت هناك هجرة جماعية، و لهذا فالرأي عندي أن هجرة إبراهيم لم تكن لأسباب سياسية أو اقتصادية في الدرجة

ص: 128


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 62
2- رشيد الناضوري: المدخل في التطور التاريخي للفكر الديني ص 173- 174

الأولى، و إنما كانت دينية، كانت هجرة نبي يريد أن يبشر بدعوة التوحيد في مكان غير هذه الأرض التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن.

و يقص علينا القرآن الكريم- في آيات كريمة من سورة مريم (1)- كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما- كما أشرنا من قبل- و كيف أن أباه قد رفض الدعوة، و هدده إن لم ينته عنها ليرجمنه و ليهجرنه مليا، فما كان من الخليل تأدبا مع أبيه و حدبا عليه، إلا أن يدعو له بالمغفرة، و إلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل و قومه، حين بذل أبو الأنبياء الجهد- كل الجهد- لصرفهم عن عبادة الأوثان، و الإتجاه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسية، و من ثم فقد حطم الأصنام و ترك كبيرهم، لعل القوم يفكرون في الموقف الجديد، أملا في أن يهديهم اللّه سواء السبيل، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا، و لا تمنع عنها ضرا، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم، إلا أن هذه العقول المتحجرة، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها، و لم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل، و أنها الحل السعيد لمشكلتهم، مع هذا الذي سفه عقولهم و حطم أصنامهم، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة، و دون أن يرجعوا إلى الحق، ما دام الحق مع إبراهيم، و تلك- ويم اللّه- عادة من طمس اللّه على قلوبهم في كل زمان و مكان، لا يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة، التي تبغي لهم الخير و الفلاح.

ص: 129


1- سورة مريم: آية 41- 48

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة الانبياء «وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ، قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ، قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» (1).

و يحاول بعض المؤرخين الإسلاميين أن يقدموا لنا قصصا تدعو إلى العجب في هذه المواقف الجادة، فيروون أن نمرودا أمر بجمع الحطب، حتى أن المرأة العجوز كانت تحمل الحطب على ظهرها، و تقول «اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا»، و حتى أن المرأة لتنذر إن بلغت ما تريد أن تحتطب لنار إبراهيم، و أن أمه نظرت إليه في النار، فطلبت أن تجي ء إليه فيها، على أن يدعو اللّه ألا يضرها شي ء من حر النار، ففعل، و هكذا

ص: 130


1- سورة الأنبياء: آية 51- 70.

ذهبت إليه فاعتنقته و قبلته ثم عادت و قد اطمأنت على ولدها (1)، و يتسابق البعض الآخر في رواية الأساطير، فيذهب إلى أنها أنما كانت ابنة نمرود- و ليست أم الخليل- و أن الخليل قد زوجها بعد ذلك من ولده مدين، فحملت منه عشرين بطنا، أكرمهم اللّه بالنبوة (2).

و لست أدري كيف احتاج نمرود- و هو في رأي هذا النفر من المؤرخين قد ملك الدنيا بأسرها- إلى أن تحمل المرأة العجوز ما لا تطيق، و إلى أن ينتظر نذر النساء بجمع الحطب لناره، و هل كان جمع الحطب يحتاج إلى فترة تمضي بين أن يتحقق للمرأة ما طلبت و بين أن توفي بنذرها حطبا للنار التي أعدها النمرود لإبراهيم؟. و أما قصة أم إبراهيم، فأمرها عجب، فكيف رأته في النار سليما معافى، ثم اعتنقته و قبلته، ثم كيف سمح لها القوم بأن تذهب إليه، أم أن أصحابنا المؤرخين أرادوا لها أن تذهب خلسة- كما وضعته خلسة فيما يزعمون؟. و إن كان الأعجب من ذلك أن تكون هذه المرأة بنت النمرود، و أن يزوجها إبراهيم من ولده مدين، و أن تنجب له عشرين بطنا من الأنبياء، و أخيرا ما الهدف من هذا القصص و أمثاله، كقصة الميرة، و قصة جيوش الذباب، و قصة أفراخ النور (3).

و أما روايتهم بأن النمرود من الأنباط، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض، و من ثم فإن النمرود كان عاملا للضحاك- و هو فارسي- على السواد و ما اتصل به يمنة و يسرة (4)، فليت الذين كتبوا كل هذا

ص: 131


1- تاريخ الطبري 1/ 241، تفسير القرطبي 15/ 98 ابن الأثير 1/ 98- 99، ابن كثير 1/ 146
2- تاريخ الخميس ص 93- 95
3- ابن الأثير 1/ 115- 117، ابن كثير 1/ 149، تاريخ الطبري 1/ 288- 290، تاريخ الخميس ص 95- 96، المقدسي 3/ 56، أخبار الزمان للمسعودي ص 104- 109، تفسير مقاتل 1/ 123- 124
4- تاريخ الطبري 1/ 291- 292، ابن الأثير 1/ 116- 117

يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق، و إنما في شمال غرب الجزيرة العربية، و أن عاصمتهم إنما كانت «البتراء»، و أنهم أقاموا دولة مستقلة، فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد، و أوائل الثاني الميلادي، ثم استولى الرومان عليها في عام 106 م، على أيام تراجان (98- 117) م، و من ثم فالفرق بين عهد الخليل، عليه الصلاة و السلام- و بين عهد الأنباط، جد كبير (1).

و عودا على بدء، إلى الخليل و قومه، حيث ترى أبا الأنبياء قد بدأ يفقد الأمل في إيمان القوم، و بخاصة بعد المناظرة التي جرت بينه و بين الذي آتاه اللّه الملك (2)، فإن اللّه لا يهدي القوم الظالمين، و هنا يقرر الخليل الهجرة، «وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (3)، و يعلن القرآن الكريم في وضوح- لا لبس فيه و لا غموض- إيمان لوط عليه السلام، «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (4)، و يبدو أن النبي الكريم قد تحمل بعض الأذى الذي تحمله أبو الأنبياء- عليه السلام- و من ثم فقد ربط القرآن الكريم نجاة الواحد منهما بالآخر، من عذاب هؤلاء القوم الظالمين، يقول سبحانه و تعالى «قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (5).

ص: 132


1- راجع عن دولة الانباط، كتابنا «بلاد العرب»
2- سورة البقرة: آية 258 و انظر: تفسير الطبري 5/ 429- 438 (دار المعارف بمصر)، الكشاف 1/ 304- 306، تفسير النسفي 1/ 130- 131، الدرر المنثور 1/ 332- 333، تفسير القرطبي 3/ 283- 284، تفسير روح المعاني 3/ 15- 19
3- سورة الصافات: آية 99
4- سورة العنكبوت: آية 26
5- سورة الأنبياء: آية 68- 71

و بدهى أنه ليس في هذه الآيات الكريمة ما يشير إلى هجرة أبيه معه، و لو كان أبوه آمن به و هاجر معه، لكان ذلك حدثا هاما جديرا بالتنصيص عليه، تكريما له و لإبراهيم في نفس الوقت، و لم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه، حتى ينال لوط وحده شرف الهجرة و مثوبة التوحيد (1)، هذا فضلا عن أن الآيات الكريمة تشير إلى أن الهجرة إنما كانت «إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (2)»، و ليست هذه الارض- بحال من الاحوال- حاران، فإذا تذكرنا أن موطن الخليل كان في حاران، لتبين لنا أن هجرة الخليل هذه إنما كانت من حاران إلى كنعان، و بالتالي فلا صلة لها بأور.

و من هنا فليست الهجرة لأسباب سياسية أو اقتصادية، و إنما لأسباب دينية تتصل بدعوة التوحيد التي حمل لواءها جدنا الأكبر أبو الأنبياء إبراهيم الخليل- عليه السلام- بخاصة و أن حاران- و تقع على نهر بلخ على مبعدة 60 ميلا إلى الغرب من تل حلفا- كانت أثناء هذه الهجرة- حوالي عام 1865 ق. م.- و طوال القرنين 19، 18 ق. م. مدينة مزدهرة، و تقع على طريق التجارة القادمة إليها من الشرق و الغرب، أضف إلى ذلك أن الخليل كان يقيم المحاريب للّه العلي القدير- كما سوف ترى- مما يدل على أن الأسباب الدينية لعبت أهم الأدوار في هجراته، الأمر الذي يبدو واضحا في آيات القرآن الكريم، و كذا في بعض نصوص التوراة.

و أيا ما كان الأمر، فان الرحلة قد بدأت من كنعان، و لا تشير

ص: 133


1- محمود عمارة: اليهود في الكتب المقدسة ص 21، 23
2- انظر عن تفسير الآية الكريمة: تفسير البيضاوي 2/ 76- 77، تفسير الجلالين ص 77 (نسخة على هامش البيضاوي).

التوراة من قريب أو بعيد إلى أماكن حط الخليل فيها ركبه و رحالهم أثناء هجرتهم هذه، حتى وصلوا إلى شكيم، و إن كان المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى»، قد ذهب إلى أن إبراهيم كان «ملك دمشق»، و أن «نقولا الدمشقي» يقول في الكتاب الرابع من تاريخه، أن ابراميس (إبراهيم) حكم في دمشق، و كان مغيرا قدم من أرض بابل من البلاد التي تسمى بلاد الكلدانيين، و لم يمض عليه طويل وقت حتى هجرها و قومه إلى كنعان، و هو أمر لم يذكره القرآن من بعد، و لا التوراة أو الإنجيل من بعد، و إن ورد اسم «اليعاذر الدمشقي» في التوراة- و هو وكيل بيت إبراهيم- و إن أشار كذلك المؤرخون الإسلاميون إلى رواية ابن عباس من أن الخليل قد ولد بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون، و قد صحح ذلك الحافظ بن عساكر، فقال أنه ولد في بابل، و إنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه، إذ جاء معينا للوط عليه السلام (1)، و كل ذلك يدل على أن هناك علاقة من نوع ما بين إبراهيم الخليل و بين دمشق، و إن كانت وصلت إلينا من مصادر متأخرة.

و على أي حال، فإن إبراهيم الخليل قد اختار- كما تشير التوراة- في ريادته الأولى لأرض كنعان، الطريق الشاق و الموحش، إذ كان متجولا فوق التلال نحو الجنوب، و هنا نجد حواف التلال المليئة بالأشجار، تقدم ملجأ و ملاذا للغريب في الأرض الأجنبية بينما يقدم الخلاء الواسع المرعى الواسع لقطعانه و رعاته، و عند ما أراد الخليل أن يستقر في بادئ الأمر، فضل ذلك أن يكون فوق هضبة، ذلك لأنه- بأقواسه و مقاليعه- لم يكن في حالة تمكنه من أن يخاطر بالصدام مع الكنعانيين، الذين كانوا- بسيوفهم و حرابهم- أكبر من ند له، و لم يكن إبراهيم بعد مستعدا

ص: 134


1- ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 168، البداية و النهاية 1/ 140

للمغامرة بعيدا عن الهضاب، و أياما كان الأمر، فقد نزل إبراهيم عند شكيم في مكان بلوطة مورة، بين جبل عيبال و جرزيم، و هناك بنى مذبحا للرب، و ربما قد تحرش به الكنعانيون، و لهذا نراه ينتقل إلى المنطقة الجبلية بين بيت إيل و عاي، فيضرب خيامه هناك، و يقيم مذبحا للرب، ثم يرتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب (1).

و يقيم الخليل- ما شاء اللّه له أن يقيم- في أرض كنعان، ثم يرحل عنها صوب أرض النيل الطيبة، بسبب مجاعة حلت بأرض كنعان (2)، و مصر كانت دائما و أبدا، للبدو و الكنعانيين- و بخاصة في أوقات القحط- ملاذهم، و غالبا منقذهم الوحيد، فحينما كانت الأرض تجف في أوطانهم، كانت أرض الكنانة الطيبة تقدم لهم المأوى و المرعى، و كان النيل بفيضانه المنتظم يتعهد بذلك (3).

و تأبى التوراة أن تمر رحلة الخليل- عليه السلام- إلى أرض الكنانة بخير، فتقول إن خليل اللّه قد هاجر بزوجته سارة إلى مصر، بسبب قحط قد أصاب أرض كنعان، و عند ما أشرف على التخوم المصرية، اتفق مع سارة على أن تقول أنها أخته، و ليست زوجته، ذلك لأن المصريين إن علموا أنها زوجته قتلوه، و أما إن كانت أخته فمن أجلها أكرموه، و حدث ما توقعه، و أبرت سارة بوعدها، و أخذت إلى بيت فرعون، و نال إبراهيم خيرا بسببها، إذ أسبغ عليه فرعون وافر نعمته، من غنم و بقر، و حمير و أتن و جمال، و عبيد و إماء، إلا أن المصائب سرعان ما أخذت

ص: 135


1- . 10. P, tic- po, regnU. F. M و انظر: تكوين 12: 6- 9
2- تكوين 12: 10
3- 87. P, tic- po, relleK. W

تتوالى على فرعون و بيته، مما اضطره أن يستدعي إبراهيم و يؤنبه على فعلته هذه، «لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك، لما ذا قلت أنها أختي، حتى أخذتها لي لتكون زوجتي» ثم يصدر أمره بطرد إبراهيم و امرأته من مصر، و إن سمح له بأن يأخذ ما كان قد أعطاه إياه من قبل (1).

و يعلم اللّه، و تشهد ملائكته، أن نفسي تتأفف من مجرد التعليق على هذه الفرية الدنيئة التي يلصقها كاتب سفر التكوين بأبى الأنبياء، فتلك فعلة لا يقبلها على نفسه، و لا يرتضيها لعرضه أحط الناس، فضلا عن أن يكون ذلك نبي اللّه و خليله العظيم، و مع ذلك فإذا رجعنا إلى نصوص التوراة نفسها، لعلمنا أن إبراهيم قد جاء إلى كنعان، و هو في الخامسة و السبعين من عمره، و أن سارة كانت في الخامسة و الستين (2)، و أنهما أقاما في أرض كنعان- ما شاء اللّه لهما أن يقيما- ثم هاجر إلى مصر، فهل كانت سارة، و قد جاوزت الخامسة و الستين من عمرها بسنين عددا، تفتن الرجال، فضلا عن أن يكون فيها لملوك مصر المترفين إربا، ثم أ ليست هي نفسها قد وصفت في إصحاح قبل هذا الإصحاح من سفر التكوين نفسه، بعد أن بشرت بإسحاق، بأنها قد صكت وجهها و ضحكت و قالت: أ يحدث هذا مع عجوز عقيم، انقطعت عنها عادة النساء، و بعلها شيخ كبير (3)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ

ص: 136


1- تكوين 12: 10- 20، و انظر قصة مشابهة لابراهيم مع سارة و ملك جيرار في (تكوين 20:1- 18) غير أن سارة هنا قد جاوزت التسعين من عمرها
2- تكوين 12: 4، 17: 17
3- تكوين 18: 9- 15

عَجِيبٌ (1)»، أضف إلى ذلك أن التاريخ ما حدثنا أن الفراعين كانوا يأخذون النساء من أهليهم غصبا، و لكنه حدثنا أن عقوبة الزنا كانت عندهم من أقسى العقوبات.

و من عجب أن بعض المؤرخين الإسلاميين قد تابعوا التوراة في مزاعمها، فيروون القصة- كما جاءت في التوراة- و إن حاولوا صبغها بالصبغة الإسلامية، فعند ما يطلب إبراهيم من سارة أن تقول لفرعون أنها أخته، إنما يفسرون ذلك لأنه ليس على وجه الأرض غيرهما مؤمن، فهي إذن أخته في الإسلام، ثم إن فرعون- و هو هنا سنان بن علوان- لم يستطع أن يقضي منها وطره (2).

و لعل سائلا يتساءل: هل عرفت مصر- حتى في أيام الهكسوس، و الذين يسميهم المؤرخون المسلمون العماليق- ملكا يحمل اسم «سنان بن علوان»- أو حتى «صاروف بن صاروف» سواء أ كان أخو الضحاك أو كان غلاما للنمرود- و الجواب: أن التاريخ المصري كله لا يعرف هذه الأسماء، و لست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون، على أن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقا، ادعاء الرواة إن إبراهيم قال عن سارة أنها أخته، لأنه لا يوجد على ظهر الارض غيرهما من المؤمنين، و الأعجب من ذلك أن تأتي الرواية من كبار المفسرين، و القرآن الكريم لا يشير إلى ذلك، و إنما هو يصرح- دونما لبس أو

ص: 137


1- سورة هود: آية 71- 72
2- أنظر: تاريخ الطبري 1/ 244- 247. ابن كثير 1/ 150- 152، ابن الأثير 1/ 100- 101، المقدس 3/ 52، تاريخ ابن خلدون 2/ 35، محمد احمد جاد المولى و آخرون: قصص القرآن ص 53- 55، قارن: مؤتمر تفسير سورة يوسف 1/ 136- 139

غموض- أن الذي آمن بابراهيم، إنما هو لوط، يقول تعالى «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1) و يقول «وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (2)، بل إن هناك ما يشير إلى مؤمنين آخرين مع إبراهيم غير لوط، يقول سبحانه و تعالى «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» (3)، فما ذا يقول هؤلاء الرواة في هذه الآيات الكريمة، التي تتعارض و رواياتهم، و لعل هذا هو الذي دعا الإمام ابن كثير إلى أن يرى أن إبراهيم إنما كان يعني زوجين مؤمنين غيري و غيرك، لأن لوطا كان معهم و هو نبي عليه السلام (4)، و كأن ابن كثير إنما يسلم بالقصة، و لكنه يحاول أن يخفف من تعارضها مع القرآن الكريم بتفسيره هذا الذي يخالف إجماع رواة القصة التوراتية من المؤرخين المسلمين.

[4] رحلة الخليل الى الحجاز

انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز، و علق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشي ء كثير من الدهشة و الاستنكار، و كأن المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من

ص: 138


1- سورة العنكبوت: آية 26
2- سورة الأنبياء: آية 71
3- سورة الممتحنة: آية 4 و انظر: تفسير روح المعاني 28/ 69- 73، تفسير الفخر الرازي 29/ 300- 301، تفسير الطبري 28/ 62- 63، تفسير الطبرسي 28/ 47- 49، تفسير الكشاف 4/ 90، تفسير القاسمي 16/ 5765- 5766، تفسير ابن كثير 8/ 113، تفسير القرطبي ص 6535 (دار الشعب 1970)
4- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 152 (طبعة 1966)

خوارق الفلك، و أسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها، و غير قابلة الوقوع ... و واضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين، و إنكار دين، و لا يفتحون عقولهم للحجة حيث تكون، فضلا عن الاجتهاد في طلب الحقيقة، قبل أن يوجههم إليها المخالفون و المختلفون، أما الواقع الغريب حقا، فهو طواف إبراهيم بين أنحاء العالم المعمور، و وقوفه دون الجنوب، لغير سبب بل مع تجدد الأسباب التي تدعوه إلى الجنوب، و لو من قبيل التجربة و الاستطلاع.

و يستطرد الأستاذ العقاد (1)- طيب اللّه ثراه- مبينا الأسباب التي تدعو الخليل إلى الاتجاه نحو الجنوب- نحو الحجاز- ذلك لأنه لم يكن صاحب وطن عند بيت المقدس، سواء نظرنا إلى وطن السكن أو وطن الدعوة أو وطن المرعى، فالمتواتر من روايات التوراة أنه لم يجد هناك مدفنا لزوجه فاشتراه من عفرون الحثي (2)، أما الدعوة الدينية فقد كانت الرئاسة فيها الأحبار «إيل عليون» و كان إبراهيم يقدم العشر أحيانا لأولئك الأحبار (3)، و من المعروف أن من كان معه أتباع يخرجون في طلب المرعى، فلا بد لهم من مكان يسيمون فيه إبلهم و ماشيتهم بعيدا عن المزاحمة و المنازعة، و هكذا كان إبراهيم يعمل في أكثر أيامه- كما تواترت أبناؤه في سفر التكوين- فلا يزال متجها نحو الجنوب.

و هناك أسباب دينية غير الأسباب الدنيوية توحي إليه أن يجرب المسير الى الجنوب، حيث يستطيع أن يبني لعبادة اللّه هيكلا، غير الهياكل التي كان يتولاها الكهان و الأحبار من سادة بيت المقدس في ذلك الحين، فقد بدا له أن

ص: 139


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 191- 193
2- تكوين 23: 4- 20، و انظر مقالنا «قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة»
3- تكوين 14: 18- 20

إقامة المذابح المتعددة فتنت أتباعه و جعلتهم يتقربون في كل مذبح إلى الرب المعبود بجواره، و مثل هذه الفتنة بعد عصر إبراهيم قد أقنعت حكماء الشعب بحصر القربان في مكان واحد، فاتخذوا له خيمة و انتظروا الفرصة السانحة لبناء الهيكل حيث يقدرون على البناء، هذا إلى جانب أن الأهمية الدينية لبيت المقدس جاءت متأخرة بعد عصر إبراهيم و عصر موسى بزمن طويل، حتى استولى داود (1000- 960 ق. م.) على المدينة المقدسة في العام الثامن من حكمه، ثم اتخذها عاصمة له (1)، ثم جاء من بعده ولده سليمان (960- 922 ق. م.)، فأقام فيها هيكله المشهور (2)، و بقي أمرها كذلك حتى عهد «يوآش» (801- 786 ق. م.) ملك إسرائيل، الذي حارب «أمصيا» (800- 783 ق. م.) ملك يهوذا، و هدم أسوار أورشليم من باب أفرايم (3) أما الجنوب المسكوت عنه، فقد كان له شأن من القداسة الى أيام «أرمياء» و ما بعدها، و كانت كلمة «تيمان» مرادفة لكلمة الحكمة و المشورة الصادقة، و هي تقابل كلمة «يمن» في اللغة العربية بجميع معانيها، و منها الإشارة إلى الجنوب، ففي سفر حبقوق «اللّه جاء من تيمان و القدوس من جبل فاران» (4)، و أوضح من ذلك قول إرمياء متسائلا «أ لا حكمة بعد في تيمان، هل بادت المشورة من الفهماء» (5)، و أيسر ما يستوجب طالب الحقيقة أن يتساءل: كيف يكون هذا الجنوب موصدا أمام إبراهيم، و كيف يطوف الأقطار جميعا و لا ينفتح له الباب

ص: 140


1- انظر كتابنا اسرائيل ص 455- 464
2- انظر كتابنا اسرائيل ص 464- 471
3- ملوك ثان 13: 13- 14
4- حبقوق 3: 3
5- إرمياء 49: 7

الذي لا موصد عليه؟ إن كان أحد الطرفين مفتوحا أمامه، فليس هو طريق بيت المقدس، بل طريق الحجاز.

و رغم ذلك كله، يأتي المستشرق الإنجليزى «سير وليم موير»، و ينفي القصة من أساسها في كتابه «حياة محمد» (1) و يذهب- فيما يروي عنه الدكتور هيكل (2)- أنها بعض الإسرائيليات ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال، ليربطوا بها بينهم و بين العرب، بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم جميعا، فلئن كان إسحاق أبا لليهود، و إذا كان أخوه إسماعيل أبا للعرب، فهم إذن أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، و تيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة العربية.

و يستند المؤرخ الانجليزي في ذلك إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها و بين دين إبراهيم، لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، و كان إبراهيم حنيفا مسلما، غير أن وثنية العرب- فيما يرى الدكتور هيكل- بعد موت إبراهيم و إسماعيل بقرون كثيرة لا تدل أنهم كانوا كذلك، حين جاء إبراهيم إلى الحجاز، حين اشترك مع إسماعيل في بناء الكعبة، و لو أنها كانت وثنية يومئذ لما أيّد ذلك رأي «موير»، فقد كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام، و حاول هو هدايتهم فلم ينجح، فإذا دعا العرب الى مثل ما دعا إليه قومه فلم ينجح و بقي العرب على عبادة الأوثان، لم يطعن ذلك في ذهاب إبراهيم و إسماعيل إلى مكة، بل إن المنطق ليؤيد رواية التاريخ، فإبراهيم الذي خرج من العراق فارا من أهله إلى فلسطين و مصر، رجل ألف الارتحال و ألف اجتياز الصحارى، و الطريق ما بين

ص: 141


1- 1923, hgrubnidE, dammahoM fo efiL ehT, riuM mailliW riS
2- محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 90- 91 (طبعة 1965)

فلسطين و مكة كان مطروقا من القوافل منذ أقدم العصور، فلا محل إذن للريبة في واقعة تاريخية انعقد الإجماع على جملتها (1).

هذا فضلا عن أنه إن كانت وثنية العرب هي دليل «وليم موير» على عدم انتسابهم إلى إبراهيم، فإن الإسرائيليين لم يكونوا خيرا منهم في ذلك، فقد بقيت عبادة الأوثان فيهم، بعد دعوة إبراهيم، و حتى ظهور الأنبياء من بعده، حدث ذلك أثناء عهد يعقوب (2)- أو إسرائيل كما يكنى- و في أثناء إقامتهم بمصر (3)، و في أثناء الخروج بقيادة موسى، و في التيه في صحراوات سيناء (4)، بل إن التراث الديني اليهودي ليزخر بأدلة لا تقبل الشك، على أن اليهود الذين رافقوا موسى إلى سيناء، لم يكونوا كفؤا لعب ء حمل التوحيد و فلسفته التجريدية الروحية الرفيعة، و لم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع حاجتهم إلى الاعتبارات المادية، بل إنه لا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة، أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعوده من المراسيم الدينية في مصر، و ودوا لو أنهم يعودون إليها، أو يعبدونها ممسوخة منسوخة في الصحراء (5)، و أبلغ دليل على ذلك قصة عبادة العجل التي وردت في القرآن الكريم (6)- و كذا في التوراة (7)- إذ عبد القوم عجل الذهب، و موسى ما يزال بين ظهرانيهم يتلقى الوحي من ربه على جبال سيناء.

ص: 142


1- نفس المرجع السابق ص 106- 107 (طبعة 1971)
2- تكوين 35: 2، 4
3- لاويون 17: 7، يشوع 24: 14، حزقيال 20: 7- 8، إرمياء 44: 8- 19
4- خروج 22: 27- 28، 9: 15، 20: 7- 26، تثنية 9: 7
5- مطلع النور ص 107
6- سورة البقرة آية 92، الاعراف: آية 142- 152، طه: آية 83- 98
7- خروج 22: 7- 28

و ليس من شك في أن هذا كان من نتيجة تأثير الديانة المصرية عليهم، تلك الديانة التي تمكنت من نفوسهم إبان إقامتهم الطويلة في مصر، لدرجة أنهم ما كانوا بمستطيعين الإيمان بدعوة موسى، إما خوفا من فرعون، و إما خوفا من شيوخ بني إسرائيل، و إلى هذا يشير القرآن الكريم «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» (1)، باعتبار الضمير في «ملئهم» راجعا إلى قوم موسى، بل إن القوم برموا بموسى و ضجروا به، و قالوا «أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» (2).

و هكذا بقيت الوثنية راسخة في قلوبهم، حتى بعد انغلاق البحر لهم، و حتى بعد أن جاوزوه على يبس (3)، و حتى بعد أن منّ اللّه عليهم بالمن و السلوى، و حتى بعد أن استسقوا موسى، فضرب الحجر بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط من الأسباط مشربهم (4)، حتى بعد أن نزلت عليهم شريعة السماء تحذرهم من اتخاذ آلهة أخرى غير اللّه، حتى بعد هذا كله، فإنهم سرعان ما زاغوا عن الطريق المستقيم، و كفروا باللّه الواحد الأحد، «و صنعوا لهم عجلا مسبوكا و سجدوا له و ذبحوا له و قالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (5).

و لم تكن أيام يشوع، بأفضل من أيام موسى، بالنسبة للوثنية الإسرائيلية (6)، هذا فضلا عن أن السمة المميزة لعصر القضاة، إنما

ص: 143


1- سورة يونس: آية 83
2- الاعراف: آية 129
3- سورة البقرة: آية 50، يونس: آية 91- 92، طه: آية 77، الشعراء: آية 61- 68
4- سورة البقرة: آية 60- 61، الاعراف: آية 160 و طه: آية 80- 81
5- خروج 32: 8
6- يشوع 24: 14، 23

كانت هي الردة و عبادة الأوثان (1)، كما بقيت عبادة العجل تتجدد في حياة بني إسرائيل من حين إلى حين، حتى إذا ما حدث الانقسام إلى مملكتين، تبنى ملوك إسرائيل ديانات الشرك، بالإضافة إلى دين يهوه و أقاموا عجولا من الذهب وضعوها في مبان كالمعابد (2)، كما فعل يربعام الأول (922- 901 ق. م.) في مدينتي دان و بيت إيل (3)، و كما فعل «أخاب» (869- 850 ق. م.) حين أقام الهياكل للبعل (4)، و تروي التوراة ان «حزقيا» (715- 687 ق. م.) ملك يهوذا، قد «أزال المرتفعات و كسر التماثيل و قطع السوراي، و سحق حية النحاس التي حملها موسى، لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (5).

و هكذا بقي بنو إسرائيل- كالعرب تماما- يعبدون الأصنام إلى ما بعد إبراهيم بمئات السنين، و من هنا فإن عبادة الأوثان لا تدل على انتماء العرب أو اليهود إلى إبراهيم، أو عدم انتمائهم، ثم أ ليس إبراهيم يرجع في أصوله الأولى إلى جزيرة العرب و أن أسلافه قدموا إلى منطقة الهلال الخصيب كغيرهم من الكتل البشرية السامية، التي قذفت بها صحراء

ص: 144


1- قضاة 2: 8- 23، 3: 5- 9، 2: 19، 4: 1، 6: 25، 28، 30، 8: 24- 27، 8: 33، 10: 6، 10، 13- 16، 13: 1، 17: 4- 13، 18: 17، 24، 30، صموئيل 3، 4
2- عن الوثنية الإسرائيلية في عصر الملكية، أنظر التوراة: صموئيل أول (15: 23) (29: 13) ملوك أول 11: 4- 8، 33) (14: 23، 32) (15: 3، 12) ملوك ثان (8: 26) (21: 11- 12) (23: 10) (24: 18- 21) (14: 4) (25: 14- 16، 20) (16: 3- 4) (28: 2- 4، 6) (23: 25) (2: 2- 16) (21: 21) (22: 7) (23: 4- 26، 37) (24: 2- 3) أخبار ثان (33: 2- 11) (34: 3- 7) (26: 12- 17) حزقيال (14: 22- 23)
3- ملوك أول 12: 26- 36
4- ملوك أول 16: 31- 33
5- ملوك ثان 18: 4

العرب إلى تلك المنطقة الخصيبة، فما المانع إذن أن يكون إبراهيم قد فكر، لا نقول في العودة إلى موطن الأجداد، بل في زيارته فحسب، و هو الرجل الذي قضى حياته و هو يعيش حياة أشبه بحياة البدو و أبناء الصحراء العربية.

ثم هناك البينة الكبرى التي تأتي من مباحث اللغة، و هي التقارب الشديد بين لغة الحجاز و لغة النبط أو النباتيين، الذين ينتمون إلى «نبات بن إسماعيل بن إبراهيم، ذلك لأن لغة الحجاز لم تتطور من اللغة اليمنية مباشرة، و إنما جاء التطور من العربية القديمة (1) إلى الأشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية، فتقارب لغة النبط و لغة قريش من هذا السبيل، و كان التقارب بينهما في الزمان و المكان، أو في درجات التطور، و لم يكن تقاربا يقاس بالفراسخ و الأميال، و كانت هذه هي البينة الكبرى من مباحث اللغة على قرابة أهل الحجاز من النبطيين أو النباتيين أبناء إسماعيل، و لم تكن هذه القرابة من اختراع النسابين أو فقهاء الإسلام، و لكنها كانت قرابة الواقع التي حفظتها أسانيد اللغة و الثقافة، و استخرجتها من حجارة الأحافير و الكشوف الحديثة (2)، و مما يدعو إلى

ص: 145


1- راجع عن الصلات اللغوية بين العرب و مصر، و مدى أثر الهيروغليفية المصرية في الكتابة السامية الجنوبية (مقالنا: العرب و علاقاتهم الدولية، و كذا. ngiS, nesneJ. H و كذا FF 21 .P ,1934 ,24 ,EIM ,seuqitiamisotorP snoitpircsnI seL ,hctivobieL .I 350 .P etirW ot stroftE s'naM fo tnuodcAdna ,tpircS dna lobmvS و كذا 64 .P ,snoiT pircsnI ilaniS ehT morf tnempoleveD dna esiR sti ,tebahaplA ehT ,gnilgnerpS .M و كذا: عبد المنعم عبد الحليم: دراسة تاريخية للصلات و المؤثرات الحضارية بين حضارة مصر الفرعونية و حضارات البحر الاحمر ص 118- 122
2- يتجه العلماء إلى أن الأنباط عرب، بل و أقرب في عروبتهم إلى قريش و عرب الحجاز من عرب الجنوب، لأن أسماءهم عربية، و لأن أسماء ملوكهم و ملكاتهم عربية كذلك، و لأنهم يعبدون آلهة عربية، و لأن لغتهم لم تكن أرامية و انما عربية، و ان استعملوا الآرامية في نقوشهم، و لأن الكتاب الكلاسيكيين- و كذا اليهود- إنما كانوا يطلقون عليهم لفظ العرب (أنظر: كتابنا «بلاد العرب»، بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي ص 55- 56، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 81: و كذا 260, 242. P, SIC و كذا 6- 172. PP, cibarA ne euqigoloehcrA noissiM, cangivaS dna nessuaJ

احترام روايات النسابين في هذا الباب أنهم عرفوا الحقيقة التي كشفها علماء الأحافير، فقال ابن عباس «نحن معاشر قريش من النبط» (1).

هذا و قد أشار «مارتن شبرنجلنج» في العصر الحديث إلى ظاهرة انتقال الكتابة النبطية إلى الحجاز، و الى تطور الخط العربي عن الخط النبطي (2)، كما ذهب «سوزمين» إلى أن اليهود إنما كانوا ينظرون إلى العرب الذين يقطنون إلى الشرق من الحد العربي، على أنهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم.

و يضيف الدكتور «إسرائيل ولفنسون» إلى ذلك حججا، منها أنه إذا وجد الميل عند بعض المستشرقين إلى إنكار وجود الآباء الأقدمين من إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود قبائل بني إسرائيل و بني إسماعيل، لأن التوراة نصت على وجودها في طور سيناء و الحجاز، بما ذكرته من الحوادث التي وقعت بين بطون إسماعيلية و أدومية و إسرائيلية و لا شك أن هذا كاف لإثبات العلاقة الدموية المتينة بين اليهود و عرب طور سيناء و الحجاز، ثم يؤيد ذلك بترجمة جديدة لنص سفر التكوين (25: 18)، «و نزلت (بطون بني إسماعيل) مع نشأتها بين أخواتها، و استوطنت البلاد من الحولة إلى

ص: 146


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 136- 137، سفر التكوين 25: 13، اللسان 7/ 411، عبد الرحمن الانصاري: لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية ص 89، مقالنا عن «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة، مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية، العدد السادس، 1976 م ص 313- 316، حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 114، و انظر: 52 .P ,tic -po ,gnilgnerpS nitraM .52 .P ,1931 ,snoit -pircsnI ianiS eht morF tnempoleveD dna esiR sti ,tebahplA ehT ,gnilgnerpS nitraM

طريق القوافل بين مصر و العراق» (1).

و منها ما جاء في ترجمة التوراة السامرية (2) التي صدرت في 1851 م، من أن إسماعيل قد «سكن برية فاران بالحجاز، و أخذت له أمه امرأة من أرض مصر»، و أن سفر العدد يفرق بين سيناء و فاران، إذ جاء فيه أن بني إسرائيل ارتحلوا «من برية سيناء، فحلت السحابة في برية فاران»، و لم يسكن أبناء إسماعيل قط في غرب سيناء، فيقال أن جبل فاران واقع إلى غربها، و إنما تدل الشواهد القديمة جميعا على وجود فاران في مكة، أو هي أرض التلال التي بين مكة و المدينة، و يذهب المؤرخ جيروم و اللاهوتي يوسبيوس إلى أن فاران بلد عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من أيله (3).

و منها ما يراه علماء الإفرنج من أن علاقة بطون اسرائيل الجنوبية بعرب الحجاز و طور سيناء، أقرب منها إلى قبائل بني إسرائيل الشمالية، و منها أن اليهود لو كانوا يريدون استغلال هذه القرابة للتزلف إلى قريش أو العدنانيين، لكان الأليق و الأجدر أن يخترعوا تلك القرابة بينهم و بين الأوس و الخزرج الذين يتاخمونهم و يشاركونهم في المواطن و المرافق، و يرتبطون معهم برباط المعاملة و الجوار، و منها أن التوراة قد ترجمت إلى اليونانية في عهد بطليموس الثاني (285- 246 ق. م.)، و في صلبها كل النصوص التي تربط العرب الاسماعيلية بالقرابة النسبية مع اليهود، و ذلك قبل رحيل يهود يثرب إلى الحجاز بما يقرب من أربعة قرون (4).

و هكذا فإن القرائن المتجمعة يجب أن تستوقف نظر الباحث المنزه

ص: 147


1- اسرائيل و لفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 75- 76
2- راجع الفرق بين التوراة السامرية و العبرية في كتابنا إسرائيل ص 20
3- عباس العقاد: مطلع النور ص 14- 16
4- اسرائيل و لفنسون: المرجع السابق ص 76- 78

عن الغرض، و أيسر ما فيها أنها تدفع الغرابة عن رحلة إبراهيم إلى الحجاز، و إنها هي وحدها تحقق له صفة العمل على الدعوة الدينية، و قد جاء الإسلام مثبتا رحلة إبراهيم إلى الحجاز، و أثبتها و لا شك بعد أن ثبتت مع الزمن المتطاول، لأن انتساب أناس من العرب إلى إبراهيم قد سبق فيه التاريخ كل اختراع مفروض، و لو تمهل به التاريخ المتواتر حتى يجوز الاختراع فيه، لأنكرت إسرائيل انتساب العرب إلى إبراهيم، و أنكر العرب أنهم أبناء إبراهيم من جارية مطرودة، و ليس هذا غاية ما يدعيه المنتسب عند الاختراع (1).

و مع ذلك، فهناك اتجاه آخر، إنما ينسب انتساب العرب إلى إبراهيم، لا إلى اليهود، و إنما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقد جاء في دائرة المعارف الاسلامية- نقلا عن فنسنك- أن «شبر نجر» كان أول من لاحظ أن شخصية إبراهيم- كما في القرآن الكريم- قد مرت بأطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسسة للكعبة، ثم جاء «هرجروني» و زعم أن إبراهيم في أقدم ما نزل من الوحي هو رسول من اللّه أنذر قومه كما تنذر الرسل (2)، و لم يذكر لإسماعيل صلة به، كما لم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت، و لا أنه أول المسلمين، أما السور المدنية فالأمر فيها على غير ذلك، فإبراهيم يدعى حنيفا مسلما، و هو واضع ملة إبراهيم، و قد رفع مع إسماعيل قواعد البيت المحرم (الكعبة).

و أما سر هذا- في زعم هؤلاء المستشرقين- فهو أن محمدا- صلوات

ص: 148


1- عباس العقاد: إبراهيم أبو الانبياء ص 196، مع ملاحظة أننا لا نوافق على أن هاجر جارية انظر كتابنا اسرائيل ص 210- 213
2- يشير «هرجوني» هنا إلى الآيات الكريمة (الذاريات: آية 24- 37، الحجر: آية 51- 59، سورة الصافات: آية 83- 113، سورة الأنعام: آية 74- 83، سورة هود: آية 69- 76 سورة مريم: آية 41- 50، سورة الأنبياء: آية 51- 73، سورة العنكبوت:آية 16- 27) و هي آيات مكية تحدثت عن إبراهيم عليه الصلاة و السلام.

اللّه و سلامه عليه- كان قد اعتمد على اليهود في مكة، فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء، فلم يكن له بد من أن يلتمس غيرهم ناصرا، هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم، و بذا استطاع أن يخلص من يهودية عصره، ليصل حبله بيهودية إبراهيم التي كانت ممهدة للإسلام، و لما أخذت مكة تشغل جلّ تفكير الرسول، أصبح إبراهيم أيضا المشيد لبيت هذه المدينة المقدس، رغم أنه لا يوجد أي دليل تاريخي على أن إبراهيم و إسماعيل كانا أبدا بمكة (1).

هذه هي وجهة النظر الكذوب التي يقدمها المستشرقون من أعداء الإسلام، و كان من الممكن أن نكتفي بما سبق أن ذكرنا من قبل، إذ نسب الفكرة آخرون إلى اليهود، و ليس إلى رسول اللّه، غير أننا سوف نقدم أدلة جديدة ضد هذا الإتجاه؛ منها (أولا) أن القرآن الكريم لم يقل أبدا أن اليهود كانوا من مؤيدي الإسلام، بل إنه لينص صراحة أنهم أشد أعدائه، يقول سبحانه و تعالى «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (2).

و منها (ثانيا) روايات التوراة التي نصت على أن إسماعيل و إسحاق أخوان من أب واحد، و إن اختلفت الأمهات، فاسماعيل من هاجر،

ص: 149


1- 2 -61 .P .P ,malsI ,emualliuG derflA .33 ,28 .P .P .1926 ,snoitutitisnI te ecnayorC ,malsI'L ,snem -maL ereP ,9 -137 .P .P ,1945 ,siraP ,enirtcoD aS te eiV aS ,temohaM ,eardnA .T و أنظر: ج. ديمومبين: النظم الاسلامية، ترجمة الشماع و السامر، بغداد 1952 ص 66- 68، و كذا طه حسين: في الأدب الجاهلي ص 26، 29، مدخل إلى القرآن الكريم ص 155- 156، دائرة المعارف الاسلامية 1/ 146
2- سورة المائدة: آية 82 و انظر: تفسير الطبرسي 6/ 171- 176، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 3/ 202، تفسير الكشاف 1/ 668- 669، تفسير الطبري 10/ 498- 506، تفسير النسفي 2/ 3- 4، تفسير ابن كثير 2/ 623، في ظلال القرآن 7/ 959- 966

و إسحاق من سارة (1)، ثم هناك رواية سفر التكوين- الآنفة الذكر- التي تجعل أبناء إسماعيل إنما يسكنون بين مصر و العراق، «سكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر» (2)، و حويلة هي خولان، و خولان قبيلة يمنية تسكن سراة اليمن مما يلي الحجاز، مما يدل على أن مكة تشملها مساكن إسماعيل و بنيه- كما أشرنا من قبل- و منها (ثالثا) أن الإسلام لم يعتز قط بالانتساب إلى يهودية إبراهيم، بل إنه لينفي عنه اليهودية أصلا، «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا، وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» (3).

و منها (رابعا)، ففيما يختص بالكعبة، فقد ثبت بنص القرآن الكريم- و كذا التوراة- أن إبراهيم قد أوصل ابنه إسماعيل إلى مكة، و إذا كان من المتعين أن يقيم له فيها بنية يجعلها متعبدا على مثال الصوامع، و لم ينازع أحد إلى اليوم إبراهيم في أنه باني ذلك المصلى، حتى يصح أن يقال، أن محمدا (صلى اللّه عليه و سلم) نسبه إليه تعظيما لشأنه، و لم تختص الكعبة وحدها بأنها بيت اللّه، فكل المساجد بيوت اللّه عند المسلمين، و إنما عظمت الكعبة لأنها أول بيت للّه وضع للناس ببكة، و مما يدل على أن النبي (صلى اللّه عليه و سلم) لم يتخذ بناء الكعبة أساسا من أسس دعوته أنه أمر أصحابه أن يولوا وجوههم في صلاتهم شطر بيت المقدس طوال مقامه بمكة (4)، ثم أ لم يؤمن أصحاب هذا الاتجاه- مسيحيون كانوا أم يهودا- بما جاء في التوراة من أن إبراهيم قد أقام مذابح للرب عند شكيم

ص: 150


1- تكوين 16: 15- 16، 21: 21
2- تكوين 25: 18
3- سورة آل عمران: آية 67 و انظر: تفسير الكشاف/ 370- 371، تفسير مجمع البيان 3/ 109- 111، تفسير العلى القدير 1/ 280- 281، تفسير ابن كثير 2/ 54- 55، في ظلال القرآن 3/ 407- 412، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 41، تفسير القرطبي 4/ 109، تفسير الطبري 6/ 493- 496.
4- دائرة المعارف الاسلامية 1/ 146- 147.

و بيت إيل، و عند بلوطات ممر التي في حبرون و غيرها (1)، فاذا كانوا يؤمنون بذلك، فلم ينكرون بناء إبراهيم للكعبة.

و منها (خامسا) أن الاتجاه الذي يذهب إلى أن محمدا- صلوات اللّه و سلامه عليه- ظل بعيدا عن صلة العرب بابراهيم و اسماعيل إلى أن هاجر إلى المدينة، فبدت له فكرة أن يصل حبل العرب الذين هو منهم باليهود عن طريق إبراهيم و إسماعيل، إنما هو اتجاه يهدم التوراة، قبل أن يثير أي شكوك حول القرآن الكريم، لأن التوراة ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل، و أنه جدّ عدة قبائل في بلاد العرب (2).

و منها (سادسا) أن «فنسنك» حين عدّ السور المكية عمد إلى التي يذكر فيها إبراهيم مجردا عن الصلة باسماعيل و العرب، و لذا فهو قد تخطى سورة إبراهيم- و هي مكية- و قد شهدت بعكس ما يقول، و آياتها شاهدة بأن إبراهيم و إسماعيل بنيا البيت، و أنهما كانا يدعوان اللّه تعالى بالهداية و أن يجنبهما و بنيّهما عبادة الأصنام، و إبراهيم يذكر أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت اللّه المحرم، و يدعو اللّه أن يرزقهم من الثمرات، و يحمد اللّه أن وهب له إسماعيل و إسحاق، و لنقرأ هذه الآيات الكريمة، «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

ص: 151


1- تكوين 12: 7- 8، 13: 18
2- تكوين 25: 12- 18.

وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» (1).

و منها (سابعا) أن القول بأن القرآن الكريم لم يذكر إلا في السور المدنية أن إبراهيم كان حنيفا، فذلك- مرة أخرى- غير صحيح، ذلك لأن القرآن الكريم، إنما ذكر ذلك في سورتي الأنعام و النحل- و هما مكيتان- و لنقرأ هذه الآيات الكريمة، «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (2) و «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (3) و «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (4)، «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (5)، و هكذا يتخطى فنسنك- كما يقول الأستاذ النجار- هذه الآيات عمدا، غاضا النظر عما تقضي به الأمانة في سبيل تأييد نظريته (6).

و منها (ثامنا) تلك الدعوة التي تذهب إلى أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) جاء إلى المدينة، و كله أمل أن يؤمن اليهود به و يظاهروه على أمره، فلما أخلفوا ما أمله و كذبوه، أراد أن يتصل بهم عن طريق إبراهيم، و عبّر عن ذلك بيهودية إبراهيم، فذلك غير صحيح كذلك، ذلك لأن النبي (صلى اللّه عليه و سلم) لم يكن يعتز باليهود أبدا، و إنما كان يتوقع أن

ص: 152


1- سورة إبراهيم: آية 35- 41
2- سورة الإنعام: آية 79
3- سورة الإنعام: آية 161
4- سورة النحل: آية 120
5- سورة النحل: آية 123
6- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 75

يؤمنوا به لأنهم أهل توحيد- في الأصل- يجانبون الاصنام، و يعادون أهلها، و لأن النبي مذكور في توراتهم، ذلك لأن بني إسرائيل كانوا قد وعدوا في توراتهم- كما جاء في سفري التثنية و أشعياء (1)- بنبي يقوم من بين إخوتهم- و هم العرب الاسماعيلية، فلما مجدوا ذلك كله كانوا عنده بمثابة غيرهم فقط.

و منها (تاسعا) أننا لا نعرف شعبا آخر له ما للعرب من شغف بالأنساب، حيث يحرصون على الاحتفاظ في ذاكرتهم بسلسلة أجدادهم، حتى يصلوا بها إلى الجيل العشرين (2)، فهل من المحتمل أن يبقى هذا الشعب في جهالة تامة بأصله حتى آخر لحظة (3)، و منها (عاشرا) أن وجود الكعبة بينهم- و فيها بعض الأماكن المعروفة تحمل اسم إبراهيم و اسماعيل- أ لا يذكرهم ذلك كله بعلاقتهم بهذه الأسماء المجيدة (4)، و منها (حادي عشر) سكوت كفار قريش- و هم أعلم الناس بأنسابهم- عن قوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» (5)، فلو لم يكن العرب يعلمون قبل محمد أنهم من سلالة إبراهيم- عن طريق ولده إسماعيل- لما سكتوا لمحمد، و فيهم أشد أعدائه، و أكثر الناس حرصا على تكذيب دعواه.

و منها (ثاني عشر) ذكره «زيد بن عمرو بن نفيل»- و هو قبل

ص: 153


1- سفر التثنية 18: 15- 19، سفر أشعياء 42: 10- 13
2- ما زلنا نحتفظ بهذه العادة في قرانا بصعيد مصر، حيث يعلم الآباء الأبناء سلسلة نسبهم حتى الجد الأعلى الذي يتشرفون بالانتساب إليه
3- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 91، محمد عبد اللّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 157.
4- نفس المرجع السابق من 157
5- سورة الحج: آية 78

المصطفى- لإبراهيم الخليل، حيث يقول: «يا معشر قريش: و الذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري» (1)، و زيد هذا- كما هو معروف- من الحنفاء، و الذين كانوا على ملة إبراهيم، و لم يكونوا يهودا و لا نصارى (2)، و أن مجموعة من هؤلاء الحنفاء أو المتحنفين- و منهم زيد بن عمرو و ورقة بن نوفل و عثمان بن الحويرث و عبد اللّه بن جحش- قد حضروا قريشا عند وثن لهم، فلما اجتمعوا خلا أولئك النفر إلى بعض، فقال قائلهم: «تعلمون و اللّه ما قومكم على شي ء، لقد اخطئوا دين أبيهم إبراهيم» (3).

و منها (ثالث عشر) ذكر إبراهيم الخليل في شعر عبد المطلب- جدّ النبي (صلى اللّه عليه و سلم) إبان غزو الحبشة للكعبة،- و المعروفة بغزوة الفيل (4)-

ص: 154


1- ابن كثير 2/ 237- 241، الذهبي: تاريخ الإسلام 1/ 54، الاشتقاق ص 84، 103، جواد علي 6/ 472- 473
2- انظر عن الحنفاء: تفسير القرطبي 2/ 139- 140، تفسير المنار 1/ 480- 482، تفسير الطبري 3/ 104- 108، مجمع البيان 1/ 215 و ما بعدها، التفسير الكبير للفخر الرازي 4/ 89 و ما بعدها، جواد علي 6/ 452- 453، مدخل الى القرآن الكريم ص 131- 132، ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص 68 و كذا 144. P, 1905, AJ, yvelaH. J و كذا 773. P, 1903, SARJ, milsuM dna finaH droW ehhT, llayL. C و كذا 259. P, II, IE
3- ابن كثير 2/ 238، مطلع النور ص 68، جواد علي 6/ 476
4- أنظر عن غزوة الفيل: ابن الاثير 1/ 442- 447، تاريخ الطبري 2/ 130- 139، تفسير الطبري 20/ 188، 30/ 193- 194، تفسير القرطبي ص 7277- 7290 (طبعة الشعب)، تفسير ابن كثير 8/ 503- 511 (طبعة الشعب)، في ظلال القرآن 8/ 664- 675، تفسير الألوسي 30/ 232- 237، البيهقي: دلائل النبوة 1/ 56- 57، صحيح الأخبار 4/ 21- 22، البداية و النهاية 2/ 170- 176، تاريخ الخميس ص 212- 217 نهاية الارب 1/ 251- 264، تفسير البيضاوي 2/ 576، الكشاف 3/ 288، أعلام النبوة ص 149، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 154- 155، و كذا 79 -277 .PP ,4 -3 ,1953 ,noesuM el 435 .P .D .A yrutneC ht 6 ehT ni aibarA ni stnevE ,htimS .S و كذا 275. P, 66, 1964, noesuM el و كذا 180. P, I, suipocorP

حيث يقول (نحن أهل اللّه في بلدته: لم يزل ذاك عهد إبرهم) (1) ثم تلقيب عبد المطلب بعد فشل الحملة الغشوم بلقب «إبراهيم الثاني»، نسبة إلى جده الأعظم إبراهيم الخليل، عليه السلام (2).

و منها (رابع عشر) صورة إبراهيم الخليل التي وجدت على جدران الكعبة فيما قبل الإسلام، حيث صوره القوم في يده الأزلام، و يقابلها صورة ابنه على فرس يجيز الناس مقبضا، ثم مجموعة صور لكثير من أولادهما، حتى قصى بن كلاب (3). و أخيرا (خامس عشر) فإن العرب كانوا- قبل أن يبعث محمد رسولا من رب العالمين- إنما يعتقدون أنهم من ولد إبراهيم و ها هو أبو طالب عم النبي (صلى اللّه عليه و سلم) يقول في خطبة له يوم زواج المصطفى صلى اللّه عليه و سلم من خديجة: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل، و جعل لنا بلدا حراما و بنيانا محجوجا، و جعلنا الحكام على الناس».

ثم (سادس عشر) ما عرف عند العرب القرشيين في الجاهلية بنظام (الخمس) و الذي كان شعاره «نحن بنو إبراهيم و أهل الحرمة و ولاة البيت و قاطنو مكة و ساكنوها، ليس لأحد من العرب مثل حقنا، و لا تعرف له العرب ما تعرف لنا»، فضلا عن أن عبد المطلب يقول لرسول أبرهة حين جاء يعلمه ان القائد الحبشي لم يأت لحربهم و انما لهدم البيت، يقول له «هذا بيت اللّه الحرام، و بيت إبراهيم خليله» (4).

ص: 155


1- الازرقي 1/ 146
2- أنظر مقالنا: العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة- مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية العدد السادس.
3- المسعودي 2/ 272، الازرقي 2/ 168- 170.
4- تفسير الطبري ذ/ 188، محمد الخضري: تاريخ الأمم الاسلامية 1/ 56- 57، ابن هشام 1/ 201، و انظر مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة» مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس- الرياض 1976 ص 408 الازرقي 1/ 43، 176، تاريخ الطبري 2/ 133.

و أخيرا منها (سابع عشر) ما أشار اليه المسعودي من أن العرب قبل الاسلام انما كانوا يؤرخون بتواريخ كثيرة، و منها التأريخ بوفاة إبراهيم و اسماعيل عليهما السلام (1)

[5] اسكان اسماعيل الحجاز

و هكذا يبدو واضحا أن رحلة الخليل- عليه السلام- إلى الحجاز أمر مؤكد، و أنه ترك هناك ولده إسماعيل، و زوجته هاجر، و لعل السبب المباشر في انتقال إسماعيل و أمه هاجر إلى الحجاز، و سكناهم هناك، يرجع إلى القصة المشهورة عن سارة التي أرادت أن تبعد إسماعيل عن أبيه، بعد أن رأته يملأ حياة الشيخ الجليل، و الذي كان قد حرم الولد، و قد قارب التسعين من عمره.

و هنا غضبت سارة و اكتأبت، و لزمها همّ مقيم، فلم تعد تطيق هاجر أو ولدها، و أبدت رغبتها في التخلص منهما، و ارسالهما إلى مكان سحيق، إذ لم يعد عيش يطيب بجوارهما، و لم يبق للإسعاد من أثر في بيت يضمهما معا، و هذا أمر طبيعي، فالغيرة بين النساء من ألصق الصفات بهن، فليست هناك امرأة- كائنة من كانت- لا تريد أن تكون صاحبة الحظوة وحدها عند بعلها، و ليست هناك امرأة تقبل راضية، أن تشاركها في حب زوجها ضرة لها، و بخاصة إن كانت هذه الضرة في ريعان الشباب، بينما هي على أبواب الشيخوخة، و أن الضرة قد أعطت الزوج العظيم الولد، بينما هي قد حرمت منه، و حرمت الزوج منه،

ص: 156


1- ابو الحسن علي بن الحسين المسعودي: التنبه و الاشراف، القاهرة 1938 ص 172- 181، انظر كتابنا «دراسات في تاريخ العرب القديم». المطابع الاهلية للأوفست، الرياض 1977 ص 28- 29 (جامعة الامام محمد بن مسعود الاسلامية).

تلك أمور عادية تحدث في كل بيت تتعدد فيه الزوجات، أيا كان هذا البيت، و سواء أ كان صاحب هذا البيت ملكا يحكم الناس، أو زعيما تصفق له الملايين، أو حتى فقيرا يكد ليله و نهاره من أجل لقمة العيش، بل إن ذلك أمر، عرفناه في بيوت أنبياء بني إسرائيل و ملوكهم من بعد، عرفناه في بيت يعقوب بين زوجاته الأربعة، كما عرفنا آثاره في قصة يوسف عليه السلام، و عرفناه في بيت داود، ممثلا في قصة أمنون و إبشالوم (1)، و في النزاع بين أدونيا و سليمان (2)، كما عرفناه في بيت سليمان بين نسائه الكثيرات، بل إن قصة غيرة السيدة عائشة من السيدة خديجة- رضي اللّه عنهما- و قد انتقلت الأخيرة إلى جوار ربها الكريم، أمر معروف.

و من هنا فإن غيرة السيدة سارة- فيما أعتقد- ليست من خوارق العادات أو شواذ الأمور، و من ثم فإنّا لا نوافق رواية التوراة من أن «سارة رأت ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية و ابنها»، ذلك لأن العداوة بين المرأتين بدأت حتى قبل أن ترزق هاجر بوليدها، و ذلك حين أذلتهما سارة، فهربت منها إلى الصحراء المقفرة، و لم تعد إليها إلا بأمر ملاك الرب الذي بشرها بأنها ستلد ابنا تدعوه إسماعيل (3).

و هكذا يبدو واضحا أن تعليل التوراة لطرد هاجر بأن إسماعيل كان يمزح يوم فطام إسحاق تعليل غير كاف، ففي حديث البخاري أن إسماعيل كان رضيعا يوم أبعد هو و أمه إلى مكة، و محال أن يكون من رضيع مزح و لا غيره، و إنما هي غيرة سارة من أن يكون لإبراهيم ولد من

ص: 157


1- صموئيل ثان 13: 1- 39
2- ملوك أول 1: 5- 53
3- تكوين 16: 5- 15، 21: 9- 10

غيرها تراه معهما في البيت، و تحريف اليهود لكتابهم أشهر من نار على علم (1).

و هكذا يبدو بوضوح ما ذهبنا إليه، و هو أن الأمر لم يكن مزاح صبي، و إنما كان غيرة امرأة من ابن ضرتها، و خوفا منها على مكانتها عند زوجها، و رغبتها في أن لا ينصرف حبّ هذا الزوج إلى غيرها من النساء، و في أن لا ينال ابن ضرتها- و هو بكر أبيه (2)- شيئا من ميراث أبيه، ذلك لأن حب المرأة لأبنائها أمر معلوم، و من هنا بدأت تفكر في إزاحة إسماعيل و أمه من مكانتهما، فكان التبرير من كاتب التوراة أن إسماعيل كان يمزح في وليمة فطام إسحاق- كما أشرنا آنفا- و انطلاقا من هذا فقد استجاب إسماعيل و أمه لإبراهيم فيما ارتآه من أن يجنبهما النزاع الذي قد يتفاقم بين الزوجتين، و الغيرة التي قد تقتل سارة، و تزعج أمن إبراهيم و استقراره.

و أيا ما كان الأمر، فإن القرآن الكريم لم يشر الى سبب هذا الحادث، و انما يروي البخارى عن ابن عباس أن هاجر سألت إبراهيم حين وضعها و ابنها هناك في مكة عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، ثم قفى منطلقا، «أأللّه أمرك بهذا؟ فقال نعم: قالت: إذا لا يضيعنا» (3).

ص: 158


1- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 104
2- أنظر عن البكورية و أهميتها عند بني إسرائيل: مقالنا «قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة» و كذا: صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني ص 67، تكوين 25: 27- 33، كتابنا إسرائيل ص 75
3- ابن كثير 1/ 154، تفسير القرطبي 9/ 369، تفسير الطبري 13/ 229- 230 (طبعة 1954)، تفسير الألوسي 13/ 236، المقدسي 3/ 60، الازرقي 1/ 54، 2/ 39، تاريخ ابن خلدون 2/ 36، تاريخ الخميس ص 106، ابن الأثير 1/ 103، شفاء الغرام 2/ 3، تاريخ اليعقوبي 1/ 25.

و من هذا المنطلق كان اعتقادنا، أن الخليل- عليه الصلاة و السلام- قد أقدم على ما أقدم عليه من رحلته إلى الحجاز بزوجه و ولده، امتثالا لأمر اللّه، و رغبة في نشر الإيمان باللّه في بيئة جديدة، و في مناخ جديد، بعد أن قام بذلك في العراق و في سورية و في مصر، و ليربط ولده و بكره بما ارتبط به هو من قبل، فإبراهيم- كما أشرنا من قبل- يرجع في نسبه الأول إلى العرب العاربة، و التي هاجرت من جزيرة العرب، و إبراهيم قد ولد و نشأ في العراق، و إبراهيم هاجر إلى الشام ثم إلى مصر، و من مصر إلى فلسطين ثانية، ثم من فلسطين إلى الحجاز، و من الحجاز الى فلسطين، و أما إسماعيل- عليه السلام- فقد كان نصف مصري، نصف عراقي، و اسماعيل قد ولد في الشام، و عاش في الحجاز، و تزوج من يمنية- أو مصرية طبقا لرواية التوراة (1)- و تخريجا من هذا، فإن إسماعيل رمز العروبة كلها، رمز لعروبة العراق، و رمز لعروبة الشام، و رمز لعروبة مصر، و رمز لعروبة الجزيرة العربية، و لعل هذا ما يميزه على أخيه إسحاق، الذي اقتصرت حياته و مماته على جزء من الشام فحسب، و لم يتصل بقرابة من دم، أو صلة من نسب، بغير عشيرة أمه، حيث تزوج من ابنة خاله لابان (2).

[6] قصة الذبيح
اشارة

لم يترك الأب الحنون و الشيخ الجليل ابنه في ذلك المكان الموحش القفر بصحراء مكة، دون أن يحن إليه و يذكره، و دون أن يزوره بين الحين و الحين، و في إحدى هذه الزيارات، و كان الغلام قد شبّ و ارتحل، و أطاق ما يفعله أبوه من السعي و العمل، رأى الخليل- عليه الصلاة

ص: 159


1- تكوين 21: 21
2- تكوين 28: 1- 2

و السلام- أنه يؤمر بذبح ولده هذا، و لما كانت أنبياء اللّه تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم، فإن «رؤيا الأنبياء وحي» (1)، و لهذا صمم الخليل على تنفيذ أمر ربه، و لم يثنه عن عزمه هذا، أن إسماعيل وحيده، و أنه قد رزق به و هو شيخ كبير، على رأس ست و ثمانين سنة من عمره، و بعد أن ظل يرجوه أعواما و أعواما، رغم ذلك كله، فإن خليل اللّه قد عقد العزم على إنجاز ما أمر به، بإيمان المؤمنين، و استسلام المسلمين للّه وحده، مما يدل على منتهى الطاعة و الامتثال لأمر اللّه، و هذا هو الإسلام بعينه، إذ أن الإسلام هو الطاعة و الامتثال للّه، و هو دين الأولين و الآخرين (2)، و لهذا فقد وصف اللّه سبحانه و تعالى هذا الأمر بقوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» (3)، على أن الخليل إنما رأى أن يعرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه و أهون عليه من أن يأخذه قسرا و يذبحه قهرا (4).

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة: «وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا

ص: 160


1- تفسير ابن كثير 4/ 9، البداية و النهاية 1/ 157، قارن: تفسير البيضاوي 2/ 297 روح المعاني 23/ 128
2- انظر: تفسير الطبري 2/ 510- 511، 3/ 74 (طبعة دار المعارف)
3- سورة الصافات: آية 106
4- انظر: تفسير القرطبي 15/ 101- 104، تفسير البيضاوي 2/ 297، تفسير الطبري 15/ 78- 79

الْمُؤْمِنِينَ، وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (1) و لعل سؤال البداهة الآن: من هو الذبيح من ولدي إبراهيم؟ و هو في الواقع سؤال، ما تزال الإجابة عنه موضع خلاف بين اليهود و النصارى من ناحية، و المسلمين من ناحية أخرى، فضلا عن أن قصة الذبيح عند اليهود، تحتل مكانة تختلف عنها عند المسلمين، و لنحاول الآن أن نتعرف وجهات النظر المختلفة.

(أ) وجهة النظر اليهودية و المسيحية

يختلف اليهود و النصارى عن المسلمين في اسم الذبيح، فبينما يرى المسلمون أنه إسماعيل، يذهب اليهود و النصارى إلى أنه إسحاق، فضلا عن أن قصة الذبيح هذه، إنما تحتل في التاريخ اليهودي مكانة تختلف عنها عند المسلمين، و الذي يقرأ تاريخ اليهود ليرى أن هذا الاختلاف له جانب هام يفوق في أهميته جانب البحث التاريخي، الذي يراد به معرفة اسم الذبيح من ولدي إبراهيم، لأنه في الواقع إختلاف يتعلق به- في نظرهم- اختيار الشعب الموعود، كما يتعلق به الحذف و الإثبات في سيرة إبراهيم ليتصل بذرية إسحاق، و ينقطع عن ذرية إسماعيل، أو ليثبت من سيرته كل ما يتعلق بإسرائيل، و نقطع منها كل ما يتصل بالعرب، و أن هذا النزاع قد بدأ قديما قبل تدوين نسخ التوراة التي كتبت في بابل- أثناء السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد- و واضح أن هذا النزاع في أوله، لم يكن نزاعا على العقيدة، فإن التوراة (2) تروى أن إبراهيم قد قدّم العشر لملكي صادق، كاهن اللّه العلي أو عليون، الذي كان معبود

ص: 161


1- سورة الصافات: آية 99- 102
2- سفر التكوين 14: 18- 20

السكان في فلسطين، و ما جاورها إلى الجنوب، و قد زار «هيرودوت» (484- 430 ق. م.) بلاد العرب الشمالية عند مدخل مصر، و روى أنهم كانوا يعبدون اللّه تعالى، و اللات أو إيليلات، منذ قرون سابقه للقرن الخامس ق. م.، و من ثم فلم يكن النزاع على العقيدة في نشأته، إلا فرعا من فروع التنازع على الميراث، و لم يكن شأن الذرية الموعودة أو المختارة إلا أنها تعزز دعواها في ذلك النزاع، و تنفي عنه من ينازعها عليه (1)، و من هنا كانت الدعوى بأن الذبيح كان إسحاق، رغبة في اغتصاب شرف عرف لإسماعيل جد العرب.

و هكذا تقول اليهود و النصارى أن الذبيح إنما هو إسحاق، معتمدين في ذلك على عدة عوامل، منها (أولا) ما جاء في التوراة «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، و أذهب إلى أرض المريا، و اصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» (2)، و منها (ثانيا) ما جاء في الإنجيل «بالإيمان قدم إبراهيم إسحاق و هو مجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له إنه باسحاق يدعى لك نسل، إذ حسب أن اللّه قادر على الإقامة من الأموات أيضا» (3)، و منها (ثالثا) أن إسحاق قد ولد بطريقة خارقة للطبيعة، و أنه قد أعطي اسما قبل أن تحمل به أمه (4)، و منها (رابعا) ما يذهب إليه الدكتور ماير من أن هناك فوارق عظمى بين الأخوين، فقد كان إسماعيل ابن الجارية، و إسحاق ابن الزوجة الشرعية، بل إنه ليبلغ به الشطط و التعصب الأعمى إلى أبعد من ذلك، حين يرى أن إسحاق أرفع قدرا من إسماعيل بدرجة لا تترك مجالا للمقارنة بينهما (5)، و منها (خامسا) بعض الروايات الإسلامية عن كعب الأحبار

ص: 162


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 87
2- تكوين 22: 2
3- الرسالة إلى العبرانيين 11: 17- 19
4- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 93، تكوين 18: 9- 15
5- ف. ب. ماير: حياة إبراهيم ص 305- 306

من أن الذي امر إبراهيم بذبحه إنما كان إسحاقا (1).

و إذا أردنا مناقشة حجج اليهود و النصارى هذه، فإننا نلاحظ عليها عدة نقاط، منها (أولا) أنها تصف الذبيح بأنه ابن إبراهيم الوحيد، و هو وصف لا يمكن- بحال من الأحوال- أن ينطبق على غير إسماعيل وحده في السنوات الأربعة عشرة الأولى من عمره، و التي سبقت مولد إسحاق، و انطلاقا من هذا، فإن إسحاق لم يكتب له في يوم من الأيام أن يكون وحيد إبراهيم، ذلك لأن إسماعيل قد عاش حتى وفاة إبراهيم، ثم اشترك مع إسحاق في دفنه بمغارة المكفية، كنص التوراة نفسها (2)، و هكذا لم يكن إسحاق أبدا وحيدا مع وجود إسماعيل، أما إسماعيل فقد كان وحيدا قبل مولد إسحاق، و من هنا كانت لفظة إسحاق في نص التوراة «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق» (3) مقحمة، لأنه لم يكن وحيدا و لا بكرا، و إنما ذلك هو إسماعيل، و لعل الذي حمل اليهود على ذلك هو حسد العرب (4)، و حرصا منهم على أن يكون أبوهم إسحاق هو الذبيح الذي جاد بنفسه في طاعة ربه، و هو في حالة صغره، هذا فضلا عن أن ذلك إنما يتعارض و نصوص أخرى من التوراة.

و منها (ثانيا) أن ما جاء في الإنجيل- في الرسالة إلى العبرانيين- فقد كان الحل الذي ارتضاه فقهاء المسيحية للخروج من مشكلة: كيف يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق، و هو ابنه الموعود الذي يخرج منه الشعب المختار، طبقا لرواية التوراة «باسحاق يدعى لك نسل» (5)، إذ لو كان إسحاق

ص: 163


1- الطبري 1/ 265، ابن كثير 1/ 159- 160، ابن الأثير 1/ 109، تفسير البيضاوي 2/ 297، تفسير الطبري 23/ 77- 83، تفسير القرطبي 15/ 101
2- تكوين 16: 16، 25: 9
3- تكوين 22: 2
4- ابن كثير 1/ 159، راجع فتاوى ابن تيمية 4/ 331- 332
5- تكوين 21: 12

قد كبر و صار له ابن يحافظ على النسل في الأجيال القادمة لزالت العقبة، و لكن كيف يتفق أن يموت إسحاق الذي لم يكن له ابن بعد، و أن يتحقق الوعد الذي أعطي لإبراهيم، بأن يكون له من إسحاق نسلا، كرمل البحر و كنجوم السماء.

و من هنا- و كما يقول الدكتور ماير (1)- كان الفكر الوحيد الذي ملأ قلب إبراهيم على أي حال، هو «أن اللّه قادر على الإقامة من الأموات أيضا»، و حل المشكلة على هذا الوجه جديد في المسيحية، لم ينظر اليه أحبار اليهود الذين اعتبروا أن التضحية قائمة على تسليم إبراهيم بموت إسحاق، و أنه أطاع اللّه و لم يطع قلبه، و لم يحفل بحنانه على ابنه الموعود (2)، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، فإن هذا الحل، الذي ارتضاه فقهاء المسيحية، إنما يقلل من قيمة تضحية إبراهيم و إذعانه لربه، و إن لم يذهب بقيمتها تماما، ما دام أنه كان على يقين من أن اللّه سوف يعيد الحياة إلى ولده، بعد أن يقوم بذبحه بنفسه.

و منها (ثالثا) أن حجتهم من أن إسحاق قد ولد بطريقة خارقة للطبيعة، و أنه قد أعطي اسمه قبل أن تحمل به أمه فلعلهم يقصدون بالولادة الخارقة للعادة، أن إسحاق ولد لإبراهيم و هو شيخ في المائة، و امرأته عجوز في التسعين من عمرها (3)، فإذا كان ذلك كذلك، فهو صحيح، و لكن صحيح كذلك أن ولادة إسماعيل فيها نفس الأمر، أو

ص: 164


1- ف. ب. ماير: حياة إبراهيم ص 256
2- تكوين 22: 1- 18، و انظر: العقاد: المرجع السابق ص 87
3- تكوين 17: 17

قريب منه، لأنه قد ولد و إبراهيم في السادسة و الثمانين من عمره (1)، بل إن إبراهيم- فيما تروي التوراة نفسها- قد تزوج و هو في السابعة و الثلاثين بعد المائة من قطورة، و رزق منها بستة بنين (2)، هذا فضلا عن أن الروايات الإسلامية، إنما تضيف لإبراهيم زوجة رابعة، بني بها في الفترة ما بين زواجه بقطورة، و بين وفاته و هو في الخامسة و السبعين بعد المائة من عمره، دعتها حجورة ولدت له خمسة بنين (3)، أضف إلى ذلك أن قصة ولادة إسحاق، بالطريقة التي روتها التوراة، ليست فريدة في نوعها، فهناك ولادة يحيى عليه السلام- و المعروف عند النصارى بيوحنا المعمدان- تكاد تكون تكرارا لولادة إسحاق، ذلك إن أبا يحيى زكريا- عليه السلام- كان قد بلغ من الكبر عتيا، و كانت امرأته- اليصابات في الروايات المسيحية- عاقرا، فسأل ربه أن يهبه غلاما زكيا، فكان يحيى (4)، ثم هناك ولادة عيسى عليه السلام، بدون أب، ثم هناك كذلك آدم عليه السلام من غير أب، حتى و لا أم، و إلى هذا يشير القرآن الكريم، في قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (5).

ص: 165


1- تكوين 16: 16، هذا و تذهب بعض الروايات الاسلامية إلى أن إسماعيل ولد لابراهيم و هو ابن أربع و ستين، و اسحاق لسبعين، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن إسماعيل ولد لإبراهيم و هو ابن تسع و تسعين، و ولد له إسحاق و هو ابن مائة و اثنتي عشرة سنة، على أن رواية ثالثة ترى ان اسحاق ولد لإبراهيم و هو ابن مائة و سبع عشرة سنة [أنظر تفسير الألوسي 13/ 242، تفسير المنسقي 2/ 264، تفسير القرطبي 9/ 375، تفسير الطبري 13/ 235، تفسير البيضاوي 1/ 533]
2- تكوين 23: 1- 2، 25: 1- 4 و انظر: الطبري 1/ 309- 311، ابن كثير 1/ 175
3- الطبري 1/ 311، ابن الاثير 1/ 123، ابن كثير 1/ 175، ابن سعد 1/ 21، تكوين 25: 7
4- سورة آل عمران: آية 37- 41، سورة مريم: آية 2- 15، سورة الأنبياء: آية 89- 90، انجيل لوقا 1: 5- 80
5- سورة آل عمران: آية 59

و منها (رابعا) أن حجتهم بأن إسحاق قد أعطى اسما قبل أن يولد، فالرد على ذلك، أن إسماعيل- و بنص التوراة- كذلك قد أعطى اسما قبل أن يولد (1)، فإذا كان في ذلك كرامة لإسحاق- و هذا ما نعتقده- فهو كرامة لإسماعيل كذلك، بل ان إسماعيل قد سبق إسحاق في هذه الكرامة، إذ أعطى اسمه قبله، بل إن التوراة نفسها إنما تتحدث عن البشارة بإسماعيل قبل أن تتحدث عن البشارة بإسحاق (2)، هذا إلى أن يحيى و عيسى قد أعطيا اسميهما قبل أن يولدا كذلك، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (3)، و يقول «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» (4)، و يقول «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (5).

و منها (خامسا) أن ما يزعمه الدكتور ماير من أن إسماعيل ابن الجارية، و أن إسحاق ابن الحرة، إنما هو يعتمد في ذلك على ما جاء في الإنجيل من «أنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية و آخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، و أما الذي من الحرة فبالموعد» (6)، و هذا بدوره ليس إلا تكرارا لما جاء في التوراة (7)، و قد سبق لنا مناقشته، و إن كان لزاما علينا أن نضيف جديدا هنا، فهو

ص: 166


1- تكوين 16: 11
2- تكوين 16: 18
3- سورة آل عمران: آية 39
4- سورة مريم: آية 7
5- سورة آل عمران: آية 45
6- الرسالة لأهل غلاطية 4: 22- 23
7- تكوين 16: 1- 9

أن القول بأن هاجر أم إسماعيل كانت جارية لسارة، أمر يحتاج إلى إعادة نظر، و قد سبق لنا مناقشته في كتابنا «إسرائيل»، و خرجنا منه برأي جديد- تقدمنا به حدسا عن غير يقين- أنها ربما كانت ابنة واحد من كبار رجال الدين المصريين، على أساس أنهم الطبقة المنتظر أن يكون الخليل أكثر اتصالا بها (1) و منها (سادسا) أن مفسري التوراة من المسيحيين يريدون أن يصبغوا هذه النصوص بالصيغة المسيحية، ذلك لأن المسيحية- فيما يرى آباء الكنيسة و فقهاؤها- تحرم تعدد الزوجات، فجعلوا من هاجر جارية، و سارة زوجة شرعية، وفاتهم أن الأسرة الإسرائيلية كانت تقوم على تعدد الزوجات، كما كانت تساوي بين هؤلاء الزوجات في الحقوق و الواجبات، و أن كان عددهن يتفاوت قلة و كثرة، حسب ثروة الزوج و مكانته، و لو أن علماء التلمود يحددون للرجل أربع زوجات فقط، و للملك ثماني عشرة زوجة، كما أن قانون الملوك يمنعهم من المبالغة في اقتناء الزوجات «و لا يكثر له نساء لئلا يزيغ قبله» (2)، و قد استغل بعض الإسرائيليين هذا الحق، فبالغوا فيه، إذ «كان لجدعون سبعون ولدا خارجون من صلبه، لأنه كانت له نساء كثيرات» (3)، و قد تزوج داود

ص: 167


1- راجع كتابنا اسرائيل ص 210- 213 مع ملاحظة أن هناك وجهات نظر أخرى، منها أنها أميرة مصرية وقعت في أيدي العماليق ثم أهديت إلى إبراهيم، و منها أنها أخت زوج فرعون، و منها أنها ابنة أحد ملوك مصر .. (انظر: حبيب سعيد: المرجع السابق ص 82، ف. ب. ماير: المرجع السابق ص 136، 236، عبد الحميد السحار: بنو اسماعيل ص 93، عبد الحميد واكد: نهاية اسرائيل ص 88، شفاء الغرام ص 15، تاريخ الخميس ص 165، ياقوت: معجم البلدان 1/ 249 (بيروت 1955) و كذا. A. S 369. P, tic- po, kooC
2- تثنية 17: 17، و كذا فؤاد حسنين: إسرائيل عبر التاريخ 1/ 99
3- قضاة 8: 13

من نساء كثيرات، فضلا عن الإماء و السراري (1)، و اقترن «رحبعام» بثماني عشرة امرأة؛ و ستين سرية، ولدن له ثمانية و عشرين ابنا و ستين ابنة» (2) و تزوج «أبيا» أربع عشرة امرأة و خلف اثنين و عشرين ابنا و ست عشرة بنتا (3)، وفاق سليمان جميع أقرانه، إذ «كانت له سبع مائة من النساء السيدات و ثلاث مائة من السراري» (4)، و إذا ما عدنا إلى عصر الآباء الأوائل- كما يسمونه- فإننا نجد أن الخليل نفسه يتبع هذا المبدأ، فيجمع بين هاجر و سارة، ثم بين قطورة و حجورة، ثم أ لم يجمع يعقوب- أبو الآباء- و الذي حمل الإسرائيليون اسمه، بين نساء أربعة- بين راحيل و ليئة و زلفة و بلهة- و كان منهن أبناؤه الاثنا عشر (5)، ثم أ لم يجمع موسى- صاحب التوراة- بين صفورة ابنة كاهن مدين، و بين المرأة الكوشية التي ثار عليه أخواه من أجلها (6).

و هكذا يبدو لنا بوضوح أن مبدأ تعدد الزوجات- كما يقول جوستاف لوبون- كان شائعا كثيرا لدى بني إسرائيل على الدوام، و ما كان القانون المدني أو الشرعي ليعارضه (7)، سواء أ كان ذلك للأنبياء أو غير الأنبياء، و سواء أ كان ذلك في عصر الآباء الأول أو عصر الملكية، حتى حدده الربانيون بأربعة، و ان أطلقه القراءون، و أن التفسير الذي قدمه صاحب «الرسالة إلى أهل غلاطية»، إنما يقدم الصورة المسيحية- و ليس اليهودية- للزواج، و أنه لأمر مناف للعقل- فضلا عن المنطق و الدين- أن

ص: 168


1- صموئيل أول 25: 39، 43، 28: 27 صموئيل ثان 3: 3، 4، 5: 13
2- أخبار أيام ثان 11: 21
3- أخبار أيام ثان 13: 21
4- ملوك أول 11: 3
5- تكوين 35: 22- 26
6- خروج 2: 21، عدد 12: 1
7- جوستاف لوبون: اليهود في تاريخ الحضارات الأولى ص 50

نطبق شريعة دين على شريعة دين سبقه.

و هكذا نستطيع أن نقرر، و نحن مطمئنون، أن هاجر و سارة- رضي اللّه عنهما- كانت كلتاهما زوجة فاضلة للخليل عليه السلام، و لكل منهما من الحقوق و الواجبات ما للأخرى، و أن الأمر كذلك بالنسبة لا بنيهما النبيين الكريمين، و اذا لم يقتنع علماء اليهود بما نقول، فما رأيهم في أبناء يعقوب الاثني عشر، و هم في نفس الوقت رءوس الأسباط الاثني عشر، فهم كما نعلم- و بنص التوراة نفسها (1)- من زوجاته الأربعة (الحرائر و الجواري)، و لم يقل واحد من العلماء أو رجال اللاهوت من اليهود و النصارى، أن أبناء يعقوب من الجاريتين، بلهة و زلفة، أقل مرتبة من أخوتهم أبناء السيدتين، ليئة و راحيل، هذا إذا سلمنا جدلا، بأن أم إسماعيل كانت جارية لسارة، أضف إلى ذلك كله أن إسماعيل إنما كان بكر إبراهيم، و للبكورية في بني إسرائيل شأن عظيم، و حقوق كثيرة.

بقيت نقطة أخيرة، تتصل بما يزعمه «ماير» من أن إسحاق كان أرفع قدرا من إسماعيل بدرجة لا تترك مجالا للمقارنة بينهما، فذلك تعصب أعمى، و تلك دعوة الغرب و حقدهم على العرب أبناء إسماعيل، نحتمي منه بقوله تعالى «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (2)، إيمانا منا بأن كلا من اسماعيل و اسحاق ابن للخليل، و قد وصف اسحاق في القرآن الكريم بانه كان «نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (3)، و وصف إسماعيل بأنه «كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا» (4)، فما كان لنا أن نفرق بين أحد من رسل

ص: 169


1- تكوين 35: 22- 26
2- سورة البقرة: آية 285
3- سورة الصافات: آية 112
4- سورة مريم: آية 54

اللّه، فذلك شأنه سبحانه و تعالى، و نحن نؤمن الإيمان، كل الإيمان، بأن إسماعيل و إسحاق عليهما السلام، أفضل منا ملايين المرات، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم، سائلين اللّه الغفور الرحيم أن يغفر لنا ذلاتنا، إن كنا قد أخطأنا فيما كتبنا عن أنبيائه الكرام، و ما أردنا من ذلك إلا أن نقول كلمة حق- قدر استطاعتنا- «وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ» (1).

و منها (سابعا) أن ما جاء في الروايات الإسلامية، نقلا عن كعب الأحبار و غيره، فذلك يرجع إلى أن المسلمين إنما يؤمنون بنبوة إسحاق و يعقوب و يوسف، و من هنا فقد استغل ذلك بعض اليهود الذين أسلموا- و منهم كعب الأحبار و وهب بن منبه (2)- و نقلوا أمثال هذه الروايات التي لم يبت القرآن الكريم فيها، تحقيقا لأغراض خاصة بهم، ثم أن هذه الروايات الاسلامية مضطربة، فبينما ينسبها أصحابها إلى ابن عباس، فإنهم يرون رواية أخرى- عن ابن عباس كذلك- يذهبون فيها إلى أن الذبيح إنما هو إسماعيل عليه السلام (3).

(ب) وجهة النظر الاسلامية

يرى المسلمون أن الذبيح إنما كان إسماعيل عليه السلام، اعتمادا على رواية ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى «وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (4)، على أنه إسماعيل، و على أننا نجد في كتاب اللّه- عز و جل- في قصة الخبر عن إبراهيم، و ما أمر به من ذبح ابنه إسماعيل، و ذلك أن اللّه سبحانه

ص: 170


1- سورة هود: آية 88
2- أنظر ما كتبناه من قبل عن الاسرائيليات في التفسير
3- تفسير الطبري 23/ 81- 84، تفسير القرطبي 15/ 99- 100
4- سورة الصافات: آية 107

و تعالى، حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم، فإنه يقول «وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (1)، فالإتيان بالبشرى بعد ذكر القصة صريح في أن إسحاق غير الغلام الذي ابتلى اللّه إبراهيم بذبحه و عودة الضمير إلى الغلام الذبيح، ثم ذكر اسم إسحاق معه صريحا، يقتضي التغاير بين إسحاق و الذبيح (2).

و يضيف الإمام ابن تيمية إلى ذلك، أن قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات (3) تدل على أنه إسماعيل، إذ يقول سبحانه و تعالى «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ»، فقد انطوت البشارة هنا على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، و على أنه يبلغ الحلم، و على أنه يكون حليما، و أي حلم أعظم من أن يعرض عليه أبوه الذبح، فيقول «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، ثم إنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن الكريم، إلا في هذا الموضع، و في سائر المواضع يذكر البشارة باسحاق خاصة- كما في سورة هود (4)- ثم إنه ذكر في البشارة في الصافات، بأنه غلام حليم، و حين ذكر البشارة باسحاق، وصفه بأنه غلام عليم (5)، و التخصيص لا بد له من حكمة، و هذا مما يقوّي اقتران الوصفين، و الحلم هنا مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح، هذا فضلا عن أن إسماعيل قد وصف بالصبر، دون إسحاق، في قوله تعالى «وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (6)، و بصدق الوعد، «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» (7)، لأنه

ص: 171


1- سورة الصافات: آية 112
2- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 102، فتاوى ابن تيمية 4/ 332- 333
3- سورة الصافات: آية 99- 113
4- سورة هود: آية 71- 72
5- سورة الحجر: آية 53، الذاريات: آية 28
6- سورة الأنبياء: آية 85
7- سورة مريم: آية 54

وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفىّ به، ثم إن البشارة باسحاق كانت معجزة، لأن العجوز عقيم، و أنها كانت مشتركة بين إبراهيم و امرأته، بينما البشارة بالذبيح فقد كانت لإبراهيم، ثم امتحانا له، دون الأم المبشرة به (1).

أضف إلى ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى يقول «وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (2)، فكيف يأمره اللّه بذبحه، و قد وعده أن يكون نبيا (3)، ثم إن البشارة باسحاق إنما كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا (4)، و من هنا استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل، و ليس إسحاقا، حيث يقول سبحانه و تعالى «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» (5)، فكيف تقع البشارة بإسحاق، و أنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحاق، و هو صغير قبل أن يولد له، هذا لا يكون لأنه يناقض البشارة المتقدمة، و هناك ما روي من أن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي، سأل رجلا من علماء اليهود، كان قد أسلم و حسن إسلامه: أي ابنيّ إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل و اللّه يا أمير المؤمنين، و إن يهود لتعلم ذلك، و لكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر اللّه فيه، و الفضل الذي ذكره اللّه منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك و يزعمون أنه 0)

ص: 172


1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام احمد بن تيمية 4/ 331- 335، و انظر: روح المعاني 23/ 134 تفسير الطبري 23/ 85
2- سورة الصافات: آية 112
3- تفسير القرطبي ص 5545 (طبعة الشعب)
4- روح المعاني 23/ 134، تاريخ الخميس ص 108
5- سورة هود: آية 71، و انظر: تفسير الطبري 15/ 389- 397 (دار المعارف- القاهرة 1960)

إسحاق، لأن إسحاق أبوهم (1).

و هناك ما جاء في إنجيل برنابا على لسان المسيح- عليه الصلاة و السلام- «الحق أقول لكم، أنكم إذا أمعنتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون خبث كتبنا و فقهائنا، لأن الملاك قال يا إبراهيم: سيعلم العالم كله كيف يحبك اللّه، و لكن كيف يعلم العالم محبتك للّه؟ حقا يجب عليك أن تفعل شيئا لأجل محبة اللّه، فأجاب إبراهيم ها هو ذا عبد اللّه مستعد أن يفعل كل ما يريد اللّه، فكلم اللّه حينئذ إبراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك و أصعد الجبل لتقدمه ذبيحة»، فكيف يكون إسحاق البكر، و هو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين (2).

ثم أ ليس في شعائر الحج عند المسلمين كثيرا من الأدلة على أن الحادث إنما كان في مكة- و ليس في فلسطين- و أنه مع إسماعيل- و ليس مع إسحاق- و أن المسلمين، بعكس اليهود، كانوا- و ما يزالون و سوف يظلمون أبد الدهر- يحيون ذكرى الفداء الفذ هذا في كل عام، عند حجهم إلى بيت اللّه الحرام، في الأضحية يوم النحر، و في السعي بين الصفا و المروة، و في رمي الجمار، و كل تلك أمور لا توجد عند يهود، فإذا ما تذكرنا أن إسماعيل و أمه- و ليس إسحاق و أمه- هما اللذان كانا بمكة، و أن إسماعيل، و ليس إسحاق، هو الذي شارك أباه الخليل في بناء البيت الحرام، و أن النحر في منى- و ليس في فلسطين- في يوم عيد الأضحى

ص: 173


1- ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 215- 217، البداية و النهاية 1/ 159- 160، تفسير القرآن العظيم 7/ 28- 30، تاريخ ابن خلدون 2/ 38، ابن الأثير 1/ 110- 111، تفسير الطبري 23/ 84- 85، تفسير البيضاوي 2/ 297، تفسير القرطبي 15/ 101، روح المعاني 23/ 133- 135
2- محمد حسني عبد الحميد: أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ص 86، علي عبد الواحد وافي:الأسفار المقدسة ص 87- 88، مع ملاحظة مخالفة هذا النص لنصي التوراة (تكوين 16: 16، 17: 3)

المبارك، إنما هو من تمام سنن الحج إلى هذا البيت المعمور، و من هنا يبدو لنا بوضوح أن الذين زعموا من يهود- و من تابعهم في زعمهم هذا من نصارى و مسلمين- أن الفداء إنما كان في الشام، قد أخطئوا كثيرا، إذ لو كان الأمر كما يزعمون، لكانت كل الشعائر التي تتصل بعملية الفداء هذه في الشام، و ليس في مكة.

و يذهب الإمام السيوطي إلى أن البشارة بمولود، إنما جاءت مرتين، الواحدة في قوله تعالى «وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (1)، فهذه الآيات الكريمة قاطعة في أن المبشر به هو الذبيح، و الأخرى في قوله تعالى «وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ» (2)، و في هذه الآيات الكريمة، إنما المبشر به إسحاق، و قد وقعت هذه البشارة في فلسطين، لما جاءت الملائكة بسبب قوم لوط، و هو في آخر مرة، و لم تكن بدعوة من إبراهيم، فهو شيخ كبير، و امرأته عجوز، و أما البشارة الأولى فقد كانت عند ما انتقل الخليل عليه السلام من العراق إلى الشام، و كانت بدعوة منه، حيث كان في سن لا يستغرب منه الولد، و من ثم فقد سأل ربه أن يهبه غلاما من الصالحين، و ينتهي السيوطي إلى أنهما بشارتان في وقتين مختلفين، بغلامين مختلفين، الواحد بغير سؤال- و هو إسحاق- و قد جاء اسمه صريحا في الآيات الكريمة، و الآخر بسؤال، و قد ارتبط

ص: 174


1- سورة الصافات: آية 99- 102
2- سورة هود: آية 71- 72

بقصة الذبح، و هو اسماعيل (1)، فضلا عن أن البشارة باسحاق إنما كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا (2).

أضف الى ذلك كله، أن الآية الكريمة: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ»، تفيد أنه دعاء وقع من إبراهيم قبل أن يرزق بواحد من ابنائه، إذ لو كان له ولد ما طلب الولد الواحد، و كلمة «من» هنا للتبعيض، و أقل درجات البعضية الواحد، و من ثم فان قوله تعالى من الصالحين لا تفيد الا طلب الواحد، و بهذا يكون الدعاء في وقت لم يكن للخليل فيه شي ء من الذرية، و من المعروف أن هناك اجماعا بين علماء المسلمين- فضلا عن كتب اليهود و النصارى- ان اسماعيل انما هو ولد إبراهيم البكر، و من ثم فان الدعاء انما يراد به اسماعيل، و حيث أن رؤيا البشري ثم رؤيا الذبح انما جاءت بعد ذلك، فالذبيح اذن هو اسماعيل. (3).

و هناك رواية تذهب إلى أن بعضا من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) قد رأوا بقايا رأس الكبش في بيت اللّه الحرام، فعثمان بن طلحة يروي أنه رأى قرني الكبش، و أنهما بقيا حتى احتراق البيت أثناء حصار الحجاج لابن

ص: 175


1- تفسير القاسمي 14/ 5053، محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم ص 165، شفاء الغرام 2/ 10- 11، تفسير الألوسي 12/ 97- 101، 13/ 135- 136، 14/ 60- 61، تفسير المنار 12/ 127- 130، تفسير القرطبي 9/ 62- 71، 15/ 100- 103، تفسير البيضاوي 1/ 474- 475، 2/ 297، 1/ 543- 544، و انظر السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 332- 333، تفسير الطبري 12/ 71- 77، 14/ 39- 41
2- تاريخ الخميس ص 108، و انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 26/ 154
3- تفسير الفخر الرازي 26/ 154

الزبير (1)، و ابن عباس يروي أنه رأى رأس الكبش (2) ما يزال معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس، و يبدو أن قريشا قد توارثت قرني الكبش، خلفا عن سلف، و أن ذلك إنما كان من دعاوى الفخر عندهم، و بدهي أنهم لا يتفاخرون بهما، إن كان الذبيح إسحاق، و ليس إسماعيل، و كل تلك الروايات إنما تدل على أن الذبيح إنما كان إسماعيل، فهو الذي كان- و ليس إسحاق- في مكة المكرمة (3).

و أخيرا فهناك رواية تذهب إلى أن رجلا جاء إلى الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- فقال: يا رسول اللّه، عد علي مما أفاء اللّه عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم (صلى اللّه عليه و سلم)، فقيل لمعاوية بن أبي سفيان- و كان حاضرا- و ما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب نذر إن سهل اللّه حفر زمزم أن يذبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد اللّه أبي النبي (صلى اللّه عليه و سلم) ففداه بمائة بعير، و أما الذبيح الثاني فهو اسماعيل (4).

ص: 176


1- انظر عن هذا الحصار (72/ 73 ه- 692 م): ابن الأثير 4/ 22- 24، العقد الفريد 2/ 182، الازرقي 1/ 196- 200، مروج الذهب 5/ 259- 260، الاخبار الطوال ص 304 و ما بعدها
2- هناك من يرى ان الذبيح إنما فدي بوعل (و هو التيس الجبلي)، و من يرى أنه تيس من الأروي، و لكن الجمهور على أنه كبش، و لذا يفضل العلماء الأضحية بالغنم عنها بالبقر و الابل (تفسير الطبري 23/ 86- 87، تفسير القرطبي 15/ 107)
3- ابن كثير 1/ 158، شفاء الغرام 2/ 9، تاريخ الخميس ص 108، الازرقي 1/ 159- 160، تفسير الألوسي 23/ 134، تفسير الطبري 23/ 83- 84، 87، تفسير القرطبي 15/ 106، فتاوى ابن تيمية 4/ 335، تفسير البيضاوي 2/ 297
4- ابن كثير 1/ 160، ابن الأثير 1/ 180، ابن خلدون 2/ 337، شفاء الغرام 2/ 11، تفسير الألوسي 23/ 134، 136 تفسير البيضاوي 2/ 297، تفسير الطبري 23/ 85
(ح) قصة الذبيح و التضحية البشرية

عرفت بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم نظام الضحايا البشرية التي كانت تقدم على مذابح الآلهة و عند دفن الملوك، و تدلنا حفائر «أور» السومرية على قدم تلك العادة، إذ كان الملوك يدفنون و معهم حاشيتهم و وزرائهم، و لا يبدو من هيئة جثمانهم أنهم ماتوا على الرغم منهم، فليس منهم من وجدت جثته و فيها أثر الذبح أو الخنق أو القتل أو الضرب العنيف، و لهذا يعتقد «سير ليونارد و ولي» أنهم كانوا يتجرعون باختيارهم عقارا ساما يخدرهم و يميتهم، إيمانا منهم بالانتقال مع الملوك الأرباب إلى حالة في السماء، كحالتهم في الحياة الأرضية، هذا و قد وجدت على بعض أختام الطين صور آدميين يلبسون قناعا يشبه رأس الحيوان، و المظنون أن هذا الذي كان مقدمة للذبح الرمزي، و اجراء الشعائر مجرى التمثيل المقدس في الاحتفالات العامة، و لا سيما الاحتفال برأس السنة (1).

و تدلنا مقبرة «زفاحعبي»- الحاكم المصري في كرمه بالسودان على أيام الأسرة الثانية عشرة (1991- 1786 ق. م.)- على إتباع نفس العادة، إذ ضحى باكثر من مائتي شخص من خدمه و أتباعه، ثم دفنوا في الممر المؤدي إلى قبره، و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه العادة ربما كانت معروفة في مصر في عهد ما قبل الأسرات، و ربما في الأسرة الأولى كذلك، و لكنها انقرضت بعد ذلك (2).

و لم يكن الأمر مختلفا بالنسبة إلى الكنعانيين و الفينيقيين، فقد كانت

ص: 177


1- عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص 172، و أنظر و كذا 1963, RUTA SNOITAVACXE, seedlahc eht fo ru, yelloow. L و كذا lautiR citimeS ylraE fo snigirO, ekooH
2- أحمد فخري: مصر الفرعونية ص 320

التضحية بالطفل البكر عرفا جاريا لدى الكنعانيين في العصر العتيق، و في حفريات «جازر» دليل قاطع في هذا الصدد، فقد وجدت بها عظام أطفال في حالة بلاء بين بين، مودعة في أسس المنازل، و قد احتفظ الفينيقيون بهذه العادة إلى عصور قريبة، حتى روى «فيلون» أن من عادات القوم في حالات الأخطار العامة، أن يضحوا بأعز أبنائهم لإبعاد الكوارث عن أنفسهم (1)، و طبقا لرواية التوراة، فإن المؤابيين إنما كانوا يفعلون كذلك، و قد ضحى ملك مؤاب (ميشع) بابنه البكر لإلهه شمس، لينقذه من قوات إسرائيل و يهوذا التي أحاطت به (2). هذا و قد تبيّن من مخلفات المدافن من «أم التار» في «أبو ظبي» أنها تضم العديد من الهياكل العظمية المتكدسة في المدفن المشترك، و يدل وجود الهياكل العظيمة خارج الجدران الخارجية على ظاهرة التضحية البشرية التي تواكب مراسم الدفن، حيث توضع جثث الأشخاص الذين يضحى بهم خارج المبنى الذي يضم جثة المتوفي (3).

و هنا- فيما يبدو لي- تظهر أهمية قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، في التاريخ الإنساني، إذ كتبت عليه ضريبة الفداء، و هي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت لا تتورع عن الذبائح البشرية، و بين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة، و لكنها تتورع عن ذبح الإنسان (4)، و لما كان الأنبياء هم الأسوة الحسنة التي يحتذى حذوها كافة الناس و خاصتهم، فإن اللّه جلت قدرته أراد أن يجعل من خليله قدوة حسنة، و مثلا أعلى، لأرفع صور الإيمان و أجلها في تاريخ الإنسانية، و في الوقت

ص: 178


1- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية ص 145
2- ملوك ثان 3: 27
3- 212. P, 1970, nodnoL, numleD rof gnikooL, ybbiB. G و كذا 218- 217. PP, 1962, lamuK, nesdivrohT. K
4- عباس العقاد: الإسلام دعوة عالمية ص 218- 219

ذاته، فإنه- جل و علا- قد أعطى الإنسانية نفسها، مثلا حيّا في إبراهيم و ابنه إسماعيل، تمهيدا لمنع هذه العادة البربرية، فيأمره بذبح ولده، ثم يفتديه بكبش عظيم، و من هنا كان ارتباط هذا الحادث ارتباطا وثيقا، بظاهرة التضحية البشرية، التي كانت تمارس في بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم، و الحث على استبدال ذلك التقليد بالتضحية الحيوانية (1).

و من عجب، أن ذرية إبراهيم من إسحاق، لم يكونوا على مستوى الدعوة، فبقيت فيهم عادة التضحية البشرية إلى ما بعد أيام موسى و نزول التوراة، و يتضح هذا من رواية سفر الخروج (2)، حيث يحرم اللّه على بني إسرائيل أن يعطوا أبكار أبنائهم قربانا إلى اللّه تعالى، كما يتضح كذلك من سفر اللاويين (3)، حيث ينص على عقوبة الرجم لمن يعطي ابنه قربانا لملكوم- إله العمونيين- و قد كانوا يقدمون له الذبائح البشرية، لا سيما من الأطفال (4).

و مع ذلك فقد ظل أمراء بني إسرائيل ينذرون أبناءهم، محرقة على المذابح، كما فعل «يفتاح الجلعادي» حين نذر للرب «إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون، يكون للرب، و أصعده محرقة» (5)، و تشاء الأقدار أن تكون ابنته الوحيدة هي التي تهب للقائه عند ما عاد من معركته هذه، و من ثم فقد اضطر أن يفي بنذره هذا بعد شهرين (6).

ص: 179


1- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 174
2- خروج 22: 9
3- لاويون 18: 21، 20: 2
4- قاموس الكتاب المقدس 2/ 721
5- قضاة 11: 30- 31
6- قضاة 11: 34- 40

و هكذا بقي الإسرائيليون، و حتى عصر القضاة، يمارسون التضحية البشرية- تقليدا للكنعانيين و المؤابيين و غيرهم- رغم أنها ليست من شريعة موسى، و رغم أنهم نهوا عنها مرارا، بل إن الأمر قد بقي كذلك، حتى عصر ارمياء النبي (627- 577 ق. م.) الذي نعى عليهم أنهم «بنو المرتفعات ليحرقوا بنيهم و بناتهم بالنار»، و حتى عصر أشعياء، الذي يقول لهم: «يا بني الساحرة، نسل الفاسق و الزانية ... المتوقدون إلى الأصنام تحت كل شجرة خضراء، القاتلون الأولاد في الأودية تحت شقوق المعاقل» (1).

ص: 180


1- أشعياء 57: 3- 5

الفصل الخامس الكعبة الشّريفة

اشارة

ص: 181

ص: 182

[1] بناء الكعبة

لا ريب في أن الكعبة، إنما قام ببنائها الخليل و ولده إسماعيل- عليهما السلام- الأمر الذي يؤكده القرآن الكريم، و يرتضيه محققو المؤرخين، إلا أن نفرا من المؤرخين، إنما يحلو لهم أن يقدموا لنا روايات ترجع ببناء الكعبة إلى ما قبل عهد إبراهيم بآلاف السنين، بل أن البعض إنما يذهب إلى أنها قد بنيت قبل أن يبرأ اللّه الأرض نفسها، و هكذا وجدت لدينا روايات تنسب بناء الكعبة إلى الملائكة، و قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، بل إن هذا النفر إنما يذهب إلى أن الملائكة قد خاطبت آدم عند حجه إلى البيت الحرام، و بلسان عربي مبين، قائلة: «برّ حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» بينما تواضع بعض هؤلاء الرواة فنسب بناء الكعبة إلى آدم فحسب، و تواضع بعض آخر أكثر، فنسب بناءها إلى شيث بن آدم، و أن هذا البيت المقدس، إنما غرق في طوفان نوح، حتى أتى إبراهيم فأعاد بناءه (1).

على أن فريقا آخر، إنما يذهب إلى أن الكعبة، إنما أقيمت في مكان معبد قديم للعماليق، اندثر و اختفى قبل قدوم إبراهيم إلى الحجاز، مما جعل هذه البلاد موضع تقديس، حتى أن المصريين القدامى، إنما كانوا يسمون بلاد الحجاز «البلاد المقدسة» (2). بل إن البعض قد زاد، فأراد أن يطوّع

ص: 183


1- العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار 1/ 93- 94، تفسير المنار 1/ 466، تفسير البيضاوي 1/ 172، الكشاف 1/ 311، تاريخ الخميس ص 100- 104، 133، نهاية الأرب 1/ 228- 230، ياقوت 4/ 463- 465، الازرقي 1/ 32- 53، الحربي: كتاب المناسك و أماكن الحج و معالم الجزيرة ص 481- 482، علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مرّ العصور ص 5- 10
2- نفس المرجع السابق ص 10، مع ملاحظة أنه ليس هناك شي ء مؤكد من الناحية التاريخية عن هذا الإسم

الآيتين الكريمتين، «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» (1) و «إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ» (2)، لتتفق مع هذا الهدف، فرأى أنهما تلهمان أن هذه المنطقة كانت معروفة، و أن الكعبة ربما أقامت على أنقاض معبد قديم، جرت عليه أحداث تاريخية و جغرافية غيرت من طبيعة المكان و أهمل هذا المعبد، حتى هيئ لإبراهيم أن يرفع قواعده من جديد (3).

و الرأي عندي أن الكعبة المشرفة، إنما ترجع في بنائها إلى الخليل و ولده إسماعيل، عليهما السلام (4)، دون غيرهما من العالمين، يقول سبحانه و تعالى «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ، وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (5)، و يقول

ص: 184


1- سورة الحج: آية 26
2- سورة البقرة: آية 127
3- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 167، تاريخ الطبري 1/ 254، قارن: تفسير القرطبي 2/ 120، الكشاف 1/ 311
4- نلاحظ في الآية الكريمة «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ»، تأخير ذكر اسماعيل عن ذكر المفعول، إشارة إلى أن المأمور من اللّه إنما هو إبراهيم، و إنما كان إسماعيل مساعدا له، و قد ورد أنه كان يناوله الحجارة (تفسير المنار 1/ 469، البداية و النهاية 1/ 156)، ثم قارن تفسير الطبري 3/ 64- 67، 71- 72، حيث نرى أن النبيين الكريمين قد رفعا القواعد معا بدليل قوله تعالى «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (البقرة: آية 127- 128).
5- سورة البقرة: آية 125- 127

سبحانه و تعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (1)، و يقول «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا، وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (2).

و يرى الإمام ابن كثير و غيره من العلماء، أنه لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم (صلى اللّه عليه و سلم) أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام (3)، و من تمسك في هذا بقوله مكان البيت، فليس بناهض و لا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم اللّه المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء، موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم، و لنعرف ذلك كله، فلنعد إلى القصة من أولها.

استجابت هاجر لما ارتآه الخليل عليه السلام- كما أشرنا آنفا- من أن يجنبها النزاع الذي قد يتفاقم بين سارة و هاجر، و الغيرة التي قد تقتل سارة، و تزعج أمن إبراهيم و استقراره، و من ثم فقد قام الخليل برحلته إلى الحجاز، و معه هاجر و إسماعيل، امتثالا لأمر اللّه و رغبة في نشر الايمان في بيئة جديدة، و في مناخ جديد، و إلا لو كان الأمر مجرد إبعاد هاجر و ولدها إسماعيل عن سارة، لكان الأولى بإبراهيم- و هو الرحيم بولده، الحنون على زوجته- أن يذهب بهما إلى أرض الكنانة، فيحقق بذلك عدة أغراض، تستقر زوجته عند أهلها، و يطمئن على ولده عند خئولته، و لا

ص: 185


1- سورة آل عمران: آية 96- 97
2- سورة الحج: آية 26- 27
3- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 163، الكشاف 1/ 446، تفسير المنار 1/ 466- 467، تفسير الطبري 3/ 70، البداية و النهاية 2/ 298 تاريخ اليعقوبي 1/ 27

نقول يرد المرأة إلى أهلها، بدل أن يقذف بها هناك في صحراء جرداء، لا زرع فيه و لا ماء.

و لكن الخليل- عليه السلام- لم يكن يفعل ما فعل بأمر من نفسه، أو بأمر من سارة- كما يحلوا للسطحيين من المؤرخين- و إنما كان يفعل ذلك كله بأمر من رب إبراهيم، تمهيدا لأعظم مهمة، خلدت ذكر إبراهيم، و هدت أقواما إلى الإيمان بالواحد القهار، أعني أول بيت وضع للناس- بيت اللّه الحرام- و ليعيش إسماعيل هناك، و حتى يخرج من ظهره أشرف الأولين و الآخرين، رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) و حتى تنشأ هناك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف و تنهي عن المنكر، و هكذا، فالرأي عندي أن هجرة أبي الأنبياء بولده الحبيب و أمه، إنما كانت لأمر أراده اللّه، و ليست انتقاما من سارة، أرادت به أن يذهب الخليل بزوجه و ولده إلى مكان سحيق، لا تعرف عنهم شيئا، ثم يعود إليها الخليل وحده، و لهذا يتجه البعض أن هجرة إبراهيم بولده و زوجته إلى الأرض المقدسة في الحجاز إنما كانت بعد أن أمر اللّه إبراهيم ببناء البيت (1).

و من هنا فإن الروايات التي ذهبت إلى أن سارة في قرارها الغاضب هذا أقسمت لتقطعنّ من هاجر ثلاثة أعضاء، و من ثم فقد أمر الخليل أن تثقب أذنيها و أن تخفضها، فتبر بقسمها، و هكذا كانت هاجر أول من اختتن من النساء، و أول من ثقبت أذنيها منهن (2)، روايات لا تتفق و مكانة الخليل أبدا، فضلا عن جهل فاضح بالتاريخ.

و ليت الذين يذكرون ذلك كله يعرفون أن المصريات كن يلبسن «الحلقان» في آذانهن قبل تلك الأيام بمئات السنين، و أن الختان عادة

ص: 186


1- تفسير الطبري 3/ 68- 69
2- ابن كثير 1/ 154، العقد الفريد 1/ 135، تاريخ الخميس ص 105، شفاء الغرام 2/ 15، المقدسي 3/ 53، قارن: مروج الذهب 2/ 19- 20

مصرية متأصلة، تفرد بها المصريون دون شعوب المنطقة جميعا، منذ أن كان فجر التاريخ، و أن اليهود لم يعرفوا هذه العادة إلا إبان إقامتهم في مصر، حتى أن التوراة نفسها لم تتحدث عن سنة الختان إلا بعد زيارة إبراهيم لمصر، و أنه لا يوجد شعب في حوض البحر المتوسط كان يتبع هذه السنة غير المصريين، ثم انتقل بعد ذلك منهم إلى السوريين و الفينيقيين، و أن هيرودت يروي أنه سألهم عن هذه العادة، فقالوا إنهم أخذوها من المصريين، الذين كانوا يتحرون بها النظافة و الطهارة، و ما يزال الختان حتى اليوم في عرف المصريين يسمى «الطهارة»، و لعل هذا هو السبب في أن المصريين كانوا يعتبرون أي قوم غير مختونين دنسين، و من ثم فقد كانوا يقطعون غلف القتلى من هؤلاء القوم، الأمر الذي يبدو واضحا في حروب مربنتاح (1224- 1214 ق. م) و رعمسيس الثالث (1182- 1151 ق. م) (1).

و أيا ما كان الأمر، فإن الأسرة المباركة، سرعان ما تصل إلى الأرض الطيبة، حيث تبقى هاجر و وليدها العظيم، بينما يعود الخليل إلى فلسطين، و هنا تقدم لنا الروايات العربية منظرا فريدا في التاريخ، يقدم الخليل فيه- كما تقدم هاجر كذلك- دليلا ما بعده دليل على قوة الايمان بالخالق الأعظم.

تقول الروايات أن اللّه أوحى إلى إبراهيم أن يأتي مكة، و ليس بمكة يومئذ بيت، و كان موضع البيت ربوة حمراء، و إن كانت هناك روايات تذهب إلى أن أناسا من العماليق كانوا وقت ذاك خارج مكة و ما حولها،

ص: 187


1- محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 230، قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة، مجلة الأسطول- العدد 66 ص 14- 15، جوزيف لويس: الختان ص 52- 54 و أنظر: أبكار السقاف: إسرائيل و عقيدة الأرض الموعودة- القاهرة 1967، تكوين 12: 10- 20، 17: 9- 27.

و أن واديها قد اتخذ من قبل أن تبنى موئلا للراحة من قبل رجال القوافل- سواء إبان قدومها من ناحية اليمن قاصدة فلسطين، أو متجهة من فلسطين إلى اليمن- و لكنه كان فيما خلا ذلك، من أشد الأماكن خلاء أو يكاد، و هناك في هذا المكان المقفر، يترك إبراهيم هاجر و إسماعيل، عند دوحة فوق زمزم، و يقفل راجعا، فتناديه هاجر: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟

فيقول: إلى اللّه، فتقول له: انطلق فإنه لا يضيعنا، و ينطلق إبراهيم حتى إذا ما كان عند الثنية حيث لا يرونه، يستقبل بوجهه البيت ثم يدعو بهذه الدعوات (1)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ (2) تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (3).

و فرغ الطعام و الماء فعطشت هاجر و عطش وليدها و راح يتلبط، و نظرت إليه و هو يتلوى من العطش، فأحست نياط قلبها تتمزق، و كاد عقلها أن يطيش، و راحت تسعى بين الصفا و المروة تتلهف على رؤية أحد ينقذ ولدها من الموت عطشا حتى إذا ما أتمت السعي سبع مرات،

ص: 188


1- ابن كثير 1/ 154- 155، ابن الأثير 1/ 103، تاريخ الطبري 1/ 252- 253، تفسير الطبري 3/ 62، 13/ 230- 233، التفسير الكبير للفخر الرازي 19/ 136، تاريخ اليعقوبي 1/ 25، شفاء الغرام 2/ 3، تاريخ الخميس ص 106، تفسير الألوسي 13/ 236، المقدسي 3/ 60، الازرقي 1/ 54، 2/ 39، تاريخ ابن خلدون 2/ 36، قصص القرآن ص 57- 58، قصص الأنبياء ص 104- 105، مروج الذهب 2/ 18
2- يروي ابن عباس و غيره أن اللّه سبحانه و تعالى، لو قال «أفئدة الناس» و لم يقل «أفئدة من الناس»، لازدحم عليهم الفرس و الروم و الناس كلهم، و لحجت اليهود و النصارى و المجوس، و لكنه قال «من الناس»، فاختص به المسلمون (تفسير ابن كثير 4/ 142، روح المعاني 13/ 238، 239، تفسير البيضاوي 1/ 533، تفسير الطبري 13/ 233- 234، التفسير الكبير للفخر الرازي 19/ 137، تفسير القرطبي 9/ 373، تفسير النسفي 2/ 264)
3- سورة إبراهيم: آية 37

عادت إلى إسماعيل، فإذا الماء قد ظهر عند قدميه، فجعلت تخوضه في فرح و تغرف الماء في سقاتها و شربت و أرضعت وليدها، و اذا بملك عند زمزم يقول لها: لا تخافي الضيعة فإن هذا بيت اللّه الحرام، يبنيه هذا الغلام و أبوه، و أن اللّه لا يضيّع أهله (1).

و هكذا كتب اللّه الرءوف الرحيم لإسماعيل و أمه النجاة، و كان السعي بين الصفا و المروة من شعائر اللّه، و صدق عز من قال «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» (2)، و يروي ابن عباس عن الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- قوله «فلذلك سعى الناس بينهما»، أي بين الصفا و المروة، و لست أدري: هل كان يدور بخلد جدتنا العظيمة أم إسماعيل- عليهما السلام- أن ملايين المؤمنين على مرّ السنين سوف يسعون بين الصفا و المروة سبعة أشواط، تخليدا لذكرى ما كان في ذلك السعي من خير و بركة (3).

و يمر نفر من جرهم- أو من العماليق على رواية أخرى بواد قريب من مكة، و يعرفوا بأمر زمزم، ثم لم يلبثوا إلا قليلا، حتى يعرضوا على هاجر

ص: 189


1- تاريخ الطبري 1/ 253- 258، ابن الاثير 1/ 103- 105، ابن كثير 1/ 155، تاريخ اليعقوبي 1/ 25، ياقوت 3/ 148- 149، العقد الفريد 1/ 133، شفاء الغرام 2/ 3- 4، الحربي: المرجع السابق ص 484- 485، تفسير الطبري 3/ 69، المقدسي 3/ 60- 62، روح المعاني 13/ 236- 237، مروج الذهب 2/ 18، تاريخ ابن خلدون 2/ 36- 37، قصص القرآن ص 58- 59، قصص الأنبياء ص 105، حياة محمد ص 103- 105، الازرقي 1/ 54- 55، 2/ 39- 40
2- سورة البقرة: آية 158
3- محمود الشرقاوي: المرجع السابق ص 166- 167، قصص الأنبياء ص 105، الازرقي 2/ 40، مروج الذهب 2/ 19، التفسير الكبير للفخر الرازي 19/ 136، تاريخ الخميس ص 106، العقد الفريد 1/ 135، شفاء الغرام 2/ 3- 6، 16 مروج الذهب 2/ 46- 47، تفسير الطبري 13/ 230- 232، تفسير القرطبي 9/ 369- 270 (طبعة 1967)

أن يقيموا في جوارها، على أن يكون الماء ماءها، فأذنت لهم، و شب إسماعيل بينهم، و تعلم العربية منهم، فضلا عن الزواج بواحدة من بناتهم (1)، و إن كانت التوراة تذهب إلى أن أمه قد أخذت له زوجة من أهلها من مصر (2)، كما أن هناك من المؤرخين المسلمين أنفسهم من تنبه إلى الفارق بين لغة قريش و لغة الجنوب- أي بين لغة العدنانيين و لغة القحطانيين- فلو كان إسماعيل قد تعلم العربية من جرهم لكانت لغته موافقة للغتهم، أو لغيرها ممن نزل مكة، فضلا عن أن منزلة يعرب عند اللّه ليست بأعلى من منزلة إسماعيل، كما أن منزلة قحطان ليست عند اللّه بأعلى من منزلة إبراهيم خليل الرحمن، فيمنع إسماعيل فضيلة اللسان العربي التي أعطيت ليعرب بن قحطان (3)، و لهذا ذهب بعض المؤرخين إلى أن إسماعيل كان أول من ألهم هذا اللسان العربي المبين (4)، بل إن هناك من يذهب إلى أن قحطان نفسه من ولد إسماعيل (5).

و على أي حال، فإن صاحب الإكليل، إنما يذهب إلى أن سبأ بن يشجب

ص: 190


1- ابن كثير 1/ 155، ابن الأثير 1/ 103- 104، مروج الذهب 2/ 46- 47، تاريخ الطبري 1/ 258، تفسير الطبري 13/ 230، تفسير البيضاوي 1/ 533، تفسير الألوسي 13/ 237، تفسير القرطبي 9/ 274، قصص القرآن ص 63، الازرقي 1/ 57، 2/ 40- 41 العقد الفريد 1/ 133، شفاء الغرام 2/ 4، تاريخ الخميس ص 110، الإكليل 1/ 98- 102، 117، المعارف ص 16- 17، تاريخ ابن خلدون 2/ 37، 2/ 331- 332.
2- تكوين 21: 21
3- مروج الذهب 2/ 46
4- تاريخ ابن خلدون 2/ 86، تاريخ الخميس ص 110، تاريخ اليعقوبي 1/ 221، العقد الفريد 1/ 134، لسان العرب 2/ 75، تاج العروس 2/ 352، شفاء الغرام ص 13، قارن: ياقوت 4/ 98
5- الإكليل 1/ 103- 105، تاريخ ابن خلدون 2/ 241- 242، نهاية الأرب للقلقشندي ص 396- 397

- أو ولده حمير- هو الذي سيّر جرهم إلى جبال الحرم و الحجاز، ولاة على العماليق و عبد ضخم، فكانوا بنجد و كذا الطائف و أجبل الحرم، و وادي مكة يومئذ خاو لا يدخلونه إلا رعاة، حتى إذا ما جاءت هاجر و ولدها، أقاموا معهم و تزوج إسماعيل منهم (1).

و أيا كان الأمر، فإن الخليل لم يكن ليترك ولده الحبيب في ذلك المكان الموحش القفر بوادي مكة، دون أن يزوره، بين الحين و الحين، فقد كان لا ينقطع عن زيارة هاجر و إسماعيل، ليشد الأواصر بين الأخوين، إسماعيل و إسحاق و ربما ليزيل الجفوة بين هاجر و سارة، و إن كان المصادر العربية تتجه اتجاها عجيبا، فهي تروي أن الزيارة ما كانت تتم إلا برضى من سارة، و بشرط ألا ينزل عند هاجر، و حتى بعد وفاة هاجر، فإن سارة إنما كانت تفرض على إبراهيم ألا ينزل كذلك عند إسماعيل، و سار نفر من المؤرخين المحدثين في الركب، و زادوا أنها اشترطت كذلك ألا ينزل عن جواده (2).

و لست أدري كيف نسي هؤلاء المؤرخون- أو تناسوا- أن هاجر كانت ما تزال زوجة للخليل، فما حدثنا مصدر قط عن فراق بينهما، و أن هاجر و سارة- رضي اللّه عنهما- كلتاهما زوجة فاضلة للخليل، عليه السلام، و لكل منهما من الحقوق و عليها من الواجبات، ما للأخرى و ما عليها، و أن إسماعيل هو ولد إبراهيم البكر، و إذا كانت الروايات العربية على صواب فيما ذهبت إليه، من أنه كان ما يزال صغيرا عند ما تركه، فهو إذن ليس البكر فحسب، و لكنه الوحيد كذلك، لأن الخليل لم يرزق

ص: 191


1- الإكليل 1/ 101
2- ابن الاثير 1/ 104، تاريخ الطبري 1/ 258، تاريخ الخميس ص 111، تاريخ ابن خلدون 1/ 37، مروج الذهب 2/ 19- 21، علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 15، قارن: تاريخ اليعقوبي 1/ 26

باسحاق، إلا و كان إسماعيل في الرابعة عشرة من عمره، فإذا كان ذلك كذلك، فكيف قبل هؤلاء المؤرخون أن لا يزور إبراهيم زوجته و ولده، إلا بإذن من سارة، فأيهما صواب القوامة على الآخر، و اللّه سبحانه و تعالى يقول «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (1)، و يقول «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (2)، ثم أ ليس لهاجر في إبراهيم حق كسارة تماما، و العدل بين النساء أمر لا يحتاج إلى إيضاح، و ليس من شك في أن الخليل عليه السلام، كان أعلم بذلك كله، و أحرص عليه، من هؤلاء الذين كتبوا ما كتبوا.

ثم أ لم يكن إسماعيل ولده، و له فيه حق كإسحاق تماما، إن لم يفق حق سارة في إبراهيم، أم أنه ابن الجارية- كما تزعم يهود، و كما يرد المؤرخون الإسلاميون مزاعم يهود في كتبهم- و من ثم فليس له حق في أبيه، إلا أن تأذن سارة، و حتى هذه، فلست أعرف نوعين من الأبوة، نوع لابن الحرة، و آخر لابن الجارية، ثم و ليقرأ هؤلاء صفات هذا و ذاك في القرآن الكريم.

و أخيرا، فهل عرف هؤلاء المؤرخون أن الرحلة من فلسطين إلى مكة في هذه الصحراوات المقفرة، تحتاج إلى راحة، بعد عناء السفر، و مشقة الطريق، ثم كيف بعد كل هذا يرون أن إبراهيم قدم إلى مكة في إحدى زياراته لولده، فرفض أن ينزل من على دابته، رغم إلحاح زوج ولده، مما اضطرها إلى أن ترجل له شعره، و تغسله له، بل و يشرب لبنا، و يأكل

ص: 192


1- سورة النساء: آية 34، و انظر تفسير الكشاف 1/ 505
2- سورة البقرة: آية 228 و انظر: تفسير الطبري 4/ 533، 536 (دار المعارف بمصر)، تفسير الكشاف 1/ 272

شرائح من لحم، و هو ما يزال على دابته، و أنه ترك آثار رجليه على حجر كان يتكئ عليه أثناء ترجيل شعره أو غسله (1)، و إذا قيل أن الأرض كانت تطوي له، و أنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فسؤال البداهة هنا: كيف قبل هؤلاء المؤرخون أن يسجلوا في كتبهم أن الخليل- عليه السلام- لم يزر إسماعيل- منذ أن تركه رضيعا مع أمه هناك في واد قفر- إلا بعد أن تزوج إسماعيل- عليه السلام- و كيف قبلوا أن يسجلوا على أنفسهم أن أبا الأنبياء تخلف كل هذه الفترة عن مطالعة أحوال ولده و زوجته، و هم في أشد الحاجة إليه، و هل هذا يتفق و خلق أبي الأنبياء، كما قدمه لنا القرآن الكريم (2).

و نحن لا ننكر أن تكون قدما الخليل عليه السلام، قد تركت أثرا في الحجر، فقد علمنا من القرآن معجزات للخليل أعظم من هذه و أكبر، و لكننا ننكر أن يكون السبب في ذلك أنه أبى أن ينزل عن دابته، لأن سارة اشترطت عليه ذلك، و من ثم فإننا نشم رائحة الاسرائيليات في هذه الروايات.

و على أي حال، ففي إحدى زيارات الخليل لولده إسماعيل، عليهما السلام، وجده يصلح نبلا له من وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل، إن اللّه قد أمرني أن أبني له بيتا، فقال إسماعيل: فأطع ربك، فقال إبراهيم:

قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل، فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، و إسماعيل يناوله الحجارة، ثم قال إبراهيم لإسماعيل ائتني بحجر حسن أضعه على الركن، فيكون للناس علما، و ذهب إسماعيل يلتمس لأبيه حجرا، فأتاه به، و لكنه وجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه،

ص: 193


1- مروج الذهب 2/ 20- 22، ابن الأثير 1/ 104، الطبري 1/ 258- 259، الحربي: المرجع السابق ص 483- 484، تفسير الطبري 3/ 35
2- ابن كثير 1/ 157، تفسير القرطبي 9/ 370

فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر، فقال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، أتاني به جبريل من السماء (1).

و الحجر الأسود حجر صقيل بيضي غير منتظم، و لونه أسمر يميل إلى الإحمرار، و فيه نقط حمراء و تعاريج صفراء، و قد يكون من نوع النيازك بدليل وصفه أنه كان يتلألأ نورا، فأضاء شرقا و غربا، و يمينا و شمالا، إلى منتهى أنصاب الحرم، و تلألؤه الموصوف دليل على أنه كان ذي لون غير السواد، و قد ثبت عن النبي (ص) أن الحجر الأسود كان ياقوتة بيضاء فاسود بذنوب العباد، و أنه (ص) قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة، و هو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم». و أما تقديس الحجر الأسود، فربما قد نجم من ارتباطه بشي ء مقدس، فهو إما أن يكون رمزا للعهد الذي أخذه إبراهيم على نفسه و ولده، بجعل هذا البيت مثابة للناس و أمنا، و إما أن يكون قد أقامه إبراهيم حجة عليه و على ولده، بأن هذا البيت قد انتقل من ملكهم إلى اللّه تعالى، ليكون للناس مصلى، و مسجدا للطائفين و العاكفين و الركع السجود، و لذا فقد وضعه في الركن الأقرب إلى الباب، ليكون أول حدود هذا البيت المكرم، الذي يبتدئ منه الطائفون، و اختار له اللون الأسود لسهولة تعيينه و تحديد مكانه، لذلك كان الحجر الأسود محترما من إبراهيم، محترما من ولده، مقدسا عند المسلمين إلى اليوم و إلى الغد، و إلى أن يغير اللّه هذه الأرض غير الأرض (2).

و هكذا بنى إبراهيم و إسماعيل، عليهما السلام، «الكعبة المشرفة» بيتا

ص: 194


1- تاريخ الطبري 1/ 250- 260، تفسير الطبري 3/ 66- 70، ابن الأثير 1/ 106، ابن كثير 1/ 156، 163- 166، الأزرقي 1/ 58- 65، تاريخ الخميس ص 113، شفاء الغرام 2/ 4- 8، تفسير القرطبي 2/ 122، قصص الأنبياء ص 106، قصص القرآن ص 65- 67، مروج الذهب 2/ 22، قارن: اليعقوبي 1/ 27
2- علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 19- 20، لطفي جمعة: ثورة الاسلام ص 59، الهجرسي: كتاب الحج ص 25، و أنظر: العقد الثمين 1/ 67- 68.

للّه تعالى، ليكون رمزا للحقيقة الكبرى في الوجود، حقيقة التوحيد، توحيد التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و تضرع خليل الله و دعا ربه، و أمن إسماعيل، أن يجعل اللّه افئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت المحرم (1)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (2).

و إذا كان صحيحا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن إسماعيل، عليه السلام، كان في الثلاثين من عمره، يوم أمر اللّه عز و جل إبراهيم ببناء الكعبة (3)، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون في حوالي عام 1824 ق. م.،

على أساس أن إسماعيل قد ولد في عام 1854 ق. م، لأنه ولد لإبراهيم و هو في السادسة و الثمانين من عمره، و أن إبراهيم قد عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م)، و لما كان إسماعيل قد عاش مائة و سبع و ثلاثين سنة، فإنه يكون قد انتقل الى الرفيق الأعلى في حوالي عام 1717 ق. م (4).

و قد خلد القرآن الكريم بناء الكعبة، حيث يقول سبحانه و تعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ

ص: 195


1- محمد الصادق عرجون: محمد (صلى اللّه عليه و سلم) من نبعته إلى بعثته ص 17
2- سورة إبراهيم: آية 37 و انظر: تفسير الطبري 13/ 229- 235، تفسير الكشاف 2/ 380، تفسير ابن كثير 4/ 141- 142، في ظلال القرآن 13/ 2104، 2109- 2110، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 4/ 86- 87، تفسير النسفي 2/ 263- 264، تفسير القرطبي 9/ 368- 374.
3- مروج الذهب 2/ 22، علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 16
4- أنظر: كتابنا إسرائيل ص 177، 202، مقالنا قصة الطوفان بين الآثار و الكتاب المقدسة ص 434، تكوين 12: 4، 16: 25: 7، 17

إِلَيْهِ سَبِيلًا (1)» و لعل في هذه الآيات الكريمة إشارة إلى أن الحج الى البيت على المستطيع هو استمرار لغرض إلهي قديم، معترف به من الناس، و ممارس من بعضهم، فهو أول بيت وضع للناس (2)، فيه الهدى، و فيه البركة، و فيه الخير الكثير، و هو من بناء إبراهيم بما فيه من علامات هي مقام إبراهيم، و أن من دخله كان آمنا، و يلفت النظر هنا كلمة «الناس» فإنها إنما تدل على أن الحج، إنما كان على الناس كافة (3)، كما تدل كلمة «العالمين» على أن البيت الحرام، إنما هو هداية للبشرية جمعاء، و هكذا ما نرى إبراهيم يفرغ من بناء البيت، حتى يأمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج، «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (4).

و هنا يروي ابن عباس أن إبراهيم قال: يا رب و ما يبلغ صوتي، قال أذّن و عليّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إن اللّه قد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء و الأرض، و ما في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم اللّه ان يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيك لبيك، ثم خرج بإسماعيل معه إلى التروية، فنزل به منى و من معه من المسلمين، فصلى بهم الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، ثم بات حتى أصبح فصلى بهم الفجر، ثم سار إلى عرفة فأقام بها هناك، حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين، الظهر

ص: 196


1- سورة آل عمران آية 96- 97
2- هناك رواية تنسب إلى الإمام علي كرم اللّه وجهه، مؤداها أن رجلا سأله: أ هو أول بيت. فقال: لا، قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس (أي الناس كافة) مباركا، فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أول من بناه إبراهيم (الكشاف 1/ 446)، تفسير الطبري 3/ 69، 7/ 19، قارن: 7/ 20، 22، ابن كثير 2/ 299، قصص الأنبياء 106)
3- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 173، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 631- 647 تفسير المنار 4/ 6- 14
4- سورة الحج: آية 27

و العصر، ثم راح إلى الموقف من عرفة، الذي يقف عليه الإمام، فوقف به على الأراك، فلما غربت الشمس دفع به و من معه حتى أتى المزدلفة فجمع بين الصلاتين، المغرب و العشاء الآخرة، ثم بات بهما و من معه، حتى إذا طلع الفجر صلى الغداة، ثم وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به و بمن معه يريه و يعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة، و أراه المنحر، ثم نحر و حلق، و أراه كيف يطوف، ثم عاد به إلى منى ليريه كيف رمى الجمار، حتى فرغ من الحج، و يروى عن النبي (صلى اللّه عليه و سلم)، أن جبريل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحج (1).

[2] الكعبة بعد إبراهيم و اسماعيل

ظلت الكعبة بعد إبراهيم و إسماعيل، عليهما السلام، حرما آمنا، يقدسه العرب، على أنه البيت الحرام الذي بناه أبوهم إبراهيم و ولده إسماعيل، ثم ما لبثت هذه القداسة إن امتدت إلى مكة و مجاوراتها، بل إن صاحب كتاب «الاصنام» ليرى أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن، إلا و قد حمل معه حجرا من حجارة الكعبة، تعظيما لها، و صبابة بمكة، فحيثما حلو وضعوه و طافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمنا منهم بها، و صبابة بالحرم و حبا له، و هم بعد يعظمون الكعبة و مكة، و يحجون و يعتمرون، على إرث أبيهم إسماعيل من تعظيم الكعبة و الحج و الاعتمار (2).

و يروي الأخباريون أن المكيين كانوا يعظمون البيت و يقدسونه، حتى أنهم كانوا يرون أن من علا الكعبة من العبيد فهو حر، حتى لا يجمع بين

ص: 197


1- تاريخ الطبري 1/ 260- 262، تفسير الطبري 3/ 76- 80، الأزرقي 1/ 66- 72، تاريخ اليعقوبي 1/ 27، ياقوت 4/ 465، تفسير القرطبي 2/ 128- 130، ابن الأثير 1/ 107
2- راجع كتاب الأصنام لابن الكلبي، و انظر كذلك العقد الثمين 1/ 136، نهاية الأرب 1/ 245، ابن هشام 1/ 51

عز علوها، و ذل الرق (1)، على أن هذه القداسة للبيت الحرام، لم تكن مقصورة على المكيين وحدهم، و إنما امتدت إلى سائر العرب الذين كانوا يشدون الرحال من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية إلى مكة في مواسم معينة، ليحجوا إلى البيت الحرام و ليشهدوا منافع لهم في الأسواق التجارية، التي كانت تعقد في موسم الحج من كل عام- هو الربيع على رأي، و الخريف على رأي آخر (2).

و يرى «فلهاوزن» أن الشهر الحرام المذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ، وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ» (3)، هو شهر الحج- و هو الشهر الأول من السنة، أي المحرم- بينما يرى المفسرون أنه رجب أو ذو القعدة أو ذو الحجة (4)، و يذهب المسعودي إلى أن الأشهر؛ إنما هي المحرم و رجب و ذو القعدة و ذو الحجة، و أما شهور الحج فهي شوال و ذو القعدة و عشرة من ذي الحجة (5)، و على أي حال، فلقد تحدث القرآن الكريم عن الأشهر الحرم، و رغم أنه لم يعلن عن أسمائها، و لم يزد عن أنها أربعة حرم (6)، فإن الروايات المتواترة، إنما تذهب إلى أنها: رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم (7)، و الأشهر الثلاثة الأخيرة هي أشهر الحج، فيما قبل الإسلام، أما رجب، فقد كان المكيون- فيما يرى البعض- يحتفلون فيه بعيد ديني، ربما كان خاصا بقبائل مضر أو

ص: 198


1- الثعالبي: ثمار القلوب ص 18
2- 124. P, LES
3- سورة المائدة: آية 97
4- جواد علي 6/ 349- 350 و كذا 409. P, malsI fo, ycnE, retrohS
5- مروج الذهب 2/ 189، تفسير القرطبي 2/ 405، تفسير الطبري 4/ 115- 121 (طبعة دار المعارف)، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 81
6- سورة البقرة: آية 197، سورة التوبة: آية 5، 36
7- صحيح البخارى 6/ 66، ابن سعد 2/ 27، السهيلي 2/ 60، ابن كثير 5/ 195، مروج الذهب 2/ 189، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 192

قبائل الحجاز أو بعضها، و ربما كان هذا هو أصل حرمته، حتى يتمكن القوم من الذهاب و الإياب، و أداء المناسك في ظل هدنة دينية مقدسة، حتى كان الرجل منهم إذا لقي قاتل أبيه أو أخيه أو ابن عمه، فلا يعرض له، ثم ما لبث في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين أن أصبح واحدا من الأشهر الحرم (1).

و يذهب الأخباريون بعيدا في تقديس الكعبة، فهو لم يكن- فيما يزعمون- مقصورا على العرب، و إنما امتد كذلك إلى الهند و الفرس و إلى غيرهم، و هم يرون كذلك أن الهنود إنما كانوا يعتقدون أن روح «شبوه»- أحد آلهتهم- إنما تقمصت الحجر الأسود، عند ما زار هو و زوجته أرض الحجاز، و الأمر كذلك بالنسبة إلى الفرس الذين كانوا يعتقدون أن روح «هرمز» قد حلت في الكعبة، و يزيد المسعودي أنهم كانوا يعتقدون أنهم من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام، و من ثم فقد كانوا يحجون إليها، و أن آخر من حج منهم إنما كان «ساسان بن بابك»، و إنه كان إذا طاف بالبيت زمزم على بئر إسماعيل- كما كان أسلافه يفعلون- و من ثم فقد سميت زمزم باسمها هذا (2)، و هكذا نرى الأخباريين- كالعهد بهم يحولون الهنود و الفرس إلى مقدسين للبيت الحرام، حاجين إليه، متبركين بماء زمزم، فضلا عن أن الأخيرين منهم إنما كانوا من سلالة الخليل عليه السلام (3).

ص: 199


1- نفس المرجع السابق ص 192، محمد عزة دروزة: عصر النبي ص 210- 211، تفسير الطبري 11/ 930
2- هناك رواية تنسب لابن عباس على أنها سميت زمزم لأنها من زمة جبريل، أنبطها مرتين، الأولى لآدم و الثانية لإسماعيل (الحربي: المرجع السابق ص 500، البكري 2/ 701)
3- جواد علي 6/ 439، اللسان 12/ 275، مروج الذهب 1/ 265، تاريخ الخميس ص 125، ياقوت 3/ 147- 148 عمدة القارئ 9/ 277، البكري 2/ 700، علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 25.

و يمضي حين من الدهر، و يؤول أمر الكعبة إلى جرهم، إلا أن العماليق فيما يرى الأخباريون قد نازعوهم في الأمر، ثم سرعان ما ينشب القتال بين الفريقين، و لا تضع الحرب أوزارها حتى تكون الغلبة للعماليق، غير أن «حرهم» ما لبثت إن استعادت نفوذها من جديد، حيث بقي الأمر فيها قرابة قرنين- و ربما ثلاثة- عاد بعدهما إلى بني إسماعيل، ثم انتزعته منهم خزاعة، بعد حرب دارت رحاها بين إياد و مضر، و هكذا بقي الأمر في خزاعة إلى أيام «عمرو بن الحارث»، فانتزع منه «قصي بن كلاب» الملك و أمر الكعبة معا (1).

و أيا ما كان نصيب هذه الروايات من صواب أو خطأ، فإن هناك إجماعا على أن عمرو بن لحي، كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى الكعبة، و من ثم فقد غيّر دين إبراهيم و إسماعيل، عليهما السلام، و دعا العرب إلى عبادة الأوثان، و لهذا يروي أبو هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه و سلم)، أنه قال:

«رأيت عمرو بن لحي يجر قصبة في النار، و كان أول من سيّب السوائب»، و تضيف رواية أخرى، «و هو أول من غيّر دين إبراهيم عليه السلام (2).

و هناك من يذهب إلى أن ذلك، إنما حدث حين رحل عمرو بن لحي إلى مدينة البلقاء بالشام، ليستشفي من مرض أصابه، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، و حين سألهم عنها أجابوه «هذه أصنام نعبدها، نستنصرها فتنصرنا، و نستسقي بها فنسقى»، فطلب واحدا منها ليضعه في الكعبة،

ص: 200


1- مروج الذهب 2/ 22- 24، تاريخ اليعقوبي 1/ 222، تاريخ ابن خلدون 2/ 332- 335، تاريخ الطبري 2/ 284، الأزرقي 1/ 82- 87، شفاء الغرام 2/ 48- 54
2- صحيح البخاري 4/ 184، 6/ 54- 55، فتح الباري 6/ 398- 400، 8/ 213، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص 233- 235، العقد الثمين 1/ 136، شفاء الغرام 2/ 21، 46- 47، تاريخ الخميس ص 124، الاشتقاق 2/ 474، مروج الذهب 2/ 29- 30، روح المعاني 7/ 197

فأعطوه صنما يقال له «هبل»، فقدم به إلى مكة و وضعه عند الكعبة (1)، و يميل بعض المؤرخين المحدثين إلى هذا الرأي، معتمدين في ذلك على أن اسم هبل، إنما هو مشتق من لفظ أرامي بمعنى الروح، هذا و يميل بعض المستشرقين إلى أن هبل إنما هو رمز إله القمر، و أن قريشا من شدة تعظيمها له، إنما وضعته في جوف الكعبة (2)، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن صورة الحية أو تمثالها، إنما يشير إلى هبل، أو إلى هبل و ود (3)، و أخيرا فهناك ما يشير إلى أن هبل إنما كان من معبودات العرب الشماليين، بدليل أن اسمه قد ورد- بجانب ذي الشري و مناة- في نقوش نبطية من الحجر، كما أن هناك أشخاصا من قبيلة كلب قد حملوا اسمه (4).

و أيا ما كان الأمر، فإذا صدقت الرواية التي تذهب إلى أن الذي جاء به إلى مكة، إنما هو عمرو بن لحي (5)، فربما كانت تلك وسيلة من وسائل عمرو هذا، لتعظيم شأن الكعبة عند أهل الشمال، و إيناسهم بها كلما دخلوا إلى الحجاز، و تقريب ما بينهم و بين شعائر البيت الحرام، و هم جميعا حريصون على تقريب هذه الشقة، و حماية روادها من كل قبيل، و من ثم فقد عمل الحجازيون على تعظيم شأن الحجاز عند الأنباط، فوضعوا في 2]

ص: 201


1- مروج الذهب 2/ 29- 30، 227، الأزرقي 1/ 88، 117- 118، تاريخ اليعقوبي 1/ 254، تاريخ الخميس ص 113، بلوغ الأرب 2/ 200- 201، ابن كثير 2/ 187- 188، ابن هشام 1/ 64، تاج العروس 8/ 168
2- جواد علي 6/ 253 و كذا 87. P, neibarA, nnamhorG. A
3- 87. P, tic- po, nnamhorG. A
4- 664. P. I, scihtE dna noigileR fo aideapolcycnE, sgnitsaH. J
5- هناك رواية تذهب إلى أن الذي جاء بهبل إنما هو «خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر» و لذا قيل لهبل «هبل خزيمة» [أنظر: الأصنام ص 28، ابن سعد 1/ 39، نهاية الأرب 16/ 12]

الكعبة تماثيل أرباب يعبدها النبط، يعدّ منها الرواة (1) هبل و اللات (2) و مناة، التي قيل أنها من المنية بمعنى «القدر المقدور» معبود النبطيين، و قولهم حانت منيته و حان قدره، بمعنى واحد عند عباد مناة (3)، و ربما كان للكلمة صلة بالكلمة الآرامية «مناتا» و العبرية «منا»، و بكلمة «منية» و جمعها «منايا» في عربية القرآن الكريم، و هي بذلك تمثل الحظوظ الأماني- و بخاصة الموت- و من ثم فهي آلهة القضاء و القدر (4)، أضف إلى ذلك أن ارتباط «مني ineM» ب «جد daG» في العهد القديم، قد يشير إلى ذلك أيضا، لأن كلا منهما إنما يعني المستقبل، و إن كان الأول إنما يعنيه بمعناه الضار في أغلب الأحايين، على عكس الثاني، الذي قد يعني الحظ السعيد و المستقبل المشرق (5).

ص: 202


1- الازرقي 1/ 124- 128، كتاب الأصنام ص 28
2- اللات: من الأصنام القديمة المشهورة عند العرب، و يبدو أنها قد انتقلت إلى الحجاز على يد عمرو بن لحي من الأنباط و القبائل العربية الشمالية، و قد كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليها ثقيف بيتا تضاهي به الكعبة المشرفة، و كانت تخصها بما تخص به قريش العزى، كما كانت العرب كلها تعظمها كذلك و كانت تحت صخرة اللات حفرة يقال لها «غبغب» حفظت فيها الهدايا و النذور و الأموال التي كانت تقدم إلى الصنم، و لما أسلمت ثقيف بعث رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم)، المغيرة بن شعبة فهدمها و حرقها بالنار، ثم أخذ الأموال التي كانت بالغبغب، و سلمها إلى أبي سفيان، امتثالا لأمر النبي- عليه الصلاة و السلام- هذا و قد جاء ذكر اللات- بجانب العزى و مناة- في القرآن الكريم (سورة النجم: آية 19- 23، و أنظر: كتاب الأصنام ص 16، 19، 27، 43، ياقوت 5/ 4، تفسير ابن كثير 4/ 253، محمد عبد المعين خان: الأساطير العربية قبل الإسلام ص 119، اللسان 2/ 388، جواد علي 6/ 229، تاريخ الطبري 3/ 99، البداية و النهاية 1/ 149، ابن هشام 2/ 326، موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 360، تفسير الطبري 23/ 67- 69، روح المعاني 23/ 135)
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 59
4- 29 -25 .P .P ,smutnedieH nehcsibarA etseR ,nesuahlleW .J 215 -214 P .P malsI ' tnava droN ud sedarA te sneetabaN ,sneinerymlaP ,ykcratS .J
5- 604, 275. P. P, tic- po, sgnitsaH. J

على أن هناك من يرى أن «مناة» لا تمثل القدر، الذي تمثله مناتو البابلية، و «منا» العبرية، ذلك لأن الدهر في تصور العرب و الشعراء الجاهليين رجل، لا امرأة، و قد يفسر هذا استقسام العرب عند هبل و ذي الخلصة بالأزلام، و حلفهم فقط أمام مناة، و يؤكد صفة مناة كذلك أن سيفي الحارث الغساني (مخذوم و رسوب) عثر عليهما على بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند مناة حينما هدمت، لأن السيف رمز العدالة، و الإنصاف عند أهل البادية (1).

و أيا ما كان الأمر، فلقد لعبت أيدي الوثنية الخبيثة بدين إبراهيم الحنيف، و أصابت النكسة عقيدته السمحاء- التي قضى عمره يرفع لواءها في كفاح طويل و جهاد موصول، فحطم الأصنام و تحدى الجبابرة- و هكذا انقلب القوم إلى عبادة الأصنام، و جهلوا سر الفداء، و سر البقاء، و بدأ عصر الوثنية و تقديس الأصنام، إلى درجة أن الرجل منهم كان يأخذ معه في أسفاره أي حجر من أحجار الكعبة، يصلى إليه، و يستأذنه في الإقامة و السفر، و يؤدي إليه كل ما يؤدي للنجوم و خالق النجوم من طقوس العبادة، و من ثم فقد استقرت الوثنية و قدست التماثيل و قدم العرب لها القرابين (2).

و يروي الأخباريون أن الجاهليين كانوا قد وضعوا «أسافا» و «نائلة» داخل المسجد الحرام، وضعوا كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف إذا طاف بدأ بأساف فقبله و ختم به، و إن كانت هناك رواية أخرى تذهب إلى أنهما قد وضعا على الصفا و المروة، و أن عمرو بن لحي هو الذي نقلهما إلى الكعبة، و نصبهما على زمزم، و على أي حال، فيبدو أن

ص: 203


1- عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ العرب 1/ 640
2- ابن كثير 2/ 191- 192، الأزرقي 1/ 123، كتاب الاصنام ص 32، حياة محمد ص 100

قداسة هذين الصنمين، إنما كانت مقصورة على قريش، و أن القبائل الأخرى لم تكن تشاركها في تقديسهما، و ربما كان هذا هو السبب في الروايات التي دارت حولهما، و أنهما صنمان استوردهما القوم من الشام، و إن ذهبت روايات إلى أنهما من اليمن، من جرهم، هذا و قد نصب القرشيون كذلك على جبل الصفا صنما يقال له «مجاور الريح»، و آخر على جبل المروة، دعوه «مطعم الطير» (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القوم لم يكونوا شديدي الإيمان بأصنامهم؛ حتى أن العرب كانت إذا حجت إلى الكعبة، سألت قريشا عن تلك الأصنام، فكانوا يقولون لهم، إنما نعبدها لتقربنا إلى اللّه زلفى، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (2)، و في هذا إشارة إلى أن القوم إنما كانوا يعتقدون بوجود اللّه، و لكنهم يخلطون إيمانهم هذا بعبادة الأصنام و اتخاذ الأولياء و الشفعاء لتقربهم إلى اللّه زلفى (3)، هذا إلى أن قريشا إنما كانت تلبيتها عند الكعبة «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه و ما ملك» (4)، هذا فضلا عن قلة احتفاء الجاهلين بتلك الأوثان و الأصنام التي لا نجد لها ذكرا، إلا في مناسبات معينة، كما أنها لم تحل عند القوم محل اللّه، كما اتفق عند غير العرب، و عند غير الساميين على الأخص (5).

ص: 204


1- مروج الذهب 2/ 23، تاريخ اليعقوبي 1/ 254- 155- تاريخ الطبري 2/ 241، 284، ياقوت 1/ 170، الازرقي 1/ 88، 119- 122، ابن حبيب ص 311، ابن كثير 2/ 191، تفسير القرطبي 2/ 179- 180، العقد الثمين 1/ 212، الروض الآنف 1/ 64- 65، ابن هشام 1/ 86، جواد علي 6/ 267
2- سورة الزمر: آية 3
3- أنظر: سورة الانعام: آية 148، سورة النحل: آية 35، سورة الزمر: آية 3
4- تاريخ اليعقوبي 1/ 255، ابن حبيب ص 311
5- عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص 159

و أيا ما كان الأمر، فيبدو أن الأساس المهم الذي قامت عليه مكانة الكعبة، أن البيت الحرام بجملته كان هو المقصود بالقداسة غير منظور إلى الأصنام و الأوثان التي اشتمل عليها، و ربما اشتمل على الوثن تقدسه بعض القبائل، و تزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة «البيت» عند المعظمين و المزدرين، و اختلفت الشعائر و الدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه و وثنه، و لم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره و المكلفون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة و أهل البادية، و جاز عندهم- من ثم- أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، و يعطوا البيت غاية حقه من الرعاية و التقدير (1).

و على هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب، يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية و اليهودية و المسيحية و عبادات الأمم المختلفة، و لا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، و ما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلية بلفظها و جملة معناها كالصلاة و الصوم و الزكاة و الطهارة، و مناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند اللّه (2).

و ظلت خزاعة تتولى شئون الكعبة، حتى نجحت قريش آخر الأمر في أن تنتزع القيادة منها، و هنا يحلوا للأخباريين أن يقدموا لنا رواية غريبة و عجيبة في نفس الوقت، فيرون أن الاسكندر المقدوني خرج من السودان متجها نحو اليمن، و هناك قابله «تبع الأقرن» ملك اليمن، و قدم له الولاء و الخضوع، و بعد أن أقام الاسكندر في صنعاء شهرا، اتجه إلى تهامه، و في

ص: 205


1- العقاد: مطلع الثور ص 115
2- نفس المرجع السابق ص 116

مكة- حيث السيادة لخزاعة- قابله «النضر بن كنانة»، فأعجب به، و من ثم فقد ساعده على إخراج خزاعة من مكة، و جعل السلطان فيها مقصورا على النضر و بني أبيه، ثم حج الاسكندر، و فرق الهبات و الهدايا في ولد «معد بن عدنان»، ثم عاد إلى الغرب (1).

و ليس من شك في أن ذلك كله، ليس له نصيب من صواب، و أنه لا يعدو أن يكون أسطورة من الأساطير، لست أدري ما الذي دفع بصاحبها إلى القول بها، و لعل أهم ما يلاحظ عليها: (أولا) أن الاسكندر الأكبر (336- 323 ق. م) لم يذهب إلى السودان أبدا، و بالتالي فلم يعبر البحر الأحمر إلى عدن، ثم اليمن، و (ثانيا) أن صنعاء لم تكن عاصمة اليمن في القرن الرابع قبل الميلاد (2)- عصر الاسكندر- كما أن تبع الاقرن هذا لم يكن ملكا بها، و أما (ثالثا) فإن الاسكندر الأكبر لم يكن يؤمن بالبيت الحرام، حتى يحج إليه، فضلا عن أن يجعل أمر مكة بيد «النضر بن كنانة»، بدلا من خزاعة، و (رابعا) فإن الاسكندر قد حاول السيطرة على الجزيرة العربية- أو على الأقل على شواطئها- و من ثم السيطرة على طرق التجارة .

ص: 206


1- الدينوري: الأخبار الطوال ص 33- 34
2- يرجع ظهور صنعاء (صنعو) إلى أيام الشرح يحضب، أي إلى النصف الثاني من القرن الأول ق. م.- (390. P, tic- po, emmaJ. A) و إن ذهب فلبي إلى أنها كانت في الفترة 125- 105 ق. م.- (142. P, tic- po, ybihP. B. J)، و على أي حال، فلقد تردد اسمها في النصوص التي ترجع إلى ذلك العهد، مثل (575 emmaJ)، و في أيام الحروب التي دارت رحاها بين الشرح يحضب و شمر ذي ريدان، كما نعرف من نقش- emmaJ) 577 (، و أن الرجل- كما يدلنا نقش- 535. YR- قد بنى قصر غندان (غمدان)، لما بنى «شعر أوتر» سورها (أي سور صنعاء)، ثم بدأت المدينة تظهر بين المدن اليمنية القديمة من تلك الفترة، حتى غدت آخر الأمر عاصمة اليمن و مقر الحكام حتى الآن (أنظر: جواد علي 2/ 442، اللسان 3/ 327، قارن: ياقوت 3/ 426- 427، 4/ 210، البكري 3/ 843، و انظر كذلك: 57 .P ,1960 ,sbarA eht fo yrotsiH ,ittiH .K .P ,19 .P ,1953 neibaraduS nehcsimalsiroV sed eihpargoeG nehcsirotsiH ruZ egartieB ,renfoH .M :dna nnamssiW noV .H

البحرية، و انطلاقا من هذا فقد أرسل حملات الاستكشاف من السويس و من الخليج العربي، و لكن المحاولة قد توقفت بسبب وفاته في بابل، في الثامن عشر من يونية عام 323 ق. م (1)، و يبدو أن هذه الحقيقة الأخيرة قد اختلطت بغيرها عند الأخباريين و كانت النتيجة تلك الأسطورة الآنفة الذكر.

على أنه ليس من الغريب على أصحابنا الأخباريين أن يجعلوا الاسكندر الأكبر يدخل مكة، فضلا عن أن يكون رجلا مؤمنا يحج إلى بيت اللّه الحرام- و هو الذي لم يكتف بتأليه نفسه عند الشرقيين، و إنما فعل ذلك في بلاد اليونان نفسها كأثينا و إسبرطة (2)- ما داموا قد جعلوه من قبل أحد اثنين من المؤمنين حكموا الدنيا بأسرها (3)، و ما داموا قد جعلوا من أسلاف الفرس من حج إلى بيت اللّه الحرام، و ما دام الخليل عليه السلام قد أصبح- في نظرهم- واحدا من أجدادهم، و من ثم فقد ربطوا نسب الفرس بنسب العرب العدنانيين، و ما دام «ساسان» قد جاء إلى الكعبة، و طاف بالبيت العتيق، و زمزم على بئر إسماعيل، ثم أهدى الكعبة غزالين من ذهب، و جواهر و سيوفا و ذهبا كثيرا (4).

و على أي حال، فمن المعروف أن أمر الكعبة قد آل إلى قريش مرة أخرى في عهد «قصي بن كلاب»- الجد الرابع لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) و أصبحت مكة مركزا للحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية، بسبب وجود الكعبة فيها، و في الواقع أنه رغم وجود «البيوت الحرام» في بلاد العرب،

ص: 207


1- و. و. تارن: الاسكندر الاكبر ص 185- 187، فضلو حوراني: العرب و الملاحة في المحيط الهندي ص 55
2- ثاران: المرجع السابق ص 178- 180
3- انظر: الطبري 1/ 234، ابن كثير 1/ 148
4- مروج الذهب 1/ 265، جواد علي 4/ 16

كبيت الأقيصر و بيت ذي الخلصة و بيت صنعاء و بيت نجران، و غيرها من البيوت الحرام (1)، فإن واحدا من هذه البيوت لم يجتمع له ما اجتمع لبيت مكة، ذلك لأن مكة كانت ملتقى القوافل بين الجنوب و الشمال و بين الشرق و الغرب، و كانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، و لمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، و كانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، و لم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها، فليست في مكة دولة كدولة التبايعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، و ليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم أو دولة فارس أو دولة الحبشة وراء الامارات العربية المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء، فمكة إذن مثابة عبادة و تجارة، و ليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش و لا يبالي من عداه، و هي إن لم تكن كذلك من أقدم أزمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم و العماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يشرون كل ما دخلها من تجارة (2).

أضف إلى ذلك أن مكة كانت عربية لجميع العرب، و لم تكن كسرية أو قيصرية، و لا تبعية أو نجاشية، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام أو عند تخوم الجنوب، و لهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها و يجدون فيها من يبادلهم و يبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر و الإكراه (3).

ص: 208


1- ياقوت 1/ 238، 3/ 427، 4/ 394- 395، 5/ 268- 269، بلوغ الأرب 1/ 346- 347، 2/ 202، 207- 209، 212، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب ص 493، كتاب الاصنام ص 38، البكري 2/ 603، الروض الآنف 1/ 66، تاج العروس 3/ 397، ابن حبيب: كتاب المحير ص 317
2- العقاد: مطلع النور ص 112- 113
3- نفس المرجع السابق ص 113

و قد عملت قريش على توفير الأمن في منطقة مكة، و هو أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات و طلب الثأر، حتى يكون البيت الحرام ملاذا للناس و أمنا، و حتى يجد فيها من تضيق به الحياة و يتعرض لطلب الثأر، الأمن و الحماية، و لعل هذا هو السبب في أن تحافظ قريش على حرمة الأشهر الحرم في موسم الحج، حتى يأمن الناس فيه على أنفسهم و أموالهم.

و لم تكتف قريش بذلك، و إنما عملت على توفير الماء و الطعام للحجيج في منطقة يشح فيها الماء، و يقل الطعام، و من ثم فقد قامت بحفر الآبار في منطقة مكة و أنشأت أماكن للسقاية، ثم أوكلت سقاية الحاج إلى البطون القوية (1)، و هكذا غدت سقاية الحج- بجانب عمارة البيت و سدانته- عملا يراه القوم في قمة مفاخرهم، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (2).

و كانت ضيافة الحجيج عملا لا يقل عن سقايتهم، و قد أسندتها قريش إلى الأغنياء من رجالاتها، لأن قدوم الحجاج من أماكن بعيدة من شبه الجزيرة العربية، يصعب معه حمل الزاد، و من ثم فقد كانت الرفادة تكلف أصحابها الكثير من أموالهم، بجانب ما تقدمه قريش لهم، إلا أن هذا الأمر في الوقت ذاته، قد أفاد قريشا كثيرا، إذ كانت المؤاكلة في عرف العرب، إنما هي عقد جوار و حلف، فضلا عن أن الضيافة في ذاتها من أكبر ما يحمد الرجل عليه، و هكذا كانت قريش بعملها هذا، و كأنها تعقد حلفا مع كل القبائل العربية، تحمي به تجارتها، و تسبغ على رجالاتها نوعا

ص: 209


1- ابن هشام 1/ 159- 162
2- سورة التوبة: آية 19، و انظر: تفسير الطبري 14/ 168- 173، تفسير ابن كثير 3/ 373- 374، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 3/ 218، تفسير القرطبي 8/ 91- 92، تفسير المنار 10/ 215- 220.

من التقدير و الاحترام عند العرب، لا يتوفر لغيرهم (1).

و خطت قريش خطوة أخرى في اجتذاب القبائل العربية إلى مكة، فنصبت أصنام جميع القبائل عند الكعبة، فكان لكل قبيلة أوثانها، تقدم في الموسم لزيارتها و تقديم القرابين لها، و زاد عدد الأصنام عند الكعبة على ثلاثمائة صنم، فيها الكبير و الصغير، و منها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات او النباتات، و كان أكبر الأصنام «هبل» في صورة انسان من عقيق أحمر (2).

و هكذا تمضي الأيام و تزداد مكانة الكعبة عند العرب، حتى تصبح آخر الأمر المفخرة القومية و الحرم الإلهي عندهم، ثم تغدو بعد حين من الدهر، الحوار الوحيد الذي يشعر العرب عنده بشعور العروبة الموحدة، عالية الرأس، غير مستكينة لأجنبي كائنا من كان، ذلك لأنهم كانوا يحسون أنهم من رعايا الروم في الشام، و من رعايا الفرس في الحيرة، و أتباع للحبشة أو الفرس في اليمن، و لكنهم هنا- في مكة- عند بيت اللّه، في حرم اللّه، يقدسونه جميعا، لأنه لهم جميعا، يضمهم إليه كما يضم أوثانهم و أصنامهم و أربابهم، يلوذون به، و يأوون إليه، فكلهم من معبود و عابد في حمى الكعبة، لأنهم في بيت اللّه، و شعورهم هنا، بأنهم «عرب» لم يماثله شعور قط في أنحاء الجزيرة العربية، و قد أوشك أن يشمل شعب اليمن و جمهرة أقوامه، على الرغم من سادته و حكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانها و يقيموا لها نظيرا في أرضهم، لو كان شعب اليمن منصرفا عنها، غير معتز بها، كاعتزاز البادية و الصحراء (3).

ص: 210


1- ابن هشام 1/ 147، ابن سعد 1/ 58
2- اليعقوبي 1/ 254- 255، الروض الانف 2/ 276، الأزرقي 1/ 120- 121، جرجي زيدان: تاريخ التمدن الاسلامي 1/ 37، جوستاف لوبون: حضارة العرب ص 124، كتاب الأصنام ص 27- 28، 225. P, 5, tic- po, nobbiG. E
3- العقاد: المرجع السابق ص 56
[3] محاولات هدم الكعبة

و لعل هذه المكانة الفريدة للكعبة عند العرب هي التي دفعت بأصحاب السلطان و القوة في تلك الأيام محاولة هدم الكعبة، أو على الأقل انضوائها تحت لوائهم، و أول هذه المحاولات- طبقا لرواية الأخباريين- ما كان من «تبان أسعد أبو كرب» حين قدم من المشرق إلى المدينة غازيا، فجاءه حبران من يهود بني قريظة، و نصحاه أن لا يفعل، فإن أبي حيل بينه و بين ما يريد، فضلا عن عقاب سوف يناله، معللين ذلك بأن المدينة سوف تكون مهاجر نبي سوف يخرج من قريش، و هكذا صرف الحبران «تبع» عن تدمير المدينة- أو يثرب كما كانت تدعى- فضلا عن إيمانه بدينها، بل إن البعض إنما يذهب إلى أن الرجل ما أن سمع عن النبي، (صلى اللّه عليه و سلم)، من هذين الحبرين اليهوديين، إلا و قال فيه شعرا، يشهد فيه له بالنبوة، و يتمنى أن يعيش حتى يراه، فيكون له وزيرا و ابن عم، فضلا عن القتال إلى جانبه و تفريج همومه، لأنه كان على علم بما سيلاقيه الحبيب المصطفى- صلوات اللّه عليه- من قومه من أذى (1).

و يتجه «تبع» صوب مكة في طريقه إلى اليمن، حتى إذا ما كان بين «عسفان» و «أمج»، أتاه نفر من هذيل يغرونه بسلب البيت الحرام، و يستفتي تبع أحبار يهود في هذا الأمر، فيصدقونه النصح قائلين «ما نعلم بيتا للّه عز و جل اتخذه لنفسه في الأرض غيره»، و أنه إن قبل ذلك الأمر، كان فيه هلاكه، و يعلم «تبع» أن الصدق ما نصحا به الحبران اليهوديان، فينتقم من هذيل، ثم يمضي إلى مكة، فيطوف بالبيت العتيق، و ينحر الذبائح عنده، ثم يقيم بمكة ستة أيام، يرى أثناءها- فيما يرى النائم-

ص: 211


1- ابن كثير 2/ 163- 164، تفسير ابن كثير 4/ 142، جواد علي 2/ 514- 515، بلوغ الأرب 2/ 170، 240- 241، ابن خلدون 2/ 52، مروج الذهب 1/ 82، اليعقوبي 1/ 197- 198، الأزرقي 1/ 132- 134

و كأنه يكسو البيت الحرام، و تتكرر الرؤيا ثلاث ليال، و يفعل «تبع» ما أمر به في منامه، و هكذا كان الرجل- فيما يزعم الأخباريون- أول من كسا البيت ثم يعود إلى اليمن (1).

و لعل سائلا يتساءل: أ كان تبع يقول الشعر بلغة قريش- كما يقدمه لنا الأخباريون- و نحن نعرف أنها تختلف كثيرا عن لغة حمير، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية و اللهجات العربية الأخرى من العربية، التي جعلوها مقصورة على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، و حتى قال بعضهم «ما لسان حمير و أقاصي اليمن بلساننا و لا عربيتهم بعربيتنا» (2).

ثم كيف فات هؤلاء الرواة ان يجعلوا «تبعا» هذا، ابن عم المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- و هم الذين ملئوا صفحات كتبهم بأن العرب ليسوا جنسا واحدا، و إنما هم عرب عاربة- و هم القحطانيون و منهم تبع- و عرب مستعربة- و هم العدنانيون، و منهم رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم).

ثم من أين عرف الحبران اليهوديان أن هناك نبيا سوف يبعث من قريش، و مبلغ علمي أن التوراة لم يرد فيها نص يفيد ذلك أبدا، صحيح أن هناك نصوصا تؤكد مبعث نبي من العرب، و لكن صحيح كذلك أنها لم تشر إلى أنه من قريش، و أما هذه النصوص، فقد جاءت في سفر التثنية (18: 15- 19). و في سفر أشعياء (42: 10- 13)، يقول النص الأول ها

ص: 212


1- ابن كثير 2/ 164- 167، تفسير الخازن 4/ 115، 175، اللسان 8/ 31، اليعقوبي 1/ 198، ابن خلدون 2/ 52- 53، العقد الثمين 1/ 71، الازرقي 1/ 249- 250، قارن: تفسير الطبري 25/ 128- 149، تفسير البيضاوي 2/ 376- 377، تفسير القرطبي 16/ 145- 146، المعارف لابن قتيبة ص 275- 276
2- محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء ص 4 و ما بعدها

«و يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون» و يقول «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك و اجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه، و يكون أن الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه».

ثم أ ليس من المضحك المبكي أن يجعل أصحابنا الأخباريون اليهود أشد حرصا على الحفاظ على الكعبة، و أكثر توقيرا لها من العرب أنفسهم، بل لا يتأنى هؤلاء الرواة في كتاباتهم حين يجعلون من اليهود بالذات هداة ملوك العرب إلى مكانة الكعبة المشرفة و أهميتها، و أن يصرحوا- كما يزعم الرواة بأن اللّه لم يتخذ له في الأرض بيتا غيرها، فإذا كان ذلك كذلك، فلم لم يحج اليهود إليها، ثم ما هو الموقف بالنسبة إلى المسجد الأقصى، أو هيكل سليمان كما يسميه اليهود.

ثم من أين عرف «تبع» هذا، أن الرسول- صلوات اللّه و سلامه عليه- سوف يسمى «أحمد»، و مبلغ علمي- مرة أخرى- أن ذلك لم يرد في النصوص العربية، و إنما كان ذلك في الإنجيل- و ليس في توراة اليهود الذين أخذ عنهم تبع معلوماته عن النبي- حيث يخبرنا القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى- على لسان المسيح عليه السلام- «يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (1)، و كيف آمن «تبع» برسول الإسلام الأعظم، قبل مبعثه

ص: 213


1- سورة الصف: آية 6 و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 473- 474، تفسير الكشاف 4/ 98- 99، تفسير ابن كثير 6/ 646- 648 (دار الاندلس- بيروت)، تيسير العلي القدير 4/ 229- 230، تفسير الطبري 28/ 87، تفسير الطبرسي 28/ 60- 62 تفسير القرطبي 18/ 83- 84، تفسير أبي السعود 5/ 161، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 213- 214، تفسير روح المعاني 28/ 85- 87، في ظلال القرآن 28/ 3549، 3555- 3558

بنحو من سبعمائة عام (1)، كما يروي الأخباريون (2)، أ لمجرد أن الحبرين اليهوديين أخبراه أن يثرب سوف تكون مهاجر نبي يخرج من قريش، لا أظن أن ذلك سببا كافيا لإيمانه بنبي كان حتى تلك اللحظة في ضمير الغيب.

و من ثم فأكبر الظن أن هناك- بجانب أثر الاسرائيليات في هذه الروايات- هدفا من ورائها، و أن هذا الهدف، إنما هو رفع شأن القحطانيين إبان النزاع السياسي بينهم و بين العدنانيين، و من ثم فإن هذه الروايات جد حريصة على أن تقدم لنا «تبعا» و قومه، في صورة أفضل بكثير من صورة العدنانيين بصفة عامة- و القرشيين بصفة خاصة- فهم، أي القحطانيين، أول من قال الشعر في مدح المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم)، فعل ذلك سبأ (3)، و يفعله الآن «تبع» كما تقدمه لنا هذه الروايات، بل إن «تبع» ليزيد هنا عقده العزم، على أن يكون حربا على من حاربه، و سلما لمن سالمه، فضلا عن أن يصبح له وزيرا و ابن عم، و (ثانيا) أن القحطانيين كانوا على علم باسم المصطفى، (صلى اللّه عليه و سلم) أما كيف كان ذلك، فليس لدى الإخباريين من أصحاب هذه الروايات علم بذلك، فإن الهدف إنما كان أن القحطانيين، إنما كانوا يعرفون اسم النبي الأعظم قبل مولده بسبعة

ص: 214


1- اختلف العلماء في فترة حكم «أبي كرب أسعد» فيراها نلسن في الفترة (400- 415 أو 420 م) 116. p. p, tic- po, yblihP. B. J و كذا) 104. p, tic- po neleiN. D و يراه هومل في الفترة 385- 420 م [فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص 108] و يراه فلبي في الفترة 378- 415 م [) 269. p, abaS fo sgniK tsL eht no etoN, yblihP. B. J ( [، و يذهب الدكتور جواد علي أن الرجل استمر يحكم حتى عام 430 م [جواد علي 2/ 571 و كذا 492. P, 4- 3, 1964, NOESUM eL] و هذا يعني أن الفترة بين موت أبي كرب أسعد و مولد الرسول (صلى اللّه عليه و سلم) لا تصل حتى إلى قرنين من الزمان، و ليست سبعة قرون
2- تفسير ابن كثير 4/ 144
3- ابن كثير 2/ 158- 159

قرون، بينما لم يكن العدنانيون، على علم بذلك حتى قبيل مبعث المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- و (ثالثا) تقديم القحطانيين في صورة قوم مؤمنين، كسوا البيت الحرام، و عمروه أكثر من مرة، ثم قدّروا مكانته قبل ظهور الإسلام بقرون- حتى إن كان اليهود هداتهم إلى ذلك.

و أخيرا، فإن هذا الإلحاح على أن التبابعة كانوا يؤمنون بإله واحد، و برسالة محمد (صلى اللّه عليه و سلم) ثم الإلحاح لذلك على عدم جواز سبهم، إنما قد يدل على أن هناك من كان يسب التبابعة و يلعنهم، و لعل هذا السبب، و ذلك اللعن، لم يكن موجها بالذات إلى التبابعة، و إنما كان على اليمنيين بخاصة، و القحطانيين بعامة، و من هنا كان هذا الإلحاح على عدم السب، بل ربما وضعت أحاديث للرد على هذه الحملة- ربما العدنانية- ضد القحطانيين (1).

و أما المحاولة الثانية، فهي التي قام بها «حسان بن عبد كلال»، و ذلك حين أقبل من اليمن، «في حمير و قبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج البيت عنده في بلاده»، و هناك عند «نخلة» خرج له القرشيون- بقيادة فهر بن مالك، و دارت بين الفريقين معركة ضارية، كان النصر فيها من نصيب قريش، و الهزيمة- بل و الأسر كذلك في مكة ثلاث سنوات- من نصيب حسان بن عبد كلال (2)، فإذا كان ذلك كذلك، فإن حملة أبرهة المشهور على مكة، كانت لها على الأقل سابقة يمنية من قبل، ثم إذا ما تذكرنا أن هناك من يرى أن عبد كلال، إنما قد اغتصب عرشه بعون من اكسوم (3)، فهل هذا يعني أن

ص: 215


1- جواد علي 2/ 515- 516
2- الهمداني: الإكليل 2/ 357- 359، الطبري 2/ 262- 263
3- يرى «فلبي» أن الرجل كان كاهنا و شيخا لقبيلة، و أنه استطاع أن يغتصب العرش لمدة خمس سنين، بمساعدة الأحباش. [أنظر: 260. P, sdnalhgiH, naibarA yblihP. B. J و قارن: 143. P, malsI fo dnuorgkcaB ehT, yblihP. B. J

الحبشة النصرانية كانت من وراء تلك الحملة، لست أدري، فتلك أخبار لا يوثق بها كثيرا، ثم إن الهمداني يرفض القصة من أساسها، و إن كان البعض يتهمه بأنه يمني متعصب، لا يؤيد حربا تنتصر فيها قريش على اليمن، ثم يضع وزر نقل حجارة الكعبة من مكة الى اليمن على عاتق «هذيل بن مدركة» أحد سادات مكة (1)، و هو أمر لا نطمئن إليه كثيرا.

و سواء أصح هذا، أم كان مجرد ظن من الأخباريين، فهناك إشارات الى محاولة ثالثة حدثت في القرن الأول قبل الهجرة، و ذلك حين بنت غطفان حرما كحرم مكة، ثم حاولت أن تصرف العرب إليه، غير أن سيدا من سادات العرب، رفض ذلك، و قال «لا و الله لا يكون ذلك أبدا و أنا حي»، و اتبعه قومه حين قال لهم «إن أعظم مأثرة ندخرها عند العرب أن نمنع غطفان من غرضها»، و قاتل غطفان و ظفر بهم و أبطل حرمهم (2).

و أما رابعة المحاولات، فكانت تلك التي قام بها أبرهة الحبشي في حملته المشهورة على الكعبة المشرفة، و اليها يشير القرآن الكريم في سورة كاملة هي سورة الفيل، يقول سبحانه و تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»، و في هذا العصف المأكول كان أبرهة نفسه، فضلا عن القضاء على جيشه، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في دراستنا عن «العرب و علاقاتهم الدولية

ص: 216


1- الإكليل 2/ 359، جواد علي 2/ 585
2- محمد حسين هيكل: في منزل الوحي ص 415

في العصور القديمة» (1).

و فكر الرومان- كمحاولة خامسة- في ضرب مكة من داخلها، بعد أن فشلت كل جهودهم في الاستيلاء عليها، و ذلك أن الإمبراطورية الرومانية بعد أن انقسمت إلى شرقية و غربية، سرعان ما تتخذ بيزنطة من المسيحية وسيلة لنشر نفوذها في بلاد العرب، فتعمل على إرسال البعثات التبشيرية، كما تنجح في تنصير الحبشة، و من ثم فإنها تستطيع ان تؤمّن تجارتها هناك، فضلا عن بسط نفوذها عن طريق الأحباش أنفسهم، إلا أنها لم تحاول ان تتدخل في شئون بلاد العرب بطريقة مباشرة، و من ثم فقد كانت وراء حملة أبرهة على مكة (2)، و حين فشلت هذه، و طرد الأحباش من اليمن (3)، لجأت إلى وسيلة أخرى، تستطيع أن تحكم بها مكة، و لكن عن طريق سيد من

ص: 217


1- أنظر: مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس- عام 1975 ص 400- 412 (مقال للمؤلف عن «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة») و عن حملة أبرهة هذه: أنظر كذلك: ابن الأثير 1/ 442- 447، تاريخ الطبري 2/ 130- 139، تفسير الطبري 2/ 188، 30/ 193- 194، تفسير القرطبي ص 7277- 7290 (طبعة الشعب)، في ظلال القرآن 8/ 664- 675، تفسير الآلوسي 30/ 232- 237، نهاية الأرب 1/ 251- 264، تفسير البيضاوي 2/ 576، البيهقي: دلائل النبوة 1/ 56- 57، الكشاف 3/ 288، ابن كثير 2/ 170- 176، تفسير ابن كثير 8/ 503- 511، صحيح الأخبار 4/ 21- 22، أعلام النبوة ص 149 و كذا 180. P, I, siupocorP و كذا 275. P, 66, 1964, 279- 277. PP, 364, 1953, noesuM eL و كذا 435. P. D. A yrutneCeht 6 eht ni aibarA ni stnevE, htimS. S
2- احمد إبراهيم: المرجع السابق ص 154- 155، جواد علي 3/ 518، و كذا 180. P, I, suipocorP و كذا 40 .P ,tnemorivnE naitsirhC sti ni malsI fo nigirO ehT ,lleB .R 184 .P ,dammahuM erofeb aibarA ,yraeL 'O
3- ابن الاثير 1/ 449- 451، ابن كثير 2/ 177- 178، الدينوري: الأخبار الطوال ص 64، ابن خلدون 2/ 63، الطبري 2/ 146- 148، اليعقوبي 1/ 200، مروج الذهب 2/ 56، جواد علي 3/ 521- 523، المقدسي 3/ 190- 195، قارن: المعارف ص 278

العرب، يدين بالولاء لدولة الروم.

و هكذا اختار قيصر، عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، ليكون ملكا على ملكة من قبله، و كتب له رسالة يبلغها قومه، و من ثم فقد عاد عثمان إلى مكة، فجمع القوم إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر، و ينذرهم بسوء العاقبة في الشام، إذا هم عصوه، و أهون ما هنالك ان يغلق ابواب بلاده في وجوههم، و هم يذهبون إليها و يعودون منها كل عام (1)، يقول عثمان بن الحويرث: «يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، و ما تصيبون من التجارة في كنفه، و قد ملكني عليكم، و أنا ابن عمكم و أحدكم، و إنما أخذ منكم الجراب من القرظ و العكة من السمن و الأوهاب، فأجمع ذلك كله، ثم أذهب إليه، و أنا أخاف إن أبيتم ذلك، أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به و ينقطع مرفقكم منه (2)».

و ليس من شك في أن هذه المحاولة الرومية السياسية، إنما غرضها- كما هو ظاهر- غرض تلك المحاولة الحبشية العسكرية، و أن المحاولتين قد فشلتا، و بقيت مكة- كما أراد الله- حرما آمنا للعرب، و غير العرب، و بذلت قريش في المحاولتين جهدها، لإخفاق الواحدة تلو الأخرى، و ليس من شك في أن الأولى كانت أشد خطرا، و ان دفعت في الثانية ببعض رجالها، يقضون في سجون القيصر فترة لا تدري مداها على وجه التحقيق، ثم سرعان ما عادت الأمور إلى سيرتها الأولى (3).

ص: 218


1- العقاد: المرجع السابق ص 114- 115، حياة محمد: ص 127- 128
2- ابن هشام 1/ 224، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص 118، الروض الآنف 1/ 146، الأغاني 3/ 112
3- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 162- 163، السهيلي: الروض الآنف 1/ 146 و كذا 16. P, 1953. drofxO. acceM ta dammahUM. M. W, ttaW

و هكذا يبدو و بوضوح، أن كل هذه المحاولات: السياسية و العسكرية- تثبت قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان في الجنوب و الشمال، و في كل المحاولات استطاعت الكعبة أن تحفظ مكانها، على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها، بل إنها إنما استطاعت ذلك لخلوها من العروش و قيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص، و على تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم، و معبوداتهم، دون أن يسخرهم المسخرون، أو يستبد بهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة و بذل الإتاوة (1).

و هكذا كان المكيون يشعرون بمكانة الكعبة عند العرب عامة، و من ثم فقد كانوا يرون لأنفسهم ميزة لا يتطاول إليها غيرهم من العرب، لأنها تتصل بكرامة البيت الحرام و حرمته، فهم أهله و أولياؤه، و هم سدنته و القائمون بالأمر فيه، يسقون الحجيج و يطعمونهم، و يوفرون لهم الأمن و الراحة، و من ثم فقد نشأ عندهم ما يسمى بنظام «الحمس»، و يعنون به ابن البلد و ابن الحرم و الوطني المقيم، و الذي ينتمي إلى الكعبة و المقام، فهو امتياز لأبناء الوطن و أهل الحرمة و ولاة البيت قطان مكة و ساكنيها (2)، و لهذا فقد نادوا بين الناس: «نحن بنو إبراهيم و أهل الحرمة و ولاة البيت و قاطنو مكة و ساكنوها فليس لأحد من العرب مثل حقنا، و لا تعرف له العرب ما تعرف لنا» (3).

و كان الحمس إذا زوجوا امرأة منهم لغريب عنهم، اشترطوا أن يكون أبناؤها منهم، ثم جعلوا لأنفسهم علامة، و هي ألا يعظم الأحمس شيئا

ص: 219


1- العقاد: مطلع النور ص 115.
2- الخربوطلي: المرجع السابق ص 50، قارن: شفاء الغرام 2/ 43، ابن هشام 1/ 199
3- الأزرقي 1/ 176، ابن هشام 1/ 216، تفسير الطبري 4/ 188

من الحل- أي الأرض التي وراء الحرم- كما يعظم الحرم، و قالوا: «إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، و لهذا فقد ترك الحمس الوقوف بعرفة، لأنها خارج عن الحرم، و الإفاضة منها، مع اقرارهم بأنها من المشاعر و الحج و دين إبراهيم، و يرون أن لسائر الناس الوقوف عليها و الإفاضة منها، و أما هم فقد جعلوا موقفهم في طرف الحرم من «نمرة»، يقفون به عشية عرفة، و يظلون به يوم عرفة في «الأراك من نمرة»، ثم يفيضون منه إلى المزدلفة، فإذا عممت الشمس رءوس الجبال دفعوا، و كانوا يقولون: «نحن أهل الحرم، فليس لنا أن نخرج من الحرمة و لا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس»، و من ثم فإنهم بذلك يظهرون تعصبهم لبقعة من الأرض، و يترفعون عن أن يخرجوا عنها و لو كان في خروجهم إتمام لمشاعر الحج، كما كانوا إذا أرادوا بعض أطعمتهم و أمتعتهم تسوروا من ظهر بيوتهم و أديارها، حتى يظهروا على السطح، ثم ينزلون في حجرتهم، و يحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب (1).

و كانوا يقولون: لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط و لا يسلئوا السمن، و لا يدخلوا بيتا من الشعر، و لا يستظلوا- إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم، ما كانوا حرما، فهم إذن يحرمون على أنفسهم أشياء لم تكن العرب تحرمها، كما أنهم اختصوا أنفسهم بالقباب الحمر- و هي علامة الشرف و الرئاسة- تضرب لهم من الأشهر الحرم، كما فرضوا على العرب ألا يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم- إذا جاءوا حجاجا

ص: 220


1- ابن كثير 1/ 233، 293، البخاري 2/ 163 ابن هشام 1/ 202، الطبرسي 2/ 411، ابن كثير 2/ 305، العقد الثمين 1/ 141، نهاية الأرب 1/ 244، المقدسي 4/ 32 (طبعة بالأوفست من طبعة كليمان هوار عام 1907)، تفسير القرطبي 2/ 427- 428، اليعقوبي 1/ 256، الازرقي 1/ 176- 180، جواد علي 6/ 362، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 188 و كذا 335. P, II, IE

أو عمارا- و لا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم، إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، لم يجد ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها، و لم يمسها هو و لا أحد غيره أبدا، و كانت العرب تسمي تلك الثياب «اللقى» (1)

[4] الكعبة قبيل الاسلام

و لعل أهم ما يميز هذه الفترة من تاريخ الكعبة المشرفة أمران، الواحد إعادة حفر زمزم، و الآخر إعادة بناء الكعبة نفسها. و أما الأمر الأول، فإن المصادر العبرية انما تروي أن عبد المطلب- جد النبي (صلى اللّه عليه و سلم)- قد لقي الكثير من العناء في توفير الماء للحجيج عند ما تولى أمر السقاية و الرفادة، و ذلك بسبب دفن زمزم- ربما منذ أيام جرهم- و زاد الأمر صعوبة أن مكة كانت إذ ذاك تمر بفترة قاسية ندرت فيها الأمطار، و جفت مياه الآبار، أو كادت، في وقت كان موسم الحج فيه قد بدأت طلائعه، و هنا رأى عبد المطلب- فيما يرى النائم- أنه يؤمر بحفر طيبة، و حين يسأل عن طيبة هذه لا يلقى جوابا، غير أن الرؤيا تتكرر ليال ثلاث، يؤمر فيها عبد المطلب بحفر «برة» ثم بحفر «المضنونة»، ثم بحفر «زمزم»، و في المرة الأخيرة، فإن الهاتف يجيبه حين يسأل عن زمزم، بأنها «تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا و لا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، يكون ميراثا

ص: 221


1- ابن كثير 2/ 305، البخارى 2/ 163، تاج العروس 4/ 132- 133، روح المعاني 1/ 244، المقدسي 4/ 32- 33، نهاية الأرب 1/ 244، شفاء الغرام/ 41- 42، ياقوت 5/ 184، المعارف ص 269، الأزرقي 1/ 180- 182، اليعقوبي 1/ 257، العقاد: المرجع السابق ص 117، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 189- 190، ابن هشام 1/ 219.

و عقدا محكم، ليس كبعض ما قد تعلم، و هي بين الفرث و الدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل».

و يخرج عبد المطلب و معه ولده الحارث، فيحفر بن اساف و نائلة، في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها، و قد رأى الغراب ينقرها هناك، فلما بدا له الطوي كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، و قالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، و أن لنا فيها حقا فأشركنا معك، قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم، قالوا: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها»، غير أن المخاصمة سرعان ما تنتهي في جانب عبد المطلب (1).

و تذهب المصادر العربية إلى أن عبد المطلب قد وجد غزالين من ذهب، كانت «جرهم» قد دفنتهما في البئر، فضلا عن سيوف و دروع، فضرب الأسياف بابا للكعبة، و جعل فيه الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليت به الكعبة، و إن ذهبت بعض الروايات إلى أن بريق الذهب جعل بعض اللصوص يطمعون فيه، فتسللوا في جنح الظلام، و جردوها مما كانت تتحلى به من نفائس ذهبية (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد أقبل الحجاج على بئر زمزم تبركا بها و رغبة فيها، و أعرضوا عمن سواها من الآبار، و ذلك لمكانة زمزم من المسجد

ص: 222


1- الطبري 2/ 251، ابن الأثير 2/ 12- 14، ابن كثير 2/ 244- 248، الروض الآنف 1/ 80، 98، الأزرقي 2/ 42- 47، الحربي: المرجع السابق ص 485، المقدسي 4/ 114، ابن سعد 1/ 49- 50، ابن هشام 1/ 142- 150، حياة محمد ص 116- 117، اليعقوبي 1/ 246- 248، تاريخ الخميس ص 202- 204، و كذا 657. P, malslfo, ycnE retrohS
2- مروج الذهب 2/ 103، ياقوت 1/ 149، تاريخ ابن خلدون 2/ 338، تاريخ الخميس ص 204- 205، المقدسي 4/ 114، الأزرقي 2/ 41، 43، تاريخ الطبري 2/ 251، الخربوطلي: المرجع السابق ص 57- 58 الحربي: المرجع السابق ص 485

الحرام، و لفضلها على ما سواها من المياه، و لأنها بئر أبيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

هذا و قد كان عبد المطلب قد نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر، و بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم عند الكعبة للّه تعالى، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم: أيهم ينحر؟، فطارت القرعة على عبد اللّه، و كان أحب الناس إليه، فقال عبد المطلب:

اللهم هو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه و بين الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإبل، على أن هناك من يذهب إلى أن هذا النذر، إنما كان حين عيّره «عدي بن نوفل»، فقال له: أ تستطيل علينا عبد المطلب و أنت فذ لا ولد لك، فأجابه عبد المطلب جوابه الذي أثر عن ذلك اليوم: بالقلة تعيرني فو اللّه: لئن أتاني اللّه عشرة من الولد لأنحرن أحدهم عند الكعبة (1).

و أما الأمر الثاني، فهو إعادة بناء الكعبة، و الذي يكاد يجمع المؤرخون على أنه تمّ و المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- في الخامسة و الثلاثين من عمره الشريف، فاذا كان ذلك كذلك، و إذا كان المولد النبوي

ص: 223


1- تاريخ الطبري 2/ 239- 243، ابن الأثير 2/ 5- 7، ابن كثير 2/ 248- 249، روح المعاني 23/ 136، مروج الذهب 2/ 104، المقدسي 4/ 114- 116، اليعقوبي 1/ 250- 252، تاريخ ابن خلدون 2/ 337، تاريخ الخميس ص 129، 206، 207، ابن سعد 1/ 50، 53- 54، ابن هشام 1/ 150- 154، الأزرقي 2/ 43- 44، 47- 49، حياة محمد ص 117- 118

الشريف قد حدث في 20 أبريل من عام 571 م (1)، كما حدده المرحوم محمود باشا الفلكي، فإذا كان كذلك، فإن إعادة بناء الكعبة يكون قد حدث حوالي عام 606 م، و إن كانت هناك عدة آراء تدور حول المولد النبوي الشريف- على صاحبه أفضل الصلاة و أتم التسليم- فليس هناك من شك في أنه ليس من بين الأنبياء- عليهم السلام- من ولد في ضوء

ص: 224


1- هناك عدة آراء بشأن مولد النبي (صلى اللّه عليه و سلم)، فالرواية العربية تجعله في عام الفيل، و هو غير معروف على وجه التحديد (عام 552 أو 563، 570 أو 571 م)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى من رأوه يتفق و موقعة ذي قار، لأن تاريخ الموقعة موضع خلاف (ياقوت 4/ 293- 294، ثم انظر وجهات نظر مختلفة في كتابنا بلاد العرب)، هذا و قد حاول بعض العلماء تحقيق تاريخ المولد النبوي الشريف، اعتمادا على تاريخين محققين من تاريخه العطر، و هما تاريخ الهجرة في عام 622 م، و تاريخ الانتقال إلى الرفيق الأعلى في عام 632 م، غير أنها تواريخ استنتاجية بمولد النبوي (انظر: عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 95- 96، و كذا F 209. P, dammahoM ed egA, stnemmaL. P و كذا) 15. P, temohaM ed emelborP eL, erehcalB. R)، و على أي حال، فإن جوستاف لوبون يراه في 27 أغسطس 570 م (حضارة العرب ص 129)، و يراه «كوسان دي برسيفال» في 29 أغسطس عام 570 م (أنظر: 283. P, I, sebarA sed eriotsiH'l ruS iassE, lavecreP sed nissuaC و أما المرحوم محمود باشا الفلكي، فقد حدد لمولد مولانا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، يوم 9 ربيع الأول (20 أبريل 571 م) (أنظر التقويم العربي قبل الإسلام ص 38)، و لعل «سلفستر دي ساسي» إنما يتفق في تأريخه للمولد الشريف مع الفلكي باشا، على أن المترجمين لحياة الرسول (صلى اللّه عليه و سلم) إنما يجمعون على أنه- عليه الصلاة و السلام- إنما ولد في يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من شهر ربيع الأول من عام الفيل، و يذكر العلماء أن هذا التاريخ يوافق العام الثالث و الخمسين قبل الهجرة (أي عام 571 م) (راجع دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 22، ابن كثير 1/ 259- 262 تاريخ الطبري 2/ 155- 157، ابن الأثير 1/ 458- 459، المحبر ص 8- 9 و أما انتقاله (صلى اللّه عليه و سلم) إلى الرفيق الأعلى، فقد كان في يوم 12 أو 13 من ربيع الأول عام 11 ه (7 أو 8 يونيو عام 632 م) بعد أن بلغ 63 عاما قمريا بالكامل، أي اكثر من واحد و ستين عاما شمسيا (مدخل الى القرآن الكريم ص 31- 32)

التاريخ، غير نبينا- صلوات اللّه و سلامه عليه (1).

كانت قريش تفكر في أمر الكعبة التي كانت وقت ذاك بدون سقف، مخفضة الارتفاع، مما جعلها نهبا للصوص الذين أقدموا على سرقة بعض كنوزها، هذا فضلا عن أن مكة نفسها كانت قد تعرضت لعدة سيول في أوقات متفاوتة، آخرها سيل جارف نزل من الجبال المحيطة بمكة، و انحدر نحو الكعبة و صدع جدرانها، و هكذا أصبحت قريش مضطرة إلى الإقدام على ما أفسدته السيول، و زاد من عزم قريش أن البحر كان قد ألقى بسفينة إلى «جدة» لأحد تجار الروم، كان قيصر قد بعث بها من مصر إلى الحبشة، ليقوم ركابها ببناء كنيسة هناك، و من ثم فقد ذهب وفد من قريش- على رأسه الوليد بن المغيرة- و اشترى السفينة (2).

و بدأت عمليات الهدم و البناء، و تذهب الروايات العربية إلى أن أول من بدأ الهدم، إنما كان الوليد بن المغيرة، بينما تذهب رواية منها إلى أنه أبو وهب بن عمرو المخزومي، و أيا كان الرجل، فالذي يهمنا هنا أن القرشيين، إنما كانوا يصرون على أن يبنوا بيت اللّه الحرام من كل طيب، و من ثم فقد نسب إلى الوليد- أو إلى أبي وهب- انه قال: «يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، و لا تدخلوا فيها مهر بغي، و لا بيع ربا، و لا مظلمة أحد من الناس».

و بدأ البنيان، حتى إذا ما بلغ موضع الركن- أي الحجر الأسود- اختلفت

ص: 225


1- ابن هشام 1/ 192- 193، العمري 1/ 64، المقدسي 4/ 139، الفلكي: المرجع السابق ص 38، الحربي: المرجع السابق ص 494- 495 ماجد: المرجع السابق 1/ 95- 96، و كذا. 23. P, tic- po, emualliuG. A و كذا 31. P 1970, I, IHC
2- ابن الأثير 2/ 44، تاريخ الطبري 2/ 287، المسعودي 2/ 271- 272، الأزرقي 1/ 157- 158، نهاية الأرب 1/ 232، ياقوت 4/ 466، المقدس 1/ 139- 140، الحربي: المرجع السابق ص 486- 487

بطون قريش على من يحوز شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، و اشتد الخلاف، و كاد القتال ان ينشب بين القوم، و قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم و بنو عدي على الموت، و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم، فسموا «علقة الدم» بذلك، و مكثت قريش على ذلك أربع ليال، ثم تشاوروا، فقال أبو أمية بن المغيرة، و كان أسن قريش: «اجعلوا بينكم حكما أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم»، ففعلوا.

و كان النبي- صلوات اللّه و سلامه عليه- أول من دخل، فلما رأوه قالوا «هذا الأمين قد رضينا به» و أخبروه الخبر، فقال:

هلموا إلى ثوبا، فأتى به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده، ثم بني عليه، و هكذا نجح النبي الأعظم في حسم الخلاف و جنب قومه القتال، و من عجب أنه سرعان ما قال قائل من قريش: وا عجبا لقوم أهل شرف و رئاسة و شيوخ و كهول، عمدوا إلى أصغرهم سنا، و أقلهم مالا، فجعلوه رئيسا و حاكما، أما و اللات و العزى: ليفوقهم سبقا، و ليقمن بينهم حظوظا و جدودا، و ليكونن له بعد هذا اليوم شأن و بناء عظيم» (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ذلك كله، إنما يدل على مكانة الحجر الأسود عند قريش، و على أنه إنما كان أقدس شي ء عندهم، و إلا لما

ص: 226


1- ابن الأثير 2/ 44- 45، تاريخ الطبري 2/ 288- 290، ابن كثير 2/ 299- 304، سيرة ابن هشام 1/ 195- 199، ابن سعد 1/ 50، 93- 95، الأزرقي 1/ 157- 164، تاريخ الخميس ص 126- 131، تفسير القرطبي 2/ 122- 123، المقدسي 1/ 140، ياقوت 4/ 466، محمد عبد اللّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 25- 26، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 117- 118، الحربي: المرجع السابق ص 487، مروج الذهب 2/ 272، علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 67- 71 و كذا 100. P, ticpo, ittiH. K. P

اختلفوا كل هذا الاختلاف على وضعه في مكانه، بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى غيره من مقتنيات الكعبة الشريفة، و يذهب «فلهاوزن» إلى أن قدسية البيت «لم تكن عند قريش بسبب ما فيه من أصنام، و إنما بسبب هذا الحجر الأسود، فهو إذن مقدس لذاته (1)»، بل إن البعض ليذهب إلى أن البيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود، الذي كان أهم معبودات قريش في الجاهلية (2).

غير أننا نعرف أنه رغم شيوع عبادة الأوثان في سواد قبائل العرب، فإن التاريخ لم يحدثنا أبدا، أن القوم قد عبدوا هيكل الكعبة، أو أنهم قد عبدوا الحجر الأسود، مع احترامهم له ذلك الاحترام الذي يفوق كل احترام إذ كان القوم يلمسونه دائما بغية التبرك به، كما كانت الجهة التي فيها هذا الأسود، إنما تسمى «بالركن» (3).

و قد بقيت هذه المكانة للحجر الأسود، حتى على أيام الإسلام الحنيف (4)، و يروى أن الرسول- صلوات اللّه و سلامه عليه- حين كان يطوف بالبيت الحرام، كان يستلم الحجر الأسود و يقبله، إلا أن مكانة

ص: 227


1- جواد علي 6/ 437، و كذا أنظر:. 74 P, ticpo, nesuahlleW. J
2- المشرق، تموز 1941 ص 247
3- جواد علي 6/ 437- 438، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 168، محمد البتنوني: المرجع السابق ص 152- 156
4- أنظر: الأزرقي 1/ 322- 330، 342- 344

الحجر الأسود في الإسلام غيرها في الجاهلية (1)، فقد روى الإمام أحمد و البخاري، أن الرسول (صلى اللّه عليه و سلم) وقف عند الحجر الأسود، فقال: «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع و لا تضر»، ثم قبله، و كذلك فعل أبو بكر عند حجه بالناس، و لما حج عمر بن الخطاب، وقف عند الحجر- فيما يروي الإمام أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و غيرهم- قال: «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع و لا تضر، و لو لا أني رأيت رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم)، يقبلك ما قبلتك»، ثم دنا و قبله (2).

و قد ذهب الباحثون مذاهب شتى في تفسير اسم «الكعبة»، فرأى بعضهم أنها كلمة رومية، أطلقت على كعبة مكة لتكعيبها- أو لتربيعها- و أن بناء من الروم عمل في بنائها و هندستها، فاستعير اسمها من اللغة الرومية، و قيل بل كان بناؤها في الحبشة التي عرف العرب عن طريقها

ص: 228


1- أزيل الحجر الأسود من مكانه غير مرة، من جرهم و إياد و العمالقة، و خزاعة، و آخر من أزاله القرامطة عام 317 ه، فقد قلعوه و ذهبوا به الى البحرين، عند ما أقام أبو طاهر القرمطي في «هجر» دارا دعاها غار الهجرة، و أراد أن ينقل الحج إليها، فسار الى مكة و دخل الحرم و وضع السيف على لفتة من الناس في الطائفين و العاكفين و الركع السجود، و قتل نحو ثلاثين ألفا بمكة و شعابها، و اقتلع باب الكعبة و جرده مما كان عليه من صفائح الذهب، و بقي الحجر الأسود عند القرامطة، حتى أعاده الخليفة العباسي «المطيع للّه» إلى مكانه في عام 339 ه، و صنع له طوقا من فضة و في عام 363 ه، حاول رجل رومي قلعه، إلا أنه قتل بيد رجل يماني، و قد حاول ذلك كذلك بعض الباطنية في عام 414 ه، و رجل أعجمي في القرن العاشر، غير أنهم قتلوا، و في محرم 1351 ه، سرق رجل أفغاني قطعة من الحجر الأسود، و كذا قطعة من أستار الكعبة، فأعدم عقوبة له، ثم أعاد الملك عبد العزيز آل سعود القطعة المسروقة في 28/ 4/ 1351 ه بعد أن وضع لها الأخصائيون المواد التي تمسكها و الممزوجة بالمسك و العنبر، أما ما يدور على الحجر من الأطواق، فقد عملها السلطان عبد المجيد العثماني عام 1268 ه من ذهب، ثم غيرت إلى فضة عام 1281 ه على أيام السلطان عبد العزيز، ثم في عام 1331 ه، على أيام السلطان محمد رشاد العثماني (الازرقي 1/ 346 هامش رقم 4، انظر: في منزل الوحي ص 416)
2- الأزرقي 1/ 322- 324، 329- 330، تفسير المنار 1/ 467، قارن: الخربوطلي:المرجع السابق ص 20

بناء هذه المعابد و أمثالها، لأنهم أمة خيام لم تتأصل فيهم صناعة البناء، و هؤلاء الباحثون و أمثالهم- فيما يرى الأستاذ العقاد- يتشبثون بالفروع، و يغفلون الأصل، بجذوره و جذوعه عليه، فمهما يكن من لغة البناء الرومي أو الحبشي، فالقبائل العربية لم تبن تلك البيوت لأن البناء من الروم أو من الحبش، و لم ترد أن تنشئ لها بيتا يسمى «الكعبة» أو المكعبة في اللغة الرومية، و إنما وجدت الحاجة إلى البيت الحرام، ثم وجدت الوسيلة إلى تلك الغاية، و لو لم يبنه أحد من الروم أو الحبش، لبناه أحد من فارس أو مصر أو الهند أو غيرها من الأمم التى تقدمت في هذه الصناعات (1).

و قد بنى سليمان بن داود هيكله في وقت كان اليهود فيه ما يزالون في بداوة بدائية، يندر فيهم من يعرف أصول حرفة أو صناعة أو علم من علوم الدنيا، و كان الاعتماد على الفينيقيين الأجانب، و على رأسهم حيرام الصوري- كما نقرأ في التوراة (2)- هو الحل الوحيد الممكن أمام داود و سليمان ليرتفع هيكل الرب (3)، و كان المعبد في نهاية الأمر مزيجا عجيبا من الفنون المصرية و البابلية و الفينيقية، و رغم أن التوراة تشيد بإعجاب بالمساعدة الفينيقية، فإن المعلومات التي يقدمها لنا سفر الملوك الأول تتيح لنا بسهولة التأكد من واقع تأثير مصر و بلاد الرافدين، و على أي حال، فإن سليمان كان مضطرا إلى أن يتطلع إلى نماذج خارج بلاده، فهو لم يكن لديه في إسرائيل إلا تقاليد يهودية قليلة، ما كانت لتفيده شيئا في بناء المعبد، و من ثم، فإنه- رغم ما كان ينظر إليه تجاه الفن المصري و البابلي، إلا أن

ص: 229


1- عباس العقاد: مطلع النور ص 111- 112، و أنظر: تفسير الطبري 11/ 89- 90 (طبعة دار المعارف 1957) ياقوت 4/ 463- 465، احمد حسن الباقوري: مع القرآن، القاهرة 1970
2- ملوك أول 7: 13- 14
3- حسن ظاظا: القدس ص 36- 38

بناء المعبد دون الاعتماد عليها كان أمرا بالغ الصعوبة، و ربما كان السبب في التأثير المصري، هو مصاهرة سليمان للبلاط الفرعوني، و إن كان الأمر بالنسبة إلى التأثير البابلي أصعب من أن يفسر، و على أي حال، فلقد كان للطابعين المصري و البابلي أثر كبير على الفينيقيين، الذين اختلطت فنونهم بفنون المصريين من ناحية، و البابليين من ناحية أخرى، و طالما تحدثت التقاليد الإسرائيلية عن نشاط الحرفيين الفينيقيين بكل وضوح و تأكيد (1) و على أي حال، فالذي يهمنا هنا، أن العقيدة لم تقم تبعا لعقيدة أصحاب تلك الصناعة، بل كان أصحاب الصناعة في الحالين- كعبة مكة و هيكل سليمان- ممن يخالفون تلك العقيدة، و يتسمون بسمة الكفر و الانكار عند المعتقدين بها (2) و لم نعرف أن معبدا سمي بشكله، أو كان له شكل غير أشكال الأبنية التي يغلب عليها التكعيب مع بعض الاستطالة، و ليست مادة «كعب» بالغريبة عن اللغة العربية، لأنهم كانوا يعرفون كعوب الفتاة و يسمون الفتاة كاعبا إذا كعب ثدياها، و يلعبون بالكعوب و يتسلحون بالرماح و هي من القصب أو من الأقنية، فيغلب أن يكون اليونان هم الذين أخذوا من العرب كلمة الكعب و كلمة القناة فتصحفت في لغتهم إلى القانون و هو العصا التي تتخذ للقياس (3).

أما عن الحبشة، و أن العرب قد نقلوا عنها طريقة بناء المعابد و أمثالها،

ص: 230


1- كتابنا إسرائيل ص 464- 472، أندريه إيمار، جانين أوبوايه: الشرق و اليونان القديمة 1/ 267، و كذا 247. P, dnaL yloH eht ni ygoloeahcrA, noyneK. K و كذا 9 -348 .P ,1965 ,III ,HAC nimelasureJ fo yhpargopoT ehT ,retsilacaM .S .A .R
2- العقاد: مطلع النور ص 112
3- نفس المرجع السابق ص 112

فربما كانت الأدلة تتجه إلى العكس من ذلك، فهناك في الحبشة- على سبيل المثال- بقايا أعمدة لمعبد سبى ء، فضلا عن مذبح سبى ء للإله «سين»، إلى جانب كتابات أشياء أخرى من الفن العربي القديم، بل إن هناك من الباحثين من يرى ان نفوذ الفن العربي، إنما تجاوز تأثيره الحبشة إلى مجاوراتها، و من ثم فإنهم إنما يذهبون إلى أن بقايا المعابد التي عثر عليها في روديسيا و في أوغنده، إنما هي من المعابد المتأثرة بطراز معبد «أوام» (محرم بلقيس)، فإن بين هذه المعابد جميعا شبها كبيرا في طرز البناء و في المساحة و في الأبعاد كذلك (1).

و عودا على بدء، إلى الكعبة، حيث نرى القرشيين و قد أعادوا إليها الأصنام، و يروي المسعودي أنه كان في حيطانها صور كثيرة بأنواع من الأصباغ عجيبة، منها صورة إبراهيم الخليل في يده الأزلام، و يقابلها صورة إسماعيل ولده، على فرس يجيز الناس مغيضا و بعد ذلك صور لكثير من أولادهما حتى «قصي بن كلاب» في نحو من ستين صورة مع كل واحدة من تلك الصور «إله» يصاحبها كيفية عبادته و ما اشتهر من فعله (2)، هذا إلى جانب ما فيها من أصنام بلغ عددها 360 صنما (3). بل و يرى البعض أن فيها صورا للمسيح بن مريم و أمه (4)، فإذا كان ذلك كذلك، فلا بدّ أن تكون هذه الأخيرة من عمل نصارى الروم، و إن كان الدكتور جواد علي يعترض على وجود صور الأنبياء في الكعبة، فما للوثنية-

ص: 231


1- أنظر: مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة»، جواد علي 3/ 451 و كذا 34. P, I, hcubdnaH موسكاتي: المرجع السابق ص 221- 223 و كذا انظر 28. P, tic- po, renifoH. M dna nnamssiW noV. H
2- مروج الذهب 2/ 272، الأزرقي 1/ 165- 169
3- صحيح مسلم 5/ 173، ارشاد الساري 7/ 210، الازرقي 1/ 120- 123، بلوغ الأرب 2/ 211، شفاء الغرام 2/ 280، العقد الثمين 1/ 212.
4- جواد علي 6/ 435- 436، الأزرقي 1/ 165- 168.

في رأيه- و الأنبياء، و ما شأن الشرك بمريم و ابنها و ببقية الرسل، حتى ترسم صورها على أعمدة أو جدران البيت الحرام (1).

و الرأي عندي، أن صور الأنبياء يمكن ان نقسمها إلى قسمين، الواحد يتصل بإبراهيم و إسماعيل عليهما السلام، و هما جدا العرب، و بناة البيت الحرام، فوجود صور لهما في الكعبة- و قد امتلأت بالأصنام- أمر لا يخالف المنطق، ما دام هؤلاء القرشيون يؤمنون بأبوة الخليل، و أنه هو- و إسماعيل- قد رفعا القواعد من البيت، و أما الشق الثاني، فيتصل بالمسيح و أمه البتول، و صورهما- فيما أظن- تتصل بأمرين، الواحد أن قريشا إنما سمحت للناس كافة بالطواف حول البيت، و يضعون فيه أصناما لمعبوداتهم، أضف إلى ذلك أن الأخباريين إنما يذهبون إلى أن «باقوم» الرومي، هو الذي أشرف على بناء الكعبة و هندستها، و من ثم فليس من المستبعد أن يكون الرجل- و هو نصراني- قد قام برسم تلك الصور بمفرده- أو بمساعدة أخوة له من نصارى الروم ممن كانوا معه- و لم يجد عمله هذا اعتراضا من قريش، لأن ذلك لا يتنافى و عقيدتها في أن البيت للّه، يتعبد فيه الناس لآلهتهم (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد بقي الحال في الكعبة، حتى العام الثامن للهجرة، حيث أكرم اللّه رسوله و المؤمنين بفتح مكة (3)، فقام المسلمون بتحطيم الأصنام، و يروى أن النبي، صلوات اللّه و سلامه عليه- رأى

ص: 232


1- جواد علي 6/ 438- 439
2- جواد علي 6/ 439
3- أنظر عن فتح مكة (رمضان 8 ه- ديسمبر 630 م): ابن الأثير 2/ 239- 255، تاريخ الطبري 3/ 38- 62، ابن خلدون 2/ 41- 45، حياة محمد ص 416- 431، الأنبياء في القرآن الكريم ص 322- 324، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 122- 123، ابن هشام 1/ 802، 814- 822

صورا لإبراهيم و هو يستقسم بالأزلام، فقال «قاتلهم اللّه حيث جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام»، هذا و قد حطم الرسول، (صلى اللّه عليه و سلم)، كل التماثيل و الصور (1)، و هو يقول «وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» (2).

و وقف المصطفى- عليه الصلاة و السلام- ثاني يوم الفتح، و خطب خطبته المشهورة، التي وضع فيها مآثر الجاهلية، إلا سدانة البيت و سقاية الحاج، ثم قال: يا أهل قريش، و يا أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟

قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، و هكذا أعتقهم رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم) و قد كان اللّه أمكنه من رقابهم عنوة، و كانوا له فيئا- و من ثم فقد سمي أهل مكة بالطلقاء، هذا و لم يحاول الرسول- عليه الصلاة و السلام- أن يقضي على نفوذ مكة المهزومة، فأعلن أنها سوف تبقى حرما آمنا لا يقاتل فيها، و أن تكون الكعبة هي بيت اللّه الحرام، يحج إليها العرب حتى المشركون منهم (3).

و في العام التاسع للهجرة (630/ 631 م)- عام الوفود- بقي المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم) في المدينة، يستقبل الوفود، حيث كان ما يزال في شبه الجزيرة العربية من لم يؤمن باللّه و رسوله، و إن كانوا في الوقت، ما يزالون- كما كانوا في الجاهلية- يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرام- كما أشرنا آنفا- و من ثم فليبق الرسول- عليه الصلاة و السلام- إذا بالمدينة، حتى يتم اللّه

ص: 233


1- السيرة الحلبية 1/ 144، 3/ 87، الروض الانف 2/ 274- 276، نهاية الأرب 17/ 312- 314، صحيح مسلم 5/ 173، إرشاء الساري 7/ 210، العقد الثمين 1/ 157، 212، الازرقي 1/ 168- 169، كتاب الأصنام ص 31 و ما بعدها
2- سورة الاسراء: آية 81
3- تاريخ الطبري 3/ 61، البلاذري: فتوح البلدان ص 42، النويري 1/ 298، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 123، تاريخ ابن خلدون 2/ 44- 45، مروج الذهب 2/ 290، ابن الأثير 2/ 255، حياة محمد ص 426- 430 البداية و النهاية 4/ 301

كلمته، و حتى يأذن اللّه له بالحج إلى بيته الحرام، و ليخرج أبو بكر في الناس حاجا (1).

على أن الرسول- (صلى اللّه عليه و سلم) سرعان ما أمر الإمام علي كرم اللّه وجهه، أن يسرع إلى مكة قبل أن تصل إليها وفود الحجيج من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ليبلغهم بسورة نزل بها الوحي من السماء- و التي عرفت بسورة براءة- و يقوم الإمام علي بالمهمة خير قيام، و يبلغ رسالة النبي الأعظم إلى الناس في اجتماعهم العام هذا «يوم الحج الأكبر»- في منى و قبل الوقوف بعرفة- و قد جاء في هذه الرسالة، قوله سبحانه و تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (2) و يعلن الإمام علي بن أبي طالب- كرم اللّه وجهه- بأمر رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم)، «أيها الناس: إنه لا يدخل الجنة كافر، و لا يحج بعد اليوم مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان له عند رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم)، عهد فهو إلى مدته»، و أجلّ على الناس أربعة أشهر بعد ذلك، ليرجع كل قوم إلى بلادهم، و من يومئذ لم يحج مشرك، و لم يطف

ص: 234


1- ابن الأثير 2/ 286- 292، المعارف ص 82، ابن هشام 2/ 919، هيكل: حياة محمد ص 470- 476، الصديق أبو بكر ص 53، أرفنج: حياة محمد ص 229، تاريخ ابن خلدون 2/ 51- 58، فيليب حتى: المرجع السابق ص 164- 165، تاريخ مكة ص 54
2- سورة التوبة: آية 28 و انظر: تفسير الطبري 14/ 190- 198 (دار المعارف- القاهرة 1958)، تفسير البحر المحيط لابن حيان 5/ 27- 29، في ظلال القرآن 10/ 1585، 1618- 1619.

بالبيت عريان» (1).

ص: 235


1- ابن الأثير 2/ 291، ابن هشام 4/ 201- 205، المسعودي: مروج الذهب 2/ 290، التنبيه و الاشراف ص 186- 187، تاريخ ابن خلدون 2/ 53، تفسير الطبري 14/ 95- 112 (طبعة دار المعارف 1958)، تفسير البيضاوي 1/ 383، الإمام محمد بن عبد الوهاب: مختصر زاد المعاد ص 367- 368. الخربوطلي: المرجع السابق ص 89، فيليب حتى: المرجع السابق ص 163- 164، محمد لبيب البتنوني: المرجع السابق ص 17، هيكل: حياة محمد ص 476، تاريخ مكة ص 54، تاريخ العرب 1/ 163- 164.

ص: 236

الفصل السّادس العاديون قوم هود

اشارة

ص: 237

ص: 238

[1] العاديون و العرب البائدة

ينظر الأخباريون إلى قوم عاد على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة (1)، حتى أصبحت كلمة «عادي» و «عادية» تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم (2)، و حتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارا قديمة لا يعرفون تاريخها، أطلقوا عليها صفة «عادية» (3)، و ربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادا- و من بعدها ثمود- قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، و من ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الأخباريين في قوائم الأنساب، التي يقدمونها للشعوب البائدة، لكان علينا أن نقدم طسم و جديس و عمليق و أميم و غيرهم على عاد و ثمود، ذلك لأن الأولين- في نظرهم- من أولاد شقيق «إرم»، و أن الآخرين من حفدة «إرم»، و لكنهم هم أنفسهم يقدمون عادا على بقية الشعوب البائدة (4).

و هنا لعل من الأفضل أن نشير- بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة، و العرب الباقية، أن أقواما قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، و أن أقواما لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، و انما ما نعنيه أن قوما قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، و من ثم يتوقف تاريخهم و تبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم ما تزال موجودة، و لكنها بدون قيمة حضارية، و التاريخ في حقيقته إنما هو تطور

ص: 239


1- مروج الذهب 2/ 11
2- مقدمة ابن خلدون ص 613- 614
3- مروج الذهب 2/ 12- 14
4- جواد علي 1/ 299

الحضارة (1).

و على أي حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب المسلمون، لم يكن يعرفها العرب القدامى، كما أن المصادر اليهودية- و على رأسها التوراة- و كذا المصادر اليونانية و اللاتينية و السريانية، على غير علم بهذه التقسيمات (2)، فضلا عن أنه من المعروف أن شيئا لن يبيد، ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، و هي دون شك مصدرنا الأساسي لنعرف الحضارات السابقة (3)، و ربما كان المقصود بلفظ «بائد» عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما قبل الإسلام.

و من ثم فليس صحيحا، ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى «بالعرب البائدة»، ليس من التاريخ الحقيقي في شي ء، و إنما هو جزء من الميثولوجيا العربية، أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، و من ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى بالبائدة، فإنما يعالجونها على هذا الأساس (4)، و إن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الإتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضا من هذه القبائل البائدة قد تحدث عنه المؤرخون القدامى من الأغارقة و الرومان، و بعد أن أثبتت الأحافير- إلى حد ما-

ص: 240


1- عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص 49
2- جواد علي 1/ 295
3- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 86
4- محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص 30- 31

صحة بعض ما ورد في المصادر الإسلامية عن هذه «القبائل البائدة» (1).

أما العرب الباقية، فلعلنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت تعيش في تلك المنطقة، و ما زالت تعيش حتى الآن- و سوف تظل تعيش إن شاء اللّه إلى أن يغيّر اللّه هذه الأرض غير الأرض- و أن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل عن جيل، و أن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، و من ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة حضارة تلك الجماعات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ.

[2] قصة عاد في القرآن الكريم

لقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، و نبيهم هود عليه السلام،

ص: 241


1- يكاد يتفق الرواة و أهل الأخبار على تقسيم العرب من حيث القدم على طبقات: عرب بائدة و عاربة و مستعربة، أو: عرب عاربة و متعربة و مستعربة، على أن هناك من يجعلهم طبقتين فقط: بائدة، و هم الذين كانوا عربا صرحاء خلصا ذوي نسب عربي خالص- نظريا على الأقل- و يتكونون من قبائل طسم و جديس و أميم و عبيل و جرهم و العماليق و حضوراء و مدين و غيرهم، و عرب باقية: و يسمون أيضا متعربة و مستعربة، و هم ليسوا عربا خلصا، و يتكون من بني يعرب بن قحطان، و بني معد بن عدنان. و هناك تقسيم ثالث يعتمد في الدرجة الأولى على النسب، فهم قحطانية في اليمن، و عدنانية في الحجاز، و أما ابن خلدون، فهو يقسم العرب، طبقا للتسلسل التاريخي، إلى طبقات أربع، فهم عرب عاربة قد بادت، ثم مستعربة، و هم القحطانيون، ثم العرب التابعة لهم من عدنان و الأوس و الخزرج، ثم الغساسنة و المناذرة، و أخيرا العرب المستعجمة، و هم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية (أبو الفداء 1/ 99، جواد علي 1/ 294، صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص 41، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص 44، طه حسين: من الأدب الجاهلي ص 79، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص 83، مقدمة ابن خلدون ص 28، قارن: تاريخ ابن خلدون 2/ 16- 18، نهاية الأرب 1/ 9- 11 (حيث يقسم العرب الى عرب عاربة و مستعربة و تابعة و مستعجمة)، ثم انظر: عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص 88، جواد علي 1/ 306.

فجاء ذكرهم في سور كثيرة من القرآن الكريم (1)، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة هود، كما أن هناك في القرآن الكريم (2) ما يشير إلى أن هناك عادا الأولى، و عادا الثانية (3) و أن عادا الأولى، إنما هم «عاد إرم» الذين كانوا يسكنون الخيام (4)، و أن عادا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان و سبأ و تلك الفروع، و ربما كانوا هم قوم ثمود، فيما يرى الأستاذ النجار (5)، الأمر الذي ما يزال موضع شك كبير.

و تدل الآيات الكريمة التي وردت عن هؤلاء القوم- و عن نبيهم الكريم- على أنهم قد استكبروا في الأرض بغير الحق، و اغتروا بقوتهم، ربما لأنهم كانوا أشداء أقوياء، و لأن اللّه- جل و علا- قد زادهم بسطة في الجسم، و ربما لأنهم كانوا قد بلغوا شأوا من الحضارة لم يبلغه قوم آخرون من معاصريهم في المنطقة التي كانوا فيها يسكنون، و على أي حال، فان أمرهم قد انتهى إلى عبادة الأوثان، و ترك عبادة اللّه الواحد القهار، و من ثم فقد أرسل اللّه إليهم من ينهاهم عن عبادة هذه الأوثان و لينذرهم بعذاب يوم عظيم، «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (6).

ص: 242


1- أنظر: الأعراف (65- 72) و هود (50- 60) و المؤمنون (31- 42) و الشعراء (123- 140) و فصلت (15- 16) و الأحقاف (21- 26) و القمر (18- 21) و الحاقة (21- 26) و الفجر (6- 8)، و قد جاء ذكر عاد كذلك في التوبة (70) و إبراهيم (9) و الفرقان (38) و العنكبوت (38) و ص (12) و الذاريات (41- 42) و ق (13)
2- سورة النجم: آية 50- 51، سورة الفجر: آية 6- 7
3- مروج الذهب 2/ 11 و قارن: ابن كثير 1/ 130، حيث يرى أن ما جاء في الأحقاف كان عن عاد الثانية، و غير ذلك كله عن عاد الأولى
4- ابن كثير 1/ 125
5- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 53
6- سورة النساء: آية 165 و انظر: تفسير الطبري 9/ 407- 408 (دار المعارف بمصر)، تفسير الطبرسي 6/ 293- 295 (دار مكتبة الحياة- بيروت 1961)، تفسير روح المعاني 6/ 18- 19، تفسير الكشاف 1/ 590- 591، في ظلال القرآن 6/ 25- 29

غير أن القوم سرعان ما كذبوا هودا، و اغتروا بقوتهم، «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» (1)، و من ثم فإن اللّه أنزل بهم العذاب الشديد، و ذلك بأن أرسل عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر، سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، يقول سبحانه و تعالى «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (2).

[3] قصة عاد و محاولة ربطها بالتوراة

و قصة عاد هذه- شأنها في ذلك شأن قصة ثمود- لم ترد في التوراة، و إنما هي قرآنية صرفة، كما أن شهرتها عند العرب في الجاهلية و الإسلام، كشهرة إبراهيم و قومه (3)، و لعل هذا هو السبب في أن كثيرا من المستشرقين قد تعجلوا الأمر، فأنكروا عادا و ثمودا، و أنكروا الكوارث التي أصابتهم بغير حجة، إلا أنهم يحسبون أن المنكر لا يطالب بحجة، و لا يعاب على النفي الجزاف، فما لبثوا طويلا حتى تبين لهم أن عادا eatidO و ثمودا adidumahT مذكورتان في تاريخ بطليموس، و أن اسم عاد، مقرون باسم «إرم» في كتب اليونان، فهم يكتبونها «أدراميت» eatimardA، و يؤيدون تسمية القرآن الكريم لها بعاد إرم ذات العماد (4) إلا أن شأن المؤرخين الإسلاميين أغرب من شأن المستشرقين، فرغم

ص: 243


1- سورة فصلت: آية 15
2- سورة الحاقة: آية 6- 8، و انظر سورة الأحقاف: آية 24- 25
3- تاريخ الطبري 1/ 232
4- عباس العقاد: مطلع النور ص 61

أن القصة، كما قلنا، قرآنية صرفة، فحاولوا أن يربطوا بينها و بين التوراة، ثم أوجدوا لها صلة و نسبا بأسماء أعيان وردت في التوراة، فذهب بعضهم إلى أن عادا، إنما هو «هدورام» التوراة (1)، و ربما كانت حجتهم في ذلك اقتران عاد بإرم في الكتب العبرية، و أن بعض القراءات تقرأ الآية الكريمة «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» (2)، على الإضافة أو مفتوحتين، أو بسكون الراء على التخفيف، أو بإضافة إرم إلى ذات العماد، و على ما بين «عاد إرم» و «هدورام» من تشابه كبير في النطق، إلا أن التوراة تشير إلى أن «هدورام» هذا، إنما هو من نسل يقطان (قحطان في الروايات العربية)، و هذا لا يستقيم مع الروايات، و يعلل «جرجي زيدان» ذلك بأن كاتب سفر التكوين إما أنه رأى أن تلك القبيلة إنما تسكن اليمن، فذهب إلى أنها من نسل قحطان، لأن الروايات إنما تذهب إلى أن عادا في الأحقاف، بين حضرموت و اليمن، الأمر الذي سوف نناقشه حالا، و إما أنه أراد أن يسجل القبائل التي سكنت اليمن- و هي في نظره تنسب جميعا إلى يقطان أو قحطان- و من ثم فقد جعل عاد إرم في جملتها (3).

و يذهب «تشارلس فورستر» إلى أن هناك صلة بين «عادة» زوجة «لامك»، و بين «عاد» والد «يابال» الذي كان «أبا» لسكان الخيام و رعاة المواشي (4)، و نسلها من الأعراب، و قوم عاد من الأعراب

ص: 244


1- سفر التكوين 10: 27، أخبار أيام أول 1: 21، و أنظر كذلك: الإكليل 8/ 162، جواد علي 1/ 300
2- سورة الفجر: آية 6- 7
3- جرجي زيدان: مجلة الهلال 23/ 890 (أغسطس 1890 م)، جواد علي 1/ 300، ياقوت 1/ 115- 116، البكري 1/ 119- 120
4- تكوين 4: 20

كذلك، و لكنه إنما يذهب كذلك إلى أن القوم الذين ذكرهم بطليموس تحت اسم eatidO إنما كانوا يسكنون في شمال غرب شبه الجزيرة العربية (1)، و ربما عند موضع «بئر إرم» في منطقة «حسمى»، على مقربة من جبل يعرف بهذا الإسم في ديار جذام، بين إيله و تيه بني اسرائيل (2)، و أن هذا الموقع ليس ببعيد عن ديار ثمود، الذين ارتبط اسمهم باسم عاد، كما أن هناك كثيرا من الباحثين- و منهم سبرنجر- يؤيدون هذا الرأي إلى حد كبير (3).

و أخيرا، فإن إختلاف النسابة في نسب هود عليه السلام، و مكان دفنه، قد شجع البعض إلى عقد مقارنة لغوية بين هود و اليهود (4)، و أن هناك شبها بين هود النبي، و بين «هودا» الواردة في القرآن الكريم بمعنى «يهود» (5)، حيث يقول اللّه سبحانه و تعالى «وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا» (6)، و أن «هودا» إنما تعني «التهود» (7)، غير أنهم قد اختلفوا في النتيجة فبينما ذهب فريق- مستغلا في ذلك أن بعض النسابة يرى أن هودا، إنما هو «عابر بن شالح بن أرفكشاد جد اليهود» ذهب إلى أن هودا لم يكن اسم رجل، و إنما اسم جماعة من اليهود هاجرت إلى بلاد العرب، و أقامت في الأحقاف، و حاولت تهويد الوثنيين، الذين عرفوا هناك بيهوذا، و منها جاءت كلمة «هود»، و أنها استعملت من باب

ص: 245


1- 32. P, 2, aibarA fo yhpargoeG lacirotsiH ehT, retsroF. C
2- الهمداني: صفة جزيرة العرب ص 129، ياقوت 1/ 154- 155، و انظر: 121, P, I, IE
3- 207. P, sneibarA eihpargoeG etlA, regnerpS. A
4- أنظر مناقشتنا الاصطلاح يهود في كتابنا إسرائيل ص 9- 11
5- لسان العرب 4/ 451، القاموس المحيط 1/ 349، 372, P, 2, IE
6- سورة البقرة: آية 135
7- جواد علي 1/ 311

التجوز علما لشخص (1)، و ليس من شك في أن هذا الرأي متأثر بأفكار يهود إلى أقصى حد، إن لم يكن رأيا يهوديا صرفا، ثم إن التاريخ لم يحدثنا أبدا عن هجرات يهودية إلى منطقة الاحقاف بالذات من بلاد العرب، و إن حدثنا إلى مناطق أخرى منها.

[4] موقع منطقة عاد

يذهب المؤرخون المسلمون إلى أن منطقة عاد، إنما تقع في الأحقاف، إلى الشمال الشرقي من حضرموت في جنوب الربع الخالي (2)، استنادا إلى الآية الكريمة «وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» (3)، و الحقف- كما في القاموس- المعوج من الرمل، أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشرف، و لكن الحقف يمكن أن يوجد في أكثر من مكان في شبه الجزيرة العربية، و لم يحدد القرآن الكريم موضع الأحقاف بالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية، كما أن القاموس العربي لم يحدد وجود الرمل فقط في جنوب الجزيرة، كصفة من صفاته أكثر من كونه صفة لبقية أنحاء الجزيرة، بل يمكن أن نقول أن الجزيرة العربية معظمها رمال (4)، أما الذي حدد ذلك، فهم المفسرون- كما رأينا- و من ثم فقد ذهبوا إلى أن الأحقاف بناحية الشحر في الجانب الجنوبي الغربي من الربع الخالي بناحية حضرموت اليمن، و أن في الأحقاف هذه

ص: 246


1- مجلة الهلال 23/ 894، جواد علي 1/ 311، و كذا 328. P, 2, IE
2- أبو الفداء 1/ 97، ابن كثير 1/ 120، مروج الذهب 2/ 12، ابن الأثير 1/ 85، تاريخ ابن خلدون 2/ 19، ياقوت 1/ 115- 116
3- سورة الأحقاف: آية 21
4- عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص 88 و أنظر القاموس 3/ 129

كانت منازل عاد (1)، و زاد بعضهم فذهب إلى أنها إنما كانت فيما بين عمان إلى حضرموت فاليمن كله، و كانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها، و قهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم اللّه (2).

هذا و تتجه الآراء الحديثة إلى أن عادا، إنما تقع في شمال الجزيرة العربية، و ليس في جنوبها، و أنها ربما كانت تموج في المنطقة الممتدة من منطقة «حسمى» في سيناء، حتى منطقة «أجأ و سلمى» في منطقة قبيلة شمر (3)، و لعل أهم ما يؤيد وجهة النظر هذه، ما سبق أن ذكرناه (أولا) من أن «فورستر» يرى أن القوم الذين ذكرهم بطليموس تحت اسم eatidaO كانوا يسكنون في شمال غرب الجزيرة العربية (4)، و ربما عند موضع «بئر إرم» في منطقة حسمى، و منها (ثانيا) أننا لو قمنا بمسح الوديان الموجودة في شمال الحجاز، لوجدنا فعلا أن أحد هذه الوديان يسمى «وادي إرم»، كما أثبتت الحفريات الأثرية وجود مكان يسمى «إرم» في منطقة جنوب الاردن (5) و منها (ثالثا) أن عادا قد اقترن ذكرها بثمود، «الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ

ص: 247


1- عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص 28 ياقوت 1/ 115- 116، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 328، المعارف ص 14، البكري 1/ 119- 120، ياقوت 5/ 442، قارن: القسطلاني (5/ 333) حيث يجعل قوم عاد يسكنون حضرموت على المحيط الهندي، ثم انظر: تفسير المنار (8/ 495- 496) حيث يضيف أن عادا إنما كانت بين الشام إلى اليمن، و أنظر كذلك روح المعاني 30/ 123، و انظر كذلك «أمين مدني» حيث يرى أن المعينيين إنما هم قوم عاد (العرب في أحقاب التاريخ 2/ 128- القاهرة 1971)
2- تفسير الطبري 12/ 507 (دار المعارف)، تفسير المنار 8/ 495
3- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 88
4- 32. P, tic- po, retsroF. C
5- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 88

بِالْوادِ» (1)، و لعله- فيما يرى البعض- وادي القرى (2)، أحد الأودية التي تتخلل سلسلة جبال حسمى، و من بينها جبل إرم، و الذي يسمى الآن «رمّ»، و يكوّن الحد الشمالي للحجاز، و عنده يوجد الكثير من الماء (3)، أضف إلى ذلك أن ياقوت قد ذكر جبلا سماه «جش إرم»- عند أجأ أحد جبلي طي ء- أملس الأعلى، سهل ترعاه الإبل، و في ذروته مساكن لعاد و ارم، فيه صور منحوتة من الصخر (4)، و رغم أن ياقوت قد فرق هنا بين عاد و إرم، و جعلهما قومين، إلا أن «الواو» هنا ربما كانت زيادة من الناسخ (5)، و منها (رابعا) وجود أسماء محلات أخرى، عثر فيها على نقوش و تماثيل، و صفت في الكتب العربية بأنها مساكن قوم عاد (6).

و منها (خامسا) أن حفائر «هورسفيلد» في جبل «رم»- على مبعدة 25 ميلا إلى الشرق من العقبة- و كذا حفائر «سافينياك» و اكتشافات «جليدن»، قد أثبتت أن هذا المكان هو موضع «إرم»، الوارد ذكره في القرآن الكريم، و قد حلّ به الخراب قبل الإسلام، و من ثم فلم يبق منه عند ظهور الإسلام غير «عين ماء» كان ينزل عليها التجار و رجال القوافل الذين كانوا يمرون بطريق «الشام- مصر- الحجاز» (7)، بل قد يفهم من نص «لأبي شامة»، أنه في الفترة التي كان الصليبيون يحتلون فيها حصن «الكرك و الشويك»، كان الجيش المصري يعسكر عند جبل

ص: 248


1- سورة الفجر: آية 9
2- انظر: ابن كثير 1/ 130، أبو الفداء 1/ 12، البكري 2/ 426، الطبري 1/ 226- 227، ابن الأثير 1/ 89، ياقوت 2/ 221، المعارف ص 14، تاريخ الخميس ص 84، روح المعاني 8/ 162، 14/ 76
3- الويس موسل: شمال الحجاز ص 57، 130
4- ياقوت 2/ 141
5- جواد علي 1/ 306
6- جواد علي 1/ 306
7- جواد علي 1/ 306، و كذا .572 .P ,1934 ,II ,ILX ,405 .P ,1933 ,IILX ,581 .P ,1932 ,ILX ,euqilbiB euveR

«رم»، أثناء مرور الحجيج من إيلة إلى مكة، و ذلك لحماية الحجاج من الهجمات التي كان الصليبيون يشنونها عليهم (1).

و منها (سادسا) أن بعضا من الكتاب العرب أنفسهم، إنما يرى أن الأحقاف- التي كانت منازل عاد- إنما هي جبل الشام، أو هي حشاف من «حسمى»، و الحشاف الحجارة في الموضع السهل (2)، و أن اسم الأحقاف (حقاف) ما تزال تراه باقيا حتى الآن في المنطقة الجنوبية العربية من البدع «مدين» (3)، بل إن القلقشندي إنما يضع عاد في مدين (4).

و منها (سابعا) أن هناك من يذهب إلى أن هودا، قد يكون أحد الأنبياء الذين كانوا في منطقة فلسطين و شمال الحجاز، و أنه قد ارسل إلى قوم عاد، و إن كل هذه القرائن مجتمعة تجعلنا نعتقد أن عادا إنما كانت في شمال شبه الجزيرة العربية، و ليس في جنوبها (5).

[5] مبالغات عن العاديين

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن فريقا من المؤرخين و المفسرين، قد أسرف كثيرا في الاستنتاج مما ورد في بعض آي الذكر الحكيم، ففسر بعضهم قوله تعالى «وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (6)، إلى أن عادا إنما كانوا في هيئة النخل طولا، و أن الواحد منهم قد يبلغ اثني

ص: 249


1- الويس موسل: شمال الحجاز ص 57
2- البكري: معجم ما استعجم من أسماء البلدان و المواضع 1/ 119
3- الويس موسل: المرجع السابق ص 137
4- القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، القاهرة 1959 ص 19
5- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 88
6- سورة الأعراف: آية 69

عشر ذراعا- و ربما الطويل منهم اربعمائة ذراع، و ربما خمسمائة (1)- كما كان الواحد منهم يأخذ الصخرة العظيمة فيقلبها على الحي فيهلكهم، و أن الرجل كان يتخذ المصراع من حجارة، و لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، هذا فضلا عن أنهم كانوا في اتصال الأعمار و طولها بحسب ذلك القدر (2)، و في هذا تحميل للآية الكريمة أكثر مما تحتمل، يشبه ما كانت توصف به فراعنة مصر من الفخامة و الطول، مما كذبه الواقع بعد كشف مومياتهم، و لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن قوم هود كانوا يتميزون بضخامة، لا تزيد على ما يتميز به بعض الأفراد و العشائر بيننا الآن من بسطة في الخلق (3).

و أسرف خيال المؤرخين الإسلاميين كذلك في تفسير الآية الكريمة «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» (4)، فذهب بعضهم إلى أن «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» هذه مدينة و أن الذي بناها إنما هو «شداد بن عاد» في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة عام على رواية! و خمسمائة عام على رواية أخرى و كان عمره تسعمائة عام، و ذلك لكي ينافس بها قصور الذهب و الفضة من الجنة التي تجري من تحتها

ص: 250


1- لاحظ تعارض ذلك مع حديث الرسول (صلى اللّه عليه و سلم) «أن اللّه خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن» (أنظر: تفسير القرطبي 20/ 45، ابن كثير 1/ 144، مقالنا عن قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة)
2- مروج الذهب 2/ 12، تفسير القرطبي 20/ 45 (طبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1950)، الفخر الرازي، التفسير الكبير 31/ 168، تفسير الطبري 30/ 176، روح المعاني 30/ 123
3- محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص 33
4- سورة الفجر: آية 6- 8 و انظر: تفسير الفخر الرازي 31/ 166- 169، تفسير القرطبي 20/ 44- 47 (طبعة دار الكتب المصرية- القاهرة 1950)، تفسير الطبري 30/ 175- 178 (طبعة الحلبي- القاهرة 1954) تفسير البيضاوي 2/ 557 (طبعة الحلبي- القاهرة 1968)

الأنهار، و أنه كتب إلى عماله- و كانوا فيما يصوره خيالهم في جميع ممالك العالم- أن يجمعوا له ما في أرضهم من الذهب و الفضة و الدر و الياقوت و المسك و العنبر و الزعفران، فتوجهوا به إليه، ثم استخرج غواصو الجواهر فجمعوا أمثال الجبال، و أنه أمر بالذهب فضرب أمثال اللبن- و كذا فعل بالفضة- ثم بنى المدينة بهما، ثم زين حيطانها بالدر و الياقوت و الزبرجد، ثم جعل لها غرفا من فوقها غرف، تعتمد على أساطين من الزبرجد و الياقوت، ثم أجرى تحت المدينة واديا طليت حافته بالذهب الأحمر، و جعل حصاه أنواع الجواهر، و بنى في المدينة ثلاثمائة الف قصر، و جعل على بابها مصراعين من ذهب، مفصصين بأنواع الياقوت، و جعل ارتفاع البيوت في المدينة ثلاثمائة ذراع، و بنى خارج السور كما يدور ثلاثمائة ألف قنطرة بلبن الذهب لينزلها جنوده.

و أما مصير المدينة بعد ذلك، فموضع خلاف بين هؤلاء القصاصين، فمنهم من يذهب إلى أنها طارت بعد بنائها في السماء و أن بعض الناس يلمحونها و هي طائرة، و منهم من يذهب إلى أنه لا يراها إلا من كتب اللّه له ذلك، بل و يروي بعضهم أن رجلا يدعى «عبد اللّه بن قلاية» رآها على أيام معاوية بن أبي سفيان (41- 60 ه)، و أنه حمل إلى الخليفة منها بعض الأحجار الصغيرة، فضلا عن المسك و الكافور و اللؤلؤ، غير أن هذه الأشياء سرعان ما تحولت إلى تراب عند ما تعرضت للهواء، و من ثم فقد استدعى معاوية كعب الأحبار، و سأله عن خبر هذه المدينة، فأجاب كعب على الفور- كعادته- أنها إرم ذات العماد، و سوف يدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير على حاجبه خال، و على عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر «ابن قلاية»

ص: 251

فقال: هذا و اللّه ذاك الرجل (1) و هكذا يبلغ الخيال ببعض المؤرخين حدا لا نجد له مثيلا إلا في الأساطير، و إلا في التوراة حين تتحدث عن عجائب «يهوه» لشعبه المختار، و لست أدري من أين جاءوا بكل هذا، ثم من أين جاء «كعب الأحبار» بأساطيره هذه، و القصة- كما قلنا- قرآنية صرفة، و ليس في التوراة- على فرض أنه خبير بما في التوراة- أية إشارة من قريب أو بعيد عن هذه القصة، و لعل الذي دفع المؤرخين الإسلاميين إلى هذا الغلو في الوصف، أن القوم بعد الفتوحات الإسلامية المجيدة، رأوا آثار الفراعين على أرض الكنانة، و الأشوريين ثم البابليين في بلاد الرافدين فضلا عن آثار الرومان في الشام، و من ثم فقد أنفوا أن تكون مدينة عاد أقل من هذه الآثار، إن لم تفقها إلى أقصى الحدود، فكان الخيال، و كان السخف الذي ينزل بكتاباتهم من مستوى حقائق التاريخ، إلى مبالغات الأساطير.

و على أي حال، فلقد اختلفوا في مكان مدينة «إرم» هذه، فذهب بعضهم إلى أنها «تيه أبين» بين عدن و حضرموت، و ذهب فريق ثان إلى

ص: 252


1- جرجي زيدان: العرب قبل الاسلام ص 64- 66، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص 34- 35، مروج الذهب 2/ 13، تاريخ ابن خلدون 2/ 19- 21، ياقوت: معجم البلدان 1/ 155- 157 (طبعة بيروت 1955)، روح المعاني 30/ 123 تفسير القرطبي 20/ 47، محمود أبو رية: أضواء على السنة المحمدية ص 158- 159، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 16 قارن: ابن كثير 1/ 125

أنها «دمشق» (1)، و زعم فريق ثالث أنها الاسكندرية (2)]، و هكذا وجد الأخباريون في دمشق و في الاسكندرية كل ما تخيلوه عن «إرم ذات العماد» و بخاصة المباني الضخمة و المنشآت العظيمة ذات العمد، فضلا عن تاريخ تليد مجيد، للعاصمتين العظيمتين، و مع ذلك فقد كان لكل من اختيار المدينتين الكبيرتين، سبب يختلف عن اختيار الأخرى.

كانت دمشق من أهم مراكز الآراميين (3)، ثم عاصمة لهم منذ القرن

ص: 253


1- مروج الذهب 2/ 110- 111، ياقوت 1/ 155، 2/ 464، تفسير الطبري 30/ 175، الفخر الرازي: التفسير الكبير 31/ 167، تاريخ ابن خلدون 2/ 19، البكري 1/ 140، 2/ 408- 409، تفسير الألوسي 30/ 123، الهمداني: المرجع السابق ص 80، الإكليل 8/ 33
2- مروج الذهب 2/ 410، البكري 2/ 409، ياقوت 1/ 155، 183، روح المعاني 30/ 123، تفسير القرطبي 20/ 46، تفسير الطبري 30/ 175، التفسير الكبير 31/ 167، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص 80، ابن عبد الحكم: فتوح مصر و المغرب ص 60، السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة 1/ 37، و كذا lacirotsiH dna yradnegeL, marI cinaroK, neddilG. W. H
3- يمثل الآراميون الموجة الثالثة من موجات الهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية- بعد موجة الآراميين و الكنعانيين- و كانوا في بادئ الأمر يجوبون أنحاء وادي الجزيرة من ناحية الشمال، و يتحركون إلى الشرق من ناحية العراق، و إلى الغرب من ناحية سورية، حتى بدءوا يستقرون في العراق الأوسط، و قد أثبتت الأبحاث الحديثة أن الآراميين يرجعون إلى أزمنة موغلة في القدم، إذ يذكر نقش من عهد الملك البابلي «نرام سن»، و يرجع إلى القرن 23 ق. م .. إقليما يدعى «أرام» يقع في أعالي بلاد الرافدين، ثم على لوحة تجارية ترجع إلى عام 2000 ق. م.، و التي تشير إلى مدينة أو دولة «أرام» بالقرب من «اشنونا» (تل الأحمر الحالية) في وادي الدجلة الأسفل، ثم يتكرر اسم «أرام» في عام 1700 ق. م. في نصوص ماري، و كذا حوالي عام 1400 ق. م. في نصوص أوجاريت. و يستدل من نصوص بلاد النهرين على أن جماعات آرامية قد اجتاحت قسما كبيرا من هذه البلاد و شمال سورية و وسطها في القرنين 14، 13 ق. م.، و قد سادت العناصر الآرامية فيها باستثناء بعض الجيوب القليلة التي كان يسطر عليها الحيثيون، ثم بلغ الآراميون ذروة سلطانهم السياسي في القرنين 11، 10 ق. م.، بسبب ضعف الإمبراطوريات الكبرى (مصر و العراق) في تلك الفترة، فغزت قبائلهم الجزء الشمالي من أرض الرافدين، و أسست هناك سلسلة من الدويلات، مثل «بيت أديني» و مركزها «تل برسب» و مثل «بيت بخياني» و مركزها «جوزانا» (تل حلاف)، ثم استولى المغتصب الآرامي «أدد- أبل- أدن» على عرش بابل في أول القرن الحادي عشر ق. م.، و في الغرب نشأت في «كليكيا» دولة «سمأل»، و في سورية نشأت حول أرفد و حلب دولة «بيت أجوشي» و تحدثنا التوراة عن سبع دويلات آرامية في سورية و شرق الأردن، فهناك دويلة أرام النهرين و دولة أرام دمشق و دويلة أرام صوبة و إمارة معكة و إمارة جشور و إمارة بيت رحوب و إمارة طوب (انظر: كتابنا إسرائيل ص 337- 342، صموئيل ثان 10: 16، 15: 8، 13: 37، يشوع 12: 5، 13: 11، تثنية 3: 14، عدد 13: 12، قضاة 18: 28، موسكاتي: المرجع السابق ص 177- 178، احمد فخري: المرجع السابق ص 103، قاموس الكتاب المقدس 1/ 42- 43 و كذا 687 .P ,tnematseT dlO eht ot noit -ndortnI tfiefP .H .R 49 -247 .P .P ,tic -po ,xuoR .G

الحادي عشر ق. م.، و حتى احتلال الأشوريين لها في عام 722 ق. م.، و أن «عاد إرم»، إنما تعني «عاد أرام»، فضلا عن الآراميين- كما نعرف، و كما توصل إلى ذلك «مورتز» بعد دراسة لأسمائهم- لم يكونوا إلا عربا، هاجروا من شبه الجزيرة العربية إلى منطقة الهلال الخصيب (1)، و من ثم فقد التبس الأمر على المؤرخين المسلمين بين عاد إرم، و عاد أرام، و ظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاد، أو شداد بن عاد (2)، كما أنه ليس هناك من دليل حتى الآن يثبت أن «إرم» هنا، إنما تعني «أرام» (3)، و إن كان من الممكن هنا أن تكون «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» هي التي أوحت إلى النسابين فكرة جعل «عاد» من نسل «عوص بن إرم»، لتشابه الاسمين، و من ثم فقد كان «عاد» من الآراميين في رأي البعض (4)، على أساس أن «ذات العماد» صفة لدمشق، و أن «جبرون بن سعد بن عاد» نزل بها، و ابتنى مدينة تحليها

ص: 254


1- 67- 66. P. P, 1948, 7, SENJ, elbiB eht dna ciamarA, snaemarA, mwoB. A. R
2- البكري 1/ 140، ابن سعد 1/ 19، ياقوت 1/ 155- 157، جواد علي ... 3
3- 121. P, I, malsI fo, ycnE
4- جواد علي 1/ 303

عمد من الرخام، و قد استغل «لوث» هذه الرواية في تدعيم رأيه القائل بأن اسم «إرم» لا يتصل إلا بالروايات الآرامية (1)، بخاصة و أن هناك اتجاها يذهب إلى أن عادا، إنما كانت في شمال بلاد العرب و ليس في جنوبها- كما أشرنا آنفا- على أن «دمشق» و كذا الاسكندرية- ليستا من بلد الأحقاف و الرمال (2).

و أما اختيار الاسكندرية، فقد كان- فيما يرى المستشرقون- بسبب انتشار قصص الإسكندر الأكبر (356- 323 ق. م.) في الأساطير العربية الجنوبية، و بخاصة في كتابات وهب بن منبه، و من ثم فقد غدا «شداد بن عاد» بانيا للإسكندرية و أصبح الاسكندر المقدوني ليس إلا مكتشفا لها (3)، و يروي المسعودي أن الاسكندر المقدوني إنما اكتشف في موقع الاسكندرية أثرا لكتابة بخط المسند يسجل فيها «شداد بن عاد» أنه كان يبغي أن يبني هنا مدينة كمدينة إرم، غير أنه كان في عجلة من أمره، و لعل هذا يفيد أن الإسكندرية ليست إرم، و إنما مجرد مدينة أراد شداد أن تكون كإرم (4).

على أن هناك من يرى أنه ليست هناك مدينة في الأصل اسمها «إرم»، و أن كل ذلك لا يعدو أن يكون أثرا من خيال القصص الذي لعب دورا هاما في ضعاف المفسرين، و من ثم فإن «إرم» هي الأمة- و ربما القبيلة- و لكنها ليست المدينة (5).

ص: 255


1- دائرة المعارف الإسلامية 3/ 15
2- تفسير الطبري 30/ 178، تفسير الألوسي 30/ 123، تفسير الفخر الرازي 31/ 167
3- 13, P, 1939, 73, ROSAB
4- تفسير القرطبي 20/ 46- 47، تفسير الألوسي 8/ 156- 157، دائرة المعارف الاسلامية 3/ 15- 16، مروج الذهب 1/ 410، ياقوت 1/ 184- 185
5- تاريخ ابن خلدون 2/ 19، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 65، قارن: تفسير القرطبي 20/ 45- 46، تفسير الطبري 30/ 175- 177، الفخر الرازي: التفسير الكبير 31/ 167- 168
[6] هود عليه السلام

اختلف المفسرون في اسم النبي الكريم- هود عليه السلام- و في نسبه كذلك، فهو «هود بن عبد اللّه بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح» على رأي، و هو «هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن عمليق بن عاد» على رأي ثان، و هو «عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح» على رأي ثالث (1)، و ربما كان الرأي الأول- حدسا عن غير يقين- أقرب إلى الصواب، لأن الرأي الثاني يجعله من العماليق، و لأن الرأي الثالث يجعله ذا صلة قريبة بيهود، لأن «عابر» إنما هو جد اليهود (2)- طبقا لرواية التوراة (3)- فضلا عن أن الأثر الإسرائيلي يبدو واضحا في هذا الرأي.

و الأمر كذلك بالنسبة إلى مكان دفنه، فهناك رواية تذهب إلى أنه إنما كان في دمشق (4)، غير أن هذه الرواية- كما يبدو- متأثرة بالعلاقة التي أشرنا إليها بين «إرم» و «أرام»، و ربما بالظروف السياسية وقت كتابتها، ذلك لأن أصحاب هذه الرواية قد حددوا المسجد الأموي مكانا للدفن، بل لقد ذهب البعض إلى أن هودا قد بنى الحائط القبلي للجامع، و لعل السبب في ذلك الاسرائيليات التي انتشرت بين المفسرين- على أيام

ص: 256


1- المقدسي 3/ 32، روح المعاني 8/ 154، تاريخ ابن خلدون 2/ 20، تاريخ اليعقوبي 1/ 22، الأخبار الطوال ص 4- 5، المعارف ص 16، نهاية الأرب للقلقشندي ص 329، ابن حبيب: المحير ص 385، تفسير المنار 8/ 495- 497، تاريخ الخميس ص 84، الإكليل 1/ 87، عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 49
2- انظر كلمة عبري: وصلتها بعابر في كتابنا إسرائيل ص 1- 6
3- تكوين 10: 1، 21
4- ابن كثير 1/ 130، تفسير الألوسي 8/ 161، رحلة ابن بطوطة 1/ 205، 2/ 203، ياقوت 1/ 156، 2/ 463- 465، جواد علي 1/ 313

بني أمية- بهدف تفضيل الشام على بقية المناطق الإسلامية، حتى جعلوا «دمشق» واحدة من مدائن أربعة، زعموا أنها من مدائن الجنة (1)، و ربما كان ذلك تمجيدا للمسجد الأموي، في وقت كان فيه «عبد اللّه بن الزبير» يتحصن بالمسجد الحرام في مكة المكرمة، و كان أهل الحجاز في شبه تحزب عام ضد بني أمية (2)، و ربما أن المسجد الأموي كان في بادئ أمره كنيسة بها قبور بعض قديسي أهل دمشق، فلما تحولت إلى مسجد، تحولت قبور قديسيها بعواطف الناس إلى قبور للأنبياء (3)، و هنا لعبت السياسة دورها، فاستغلت عواطف الناس- أو قل عواطف السذج منهم- و ضعاف الكتاب الأخباريين، فجعلت منه شيئا يرجع في قداسته إلى أبعد العهود، و ما أكثر ما لعبت السياسة هذا الدور في تاريخ الشرق الأدنى في كثير من عصوره.

و هناك رواية أخرى تذهب إلى أن اليمن، إنما كانت مكان دفن النبي الكريم (4)، بينما تذهب رواية ثالثة إلى أنه قد دفن في حضرموت، في كثيب أحمر، عند رأسه سمرة (5)، و أن هناك قرية تسمى حتى الآن «قبر هود» (6)، أو في «وادي برهوت» على مقربة من مدينة «تريم»، غير

ص: 257


1- فتح الباري 13/ 69، روح المعاني 30/ 123، تاريخ ابن عساكر 1/ 14، 57، و أنظر: أضواء على السنة المحمدية ص 129- 135، 170- 172
2- أنظر: عبد المنعم ماجد 2/ 79- 91، ابن الاثير 3/ 265- 316، الأزرقي 1/ 196- 200، التنبيه و الاشراف ص 402- 404، الأخبار الطوال ص 260
3- جواد علي 1/ 313
4- ابن كثير 1/ 130
5- نهاية الأرب للنويري 13/ 60، تفسير المنار 8/ 496، روح المعاني 8/ 161، تفسير الطبري 12/ 507 (دار المعارف)، ابن سعد 1/ 25، ياقوت 2/ 270، و كذا 374, P, tic- po, retsroF, C و كذا: تاريخ اليعقوبي 1/ 270، صفة جزيرة العرب ص 87، ياقوت 1/ 116، قصص القرآن ص 27
6- مبروك نافع: المرجع السابق ص 33

بعيد عن «بئر برهوت» (1)، التي اشتهرت في الجاهلية بأنها شر بئر في الأرض، ماؤها أسود، و رائحتها كريهة، حتى ذهب الخيال بالبعض إلى أنها موضع تتعذب فيه أرواح الكافرين، و أنها تقذف بألوان من الحمم، يسمع لها أزيز راعب (2)، و هكذا نشأت قصة قبر هود، و هكذا حيكت الروايات الساذجة عن عذاب عاد (3).

و هناك رواية رابعة تذهب إلى أن النبي الكريم إنما دفن في فلسطين (4)، بينما تذهب رواية خامسة إلى أن هودا قد ذهب مع من آمن به إلى مكة- و عددهم ثلاثة آلاف على زعم، و أربعة على زعم آخر- و أنه أقام هناك، و دفن بالحجر من مكة، فقبره إذن بمكة، بجوار قبور ثمانية و تسعين نبيا (5).

هذا و يقدم لنا الأخباريون رواية، مؤداها: أن وفدا من سبعين رجلا من عاد، يذهب إلى مكة ليستسقي لهم، و أن هذا الوفد قد نزل عند معاوية بن بكر- و كان بظاهر مكة خارجا عن الحرم- و أنه أقام عنده شهرا، يشرب الرجال فيه الخمر، و تغنيهم الجواري، و أن معاوية حين رأى طول مقامهم عنده، أوعز إلى جاريته أن تغنيهم شعرا يذكرهم بمأساة قومهم، و حين فعلت الجاريتان تذكر القوم مهمتهم (6).

ص: 258


1- ياقوت 1/ 405، روح المعاني 8/ 156، تاريخ حضرموت السياسي 1/ 65
2- نفس المرجع السابق ص 67، ياقوت 2/ 270، لسان العرب 1/ 143، 2/ 314، جواد على 1/ 312
3- أنظر 21. P, egaS ehcsibaradeuS eid rebU, remarK noV و كذا: صفة جزيرة العرب ص 70
4- الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 240، النجار: قصص الأنبياء ص 53
5- روح المعاني 8/ 161، أبو الفداء 1/ 12، جواد علي 1/ 313، و كذا 2،, malslfo. ycnE 327. P
6- تاريخ الطبري 1/ 217- 226 تاريخ ابن خلدون 2/ 20، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 126- 128

و ليس يهمنا هنا أن تكون الرواية صحيحة، أو لا تكون، فذلك شأن من يعتقدون أن لهذا القصص نصيبا من صواب، و إنما الذي يهمنا هنا أن الذين يروون هذا القصص هم أنفسهم الذين يضعون هودا وقومه في مرحلة تاريخية سابقة لعهد الخليل عليه السلام، و هم في الوقت نفسه يرون أن مكة لم تعمر إلا منذ عهد إبراهيم، و ربما بعده، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (1)، فضلا عن أن الشعر الذي يرونه في هذه المناسبة، لا يمكن أن يكون من ذلك العهد الغابر، و لعله في أغلب الظن شعر منحول.

و أما قصة قبره عليه السلام في فلسطين، فربما كانت ترتبط بالروايات التي تجعل قوم عاد من شمال شبه الجزيرة العربية، و ليس من جنوبها، فإذا كان ذلك كذلك، فربما كانت تحمل نصيبا من صواب.

[7] عصر قوم هود

لا شك أن الحديث عن تحديد عصر لقوم هود، إنما هو أمر بالغ الصعوبة، فالقصة- كما قلنا- قرآنية صرفة، و ليس في القرآن الكريم- أو في السنة النبوية الشريفة- إشارة صريحة إلى ذلك، و الآثار صامتة تماما في هذا المجال، و ليس هناك أي نوع من الوثائق التاريخية التي يمكن للمؤرخ أن يعتمد عليها في الوصول إلى نتيجة يظن أنها الصواب، أو

ص: 259


1- سورة إبراهيم: آية 37، و انظر تفسير النسفي 2/ 263- 264، تفسير القرطبي 9/ 368- 274، تفسير الكشاف 2/ 380، تفسير ابن كثير 4/ 141- 142، تفسير الطبري 13/ 229- 235، الدرر المنثور 4/ 86- 87.

حتى قريبا من الصواب، و من ثم فإن المحاولة لا تعدو أن تكون حدسا عن غير يقين.

على أننا ربما نستطيع أن نحدد ذلك العصر بالألف الثانية قبل الميلاد، على وجه التقريب، ذلك لأن القرآن الكريم إنما يذكر عادا بعد ثمود- و هي دون شك أوضح تاريخا من عاد- هذا إلى جانب أنه إنما يذكر عادا كذلك بعد قوم لوط أما ثمود، فهي واحدة من القبائل العربية التي جاء ذكرها في الكتابات الآشورية، على أنها كانت تعيش في شمال شبه الجزيرة العربية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، و أما قوم لوط، فقد كانوا معاصرين للخليل عليه السلام، و هو الذي حددنا لعهده من قبل- و كما جاء في كتابنا اسرائيل (1)- الفترة (1940- 1765 ق. م.)، على وجه التقريب، و من ثم فإننا ربما نستطيع أن نقول، أن عادا إنما كانت في الفترة ما بين عهد إبراهيم الخليل، و بين عهد ثمود، و من هنا فربما لو وضعنا قوم عاد في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، لما تجاوزنا الصواب بكثير.

على أن الأمر، قد يختلف كثيرا، إذا ما كان صحيحا ما ذهب إليه بعض الباحثين- كما أشرنا من قبل- من الربط بين «إرم» و «أرام»، و أن «إرم» إنما تتصل بالأراميين، و بمعنى آخر أن هناك صلة بين قوم عاد و بين الآراميين عن طريق «عاد إرم»، فإذا كان ذلك كذلك، فإن قوم عاد إنما يرجعون إلى ما قبل ظهور الآراميين في العراق القديم في القرن الثالث و العشرين قبل الميلاد، كما أشرنا من قبل- و هذا يتفق مع وجهة نظر بعض المؤرخين و المفسرين الإسلاميين من أن عادا إنما أتوا قبل إبراهيم عليه السلام، أي قبل القرن العشرين قبل الميلاد.

ص: 260


1- أنظر ما سبق «عصر إبراهيم»، و كذا كتابنا إسرائيل ص 171- 176

و إذا صدقت وجهة النظر هذه، فإننا نستطيع أن ندعمها بعدة أدلة، منها تلك الآيات الكريمة التي جعلتهم خلفاء لقوم نوح (1)، و منها ورود قصة هود بعد قصة نوح، عليهما السلام، في كثير من المرات في القرآن الكريم (2)، هذا فضلا عن ذكر عاد و ثمود، بين قوم نوح و قوم إبراهيم (3)، و منها قوله تعالى «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ، وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» (4)، و قد اتخذ البعض من هذه الآية الكريمة، و التي قبلها، دليلا على أن هذه الأقوام، إنما سبقت عهد موسى- أي القرن الثالث عشر ق. م. (5) على أساس أن الخطاب هنا موجه إلى قوم موسى (6).

غير أن ابن كثير، إنما يرى أن الخبر مستأنف من اللّه لهذه الأمة- أي أمة محمد (صلى اللّه عليه و سلم)- لأن قصة عاد و ثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من قول موسى لقومه و قصصه عليهم، فلا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة (7)، و توسط البيضاوي بين أن يكون من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من اللّه (8)، أضف إلى ذلك أننا نرى الترتيب يختلف في سورة الشعراء، إذ تسبق قصة موسى (10- 68) قصة إبراهيم (69- 89) ثم تأتي بعد ذلك قصة نوح (105- 121) فقصة هود (124- 140) ثم قصة صالح (141- 159) فقصة لوط (160- 175) ثم قصة شعيب

ص: 261


1- سورة الأعراف: آية 69، سورة إبراهيم: آية 9، سورة غافر: آية 31
2- أنظر مثلا سور: هود و الأعراف و المؤمنون و الشعراء
3- سورة التوبة: آية 70
4- سورة إبراهيم: آية 9، و انظر سورة غافر: آية 31
5- راجع عن عصر موسى: كتابنا إسرائيل ص 268- 303
6- تفسير الطبري 13/ 187 (طبعة الحلبي 1954)
7- تفسير ابن كثير 4/ 111
8- تفسير البيضاوي 1/ 525- 526

(176- 191)، بل إن ثمودا إنما تتقدم عاد في سورة «ق» حيث يقول سبحانه و تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ، وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ» (1).

ص: 262


1- سورة ق: آية 12- 13

ص: 263

الفصل السّابع الثموديون «قوم صالح»

اشارة

ص: 264

[1] أصل الثموديين

ينسب الثموديون إلى «ثمود بن جاثر بن إرم بن سام (1)»، و يذهب البعض إلى أن ثمودا، إنما هو أخو «جديس و طسم» و أنهم أبناء «عابر بن إرم بن سام بن نوح (2)»، و يكتفي البعض بارجاع نسبهم إلى عاد، على أنهم بقية من عاد (3) و أما النبي الكريم، صالح عليه السلام، فهو في رأي البعض- «صالح بن عبيد بن آسف بن ماسخ (أو ماشج) بن عبيد بن حاذر (أو حاجر) بن ثمود» و هو- في رأي البعض الآخر- صالح بن آسف بن كما شج بن إرم بن ثمود، و هو- في رأي فريق ثالث- صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود، إلى غير ذلك من سلسلة أنساب (4).

و يجمع المؤرخون الإسلاميون على أن الثموديين عرب، بل و يكادون يتفقون على أنهم من العرب العاربة (5)، ثم يذهبون بعد ذلك مذاهب شتى، حيث يرى فريق منهم أنهم بقية من قوم عاد، و من ثم فإنهم يرون

ص: 265


1- ابن الأثير 1/ 89، صبح الأعشى 1/ 313، المحبر ص 395، المعارف ص 13، المقدسي 3/ 37، نهاية الأرب للقلقشندي ص 200، تفسير الطبري 12/ 524 (دار المعارف)
2- ابن كثير 1/ 130، مروج الذهب 2/ 14، قارن: تفسير المنار 8/ 501، تفسير الطبري 12/ 524
3- تاج العروس 2/ 312، لسان العرب 3/ 105
4- تاريخ الطبري 1/ 226، ابن كثير 1/ 130- 131، أبو الفداء 1/ 12، ابن الأثير 1/ 89، تفسير المنار 8/ 501، روح المعاني 8/ 162، المحبر ص 385، المعارف ص 14، الاكليل 2/ 291، المقدسي 3/ 37، قصص الأنبياء ص 58
5- ابن كثير 1/ 13

أنهم إنما نشئوا في اليمن، ثم غلبهم الحميريون فأجلوهم إلى الشمال، فسكنوا منطقة الحجر (1)، و تلك رواية يناقضها (أولا) ما ذهبنا إليه من قبل، من أن عادا إنما كانت في شمال شبه الجزيرة العربية و ليس في جنوبها و يناقضها (ثانيا) دعواهم بأنهم من العرب العاربة، و أنهم كانوا قبل عهد إبراهيم عليه السلام، و الخليل- كما أشرنا من قبل- إنما كان يعيش في الفترة (حوالي 1940- 1765 ق. م.)، بينما بدأ الحميريون- كما هو معروف- سيادتهم في اليمن في فترة تقرب من الميلاد بقليل أو كثير (2)، و من ثم فالفرق بينهما جد شاسع.

و هناك فريق آخر، يذهب إلى أنهم بقية من العماليق، و لعل هذا هو الذي دفع بعضها من المؤرخين المحدثين إلى القول بأن ثمودا، إنما هم شرذمة من الهكسوس، الذين طردهم احمس الأول في حوالي عام 1575 ق. م.، من مصر (3)، و أنهم سكنوا منطقة الحجر، حيث نحتوا من الجبال بيوتا على غرار المقابر المصرية القديمة التي شاهدوها أثناء إقامتهم في مصر (4).

و ليس لهذا الرأي من دليل، سوى أن أصحابه قد افترضوا أن الهكسوس من العماليق- الأمر الذي رفضناه في دراستنا عن الهكسوس (5)- و أن الثموديين بقية من هؤلاء العماليق، فإذا كان ذلك كذلك، فكيف سكت «احمس» عليهم، و هو الذي حاصر الهكسوس في «شاروهين»- و هو موقع في

ص: 266


1- أبو الفداء 1/ 70، اللسان 3/ 105، تاج العروس 2/ 312
2- عن مبدأ التقويم الحميري: أنظر enneebaS eigolonorhC ,snamkcyR .G 96 .P ,1937 ,I ,sneibaraduS ethcihcseG ,lemmoH .F F 429 -407 .P .P ,4 -3 ,1964 ,noesuM eL
3- أنظر كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة»- الباب الثاني-
4- محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص 36
5- محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 131- 137

جنوب غرب فلسطين- ثلاثة أعوام، حتى أجلاهم عنها (1)، بل كيف يترك أحمس بقية منهم يقيمون دويلة- أو حتى إمارة صغيرة- على تخوم دولته، و هو الرجل الذي حدثتنا النصوص التاريخية من أيامه، على أنه قد طارد الهكسوس حتى «زاهي»، و معنى هذا أنه لم يطهر مصر منهم فحسب بل طهر كذلك فلسطين و لبنان، ثم كيف سكت الفراعين على أيام الامبراطورية المصرية (1575- 1087 ق. م.) على هذه الجيوب المعادية في جنوب الإمبراطورية على حدود فلسطين- أو قل على حدود الإمبراطورية مباشرة- و في منطقة تسيطر على طريق القوافل بين مصر و جنوب شبه الجزيرة العربية، و هي جد هامة.

و أما النحت الذي تعلموه من مصر، فلا أظن أن ذلك يستدعي اقامتهم في أرض الكنانة، فوسائل الاتصال بينهم و بين مصر جد كثيرة، و لعلها قد تسربت عبر البحر الأحمر ضمن المؤثرات المصرية في الحضارة العربية القديمة (2) و هناك فريق ثالث يذهب إلى أن الثموديين عرب جنوبيون (3)، هاجروا إلى شمال غرب الجزيرة العربية، كدأب كثير من القبائل الجنوبية التي اشتهرت بكثرة تنقلاتها (4)، و لا أظن أن هذا الفريق من المؤرخين المحدثين قد أصاب كثيرا في رأيه هذا، لأن العادة أن يهاجر الناس من

ص: 267


1- أنظر: نفس المرجع السابق، احمد فخري: مصر الفرعونية ص 256- 257 و كذا 32. P, tsaE eht deluR tpygE nehW, eleeS. K dna fjrodnietS. G
2- أنظر مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة»
3- أنظر 673 -659 .P .P ,1868 ,22 ,GMDZ ,nalB .O 132 .P ,malsI'L tnava eiryS ne sebarA sed noitarteneP al ,duassuD .R F 123 .P ,2 ,demmahuM netehporP mucsib netieZ netsetla ned nov sneibarA eihpargroeG dmuethcihcseG red ezzikS ,resalG .E

مواطن القحط إلى الخصب و النماء، و ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى اليمن و شمال غرب الجزيرة العربية، ثم إن الهجرات العربية الجنوبية، إنما حدثت في وقت متأخر عن ذلك، و لعل أشهرها تلك الهجرات التي حدثت بعد التصدع الخطير الذي أصاب سد مأرب في القرن السادس الميلادي، و أن كنا نعرف هجرات يمنية متعددة إلى السواحل الإفريقية، بدأت منذ الألف الثاني ق. م.، و استمرت حتى القرن الثالث الميلادي، بل إن بعض الباحثين يرى أن الأحباش أنفسهم، إنما كانوا من غرب اليمن (1).

و أيا ما كان الأمر، فهناك ما يدل على أن الثموديين إنما كانوا من القبائل العربية التي سكنت شمال شبه الجزيرة العربية، هذا فضلا عن أن قبيلة ثمود هذه لم تكن مملكة بالمفهوم الحضاري، و لم تتوطن بشكل دائم في منطقة من المناطق إلا إذا اخذنا في الاعتبار ما يقوله بعض المؤرخين من أن النبطيين و اللحيانيين أصولهم ثمودية، و عندئذ يمكن أن نقول أن هذه الممالك ممالك ثمودية باعتبار أصولها، و إن كانت قد اتخذت اسما جديدا (2).

[2] ثمود في الكتابات القديمة

ليس من شك في أن قصة ثمود اوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد، و الكتابات الأشورية تتحدث عن الثموديين هؤلاء،

ص: 268


1- راجع مقالنا الآنف الذكر، ثم أنظر: فضلو حوراني: المرجع السابق ص 54، موسكاتي: المرجع السابق ص 213، 74- 271. P. P, tneicnA eht fo odarodlE ehT, sreteP. C و كذا 126. p, rebarA eiD و كذا 25. p, tic- po, nnamhearG. A
2- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 89

فالملك سرجون الثاني (722- 705 ق. م.) يتحدث عنهم، من بين من تحدث عنهم من قبائل خاض غمار الحرب ضدها، و قد دعاهم باسم «تامودي idumaT» (idumahT) (1)، بل إنه ليذكر كذلك أنه هجرهم إلى السامرة من بين من هجر من شعوب (2)، يقول العاهل الأشوري في حوليات السنة السابعة «طبقات لوحي صادق من آشور إلهي، قضيت على قبائل تامودي و مورسيمانوا و خيابا (3)، و العرب الذين يعيشون بعيدا في الصحراء، و الذين لا يعترفون برؤساء أو موظفين، و الذين لم يكونوا قد جاءوا بجزاهم لأي ملك، سبيت الأحياء منهم و نقلتهم إلى السامرة (4)».

و قصة التهجير هذه بدأت بعد أن كتب للملك الأشوري نجحا بعيد المدى في القضاء على اسرائيل، و احتلال العاصمة (السامرة) في أخريات عام 722 ق. م.، ثم تهجير سكانها- و ربما النبلاء و الأغنياء فحسب- إلى أنحاء مختلفة من الامبراطورية الآشورية- و هو ما عرف في التاريخ بالسبي الآشوري- و سرعان ما أتى بقوم آخرين من بلاد كان قد استولى عليها (5)، و من بين هؤلاء الآخرين بعض من ثمود.

و أيا ما كان السبب في هذه التهجيرات التي شملت الثموديين، و سواء أ كان الأشوريون يهدفون من ورائها إلى كسر التحالفات القديمة بإدخال أجانب في البلاد، كبداية لظروف جديدة أكثر ملائمة للامبراطورية

ص: 269


1- 5 .P ,1929 ,slanna ehT ,I ,traP ,II nograS fo snoitpircsnI ehT ,eiL .G .A 286 .P ,TENA ni ,miehneppO .L .A 36 .lP ,I ,snoitpircsnI mrofienuC ,nosnilwaR
2- 479 .P ,treseD naibarA eht nI ,lisuM .A 289 .P ,sageH nrehtroN ,lisuM .A
3- راجع عن هذه الشعوب: الويس موسل: شمال الحجاز ص 89- 95
4- 286. P, TENA ni, miehneppO. L. A
5- أنظر كتابنا اسرائيل ص 509- 512، و كذا 282 .P 45 .P ,airyssA fo nograS fo syad eht ni aisA nretseW ,daetsmlO T .A 210 -208 .P .P ,I ,tsaP tneicnA eht morf thgiL ,nageniF .J

الأشورية الطموح، أو أن الهدف لا يعدو أن يكون تعمير مناطق مر بها الآشوريون إلى السامرة، إنما قد عادوا في زمن لا حق لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، و أنهم قد أسكنوا في مدين (1).

هذا و قد جاء ذكر الثموديين في النقوش السبئية، و من ذلك نقش، يرجع إلى نهاية القرن السادس أو بداية القرن الخامس ق. م.، و يحكي قصة اثنين من قبيلة ثمود كانا يباشران العمل في ري نخيلهما، و رغم أننا لا نعرف من أي مكان جاء هذا النقش، على وجه اليقين، فأغلب الظن أنه من بلاد سبأ (2). هذا و قد عثر في «نجران» على نقشين سبئيين كذلك، ورد فيهما اسم الإله (صلم)، الذي كان معبودا ثموديا في منطقة تيماء في العقد الذي استوطن فيه الملك البابلي «بنونيد» هذه المدينة- أي في الفترة (555- 546 ق. م.)، بعد حملته المشهورة التي احتل فيها تيماء و ديدان و خيبر و يثرب (3)، و يبدو- على أي حال- أن النقش، الآنف الذكر، من عمل مهاجرين ثموديين (4) و الأمر كذلك بالنسبة إلى نقشين سبئيين يذكران كذلك اسم ثمود، و قد عثر على الواحد منها في وادي «ثوبا»- على مبعدة 200 كيلومتر إلى الشمال الشرقي من عدن، بينما عثر على الآخر في سابق، بوادي ميفعة جنوب عدن (5).

و قد تحدث الكتاب القدامى من الأغارقة و الرومان عن الثموديين كذلك، فقد جاء في «استرابو» (66- 24 م) أن

ص: 270


1- 102. P, tic- po, resalG. E
2- 130. N, sib, 3902, euqitimeS eihpargipE'd eriotrepeR و كذا 16. P, duomahT ed eriotsiH, nednarB ned naV
3- 107 .P ,rozzahsleB dna sudinobaN ,ytrehguoD .P .R 38 .P ,skeerG ehT dna aisreP ,nruB .R .A 363 .P ,tic -po ,renidraG .A
4- ,29 -119 .P .P ,1944 ,SARJ ,snoitpircsnI narjaN ,nottirT .S .A dna ,yblihP .B .J
5- 5054, euqitimeS eihpargipE'd eriotrepeR

«SENEHTSOTARE» (276- 194 ق. م.) قد قسم بلاد العرب إلى قسمين، الواحد شمالي و يسكنه الأنباط، و الآخر جنوبي، و يسكنه المعينيون و الفيتانيون و الحضارمة، و بين الاثنين منطقة وسط- هي الحجاز و عسير- يسكنها «عرب يقتفون الأثر و يرعون الإبل» (1)»، و أكبر الظن أن الرجل قد قصد بذلك الثموديين الذين شاهدهم «ارستون» الذي قام برحلته على سواحل البحر الأحمر الشرقية على أيام بطليموس الثاني (284- 246 ق. م.) و أنهم كانوا- طبقا لتقريره- يسكنون أراض من الحجاز تقع إلى الجنوب من الأنباط (2).

و في القرن الثاني الميلادي نرى «اجاثر شيدس «sedeihcrahtagA» (120 م) يشير إلى أن الثموديين إنما كانوا يحتلون وقت ذاك شواطئ البحر الأحمر، بين الوجه المويلح، و يصف «ديودور» هذه الشواطئ بأنها تمتد مائة ستاد، و أنها صخرية شديدة الإنحدار، و أما «أورانيوس» فثمود، إنما تقع في رأية على حدود المقاطعة النبطية (3).

و يبدو أن صاحب كتاب «الطواف حول البحر الأرتيري (4)» كان يعتمد على موارد أكثر قدما، فهو يرى أن «inednumahT» كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح للملاحة، فلا خلجان تأوي إليه القوارب اتقاء العواصف من الرياح، و لا موانئ ترسوا فيها، أو جزر

ص: 271


1- 8 -7 .P .P ,SI ,ROIB ,sneeduomahT emelborP ud noituloS ed iassE ,nednarB ned naV .A
2- فضلو حوراني: المرجع السابق ص 53- 54، إبراهيم نصحي: دراسات في تاريخ مصر ص 121 و كذا 14. P, SI, AEJ ni, nraT. W
3- الويس موسل: شمال الحجاز ص 92، و كذا 262. P, II, aeS naearhtyrE eht fo sulpireP ehT, tnecniV. W
4- يحدد البعض تاريخ هذا الكتاب بالفترة (50- 60 م) (فضلو حوراني ص 54)، و يحدده آخرون لعام 75 م (موسكاتي ص 78)، أما جاكلين بيرين فتحده يعام 106 م (193- 167. P. P noitad as te nabataQ ed ebarA- duS emuayoR eL)

تحتمي بها من الأخطار، و من ثم فربما كان ما يعنيه أن مواطن الثموديين، إنما كانت في الحجاز على سواحل البحر الأحمر (1).

أما موسوعة «silarutaN airotsiH»- ل «بليني الأكبر» (32- 79 م) فتضع «ieadumaT» بين «atamoD» و «argeaH» و مدينة دعتها «ahtanadaB» (aznahcaB) (2)، أما الحجر، فهي الخريبة الحالية (العلا) على رأي، و مدائن صالح، على رأي آخر، و أما «دوماتا» فهي دومة الجندل في الجوف جنوب وادي السرحان، أما المدينة الثالثة، فيعتقد «ادوارد جلازر» أنها «بيشة» الحالية في عسير (3)، و هكذا نرى «بليني» إنما أسكن الثموديين في الداخل، فربما لأن الساحل في ذلك الوقت إنما كان يحتله اللحيانيون، الذين يعتبرون فرعا من الثموديين (4)، كما أشرنا آنفا.

و لعل «كلوديوس بتولمايس» (138- 165 م)، أقرب إلى المصادر العربية منه إلى المصادر الكلاسيكية، فهو يضع الثموديين بين أل «ianekaraS» و بين «EATAPA»، أي في الجزء الشمالي الغربي من بلاد العرب (5)، على شواطئ مدين، و ربما امتد نفوذهم إلى ما وراء

ص: 272


1- جواد علي 1/ 325، و كذا «و كذا «كتابنا بلاد العرب»، و كذا 262. P, tic- po, tnecnkV. W 302. P, tic- po, lisuM. A
2- ..32 .P ,6 ,57 -456 .P .P ,2 ,( mahkcaR .H ,yb detalsnarT )yrotsiH larutaN ,gnilP
3- .. 126. P, tic- po. resalG. E
4- .. 104. P, tic- po, resalG. E
5- الويس موسل: شمال الحجاز ص 92، جواد علي 1/ 325، و كذا. 360. P, tic- po, sgnitsaH. J 7: 19, V, 2: 7, IV, 4: 7, IV, ymelotP

خليج العقبة (1)، بل إن نفس المؤلف ليشير إلى أنهم إنما سكنوا في المناطق الداخلية كذلك، و بخاصة حول جبل «زاماتوس»، و الذي يرى فيه «جلازر» جبل عريض (2).

و هكذا يبدو من جغرافية بطليموس أن ديار ثمود كانت غير بعيدة عن ديار عاد، لا يفصل بينهما إلا ديار «ionekaraS» و كلها في أعالي الحجاز، في منطقة الطرق التجارية التي تصل بين الشام و مصر من ناحية، و اليمن و الحجاز من ناحية أخرى، فإذا كانت «الحجر» و ما والاها مواطن ثمود، وجب أن تكون ديار عاد على مقربة منها (3).

و على أي حال، فإن المصادر الكلاسيكية، إنما تدلنا على أن الثموديين قد احتلوا المناطق التي سبق للجيوش الآشورية أن احتلتها منذ قرون مضت، و هي مناطق الجوف و موصري (4)، حتى «باداناثا ahtanadaB» في الجنوب، إذا صح ما افترضه «جلازر»، و لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الأماكن التي خصصتها المصادر المختلفة كمواطن لقبيلة ثمود، إنما كانت عرضة للاحتلال أو الإخلاء من جانب الثموديين، تبعا للظروف السياسية السائدة في ذلك الوقت، غير أنه يجب

ص: 273


1- 360. P, tic- po, sgnitsaH. J، و يشير الزميل الدكتور خالد الدسوقي في بحثه (قوم ثمود: بين روايات المؤرخين و محتويات النقوش) (في مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس- 1976 ص 251- 296) إلى أن النقوش و الرسومات التي عثر عليها في النقب تؤكد المعلومات التي أوردها بطليموس، قارن 57 -49 .P .P ,1955 ,!,QEP ,vegeN lartneC eht ni sgniwarD -kcoR tneicnA ,itanA .E
2- 108. P, tic- po, resalG. E
3- جواد علي 1/ 325
4- أنظر ما كتبناه عن «موصري» هذه، في كتابنا «بلاد العرب»، ثم في كتابنا «إسرائيل» ص 225- 237، و انظر كذلك: ;tic -po ,llisuM .A 228 .P ,tic -po ,yelretseO .E .O .W 5 .P ,tic -po ,relkcniW .H 199 -197 .P .P ,tic -po ,sdoL .A و كذا مادة sudoxE في aidaepolcycnE hsiweJ ehT 295. p

ألا نطبق ذلك كحقيقة مطلقة على الثموديين، آخذين في الاعتبار طبيعتهم كقبيلة بدوية، كما يجب ألا نأخذ كذلك المعلومات التي امدتنا بها المصادر الكلاسيكية كما هي، لأن الصورة التي ترسمها لمواطن الثموديين ليست كاملة، ففي الوقت الذي يتجاهل فيه «استرابون»- اعتمادا على مصدر من القرن الثالث ق. م.- وجود قبيلة ثمود، فإن معاصره «ديودور الصقلي» يذهب إلى أن ثمود، إنما كانت تسكن شواطئ البحر الأحمر، ثم يأتي «بليني» فيذهب إلى أن الثموديين إنما اتخذوا مواطنهم في الداخل، و ليس على ساحل البحر الأحمر، ذلك لأن الرجل لم يكن- فيما يبدو- على علم باللحيانيين الذين كانوا يقطنون وقت ذاك سواحل مدين، و الذين اعتبروا فرعا من ثمود، و تمضي ثلاثة أرباع القرن، و يأتي بطليموس فيجدد مواضع ثمود على شاطئ مدين، ثم يمتد بها حتى داخل الحجاز (1).

و هكذا يمكن القول بأن الثموديين إنما كانوا يسكنون في القرن الثاني ق. م.، و حتى نهاية القرن الثاني الميلادي في بلاد مدين، فضلا عن أننا نجدهم منذ بداية القرن الأول الميلادي في الحجاز و الجوف و وسط الجزيرة العربية، و أنهم قد بقوا في هذه المناطق حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، فاذا أضفنا إلى ذلك ما يمكن استنتاجه من المصادر الآشورية و إشارات المؤرخين العرب، لأمكن القول، أنه منذ بداية القرن الثاني الميلادي، فإن المنطقة التي سكنها الثموديون قد اتسعت تدريجيا حتى شملت بلاد العرب الشمالية و الوسطى، من الحدود السورية شمالا، إلى مسافة قريبة

ص: 274


1- خالد الدسوقي: المرجع السابق ص 269- 270

من حدود سبأ جنوبا (1) و أما المصادر العربية، فتكاد تجمع على أن ثمودا إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز و الشام (2). على أن ارتباطها بعاد (3) إنما يقتضي تقاربهما في المكان، و من ثم فقد ذهب البعض إلى أن ثمودا إنما كانت بين الشام و الحجاز، إلى ساحل البحر الحبشي (البحر الأحمر)، و ديارهم بفج الناقة، و أن بيوتهم منحوتة في الجبال، و أن رممهم كانت حتى أيامه (توفي 346 ه) باقية، و آثارهم بادية، و ذلك في طريق الحجّ لمن ورد الشام في وادي القرى (4) و على أى حال، فوفقا للنقوش الموجودة على معبد الغوافة الذي بنته قبيلة ثمود، فيما بين نهاية عام 166 م، و بداية عام 169 (5)، فإن ثمود كانت

ص: 275


1- نفس المرجع السابق ص 281- 282
2- ابن كثير 1/ 130، أبو الفداء 1/ 12، البكري 2/ 426، الطبري 1/ 226،- 227، ابن الاثير 1/ 89، تفسير المنار 8/ 501، 12/ 120، تفسير الألوسي 8/ 162، 14/ 76، تفسير البيضاوي 1/ 545، تفسير ابن كثير 4/ 171، تفسير الطبري 12/ 524، 528 (دار المعارف)، روح المعاني 30/ 124، تفسير القرطبي 10/ 46 (دار الكاتب العربي 1967)، 20/ 48 (دار الكتب المصرية 1950)، تفسير النسفي 2/ 277، تفسير الطبري 14/ 49- 50 (دار المعارف)، تفسير الجلالين 1/ 545 (نسخة على هامش البيضاوي)، تاريخ الخميس ص 84، ياقوت 2/ 221، المعارف ص 14، المحبر ص 384، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 19، 200، قصص الأنبياء ص 58- 59
3- كثيرا ما يقرن القرآن الكريم ذكر عاد بثمود، كما في التوبة و إبراهيم و الفرقان و ق و النجم و الفجر، بل ان هناك تشابها بين القصتين في الوقائع و في المصير، بل و في كثير من التعابير
4- مروج الذهب 2/ 14، نهاية الأرب 13/ 71، جواد علي 1/ 324، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 67، ميرول نافع ص 36
5- 260 .P ,1957 ,34 ,airyS ni ,gniryeS .H .M ,15 .P ,duomahT ed eriotsiH ,9 -8 P .P ,1958 ,15 ,ROIB ,nednarB ned naV ,F 127 .P ,1955 ,9 ,JEM ,naidiM fo dnaL ehT ,ybihP .B .J

في منتصف القرن الثاني الميلادي تملك حرة العوارض و حرة الرحا (1) (الأرحاء)، و إن كان «دوتي» يذهب إلى أن الحجر التي كان يسكنها الثموديون، إنما هي في موضع الخريبة (العلا)، و ليس في مدائن صالح، التي يرى أنها حجر الانباط، و التي تقع على مبعدة عشرة أميال من الخريبة (2) هذا و ليس هناك في المصادر الإسلامية ما يفيد بوجود قبائل ثمودية عند ظهور الإسلام، أو حتى قبيل ظهوره، و كل ما نعرفه هو محاولة البعض نسب «ثقيف» إلى ثمود، ربما نكاية في الحجاج الثقفي (3)، و رواية «دوتي» التي يذهب فيها إلى أن بدو «نجد» يذكرون أن قبيلة بني هلال من نسل عاد و ثمود (4).

و يروى أن رسول اللّه- صلوات اللّه و سلامه عليه- مرّ بقرية ثمود- و هو في طريقه إلى تبوك- و أنه قال لأصحابه «لا يدخلن أحد منكم القرية و لا تشربوا من مائهم» ثم أراهم مرتقي الفصيل في الجبل، و الفج الذي كانت الناقة ترد منه، و أنه- (صلى اللّه عليه و سلم)- قال لهم: لا تدخلن على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ما أصابهم (5)

ص: 276


1- 291. P, zageH nrehtroN eht, tisuM. A
2- 229. P, atreseD aibarA ni slevarT, ythguoD. M. C
3- جواد علي 1/ 326، تاريخ ابن خلدون 2/ 24، ياقوت 3/ 54، نهاية الأرب للقلقشندي ص 198، 200، و كذا 137. P, tic- po, yremogtnoM. J
4- 63. P, tic- po, ythguoD. M. C
5- ابن الاثير 1/ 93، ابن كثير 1/ 138- 139، تفسير ابن كثير 4/ 171، تاريخ الطبري 1/ 231، تفسير الطبري 12/ 524، 539، روح المعاني 8/ 168، 14/ 76، تفسير القرطبي 10/ 46- 48، تفسير المنار 8/ 503، صحيح البخارى 6/ 270، 8/ 95، صحيح مسلم 18/ 111 تفسير الطبري 14/ 50
[3] ثمود في القرآن الكريم

تحدث القرآن الكريم في كثير من سوره عن قوم ثمود (1)، هذا إلى جانب أن كثيرا ما يقرن الله في كتابه العزيز بين ذكر عاد و ثمود، كما في سورة التوبة و إبراهيم و الفرقان و ص و ق و النجم و الفجر (2)- كما أشرنا من قبل- و في كل هذه الآيات الكريمة نرى قوم ثمود (3) يعبدون آلهة غير اللّه، و يعيثون في الأرض فسادا، و ينحتون من الجبال بيوتا فارهين، فأرسل اللّه إليهم أخاهم صالحا، يدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهار، و ينهاهم عن عبادة الأوثان، و ينذرهم عذاب يوم عظيم، لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل (4).

و نجح صالح عليه السلام في دعوته مع نفر قليل من قومه، إلا أن الغالبية العظمى منهم قد كفروا برسالته، و عتوا في طغيانهم عتوا كبيرا، و طلبوا منه أن يجي ء بآية، إن كان من الصادقين، فقال لهم:

«هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)».

غير أن النفوس العاتية التي لا تسمع موعظة، و لا تقبل نصيحة،

ص: 277


1- سورة الأعراف (73- 79) و هود (61- 68) و الحجر (80- 84) و الاسراء (59) و الشعراء (141- 159) و النمل (45- 53) و ص (13) و فصلت (17- 18) و الذاريات (43- 45) و النجم (50- 51) و القمر (23- 32) (4- 5) و الفجر (9) و الشمس (11- 15)
2- ابن كثير 1/ 132، و انظر: التوبة (70) و إبراهيم (9) و الفرقان (38) و ق (12- 13) و النجم (50- 51) و الفجر (6- 9)
3- هناك خلاف في النسبة إلى ثمود، فهي إما إلى جد القبيلة ثمود، و إما لقلة مائهم، فهو من ثمد الماء إذا قلّ، و الثمد الماء القليل (تفسير روح المعاني 8/ 162، تفسير المنار 8/ 501)
4- سورة النساء: آية 165
5- سورة الأعراف: آية 73

و التي قد أعماها حب التمرد و الطغيان، و أصم آذانها عن قبول دعوة اللّه، قد أبت إلا الإجرام، فاقدموا على عقر الناقة بغيّا و عتوا (1)، «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» (2)، و هكذا هلك الكافرون بصالح، إلا رجلا واحدا- دعوه أبا رغال- كان في حرم اللّه، فمنعه حرم اللّه من عذاب اللّه (3)، و إن أضافت رواية أخرى، أنه ما أن خرج من الحرم حتى أصابه ما أصاب قومه (4).

هذه عجالة نلخص بها قصة ثمود- كما اوردها ربي جل جلاله في القرآن الكريم- إلا أن المؤرخين و المفسرين قد اضافوا إليها كثيرا من أخبار تتعلق بمصير الذين آمنوا مع صالح، عليه السلام، فذهب فريق إلى أنهم إنما سكنوا ناحية الرفلة من فلسطين، لأنها أقرب بلاد الخصب إليهم، و العربي إنما يطلب الكلأ لرعي ماشيته، و الأرض ذات الماء، و ذهب فريق آخر إلى أنهم إنما سكنوا مكة، و أن صالحا إنما توفي بها، و هو ابن ثمان و خمسين سنة، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن موطن المؤمنين الجديد، إنما كان في حضرموت، بل و زعم هذا الفريق أن قبر النبي الكريم هناك كذلك (5).

و هناك من يرى أن ثمودا، إنما أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران براكين، أو من هزات أرضية، معتمدا في ذلك على ما ورد في القرآن

ص: 278


1- محمد علي الصابوني: المرجع السابق ص 245، تفسير الطبري 12/ 528- 534 (دار المعارف)، مروج الذهب 2/ 15- 18
2- سورة الأعراف: آية 77- 78
3- تفسير الطبري 12/ 68- 14/ 50
4- تفسير المنار 8/ 505- 506، تفسير الطبري 12/ 538، البداية و النهاية 1/ 137
5- تفسير الطبري 12/ 536، روح المعاني 8/ 162، 168، المقدس 3/ 41، مبروك نافع: المرجع السابق ص 36، تاريخ الطبري 1/ 232

الكريم من كلمات «رجفة» و «صيحة»، و ربما كان الأمر كذلك، فمنطقة إقامتهم، إنما هي واحدة من مناطق الحرار في شبه الجزيرة العربية (1).

و لعل مصير عاد و ثمود، كثيرا ما يشبه مصير سدوم و عمورة، و بقية مدن الدائرة الخمس في عمق السديم (2)، و التي تقع- فيما يرى علماء التوراة- في جنوب البحر الميت، ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى قد أرسل على هذه المدن كبريتا و نارا، و أنه جعل عاليها سافلها (3)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (4)»، فإذا ما تذكرنا أن سكان هذه المدن هم قوم (5) لوط- عليه السلام- سهل علينا أن نفهم السبب في أن اللّه، جل و علا، قد ربط بين هذه الأقوام جميعا في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه و تعالى «وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (6)

ص: 279


1- انظر: تفسير المنار 8/ 506- 507، روح المعاني 8/ 165، 12/ 92، 14/ 76، تفسير الطبري 12/ 544- 546 و كذا 736 P ,I ,malsI fo ycnE 91 .P ,tic -po ,yremogtnoM .A .J 734 .P ,tic -po ,sgnitsaH .J
2- جواد علي 1/ 332، قاموس الكتاب المقدس 1/ 551، 2/ 119، 300، و كذا 91 .P ,tic -po ,yremogtnoM .A .J 734 .P ,tic -po ,sgnitsaH .J 3790 .P ,1899 ,I ,BE 28 .P ,1923 ,neibarA ,ztiroM .B
3- تكوين 19: 23- 26
4- سورة الحجر: آية 73- 74
5- جاء ذكر قوم لوط في سورة كثيرة من القرآن الكريم (أنظر: الاعراف (80- 84) و هود (77- 83) و الحجر (61- 75) و الشعراء (160- 175) و النمل (54- 58) و التحريم (10)، ثم أنظر القصة في: تاريخ الطبري 1/ 292- 307، ابن الأثير 1/ 118- 122، ابن كثير 1/ 175- 183، مروج الذهب 1/ 57- 58، اليعقوبي 1/ 25- 26، قصص الأنبياء للنجار: ص 112- 118، قصص الأنبياء للثعالبي ص 103 و ما بعدها.
6- سورة ص: آية 13

هذا و يرى «دي برسيفال» أن هناك ثمة تقارب بين الثموديين، و بين الحوريين (1) سكان بلاد سعير، حتى برية فاران، و أن الخلط في الأخبار بينهما، يرجع إلى أن الثموديين، إنما كانوا يسكنون في مجاورات الحوريين (2).

[4] عصر قوم صالح عليه السلام

يتجه بعض المؤرخين الاسلاميين إلى أن عصر صالح عليه السلام، إنما كان على أيام إبراهيم عليه السلام، و أن الفترة بين هلاك عاد و هلاك ثمود كانت خمسمائة عام (3)، غير أن هناك من يرى أن عادا إنما هلكوا بعد عهد إبراهيم الخليل و بناء الكعبة، و قبل زمن موسى عليه السلام (4)، و إذا كان صحيحا ما ذهبنا إليه في كتابنا إسرائيل- و سبق أن اشرنا إليه هنا- من أن إبراهيم الخليل قد عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م.)، و أن

ص: 280


1- اختلف المؤرخون في الحوريين، فمنهم من يرى أنهم شعب ما زال أصله مجهولا، و من يرى أنهم شعب هندو أوربي، و لكنهم يجمعون على أنهم جاءوا من المرتفعات الواقعة بين بحيرة أورمية و جبال زاجروس، و قد غزوا شمال بلاد النهرين و سورية الشمالية، ثم كانوا مملكة «ميتاني» التي امتد سلطانها من مرتفعات ميديا إلى البحر المتوسط، و كانت عاصمتها «واشوكاني» التي يظن أنها مكان «الفخارية» على الخابور شرق تل حلف و حاران، و قد عرفت في النصوص المصرية باسم «تهارينا»)، ثم انتشر الحوريون في سورية المخفضة الخصيبة، و وصلوا الى فلسطين فنزلوا البقاع الواسعة بين نهر الحسا و خليج العقبة، و قد بلغ انتشارهم في بلاد الشام درجة دعت المصريين إلى أن يطلقوا اسم «خورو» (خارو) على بلاد كنعان، و يبدو أنهم هم الحوريين حكام شكيم على أيام يعقوب (أنظر كتابنا إسرائيل ص 354- 355؛ فيليب حتى: المرجع السابق ص 161- 165)
2- عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص 95- 96، و كذا 26 .P ,1847 ,siraP ,sebarA sed eriotsiH'l ruS ,iassE ,lavecreP ed nissuaC
3- الدينوري: الأخبار الطوال ص 7
4- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 50، 59

موسى قد خرج باليهود من مصر، حوالى عام 1216 ق. م.، أو عام 1214 ق. م.، (أي في القرن الثالث عشر ق. م.) (1)، فإن صالحا- طبقا لهذا الرأي- قد عاش فيما بين القرن الثامن عشر ق. م.، و القرن الثالث عشر ق. م.، غير أن صاحب هذا الرأي نفسه- الاستاذ النجار- لا يستبعد أن يكون قوم عاد أقدم من قوم إبراهيم، و أن قوم ثمود كانوا يتلون قوم عاد في الوجود و الظهور (2)- الأمر الذي سبق ان ناقشناه هنا من قبل- و خرجنا منه أن هناك آيات كريمة يسبق فيها الثموديون قوم عاد (3)، و أخرى تسبق فيها قصة موسى قصة إبراهيم، ثم تأتي قصة نوح فقصة هود و صالح و لوط و شعيب (4).

أضف إلى هذا كله، أننا لا نملك أدلة علمية مؤكدة نستطيع ان نستند إليها في التأريخ لقوم ثمود، و من ثم فإننا يمكننا القول- حدسا عن غير يقين- ان الثموديين- بصفة عامة- ربما كانوا يشغلون صفحات في التاريخ، منذ أوائل الألف الاول ق. م.، و أنهم استمروا كذلك حتى القرن الخامس الميلادي، نقول منذ الألف الأول قبل الميلاد، لأن لدينا كتابات آشورية تتحدث عن الثموديين صراحة منذ القرن الثامن ق. م.-

و بالتحديد منذ عهد سرجون الآشوري (722- 705 ق. م.) (5)- NA

ص: 281


1- راجع التأريخ لعصر إبراهيم، و كذا الآراء المختلفة التي دارت حول تاريخ خروج اليهود من مصر في «كتابنا اسرائيل» ص 171- 177، ص 268- 303.
2- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 48
3- انظر: سورة ق: آية 12- 13
4- انظر: سورة الشعراء، حيث تسبق قصة موسى (10- 68) قصة إبراهيم (69- 89) ثم تأتي بعد ذلك قصة نوح (105- 121) فقصة هود (124- 140) ثم قصة صالح (141- 159) فقصة لوط (160- 175) فقصة شعيب (176- 191)
5- 286. P, TENA

و بدهي أن هؤلاء الذين حاربوا العاهل الآشوري لم يظهروا فجأة في التاريخ، و إنما لهم أسلاف عاشوا قبل ذلك بقرون لا ندري مداها على وجه التحقيق، و نقول القرن الخامس الميلادي، لأن لدينا نقشا يرجع إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي (و بالتحديد إلى عام 267 م) (1)، و بدهي- مرة أخرى- كما أنهم لم يبدءوا فجأة، فإنهم لم يختفوا فجأة كذلك، و من هنا قلنا إنهم استمروا حتى القرن الخامس الميلادي، بل أن هناك ما يدل على أنهم كانوا في ذلك القرن فرسانا في جيش الروم، و أنهم كانوا يعسكرون في مصر، و كذا في فلسطين (2).

[5] النقوش الثمودية

لقد عثر الاثريون على نقوش ثمودية في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية، تمتد من الجوف شمالا، إلى الطائف جنوبا، و من الأحساء شرقا إلى يثرب فأرض مدين غربا، و في المسالك المؤدية إلى العقبة و الاردن و سورية، و حتى في ارض حضرموت من جنوب الجزيرة العربية، و أن ذلك- كما يقول الاستاذ شرف الدين- لدليل حي على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال الجزيرة العربية، و لهذا فإن القرآن الكريم ذكر الثموديين في أكثر من آية دون غيرهم من شعوب المنطقة ممن كانوا أكثر منهم قوة، سواء في مجال المدنية أو التجارة كالديدانيين و اللحيانيين و الأنباط، و هو إن دل على شي ء فإنما يدل على توافق تام و تطابق محكم بين نصوص القرآن الكريم و معلومات

ص: 282


1- 410. P, 1950, senneeduomahT snoitpircsnI seL, nednarB ned naV. A
2- 28 .P ,tic -po ,regnerpS .A 2390 -2387 .loC ,akaraS elcitra ,2 .AI ,awossiW -yluaP ed eidepolcycnE 229 .P ,tic -po ,ythguoD .M .C

النقوش (1)، و إن كنت أميل إلى أن ذكر القرآن الكريم لقوم ثمود في اكثر من أية، ليس بسبب أنهم السكان الاصليون لشمال بلاد العرب، و إنما بسبب نبي اللّه صالح و دعوته التي ما آمن بها إلا نفر قليل من ثمود، و من ثم فالغرض من الذكر هنا، إنما هو العظة و العبرة، بقوم كفروا بربهم، و أنكروا دعوة نبيهم، فكان جزاؤهم العقاب الشديد، و ليس أدل على ذلك من أن قوم ثمود- كما يرى صاحب الرأي نفسه- لم يبلغوا في ميزان القوة أو المدنية، أو حتى التجارة- ما بلغه آخرون من نفس المنطقة، كما أن الثموديين- كما أشرنا من قبل- لم يستطيعوا تكوين مملكة بالمفهوم الحضاري في يوم من الأيام، بل إنهم حتى فشلوا في أن يفرضوا سلطتهم الإدارية على المناطق التي وقعت تحت سلطتهم يوما ما، لسبب او لآخر.

و على أي حال، فإن نقوشا ثمودية كثيرة جاءت إلينا من شمال شبه الجزيرة العربية، من تبوك و تيماء و العلا و مدائن صالح و لقط و جبل مرير، و من المدينة المنورة و وادي الأب- الذي يبعد عنها بحوالي 70 كم- و من مكة المكرمة و الطائف و ريع الزلالة في الطريق بينهما، و من السواحل الحجازية الشمالية للبحر الأحمر عند الوجه (2)، و أما في وسط الجزيرة العربية، فقد عثر على نقوش ثمودية في حائل و سدير و القصيم و فارينا في ضواحي الرياض (3)، أما في جنوب الجزيرة العربية، فقد جاءتنا نقوش ثمودية من اليمن و قرب عدن و من حجر المعقاب عند جبل خليل، و من طريق النجور بين حضرموت و مكة، و من منطقة شواديف في اليمن

ص: 283


1- احمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الاسلام ص 61
2- جواد علي 1/ 329، خالد الدسوقي: المرجع السابق ص 274- 275 1904 ,netfirhcsnI rehcsinedumahT gnureffiztnE ,emmirG .H ,4 -1 ,tic -po ,cangevaS -nesuaJ 104 .P ,djeN nrehtroN ,lisuM .A 736 .P ,4 ,malsI fo ycnE fo .ycnE
3- 303 -289 .P .P ,5 ' ,.rgoeG .coS .lluB 1882 -1878 ,elartneC cibarA'L snad seillieuceR snoitpircsnI ,rebuH .C

الجنوبية (1).

هذا و تشير النقوش الثمودية إلى الحياة المستقرة التي كان يحياها القوم، و من ثم فقد رأينا رسما يصور لنا عملية حرث الأرض، و هو عمل كثيرا ما تتحدث عنه النقوش، كما كان البعض يوصف بأنه «اكّار» أي فلاح كما وردت كلمة «عيّان» بمعنى سكة المحراث، و كل تلك ألفاظ تشير إلى مهنة الزراعة، أضف إلى ذلك أن الإسم «رال» الذي يعني قش، إنما يدل على زراعة أنواع مختلفة من الحبوب، و الأمر كذلك إلى لفظة «زرأ» بمعنى بذر (2).

و هناك ما يشير إلى أن القوم قد عرفوا زراعة العنب، بدليل وجود الإسم «عنّاب» أي تاجر العنب، و لعل هذا يجعلنا نميل إلى يجعلنا نميل إلى أن الرأي القائل بأن زراعة الكروم لم تعرف في بلاد العرب، إلا في القرن الرابع الميلادي، إنما هو بعيد عن الصواب إلى حد كبير (3).

هذا و تشير الرسوم المتعددة لشجرة النخيل إلى أن ثمارها ربما كانت الغذاء الرئيسي للثموديين (4)، و على أي حال فلا شك في أن شجرة النخيل إنما هي ملكة عالم النبات في شبه الجزيرة العربية، و رغم تدهور قيمة التمور في السنوات الأخيرة، فهذا لا يجعلنا ننسى أن ثمار النخيل إنما كانت إداما للعرب، و طبا يستطبون به لمعالجة عدد من الأمراض،

ص: 284


1- خليل يحيى نامي: نشر نقوش سامية من جنوب بلاد العرب و شرحها- القاهرة 1943 ص 109، جواد علي 1/ 329 1956 ,niavuoL ,yblihP ed sneeduomahT setxeT seL ,nednarB ned naV .A 441 .P ,1939 ,nodnoL ,srethguaD s'abehS ,yblihP .B .J 189 -177 .P .P ,1959 ,72 ,noesuM eL ,lanoirtnetpeS nemaY ud sneeduomahT setiffarG ,snamkcyR .J
2- خالد الدسوقي: المرجع السابق ص 291 و كذا 590. P, senneeduomahT snoitpircsnI sel, nednarB ned naV
3- خالد الدسوقي: المرجع السابق ص 291، فيليب حتى: المرجع السابق ص 23
4- نفس المرجع السابق ص 22- 23

و مادة يستخرجون منها دبسا و خمرا و شرابا (1)، بل لقد ذهبوا إلى أكثر من ذلك، حين حلوا بها مشكلة الصراع بين الحرارة و الملوحة، ذلك أن الاشعاع الشمسي الهائل يرفع البخر إلى درجة تهدد الموارد الباطنية بالنفاد وسط التربة الزراعية بالاستملاح المتزايد، و لهذا لجأ القوم إلى النخيل، لا كغذاء فقط، و أنما لتستظل به الزراعة (2)، و على أي حال، فإن ملكة الأشجار العربية هذه، غير عربية الأصل، نقلت إلى شبه الجزيرة من الشمال، من بابل، حيث كانت شجرة النخيل أعظم العوامل التي جذبت الإنسان القديم إلى التوطن هناك (3).

و هناك ما يشير إلى ان الثموديين قد عرفوا زراعة القطن كذلك، بدليل وجود الإسم «برس» أي شعر القطن، و الإسم «هلق» أي حلاج القطن، الذي يشير الى صناعته كذلك، كما أن هناك ما يشير كذلك إلى معرفة القوم لزراعة البصل و البخور و الورود (4).

هذا و لم تقتصر النقوش الثمودية على بلاد العرب، و إنما وجدت كذلك في سيناء و في دلتا مصر و في وادي الحمامات بين القصير و قفط، و في الصفا شرق دمشق و في شمال غرب تدمر و في صيدا و جبل الرام و أم الرصص قرب ديبان في شرق الاردن، و في النقب (5). و لعل من الأهمية

ص: 285


1- جواد علي 1/ 207
2- جمال حمدان: أنماط من البيئات ص 95- 96
3- لاويون 23: 40، فحميا 18: 15، مكابيين أول 13: 51 و كذا 675. P, tic- po, sgnitsaH. J
4- خالد الدسوقي: قوم ثمود بين روايات المؤرخين و محتويات النقوش- مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس- 1976 ص 292 10 ,5 .P .P ,1938 ,nodnoL ,tpygE reppu nrehtuoS fo sgniwarD .kcoR ,relkcniW .A .H 278 -245 .PP ,1935 ,44 ,lbiB .veR ,mmaR ed elpmeT el ,dleihsroH .S 95 ,6 .PP ,afaS dnudumahT ,nnamttiL .E 54 .P ,seitiC etilearsI dna soskyH ,eirteP .M .W 1952 ,nadroJ eht fo modgniK etimhsaH morF snoitpircsnI cidumahT emoS ,gnidraH .G 288 -285 .P .P ,65 ,noesuM el ,atleD eliN eht morF snoitpircsnI cidumahT eerhT ,eladsneK .N .E
5- جواد علي 1/ 207

بمكان الإشارة إلى ان هذه النقوش الثمودية- في غالبيتها- من ذلك النوع القصير الذي يكتب في مناسبات شخصية مختلفة (1)، كما أنها ليست ذات فائدة تاريخية كبيرة، و ان كان بعضها يدلنا على علاقات من نوع ما بين الثموديين و الأنباط و غيرهم، فضلا عما تفيده من الناحية اللغوية، و في معرفة أسماء الثموديين و لهجاتهم، بخاصة إذا علمنا أنها كتابة متطورة من خط المسند، و إن الدكتور الأنصاري يرى أن نطلق على الخط الثمودي «خط البادية»، لأنه كثيرا ما يكون من ذلك النوع الذي يسمى «مخربشات»، و ليس من الكتابات المنمقة، التي وجدت بكثرة في كتابات السيئيين و المعينيين و القتبانيين و الحضارمة و الحميريين، و بعض كتابات الديدانيين و اللحيانيين في منطقة العلا و مدائن صالح (2).

[6] المجتمع الثمودي

تدلنا الكتابات الثمودية على أن أصحابها إنما كانوا- في معظمهم- يعرفون القراءة و الكتابة إلى حد ما، و قد سميت إحدى النساء «سحف» أي التي تخطئ عند القراءة، كما أن هناك نصا يعرف منه أن فتاة صغيرة كتبت اسمها على الصخر، بينما كان والدها يراقبها عن قرب، فضلا عن أن هناك من احترف مهنة الكتابة، بدليل وجود الإسم «كتب» أي كاتب (3)، هذا و قد كان القوم زراعا، أقرب إلى الحضر منهم إلى أهل الوبر، و أن لهم مواطن استقرار و معابد، و أن من بينهم من اشتغلوا بالتجارة فضلا عن الصيد الذي مارسه الثموديون سكان مدين بصفة خاصة، و قد عثر على ثلاث رسومات في الجبال الداخلية لسفن كان

ص: 286


1- جواد على 1/ 329 و كذا 1956, niavuoL, senneeduomahT snoitpircsnI seL. nednarB ned naV
2- عبد الرحمن الانصاري: المرجع السابق ص 89
3- F 57. P, duomahT ed eriotsiH, nednarB ned naV

يستعملها القوم في صيد الأسماك، و لعل من المفيد هنا الإشارة إلى أنه قد عثر على سفن من نفس الطراز في صخور وادي الحمامات في صحراء مصر الشرقية، بجوار بعض النقوش الثمودية، الأمر الذي يحمل على الظن بأنها مراكب استعملها القوم في عبور البحر الأحمر (1)، و إن كان هذا لا يمنع من القول بأن فريقا من المجتمع الثمودي، إنما كان بدوا رحلا، و من بينهم من كان يعمل في تجارة القوافل، أو من أهل «أهل العير» على حد تعبير النقوش (2).

و تصور النقوش الثمودية رجالا ذوي قامة عادية، و يبدو أنهم كانوا من العنصر ذوي الرءوس المستطيلة- مثلهم في ذلك مثل سكان بلاد العرب الشمالية، و كان الرجال ذوي شعور قصيرة، و يلبسون ازارا و حزاما في الوسط، و الرأس عادة عارية، و إن كان الرجال- في بعض الأحيان- يلبسون غطاء رأس من القش، كما أن هناك من يلبس ثوبا، و على رأسه عمامة، و من يرتدي قميصا ينزل حتى الركبة، أما النساء فكانت شعورهن طويلة، هذا و هناك بعض المناظر التي تبدو فيها المرأة و قد حملت سلة فوق رأسها، و ارتدت توبا طويلا ينزل حتى العرقوب، و ارتدت خمارا، هذا و تدل مناظر النساء على أن المرأة الثمودية إنما كانت شديدة الرغبة في التزين بالحلي و الأساور، فضلا عن العقود التي كانت على هيئة الهلال أو الجعل، حتى أن المرأة التي لم تكن ترتدي حليا في جيدها إنما تسمى «آتل»، أضف إلى أن استعمال الدهون كان شائعا بينهن (3).

ص: 287


1- IVXXX .LP ,1909 ,35 ABSP ,tcirtsiD yabtE ni snoitpircsnI emoS setoN ,neerG .M .F 9 -275 .PP 1956 ,ybilihP ed ,sneeduomahT setxeT seL ,F 40 .P ,tic -po ,nednarB ned naV
2- F 42. P, duomahT ed eriotsiH, nednarB nednaV
3- 268 ,164 -156 .P .P ,yblihP ed ,sneeduomahT setxeT seL ,nednarB ned naV

و أما معبودات الثموديين- طبقا لروايات نصوصهم- فلعل أهمها «صلم mlaS»، و قد رمزوا له برأس الثور، و كانت «تيماء»، حوالى عام 600 ق. م.، من أهم مراكز عبادته، هذا فضلا عن معبودات أخرى، منها «ود»- و هو أحد المعبودات العربية القديمة- و منها «حدد- هدد» و شمس و مناة و كاهل و بعل و بعلة و يهو و رضو و عثيرة و هبل و يغوث و سين و غيرها، كما كان لهذه المعبودات سدنة يخدمونها، يعرف الواحد منهم باسم «قسو» أي «قس» (1).

بقي أن نشير إلى أن هذه الكتابات الثمودية، إنما يرجع بعضها إلى القرن السابع قبل الميلاد، بينما يرجع البعض الآخر منها إلى ما بعد الميلاد- أي إلى عام 267 م (2)- و من هنا فقد ورد في بعضها (و هو النص رقم 476) ذكر للسيد المسيح عليه السلام، إننا لا نعرف تاريخ هذا النص على وجه التحديد، فإنه- فيما يرى ليتمان- أقدم دليل على انتشار المسيحية في شمال شبه الجزيرة العربية (3).

ص: 288


1- جواد على 1/ 329- 331 و كذا 146 ,14 .P .P ,tic -po ,nesuahleW .J 10 .P ,tic -po ,nednarB ned naV .A
2- 1950 ,IX .loV .dlroW milsuM eht ni ,snoitpircsnI cibarA cimalsI -erP ni suseJ ,nnamttiL onnE 1891 ,eibarA'l ed droN el snad sillieuceR seuqihpargipE stnemucoD ,ythguoD .M .C
3- 51 -47 .PP .2 -1 .1950 .IIIXL ,noesuM el ,senne eduomahT snoitpircsnI enu ,nednarB ned naV

الفصل الثّامن المديانيون قوم شعيب

[1] قصة مدين في القرآن الكريم

ص: 289

ص: 290

تحدث القرآن الكريم عن أهل مدين، و عن نبيهم الكريم، شعيب عليه السلام، في مواطن متفرقة من سورة (1)، و وفقا لما جاء في القرآن الكريم، فإن شعيبا أتى مدين (2) أو أصحاب الأيكة، فنهاهم عن عبادة الأوثان، كما أمرهم أن يقيموا الوزن بالقسط و لا يخسروا الميزان (3).

و يروى عن ابن عباس أن الايكة المذكورة في القرآن، إنما كان يسكنها قوم شعيب، و أنها إنما تقع من مدين (4) إلى «شغب» و «بدا»، أو أنها من ساحل البحر إلى مدين، و كان شجرهم المقل (الدوم) (5)، و أسفل أرض مدين- حتى وقتنا الحالي- فإن الوادي فيما بين البدع و ساحل البحر تغطيه الأحراش الكثيفة التي يتميز من بينها نخيل الدوم، و لكن الطريق من مدين إلى بدا يمر خلال واحات عدة غزيرة المياه تملؤها الخضرة، و كانت

ص: 291


1- أنظر: سورة الأعراف (85- 93) و التوبة (70) و هود (84- 95) و الحجر (78- 79) و الحج (44) و الشعراء (176- 191) و القصص (22، 25، 45) و العنكبوت (36- 37) و ق (14) و غيرها
2- اختلف المفسرون في اسم مدين، فذهب البعض إلى أنه اسم رجل في الأصل، ثم كانت له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم و قيس و غيرهما، و ذهب آخرون إلى أنه اسم ماء نسب القوم إليه، و الأول أصح، لأن اللّه أضاف الماء إلى مدين في قوله تعالى «وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ»، و لو كان اسما للماء لكانت الاضافة غير صحيحة أو غير حقيقية، و الأصل في الإضافة التغاير حقيقة (تفسير الفخر الرازي 25/ 64)، ياقوت 5/ 77- 78)
3- أنظر: الاعراف (85) و هود (84- 85) و الشعراء (181- 183)
4- يقول ياقوت في معجمه أنها تقع على بحر القلزم محازية لتبوك، و بها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لسائمة شعيب (ياقوت 5/ 77- 78)، البكري 4/ 1201)
5- ياقوت 1/ 291، 2/ 14، البكري (1/ 215- 216، تفسير ابن كثير 4/ 170، تفسير البيضاوي 1/ 545، تفسير الطبري 14/ 48- 49، تاج العروس 7/ 104 (طبعة بولاق 1307/ 1308)

هذه الواحات تابعة لأهل مدين، و هناك نص طريف لابن منظور في «لسان العرب» عن سبب تسميتها بالأيكة، و هو أن لفظ الأيكة يعني الشجر الملتف أو الغيضة، كما يعني كذلك اسم «ليكة» و هي البلد حولها (1)، أو هي بلدة كانوا يسكنونها، و إطلاقها على ما ذكر، إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه، ثم غلب عليه حتى صار علما (2)، و على أي حال، فإن «ليكة» تذكرنا بالكلمة اليونانية «ekueL» و معناها الأبيض، و الجزء من أطلال مدين الواقع على حافة الغيضة لا زال يعرف بالحوراء، و هو يعني كذلك البياض (3).

على أن هناك من يرى أن أصحاب الأيكة غير مدين، بدليل وصف «شعيب» في الآية (85) من سورة الأعراف، بأنه أخو مدين، و عدم وصفه بذلك في الآيتين (176، 177) من سورة الشعراء، و بدليل الحديث الذي رواه ابن عساكر مرفوعا إلى عبد اللّه بن عمرو بن العاص من «أن مدين و أصحاب الأيكة أمتان بعث اللّه إليهما شعيبا النبي عليه السلام» و أن شعيبا إنما أرسل إلى قومه أهل مدين، و كذا أصحاب الأيكة، و أنه كان ينذرهم متنقلا بينهم في زمن واحد، و من ثم فربما كان عقابها واحدا في زمن واحد أو في وقتين متقاربين، أهل مدين بالرجفة و الصيحة المصاحبة لها، و أصحاب الأيكة بالسموم و شدة الحر الذي انتهى بظلة من السحاب فزعوا إليها يتبردون بظلها فأطبقت عليهم، حتى اختنقوا بها أجمعين (4)، هكذا يروي السدي و عكرمة «ما بعث اللّه تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا»، مرة إلى مدين، فأخذهم

ص: 292


1- لسان العرب 12/ 274 (طبعة بولاق 1300 (1307)، شمال الحجاز ص 72
2- روح المعاني 14/ 75
3- شمال الحجاز ص 72
4- تفسير المنار 9/ 11- 12

اللّه تعالى بالصيحة، و مرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم اللّه تعالى بعذاب يوم الظلة (1)، و أخيرا فهناك فريق ثالث زعم أن شعيبا إنما أرسل إلى أمم ثلاث، حيث أضافوا إلى أهل مدين و أصحاب الأيكة، أصحاب الرس (2).

و الرأي عندي أن الأمر غير ذلك تماما، لأسباب كثيرة، منها (أولا) أن الأنبياء إنما تبعث في أقوامها، لأن القوم سيكونون أفهم لقول النبي من قول غيره، و أعرف بحاله في صدقه و أمانته و شرف أصله (3)، و منها (ثانيا) لمعرفة النبي بلسان قومه، تصديقا لقوله تعالى «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (4)، و منها (ثالثا) أن ما جاء في سورة الشعراء من وصف لأصحاب الأيكة (5)، إنما يتفق و ما جاء في غيرها من وصف لأهل مدين، مما يدل على أن أهل مدين، إنما هم أنفسهم أصحاب الأيكة (6)، و منها (رابعا) أن أنواع العقاب التي أنزلها اللّه سبحانه و تعالى بالقوم، لا تعني أنهم أقوام عدة، و إنما تعني أن اللّه قد أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها، ففي سورة الأعراف رجف القوم نبي اللّه و أصحابه و توعدوهم بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم، فقال تعالى «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» (7)، فقابل الإرجاف بالرجفة، و أما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة

ص: 293


1- تفسير روح المعاني 8/ 175، 9/ 6، و أنظر 14/ 75
2- تفسير روح المعاني 8/ 176
3- تفسير روح المعاني 8/ 154
4- سورة إبراهيم: آية 4
5- سورة الشعراء: آية 176- 191
6- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 272
7- سورة الأعراف: آية 91

فأصبحوا في ديارهم جاثمين (1)، و ذلك لأنهم قالوا لنبي اللّه على سبيل التهكم و الاستهزاء «أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» (2)، فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن قول ما قالوا، و من ثم فقد جاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم، و أما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، و كان ذلك إجابة لما طلبوا، حيث قالوا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (3)، و من ثم يقول سبحانه و تعالى:

«فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (4).

و منها (خامسا) أن وصف شعيب في سورة الأعراف بأنه أخو مدين، و عدم وصفه بذلك في سورة الشعراء عند الحديث عن أصحاب الأيكة، فالرأي عند ابن كثير أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله تعالى «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» (5)، لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هنا، و حين نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم، و منها (سادسا) أن الحديث الذي رواه ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب، مرفوعا إلى عبد اللّه بن عمرو، من أن مدين و أصحاب الأيكة أمتان بعث اللّه إليهما شعيبا النبي، إنما هو حديث غريب، و في رجاله من تكلم فيه، و ربما كان من كلام عبد اللّه بن عمرو من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك، و فيهما أخبار بني إسرائيل (6).

و منها (سابعا) أن نبي أصحاب الرس إنما هو- طبقا لروايات

ص: 294


1- أنظر الآية 94 من سورة هود
2- سورة: هود: آية 87
3- سورة الشعراء: آية 187
4- سورة الشعراء: آية 189
5- سورة الشعراء: آية 176
6- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 189- 191

الأخباريين- «حنظلة بن صفوان» (1)، فضلا عن أن الآيات الكريمة (12- 14) من سورة «ق» إنما تؤكد أنهما أمتان مختلفتان، و ذلك حيث يقول سبحانه و تعالى «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ، وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ، وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ».

و على أي حال، فلقد كان ذكر قصة شعيب مع قومه من الميديانيين في القرآن الكريم، سببا في أن يهتم المفسرون بالنبي الكريم و بقومه، إلا أنهم بالغوا في الأمر أحيانا، و ابتكروا أشياء من عندهم في أحايين أخرى، و من ثم فقد أصبح شعيب عندهم، هو «شعيب بن ميكيل بن يشجن أو يشجر بن مدين بن إبراهيم» مرة، و هو «شعيب بن نويب أو نويت بن عيفا بن مدين بن إبراهيم» مرة أخرى (2) و هو «شعيب بن نوبت أو نويل بن رعويل، بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم» مرة ثالثة (3)، و هو «يثرون بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم» مرة رابعة (4)، و هكذا يختلف المفسرون و المؤرخون

ص: 295


1- يروي الأخباريون أن أصحاب الرس من ولد إسماعيل- و كذا نبيهم حنظلة بن صفوان- و أنهما قبيلتان، يقال لإحداهما «أدمان» أو قدمان، و للأخرى «يامن» أو رعويل، و أنهما كانا في اليمن، و من ثم فقد زعم فريق أنهم من حمير أو من أهل عدن، و أن القوم كانوا قد قتلوا نبيهم، فسلط عليهم «بختنصر» (نبوخذ نصر 605- 562 ق. م.) بأمر من واحد من أنبياء بني إسرائيل (انظر: مروج الذهب 1/ 78، 2/ 25، ياقوت 3/ 43، البكري 2/ 652، 3/ 849، الروض الآنف 1/ 9، تاج العروس 1/ 410، اللسان 12/ 149) و ليس من شك أن هذه القصص قد اختلطت فيها الحقائق بالاساطير، و قد ناقشنا ذلك في كتابنا «بلاد العرب»
2- ابن كثير 1/ 185، روح المعاني 8/ 175، تفسير الطبري 12/ 554، مروج الذهب 1/ 61
3- مروج الذهب 2/ 128، قصص الأنبياء للثعالبي ص 115، نهاية الأرب للقلقشندي ص 416.
4- ابن الأثير 1/ 157

الإسلاميون في نسب النبي الكريم، و الغريب من الأمر، أن واحدا منهم لم يقدم لنا دليلا على أن رأيه هو الصحيح، و أن من خالفه كان على غير صواب.

هذا و قد وصل الخلاف كذلك إلى اسم النبي ذاته- و ليس نسبه فقط، و من ثم فقد رأيناه- فيما يزعم أصحابنا الأخباريون- شعيبا مرة، و لكنه مرة أخرى «يثرون» أو «يثروب» أو حتى «يثرو»، و مرة ثالثة «يزون» أو حتى «بنزون»، و هو من أبناء إبراهيم مرة، و ممن آمنوا به يوم ألقي به في النار، ثم هاجر معه إلى الشام مرة أخرى، ثم هو من أبناء بعض من آمن به مرة ثالثة، و هو حفيد لوط من جهة أمه مرة رابعة (1).

و لكن أغرب ما في الأمر، أن يصل ادعاء العلم عند البعض إلى أن يحول النبي العربي إلى يهودي، فيزعم أنه «شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب»، أو خبري بن يشجر بن لاوي بن يعقوب» (2)، و من عجب أن «لاوي بن يعقوب» هذا، ليس له ابنا يحمل اسم يشجر أو يشخر، و إنما أسماء أولاده- كما جاءت في التوراة- «جرشون و قهات و مرارى» (3)، و أخيرا، فإن البعض إنما يزعم أن النبي الكريم قد ذهب مع المؤمنين به- بعد هلاك الكافرين به- إلى مكة، حيث ماتوا هناك، و أن قبورهم غربي الكعبة (4)، و إن زعم آخرون أن النبي الكريم إنما كان على مقربة من «حطين» في موقع سماه ياقوت «خبارة»، أو «خربة مدين» فيما يزعم

ص: 296


1- ابن كثير 1/ 185، أبو الفداء 1/ 18، الطبري 1/ 325- 329، ابن الأثير 1/ 157
2- تفسير المنار 8/ 523- 524، تفسير روح المعاني 8/ 175، نهاية الأرب للقلقشندي ص 416، ابن كثير 1/ 185
3- تكوين 46: 11
4- تفسير روح المعاني 9/ 8، ابن كثير 1/ 191

آخرون (1).

و ليس من شك في أن قصة موسى- عليه السلام- وصلته بكاهن مدين- كما جاءت في التوراة (2)- لعبت أخطر الأدوار في تلوين قصة النبي العربي باللون الإسرائيلي- و لا نقول كادت أن تجعل بعضها مسخا إسرائيليا- حيث اعتمد الأخباريون على مدعي العلم ممن أسلم من يهود، فنقلوا عنهم كل ما جاءت به قرائحهم من غث و سمين، و هكذا وضعت له سلسلة من نسب، ليس لها نصيب من صواب، و أن ذلك كله لم يكن معروفا- فيما يرى البعض- في صدر الإسلام، و إنما حدث بعد فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق (3).

[2] موطن المديانيين

كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط (4)، هذا و قد كانت أرض مدين تمتد من خليج العقبة إلى مؤاب و طور سيناء (5).

و يفهم من أسفار التوراة أن مواطن المديانيين إنما كانت تقع إلى الشرق من العبرانيين، و الظاهر أن القوم قد توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، و سرعان ما اتخذوا لهم هناك مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدا طويلا حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة، و قد ذكر بطليموس موضعا يقال له «مودينا

ص: 297


1- ياقوت 3/ 299، و كذا 389. P, 4, malsI fo, ycnE
2- خروج 2: 15- 25
3- أنظر: 9 .P ,4 ,IEFF 119 .P ,1916 ,nilreB ,negnuhcusretnU ehcsinaroK ,ztivoroH .J
4- ابن كثير 1/ 184- 185، ياقوت 5/ 77- 78، 153- 154، تفسير المنار 8/ 524
5- قاموس الكتاب المقدس ص 850

anaidoM» على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء أنه موضع مدين، و هو يتفق و حدود أرض مدين المعروفة في الكتب العربية (1).

و يقول المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى» أن موسى قد فرّ الى مدينة «anaidoM» المواجهة للبحر الأحمر (2)، و هذا يدل على أن مدينة مدين إنما كانت معروفة بصفة عامة في أوائل التاريخ المسيحي، و مدينة الحوراء- مدينة أهل مدين القديمة، و تقع على مقربة من واحة البدع- لم يكن الأنباط، حتى القرن الأول قبل الميلاد، قد قاموا بعد بتحصينها و توسيعها، و لعل هذا هو السبب في أن الكتاب الذين عاشوا قبل هذه الفترة، لم يعنوا بذكرها، على الرغم من معرفتهم بالإقليم الذي كانت تقع فيه (3).

و أما «يوسبيوس» فيذكر مدينة «مديم maidaM»، و يقول أنها سميت باسم أحد أولاد إبراهيم من زوجته قطورة، و هي تقع وراء المقاطعة العربية «aibarA» في الجنوب، في بادية العرب الرحل «snecaraS» إلى الشرق من البحر الأحمر، و هكذا فان «يوسبيوس»- و كذا سان جيروم- يضعان مدينة مدين فيما وراء حدود المقاطعة العربية، التي كانت حدودها الثابتة من ناحية الجنوب تطابق دائما الحدود الشمالية لبلاد العرب السعيدة، عند السفح الجنوبي لجبل الشراة (4).

و أما لويس موسل فيرى أن أرض مدين يجب أن تكون إلى الشرق و الجنوب الشرقي من مكان العقبة الحالية المعروفة قديما باسم «إيلات»،

ص: 298


1- جواد علي 1/ 455 و كذا 27 ,7 ,iV ,vhpargoeG ,ymelotP 616 .P ,tic -po ,sgnitsaH .J 3081 .P ,tic -po ,enyehC .K .T .104 .P ,3 ,malsI fo .ycnE
2- 278. P, tic- po, lisuM- A 257, II, aigoloeahcrA, suhpesoJ
3- الويس موسل: شمال الحجاز ص 69
4- نفس المرجع السابق ص 69

فهناك كان يمر أهم طريق من طرق النقل التجاري، و كانت تحرس هذه الطرق حاميات من أهل الجنوب من بلاد العرب، و كان المركز الرئيسي لهذه الحاميات يقع في ديدان (العلا) و في معون (معان) (1).

و يظهر من التوراة أن المديانيين قد غيروا مواضعهم مرارا بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم ببني قدم و العمالقة و الكوشيين و الإسماعيليين، و يظهر أنهم استقروا في القرون الأخيرة قبل الميلاد في «anaidaM» و التي يرى «موسل»- كما أشرنا من قبل- أنها تقع في جنوب وادي العربة، و إلى شرق و جنوب شرق العقبة (2).

و لعل من المفيد هنا أن نشير إلى أمرين: الواحد يتصل بما جاء في الذكر الحكيم، من أن اللّه سبحانه و تعالى قد عاقب الذين كفروا بشعيب عليه السلام بالرجفة، «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» (3)، و هذا يعني أن هزة أرضية أو هياج حرة قد أصابهم، و هو أمر يتفق و طبيعة المنطقة، لأن أرض مدين إنما هي من مناطق الزلازل و الحرار (4).

و أما الأمر الثاني، فيتصل بالموقع الإستراتيجي لمنطقة مدين، ذلك لأنها تقع على الطريق الرئيسي للتجارة بين جنوب بلاد العرب و شمالها، عبر مكة و يثرب و الساحل الشرقي للبحر المتوسط و حول خليج العقبة الى مصر، و يبدأ هذا الطريق من عدن و قنا في بلاد اليمن، متجها نحو الشمال إلى مأرب فنجران، ثم الطائف فمكة و المدينة و خيبر فالعلا و مدائن صالح، و هنا ينفصل الطريق فيتجه فرع منه إلى تيماء صوب العراق، و أما

ص: 299


1- نفس المرجع السابق ص 83- 84
2- تكوين 25: 6، 37: 25، 28، عدد 12: 1، حبقوق 3: 7، جواد علي 1/ 456، و كذا 287. P, zageH nrehtroN ehT, lisuM. A، و في النسخة العربية ص 84.
3- سورة الأعراف: آية 91
4- جواد علي 1/ 452

الفرع الثاني فيستمر في نفس الإتجاه حتى البتراء، فغزة فبلاد الشام و مصر (1).

و هكذا كانت مدين تقع على أهم طريق من طرق النقل التجاري، و من ثم فقد كانت آفة مدين، إنما هي آفة كل المدن على مدرجة الطرق، و من ثم فقد كانت قصتها في القرآن الكريم، إنما هي قصة التجارة المحتكرة و العبث بالكيل و الميزان، و بخس الأسعار و التربص بكل منهج من مناهج الطريق، و هكذا كانت رسالة شعيب عليه السلام، رسالة خلاص من شرور الاحتكار و الخداع في البيئة التي تعرضت له بحكم موقعها من طرق التجارة و المرافق المتبادلة بين الأمم (2).

و من هنا كان التركيز في دعوة النبي الكريم على أن يقيم القوم الوزن بالقسط و لا يخسروا الميزان، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (3)، و يقول «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا

ص: 300


1- محمود طه أبو العلا: جغرافية شبه جزيرة العرب- الجزآن الثالث و الرابع ص 127، عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية- مجلة الدارة، العدد الأول، ص 78، و كذا 140 -126 .PP 1925 ,oriaC eL ,aibarA fo setuoR ralusnineP -snarT tneicnA ehT ,remA .A
2- عباس محمود العقاد: مطلع النور ص 93- 94، تفسير روح المعاني 8/ 176- 177، تفسير المنار 8/ 525- 526، تفسير الطبري 12/ 554- 555
3- سورة هود: آية 84- 85

تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (1).

[3] عصر المديانيين

يرجح بعض الباحثين ان عصر شعيب عليه السلام، إنما كان قبل عصر موسى عليه السلام، معتمدا في ذلك على أن اللّه سبحانه و تعالى قد ذكر شعيبا بعد نوح و هود و صالح و لوط، عليهم السلام، و قبل موسى (2)، كما في سورة الأعراف و يونس و هود و الحج و العنكبوت، و لكن الآيات في سورة يونس إنما تتحدث عن قصة نوح في الآيات (71- 72) ثم آية (73) و هي مجملة لا تذكر أمما بعينها، ثم تأتي بعد ذلك قصة موسى عليه السلام، أضف إلى ذلك أن الآيات الكريمة (12- 14) من سورة «ق»، إنما تذكر قوم نوح ثم أصحاب الرس فثمود، ثم عاد و فرعون و إخوان لوط، ثم يأتي أصحاب الأيكة فقوم تبع.

هذا و يجب علينا أن نلاحظ أن قصة شعيب إنما ترد بعد قصة لوط مباشرة في سورة الأعراف و هود و الحجر و الشعراء، بل إن الآية الكريمة (89) من سورة هود، إنما تصرح دون لبس أو غموض بقرب قوم شعيب من قوم لوط مكانا أو زمانا لا أستطيع القول على وجه اليقين، يقول سبحانه و تعالى «وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ، وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» (3).

و إذا ما اعتبرنا هذا القرب في الزمان، وعدنا إلى عصر الخليل عليه

ص: 301


1- سورة الشعراء: آية 176- 183، و أنظر: سورة الأعراف: آية 85، تفسير الطبري 12/ 554- 556 (دار المعارف- القاهرة 1957)
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 149
3- سورة هود: آية 89

السلام (1940- 1765 ق. م)، و تذكرنا أن قوم لوط إنما كانوا معاصرين لأبي الأنبياء- عليه الصلاة و السلام (1)- لأمكننا القول أن شعيبا و قومه إنما كانوا يعيشون بعد القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بخاصة إذا ما كان صحيحا ما ذهبت إليه نصوص التوراة من أن القوم إنما كانوا ينتسبون إلى مدين- أو حتى مديان- ولد الخليل إبراهيم من زوجته الكنعانية قطورة (2).

على أننا نستطيع أن نقول من ناحية أخرى- حدسا عن غير يقين- أن القوم إنما كانوا يعيشون في القرن الثالث عشر ق. م، إذا ما كان صحيحا ما ذهبت إليه بعض الروايات من أن «يثرون» كاهن مدين، و صهر موسى (3)، إنما هو شعيب نبي مدين العربي (4)، و ذلك لأن رحلة موسى إلى مدين بعد فراره من مصر- و كذا لقاءه مع كاهن مدين بعد قيادته للخروج من مصر- إنما تمّ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد (5).

ص: 302


1- أنظر في ذلك: سورة الحجر: آية 51- 77، سورة العنكبوت: آية 26- 35، سورة الذاريات: آية 24- 37، و انظر كذلك: تكوين 14: 1- 24، 18: 1- 33
2- تكوين 25: 1- 2، أخبار أيام أول 1: 32
3- لاحظ التناقض العجيب في التوراة بشأن صهر موسى هذا، فهو في سفر الخروج (3: 1) يثرون كاهن مديان، و هو في سفر العدد (10: 29) حوبات بن رعوئيل، بل إنه مرة ثالثة في سفر الخروج (2: 16- 18) رعوئيل نفسه، و الأمر كذلك بالنسبة إلى القبيلة التي صاهرها موسى، فهي مرة قبيلة مديانية، كما رأينا، و هي مرة أخرى- كما في سفر القضاة (1: 16) قينية، ثم يعود نفس السفر فيؤكد ذلك في (14: 11) و ذلك في ثنايا قصة دبورة حين تتعرض لنسب «حابر القيني» فتقرر أنه من بني حوباب حمى موسى، و من ثم فربما كان بنو القينى فرعا من المديانيين (انظر كتابنا إسرائيل ص 100- 101 و كذا), sgnltsaH. J 616. P, tic- po و كذا 3080. P, BE
4- انظر: ياقوت 5/ 77- 78، البكري 4/ 1201، مروج الذهب 1/ 61، ابن خلدون 2/ 43، 82، عباس العقاد: «الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان و العبريين ص 80
5- أنظر كتابنا إسرائيل ص 268- 303 عن تاريخ الخروج و الآراء التي دارت حوله
[4] المديانيون و بنو اسرائيل

تنسب التوراة المديانيين إلى الخليل عليه السلام- كما أشرنا من قبل- و من ثم فهم أبناء عمومة للعرب و الإسرائيليين سواء بسواء، فالكل أبناء إبراهيم، و إن اختلفت الأمهات، فالعرب أبناء إسماعيل ولد إبراهيم من هاجر، و الإسرائيليون أبناء إسحاق ولد إبراهيم من سارة، و المديانيون أبناء مديان ولد إبراهيم من قطورة (1).

هذا و يظهر المديانيون في التوراة على أنهم كانوا في رفقة الإسماعيليين- أبناء عمومتهم- حين بيع الصديق لهم. و إن موسى قد هرب إليهم من مصر، حيث وجد عندهم المأوى- فضلا عن الزوج و الولد- و بقي كليم اللّه هناك في ضيافة صهره كاهن مدين أربعين عاما (2)، و حين خرج من مصر ببني إسرائيل التقاه صهره في سيناء، حيث كان له الناصح الأمين، إذ أن أمور القوم- كما تصورها التوراة- كانت إلى فوضى و اختلال، لو ترك موسى و شأنه، فيما كان قد اتبع من وسائل تدبير، و لم تكن بالأسلوب القويم، إنما الفضل لحميه يثرون كاهن مديان، يلقنه كيف يكون تنظيم بني إسرائيل في هيكل من تسلسل قيادي، فيختار من ذوي القدرة

ص: 303


1- تكوين 16: 15- 16، 21: 2- 3، 25: 1- 2، أخبار أيام أول: 1: 28- 34
2- لاحظ الخلاف بين التوراة و القرآن في المدة التي قضاها موسى في مدين، فالقرآن الكريم يرى انها ثماني حجج أو عشر يقول تعالى «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (سورة القصص: آية 27- 28)، و تذهب التقاليد اليهودية و النصرانية على ان موسى أقام في مدين أربعين عاما (اعمال الرسل 7: 30، شاهين مكاريوس، المرجع السابق ص 40) و انه حين خرج من مصر لاجئا إلى مدين كان في الأربعين من عمره (خروج 7: 6، أعمال الرسل 7: 23) و أنه مكث في التيه اربعين عاما (عدد 14: 33، أعمال الرسل 7: 306، 42) و أنه مات و هو ابن مائة و عشرون سنة (تثنية 34: 7)، و انظر تاريخ ابن خلدون 2/ 43، 82

«رؤساء على الشعب رؤساء الوف و رؤساء مئات و رؤساء خماسين و رؤساء عشرات»، لينظروا في القضايا الثانوية، و يبقى موسى المرجع الأعلى للأمور الخطيرة، و بهذا تستقر الأمور، و ينجح موسى في قيادتهم، و يصل بهم إلى الأرض المباركة بسلام (1).

هذا إلى جانب أن يثرون- و هو شعيب نبي مدين العربي على الأرجح، كما أشرنا من قبل- كان يقرب القرابين إلى اللّه يتبعه في ذلك موسى و هارون و شيوخ بني إسرائيل (2)، و معنى هذا أن شعيبا- كما يقول الأستاذ العقاد- قد تقدم موسى في عقيدته الإلهية، و علمه تبليغ الشريعة، و تنظيم القضاء في قومه، و أن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي، و لم يكونوا معلمين (3).

و عند ما يتجول الإسرائيليون في جنوب فلسطين، يخشى موسى أن يضل و قومه الطريق في صحراء التيه، فلا يصلوا إلى الأرض المباركة أبدا، و من ثم فانه يستحلف حماه- و من عجب فهو هنا حوباب بن رعوئيل- «لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازل البرية تكون لنا كعيون» (4).

و هكذا كانت العلاقات بين المديانيين و الإسرائيليين طيبة، و لكنها ساءت بعد ذلك، و طبقا لما جاء في التوراة (5)، فإن شيوخ مدين عقدوا

ص: 304


1- خروج 18: 13- 27، و انظر: حسين ذو الفقار: المجلة يوليه 1970 ص 9
2- خروج 18: 12
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 80، تاريخ ابن خلدون 2/ 43، 84
4- عدد: 10: 29- 33
5- عدد 22: 4، 7

حلفا مع «بالاق بن صفور» ملك مؤاب (1) ضد بني إسرائيل، و نقرأ في سفر العدد أن الرب قد أمر موسى أن «انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين، ثم تضم إلى قومك»، و تستمر رواية التوراة بعد ذلك، فتذهب إلى أن موسى قد أرسل جنده إلى مديان، فقتلوا ذكورها، و سبوا نساءها و أطفالها، و نهبوا جميع مواشيها، و حرقوا مدنها، و هدموا حصونها، ثم عادوا «و قد أخذوا كل الغنيمة و كل النهب من الناس و البهائم»، فيخرج إليهم موسى ثائرا مهددا و كلاء الجيش الذين أبقوا على النساء قائلا: «اقتلوا كل ذكر من الأطفال، و كل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن حيات» (2).

و نص التوراة هذا غريب، ما في ذلك من ريب، فكاتب النص يأبى إلا أن يصوّر موسى حريصا على قتل رجال مديان فضلا عن السبايا من نسائهم، و الذين لم يبلغوا الحلم من ذكورهم، و لعل من العجيب أن يكون ذلك مع قبيلة آوته و أكرمته و صاهرته، ثم عاد منها كريما لينقذ بني إسرائيل من سخط فرعون و عذابه المهين، و ليس من شك في أن الكليم،، عليه السلام، براء من ذلك كله، و ليس من شك كذلك في أن الخيال

ص: 305


1- ينسب المؤابيون الى مؤاب بن لوط (تكوين 19: 37) و هم من الشعوب التي تتصل بالعبرانيين بصلة من قرابة عن طريق لوط ابن أخي إبراهيم، كما ان جدة داود موآبية (راعوث 1: 4)، و يقع اقليم المؤاب شمال وادي الحسا (وادي زارد في التوراة)، و قد امتدت مملكتهم من ناحية الشرق من البحر الميت حتى الصحراء، و اتسمت شمالا حتى وادي الموجب (نهر أرنون في سفر العدد 21: 13) و كانت مؤاب مثل أدوم حصينة قوية ذات مواقع استراتيجية على الحدود و في الداخل، و لهذا اضطر الإسرائيليون أثناء التيه أن يكفوا عن الاستمرار في السير «في البرية التي قبالة مؤاب» حتى وصلوا الى الجانب الآخر من أرنون، أما عربان مؤاب فهي وادي الأردن بين مصب يبوق و البحر الميت
2- عدد 31: 1- 18

الاسرائيلي قد لعب دوره هنا إلى أبعد الحدود، فهل كان بنو إسرائيل في مرحلة التيه هذه بقادرين على سحق المديانيين إلى هذا الحد؟ إني أشك في ذلك كثيرا، و شكى معتمد على نصوص التوراة نفسها (1)- عن آيات القرآن الكريم (2)- و كلها تتحدث عن جبن الإسرائيليين و تقاعسهم عن دخول الأرض الموعودة، «لأن فيها الجبابرة بني عناق، فكنا في أعيننا كالجراد»، و لست أدري كيف يستطيع شعب ذليل لا يعرف سوى رائحة الشواء عند قدور اللحم في مصر- حتى و ان استعبد من أجل ذاك و ذلّ- أن يخوض المعارك ليدخل الأرض المقدسة، فضلا عن أن يغزو المديانيين، و أن يجعل بلادهم خرابا، ثم إن الأحداث التالية- و بنص التوراة نفسها- تكذب ذلك كله.

و من ثم فإن التوراة نفسها، إنما تفاجئنا بعد كل هذا الضجيج، و بعد كل ما زعمت أن بني إسرائيل قد فعلوه بالمديانيين، و بعد أن استقر بنو يعقوب في فلسطين، تفاجئنا بروايات تذهب فيها إلى أن المديانيين إنما كانوا يظهرون في فلسطين في كل عام- و لفترة ما- ينشرون الفزع و الرعب بين الإسرائيليين بجمالهم السريعة، و يمكننا أن نحس بهذا الرعب الذي كانوا ينشرونه من قصة «جدعون»، حيث يشار إلى الجمال التي لا يحصى عددها، و التي تسببت في أن الإسرائيليين كانوا لا يجدون حتى المأوى الذي يقيهم شر المديانيين، في غير الكهوف، و في قمم الجبال (3)، و من هنا

ص: 306


1- عدد 13: 1- 33، 14: 1- 35
2- سورة المائدة: آية 22- 26، و انظر: تفسير الجواهر 3/ 154، تفسير روح المعاني 6/ 106- 110، تفسير الطبرسي 6/ 65- 69، في ظلال القرآن 6/ 124- 129، تفسير الطبري 10/ 171- 190، تفسير الكشاف 1/ 619- 621، تفسير النسفي/ 401- 403 تفسير ابن كثير 2/ 532- 541 (دار الاندلس- بيروت)، في ظلال القرآن 6/ 856- 871، تفسير أبي السعود 2/ 17- 19، تفسير القرطبي 6/ 123- 133
3- 161. P, learsI fo, yrotsiH ehT, htoN. M

نسب إليهم إدخال «الجمل المدجن» إلى فلسطين و سورية في القرن الحادي عشر ق. م (1).

و استمر الأمر كذلك سبع سنين، أخضع المديانيون فيها الإسرائيليين تماما، و استولوا على كل محاصيلهم، و طبقا لنص التوراة، فإنهم «لم يتركوا لإسرائيل قوة الحياة، و لا غنما، و لا بقرا و لا حميرا، لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم و خيامهم و يجيئون كالجراد في الكثرة، و ليس لهم و لا لجمالهم عدد، و دخلوا الأرض ليخربوها، فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين» (2).

و تمضي الأيام، و يبدأ اسم المديانيين يتوارى في الظلام شيئا فشيئا، و آخر ما ورد عنهم في التوراة ما جاء في سفر القضاة بشأن انتصار «جدعون» على شيخي مديان «ذبح و صلمناع» (3)، و كيف أدى هذا النصر إلى وضع حد للرعب الذي كان يسببه المديانيون للإسرائيليين، أو أنه قد أثار تصميم بني إسرائيل على الدفاع عن أنفسهم، لأننا لا نسمع بعد ذلك عن هجوم من قبل المديانيين على بني إسرائيل (4)، و يبدو أنه لم يعد للمديانيين شأن بعد هذه الفترة، و لعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى (5).

ص: 307


1- مصطفى الدباغ: بلادنا فلسطين ص 408
2- قضاة 6: 1- 12
3- قضاة 8: 1- 21
4- أشعياء 9: 3- 4، مزمور 83: 9- 10؛ و أنظر كتابنا إسرائيل ص 382، و كذا 162. P, tic- po, htoN. M
5- 616. P, 1936, hgrubnidE, elbiB eht fo yranoitciD, sgnitsaH. J

ص: 308

الفصل التّاسع سيل العرم

[1] القصة في القرآن الكريم

ص: 309

ص: 310

جاءت هذه القصة في القرآن الكريم في سورة سبأ، حيث يقول سبحانه و تعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ، وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ، فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» (1).

و الآيات الكريمة تدل على أن القوم إنما كانوا في رغد من العيش، تحيط بهم جنتان عن يمين و شمال، و كان من المنتظر أن يشكروا ربهم على هذه النعم الجزيلة، و الخيرات الكثيرة، و ذلك الرزق السهل المسير، الذي لا يقتضي النصب و لا الكد، غير أن القوم لم يكونوا كذلك، و إنما جحدوا نعمة ربهم، و من ثم فقد أرسل عليهم سبحانه و تعالى سيل العرم (2)،

ص: 311


1- سورة سبأ: آية 15- 19
2- العرم: المسناة التي تحبس الماء، واحدها عرمة، أو هو صفة للمسناة التي كانت لهم و ليس باسم لها، و في اللسان: عرم (العرم) بفتح الراء و كسرها- و كذا واحدها و هو العرمة- سد يعترض به الوادي (و الجمع عرم، و قيل العرم: جمع لا واحد له)، أو هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه، و بني السد فيه، أو هو الصعب: من عرم الرجل فهو عارم و عرم إذا شرس خلقه و صعب، أو هو المطر الشديد، أو السيل الذي لا يطاق، أو هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم، فصار سببا في تسلط السيل عليهم، و هو الفأر الأعمى الذي يقال له الخلد، أو هو ماء أحمر أرسله اللّه تعالى في السد فشقه و هدمه، أو هو كل شي ء حاجز بين شيئين و هو الذي يسمى السّكر: أو هو مطر يجتمع بين جبلين و في وجهه مسناة، و هى التي يسميها أهل مصر الجسر، فكانوا يفتحونها إذا شاءوا، فإذا رويت جناتهم سدوها، و لعل أقرب الآراء إلى الصواب، هو الذي يذهب إلى أن العرم إنما هو السد يعترض الوادي، ذلك لأن لفظة العرم (عرمن) إنما تعني السد في لغة اليمنيين القدامى، و بدهي أنها لم تكن علما على سد معين، أعني سد مأرب (أنظر: تفسير الطبري 22/ 78- 80، تفسير الألوسي 22/ 126، تفسير البيضاوي 2/ 2458- 259، تفسير القرطبي 14/ 285- 286 (طبعة دار الكتب)، تفسير الجلالين (نسخة على هامش تفسير البيضاوي 2/ 258- 259)، تفسير الفخر الرازي 25/ 251، تاريخ ابن خلدون 2/ 50، ابن هشام 1/ 9، مروج الذهب 2/ 163- 164، الإكليل 8/ 43، معجم البلدان 4/ 110، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 117، جواد علي 7/ 201، الدميري 1/ 445)

الذي أغرق جنتيهم، فبدلهم اللّه بهما جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شي ء من سدر قليل، و هكذا هلكت أموال القوم، و خربت بلادهم، من ثم فقد اضطروا- أو اضطر أكثرهم- إلى أن يهاجروا من مواطنهم، و أن يتفرقوا في غور البلاد و نجدها، حتى ضرب بهم المثل «تفرقوا أيدي سبأ»، جزءا وفاقا على كفرهم بنعمة ربهم، و تلك- ويم اللّه- عاقبة من يجحدون فضل ربهم، و لا يحمدون له نعماءه، و صدق اللّه العظيم، حيث يقول «وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (1)

[2] القصة في الروايات العربية

يروي المفسرون و الأخباريون أن أرض سبأ إنما كانت من أخصب أرض اليمن و أثراها، و أكثرها جنانا و غيطانا، و أفسحها مروجا، مع بنيان حسن، و شجر مصفوف، و مياه كثيرة، و أزهار متنوعة، غير أن السيل كثيرا ما كان يغرق هذه الأرضين، و في عهد ملكتهم «بلقيس» اقتتل القوم على ماء واديهم، فغضبت لذلك بلقيس و انزوت في قصرها، فأتى إليها الملأ من قومها يطلبون إليها العودة إلى ما كانت عليه، غير أنها رفضت أن تجيبهم إلى مطلبهم، بحجة أنهم كثيرا ما يعصون أمرها، و أن تفكيرهم غير

ص: 312


1- سورة إبراهيم الآية: 7

سليم، و إن قبلت في نهاية الأمر أن تعود إلى عرشها، و هنا أمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر و القار و حبست الماء من وراء السد، و جعلت له أبوابا بعضها فوق بعض، و بنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم، و كان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام.

غير أن أصحابنا المفسرين و الاخباريين لم يتفقوا على الرواية الآنفة الذكر، من أن بلقيس (1) هي التي بنت سد مأرب، فذهب فريق منهم إلى أن ذلك إنما كان «سبأ (2)» نفسه، و إن لم يكمل السد فأتمه ولده حمير،

ص: 313


1- أنظر عنها مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة»- مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- العدد السادس- 1976 م و كذا كتابنا «بلاد العرب»
2- تذهب الروايات العربية إلى أن «سبأ» هذا، إنما هو عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و أن سبب تسميته بسبإ أنه أول من سبى من العرب، و زعم البعض أنه كان مسلما و له شعر بشر به المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم)، و أنه حكم 484 عاما- ثم خلفه ولده حمير، و أنه أنشأ مدينة سبأ و سد مأرب في اليمن، و عين شمس في مصر، حيث خلفه عليها ولده بابليون (الطبري 1/ 211، ابو الفداء 1/ 100، ابن الاثير 1/ 230، مروج الذهب 2/ 45- 48، البلاذري: أنساب الاشارف ص 4، كتاب التيجان ص 48- 50، ابن كثير 2/ 158- 159، تاج العروس 10/ 169 ابن خلدون 2/ 47، منتخبات ص 47، المحبر ص 364، الأخبار الطوال ص 10، المعارف ص 46، 271، بلوغ الأرب 1/ 207، الاشتقاق 1/ 155، 2/ 361- 263، اليعقوبي 1/ 195، روح المعاني 22/ 124) و أما أن سبأ هو عبد شمس بن يشجب ... الخ فهناك كتابة حفرت على نحاس في مجموعة (eramaL. P) جاء فيها هذا الاسم، و أما ان سبب التسمية كثرة السبي، حتى وصلت غزواته إلى بابل و أرمينية في آسيا، و مصر و المغرب في إفريقيا، فليس هذا إلا في خيال ابن منبه، و من دعوا بدعوته، و أن هذه البلاد التي ذكرت آنفا، فلا تعرف شيئا عن سبأ هذا- و ان عرفت السبئيين على أنهم من تجار البخور و اللبان و غيرهما من مستلزمات المعابد القديمة، و ليس غزاة يحتلون البلاد و يبنون المدن، و أما أن الرجل قد بنى مدينة سبأ و سد مأرب، فيكذبه أن التاريخ لا يعرف بلدا بهذا الاسم، و أما بنائه لسد مأرب فتلك دعوى لا تعرف نصيبا من صواب- كما سوف نعرف- و أما بنائه لعين شمس، فالواقع أن المدينة قد بنيت قبل ظهور سبأ هذا- إن كان هناك ملكا بهذا الإسم- بمئات من السنين، بل بآلاف من السنين، حيث كانت تدعى «اون» أو «أويون» و اما «بابليون» ولده، فهذا اسم حصن في مصر القديمة ما تزال بقاياه حتى الآن، و أما قوله شعرا في النبي عليه الصلاة و السلام، فهذا من نوع مزاعمهم من نسبة شعر إلى إبليس و الى آدم ...، و هي لا تعدو ان تكون أساطير، لا تعرف لها نصيبا من صواب، ثم إن عربية الجنوب تختلف كثيرا عن عربية الشمال، عربية القرآن الكريم

الذي يرى فيه فريق ثان المؤسس الأصلي للسد، و ليس متمما له، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن ذلك إنما كان لقمان الأكبر العادي و هو لقمان بن عاد بن عاد- و قد رصف أحجاره بالرصاص و الحديد (1).

و أيا ما كان الأمر، فإن القوم بدءوا يستغلون المياه التي أخذت تتجمع خلف السد كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سقي مزارعهم فتحوا من ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة و حركات مهندسة، فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه، فازدهرت بلادهم فوق ازدهارها الأول، و يزعم الأخباريون- فيما يزعمون- أن المرأة إنما كان تخرج- إذا أرادت جني شي ء من الفاكهة- واضعة مكتلها على رأسها، فتمشي تحت الأشجار، و هي تغزل أو تعمل ما شاءت، فلا ترجع إلى بيتها، إلا و قد امتلأ مكتلها مما يتساقط من الثمار، و يزيد البعض أنها كانت تروح من قرية و تغدوها و تبيت في قرية لا تحمل زادا و لا ماء، لما بينها و بين الشام، و أن بلاد سبأ كانت طيبة لا يرى فيها بعوض و لا برغوث و لا عقرب و لا حية و لا ذباب، و كان الركب يأتون و في ثيابهم القمل و غيره، فإذا وصلوا إلى بلادهم ماتت، و هكذا عاش القوم في أطيب عيش و أهنأ حال، فضلا عن قوة الشوكة و اجتماع الكلمة، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، و لا يوافيهم جبار في جيش إلا كسروه، فذلت

ص: 314


1- مروج الذهب 2/ 160- 162، تفسير الطبري 22/ 78- 80، تفسير روح المغاني 22/ 126، معجم البلدان 5/ 34- 35، الدميري 1/ 445، تاريخ ابن خلدون 2/ 50، تفسير البيضاوي 2/ 259، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 159، تفسير القرطبي 14/ 486، تفسير الفخر الرازي 25/ 251، وفاء الوفا 1/ 117

لهم البلاد، و أذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض (1).

و بقي القوم على هذه الحال حينا من الدهر، لا يدري الأخباريون مداه على وجه التحقيق، أعرضوا بعده عن شكر اللّه على نعمائه، و انغمس امراؤهم في الترف و الملذات، و اللهو و الشهوات، منصرفين عن تدبير الملك و رعايته، و من ثم فقد بعث اللّه إليهم ثلاثة عشر نبيا، فدعوهم إلى اللّه و ذكروهم بنعمه عليهم، و أنذروهم عقابه، فأعرضوا، و قالوا ما نعرف للّه علينا من نعمة، و كان نتيجة ذلك كله، إن سلط اللّه عليهم سيل العرم، فحمل السد و ذهب بالجنان و كثير من الناس.

و هنا يجنح الأخباريون إلى الأساطير، فيرون أن القوم إنما كانوا يعلمون- عن طريق كهانهم- إنما يخرب عليهم سدهم هذا فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين، إلا ربطوا عندها هرة، و تمر الأيام و يصبح سيد القوم «عمرو بن عامر» الأزدي، فيرى- فيما يرى النائم- كأنه انبثق عليه الردم فسال الوادي، فأصبح مكروبا، فانطلق نحو الردم، فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد، و يقرض بأنياب من حديد، فانصرف إلى أهله و أخبرهم بالأمر، ثم إنهم عمدوا إلى هرة، فأخذوها و أتوا إلى الجرذ، فصار الجرذ يحفر و لا يكترث بالهرة، فولت هاربة.

على أن رواية أخرى تذهب إلى أن ذلك إنما كان من امرأة له كاهنة- يقال لها طريفة- رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت و أبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه، ففزعت طريفه لذلك و أتت عمرا و أخبرته بالأمر، فهدأها، ثم دخل حديقة له و معه جاريتان من

ص: 315


1- الدميري 1/ 445، تفسير الطبري 22/ 77- 85، مروج الذهب 2/ 161- 162، وفاء الوفا 1/ 116- 117، روح المعاني 22/ 126- 127، ابن كثير 2/ 159، ياقوت 5/ 35، تفسير القرطبي 2/ 289- 290، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي 2/ 258

جواريه، فلما علمت طريفة بذلك، جاءته، غير أنها رأت في طريقها إليه ما يؤكد لها ما رأته في منامها، و تستطرد الرواية فتصف ما رأته طريفة و تفسيرها له، و حين يطلب منها زوجها علامة على نبوءتها المشئومة هذه تخبره أنه لو خرج إلى السد لوجد هناك جرذا يكثر بيديه في السد الحفر، و يقلب برجليه من الجبل الصخر، و ينطلق عمرو إلى السد، فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا فرجع إلى طريفة و أعلمها الخبر، ثم أنشد شعرا عربيا فصيحا.

و يستطرد الاخباريون في رواياتهم فيذهبون إلى أن الرجل و قد تأكد من وقوع المأساة، كتم ذلك عن قومه، و أجمع أمره أن يبيع كل شي ء به بأرضه سبأ، و من ثم فقد دعا أصغر بنيه- و يدعى مالكا- أو ابن أخيه- و يدعى حارثة- أو يتيما كان قد رباه، و قال له: إذا جلست في المجلس و اجتمع الناس إليّ، فإني سآمرك بأمر، فأظهر فيه- العصيان، فإذا ضربتك بالعصا، فقم اليّ و الطمني، ثم قال لأولاده: فاذا فعل ذلك فلا تنكروا عليه و لا يتكلم أحد منكم، فإذا رأى الجلساء فعلكم لم يجسر أحد منهم أن ينكر عليه و لا يتكلم، فأحلف أنا عند ذلك يمينا لا كفارة لها أن لا أقيم بين أظهر قوم قام إلى أصغر بنيّ فلطمني فلم يغيروا.

و ينفذ عمرو و أولاده ما اتفقوا عليه، و يعرض الرجل ضياعه للبيع، و يبتاع الناس منه كل ما له بأرض مأرب، غير أنهم لم يلبثوا إلا قليلا حتى أتى الجرذ على الردم تستأصله، فبينما القوم ذات ليلة بعد ما هدأت العيون إذا هم بالسيل فاحتمل أنعامهم و أموالهم و خرب ديارهم، و لم يبق من الأرض و الكروم إلا ما كان في رءوس الجبال.

و تفرق القوم في البلاد، فذهب أولا جفنة إلى الشام، و نزل الأوس و الخزرج في يثرب، و سارت ازد السراة إلى السراة، و ازد عمان إلى عمان، و ذهب مالك بن فهم إلى العراق، و نزلت طي ء بأجأ و سلمى، و نزلت أبناء

ص: 316

ربيعة بن حارثة تهامة، حيث سموا بخزاعة، و استولوا على مكة من جرهم (1).

تلك هي الروايات التي جاءت عن سيل العرم في الكتب العربية، موجزة، و هي روايات لا تكاد تزيد في معظمها عن مجموعة من الخرافات و القصص التي صيغت في جو اسطوري، حافل بالإثارة، مجاف للعقل و المنطق، غاص بالمتناقضات، و من ثم فلا يهم أن تكون لها قيمة علمية أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، و لكن المهم ألا تكون حقائق تاريخية يصدقها الناس تماما، عن سد مأرب، و ما حدث له من تصدعات في فترات متباينة و في ظروف مختلفة، ذلك لأن سهام الريب إنما توجه إليها من كل جانب، و ليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات.

و لعل أهم ما يوجه إليها من نقد، يمكن حصره في نقاط، منها (أولا) ذلك الخلاف بين الرواة فيمن بنى السد، فذهبت رواية إلى أنه سبأ، و أخرى إلى أنه حمير، و ثالثة إلى أنه لقمان، و رابعة إلى أنها بلقيس، و مع ذلك فإن هذه الروايات جميعا، إنما كانت بعيدة عن الحقيقة التاريخية- و المسجلة على السد نفسه- و هو أن صاحب الفكرة و منفذ المشروع، إنما كان «سمه علي ينوف» في القرن السابع قبل الميلاد، ثم أخذ خلفاؤه من بعده يضيفون إليه جديدا بعد جديد، حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام «شمر يهرعش»، كما سنوضح ذلك فيما بعد.

ص: 317


1- ياقوت 5/ 35- 37، تفسير الألوسي 22/ 131- 133، تفسير الطبري 22/ 80- 86، تفسير البيضاوي 2/ 259، مروج الذهب 2/ 167- 176، ابن خلدون 2/ 50، 57، ابن كثير 2/ 160- 161، وفاء الوفا 1/ 117- 122، تاريخ اليعقوبي 1/ 203- 205، الدميري 1/ 445، ابن هشام 1/ 8- 9، الإكليل 8/ 41، 115- 116، الميداني 1/ 185، تفسير القرطبي 14/ 285- 291، تفسير الفخر الرازي 25/ 253، قارن: نهاية الأرب 3/ 283- 288، الميداني 1/ 275- 276، الدرر الثمينة ص 326

و منها (ثانيا) تلك الأسطورة التي تزعم أن السد إنما تهدم بفعل جرذ له مخالب و أنياب من حديد، و هو سبب لا يمكن أن يكون مقبولا إلا في عالم الأساطير، و كما سنعرف فيما بعد، فإن السد إنما تصدع عدة مرات، كان آخرها في عام 543 م، و بفعل عوامل لا دخل لفأر كانت له أنياب من حديد فيها بحال من الأحوال، و منها (ثالثا) أن الرواة أنفسهم، إنما يذهب فريق منهم إلى أن الماء قد سأل إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، و بذلك خرجت جناتهم.

و منها (رابعا) تلك النبوءات التي ملئوا بها صفحات كتبهم- و التي أشرنا إلى بعضها آنفا- عن خراب السد، و كأن أصحابنا الأخباريين- و كذا المفسرين- يسلمون بأن الكهان إنما يعلمون الغيب من الأمر، و نسوا- أو تناسوا- أن اللّه وحده هو «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (1)، و منها (خامسا) ذلك الخلاف بين الروايات فيمن تكهن بخراب السد، ففريق يذهب إلى أنه «عمرو بن عامر الازدي»، بينما يذهب فريق ثان إلى أن زوجته الكاهنة «طريفة» هي صاحبة النبوءة الأولى، هذا إلى جانب فريق ثالث ذهب إلى ان ذلك إنما كان أخاه «عمران».

و منها (سادسا) تلك الوسيلة التي لجأ إليها سيد القوم «عمرو بن عامر» في الحصول على كل أمواله بعد أن علم عن طريق نبوءاته- أو

ص: 318


1- يروي البخاري في صحيحه ان جويريات جلسن يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، ثم جعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر، حتى قالت جارية منهن «و فينا نبي يعلم ما في غد» فقال صلى اللّه عليه و سلم «لا تقولي هكذا و قولي ما كنت تقولين» (أنظر: النبأ العظيم ص 33)، و يقول اللّه سبحانه و تعالى على لسان نبيه «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» (الانعام: آية 50) و يقول سبحانه و تعالى «وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» (الأعراف: آية 188) فهل هذا يتفق و روايات المؤرخين و المفسرين عن نبوءات القوم عن خراب السد؟

نبوءات زوجته أو أخيه- بخراب السد، هل تتفق هذه الحيلة و مكانة الرجل كسيد لقومه، بل هي تتفق و الخلق العربي؟ ثم أ ليست هي حيلة ساذجة، يبدو الاختراع فيها واضحا، فضلا عما تدل عليه من طبع دني ء و خلق غير كريم، ما عهدناه في سادات القبائل العربية من قبل.

و منها (سابعا) تلك الصورة التي تقدمها الروايات عن الرخاء الذي عمّ بلاد سبأ، و عن خلوها من كل الحشرات الضارة، فلا يرى فيها برغوت و لا بعوض و لا عقرب و لا حية و لا ذباب، و أن الركب إنما كانوا يأتون و في ثيابهم القمل و غيره، فإذا ما وصلوا إلى مأرب ماتت، لطيب هوائها، و لست أدري كيف استطاع السبئيون، أو كيف استطاع أصحاب هذه الروايات أن يخلصوا السبئيين من كل هذه الحشرات الضارة، و ما هي وسيلتهم إلى ذلك؟ إلا أن يكون الخيال هو الذي دفعهم إلى أن يقولوا ما قالوا، و إلا أن يكون السبئيون قد توصلوا إلى طريقة- لا نعرفها حتى الآن- استطاعوا أن يتخلصوا بها من هذه الحشرات الضارة، و ليست هذه الوسيلة على أي حال، طيب هواء سبأ، كما يظن أصحابنا المفسرون و الأخباريون.

و منها (ثامنا) تلك المبالغات عن الرخاء و الأمن الذي ساد البلاد، حتى أن المرأة لتخرج واضعة مكتلها على رأسها، فتمشي تحت الأشجار- و هي تغزل أو تعمل ما شاءت- فلا تعود إلى بيتها إلا و قد امتلأ مكتلها مما يتساقط من الثمار، فهل هذا صحيح؟ و هل صحيح كذلك أن قوما تضطر نساؤهم إلى العمل، حتى و هن سائرات في الطرق يجمعن ما تساقط من ثمار الأشجار، يمكن أن نقول عنهم أنهم وصلوا إلى درجة من الرخاء لم يصلها غيرهم، و أي رخاء هذا الذي تضطر فيه نساء القوم إلى التجول بين الأشجار لجمع بقايا الفواكه التي تتساقط من أشجارها.

ص: 319

و منها (تاسعا) تلك الصورة الأخرى التي يذهب فيها الأخباريون إلى أن المرأة لتخرج و معها مغزلها و مكتلها- مرة أخرى- تروح من قرية و تغدوها، و تبيت في قرية لا تحمل زادا و لا ماء لما بينها و بين الشام، فهل هذا صحيح؟ أم أنها مجرد كلمات؟ و هل صحيح كذلك أن هناك قرى متصلة بعضها بالبعض الآخر فيما بين اليمن و الشام؟ ليت الذين كتبوا ذلك كله يتذكرون أن طريق القوافل بين اليمن و شمال بلاد العرب، إنما كانت- و لا زالت- تمر في صحراء مقفرة، و أن القرى حتى الآن بعيدة عن بعضها، ثم و هل كانت المرأة حقا تأمن على نفسها في صحراوات بلاد العرب، في وقت كان السبي فيه أمرا معهودا، ثم و هل من علامات الرخاء ان تمشي المرأة من اليمن إلى الشام، تروح من قرية إلى اخرى، ثم تبيت في ثالثه، لا تحمل زادا و لا ماء، و كأن الرخاء الذي يتحدثون عنه لا يتوفر إلا في الزاد و الماء.

و منها (عاشرا) تلك المبالغة التي يصفون بها جرذهم الذي خرب السد، حتى أنه كان يقلب برجليه صخرة، يعجز عنها خمسون رجلا، و منها (حادي عشر) ذلك الشعر الذي قاله «عمرو بن عامر الازدي»، بلغة عربية بليغة إلى أرقى درجات البلاغة، فهل صحيح أن عمرا هذا قال هذا الشعر، أم أن الرجل بري ء مما نسب إليه، كما هو بري ء مما سجله الأخباريون على لسانه- و لسان زوجته طريفة- من نثر هو غاية في الفصاحة و البلاغة، و مرة أخرى ليت الذين نسبوا الى الرجل و زوجته من شعر أو نثر، كانوا يعلمون أن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، و أن من يأتي بعدهم سوف يكتشف سر «المسند»- الخط الذي يكتب به في جنوب بلاد العرب- و من ثم يتمكن من قراءة نصوصه و التعرف على لغته، و أن عربيته تختلف عن هذه العربية التي تدوّن بها- و التي زعم الأخباريون أن عمرا و زوجته قالا

ص: 320

بها شعرا و نثرا- و من ثم فقد ذهب بعض علماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية و اللهجات العربية الأخرى في جنوب شبه الجزيرة العربية من اللغة العربية، و قصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، و على ما تفرع منها من لهجات، و من هنا يروي «الجمحي» أن أحد علماء العربية سئل عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير و أقاصي اليمن بلساننا و لا عربيتهم بعربيتنا (1)، و نستطيع أن نقدم هنا نصين كمثال يثبت مدى الخلاف بين هذه اللهجات، الواحد من الشمال، من نصوص المناذرة، ملوك الحيرة، و الذين يزعم الأخباريون أنهم يمنيون هاجروا بعد خراب السد إلى الحيرة بقيادة مالك بن فهم الارذي، و الثاني من اليمن نفسها و يرجع إلى القرن السادس الميلادي، و قبيل مولد الرسول، (صلى اللّه عليه و سلم) باكثر من ربع قرن قليلا.

يقول امرؤالقيس بن عمرو ملك الحيرة (288- 328 م) «تي نفس مر القيس بر عمرو، ملك العرب كله، ذو أسر التج و ملك الأسدين و نزارو و ملوكهم، و هرب محجو عكدي، و جابزجي في جج نجرن مدينت شمر، و ملك معدو، و بين بنيه الشعوب و كلهن فرسولروم، فلم يبلغ ملك مبلغه، عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده» (2).

ص: 321


1- طبقات الشعراء ص 4، جواد علي 1/ 15، قارن المسعودي 2/ 46
2- يعرف هذا النقش بنقش النمارة، و قد اكتشفه «رينيه ديسو» و «فريدريك ماكلر» في عام 1901 م، على مبعدة كيلومتر واحد من النمارة القائمة على انقاض مخفر روماني، شرقي جبل الدروز، و هو في خمسة أسطر محفور على حجر من البازلت، و أبعاده هي 73، 1 مترا من الطول، 45، 0 مترا في العرض، 40 و 0 مترا في السمك، و يوجد الآن بمتحف اللوفر بباريس، من الواضح أن كاتبه نبطي، لأن الخط المستعمل هو الخط النبطي، و اللغة العربية المستعملة تعرضت هي أيضا لتحريفات نبطية. و انظر عنه:(أ)- حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم، الاسكندرية 1971 ص 165- 173(ب) ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي- ترجمة إبراهيم كيلاني، بيروت 1956 ص 71 (ح) فيليب حتى: تاريخ سورية و لبنان و فلسطين- الجزء الأول- ص 4427- جواد علي 3/ 190- 193 و كذا 22 .P ,I ,neetabeN eL ,uaenitnaC .J ,32 .P ,sneitserhC sebarA seL ,uaN .F 35 .P ,1907 ,siraP ,malsI'L tnava eiryS ne sebarA ,duassuD eneR

و ترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون كالتالي: «هذا جثمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم، الذي عقد التاج و ملك قبيلتي أسد و نزار و ملوكهم، و صد بني محج حتى اليوم، و جاء بنجاح إلى حصار نجران عاصمة شمر، و ملك قبيلة معد، و قسم على أبنائه الشعوب، و جعلها فرسانا للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه حتى اليوم، مات سنة 223 يوم 7 من شهر كسلول (7 ديسمبر 328 م)، السعادة لأولاده» (1).

و أما النص الثاني- و يرجع إلى عام 543 م، أي بعد النص الأول بحوالي 215 عاما- و فيه يتحدث أبرهة عن تهدم سد مأرب و اصلاحه، و قد افتتحه بالعبارة التالية «نجيل وردا و رحمت رحمنن و مسحو و روح قدس» (2).

و ترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون كالتالي «بحول و قوة و رحمة الرحمن و مسيحه و الروح القدس».

و ليس من شك أنه ليس واحدا من النصين يثبت أن لهجة اليمن إنما كانت تتفق و لغة القرآن الكريم التي سجل بها أصحابنا الأخباريون شعرا لعمرو بن عامر الأزدي، أو نثرا للرجل و زوجته، و لكن ما حيلتنا و اصحابنا الأخباريون يصرون على أن ينسبوا إلى يعرب بن قحطان و إلى سبأ و إلى تبع و الى الزباء شعرا عربيا فصيحا، بل إن الأمر وصل بهم إلى

ص: 322


1- حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 165- 166
2- سوف نسجل النص كاملا فيما بعد عند الحديث عن تهدم سد مأرب

أن ينسبوا إلى آدم و إلى إبليس، شعرا مضبوطا وفق قواعد النحو و الصرف، و من ثم فليس غريبا أن ينسبوا إلى عمرو بن عامر الازدي شعرا كذلك.

و منها (ثاني عشر) تلك المبالغة فيمن أرسلهم اللّه للقوم من المصطفين الأخيار، حيث يروي ابن إسحاق- عن وهب بن منبه- أن اللّه جلّ و علا قد أرسل إليهم ثلاثة عشر نبيا، و زعم السدّى أنهم اثنا عشر ألف نبي (1)، فضلا عن تعارض ذلك مع الإتجاه الذي يذهب إلى أن خراب السد إنما كان بين الميلاد و بعثة المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم)، و هي فترة يرى الجمهور أنه لا أنبياء فيها، و إن ذهب البعض إلى أن بها أربعة أنبياء، ثلاثة من بني اسرائيل، و واحد من العرب، هو خالد العبسي، على أن هناك من يرى أنهم ثلاثة عشر نبيا، و أنهم كانوا فيما بين عهد سبأ نفسه، و بين فترة هلاكهم أجمعين (2).

و منها (ثالث عشر) من الذي ساعد عمرو بن عامر في حيلته الساذجة، فأهانه أمام قومه؟ هل ولده، أم ابن أخيه، أم كان يتيما رباه الرجل و أنكحه، كما يقول بعض الأخباريين (3).

[3] السدود في بلاد العرب

تعتبر شبه الجزيرة العربية من أشد البلاد جفافا و حرا، و ربما كان ذلك لوقوعها في منطقة قريبة من خط الاستواء، و لأن معظم أجزائها تقع في الإقليم المداري الحار، و لبعدها عن المحيطات الواسعة التي تخفف من درجة الحرارة، و لأن المسطحات المائية التي تقع إلى الشرق و الى الغرب

ص: 323


1- ابن كثير 2/ 159
2- تفسير روح المعاني 22/ 128
3- وفاء الوفا 1/ 119

منها- و أعني بها الخليج العربي و البحر الأحمر- أضيق من أن تكفي لكسر حدة هذا الجفاف المستمر، و من ثم فقد كان أثرهما في اعتدال الحرارة غير ملموس، أما المحيط الهندي الذي يقع إلى الجنوب منها، فلئن ساعد في الجنوب على سقوط الأمطار في أطراف شبه الجزيرة العربية الجنوبية، فإن مرتفعات حضرموت و الربع الخالي قد تمنعها عن داخلها.

و من المعروف أن المطر غوث و رحمة لسكان شبه جزيرة العرب، يبعث الحياة في الأرض، فتنبت العشب و الكلأ و الكمأة و الازهار، و يحول وجهها الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس و تفرح معهم ماشيتهم، و من هنا كان من مرادفات المطر الغيث، و في الكلمة ما فيها من معاني الغوث و النصرة، و هو على أي حال، جد قليل في داخل البلاد بالنسبة إلى شدة احتياج البلاد إليه، و لعل أكثر المناطق حظوة و نصيبا من المطر، هي النفود الشمالي و جبل شمر، إذ تنزل بها الأمطار في الشتاء فتنبت أعشاب الربيع، و أما الصحارى الجنوبية فلا يصيبها من المطر إلا رذاذ، و قد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ، و أما في اليمن و عسير، فتسقط الأمطار الموسمية، و هي هناك تكفي لتأمين زراعة الأرض زراعة منتظمة، و من ثم فهناك نجد خضرة دائمة تنبت في أودية خصبة قد تمتد نحو مائتي ميل من الساحل (1).

هذا و ليس في الجزيرة العربية كلها نهر واحد دائم الجريان يصب ماؤه في البحر، و ليس في نهيراتها الصغيرة ما يصلح للملاحة، و هي لذلك تعد من جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار و البحيرات، و في جملة البلاد التي يتغلب عليها الجفاف و يقل فيها سقوط الأمطار، و من ثم فقد أصبحت

ص: 324


1- حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين ص 6، جواد علي 1/ 214 و كذا 18. P, tic- po, ttiH. P. K

اكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان (1).

و قد عوضت عن الأنهار بشبكة من الأودية التي تجري فيها السيول غبّ المطر، الذي ينهمر أحيانا و كأنه أفواه قرب قد تفتحت، فتكون سيولا عارمة جارفة، تكتسح كل ما تجده أمامها، و تسيل الأودية فتحولها إلى أنهار سريعة الجريان (2)، هذا و قد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرا من أودية شبه الجزيرة العربية إنما كانت انهارا في يوم ما (3)، و أما أدلتهم على ذلك، (فأولا) وجود ترسبات في هذه الأودية من النوع الذي يتكون عادة في قيعان الأنهار، و منها (ثانيا) ما عثر عليه من عاديات و آثار سكن على حافة الأودية، و منها (ثالثا) ما جاء في كتابات المؤرخين القدامى من الأغارقة و الرومان عن وجود أنهار في شبه جزيرة العرب، ف «هيرودوت» يتحدث في (1: 214) عن نهر أسماه «كورس» رغم أنه ينبع من منطقة نجران، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية، مخترقا بلاد العرب حتى يصب في الخليج العربي، و يرى «مورتز» أنه في وادي الدواسر الذي يمس حافة الربع الخالي، عند نقطة تبعد خمسين ميلا، من جنوب شرق السليل، و تمده الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول (4).

ص: 325


1- جواد علي 1/ 157- 158
2- جواد علي 1/ 215
3- مما يؤكد وجود أنهار في الجزيرة العربية قديما، ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة في «باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها). عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه و سلم) أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال و يفيض و حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه، و حتى تعود أرض العرب مروجا و أنهارا».
4- جواد علي 1/ 158- 159، حافظ وهبه: المرجع السابق ص 54، محمود شكري الألوسي: تاريخ نجد ص 29، و كذا 21 .P ,1923 ,revonaH ,sednaL sed eihpargoeG nehcsirotsiH dnu nehcsilakisyhP ruZ neidutS neibarA ,ztiroM .B 350 .P .1932 .Y .N ,aibarA fo retrauQ ytpmE ehT ssorcA ,xileF aibarA ,samohT ,marteB

و أما أهم أودية شبه الجزيرة العربية، فوادي الرمة و وادي الحمض و وادي السرحان و وادي حنيفة و وادي الدواسر و وادي بيشه، ثم وادي نجران- و الذي يتصل بموضوعنا- و هو أحد الأودية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية، بل هو في الواقع مجموعة أودية كبيرة، منها:

(1) وادي حرض: و ينبع من مرتفعات «وشحه» و مرتفعات «خولان بن عامر» غربي صعدة، و يتجه مجراه إلى ساحل البحر الأحمر شمال «ميدي» في المملكة العربية السعودية.

(2) وادي مور: و هو واد كبير تتصل به روافد كثيرة متعددة المنابع (من مرتفعات العشمة و وشحه و كحلان و حاشد) و يصب في البحر الأحمر شمال «اللحية».

(3) وادي سردد: و يغذي مناطق زراعية واسعة، و تتصل به عدة روافد، أهمها وادي الأهجر الذي تكثر به الشلالات و قد استخدم على أيام حمير في طحن الغلال، و يصب وادي سردد جنوب «الزيدية».

(4) وادي سهام: و تقع منابعه في وادي آنس جنوب صنعاء، و يصب في البحر الأحمر جنوب الحديدة.

(5) وادي رماع: و ينبع من المرتفعات الواقعة شمال «ذمار»، و تغذيه عدة روافد، و يصب في البحر الأحمر شمال «الفازة».

(6) وادي زبيد: و هو من الأودية الغزيرة المياه، و منابعه في مرتفعات لواء «آب» و يصيب في البحر الاحمر غربي مدينة «زبيد».

(7) ثم هناك وادي نخلة، و يصب في البحر الأحمر شمال «الخوضة»، ثم وادي رسيان و وادي موزع.

ص: 326

و كل هذه الأودية تتجه غربا، أما الأودية التي تتجه شرقا، فهي: (1) وادي الجوف، و تتجمع فيه عدة أودية. (2) وادي مأرب: و ينبع من جبل بلق ثم يتجه شرقا مارا بمدينة مأرب- على مبعدة 12 كيلومترا من سد مأرب. (3) وادي حريب: و ينبع من مرتفعات خولان الطيال (4) وادي أملح و العقيق (5) وادي بيجان، و ينبع من مرتفعات لواء البيضاء ثم يتجه إلى الشمال الشرقي حتى يصل إلى بيجان القصاب، ثم تضيع مياهه شرقا في الأحقاف (1).

و تتميز هذه الأودية الأخيرة بأنها ذات أهمية تاريخية، إذ كانت مركزا للسكنى و الاستقرار، و كان حجم التجمعات السكانية و لا شك كبيرا، و قد دفعتهم قلة المياه في بلادهم، مع الرغبة في زراعة أراضيهم، إلى التفكير في إقامة السدود العديدة على مجاري الوديان، حتى أنهم في الغالب لم يتركوا واديا يمكن استثمار جانبيه بالماء إلا حجزوا سيله بسد، و حتى أن الهمداني يشير إلى أنه في مخلاف «يحصب العلو» وحده ثمانون سدا، و الى هذا يشير شاعرهم بقوله [و في الجنة الخضراء من أرض يحصب: ثمانون سدا تقذف الماء سائلا] (2).

و بقايا هذه السدود ما يزال يشهد بوجودها في مجاري الوديان، فضلا عن بقايا المدن التي كانت تنتشر بالقرب من مجاري الوديان كذلك، و التي من أهمها براقش و معين التي ذكر بليني أنها كانت بلادا كثيرة الغاب و الأعراس.

و أما أهم سدود اليمن القديمة هذه، إذا استثنينا سد مأرب العظيم، فهي: سد قصعان و ربوان (سد قتاب) و شحران و طمحان و سد عباد

ص: 327


1- محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص 43- 52
2- الهمداني: صفة جزيرة العرب ص 101

وسد لحج (سد عرايس) و سد سحر ذي شهال و سد ذي رعين و سد نقاطه و سد نضار و هران و سد الشعبابي و سد المليكي و سد النواسي و سد المهباد و سد الخانق بصعدة (و قد بناه نوال بن عتيك مولى سيف بن ذي يزن) و مظهره في الخنفرين من رحبان، و سد ريعان و سد سيان و سد شبام، على مقربة من صنعاء بثمانية فراسخ، و سد دعان و غيرها (1).

هذا و هناك كذلك سد قتبان، و قد أقيم في وادي بيجان عند «هجر بن حميد» (2)، و كان يسقي منطقة واسعة من دولة قتبان (3)، فضلا عن سد

ص: 328


1- ياقوت 3/ 318، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 154، جواد علي 7/ 212 () انظر119 ,113 .PP ,92 ,JG ,abehS fo dnaL ehT ,yblihP .B .J 116 .P ,1943 .101 .J .G ,etarotcetorP nedA nretseW eht ni setiS ,lacigoloeahcrA ,notlimaH .R 153 .P ,neibarA ,nnamhorG .A
2- تقع دولة قتبان- فيما يرى سترابو- في الاقسام الغربية من العربية الجنوبية و في جنوب السبئيين و جنوبهم الغربي، و قد امتدت منازلهم حتى باب المندب (810. P, 2, IE)، و ليس في المصادر العربية شيئا يستحق الذكر عنها، سوى أنها موضع من نواحي عدن (ياقوت 4/ 310) و انها بطن من رعين حمير (تاج العروس 1/ 431) و قد اختلف المؤرخون في التأريخ لها، ربما لمعاصرتها لدولة معين و سبأ، و من ثم فإن تاريخ الدول الثلاث مرتبط ببعضها و مرتبط بالأبحاث اللغوية، و كل تلك امور ما تزال موضع خلاف، و من ثم فقد رأينا من يضع دولة قتبان فيما بين القرنين العاشر و الثاني قبل الميلاد، و من يرى أنها في الفترة (865- 540 ق. م.)، و من يرى أنها فيما بين عام 645 ق. م. و القرن الثالث ق. م.، و من يرى أنها فيما بين القرن السادس ق. م.، و عام 50 ق. م. و من يضعها في الفترة (400- 50 ق. م.) و من يرى انها فيما بين القرن الرابع ق. م.، و الأول الميلادي [أنظر179 .P ,snoitaziliviC citimeS ,tneicnA ,itacsoM .S 60 .P ,malsI fo dnuorgkcaB ehT ,yblihP .P .Jو كذا F 222 .P ,abehS dna nabataO ,spillihP .W )139 .P ,tneirO netlA sedethcihcreG dna eihpargoeGred sirdnurG ,lemmoH .F 5 -3 .PP ,1950 ,119 ,ROSAB و أما أهم مدن قتبان فهي العاصمة تمنا» (تمنه- تمنع)
3- و تقع في وادي بيحان في منطقة تدل آثار الري فيها، على أنها كانت خصبة كثيرة المياه و البساتين، و أنها قد خربت بسبب حريق هائل، هذا فضلا عن «حريب» التى ذكر الهمداني، «و اشتهرت بنقود ضربت فيها و حملت اسمها كما كانت عاصمة لقتبان في أخريات أيامها» (أنظر الهمداني: المرجع السابق ص 80، 95، 135؛ جواد علي 2/ 230- 231 و كذا 75 .VIXXI .P ,aisreP dna aimatoposeM ,aibarA fo snioC keerG eht fo eugolataC ,lliH .F .G

عند «مرخة»، و آخر عند «شبوة»، و ثالث عند «الحريضة» (1)، أضف إلى ذلك تلك السدود التي تظهر آثارها في وادي عديم و عند حصن العر و ثوبة في جنوب وادي حضرموت، كما أن هناك ما يشير إلى أن الصخور قد نحتت عند «نجران» لعمل ممر مائي يتجه إلى حوض واسع أحيط بسد و جدار، حيث يستطيع القوم تخزين مائة مليون جالون من المياه هناك (2).

[4] سد مأرب

كان خصب أرض سبأ مضرب الأمثال عند العرب، و كان أهلها ينعمون بخيرات واديهم، و بما تدره التجارة عليهم من أموال، إذ كان السبئيون القدامى يتحكمون في ذلك الدرب التجاري الهام الذي لعب دورا من أكبر الأدوار في تاريخ العالم القديم.

و هناك على مقربة من مدينة مأرب توجد فتحة لتنظيم تصريف المياه التي كانت تسير في القناة اليمنى- إحدى القناتين اللتين كانتا تخرجان من سد مأرب- و ما زالت بقايا جداريها المشيدين بالحجر، ترى حتى الآن في الجهة الجنوبية من المدينة، و هي الباب الرئيسي في السور الذي كان يواجه معبد «أوام» أو «محرم بلقيس»، و على الجدار الشمالي من ذلك الأثر نقش معروف (رقم 1- 44) و مكتوب فيه أن مكرب سبأ «ذمار على و تار» بن «كرب ايل»- الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد- هو الذي بنى هذه الفتحة أمام هيكل الإله «عتتر» (3)، و يبدو أن الرجل كان

ص: 329


1- جواد علي 7/ 213 و كذا 5- 34. P. P, 1939, 93, JG ni, renidraG. E dnA nospmohT. C
2- جواد علي 7/ 213 و كذا 16. P, abehS fo dnaL ehT, yblihP. B. J و كذا 153. P, tic- po, nnamhorG. A
3- احمد فخري: المرجع السابق ص 171، 180 و كذا 3- 62. P. P, seuqihcranoM snoituiitsnI seL, snamkcyR. J

مهتما بالإصلاح الزراعي، و كما نعرف من نقش (هاليفى 349) فإنه قد أمر بتوسيع مدينة «تشق»، كما أمر بتحسين وسائل الري، و باستصلاح الأراضي المحيطة بالمدينة و استغلالها في الزراعة (1).

و على أي حال، فلقد جاء بعد «ذمار علي وتار» ولده «سمه علي نيوف» الذي ينسب إليه أنه صاحب فكرة و منفذ أكبر مشروع للري عرفته بلاد العرب، و ذلك بالرغم من أن سكان مأرب كانوا ذوي خبرة بشئون الري، إلا أن سدودهم كانت بدائية، حتى جاء «سمه على نيوف» و أحدث تطورا خطيرا في وسائل الري، و ذلك حين شيد سد «رحب» للسيطرة على مياه الأمطار و الاستفادة من السيول، و هكذا بدأ المشروع العظيم و الذي عرف في التاريخ باسم «سد مأرب» الذي نما على مر الأيام، حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام «شمر يهرعش» (2)، فنظم وسائل الري و أضاف مساحات كثيرة إلى الأرض الصالحة للإنتاج (3).

و نعرف من نقش (جلازر 514) أن «سمه علي ينوف» قد ثقب حاجزا في الحجر، و فتح ثغرة فيه لمرور المياه إلى سد «رحب» ثم إلى منطقة «يسرن» التي كانت تغذيها مسايل و قنوات عديدة تأتي بالمياه من حوض السد (4)، و تستمد ماءها من مسيل «ذنة» فتغذي أرضا كانت-

ص: 330


1- جواد علي 2/ 280
2- حكم شمر يهرعش في الفترة (270- 310 م)، و إن كان «فون فيسمان» يحدد النصف الثاني من حكمه بالفترة (285- 291- أو 310- 316 م) [فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 395 و كذا 486, 456. P. P 4- 3, 1964, noesuM eL)
3- جواد علي 2/ 281، و كذا انظر: 79. P. I, hcubdnaH, nosleiN. D
4- انظر.27 .P ,neibaraduS nehchsimalsiroV sed eihpargroeG nehcsirotsih ruz egartieB ,renfoH .M dna nnamssiW noV .H

و ما تزال- خصبة، يمكن للقوم الإفادة منها إذا ما استعملوا الوسائل الحديثة لإيجاد المياه (1).

و ليس من شك في أن عهد «سمه علي ينوف» من أهم عهود مكاربة سبأ (2)، فيما يتصل بالتأريخ لسد مأرب، و أن أقدم ما لدينا من وثائق عنه، إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، و ربما إلى حوالي عام 750 ق. م.، على رأي (3)، و إلى حوالي عام 700 ق. م.، على رأي آخر (4) و جاء «يتع أمربين» و سار على سنة أبيه «سمه على ينوف» في الاهتمام بتحسين وسائل الري في البلاد، و يبدو أن «سد رحب» لم يف بجميع حاجيات الاراضي الصالحة للزراعة من المياه، و من ثم فقد عمل «يتع أمربين» على إدخال بعض التحسينات على هذا السد، و إنشاء فروع له، و منها فتح ثغرة في منطقة صخرية، حتى تصل المياه إلى أرض «يسرن»، هذا إلى جانب تعلية سد رحب و تقويته، أضف إلى ذلك أن الرجل إنما قام ببناء السد المسمى «هباذ». و هو أكبر من «سد رحب»، و الذي كان على الأرجح البوابة الأخرى على اليسار (5)، كما أقام سده الجبار المعروف باسم «سد حبا بض» الذي مكّن كثيرا من الأرض من الإفادة بأكبر كمية من المياه التي كانت من قبل تجري عبثا، فلا تفيد زرعا

ص: 331


1- جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: المرجع السابق ص 88
2- تقع هذه الفترة فيما بين عامي (800- 650 ق. م.) أو (750- 450 ق. م.) و إن كنا نفضل الرأي الذي يبدأ تأريخها بالقرن العاشر ق. م.، و إليها تنتمي ملكة سبأ صاحبة سليمان [أنظر: جواد علي 2/ 269، 38. P, 1955, 137, ROSAB و كذا 73. P, seirevocsiD)
3- جواد علي 2/ 282 و كذا 75. P, seirevocsiD
4- 290. P, III, malsI fo, ycnE
5- احمد فخري: المرجع السابق ص 183، جواد علي 2/ 282، و كذا 75. p, seirevocsiD و كذا 525, 523 resalG

أو ضرعا (1).

و لعل هذا كله، هو الذي دفع بعض الباحثين إلى اعتبار «يتع أمربين» و أبيه «سمه علي ينوف» المؤسسين الأصليين لسد مأرب، و الذي يعتبر أكبر عمل هندسي عرفته شبه الجزيرة العربية في تاريخها القديم.

هذا و قد كان من أثر الاهتمام بإنشاء السدود و تنظيم الري، أن زادت مساحة الأراضي الزراعية، و خاصة حول مأرب، مما كان سببا في الإعلاء من شأنها و زيادة سكانها، و لما كان الرخاء الاقتصادي في سبأ يعتمد على الحياة النباتية- و ليس الحيوانية- فإن الاهتمام بتنظيم الري إنما كان سببا في الرخاء الذي ساد البلاد إبان تلك الفترة، و جعل من «مأرب» مدينة مزدهرة، و أوجد الصورة الرومانتيكية لبلاد العرب في أذهان المؤلفين الكلاسيكيين، فأطلقوا عليها «بلاد العرب السعيدة»، و هكذا أصبحت مأرب تنازع «صرواح» (2) مكانتها أول الأمر، ثم

ص: 332


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 291 و كذا 290. P, III, malsI fo, ycnE و كذا انظر: F 13. P, II, negruB eiD, relluM. H. D
2- كانت صرواح عاصمة سبأ في عصر المكاربة، ثم واحدة من أهم مدن سبأ لعدة قرون بعد ذلك، و تقع الآن في موضع «الخربة» و «صرواح الخريبة» ما بين صنعاء و مأرب، و كثيرا ما تردد ذكرها في أشعار العرب، و قال عنها الهمداني: أنه لا يقارن بها شي ء من المحافد المختلفة، و يروي الأخباريون أنها حصن باليمن، و أن الجن قد بنوه لبلقيس بأمر من سليمان، و ليس من شك في أن هذا من الأساطير التي لعب الخيال فيها دورا كبيرا، فضلا عن جهل بتاريخ المدينة، إلى جانب أثر الاسرائيليات في إرجاع أي أثر لا يعرفون صاحبه، إلى سليمان و إلى جن سليمان، و توجد المناطق الأثرية في صرواح في ثلاثة مناطق هي: منطقة البناء و المنطقة المسماة القصر، و هي قرية حديثة استخدموا في تشييدها بعض أحجار المعابد، و إما المنطقة الثالثة فهي المسماة الخريبة، و اما أهم آثار صرواح فهو معبد إله القمر الموقاة، و دار بلقيس و معبد «يفعان» الذي نال حظوة كبيرة بعد معبد الموقاة عند المكاربة [أنظر: احمد فخري ص 160- 162، نزيه مؤيد العظم 2/ 34، ياقوت 5/ 402، اللسان 3/ 343، الهمداني الإكليل 8/ 24، 45، 75، 10/ 22، 24، 26، 39، 110، صفة جزيرة العرب ص 102، 110، 203، منتخبات ص 60 و كذا 141 .P ,tic -po ,nosleiN .D 1951 ,III ,snoitpircsnI eht fo noitacilbuP ,snankcyR .G )

سلبتها هذه المكانة بعد حين من الدهر، فغدت عاصمة سبأ، و صاحبة معبد الإله الموقاة- إله سبأ الكبير (1).

هذا و هناك ما يشير إلى أن ملوكا آخرين قد أضافوا أجزاء أخرى إلى السد، فضلا عن تقوية أجزائه القديمة، و من هؤلاء الملوك «كرب ايل بين بن يتع أمر» و «ذمار علي ذريح» و «يدع ايل و تار» (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القوم إنما كانوا يهدفون من وراء السد إلى تحقيق أمرين، الواحد السيطرة على مياه السيول المتدفقة فلا تخرب ما يعترضها إذا جاءت فجأة بكثرة غير عادية، و الآخر تخزين تلك المياه و رفع مستواها أمام السد و عدم صرف شي ء منها إلا بالمقدار اللازم، و بذلك يضمنون ري وادي مأرب، الذي يرتفع عن مستوى السائلة بخمسة أمتار، و يأمنون توفير كميات المياه اللازمة للري حين يحين موعد مجي ء سيول أخرى من المناطق الممطرة في شرق اليمن لأن منطقة مأرب من المناطق الجافة قليلة الأمطار، و لا يزرع أهلها اليوم- أي بعد تخريب السد- إلا مساحات ضئيلة على مقربة من مجرى المياه في وادي دنة، و تضيع اكثر مياه السيول هباء في الوقت الحالي، و لا يمكن استخدامها في زراعة أراضي الوادي المرتفعة (3).

[5] وصف السدّ

تسقط كميات كثيرة من الأمطار في مناطق كثيرة في شرق اليمن، و تسير

ص: 333


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 291 و كذا 39. P, tic- po, yblihP. B. J 10. P, I, IHC ni, aibarA و كذا cimalsI- erP, dilahS. I
2- جرجي زيدان؛ المرجع السابق ص 161، جواد علي 7/ 210 و كذا 15. P, tic- po, relluM. H. D
3- احمد فخري: المرجع السابق ص 181

سيولها في الوديان المختلفة، ثم تتجمع مع غيرها من السيول القادمة من الشمال و من الجنوب، و تؤلف هذه السيول شبه بحيرة كبيرة مستديرة و مرتفعة من جهة الغرب و الشمال و الجنوب، و منخفضة من جهة الشرق، حيث تسير جميعها شرقا في مجرى سيل واحد يطلق عليه اسم أكبرها «ذنة» (إذنة) و تدخل جميعها في واد كبير في جبل يقال له جبل بلق، فتقسمه إلى جبلين- بلق الأيسر و بلق الأيمن- و أما الفتحة بين الجبلين فتعرف باسم «الضيقة» (1).

و يرتفع جبل بلق في تلك المنطقة إلى حوالي 300 م، و أما الضيقة فتبلغ متوسط اتساعها حوالي 230 م، و إن اتسعت في الوسط إلى حوالي 500 م، ثم تضيق بعد ذلك فلا تزيد عن 190 م، ثم تستمر الناحية الشمالية (أي التي على يمين الشخص المواجه للسد) في امتدادها، بينما تنفرج الناحية الأخرى، و قد اختار السبئيون القدامى هذا المكان لتشييد السد، فبنوا جدارا قويا يعترض الوادي و يوقف مياه السيول المتدفقة، و جعلوا في الناحيتين فتحتين، إحداها إلى أقصى اليمين، و استغلوا ذلك الجبل المرتفع في هذا الغرض فلم يبنوا إلا جدارا ضخما واحدا ليكون صدغا ثانيا للبوابة، أما البوابة التي في الناحية اليسرى (الجهة الجنوبية) فهي أكبر و أعظم و تنقسم إلى قسمين، و بنوا لها جدارين كبيرين يسيران مسافة غير قليلة، ثم ينتهيان بحوض كبير مبني بالحجر ترى في وجهاته المختلفة فتحات متعددة يخرج من كل منها قناة تسير لري ناحية من نواحي الوادي الفسيح (2).

و يطلق الاهالي على البوابة اليمنى مربط الدم و كانت تروى الناحية اليمنى التي ما زالت بقايا كثيرة من قراها ظاهرة حتى اليوم و كلها على يمين

ص: 334


1- محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص 82
2- احمد فخري: المرجع السابق ص 181

وادي زنة، و ربما كان ذلك الإسم في حد ذاته ما يثبت أن تهدم السد قد حدث في هذه الناحية القريبة من مدخل الضيقة و يبدو أن صخرة الجبل تكوّن إحدى جانبي هذه الفتحة، أما الناحية الأخرى فمشيدة من الحجر، و ربما كان في صدغي تلك الفتحة المكان الذي كانوا يزلقون فيه كتل الأخشاب لتصريف الكميات اللازمة من المياه و تسير بعد ذلك في قناة عادية، و يبدو أنه كان هناك بروزا مثلثا في ذلك الجدار الحجري، و قد كان ذلك البروز داخلا في جدار السد الكبير، و هو الجدار الذي تهدم و سبب ذلك الخراب (1).

و أما البوابة اليسرى، فقد كان لها عينان، و وراءها قناة مبنية الجوانب طولها أكثر من كيلومتر تنتهي بحوض كبير تتفرع منه عدة قنوات، كما يبدوا أنهم سدوا الناحية الجنوبية بجدار يرتكز على صخرة الجبل، ثم جعلوا في مكان مرتفع من الجدار أربع فتحات و ذلك لتصريف أي كميات زائدة من المياه حتى لا يرتفع منسوب المياه أمام السد إلى حد لا يريدونه، أو يؤثر على الفتحات أو يتعارض مع النظام المقرر لها، و تخرج تلك المياه الزائدة إلى الخارج و تنزل إلى باطن الوادي، و في وقت من الأوقات رأوا أنه لا حاجة للعينين فسدوا واحدة منهما و اكتفوا بالأخرى، و كان يخرج من الحوض المبني بالحجر في آخر القناة الكبرى قنوات متعددة، تبلغ فتحات بعضها نحو ثلاثة أمتار، و كلها مبنية بالحجر، و كانت مثل البوابتين الكبيرتين تغلق بوضع كتل من الخشب تنزلق في فتحتين في جانبي كل بوابة (2).

هذا و تدل دراسة المباني التي ما زالت قائمة عند البوابتين على أنه قد

ص: 335


1- نفس المرجع السابق ص 183
2- نفس المرجع السابق ص 184

استخدمت في بناء السد و الحواجز حجارة اقتطعت من الصخور و عولجت بمهارة و حذق حتى توضع بعضها فوق بعض، و تثبت و تتماسك و كأنها قطعة صلدة واحدة، و قد وجد أن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان أسطوانية من المعدن المكون من الرصاص و النحاس و ذلك ليكون البناء قويا، و ليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء و خطر وقوع الزلازل، أما المادة التي استعملت لربط الاحجار ببعضها فهي من الجبس الممتاز، و قد تصلب هذا الجبس الذي طليت به واجهات السد كذلك حتى صار كأصلب أنواع السمنت (1).

[6] تهدم السد

تعرض سد مأرب عدة مرات لتصدعات في بنيانه إبان الفترة ما بين بنائه على أيام «سمه علي ينوف» في منتصف القرن السابع قبل الميلاد (2)، أي حوالي عام 650 ق. م. (و ربما حوالي عام 700 ق. م. أو 750 ق. م.،

كما أشرنا من قبل) و بين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543 م، على أيام أبرهة الحبشي، أي خلال ما يقرب من ألف و مائتي عام، و ربما أكثر من ذلك، لأن هناك من يرى أن السد قد ظل يؤدي واجبه حتى حوالي عام 575 م (3)، و من ثم فليس في استطاعتنا على ضوء معلوماتنا الحالية أن نؤكد أن تلك المباني القائمة عند الفتحتين، إنما ترجع إلى عهد «سمه

ص: 336


1- جواد علي 7/ 211، نزيه مؤيد العظم 2/ 92 و كذا 152. P, tic- po, nnamhorG. A
2- حدد «فلبي» للمكرب «سمه علي ينوف» فترة الحكم (660- 640 ق. م.)، غير أنه عاد بعد ذلك و حدد له في قائمته التي نشرها في مجلة (noesuM el) عام 780 ق. م. كبداية للحكم، ثم جعل فترة الحكم- بالاضافة إلى فترة حكم خليفته «تيع أمربين» ثلاثين عاما، تنتهي عام 750 ق. م. (أنظر جواد 2/ 312)
3- جواد علي 7/ 210 و كذا 151. P, tic- po, nnamhorG. A و كذا انظر: 28- 23. P. P, II, teibegstfahcstri W sla neibaraduS, nnamhorG. A

على ينوف» و «يثع أمربين» أو الى عهد غيرهما، غير أننا إذا ما قارنا مبانيهما بمباني معبد صرواح و معبد محرم بلقيس- و كلاهما من هذا العهد- و وضعنا في أذهاننا أن تهدم ذلك السد يحدث من تصدع جداره الكبير الذي كان بين البوابتين، نرى أنفسنا ميالين إلى الأخذ بالرأي القائل بأن مباني البوابتين القائمتين هما من ذلك العهد (مع افتراض حدوث بعض الترميمات فيهما) اللهم إلا إذا ظهر من الوثائق القديمة ما يثبت غير ذلك، و هو ما لم يحدث حتى الآن (1).

و نقرأ في نقش (جلازر 825) أن الرومانيين قد انتهزوا فرصة الحرب التي دارت رحاها بين الملك السبيئي «شعر أوتر» (65- 55 ق. م.) (2)، و بين ملك حضرموت «العزيلط» (3)، فأغاروا على سد مأرب بغية إيقاع الخسائر به، غير أن قبيلة «حملان» التي عهد إليها حماية السد، نجحت في صد هجوم الرومانيين، هذا و يذهب البعض إلى أن هذا الهجوم ربما كان بتحريض من ملك حضرموت بهدف إنزال ضربة قاصمة بالسبئيين، و ذلك بتخريب سدهم الذي هو بمثابة العمود الفقري للإقتصاد السبيئي، و بخاصة بالنسبة للعاصمة مأرب (4).

هذا و هناك ما يشير إلى أن هناك تصدعا قد حدث في سد مأرب على أيام الملك «شمريهرعش» و أن الرجل قد نجح في إصلاحه (5).

ص: 337


1- أحمد فخري: المرجع السابق ص 184
2- 390. P, stuqliB marhaM morf, snoitpircsnI, naeabaS, emmaJ. A و قارن: 28. P, tic- po, nnamhorG. A
3- انظر nilreB، و كذا 93 .P ,I ,hcubdnaH 113 .P ,tic -po ,renfoH ,Mdna nnamssiW noV ,H و كذا 300. P, tic- po, emmaJ. A و كذا 2672 و كذا 334, HIC
4- انظر: 38. P, tic- po, renfoH airaM dna nnamssiW noV H
5- جواد علي 7/ 210

و على أي حال، فإننا نعرف من نص (جام 671)، و الذي أقامته جماعة من سادات بيت ريمان، و أقيال عشيرة سمعي، شكرا للموقاه الذي ساعدهم على القيام بما أمر به الملكان «ثاران يهنعم» و «ملكى كرب يأمن» (1)، من إصلاح للسد، نعرف أن السد قد تهدم عند موضع «حبابض»- و كذا عند رحبتن- فتداعت جدرانه و مبانيه و احواضه و سدوده و مصارفه الواقعة فيما بين «حبابض» و «رحبتن»، و أن القوم قد كتب لهم نجح كبير في إصلاح ما تهدم من السور (2).

هذا، و نجد أنفسنا إذا ما وصلنا إلى عهد «شرحبيل يعفر» (425- 455 م) (3)، أمام نص خطير (جلازر 554) (4)، يحدثنا عن تصدع سد مأرب، و ما قام به الملك إزاء هذا الحادث الخطير، فنقرأ أن «شرحبيل يعفر ملك سبأ و ذي ريدان و حضرموت و يمنت و أعرابها في النجاد و التهائم، ابن أبي كرب أسعد ملك سبأ و ذي ريدان و حضرموت و يمنت و أعرابها في النجاد و التهائم، قام بتجديد بناء سد مأرب و ترميمه على مقربة من رحب و عند عبرن»، فضلا عن إصلاح أجزاء منه حتى A

ص: 338


1- يرى «فون فيسمان» أن «ثاران يهنعم» قد حكم مع أبيه «ذمار علي يهبر» حكما مشتركا في الفترة (345- 350 او 360 م) ثم مع ابنه «ملكي كرب يهأمن»، ثم الأخير مع ولديه «أب كرب اسعد» و «ذرأ أمرايمن» ثم انفرد «أب كرب أسعد» مع ولده «حسن يهأمن» في حوالي 400 م 498, 490. PP, 4- 3, 1964, noesuM el (، و انظر كذلك) 80. P, 1964, III, seuqitnA sneirO)
2- 498, 491. P, 4- 3, 1964, noesum eL و كذا 176. P, tic- po, emmaJ A
3- (104. P, tic- po, yblihP. B. J و قارن قريتز هومل: حيث يضعه في الفترة (420- 455 م) أنظر: 104. P, tic- po, nesleiN. D و كذا 460. P, sdnalhgiH naibarA, ybiulhP
4- 372 .P ,1897 ,11 ,GVM ,biraM nov hcurbmmaD ned rebu netfirhcsnliewL ,resalG .E و كذا انظر 493. P, 4- 3, 1964, noesuM eL و كذا 13. P, sneibarA eihpargoeG etlA eiD, regnerepS. A

موضع طمحن (طمحان)، و حفر مسايل المياه و بناء القواعد و الجدران بالحجارة و تقوية فروعه، و بناء أقسام جديدة بين «عيلن» (عيلان) و «مغلل» (مغلول)، و تجديد سد «يسرن»، و أن هذه الأعمال كلها، إنما تمت في شهر «ذي داون» من عام 564/ 565 من التقويم الحميري (1)، الموافق عام 449/ 450 (أو عام 456) من التقويم الميلادي (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن النص إنما يشير إلى أمور عدة، منها (أولا) أن تصدع السد قد اضطر الملك إلى تجديد بناء أقسام منه، و ترميم أقسام أخرى، فضلا عن إضافة أقسام جديدة إليه، و منها (ثانيا) أن السد إنما تهدم مرة أخرى، و بعد فترة قصيرة، و ذلك في شهر ذو ثبتن (ذو الثبت) من عام 565 من التقويم الحميري (الموافق 450/ 451 م أو 455/ 456 م)، و كان التهدم هذه المرة في غاية الخطورة حتى أن القوم في «رحبتن» (الرحبة) قد اضطروا إلى الفرار إلى الجبال خوف الموت، و من ثم فقد لجأ الملك إلى حمير و إلى قبائل حضرموت يستعين بهم على إعادة بناء السد، و قد تجمع لديه من هؤلاء و أولئك زهاء عشرين ألف رجل، عملوا في قطع الأحجار و حفر الأسس و تنظيف الأودية و انشاء الخزانات و عمل الأبواب و منافذ مرور المياه، و قد تمّ ذلك بنجاح في شهر «ذو دأو» من عام (565) من التقويم الحميري (450/ 451 م).

و منها (ثالثا) أن تصدع السد بعد فترة قصيرة من ترميمه و اصلاحه

ص: 339


1- يبدأ هذا التقويم عام 115 أو 109 ق. م.، لأنه عام قيام دولة حمير، أو لأنه تاريخ سقوط معين تحت سيادة سبأ أو لأنه عام انتصار سبأ على قتبان
2- جواد علي 2/ 579- 581 و كذا 20. P, tic- po, regnerpS. A و كذا 379. P, tic- po, resalG. E و كذا 118 .P ,malsI fo dnuorgkcuB ehT ,yblihP .B .J 494 .P ,4 -3 ,1964 ,noesuM eL

و تجديده، و بعد إنفاق أموال طائلة عليه، و اشتغال آلاف من العمال في بنائه، شي ء يدعو إلى التساؤل عن سبب سقوطه أو سقوط جزء منه بهذه السرعة، و هنا يقدم الباحثون ثلاثة احتمالات، أولها: أن التصدع إنما كان بسبب سقوط أمطار غزيرة في هذا العام لم يكن في طاقة السد احتمالها، و ثانيها: أن إصلاح السد لم يكن قد كمل تماما، فسقطت أمطار غزيرة سببت انهيار الأماكن الضعيفة في المواضع التي لم تكن قد تمت، و ثالثها: أن التصدع إنما كان بسبب كوارث طبيعية كالزلازل و البراكين (1).

و ايا ما كان الأمر، فلقد كان لهذه الأحداث أثر سيّئ على مأرب، و من ثم فقد أخذ الناس يرحلون عنها إلى مناطق أخرى مثل «صنعاء» التي بدأ نجمها يتألق حتى صارت فيما بعد مقر الحكام الذين أقاموا في قصر غمدان، ربما بسبب التحول السياسي الذي أصاب هذا العهد، و ان كان تصدع السد عدة مرات كان هو السبب الأول، حيث ترك المزارعون أراضيهم التي أصابها التلف و الجفاف إلى أرضين أخرى، فضلا عن اللجوء إلى الهضاب و الجبال (2)، على أن نص (جلازر 554) الذي أشار إلى هذه الأحداث الخطيرة، لم يشر إلى أسماء القبائل التي هربت من «رحبتن» خوف الموت، و إن كان يفهم منه أن القبائل التي كانت تسكن هذه المنطقة قد تفرقت و تشتت بسبب ما أصاب السد، و في هذا دليل على أن هناك أصلا تاريخيا للروايات العديدة التي يرويها الأخباريون عن تهدم سد مأرب و تفرق سبأ (3)، و إن غلب فيها عنصر المبالغة و الخيال على عنصر

ص: 340


1- جواد علي 2/ 580- 581 و كذا 118. P, tic- po, yblihP. B. J
2- 493. P, 4- 3, 1964, noesuM eL
3- أنظر: 387 .P .1897 ,II ,ttahcsesnl n ehcsitaisaredroV red negnultiettiM ni ,resalG .E و كذا 28. P. tic- po, regnerpS. A

الحقيقة و التاريخ.

و نقرأ في نص (جلازر 618) و نص (541 HIC) من عهد أبرهة الحبشي عن ترميم سد مأرب و تجديده مرتين (1)، الواحدة في شهر «ذو المدرح» من عام 657 من التقويم الحميري (542 م)، و الثانية في شهر «ذو معان» من عام 658 من التقويم الحميري، الموافق عام 543 من التقويم الميلادي (2)،.

و يبدأ أبرهة نصه بقوله «بقوة و جلال و رحمة الرحمن و مسيحه و الروح القدس، سطروا هذه الكتابة، إن أبرهة نائب ملك الجغريين رمخر زبيمان، ملك سبأ و ذو ريدان و حضرموت و أعرابها في النجاد و التهائم» (3)، ثم يتحدث النص بعد ذلك عن ثورة شبت بقيادة «يزيد بن كبشة»، و الذي عينه أبرهة نائبا عنه في قبيلة كنده، و سرعان ما انضم إليه «معد يكرب» بن «السميفع أشوع» و بعض الزعماء اليمنيين، و من ثم فقد بدأت الثورة تنتشر في أجزاء كثيرة من اليمن، حتى أنها قد شملت حضرموت و حريب و ذو جدن و حياب عند صرواح، إلا أن أبرهة سرعان ما انتصر على الثوار و بطش بهم، بمساعدة قبائل يمنية

ص: 341


1- جواد علي 3/ 483- 484، و كذا 390. P, tic- po, resalG. E و كذا 71, 1962, 65, 1961, euqitnA eipoihtE'I ed snoitpircsnI, sewerD. J. A و كذا 587. P, tic- po, lheitS. R dna miehtlA. F و كذا 340. P, 66, 1953, noesuM el و كذا 1954 ,16 ,ROSAB ni ,ygolonorhC raeabaS fo ,smelborP ,notseeB .L .F .A و كذا 126- 31. P, tic- po, regnerpS. A و كذا 106. P, hcuvdnaH و كذا 506, snamhcyR
2- جواد علي 3/ 484 و كذا انظر 15 ,5 ,1899 ,GMDZ ni ,biraM uz hcurbmmaD moV netfirhcsnI nessorg nedieb ned ruZ negnukremeB ,suirotoarP .F
3- جواد علي 3/ 484 و كذا 421. P, tic- po, resalG. E

قوية (1) ثم نقرأ بعد ذلك أن أبرهة سرعان ما يسمع بتصدع سد مأرب، و هو يصلي في كنيسة مأرب، فيسرع إلى إصلاح السد، مستعينا بحمير و جنوده من الاحباش، غير أنه يضطر إلى إعطائهم مهلة يستريحون فيها من شرور الحرب، فضلا عن القضاء على تذمر القبائل التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الشاقة، إلى جانب عقد هدنة مع أقيال سبأ الذين كانوا ما يزالون خارج سلطانه. ثم يبدأ بعد ذلك في جمع العمال من أبناء العشائر، و تخزين المؤن التي سوف يحتاج إليها إبان عمله في إصلاح السد، و أخيرا يبدأ العمل في السد، فضلا عن القنوات و الأحواض و المشروعات الفرعية الجديدة، حتى إذا ما كمل المشروع، بعد أحد عشر شهرا من العمل المتواصل، كان طول السد 45 ذراعا، و عرضه 14 ذراعا، و ارتفاعه 35 ذراعا، هذا و يحدثنا أبرهة أن مقدار المؤمن التي صرفت أثناء العمل كانت 50806 كيسا من الدقيق، 26000 حملا من البلح، فضلا عن نحر 3000 جملا و ثورا، 207000 رأسا من الغنم، و ذلك منذ اليوم الذي بدأ فيه العمل، و حتى الانتهاء منه في شهر «ذو معان» من عام 658 من التقويم الحميري، الموافق عام 543 من التقويم الميلادي (2).

و كان نجاح أبرهة في ترميم سد مأرب- و هو آخر ترميم له- أمرا اعتز به الرجل، و قرر الاحتفال به، فجاءت إلى مأرب وفود كثيرة تمثل مراكز القوى في العالم وقت ذاك، يذكر أبرهة منها في نقشه، و فدا يمثل «زمخير

ص: 342


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 303 و كذا 121. P, tic- po renfoH. M dna nnamssiW noV. H
2- جواد علي 3/ 483- 486، احمد فخري: المرجع السابق ص 187، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 162- 163

زبيمان» نجاشي الحبشة، و وفدا يمثل «جستنيان» (527- 566 م) ملك الروم، و وفدا يمثل ملك فارس، و رسلا من الحارث بن جبله الغساني (528- 569 م)، و آخرين من المنذر بن امرئ القيس (508- 554 م) أمير الحيرة (1).

و لعل سؤال البداهة الآن: أي هذه التصدعات في سد مأرب هي التي يعنيها القرآن الكريم؟

و الواقع أن هذا واحدا من الاسئلة الصعبة التي لا يمكن الإجابة عليها في يسر و سهولة، و ذلك لانعدام المادة العلمية التي نستطيع الاعتماد عليها في الاجابة المؤكدة عن السؤال من ناحية، و لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات، و من ناحية أخرى، و من ثم فإن الأمر لا يخرج هنا عن حيز الحدس و التخمين.

و على أي حال، إننا إذا ما اعتمدنا على النصوص التي قدمناها من قبل، فربما كان التصدع الذي حدث على أيام «شرحبيل يعفر»، أقرب إلى ما يعنيه القرآن الكريم من غيره، لأنه أشدها قوة، و لأن آثاره تعدت الإضرار الجانبية إلى هروب سكان المنطقة إلى الهضاب و الجبال، ثم هجرتهم من هذه المنطقة إلى أرضين أخرى، و لأنه دون غيره- فيما يرى بعض الباحثين- ربما كان بسبب كوارث طبيعية كالزلازل و البراكين، و ليس لمجرد سقوط أمطار غزيرة، و من ثم فقد كان أثره خطيرا على الأرض و على الناس سواء بسواء.

و مع ذلك فلست أزعم أن هذا رأي يمكن الاعتماد عليه تماما، و إنما هو مجرد فرض لا أجد له من الأدلة التي تدعمه غير الحدس و التخمين، ذلك

ص: 343


1- جواد علي 3/ 489- 491، احمد فخري: المرجع السابق ص 187 و كذا 421, 408. p. p, tic- po, resalG. E و كذا 650. p, tic- po, suirotearP. F

لأن الأدلة الأثرية شبه معدومة، و أقوال المفسرين و الأخباريين تكاد لا تقدم علما يعتمد عليه، أو أدلة قوية تساند وجهة النظر هذه أو تلك، و إن كانت الأحوال الداخلية في اليمن قد تشير إلى اضطراب في الأمن، و إلى تدخل الأجانب في شئون البلاد، فضلا عن ظهور عقائد دينية جديدة، و أخيرا فإن «شرحبيل يعفر» ما أن يختفي من المسرح، حتى يعتلي العرش «عبد كلال»، و هو- فيما يرى فلبي- كان من قبل كاهنا و شيخا لقبيلة، نجح بمساعدة الأحباش- الذين أصبحوا أصحاب شأن في شئون العربية الجنوبية- في أن يغتصب العرش لمدة خمس سنوات (455- 460 م) (1).

هذا و يذهب بعض الباحثين إلى أن التهدم الذي ورد في القرآن الكريم، إنما كان آخر تهدم (2)، و يضيف آخرون إلى أنه ربما قد حدث فيما بين عامي 542 م، 570 م، و أن السد لم يصلح هذه المرة، و من ثم فقد ترك الناس مزارعهم، و اضطروا إلى الهجرة منها، و إلى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم (3)، بل إن صاحب هذا الإتجاه إنما يحاول مرة أخرى أن يحدد عام 575 م (أي بعد مولد الرسول (صلى اللّه عليه و سلم) كتاريخ لحدوث هذا التصدع الخطير، الذي لم يمكن التغلب عليه بسبب الأحوال السياسية التي سادت العربية الجنوبية وقت ذاك، من اضطراب للأمن، و من تدخل الأجانب في شئون البلاد، و بالتالي فقد أهمل السد و لم تتدخل الحكومة في إصلاحه (4).

غير أن هذا الاتجاه إنما يتجاهل أمورا كثيرة، منها (أولا) أنه إنما يحدد

ص: 344


1- 143 .P ,malsI fo dnuorgkcaB ehT ,260 .P ,sdnaihgiH naibarA ,yblihPi .B .J
2- احمد فخري: المرجع السابق ص 180
3- جواد علي 2/ 283
4- جواد علي 7/ 210

فترة قريبة جدا من الإسلام لسيل العرم، و لو كان الأمر كذلك لاستطاع المؤرخون الإسلاميون تحديده على وجه اليقين، بل لاستطاع شعراء العرب تحديده كذلك، و منها (ثانيا) أنه يرجع بالهجرات العربية التي خرجت من اليمن بعد تهدم السد إلى فترة متأخرة، لا تتفق و تاريخ قيام دولتي المناذرة و الغساسنة- و أصحابها من هذه الهجرات كما يرى المؤرخون الاسلاميون- كما أن وجود الأوس و الخزرج في يثرب إنما يرجع بالتأكيد إلى ما قبل هذه الفترة، و منها (ثالثا) أن الفترة ما بين استيلاء أبرهة على اليمن و ظهور الإسلام، ليست من الفترات الغامضة في تاريخ اليمن، ثم هي فترة قصيرة على أية حال، و منها (رابعا) أن عام 575 م، هو العام الذي يرى فيه المؤرخون نهاية الحكم الحبشي و بداية حكم «سيف بن ذي يزن»، فضلا عن النفوذ الفارسي في أول الأمر، ثم السيطرة الفارسية بعد ذلك، و تاريخ اليمن في هذه الفترة لا يتحدث عن تصدع سد مأرب، بل ليست هناك أية إشارة في هذا التاريخ عن السد، أو عن هجرة قبائل يمنية من مواطنها الأصلية إلى الشمال، كما نعرف من أحداث تهدم السد.

و أما الروايات العربية، فإن بعضها يشير إلى أن الحدث الخطير إنما كان قبل الإسلام بقرون أربعة (أي في القرن الثالث الميلادي)، و يشير بعضها الآخر إلى أن ذلك إنما كان على أيام ملك حبشان، و لعل صاحب هذه الإتجاه يعني بذلك الأحباش لأنهم خربوا كثيرا من قصور اليمن و أبنيتها، فإذا كان ذلك كذلك، فما ذا يعني «ياقوت» بأيامهم هذه، هل يعني فترة تدخلهم في شئون العربية الجنوبية قبل الاحتلال الحبشي في عام 525 م، أم يعني فترة الاحتلال نفسه؟ و على أي حال، فإن «ابن خلدون» إنما يذهب إلى أن ذلك إنما كان على أيام «حسان بن تبان

ص: 345

أسعد» في القرن الخامس الميلادي. (1)

هذا و يرجح «بلو ualB» أن ذلك إنما كان في القرن الثاني الميلادي (2)، بينما يذهب آخرون إلى أن ذلك إنما كان في القرن الرابع الميلادي معتمدين في ذلك على نسب «سعد بن عبادة الخزرجي»، و جعله مقياسا للزمن الذي ربما تكون الهجرة قد تمت فيه، فنسب سعد هذا- طبقا لرواية النسابين- إنما هو «سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة»، فمن «سعد» إلى «الخزرج الأكبر» أحد عشر جيلا، و إذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة و عشرون عاما، كانت المدة بين الهجرة النبوية الشريفة (في عام 622 م) و بين الخزرج الأكبر، حوالي مائتين و خمس و سبعين سنة، أي أن هجرة الأوس و الخزرج- بعد حادث سيل العرم- ربما كانت في أخريات القرن الرابع الميلادي، هذا و يحدد «سديو» هذه الهجرة بعام 300 م، و أن الاستيلاء على المدينة إنما كان حوالي عام 492 م (3).

و هكذا يبدو بوضوح أن تحديد تاريخ معين لخراب سد مأرب و هجرة القبائل العربية من جنوب بلاد العرب إلى وسطها و شمالها، أمر لا يمكن- على ضوء معلوماتنا الحالية- أن نقول فيه كلمة نظن أنها القول الفصل، أو حتى قريبا من هذا القول، و أن الأمر ما يزال في مرحلة الحدس و التخمين، حتى تقدم لنا الأرض الطيبة في اليمن أو في غيرها ما ينير الطريق أمامنا.

ص: 346


1- ياقوت 5/ 35، جرجي زيدان: المرجع السابق ص 155
2- ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص 31
3- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 315، و انظر: سديو: تاريخ العرب العام.
[7] سيل العرم و الهجرات اليمنية

يروي الأخباريون أن كثيرا من القبائل العربية التي كانت تسكن منطقة سد مأرب، قد هاجرت بعد سيل العرم من اليمن إلى شمال بلاد العرب و وسطها، و من ثم فقد ذهب الأوس و الخزرج الى يثرب، و اتجه أولاد جفنة الى الشام، و سار مالك بن فهم الازدي إلى العراق، و ذهب أزد السراة إلى السراة، و أزد عمان إلى عمان، و أما طي ء فنزلت بأجأ و سلمى، و ذهب أبناء ربيعة بن حارثة إلى تهامة، حيث سموا بخزاعة، و استولوا على مكة من جرهم (1).

و هكذا كان سيل العرم سببا في تغييرات اقتصادية و سياسية هائلة في شبه جزيرة العرب، و على تخومها الشمالية و الشمالية الغربية، بل كان سببا في قيام دولتي المناذرة و الغساسنة كدولتين حاجزتين بين بلاد العرب من ناحية، و بين الامبراطوريتين الفارسية و الرومية من ناحية أخرى.

على أن هناك من المؤرخين من يتشكك في حقيقة هذه الهجرات العربية الجنوبية نحو التخوم السورية، بحجة أن أسماء الاعلام في هذه المناطق في القرن السابع، ليس فيها بقايا الأسماء الشائعة في المنطقة الجنوبية العربية (2).

ص: 347


1- ياقوت 5/ 36- 37، الدميري 1/ 445، احمد فخري: المرجع السابق 178- 188، وفاء الوفا 1/ 120- 122، تفسير الألوسي 22/ 132- 133، تفسير البيضاوي 2/ 259، تفسير الطبري 22/ 80- 86، و مروج الذهب 2/ 171- 174، ابن كثير 2/ 161، تفسير القرطبي 14/ 285- 291، تفسير الفخر الرازي 5/ 253 الإكليل 8/ 41، 115- 116، تاريخ اليعقوبي 1/ 203- 205، نهاية الأرب 3/ 283- 288، الميداني 1/ 275- 276.
2- ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي- ترجمة د. إبراهيم كيلاني ص 29 و كذا 1872 ,siraP ,19 ,AJ ,nemeY el snad euqigoloeahcarA noissim enu rus troppaR yevlaH .J

و الواقع أن هذه الهجرات أنما تؤكدها عدة أمور، منها (أولا) أن منطقة مأرب إنما تعود خصوبة الأرض فيها إلى سد مأرب، أما و قد تعطل السد و أدى خرابه إلى خراب الحضريين و انكفائهم إلى حياة البداوة، و البحث عن أماكن جديدة، فربما كان أمرا لم يقتصر على منطقة مأرب وحدها، بل ربما شمل كذلك منطقة حضرموت، حيث تدل منشآت الري المهملة وسط الصحراء على تدني الحياة الحضرية، و منها (ثانيا) أن هناك من بين الأمراء المؤابيين في شرق الأردن أميرا يدعى «شرحبيل» و هو اسم عربي جنوبي، كما أننا نجد كذلك بعض أمراء شرق الاردن الذين ينتسبون إلى قبيلة كندة اليمنية في القرن الخامس يسمون «شرحبيل» و «معدي كرب» (1).

و منها (ثالثا) وجود قبائل في المناطق الشمالية و الجنوبية من بلاد العرب لها أسماء موحدة كقبيلة كندة التي نزل قسم منها نجدا، و نزل القسم الآخر حضرموت، و قبيلة الأزد التي نزل قسم كبير منها في السراة في الحافة الشمالية من اليمن، في حين استقر القسم الآخر في «عمان»- كما أن قبيلتي الأوس و الخزرج تنتسبان إلى الأزد- و كذلك القول في قبيلة «إياد» التي يضرب بعض أفرادها في وادي بيشة- الذي ينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب مدينة أبها- بينما ضربت أكثريتها في السهول الغربية من الفرات الأسفل (2) هذا و هناك فريق الباحثين يشكك في أن يكون السيل وحده هو سببب)

ص: 348


1- بلاشير: المرجع السابق ص 30، و كذا 53 -250 .P .P ,2 ,sebarA sed eriotsiH'l rusiassE ,lavecreP ed nissuaC
2- ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص 30- 31، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 169- 172 (طبعة الشعب)

هجرة كل تلك القبائل من الجنوب الى الشمال و الوسط، ذلك لأن سد مأرب إنما كان يسقي ربوة من الأرض لم تكن مسكنا لكل بطون «الأزد» و من ثم فإنه يصبح من الصعب أن نقبل القول بأن جميع البطون الأزدية قد هاجرت من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى شمالها، بسبب؟؟؟ السد وحده، و انه لمن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

العرم، و اضطرت بعض هذه البطون إلى ترك وطنها و الهجرة إلى الأرجاء النائية (1)، هذا فضلا عن أن المؤرخين الإسلاميين أنفسهم، إنما يرى الكثير منهم أن القوم لما أصيبوا بكارثة سيل العرم لم يخرجوا جميعا من اليمن، و إنما بقي فيها الكثير من قبائل حمير و كندة و مذبح و أنمار و الأشعريين (2).

أضف إلى ذلك أن القول بأن قبائل الأزد إنما هاجرت دفعة واحدة، أمر غير مقبول، ذلك لأن خزاعة- و هي بطن من الأزد- كانت تحكم مكة حتى حوالي عام 450 م، و قد استمرت مدة طويلة تلي ذلك الأمر، رأى البعض أنها ثلاثمائة سنة، و رأى آخرون أنها خمسمائة سنة، و هذا يعني أنها هاجرت من اليمن حوالي منتصف القرن الثاني أو في بداية القرن الثالث الميلادي، و ربما في عام 207 م، فيما يرى سديو (3).

هذا و لا يذهبن بنا الظن إلى اعتبار الهجرات الجنوبية كسيل جارف اتجه من الجنوب إلى شمال الجزيرة العربية، لأن ظواهر الأمور إنما تدل على أن هناك حركة أكثر تعقيدا، هي هجرة قبائل كهمدان مثلا، و التي هاجرت من حضرموت و استقرت فيما بين مأرب و نجران، حيث طردت قبيلة

ص: 349


1- عبد الفتاح شحاتة: المرجع السابق ص 283، إسرائيل و لفنسون: المرجع السابق ص 54
2- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 161
3- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 315، ابن كثير 2/ 183، لويس اميل سديو: تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر

طي ء، و قد سببت هذه الحركة عدة تنقلات لقبائل الحجاز و نجد، و يظهر ان المؤرخين المسلمين قد حفظوا ذكرى هذه الهجرات الناتجة عن تنقل القبائل القادمة من الجنوب، و لعل قدوم طي ء إلى نجد حوالي جبال أجأ و سلمى، و سيطرة هذه على تلك المنطقة قد سببت هجرات تكلم عنها الرواة المسلمون (1).

و أيا ما كان الأمر، و طبقا لرواية الأخباريين، فإن كثيرا من قبائل الأزد، إنما هاجرت بسبب سيل العرم، الأمر الذي لا يمكن تحديده بسهولة- كما أشرنا من قبل- ذلك لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده في منتصف القرن السابع- و ربما الثامن ق. م. (2)- و بين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543 م، فهناك عدة إشارات الى تهدم السد و إصلاحه (3)، و من ثم فلا ندري على وجه التحديد في أي وقت من هذه الفترة التي ربما تزيد عن اثني عشر قرنا، قد حدثت هذه الهجرات.

و أما أن تهدم السد كان بسبب «جرذ» له مخالب و أنياب من حديد (4)،

ص: 350


1- ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص 32
2- جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: المرجع السابق ص 88، و كذا انظر و كذا tic- po, renfoH. M dna nnamssiW noV. H، و كذا 27. P 79. P, tic- po, nesleiN. D
3- فريتز هومل: المرجع السابق ص 109، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 304، احمد فخري: المرجع السابق ص 183، جواد على 2/ 580، 586، 3/ 483- 484، و كذا 16. P, tic- po, nosiahciN. A. R و كذا 494- 493. P, 4- 3, 1964, noesum el, noesuM el و كذا 176. P, tic- po, emmaJ. A و كذا 118. P, tic- po, yblihP. B. J
4- تاريخ ابن خلدون 2/ 50، ياقوت 5/ 35. الدميري 1/ 445، مروج الذهب 2/ 163- 164، تاريخ اليعقوبي 1/ 205، الدرر الثمينة ص 326، تفسير الطبري 22/ 80- 86، تفسير روح المعاني 22/ 127- 133، ابن كثير 2/ 160، قارن: الميداني 1/ 275- 276، نهاية الأرب 3/ 283- 288

فتلك أساطير لا تدور إلا في رءوس أصحابها، و من ثم فهي لا تعرف نصيبا من صواب، كما أن «كيتاني» قد جانبه الصواب كذلك، حين ذهب إلى أن خراب سد مأرب، إنما كان بسبب الجفاف الذي أثر على السد، بل إن ضغط الماء على جوانب السد، ثم حدوث سيل العرم، إنما هو في حد ذاته لدليل على فساد نظرية الجفاف هذه (1)، فضلا عن معارضتها الصريحة لما جاء في القرآن الكريم عن حادث السيل هذا (2).

و لعل أهم الأسباب التي أدت إلى تصدع السد، ثم حدوث السيل، إنما هو ضعف الحكومات، ثم تحول الطرق التجارية، فضعف الحكومات في اليمن أدى إلى تزعم سادات القبائل و الرؤساء، و انشقاق الزعامة في البلاد، و زاد الطين بلة أن تلك القلاقل الداخلية، قد صاحبها تدخل الحبشة ثم الفرس في شئون البلاد الداخلية، و كان نتيجة ذلك كله، اضطراب الأمن في اليمن، و ظهور ثورات و فتن داخلية، كما تدلنا على ذلك النقوش منذ القرن الرابع الميلادي، و إن ظهوره بوضوح إبان القرن السادس الميلادي، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بواجباتها، مما أدى إلى إهمال السد، و من ثم فقد تصدعت جوانبه، فكان السيل الذي أغرق مناطق واسعة من الأرض الخصبة، التي كان القوم يعتمدون عليها في حياتهم الاقتصادية (3).

أضف إلى ذلك كله، أن اليمن لم تصبح في تلك الفترة صاحبة السيادة على الطرق التجارية، كما أنها لم تعد الوسيط الوحيد في نقل التجارة إلى

ص: 351


1- جواد علي 1/ 244- 246، و كذا انظر296 ,267 ,192 ,188 ,185 ,64 .P .P ,I ,elatneirO airotsiH alleD ,idutS ,inateaC .L و كذا 10- 309. P. P, djeN nrehtroN, lisuM siolA
2- سورة سبأ: آية 15- 19
3- جواد علي 1/ 246 و كذا انظر 41 -540 ,384 ,soN ,2 ,loV ,4 ,traP ,1911 ,muracitimeS munoitpircsnI suproC

المناطق الشمالية، بل ربما لم يعد دور اليمن- بعد سيطرة الرومان على البحر الأحمر، فضلا عن ظهور القرشيين و قيامهم برحلتي الشتاء و الصيف المشهورتين- إلا دورا ثانويا. و هكذا تجمعت العوامل السياسية و الاقتصادية معا على إهمال الزراعة و كساد التجارة، مما دفع بقبائل عربية غير قليلة إلى الهجرة إلى بلاد العرب الشمالية و الوسطى (1). A

ص: 352


1- 317, 909. PP, tic- po, lisuM. A

الفصل العاشر قصة أصحاب الأخدود

[1] القصة في المصادر العربية

ص: 353

ص: 354

لا ريب في أن الفضل- كل الفضل في كل ما جاء في المصادر الإسلامية عن تعذيب «ذي نواس» لنصارى نجران إنما يرجع إلى القرآن الكريم الذي أشار إلى الحادث في قوله تعالى «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» (1)، و من ثم فقد كانت هذه الإشارة حافزا دفع بالمفسرين و أصحاب التاريخ و الأخبار على جمع ما علق بالأذهان عن الحادث الخطير.

و لعل من الأفضل هنا- قبل أن نناقش روايات المؤرخين و المفسرين التي دارت حول هذا الحادث- أن نثبت- بادئ ذي بدء- تلك الرواية الصحيحة، التي جاءت في صحيح الإمام مسلم عن رسول اللّه، (صلى اللّه عليه و سلم)، و التي تتلخص في أن ملكا كان له ساحر، و ان هذا الساحر قد طلب من مليكه عند ما بلغ من الكبر عتيا، أن يبعث إليه بغلام يعلمه السحر، فأجابه الملك إلى طلبه، غير أن راهبا كان في طريق الغلام إلى الساحر، فكان يقعد إليه و يسمع منه، مما كان سببا في أن يتأخر عن الساحر، الذي كان يضربه بسبب تأخره عنه.

و مرت الأيام، و بينما كان الغلام في طريقه إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فأخذ حجرا و قال: «اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها،

ص: 355


1- سورة البروج: آية 4- 9

فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى و انك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ علي».

و ينجح الغلام بعد ذلك في أن يبرئ الأكمه و الأبرص و في أن يشفي الناس من أوجاعهم، و في أن يرد لواحد من رجال البلاط بصره، و ما أن يعلم الملك بالأمر الأخير، حتى يسأل رجل بلاطه عن الذي رد عليه بصره، فيجيبه: إنما هو ربي، فيقول له الملك: و لك رب غيري، فيقول: ربي و ربك اللّه، فما كان من الملك إلا أن يعذب رجل بلاطه، الذي يعترف بأمر الغلام، و هنا يأمر الملك بقتله، فضلا عن قتل الراهب، بعد أن عرض عليهما أن يتركا دينهما الجديد، فلما رفضا شق رأس كل منهما بمنشار.

غير أن الملك إنما يفشل تماما في قتل الغلام، بعد أن جرب معه وسائل مختلفة، منها القاؤه من فوق قمة جبل، و منها قذفه في البحر، و منها ضربه بسيف، و أخيرا يدله الغلام على الطريقة الوحيدة لقتله، و ذلك بأن يجمع الناس، ثم يرميه بسهم، قائلا: «بسم اللّه رب الغلام».

و هكذا يقتل الغلام، و لكن الناس- و قد رأوا كل ما حدث- إنما يؤمنون برب الغلام، فيغضب الملك و يأمر بقتل المؤمنين و من ثم فإنه يأمر بالأخدود (1) في أفواه السكك، ثم يضرم النار، و يعرض عليها الناس، فمن رجع عن دينه الجديد تركه، و من أصر على الإيمان ألقاه في الأخدود فأحرقه، حتى أن امرأة جاءت و معها صبي لها فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها صبيّها: امض يا أماه فإنك على الحق، فاقتحمت

ص: 356


1- الأخدود: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، و جمعه الأخاديد، و مصدره الحد، و هو الشق، يقال خدّ من الأرض خدا، و تخدد لحمه إذا صار فيه طرائق كالشقوق (تفسير الفخر الرازي 31/ 119، و انظر: تفسير جزء عم للآلوسي ص 87- 88

النار (1).

هذا و قد قدم لنا المؤرخون الإسلاميون عدة روايات عن قصة تعذيب «ذي نواس» لنصارى نجران- (غير تلك الرواية الصحيحة، الآنفة الذكر، و التي جاءت في صحيح مسلم)- و بالتالي عن تدخل الأحباش و استيلائهم على اليمن، و من هذه الروايات واحدة تذهب إلى أن من يدعى «عبد اللّه بن الثامر» قد أخذ النصرانية عن راهب مسيحي- لعله فيميون- و أن عبد اللّه بن الثامر- و كذا فيميون- قد قتلا، و أن رجلا قد حفر حفرة على أيام الفاروق عمر بن الخطاب، فرأى عبد اللّه، و قد وضع يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دما، و إذا ارسلت يده ردها إليها و هو قاعد، فكتب بذلك إلى عمر، فأمر الخليفة الراشد أن يتركه على حاله (2).

على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن ذا نواس كان يهوديا متعصبا، فقدم عليه يهودي- يقال له دوس من أهل نجران- فأخبره أن القوم قد قتلوا له بنين ظلما، فاستنصره عليهم- و أهل نجران نصارى- فغضب ذو نواس لليهودي، و شن حملة على أهل نجران، ثم خيّرهم بين اليهودية أو القتل، فاختاروا القتل، و هنا حفر لهم أخدودا ثم أضرم فيه النار، و ألقاهم فيه، فقتل منهم عشرين ألفا على رواية، و سبعين ألفا على رواية أخرى (3).

ص: 357


1- صحيح مسلم 18/ 130- 133
2- تاريخ الطبري 2/ 124
3- تاريخ الطبري 2/ 123، مروج الذهب 1/ 80- 81، تاريخ الخميس ص 220، تاريخ ابن خلدون 2/ 60 و تفسير القرطبي 19/ 292، تفسير الفخر الرازي 31/ 118، تفسير روح المعاني 30/ 89

و هناك رواية ثالثة تذهب إلى أن قوما من المجوس سكر ملكهم فوقع على أخته- أو ابنته- ثم أراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته، فخطب الناس بأن اللّه- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- قد أحل نكاح الأخوات أو البنات، فرفض القوم متابعته في شريعته هذه، فأشارت عليه تلك التي وقع عليها أن يخد لهم أخدودا، فمن أبى قذف به في النار، و من لم يأب تركه، هذا إلى رواية رابعة يذهب أصحابها إلى أن هناك نبيا بعث في الحبشة فآمن به خلق كثير، فخذ لهم قومهم أخدودا ثم أخذوا يعرضون الناس عليه، فمن أتبع النبي قذف به في الأخدود، و من تابعهم تركوه.

و أيا ما كان الأمر في هذه الروايات، فإن أصحابنا الأخباريين يذهبون إلى ان واحدا من أهل نجران الذين عذّبهم ذو نواس- و يقال له دوس ذو ثعلبان- قد استطاع أن يهرب على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى إذا أتى الامبراطور الروماني «جستين» (518- 527 م) فاستنصره على ذي نواس و جنوده، و أخبره بما بلغ منهم، فقال له القيصر: «بعدت بلادك من بلادنا و نأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود، و لكني سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، و هو على هذا الدين و قريب منكم».

و يكتب القيصر إلى النجاشي يأمره بنصرة دوس هذا، و ينفذ الملك الحبشي ما أمر به العاهل الروماني، فيرسل مع دوس سبعين ألفا من الرجال، على رأسهم «أرياط»- و في جنوده أبرهة الأشرم- و يأمره إن ظفر باليمن: «أن يقتل ثلث رجالهم، و أن يخرب ثلث بلادهم، و أن يسبي ثلث نسائهم و أبنائهم». (1)

و يخرج الجيش من الحبشة، فينزل بسواحل اليمن، و يجمع ذو نواس

ص: 358


1- تفسير القرطبي 19/ 290، تفسير الألوسي 30/ 88- 89، تفسير الفخر الرازي 31/ 118.

إليه حمير، و من أطاعه من قبائل اليمن، و تقوم الحرب بين الفريقين، و ما هي إلا جولة حتى يكتب النصر للأحباش، و تكون الهزيمة من نصيب ذي نواس و ما أن يرى ذو نواس ما نزل به و بقومه، حتى يقتحم البحر بفرسه فيغرق، و يطأ أرياط اليمن بالحبشة، فيقتل ثلث رجالها، و يخرب ثلث بلادها، و يبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، و يقيم بها و يستذل أهلها (1).

على أن هناك رواية أخرى، تختلف عن الرواية السابقة بعض الشي ء، فهي ترى أن الذي هرب إنما كان «جبار بن فيض»، و أنه ذهب إلى الحبشة مباشرة، و معه الإنجيل قد أحرقت النار بعضه، و أن ملك الحبشة قد قال له: «الرجال عندي كثير، و ليست عندي سفن، و أنا كاتب إلى قيصر في البعثة إليّ بسفن أحمل فيها الرجال»، فكتب إلى قيصر في ذلك! و بعث إليه بالإنجيل المحروق، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة» (2).

و تستطرد الرواية فتذهب إلى أن السفن لما قدمت إلى النجاشي من بيزنطة، حمل فيها جيشه، فخرجوا الى مضيق باب المندب، فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى نصرته، و أن يكون أمرهم في محاربة الحبشة و دفعهم عن بلادهم واحدا، غير أن الأقيال رفضوا الفكرة، و طلبوا «أن يقاتل كل رجل عن مقولته و ناحيته»، فلما رأى ذو نواس ذلك صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدد من الإبل، و خرج حتى لقي عدوه الحبشي، فقال له: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم

ص: 359


1- تاريخ الطبري 2/ 124- 125، ابن الأثير 1/ 431- 432، المعارف لابن قتيبة ص 277، الكشاف 2/ 1594، تفسير البيضاوي 2/ 550، ابن كثير 2/ 168- 169، قصص القرآن ص 291- 293، تاريخ ابن خلدون 2/ 59- 60، تاريخ اليعقوبي 1/ 199- 200، قارن المقدسي 3/ 182- 183
2- تاريخ الطبري 2/ 124، المقدسي 3/ 184، قارن: تاريخ ابن خلدون 2/ 60.

بها»، فلما وجه أرياط الثقات من رجاله لاستلام خزائن اليمن، كتب ذو نواس إلى كل ناحية: أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم، فقتلت الحبشة، فلم يبق منهم إلا الشريد، فلما بلغ النجاشي ذلك جهز إليهم سبعين ألفا، عليهم قائدان، أحدهما أبرهة الأشرم، فلما وصلوا الى صنعاء (1)، و أدرك ذو نواس أنه لا طاقة له بهم ركب فرسه، و اعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به (2).

هذه هي أهم الروايات العربية التي تحدثت عن غزو الحبشة، و السيطرة عليها قرابة نصف قرن من الزمان، إلا أن هناك بعض النقاط التي تدعو إلى التساؤل في هذه الروايات، منها (أولا) ذلك الخلاف في أسباب تلك المذبحة الرهيبة التي حدثت في نجران، ففريق يذهب إلى أن السبب إنما كان لاعتناق القوم النصرانية، و فريق آخر أنها كانت لنصرة رجل يهودي قتل نصارى نجران ولديه، بل ان فريقا ثالثا إنما يذهب إلى أن السبب إنما كان لأن واحدا من الملوك أراد أن يجبر الناس على الزواج من

ص: 360


1- بدأ اسم صنعاء (صنعو) يظهر في تاريخ اليمن منذ أيام الملك «الشرح يحصب» (من القرن الثاني ق. م.، على رأي، و من القرن الأول ق. م.، على رأي آخر)، حيث تردد كثيرا من نصوص ذلك العهد (كما من نقوش جام 575، 577، ريكمانز 535)، ثم سرعان ما بدأت تأخذ مكانتها بين مدن اليمن، حتى أصبحت آخر الأمر عاصمة البلاد و مقر الحكام حتى الآن (انظر 57. P, tic- po, ittiH. K. P و كذا 393. P, tic- po, emmaJ. A و كذا 142. P, tic- po, ybbihPi. B. J و كذا) 19. P, tic- po, renfoH. M dnu namssiW noV. H) و بدهي أن ذلك لا يتفق و روايات الاخباريين من أنها كانت تدعى «أزال»، و أن «و هرز» القائد الفارسي هو الذي اطلق عليها اسم «صنعاء» حين قال إبان دخوله إياها «صنعة صنعة»، يريد أن الحبشة قد أحكمت صنعها، أو أن التسمية كانت نسبة إلى بانيها «صنعاء بن أزال بن عبير بن عابر بن شالخ» على رواية، و «غمدان بن سام بن نوح» على رواية أخرى، فكانت تعرف تارة بأزال و تارة بصنعاء (ياقوت 3/ 426- 427، البكري 3/ 843)
2- تاريخ الطبري 2/ 125، 127، تاريخ ابن خلدون 2/ 60- 61، تاريخ اليعقوبي 1/ 199- 220، تاريخ الخميس ص 220

أخواتهم أو بناتهم، و من ثم فالقصة كانت- فيما يزعم هذا الفريق- مع المجوس، و ليست مع النصارى، و أخيرا فإن فريقا رابعا ذهب إلى أن القصة إنما كانت مع الأحباش، و أن المجزرة إنما كانت بسبب إيمان فريق من الناس بنبي هناك.

و منها (ثانيا) ذلك الخلاف في مكان الأخدود، أ هو في اليمن أم في الشام أم في فارس أم في الحبشة، بل إن فريقا خامسا زعم أن أصحاب الأخدود إنما هم «عمرو بن هند» (1) المشهور بمحرق و من معه، حين حرقوا مائة من بني تميم (2) و منها (ثالثا) أنه من المعروف تاريخيا أن ذا نواس، إنما قتل بيد الأحباش على رواية، و أنه قد ركب فرسه و اعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به، على رواية أخرى، غير ان رواية ثالثة إنما تذهب إلى أن نار الأخدود قد ارتفعت فصارت فوق الملك و أصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم (3).

و منها (رابعا) تلك الحيلة الساذجة التي يزعم الأخباريون أن ذا نواس قد لجأ إليها للقضاء على الأحباش، و ذلك بإعطائهم مفاتيح خزائن

ص: 361


1- هو «عمرو بن المنذر» كان مليكا على الحيرة في الفترة (554- 569 م)، و أما «هند» هذه، فهي امه بنت «عمرو بن حجر آكل المرار»، عمه امرئ القيس الشاعر المشهور، و كان «عمرو بن هند» يسمى «مضرط الحجارة» كناية عن قوة ملكه و شدة بأسه، كما كان يسمى «المحرق» لأنه حرق «بني تميم»، أو لأنه حرق نخل اليمامة، و كان جبارا عاتيا، لا يبتسم و لا يضحك، و من ثم فقد كانت العرب تهابه و تخشاه (حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض و الأنبياء ص 72، ابن قتيبة: المعارف ص 283، المقدسي: البدء و التأريخ 3/ 203)
2- تفسير القرطبي 19/ 290، تفسير الطبري 30/ 131- 133، تفسير روح المعاني 30/ 88- 90
3- تفسير القرطبي 19/ 289

اليمن محملة على جمال عدة، ثم أمر نوابه في الأقاليم بقتل رسل القائد الحبشي ثم كيف قبل أرياط هذه الحيلة الساذجة، و هل تحتاج خزائن اليمن إلى مفاتيح تحمل على جمال عدة.

و منها (خامسا) أن أصحابنا الأخباريين لم يبينوا لنا لما ذا أراد النجاشي من قائدة أن يقتل له ثلث رجال اليمن، و أن يخرب ثلث بلادهم، و أن يسبي ثلث النساء و الأطفال، ثم ما الهدف من هذا النظام الثلاثي في العقوبة، و كيف يمكن تحديد هذا الثلث، و بخاصة في الرجال و النساء و الأطفال، و أخيرا ما هو المصدر الذي اعتمدوا عليه في هذه الرواية، بل و في غيرها من الروايات.

و منها (سادسا) من الذي نجا من مذبحة ذي نواس؟ أ هو «دوس ذو ثعلبان» أم «جبار بن فيض»، ثم إلى أين ذهب هذا الذي نجا، أ لملك الحبشة، أم لقيصر الروم؟ و منها (سابعا) كيف حدد أصحاب هذه الروايات عدد القتلى في مذبحة نجران بعشرين ألفا، أ هو مجرد رقم؛ أم أن لهم مصدرا اعتمدوا عليه في تحديد هذا الرقم؟ إن الوثائق لم تتحدث عن عدد القتلى، و من ثم فأكبر الظن أنه مجرد رقم، أريد به المبالغة في تصوير المذبحة الرهيبة، ذكره بعض الأخباريين، ثم تابعه الآخرون في ذكره، بل إن بعضهم ذهب إلى أنهم اثنا عشر ألفا، بينما ذهب الخيال بفريق ثالث حدا جعله يقرر أن من قتلهم ذو نواس، إنما كانوا سبعين ألفا (1)، و على أية حال، فالدكتور إسرائيل ولفنسون إنما يعترض على هذه الأرقام، و يرى أن عدد القتلى مبالغ فيه، و أن نجران لم تكن سوى بلدة صغيرة، لا يزيد عدد سكانها عن بضع مئات، فضلا عن أن ذا نواس لم يقتل كل أهالي نجران، بدليل أنهم ذكروا في أخبار صدر الإسلام (2)،

ص: 362


1- تفسير القرطبي 19/ 292، تفسير الفخر الرازي 31/ 118، تفسير الألوسي 30/ 89
2- إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص 45، ابن هشام 2/ 165

أضف إلى ذلك أن ترنيمة يوحنا، إنما تحدد عدد القتلى بما يقارب المائتين، و هو رقم مقبول، و ربما قد يدل على صحة هذه الترنيمة، و على معاصرتها للحادث الخطير (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم لم يتحدث عن هذا الذي خدّ الأخدود، و لا على عدد القتلى، و الأمر كذلك بالنسبة إلى مكان هذا الحادث، و من ثم فقد كان الخلاف البين بين الباحثين في كل هذه الأمور، فذهب بعضهم إلى أن الحادث إنما كان بنجران في الفترة ما بين المسيح و محمد صلوات اللّه و سلامه عليهما، و ذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان باليمن (دون تحديد مكان معين)، و قبل مبعث المصطفى، (صلى اللّه عليه و سلم)، بأربعين عاما، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن هناك أخاديد، و ليس أخدودا واحدا، فهناك أخدود في اليمن على أيام «تبع» و آخر في القسطنطينية على أيام قسطنطين، حين صرف الناس من أتباع عيسى قبلتهم عن دين المسيح و التوحيد، و اتخذ أتونا و ألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح و التوحيد، ثم هناك أخدود ثالث في العراق على أيام بخت نصر (نبوخذ نصر 605- 562 ق. م.)، حين صنع صنما و أمر الناس بالسجود له، ففعلوا، إلا دانيال و عزريا و مشايل، فألقي بهم في أتون من نار، إلا أن اللّه سبحانه و تعالى جعلها عليهم بردا و سلاما، ثم ألقى بأعدائهم فيه فاكلتهم النار (2).

و لست أدري من أين جاء أصحابنا الأخباريون برواياتهم هذه، و تاريخ المسيحية لا يتحدث عن اضطهاد للنصارى على أيام الامبراطور قسطنطين (306- 337 م)، بل إن العكس هو الصحيح تماما،

ص: 363


1- 38. P, tic- po, lleB. R
2- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 131- 132، تفسير القرطبي 19/ 290

فالتاريخ يحدثنا أن الرجل قد اعترف بالنصرانية في عام 311 م، كواحدة من ديانات امبراطوريته، بل إن هناك بعض الروايات التي تذهب إلى أن الرجل قد تنصر في عام 312 م، و إن ذهبت روايات أخرى إلى أنه بقي وثنيا طوال حياته، و لم يتقبل النصرانية إلا على فراش الموت، هذا فضلا عن أن أمه «هيلانة» هي التي بنت كنيسة القيامة في بيت المقدس (1).

أما رواية خدّ العراق، فهي اسرائيلية صرفة، و ليس في تاريخ البابليين- فضلا عن اليهود أنفسهم- ما يشير إلى هذا الحادث، و إن كانت التوراة (2) قد أشارت إلى حادث يشبه هذا، إلا أنه لم يكن مع «دانيال» الذي كان مقربا الى البلاط البابلي، و إنما كان مع ثلاثة من اليهود يعملون سقاة في القصر الملكي، و يبدو أن الرواية قد نقلت إلى المؤرخين المسلمين من اليهود محرفة، فضلا عن أن أكبر الظن عندي أن قصة التوراة نفسها، إنما هي قصة الخليل- عليه الصلاة و السلام- إلا أن طغمة باغية من يهود قد عبثت بالقصة، فحولتها إلى هؤلاء الذين كانوا يشرفون على شراب الملك البابلي، و ما أكثر الحقائق الدينية و التاريخية التي حرفها اليهود في توراتهم.

أضف إلى ذلك، أن القرآن الكريم لم يتحدث عن عدد الضحايا في مذبحة الأخدود هذه، إلا أن المفسرين و أهل الأخبار أخذوا يتنافسون في تقديم أرقام مختلفة عن ضحايا الحادث الأليم، دون أن يذكروا لنا

ص: 364


1- عمر كمال توفيق: تاريخ الامبراطورية البيزنطية، الاسكندرية 1967 ص 29، و انظر كذلك: إدوارد جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية و سقوطها، ترجمة محمد علي أبو ريدة، القاهرة 1969، الجزء الأول ص 563 و ما بعدها، فيليب حتى: تاريخ سورية و لبنان و فلسطين- الجزء الأول- ص 387- 388، ثم قارن: S ,hC ,X .kB ,suibesuE 4 ,hc ,I .KB ,acitsaiseleccE airotsiH ,sunemozoS
2- دانيال: 1- 3: 30

المصادر التي اعتمدوا عليها، و من ثم رأينا ارقاما تتفاوت فيما بين 70، 80، 87، 12، ألف، 20 ألف، 70 ألف، و الفرق جدّ شاسع بين أقل هذه الأرقام و أكبرها، و من ثم فإننا لا نستطيع أن نقول أي الأرقام هو الصحيح، أو حتى أيها هو الأقرب إلى الصحيح.

و أخيرا فإن الذي يفهم من النص القرآني الكريم أن الذي قتل أصحاب الأخدود، إنما كان مشركا (1)، بدليل قوله تعالى «وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، و من ثم فإن الذي دعا نصارى نجران، إنما دعاهم إلى الوثنية، لا إلى اليهودية، لأن اليهودية و النصرانية ديانتان سماويتان، لا مجال لتفضيل إحداها على الأخرى، و إذا بدا أن اليهود كانوا أشد عداء للرسول، (صلى اللّه عليه و سلم)، و للإسلام، و أن النصارى أقرب مودة، طبقا لقوله تعالى «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (2)، فذلك يقتضي أن يفضل النصارى على اليهود، و لا يقتضي تفضيل اليهودية على النصرانية، أو النصرانية على اليهودية (3)، و من ثم فإن ذا نواس، إما أن يكون قد دعا نصارى نجران إلى الوثنية، و بالتالي فهو لم يكن يهوديا، و إنما كان وثنيا، أو أنه لا صلة له من قريب أو بعيد، بقصة الأخدود التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.

بقي أن نشير إلى أن الروايات العربية إنما تذهب إلى أن ذا نواس، إنما

ص: 365


1- تفسير ابن كثير 4/ 548، تفسير القرطبي 30/ 134، ياقوت 5/ 268
2- سورة المائدة: آية 82 و انظر: تفسير الجواهر 3/ 202- 203، تفسير الطبرسي 6/ 171- 176، تفسير الطبري 10/ 498- 506، تفسير الكشاف 1/ 668- 669، تفسير النسفي 2/ 3- 4، تفسير ابن كثير 2/ 623، في ظلال القرآن 7/ 959- 966
3- عمر فروخ: المرجع السابق ص 74، و انظر كذلك: ياقوت 5/ 268

أنهى حياته بنفسه، و ذلك حين ركب فرسه فوجهه نحو البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فاقحمه فيه، فكان آخر العهد به (1)، إلا أن الروايات الحبشية و الإغريقية، إنما تذهب إلى أن الرجل قد وقع أسيرا في أيدي أعدائه فقتلوه، بل إن هناك رواية غريبة تنسب إلى «علقمة ذي جدن» شعرا جاء فيه:

[أو ما سمعت بقتل حمير يوسفا: أكل الثعالب لحمه فلم يقتبر]، و الرواية قد يفهم منها أن الرجل إنما قتل بيد الحميريين أنفسهم، و إن جثته لم تقبر، و إنما ألقيت إلى الحيوانات المفترسة حيث أكلتها، و طبقا لهذه الرواية، فإن «فون كريمر» إنما يذهب إلى أن ذا نواس لم يغرق في البحر، و إنما قتل قتلا، كما جاء في الروايات العربية، و أخيرا، فإن هناك رواية تذهب إلى أنه قد مات حريقا بنيران الأخدود الذي أوقده (2).

و على أي حال، فإن «جون فلبي» قد زار نجران، و عثر هناك على خرائب أثرية قديمة في بلدة «رجمت»، ذهب إلى أنها هي آثار الأخدود الذي احتفره ذو نواس في هذه القصة موضوع الدراسة (3).

ص: 366


1- تاريخ الطبري 2/ 125، 127، المقدسي 3/ 185
2- تفسير القرطبي 19/ 289، عبد المجيد عابدين: بين الحبشة و اليمن ص 51، جواد علي 3/ 471- 472، و كذا I, XX, I, suipocorP و كذا 16. P, 188, 35, GMDZ و كذا 433. P, alalaM و كذا انظر 127, 92. P. P 127, egaS ehcsibaraduS, remerK noV و كذا 5. P, I, V, RGIPE. PER ثم قارن: سعد زغلول: من تاريخ العرب قبل الاسلام ص 197- 198، حيث يرى أنه ربما قتل دون أن يعرف أمره في وسط اضطراب المعركة التي دارت على مقربة من الشاطئ ربما من موضع نزول الحملة من مراكبها.
3- عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص 186 و كذا F 237. P, sdnalhgiH naibarA, yblihPi. B. J

و من الغريب أن الكتابات العربية الجنوبية لم تحدثنا بشي ء عما ورد في كتابات المؤرخين الإسلاميين، إلا أن نقش «حصن غراب»، و المعروف (2633, RGIPE. PER)، و يرجع تاريخه إلى عام 525 م، إنما يشير إلى أن الأحباش قد استولوا على اليمن في عهد ملك لم يذكر النقش اسمه، و أنهم قد قتلوا هذا الملك و أقياله (1)، على أن «هوجو فنكلر»، إنما يذهب إلى أن هذا الملك إنما هو ذو نواس، و أنه كان البادئ بالحرب، و أن أصحاب النص (السميفع أشوع و أولاده)، كانوا من أنصار ذي نواس على غير رغبة منهم، و أن المعارك التي دارت بين الفريقين قد انتهت بانتصار الأحباش، و من ثم فإن «السميفع أشوع» و أولاده، قد اضطروا إلى الالتجاء إلى حصن ماوية حتى انتهت العاصفة، و حينئذ فإنهم قد عقدوا صلحا مع السادة الجدد (2).

[2] القصة في المصادر المسيحية و اليونانية

اهتمت المصادر المسيحية المعاصرة بغزو الحبشة لليمن، و من هؤلاء «قزما»، الذي كان في الحبشة إبان عمل الاستعدادات لغزو اليمن، و قد سجل لنا قصة الغزو، ربما بعد 25 سنة من وقوعها، و قد رأى ان الحملة إنما تمت في أوائل أيام القيصر «جستين» (518- 527 م) (3)،

ص: 367


1- 176. P 1890, VILX, GMDZ ni, nnamtdroM. H. J و كذا s. p, i, V, RGIPE. PER و كذا انظر132 -131 .P .P 1895 ,acirfA dnu neibarA ni reinissebA eiD ,resalG .E
2- جواد علي 3/ 459- 410 انظر:327 .P ,sneinissebA dnu snemeY ethcihcseG netlA ruZ ,relkcniW .H
3- جواد علي 3/ 461، مجلة المجمع العلمي العرب بدمشق، المجلد 23، الجزء الأول، 1948 ص 18 و ما بعدها، و كذا و كذا. S. P, 1881, GMDZ و كذا 323. P, II, eripmE namoR eht fo yrotsiH, yruB. B. J و كذا 141. P, samsoC

بل إن «ثيوفانس» و «سدرينوس» قد حدداها بالعام الخامس من حكم هذا القيصر (أي عام 523 م)، و أن سبب قيام الحملة إنما كان تعذيب ذي نواس- الذي قتل في المعارك- لنصارى نجران، على أنهما يتحدثان كذلك عن غزو آخر قام به الملك الحبشي «أداد» ضد «دمياتوس»، و أن هذا الغزو الأخير قد حدث في العام الخامس عشر من عهد القيصر «جستنيان» 527- 565 م)، أي في عام 542 م. (1)

و هناك رواية يونانية إلى أن «ذا نواس saanuD» ملك حمير، قد عذب نصارى نجران في العام الخامس من عهد الأمبراطور «جستين» (أي عام 523 م)، و من ثم فقد قام نجاشي الحبشة بغزو حمير، ففر ذو نواس إلى الجبال، حتى إذا ما واتته الفرصة انقض على الجيش الحبشي، فأباده و احتل نجران، مما اضطر الأحباش إلى القيام بحملة ثانية، انتصرت على الملك الحميري، و عينت مكانه «أبرهة semarbA». (2)

و لعل من أهم الوثائق المسيحية التي تتصل بتعذيب نصارى نجران، إنما هي «رسالة مار شمعون» أسقف بيت رشام إلى رئيس أساقفة «دير جبلة»، يصف فيها ما سمعه من شهود عيان من أهل اليمن عن تعذيب نصارى نجران، و ما لا قوة هناك من صنوف التعذيب، ثم يتحدث بعد ذلك «مار شمعون» في رسالته عن الرسالة التي ارسلها ملك حمير إلى ملك الحيرة، و فيها يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته، ما فعله هو بنصارى نجران، و أن شمعون قد تأكد بنفسه من الحادث، و ذلك حين أرسل من قبله رسولا ليأتيه بالخبر اليقين، و من ثم فقد وجه شمعون نداء إلى كل الأساقفة الرومان، و إلى بطريق الإسكندرية، و إلى أحبار

ص: 368


1- جواد على 3/ 462 و كذا انظر 67. p. 1877. 31, GMDZ, nnamtdroM. H. J و كذا 346, 1, senahpoehT
2- جواد علي 3/ 463، و كذا. 67. p, tic- po, nnantdroM. H. J

طبرية، طالبا منهم بذل الجهود الجادة لإيقاف هذه المذابح البشرية، و رغم ما تفيض به الرسالة من عواطف شخصية، و من مبالغات متعمدة لإثارة الحمية الدينية عند رجال الدين المسيحي، و رعم أن ما جاء بها على لسان ملك حمير، إنما هو من كلام شمعون، و ليس كلام الملك الحميري فإن الرسالة بصفة عامة صحيحة، و من ثم فهي وثيقة تاريخية يمكن أن ينظر إليها باهتمام (1).

هذا و قد تحدثت المصادر السريانية كذلك عن شهداء نجران، و منها كتاب ينسب إلى «يعقوب السروجي»، و قصيدة في رثاء الشهداء لأسقف الرها «بولس»، فضلا عن نشيد كنسي سرياني لرئيس دير قنسرين «يوحنا بسالطس» المتوفي عام 526 م، أو 600 م (2).

[3] الاحتلال الحبشي و علاقته بقصة الأخدود

ليس من شك في أن العلاقة بين اليمن و الحبشة، إنما ترجع إلى عصور موغلة في القدم، قد تبعد عن الميلاد بقرون طويلة، و ربما كان ذلك بسبب قرب الحبشة من اليمن، حيث لا يفصل بينهما إلا مضيق باب المندب الضيق، و الذي كان يمكن عبوره بسهولة بوسائل النقل التي كانت متاحة في تلك العصور الخالية، و من ثم فقد تبادل الفريقان الهجرات، و هكذا رأينا هجرات عربية تنتقل من بلادها إلى الشواطئ الأفريقية المقابلة، كما رأينا كذلك هجرات إفريقية إلى العربية الجنوبية، فضلا

ص: 369


1- عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 55- 56، جواد علي 3/ 464- 465، و كذا 323. P, tic- po, yruB. B. J و كذا 4- 2. PP, 1881, 35, GMDZ و كذا 177. P, VI, ageerG, irotsiH stnamgarF
2- جواد علي 3/ 465، اللؤلؤ المنثور في تاريخ الآداب و العلوم السريانية ص 254، و كذا 324. P, tic- po, yruB. B. J و كذا 4. P, 35, 400, 324. P. P, 31, GMDZ

عن هجرات مرتدة من هذا الجانب أو ذاك، إلى جانب حملات عسكرية من الجانب العربي- و كذا من الجانب الافريقي- نجحت في أن تحتل جزءا كبيرا أو صغيرا من هذه المنطقة أو تلك.

هذا و يذهب كثير من الباحثين إلى أن العرب الساميين، إنما كانوا يتجهون إلى إفريقية منذ وقت مبكر، على دفعات متعددة، و في أوقات مختلفة، و هكذا رأينا في الألفي سنة قبل الميلاد جماعات عربية تهاجر من جنوب غربي شبه الجزيرة العربية إلى الحبشة (1)، و يرى «كارل بيترز» أن هناك جالية حميرية كانت تعيش في المنطقة الواقعة بين نهري الزمبيزي و اللمبوبو منذ الألف الثاني قبل الميلاد، و أن المعبد الكبير في «زمببويه» إنما بني في عام 1100 قبل الميلاد، و أن السبئيين كانوا أصحاب السيادة في ذلك الوقت (2).

على أن الأمر إنما يزداد وضوحا منذ القرن السادس ق. م.، حيث نزحت جالية سبئية إلى المنطقة المعروفة ب «تعزية» في أرتيريا- و كذا إلى هضبة الحبشة- مكونة حكومة محلية هناك (3)، و لعل هجرة الأوسانيين إلى السواحل الأفريقية، إنما كانت في نفس تلك الفترة، حيث اتخذوا من «عزانيا» مقرا لهم، ثم سرعان ما أخذوا يشقون طريقهم نحو الجنوب، و يحدثنا صاحب كتاب «الطواف حول البحر الأريتري» أن هذه المنطقة التي شغلها الأوسانيون، إنما كانت تسمى على أيامه «eaetinasuA»، و هو اسم لا شك أنه قريب من اسم «أوسان» و أن

ص: 370


1- مصطفى محمد مسعد: الإسلام و النوبة في العصور الوسطى ص 107
2- فضلو حوراني: المرجع السابق ص 128 و كذا 14- 271. P. P, stneicnA eht fo odarodlE ehT, sreteP. C
3- 25. P, tic- po, nnamhorG. A

هذه المنطقة إنما كانت على أيامه (القرن الأول الميلادي) (1) تخضع لحكام «sittirahpaM» (2) و يريد بهم حكام سبإ و ذي ريدان (3)، هذا بالإضافة إلى أن هناك هجرة سبئية من القرن الخامس قبل الميلاد، إلى جانب تلك الجالية الحبشية من غرب اليمن (4).

و هكذا وجدت منذ زمن قديم، قبل النصف الأول من الألف الأول ق. م.، جماعات من العرب الجنوبيين تعبر البحر الأحمر، و تؤسس جاليات و محطات تجارية على الساحل المقابل، و قد تتابعت الهجرات نحو المنطقة التي كانت «عدولي» مركزا لها، فاتسعت المنطقة المستوطنة اتساعا متصلا، و تولت الطبيعة نفسها دفع المستوطنين إلى الهضبة المشتهاة، و تبين النقوش العربية الجنوبية التي وجدت في منطقة أكسوم، و إلى الشرق منها حيث يمر الطريق الممتد من عدو لي، سعة انتشار النفوذ العربي في أثيوبيا قبل القرن السادس قبل الميلاد (5).

و قد استمرت الهجرات العربية إلى الحبشة حتى الفترة فيما بين عامي

ص: 371


1- يحدد فضلو حوراني (المرجع السابق ص 54) تاريخ هذا الكتاب بالفترة (50- 60 م)، بينما يرى موسكاتي (المرجع السابق ص 378) أنه يرجع إلى عام 75 م، و أما «جاكلين بيرين، فالرأي عندها أنه كتب في عام 106 م- ( 193 -167 .P .P ,nonad aS te nabataQ ed ebarA -duS enmuayoR el ,enneriP .J )
2- جواد علي 3/ 450 و كذا انظر 25. P, neibarA, nnamhorG. A
3- 25. P, dibI و أنظر كذلك آراء أخرى: حيث يتجه البعض إلى أن الاوسانيين كانوا يسيطرون على المنطقة شمال «بمبا» و «زنجبار» ربما منذ ما قبل عام 400 ق. م.، و أن لهم نشاط تجاري مع السواحل الافريقية عن طريق ميناء «عدن» الذي كان يتبع «أوسان» وقت ذاك: جواد علي 2/ 502 و كذا 22. P, aeS naearhtvrE eht fo sulpireP ehT, ffohcS. W و كذا 39. P, seirevocsiD و كذا انظر 74. P, tic- po, renfoH. M dna nnamssiW noV. H
4- جواد علي 3/ 450 و كذا انظر 126. P. L, rebarA eiD
5- موسكاتي: المرجع السابق ص 213

232، 250 م (1)، بل إن بعض الباحثين ليذهب إلى أن أصل الأحباش أنفسهم، إنما كان من غرب اليمن، معتمدين في ذلك على أن هناك جبلا في اليمن يدعى «حبيش»، فضلا عن أن هناك قبيلة عربية تحمل اسم «حبشت» (الحبشات)، قد يكون لاسم الجبل، أو اسم القبيلة، صلة بهؤلاء المهاجرين إلى إفريقية، و أن القوم أنفسهم هم الذين أطلقوا اسم الجبل- و ربما اسم القبيلة- على مواطنهم الجديدة، و من هنا جاء اسم «الحبشة»، و من نفس الكلمة أخذ الإفرنج لفظ «ainissybA» (2) و الأمر كذلك بالنسبة إلى «الجعز»، و هم «inaseC» الذين رأى «بليني» أن مواطنهم إنما كانت على مقربة من «عدن»، و الذين يرى فيهم العلماء عربا جنوبيين هاجروا إلى الحبشة، و كونوا هناك مملكة، ثم سرعان ما سادت لغتهم بين السكان الساميين في أثيوبيا، و من ثم فقد عرفت لغة الحبش «بالجعزية» (3) هذا و قد بلغ من سيادة تلك اللغة هناك، أن الانجيل حين ترجم في الحبشة خلال القرن الرابع الميلادي، إنما ترجم من الإغريقية إلى الجعزية، و حتى أصبحت لغة الجعز لغة التخاطب و الكتابة، ثم ظلت تلك اللغة مستعملة في الحبشة حتى القرن الثالث عشر الميلادي فغلبتها اللغة الأمهرية (4).

ص: 372


1- 126. P, I, rebarA eiD
2- موسكاتي: المرجع السابق ص 214، حسن ظاظا: المرجع السابق ص 195 و كذا جواد علي 3/ 4439، و كذا انظر 5 .P ,eibarA ne tasabaH sed snoissessoP te noitidepxE ,inissoR .C
3- موسكاتي: المرجع السابق ص 214، حسن ظاظا: المرجع السابق ص 195، و كذا 274, 114. P. P, I, rebarA eiD
4- إبراهيم طرخان: محاضرات في تاريخ الحبشة، عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 9

على أن هناك من يرى عكس ذلك تماما، و يذهب إلى أن الساميين إنما جاءوا فيما قبل التاريخ إلى شبه الجزيرة العربية من إفريقية عبر مضيق باب المندب(1)، و من ثم فإنهم يثيرون الشكوك حول هذا الرأي السائد- الذي أشرنا إليه آنفا- و يقولون إنه ليس هناك من دليل على صحته، و أن الأمر كله يمكن أن يفسر على أن العرب الجنوبيين قد أثروا في شعب سامي كان مستقرا في أثيوبيا من قبل، و رغم أن هذا الاحتمال لا يمكن رفضه دون مناقشة، على أنه ليس من اليسير أن نرى من أين يمكن أن يجي ء ذلك الشعب السامي (2)، فضلا عن أن هناك كثيرا من الأدلة على أن العرب إنما كانوا ذلك الشعب السامي الذي عناه هؤلاء العلماء، و أن منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية ظلت طوال العصور التاريخية مصدرا لهذا الشعب السامي عن طريق الهجرات، و التي ازدادت مرة أخرى، فيما بين الألف الأول قبل الميلاد، و النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد (3)، و بالتالي فقد ازداد التأثير العربي في الحبشة (4)، حتى ذهب البعض إلى أن مملكة أكسوم نفسها إنما أنشأها العرب الجنوبيون (5).

ص: 373


1- 25 .P ,1947 ,siraP ,seuqitimes seugnal sed edute'l a noitcudortnI ,hcsielF .H
2- موسكاتي: المرجع السابق ص 214
3- 315. P, acirfA fo nroH eht fo erutluC cirotsiherP ehT, kralC. D. J
4- أنظر عن هذه التأثيرات: موسكاتي: المرجع السابق ص 214، 223، جواد علي 3/ 453، صلاح الشامي: الموانى السودانية ص 50- 52 جورج فضلو حوراني: المرجع السابق ص 85، و كذا 114 و كذا 114. P, I, rebarAeiD 82. P, tic- po, lavesreP ed nisuaC و كذا 1935, siraP, einissybA'l ed eriotsiH, eornoM. E dna senoJ. M. H. A و كذا 34. P, I, kcubdnaH
5- فضلو حوراني: المرجع السابق ص 85، جواد علي 3/ 451 و كذا 114. P, I, rebarA eiD

و على أي حال، فعلى أيام «علهان نهفان» (1) ملك سبأ و ذي ريدان، كانت العربية الجنوبية تمر بفترة من الاضطرابات الداخلية، اضطر بسببها «علهان» إلى عقد معاهدة مع «جدرة» ملك الحبشة، و الذي كان- فيما يرى فون فيسمان- يسيطر على ساحل البحر الأحمر الشرقي من ينبع إلى عسير، فضلا عن مضيق باب المندب (2).

و نقرأ في النص المعروف ب (I snekeuG) أن الأحباش- و ربما باتفاق مع الردمانيين قد أغاروا على جيش «شعر أوتر» أثناء محاربته للحضرميين، هذا فضلا عن الإغارة على أرضين تابعة له، و ألحقوا بهما أضرارا بالغة (3)، و كما جاء في نقش (جام 631)، فإن «شعر أوتر» قد أوكل إلى قائده «قطبان أو كان» أمر الانتقام من الأحباش، و أن «قطبان» هذا قد نجح- بمساعدة قوات سبئية أخرى جاءت تعينه على مهمته هذه- في حصار الأحباش، ثم مهاجمتهم على غرة، ثم أعمل السيف فيهم، حتى اضطرهم إلى ترك منطقة «ظفار»، و الاتجاه إلى المعاهر (معهر تن) (4)، و ان لم يستطع الرجل أن يسيطر على المناطق الغربية من اليمن، و التي تطل على البحر الأحمر، حيث بقيت تحت النفوذ الحبشي (5).

ص: 374


1- يري فلبي أنه حكم حوالي عام 135 ق. م.، و يرى البرت جام أنه حكم في الفترة (85- 65 ق. م.)، و يرى البرايت أنه حكم حوالي عام 60 ق. م.، و أما فون فيسمان فيرى انه كان حوالي عام 160 م (انظر: 113. P, tic- po, renfoH dna namssiW noV و كذا 390. P, tic- po, emmaJ. A و كذا 142. P, tic- po, ybilihP. J)
2- 471. P, 4- 3, 1964, noesuM eL
3- F 297. P, sebarA- duS snoitpircsnI, snamkcyRG و كذا 301. P, tic- po, emmaJ. A
4- 132. P, dibI
5- 475. P. 4- 3, 1964, noesuM eL

على أن هناك، من ناحية أخرى، بعض الروايات التاريخية التي تشير إلى أن الحميريين قد قاموا بحملات عسكرية في وادي النيل الأوسط، و شمال إفريقية (1)، و قد أشار «كوسان دي برسيفال» إلى حملة قادها «أبو مالك بن شمر يرعش» إلى معادن الزمرد في أرض البجة، و من المحتمل أن يكون الرجل قد لقي حتفه هو و معظم جيشه حوالي منتصف القرن الأول الميلادي (2).

و في عهد دولة أكسوم يتغير ميزان القوى إلى جانب الأثيوبيين، و ضد العرب الجنوبيين، بخاصة بعد اعتناق الملك «عيزانا» (أزانا)- و الذي اعتلى العرش حوالي عام 325 م- النصرانية، و أيا ما كان السبب في اعتناق «عيزانا» النصرانية، و سواء أ كان ذلك عن اقتناع بالدين الجديد، أو لمزيد من التقرب الى بيزنطة، حامية المسيحية الكبرى في الشرق، فإن اليمن قد وضعت بين قوتين مسيحيتين، الحبشة من جهة، و الروم من جهة أخرى (3).

و زاد تنصر أثيوبيا من حدة منافستها لليمن غير المسيحية، و بدأت في تنفيذ خطتها القديمة لاحتلال اليمن، تلك الخطة التي بدأت منذ حوالي القرن الأول قبل الميلاد، كما نعرف ذلك من النقوش العربية القديمة، مثل نقش (جام 631) بل إن نقش (جام 635) ليحدثنا عن معارك دارت رحاها خلف مدينة «نجران»، بين جيش «سقر أوتر» (65- 55 ق. م.) و بين الأحباش، و ربما كان ذلك يشير إلى أن «نجران» إنما كانت في أيدي الأحباش في تلك الأونة (4)، و نقرأ في نقوش (جام 574،

ص: 375


1- مصطفى مسعد: المرجع السابق ص 108
2- 82. P, tic- po, lavesreP ed nisuaC
3- موسكاتي: المرجع السابق ص 215، حسن ظاظا المرجع السابق ص 196- 197
4- 390, 303, 6- 135, 132. P. P, tic- po, emmaJ. A

575، 590، 595) عن حرب نشبت بين «الشرح يحضب» و أخيه «يأزل بين» و بين الأحباش، و أن الأخوين قد انتصرا على الأحباش في «وادي سهام» و «وادي سردد»- على مبعدة 40 كيلومترا إلى الشمال من الحديدة- و في غير ذلك من المناطق التي يوجد فيها الأحباش (1)، و يسجل نقش (جام 576) انتصار «الشرح يحضب» على ملك كنده و حلفائه، و كذا على قوات حبشية (2) و نقرأ في نقش (407 HIC) عن حرب شنها «شمر يهرعش» على قبائل تهامه في شمال غربي اليمن، و التي شملت عسير و صبيه بين وادي بيش و وادي سهام، و أن جيوش الملك الحميري قد انتصرت على هذه القبائل برا، ثم سرعان ما طاردتهم في البحر، حيث أوقعت بهم خسائر فادحة، و ربما كان ذلك يشير إلى أن هؤلاء المهزومين، إنما كانوا من الأحباش الذين كانوا يسيطرون على ساحل تهامه، و أن المعركة إنما دارت في البحر الأحمر (3)، و أن شمر يهرعش قد استعان بقبيلة «سردود» في قتاله ضدهم، و ربما كانت هذه المعارك سببا في تدخل الأكسوميين مرة أخرى في شئون العربية الجنوبية (4) و على أي حال، فلقد استمرت محاولات الحبشة في احتلال اليمن (5)،

ص: 376


1- 5. P, snoitpircsnI naibarA htuoS owT, htuoiIograM. S. D و كذا 316. 311- 310, 64, 60. PP, tic- po, emmaJ. A و كذا انظر38 ,18 .P .P ,neibaraduS nehcsimalsiR -oV sed eihpargoeG nehcsirotsih ruZ egartieB ,renfoH .M dnu nnamssiW noV .H
2- 319- 317, 96, 93, 88. PP, tic- po, emmaJ. A
3- . renfoH. M dna nnamssiW naV. H و كذا 119. P, tic- po 369. p, tic- po, emmaJ. A
4- عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 32- 33
5- 498, 480. P. P 4- 3, 1964, noesuM el و كذا 29. P, tic- po, nnamnorG. A

و قد نجحت مرة، و فشلت مرات، و ضمت إليها جزءا كبيرا أو صغيرا طبقا لظروف البلدين، بدليل ذكر اليمن في ألقاب السيادة التي اتخذها ملوك أكسوم في نقوشهم، فالملك «عيزانا» مثلا كان لقبه «ملك أكسوم و حمير و زيدان و سبأ و سلحين» (1)، بل ان هناك نقشا لملك جاء قبل عيزانا يلقب فيه بملك الأكسوميين و الحميريين (2)، و في عام 515 م يجلس على عرش اليمن «ذو نواس»، و هو «زرحة ذو نواس بن تبان أسعد أب كرب»، و الذي سمي «يوسف» بعد اعتناقه اليهودية، هذا و يذهب بعض الأخباريين إلى أن السبب في تسميته «ذي نواس» أن كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه، و بهما سمي ذي نواس (3)، و على أي حال، فهو الملك الذي احتل الأحباش اليمن في عهده، و بقوا فيها نصف قرن من الزمان، و إن كانت هذه ليست هي المرة الأولى التي يغزو الأحباش فيها اليمن، كما رأينا من قبل، و إن كان الجديد هنا أن الغزو قد اتخذ من الدفاع عن المسيحية و المسيحيين سببا.

هذا و يتجه بعض الباحثين إلى أن المسيحية بدأت تأخذ طريقها نحو اليمن منذ القرن الرابع الميلادي، و أن ذلك إنما تمّ على يد «ثيوفيلس» الذي نجح في حوالي عام 354 م من نشر الديانة الجديدة بين العرب الجنوبيين، ثم سرعان ما أنشأ كنيسة في «ظفار»، كان لها الأسبقية على غيرها، و من ثم فقد أصبح رئيس أساقفتها بمثابة المشرف على كنائس بلاد العرب الجنوبية (4).

ص: 377


1- 448. P, 4- 3- 1964, noesuM, eL
2- عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 34
3- ابن الاثير 1/ 425، مروج الذهب 2/ 52 تاريخ اليعقوبي 1/ 199، المعارف لابن قتيبة ص 311، وهب بن منبه: المرجع السابق ص 300، تفسير القرطبي 19/ 293 كتاب المحير ص 368
4- انظر: 29. P, naeibarA, nnamhorG. A و كذا 61. P, tic- po, ittiH. K. P

و كانت اليهودية- كما جاء في القرآن الكريم (1)- قد بدأت تأخذ طريقها إلى مملكة سبأ منذ القرن العاشر قبل الميلاد- و على أيام سليمان (960- 922 ق. م.)- و ذلك طبقا لما جاء في القرآن الكريم على لسان ملكة سبأ في ختام قصتها مع النبي الكريم (2)، حيث يقول سبحانه و تعالى «قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (3).

و في القرن السادس قبل الميلاد، و بعد استيلاء «نبوخذ نصر» على بيت المقدس و تدمير الهيكل في عام 586 ق. م. (4)، بدأت أعداد من يهود تتجه نحو اليمن، ثم جاءت أعداد أخرى، ربما أكثر من الأولى، بعد تدمير أورشليم على يد «تيتوس» الروماني في عام 70 م، ثم على يد الامبراطور «هدريان» (117- 138 م)، حيث مرّ اليهود و اليهودية بأقسى المحن و أشدها، و حيث تم القضاء على اليهود ككيان سياسي في فلسطين، ثم تغيير اسم المدينة المقدسة (القدس) إلى «إيليا كابتيولينا»، و تحويل المعبد اليهودي إلى معبد لإله الرومان «جوبيتر»، ثم بيعت النساء اليهوديات كإماء، و ضاع اليهود في غياهب التاريخ، و سرعان ما فرّ- من أسعده الحظ فنجا من القتل أو الأسر- إلى مكان يحتمي به من غضبة الرومان القاسية، و كان من هؤلاء المحظوظين فريق من يهود وصل الى يثرب و إلى اليمن (5)، و من ثم فهناك من يرى أننا لو تفحصنا أسماء اليهود المقيمين في بلاد العرب لرأينا ان كثيرا منهم أراميون

ص: 378


1- سورة النمل: آية 20- 44
2- راجع قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام في مقالنا «العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة»
3- سورة النمل: آية 44
4- أنظر كتابنا «إسرائيل» ص 529- 535، و كذا أستار: الملوك الثاني و أرميا: و كذا 88- 286. P. P, tic- po, htoN. M و كذا F 5 F 225. P, tic- po, tamelaM. A و كذا 403- 400, P. P, tic- po, relleK. W
5- 4- 3, 1, 18, II, raW hsiweJ ehT, syhpesoJ

و عرب متهودون (1)، اعتنقوا اليهودية بتأثير من اليهود أنفسهم.

و على أي حال، و سواء أ كان انتشار اليهودية في اليمن يرجع إلى تلك الفترة المبكرة، أو الى عهد «أب كرب أسعد» (400- 415 م) (2)، حيث يروي الأخباريون في قصة طويلة أن الرجل قد تهود، بل و فرض اليهودية على الحميريين كذلك (3)، أو منذ تهود «ذي نواس»، سواء أ كان تهوده هذا رغبة منه في أن يقاوم دينا سماويا بدين سماوي آخر، و من ثم فهو يمثل الروح القومية في اليمن، حين رأى في النصارى من مواطنيه ما يذكره بحكم الأحباش المسيحيين البغيض (4)، أو لأنه كان في الأصل- طبقا لرواية ابن العبري- من أهل الحيرة، و أن أمه يهودية من «نصيبين» وقعت في الأسر، فتزوجها أبوه، فأولده منها، و من ثم فهو يهودي وفد على اليمن من الحيرة (5)، أو لأنه حين اعتنق اليهودية كان آمنا على نفسه و على دولته من أن يتسلط عليه أو عليها دولة ذات نفوذ واسع، و سلطان كبير، إذ لم يكن لليهودية في ذلك الوقت دولة سياسية، في حين أن النصرانية إنما كانت تعتمد على الدولة الرومانية الشرقية الطامعة في فتح

ص: 379


1- .. 61. P, tic- po, ittiH. K. P
2- هناك من يحدد له كذلك الفترة (385- 420 م) و من يحدد له الفترة (378- 415 م)، و من يرى أن حكمه استمر إلى عام 430 م (أنظر: جواد علي 2/ 571، فريتز هومل: المرجع السابق ص 108 و كذا 104. P, tic- po, nesleiN. D و كذا 14 ,116 .P .P ,malsI fo dnuorgkcaB ehT ,269 P ,abaS fo sgniK tsal eht no eton ,yblihP ,B .J )
3- ابن كثير 2/ 163- 167، تفسير ابن كثير 4/ 142، الأزرقي 1/ 132- 134، تفسير الطبري 25/ 128- 129، تفسير الخازن 4/ 115، 175، تفسير القرطبي 16/ 145- 146، تفسير البيضاوي 2/ 376- 377، بلوغ الأرب 2/ 170، 240- 241، مروج الذهب 1/ 82، اليعقوبي 1/ 197- 198، العقد الثمين 1/ 71، ابن خلدون 2/ 52، قارن: المعارف ص 275- 276
4- .. 02. P, tic- po, ittiH. K. P
5- جواد علي 2/ 593، قارن: الإكليل 2/ 63.

اليمن (1)، فكل تلك أمور ليس مجال مناقشتها هنا، لأن الذي يهمنا الآن أن الفرقة الداخلية التي ترجع في الدرجة الأولى إلى التنافس بين اليهودية و المسيحية في اليمن العربية، إنما بدأت تدفع بالبلاد إلى طريق الاضمحلال و التفكك أول الأمر (2)، ثم إلى وقوعها تحت السيادة الحبشية ثم الفارسية في آخر الأمر.

على أن ظروف بلاد اليمن الداخلية، إنما لعبت دورا خطيرا في التمهيد للفتح الأثيوبي للبلاد، ذلك لأننا نقرأ في نقش (فلبي 228) عن حرب داخلية استعر أوارها قبيل الغزو الحبشي لليمن، و ربما في عام 516 م، و على أيام الملك «معد يكرب يعفر»، و اشتركت فيها قبائل سبأ و حمير و رحبة و كندة و مضر و ثعلبة (3)، و من ثم فقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش ليحتلوا اليمن في سهولة، و ذلك بسبب الخصومات القبلية القديمة بين القبائل العربية، و بسبب ظهور الروح القبلية التي لا تعرف طريقا للتعاون القومي، إلا إذا كان من أجل القبيلة و في مصلحتها، دونما أي اهتمام بما يجره ذلك على الكيان القومي من نكبات قد تؤدي باستقلال البلاد و خضوعها للأجنبي.

و نقرأ في نصي (ريكمانز 507، 508) (4)، و يرجعان إلى عام 518 م، عن إشارات عن حرب دارت رحاها بين الأحباش و ملك حميري دعوه «يسف أسأر» (يوسف أسأر)، و لعل عدم الإشارة هنا إلى اللقب الملكي الطويل، ربما يعني أن سلطان ذلك الملك (ذي نواس) لم يكن

ص: 380


1- اسرائيل و لفنسون: المرجع السابق ص 36
2- موسكاتي: المرجع السابق ص 193
3- جواد علي 2/ 591 و كذا 214. P, 1950, 6- 4, IVXC, loV. J. G
4- أنظر: جواد علي 2/ 595- 596، و كذا F 284. P, 4- 3, 1953, noesuM eL و كذا 434. P, 1954, 3: traP, IVX, loV, SAOSB و كذا 508, 507, snamkcyR

يمتد إلى كل بلاد العرب الجنوبية، و انما كان مقصورا على أجزاء منها، و أن الأحباش إنما كانوا يشاركونه هذا السلطان، ف «ظفار» و مجاوراتها إنما كانت في أيدي الأحباش، كما كان الأقيال قد كونوا حكومات إقطاعية في إماراتهم، بل و كانوا يثيرون الفتن و القلاقل في أنحاء البلاد، و قد أشرنا من قبل إلى حرب أهلية استعر أوارها حوالي عام 516 م، و اشتركت مجموعة من القبائل، و هكذا كانت تلك الظروف الداخلية سببا في ضعف البلاد و جعلها آخر الأمر لقمة سائغة في أيدي المستعمرين الأحباش (1).

هذا و يشير نص (ريكمانز 508) إلى حرب وقعت بين الملك يوسف أسأر من ناحية، و بين الأحباش، و من كان يؤيدهم من اقيال اليمن، من ناحية أخرى، و أن الملك الحميري قد هاجم «ظفار» و «مخا»، و استولى على كنائسهما، و إن كان أشد القتال، إنما كان بينه و بين قبيلة الأشاعر، حيث قتل منهم ثلاثة عشر ألف قتيل، و أسر تسعة آلاف و خمسمائة أسير، كما استولى على 280 ألف رأس من الابل و البقر و الغنم، ثم اتجه بعد ذلك إلى «نجران» حيث أنزل بالأحباش، و من سار في ركابهم، خسائر فادحة (2).

و لعل كل هذا يشير إلى عدة أمور، منها (أولا) أن الوضع في اليمن في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، إنما كان جد قلق، و منها (ثانيا) أن الأحباش إنما كانوا يسيطرون على جزء غير قليل من البلاد، و أنهم اتخذوا من العاصمة الحميرية (ظفار) مقرا لهم، و منها (ثالثا) أن هناك كثيرا من أمراء اليمن، إنما كانوا أعوانا للمستعمر الجديد، يساعدونه في

ص: 381


1- جواد علي 2/ 595
2- 434 P, 1954, 3, traP, IVX, SAOSB و كذا 296. P, 4- 3, 1953, noesuM el

القضاء على السلطة الوطنية في البلاد، و يحاربون برجالهم ضد الملك الشرعي للبلاد، و من كان إلى جانبه من أبناء الوطن الاحرار، و كانت النتيجة أن استولى الأحباش على اليمن، و جعلوها مستعمرة حبشية، يتحكمون فيها و يستغلون مواردها الاقتصادية لمصلحة بلادهم، و بدهي أن الخونة من أمراء اليمن لم ينالوا من ساداتهم الجدد، إلا الفتات، و إلا العار يسجله التاريخ عليهم أبد الدهر، شأن الخونة في كل مكان و في كل زمان.

هذا و يقدم المؤرخون عدة أسباب لغزو الحبشة لليمن، منها (أولا) الرغبة في السيطرة على اليمن، و ذلك لضمان توزيع السلع الحبشية، دون أن تتعرض لاعتداءات الحميريين (1)، و منها (ثانيا) ما يذهب إليه البعض من أن عداوة الحبشة للعرب قديمة العهد، نشأت منذ أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة، و يبيعونهم أرقاء في شبه جزيرة العرب، حيث وجد الحبش في الحجاز (2)، و منها (ثالثا) أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بنفس الدور الذي تقوم به مصر الآن، حيث أصبحت منذ شق قناة السويس تهيمن على شريان من أهم شرايين الملاحة الدولية، و الأمر كذلك بالنسبة إلى بلاد العرب الجنوبية، نظرا لمركزها الهام على البحر الأحمر و المحيط الهندي، و حيث يوجد مضيق باب المندب، و في تلك الأيام كانت الامبراطورية الرومانية الشرقية حريصة على انتزاع تلك المكانة و إعطائها لمصر، و مختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى التي تستطيع الإفادة من مركزها

ص: 382


1- مراد كامل: مقدمة لكتاب سيرة الحبشة، القاهرة 1958 ص 61، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص 182
2- يوسف احمد: الإسلام في الحبشة، القاهرة 1935 ص 6- 7، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 74

الجغرافي، و بخاصة فإن المسيحية كانت قد استقرت في كثير من هذه الولايات الرومانية الشرقية، حتى اضطر الإمبراطور قسطنطين في عام 311 م، إلى السماح بانتشار المسيحية في بلاده (1)، و هنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم، فعمدوا إلى ارسال البعثات التبشيرية لتلك البلاد، لنشر المسيحية بين أهل الحضر و البادية من جهة، و لتهيئة الأفكار و النفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى (2).

لقد كان العالم وقت ذاك- كما هو الآن- منقسما إلى جبهتين شرقية و غربية، أو الفرس و الروم، و لكل أتباع من الدويلات الصغيرة و رؤساء القبائل، و في هذه الظروف عمل الروم على الهيمنة على بلاد العرب، أو ابعادها عن النفوذ الفارسي على الأقل، و عمل الفرس من ناحية أخرى على تحطيم كل جبهة عربية تعمل لمصلحة الروم، فضلا عن منع السفن الرومية من الدخول إلى المحيط الهندي، و الاتجار مع بلاد العرب، و لجأ الروم إلى الدين كوسيلة لبسط نفوذهم على شبه الجزيرة العربية، فأرسلوا المبشرين لنشر المسيحية بين القوم، و طلبوا من الأحباش مساعدتهم في أداء مهمتهم هذه- الدينية في الظاهرة، السياسية أو قل الاستعمارية في الواقع، و أتخذ الفرس من النصرانية- المخالفة في المذهب لنصرانية الروم- و كذا اليهودية، وسيلتهم لمعارضة نفوذ الروم و الأحباش، و هكذا يبدو واضحا أن الروم- و كذا الفرس- لم يقصدوا وجه اللّه من نشر المسيحية أو اليهودية، و إنما كانت الأغراض السياسية و المطامع الاستعمارية هي الهدف أولا و أخيرا، و لعل مما يؤيد وجهة النظر هذه، أن أبرهة الحبشي لم يقتصر على القضاء على ذي نواس و احتلال

ص: 383


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 301
2- إسرائيل و لفنسون: المرجع السابق ص 36

اليمن، و إنما بسط نفوذه على وسط بلاد العرب كذلك، حيث نقرأ في نص (ريكمانز 506)- و الذي يرجع تاريخه إلى عام 535 أو 547 م (1)- عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبائل معد، بل و عن العلاقات بينه و بين ملوك الحيرة، أتباع الفرس، كما سوف نرى فيما بعد.

و هكذا يبدو واضحا أن تعذيب ذي نواس لنصارى نجران لم يكن هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي، و دليلنا على ذلك- غير ما قدمنا من أدلة- أن المصادر الإغريقية، و كذا الحبشية نفسها، إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن، قبل قصة التعذيب هذه بسنين، و أنهم قد انتصروا على ذي نواس! و اضطروه إلى الالتجاء إلى الجبال، إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لمّ شمل جنده، و أن يهاجم الأحباش، و ينتصر عليهم، و أن يغزو نجران و يتمكن من الاستيلاء عليها، بعد حصار دام سبعة أشهر، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام (2).

و هكذا اتفقت مصالح الأحباش و الرومان في السيطرة على بلاد العرب الجنوبية، و كانت سياسة ذي نواس التي تربط بين انتشار المسيحية في اليمن، و بين ازدياد نفوذ الأحباش السياسي في البلاد، سببا في أن يتخذ من نصارى اليمن موقفا عدائيا، و كانت هذه هي الفرصة التي وجدها الرومان للقضاء على استقلال اليمن، و لكن دون التدخل المباشر، و إنما بتحريض الأحباش على غزوها، و لعل الامبراطور «جستين» (518- 527 م) قد اتخذ هذه الخطوة، ربما نتيجة لأطماع الفرس التي إزدادت في شبه الجزيرة العربية، بحيث أنهم استقروا في ساحل الخليج العربي،

ص: 384


1- 389 .P ,1954 ,KSAOSB ni ,snoitpircsnI nahgiaruM eht no setoN ,notseeB .L .F .A و كذا 275. P, 1953, 66, noesuM eL و كذا 435. P. D. A yrutneC ht 6 eht ni aibarA ni stnevE, htimS. S
2- 323. P., 2, tic- po, yruB. B. J

مثل البحرين (1).

و هناك رواية تذهب إلى أن السبب المباشر لغزو الحبشة لليمن، إنما كان لأن الملك الحميري «دميون noimiD» (دميانوس sonaimiD)، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين هم في بلاده، و بنهب أموالهم، و ذلك بسبب اضطهاد اليهود و إساءة معاملتهم في بلاد الروم، مما أدى إلى أن يتجنب تجار الروم الذهاب إلى الحبشة أو اليمن- أو حتى المناطق القريبة من حمير- و من هنا رأى البعض أن بعثة «ثيوفيلوس» التبشرية، إنما كانت للعمل على ضمان حسن نية الأمراء اليمنيين إزاء التجار الروم، غير أن تلك البعثة قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب نفوذ الفرس في اليمن وقت ذاك، و قد أثر ذلك في التجارة مع الحبشة تأثيرا سيئا، و هنا اضطر النجاشي إلى أن يقدم عروضا رفضها الملك الحميري، مما كان سببا في نشوب حرب بينهما، و تزعم الرواية أن النجاشي كان حتى تلك اللحظة ما يزال على وثنيته، و من ثم فقد عرض عليه أن يعتنق المسيحية- إن كتب له النجح على الحميريين- و حين انتهت الحرب في صالحه، اعتنق النصرانية و أرسل إلى قيصر يطلب منه إرسال عدد من رجال الدين، ليعلموه العقيدة الجديدة، و قد تمّ له ما أراد (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد نجح الأحباش في القضاء على ذي نواس و احتلال اليمن، و لكنهم على ما يبدو لم يحكموها حكما مباشرا، و إنما

ص: 385


1- البلاذري: فتوح البلدان ص 78، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 74، و كذا1929 ,eriaC eL ,etiuqitnA'L siuqed eibarA'L te einissybA'L ,eguoR reM aL ,reremmaK .I
2- جواد على 3/ 468- 469، عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 39، 45- 46 و كذا. 322. P, 2, tic- po, yruB. B. J و كذا 188. P, irabaT, ekedloN و كذا 357. P, IIV, GMDZ و كذا انظرF 33 .P 1926 ,nodnoL ,tnemnorivne naitsirhC sti ni malsI fo nigirO ehT ,lleB .R 176 .P ,1895 ,acirfA dnu neibarA ni reinissebA eiD ,resalG ,E

اختاروا واحدا من الأقيال الذين عاونوهم على نجاح مهمتهم الاستعمارية هذه، و كان هذا الرجل هو «السميفع أشوع» و الذي سبق أن أشرنا إلى أنه كان في جانب ذي نواس على غير رغبة منه، و أنه قد تحصن بعد الهزيمة في حصن ماوية، ثم هادن السادة الجدد، و من ثم فقد عينه الأحباش ملكا على حمير، على أن يدفع لهم جزية سنوية.

و هناك نص من متحف «استنبول»، نشره العالم البلجيكي «ج- ريكمانز»، يفهم منه أن السميفع أشوع كان ملكا على سبأ، و كان يدين بالنصرانية، بدليل أن النص جاء فيه «باسم رحمنن و بنهو كرشتش غلبن»، و ترجمته «باسم الرحمن و ابنه المسيح الغالب» (1)، و لعل هذا النص يعضد ما ذهب إليه «بركوبيوس» من أن الذي حكم حمير بعد ذي نواس، إنما هو «sueahpimisE» (سام يفع أشوع- السميفع أشوع) (2)، على أنه لم يكن في الواقع إلا تابعا لملك الحبشة، و أنه- كما يفهم من النص المعروف- (621, HIC)- قد بدأ حكمه في عام 525 م (3) و ما أن تمضي ستون ستة، (أي في عام 531 م)، حتى تبدأ البقية الباقية من جنود الحبشة الثورة على «المسيفع أشوع»، ثم محاصرته في إحدى القلاع، و تعيين «إبراهام»- و هو عبد نصراني كان مملوكا لتاجر

ص: 386


1- 4, etoN, 105. P, tic- po, nesleiN. D و كذا 7- 165. P. P, 4- 3, 1964, 272. P, 4- 3, 1950, noesuM eL و كذا انظر 180. P, I, aipoirtE'D airotS, inissoRitnoC. C
2- جواد علي 3/ 472 و كذا 2- 1, XX, I, suipocorP
3- 1848, baruhG nsiH fo snoitpircsnI ciraymiH, tnuH. G و كذا 21. P, tic- po, detslleW. R. J 230. P, 1885, 39, GMDZ و كذا انظر 225. P, neibaraduS, hcaN esieR, neztlaM noV و كذا جواد علي 3/ 475- 476

يوناني في مدينة عدو لي- في مكانه، و قد حاول النجاشي أن يعيد الأمور إلى نضابها، إلا أن هزيمة قواته التي أرسلها مرة بعد أخرى، جعلته يتقبل الوضع على علاته، و ما أن تنته حياته في هذه الدنيا حتى يسرع ابراهام إلى عقد صلح مع خليفته، يدفع له بمقتضاه جزية سنوية، في مقابل أن يعترف النجاشي الجديد به نائبا للملك في اليمن (1)، و هكذا يصبح ابراهام، أو أبرهة، حاكما على اليمن، و إن اعترف اسميا بأنه «عزلي ملكن أجعزين» أي «نائب ملك الأجاعزة» على اليمن.

ص: 387


1- أنظر324 .P ,tic -po ,yruB .B .J 120 ,92 .P .P ,tic -po ,renfoH .M dna nnamssiW noV .H

ص: 388

الفصل الحادي عشر قصة أصحاب الفيل

[1] توطيد النفوذ الحبشي في اليمن

ص: 389

ص: 390

نجح الأحباش- كما اشرنا من قبل- في الاستيلاء على اليمن، ثم سرعان ما بدأ أبرهة في توطيد سلطانه في هذه الأرض العربية، و كان أول ما فعله في سبيل ذلك أن قاد ثورة أطاحت «بالسميفع أشوع»، و أتت به في مكانه على رأس السلطة في اليمن (1)، ثم دخل في منافسة شديدة مع أرياط على هذه السلطة، انتهت بعد جولة حاسمة، لعبت فيها الخيانة دورا كبيرا (2)، و من ثم فقد أصبح سيد الموقف في اليمن العربية، رغم أنه كان ما يزال يحمل لقب «نائب ملك الأجاعزة في اليمن»، و ليس ادل على ذلك من أن ملك الحبشة نفسه، إنما كان يطلق عليه في نصي (جلازر 618) و (541 HIC) «ملك الجعز»، بينما يطلق أبرهة على نفسه في نفس النص لقب «ملك سبأ و ذي ريدان و حضرموت و يمنات و أعرابها في الجبال و التهائم»، و هو ما يزال بعد- من الناحية الاسمية على الأقل- «نائب ملك الجعز (3).

و رغم أن النصوص تحدثنا عن ثورة قام بها «يزيد بن كبشة»، و الذي عينه أبرهة نائبا عنه في قبيلة كندة، سرعان ما ينضم إليها «السميفع .

ص: 391


1- 120, 92. P. P, tic- po, renfoH. M dna nnamssiW noV. H و كذا 324. P, tic- po, yruB. B
2- تاريخ الطبري 2/ 127- 130، ابن الأثير 1/ 431- 433، و ابن كثير 2/ 169، تاريخ ابن خلدون 2/ 60- 61، اليعقوبي 1/ 200 تاريخ الخميس ص 220- 221، المقدسي 3/ 185، الأخبار الطوال ص 62، تفسير القرطبي 20/ 193- 194، الازرقي 1/ 136- 137 تفسير روح المعاني 30/ 233، جواد علي 3/ 481- 482. و كذا 191. P, I, sraW eht fo yrotsiH, suipocorP
3- جواد علي 3/ 484 و كذا انظر 421 .P ,II ,biraM nov hcurbmmaD ned rebu nettfirhcsnI iewZ ,resalG .E

أشوع» و «معد يكرب»، و بعض الزعماء اليمنيين، و رغم أن الثورة سرعان ما امتدت إلى حضرموت و حريب و ذو جدن و حياب عند صرواح، فإن أبرهة- بمساعدة قبائل يمنية قوية أخرى- قد نجح في القضاء على الثورة، و أن يبطش بقادتها، و أن يقضي على الثائرين على سلطانه من أبناء القبائل (1).

و هكذا تستقر الأمور لأبرهة في اليمن، و يبدأ في مد نفوذه على قبائل في وسط الجزيرة العربية، و نقرأ في نقش (ريكمانز 506) (2)، عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبيلة معد، و عن العلاقات بين أمراء الحيرة و بين حكام اليمن من الأحباش، و عن نفوذ هؤلاء الأحباش على قبائل مثل معد، و لعل هذا يؤيد ما ذهب إليه الكتاب العرب من أن لليمن نفوذ على قبائل معد، و أن تبابعة اليمن كانوا ينصبون الملوك و الحكام على هذه القبائل (3).

و يحدثنا أبرهة في نصه هذا على هذه الحرب التي شنها على معد عند «حلبان»، و عن أوامره التي أصدرها إلى رؤساء قبائل كندة و عل و سعد بالقضاء على ثورة بني عامر، هذا و يشير النص بعد ذلك إلى أن أبرهة قد انتصر على قبيلة معد، ثم أخذ منها الرهائن، اتقاء لثورة أخرى قد تقوم بها في مستقبل الأيام، فضلا عن قبوله بأن يبقى «عمرو بن المنذر»، الذي عينه أبوه المنذر أميرا على معد، في مكانه (4).

ص: 392


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 303 و كذا 121. P, tic- po, renfoH. M dna nnamssiW noV. H
2- 275. P, 66, noesuM eL و كذا 435. P, tic- po, htimS. S و كذا 389. P, tic- po, notseeB. L. F. E
3- جواد علي 3/ 333- 494
4- جواد علي 3/ 494- 496 و كذا 279- 277. PP. 4- 3, 1953, noesuM eL

هذا، و قد ذهب بعض الباحثين مذاهب شتى في تفسيرهم لهذا النص، فمنهم من رأى أن النص إنما يشير إلى حملة أبرهة على مكة المكرمة في العام المعروف بعام الفيل (1)، و ذهب آخرون إلى أنه إنما يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيدا لحملة كبيرة كان ينوي القيام بها إلى أعالي شبه الجزيرة العربية، غير أنه توقف عند مكة (2)، هذا في الوقت الذي يرفض فيه فريق ثالث أن يربط بين هذه الحملة، و حملة عام الفيل على مكة، إذ يرون أن هذه الحملة قد تمت في عام 547 م، بينما كانت الاخرى في عام 563 م (3)، هذا و هناك فريق رابع يتجه إلى أن النص إنما يتحدث عن معركتين، الواحدة قادها أبرهة في «حلبان»، و الثانية قامت بها مجموعة قبائل في «تربة» في بلاد بني عامر (4)، و ربما على مبعدة ثمانين ميلا إلى الجنوب الشرقي من الطائف (5).

[2] بناء القليس

استقرت الأمور لأبرهة في اليمن بعد القضاء على الثورات التي هبت ضده، و بعد أن بسط نفوذه على قبائل معد، و بعد أن نجح في إيجاد علاقات من نوع ما مع أمراء الحيرة، و بعد أن انتهى من ترميم سد مأرب، و من ثم فقد عمد إلى نشر المسيحية و محاربة الأديان الأخرى في

ص: 393


1- جواد علي 3/ 495 و كذا 426. P, 4- 3, 1965, noesuM eL و كذا انظرmeihtlA .F 207 -200 .P .P ,1954 ,nilreB ,nedinasaS dnu rebarA ,theitS ,R dna miehtlA .F
2- 426. P, 4- 3, 1965, noesuM eL و كذا انظر 30. P neibarA ni negnakcedtnE, leksaC. W
3- 279- 277. P. P, 4- 3, 1953, noesuM eL
4- 391. P, 1954, SAOSB و كذا 426. P, 4- 3, 1965, noesuM eL و كذا جواد علي 3/ 495- 496
5- البكري 1/ 308

شبه الجزيرة العربية، فقوي ساعد مسيحي بلاد العرب الجنوبية، و اتخذ من «نجران» مركزا رئيسيا لحملته الدينية، فنجد جماعة مسيحية في صحراء اليمامة، في منتصف الطريق بين اليمن و الحيرة، فضلا عن جماعة أخرى في يثرب، و على امتداد الطريق التجاري إلى فلسطين و سورية (1)، و تبع ذلك بناء الكنائس في أنحاء مختلفة من اليمن، لعل أهمها مأرب و نجران و صنعاء، و في هذه الأخيرة بنى أبرهة كنيسته المشهورة «القليس»، بغية أن يصرف الحجيج عن مكة إلى صنعاء، فسيفيد من ذلك فوائد مادية و أدبية و سياسية، و بالتالي فقد كان ذلك سببا في حملته المشهورة على مكة.

و يبالغ الأخباريون كثيرا في وصف كنيسة القليس هذه، حتى أنهم يرون أن أبرهة لما أتمّ بناءها كتب إلى النجاشي يقول «إني قد بنيت لك بصنعاء بيتا لم تبن العرب و لا العجم مثله»، أو «إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، و لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب (2)».

و يروي الأخباريون أن القليس إنما بنيت بجوار قصر غمدان، و بحجارة من قصر بلقيس في مأرب، و أن أبرهة قد كتب إلى قيصر الروم يطلب منه الرخام و الفسيفساء و مهرة الصناع، و أنه قد أستعمل في بنائها طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة، لها بريق و أنه نقشها بالذهب و الفضة و الفسيفساء و ألوان الأصباغ و صنوف الجواهر، و طعموا بابها بالذهب و اللؤلؤ، و رشوا حوائطها بالمسك، و أقاموا فيها صلبانا منقوشة بالذهب و الفضة و الفسيفساء، و فيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق

ص: 394


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 304
2- الازرقي 1/ 138- 139، تفسير الطبري 30/ 300، تفسير القرطبي 20/ 187، تفسير الألوسي 30/ 223، ابن كثير 1/ 170، ابن هشام 1/ 43، تفسير ابن كثير 4/ 548

مربعة، عشر أذرع في عشر، تغشي عين من ينظر إليها من بطن القبة، تؤدي ضوء الشمس و القمر إلى داخل القبة و كان تحت القبة منبر من شجر اللبخ- و هو عندهم الأبنوس- مفصد بالعاج الأبيض، و درج المنبر من خشب الساج ملبسه ذهبا و فضة، و كان في القبة سلاسل من فضة (1).

و في الواقع فإنه رغم ما في وصف الأخبارين للقليس من مبالغات، فإن القصر كان حقا، عصر بناء الكنائس الضخمة التي أنشئت في العالم المسيحي، و أهمها كنيسة «أيا صوفيا» في القسطنطينية، و كنيسة «المهد» في بيت لحم، اللتان تعودان إلى عهد الأمبراطور «جستنيان» (527- 565 م)، و التي تأثرت جميعها بالفن البيزنطي، و إن جمعت كنيسة «القليس» بين الفن العربي القديم، و الفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.

هذا و قد لجأ أبرهة في بناء القليس إلى السخرة، فضلا عن القسوة الشديدة، التي كانت تصل إلى حد قطع يد العامل، إن تهاون أو تكاسل في عمله، و يروي «ياقوت الحموي» أن أبرهة قد استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة، و جشمهم فيها أنواعا مختلفة من السخرة، و كان ينقل إلى كنيسته هذه آلات البناء كالرخام أو الحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، و كان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، و كان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة و بهجتها و بهائها (2).

ص: 395


1- ابن الأثير 1/ 442، الازرقي 1/ 138- 139، تاريخ الطبري 2/ 130- 131، النويري 1/ 182- 183، على الجارم أديان العرب ص 35، ابن سعد 1/ 55 و كذا 212. P, 1947, nodnoL nemeY hgiH eht ni, ttocS. H
2- ياقوت 4/ 394- 396، روح المعاني 30/ 233
[3] حملة الفيل في الروايات العربية

كان احتلال أثيوبيا لليمن مرحلة من مراحل الصراع بين الفرس و الروم، و الذي كان يحتدم حينا بعد حين، ثم كانت حملة أبرهة على الحجاز مرحلة أخرى من هذا الصراع، أراد أبرهة أن يشارك بها- إلى جانب الروم- في الصراع القائم وقت ذاك بينهم و بين الفرس، و ليحقق بها، في الوقت نفسه، حلم الاسكندر الأكبر (356- 323 ق. م.) (1)

و أغسطس (31 ق. م.- 14 م) (2) و غيرهما من أباطرة اليونان و الرومان، ممن حاولوا السيطرة على بلاد العرب، ذلك الجزء الخطير من العالم، و ليصل دولته بدولة حلفائه الروم، الأمر الذي لم يكف الروم عن التفكير فيه أبدا، حتى أنهم حاولوا- بعد فشل حملة أبرهة على مكة- تنصيب «عثمان بن الحويرث» ملكا على المدينة المقدسة، من قبل قيصر (3).

على ان الغريب من الأمر، أن المؤرخين الإسلاميين، إنما يحاولون تفسير الأمور ببساطة تدعو إلى العجب، و من ثم فقد ذهب فريق منهم

ص: 396


1- انظر عن أحلام الاسكندر في بلاد العرب: جواد علي 2/ 5- 12، و تارن: الاسكندر الأكبر ص 185- 186، فضلو حوراني: المرجع السابق ص 55 و كذا 13. P, 1929, 15, AEJ ni nraT. W. W (و كذا 43, 40. P. P, fluG naisreP ehT, nosliW A
2- عن المطامع الرومانية في بلاد العرب: انظر: جواد علي 2/ 43- 4، و كذا 101 ,6 ,415 .P .P ,II ,ynilP 78 -74 .P .P ,dammahuM erofeb oibarA ,yraeL'O ycaL eD و كذا 24- 23, VI, IVX, obartS و كذا انظر 34- 31. P. P, tic- po, renfoH. M dna, nnamssiW noV. H و كذا 17. P, 15, AEJ و كذا 124- 93. P. P, tic- po, enneiriP. J و كذا 891. P, 3, IE و كذا 121. P, 9, ERE و كذا 214. P, tic- po, nabbiG drawdE و كذا 101, 32. P. P, tic- po, ybilihP. B. J
3- ابن هشام 1/ 224، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص 190، الروض الانف 1/ 146، الأغاني 3/ 112، حياة محمد ص 127- 128، جلس العقاد: المرجع السابق ص 114- 115، السهيلي 1/ 146، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 162- 163، و كذا 16. P, 1953, acceM ta dammahuM, ttaW. M. W

إلى أن رجلا قد أتى «القليس»، حين علم أن أبرهة قد عقد العزم على أن يصرف اليها حج العرب، فتغوط فيها، ثم لحق بأهله من «فقيم»، و أن أبرهة سرعان ما علم بالخبر، و من ثم فقد أقسم ليسيرن إلى البيت الذي يحج إليه العرب بمكة فيهدمه، ثم بعث رجلا كان عنده إلى «بني كنانة» يدعوهم إلى الحج إلى القليس، غير أن القوم قد رفضوا، ثم قتلوا رسول أبرهة كذلك، مما زاد من غضب الطاغية الحبشي و حنقه، و من ثم فقد أمر بالجيش فتجهز و سار على رأسه إلى مكة المكرمة، يبغي هدم البيت الحرام (1).

على أن هناك رواية أخرى- صاحبها السيوطي- تذهب إلى أن اكسوم- ابن ابنة أبرهة- خرج حاجا إلى البيت الحرام، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة نجران، فعدا عليها ناس من مكة، فأخذوا ما فيها من حلي، و كذا قناع اكسوم، و من ثم فقد غضب أبرهة، و أرسل إليهم جيشا من عشرين ألفا من خولان و الاشعريين، حتى إذا ما كان على مقربة من الطائف قابله زعماؤها، و صرفوه عن مدينتهم، و دلوه على الطريق إلى مكة (2).

و هناك رواية ثالث نسبها القرطبي الى مقاتل بن سليمان و إلى ابن الكلبي-

ص: 397


1- ابن الأثير 1/ 442، تاريخ الطبري 2/ 130- 131، تفسير الطبري 30/ 300، ابن كثير 2/ 170- 171، تفسير ابن كثير 4/ 549، تفسير النيسابوري 30/ 163، تفسير البيضاوي 2/ 576، الكشاف 3/ 288، روح المعاني 30/ 233- 234، الأزرقي 1/ 140- 141، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي 2/ 576)، في ظلال القرآن 1/ 664- 665، تفسير القرطبي ص 7277- 7278 (طبعة الشعب)، ابن هشام 1/ 43- 46، الطبقات الكبرى 1/ 55، ياقوت 4/ 395، أبو بكر احمد بن الحسين البيهقي: دلائل النبوة، القاهرة 1970، 1/ 56- 57
2- السيوطي: الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 394، الاصبهاني: دلائل النبوة ص 100، تفسير الكشاف للزمخشري 3/ 288.

خلاصتها أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى الحبشة، و هناك و على ساحل البحر الأحمر، و بجوار بيعة للنصارى، أوقدوا نارا لطعامهم، ثم تركوها بعد حين، إلا ان ريحا عاصفة هبت على النار فأشعلتها، و أحرقت البيعة فغضب النجاشي لذلك أشد الغضب، و اتفق أن أتاه أبرهة- و معه حجر بن شرحبيل و أبو يكسوم الكنديين- و ضمنوا له إحراق الكعبة، و من ثم فقد كانت الحملة إلى مكة (1).

و تذهب رواية رابعة إلى أن أبرهة قد توّج «محمد بن خزاعي بن خرابة الذكواني» على «مضر»، و أمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس، فذهب محمد هذا حتى إذا ما نزل ببعض أرض بني كنانة- و كان قد بلغ أهل تهامه أمره- بعثوا له برجل من هذيل، يقال له عروة بن حياض، فرماه بسهم و قتله، فهرب أخوه «قيس» الذي كان بصحبته إلى أبرهة فأعلمه الخبر، فحلف أبرهة ليغزون بني كنانة و ليهدمن البيت (2).

هذه هي الأسباب التي رأى المؤرخون المسلمون، و كذا المفسرون، إنها كانت من وراء حملة أبرهة على البيت الحرام (3)، و لست أظن أن واحدا منها بكاف وحده لتبرير هذه الحملة التي أراد أصحابها القضاء على أقدس مقدسات العرب، و إن كانت الرواية الرابعة، تحمل- فيما أظن- بعضا من صواب، فقصة تدنيس القليس على يد رجل من النسأة،- و هم الذين كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر لشن الغارات و طلب الثارات- قد

ص: 398


1- تفسير القرطبي ص 7282- 7283 (طبعة الشعب)، تفسير الطبري 30/ 300، أعلام النبوة ص 149، قارن: تفسير ابن كثير 8/ 504 (طبعة الشعب)
2- تاريخ الطبري 2/ 131، تفسير الطبري 30/ 300
3- تاريخ الطبري 2/ 130- 139، تاريخ الخميس ص 212- 217، نهاية الأرب 1/ 251- 264، سيد قطب: في ظلال القرآن، بيروت 1967، الجزء الثامن ص 664- 665، تفسير القرطبي ص 7277- 7290 (طبعة الشعب)، تفسير ابن كثير 8/ 503- 511 (طبعة الشعب)

تكون حقيقة وقعت، و قد تكون أسطورة وضعت، فإنه لا يعلم الحقيقة إلا اللّه، و مع ذلك، فلو صدقنا جدلا أنها قد حدثت فعلا، فهي إنما تمثل احتجاج رجل- أو جماعة من العرب- على سياسة أبرهة نحو الكعبة، و رغبته في صرف حاج العرب عنها، و لكنها لن تكون سببا كافيا لقيام حملة تضم آلافا مؤلفة من جنود الحبشة، فضلا عن الذين اشتركوا فيها من قبائل اليمن، و بقيادة أبرهة نفسه. و هو الذي يملك الكثير من الوسائل الأخرى لتأديب هذا الرجل، أو تلك الجماعة، على تدنيسهم لكنيسته.

و أما رواية السيوطي، فظاهرها المنطق، و باطنها كثير من الخيال، فأكسوم بن الصباح- حفيد أبرهة- رجل نصراني، و ما كانت النصارى تحج إلى مكة، و ما كان حفيد أبرهة بالذات هو الذي يحج إلى كعبة قريش، لأنها كانت محجة الوثنيين وقت ذاك، و لأن جده أبرهة هو الذي كان يعمل جاهدا على صرف العرب عنها و تحويلهم إلى القليس، و ليس من المنطق، فضلا عن حقائق التاريخ، إن يكون أول الخارجين على سياسة أبرهة، حفيده يكسوم هذا، و إلا لما غضب أبرهة من أجل سرقة قناعة، فضلا عن حلى كنيسة نجران، ثم إن السيوطي إنما يخالف الإجماع فيما ذهب اليه من أن الذي كان على رأس الجيش، إنما هو «شهر بن معقود» و ليس أبرهة نفسه، كما انه يسبغ على قائد الحملة لقب «ملك»، و قد كان ذلك لقب أبرهة، و لم يكن «شهر» هذا ممن يحملون هذا اللقب الرفيع (1).

و أما رواية القرطبي، فالجديد فيها أن سبب الحملة، إنما كان أحراق بيعة، و ليس تدنيس القليس، و أنها في الحبشة، و ليست في اليمن، و أن الذي أمر بها إنما كان النجاشي، و ليس أبرهة، الذي لم يتجاوز دوره فيها

ص: 399


1- جواد علي 3/ 511

دور المنفذ لما ارتآه مليكه، على أن المعروف تاريخيا أن أبرهة إنما نظم هذه الحملة من حيث هو حاكم مستقل، فضلا عن أن السبب الذي قدمه القرطبي، لا أظنه بكاف لأن يدفع النجاشي بقوات الحبشة إلى مكة، ثم ما هي الصلة بين حرق بيعة في الحبشة بدون قصد، و بين حملة أبرهة على مكة، حتى لو افترضنا أن رواية القرطبي صحيحة، ثم أ ليس في الإمكان أن يعاقب الجناة هناك في الحبشة، بل أما كان في الإمكان منع تجار قريش من النزول بأرض النجاشي و الاتجار فيها، لكن أن يكون العقاب هو هدم الكعبة، فلا أظن أن وراء ذلك أسبابا أخرى، فما كانت سياسة الدول تدار بهذه الطريقة، و لن تكون.

و أما الرواية التي ذهبت إلى أن الحملة إنما كانت لأن بني كنانة قتلوا «محمد بن خزاعي» الذي اختاره أبرهة واليا على مضر من قبله، كما فعل نفس الشي ء من قبل مع معد، فربما كانت أقرب من غيرها إلى الصواب، لأن قتل محمد هذا، يتعارض تماما و ما يريده أبرهة من فرض نفوذه على مضر، فالهدف إذن لم يكن هدم الكعبة لذاتها، بقدر ما كان رمزا لفرض النفوذ الحبشي على الحجاز، بعد أن تمت السيطرة على اليمن، و فرض نفوذ أبرهة على معد.

أضف إلى ذلك أن هناك بعض الملاحظات على هذه الروايات بصفة عامة، منها ذلك الخلاف بين الروايات العربية في أسباب الحملة، و منها قصة أبي رغال، و التي تكررت- كما أشرنا من قبل- في قصة ثمود قوم صالح عليه السلام، و منها ذلك الحديث الذي همس به «نفيل بن حبيب الخثعمي» في أذن الفيل، و منها ذلك الحديث الذي دار بين مسعود بن معتب سيد ثقيف و بين قائد الحملة، و الذي يفهم منه أن أبرهة ما كان يعرف طريقه إلى مكة، فهل يعدّ الرجل ذلك الجيش الجرار، دون أن

ص: 400

يعرف الطريق إلى هدف هذا الجيش، ثم و هل كانت الكعبة مجهولة إلى هذا الحد، و هي التي بنى أبرهة كنيسته القليس ليصرف الناس عنها، و أخيرا، أما كانت القبائل العربية التي انضمت إلى أبرهة تعرف الطريق إلى الكعبة المشرفة، و بخاصة «نفيل بن حبيب» الذي قاوم الحملة- بادئ ذي بدء- ثم رضي بعد ذلك أن يكون دليلا لها في مقابل إطلاق سراحه.

[4] أسباب الحملة الاقتصادية و السياسية

لا ريب في أن حملة أبرهة الحبشي على مكة المكرمة، إنما كانت لأسباب سياسية و اقتصادية في الدرجة الأولى، و ربما كانت دينية في الدرجة الثانية، و حتى هذه فقد كانت في خدمة العوامل السياسية و الاقتصادية، ذلك لأن اليمن، بعد الاحتلال الحبشي، قد فقدت دورها التقليدي في نقل التجارة العالمية، يوم أن كانت تسيطر على باب المندب، و تملك أسطولا ضخما ينقل البضائع من الهند و الصين و سوقطرة إلى موانيها مثل عدن و قنا، بحيث كان ذلك شبه احتكار في يدها (1).

و زاد الطين بله، أن النزاع بين الفرس و الروم قد أدى إلى اغلاق الطريق التجاري الشرقي المار ببلاد العراق إلى الشام، كما أن البحرية الحبشية لم تنجح في سد الفراغ الذي تركته البحرية الرومية في البحر الأحمر، ربما لظروف جغرافية أكثر منها سياسية، و من ثم فقد أصبح الطريق البري، عبر تهامة و الحجاز، هو الطريق الوحيد المفتوح أمام التجارة، و كان لا بد- بعد زوال النشاط اليمني- أن يوجد من يسد هذا الفراغ، و يقوم بدور الوسيط المحايد بين المتنازعين، لنقل التجارة، و قد

ص: 401


1- عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص 74، و كذا 32. 30. P. P, aeS naearhtyrE eht fo sulpireP ehT, ffohcS. W

وجد هذا الوسيط ممثلا في مدينة مكة (1)، التي حظيت منذ منتصف القرن الخامس الميلادي بمكانة سامية بين عرب الشمال، فضلا عن طرفي الصراع الدولي (الفرس و الروم) في تلك الفترة، و ساعد على ذلك رغبة الفريقين المتنازعين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد من ناحية، و بعد مكة و صعوبة الوصول إليها من ناحية أخرى.

غير أن الحبشة- بتأثير من الروم على ما يبدو- لم تكن ترى هذا الرأي، إذ كانت حريصة على ان تحتكر هذا المصدر الاقتصادي الهام لنفسها، و من ثم كانت حملة أبرهة للاستيلاء على مكة (2)، و بالتالي السيطرة على التجارة القادمة من الجنوب إلى الشمال، عن طريق مكة، و لعل ذلك قد حدث بعد فشل مشروع تحويل العرب من الكعبة إلى القليس، و ما كان يرجى من وراء ذلك من مكاسب مادية و دينية و أدبية.

و أما الأسباب السياسية، فلعل أهمها أن الاستيلاء على مكة، إنما يعني إزاحة عقبة كئود، كانت تقف حائلا بين اتصال الأحباش في اليمن بحلفائهم البيزنطيين في الشمال، و ربما كانت بيزنطة تقف بكل قوتها وراء هذا المشروع الخطير، بل أن هناك ما يشير إلى أن ذلك إنما كان كذلك، فنجاح هذا المشروع يجعل العربية الغربية كلها تحت نفوذ النصرانية، كما أن أبرهة يستطيع، بعد فتح مكة، أن يزحف نحو الشرق، و من ثم يمكنه إلى حد كبير أن يقضي على النفوذ الفارسي في العربية الشرقية، و بالتالي طرد الفرس من بلاد العرب و جعل النفوذ الأجنبي فيها مقصورا على النفوذ الحبشي الرومي.

ص: 402


1- احمد إبراهيم الشريف: مكة و المدينة في الجاهلية و عصر الرسول، القاهرة 1965 ص 154 143- 142. P. P, 1942, oriaC, tsaE raF eht dna aibarA, niyyazuH. A. S
2- احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 155، جواد علي 3/ 518.

و هكذا فإن نجاح المشروع سوف يحقق للأحباش و الروم أهدافهم في بلاد العرب، يحقق للأحباش أهدافهم الدينية بالقضاء على المركز الديني العربي الأساسي و تحويلهم نحو القليس- مكرهين أو راغبين- و يحقق لهم أهدافهم الاقتصادية عن طريق سيطرتهم على الطريق التجاري البري بين جنوب بلاد العرب و شمالها، فضلا عن الفوائد الاقتصادية التي يجنيها الأحباش من تحويل الحجيج من مكة إلى صنعاء، و يحقق للروم أهدافهم عن طريق بسط نفوذهم على بلاد العرب، و القضاء على النفوذ الفارسي فيها، بل و تقديم المساعدة لهم في الوقت المناسب في الصراع القائم بينهم و بين الساسانيين، بل إن «بركوبيوس» ليرى أن «ايراموس» (أبرهة) عند ما بسط نفوذه في العربية الجنوبية، و أمّن ملكه، وعد الإمبراطور «جستينان» ان يغزو الفرس، و أنه قد بدأ مشروعه هذا بالفعل، إلا أنه سرعان ما تردد في تنفيذه بعد ذلك.

و لعل أهم الشواهد التي تؤيد أهداف الحملة السياسية و الاقتصادية ما يرويه المؤرخون المسلمون أنفسهم من أن أبرهة قد كتب للنجاشي بعد بناء القليس- و قبل تدنيسها- بأنه ليس منته حتى يصرف إليها حج العرب (1) و منها كذلك (ثانيا) حملة أبرهة على «معد» و فرض نفوذه عليها (2)، و هناك من يذهب الى أن هذه خطة كان المراد منها إقامة قيس على معد، ثم تكوين جيش من هؤلاء و أولئك لغزو فارس، و لم يكن أبرهة ذلك الرجل الذي يزهد في مثل هذه الفرصة، لمد نفوذه على بلاد العرب (3).

ص: 403


1- تاريخ الطبري 2/ 130، تفسير الطبري (30/ 193، تفسير القرطبي 2/ 187- 188 (طبعة دار الكتب)، ص 7277 (طبعة الشعب)، تفسير ابن كثير 8/ 504 (طبعة الشعب)، البداية و النهاية 1/ 170، ابن هشام 1/ 43.
2- جواد علي 3/ 494- 496، 79- 277. p. p, 4- 3. 953, 3/ 494- 496, 79- 277. P. P, 4- 3, noesuM eL
3- .. 193. P 12- 9, XX, I, suipocorP

و منها (ثالثا) إن الروم إنما كانوا يسعون إلى توحيد القبائل العربية تحت نفوذهم، و من ثم فقد حاولوا من قبل تكوين حلف منهم و من «السميفع أشوع»- ملك اليمن بعد ذي نواس و قبل أبرهة- ضد الفرس (1)، بل إن أوليري» ليرى أن بعض تجار الروم في مكة، إنما كانوا يقومون بأعمال التجسس لحساب بلادهم (2).

[5] مقاومة العرب للحملة

بدأ أبرهة يعدّ العدة لغزو مكة، و هدم البيت الحرام. و من ثم فقد جهز جيشا ضخما، و إن كان المؤرخون الإسلاميون قد بالغوا في عدده، حتى ذهب بعضهم إلى أنه كان ما بين 40، 60 ألفا، و قد اشترك في هذا الجيش من قبائل عرب الجنوب، خولان و الأشعريون و خندف و حميس بن أد (3).

هذا و تذهب المصادر العربية إلى أن العرب حينما سمعت بهذا الأمر عظمته، و رأوا أن جهاده حقا عليهم، و ذلك لمكانة الكعبة عند العرب، فضلا عن مكانة مكة نفسها، ذلك لأن المدينة المقدسة، إنما كانت- كما اشرنا من قبل (4)- تتمتع عند القوم بمكانة لا تتطاول إليها مكانة بلد آخر في شبه الجزيرة العربية، فمن المعروف أنه رغم وجود «البيوت الحرام» كبيت الأقيصر و بيت ذي الخلصة و بيت نجران، و غيرهما من البيوت

ص: 404


1- 437. P, II, GVM ni, resalG. E و كذا. 40. P, tic- po, lleB, R 180. P, 16- 8, XIX. I, suipocorP
2- 184. P, tic- po, yvaeL'OycaL eD
3- تفسير القرطبي 20/ 193، البيهقي: دلائل النبوة 1/ 57، روح المعاني 30/ 234، جواد علي 3/ 519، و كذا. 433. P 4- 3, 1965, noesuM eL
4- راجع هنا الفصل الخاص بالكعبة المشرفة.

الحرام (1)، فإن واحدا من هذه البيوت لم يجتمع له ما أجتمع لبيت مكة، لأن مكة ملتقى القوافل بين الجنوب و الشمال و بين الشرق و الغرب، و كانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، و لمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، و كانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، و لم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها (2).

و كانت مكة كذلك عربية لجميع العرب، و لم تكن كسروية و لا قيصرية، و لا تبعيّة و لا نجاشية، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام أو عند تخوم الجنوب، و لهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها يجدون فيها من يبادلهم و يبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر و الإكراه (3).

هذا بالاضافة إلى أن كعبة مكة- دون غيرها من البيوت الحرام- إنما هي من بناء أبيهم إبراهيم و ولده إسماعيل، عليهما السلام، فضلا عن إنها إنما كانت تضم أصناما لكل قبيلة عربية، حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على ثلاثمائة صنم (4)، و أخيرا فإن الكعبة إنما أصبحت آخر الأمر، المفخرة القومية، و الحرام الإلهي عند العرب، ثم غدت بعد حين من الدهر،

ص: 405


1- ياقوت 1/ 238، 3/ 427، 4/ 394- 395، 5/ 268- 269، بلوغ الأرب 1/ 346- 347، 2/ 202، 207- 209، كتاب الأصنام ص 38، البكري 2/ 603، كتاب المحبر ص 317، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص 493، الروض الآنف 1/ 66.
2- عباس العقاد، مطلع النور ص 112- 113.
3- نفس المرجع السابق ص 113.
4- الازرقي 1/ 120- 121، اليعقوبي 1/ 254- 255، الروض الآنف 2/ 276، كتاب الأصنام ص 27- 28، جوستاف لوبون: حضارة العرب ص 124، جرجي زيدان: تاريخ التمدن الاسلامي 1/ 37 و كذا. 225. P, tic- po, nobbiG, E

الجوار الوحيد الذي يشعر العرب عنده، بشعور العروبة الموحدة، عالية الرأس، غير مستكينة لأجنبي، كائنا من كان.

و لعل هذا كله إنما كان سببا في أن يرى العرب أن مقاومة حملة أبرهة، إنما هو الواجب المفروض عليهم، و من ثم فقد تعرض للحملة شريف يمني يدعى «ذو نفر»، لم يكتب له النجاح في مهمته، و أخذ اسيرا، و الأمر كذلك بالنسبة إلى «نفيل بن حبيب الخثعمي»، و هكذا استمرت الحملة في طريقها، حتى إذا ما وصلت إلى الطائف، تقدم زعيمها «مسعود بن معقب» إلى الطاغية الحبشي، يعلن له الخضوع، ثم بعث معه «أبا زغال» ليدله على الطريق إلى مكة، فأنزله «المغمس»- على مبعدة ثلثي فرسخ من مكة في طريق الطائف- و هناك هلك أبو رغال، و رجمت العرب قبره بعد ذلك (1).

و يصل أبرهة إلى أرباض مكة، و يرسل «الأسود بن مقصود» على فرسانه، فيسوق إليه أموال تهامة من قريش و غيرها، و من بينها مائتا أو أربعمائة بعير لسيد مكة، عبد المطلب بن هاشم، ثم يبعث برجل من العرب يدعى «حقاطة» يبلغ سيد مكة أن أبرهة لم يأت لقتالهم، و إنما لهدم البيت الحرام، فإن لم يمنعوه، فهم في أمان من حربه.

و يلقى رسول أبرهة سيد مكة، و يبلغه رسالة أبرهة، فيقول له عبد المطلب: «و الله ما نريد حربه، و ما لنا بذلك من طاقة، و هذا بيت الله الحرام، و بيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنع منه فهو بيته و حرمه، و إن يخل بينه و بنيه، فو الله ما عندنا دفع عنه».

ص: 406


1- ابن الأثير 1/ 443- 445، تفسير الطبري 30/ 300- 301، تفسير القرطبي ص 7278- 7279 (طبعة الشعب)، ص 188- 189 (طبعة دار الكتب)، تفسير ابن كثير 8/ 504- 505 (طبعة الشغب)، تفسير روح المعاني 30/ 234، في ظلال القرآن 8/ 665، مروج الذهب 2/ 53، ياقوت 3/ 53- 54، 5/ 161- 162، الأزرقي 1/ 141- 142.

و تستمر الرواية بعد ذلك، فتذهب إلى أن الرسول إنما أخذ معه عبد المطلب إلى أبرهة، و كان عبد المطلب رجلا عظيما مهيبا و سيما، فنزل أبرهة عن سريره و أجلسه معه، و سأله عن طلبه، فقال عبد المطلب:

الإبل التي ساقها جندك، و هنا يذهب الرواة إلى أن أمر عبد المطلب قد هان في نظر أبرهة، و قال له: «أ تسأل عن البعير، و تترك البيت الذي هو دين آبائك، و دينك من بعدهم»، فقال عبد المطلب: «أنا رب الإبل، و للبيت رب يحميه»، و هنا أمر أبرهة برد إبل عبد المطلب دون غيرها (1)، فأخذها عبد المطلب و قلدها النعال، و ساقها هديا إلى الحرم، و هناك وقف على باب الكعبة يقول:

[يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا]

[إن عدو البيت من عاداكا فامنعهم أن يخربوا قراكا]

[لا هم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم

و محالهم غدرا محالك [و انصر على آل الصليب و عابديه اليوم آلك

(2).

و يعلق الاستاذ العقاد- طيب الله ثراه- على موقف عبد المطلب هذا، بأنه كان موقفا حكيما، يتفق و ما عرف عن صفات هذا السيد العظيم، لا تهور مع القوة الطاغية، و لكن لا خضوع لها، بل وضع لها في موضعها،

ص: 407


1- هناك رواية تذهب إل أن عبد المطلب صحب معه نفاثة بن عدي سيد بكر، و خويلد بن واثلة سيد هذيل، فعرضا على أبرهة ثلث أموال تهامه على أن يرجع و لا يهدم البيت، فرفض (أنظر: الازرقي 1/ 145، روح المعاني 30/ 235، تفسير الطبري (30/ 302)
2- تاريخ الطبري 2/ 133- 136، تفسير الطبري 30/ 300- 302، الازرقي 1/ 143- 145، ابن الأثير 1/ 444، تفسير الفخر الرازي 32/ 96، تفسير روح المعاني 30/ 234- 235، في ظلال القرآن 8/ 665- 666، مروج الذهب 2/ 104- 106، تاريخ اليعقوبي 1/ 252- 253،؟؟؟؟ دلائل النبوة 1/ 58- 59، ابن هشام 1/ 48- 52، ابن سعد 1/ 55- 56، تفسير ابن كثير 8/ 504- 506، حياة محمد ص 101- 102، تفسير القرطبي ص 7279- 7282 (طبعة الشعب)، العقاد: مطلع النور ص 121- 122، عبد المجيد عابدين المرجع السابق ص 64- 65، تاريخ ابن خلدون 2/ 62.

و قول يناسب كل مقام، فإذا خامر الظن أحدا لا يفهم معنى هذه الأنفة التي تأنف من التهور، لما تأنف من الجبن، فهناك الجواب الفعال الذي يغني ما ليس يغنيه المقال: ما سألت عن الإبل لأنني اضن بأثمانها، فإنني قد وهبتها بعد ذلك للبيت، و لكني سألت عنها لأنها موضع سؤالي، و تركت السؤال عن البيت لأن استجداء الرحمة من أبرهة لبيت اللّه ينفي الثقة بالبيت و باللّه (1)، فضلا عن أن أبرهة ما كان ليرجع عن عزمه، إن سأله عبد المطلب أن يكف عن البيت، و هو الذي أعد كل ذلك من أجل أن يهدم هذا البيت، و من ثم فإن طلب عبد المطلب من أبرهة الرحمة بالبيت، طلب لا موضع له، في هذه الظروف، و إزاء كل هذه التجهيزات العسكرية.

و هنا تروي المصادر العربية أن عبد المطلب قد انطلق و من معه من قريش إلى شعاب الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخلها، غير أن هناك رواية أخرى- نرجحها و نميل إلى الأخذ بها- تذهب إلى أن عبد المطلب، بعد أن لم يفلح في تعبئة قريش لقتال الأحباش، لم يفارق الكعبة حين تفرقت قريش في شعاب مكة و جبالها خوفا من الغزاة، و إنما أخذ يستعد لمقاومة الغزو بمن أطاعه من قومه، و هو مع ذلك كان دائم الدعاء لربه، ليرد كيد المغير عن بيته الحرام، و من ثم فإن المرض حين تفشى في جيش أبرهة و ارتد عن مكة، علت مكانة عبد المطلب فوق علوها (2). و لعل مما يرجح مقاومة عبد المطلب أن العرب حين سمعت بحملة أبرهة على الكعبة، رأوا جهاده حقا عليهم، و من ثم فقد خرج رجل من أشراف اليمن دعوه «ذو نفر»، فدعا قومه و من أجابه من سائر

ص: 408


1- عباس العقاد: مطلع النور ص 122.
2- ابن هشام (1/ 49- 50، تاريخ اليعقوبي 1/ 252- 253، دلائل النبوة 15/ 57، المعارف ص 312، الازرقي 1/ 145، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 138.

العرب إلى حرب أبرهة و جهاده، و رغم أن «ذا نفر» قد فشل في مهمته، فإنه قد أثبت أن العرب لم يخنعوا لأبرهة، و لم يستكينوا لرغبته في هدم كعبتهم الشريفة، أضف إلى ذلك أن «البيهقي» يذهب إلى أن الأشعريين و خثعم، حينما و صلوا إلى الحرم الشريف كسروا رماحهم و سيوفهم، و برءوا إلى اللّه تعالى من أن يعينوا على هدم البيت الحرام (1).

[6] نتائج الحملة

منيت حملة أبرهة بفشل ذريع، ذلك لأن إرادة الله أرادت غير ما أراد الطاغية الحبشي، «و أرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول»، و سواء أ كانت هذه الطير الأبابيل، طيرا من البحر رمتهم بحجارة مثل الحمص و العدس، لا تصيب الواحد منهم إلا هلك، أو أنها أشباه اليعاسيب رمتهم بحجارة من سجيل، و هو طين خلط بحجارة خرجت من البحر، أو أنها مثل صغار العصافير السوداء، أو أن المراد بها جراثيم الوباء، أو أنه وباء لا ندري عنه شيئا، فتلك بجيش أبرهة، أو أنه بالتحديد مرض الجدري قد فتك بالجنود و قائدهم، أو أنه الجدري و الحصبة معا (2)، فالنتيجة واحدة لا تتغير

ص: 409


1- البيهقي: دلائل النبوة 1/ 59، ابن هشام 1/ 45- 46، تفسير القرطبي ص 7278، تفسير ابن كثير 8/ 504.
2- ابن هشام 1/ 59 و مروج الذهب 2/ 105، تفسير الفخر الرازي 32/ 96- 97، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي) 2/ 576- 577)، تفسير روح المعاني 30/ 235- 237، تفسير الطبري 30/ 298- 299، 304، تفسير النيسابوري 30/ 165، تفسير القرطبي ص 7282- 7283- 7286- ص 7290 (طبعة الشعب)، 20/ 196- 199 (طبعة دار الكتب)، تفسير في ظلال القرآن 8/ 666- 675، تفسير ابن كثير 8/ 507- 509، تفسير جزء عم للامام محمد عبده ص 121- 122، تفسير البيضاوي 2/ 576، الأزرقي 1/ 146- 148، تاريخ الطبري 2/ 136- 139، البداية و النهاية 2/ 169، وهب ابن منبه: المرجع السابق ص 303، يوسف احمد: المحمل و الحج ص 77، الرحلة الحجازية ص 129، ابن سعد 1/ 56، حياة محمد ص 102، تاريخ ابن خلدون 2/ 62

بصحة سبب من هذه الأسباب، و عدم صحة آخر، فشل ذريع لحملة ظلوم من طاغية غشوم، أراد بالبيت الحرام سوءا ما بعده سوء، فحمى اللّه بيته، و أهلك عدوه، حتى أن المراجع تكاد تجمع على أن أبرهة لم يبلغ صنعاء، إلا بعد جهد جهيد، و هناك مات مشيعا بلعنات العرب من كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، و مقدما في الوقت نفسه العبرة لكل ظالم جبار تسول له نفسه أن يفكر في الاعتداء على بيت اللّه الحرام و آله.

و كان من نتائج الحملة أن علت مكانة عبد المطلب الدينية و الأدبية علوا كبيرا، حتى كانت قريش تقول بعد ذلك «عبد المطلب إبراهيم الثاني»، كما علت، في الوقت نفسه، مكانة قريش بين القبائل العربية، و قالت العرب عنهم «أهل الله قاتل عنهم كفاهم مئونة عدوهم» (1).

هذا و قد اشار القرآن الكريم إلى هذا الحادث الجلل في سورة كاملة، هي سورة الفيل، يقول عزّ من قال: «أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، أ لم يجعل كيدهم في تضليل، و أرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول».

و أخيرا فإن هذا النصر العظيم الذي أعطاه اللّه للعرب على أبرهة، إنما كان ارهاصا بدعوة المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم) و شرفه العظيم، فضلا عن دلالة واضحة على شرف البيت الحرام، و حماية الله له من كل ظالم غشوم، و إجابة لدعوة الخليل- عليه الصلاة و السلام- «رب أجعل هذا بلدا آمنا (2)».

ص: 410


1- ابن هشام 1/ 57، الازرقي 1/ 148، تفسير القرطبي 20/ 195- 196، 200
2- سورة البقرة آية 126، و انظر: تفسير الفخر الرازي 32/ 97، تفسير روح المعاني 30/ 233، تفسير القرطبي 2/ 502- 505، تفسير ابن كثير 1/ 247- 253، تفسير المنار 1/ 383- 386، تفسير الطبري 3/ 44- 56 (دار المعارف)، تفسير الكشاف 1/ 186

و هكذا كانت حملة أبرهة- كما يقول براون- فاتحة عصر جديد، في تاريخ حياة العرب القومية (1)، حتى أنهم اعتبروها مبدأ تقويم يؤرخون به الأحداث، و من ثم فقد كانت قريش تؤرخ بعد ذلك بعام الفيل (2)، كما أن هذه الهزيمة المنكرة لأبرهة جعلت الحبشة لا تفكر بعد هذا الحادث أبدا في أن تقوم بعمل عسكري ضد مكة، بخاصة و أن القوم في اليمن سرعان ما استعانوا بالفرس، و طردوا الأحباش من بلادهم- و إلى الأبد إن شاء اللّه- و من ثم فإننا نرى أن العلاقات بين الحبشة و العرب في مكة إنما كانت طيبة على أيام البعثة النبوية الشريفة، بل إننا نعرف أن رسول اللّه- صلوات اللّه و سلامه عليه- كان على علاقة طيبة بالنجاشي، الذي يرى فيه المؤرخون المسلمون «عم أصحمة»، بينما يرى المؤرخون المحدثون أنه «أرماح الثاني» أو «أرمحة»، و من ثم فإنهم يذهبون إلى أن «عم أصحمة» هذا، إنما كان حاكما على إقليم من أقاليم الحبشة، و على أي حال، فإن النجاشي قد أكرم وفادة المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده فرارا من اضطهاد قريش لهم، و الأمر كذلك بالنسبة إلى علاقة النجاشي بقريش التي أرسلت له سفارة فأوصته في رد هؤلاء المهاجرين (3).

بقي أن نشير إلى أن تاريخ حملة أبرهة هذه ما يزال موضع خلاف بين

ص: 411


1- حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 1/ 76
2- الازرقي 1/ 148، هيكل: حياة محمد ص 102
3- ابن هشام 1/ 321- 341 (طبعة الحلبي الثانية- القاهرة 1955)، الطبقات الكبرى 1/ 136- 139، ابن الأثير 2/ 76- 82، تاريخ الطبري 2/ 328، 335، زاد المعاد 2/ 75 (طبعة عام 1928)، احمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص 159، عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص 71- 81، رحلة صادق باشا المؤيد إلى الحبشة، ترجمة رفيق العظم ص 186 و كذا 71- 270, 137. P. P و كذا 1938 ,nodnoL ,ainissybA dna ,aibuN ,aipoihtE fo yrotsiH A ,egduB .W ,N ,E 184 .P ,tic -po ,yvaeL'o yceL ED

المؤرخين، فهو عام 552 م على رأي (1)، و هو عام 563 م على رأي آخر (2)، و كلاهما يخالف المعهود من أن الحملة إنما كانت في عام 570- 571 م، و هو ما نرجحه و نميل إلى الأخذ به، طبقا للدراسة التي قام بها «محمود باشا الفلكي» (3)، و أثبت فيها أن مولد المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم)- و قد كان في عام الفيل (4)- إنما كان في يوم الاثنين، التاسع من ربيع الأول، الموافق 20 أبريل من عام 571 م (5).

ص: 412


1- 28- 427. P. P, 4- 3, 1965, noesuM eL
2- جواد علي 3/ 496 و كذا 427. P, 4- 3, 1965, noesuM eL
3- محمود باشا الفلكي: التقويم العربي قبل الاسلام، و تاريخ ميلاد الرسول و هجرته، القاهرة 1969 ص 33- 44
4- تفسير القرطبي 20/ 194- 195، تفسير روح المعاني 30/ 233
5- راجع ما قدمناه هنا في هذه الدراسة من قبل عن الآراء التي دارت حول المولد النبوي الشريف.

المصادر و المراجع العربية

[1] كتب الحديث

1- القرآن الكريم

2- البخارى، الامام ابو عبد اللّه محمد بن اسماعيل: صحيح البخارى، 25 جزءا دار أحياء الكتب العربية، القاهرة (بدون)

3- ابن حنبل، الامام احمد: مسند الامام احمد بن حنبل، المكتب الاسلامي، بيروت (بدون)

4- ابو داود، الامام الحافظ السجستاني الازدي: سنن ابي داود، نشر و توزيع محمد علي السيد، حمص، 1388 ه 1969 م

5- ابن ماجة، الحافظ ابي عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني: سنن ابن ماجة: جزءان، عيسى البابي الحلبي، القاهرة (بدون)

6- مسلم، الامام ابو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، الطبعة الثانية، تحقيق محمد ناصر الدين، بيروت 1392 ه- 1972 م

[2] كتب التفسير

7- الألوسي، السيد محمد شكري: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني، بيروت (بدون)

8- البيضاوي، ابو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد: أنوار التنزيل و أسرار التأويل، دار صادر، بيروت (بدون)

9- لخازن، ابي محمد الحسين الفراء البغوي: لباب التأويل في معاني التنزيل، دار الفكر، بيروت (بدون)

ص: 413

10- الرازي، الفخر: التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، طهران (بدون)

11- الزمخشري، الامام جار اللّه محمود بن عمر: الكشاف على حقائق التنزيل و عيون الاقاويل في وجوه التأويل، بيروت (بدون)

12- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر: الدرر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت (بدون)

13- الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعرفة، بيروت 1392 ه

14- القرطبي، ابو عبد اللّه محمد بن احمد الانصاري: الجامع لأحكام القرآن، 20 جزءا الطبعة الثالثة، دار الكاتب العربي، القاهرة 1387 ه 1967

15- قطب، سيد: في ظلال القرآن، الطبعة الثانية، دار احياء الكتب العربية، القاهرة (بدون)

16- ابن كثير، اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي: تفسير القرآن العظيم، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1373 ه 1954 م

17- المنار، دار المنار: تفسير القرآن الحكيم، الطبعة الرابعة، دار المنار، القاهرة 1373 ه

18- النسفي، ابو البركات عبد اللّه بن احمد بن محمود: مدارك التنزيل و حقائق التأويل، المكتبة الأموية، بيروت (بدون)

19- النيسابوري، نظام الدين بن محمد بن حسين القمي: غرائب القرآن و رغائب الفرقان، الطبعة الاولى، بولاق مصر 1323 ه

20- الكتاب المقدس: العهد القديم و العهد الجديد، دار الكتاب المقدس، القاهرة 1969

ص: 414

21- ابن الأثير، عز الدين ابو الحسن علي الشيباني: الكامل في التاريخ- الجزء الأول و الثاني- بيروت 1965

22- ابن العبري، ابو الفرج جريجورس بن هارون: تاريخ مختصر الدول، بيروت 1958

23- ابن الكلبي، ابو المنذر هشام بن محمد: كتاب الأصنام، القاهرة 1965

24- ابن النديم، ابو الفرج محمد بن اسحاق: كتاب الفهرست، القاهرة 1348 ه

25- ابن بكار، الزبير: جمهرة نسب قريش، القاهرة 1381 ه

26- ابن بلهيد، محمد بن عبد اللّه: صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار- خمسة أجزاء، القاهرة 51- 1953

27- ابن تيمية، احمد بن عبد الحليم: مقدمة في أصول التفسير، دمشق 1936

28- ابن تيمية، احمد بن عبد الحليم: اقتضاء الصراط المستقيم، القاهرة 1950

29- ابن تيمية، احمد بن عبد الحليم: مجموع فتاوى ابن تيمية، الرياض 82- 1383 ه

30- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي: الموضوعات، القاهرة 1386 ه

31- ابن حبيب، ابو جعفر محمد: كتاب المحبّر، حيدرآباد 1942

32- ابن حجر العسقلاني، احمد بن علي: فتح الباري بشرح البخاري، القاهرة 1380 ه

33- ابن حجر العسقلاني، احمد بن علي: الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف، القاهرة 1354 ه

ص: 415

34- ابن حجر العسقلاني، احمد بن علي: لسان الميزان، حيدرآباد 1329 ه

35- ابن حزم، ابو محمد علي بن احمد: جمهرة أنساب العرب، القاهرة 1962

36- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: تاريخ ابن خلدون- الجزء الثاني، بيروت 1965

37- ابن دريد، ابو بكر محمد بن الحسن: الاشتقاق- جزءان، القاهرة 1958

38- ابن رستة، ابو علي احمد بن عمر: الأعلاق النفيسة، ليدن 1892

39- ابن سعد، ابو عبد اللّه محمد بن سعد: الطبقات الكبرى- الجزء الأول، القاهرة 1968

40- ابن عبد البر، يوسف بن عبد اللّه: جامع بيان العلم و فضله، القاهرة (بدون)

41- ابن عبد البر، يوسف بن عبد اللّه: الاستيعاب في اسماء الأصحاب، القاهرة 1939

42- ابن عبد ربه، ابو عمر احمد بن محمد الاندلسي: العقد الفريد، القاهرة 1953

43- ابن عبد الوهاب، الامام محمد: مختصر زاد المعاد، بيروت 1391 ه

44- ابن عراق، علي بن محمد: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، القاهرة (بدون)

45- ابن قتيبة، ابو محمد عبد اللّه بن سالم: المعارف، القاهرة 1934

46- ابن قتيبة، ابو محمد عبد اللّه بن سالم: تأويل مشكل القرآن،

ص: 416

القاهرة 1954

47- ابن قتيبة، ابو محمد عبد اللّه بن سالم: الشعر و الشعراء (جزءان)، القاهرة 1964

48- ابن قتيبة، ابو محمد عبد اللّه بن سالم: عيون الأخبار، القاهرة 1963

49- ابن قتيبة، ابو محمد عبد اللّه بن سالم: تأويل مختلف الحديث، القاهرة 1966

50- ابن كثير، عماد الدين ابو الفداء اسماعيل: البداية و النهاية في التاريخ- الجزء الاول و الثاني، الرياض 1966.

51- ابن كثير، عماد الدين ابو الفداء اسماعيل: فضائل القرآن، بيروت 1966

52- ابن كثير، عماد الدين ابو الفداء، اسماعيل: قصص الأنبياء- الجزء الاول و الثاني، القاهرة 1968

53- ابن منبه، وهب: كتاب التيجان في ملوك حمير، حيدرآباد، 1347 ه

54- ابن منظور، ابو الفضل محمد عبد الملك: لسان العرب، بيروت 1965

55- ابن هشام، أبو محمد عبد الملك: سيرة النبي (صلى اللّه عليه و سلم)، القاهرة 1955

56- أبو ريه، محمود: أضواء على السنة المحمدية، القاهرة 1960

57- أبو زهرة، محمد: المعجزة الكبرى: القرآن، القاهرة 1970

58- ابو شهبة، محمد محمد: دفاع عن السنة، القاهرة 1967

59- ابو العلا، محمود طه: جغرافية شبه الجزيرة العربية (الجزء الثالث و الرابع)، القاهرة 1972

60- ابو الفداء، الملك المؤيد عماد الدين اسماعيل: المختصر في أخبار البشر، القاهرة 1325 ه

61- الارياني، مطهر علي، في تاريخ اليمن، القاهرة 1973

ص: 417

62- الأزرقي، ابو اليد محمد بن عبد اللّه: أخبار مكة و ما جاء فيها من الآثار- (جزءان) بيروت 1969

63- الأسد، ناصر الدين (دكتور): مصادر الشعر الجاهلي و قيمتها التاريخية، القاهرة 1966

64- الاصفهاني، حمزة: تاريخ سني ملوك الارض و الأنبياء، برلين 1340 ه

65- الألوسي، السيد محمود شكري: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، (3 أجزاء)، القاهرة 24- 1925

66- الأنصاري، عبد الرحمن (دكتور): لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية، الرياض 1969

67- الأنصاري، عبد الرحمن (دكتور): لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية، الرياض 1975

68- الباقوري، احمد حسن: مع القرآن، القاهرة 1970

69- البتنوني، محمد لبيب: الرحلة الحجازية، القاهرة 1329 ه

70- البغدادي، ابو بكر احمد بن علي: تقييد العلم، دمشق 1949

71- البكري، ابو عبيد عبد اللّه بن عبد العزيز: معجم ما استعجم من اسماء البلاد و المواضع، (أربعة أجزاء)، القاهرة 45- 1951

72- البلاذري، احمد بن يحيى: كتاب فتوح البلدان (3 أجزاء)، القاهرة 56- 1957

73- البلاذري، احمد بن يحيى: أنساب الأشراف، القاهرة 1959.

74- البوطي، محمد سعيد رمضان (دكتور): من روائع القرآن، دمشق 1972

75- البيهقي، ابو بكر احمد بن الحسين: دلائل النبوة- الجزء الأول، القاهرة 1970

ص: 418

76- الجاحظ، ابو عثمان عمر بن بحر: البيان و التبيين، القاهرة 1948

77- الجارم، محمد نعمان: أديان العرب في الجاهلية، القاهرة 1923

78- الجبوري، ابو اليقظان عطية: مباحث في تدوين السنة المطهرة، القاهرة 1972

79- الحربي، ابو اسحاق إبراهيم: كتاب المناسك و أماكن طرق الحج و معالم الجزيرة، الرياض 1969

79- الجمحي، محمد بن سلام: طبقات فحول الشعراء، القاهرة 1952

80- الحربي، ابو اسحاق إبراهيم: كتاب المناسك و أماكن طرق الحج و معالم الجزيرة، الرياض 1969

81- الحيمي، الحسن بن احمد: سيرة الحبشة، القاهرة 1958

82- الخربوطلي، علي حسني (دكتور): الكعبة على مر العصور، القاهرة 1967

83- الخطيب، عبد الكريم: القصص القرآني، القاهرة 1964

84- الخطيب، محب الدين و آخرون: دفاع عن الحديث النبوي، القاهرة 1958

85- الديار بكري، حسين بن محمد الحسن: تاريخ الخميس، القاهرة 1302 ه

86- الدميري، كمال الدين: حياة الحيوان الكبرى- طبعة صبيح، القاهرة (بدون)

87- الدينوري، ابو حنيفة احمد بن داود، الأخبار الطوال، القاهرة 1960

88- الذهبي، محمد بن احمد: ميزان الاعتدال، القاهرة (بدون)

ص: 419

89- الذهبي، محمد ابن احمد: تذكرة الحفاظ، حيدرآباد 1956

90- الذهبي، محمد بن احمد: سير أعلام النبلاء، القاهرة 1955

91- الذهبي، محمد السيد حسين: التفسير و المفسرون، القاهرة 1961

92- الذهبي، محمد السيد حسين: الإسرائيليات في التفسير و الحديث، القاهرة 1971

93- الزبيدي، ابو الفيض مرتضى بن محمد: تاج العروس، الكويت (بدون)

94- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد اللّه: البرهان في علوم القرآن، القاهرة 1957

95- الزنجاني، ابو عبد اللّه: تاريخ القرآن، القاهرة 1935

96- السباعي، مصطفى: السنة و مكانتها في التشريع الاسلامي، القاهرة 1961

97- السجستاني، ابو بكر عبد اللّه بن ابي داود: كتاب المصاحف- نشره آرثر جفري، القاهرة 1936

98- السهيلي، عبد الرحمن بن عبد اللّه: الروض الآنف، القاهرة 1971

99- السمهودي، نور الدين علي بن جمال الدين: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (صلى اللّه عليه و سلم)، (جزءان)، القاهرة 1326 ه

100- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر: المزهر في علوم اللغة، القاهرة 1942

101- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر: الاتقان في علوم القرآن (جزءان)، القاهرة 1278 ه

102- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر: تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين، القاهرة 1351 ه

ص: 420

103- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: تحذير الخواص من اكاذيب القصاص، القاهرة 1972

104- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر: اللآلئ المصنوعة من الأحاديث الموضوعة، القاهرة (بدون)

105- الشافعي، عثمان بن ابي نصر: علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، القاهرة 1326 ه

106- الشرقاوي، محمود: الأنبياء في القرآن، القاهرة 1970

107- الشريف، احمد إبراهيم (دكتور): مكة و المدينة في الجاهلية و عصر الرسول، القاهرة 1965

108- الصابوني محمد علي: التبيان في علوم القرآن، بيروت 1970

109- الصالح، صبحي (دكتور): مباحث في علوم القرآن، دمشق 1962

110- الصباغ، محمد: الحديث النبوي، بيروت 1972

111- الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل و الملوك- الجزء الأول، القاهرة 1967

112- الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل و الملوك- الجزء الثاني، القاهرة 1968

113- العظم، نزيه مؤيد: رحلة في بلاد العرب السعيدة (جزءان)، القاهرة 1938

114- العقاد، عباس محمود: إبراهيم ابو الأنبياء، القاهرة (بدون)

115- العقاد، عباس محمود: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان و العبريين، القاهرة 1960

116- العقاد، عباس محمود: مطلع النور، القاهرة 1968

117- العقاد، عباس محمود: الاسلام دعوة عالمية، القاهرة 1970

118- العلمي، عبد اللّه: تفسير سورة يوسف (جزءان)، بيروت 69 1970

ص: 421

119- الفاسي، تقي الدين محمد بن احمد: شفا الغرام بأخبار البلد الحرام (جزءان)، القاهرة 1956

120- الفاسي، تقي الدين محمد بن أحمد: العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين- الجزء الأول القاهرة 1959.

121- القاسمي، محمد جمال الدين: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، القاهرة 1925

122- القلقشندي، ابو العباس احمد بن علي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، القاهرة 1959

123- المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين: مروج الذهب و معادن الجوهر، بيروت 1973

124- المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين: التنبيه و الاشراف، القاهرة 1968

125- المقدسي، المطهر بن طاهر: كتاب البدء و التأريخ، (الجزء الثالث و الرابع)، 1903- 1907

126- الميداني، ابو الفضل احمد بن محمد: مجمع الأمثال، (جزءان) القاهرة 1955

127- الناضوري، رشيد (دكتور): المدخل الى الفكر الديني، بيروت 1969

128- النجار، عبد الوهاب: قصص الأنبياء، القاهرة 1966

129- النووي، يحيى بن شرف: تهذيب الأسماء و اللغات، القاهرة (بدون)

130- النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة 1943

131- النيسابوري، ابو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه: معرفة علوم الحديث، بيروت (بدون)

ص: 422

132- الهمداني، ابو محمد الحسن بن احمد: صفة جزيرة العرب، القاهرة 1953

133- الهمداني، ابو محمد الحسن بن احمد: كتاب الإكليل- الجزء الأول، القاهرة 1963

134- الهمداني، ابو محمد الحسن بن احمد: كتاب الإكليل- الجزء الثامن، القاهرة 1966

135- الهيثمي، علي بن ابي بكر: مجمع الزوائد، القاهرة 1352 ه

136- اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب: تاريخ اليعقوبي- الجزء الأول، بيروت 1960

137- إبراهيم، حسن (دكتور): تاريخ الاسلام السياسي- الجزء الاول- القاهرة 1966

138- احمد، يوسف: الاسلام في الحبشة، القاهرة 1935

139- أمين، احمد: فجر الاسلام، بيروت 1969

140- جاد المولى، محمد احمد و آخرون: قصص القرآن، القاهرة 1969

141- جاء المولى، محمد احمد و آخرون: أيام العرب في الجاهلية، القاهرة 1942

142- جرجس، صبري (دكتور): التراث اليهودي الصهيوني، القاهرة 1970

143- حسين، طه (دكتور): في الأدب الجاهلي، القاهرة 1933

144- خلف اللّه، محمد احمد: الفن القصصي في القرآن الكريم، القاهرة 1953

145- خليفة، حاجي: كشف الظنون عن أسامى الكتب و الفنون، استنبول 1321 ه

ص: 423

146- دراز، محمد عبد اللّه (دكتور): النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، الكويت 1970

147- دراز، محمد عبد اللّه (دكتور): المدخل الى القرآن الكريم، الكويت 1974

148- رضا، محمد رشيد: تفسير سورة يوسف، القاهرة 1936

149- سالم، السيد عبد العزيز (دكتور): دراسات في تاريخ العرب- الجزء الأول، الاسكندرية 1967

150- سعيد، حبيب: المدخل الى الكتاب المقدس، القاهرة (بدون)

151- شاهين، عبد الصبور (دكتور): تاريخ القرآن، القاهرة 1966

152- شحاتة، عبد الفتاح (دكتور): تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الاسلام- الجزء الثاني، القاهرة 1960

153- شرف الدين، احمد حسين: اللغة العربية في عصور ما قبل الاسلام، القاهرة 1975

154- ظاظا، حسن (دكتور): الساميون و لغاتهم، الاسكندرية 1970

155- عابدين، عبد المجيد: الحبشة و العرب- دار الفكر، القاهرة (بدون)

156- عبده، الامام محمد: تفسير جزء عم، القاهرة 1957

157- علي، جواد (دكتور): المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام (عشرة أجزاء) بيروت 68- 1971

158- فخري، احمد (دكتور): اليمن ماضيها و حاضرها، القاهرة 1959

159- فخري، احمد (دكتور): دراسات في تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1963

160- فروخ، عمر (دكتور): تاريخ الجاهلية، بيروت 1964

ص: 424

161- فودة، عبد الرحيم: من معاني القرآن، القاهرة (بدون)

162- قاموس الكتاب المقدس- الجزء الأول، بيروت 1964

163- قاموس الكتاب المقدس- الجزء الثاني، بيروت 1967

164- مسعد، مصطفى محمد (دكتور): الاسلام و النوبة في العصور الوسطى، القاهرة 1960

165- مقدمتان في علوم القرآن (مقدمة كتاب المباني و مقدمة ابن عطية)، صححه و نشره الدكتور آرثر جفري، القاهرة 1954

166- مهران، محمد بيومي (دكتور): دراسات في تاريخ الشرق الادنى القديم- الجزء الثاني- اسرائيل- القاهرة 1973

167- مهران- محمد بيومي (دكتور): دراسات في تاريخ الشرق الادنى القديم- الجزء الثالث- حركات التحرير في مصر القديمة، الاسكندرية 1975

168- نافع، محمد مبروك، عصر ما قبل الاسلام، القاهرة 1952

169- نعناعة، رمزي (دكتور): الاسرائيليات و أثرها في كتب التفسير، بيروت 1970

170- هيكل، محمد حسين (دكتور): حياة محمد (صلى اللّه عليه و سلم)، القاهرة 1965

171- هيكل، محمد حسين (دكتور): الصديق ابو بكر، القاهرة 1964

172- ولفنسون، اسرائيل (دكتور): تاريخ اليهود في بلاد العرب، القاهرة 1927

173- ياقوت الحموي، شهاب الدين ابو عبد اللّه: معجم البلدان (خمسة أجزاء) بيروت 55- 1957

174- بلاشير، ريجيس: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي، ترجمة الدكتور إبراهيم كيلاني، بيروت 1956

175- تارن، و. و.: الاسكندر الأكبر، ترجمة زكي علي، القاهرة 1963

ص: 425

176- جولد تسيهر، اجنتس: المذاهب الاسلامية في تفسير القرآن، ترجمة علي حسن عبد القادر، القاهرة 1958

177- جولدتسيهر، اجنتس: العقيدة و الشريعة في الاسلام، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى، القاهرة (بدون)

178- جيبون؛، ادوارد: اضمحلال الامبراطورية الرومانية و سقوطها، ترجمة محمد علي ابو ريدة القاهرة 1969.

179- حتى، فيليب: تاريخ العرب- الجزء الاول، ترجمة ادوارد جرجي، جبرائيل جبور، بيروت 1965

180- حوراني، جورج فضلو: العرب و الملاحة في المحيط الهندي، ترجمه و زاد عليه الدكتور فؤاد حسنين، القاهرة 1958

181- دائرة المعارف الاسلامية، دار الشعب، القاهرة 1969

182- ديسو، رينيه: العرب في سورية قبل الاسلام، ترجمة عبد الحميد الدواخلي، القاهرة 1959

183- ديمومبين، ج: النظم الاسلامية، ترجمة الشماع و السامر، بغداد 1952

184- ديورانت، ول: قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران، القاهرة 1961

185- سديو، لويس اميل: تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر، بيروت 1948

186- فنسك، ا. ي.: مفتاح كنوز السنة، ترجمة محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة 1934

187- فنسك، آ. ى. و آخرون: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ليدن 36- 1937

188- لوبون، جوستاف: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1948

ص: 426

189- ماير، ف. ب.: حياة إبراهيم- ترجمة القس مرقص داود، القاهرة 1960

190- موسكاتي، سبتينو: الحضارات السامية القديمة، ترجمه و زاد عليه الدكتور السيد يعقوب بكر، القاهرة 1958

191- موسل، الويس: شمال الحجاز، ترجمة الدكتور عبد المحسن الحسيني، الاسكندرية 1952

192- بن نبي، مالك: الظاهرة القرآنية، ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين، بيروت 1961

193- نسلن، ديتلف و آخرون: التاريخ العربي القديم، ترجمه و زاد عليه الدكتور فؤاد حسنين، القاهرة 1958

ص: 427

[3] دوريات

1- بلتاجي، محمد (دكتور): التفسير البياني للقصص القرآني- مجلة كلية الشريعة- العدد السادس، الرياض 1975

2- الدسوقي، خالد (دكتور): قوم ثمود: بين روايات المؤرخين و محتويات النقوش- مجلة كلية اللغة العربية- العدد السادس الرياض 1976

3- مهران، محمد بيومي (دكتور): قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الاسطورة (1)- مجلة الأسطول- العدد 66، الاسكندرية 1971

4- مهران، محمد بيومي (دكتور): قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الاسطورة (2)- مجلة الاسطول- العدد 67، الاسكندرية 1971

5- مهران، محمد بيومي (دكتور): الساميون و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي- مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974

6- مهران، محمد بيومي (دكتور): قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة- مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس، الرياض 1975

7- مهران، محمد بيومي (دكتور): العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة- مجلة كلية اللغة العربية- العدد السادس، الرياض 1976

ص: 428

Abreviations

ANET→Ancient Near Eastern Texts.

EASOR→Bulletin of the American Schools of Oriental Research.

BSOAS→Bulletin of the Schools or Oriental and African Studies.

CAH→The Cambridge Ancient History.

CHI→The Cambridge History of Islam.

CIS→Corpus Inscriptionum Semiticarum.

DB→Dictionary of The Bible

EB→Encyclopaedia Biblica.

ERE→Encyclopaedia of Religion and Ethics.

EI→Encyclopaedia of Islam.

GJ→Geographical Journal.

JA→Journal Asiatique.

JE→The Jewish Encyclopaedia.

JNES→Journal of Near Eastern Studies.

JRAS→ Journal of the Royal Asiatic Society.

JRGS→Journal of the Royal Georgraphical Society chaft.

MET→The Middle East Journal.

PSBA→Proceeding of the Society of Biblical Archaeology.

UJE→The Universal Jewish Encyclopaedia.

ZDMG→Zeitschrift der Deutschen Morgenland ischen Gesels chaft.

ص: 429

[4] المراجع الأجنبية

1. Albright, W.F., The Bible and the Ancient Near East, London, 1961.

2. Andrae, T., Mahomet, Sa Vie et Sa Doctrine, Paris, 1945.

3. Altheim, F., and Stiehl, R., Die Araber in der Alten Welt, Berlin, 1964.

4. Altheim, F., and Stiehl, R., Araber und Sasaniden, Berlin, 1954.

5. Amer, M., The Ancient Irans Peninsular Routes of Arabia, le Caire, 1926.

6. Beeston, A.F.L., Epigraphic South Arabian Calendars and Dating, London, 1956.

7. Bell, R., The Origin of Islam in its Christian Environment, London, 1926.

8. Blachère, R., Introduction Au Coran, Paris, 1959.

9. Blachère, R., Le Probleme de Mahomet, Paris, 1952.

10. Branden, A. Vanden, Les textes Thamoudeens de Philby, Lou vain, 1956.

11. Branden, A. Van den, Histoire de Thamoud.

12. Branden, A. Van den, Les Inscriptions Thamoudeens, Lou vain, 1950.

13. Budge, E.A.W., A History of Ethiopia, Nubia and Abyssinia, I, London, 1938.

14. Bury, J.B. A History of the Eastern Roman Empire, London, 1912.

15. Bury, J.B., A History of the Later Roman Empire, 2 Vols., London, 1931.

16. Caetnani L., Studi di Storia Orientale, Milano, 1911.

17. Caussin de Perceval, Essai sur l'histoire des Arabe's avant l'Isla misme, I, Paris, 1847.

18. Clark, J.D., The Prehistoric Culture of the Horn of Africa.

19. Cooke, G.A., A TextBook of North Semitic Inscriptions, Oxford, 1907.

ص: 430

20. Conti Rossini, C., Storia d'Etiopia, I, Milan, 1928.

21. Doughty, C.M., Travels in Arabia Desert, 2 Vols. N.Y., 1946.

22. Drewes, A.J., Inscriptions de l'Ethiopie Antique, 1961.

23. Dussaud, R., la Penetrations des Arabes en Syrie avant l'Islam, Paris, 1955.

24. Epstein, I., Judaism, Penguin Books, 1970.

25. Fleisch, H., Introduction à l'étude des Langues Semitiques, Paris, 1947.

26. Finegan, J., Light from the Ancient Past, the Archaeological Background of Judaism and Christianitu, I, Princeton, 1969.

27. Forster, C., The Historical Geography of Arabia, 2 vols.,London.

28. Gardiner, A.H., Egypt of the Pharaohs, Oxford, 1964.

29. Gibbon, E., The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, London, 1950.

30. Jeffery Arthur, Materials for the History of the Text of the Qur'an, Leiden, 1937.

31. Goitein S.D., Jews and Arabes, N.Y., 1955.

32. Glaser, E., Die Abessinier in Arabien und Africa, 1895.

33. Glaser E., Zwein Inschriftten uber de nDammbruch von Marib, 1897.

34. Grohmann, A., Arabien, Munchen, 1963.

35. Grohmann, A., alArab, in Encyclopaedia of Islam, New edition.

36. Guillaume, A., Prophecy and Divination among the Hebreuws and other Semites, London, 1938.

37. Guillaume, A., Islam, Penguin Books, 1964.

38. Hastings, J., Dictionary of the Bible, Edinburgh, 1936.

39. Hastings, J., Encyclopaedia of Religion and Ethics, Edinburgh, 19081921.

40. Hardings, G., Some Thamudic Inscriptions from the Hashmite Kingdom, Leiden, 1952.

41. Hill, G.F., Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia, and Persia, London, 1922.

42. Hitti, P.K., History of the Arabs, London, 1960.

43. Hogarth, D.G., A History of Arabia, Oxford, 1922.

44. Hogarth, D.G., The Penetration of Arabia, London, 1922.

ص: 431

45. Hommel, F., Grundriss der Geographie und Geschichte des Alten Orients. Munchen, 1926.

46. Hommel. F.. Explorations in Arabia. Philadelphia. 1903.

47. Hornell. J.. SeaTrade in Early Times, in Antiquity, 15, 1941.

48. Huart, une Nouvelle Source du Koran, 1904.

49. Hunt, G., Himyaric Inscriptions of Hism Ghurab. 1848.

50. Huzayyin, S.A.. Arabia and the Far East, Cairo, 1942.

51. Jamme. A., Sabaean Inscriptions from Mahram Bilgris (Marib). Baltimore, 1962.

52. Jamme, A., Thamudic Studies, Washington D.C., 1967.

53. Jamme A. . New Sabaean Inscriptions from South Arabia, 1968.

54. Jamme A., South Arabia Inscriptions. Princeton. 1955.

55. Jaussen. A.J. and Savignac, R., Mission Archeologique en Arabie, 4 Vols., 1904, 1920.

56. Jones, A.H.M.. and Monroe. E.. A History of Abyssinia, Oxford, 1935.

57. Kammerer, (A., La Mer Rouge. L'Abyssinie et L'Arabie depuis l'Antiquité, Le Caire, 1929.

58. Keller, W.. The Bible As History. (Hodder and Stoughton). 1967.

59. Kenyon, K.M., Archaeology in The Holy Land, London, 1970.

60. Lammens, P., L'Islam, Croyances et Institutions, Beyrouth, 1926.

61. Littmann, E., Thamud und Safa. Leipzeg, 1940.

62. Leblois, le Koran et la Bible Hebraique, Paris, 1887.

63. Lods, A., Israel, From its Beginnings to the Middle of the Eight Century, London, 1962.

64. Margoliouth, D.S., The Relations between Arabs and Israelites Prior to the Rise of Islam, London, 1924.

65. Masse, L'Islam, Paris, 1937.

66. Montgomery, J.A., Arabia and The Bible, Philadelphia, 1934.

67. Moritz, B., Arabien, Hanover, 1923.

68. Moscati, S., Ancient Semitic Civilizations, London, 1957.

69. Muir, W., The Life of Muhammad, and History of Islam, Edin burgh, 1923.

70. Musil, A., The Northern Hegas, N.Y., 1926.

71. Musil, A., The Northern Nejd, N.Y., 1928

ص: 432

72. Musil, A., In the Arabian Desert, N.Y, 1930.

73. Musil, A., Arabia Petraea, Wien, 1907.

74. Nielsen D., Handbuch der Altarabischen Altertumskunde, Hamburg, 1927.

75. Nöldeke, T., Geschichte des Qurans, Gottingen, 1860, 1961.

76. Noth. M., The History of Israel, London, 1965.

77. Oeasterly, W.. o.E., and Robinson, T.H., A History of Israel, 2 Vols., Oxford, 1932.

78. O'Leary, De Lacy. D.D., Arabia Before Muhammad, London, 1927.

79. Olmeasted, A.T., Weastern Asia in the days of Sargon of Assyria, 1908.

80. Peters, C., The El dorado of The Ancient.

81. Philby, H.St. J.B., The Heart of Arabia, 2 Vols., London, 1922.

82. Philby, H.St.J.B., The Empty Quarter, N. Y., 1933

83. Philby, H. St. J.B., Arabian Highlands N. Y., 1952.

84. Philby, H. St.J.B., Sheba's Daughters, London, 1939.

85. Philby, H.St. J.B., The Background of Islam, Alexandria, 1947.

86. Pirenne, J., la Decouverte de l'Arabie, Paris, 1958.

87. Pirenne, J., le Royaume, Sud Arabe de Qataban et sa datation, Louvain, 1961.

88. Pliny, Natural History, Trans by H. Rackham, London, 1949.

89. Ptolemy, Georgraphie, Edited by C.F. Nobbe, 3 Vols, Leipzig, 18431845.

90. Roth. C., Ashort History of the Jewish People, London, 1969.

91. Roux, G. Ancient Iraq, Penguin Books, 1966.

92. Ryckmans, G., Publication of the Inscriptions, III, 1951.

93. Ryckmans, J., L'Institution Monarchique en Arabie Meridio nale avant l'Islam, Louvain, 1951.

94. Sale, G., Observations Historiques et Critiques sur le Mahometisme.

95. Schoff, W.. The Periplus of the Erythraean Sea, London, 1912.

96. Schwally. 'Geschichte des Quran, 2, 1938.

97. Scott. H., In the High Yemen, London, 1947.

98. Shahid 1 Pre Islamic Arabia, in CHI, I, Cambridge, 1970.

99. Sprenger, A.. Das Leben und die Lehre des Mohammad, Berlin, 1861.

ص: 433

100. Sprenger, A. . Cité Par Huart, une Nouvelle Source du Koran.

101. Sprenger, A., Die Alte Geographie Arabiens, Berlin, 1875.

102. Sprengling, M., The Alphabet, its Rise and Development from The Sinai Inscriptions, Chicago, 1931.

103. Starcky, J., Palmyréniens, Nabatéens et Arabes du Nord avant L'Islam, en Histoire des Religions, 4,1956.

104. Strabo, Georgraphy, Trans. by H.L. Jones, London, 1949 .

105. Tisdall, S., The Sources of the Koran.

106. Thomas, B., Arabia Felix, Across the Empty Quarter of Ara bia, N. Y., 1932.

107. Unger, M.F., Unger's Bible Dictionary, Chicago, 1970.

108. Vincent, W., The Periplus of the Erythraean Sea, London, 1805.

109. Watt, W.M., Muhammad at Mecca, Oxford, 1953.

110. Wilson, A., The Persian Gulf, London, 1928

111. Wilson, J.A., The Culture of Ancient Egypt, Chicago, 1963.

112. Wissmann, H.Von., and Hofner, M., Beitrage Zur Historischen Geographie des Vorislamischen Südarabien, Wiesbaden, 1953.

113. Woolley, L., Excavations at Ur, London, 1963.

114. Woolley, L., The Beginnings of Civilization, N. Y., 1965.

115. Encyclopaedia Biblica

116. Encyclopaedia of Islam

117. The Jewish Encyclopaedia

118. Corpus Inscriptionum Semiticarum

119. The Westminester Historical Atlas to the Bible.

ص: 434

[5] الدوريات الأجنبية

1. Albright, (W.F.). The Chronology of Ancient South Arabia, in The Light of The First Campaign of xcavation in Qataban, in BASOR, 119, 1950.

2. Albright, (W.F.), Anote on Early Sabaean Chronology, in BASOR, 143, 1956.

3. Beeston, (A.F.L.), Notes on the Muraighan Inscriptions, in BSOAS, 1954.

4. Beeston, (A.F.L.), Problems of Sabaean Chronology, in BSOAS, 16, 1954.

5. Branden, (A.Van den), Essai de Solution du Problème Thamoudeens, BIOR, 15, 1958.

6. Branden, (A. Van den), une Inscriptions Thamoudeens, le museon, LXIII, 1950.

7. Cornwall, (P.B.), Ancient Arabia, in GJ, CVii, 1946.

8. Grohmann, (A.), The Problem of dating early Quraans, der Islam, 33, 1958.

9. Halvey, (J.), Rapport sur une Mission Archéologique dans le Yemen, JA, VI, Paris, 1872.

10. Hamilton, (R.), Archaeological Sites in the Western Aden Protectorate, GJ, 101, 1943.

11. Kensdale, (E.N.), Three Thamudic Inscriptions from The Nile Delta, le museon, 65, 1952.

12. Lammens, (P.), L'Age de Mahomet et la Chronologie de la Sira, JA, 17, 1911.

13. Lyall, (C.), The Word Hanif and Muslim, JRAS, 1903.

14. Macalister, (R.A.S.), The Topography of Jerusalem, in CAH, 111, 1965.

15. Malamat, (A.), The Last Wars of the Kingdom of Judah, JNES, 9, 1950.

16. Oppenheim, (A.L.), Babylonian and Assyrian Texts, ANET, 1966.

17. Philby, (H.St. J.B.), Note on the Last Kings of Saba, le museon, LXIII, 1950

18. Philby, (H. St.J.B.), The Land of Midian, MEJ, 9, 1955.

ص: 435

19. Philby, (H.St. J.B.), South Arabian Chronology, le Museon, LXII, 1949.

20. Philby, (H.St. J.B.), The Land of Sheba, GJ, 92, 1938.

21. Philby, (J.B.), and Tritton, (A.S.), Najran Inscriptions, JRAS, 1944.

22. Ryckmans, (G.), Inscriptions Sud Arabes, le Museon, XII, 1942.

23. Ryckmans, (G.), on Some Problems of South Arabian Epigraphy, BSOAS, 1952.

24. Ryckmans, (J.), Aspects Mouuveaux du Problème Thamoudéens, Studia Islamica, S, 1956.

25. Smith, (S.), Events in Arabia in the 6th Century A.D., BSOAS, 1954.

26. Tarn (W. W.), Ptolemy II and Arabia, in JEA, IS, 1929.

ص: 436

فهرست المحتويات

الموضوع رقم الصفحة

تقديم 5

الفصل الأول القرآن الكريم 17

(1) التدوين في عهد النبي 19

(2) جمع القرآن في عهد أبي بكر 26

(3) مصحف عثمان 32

(4) القرآن كمصدر تاريخي 38

(5) القصص القرآني و التوراة 47

(6) مقارنة بين القصص القرآني و روايات التوراة 55

الفصل الثاني الحديث 89

الفصل الثالث التفسير 99

الفصل الرابع إبراهيم الخليل جد العرب 113

(1) مولد الخليل عليه السلام 116

(2) موطن الخليل و عصره 121

(3) هجراته 127

ص: 437

(4) رحلة الخليل الى الحجاز 138

(5) اسكان اسماعيل الحجاز 156

(6) قصة الذبيح 159

(أ) وجهة النظر اليهودية و المسيحية 161

(ب) وجهة النظر الاسلامية 170

(ج) قصة الذبيح و التضحية البشرية 177

الفصل الخامس الكعبة الشريفة 181

(1) بناء الكعبة 183

(2) الكعبة بعد إبراهيم و اسماعيل 197

(3) محاولات هدم الكعبة 211

(4) الكعبة قبيل الاسلام 221

الفصل السادس العاديون قوم هود 237

(1) العاديون و العرب البائدة 239

(2) قصة عاد في القرآن الكريم 241

(3) قصة عاد و محاولة ربطها بالتوراة 243

(4) موقع منطقة عاد 246

(5) مبالغات عن العاديين 249

(6) هود عليه السلام 256

(7) عصر قوم هود 259

الفصل السابع الثموديون (قوم صالح) 263

(1) أصل الثموديين 265

(2) ثمود في الكتابات القديمة 268

(3) ثمود في القرآن الكريم 277

ص: 438

(4) عصر قوم صالح عليه السلام 280

(5) النقوش الثمودية 282

(6) المجتمع الثمودي 286

الفصل الثامن المديانيون (قوم شعيب) 289

(1) قصة مدين في القرآن الكريم 291

(2) موطن المديانيين 297

(3) عصر المديانيين 301

(4) المديانيون و بنو اسرائيل 303

الفصل التاسع سيل العرم 309

(1) القصة في القرآن الكريم 311

(2) القصة في الروايات العربية 312

(3) السدود في بلاد العرب 323

(4) سد مأرب 329

(5) وصف السد 333

(6) تهدم السد 336

(7) سيل العرم و الهجرات اليمنية 347

الفصل العاشر قصة أصحاب الأخدود 353

(1) القصة في المصادر العربية 355

(2) القصة في المصادر المسيحية و اليونانية 367

(3) الاحتلال الحبشي و علاقته بقصة الأخدود 369

الفصل الحادي عشر قصة أصحاب الفيل 389

ص: 439

(1) توطيد النفوذ الحبشي في اليمن 391

(2) بناء القليس 393

(3) حملة الفيل في الروايات العربية 396

(4) أسباب الحملة الاقتصادية و السياسية 401

(5) مقاومة العرب للحملة 404

(6) نتائج الحملة 409

المصادر و المراجع العربية

(1) القرآن الكريم 413

كتب الحديث 413

(2) كتب التفسير 413

(3) دوريات 428

(4) المراجع الأجنبية snoitaiverbA 430

(5) الدوريات الأجنبية 435

المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية

١٤٠٨ ه_ - ١٩٨٨ م

دار النهضة العربية

للطباعة والنشر

بروت - ص.ب ١١٠٧٤٩

الإدارة : بيروت، شارع مدحت باشا بناية

كريدية، تلفون: 303816

312213 /309830

برقياً : دانهضة ، ص . ب ٧٤٩-١١

تلکس : NAHDA 40290 LE

29354 LE

المكتبة : شارع البستاني، بناية اسكندراني رقم ٣ غربي الجامعة العربية،

تلفون : ٣١٦٢٠٢

المستودع : بشر حسن ، تلفون : 833180

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الثانى]

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم و الصّلاة و السّلام عليه المبعوث رحمه للعالمين سيّدنا محمّد و آله تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن النبوات في بلاد العرب، و من ثم فقد قدمنا دراسة تاريخية عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام و كذا عن هود و صالح و شعيب عليهم السلام، هذا إلى جانب دراسة أحداث تاريخية جاء ذكرها في القرآن الكريم، كقصة سيل العرم و أصحاب الأخدود و أصحاب الفيل.

و قد خصصنا هذا الجزء الثاني من هذه السلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» لدراسة تاريخ النبوات في أرض الكنانة.

و قد قدمنا له بدراسة عن النبوة و الأنبياء، ثم قدمنا بعد ذلك دراسة مفصلة عن تاريخ النبيّين الكريمين يوسف و موسى عليهما السلام، فضلا عن تاريخ بني إسرائيل في مصر.

و أملي في اللّه تعالى كبير أن يكون فيها بعض النفع، و اللّه من وراء

ص: 5

القصد، و هو الهادي إلى سواء السبيل.

«و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب».

دكتور محمد بيومي مهران استاذ تاريخ مصر و الشرق القديم و رئيس قسم التاريخ و الآثار المصريّة و الاسلامية كلّية الآداب. جامعة الاسكندريّة الإسكندرية في 12 ربيع الأول عام 1408 ه 4 نوفمبر عام 1987 م

ص: 6

الكتاب الأول دراسات تمهيدية

اشارة

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول النّبوّة و الأنبياء
1- النبي و النبوة:

النبيّ: لغة قيل المنبأ المأخوذ من النبأ، أي الخبر المفيد لماله شأن، و يصح فيه معنى الفاعل و المفعول، لأنه منبئ عن اللّه و منبأ عنه، و إن كان الإمام ابن تيمية يفضل أن يكون بمعنى مفعول، فإنه إذا أنبأه اللّه، فهو نبي اللّه (1)، و النبي بالتشديد أكثر استعمالا، أبدلت الهمزة فيه ياء، لأنه من أنبأ عن اللّه فهو ينبئ عنه، و الاسم منه منبئ، أو هو من النبوة، و هي الرفعة و الشرف (2).

و تجمع كلمة «نبي» على «نبيين و أنبياء» (3)، و قد حكى سماعا عن العرب في جمع النبي «النبآء»، و ذلك من لغة الذين يهمزون «النبي ء»، ثم يجمعونه على «النبآء»، و من ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي (صلى اللّه عليه و سلم).

ص: 9


1- ابن تيمية: النبوات- القاهرة 1346 ه ص 166، و انظر: ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل- الجزء الخامس، القاهرة 1964 ص 87.
2- محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي- القاهرة 1955 ص 37، تفسير الطبري 2/ 140- 141، محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم، القاهرة 1970 ص 9، معجم ياقوت الحموي 5/ 259- 360 (بيروت 1957).
3- انظر: سورة البقرة: آية 61، آل عمران: آية 112، تفسير الطبري 2/ 139- 141، 7/ 116- 118 (دار المعارف).

يا خاتم النبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا (1)

و النبوة فضل يسبغه اللّه على من يشاء من عباده، و هبة ربانية يمنحها اللّه لمن يريد من خلقه، و هي لا تدرك بالجد و التعب، و لا يتوسل إليها بسبب و لا نسب، و إنما هي بمحض الفضل الإلهي، فاللّه تعالى، يختص برحمته من يشاء، و هي تأتي إلى النبي من تلقاء نفسها، و على غير توقع منه، فهي إذن اصطفاء و اختيار من اللّه سبحانه و تعالى للمصطفين الأخيار من عباده (2)، و «اللّه أعلم حيث يجعل رسالته» (3)، و من ثم فإن اللّه تعالى إنما يختص بهذه الرحمة العظيمة، و المنقبة الكريمة، من كان أهلا لها، بما أهله هو، جل شأنه، من سلامة الفطرة، و علو الهمة، و زكاة النفس و طهارة القلب، و حب الخير و الحق.

هذا، و ليس صحيحا ما ذهب إليه «سيجال» من أن كلمة «نبي» عبرية الأصل، و أن لفظ «النبي» (4) إنما كان خاصا ببني إسرائيل، ذلك لأنه، فيما يرى سيجال هذا، ليست هناك نقوش تثبت وجوده في اللغة الكنعانية و الفينيقية، ثم إن الفعل «نبأ» الذي اشتق منه الاسم «نبي» لا يوجد في عبرية العهد القديم في صورته الأساسية، أي في الثلاثي المجرد، و أن الفعل الذي جاء للدلالة على عمل النبي في العهد القديم (التوراة) إنما جاء في الصيغ المزيدة على زنة «فعل» و «تفعل»، و هي في الحقيقة صيغ مشتقة من الاسم

ص: 10


1- انظر: تفسير الطبري 2/ 141، سيرة ابن هشام 4/ 103، ثم قارن: تفسير البحر المحيط 1/ 220، ياقوت 5/ 259- 260.
2- تفسير المنار 8/ 33- 34، محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء، بيروت 1980 ص 9- 10.
3- سورة الأنعام: آية 124.
4- انظر تعريفات مختلفة للفظة النبي عند بني إسرائيل و عند علماء اللاهوت الأوربيين (محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل- الإسكندرية 1978 ص 25- 30.

«نبي» نفسه، و هذه الحقيقة تدعونا إلى الاعتقاد بأن الاسم «نبي» قديم جدا في العبرية الإسرائيلية، و أنه يصعد إلى ما قبل التاريخ من حياة بني إسرائيل، و لما كان هذا الاسم يميز عمادا حيا و فعالا لا في حياة الأمة، فإنه حفظ منذ تلك الحقب السحيقة، بعد أن نسي الفعل المجرد «نبأ» الذي اشتق منه، مع توالي العصور، و انتهى أمره و اختفى من اللغة (1).

و في الواقع، فإن كلمة «نبي» ليست عبرية الأصل، كما يقول أدولف لودز (2)، و من ثم فإن علماء اللاهوت الأوروبيين و غيرهم، من أمثال جوستاف هولشر (3)، و شميدت، و لوذر (4)، و كلود سوربري (5)، إنما يتفقون على أن كلمة «نبي»، عربية، و ليست عبرية، في شكلها و معناها، و أن أصل الكلمة سامي قديم موجود في الأكدية بمعنى «يدعو» (ulaN) (6).

غير أن الأمر، كما يقول الأستاذ العقاد (7)، طيب اللّه ثراه، غني عن الخبط فيه بالظنون مع المستشرقين، من يفقه منهم اللغة العربية، و من لا يفقه منها غير الأشباح و الخيالات، فإن وفرة الكلمات التي لا تلتبس بمعنى «النبوة» في اللغة العربية كالعرافة و الكهانة و العيافة و الزجر و الرؤية، تغنيها عن اتخاذ كلمة واحدة للرائي و النبي، و تاريخ النبوات العربية التي وردت

ص: 11


1- م. ص. سيجال: حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل- ترجمة الدكتور حسن ظاظا- بيروت 1967 ص 17- 18.
2- .,yrutneC thgiE eht fo elddim eht ot sgninnigeB eht morF ,learsI ,sdoL .A 445. p، 1962.
3- .,gizpieL ,laersI ethcihcseG noigileR nuZ gnuhcusretnU ,netforP eiD ,rehcsloH .G 46- 145. p، 1914.
4- , nodnoL, msiaduJ fo esiR eht dna stehporP ehT, sdoL. A 1937.
5- .6 ,SENJ ni ,ycehporP fo tnempoleveD eht ni ydutsA ,learsI ni nam yloH ehT ,ierlruaS .C 216. p، 1947،.
6- ., notecnirP, yrotsiH eht ni tsaE raen ehT, ittiH. K. P 107. p، 1961.
7- عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام و أباطيل خصومه- بيروت 1966 ص 91- 92.

في التوراة سابق لاتخاذ العبريين كلمة النبي بدلا كلمة الرائي و الناظر، و تلمذة موسى لنبي شعيب مذكورة في التوراة قبل سائر النبوات الإسرائيلية، و موسى الكليم، و لا ريب، رائد النبوة الكبرى بين بني إسرائيل.

ثم إن كلمة «النبي» عربية لفظا و معنى، عربية لفظا، لأن المعنى الذي تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى، فهي تجمع معاني الكشف و الوحي و الإنباء بالغيب و الإنذار و التبشير، و هي معاني متفرقة تؤديها في اللغات الحديثة بكلمات متعددة، فالكشف مثلا تؤديه في اللغة الإنجليزية كلمة (noitaleveR)، و الوحي تؤديه كلمة (noitaripsnI) و استطلاع الغيب تؤديه كلمة (noitaniviD) أو (clcarO) و لا تجتمع كلها في معنى «النبوة» كما تجتمع في هذه الكلمة باللغة العربية.

و قد وجدت كلمة «النبوة» في اللغة العربية غير مستعارة من معنى آخر، لأن اللغة العربية غنية بكلمات العرافة و العيافة و الكهانة و ما إليها من الكلمات التي لا تلتبس في اللسان العربي بمعنى النبوة، كما تلتبس في الألسنة الأخرى عن أصل التسمية و اشتقاق المعاني الجديدة عن الألفاظ القديمة، فكلمة «النبي» تدل على معنى واحد لا تدل على غيره، خلافا لأمثالها من الكلمات في كثير من اللغات.

و قد استعار العبريون كلمة «النبي» من العرب في شمال شبه الجزيرة العربية بعد اتصالهم بها، لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء، و كانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي أو الناظر، و لم يفهموا من كلمة «النبوة» في مبدأ الأمر، إلا معنى الإنذار (1) و أما كلمة (tehporP) الإنجليزية و كلمة (etehporP) الفرنسية، و كلمة (neteforP) الألمانية و غيرها، فإنها منقولة عن اليونانية القديمة، ذلك أن

ص: 12


1- عباس العقاد: إبراهيم أو الأنبياء ص 159.

الأمم التي كانت تشيع فيها نبوة الجذب، يكثر أن يكون مع المجذوب، مفسر يدعى العلم بمغزى كلامه و لحن رموزه و إشاراته، و قد كانوا من اليونان يسمون المجذوب «مانتي» (itnaM) و يسمون المفسر (بروفيت tehporP) أي المتكلم عن غيره، و من هذه الكلمة نقل الأروبيون كلمة «النبوة» بجميع معانيها (1).

2- الفرق بين النبي و الرسول:

هذا و يفرق العلماء بين النبي و الرسول، اعتمادا على عدة أمور، منها ما ورد في كتاب اللّه من عطف النبي على الرسول في قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (2)، و منها وصف اللّه بعض رسله بالنبوة و الرسالة، مما يدل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة، كقوله تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا (3)، و كقوله تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا (4)، و منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي (ص) أن عدة الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، و عدة الرسل ثلاثمائة و بضعة عشر رسولا.

و من هنا ذهب فريق من العلماء إلى أن النبي هو من أوحى إليه بشرع، سواء أمر بتبليغه أو لم يؤمر، و الرسول هو من أوحى إليه بشرع و أمر بتبليغه (5)، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ الآية،

ص: 13


1- عباس العقاد، حقائق الإسلام و أباطيل خصومه ص 90.
2- سورة الحج: آية 52.
3- سورة مريم: آية 51.
4- سورة مريم: آية 54.
5- تفسير القرطبي ص 4472، الإمام الطحاوي، شرح العقيدة الطحاوية، بيروت 1971 ص 167، الديار بكري: تاريخ الخميس ص 7، محمود الشرقاوي: المرجع السابق ص 9.

و يرى الإمام ابن تيمية أن اللّه في قوله: مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ قد ذكر إرسالا يعم النوعين، و قد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف اللّه، كنوح عليه السلام، و الذي ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، و قد كان قبله أنبياء كشيث و إدريس، و قبلهما آدم كان نبيا مكلما (1).

على أن العقل، فيما يرى الشرقاوي، لا يستسيغ أن يوحي اللّه العلي القدير إلى نبي بشرع ثم لا يأمره بتبليغه، لأن الشرع أمانة و علم و أداء واجب، و كتمان العلم نقص و رذيله (2)، ثم إن اللّه لا ينزل وحيه ليكتم و يدفن في صدر واحد من الناس، ثم يموت هذا العلم بموته، هذا فضلا عن الحديث الشريف الذي رواه البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي، و الذي يقول فيه (ص) «عرضت على الأمم فرأيت النبي و معه الرهط، و النبي و معه الرجل و الرجلان و النبي و ليس معه أحد»، فدل هذا على أن الأنبياء مأمورون بالبلاغ، و أنهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم (3).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن الرسول من أوحى إليه بشرع، و أنزل عليه كتاب، كإبراهيم و موسى. و داود و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و النبي الذي ليس برسول هو من أوحى إليه بشرع، و لم ينزل عليه كتاب، كإسماعيل و شعيب و يونس و لوط و زكريا و غيرهم من الأنبياء، و هذا التعريف لا يستقيم أيضا لأن اللّه سبحانه و تعالى قد وصف بعض الأنبياء الذين لم تنزل عليهم كتب بالرسالة (4)، فقال عن إسماعيل عليه السلام. «و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد

ص: 14


1- ابن تيمية: كتاب النبوات ص 173.
2- محمود الشرقاوي: المرجع السابق 9- 10.
3- عمر سليمان الأشقر: المرجع السابق ص 14- 15.
4- محمود الشرقاوي: المرجع السابق ص 10.

و كان رسولا نبيا» (1)، و قال تعالى عن لوط عليه السلام: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (2)، و قال تعالى عن يونس: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3).

و هناك وجه ثالث للنظر يذهب إلى أن الرسول من الأنبياء إنما هو من بعثه اللّه بشرع جديد يدعو الناس إليه، أما النبي الذي ليس برسول، فهو من بعث لتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى و عيسى عليهما السلام، و من ثم فقد قيل إن كل رسول نبي، و ليس كل نبي رسولا (4).

غير أن الإمام ابن تيمية إنما يرى أنه ليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة، فإن يوسف كان رسولا، و كان على ملة إبراهيم، و داود و سليمان كانا رسولين، و كانا على شريعة التوراة (5)، قال تعالى، عن مؤمن آل فرعون: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا (6).

هذا و يذهب فريق رابع من العلماء إلى أن الرسول إنها يختلف عن النبي، لأن اختلاف الأسماء إنما يدل على اختلاف المسميات، و الرسول أعلى منزلة من النبي، و لذلك سميت الملائكة رسلا، و لم يسموا أنبياء، هذا و قد اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل، أحدهما: أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي، و النبي هو الذي يوحي إليه في

ص: 15


1- سورة مريم: آية 54.
2- سورة الصافات: آية 133.
3- سورة الصافات: آية 139.
4- تفسير البيضاوي 2/ 95- 96، تفسير القرطبي ص 4472، الإمام الطحاوي: المرجع السابق ص 167، عبد الحليم محمود: في رحاب الأنبياء و الرسل- القاهرة 1977 ص 42، تفسير المنار 9/ 194- 195.
5- ابن تيمية: المرجع السابق ص 173.
6- سورة غافر: آية 34.

نومه، و الثاني أن الرسول هو المبعوث إلى أمة، و النبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة، و الثالث أن الرسول المبتدئ بوضع الشرائع و الأحكام، و النبي هو الذي يحفظ شريعة غيره (1).

و من هنا يذهب الإمام الطحاوي في العقيدة (ص 167) إلى أن الرسول أخص من النبي، و أن الرسالة أعم من جهة نفسها فالنبوة جزء من الرسالة، إذ الرسالة تتناول النبوة و غيرها، بخلاف الرسل، فإنهم لا يتناولون الأنبياء و غيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها، و أخص من جهة أهلها.

و أما عدد الأنبياء و الرسل، فعلم ذلك عند ربي جل جلاله، و لكننا نعرف من القرآن الكريم أسماء خمسة و عشرين من هؤلاء المصطفين الأخيار (2)، و نعلم كذلك أنه ما من أمة إلا و جاءها رسول من عند اللّه العلي القدير، فلقد اقتضت حكمة اللّه تعالى في الأمم، قبل هذه الأمة، أن يرسل في كل منها نذيرا، و لم يرسل رسولا للبشرية كلها، إلا سيدنا محمد (ص)، و اقتضى عدله ألا يعذب أحدا من الخلق، إلا بعد أن تقوم عليه الحجة (3)، قال تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (4)، و من هنا كثر الأنبياء و الرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا

ص: 16


1- أبو الحسن الماوردي: المرجع السابق ص 38.
2- هم آدم و إدريس و نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيوب و شعيب و موسى و هارون و يونس و داود و سليمان و إلياس و السبع و زكريا و يحيى و عيسى، و كذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، و سيدهم محمد (ص)، و في حديث أبي ذر، منهم أربعة من العرب: هود و صالح و شعيب و محمد (ص) (انظر تفسير ابن كثير 2/ 422، تفسير البيضاوي 2/ 312).
3- عمر سليمان الأشقر: المرجع السابق ص 17.
4- سورة الإسراء: آية 15.

فِيها نَذِيرٌ (1)، و قال تعالى: وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (2)، و قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (3)، و قال تعالى: رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (4).

و من هنا كان الخلاف على عدد الأنبياء، عليهم السلام، فمن قائل إنهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و من قائل إنهم ثمانية آلاف، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل، و أربعة آلاف من سائر الناس، و من قائل إنهم أربعة آلاف، و من قائل إنهم، ثلاثة آلاف، و أن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة و ثلاثة عشر، أولهم آدم و آخرهم محمد (ص) (5).

و على أية حال، فليس من المستحب، فيما أظن، و ليس كل الظن إثما، الخوض في إحصاء الرسل و الأنبياء، فإنه لا يعلم إلا بوحي من اللّه تعالى، و لم يبيّن اللّه ذلك في كتابه (6)، غير أن هناك حديث أبي ذر المشهور، و الذي جاء فيه أنه دخل المسجد النبوي الشريف، فإذا رسول اللّه (ص) جالس وحده، فسأله عن أشياء كثيرة، منها الصلاة و الهجرة و الصيام و الصدقة، ثم سأله: كم الأنبياء؟ فقال: مائة ألف و أربعة و عشرون، قال:

قلت يا رسول اللّه كم الرسل عن ذلك؟ قال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر، جم غفير، كثير طيب، قال قلت: فمن كان أولهم، قال آدم، قلت: أ نبي مرسل؟ قال

ص: 17


1- سورة فاطر: آية 24.
2- سورة الزخرف: آية 6.
3- سورة غافر: آية 78.
4- سورة النساء: آية 164.
5- تفسير ابن كثير 2/ 422- 428 (القاهرة 1971)، تفسير القرطبي ص 2014- 2015 (دار الشعب- القاهرة 1970) تفسير المنار 7/ 500- 507، تفسير روح المعاني 24/ 88- 89، مجمع الزوائد 8/ 210، ابن قتيبة: المعارف، القاهرة 1934 ص 26، أبو الحسن الماوردي: المرجع السابق ص 52.
6- محمود الشرقاوي: المرجع السابق ص 24.

نعم، خلقه اللّه بيده، و نفخ فيه من روحه، و سواه قبيلا» (1).

3- نبوة المرأة:

من المعروف أن النبوة في الإسلام إنما هي مقصورة على الرجال دون النساء، لقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ (2)، و هكذا استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال، و أما النساء فليس فيهن نبية أبدا (3)، و الحكمة من تخصيص الرجال بالنبوة دون النساء، أن النبوة عب ء ثقيل، و تكليف شاق لا تتحمله طبيعة المرأة الضعيفة، لأنه يحتاج إلى مجاهدة و مصابرة، و لهذا كان جميع الرسل في محنة قاسية مع أقوامهم، و ابتلوا ابتلاء شديدا في سبيل تبليغ دعوة اللّه تعالى (4)، يقول اللّه تعالى لنبيه الكريم: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (5).

غير أن الإمام ابن حزم إنما يتجه إلى أن آية النحل وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا، إنما تعني الرسل دون الأنبياء، و من ثم فلم يدع أحد أن اللّه تعالى قد أرسل امرأة، و أما النبوة، و هي لفظة مأخوذة من الإنباء و هو الإعلام، فمن أعلمه اللّه، عز و جل، بما يكون قبل أن يكون، أو أوحى إليه

ص: 18


1- تفسير ابن كثير 2/ 422- 426، و انظر: مسند الإمام أحمد 5/ 265- 266، تفسير روح المعاني 24/ 88، مجمع الزوائد 8/ 210، مشكاة المصابيح 3/ 122، تفسير النسفي 1/ 263- 264.
2- سورة النحل: آية 43، يوسف: آية 109 و انظر: تفسير الطبري 14/ 108- 109، تفسير روح المعاني 14/ 147- 148، تفسير الطبرسي 14/ 75- 78.
3- لم تكن النبوة الإسرائيلية مقصورة على الرجال دون النساء، فلقد تنبأت المرأة، كما تنبأ الرجال، و من ذلك: مريم، أخت هارون و موسى (خروج 15/ 20) و دبورة (قضاة 4/ 4) و حنة أم صموئيل النبي (صموئيل أول 2/ 1) و خلدة امرأة شلوم بن تقوة (ملوك ثان 22/ 14) و حنة بنت فتوئيل (لوقا 2/ 26) و بنات فيلبس العذارى الأربع (أعمال الرسل 21/ 9)، كما كانت زوجات الأنبياء يدعون أحيانا نبيات (إشعياء 8/ 3).
4- محمد على الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 10، صفوة التفاسير 2/ 129.
5- سورة الأحقاف: آية 35.

منبئا بأمر ما، فهو نبي بلا شك، فأمرها مختلف، و قد جاء في القرآن الكريم بأن اللّه قد أرسل ملائكة إلى نساء، فأخبروهن بوحي حق من اللّه تعالى، كما حدث مع أم إسحاق و أم موسى و أم المسيح، عليهم السلام (1).

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة، يقول تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ، وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ، وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ، قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2)، فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن اللّه عز و جل بالبشارة لها بإسحاق، ثم يعقوب، و لا يمكن أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي» (3).

هذا فضلا عن أن اللّه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم المسيح، عليهم السلام، يقول لها: «إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا» (4)، فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح، و رسالة من اللّه تعالى إليها، و ليس قوله عز و جل: وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (5). يمانع أن تكون نبيه، فقد قال اللّه تعالى:

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ (6).

و هو مع ذلك رسول نبي (7)، و جاء في تفسير روح المعاني (3/ 154)

ص: 19


1- ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل 5/ 87.
2- سورة هود: آية 69- 73، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 264- 266، تفسير الطبري 15/ 381- 400، تفسير القرطبي ص 3290- 3299، تفسير المنار 12/ 105- 108.
3- ابن حزم: المرجع السابق ص 87.
4- سورة مريم: آية 19، و انظر تفسير القرطبي ص 4128- 4130.
5- سورة المائدة: آية 75.
6- سورة يوسف: آية 46.
7- ابن حزم: المرجع السابق ص 87- 88.

أن القول بنبوة مريم شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات، و ابن السيد، إلى ترجيحه، و ذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك، و أما الاستدلال بآية وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا، لا يصح، لأن المذكور فيها الإرسال و هو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، و لا يلزم من نفي الأخص، نفي الأعم. و الأمر كذلك بالنسبة إلى أم موسى، إذ أوحى اللّه تعالى إليها بإلقاء ولدها في اليم، و أنه سوف يرده إليها و يجعله نبيا مرسلا (1)، يقول تعالى:

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (2)، غير أن هناك من يرى أن ذلك استدلالا خاطئا، لأن الوحي ليس بإنزال ملك، و إنما هو بطريق الإلهام، فقد أخبر اللّه تعالى بأنه أوحى إلى النحل، فقال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (3)، فهل يصح أن نقول أن النحل قد نبأه اللّه تعالى (4).

و يذهب الفخر الرازي في التفسير الكبير إلى أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء، لقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»، و إذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها، إما أن يكون كرامة لها، و هو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصا لعيسى عليه السلام، و ذلك جائز عندنا، و عند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا عليه السلام، و من الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع و الإلهام و الإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى (5).

ص: 20


1- نفس المرجع السابق ص 88.
2- سورة القصص: آية 7.
3- سورة النحل: آية 68.
4- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 10.
5- تفسير الفخر الرازي 3/ 54.

هذا و قد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أن مريم ليست بنبية، و ذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنه نقل الإجماع على أن مريم ليست نبيّة، و نسبه في «شرح المهذب» لجماعة، و جاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبيّة، و لا في الجن (1).

4- وظائف الرسل:

بيّن القرآن الكريم و السنّة النبوية المطهرة بوضوح و جلاء وظائف الرسل، عليهم السلام، و مهماتهم، ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى قد أوكل إلى الأنبياء أهم الواجبات، و أقدس المهمات، و أشرف الغايات، و التي من أهمها (أولا) أنهم الدعاة البررة إلى عبادة اللّه الواحد القهار، و هذه في الحقيقة هي الوظيفة الأساسية، بل هي المهمة الكبرى التي بعث من أجلها الرسل الكرام، و هي تعريف الخلق بالخالق، جل و علاه و تخصيص العبادة له دون سواه (2)، كما قال جل ثناؤه: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (3)، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (4)، و قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ

ص: 21


1- فتح الباري 6/ 471، 473، عمر سليمان الأشقر: الرسل و الرسالات، الكويت 1985 ص 86- 89.
2- انظر: محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل- الإسكندرية 1978 ص 77- 81، محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء، بيروت 1980 ص 23- 25، عمر سليمان الأشقر: الرسل و الرسالات- الكويت 1985 ص 43- 54.
3- سورة النحل، آية 36، و انظر: تفسير الطبري 14/ 103، تفسير الفخر الرازي 20/ 26- 27، تفسير أبي السعود 3/ 360- 361.
4- سورة الأنبياء: آية 25، و انظر كذلك من سورة هود: الآيات 25، 50، 61، 84، تفسير الطبري 15/ 293- 294، تفسير روح المعاني 12/ 35- 37، 77- 80، 88، 114- 115، 17/ 31- 32.

عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (1)، و قال تعالى: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (2)، و قال تعالى:

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ (3)، و قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4).

و منها (ثانيا) إنارة الطريق أمام الناس، و هدايتهم إلى سواء السبيل، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (5)، و هكذا كان كل رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم، و يبيّنه و يهديهم إليه، فضلا عن مقاومة الانحراف الحادث في عهده و مصره، و هكذا أنكر هود على قومه الاستعلاء في الأرض و التجبر فيها، و أنكر صالح على قومه الإفساد في الأرض و إتباع المفسدين، و حارب لوط جريمة اللواط التي استشرت في قومه، و قاوم شعيب في قومه جريمة التطفيف في المكيال و الميزان (6).

و منها (ثالثا) أن من رحمة اللّه على عباده أن يرسل إليهم الرسل قبل أن يقع عليهم عقابه، و من ثم لا تكون للعاصين منهم حجة على اللّه بعد الرسل، قال تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (7)، و قال تعالى:

ص: 22


1- سورة الأعراف: آية 59، و انظر تفسير ابن كثير 3/ 427- 428، تفسير القرطبي ص 2668- 2670 (ط الشعيب).
2- سورة هود: آية 50.
3- سورة الأعراف: آية 73.
4- سورة العنكبوت: آية 16.
5- سورة الأحزاب: آية 45- 46.
6- عمر سليمان الأشقر: المرجع السابق ص 51.
7- سورة الإسراء: آية 15.

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (1)، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (2)، و من ثم ففي يوم القيامة عند ما يجمع اللّه الأولين و الآخرين يأتي اللّه لكل أمة برسولها ليشهد عليها بأنه بلغها رسالة ربه، و أقام عليها الحجة، قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (3).

و منها (رابعا) أن الرسل سفراء اللّه إلى عباده و حملة وحيه، فهم الذين يقومون بتبليغ أوامر اللّه تعالى و نواهيه إلى عبادة قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (4)، و قال تعالى:

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (5)، و منها (خامسا) تذكير الناس، كل الناس، بيوم الدين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (6)، ذلك أن من مهمة الأنبياء التبشير و الإنذار، قال تعالى: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (7)، مبشرين المؤمنين بالحياة الطيبة، و منذرين العصاة بعذاب اللّه في الآخرة (8).

ص: 23


1- سورة النساء: آية 165.
2- سورة طه: آية 134.
3- سورة النساء: آية 41- 42.
4- سورة المائدة: آية 67.
5- سورة الأحزاب: آية 39.
6- سورة الشعراء: آية 88- 89.
7- سورة الكهف: آية 56.
8- انظر: سورة النحل: آية 97، طه: آية 123، النور: آية 55، النساء: آية 13- 14، الواقعة: آية 215- 38، 41- 51- 56.

و منها (سادسا) أن الرسل، صلوات اللّه و سلامه عليهم، هم الأسوة الحسنة للناس جميعا، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (1)، و قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ (2)، و قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (3)، و قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (4)، و قال تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (5)، و ذلك لأن الرسل صفوة من خليفته، و خيرته من عبادة (6)، طهرهم، و علمهم ما شاء أن يعلمهم، ثم أرسلهم إلى الناس ليأخذوهم بأسباب الهداية، و ينأوا بهم عن معاهد الضلالة، و لذلك كان من كليات أصول المسلمين، أن شرع من قبلنا شرع لنا، إلا إذا ورد من رسول اللّه (ص) ما ينسخه (7).

ص: 24


1- سورة الأحزاب: آية 21.
2- سورة الممتحنة: آية 4.
3- سورة الممتحنة: آية 6.
4- سورة الأنعام: آية 90.
5- سورة الأنبياء: آية 73.
6- و تصديقا لهذا فلقد جاء في الحديث الشريف، الذي رواه مسلم و الترمذي، أنه (ص) قال: «إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، و اصطفى قريشا من كنانة، و اصطفى من قريش بني هاشم، و اصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار»، و من مسند الإمام أحمد و سنن الترمذي عن النبي (ص) أنه قال: أنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، إن اللّه تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، و خيركم نفسا» (انظر: صحيح مسلم المواهب للقسطلاني 1/ 13، ابن كثير: السيرة النبوية 1/ 191، عبد الحليم محمود: دلائل النبوة و معجزات الرسول، القاهرة 1973 ص 68، أحمد حسن الباقوري: مع القرآن، القاهرة 1970 ص 21).
7- محمود أبو رية: دين اللّه واحد على ألسنة جميع الرسل- القاهرة 1970 ص 58.

و من هنا فقد أوجب اللّه للرسل العصمة الكاملة، لتصح بهم القدوة، و تقوم بهم الحجة، فلا يكون من أحدهم عمل ينال من كرامته أو يقدح في عدالته أو يحط من منزلته العلية بين ذوي المروءات و العقول الرجحة (1)، ذلك أمر ضروري، إذ لو لم يكن ذلك كذلك، و لما كانوا أهلا لهذا الاختصاص الإلهي الذي يفوق كل اختصاص، اختصاصهم بوحيه، و الكشف لهم عن أسرار حلمه، و لو لم تسلم أبدانهم من المنفرات، لكان انزعاج النفس لمرآهم حجة للمنكر في إنكار دعواهم، و لو كذبوا أو خافوا أو قبحت سيرتهم، لضعفت الثقة فيهم، و لكانوا مضلين لا مرشدين، فتذهب الحكمة من بعثهم، و الأمر كذلك لو أدركهم السهو أو النسيان فيما عهد إليهم بتبليغه من القصائد و الأحكام (2).

و منها سابعا: سياسة الأمة المسلمة، ذلك أن الذين يستجيبون للرسل يكوّنون جماعة و أمة، و بالتالي يحتاجون إلى من يسوسهم و يقودهم و يدبر أمورهم، و الرسل يقومون بهذه المهمة في حال حياتهم، فهم يحكمون بين الناس بحكم اللّه قال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (3)، و قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (4) و في الحديث، الذي رواه البخاري و مسلم و أحمد و ابن ماجة، عن النبي (ص) «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي»، و من ثم فقد أوجب اللّه طاعتهم، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (5).

ص: 25


1- كمال أحمد عون: اليهود من كتبهم المقدسة- القاهرة 1970 ص 106.
2- محمد عبث: رسالة التوحيد- القاهرة 1969 ص 77.
3- سورة المائدة: آية 48.
4- سورة (ص): آية 26.
5- سورة النساء: آية 8.
[5] وحدة الهدف في دعوات الرسل:

لا ريب في أن دين اللّه واحد في الأولين و الآخرين، لا يختلف إلا في صورة و مظاهره، و أما روحه و حقيقته، و هو ما طولب به العالمون أجمعون على ألسنة جميع الأنبياء و المرسلين، فلا يتغير، و هو إيمان باللّه الواحد الأحد، و إخلاص له في العبادة، و أن يتعاون الناس على البر و التقوى، و ألا يتعاونوا على الإثم و العدوان، هذا هو دين اللّه الذي أرسل في كل أمة، و لكل قوم على مدى الدهور و الأزمان (1)، و لا ريب كذلك في أن هذا الدين هو الإسلام (2)، و صدق ربنا جل و علا حيث يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ (3) و يقول: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (4)، و الإسلام، في لغة القرآن، ليس اسما لدين خاص، و إنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، و انتسب إليه كل أتباع الأنبياء (5)، و من ثم فإن الإسلام شعار عام يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء و أتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر البعثة المحمدية (6).

ص: 26


1- محمود أبو رية: المرجع السابق ص 35.
2- الإسلام: هو دين اللّه في الأولين و الآخرين، و هو الطاعة و الامتثال (تفسير الطبري 2/ 510- 511) و يقول الإمام ابن تيمية: الإسلام هو أن يستسلم الإنسان للّه، لا لغيره، فيعبد اللّه و لا يشرك به شيئا، و يتوكل على اللّه وحده، و يرجوه و يخافه وحده، و يحب اللّه المحبة التامة، لا يحب مخلوقا كحبه للّه، بل يحب للّه و يبغض للّه، و يوالي للّه و يعادي للّه، فمن استكبر عن عبادة اللّه لم يكن مسلما، و من يعبد مع اللّه غيره لم يكن مسلما (ابن تيمية: كتاب النبوات- القاهرة 1346 ه ص 87- 88).
3- سورة آل عمران: آية 19.
4- سورة آل عمران: آية 85.
5- محمد الراوي: الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ص 51.
6- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم ص 75- 76.

و هكذا أخبر القرآن في غير موضع أن الأنبياء جميعا إنما كان دينهم الإسلام، كما في سورة البقرة و آل عمران و المائدة و الأعراف و يونس و يوسف و الأنبياء و الحج و النمل و القصص و الشورى و غيرها (1)، و هكذا يبدو واضحا أن دين اللّه واحد منذ الأزل إلى مبعث محمد (ص) إلى يوم الدين «إن الدين عند اللّه الإسلام»، فالدين منذ القدم هو دين الإسلام «هو حاكم المسلمين من قبل»، من قبل مبعث محمد، و من قبل مبعث إبراهيم، و قد سمي اللّه منذ الأزل «مسلما» كل من اعتنق أسس هذه الدين، دين اللّه، و سار على مضامينه من: إسلام الوجه للّه، و انقياد له، و توكل عليه، و تسليم الأمر لمدبر الأمر و صرف الكون، و من هذا يتضح أن وصف الإسلام ليس منصبا على كل من آمن بدعوة محمد (ص) في عهد محمد أو من بعده فحسب، بل هو وصف و لقب أطلقه اللّه من قبل على كل من آمن برسوله الذي بعث في زمنه، و بكل من وحّد ربه و أسلم وجهه و قلبه و أمره كله للّه رب العالمين، و المسلم في عرف القرآن هو كل من آمن برسوله و كل من وحّد اللّه من الأزل حتى اليوم، و من هذا يتضح أن محمد (ص). لم يأت بدين جديد مستقل، و إنما جاء ليصلح دين اللّه مما طرأ عليه من مغالاة و زيادة و جهالة، و ليهدي الأمم القادمة على الطريق إلى الدين الأول الذي أرسل اللّه به سائر الرسل، و الذي كمله محمد (ص) و أتمه اللّه على يد محمد (ص) بما جعله

ص: 27


1- انظر: سورة البقرة: آية 128، 132، 136، آل عمران: آية 51- 53، 64- 67، 83- 85، المائدة: آية 3، 44، 11، الأعراف: آية 126، يونس: آية 72، 84، 90، يوسف: آية 101، الأنبياء: آية 108، الحج: آية 78، النمل: آية 31، 38، 42، القصص: آية 52، الزمر: آية 12، فصلت: آية 33، الشورى: آية 13، و انظر: محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 134- 135، محمد عبد اللّه دراز: الدين: بحوث ممهدة لدراسة الأديان- القاهرة 1969 ص 183، محمود أبو رية: المرجع السابق ص 60- 67، مناع القطان: الإسلام شريعة اللّه الخالدة إلى البشر كافة- الرياض 1974 ص 11- 40، تفسير المنار 1/ 67، 477.

دينا أزليا للناس كافة إلى يوم الدين (1).

و في هذا يقول سيدنا رسول اللّه (ص)، فيما أخرجه الإمام أحمد و البخاري و مسلم عن أبي هريرة، «مثلي في النبيين كمثل رجل بني دارا فأحسنها و أكملها و أجملها و ترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان و يعجبون منه و يقولون لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» (2)، و في رواية للبخاري. «مثلي و مثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فحسنه و جمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به، و يعجبون و يقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، و أنا خاتم النبيين» (3).

و من هنا فإن نبوة القرآن الكريم إنما تؤمن بكل ما سبقها من نبوات، لأن الهدف واحد، و العقيدة واحدة، فالأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم، دينهم واحد، و إن تنوعت شرائعهم (4)، و قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه (ص) قال: «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد» (5)، قال تعالى: 5)

ص: 28


1- محمود بن الشريف: الأديان في القرآن- جدة 1979 ص 30- 33.
2- الحديث: اخرجه أيضا الإمام أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي عن جابر بن عبد اللّه، و أخرجه الإمام أحمد و مسلم عن أبي سعيد الخدري.
3- صحيح البخاري- كتاب المناقب- باب خاتم النبيين- دار الشعب- القاهرة 1378 ه 4/ 226.
4- مجموعة فتاوي ابن تيمية- الرياض 1381 ه 1/ 357.
5- روي الحديث الشريف بعدة روايات، فرواية في البخاري و مسلم و أحمد، أنه (ص) قال: «أنا أولى الناس بعيس بن مريم في الدنيا و الآخرة، و الأنبياء اخوة من علات، أمهاتهم شتى، و دينهم واحد، و في رواية أخرى للبخاري «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، و الأنبياء أولاد علات ليس بيني و بينه نبي»، و في رواية ثالثة «نحن معاشر الأنبياء اخوة لعلات ديننا واحد»، يعني بذلك التوحيد الذي بعث اللّه به كل رسول أرسله و ضمه كل كتاب أنزله، و أبناء العلات أبناء الضرائر، يكون أبوهم رجلا واحدا، و أمهاتهم متعددات و كذلك الرسل ربهم الذي أرسلهم إله واحد، و رسالاتهم متعددة بتعدد بلادهم، أي إن الدين واحد، و هو عبادة اللّه و حدد لا شريك له، و إن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات، و المقصود، كما يقول ابن كثير، أن الشرائع و إن تنوعت في أوقاتهما إلا أن الجميع آمرة بعبادة اللّه وحده لا شريك له، و هو دين الإسلام الذي شرعه اللّه لجميع الأنبياء، و هو الدين الذي لا يقبل اللّه غيره يوم القيامة، كما قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، و يقول الإمام محمد عبده: أن القرآن قد صرح بما لا يحتمل الريبة بأن دين اللّه في جميع الأزمات و على ألسن جميع الأنبياء، واحد، و يقول الأستاذ الشاذلي و أما الشرائع فمختلفة في الأوامر و النواهي، فقد يكون الشي ء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الأخرى و بالعكس، و خفيفا فيزداد في الشدة في هذه دون هذه، لماله تعالى من الحجة الدافعة و الحكمة البالغة، قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: «لكل جعلنا منكم شرعة و منها جما»، يقول: سبيلا و سنّة، و السنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، و في الإنجيل شريعة و في الفرقان شريعة، يحل اللّه فيها ما يشاء و يحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، و الدين الذي لا يقبل اللّه غيره هو التوحيد و الإخلاص للّه تعالى الذي جاءت به جميع الرسل (انظر: محمد عبده: المرجع السابق ص 163، عبد اللّه شحاتة: تفسير سورة الإسراء، القاهرة 1975 ص 10، الباقوري: المرجع السابق ص 139، عبد المجيد الشاذلي: حد الإسلام و حقيقة الإيمان- جامعة أم القرى- مكة المكرمة ص 100، محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 5- 6، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 459، البداية و النهاية 1/ 153- 154، محمود أبو رية: المرجع السابق ص 35- 45)

وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (1) و قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2).

و من هنا كان طلب القرآن الكريم الإيمان بكل الرسل، كما طلب كذلك الإيمان بما أنزل عليهم، و كان الإيمان بالبعض دون البعض الآخر خروجا عن دين اللّه و هديه (3)، يقول سبحانه و تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ -

ص: 29


1- سورة المؤمنون: آية 52، و انظر تفسير القرطبي ص 4520- 4521 (دار الشعب).
2- سورة الشورى: آية 13.
3- محمد أبو زهرة: العقيدة الإسلامية لما جاء بها القرآن الكريم- القاهرة 1969 ص 85- 86، تفسير المنار 10/ 182- 183 خالد محمد خالد: كما تحدث القرآن- القاهرة 1970 ص 99- 122.

وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (1)، و يقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ، مِنْ رَبِّهِ، وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (2)، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (3)، و قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ، وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (4).

و انطلاقا من كل هذا، فإن القرآن الكريم إنما يعلمنا أن كل رسول يرسل، و كل كتاب ينزل إنما قد جاء مصدقا و مؤكدا لما قبله، فالإنجيل مصدق و مؤكد للتوراة (5)، و القرآن مصدق و مؤكد للتوراة و الإنجيل، و لكل ما بين يديه من الكتب (6) يقول سبحانه و تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ، وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ،

ص: 30


1- سورة النساء: آية 15.
2- سورة البقرة: آية 285.
3- سورة النساء: آية 136.
4- سورة البقرة: آية 136.
5- من البدهي أننا نعني هنا التوراة و الإنجيل اللذين أنزلهما اللّه على رسوليه موسى و عيسى، عليهما السلام، و ليس توراة اليهود و أناجيل النصارى المتداولة اليوم (انظر عن التوراة الحالية: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الكتاب الثالث- الإسكندرية 1979 ص 1- 379).
6- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 185، محمد أبو زهرة: المرجع السابق ص 85- 86.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (1).

و يقول المسيح، عليه السلام، كما جاء في العهد الجديد «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس و الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء و الأرض و لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (2).

و لا ريب في أن هذا التصديق لا يعني أن الكتب المتأخرة، إنما هي تجديد للمتقدمة و تذكير بها، فلا نبدل فيها معنى و لا نغير حكما، و إنما الواقع غير ذلك، فقد جاء الإنجيل بتبديل بعض أحكام التوراة، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل، و لكن يجب أن يفهم أن هذا و ذاك لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم، و لا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها، و إنما كان وقوفا عند وقتها الناسب و أجلها المقدر (3)، و من هنا كان قوله (ص) في الحديث الشريف: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، و في رواية الإمام مالك في الموطأ «إن اللّه بعثني لأتمم مكارم الأخلاق». و هكذا فإن اللّه تعالى، بمقتضى حكمته في رسالاته، إنما كان يجعل كل نبي يبشر بمن يجي ء بعده، فالتوراة بشرت بالمسيح و بمحمد، عليهما الصلاة و أتم التسليم، و المسيح بشر بمحمد (ص)، يقول تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ

ص: 31


1- سورة المائدة: آية 46- 48.
2- إنجيل متى 5/ 17- 18.
3- انظر: سورة آل عمران: آية 50، الأعراف: آية 157، محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 185- 186.

يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (1).

و من المعروف أن أحمدا من أسماء رسول اللّه (ص). و من ثم فقد جاء في الحديث الشريف، قوله (ص): «و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني و لا يؤمن بي إلا دخل النار» (2)، و في بعض الأحاديث «لو كان موسى و عيسى حيين لما وسعهما إلا أتباعي» (3)، و أن النبي (ص) وقف على «مدراس» اليهود في المدينة المنورة فقال: يا معشر يهود أسلموا، فو الذي لا إله إلا هو لتعلمون أني رسول اللّه إليكم، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، قال: ذلك أريد» (4)، و من ثم فالذي يقطع به في كتاب اللّه و سنّة رسوله، و من حيث المعنى، أن رسول اللّه (ص) قد بشرت به الأنبياء قبله، و أتباع الأنبياء يعلمون ذلك، و لكن أكثرهم يكتمونه و يخفونه (5).

هذا و قد أخذ اللّه الميثاق على كل نبي، إذا جاءه رسول و صدق لما معه أن يؤمن به و ينصره (6)، يقول تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما

ص: 32


1- سورة الصف: آية 6، و عن بشارات التوراة بسيدنا رسول اللّه (ص) (انظر: سفر التثنية 18/ 15، 18، 23/ 3، أشعياء 60/ 1- 7، 42/ 10- 12، حبقوق 3/ 3- 4) و عن بشارة الإنجيل (انظر: متى 7/ 21- 23، 15/ 8- 9، 23/ 42- 43) ثم انظر: إبراهيم خليل أحمد: محمد في التوراة و الإنجيل و القرآن- الطبقة الخامسة- القاهرة 1983 ص 33- 95، بشرى زخاري ميخائيل: محمد رسول اللّه- هكذا بشرت به الأناجيل- القاهرة 1972، ابن كثير: السيرة النبوية 1/ 286- 340 (القاهرة 1964).
2- صحيح مسلم 1/ 367 (دار الشعب- القاهرة 1971).
3- مختصر تفسير ابن كثير 1/ 296.
4- ابن كثير: شمائل الرسول و دلائل نبوته و فضله و خصائصه- القاهرة 1967 ص 339، ثم قارن: ابن الجوزي: الوفا بأحوال المصطفى- الجزء الأول- القاهرة 1966 ص 36- 37، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة- بيروت 1974 ص 319- 322.
5- ابن كثير: المرجع السابق ص 339، ابن الجوزي: المرجع السابق ص 37.
6- محمد عبد اللّه دراز: المرجع السابق ص 185.

آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (1). قال الإمام علي و ابن عباس، رضي اللّه عنهما، ما بعث اللّه نبيا من الأنبياء، إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث اللّه محمدا: و هو حي، ليؤمنن به و لينصرنه، و قال الحسن البصري و قتادة: أخذ اللّه ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، و هذا لإيضاح ما قاله علي و ابن عباس و لا ينفيه بل يستلزمه و يقتضيه (2).

و صدق سيدنا رسول اللّه (ص) حين صوّر الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير في قوله (ص): «مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه و جمّله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به و يعجبون له و يقولون هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيين» (3).

و قريب من هذا ما يراه بعض الباحثين من أن صلاة المصطفى (ص) بالأنبياء، ليلة أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، إنما تشير إلى وحدة الرسالات و النبوات، و أنها جميعا من عند اللّه، و أن الأنبياء و المرسلين إنما أرسلوا من أجل هداية الناس، و دعوتهم إلى التوحيد (4).

و بدهي أن ذلك كذلك، لأن دين جميع الأنبياء واحد في التوحيد و روح العبادة، و تزكية النفس بالأعمال التي تقوّم الملكات و تهذب

ص: 33


1- سورة آل عمران: آية 81، و انظر: تفسير المنار 3/ 287- 290، تفسير ابن كثير 2/ 55- 57، تفسير الطبري 6/ 550- 561.
2- مختصر تفسير ابن كثير 1/ 296.
3- صحيح البخاري 4/ 226 (دار الشعب- القاهرة 1378 ه).
4- عبد اللّه شحاتة: المرجع السابق ص 8، و انظر: عماد الدين خليل: المرجع السابق ص 115- 116.

الأخلاق، و هكذا فالأنبياء في الأساس العام دعاة إلى توحيد اللّه و هداة إلى الفضائل. و مكارم الأخلاق، و من ثم فإن الديانات إنما تلتقي على فكرة التوحيد و حسن السلوك، و إن اختلفت الوسيلة لتهذيب هذا السلوك من نبي لآخر، و هكذا رأينا من الأنبياء من حارب رذائل معينة انتشرت بين قومه، كتطفيف الكيل الذي حاربه شعيب، و كالانحراف الجنسي الذي وقف أمامه لوط بكل إصرار و حزم (1).

و هنا علينا أن نلاحظ أن هناك فرقا بين الدين في ثباته و عدم تبدله بتبدل الأنبياء، و بين تبدل الشرائع و تغيرها بتبدل الأنبياء و تغيّرهم، بل ينبغي أن يكون هذا الفرق واضحا في الذهن، سائقا في الفهم، و هو كذلك فيما يقرر القرآن الكريم، فأما من ناحية العقل و الفكر، فإن الدين، أي دين، إنما هو قائم على أصول ثلاثة: أولها: الإيمان بأن لهذا الكون إلها خالقا مدبرا، و محيط العلم، بالغ القدرة، لا يغرب عن علمه شي ء، و لا يعترض قدرته شي ء، و ثاني الأصول الدعوة إلى العمل الصالح الذي يشيع على الإنسانية الأمن و السلام، و ثالث الأصول أن اللّه لم يخلق الناس عبثا، و لن يتركهم سدى، و أنهم لا بد راجعون إليه، و محاسبون بين يديه، و مجازون على ما عملوا إن خيرا فخيرا، و إن شرا فشرا.

هذا ما يتصل بالدين في عدم قبوله التغيير و التبديل، و أما ما يتصل بالشرائع حيث هي مجموعة قوانين تنظم السلوك في المجتمع، فإنها قابلة للتغيير و التبديل، بمقتضى تغيّر البيئات و اختلاف المصالح، و قد أشار إلى ذلك القرآن الكريم و الحديث الشريف (2).

ص: 34


1- أبو الحسن الماوردي: أعلام النبوة- القاهرة 1971 ص 22، محمود أبو رية: المرجع السابق ص 119، عبد اللّه شحاتة، المرجع السابق 8- 9.
2- مجموعة فتاوي ابن تيمية 1/ 357، و انظر: الباقوري: المرجع السابق ص 137- 139، خالد محمد خالد: المرجع السابق، ص 115، عبد اللّه شحاتة: المرجع السابق ص 10.

بقيت الإشارة هنا إلى أن النبوة فضل يسبغه اللّه على من يشاء من عباده، وهبة ربانية يمنحها اللّه لمن يريد من خلقه، و هي لا تدرك بالجد و التعب، و لا تنال بكثرة الطاعة و العبادة، و لا يتوسل إليها بسبب و لا نسب، و إنما هي بمحض الفضل الإلهي، فاللّه يختص برحمته من يشاء، و هي تأتي إلى النبي من تلقاء نفسها، و على غير توقع منه، فهي إذن اصطفاء و اختيار من اللّه سبحانه و تعالى للمصطفين الأخيار من عباده (1)، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: «اللّه أعلم حيث يجعل رسالته» (2).

و من ثم فإن اللّه سبحانه و تعالى إنما يختص بهذه الرحمة العظيمة، و المنقبة الكريمة، من كان أهلا لها، بما أهله، جل شأنه، من سلامة الفطرة، و علو الهمة، و زكاة النفس، و طهارة القلب، و حب الخير و الحق، و كان أذكياء العرب في الجاهلية، على شركهم باللّه تعالى، يعلمون أن الصادقين محبي الحق، و فاعلي الخير من الفضلاء، أهل لكرامته تعالى و عنايته، كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة، رضي اللّه عنهما، في بدء الوحي، فإنه (ص) لما قال لخديجة: «لقد خشيت على نفسي»، قالت له: «كلا فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا، إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث، و تحمل الكلّ و تكسب المعدوم، و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق» (3).

ص: 35


1- تفسير المنار 8/ 33- 34، محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء- بيروت 1980 ص 8.
2- سورة الأنعام: آية 124، و انظر: تفسير روح المعاني 8/ 21- 23، تفسير المنار 8/ 32- 35، تفسير ابن كثير 3/ 323- 326.
3- صحيح مسلم 1/ 379- 380، و انظر: ابن كثير: السيرة النبوية 1/ 394- 395، تفسير المنار 8/ 34، عبد الحليم محمود: المرجع السابق ص 354.

ص: 36

الكتاب الثّاني سيرة يوسف عليه السّلام

اشارة

ص: 37

ص: 38

الفصل الأول يوسف فيما قبل الوزارة
[1] يوسف و أخوته في كنعان:

يوسف الصديق عليه السلام هو: يوسف النبي بن يعقوب النبي بن إسحاق النبي بن إبراهيم النبي، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و قد أثنى عليه ربنا جل جلاله في القرآن الكريم بقوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ كما أثنى عليه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، حيث وصفه بقوله الشريف «إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» و قد جاءت قصته في سورة كاملة من القرآن الكريم هي سورة يوسف (1).

ص: 39


1- انظر عن قصة يوسف كاملة من وجهة النظر الإسلامية: سورة يوسف آية 1- 102، تفسير الطبري 15/ 547- 586، 16/ 1- 315 (دار المعارف) تفسير الفخر الرازي 17/ 83- 229، تفسير الطبري 13/ 5- 134، تفسير النسفى 2/ 352- 397، تفسير أبي السعود 3/ 77- 143، في ظلال القرآن 4/ 1949- 2037 (بيروت 1982) تفسير المنثور للسيوطي 4/ 2- 42، تفسير ابن كثير 4/ 294- 349، تفسير القرطبي ص 3347- 3506، تفسير المنار 12/ 213- 268، محمد رشيد رضا، تفسير سورة يوسف (القاهرة 1936)، صفوة التفاسير 2/ 39- 71، تفسير الجلالين ص 302- 320، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/ 3- 41، تفسير الخازن 3/ 262- 293، تفسير البغوي (على هامش الخازن)، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 197- 220، تاريخ الطبري 1/ 330- 364، تاريخ ابن خلدون 2/ 44- 47، تاريخ ابن الأثير 1/ 78- 88، تفسير ابن عباس 2/ 497- 502، حسن محمد باجودة: الوحدة الموضوعية في سورة يوسف عليه السلام، جدة- 1983 م.

هذا و تشير التوراة إلى أن يوسف الصديق قد ولد لأبيه من زوجته الثانية «راحيل»، ابنة خال أبيه لابان في «حاران» (و تقع على نهر بلخ على مبعدة 60 ميلا من اتصاله بالفرات، و إلى الغرب من تل حلفا، و على مبعدة 280 ميلا إلى الشمال الشرقي من دمشق)، و كان يعقوب عليه السلام قد تزوج من أختها الكبرى «ليئة»، ثم تزوج من راحيل، ثم من جاريتها بلهة، ثم من زلفة جارية ليئة (1)، و هكذا جمع يعقوب تحته الشقيقتين، فضلا عن جاريتيهما، و كان ذلك، فيما يرى ابن كثير، سائغا في ملتهم، ثم نسخ في شريعة التوراة، و هذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ، لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا و إباحته لأنه معصوم (2)، بل إن الطبري (3) يرى في ذلك قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، و إن كان المفسرون يجمعون أو يكادون، على أن المراد بقوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي في الجاهلية قبل الإسلام، و ليس قبل نزول التوراة، كما ذهب ابن كثير، أي أن النسخ كان بالقرآن، و ليس بالتوراة، على أية حال، فلقد ماتت راحيل أم يوسف، و هي تضع ابنها الثاني «بنيامين» و دفنت في بيت لحم (على مبعدة خمسة أميال جنوبي القدس) حيث ولد داود و المسيح عيسى بن مريم، عليهما السلام. (4)

هذا و قد زود يعقوب عن زوجاته الأربع باثنى عشر ولدا، فضلا عن 8)

ص: 40


1- تكوين 29/ 23، 28، 30/ 5، 79.
2- تاريخ ابن كثير 1/ 195.
3- تاريخ الطبري 1/ 320.
4- تكوين 35/ 19- 20، تاريخ ابن كثير 1/ 197، محمد بيومي مهبران: إسرائيل 2/ 646 (الاسكندرية 1978)، و انظر عن قصة يوسف من الناحية التاريخية و دخول بني إسرائيل مصر (محمد بيومي مهران- إسرائيل 1/ 212- 260- الاسكندرية 1978)

ابنته دينة التي ولدتها ليئة، و هكذا «كان بنو يعقوب اثنى عشر، بنو ليئة راؤبين بكر يعقوب و شمعون و لاوى و يهودا و يساكر و زبولوث، و أبناء راحيل يوسف و بنيامين، و أبناء بلهة جارية راحيل، دان و نفتالى، و أبناء زلفة جارية ليئة، جاد و أشير، هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام (1)»، ثم هاجر يعقوب ببنيه و زوجاته إلى كنعان (فلسطين) حيث عاشوا في «حبرون» (و تقع على مبعدة 19 ميلا جنوب غرب القدس، و هي مدينة الخليل الحالية، و فيها قبر إبراهيم و سارة و إسحاق و يعقوب، حيث يقوم اليوم مسجد كبير هو الحرم الإبراهيمي) و ظلوا هناك في أرض كنعان حتى هاجروا إلى مصر بدعوة من الصديق عليه السلام.

و هكذا عاش الصديق مع أبيه و إخوته حينا من الدهر في كنعان، كان الصديق فيها أحب الأخوة إلى أبيه يعقوب النبي عليه السلام، لأنه كان، فيما تقول توراة اليهود، «يأتي بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم»، و لأنه «ابن شيخوخته» و لأنه صنع له من دونهم قميصا ملونا، و لأنه رأى حلمين فسرهما إخوته على أنه سيكون سيدا عليهم، أما أولهما: « «فها نحن حازمون حزما في الحقل، و إذا حزمتن قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي»، و أما الثاني فقد رأى فيه «و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصه على أبيه و على إخوته، فانتهره أبوه، و قال له ما هذا الحلم الذي حلمت، هل نأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض، فحسده إخوته، و أما أبوه فحفظ الأمر (2)»، و لم يشر القرآن الكريم إلا إلى الرؤيا الأخيرة، و أن أباه أمره أن يكتم رؤياه عن إخوته، يقول تعالى إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي

ص: 41


1- تكوين 35/ 22- 26.
2- تكوين 37/ 1- 11.

ساجِدِينَ، قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (1).

و هكذا عرف يعقوب، كما جاء في تفسير أبي السعود (4/ 252)، من رؤيا يوسف أن اللّه تعالى سيبلغه مبلغا جليلا من الحكمة، و يصطفيه للنبوة، و ينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه حسد الأخوة، و نصحه بأن لا يقص رؤياه عليهم فيكيدوا له، مع أن يعقوب كان يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا عليه، و قد جاء في الأثر «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود».

هكذا بدأ إخوة يوسف يضمرون له الشر، لأنه أحب إلى أبيهم منهم «قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين»، و الآية الكريمة تشير إلى إيثار يعقوب ليوسف و أخيه عليهم، و هم عصبة (و العصبة و العصابة: العشرة من الرجال فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم) و يقول الشيخ الشعراوي في الفتاوى: إن إيثار فرد بالحب عن الآخرين ينشئ في نفس الآخرين عقدة النقص التي تؤدي إلى أن يكون السلوك غير منطقي على المبدأ الخلقي، و لذلك حين أحس إخوة يوسف بأن يوسف و أخاه أحب إلى أبيهم منهم، فكروا في أن يزيحوا ذلك الحب من طريقهم و قالوا: نحن عصبة، و لو أنهم فهموا بعض الفهم لعرفوا أنهم جاءوا بحيثية امتاز ذلك الصغير بالحب، لأنهم عصبة و لأنهم أشداء، و هو صغير يعطف عليه، فلا يقيسوا العطف و الحب هنا على العطف و الحب عليهم، لأنهم اجتازوا مرحلة العطف و الحب، فالإنسان منا يحب صغيره لأنه يعتقد أن هذا الصغير بالنسبة لأخوته هو أقصرهم عمرا معه،

ص: 42


1- سورة يوسف آية 4- 5، 554- 559، تفسير المنار 11/ 290- 299، تفسير ابن كثير 4/ 297- 299، تفسير الخازن 3/ 261- 263.

و أنه في حاجة مع العجز إلى شي ء كثير من الحب، فلو أن الكبار فهموا تلك العلاقة لما جعلوها عيبا في الأب (1).

و على أية حال، فالآية، كما في ظلال القرآن (2)، لا تشير إلى علمهم برؤياه، و لو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم (3)، و لكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه، فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر، و هو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له، و لم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، و التي تمهد لها ظروف حياته و واقع أسرته، و مجيئه لأبيه على كبره، و أصغر الأبناء هم أحب الأبناء، و بخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر، كما كان الحال مع يوسف و أخيه، و إخوته من أمهات، و هكذا بدأ الحقد يغلي في نفوس إخوة يوسف، و يدخل الشيطان بينهم، فيختل تقديرهم للواقع، و تتضخم في حسهم أشياء صغيرة، و تهون أحداث ضخام، تهون الفعلة الشفعاء المتمثلة في إزهاق روح غلام برى ء لا يملك دفعا عن نفسه، و هو أخ لهم، و هم أبناء نبيّ، و إن لم يكونوا هم أنبياء، يهون هذا، و تتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب، حتى توازى القتل، أكبر جرائم الأرض قاطبة، بعد الشرك باللّه، و هكذا دبروا له مكيدة، كي يخلو لهم وجه أبيهم، و أنجزوا خطتهم للتخلص منه، بأن اقْتُلُوا يُوسُفَ ).

ص: 43


1- محمد متولي الشعراوي: الفتاوى 10/ 71- 74 (بيروت 1982).
2- في ظلال القرآن 4/ 1973 (بيروت 1982).
3- جاء في تاريخ ابن الأثير: أن امرأة يعقوب سمعت ما قال يوسف لأبيه، فقال لها يعقوب: اكتمي ما قال يوسف و لا تخبري أولادك، قالت نعم، فلما أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرؤيا، فازدادوا حسدا و كراهة له و قالوا: ما عنى بالشمس غير أبينا و لا بالقمر غيرك و لا بالكواكب غيرنا، إن ابن راحيل يريد أن يمتلك علينا و يقول: أنا سيدكم. (الكامل 1/ 78- 79).

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (1).

و في الواقع، فإن قصة الصديق، كما جاءت في التوراة و القرآن العظيم، إنما تشير بوضوح إلى أن إخوته إنما ظلوا ردحا من الزمن ضحايا الكبت الذي عانوه، كي يخفوا رغبتهم في التخلص من يوسف رغبة في أن يخلوا لهم حب أبيهم، و لكنهم كانوا يفشلون في إخفائها و كبتها، بل كثيرا ما كانت تبدو فيما يصدر عنهم من مواقف أو كلمات ضد يوسف، مما جعل أباهم يعقوب يشك في حسن نواياهم، عند ما دعوا يوسف ليلعب معهم (2)، فقال لهم وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (3)، و هو في الواقع إنما كان يتخوف عليه من عدوانهم أكثر مما يتخوف عليه عدوان الذئب، و لكنه أراد أن يصرفهم عنه بتلك الفعلة، و لكن إخوة يوسف كانوا بارعين في الدهاء، فقالوا لأبيهم لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (4).

و هكذا كان من نتيجة الكبت الذي عانوه أن انحرفوا بتفكيرهم، فكل ما كان يهمهم تحقيقه هو أن يحولوا بين يوسف و أبيه فاتفقوا على قتله، و تلطيخ قميصه بالدم، و ادعاء أن الذئب أكله، لما ذهبوا يتسابقون و تركوه عند متاعهم، غير أن التلفيق كان واضحا، أو كان ساذجا، لأن القميص لم يكن ممزقا بآثار أسنان الذئب، أو كما قال يعقوب، في رواية السدى، إن كان هذا الذئب لرحيما، كيف أكل لحمه و لم يخرق قميصه (5)، و هكذا ألهاهم ).

ص: 44


1- سورة يوسف: آية 9.
2- التهامى نقرة: سيكولوجية القصة في القرآن- تونس 1974 ص 156 (رسالة دكتوراه).
3- سورة يوسف آية 13.
4- سورة يوسف: آية 14.
5- جاء في تفسير الطبري عن ابن عباس أنه قال: ذبحوا شاة و لطخوا بدمها القميص، فلما جاءوا يعقوب قال: كذبتم لو أكله الذئب لمزق قميصه، و في رواية أخرى، كما في تفسير النسفى و أبي السعود و الخازن، نهم ذبحوا سخلة و لطخوا القميص بدمها، و زل عنهم أن يمزقوا القميص، فلما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح بأعلى صوته، و قال: أين القميص و أخذوه و ألقاه على وجهه و بكى حتى خضب وجهه بدم القميص و قال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكله و لم يمزق عليه قميصه، و في رواية ثالثة في تفسير الخازن أنهم أتوا بذئب و قالوا ليعقوب: هذا أكل ابنك، فقال الذئب حين سأله، و قد أنطقه اللّه، و اللّه ما أكلت و ما رأيت ولدك قط، و لا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء، فقال يعقوب كيف وقعت في أرض كنعان، قال: أتيت لصلة الرحم فأخذوني و أتوا بي إليك فأطلقه يعقوب (انظر: تفسير الطبري 12/ 164، تفسير أبي السعود 4/ 260، تفسير الخازن 3/ 269، تفسير النسفى 2/ 214- 215، صفوة التفاسير 2/ 44).

الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم، و لكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون أن لا تؤاتيهم الفرصة مرة أخرى، كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع، و قد كان أبوهم يحذرهم فيها أمس و هم ينفونها، و يكادون يتهكمون بها، فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم منه أبوهم أمس، و بمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه في غير إتقان، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب (1)، الأمر الذي جعل يعقوب لا يصدقهم، و لهذا كان يدعوهم دائما إلى أن يتقصوا آثار أخيهم، و قد وقعوا في حالة «التبرير»، كما يفعل المذنب، إذ يعمد إلى تفسير سلوكه ليبيّن لنفسه و للناس أن لسلوكه هذا أسبابا معقولة (2)، فهم يقولون يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (3).

و على أية حال، فلقد كان أخوة يوسف قد أجمعوا أمرهم على أن

ص: 45


1- في ظلال القرآن 4/ 1975- 1976.
2- التهامي نقرة: المرجع السابق ص 516- 517.
3- سورة يوسف: آية 17.

يجعلوه في غيابت الجب (1)، و لكنهم سرعان ما غيروا رأيهم حيث أشار يهوذا على أن يبيعوه للإسماعيليين، و لكن الأمور لم تسر كما يرغبون، و كما تقول التوراة «جاء رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر، و باعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر (2)»، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ، وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (3).

و هكذا هبط الصديق مصر، كرقيق اشتراه رئيس الشرطة المصري بثمن بخس دراهم معدودة، رأى بعض المفسرين أنها دون الأربعين، على أساس أنها معدودة لا موزونة، و إنما يعدّ القليل، و يوزن الكثير، و كانت العرب تزن ما بلغ الأوقية، و هي أربعون درهما مما فوقها، و تعدّ ما دونها، و لهذا يعبرون عن القليلة بالمعدودة، و ذهب ابن عباس و ابن مسعود و غيرهما إلى أنهم باعوه بعشرين درهما، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنهم باعوه بأربعين درهما (4)، و أيا ما كان الأمر، فقد كانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.

ص: 46


1- ذهب بعض المفسرين إلى أنها بئر بأرض الأردن أو هي بين مصر و مدين أو هي على مبعدة ثلاثة فراسخ من منازل يعقوب في كنعان، و هو الأرجح، أو هي بئر المقدس، غير أن التقاط السيارة له و مجيئهم أباهم عشاء يبكون ذلك اليوم، يضعف هذا الإتجاه (تفسير أبي السعود 4/ 258، تفسير النسف 2/ 214).
2- تكوين 37/ 18- 28.
3- سورة يوسف: آية 19- 20.
4- تفسير الطبري 16/ 13- 16، تفسير القرطبي 9/ 155- 157، تفسير المنار 2/ 281، تفسير ابن كثير 4/ 305، تفسير روح المعاني 12/ 204- 205، تفسير أبي السعود 4/ 261، تفسير الخازن 3/ 271، تفسير النسفى 2/ 215، مؤتمر تفسير سورة يوسف 1/ 421- 427، المقدسي: البدء و التأريخ 3/ 68.

بقيت الإشارة إلى أن هناك فريقا من المفسرين ذهب إلى أن أخوة يوسف كانوا أنبياء، و استدلوا على ذلك بأنهم الأسباط المذكورون في آية آل عمران (84) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ، و الصحيح أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب، و إنما هم القبائل من ذرية يعقوب، كما نبه عليه المحققون (1)، هذا و قد جاء في المصباح المنير: السبط ولد الولد، و الجمع أسباط، مثل حمل و أحمال، و السبط: الفريق من اليهود، يقال للعرب قبائل، و لليهود أسباط، و من هنا ذهب المفسرون المسلمون إلى أن الأسباط هم بنو يعقوب، كانوا اثنى عشر رجلا، كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس، فسموا أسباطا، هذا و قد بعث اللّه منهم عدة رسل، غير أنه لم يصح أن أخوة يوسف بالذات كانوا أنبياء، إذ لو كانوا كذلك لما أقدموا عليه من الأفعال الشنيعة، فالحسد و السعي بالفساد، و الإقدام على القتل، و الكذب، و إلقاء يوسف في الجب، كل ذلك من الكبائر التي تتنافى في عصمة الأنبياء، فالقول بأنهم أنبياء، مع هذه الجرائم، لا يقبله عقل حصيف (2)، و يقول ابن كثير: و ظاهر ما ذكرنا من فعالهم و مقالهم في هذه القصة يدل على أنهم غير أنبياء، و من استدل بنبوتهم بآية آل عمران (84) و زعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلال بقوى، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل و ما كان يوجد فيهم من الأنبياء ينزل عليهم الوحي من السماء، و مما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من

ص: 47


1- يذهب البعض إلى أن الأسباط كانوا من بني إسماعيل الذين أرسل اللّه إليهم رسلا، لم يذكروا أسماءهم و لا أممهم، و بخاصة من بني قحطان، كقوم تبع و أصحاب الرس و سبأ (انظر صابر طيحة: بنو إسرائيل في ميزان القرآن- بيروت 1975 ص 181- 196).
2- محمد علي الصابوني: صفوة التفاسير 2/ 45- 46 (بيروت 1981)، تفسير الطبري 2/ 121، 3/ 111، 113، 6/ 569، تفسير الكشاف 1/ 195، تفسير روح المعاني 16/ 6، في ظلال القرآن 4/ 1973، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 150.

بين إخوته بالرسالة و النبوة أنه لم ينص على واحد من إخوته سواه، فدل على ما ذكرناه (1).

[2] يوسف و امرأة العزيز:-

اشترى عزيز مصر يوسف من تجار الرقيق، ثم ذهب به إلى بيته و قال لامرأته «اكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (2)»، ذلك لأن الرجل إنما توسم في الصديق خيرا، و الخير يتوسم في الوجوه الصباح، و خاصة حين تصاحبها السجايا الملاح، فإذا هو يوصي به امرأته خيرا، و هكذا بدأ الصديق مرحلة جديدة في حياته في قصر عزيز مصر الذي اشتراه، و هو طبقا للرواية العربية، الوزير بمصر، و كان اسمه، فيما يروى عن ابن عباس، «قطفير» و كان على خزائن مصر، و كان الملك يومئذ «الريان بن الوليد» رجل من العماليق، و اسم امرأته راعيل أو زليخا (3).

على أن العجيب من الأمر أن تصف التوراة عزيز مصر بأنه «خصى فرعون رئيس الشرطة» (4)، و لست أدري كيف دار في خلد كاتب نص التوراة هذا، بأن رئيس الشرطة المصري كان خصيا، و من عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير، و إن رفضتها جمهرة المفسرين (5)، و كأن

ص: 48


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 198- 199.
2- سورة يوسف: آية 21: و روى ابن كثير في تفسيره عن عبد اللّه بن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، حين قال لامرأته «أكرمي مثواه» و المرأة التي قالت لأبيها عن موسى «يا أبت استأجره»، و أبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما (مختصر تفسير ابن كثير 2/ 245).
3- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 244.
4- تكوين 29/ 1.
5- تفسير الطبري 16/ 19، تفسير القرطبي ص 3389، تفسير أبي السعود 4/ 286، تفسير الخازن 3/ 293، و انظر: تفسير البيضاوي 1/ 491، تفسير المنار 12/ 272، تفسير روح المعاني 12/ 207، مؤتمر تفسير سورة يوسف 1/ 434، 503- 504، 1/ 525- 526.

الرجل لم يكن شافعا له، في نظر كتبة التوراة و من لفّ لفّهم، في دحض هذه الغيرة، أنه كان زوج أجمل سيدة في مجتمع الهكسوس، و لكن ما الحيلة و صاحب سفر التكوين من التوراة إنما يرى أن حاشية القصر كانت كلها من الخصيان، حتى لنجده كذلك يصف رئيس سقاة الملك و رئيس خبازية بأنهما من الخصيان (1).

غير أن الصديق، عليه السلام، إنما تعرض في أخريات أيامه في قصر العزيز إلى امتحان رهيب، بدأت به المحنة الثانية في حياته، و هي أشد من المحنة الأولى، تجيئه و قد أوتي صحة الحكم، و أوتي العلم، ليواجهها و ينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله اللّه تعالى في قرآنه، و ذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه، لأنها افتتنت بحسنه فأحبته، و ليس لها ما يردعها من خوف زوجها عن خيانته، لأنها تملك قيادة كما يشاء هواها، شأن ربات القصور المترفات اللائي أفسدت طباعهن الحرية و الفراغ، و كادت له لما رفض أن يستجيب، لأن لها من نفاذ الكلمة و من السلطان على زوجها ما مكنها من الانتقام، رغم ما عرف زوجها من آيات صدقه (2). و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها، لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (3)، و يقول الأستاذ سيد قطب (4)، طيب اللّه ثراه، إن هذه الدعوة السافرة الجاهرة من امرأة العزيز، لا تكون ).

ص: 49


1- تكوين 40/ 2.
2- التهامى نفرة: المرجع السابق ص 512.
3- سورة يوسف: آية 23- 24، و انظر: تفسير الطبري 16/ 24- 50، تفسير ابن كثير 4/ 306- 309، تفسير المنار 12/ 227- 235، تفسير القرطبي ص 3391- 3399.
4- في ظلال القرآن 4/ 1980- 1981 (بيروت 1982).

أول دعوة من المرأة، إنما تكون هي الدعوة الأخيرة، و قد لا تكون أبدا، إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا، و الفتى يعيش معها و قوته و فتوته تتكامل، و أنوثتها هي تكمل و تنضج، فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة العنيفة الغليظة، «قال معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون»، و النص هنا صريح و قاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكير نعمة اللّه عليه، و تذكر حدوده و جزاء من يتجاوز هذه الحدود، فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهرة بعد تغليق الأبواب، و بعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته و روايته و قالت: هيت لك.

هذا و قد حصر المفسرون القدامى منهم و المحدثون نظرهم في الواقعة الأخيرة «و لقد همّت به و همّ بها لو لا أن رأى برهان ربه»، فأما الذين ساروا وراء الإسرائليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة و مندفعا شبقا، و اللّه يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع، صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على إصبعه بفمه، و صورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن (نعم القرآن) تنهى عن مثل هذا المنكر، و هو لا يرعوى، حتى أرسل اللّه جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه على صدره، إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة، و هي واضحة التلفيق و الاختراع (1).

على أن جمهور المفسرين إنما ساروا على أنها همّت به همّ الفعل، و همّ بها همّ النفس، ثم تجلى له برهان ربه فتركه، و أنكر صاحب تفسير

ص: 50


1- في ظلال القرآن 4/ 1981 ثم انظر: تفسير النسفى 2/ 217، تفسير الطبري 16/ 33- 48 تفسير ابن كثير 4/ 308- 309 تفسير القرطبي ص 3391- 3398، تاريخ الطبري 1/ 337- 338، الكامل لابن الأثير 1/ 80- 81، و من عجب أن التوراة لم تذكر شيئا مما ذكره المفسرون من هذه الروايات، كما جاءت قصة المراودة في سفر التكوين 39/ 7- 20.

المنار على الجمهور هذا الرأي، و يقول الإمام الفخر الرازي: الهم خطور الشي ء بالبال أو ميل الطبع، كالصائم يرى في الصيف الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه و طلب شربه، و لكن يمنعه دينه عنه، و قال أبو حيان في البحر: نسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق و الذي اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، و قال أبو السعود: إن همّه إليها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلا جليا، لأنه قصدها قصدا اختياريا، الا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له و نفرته منه، و حكمه بعدم إفلاح الظالمين، و هل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلا محكما، و ما قيل: إنه حلّ الهميان، و جلس مجلس الختان، فإنما هي خرافات و أباطيل تمجّها الأذان، و تردها العقول و الأذهان (1).

هذا و قد ذهب صاحب تفسير المنار (2) إلى أنها همت بضربه نتيجة إبائه و إهانته لها، و هي السيدة الآمرة، و همّ هو برد الاعتداء، و لكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر، على أن تفسير الهمّ، فيما يرى صاحب الظلال (3)، بأنه همّ الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهم مجرد رأى لمحاولة البعد بيوسف عن همّ الفعل أو همّ الميل إليه في تلك الواقعة، و فيه تكلف و إبعاد عن مدلول النص، ثم يرى في قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ نهاية موقف طويل من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر و استعصم، و هو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة و الضعف، ثم الاعتصام باللّه في النهاية ).

ص: 51


1- تفسير الفخر الرازي 18/ 119، تفسير البحر المحيط 5/ 295، تفسير أبي السعود 2/ 63، تفسير المنار 12/ 231- 136.
2- تفسير المنار 12/ 229- 231.
3- في ظلال القرآن 4/ 1981- 1982 (بيروت 1982).

و النجاة، و لكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة، لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من تلك اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، و في محيط الحياة البشرية الكاملة كذلك، فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله و الاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق و الواقعية و الجو النظيف جميعا، ثم يرى صاحب الظلال بعد ذلك أن ذلك أقرب إلى الطبيعة البشرية و إلى العصمة النبوية، و ما كان يوسف سوى بشر، نعم إنه بشر ممتاز، و من ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات، فلما رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره و قلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة عاد إلى الاعتصام و التأبي.

و لعل هذا قريبا مما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف حيث يقول:

فإن قلت: كيف جاز على نبي اللّه أن يكون منه همّ بالمعصية و قصد إليها، قلت (أي الزمخشري) المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة، و نازعت إليها عن شهوة الشباب و قرمه ميلا يشبه الهمّ به و القصد إليه، و كما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول و العزائم، و هو يسر ما به و يرده بالنظر في برهان اللّه المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، و لو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى همّا لشدته، لما كان صاحبه ممدوحا عند اللّه بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظيم الابتلاء و شدته.

و أيا ما كان الأمر، فلقد آثر الصديق التخلص بعد أن استفاق، و هي عدت خلفه لتمسك به، و هي ما تزال في هياجها الحيواني وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَ إِنْ كانَ

ص: 52

قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (1).

هذا و قد اختلف المفسرون في هذا الشاهد، قيل هو ابن عم امرأة العزيز، و كان جالسا مع زوجها لدى الباب، و قيل كان حكيما يرجع إليه الملك و يستشيره، و ربما كان بعض أهلها قد بصر بها من حيث لا تشعر فأغضبه اللّه تعالى لنبيه بالشهادة له و القيام بالحق، و إنما ألقى اللّه الشهادة إلى من هو من أهلها ليكون أدل على نزاهته و أنفى للتهمة (2)، قال أبو حيان في البحر: و كونه من أهلها أوجب للحجة عليها، و أوثق لبراءة يوسف، و أنفى للتهمة (3)، و ذهب جماعة من علماء السلف، على رأسهم ابن عباس و الحسن البصري و سعيد بن جبير و الضحاك، أنه كان صبيا في الدار، و اختاره ابن جرير، و فيه حديث مرفوع رواه ابن جرير عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «تكلم أربعة و هم صغار» فذكر فيهم شاهد يوسف، و رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «تكلم أربعة و هم صغار، ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم»، و رواه الحاكم عن أبي هريرة (4)، و هكذا ظهرت براءة يوسف عليه السلام للعزيز، فقال له «يوسف أعرض عن هذا» أي لا تذكره لأحد، لأن كتمان مثل هذه الأمور، كما يقول ابن كثير، هو الأليق و الأحسن، و أمرها هي بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، و التوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى اللّه تاب

ص: 53


1- سورة يوسف: آية 25- 29.
2- تفسير أبي السعود 4/ 268.
3- تفسير البحر المحيط 5/ 297.
4- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 247، و انظر: تفسير الطبري 12/ 193، تفسير النسفي 2/ 218، تفسير أبي السعود 4/ 268.

اللّه عليه، و أهل مصر، و إن كانوا يعبدون الأصنام، إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب و يؤاخذ بها، هو اللّه وحده لا شريك له في ذلك (1).

غير أن أنباء الفضيحة سرعان ما تترامى إلى الناس، و طفق النساء خاصة يتحدثن بسقطة امرأة العزيز، و يتناقلنها بينهن، و أنها شغفت حبا بفتاها و خادمها، و كيف خرجت على طبع أنوثتها في إدلالها و تمنعها، و نزلت عن كبريائها و سلطانها (2)، وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (3)، و في ذلك إشباع في اللوم، فإن من لا زوج لها من النساء، أو لها زوج دني ء، قد تعذر في مراودة الأخدان، لا سيما إذا كان فيهم علو الجانب، و أما التي لها زوج، و أي زوج، إنه عزيز مصر، فمراودتها لغيره، لا سيما لعبدها الذي لا كفاءة بينها و بينه أصلا، و تماديها في ذلك، إنما هو غاية الغي و نهاية الضلال (4)، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (5).

هذا و تشير الآية الكريمة إلى أن امرأة العزيز إنما أرادت أن ترد على النساء اللواتي أطلقن ألسنتهن فيها بمكر يوقعهن فيما وقعت فيه من طريق ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها، و من ثم فقد أقامت لهن مأدبة في قصرها، و بدهي أنهن كن من نساء الطبقة الراقية اللواتي يهمها أمرهن، و هن اللواتي يدعين إلى الموائد في القصور، و يؤخذ

ص: 54


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 204.
2- التهامي نقرة: المرجع السابق ص 512.
3- سورة يوسف: آية 30.
4- تفسير أبي السعود 4/ 270.
5- سورة يوسف: آية 31.

بهذه الوسائل الناعمة المظهر، و أنهن كن يأكلن و هن متكئات على الوسائد و الحشايا، فأعدت لهن هذا المتكأ، و آتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام، و يؤخذ من هذا أن الحضارة في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا، و أن الترف في القصور كان عظيما، فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلف من السنين له قيمة في تصوير الترف و الحضارة المصرية بين حكام مصر من الهكسوس، و هم خليط من شعوب شتى، فما بالك بالمصريين أنفسهم، و هم أرفع شأنا، و أكثر تمدنا، و أرقى حضارة من كل شعوب الشرق القديم، و على أية حال، فبينما النساء منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف، فلما رأينه أكبرنه و جرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة، «و قلن حاشا للّه، ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم»، و هذه التعبيرات، فيما يرى صاحب الظلال (1)، دليل على تسرب شي ء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان، و هنا أدركت امرأة العزيز أن هؤلاء النسوة يقفن معها على أرض واحدة، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة و حيائها، فإذا بها تقول قول المرأة المنتصرة، و التي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها، و إن كان قد استعصى قياده مرة، فهي تملك هذه القيادة مرة أخرى قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2).

و هكذا تحولت الأمور إلى صراع بين المرأة و الفتى، و دخلت كما يقال في دور من العناد و المفاعلة غريب، هي بتهالكها الذي انكشف عن تحجج

ص: 55


1- في ظلال القرآن 4/ 1953، 1984- 1985.
2- سورة يوسف: آية 32- 34.

سافر، و كبر خائر، و هو بإصراره الذي لا سبيل له إلا إلى المضي فيما بدا و أعلن للناس، و لكنه مع ذلك لم ينج منهم و من كيد نسائهم، و تحالفت عليه قوى البغي، فكان لهن من السلطان على أزواجهن ما حجب الحق الأبلج، و أساء إلى الخلق المتين (1)، ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (2).

و ليس هناك من سبيل إلى شك في أن هذه إنما تقدم لنا صورة لمجتمع فاسد آثم، تصور ما كان عليه مجتمع الدخلاء من حكام الهكسوس المغتصبين في مصر من فساد و انحلال، و لو لم يكن لدينا عن مصر في ذلك الزمان سوى تلك القصة، لاتخذناها وحدها دليلا على مجتمع يسوده الأجانب و الغرباء، و لنفيناها عن المصريين و نسبناها إلى المجتمع الأجنبي مطمئنين، لأنها إنما تخالف عن طبيعة الأشياء في مصر، و تخرج عن سليقة المصري بما ركب فيه من الأنفة و الحمية و الكرامة و الكبرياء، و لو نظرنا إلى بعض قصص التوراة، لوجدنا قصتنا هذه أشبه بقصص التوراة و أدنى إلى مجتمعها (3)، على حين تنبو عن مجتمع المصريين الأصيل، و تخالف تقاليدهم و أذواقهم، خلافا يفوق كل خلاف (4).

[3] يوسف في السجن:-

تمثل هذه الفترة في حياة الصديق المحنة الثالثة و الأخيرة، فكل ما بعدها رخاء، و ابتلاء لصبره على الرخاء، بعد ابتلاء صبره على الشدة، و المحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة، و السجن للبري ء المظلوم أقسى، و إن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية

ص: 56


1- أحمد عبد الحميد يوسف: مصر في القرآن و السنة- القاهرة 1973 ص 45.
2- سورة يوسف: آية 35.
3- انظر عن مجتمع قصص التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 162- 218).
4- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 45- 46.

و سلوى (1)، ذلك أن القوم من الهكسوس سرعان ما قذفوا بالصديق إلى السجن، رغم ما رأوا من آيات براءته، كقد القميص و قطع الأيدي و شهادة الصبي و غير ذلك، مدة لم يحددوا زمنها، لأن الهدف من ذلك إنما كان أن ينسى الناس قصته مع امرأة العزيز، هذه القصة التي لاكتها الألسن بين أوساط الناس.

و مع ذلك، فإن الصديق عليه السلام، إنما يتقبل السجن صابرا محتسبا، و رغم أنه كان في سجنه غريبا وحيدا بيد أنه كان دائما يسبح لمن أحيا الفؤاد بنوره، فإذا به يستشعر رحابة في وجدانه وسعت الكون كله، و سمت روحه لتتصل بروح الوجود، و إذا به يأنس بربه، و يحس تعاطفا مع كل من حوله و ما حوله، و إذا بقلبه ينفتح للبشرية جمعاء، حتى الذين ظلموه لم يحقد عليهم، كانت إرادته أن يتقي اللّه حق تقاته، و نيته أن يخلص للّه، و عزمه أن يصل حبله بحبل اللّه، و قصده أن يهب نفسه للّه، و أن يسير في سبيل اللّه فجزاه اللّه الجزاء الأوفى، فعلمه من علمه، و اللّه بكل شي ء عليم (2).

و كان ملك مصر من الهكسوس الغزاة قد أدخل معه صاحب طعامه و صاحب شرابه بعد أن اتهمهما بأنهما تآمرا عليه و دسا له السم في الطعام، فراح الصديق يدعوهما إلى اللّه و يذهب عنهما حزنهما، و يبذل لهما ما وسعه البذل لتطمئن نفوسهما، و يرى السجناء في مسلكه الطاهر ما يجذبهم إليه، فيطلبون إليه تفسير الرؤيا و تأويل الأحلام (3)، و يكاد القرآن الكريم و العهد

ص: 57


1- في ظلال القرآن 4/ 1987.
2- عبد الحميد جودة السحار: بنو إسماعيل- القاهرة 1966 ص 56- 58.
3- هناك بحوث كثيرة لعلماء النفس في الأحلام، فمن قائل إنها صورة من اللاشعور النهائي، أو هي صورة من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي، و من قائل إنها تعويضية، و من قائل إنها تقوم بوظيفة لإعداد الحياة، إذ أن الأمر كله لا يعدو أن القوم يحلمون، لأنهم يلتمسون في الحلم حلولا لا يسيرون عليها في نشاطهم المقبل (إسحاق رمزي: علم النفس الفردي- القاهرة 1919 ص 132- 134، التهامي نقرة: المرجع السابق ص 518، في ظلال القرآن 4/ 1972)، و يذهب ابن خلدون في المقدمة (ص 180) أن النفس إذا خفت عنها شواغل الحس و موانعه بالنوم، تتعرض إلى معرفة ما تتشوق إليه في عالم الحق، فقدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر المطلوب، و لذلك جعل اللّه الرؤيا من المبشرات. و روى عن أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال «لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قيل و ما المبشرات يا رسول اللّه؟ قال: الرؤيا الصالحة» (صحيح البخاري 9/ 40- القاهرة 1378) و في تفسير النسفي 2/ 169 روى عنه صلى اللّه عليه و سلم) عن البشرى «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له»، و عنه صلى اللّه عليه و سلم «ذهبت النبوة و بقيت المبشرات، و الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة» (تفسير النسفي 2/ 169)، و يرى الإمام الغزالي أن أدلة العقل وحدها لا تكفي لنبوة نبي، و يقول: إنما نعرف النبي أو العارف الذي يتلقى علمه من اللّه بأمر آخر، فإن اللّه أعطانا نموذجا من خصائص النبوة نشاهده في نفوسنا، و يعني بذلك ما يراه النائم من أسرار الغيب (الغزالي: المنقذ من الضلال- القاهرة 1308 ه ص 24- 26)، و يذهب صاحب الظلال (4/ 1972) إلى أننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد، ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، و رؤيا صاحبه في السجن و رؤيا ملك مصر، و ثانيا ما نراه في حياتنا من تحقيق رؤيا تنبئية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده لأنه موجود بالفعل.

القديم يتشابهون في عرضهما للأمر، و إن استغرقت التوراة كثيرا في رؤيا السجينين (1).

على أن القرآن الكريم إنما ينفرد وحده بذكر دعوة يوسف عليه السلام، و هو في السجن، إلى توحيد اللّه، و بث العقيدة الصحيحة، و يظهر جليا في هذه الدعوة لطف مدخله إلى النفوس، و سيره خطوة خطوة في رفق و تؤده (2)، لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (3)، و كأنه أراد إخبارهما بمعجزاته توطئه لدعائهما إلى الإيمان، قال

ص: 58


1- سورة يوسف: آية 36- 37- 41، تكوين 40/ 1- 22.
2- التهامي نقرة: المرجع السابق ص 535.
3- سورة يوسف: آية 37.

الإمام البيضاوي: أراد أن يدعوهما إلى التوحيد و يرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هي طريقة الأنبياء في الهداية و الإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الأخبار بالغيب لدلهما على صدقه في الدعوة و التعبير (1).

ثم يتوغل في قلوبهما أكثر، و يفصح عن دعوته، و يكشف عن فساد اعتقادهما، و اعتقاد قومهما بعد ذلك التمهيد الطويل (2)، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3)، و هي صورة للإسلام واضحة كاملة دقيقة شاملة، كما جاء بها رسل اللّه جميعا، من ناحية أصول العقيدة تحتوي، الإيمان باللّه و بالآخرة، و توحيد اللّه و عدم الإشراك به أصلا، و معرفة اللّه تعالى بصفاته الواحد القهار، و الحكم بعدم وجود حقيقة و لا سلطان لغيره أصلا، و من ثم نفي الأرقاب التي تتحكم في رقاب العباد، و إعلان السلطان و الحكم للّه وحده، ما دام أن اللّه أمر ألا يعبد الناس غيره، و مزاولة السلطان و الحكم و الربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة اللّه وحده، و حديد معنى «العبادة» بأنها الخضوع للسلطان و الحكم و الإذعان للربوبية، و تعريف الدين القيم بأنه إفراد اللّه سبحانه و تعالى بالعبادة، أي إفراده بالحكم، فهما مترادفان أو متلازمان «إن الحكم إلا للّه أمر ألا تعبدوا

ص: 59


1- تفسير البيضاوي 2/ 264.
2- محمد رجب البيومي: البيان القرآني- القاهرة 1971 ص 225.
3- سورة يوسف: آية 37- 40.

إلا إياه ذلك الدين القيم»، و هذه هي أوضح صورة للإسلام و أكملها و أدقها و أشملها (1).

و هكذا يبلغ الصديق عليه السلام، أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه، مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن، و من ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس، ليزيدهما ثقة في قوله كله و تعلقا به يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً، وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (2).

و الصديق، مع هذا كله، بشر، فيه ضعف البشر، فهو يتطلب الخلاص من سجنه، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن، و إن كان اللّه تعالى شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده، وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (3)، و البضع ما بين الثلاث إلى التسع، و في الحديث «رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل أذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا» (4)، و الاستعانة بالعباد، و إن كانت مرخصة، لكن اللائق بالأنبياء الأخذ بالعزائم (5)، و جاء في تفسير القرطبي أن جبريل جاء إلى يوسف و هو في السجن معاتبا فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك، قال اللّه تعالى، قال فمن أخرجك من الجب، قال اللّه تعالى، قال فمن عصمك من الفاحشة، قال اللّه تعالى، قال فمن صرف عنك كيد النساء، قال اللّه تعالى، قال: فكيف تركت ربك فلم تسأله

ص: 60


1- في ظلال القرآن 4/ 1960.
2- سورة يوسف: آية 41.
3- سورة يوسف: آية 42.
4- تفسير النسفي 2/ 223.
5- تفسير أبي السعود 4/ 280، تفسير الخازن 3/ 285- 286.

و وثقت بمخلوق، قال يا رب كلمة زلت مني، أسألك يا إله إبراهيم و إله الشيخ يعقوب عليهم السلام: أن ترحمني، قال جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين (1).

و جاءت ساعة الذكرى عند ما رأى الملك حلما غريبا لا يقدر تفسيره أحد، فتذكر السجين السالف براعة يوسف، و يشير به، ثم ينهض إلى استفتائه فينطوي بالتأويل الصريح (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ، قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ، وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (3)، قال الإمام الزمخشري: تأول عليه السلام البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخاصيب، و العجاف اليابسات بسنين مجدية، ثم بشرهم بأن العام الثامن يجي ء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، و ذلك من جهة الوحي (4)، لأن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك، فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه اللّه يوسف، فبشر به الساقي ليبشر به الملك و الناس بالخلاص من الجدب و الجوع بعام رخي رغيد.

ص: 61


1- تفسير القرطبي 9/ 196.
2- محمد رجب البيومي: المرجع السابق ص 225.
3- سورة يوسف: آية 43- 49.
4- تفسير الكشاف 2/ 477.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أنه قد مرت بنا رؤى ثلاث، رؤيا يوسف، و رؤيا صاحب السجن، و رؤيا الملك، و طلب تأويلها في كل مرة، و الاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر و في خارج مصر، و أن الهبة التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف عليه السلام (1)؟ ربما كان الأمر كذلك.

و على أي حال، فلقد طلب الملك أن يأتوا بيوسف من السجن، غير أن الصديق إنما يرفض أن يغادر سجنه حتى تظهر براءته للناس جميعا، مما ألصق به من تهمة هو منها براء، قال السدي، قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة يقول:

هذا الذي راود امرأتي، فلما رجع الرسول إلى الملك من عند يوسف جمع الملك أولئك النسوة (2) فقال لهن: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ، وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).

و هكذا تثبت الأحداث السابقة جميعا عصمة النّبي الكريم سيدنا يوسف عليه السلام و براءته من تلك التهمة التي نسبها إليه من لا يعرف قدر النبوة و لا عظمة الرسالة و لا صفات الأنبياء الكرام البررة، فضلا عن أن يوسف نبيّ وجد أبيه نبيّ، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، هذا و قد قدم لنا الأستاذ الصابوني وجوها عشرة على عصمة يوسف و براءته،

ص: 62


1- في ظلال القرآن 4/ 1993- 1994.
2- تاريخ الطبري 1/ 346.
3- سورة يوسف: آية 51- 53.

منها (أولا) امتناعه عن مطاوعة امرأة العزيز و وقوفه في وجهها بكل صلابة و عزم «قال معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» و منها (ثانيا) فراره من امرأة العزيز بعد أن حاصرته و ضيقت عليه الخناق و أرادته على نفسها بالغصب و الإكراه، و لو كان يوسف قد همّ بالفاحشة لما فر منها، لأن الذي يريد ذلك يقدم و لا يفر «و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر» الآية، و منها (ثالثا) شهادة بعض أقرباء المرأة ببراءة يوسف حيث أشار بفحص ثوبه فإن كان طالبا و هي الممتنعة فإن ثوبه سيشق من أمام، و إن كانت هي الطالبة له و هو الممتنع فإن ثوبه سيشق من خلف، و هذا ما ثبت (الآيات 26- 29)، و منها (رابعا) تفضيله السجن على عمل الفاحشة (آية 33) و هذا من أعظم البراهين على براءته، ذلك لأنه لو طاوعها لما لبث في السجن بضع سنين بسبب تلك التهمة الظالمة، و منها (خامسا) ثناء اللّه تعالى عليه في مواطن عديدة من السورة، كما في الآيات (21، 22، 24) فلقد أخبر اللّه تعالى أنه من المحسنين و أنه من عباده المخلصين، و لن يكون ثناء اللّه تعالى إلا على من صفت نفسه، و طهرت سيرته من كل نية سوء، و كل عمل قبيح، فكان من الأطهار المقربين، كما أثنى عليه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال صلى اللّه عليه و سلم: إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و كفى بذلك شرفا و فضلا.

و منها (سادسا) اعتراف امرأة العزيز نفسها بعصمته و عفته أمام جمع من نسوة المدينة، كما في الآيات (31- 32) و منها (سابعا) ظهور أمارات براءة يوسف بكل الأدلة، كقد القميص و قطع النسوة أيديهن و شهادة الصبي، و مع ذلك فقد أقدم العزيز على سجنه إيهاما للناس، و سترا على زوجته (الآية 35)، و منها (ثامنا) استجابة اللّه تعالى لدعوة يوسف بأن يصرف عنه كيدهن، و لو كان راغبا في مطاوعة امرأة العزيز، لما طلب من اللّه أن يصرف عنه كيدهن (الآية 34)، و منها (تاسعا) عدم قبول يوسف الخروج من السجن

ص: 63

حتى تظهر براءته أمام الناس جميعا، (الآية 50) و منها (عاشرا) الاعتراف الواضح من النسوة و من امرأة العزيز ببراءة يوسف و عفته (الآيات 51- 53) (1).

ص: 64


1- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 74- 78، صفوة التفاسير 2/ 53- 54، تفسير النسفي 2/ 221
الفصل الثّاني يوسف عزيز مصر
[1] يوسف العزيز:-

ظهرت براءة يوسف عليه السلام، كما رأينا، في الفصل السابق، و من ثم فقد خرج من السجن، و لقي الملك و تحدث إليه، فرأى فيه مخايل الأمانة، و حكمة التصرف و عزة النفس، و أمارات السيادة فقربه إليه، و رفع منزلته لديه، و هكذا تشاء إرادة اللّه أن يصبح الصديق على خزائن الأرض أمينا، بعد أن كان في زوايا الأرض سجينا، إذ ينال الحظوة عند ملك مصر من الهكسوس بعد أن قام بتفسير رؤياه تفسيرا يتفق و مقام النبوة، و يتنزه عن تفسيرات رجال البلاط و حكمائه من سدنة و كهان، فضلا عن براءته مما نسب إليه بشأن امرأة العزيز، و من ثم فقد قلده الملك ما يشبه وزارة التموين في عصرنا الحاضر (1)، و إن كانت التوراة تجعله أشبه برئيس الوزراء (2)، و هكذا قدّر للصديق عليه السلام أن يرتفع من رق العبودية إلى كرسي الوزارة (3)، و أن يتزوج، فيما تروي التوراة، من سيدة مصرية هي «أسنات

ص: 65


1- انظر: سورة يوسف: آية 54- 56، تكوين 41/ 1- 44.
2- تكوين 41/ 40- 44.
3- ربما كان الصديق، حدسا عن غير يقين، يشرف على ما كان يسمى في مصر القديمة، مصلحة الحقول و الخزانة، فأما مصلحة الحقول: فكان يتبعها الأراضي الزراعية على ضفاف النيل، فضلا عن تلك التي تقع على حافة الصحراء و المحيطة بالمقابر و الأهرامات الملكية، و أما مصلحة الخزانة، و كانت تسمى بيت المال الأبيض (برجج) و يتولى إدارتها، تحت إشراف الوزير، مدير البيت الأبيض المزدوج، و لها فروع من الأقاليم، كما كانت تنقسم إلى قسمين: بيت الذهب و بيت الشونة (أنظر: محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 129)، غير أن المؤكد أن يوسف كان يشغل منصب العزيز، كما وصف في القرآن (سورة يوسف: آية 78).

بنت فوطي فارع» كاهن أون (عين شمس)، و منها أنجب ولديه منسي و أفرايم (1)، و إن زوّجته المصادر العربية من امرأة العزيز التي راودته عن نفسه من قبل، و قد أسموها راعيل أو زليخا، بعد أن شغل منصب زوجها كذلك بسبب موته أو إعفائه من منصبه (2).

و لعل سائلا يتساءل: أ ليس في قول يوسف عليه السلام «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» أمران محظوران في الإسلام، أولهما:

طلب التولية و هو محظور بقول الرسول صلى اللّه عليه و سلم «إنا و اللّه لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه» (متفق عليه)، و أنه صلى اللّه عليه و سلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، و إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها»، و ثانيهما: تزكية النفس، و هي محظورة بقوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (3).

و قد ذهب بعض المفسرين إلى أن يوسف إنما طلب الولاية رغبة في العدل، و إقامة الحق و الإحسان، و ليس هو من باب التزكية للنفس، و إنما هو للإشعار بحنكته و درايته لاستلام وزارة المالية (4)، و ذهب أبو السعود

ص: 66


1- تكوين 41/ 45، 50- 52.
2- تفسير أبي السعود 4/ 286، تفسير النسفي 2/ 228، تفسير الخازن 3/ 293، تاريخ الطبري 1/ 347، تاريخ ابن خلدون 2/ 45، الكامل في التاريخ لابن الأثير 1/ 83، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 210.
3- في ظلال القرآن 4/ 2006، تفسير الخازن 3/ 292.
4- صفوة التفاسير 2/ 57.

في تفسيره (1) إلى أنه قال «اجعلني على خزائن الأرض» أي أرض مصر (2) و ولني أمرها من الإيراد و الصرف، إني حفيظ لهما ممن لا يستحقهما، عليم بوجود التصرف فيهما، و فيه دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل و إجراء أحكام الشريعة، و إن كان من يد الجائر أو الكافر، و قيل إن الملك أسلم، و قال الخازن في تفسيره: يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها، فإذا تعيّن وجب عليه و لا كراهية عليه، و أما يوسف فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من اللّه تعالى، و الرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره، و إذا كان مكلفا برعاية المصالح و لا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها، و هنا في طلب الإمارة، بسبب ما سيحدث من قحط، إيصال الخير للمستحقين، فيجب طلبها (3).

و ذهب الإمام النسفي في تفسيره إلى أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في قوله «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم»، بالأمانة و الكفاية و هما طلبة الملوك ممن يولونهم، و إنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام اللّه و إقامة الحق و بسط العدل، و التمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد، و لعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلبه ابتغاء وجه اللّه، لا لحب الملك و الدنيا، و في الحديث «رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، و لكنه أخر ذلك سنة»، قالوا و فيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان حمالة من يد سلطان جائر، و قد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة، و إذا علم النبي أو الظالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر اللّه و دفع الظلم، إلا بتمكين الملك الكافر أو

ص: 67


1- تفسير أبي السعود 4/ 286.
2- قال الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: قال: اجعلني على خزائن الأرض. «قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض» أما سمعت قوله «اجعلني على خزائن الأرض» أي على حفظها (تفسير القرطبي ص 3442).
3- تفسير الخازن 3/ 292.

الفاسق فله أن يستظهر به (1)، و أما ابن كثير فيذهب إلى أنه يجوز للرجل أن يمدح نفسه، إذا جهل أمره، للحاجة، و لهذا قال يوسف إنه حفيظ، أي خازن أمين، و عليم، أي ذو علم و بصيرة بما يتولاه، و من ثم فقد طلب يوسف من الملك أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء، لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنى الخصب لينظر فيها بما يرضي اللّه في خلقه من الاحتياط لهم و الرفق بهم، و أخبر الملك إنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه، أمين عليه، عليم بضبط الأشياء و مصالح الأهراء، و في هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة و الكفاية (2).

هذا و يتجه صاحب الظلال إلى أننا لا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد (عدم طلب التولية و عدم تزكية النفس) إنما تقررت في النظام الإسلامي على عهد سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و أنها لم تكن مقررة على أيام يوسف عليه السلام، و المسائل التنظيمية في هذا الدين (الإسلام) ليست موحدة كأصول العقيدة الثابتة في كل رسالة و على كل رسول، لا نريد أن نجيب بذلك، و إن كان له وجه، لأن الأمر يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بدّ من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول و النصوص، و ذلك لأن يوسف عليه السلام لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس، و عدم طلب الإمارة، كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا، لا خادما في وضع جاهلي، و كان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه و نشره في مصر في أيام حكمه، و قد توارى العزيز، و توارى الملك تماما (3).

ص: 68


1- تفسير النسفي 2/ 227.
2- تفسير ابن كثير 2/ 254 (المختصر)، البداية و النهاية 1/ 210، و انظر تاريخ الطبري 1/ 347.
3- في ظلال القرآن 4/ 2006، 2013.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك من يزعم أن يوسف عليه السلام، قد استقل بملك مصر، اعتمادا على قول يوسف في دعائه «رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث»، و لا دليل لهم في ذلك، فيما يرى ابن خلدون، لأن كل من ملك شيئا، و لو في خاصة نفسه، فاستيلاؤه يسمى ملكا، حتى البيت و الفرس و الخادم، فكيف من ملك التصرف، و لو كان من شعب واحد منها، فهو ملك، و قد كان العرب يسمون أهل القرى و المدائن ملوكا (1)، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد، و في تلك الدولة، و أما الذين يستدلون بقوله تعالي: وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ فهو ليس بديل أيضا، لأن التمكين يكون بغير الملك، و نص القرآن إنما هو بولاية على أمور الزرع في جمعه و تفريقه، كما قال تعالى:

اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، و مساق القصة كلها أنه مرءوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها، لا يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه، فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف، و أيضا فالقصة في التوراة (2) قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا و لا صار إليه ملك، و أيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة و القطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه، و لا يتأتى الملك في هذا الحال (3)، هذا فضلا عن

ص: 69


1- تشير نصوص فرعون مصر تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق، م) على أنه حارب في موقعه مجد و حوالي عام 1468 ق، م، أعداءه من ملوك سورية بزعامة أمير قادش، و عددهم 330 ملكا و أميرا، مع كل منهم جيشه الخاص، و قد انتصر عليهم، كما تشير نصوص شلمنصر الثالث الأشوري أنه حارب في موقعه قرقر عام 853 ق، م حلفا من الأمراء السوريين يضم اثنى عشر ملكا على رأسهم بنحدد ملك دمشق، كما اعتاد العرب تسمية حكام القرى و المدائن ملوكا مثل هجر و معان و دومة الجندل، و كان ولاة الأطراف و عمالها في الخلافة العباسية يسمون ملوكا.
2- تكوين 41/ 33- 57.
3- تاريخ ابن خلدون 2/ 47.

أن جمهرة المؤرخين و المفسرين إنما تذهب إلى أنه كان أشبه بوزير التموين أو المالية أو ما يشبه ذلك، مما يفهم منه أنه كان المسئول عن جمع الغلال و حفظها في الأهراء في سنوات الرخاء، و حسن استخدامها في أعوام المجاعة (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التاريخ المصري إنما يصدق الأحداث التي أتت بيوسف عليه السلام إلى هذا المنصب ذلك أن مصر إنما كانت عرضة للمجاعات، و فترات من تدهور الإنتاج الزراعي و الحيواني على مرّ العصور، و لقد كان ذلك في أغلب الأحايين من آثار اضطراب النيل و امتناع فيضه، و إخلاله بالوفاء، كما تعوّد و تعوّد منه الناس كل عام، فإذا تدهور و أقام على نقائصه لم تكد مياهه لتصل إلى الأرض التي تتحرق شوقا إليه، و تنتظر العام كله، أو جله، للقائه، فعندئذ فلا ريّ و لا استنبات، ثم لا زرع و لا ضرع، فتكون الكارثة التي تنزل بالبلاد و العباد (2).

و التاريخ يحدثنا أن اللّه تعالى ما جعل بلدا في العالم، تتوقف حياته و وجوده، مصيره و مستقبله، في السلم أو في الحرب، أو يرتبط سكانه و تاريخه بنهر، مثلما تفعل مصر و النيل، و من ثم فإذا بالغ النيل في فيضه أحيانا، فتعظم أمواهه و تضري أمواجه، فإذا هو يندفع طوفانا عنيفا مدمرا مغرقا كل شي ء، ثم لا يكاد ينحسر عن الأرض إلا وقف انقضى من أوان البذر وقت قد يكون على الإنتاج أيام الحصاد سيّئ المسغبة، و إن لم يبلغ

ص: 70


1- أنظر: تاريخ الطبري 1/ 347- 348، الكل لابن الأثير 1/ 83- 88، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 210، صفوة التفاسير 2/ 57، تفسير أبي السعود 4/ 286، تفسير الخازن 3/ 292.
2- انظر: تفسير ابن كثير 4/ 321، تفسير القرطبي ص 3446- 3447، تفسير الطبري 16/ 148- 152، تفسير النسفي 2/ 228، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 55، تفسير الجلالين ص 311- 312، صفوة التفاسير 2/ 57.

ذلك من سوئه مبلغ نقص الماء، ذلك أن النهر إن هبط عن معدله الطبيعي، فهي «الشدة» التي قد تصل إلى «المجاعة»، و إذا كان الفيض المغرق يعني الطاعون، فإن المجاعة كانت تعني «الموتان» الذي يصل إلى حد نشر معه الطاعون بدوره بعد ذلك حتى يتناقص السكان بدرجة مخيفة (1).

على أن إنحباس النيل و نضوب موارد الدولة، إنما كان وثيق الصلة بما كان ينزل بها من الضعف السياسي، و تحلل السلطة المركزية، و تدهور الأمن و اضطراب النظام، فيكون شيوع الفساد و انتشار الجريمة مع القحط و الجوع، شرا مستطيرا، و شقاء متصلا، يحل بالناس فيترك في نفوسهم و عقولهم أثرا لا يمحي أو لا يكاد يمحي (2). و يقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة لانخفاض النيل في مصر قبل و بعد عصر يوسف الصديق عليه السلام، و ما ينتج عن ذلك من كوارث اقتصادية، و من أشهر الأمثلة ما حدث على أيام الثورة الاجتماعية الأولى (الأسرات 7- 10) يقول «نفرتي»: لقد جف نيل مصر حتى ليخوضه الناس بالقدم، و سوف يبحث الناس عن الماء لتجري عليه السفن فيجدوا أن الطريق قد صار شاطئا، و أن الشاطئ قد صار ماء (3)»، و من ثم فقد رأينا من نفس الفترة شريفا من الصعيد هو «عنخ تفي» حاكم «نخن» (البصيلية- مركز أدفو بمحافظة أسوان) يتحدث عن سني المجاعة فيقول إنه أمد خلالها مدنا أخرى، إلى جانب مدينته، بالهبات و القمح، و قد امتدت دائرة نشاطه حتى دندرة، في مقابل قنا عبر النهر، و بذا أنقذ الصعيد الجنوبي الذي كاد يموت جوعا، و كاد كل رجل فيه أن يغتال أطفاله (4)».

على أن المصريين قد اكتسبوا من ذلك حكمة التجربة و حسن التدبير،

ص: 71


1- جمال حمدان: شخصية مصر- القاهرة 1970 ص 241- 245.
2- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 56.
3- , EAL, namrE. A 113. p، 1927.
4- , shoarahP eht fo tpygE, renidraG. A 111. p، 1961.

إذ كانوا يدخرون غلة الأرض من أيام الري لأيام الجفاف، و من يسرهم لعسرهم، و من رخائهم لشدتهم، و كانت حكمة الملوك و الأمراء و حكام الأقاليم و حسن تدبيرهم خليقا أن يخفف عن الرعية بما كانوا يصنعون (1)، و من ثم فقد رأينا «خيتي» أمير أسيوط على أيام الإهناسيين يتحدث عن جهوده في القضاء على الأزمة الاقتصادية، بأن يقدم هدية لمدينته بأن حفر ترعة ليروي الفلاحون منها أرضهم و يسقوا زرعهم، ثم يقول: إنني غني بقمح الشمال حيث كانت الأرض في جفاف، و عند ما شحت أقوات البلاد أمددت المدينة بالحبوب و الخبز، و سمحت لكل مواطن بأن يأخذ نصيبه و نصيب زوجته، و قد أعطيت الأرملة و ولدها، و تجاوزت عن الضرائب التي فرضها أبي، و ملأت المراعي بالمواشي (2)»، و في مدينة الكاب، مقابل البصيلية عبر النهر، نرى أميرها «ببي» من الأسرة الثالثة عشرة، التي سبقت قليلا جدا عصر الصديق، و ربما عاصرت أوائله من أيام الهكسوس، يقول: «لقد كنت أكدس القمح الجيد المطلوب، و كنت يقظا في فصل البذر، فلما وقعت المجاعة على مدى الكثير من السنين أعطيت مدينتي القمح في كل مجاعة (3)».

على أن العلماء على كثرة ما قرءوا من أخبار المجاعات في مصر القديمة (4)، إنما يقفون خاصة موقف الفاحص من مجاعة تفشت أخبارها

ص: 72


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 57- 58.
2- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى- الإسكندرية 1966 ص 128- 129. و كذا F, eriac eL, enneicnA etpygE'l snad enimaF aL, reidnaV. J 101. p، 1936 و كذا, I, ERA, detsaerB. H. J 181. p، 1906.
3- P, tic, po reidnaV. T 114
4- تعرضت مصر لكثير من المجاعات في العصور الوسطى بسبب انخفاض النيل، كالتي حدثت على أيام الأمويين في عام 87 م، و على أيام الإخشيديين في أعوام 329 م، 338 م، 341 م، 343 م، 351 م، و لعل أشهر و أبشع المجاعات ما سجل البغدادي أثناء الشدة المستنصرية التي بدأت عام 457 م، و استمرت سبع سنين متصلة في أخريات أيام الفاطميين، و بلغ من قسوتها أن أكل الناس القطط و الكلاب، ثم الجيف، ثم أكلوا بعضهم بعضا، حتى انتهت بفناء رهيب للسكان، لا يملك قارئ البغدادي إلا أن يتصوره فناء كاملا أو شبه كامل (أنظر: جمال حمدان: المرجع السابق ص 244- 245، محمد حمدي المناوي: مصر في ظل الإسلام 1/ 171- 175، الكندي: كتاب الولاة و كتاب القضاة ص 59 (بيروت 1908)، السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة 2/ 154.

على الصخر من جزيرة سهيل جنوبي أسوان، و لئن كان الخبر منسوبا إلى أيام الملك «زوسر» من الأسرة الثالثة فالذي لا شك فيه إنما نقش بعده بعشرين قرنا من الزمان، نقشه كهان «خنوم» على عهد البطالة، ربما عام 187 ق. م.

على أيام بطليموس الخامس، و ربما بطليموس العاشر في أكبر الظن، أي في الفترة (107- 88 ق. م.)، و غير بعيد أن يكون النص صوتا من واقع بعيد، يرجع إلى أيام الصديق، و أن كهان خنوم حين كتبوه على عهد بطليموس الخامس أو العاشر، إنما كانوا تحت تأثير ما كان يومئذ من أصداء الماضي السحيق، و بما ورد في التوراة من أصداء السنين السبع الشداد التي جرت بها ألسنة من كان بمصر يومئذ من يهود، بخاصة و أن الترجمة السبعينية (1) للتوراة كانت قد تمت بمصر على أيام بطليموس الثاني (284- 246 ق. م)، و أن هناك جالية من يهود إنما كانت تقيم في اليفانتين (جزيرة أسوان) (2) و تطل من حيث الموقع على جزيرة سهيل حيث نقش نص المجاعة (3).

و على أية حال و أيا ما كانت ظروف هذه المجاعات التي كانت بسبب عدم فيضان النيل، فإن المجاعة التي كانت ستحدث على أيام الصديق في عهد

ص: 73


1- انظر: عن الترجمة السبعينية للتوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 107- 112).
2- أنظر: عن الجالية اليهودية في أسوان (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1076- 1102).
3- أنظر: عن نقش المجاعة على جزيرة سهيل: محمد بيومي مهران: مصر 1/ 363- 366، إسرائيل 1/ 227- 229، و كذا, oriaC, lehaS a enimaF aL ed eletS aL, teugraB. P 1953 و كذا, TENA, nosliW. A. J 32- 31. p، 1966 و كذا P, tic- po, reidnaV. J. 139- 132

الهكسوس، إنما كانت حقيقة لا ريب فيها، لو لا أن تداركت رحمة اللّه أرض الكنانة بحكمة يوسف عليه السلام، و من ثم فقد كانت أيام الصديق في مصر خيرا كلها، دينا و دنيا، بل إن وجود يوسف في مصر حين من الدهر، شرف ما بعده شرف، و أن دعوته كانت رحمة و هداية للمصريين، ما في ذلك من ريب، و أن الصديق عليه السلام قد أنقذ اللّه به مصر من مجاعة محققة، كادت تهلك الحرث و النسل، و أنه قد نشر في مصر دعوة التوحيد و بث العقيدة الصحيحة، ما في ذلك شبهة من شك، و هكذا حمل الصديق عليه السلام إلى مصر نور الإيمان و هداية التوحيد، و عدالة اللّه، و كل ما هو خير و طيب من نعم اللّه التي يجريها، سبحانه و تعالى، على أيدي المصطفين الأخيار من أنبيائه الكرام البررة.

[2] يوسف و إخوته في مصر:-

ما أن تمضي سنون الرخاء السبع، و تبدأ سنون الجفاف في مصر، حتى يجتاح أرض كنعان (فلسطين) جدب، فتفقر الأرض و تعم المجاعة، و تتجه كنعان صوب أرض الكنانة، الطيبة و الكريمة كذلك، لعلها تجد عندها المأوى، كالعهد بها دائما و أبدا، و ينطلق أبناء يعقوب إلى مصر مع المنطلقين، فقد أصابهم من الجوع ما أصاب غيرهم، و يتعرف الصديق على إخوته و هم له منكرون، و هذا من بديهيات الأمور، فإن يوسف قد عرفهم لقوة فهمه، و عدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم و هم رجال، و تشابه هيأتهم و زيّهم في الحالين، و لكن همته معقودة بهم و بمعرفة أحوالهم، لا سيما زمن القحط، و أما هم فلم يعرفوه لأن خيالهم لا يتصور قط أن هذا الوزير الخطير، هو ذاك الغلام العبراني الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد، فقد كبر بعد صغر، و اغتنى بعد فقر، و عاش بعد أن دفعوه إلى الموت، و عزّ بعد أن حقّروه و أهانوه، و وزّر بعد أن كان من رعاة

ص: 74

الأغنام، فكيف يعرفون وجودا من عدم، و من أجل هذا عرفهم، و هم له منكرون، و لم يخطر على بالهم أنه نجا من الجب الذي ألقوه فيه، و أنه عاش و كبر، و نزح من كنعان إلى مصر ليصير وزيرا خطيرا (1).

و من عجب أن التوراة، و من نحا نحوها من المفسرين، إنما تفاجئنا بصورة غريبة عن محاورة دارت بين يوسف و إخوته، تذهب فيها إلى أن الصديق إنما عرف إخوته منذ اللحظة الأولى للقائه بهم، و أنه قد اتهمهم بالتجسس ثم حبسهم أياما ثلاثة، ثم أطلق سبيلهم، و إن استبق أخاهم «شمعون» حيث قيّده على مرأى منهم، حتى يعودوا إليه بأخيهم «بنيامين» (2)، و هذا التهديد، إن حملناه محمل الجد، فلا بدّ من القول إنه إنما يدل على أن يوسف إنما كان يحمل حقدا دفينا على إخوته، و هو أمر لا نشك في براءة الصديق منه البراءة، كل البراءة، هذا و قد ذهبت جمهرة من المفسرين و المؤرخين المسلمين إلى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه عرفهم و قال كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ قالوا: جئنا للميرة، قال لعلكم عيون (جواسيس) علينا، قالوا: معاذ اللّه، قال فمن أين أنتم، قالوا من بلاد كنعان، و أبونا يعقوب نبيّ اللّه، قال: و له أولاد غيركم، قالوا نعم، كنا اثنى عشر، فذهب أصغرنا و هلك في البرية، و كان أحبنا إليه، و بقي شقيقه فاحتبسه ليتسلى به عنه، و جئنا نحن العشرة، فأمر بإنزالهم و إكرامهم (3).

و أما القرآن الكريم فقد ذكر أن يوسف أكرم وفادتهم، ورد إليهم ما

ص: 75


1- تفسير أبي السعود 4/ 288، محمود زهران: قصص من القرآن ص 87.
2- تكوين 42/ 7- 24.
3- أنظر: تفسير النسفي 2/ 288، تفسير الجلالين 2/ 249، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 255، صفوة التفاسير 2/ 58، تاريخ الطبري 1/ 348، الكامل لابن الأثير 1/ 84، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 211.

دفعوه من ثمن دون أن يشعرهم (1)، و جاء أن يغريهم ذلك بإحضار شقيقه بنيامين، و هددهم بلطف إن لم يأتوا به فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ، و لم يرد في الذكر الحكيم مما ورد في التوراة من إساءته لإخوته، إذ أن ذلك لا يتفق و الصورة التي رسمها القرآن الكريم و أبرز معالمها لشخصية يوسف، و ما اتسمت به من حلم و إخلاص و بر، و هو الذي علمه ربه و أحسن هدايته، و طهر قلبه من الحسد، قال تعالى منوها بشأنه: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (2).

و دارت مفاوضات بين يعقوب عليه السلام و أبنائه انتهت بقبوله إرسال بنيامين معهم، على أن يؤتره موثقا من اللّه أن يردوه عليه، إلا أن يحاط بهم (3)، فلما آتوه موثقهم جعل النبي الكريم يوصيهم بما خطر له، وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4).

و تضرب الروايات و التفاسير في هذا و تبدي و تعيد بلا ضرورة، و لو كان السياق القرآني يحب أن يكشف عن السبب لقال، و لكنه قال فقط «إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، فينبغي أن يقف المفسرون عند ما أراده السياق احتفاظا بالجو الذي أراده، و الجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم، و يرى

ص: 76


1- جاء في تفسير الظلال (4/ 2016) أن يوسف لم يعطهم قمحا، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم، فلما عادوا قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، و فتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم، و كان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم، و كان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه.
2- أنظر: سورة يوسف: آية 58- 63.
3- سورة يوسف: آية 63- 66.
4- سورة يوسف: آية 67- 68.

في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشي ء، مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من اللّه شي ء، فالحكم كله إليه، و الاعتماد كله عليه، إنما هو خاطر شعر به، و حاجة في نفسه قضاها بالوصية، و هو على علم بأن إرادة اللّه نافذة، فقد علمه اللّه هذا فتعلم بنور النبوة أنه لا ينفع حذر من قدر، و لكن أكثر الناس لا يعلمون، ثم ليكن هذا الشي ء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة، و قد قال سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إن العين حق، و قال صلى اللّه عليه و سلم العين حق تدخل الرجل القبر، و الجمل القدر»، و كان صلى اللّه عليه و سلم يعوّذ الحسن و الحسين فيقول: «أعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل هامة و من كل عين لامة»، و في رواية «أعوذ بكلمات اللّه التامة من كل شيطان و هامة، و من كل عين لامة»، و كان صلى اللّه عليه و سلم يقول: كان أبوكما (يعني إبراهيم) يعوّذ بهما إسماعيل و إسحاق» (رواه البخاري)، أو كان يعقوب يخشى على أولاده غيرة الملك من كثرتهم و فتوتهم أو هو تتبع قطاع الطرق لهم، أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع (1).

و على أية حال، فما أن دخلوا على يوسف و رأى أخاه، حتى سجد شكرا للّه على أن ساق إليه أخاه و وجده على قيد الحياة، في يد أعداءه، و هم الذين من قبل طاردوا أخاه، و ثارت شجون يوسف لما رآه، و تحركت نفسه لسابق ما عاناه، فمال على أخيه بنيامين و قال: إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون، و سأدبر أمرا و هم لا يشعرون، و ستبقى و هم راحلون، فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ، قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ، قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي

ص: 77


1- في ظلال القرآن 4/ 2018، صفوة التفاسير 2/ 59، تفسير النسفي 2/ 230، تفسير أبي السعود 4/ 292، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 256.

الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (1)، قال البيضاوي استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من فرط أمانتهم، كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم، و ككمّ أفواه الدواب لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد (2)، و هنا سألوهم: فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ، قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (3).

و هنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه اللّه يوسف، و طبقا الرواية ابن كثير، فقد كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه، أو كما يقول صاحب الظلال: فقد كان المتبع في دين يعقوب أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق، و تقول التوراة: الذي يوجد معه من عبيدك يموت، و نحن أيضا نكون عبيدا لسيدي، فقال نعم الآن بحسب كلامكم هذا يكون الذي يوجد معه يكون لي عبدا، و أما أنتم فتكونون أبرياء»، و لما كان إخوة يوسف موقنين بالبراءة فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق، ذلك ليتم تدبير اللّه ليوسف و أخيه، ذلك لأنه لو حكم فيهم بشريعة ملك مصر ما تمكن من أخذ أخيه، إنما كان يعاقب السارق على سرقته، دون أن يستولي على أخيه، كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم، و هذا هو تدبير اللّه الذي ألهم يوسف أسبابه، و هو كيد اللّه له، و الكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء و إن كان الشر قد غلب عليه (4).

و بدأ التفتيش، و أرشدت الصديق حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل

ص: 78


1- سورة يوسف: آية 70- 73.
2- تفسير البيضاوي 2/ 267.
3- سورة يوسف: آية 74- 75.
4- تفسير الظلال 4/ 2019- 2020، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 257، تفسير النسفي 2/ 232 تكوين 44/ 9- 10.

رحل أخيه، كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا و لا ينظر وعاء إلا أستغفر اللّه مما قذفهم به، حتى بقي أخوه، و هو أصغرهم، فقال: ما أظن هذا أخذ شيئا، فقالوا و اللّه لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك و أنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه، فلما أخرجها منه نكس الأخوة رءوسهم من الحياء و أقبلوا عليه يلومونه و يقولون له: فضحتنا و سوّدت وجوهنا يا ابن راحيل. و في رواية لابن الأثير قالوا: يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء، فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء، و زاد الطبري: ذهبت بأخي فأهلكتموه في البرية، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، فقالوا: لا تذكرا الدراهم فتؤخذ بها. ثم صاح الأخوة، و قد حرك الحرج الذي يلاقونه الآن كوامن حقدهم على بنيامين، و على يوسف قبله، فإذا هم ينتصلون من نقيصة السرقة، و ينفونها عنهم و يلقونها على أبناء هذا الفرع من أبناء يعقوب (أبناء راحيل) قالوا: «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل»، و تنطلق الروايات و التفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلانية و حكايات و أساطير، فمن قائل إنه كان سرق صنما لجده أبي أمه فكسره فعيروه بذلك، و من قائل كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عرق (و هو العظم أكل لحمه) فخبأه فعيروه بذلك، إلى غير ذلك من روايات لا سند لها، و كأن أخوة يوسف لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف، و كأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم، و تبرءوا من يوسف و أخيه السارق، و إرواء لحقدهم القديم على يوسف و أخيه، و على أية حال، فلقد أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم (1).

ص: 79


1- تفسير النسفي 2/ 232، تفسير الظلال 4/ 2022، صفوة التفاسير 2/ 62، تاريخ الطبري 1/ 354- 355، الكامل لابن الأثير 1/ 85، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 258، البداية و النهاية 1/ 213.

ثم سرعان ما عاد أخوة يوسف إلى الموقف الحرج الذي وقعوا فيه، و إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم، فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى، الشيخ الكبير، و يعرضون أن يأخذ بدله واحدا منهم، إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه، و يستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه و صلاحه و بره لعله يلين «قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين»، و لكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا، و كان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم و لأبيه ليكون وقعها أعمق و أشد أثرا في النفوس «قال معاذ اللّه أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون»، و لم يقل معاذ اللّه أن نأخذ بريئا بجريرة سارق، لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق، فعبر أدق تعبير يحيكه السياق هنا باللغة العربية بدقة، قال صاحب تفسير روح المعاني: و التعبير بقوله «من وجدنا متاعنا عنده» بدل «من سرق» لتحقيق الحق و الاحتزار عن الكذب (1).

و هكذا وقع القوم في ضيق، و انحدروا في مأزق، و ابتعدوا عن الناس، و تناجوا في أمرهم، «قال كبيرهم أ لم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من اللّه و من قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم اللّه لي و هو خير الحاكمين، ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق و ما شهدنا إلا ما علمنا و ما كنا للغيب حافظين»، و إن كان في شك من أمركم فليسأل القرية (2) التي كنا فيها، أو ليسأل القافلة التي كنا فيها فهم

ص: 80


1- في ظلال القرآن 4/ 2022، تفسير روح المعاني 13/ 34.
2- القرية هنا ليست اسما لعاصمة مصر، حتى و إن رأى البعض أن اسم القرية إنما يعني المدينة الكبيرة لأن عاصمة مصر على أيام الهكسوس (أفاريس) و هو عصر يوسف، لم تكن عاصمة لمصر كلها، و إنما للجزء الذي كان يحكمه الهكسوس حتى مدينة القوصية (شمالي أسيوط بحوالي 15 كيلا) فحسب، و لأن اللّه وصف مكة المكرمة عند ظهور الإسلام بأنها أم القرى (الأنعام 92) ثم يصف عاصمة مصر كلها بأنها قرية، و من ثم فالرأي عندي أنها ربما كانت القرية أو المدينة التي اختيرت لتوزيع الغلال خارج العاصمة أو قريبا منها.

لم يكونوا وحدهم فقد كانت القوافل ترد مصر بكثرة كاثرة لتمتار الغلة من أرض الكنانة في السنين العجاف، غير أن يعقوب ما كان يبحث عن أعذار، و من ثم فقد انصرف إلى ربه يدعوه و يضرع إليه و يقول: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل عسى اللّه أن يأتيني بهم جميعا، إنه هو العليم الحكيم»، و تولى عنهم يبكي ولدا بعد ولد، و الجرح الأول أعمق، و الجرح على الجرح أنكى و أشد، «و قال يا أسفا على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم»، و يبلغ الحقد بقلوب بنيه لا يرحموا ما به، و أن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف و حزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم، فلا يسرون عنه و لا يعزونه، و لا يعللونه بالرجاء، بل يريدون أن يطمسوا في قلبه الشعاع الأخير، «قالوا تاللّه تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين»، و يرد عليهم بأن يتركوه لربه، فهو لا يشكو لأحد من خلقه، و هو على صلة بربه غير صلتهم، و يعلم من حقيقته ما لا يعلمون، ثم يوجههم إلى تلمس يوسف و أخيه، و ألا ييأسوا من رحمة اللّه في العثور عليهما، فإن رحمته واسعة و فرجه دائما منظور (1).

و جهز القوم جهازهم و حملوا متاعهم و بضاعتهم، و دخلوا مصر، للمرة الثالثة، و قد هدّهم التعب وكدهم العيش، و ضاقت بهم السبل، و كاد أن يقضي عليهم القحط القاتل، فلقد أضرت بهم المجاعة، و نفدت منهم النقود، و جاءوا ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد، يدخلون و في حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل، و شكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام، و دخلوا على يوسف فقالوا: يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضرّ و جئنا ببضاعة مزجاة من صوف و دراهم زيوف أو رديئة، قال ابن عباس، فيما يروي الرازي، كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام،

ص: 81


1- في ظلال القرآن 4/ 2025- 2026.

ثم سألوه «فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن اللّه يجزي المتصدقين»، و كان الصديق عليه السلام دقيق الحس، رقيق القلب، لطيف الوجدان، و إلى هذا الحد لا يطيق أن يرى على إخوته الذل و التذلل، و المهانة و الاستكانة، و طلب الصدقة و المعونة، و من ثم فقد أعلمهم بحقيقة أمره و عفا عنهم، و قال لهم «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، و أتوني بأهلكم أجمعين»، و أما كيف عرف الصديق أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل، فذلك مما علمه اللّه، و المفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة، و ما لها لا تكون خارقة، و يوسف نبيّ رسول، و يعقوب نبيّ رسول (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن صياغة التوراة لدعوة يوسف أباه و أهله أن يأتوا إليه في مصر، إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر، تقول التوراة «خذوا أباكم و بيوتكم (خيامكم) و تعالوا إلي فأعطيكم خيرات أرض مصر و تأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم و نسائكم و احملوا أباكم و تعالوا، و لا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم (2)»، كما أن التوراة لم تهمل كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين الجياع إلى مصر المضيافة، دائما و أبدا، إنما كانت للقوت، و لكنها تؤكد كذلك أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض الطيبة التي استضافتهم (3).

و على أية حال، فإن يعقوب عليه السلام، سرعان ما يصل إلى مصر، بعد أن ارتد بصيرا، و يصف القرآن الكريم لقاء يوسف بأبيه و إخوته في قول اللّه تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ

ص: 82


1- في ظلال القرآن 4/ 2026- 2027، تفسير الفخر الرازي 18/ 201.
2- تكوين 45/ 18- 20.
3- تكوين 46/ 1- 4.

شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (1).

و تذهب التوراة إلى أن يعقوب عليه السلام، إنما جاء و معه كل أفراد أسرته «ست و ستون نفسا»، فضلا عن نساء بني يعقوب، و أبناء يوسف اللذان ولدا في مصر نفسان، جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون (2).

[3] استقرار بني إسرائيل في أرض جوشن:-

تروي التوراة أن يوسف عليه السلام طلب من أبيه و إخوته أن يقولوا للملك إذا ما سألهم عن صناعتهم: عبيدك أهل مواشي منذ صبانا إلى الآن نحن و آباؤنا جميعا لكي تسكنوا في أرض جاسان، لأن كل راعي غنم رجس للمصريين (3)»، و هكذا يذهب إخوة يوسف إلى ملك مصر يسألونه السكنى

ص: 83


1- سورة يوسف: آية 99- 102، و انظر: تفسير الكشاف 2/ 504- 507، تفسير ابن كثير 4/ 334- 337، تفسير الطبري 13/ 118- 126، تفسير الفخر الرازي 17/ 210- 217، تفسير أبي السعود 4/ 293 و ما بعدها، تفسير القرطبي ص 3492- 3494، الدار المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 4/ 27- 40، محمد رشيد رضا: تفسير سورة يوسف ص 126- 130 (القاهرة 1936)، تفسير النسفي 4/ 235- 240، صفوة التفاسير 2/ 68- 69 (بيروت 1981).
2- تكوين 46/ 26- 27.
3- تكوين 46/ 33- 34.

في أرض جاسان، و يجيب الملك سؤلهم (1)، و لعل في اختيار هذا المكان، إلى جانب جودته، روعى فيه قربه من حدود مصر الشرقية، و سيناء المطلة على أرض كنعان، حيث ورد يعقوب و بنوه، كي يقيموا ما أحبوا الإقامة، و يرحلوا متى شاءوا الرحيل (2).

و هكذا استقر المطاف ببني يعقوب إلى الاستقرار في مصر، حيث نزلوا أرض جوشن (جسم أو جسام، كما قرئ اسمها في النصوص المصرية (3))، أو أرض «جاسان»، كما وردت في توراة يهود، و يكون استقرارهم هذا في تلك البقعة من وادي طميلات شرقي الدلتا، فاتحة لقصة تاريخ أكبر تشعبت أحداثه، و تقلبت فصوله.

على أن هناك خطأ تاريخيا في رواية التوراة، حيث تقول في سفر التكوين أن يوسف قد أسكن أباه و أخوته في «أرض رعمسيس»، ذلك لأن كلمة «رعمسيس» لا تستعمل إلا منذ الأسرة التاسعة عشرة (1308- 1194 ق م)، و ليس منذ عهد الهكسوس (حوالي 1725- 1575 ق. م)، و هو العصر الذي يفترض دخول بني يعقوب فيه مصر، كما سوف نفصل ذلك فيما بعد.

و على أي حال، فلقد قام جدل طويل حول موقع «أرض جوشن» أو جاسان، و ربما كان ذلك لأن «أرض جوشو» لم تذكر في أي نقش مصري (4)، و إنما بدلا عنها «أرض جسم أو جاسم» (5)، هذا فضلا عن أن

ص: 84


1- تكوين 48/ 5- 6.
2- كمال عون: اليهود من كتابهم المقدس- القاهرة 1970 ص 85.
3- ., elbiB al te tpygE'L, tetnoM. P. 57. p، 1959.
4- جيمس بيكي: الآثار المصرية في وادي النيل- الجزء الأول، ترجمة لبيب حبشي و شفيق فريد، مراجعة محمد جمال الدين مختار، القاهرة 1963 ص 49.
5- .. p, elbiB al te etpygE'L, tetnom. P 57.

التوراة نفسها، إنما هي مضطربة في تحديدها بالنسبة إلى مصر، فهي في بعض نصوص التوراة، إقليم يقع على مقربة من مصر، ملائم لرعي الماشية، و لكنه غير مسكون بالمصريين (1)، و هي في نصوص أخرى- توراتية كذلك (2)- ليست إقليما مجاورا لمصر، و لكنه جزء من مصر نفسها (3)، و ليت الأمر اقتصر على ذلك بل إن التوراة إنما تطلق نفس هذا الإسم (أرض جوشن)، على منطقة في فلسطين الجنوبية، تقع فيما بين غزة و جبعون (4)- و تقع في مكانها الآن قرية الجيب، على مبعدة خمسة أميال إلى الشمال الغربي من أورشليم (5)- أحيانا، و على واحدة من مجموعة مدن في جبال يهوذا أحيانا أخرى (6).

و قد أدى ذلك كله إلى وجود أكثر من رأي بشأن موقع «أرض جوشن» فهناك من يرى مطابقتها بالمدينة و الإقليم المعروف لدى المصريين باسم «بر- سوبد» (صفط الحنة الحالية) (7)، و هناك فريق ثان يذهب إلى أنها إنما تقع في وادي طميلات، و تمتد من بحيرة التمساح حتى النيل (8)، على أن هناك من يرى أن وادي طميلات إنما يمتد من فرع النيل الشرقي حتى بحيرة التمساح الحالية، التي تقع في وسط قناة السويس، و يمثل اتساعا من أراض زراعية على الحد الشرقي لدلتا النيل المصرية، مجاورا لصحراء سيناء

ص: 85


1- تكوين 46: 34، خروج 9: 16.
2- تكوين 47: 6، خروج 3: 22821، 11: 2.
3- , AEJ, renidraG A 262. p، 1918، 5 و كذا, AEJ ellivan. E. 10 31. p، 1924. 10
4- قاموس المتاب المقدس 1/ 246.
5- يشوع 10: 41، 11: 16.
6- يشوع 15: 51، قاموس الكتاب المقدس 1/ 277 (بيروت 1964).
7- جيمس بيكي: المرجع السابق ص 49.
8- . p, tic. po, regnu. FM 420.

مباشرة، و يبدو أن وادي طميلات- و ربما جزءا منه- كان له اسم في العصور القديمة يظهر في التوراة على شكل «أرض جوشن» أو «جاسان»، و طبقا لما جاء في سفر الخروج (1) فإنه كان في أرض جوشن التي استقر فيها الإسرائليون إبان هبوطهم مصر (2).

على أن هناك فريقا ثالثا، إنما يذهب إلى أن أرض جوشن إنما تقع في شبه جزيرة سيناء، و تمتد فيما بين تانيس و منطقة العريش، فضلا عن وادي طميلات الذي ينحدر من الشرق إلى الغرب فيما بين الزقازيق و الإسماعيلية (3)، و إن كان هناك فريق رابع يتردد في ذلك، على أساس أن هناك «جوشن» أخرى، قد ذكرت مع «قادش» و غزة في جنوب فلسطين، و تقع في تخوم نهر مصر (وادي العريش)، و بما أن هاجر أم إسماعيل دعيت في التوراة «مصرية»، فمن المستطاع إذن القول باتساع اسم مصر، و الأمر كذلك بالنسبة إلى «برية أرض مصر» حيث وضع «حزقيال» (4)- على ما يبدو- هؤلاء الإسرائليين الرحل (5).

و هناك فريق خامس، يذهب إلى أن أرض جوش إنما هي وادي طميلات- و الذي يرى أنه يمتد شرقا و غربا من الزقازيق حتى الإسماعيلية- غير أن هذا التوحيد غير مؤكد (6)، ذلك لأن الدكتور «سير ألن جاردنر» (1879- 1962 م) يرى أن الكلمة المصرية التي قرأها «هينرش بروجش» (1827- 1894 م) و «إدوارد نافيل» (1875- 1914 م)، على أنها

ص: 86


1- خروج 8: 18. 9: 26.
2- , nodnoL, learsI fo yrotsiH ehT. htoN. M 113. p، 1965.
3- حسن محمود: حضارة مصر و الشرق القديم- العبرانيون ص 351.
4- حزقيال 20: 26.
5- , egdirbmaC, III, HAC, skooc. A. S 359. p، 1965.
6- nodnoL yrutneC thgiE eht fo elddim eht ot sgninnigeB sti mroF ,learsI ,sdoL .A 178. p، 1962.

«جوشن» كانت اسما لسيناء (1)، و هناك تقاليد يهودية عديدة وضعت مكان استيطان العبرانيين بعيدا إلى الشمال، ناحية تانيس و بلوزيوم (2).

و مع ذلك، فهناك احتمال أن يكون وادي طميلات، على الأقل جزءا من «أرض جوشن»، ذلك لأن مدينة «بيشوم» (3)، كانت بالتأكيد في هذا الوادي و الأمر كذلك بالنسبة إلى مدينة «هيرونبوليس» و التي وحدتها الترجمة السبعينية التي تمت بمصر في عهد بطليموس الثاني (284- 246 ق. م)، مرتين بجوشن (4)، هذا فضلا عن أن وادي طميلات إقليم بدوي تخترقه ترعة تتغذى من مياه النيل، و في الوقت الحاضر- و طبقا للتطور الزراعي- تستطيع إعالة اثنى عشر ألفا من السكان المزارعين، و لكن كان يسكنها منذ قرن مضى أربعة آلاف من البدو، و هكذا كانت طبيعة هذا الوادي وقت أن سمح موظف الحدود على أيام مرنبتاح (1224- 1214 ق. م) لقبائل البدو الشاسو من أدوم بالدخول (5).

و الرأي عندي، أن «أرض جوشن» هذه، إنما تقع في وادي طميلات و الذي يمتد من فرع النيل الشرقي (البيلوزي) متجها نحو الشرق، حتى بحيرة التمساح- ذلك لأننا لا نستطيع أن نجعل «أرض جوشن» هذه في جنوب فلسطين، أو في المنطقة الممتدة من وادي العريش حتى غزة، إذ أن ذلك إنما يتعارض تعارضا تاما مع القول بأن الإسرائيليين دخلوا مصر و عاشوا فيها

ص: 87


1- .,AEJ nehsoG fo emaN eht fo tnelaviuqE naitpygE desoppuS ehT ,renidraG .H .A 23- 18. p، 1918، 5.
2- مزمور 78: 12.
3- خروج 1: 11.
4- تكوين 45: 28- 29.
5- .. p, tic. po, sdoL. A 174- 172.

هذا فضلا عن أن إطلاق اسم «جوشن» على منطقة بجنوب فلسطين، ربما كان إحياء لذكرى مصر التي ترسبت في نفوس القوم، دون أن يجدوا لها فكاكا، و قد ظهر ذلك الإسم على مدينة في جبال يهوذا كذلك، ربما لأن هذه المنطقة إنما كانت خصبة بدرجة تشبه في ذلك منطقة جوشن في مصر، كما أن الاضطهاد الذي تحدثت عنه التوراة قد ارتبط ببناء مدينتي رعمسيس و فيثوم، و كانت الأولى في موقع على الأقل ليس ببعيد عن وادي طميلات، أما الثانية «فيثوم» (بيثوم بر- أتوم)، فهي بالتأكيد في هذا الوادي، كما أن خروج بني إسرائيل إنما تمّ من هذه المنطقة (من رعمسيس إلى سكوت ... الخ)، و ليس هناك من دليل- أو حتى مجرد إشارة- على أن الإسرائيليين قد نقلوا من منطقة استقرارهم الأولى على أيام يوسف الصديق، و حتى الخروج على أيام موسى الكليم، عليهما السلام.

و أيا ما كان الأمر، فقد دخل الإسرائيليون مصر، و استقروا في «أرض جوشن»، و إن كان بعض الباحثين إنما يحاول أن يتشكك في ذلك كله، و أن ينفي دخول العبرانيين مصر من أساس، معتمدين في ذلك على عدة أسباب، منها (أولا) أنه لا توجد وثائق غير إسرائيلية تؤكد صحة التقاليد العبرية الخاصة بإقامة الإسرائيليين في مصر و خروجهم منها، و إن كان بعض المفسرين قد بحثوا جادين لإعطاء النصوص و التفسيرات المطلوبة.

و منها (ثانيا) أن النقوش المصرية المختلفة تسجل دخول الأسيويين مصر، و لكن ليس واحدا منها يشير إلى دخول بني إسرائيل أرض الفراعين، و إن كانت قد أشارت إلى العمال الأسيويين الذين كانوا يفدون إلى مصر، و يستخدمهم الفراعين في أعمال البناء، و كان يطلق عليهم «عبر» (R. P,)،

و تقرأ «عابيرو» (uirupA)، و قد استدل عليهم كثير من علماء المصريات، مثل «شاباس»، و علماء العبرية- من أمثال هومل و سكنر و درايفر و كريجلز- الذين وحوهم بالعبريين، إلا أن ذلك لم تثبت صحته بسبب الصعوبات

ص: 88

اللغوية، و أما عن عن وجود «العابيرو» في مصر، فأمر تؤيده نقوش مصرية، ترجع إلى أيام «رعمسيس الرابع» (1151- 1145 ق. م)- من الأسرة العشرين- و هي ترجع إلى فترة متأخرة عن أي تاريخ مقترح لخروج بني إسرائيل من مصر، و من هنا يمكننا- اعتمادا على سكوت المصادر المصرية- أن نستنتج أن دخول الإسرائيليين مصر، إنما هو خيال بحت، لا يعتمد على أي أساس تاريخي.

و منها (ثالثا) أن كلمة «مصرايم» التي وردت في التوراة لا تدل على مصر، و إنما على الإقليم الواقع شمال شبه الجزيرة العربية و الذي يمتد غربا حتى حدود مصر الشرقية، و لهذا فإن ما يقال عن إقامة العبريين في مصر، معناه إقامتهم في جنوب فلسطين، أو في شبه جزيرة سيناء، ذلك أن الخروج- طبقا لنظرية العالم اليهودي هوجو فنكلر- لم يحدث من مصر، إذ أن «فنكلر» يعتقد أن اسم «مصرايم» لم يكن مقصورا على الإشارة إلى مصر، و لكنه كان كذلك يشمل الإقليم الذي سماه الجغرافيون البابليون «مصر» (أو موصري)، و الذي يقع جنوب البحر الميت شمال شبه جزيرة العرب، و يمتد غربا حتى حدود مصر الشرقية و يضم جبل سعير و مدينة البتراء و أراضي مدين و أدوم.

و يعتقد «فنكلر» أن التقاليد الأصلية عند ما تحدثت عن إقامة الآباء- و بخاصة موسى- في «مصرايم»، فقد كانت تشير إلى ذلك الزمن، حيث عاش أسلاف العبرانيين في صحراء جنوب فلسطين، ثم بدأ سكان كنعان يستخدمون اصطلاح «مصرايم» على المراعي الجنوبية، و كذا على مصر نفسها، ذلك البلد الذي يقع بالنسبة إليهم فيما وراء الصحراء، و لعل مما يفسر افتراضنا هذا، أن الوادي القريب من غزة سمي «نهر مصرايم»، بالرغم من أنه كان على مسيرة ثلاثة أيام من الحدود المصرية، و من هنا فمن الممكن أن يشير اسم «مصرايم» في بعض النصوص و التقاليد العبرية إلى الصحراء

ص: 89

المصرية، و ليس إلى اسم مصر بالذات (1).

غير أن هناك كثيرا من الصعاب التي تقف عقبة كئود في سبيل قبولنا لوجهة النظر هذه، منها (أولا) أن التقاليد الإسرائيلية لا تتحدث عن مجرد الإقامة المؤقتة في «مصرايم»، و لكنها تتحدث كذلك عن استبعاد الآباء الأولين فيها، و ليس من المقبول أن بتحدث العبرانيون عن استعبادهم في مصر بهذه الصورة، لمجرد الثناء على قوة الرب التي يعزون إليها خلاصهم (2).

و منها (ثانيا) أن مصر، و إن لم تقدم دليلا مباشرا على إقامة العبريين فيها، فإنها قدمت ما يجعل الإقامة و الخروج منها أمرا مقبولا تماما، فهناك صلات عديدة بين الحياة في مصر، كما نعرفها من الآثار، و تفصيلات الرواية الإسرائيلية عن هذه النقطة (3)، ذلك لأن التقارير الخاصة عن أقدم صورة للتقاليد الإسرائيلية (في المصدر إليهوي) بشأن أسلوب الحياة في «جوشن» و مدن المخازن (رعمسيس و بيثوم)، تتفق مع الحقائق التي قدمتها الحفريات عنها (4)، هذا فضلا عن أن ما جاء بالتوراة من وصف لجو مصر و أحوالها، إنما يدل على إقامة فعلية في مصر، فقد وصفوا ماء النيل وقت الفيضان، و أشاروا إلى ما يعقب هبوط مستوى النيل بعد الفيضان من انتشار الأوبئة

ص: 90


1- حسن محمود: المرجع السابق 350، هز جز ويلز: معالم تاريخ الإنسانية 2/ 286 (ترجمة عبد العزيز جاويد)، محمد العزبي: مجلة الهلال يونية 1971 ص 65 و أنظر: مادة aidipolcycnE hsiweJ ehT في sudOXE و كذا:, nilreB, I, GVM, niaM, ahhuleM, irsuM. relkcniW. H 1898.
2- . p, tic- po. sdoL. A 169
3- F. ygolocahcrA lacilbiB, thgirW. E. G 53. p. 1956. و كذا. p. tic- po nageniF. J 134.
4- , P. tic- po sdoL. A 169.

و الأمراض (1)، فطبقا للمؤرخ العبراني أن سبب ذلك هو أن ماء النيل يصبح «محمرا» و غير صحي في فصول معينة من السنة، و أن أسراب الضفادع إنما تتكاثر بعد الفيضان، كما أن البعوض يتكاثر بعد انحسار المياه، و هكذا اعتقد الإسرائيليون أن مصر قد أصبحت لهذا السبب بلد الأمراض الوبائية و المستوطنة (2).

و منها (ثالثا) أن بعض أسماء الأعلام الإسرائيلية من أصل مصري، فمثلا «فينحاس» و معناه «زنجي»، و كذا موسى و هو اسم مصري (3)- كما سوف نشير إلى ذلك بالتفصيل فيما بعد-، و منها (رابعا) أن هناك فقرات كاملة من أدب الحكمة في مصر، قد ظهرت في كتابات الإسرائيليين، كما في المزامير و كتب الحكمة (4) و أعمال أنبياء بني إسرائيل (5)، و كلها تظهر صلة الأدب العبري بالأدب المصري (6).

ص: 91


1- حسن محمود: المرجع السابق ص 351.
2- , p. tic- po. sdoL. A 170.
3- . P, tic- op, nageniF. J 134.
4- قارن بين الرموز 104 و نشيد أخناتون، و بين المزامير بصفة عامة و قصائد المديح المصري في الإله آمون رع، ثم قارن بين سفر الأمثال في التوراة و تعاليم الحكيم المصري أمنمؤوبي.
5- F, LSJA, htimS. M. J 172. p، 49. و كذا, RBJ, htimS. S. W. 15- 12. p، 19 و كذا. P, tic- po, nagniF. J 134.
6- قدم لنا «أوسترلي» أهم خصائص الأدب المصري التي تشبه خصائص الأدب العبري، و التي منها (أولا) أن القصائد مقسمة في كل منهما إلى فقرات و أبيات، و منها (ثانيا) تكرار استخدام التماثل، فتأخذ الفكرة في كل منهما تعبيرا مزدوجا، حتى أن السطر يتكون فيها من جملتين قصيرتين، توجد فيهما نفس الفكرة بصيغة مختلفة عن الأخرى، و منها (ثالثا) أن السطور الشعرية في كل من الأدبين تحتوي على عدد محدد و منتظم من الأنغام، و منها (رابعا) تكرار التلاعب بالألفاظ، و ورود ألفاظ كثيرة متشابهة التطور جنبا إلى جنب و منها (خامسا) الاستعمال الغريب الذي يظهر أحيانا في أخذ كلمة وردت في سطر، ثم تكرر في السطر التالي، كما كانت الاستعارة كثيرة الاستعمال أيضا، و من كل هذا- و لوجود هذه الصور في الأدب العبري- استنتج العلماء أن اليهود قد اعتمدوا في التركيب النهائي لأدبهم الشعري على النماذج المصرية بدرجة ما، و بخاصة في مجالات رئيسية ثلاث، هي: الشعر الديني، و كتابات الحكمة، و الشعر غير الديني (أنظر:, drofXO, tpygE, tneicnA eht fo erutaretiL eht, namrE. A 242- 241. p، 1947.

و منها (خامسا) أن هناك نصوصا صريحة في التوراة تتحدث عن دخول الإسرائيليين مصر، بل و قد ذكر كذلك أسماء الذين دخلوا منهم أرض الكنانة (1)، فضلا عما جاء في القرآن الكريم بهذا الشأن (2).

و في الواقع- و كما أشرنا آنفا- أن التوراة ليست وحدها من بين الكتب المقدسة التي تحدثت عن دخول بني إسرائيل مصر، و إنما ذلك أمر تجمع عليه الكتب المقدسة الثلاثة، فالإنجيل يقول في الرسالة إلى العبرانيين:

«بالإيمان يوسف عند موته ذكر خروج بني إسرائيل، و أوصى من جهة عظامه، بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعي ابن ابنة فرعون، مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه (3).

و أما القرآن الكريم، فإنه يتحدث بصراحة عن إقامة يوسف في مصر، و عن قدوم يعقوب و بنيه إليه فيها، يقول سبحانه و تعالى: وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (4)، و يقول:

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ

ص: 92


1- تكوين 46: 1- 27.
2- سورة يوسف: آية 99.
3- الرسالة إلى العبرانيين 11: 22- 29.
4- سورة يوسف: آية 21.

الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (1).

ثم يتحدث كتاب اللّه الكريم بعد ذلك عن حياة بني إسرائيل في مصر، و عن نماذج العذاب الذي أنزله فرعون مصر و جنده ببني إسرائيل، من ذلك قوله تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (2)، و يقول:

وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (3)، و يقول: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (4).

و ليس هناك من ريب في أن إنكارنا لأمر تجمع عليه الكتب المقدسة لا يتفق و منتج البحث العلمي، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء- الأمر الذي لا يقره منطق أو عقل أو دين، فضلا عن العلم نفسه- هذا إلى أن جمهرة المؤرخين و أساتذة علم اللاهوت إنما يتحدثون عن قصة يوسف في مصر.

ص: 93


1- سورة يوسف: آية 99- 100.
2- سورة البقرة: آية 49، و أنظر: تفسير الكشاف 1/ 137- 138، تفسير الطبري 2/ 36- 39، تفسير النسفي 1/ 49، تفسير روح المعاني 1/ 252- 254، تفسير الطبرسي 1/ 231- 235، التفسير الكاشف 1/ 98- 100 (لمحمد جواد مغنية)، تفسير البحر المحيط 1/ 187- 188، تفسير المنار 1/ 308- 313، تفسير ابن كثير 1/ 128- 129 الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 68- 69، في ظلال القرآن 1/ 70- 72، تفسير الجواهر ص 1/ 59- 61.
3- سورة الأعراف: آية 141.
4- سورة إبراهيم: آية 6.

و يضيف «كيلر» إلى ذلك، أن قصة بيع الإسماعيليين للصديق عليه السلام إنما هي جد مقبولة، ذلك لأن القوم إنما كانوا يترددون على مصر لبيع التوابل و العطور التي كانت تستخدم في الخدمة الدينية، ذلك لأن هذه الأخشاب العجيبة ذات الرائحة الزكية إنما كانت تحرق في المعابد، و يستخدمها الأطباء في إبراء المرضى، و الكهان في تحنيط أجساد الموتى من النبلاء (1)، بل إن هناك ما يشير إلى أن هذه التجارة قد استمرت إلى زمن متأخر جدا بعد هذا الحادث، فهناك كتابة مدونة بخط المسند في الجيزة، ذهب «أدولف جرومان» إلى أنها إنما ترجع إلى عام (264- 263 ق. م) (2)- و ربما إلى ما بعد عام 261 ق. م، أو حتى إلى عام 159 ق. م، فيما يرى بعض الباحثين (3)- و تشير إلى وجود جالية معينة كانت تقيم في مصر، و تتجر في الطيب و البخور، ثم «فوطيفار» و هو اسم رئيس الشرطة المصري الذي اشترى يوسف الصديق، و هو اسم وطني تماما، فهو يعني في المصرية القديمة (با- دي- بارع) بمعنى «عطية الإله رع» (4).

و هكذا يبدو لنا بوضوح أن الروايات الإسرائيلية التي تتحدث عن إقامة القوم في مصر إنما هي روايات جد صحيحة، و أنه ليس من الغريب أن تستضيف أرض الكنانة على حدودها الشرقية بعضا من البدو و الرعاة، فذلك أمر عهدناه كثيرا طوال تاريخ مصر على أيام الفراعين، و إن كان يختلف في فترات ضعفها عنه في فترات قوتها.

و من النوع الأول ما حدث في أوائل عصر الثورة الاجتماعية الأولى، حين ضعفت البلاد من الإجهاد الداخلي الذي أصابها في أعقاب الدولة

ص: 94


1- . p, tic- po, relleK. W 103- 103
2- , nehcnuM, naibarA, nnamhorG. A 26. p، 1963
3- فؤاد حسنين: التاريخ العربي القديم ص 269، و كذا. ROSAB. 7. p، 1939، 73
4- , yrotsiH sA elbiB ehT, relleK. W 103. p، 1967

القديمة، فتركت الحدود مفتوحة دونما أية حماية، و من ثم فقد تدفق البدو الأسيويون إلى الدلتا و استقروا فيها (1).

و من النوع الثاني تلك القبيلة الآسيوية التي صورت على مقبرة «خنم حتب» ببني حسن، من عهد «سنوسرت الثاني» (1897- 1877 ق م)، وعدتها 37 شخصا، يتقدمهم رئيس الجماعة «أبشاي» (2)، و من هذا النوع كذلك ما عرف «بتقرير موظف الحدود»؛ و الذي يرجع إلى السنة الثامنة من عهد «مرنبتاح» (1224- 1214 ق م)، و قد جاء فيه: أنه سمح لقبائل البدو من أدوم بدخول الدلتا الشرقية، ليظلوا أحياء و لتظل ماشيتهم حيّة، و يشير هذا الموظف إلى أن هناك أياما يستطيع البدو فيها أن يدخلوا من استحكامات الحدود لمثل هذه الأغراض (3).

و بدهي أننا لا نستطيع القول أن واحدة من هذه الهجرات الأسيوية إنما هي هجرة العبرانيين إلى مصر، إلا أن تقرير موظف الحدود هذا يبدو منه أن تقاليد التوراة إنما تشير إلى نوع من الأحداث التي كانت تقع في أغلب الأحايين، كما يصور كذلك نوع الباعث الذي قاد الإسرائيليين إلى مصر (4).

و هكذا نستطيع أن نصور دخول الإسرائيليين مصر- فيما يرى أدولف لودز- بأن جماعة من البدو العبرانيين من الصعب أن نطلق عليهم اسم قبائل- و الذين كوّنوا فيما بعد بيت يوسف (أفرايم و منسي و بنيامين)، ثم لحقت بهم

ص: 95


1- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص 99، حركات التحرير في مصر القديمة ص 73- 88.
2- جيمس بيكي: الآثار المصرية في وادي النيل- الجزء الثاني ص 72- 73.
3- TENA، 259. p، 1966. و كذا. p, tic- po, sdoL. A 172- 171 و كذا. p, tic- po, nosliW. J 258 و كذا. 636 f. oN, III, tpygE fo sdroceR tneicnA, detsaerB. H. J
4- . P, tic- pO, htroN nitraM 113.

قبائل أخرى، و أجزاء من قبائل- قد سمح لهم بالاستقرار على حدود مصر في منطقة رعوية، تقع بين الدلتا و الصحراء الشرقية (العربية)، ذلك لأنهم كانوا قد اضطروا أن يتركوا أماكنهم المعتادة، بسبب مجاعة ألمت بهم نتيجة الجفاف، على رواية، و بسبب إخوتهم- أي البدو الآخرين- طبقا لرواية أخرى (قصة يوسف في التقاليد العبرية و غيرها (1)). و الأمر بهذه الصور مقبول نوعا ما رغم اختلافه في بعض الأمور مع رواية الكتاب المقدس.

و يبدو أن هذا الخلاف بين روايات التوراة و آراء المؤرخين لم يكن مقصورا على دخول الإسرائيليين مصر، و إنما امتد كذلك إلى الأسباط التي عاشت في مصر كذلك، و من ثم فإنه على الرغم من أن التوراة تروي في سفر التكوين أن يوسف قد استدعى أباه و إخوته جميعا للإقامة معه في أرض الكنانة، و أن يعقوب قد أتى إلى مصر، (و معه كل نسله، بنوه و بنو بنيه معه، و بنات بنيه و كل نسائه، جاء بهم معه إلى مصر) (2)، هذا فضلا عن أن التوراة إنما ذكرت أسماء بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر و عددهم. (3)

رغم هذا كله، فإن هناك فريقا كبيرا من المؤرخين يذهب إلى أن هناك جزءا كبيرا ممن أطلق عليهم اسم «الإسرائيليين» لم تطأ أقدامهم أرض النيل أبدا، أو على الأقل- فيما يرى البعض- لم يبقوا بها حتى الخروج المشهور على أيام موسى، عليه السلام، و هكذا رأينا «تيودور روبنسون» يذهب إلى أن شعب إسرائيل الذي يتحدث التاريخ عنه، إنما يشمل عشائر كثيرة لم تطأ أقدامها أرض مصر مطلقا، بل إن الإصحاح الثامن و الثلاثين من سفر التكوين قد يفهم منه أن يهوذا قد استقر في الجزء الجنوبي من كنعان، و أن

ص: 96


1- . 171. p, tic- po, sdoL. A
2- تكوين 45: 16- 28.
3- تكوين 46: 7- 27، أنظر: سورة يوسف: آية 93- 101.

قبيلة أشير كانت قد أقامت في ديارها التي استقرت فيها عند ولادة موسى (1)، و يكاد «فيليب حتى» يعتقد أن الإسرائيليين الذين دخلوا مصر، إنما هم قبيلة «راحيل» (أفرايم و منسي و بنيامين)، في زمن الهكسوس (2).

و يرى «ستانلي كوك» أن الذين هبطوا مصر لم يكونوا كل الإسرائيليين، و أن أولئك الذين بقوا في كنعان إنما كانت لهم تقاليد جد مختلفة عن تلك التي حدثت في الخروج (3)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى دائرة المعارف اليهودية، و يتجه «السير فلندرز بتري» نفس الإتجاه، مستندا في ذلك إلى وجود أسماء مثل «يعقوب إل» و «يوسف إل»، في قوائم انتصارات فرعون مصر العظيم «تحوتمس الثالث» (1490- 1436 ق. م)، ثم يفترض بعد ذلك أن هذه الأسماء، إنما هي أسماء أولئك الإسرائيليين الذين عادوا إلى كنعان مباشرة بعد انتهاء القحط الذي ألم بها (4).

و أما المؤرخ اليهودي «سيسل جوزيف روث»، فالرأي عنده أن بيت يوسف- متضمنا سبطي أفرايم و منسي- هم الذين كانوا في مصر، و من ثم فإنه يذهب إلى أن موسى نفسه إنما كان عبرانيا أو إسرائيليا، مع نوع من الانتساب المصري، و في كل الاحتمالات فإن الكليم إنما ينتمي إلى قبيلة أفرايم، أكثر من انتمائه إلى قبيلة لاوى، التي نسب إليها عن طريق التقاليد العبرية، ثم يرى بعد ذلك أن هناك موجات بدوية كثيرة دخلت فلسطين، و أن أكثرها أهمية تلك التي دعيت «بيت يوسف».

و من هنا، فالرأي عنده أن هناك بعضا من القبائل الإسرائيلية لم تكن قد

ص: 97


1- تيودور روبنسون: تاريخ العالم- إسرائيل في ضوء التاريخ، ترجمة عبد الحميد يونس ص 108.
2- فيلب حتى: المرجع السابق ص 193.
3- . p, tic- po. kooC. A. S 360.
4- , nodnoL, learsI dnatpygE, eirteP. M. W 34، p، 1925.

شاركت في العبودية المصرية أو في الخروج من مصر، و بخاصة قبيلة يهوذا، و التي كانت بطنا كنعانيا، أكثر منه جماعة أرامية مهاجرة، و قد دخلت هذه القبيلة في المجموعة الإسرائيلية و امتصت مظاهرها القومية في تاريخ متأخر نسبيا، و ربما كان ذلك في عصر الحروب و العناء الطويل الذي نجح آخر الأمر في إدخال العبرانيين إلى فلسطين (1).

و يرى «أدولف لودز» أن الجزء الأكبر من القبائل الإسرائيلية لم تهاجر إلى مصر، و إنما عاشوا حياة حل و ترحال حول الواحات الجنوبية (بئر سبع و قادش)، و أن بعض هذه القبائل هو الذي ذهب مهاجرا إلى مصر، و هناك استعبدهم «رعمسيس الثاني» (1290- 1224 ق. م)، أو أحد أسلافه، ثم هربوا بعد فترة و نصبوا خيامهم في واحة قادش، و يبدو أنهم اتحدوا هناك مع القبائل التي بقيت في هذا الإقليم، و كونوا معا أمة واحدة (2).

و أما «هوجو جرسمان» فالرأي عنده أن القبائل التي نزلت إلى مصر إنما كانت قبائل بيت يوسف، و ربما شمعون، و من المحتمل كذلك لاوى، و لكن الجزء الأساسي من الإسرائيليين قد بقي في فلسطين (3).

و يرى «مارتن نوث» أن الرحيل من مصر، و الخلاص الذي تم عن «طريق البحر»، لا يفترض عدد أكبر من قبائل كاملة، و إنما جماعة صغيرة كانت في موقف يضطرها بسبب صغر حجمها إلى الهروب، و أما اسم الجماعة فهي «جماعة راحيل» التي يقع الاختيار عليها غالبا بسهولة، و لكن الأسباب التي تدعو إلى ذلك لا تبدو سليمة تماما، و على أي حال، فإنه من الخطأ أن نسأل عن: أي القبائل الإسرائيلية هي التي كانت في مصر، لأن

ص: 98


1- , p, elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohS A, htoR. J. C 8- 7.
2- . p, tic- po, sdoL. A 189- 188.
3- . p, dibI 184.

هذه القبائل الإسرائيلية قد تكونت في وحدات معينة عند ما وصلت إلى فلسطين فحسب، و أنها قد أخذت أسماءها المعروفة هناك في فلسطين كذلك.

و على أي حال، فيمكن الظن بأن هؤلاء المهاجرين إلى مصر، إنما كانت لهم صلات بهذه البلاد في أوقات تغيير المرعى، و ربما رجع هؤلاء المهاجرون إلى نفس الإقليم مرة أخرى بعد الخروج من مصر، و إن كنا لا ندري كيف حدث هذا، و أيا ما كان الأمر، فإن العناصر التي أتت إلى مصر إنما قد وصلت إلى حدود أقاربها الذين كانوا يعيشون في مجاورات فلسطين، و ربما كانوا على صلة بهذه البطون إبان إقامتهم في مصر، و أنهم قد أخبروهم بقصة «معجزة الخلاص الإلهية» التي أثرت فيهم بعمق، لدرجة أنهم نقلوا القصة إلى كل مكان، ثم إلى أحفادهم من بعدهم، على أنها قد حدثت لهم جميعا، و ليس فقط إلى هؤلاء الذين كانوا في مصر و بهذه الطريقة كان الاعتراف بالعقيدة في اللّه، الذي أوضح عن نفسه بمهابة، و ذلك عن طريق تخليصهم من أيدي المصريين القوية، ثم أصبحت هذه القصة ملكية شائعة لكل بني إسرائيل، و واحدة من الأسس الخاصة بالعقيدة التي كانت حيوية في نظام اتحاد القبائل الاثني عشر، تحت حماية قانون الرب الإجباري (1).

[4] عصر يوسف عليه السلام:-
اشارة

يختلف العلماء في تحديد عصر يوسف عليه السلام، و بالتالي في وقت دخول بني إسرائيل مصر، و لعل السبب الأساسي في ذلك أن التوراة و القرآن العظيم، لم يحددا وقتا لدخول الصديق عليه السلام أرض الكنانة، بل إنهما حتى لم يذكرا اسم الملك الذي عاصر يوسف الصديق عليه السلام، هذا

ص: 99


1- . p, tic- po, htoN nitraM 119- 117.

فضلا عن أن مصر- و هي البلد التي كان يأمل العلماء أن يجدوا فيها وثائق معاصرة للأحداث التي جاءت في التوراة- لم تشر أبدا إلى هبوط الإسرائيليين إليها، بل ليست هناك أية إشارة في التاريخ المصري القديم إلى إسرائيل، فيما قبل عصر مرنبتاح (1224- 1214- ق. م)، و من هنا كان الخلاف بين العلماء على تحديد ذلك العصر الذي دخل الإسرائيليون فيه مصر، فهناك من رأى أنهم قد هبطوا مصر على أيام الهكسوس (حوالي 1725- 1575 ق. م)، و هناك من تأخر بهم إلى أيام أمنحتب الثاني (1436- 1413 ق. م).

[1] الرأي الأول:

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن عصر الهكسوس (1) إنما هو العصر الذي هبط بنو إسرائيل فيه مصر، معتمدين في ذلك على أدلة كثيرة، منها (أولا) أن التوراة تروي في سفر التكوين أن يوسف كان يركب في عربة الفرعون الثانية على أساس أنه «نائب الملك»، و في هذا دلالة على عصر الهكسوس، ذلك لأن «حكام البلاد الأجنبية» هؤلاء، إنما كانوا أول من أدخل عربة الحرب السريعة إلى مصر، و منها (ثانيا) أن الهكسوس هم أول من استعمل العربات الرسمية في المناسبات العامة في مصر، و كانت العربة الأولى من نصيب الملك، بينما كانت الثانية من نصيب وزيره الأول (2).

و منها (ثالثا) أن «ساكن الرمال» ما كان يستطيع أن يصل إلى منصب الوزير على أيام الفراعين المصريين في تلك العصور المجيدة من تاريخ

ص: 100


1- أنظر عن عصر الهكسوس: محمد بيومي مهران: «حركات التحرير في مصر القديمة» (و هو الجزء الثالث من سلسلة «دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم»)- دار المعارف- القاهرة 1976، ص 127- 130، 211.
2- . p, tic- po, relleK. W 105- 103.

الكنانة، ذلك لأن البدو إنما كانوا يعملون في تربية الحمير و الغنم و الماعز «و أن كل راعي غنم رجس عند المصريين» (1)، و من هنا، و في عهد سيادة الهكسوس فحسب، يجد الأسيوي الفرصة سانحة ليصل إلى أعلى المراكز في الدولة- و الأمر كذلك في أيام الضعف- و من هنا فقد وجدنا موظفين يحملون أسماء سامية في عصر الهكسوس (2) و إن كانت نبوة يوسف و تأويله الأحاديث هما سبب وصوله إلى منصبه، و ليس لأنه أسيوي.

و منها (رابعا) أن هناك «جعولا» من ذلك العصر، جاءت بها أسماء رؤساء مثل «يعقوب حر» و «عنات حر»، و مهما يكن معنى «حر» هذه، فإن «عنات» هي الإلهة السامية المعروفة، و إنه لمن الصعب أن ننحى وجهة النظر القائلة بأن الأب يعقوب قد خلد ذكره في الإسم الآخر (3)، مما جعل المؤرخ الأمريكي «جيمس هنري برستد» يعتبر ذلك إشارة إلى أن قائد قبيلة يعقوب الإسرائيلية، ربما نال الفرصة ليصل إلى بعض السلطة في وادي النيل في تلك الفترة المظلمة، و التي تتناسب مع احتمال دخول بني إسرائيل إلى مصر وقت ذاك.

و منها (خامسا) ما ذهب إليه «حبيب سعيد» من أن دخول الإسرائيليين إلى مصر، إنما حدث خلال حكم الهكسوس لمصر، لأنه في مثل هذا الاضطراب التاريخي فقط، يتسنى لهم أن يلقوا ترحابا، و هم الغرباء النازحون، و منها (سادسا) أن هناك من الباحثين من يجعل الهكسوس من أصول سامية شمالية غربية، (شمال غربي الجزيرة العربية) و من ثم فهم

ص: 101


1- تكوين: 46: 34.
2- . p, tic- po, relleK. W 107- 105.
3- . p, shoarahP eht fo tpygE, renidraG. A 157.

أقرباء للعبرانيين، مما جعل يوسف العبراني يجد الفرصة ليصل إلى مركز القوة في البلاط المصري (1)، و بالتالي فقد قوبل أبوه و إخوته بالترحاب من الهكسوس الساميين، و الذين سمحوا لهم بالإقامة في «جوشن» (2).

و منها (سابعا) ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن دخول الإسرائيليين إلى مصر، إنما كان في عصر الهكسوس، على أساس أن هذا يعطي الإسرائيليين أربعة قرون كفترة إقامة في مصر، حتى تم طردهم منها على أيام رعمسيس الثاني (3) أو ولده و منها (ثامنا) ما ذهب إليه «فلندرز بيتري» من أن عصر يوسف إنما كان على أيام الهكسوس، و يظهر ذلك عن طريق اللقب البابلي الذي أعطى له، و هو" kerbA"، و الذي هو" uhkarabA"، و هو واحد من ضباط الدولة الخمسة العظام (4).

و منها (تاسعا) ما ذهبنا إليه من قبل من أن القرآن الكريم قد حرص في سرده لقصة يوسف، على أن يلقب الحاكم الذي عاصره بلقب «ملك» (5)، بينما حرص على أن يلقب الحاكم الذي عاصر موسى بلقب «فرعون»، و قد أثبتنا من قبل أن لقب «فرعون» (6) لم يستعمل للدلالة على شخص الملك إلا منذ أيام تحوتمس الثالث (7)، و بصفة مؤكدة منذ أيام «أخناتون» (8)، مما يدل

ص: 102


1- , m siaduJ, nietopE. I 15. p، 1970.
2- . 4. P,. tiC- pO, htoB. C
3- . 242. P,. tiC- pO. xuoR. G
4- . P, tiC- pO, eirteP. F. M. W 27.
5- سورة يوسف: آية 43 و 50 و 4 fo ycageL eht ni, learsI dna tpygE, yelretseO. E. O. W F
6- سورة الأعراف: آية 103- 104، 109، 112، 123، 117، 117، يونس. آية 75، 76، 83، 88، 90، هود: آية 97، الإسراء: آية 101- 102، طه: آية 24، 43، 60، 78، 79، المؤمنون: آية 46 ... و هكذا.
7- . P,. tiC- pO, renidraG A 52.
8- , rammarg naitpygE, renidnaG A 75. p، 1966.

على أن عصر يوسف إنما كان قبل عصر الأسرة الثامنة عشرة التي أستعمل فيها لقب «فرعون» (1)، و بالتالي فهو في عصر الهكسوس.

و منها (عاشرا) أن هناك ما يشير إلى أن يوسف قد وصل إلى ما وصل إليه من النفوذ في عصر الهكسوس- و ربما ليس بعد عام 1700 ق. م- ففي سفر التكوين ما يشير إلى أن قصر الملك لم يكن بعيدا عن «أرض جوشن»، و هذا يعني أن العاصمة المصرية كانت في منطقة الدلتا، و هو أمر يتفق و عصر الهكسوس، حيث كانت عصمتهم «أواريس» (حت و عرت- صان الحجر الحالية)، هذا فضلا عن أن سفر الخروج يقرر أن مدة إقامة الإسرائيليين في مصر، إنما كانت 430 سنة (2)، و حيث أن الخروج قد تم بعد عام 1300 ق. م (الأمر الذي سنناقشه فيما بعد)، فإن ذلك يرجع بعهد يوسف إلى حوالي عام 1700 ق. م، و هي فترة تتفق و حكم الهكسوس (3).

بل إننا نستطيع أن نصل إلى نفس النتيجة من إشارة سفر التكوين من أن قصر الملك كان في «أرض جوشن»، ذلك أن عاصمة مصر لم تكن في الدلتا الشرقية إلى في عصر الهكسوس، ثم في عصر الرعامسة بعد ذلك، حيث كانت «أواريس» في العصر الأول، و «بر- رعمسيس» في العصر الثاني، و لما كان عصر يوسف لا يمكن أن يكون- بحال من الأحوال- في عصر الرعامسة، فهو إذن في عصر الهكسوس، بل إنني أعتقد أن تحديد إقامتهم في أرض جوشن- و هي منطقة نفوذ الهكسوس الأساسية، و قاعدة هذا النفوذ، كما نعرف- إنما يعد دليلا على أن عصر وجود الإسرائيليين في مصر، إنما كان على أيام الهكسوس.

ص: 103


1- , ogacihC, tpygE tneicna fo erutuc eht, nosliW. A. J 102. p، 1963، و انظر عبد العزيز صالح: حضارة مصر القديمة و آثارها، الجزء الأول القاهرة 1962، ص 30- 31.
2- خروج 12: 40.
3- . p, elbiB eht ot saltA lacirotsiH retsenimtseW ehT 28.

و منها (حادي عشر) أن هناك ما يشير إلى أن يوسف قد حمل إلى مصر، حيث كانت تجارة الرقيق من البنين و البنات الأسيويين تلقي يومئذ رواجا دلّ عليه ما كشفت عنه بردية في متحف بروكلين (1) بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاء فيها ذكر ما يربو على أربعين أسيويا من نيف و ثمانين، كانوا يعملون خدما في بيت واحد من عصر الأسرة الثالثة عشرة قبل مجي ء الهكسوس، و لم يكن من سبيل بحكم ما هو معروف من تاريخ تلك الفترة، و أحوال مصر المتواضعة، أن يكون هؤلاء مع إخوان لهم في بيوت أخرى، من أسرى الحرب في زمان لم تقع فيه حروب (2).

و أما عدم ذكر «يوسف» في الآثار المصرية، رغم أنه شغل منصب الوزير للملك، فهذه- فيما أظن- هذا الرأي و لا ننقضه، إذ لو كان يوسف عاش في غير عصر الهكسوس، لكان من الممكن أن نعثر على دليل أثري يؤيد وجوده، أو على الأقل يشير إلى الأحداث التي روتها التوراة، ذلك لأن التاريخ المصري، رغم أنه يمتاز على تاريخ الشرق الأدنى القديم بوضوحه و كثرة آثاره، فإن عصر الهكسوس بالذات يمتاز بالغموض، بل إنه ليعد واحدا من أغمض فترات التاريخ المصري القديم، ذلك لأن المصريين ما كانوا براغبين في تسجيل ذكرى هذا العصر البغيض إلى نفوسهم (3)، بل إنهم لم يحاولوا حتى الإشارة إليه إلا على أيام الملكة «حتشبسوت» (4)، (1490- 1468 ق. م)، هذا فضلا عن تدميرهم لآثار الهكسوس بعد نجاحهم في طردهم و تحرير البلاد من سيطرتهم.

أضف إلى ذلك كله، أن يوسف، على الرغم من أنه كان ذا مكانة في

ص: 104


1- muesum nylkoorB eht ni modgniK elddim etaL eht fo surypapA seyaH .C .W 1955.
2- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 43.
3- أنظر: كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» ص 103- 106.
4- أنظر:, AEJ renidraG. A 48- 45. p، 1946، 32.

حكومة مصر، غير أنه لم يعد أن يكون وزيرا فحسب، و أن كل عمل عظيم يقوم به و يستحق التسجيل، إنما كان ينسب إلى الملك، الذي كانت النقوش تهدف إلى تعظيمه و الإشادة بذكره، لأن كل شي ء كان في مصر من وحيه هو، و على ذلك فإن اسم يوسف لم يكن ليظهر بطبيعة الحال (1).

و انطلاقا من هذا، إذا أردنا أن نحدد- قدر استطاعتنا، و في الوقت نفسه حدسا غير يقين- ملك مصر الذي عاصر الصديق، مستعينين في ذلك بقوائم الملوك من تلك الفترة، و مستعينين في الوقت نفسه بالمصادر الإسلامية، لوجدنا أن واحدا من ملوك الهكسوس كان يدعي «سا أوسر إن رع- خيان» (2) من ملوك الأسرة الخامسة عشرة الهكسوسية- أي في بداءة عصر الهكسوس- لوجدنا في الوقت نفسه، أن المصادر الإسلامية تذكر أن ملك مصر على أيام الصديق، إنما كان من ملوك العرب، المعروفين بالرعاة (الهكسوس) (3) و أنه كان يدعي «الريان» (4)، و إني لأظن- و ليس كل الظن إثما- أنه ليس من الصعب كثيرا تصحيف الإسم «ريان» إلى «خيان» و إن كانت هناك قصة قديمة تجعلهم يصلون مصر على أيام الملك (إيبيبي (5)).

ص: 105


1- سليم حسن: مصر القديمة- الجزء السابع- القاهرة 1950 ص 107- 10.
2- أنظر: عن هذا الملك: محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة ص 145- 148، و كذا fo tpygE. renidraG. A و كذا, AEJ, hgrebredaS- evasg .. T 63. p، 1951، 37. erneneqeS ot, III, semenemmA fo htaeD eht morf tpygE, seyaH. C. W و كذا. p, shoarahP 158, egdirbmaC, II 22. p، 1965.
3- محمد رشيد رضا: تفسير سورة يوسف، القاهرة 1936 ص 68.
4- الإمام الطبري: تاريخ الطبري 1/ 325- 336، تفسير الطبري 16/ 17 الإمام ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 306، تفسير ابن كثير 4/ 306، تاريخ ابن خلدون 2/ 75- 76، المسعودي: مروج الذهب 1/ 61، سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام ص 104 (بيروت 1975).
5- نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم 1/ 403.
(ب) الرأي الثاني:

و يذهب إلى أن الإسرائيليين قد هبطوا مصر على أيام «أمنحتب الثاني» (1436- 1413 ق. م) و ينادى به «برني و جرسمان»، ذلك أن «برني» كتب في عام 1918 م مقالا عن الموضوع (1)، ثم عاد إليه مرة أخرى في عام 1920 م في تعليقه على «سفر القضاة» (2)، و فيه رأي: أن بعضا من قبائل العبريين قد استقر في مصر على أيام الهكسوس و طردوا منهم و هذا يتفق مع هبوط إبراهيم الخليل- عليه السلام- مصر، و خروجه منها (3).

هذا و قد وجد تحوتمس الثالث في فلسطين إحدى المجموعات العبرية، و تدعى «يعقوب إل»، بعد أن طردها الآدوميون من كنعان (هروب يعقوب من عيسو)، ثم غزت البلاد مرة أخرى (غزو الخابير و حوالي عام 1400 ق. م) لأن «لابان»- صهر يعقوب و خاله- كان يتعقبهم (أي القبائل الآرامية و ساجاز تل العمرانية)، و أن هؤلاء الخابير و الذين سموا «عابيرو» (العبرانيين) قد وجهوا هجومهم نحو «شكيم» بصفة خاصة، و أن جماعة منهم- متضمنة يوسف، و ربما شمعون و لاوى- قد أخذت طريقها نحو مصر أثناء حكم أمنحتب الثاني، حوالي عام 1435 ق. م، لأن هؤلاء قد استقروا هناك- طبقا للترجمة السبعينية- مدة 215 (4) عاما، و لكن الجزء الأساسي من الإسرائيليين قد بقي في فلسطين، و من ثم فقد ذكر سبط «أشير» في سجلات «سيتي الأول» (1309- 1291 ق. م) و رعمسيس الثاني (1290- 1224

ص: 106


1- ., naanaC ni tnemeltteS learsI, yenruB. F. C 1918.
2- ., segduJ fo kooB eht, yenruB. F. C 1920.
3- تكوين 12: 10- 20.
4- خروج 12: 40- 41، مع ملاحظة أن بعض المصادر الإسلامية ذهبت إلى هذا الإتجاه (أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 1/ 20، ابن حزم الفصل في الملل و الأهواء و النحل- الجزء الأول ص 10).

ق. م)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى إسرائيل عصر مرنبتاح، أو في فترة الاضطرابات التي تلت موته (1).

و أما الملامح الخاصة لنظرية «جرسمان»، فهي ضغط الأحداث إلى أقصر فترة زمنية ممكنة، فهو يرى أن الخابير و ينتمون إلى موجة من موجات الغزاة الآراميين سابقة للتي أتت بالإسرائيليين، و أن الأخارى قد و صلوا إلى حدود فلسطين حوالي عام 1300 ق. م، و أن جزءا منهم قد اتجه إلى مصر مباشرة، و أقاموا هناك فترة جيلين فقط، و هو الزمن الذي يتطلبه الجزء الأقدم من التقاليد الإسرائيلية (2)، و لنقل أنها كانت خمسين عاما، و أنهم هربوا أثناء حكم فرعون الاضطهاد، و استقروا في كنعان حوالي عام 1230 ق. م، و من ثم فليس من الغريب أن يذكر مرنبتاح إسرائيل بين الشعوب التي أخضعها أثناء حملته إلى فلسطين.

على أن هناك كثيرا من العقبات التي تقف في وجه قبولنا لرأي «برني» هذا، منها (أولا) أنه يتعارض تماما مع التوراة- مصدرنا الأساسي في هذه الفترة من تاريخ بني إسرائيل-، ذلك لأن التوراة إنما تذهب إلى أن بني إسرائيل إنما قدموا إلى مصر، بسبب مجاعة حلت بأرض كنعان، ثم بدعوة من يوسف- عليه السلام (3)- و ليس بسبب طرد الآدوميين لهم، و منها (ثانيا) أنه يختصر مدة إقامة بني إسرائيل في مصر إلى 215 عاما، و التوراة صريحة في ذلك، إذ تحدد مدة إقامتهم ب 430 عاما (4)- و إن كان ما ذهب إليه يتفق مع الترجمة السبعينية.

ص: 107


1- . p, tic- po, sdoL. A 185- 184.
2- تكوين 15: 16، خروج 1: 6- 8، 6: 20.
3- سورة يوسف: آية 58- 100، تكوين 41: 56- 45: 28.
4- خروج 12: 40- 41.

و منها (ثالثا) أنها ترتبط بين نزول إبراهيم و خروجه منها، و بين عهد الهكسوس، الأمر الذي رفضناه من قبل، و منها (رابعا) أنها ترتبط بين روايات إسرائيلية تتعلق بأحداث مبكرة في فلسطين، و بين قصة دخول الإسرائيليين مصر، و منها (خامسا) أنها تجعل دخول الإسرائيليين مصر، إنما كان مقصورا على أسباط معينة، علما بأن التوراة تجعل ذلك للإسرائيليين عامة (1).

و منها (سادسا) أن يوسف الصديق كان- كما هو معروف- قد شغل منصبا كبيرا في الدولة، و لم يكن من عامة القوم، فكيف لم تشر إليه النصوص المصرية؟ و هي التي أشارت كثيرا إلى الوزراء و كبار الموظفين، بجانب ملوكهم، و هو أمر قد عللناه في عصر الهكسوس بغموض هذا العصر و ضياع آثاره، و هذا ما لم يقل به أحد ممن أرخوا لعصر أمنحتب الثاني (1436- 1413 ق. م).

أما نظرية «جرسمان» فهي تضغط الأحداث بدرجة كبيرة، هذا فضلا عن اعتمادها على تفسيرات معينة لنصوص معينة، و في نفس الوقت، فإنها تتجاهل نصوصا أخرى تحدد بصراحة مدة الإقامة ب 430 سنة، أضف إلى ذلك أن تحديدها لدخول بني إسرائيل مصر في عام 1300 ق. م، و الخروج بعام 1230 ق. م، يجعل مدة إقامة بني إسرائيل في مصر، حوالي 70 عاما، كما يحددها جرسمان نفسه- و هو أمر يخالف كل التقاليد العبرية، بل إن القصة كلها- كما يقدمها لنا جرسمان- إنما تخالف كل التقاليد اليهودية، الخاصة بقصة دخول و خروج بني إسرائيل من مصر.

و هكذا يبدو لي أن عصر الهكسوس- و ليس غيره- إنما هو العصر الذي دخل الإسرائيليون فيه أرض الكنانة.

ص: 108


1- تكوين 45: 16- 28.
الفصل الثّالث قصّة يوسف بين آيات القرآن و روايات التّوراة
1- تمهيد:-

من البدهي أن تحمل قصص التوراة بعض أوجه شبه بالقصص القرآني، و إن كان قليلا، ذلك لأن التوراة في الأصل، إنما هي كتاب مقدس، فالإسلام الحنيف إنما يؤمن بموسى، كنبي و كرسول و ككليم للّه تعالى، ثم يقرر بعد ذلك، دونما لبس أو غموض، أن موسى جاءته صحف (1)، و أنزلت عليه توراة (2)، غير أن توراة موسى هذه سرعان ما امتدت إليها أيد أثيمة، فحرفت و بدلت، ثم كتبت سواها، بما يتلائم مع يهود، و يتواءم مع مخططاتهم، ثم زعموا، بعد كل هذا، أنها التوراة التي أنزلها اللّه على موسى عليه السلام (3) كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (4).

ص: 109


1- سورة النجم: آية 36، الأعلى: آية 19.
2- جاءت كلمة التوراة في القرآن الكريم 18 مرة (أنظر: آل عمران: 3، 48، 50، 65، 93، المائدة: 43، 44، 46، 66، 68، 110، الأعراف: 157، التوبة. 111، الفتح: 29 الصف: 6 الجمعة: 5).
3- قدم المؤلف دراسة مستقلة عن التوراة (أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الثالث- الإسكندرية 1979).
4- سورة الكهف: آية 5.

و الذي تولى هذا التصحيف و التأويل و التعمية، إنما هي طائفة متخصصة من أحبار يهود، بغية الحفاظ على مكانتها و مكاسبها، و إلى هذا يشير القرآن الكريم مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1)، و فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (2).

هذا و قد عمد لفيف من رؤسائهم الدينيين إلى أخفاء بعض الأسفار في الهيكل، و هي التي عرفت بالأسفار الخفية (3)، ثم اختلفت نظرتهم إليها، إذ كان بعضها، فيما يعتقدون، غير مقدس، بينما بعضها الآخر موحي به من عند اللّه، و إن رأى الأحبار إخفاءه في الهيكل حتى لا يطلع عليه العامة من القوم، كما رأوا عدم إدراجه بين أسفار التوراة، ربما لأن ما به من حقائق لا يتفق و أهواءهم، و ربما لأن ما به من بشارات لا يتلاءم و ميولهم العنصرية، و من هذا يقول القرآن الكريم قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً (4)، و من ثم فقد كان حكم الإسلام على كتاب اليهود المتداول اليوم، أنه يحمل بعض لمحات من توراة موسى، ذلك لأن اليهود إنما قد أوتوا نصيبا منها، و نسوا نصيبا و خطا، فلم يحفظوها كلها، و لم يضيفوها كلها، و إنما قد حرفوا ما أتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا و معنويا (5).

و يقول الإمام ابن تيمية: أما من ذهب إلى أنها كلها (أي التوراة) مبدلة من أولها إلى آخرها، و لم يبق منها حرف إلا بدلوه، فهذا بعيد، و كذا

ص: 110


1- سورة النساء: آية 46.
2- سورة البقرة: آية 79.
3- أنظر: عن الأسفار الخفية في التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 219- 223).
4- سورة الأنعام: آية 91.
5- تفسير المنار 1/ 213.

من قال لم يبدل شي ء منها بالكلية بعيد أيضا، و الحق أنه دخلها تبديل و تغيير و تصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة و النقص، كما تصرفوا في معانيها، و هذا معلوم عند التأمل (1).

و من ثم فليس صحيحا ما ذهبت إليه بعض المستشرقين من أن القرآن الكريم قد اعتمد إلى حد كبير في قصصه على التوراة و الإنجيل (2)، و زاد بعض من تابعهم من الباحثين العرب أن القرآن الكريم جعل هذه الأخبار مطابقة لما في الكتب السابقة، أو لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار، حتى ليخيل إلينا (أي الباحثين العرب) أن مقياس صدقها و صحتها من الوجهة التاريخية، و من وجهة دلالتها على النبوة و الرسالة، أن تكون مطابقة لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار (3).

و ذهب الأستاذ مالك بن نبي أن هناك تشابها عجيبا بين القرآن و الكتاب المقدس (التوراة و الإنجيل) و أن تاريخ الأنبياء يتوالى منذ إبراهيم إلى زكريا و يحيى و مريم و المسيح، فأحيانا نجد القرآن يكرر نفس القصة، و أحيانا يأتي بمادة تاريخية خاصة به، مثل هود و صالح و لقمان و أهل الكهف و ذي القرنين (4)، و من عجب أن الدكتور البوطي ينقل عنه، فيما يزعم، أن القرآن جاء بقصص الأنبياء و الأمم الغابرة، على نحو يتفق جملة و تفصيلا مع ما أثبتته التوراة و الإنجيل من عرض تلك الأخبار و القصص، و أن ذلك دليلا لا

ص: 111


1- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 149.
2- جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة تب الإسلام- ترجمة محمد يوسف موسى- القاهرة 1946 ص 12، 15 و كذا:, (stooB nacileP) malsI, emualliuG derflA 62- 61. p، 1964.
3- محمد أحمد خلف اللّه: الفن القصصي في القرآن الكريم- القاهرة 1953 ص 22، و أنظر ص 27، 28، 45، 173، 175، 182.
4- مالك بن بني: الظاهرة القرآنية- ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين- بيروت 1961 ص 251.

يقبل الشك بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى، و لكنه وحي من اللّه عز و جل (1)، و لست أدري كيف نقل البوطي كل ذلك دون تعليق، و المستشرقون المبغضون للقرآن لم يقولوا أكثر من ذلك، فضلا عن أن الجملة التي قالها مالك بن بني لا تعني ما ذهب إليه، و إن اقتربت منه.

و قد ناقشنا ذلك كله في الجزء الأول من هذه السلسلة، و بيّنا بطلانه، ثم أثبتنا ذلك البطلان بعقد مقارنة لكثير من قصص الأنبياء، مثل نوح و إبراهيم و موسى و هارون و داود و سليمان و مريم و المسيح عليهم السلام، كما جاءت في القصص القرآني و روايات التوراة (2).

[2] قصة يوسف بين آيات القرآن و روايات التوراة:-

لعل قصة يوسف عليه السلام، إنما كانت أكثر القصص الذي طال الجدل و اشتد حولها، حتى زعم «الفرد جيوم» أنها تدل على أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم لم يكن يعرف قصة الآباء الأوائل، كما جاءت في سفر التكوين من التوراة، فحسب، بل إنه يعرف كذلك التطور اليهودي المتأخر للقصة (3)، حيث تداخلت مصادر التوراة الثلاثة (إليهوي و الإلهيمي و الكهنوتي)، و كونت قصة تكون مزيجا عجيبا من هذه المصادر جميعا (4).

و لعل أفضل ما نفعله للرد على مزاعم «جيوم» و غيره من المستشرقين، بل و بعض المسلمين للأسف، أن نعقد مقارنة بين القصتين، ذلك لأن قصته التوراة، و إن كانت تحمل بعض أوجه شبه من القصة القرآنية، فإن هناك

ص: 112


1- محمد سعيد البوطي: من روائع القرآن- دمشق 1972 ص 221.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن- الجزء الأول- في بلاد العرب- الرياض: 198 ص 47- 88.
3- مالك بن بني: المرجع السابق ص 251 و كذا.. p, tic- po, emualliuG. A 61.
4- أنظر عن مصادر التوراة: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 97- 106، حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي- الإسكندرية 1971 ص 28- 31.

خلافات جوهرية بين القصتين، كما جاءت في الذكر الحكيم (سورة يوسف) و في سفر التكوين من التوراة (الإصحاحات 37، 39- 50)، تثبت، دونما أي ريب، أن المصدر الأول لم يعتمد على الثاني، بل إن سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، كما يؤكد الباحثون من المستشرقين، حتى المتعصبين منهم، لم يقرأ التوراة أو أي كتاب آخر من كتب أهل الكتاب (1).

و أما هذه الخلافات الجوهرية بين قصة يوسف القرآنية، و تلك التي جاءت في التوراة، فمنها (أولا) تلك الملامح الروحية التي تتميز بها القصة القرآنية، فضلا عن أن شخصية يوسف النبي، أكثر وضوحا في القصة القرآنية، منها في رواية التوراة، و منها (ثانيا) أن حب يعقوب ليوسف إنما تصوره التوراة، على أن الصديق إنما كان يأتي لأبيه «بنميمة أخوته الرديئة»، و لأنه ابن شيخوخته، في الدرجة الأولى، ثم رؤيا يوسف في الدرجة الثانية (2)، و أما في القرآن الكريم، فإن السبب إنما هو الرؤيا الصادقة، ثم إحساس عميق من يعقوب النبي، بما سوف يكون للصديق من مستقبل في عالم النبوة و تأويل الأحاديث (3)، و منها (ثالثا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن مؤامرة إخوة يوسف عليه، إنما بدأت قبل أن يذهب معهم، فضلا عن توضيح رأي أبناء يعقوب في أبيهم، و لنقرأ هذه الآيات الكريمة لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ

ص: 113


1- راجع عن تفسير سورة يوسف: تفسير المنار 12/ 251- 324، 13/ 1 و ما بعدها+ تفسير سورة يوسف لرشيد رضا، تفسير البيضاوي 1/ 486- 511، تفسير الطبري 12/ 149- 238، 13/ 1- 91، تفسير القرطبي 9/ 118- 277، تفسير الألوسي 12/ 170- 261، 13/ 1- 84 مؤتمر تفسير سورة يوسف (جزءان)، تفسير النسفي 2/ 210- 241.
2- تكوين 37: 2- 11.
3- سورة يوسف: آية 6.

اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (1).

و منها (رابعا) إن قصة التوراة تذهب إلى أن يعقوب هو الذي طلب من يوسف أن يذهب إلى إخوته الذين يرعون أغنامهم عند شكيم (2)- و التي يحتمل أنها تل بلاطة شرق نابلس الحالية- بينما يرى القرآن الكريم أن أخوة يوسف هم الذين طلبوا من أبيهم أن يذهب يوسف معهم، لأن أباه إنما كان يخشى عليه من حقدهم، قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (3)، و منها (خامسا) أن القرآن الكريم إنما يشير إلى ارتياب يعقوب في بنيه عقب تنفيذ المؤامرة- فضلا عن ارتيابهم في أنفسهم- وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ، وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً (4)، بينما تشير رواية التوراة إلى سرعة تصديق يعقوب لفرية أولاده، و يأسه عقب المؤامرة (5)، «فتحققه (أي قميص يوسف) و قال قميص ابني وحش ردي ء أكله، افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه، و ناح على ابنه أياما كثيرة» و منها (سادسا) أن الحيوان الذي ألصقت به تهمة قتل يوسف، إنما هو «تيس من المعزى» في التوراة (6)، و لكنه الذئب في القرآن الكريم (7).

و منها (سابعا) أن التوراة في عرضها لقصة يوسف مع امرأة العزيز، لم

ص: 114


1- سورة يوسف: آية 7-!.
2- تكوين 37: 12- 16.
3- سورة يوسف: آية 11- 12.
4- سورة يوسف: آية 17- 18.
5- مالك بن بني: المرجع السابق ص 302.
6- تكوين 37: 33- 34.
7- سورة يوسف: آية 13- 14، 17.

تحاول أن تركز على براءة يوسف، كما فعل القرآن الكريم الذي عرض البراءة في جلاء و وضوح، و منها (ثامنا) أن القرآن الكريم يصور لنا يوسف بعد حادث المراودة، و هو يفر من أمام امرأة العزيز، غير أنها سرعان ما تلحق به، فتتعلق بقميصه، و يتمزق منه ما علقت يدها به، و هنا يصل العزيز و يفاجأ بما لا يتصوره، فتبادر المرأة إلى دفع التهمة عن نفسها، و ترمي بها على يوسف في جرأة، ثم لا تنتظر رأي العزيز في صحة الاتّهام، فتغريه به و تعمل على توكيده في نفسه، بأن تطلب إليه رأيه في الجزاء الذي يجزّى به هذا المتهم (1)، يقول تعالى: وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)، بينما تتجاهل رواية التوراة حضور العزيز، و تذهب إلى أن امرأة العزيز قد أخبرت أهل البيت بأن الرجل العبراني قد حاول الاعتداء عليها، و أنه لم يتركها إلا بعد أن استغاثت بمن في البيت، و من ثم فقد ترك ثوبه و خرج، و أبقت الثوب حتى إذا ما جاء بعلها أخبرته أن عبده العبراني حاول الاعتداء على شرفها و لما صرخت ترك ثوبه بجوارها و فر هاربا، و لعل من المفيد هنا الإشارة إلى ما في النص التوراتي من اضطراب، فمرة لا يوجد أحد في البيت، و مرة أخرى، فإن البيت ملي ء بأهله، و مرة يوصف يوسف بأنه رجل عبراني، و أخرى عبد عبراني و فرق بين العبارتين في مثل هذه الحالة النفسية (3).

و منها (تاسعا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن اللّه سبحانه و تعالى- قد أظهر براءة يوسف على يد شاهد من أهل امرأة العزيز

ص: 115


1- عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني ص 100.
2- سورة يوسف: آية 25.
3- تكوين 39: 11- 18.

نفسها، تروي كتب التفسير أنه صبي في المهد، و ذلك حين قال إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (1)، كما شهدت ببراءته النسوة للآتي قطعن أيديهن بقولهن حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (2)، بينما لم تذهب التوراة إلى أكثر من أن العزيز حين سمع بالقصة لم يزد عن «أن غضبه حمى، فأخذ يوسف و وضعه في بيت السجن (3)».

و منها (عاشرا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن عزيز مصر، حينما عرف الحقيقة، فإذا به يطلب من يوسف كتمان الأمر، و عدم إذاعته بين الناس، و في نفس الوقت فإنه يتجه إلى امرأته يأمرها أن تستغفر لذنبها و أن تتوب إلى ربها (4)، فإن العبد إذا تاب إلى اللّه تاب اللّه عليه، و أهل مصر- و إن كانوا وقت ذاك غير موحدين- إلا أنهم إنما كانوا يعلمون أن الذي يغفر الذنوب و يؤاخذ بها، إنما هو اللّه وحده، لا شريك له في ذلك (5)، و منها (حادي عشر) أن التوراة لم تتعرض لحادث النسوة اللاتي أخذن يرددن في المدينة، امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (6).

ص: 116


1- سورة يوسف: آية 26- 28.
2- سورة يوسف: آية 51.
3- تكوين 39: 19- 20.
4- سورة يوسف: آية 29.
5- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 204 التفسير 4/ 22.
6- سورة يوسف: آية 30- 31.

و منها (ثاني عشر) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف- عليه السلام- قد فضل السجن، على أن يقترف الفاحشة، و ذلك حين خيّر بين أن تنال المرأة منه ما تريد، و إلا فإن أبواب السجن مفتوحة على مصراعيها لاستقباله، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (1).

و منها (ثالث عشر) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يعقوب- عليه السلام- حينما فقد في عاصفة هو جاء من عواصف الفتنة و الحسد، أعز فلذات كبده- يوسف الصديق- لم يغلبه الحزن الذي عصف بقلبه، على الصبر الذي ملأ كيانه (2)، فإذا به يتقبل المأساة بما يتفق و مكان النبوة السامي، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (3)، بينما تصوره التوراة في صورة لا نرتضيها للنبي الكريم، «فأبى أن يتعزى، و قال إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية» (4)، و حين تتكرر المأساة مرة أخرى، و يفقد يعقوب بنيامين- كما فقد يوسف من قبل- فإن الجواب في القرآن الكريم، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (5)، و أما الجواب في التوراة- و حتى قبل وقوع الكارثة- «إذا أصابته أذية تنزلون شيبتي بشر إلى الهاوية» (6)، بل إن القرآن الكريم ليشير بوضوح إلى أن مر السنين، و كر الأيام، لا يفقد الأمل في نفس النبي الكريم،

ص: 117


1- سورة يوسف: آية 33- 34.
2- عبد الكريم الخطيب: المرجع السابق ص 211.
3- سورة يوسف: آية 18.
4- تكوين 37: 35.
5- سورة يوسف: آية 83.
6- تكوين 42: 36- 38، 44: 29- 31.

يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ بينما تنعى التوراة على موت يوسف «لا ينزل ابني معكم، لأن أخاه (أي يوسف) قد مات، و هو وحده باق».

و منها (رابع عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف قد تنبأ بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون، بعد سبع سنوات من القحط (1)، و منها (خامس عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف بعد أن فسر الحلم لملك مصر، و رسم له الطريق الصحيح للخروج من الأزمة بسلام، رفض في إباء و شمم أن يقبل المنصب الخطير الذي عرض عليه، حتى يتحقق الملك و رجاله- بل و الناس جميعا- من براءته و نزاهة عرضه، مما نسب إليه بشأن امرأة العزيز، و كان سببا في أن يلبث في السجن بضع سنين، ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (2)، و الآية الكريمة تفيد أن يوسف لم يشأ أن يقال عنه مجرم سرّ منه الملك، فعفا عن جريمته و أخرجه من السجن، و تجي ء الشواهد كلها- بعد بحث دقيق- بعفة الصديق و طهارته، و عندئذ يتقدم الصديق في ثقة و ثبات، قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، و هكذا يتحمل يوسف المسئولية كاملة في صدق و شجاعة، و ينجح آخر الأمر في أن يرسي السفينة على مرفإ الأمن و السلامة (3)، و الأمر عكس ذلك تماما في التوراة، فما أن يفسر الصديق الحلم للملك، و ما أن يعرض الملك الأمر عليه، حتى يقبله فورا (4).

ص: 118


1- سورة يوسف: آية 47- 49.
2- سورة يوسف: آية 50، و أنظر: تفسير الطبري 16/ 133- 137.
3- سورة يوسف: آية 46- 57.
4- تكوين 41: 37- 46.

و منها (سادس عشر) أن قصة يوسف إنما تشير إلى أن المصريين، ربما كانوا يعيشون في حرية شخصية إلى حد ما، حتى مع نفس الملك القابض على السلطة في مصر، و إن هذا الملك قد قبل أن يأمر بشي ء في حق عبد دخيل، فيأبى عليه ذلك العبد امتثال أمره، إلا بعد إجراء التحقيق، مع أنه يمكنه الجمع بين امتثال إرادة الملك و أجراء التحقيق، بأن يبادر يوسف بالخروج من السجن، ثم يطلب من الملك التحقيق في قضيته (1).

و منها (سابع عشر) إن التوراة لم تشر إطلاقا إلى قيام يوسف- عليه السلام- بدعوة التوحيد، بعكس القرآن الكريم الذي يشير إلى أن الصديق قد انتهز الثقة المكينة التي اكتسبها بين السجناء، بسبب تفسير الرؤيا و تأويل الأحلام، فيقوم بدعوته الدينية، شارحا عقيدة الأنبياء جميعا في وحدانية اللّه الخالق العظيم. و هاتفا بمستمعيه (2)، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3)، و ذلك لأن يوسف لم يكن عالما يؤول الرؤيا فحسب، بل كان رسولا مصلحا، فما كان يرى فرصة يتنفس فيها برسالته إلا انتهزها، و لا نهزة صالحة للدعوة إلا علق بها (4)، و لهذا فإن الإشارة إلى

ص: 119


1- مؤتمر تفسير سورة يوسف 2/ 839.
2- محمد رجب البيومي: البيان القرآني ص 225 عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 140.
3- سورة يوسف: آية 37- 40.
4- محمد أحمد جاد المولي و آخرون: قصص القرآن ص 103.

الآخرة في قصة يوسف مقصورة على القرآن (1) دون التوراة.

و منها (ثامن عشر) إن القرآن الكريم هو وحده الذي يشير إلى إعلان امرأة العزيز براءة يوسف، و أنها هي التي راودته عن نفسها، قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (2)، و هكذا تقدم لنا القصة القرآنية امرأة العزيز، و هي تتحدث بلغة تليق بضمير إنساني وخزه الندم و أرغمته طهارة التضحية و نزاهتها على الاستسلام للحق، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها و تقر بخطيئتها (3).

و منها (تاسع عشر) إن يوسف عليه السلام قد وصف في القرآن الكريم بالصديق و بالعزيز (4)، و في التوراة ب «صفنات فعنج» (5)، و منها (عشرون) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يتحدث عن نبوة عزيز مصر الصادقة في يوسف الصديق، وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)، و منها (واحد و عشرون) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير في ختام قصة يوسف مع أبيه و أخوته إلى تحقيق حلمه الأول، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ

ص: 120


1- سورة يوسف: آية 57.
2- سورة يوسف: آية 51- 52.
3- مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 304- 305.
4- سورة يوسف: آية 46، 88.
5- تكوين 41: 45.
6- سورة يوسف: آية 21.

أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (1).

و منها (اثنان و عشرون) أن قصة التوراة تتحدث دائما عن ملك مصر، على أنه فرعون مصر (2)، بينما يتحدث القرآن على أنه الملك و ليس الفرعون (3)، و يرى الأستاذ حبيب سعيد أن هذه كانت هي العادة المتبعة في القرنين التاسع عشر و الثامن عشر ق. م (4)، و الحقيقة غير ذلك تماما، فمن المعروف تاريخيا أن كلمة «فرعون» في صيغتها المصرية، «بر- عا» أو «بر- عو»، كانت تعني- بادئ ذي بدء- البيت العالي، أو البيت العظيم، و كانوا يشيرون بها إلى القصر الملكي- و ليس إلى ساكنه- ثم سرعان ما تغيرت و غدت تعبيرا محترما، يقصد به الملك نفسه، و ذلك منذ الأسرة الثامنة عشرة (5)، و أما متى حدث هذا التغيير في استعمال لقب فرعون، فإن «سير ألن جاردنر»- العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة- يحدد ذلك بعهد الفرعون «تحوتمس الثالث» (1490- 1436 ق. م)، حيث بدئ في إطلاق الاصطلاح «أي فرعون» على الملك نفسه ثم في عهد الداعية الديني المشهور «أخناتون» (1367- 1350 ق. م)، مستندا في ذلك على خطاب من عهده، ثم استعمل منذ الأسرة التاسعة عشرة (1308- 1184 ق. م)

ص: 121


1- سورة يوسف: آية 99- 101، و أنظر: تفسير الطبري 16/ 264- 277 (دار المعارف- القاهرة 1969).
2- تكوين 40: 7- 41: 15، 46: 31- 50: 7.
3- سورة يوسف: آية 43، 50، 54، 72، 76.
4- حبيب سعيد: المدخل إلى الكتاب المقدس ص 76.
5- , ogacihC, tpygE tneicnA fo erutluC ehT, nosliW. A. J 102. p، 1963.

و فيما بعد، في بعض الأحايين، كمرادف لكلمة «جلالته»، و من هذا الوقت أصبحنا نقرأ: «خرج فرعون» و «قال فرعون ... و هكذا (1)».

و من ثم، فإن القرآن الكريم- فيما يبدو لي- أراد أن يفرق بين حاكم مصر الأجنبي على أيام يوسف الصديق في عهد الهكسوس (2) فأطلق عليه لقب «ملك»، و بين حاكم مصر الوطني على أيام موسى- مثلا- الذي أطلق عليه لقب «فرعون»، و هو اللقب الذي كان يطلق على ملوك مصر منذ عهد إخناتون، هذا فضلا عن أن ذلك من إعجاز القرآن، الذي لا إعجاز بعده، و إذا ما عدنا إلى التوراة، لوجدنا أن الحقائق التاريخية تقف ضد ما أوردته التوراة بشأن استعمال لقب فرعون، إذ أنها تستعمله حين يجب أن تستعمل لقب ملك، و ذلك قبل الأسرة الثامنة عشرة، و تستعمل لقب ملك حين يجب أن تستعمل لقب فرعون، و ذلك منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق. م)، و فيما بعدها.

و منها (ثلاث و عشرون) أن رؤيا يوسف في القرآن الكريم واحدة إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، بينما هي في التوراة حلمان، الواحد رأى فيه يوسف أنه و إخوته حازمون حزما في الحقل، و أن حزمته قامت و انتصبت فاحتاطت حزم أخيه فسجدت حزمهم لحزمته، فقاله إخوته أ لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا

ص: 122


1- , drofxO, shoarahP eht fo tpygE, renidraG. H. A 52. p، 1964 و كذا, drofxo, rammarG naitpygE, renidnaG. H. A 75. p، 1966.
2- حوالي (1725- 1575 ق. م)، و أنظر آراء أخرى في كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» دار المعارف 1976 ص 137- 138، و كذا ,noitaziliviC ylrA ehT tsaE raeN ehT orettoB .J ni noisavnI .soskyH ehT ,drofdeR .B .D و كذا, noitidarT dna yrotsiH 23. p، 1970. p, shoarahP eht fo tpygE, renidraG. H. A 165 و كذا. p, tic- po nosliW A. J 159. و كذا 393. p، 1967.

تسلطا، فازدادوا له بغضا من أجل أحلامه و من أجل كلامه، و الثاني. رأى فيه يوسف أن الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة له، و لما قصه على أبيه و إخوته نهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الذي حلمت هل نأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض، فحسده إخوته، و أما أبوه فحفظ الأمر، و أما القرآن الكريم فيقول يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (1).

و منها (أربع و عشرون) أن الجب الذي ألقى فيه يوسف إنما هو في التوراة بئر فارغة ليس بها ماء، و لكنه في القرآن إنما كان به ماء وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ (2)، و منها (خمس و عشرون) أن الذي اشترى يوسف من مصر، إنما هو في التوراة رئيس الشرطة، و هو العزيز في القرآن الكريم، و فرق كبير بين المنصبين (3)، و منها (ست و عشرون) أن التوراة تذهب إلى أن يوسف دخل السجن بمجرد أن سمع العزيز كلام امرأته، و دونما أي تحقيق، ذلك «أن غضبه حمى، و أخذ يوسف و وضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه»، بينما يؤكد القرآن الكريم أن الصديق قد أودع السجن، بعد ما ظهرت أدلة براءته، كقد القميص و قطع الأيدي و شهادة الصبي و غير ذلك ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (4)، و هذا يدل على أن سجن الصديق لم يكن بسبب غضب فجائي من العزيز للموقف المخزي الذي رأى فيه امرأته، و إنما تم ذلك بتدبير و تخطيط الهدف منه أن ينسى الناس قصة أو قل فضيحة امرأة العزيز التي لاكتها الألسن كثيرا بين أوساط الناس.

ص: 123


1- سورة يوسف: آية 4- 5، تكوين 37/ 5- 11.
2- سورة يوسف: آية 19، تكوين 37/ 24.
3- سورة يوسف: آية 21، 30- تكوين 37/ 36.
4- سورة يوسف: آية 23- 35، تكوين 39/ 7- 19.

و منها (سبع و عشرون) أن رؤيا الملك في القرآن واحدة، و أما في التوراة فقد رأى الملك رؤياه على مرتين، في الأولى رأى البقرات السبع السمان يأكلهن سبع عجاف، ثم نام فرأى السنابل الرقيقة تبتلع السنابل السمينة و قد علّلت التوراة تكرار حلم الملك مرتين، و في صورتين مختلفتين، «لأن الأمر مقرر من قبل اللّه، و اللّه مسرع ليصنعه» (1)، و منها (ثمان و عشرون) أن التوراة تذهب إلى أن فرعون قد أرسل إلى يوسف في السجن من يستدعيه لتأويل رؤياه «فأسرعوا به من السجن، فحلق و أبدل ثيابه و دخل على فرعون»، و فسر له حلمه، ثم اقترح عليه أن يختار رجلا بصيرا و حكيما و يجعله على أرض مصر (2)، على أن القرآن الكريم (3) على غير ذلك، فصاحب يوسف الذي نجا من السجن هو الذي أشار على الملك أن يرسله إلى الصديق ليعرف منه تأويل رؤيا الملك، و أن يوسف لم يذهب إلى الملك، و إنما فسر الحلم، بل و أشار بالحل الذي يمكّن البلاد من اجتياز هذه المحنة، و بشر بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون، و هو ما يزال بعد في زوايا الأرض سجينا (4)، و منها (تسع و عشرون) أن القرآن الكريم إنما يذكر أن يوسف الصديق إنما أمر بوضع صواع (مكيال) الملك في رحل أخيه، بينما تذكر التوراة أنه أمر بوضع طاسة الفضة في رحل أخيه بنيامين (5).

و منها (ثلاثون) أن القرآن الكريم يشير إلى أن الصديق عليه السلام، لما اتهم إخوته بسرقة صواع الملك سألهم رجاله فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ، قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ،

ص: 124


1- سورة يوسف: آية 43، تكوين 41/ 1- 7، 23.
2- تكوين 41/ 14- 36.
3- سورة يوسف: آية 45- 48.
4- سورة يوسف: آية 49.
5- سورة يوسف: آية 70- 72، تكوين 44/ 2.

و أما في التوراة فقد قال إخوة يوسف، دون أن يسألهم أحد عن عقاب من يوجد عنده صواع الملك، «الذي يوجد معه من عبيدك (يعنون أنفسهم) يموت، و نحن أيضا نكون عبيدا لسيدي، قال نعم الآن بحسب كلامكم هذا يكون، الذي يوجد معه يكون لي عبدا، و أما أنتم فتكونون أبرياء»، و مع ملاحظة التناقض في نص التوراة، فهي تذكر أن من يوجد معه يحكم عليه، بالموت، بينما يصبح الباقون أبرياء، فإن حكم يوسف عليهم أن من وجد معه يصبح وحده عبدا له، و أما الباقون فأبرياء، رغم هذا التناقض، فإن التوراة لم تذكر ما أضافه القرآن الكريم عن أن ذلك القانون إنما كان شريعتهم هم، و ما كان يطبق في الشرائع المصرية، و من ثم فما كان من حق يوسف عليه السلام أن يأخذ أخاه في دين الملك، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك المصري و قضائه أن يسترق أحد بالسرقة، فضلا عن أن يحكم عليه بالموت (1).

و منها (واحد و ثلاثون) أن القرآن وحده من دون التوراة، هو الذي أشار إلى أن إخوة يوسف سرعان ما قالوا، عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيهم بنيامين «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» (يعنون يوسف عليه السلام)، فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ، قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (2)، و منها (اثنان و ثلاثون) أن القرآن وحده، من دون التوراة، هو الذي أشار إلى قول يعقوب لبنيه يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ، وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (3).

ص: 125


1- سورة يوسف: آية 74- 76، تكوين 44/ 9- 10.
2- سورة يوسف: آية 77.
3- سورة يوسف: آية 67.

و منها (ثلاثة و ثلاثون) أن القرآن الكريم وحده، من دون التوراة، هو الذي أشار إلى قول إخوة يوسف ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، و لما كانوا يخشون أن يكذبهم، نظرا لتجربة يوسف السابقة، فإنهم طلبوا منه أن يسأل القرية التي كانوا فيها، وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (1)، و منها (أربع و ثلاثون) أن القرآن الكريم يشير إلى أن الصديق هو الذي سأل إخوته عما فعلوه به و بأخيه فعرفوه، ثم اعترفوا بخطئهم في حقه، و أن اللّه تعالى قد آثره عليهم، و حينئذ عفا يوسف عنهم قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ، قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ، قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، و أن ذلك إنما قد حدث بعد أن أخذ يوسف أخاه منهم، و بعد أن عادوا إلى أبيهم و أعلموه أن ابنه سرق، و في التوراة، فإن يوسف هو الذي قدّم نفسه لهم، بعد أن أحضروا أخاهم، و قبل أن يعودوا إلى أبيهم، و بعد أن سألهم عن أبيهم و هل ما يزال حيا، و أنهم ارتاعوا منه، و لم يستطيعوا أن يجيبوه (2).

و منها (خمس و ثلاثون) أن القرآن الكريم وحده، من دون التوراة، الذي يشير إلى أن يوسف عليه السلام بعد أن عفا عن إخوته، و أكرم وفادتهم، قال اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ، وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى

ص: 126


1- سورة يوسف: آية 81- 82.
2- سورة يوسف: آية 89- 92، تكوين 45/ 1- 14.

وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (1). و أما كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل، فلقد سبق أن أشرنا أن ذلك مما علمه اللّه و المفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة، و ما لها لا تكون خارقة، و يوسف نبي رسول، و يعقوب نبي رسول (2).

و أخيرا فإن القرآن الكريم إنما يختم قصة يوسف عليه السلام، بقول اللّه تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ، أي ذلك الذي أخبرناك عنه يا محمد من أمر يوسف و قصته من الأخبار المغيبة التي لم تكن تعلمها قبل الوحي، و إنما نعلمك نحن بها على أبلغ وجه، و أدق تصوير، ليظهر صدقك في دعوى الرسالة (3).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التوراة إنما قد انفردت، من دون القرآن الكريم، بأمور، تتفق في بعضها و خلق يهود، و تبتعد في بعضها الآخر عن الحقائق التاريخية، و من هذه الأمور (أولا) أن التوراة في عرضها لقصة يوسف الصديق، عليه السلام- بعكس القرآن الكريم- إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر، و لنقرأ هذا النص «خذوا أباكم و بيوتكم و تعالوا إليّ فأعطيكم خيرات أرض مصر، و تأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم و نسائكم و احملوا أباكم و تعالوا، و لا تحزن عيونكم على أثاثكم، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم» (4)، كما لم تهمل التوراة كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين

ص: 127


1- سورة يوسف: آية 93- 96.
2- في ظلال القرآن 4/ 2027.
3- سورة يوسف: آية 102، صفوة التفاسير 2/ 69.
4- تكوين 45: 18- 20.

الجياع إلى مصر، إنما كانت للقوت، و لكنها تؤكد أيضا أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض التي استضافتهم (1).

و منها (ثانيا) أن التوراة تزعم أن يوسف قد اشترى كل أرض مصر- من عليها و ما عليها- للفرعون (و هو اصطلاح لم يكن قد أستعمل في مصر بعد، كما أشرنا آنفا) يعد أن امتلأت الأرض جوعا (2)، الأمر الذي لم يثبت تاريخيا، فضلا عن أنني- علم اللّه- لست أدري: لما ذا تريد التوراة- أو بالأحرى يريد كاتبوها- أن يصوروا النبي الكريم في صورة صوت عذاب المصريين، يستغل حاجتهم للمقومات الضرورية للحياة نفسها، فيستولي على أرض مصر كلها- باستثناء أرض الكهانة- لمصلحة الملك الهكسوسي؟. ثم و هل كان ملك مصر على أيام الهكسوس- و هو العصر الذي نرجع فيه دخول بني إسرائيل إلى أرض الكنانة (3)- يسيطر على مصر كلها، حتى يستولي له يوسف- عليه السلام- على كل حال أراضيها؟.

إن جمهرة المؤرخين، إنما ترى أن الهكسوس لم يمدوا نفوذهم أبدا إلى أبعد من القوصية (4) جنوبا، اللهم إلا في احتلال مؤقت قصير لإقليم (بي حتحور)، قام به «أبو فيس»- ربما آخر من حمل هذا اللقب- و ليس هناك من دليل حقيقي على أن غيره من الهكسوس قد تم له هذا الأمر (5)، أما أمر جبايتهم للضرائب من مصر العليا و السفلى على السواء، فموضع شك على الأقل، ذلك لأن وجهة النظر التي ترى احتلال الهكسوس للبلاد كلها، ليست سوى و هم قضى عليه النص الكبير للملك «كاموزا» الذي يتضمن في وضوح

ص: 128


1- تكوين 46: 1- 4.
2- تكوين 47: 13- 26، و أنظر تفسير الخازن 3/ 193.
3- راجع كتابنا «إسرائيل» ص 237- 245، و أنظر.
4- . FF .p ,zrutS rhi dnu netpygeA ni soskyH red tfahcsrreH eiD ,bibaL rohaP 18.
5- . p, tic- po, renidraG. H. A، 168.

أن الغزاة لم يتقدموا إطلاقا فيما وراء جبلين، و الذي يشير إلى أنهم اضطروا بعد قليل إلى إرساء حدهم عند «خمون» (الأشمونين مركز ملوي) (1).

و منها (ثالثا) أن التوراة تصور لنا شعور المصريين تجاه الإسرائيليين بأنه شعور عدائي، أو على الأقل غير ودي، منذ اللحظة الأولى التي قدم الإسرائيليون فيها بأخيهم بنيامين، إذ نرى يوسف يولم وليمة تكريم لأخيه، و لكنه يضطر إلى أن تكون له وليمة خاصة، و ثانية لإخوته، و ثالثة للمصريين، و ذلك «لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين، لأنه رجس عند المصريين» (2)، و هكذا تبدو نظرة المصريين للعبرانيين واضحة لنا منذ أول لقاء بينهما، و في ضيافة يوسف العبراني نفسه، و هي نظرة لا تدل بحال من الأحوال على احترام المصريين للعبرانيين، و إنما تدل على أنفة المصريين و تأبيهم عن مخالطة العبرانيين، و عدم استعدادهم حتى للأكل معهم، رغم أنهم يعرفون أنهم إخوة يوسف عزيز مصر وقت ذاك، و الأمين على خزائنها، و الأثير عند مليكها، و ليس من شك أن هذا إن دلّ على شي ء، فإنما يدل على أن القطيعة بين الفريقين كانت واضحة لا تحتاج إلى بيان (3).

و منها (رابعا) أن التوراة قد حددت اسم من اشترى يوسف و وظيفته، و أنه «فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة» (4) و بدهي أن القرآن الكريم لم يفعل ذلك، لأنه- كما قلنا من قبل- ليس كتاب حوادث و تواريخ، و إنما قصصه للعبرة و العظة، و إن لقّبه «بالعزيز»، و لا شأن للقرآن بروايات

ص: 129


1- . P, dibI 167 و كذا كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» ص 143- 145.
2- تكوين 43: 32، قارن: الظاهرة القرآنية ص 305.
3- كتابنا «إسرائيل» ص 243 (الإسكندرية 1983).
4- تكوين: 39: 1.

المفسرين عن اسمه و اسم ملك مصر في عهده و اسم امرأة العزيز، فتلك اجتهادات، و فوق كل ذي علم عليم (1).

و هنا لنا أن نتساءل عن وصف التوراة لفوطيفار بأنه «خصي فرعون» (2)؟ و هل يتزوج الخصيان؟ و الحق أنني لست أدري كيف دار في خلد كاتب التوراة أن رئيس الشرطة المصري كان خصيا (3)؟ أو لم يكن شافعا له في دحض هذه الفسرية بأنه زوج أجمل سيدة في البلاد، و لكن ما الحيلة و صاحب سفر التكوين- أول أسفار التوراة- يرى أن حاشية القصر كلها من الخصيان، و منهم رئيس السقاة و رئيس الخبازين (4)، و هو أمر اعتدناه في مصر الفراعنة، و ما حدثنا به تاريخا، و إنما ذلك رأي يهود الأسر البابلي، حين كتبوا توراتهم على ضفاف الفرات، متأثرين بكل الحضارات القديمة التي شاهدوها- أو التي عاشوا في ظلالها- من ناحية، و بحقدهم الأعمى على مصر من ناحية أخرى، حتى أعماهم هذا الحقد عن حقائق التاريخ، فجعلوا كل رجال البلاط المصري من الخصيان.

و لعل من المفيد أن نشير هنا إلى أن الآية الكريمة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً قد تفيد أن الرجل كان عقيما، لم يكن له ولد، و ما كان يرجو أن يكون له، و لكنها لن تفيد أنه كان خصيا (5).

ص: 130


1- تفسير الطبري 12/ 174- 176 تفسير المنار 12/ 272، تفسير ابن كثير 4/ 17.
2- تكوين 39: 1.
3- من عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير (الطبري 12/ 175، القرطبي 9/ 160)، و أن رفضتهما جمهرة المفسرين (تفسير البيضاوي 1/ 491، تفسير المنار 12/ 272، تفسير الألوسي 12/ 207، مؤتمر تفسير سورة يوسف 1/ 434، 503، 504، قارن 1/ 525، 526، 2/ 873).
4- تكوين: 40: 2.
5- تفسير المنار 12/ 272، تفسير البيضاوي 1/ 491، روح المعاني 12/ 207، تفسير القرطبي 9/ 160.

و منها (خامسا) ما تردده التوراة من أن يوسف إنما كان يتهم إخوته بأنهم «جواسيس جاءوا ليروا عورة الأرض»، فضلا عن أن يوسف إنما كان يكرر القسم بحياة فرعون (1)، الأمر الذي لا يتفق و مكانة النبوة بحال من الأحوال.

بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الاضطراب الواضح في قصة التوراة، ففي سفر التكوين (37: 26- 28) نجد أن يهوذا هو صاحب الكلمة، و قد اقترح على إخوته أن يبيعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا، في حين نرى في نفس السفر (37: 21- 24) أن راوئين هو صاحب الصوت الأعلى، يقترح إلقاءه في الجب فيوافق الجميع، حيث يأخذه التجار المديانيون، كما في (تكوين 37: 28) و الأمر كذلك بالنسبة إلى بيعه إلى فوطيفار، ففي أول القصة عن قوم من مدين (2)، بينما هم في آخرها من الإسماعيليين (3).

و بعد: فهذه نظرة سريعة إلى الفروق بين قصص القرآن و روايات التوراة، فإذا ما تذكرنا أن القرآن الكريم- كما هو معروف- جاء به محمد النبي الأمي، الذي لا يكتب و لا يقرأ، كما قال تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (4)، مما يدل بوضوح لا لبس فيه و لا غموض- أن هذا القرآن من عند اللّه، و أنه و إن اتفق مع التوراة في القليل، فإنه يختلف معها في أكثر الكثير، كما يدل كذلك على أن هذا النوع من العلم ما كان عند العرب، و ليس لهم به دراية، و أخيرا فهو يدل على أن هذا القرآن ليس حديثا يفترى، و ليس أساطير الأولين اكتتبها، و لا

ص: 131


1- تكوين 42: 9- 16.
2- تكوين 37: 36.
3- تكوين 39: 1.
4- سورة العنكبوت: آية 48.

يمكن أن تملى عليه، و إذا كان بعض المشركين قد ادعوا أنه تلقاها من بعض الناس في مكة- كما يقول بعض المستشرقين الآن- فهو لم يثبت اتصاله به، و لسانه أعجمي، و هذا كتاب عربي مبين، و فوق ذلك في القرآن من صادق الأخبار، ما لم يكن في كتب أهل الكتاب المسطورة، و لا يأتيه الباطل فيما يقول (1)، و لست أدري إعجازا بعد هذا الإعجاز (2). ).

ص: 132


1- محمد أبو زهرة: القرآن ص 364- 365، الباقلاني: إعجاز القرآن ص 53- 54.
2- من إعجاز القرآن كذلك إخباره بأمور حدثت في المستقبل، منها إخباره بانتصار الروم على الفرس بعد أن كانت الهزيمة من نصيب الأولين (الروم 1- 2) و منها إخباره بنصر المسلمين في بدر قبل الموقعة الكبرى (الأنفال: آية 7) و أن ذلك سوف يقع في نفس الوقت الذي سيهزم فيه الفرس أمام الروم (الروم 3- 5)، و غير ذلك من أمور لا يمكن أن تكون حدسا أو تقديرا شخصيا، و إنما هي من عند علام الغيوب، كقيام دولة الإسلام الفتية على الأرض (النور 55) و عجز كل القوى عن القضاء عليها (الأنفال 36) و الانشقاق بين المسيحيين إلى يوم القيامة (المائدة 14) و الشتات الإسرائيلي (آل عمران 112) و التفوق المسيحي إلى اليهود حتى يوم القيامة (آل عمران 55) [أنظر: الباقلاني: إعجاز القرآن ص 77- 79، تفسير القرطبي 1/ 73- 78، الكشاف 3/ 252، 4/ 440، 445، مناهل العرفان للزرقاني 2/ 273، تفسير الطبري 21/ 16- 21، 25/ 111- 115، تفسير البيضاوي 2/ 215- 216، 439، تفسير الجلالين ص 215- 216 (نسخة على هامش البيضاوي) تفسير الألوسي 21/ 16- 22، تفسير الطبرسي 21/ 5- 9، تفسير الفخر الرازي 25/ 95- 98، تفسير روح المعاني 6/ 95- 97، تفسير الطبري 6/ 445- 464، 7/ 116- 118، 10/ 135- 140، 13/ 398- 407، 529- 534 (دار المعارف بمصر)، تفسير مجمع البيان 3/ 94- 96، 4/ 166- 169، 6/ 54- 55 (دار مكتبة الحياة، ببيروت 1961).

الكتاب الثالث سيرة موسى عليه السّلام

اشارة

ص: 133

ص: 134

الباب الأول موسى من المولد إلى المبعث
اشارة

ص: 135

ص: 136

الفصل الأول بنو إسرائيل في مصر
(أ) فيما قبل الاضطهاد:-

قدم بنو إسرائيل، كما رأينا من قبل، لا كغزاة فاتحين، و إنما كلاجئين من جدب أصاب أرض كنعان، فوجدوا في مصر، و في ظل أخيهم يوسف عليه السلام، ضيافة كريمة، فاختاروا، أو اختار لهم يوسف، أرض جوشن في وادي طميلات، لأنهم رعاة أغنام، و هذه أرض مراع، و لأنها تبعدهم عن مخالطة أهل البلاد و الاندماج فيهم، و الامتزاج بهم، حيث كانوا يؤثرون الإقامة في جهات خاصة بهم، ربما لأن تلك طبيعتهم، و ربما بسبب نفور المصريين منهم أو من حرفتهم كرعاة «لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين، و لعلنا نحس بذلك منذ اللحظة الأولى التي قدم فيها بنو إسرائيل بأخيهم بنيامين، إذ نرى يوسف يولم وليمة تكريما لأخيه، و لكنه، فيما تروي التوراة، يأمر بأن تكون له مائدة خاصة به، و أخرى لإخوته، و ثالثة للمصريين «لأن المصريين لا يقدروا أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين» (1).

و هكذا تبدو نظرة المصريين للعبرانيين واضحة لنا منذ أول لقاء بينهم، و في ضيافة يوسف العبراني نفسه، و هي نظرة لا تدل، بحال من الأحوال،

ص: 137


1- تكوين 43/ 32.

على احترام المصريين العبرانيين، و إنما تدل على أنفة المصريين، و تأبيهم عن مخالطة العبرانيين، و عدم استعدادهم حتى للأكل معهم على مائدة واحدة، لأن الأكل معهم رجس لا يليق بالمصريين، رغم أنهم يعرفون أنهم إخوة يوسف، عزيز مصر وقت ذاك، و الأمين على خزائنها، و الأثير عند مليكهما، و إن دل ذلك على شي ء، فإنما يدل على أن القطيعة بين الفريقين ما كانت تحتاج إلى بيان، بل إن يوسف نفسه، طبقا لرواية التوراة، إنما يسلم بها سلفا، و من ثم فقد أعد مائدة للمصريين، و أخرى لإخوته، و ثالثة له، و لعل أراد بذلك ألا يغضب أحد الفريقين، إن جلس على مائدة فريق دون الآخر.

هذا و ربما كان من أسباب هذه النفرة بين المصريين و الإسرائيليين تلك النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المصريون إلى من عداهم من الشعوب، بل إنهم إنما كانوا يعتبرون أنفسهم وحدهم هم «الناس» أو «الرجال» و أما الأجانب فلا، و من ثم فقد كانوا يزدرونهم و يطلقون على رؤسائهم لقب «وغد» (1)، و زاد الأمر بالنسبة للعبرانيين حرفتهم كرعاة، «و كل راعي غنم رجس عند المصريين».

و أيا ما كان الأمر، فلقد عاش بنو إسرائيل في ظل الهكسوس الغزاة، ما شاء اللّه لهم أن يعيشوا، حتى تقوم ثورة التحرير، التي يحمل لواءها أبناء الصعيد من طيبة، أولئك الذين لم يخنعوا للهكسوس أو يخضعوا لسلطانهم، و تنتهي الأمور بمصر بطرد الهكسوس مصر و مطاردتهم حتى زاهى في لبنان، و من ثم يسترد المصريون زمام الأمور، و تقوم الأسرة الثامنة عشرة حوالي عام 1575 ق. م، و على رأسها أحمس الأول، الذي مجّدته الأجيال اللاحقة،

ص: 138


1- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراغنة ص 162، 209، و كذا, drofxO, shoorahP ehT fo tpygE, renidraG. H. A 37. p، 1961.

كمؤسس للأسرة الثامنة عشرة، و كبداية لعهد الإمبراطورية المصرية، و كبطل لا يباري نجح في طرد الهكسوس من مصر (1).

كان الإسرائيليون مرتبطين بالهكسوس بأوثق رباط، فيوسف الصديق عليه السلام، وصل إلى ما وصل إليه في عهدهم، كما أن بني إسرائيل قد ساعدوا الغاصب الأجنبي و من ثم فقد تركهم في مراعيهم آمنين، و لعل هذا كان واحدا من الأسباب التي جعلت المصريين ينفرون من اليهود، و يضمرون لهم أشد المقت، هذا إلى أنهم ربما كانوا على اتصال بالهكسوس، اتصال الملق و المصانعة، و تقديم كافة الخدمات، و من بينها خدمات التجسس، و نتج عن ذلك أن تشابهت بعض الأسماء بين الفريقين، و إن كان علماء اليهود يردون ذلك إلى أن الهكسوس إنما كانوا أيضا قبائل من بينها العبرانيين (2)- الأمر الذي سوف نناقشه فيما بعد- و لعل هذا الذي يقوله علماء اليهود هو ذاته على ما كان بين الغزاة الهكسوس، و الضيوف الإسرائيليين، من صلات وثيقة أقرها اليهود في تراثهم العبري، و عزوا إليها استقرار العبرانيين في مصر.

على أنه يجب أن نشير هنا إلى أن الإسرائيليين إنما قد تأثروا كثيرا بسادتهم الهكسوس، الذين حاولوا بدورهم أن يكسبوا ود المصريين، و يتكيفوا بالحضارة المصرية، فتبنوا ثقافة البلاد، و طريقتها في الكتابة، بل و عبدوا الإله «رع»، و كانوا يقرنون اسمه بألقابهم مثل «عاقن رع»- و هو الملك أبو فيس- كما عبدوا الإله المصري «ست»، و الذي كان يشبه إلههم الأصلي «تشوب»، و كانوا يطلقون عليه أحيانا «سوتخ» (3).

ص: 139


1- أنظر عن عصر الهكسوس في مصر و حرب التحرير (محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة- القاهرة 1976 (ط دار المعارف) ص 101- 223).
2- . 5. p, tic- po, htoR. C و كذا. p, tic- po, nietspE. I 15
3- محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 155- 160، عبد العزيز صالح: مصر و العراق ص 191.

و من هنا، فأكبر الظن، أن الإسرائيليين قد تأثروا بالهكسوس في اعتناق الديانة المصرية، و من ثم فقد رأينا «دين ستانلي» يقول: إن إقامة بني إسرائيل في مصر، قد أثرت فيهم كثيرا، فيما يتصل بحريتهم السابقة و نشاطهم السابق، و إن كان الأهم من ذلك كثيرا، أن الديانة السابقة التي تمتع بها عصر الآباء البطارقة الأقدمين، إنما قد تلاشت الآن كثيرا.

و تقدم لنا التوراة الكثير من الأدلة على أن الإسرائيليين إنما كانوا يعبدون آلهة البلاد التي كانت تستضيفهم، و من هنا جاء في سفر يشوع قول الرب: «انزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم عبر النهر، و في مصر، و اعبدوا الرب» (1)، كما جاء في سفر حزقيال: «في ذلك اليوم رفعت لهم يدعني لأخرجهم من أرض مصر، إلى الأرض التي تجسستها لهم، تفيض لبنا و عسلا، هي فخر كل الأراضي، و قلت لهم: اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه، و لا تتنجسوا بأصنام مصر، فتمردوا عليّ ... و لم يتركوا أصنام مصر» (2).

و هكذا عاش الإسرائيليون في مصر فترة رخاء في بادئ الأمر، و اعتنقوا ديانة المصريين، ثم مضت فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق، و إن كنا لا نظن أن الاضطهاد قد بدأ بعد التحرير مباشرة، و إنما يبدو لي أن ذلك، إنما كان بعد حين من الدهر.

(ب) الاضطهاد- أسبابه و نتائجه:

ترجع التوراة أسباب اضطهاد المصريين للإسرائيليين إلى أنه «قام ملك جديد على مصر، لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر و أعظم منا، هلم نحتال لهم، لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب

ص: 140


1- يشوع 24: 14.
2- حزقيال 20: 6- 8.

أنهم ينضمون إلى أعدائنا و يحاربوننا و يصعدون من الأرض» (1).

و في الواقع أننا إذا ما أردنا مناقشة أسباب التوراة هذه للاضطهاد المصري لبني إسرائيل، لرأينا فيها بعض الصواب، و لكننا سوف نرى فيها- في نفس الوقت- الكثير من الخطأ، فالتوراة تجعل من فرعون الذي «لم يكن يعرف يوسف» سببا في الاضطهاد، و رغم أنه سبب غير مقنع تماما، إلا أنه ربما كان يحمل بعض الصواب بين طياته، ذلك لأن هذا الفرعون الذي تشير إليه التوراة- دون أن تذكر اسمه- ربما كان «رعمسيس الثاني» و ربما كان «سيتي الأول»- فيما يرى أطلس و ستمنستر التاريخي- هو الملك الذي بدأ العمل في بناء مدينة «بر- رعمسيس»، كما تدل بعض الآثار التي وجدت في موقع المدينة (2).

و أما جهل هذا الفرعون بيوسف الصديق، عليه السلام، فلعل السبب في ذلك أن الصديق إنما عاش قبل هذا الفرعون بقرون، ترجع إلى أيام الهكسوس، و هم الغزاة الذين يحمل لهم المصريون في قلوبهم كل الكره و البغض، و لم يحاولوا أن يسجلوا تاريخهم، فضلا عن تاريخ موظفيهم، و الصديق واحد منهم، و من هنا فقد ارتبط يوسف بحدث مؤلم في الضمير الوطني المصري، و ذلك لسببين، الواحد أنه كان أسيويا، و جواب رمال، و الآخر أنه كان من أكبر موظفي الدولة المحتلة المكروهة، و طبقا لوجهة النظر الأخيرة، فإن أي إعجاب بيوسف إنما كان يعني- في نظر فرعون- الثناء على الهكسوس (3).

و أما ما تذهب إليه التوراة من أن الإسرائيليين قد أصبحوا «شعبا أعظم

ص: 141


1- خروج 1: 8- 10.
2- .. p, elbiB eht ot saltA lacirotsiH retsenimtseW ehT 37.
3- .. p, tic- po, relleK. W 117.

و أكثر» من المصريين، فهذا منطق غير مقبول، و أن النص التوراتي لا شك أنه قد أوغل في المبالغة، و أغرق في التعصب، ذلك أن التوراة نفسها إنما تحدثنا أن بني إسرائيل عند ما قدموا إلى مصر، للمرة الأولى، إنما كان «جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون» (1)، و ها نحن الآن على أيام الاضطهاد- ثم الخروج فيما بعد- و قد انصرمت 215 سنة، على رأي التوراة السبعينية- أو ضعف هذا الرقم على رأي التوراة العبرية- حتى يصبح هذا البيت من الناس «شعبا أعظم و أكثر» من المصريين- أصحاب أعظم و أقوى دولة في العالم وقت ذاك- أو حتى يصبح عدد بيت يعقوب قد ناهز المليوني- ربما الثلاثة- فلما طردوا من مصر، كان من بينهم «نحو ستمائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد، فكان جميع الأبكار الذكور، من ابن شهر فصاعد، اثنين و عشرين ألفا و مائتين و ثلاثة و سبعون» (2)، فإذا ضاعفنا هذا العدد كان الأبكار من الجنسين قرابة 45 ألف.

و يعلق بعض الباحثين على ذلك، بأننا لو قسمنا عدد الجماعة على الأبكار، لخلصنا إلى أن المرأة الإسرائيلية من اليهود الأبقين، كانت تلد زهاء 65 وليدا، و هو أمر لا يستقيم مع المنطق، فضلا عما تعرضوا له من ذلة و عسف تحت رؤساء التسخير، و لا مع ما روى من عبورهم البحر في سويعات قصار، و من ثم فإن علماء اللاهوت و المؤرخين، سواء بسواء، أصبحوا الآن لا يعلقون على هذه الأرقام التي ذكرتها التوراة أية أهمية، و يعتبرونها محض خيال إسرائيلي (3)،- الأمر الذي سوف نناقشه عند الحديث عن الخروج.

ص: 142


1- تكوين 46: 26- 27.
2- خروج 12: 32، عدد 43: 43.
3- عصام الدين حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي اليهود، القاهرة 1965 ص 35، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 72. و كذا, II, HAC, learsI fo esiR ehT, kooC. A. S 358. p، 1931.

هذا فضلا عن أن الإسرائيليين لم يكونوا في مصر- في غالب الأحايين- إلا مجرد رعاة أغنام، و أن المصريين إنما هم أصحاب البلد الأصلاء هم المالكون للسلطة و القوة و الثروة في البلاد، و من ثم يبدو واضحا مدى المبالغة في نص التوراة الذي يصف الإسرائيليين بأنهم «شعب أكثر و أعظم» من المصريين، و ليس أدل على ذلك من الاضطهاد الذي تقول به التوراة، و تحاول تبريره بمثل هذه الحجج الواهية، و إلا فخبرني بربك: كيف يضطهد الأقل الأكثر، و الأذل الأعز، و الأضعف الأقوى؟.

و أما قول التوراة، أنه «إذ حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا و يحاربوننا و يصعدون من الأرض»، فلعل هنا موطن السر، و لعل من كتبوا هذه النصوص في التوراة قد أشاروا إلى موطن الداء، دون أن يدروا، و هو عدم ثقة المصريين في بني إسرائيل، و خشيتهم من أن يكونوا حربا عليهم، إن طمع فيهم غاز لئيم، أو أراد معتد أثيم أن يدنس أرضهم، و لعل لهم من عهد الهكسوس ذكريات لا تضع الإسرائيليين فوق مستوى الشبهات، بل إنهم- كما يقول الدكتور الحاخام أبشتين (1)- كانوا متهمين بالتعاطف مع الهكسوس، و أقرباء نائب الملك السابق، أو وزير تموينه على الأصح.

و هكذا يبدو واضحا- و بنص التوراة نفسها- أن سبب الاضطهاد من أقوى الأسباب التي تخيف منهم أمة متحضرة كمصر، و ملكا مهيبا كفرعون، و هو انعدام ولائهم للبلاد التي يعيشون فيها، و استعدادهم للانضمام إلى أعدائهم و شن الحرب عليها (2)، حتى وقع في خلد فرعون و آله أنهم طابور خامس، و ربما كان ذلك- فيما يرى سير ليونارد و ولي- انعكاسا للكراهية القومية للهكسوس المحتلين التي رأت في العبرانيين ظلالهم (3).

ص: 143


1- . p, msiaduJ, nietspE. I 15.
2- حسن ظاظا: الصهيونية العالمية و إسرائيل، القاهرة 1971 م ص 4.
3- . p, tic- po, yellooW. L 495.

هذا فضلا عن أن الشعب المصري لم يكن ينظر بارتياح إلى الإسرائيليين منذ أول يوم عرفهم فيه (1)، ثم تحول هذا الشعور إلى كره و مقت، حين رآهم أجراء أذلاء يستخدمهم الهكسوس الغزاة في أعمالهم، ثم تحولت به الكراهية إلى احتقار و ازدراء، بخاصة و أنهم كانوا منذ البداية يعتبرون الأكل معهم نجاسة، ثم رحل الغزاة من أرض مصر، فبقي هؤلاء الأذناب ليلعبوا دور الذئاب، و كان من رعمسيس ما كان مع هؤلاء الجواسيس (2).

و هنا لنا أن نتساءل هل كان هناك حقا استعباد من المصريين للإسرائيليين؟ أم أن الأمر لا يعدو أن الإسرائيليين قد اعتادوا الدعة و الرخاء منذ أيام يوسف، فلما تغيرت الحال نوعا، و رأى الفراعين ضرورة اشتراك اليهود فيما كان يبذل في البلاد من جهود نحو التنمية في الزراعة. و أعمال البناء و تشييد التماثيل و المعابد و ما إلى ذلك، عدوا ذلك عننا لا يطيقون احتماله و بدءوا يتذمرون (3)؟

و إذا ما أردنا أن نصل إلى الحقيقة، أو حتى أن نقترب منها، فعلينا أن نتذكر أن مصر، إحدى الدول التي لم تعرف السخرة و الاستعباد قبل عهد الدولة الحديثة، حين كان الأسرى يدفعون إلى العمل فيستعبدون عن هذا الطريق، و لم يقل أحد من العلماء أن الإسرائيليين دخلوا مصر كأسرى حرب، و من ثم استعبدهم المصريون، هذا فضلا عن أن التوراة إنما تذكر صراحة أن الفرعون إنما كان ينظر إليهم- حتى في أوقات الشغب- و كأنهم من الشعب ليسوا مجموعة من العبيد- أو حتى المستعبدين-، تقول التوراة:

ص: 144


1- تكوين 43: 32.
2- عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 177- 178.
3- صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني، القاهرة 1970 م ص 25.

«فقال لهما ملك مصر: لما ذا يا موسى و هارون تبطلان الشعب من أعماله (1):، بل إن القرآن الكريم إنما يقدم لنا الإسرائيليين على أنهم قد أصبحوا جزءا من رعية فرعون، أو طائفة منهم، يقول سبحانه و تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ (2).

بل إننا- حتى لو افترضنا جدلا- أن المصريين قد استعبدوهم يعد طرد الهكسوس، فإن العمال- سواء كانوا يعملون في المقابر أو المحاجر الملكية، أو كانوا يعملون في تشييد المدن- إنما كانوا يعاملون معاملة طيبة، و يمنحون المكافآت في الأوقات المناسبة، و أنهم كانوا يتمتعون بفترات راحة رسمية، كانت تقع في اليوم العاشر و العشرين و الثلاثين من كل شهر، كما كانوا يمنحون إجازات في المناسبات الخاصة بالأعياد الكبرى للآلهة الرسمية كانت كثيرا ما تصل إلى أيام متتالية (3)، كما كان بعضهم يتخلفون عن العمل لأسباب مختلفة كالمرض و تقديم القرابين للإله، كما كان انحراف مزاج الزوجة أو الابنة كافيا- و إن كان غريبا- يسوغ أحيانا التخلف عن العمل (4).

و من ثم فقد رأينا بعض الفراعنة يفخرون بأنهم إنما يعاملون عمالهم برفق و سخاء، فها هو «سيتي الأول» يحدثنا أن الواحد من عماله، إنما كان «يتقاضى أربعة أرطال من الخبز، و حزمتين من الخضروات، و قطعة من

ص: 145


1- خروج 5: 4.
2- سورة القصص: آية 4.
3- ,egdirbmaC ,ytsanyD tsriF ytnewT eht fo dnE eht ot ,III ,sessemaR fo htaeD eht morf tpygE ,ynreC .J 18. p، 1965.
4- أرمان، رانكة: مصر و الحياة المصرية في العصور القديمة، ترجمة عبد المنعم أبو بكر، القاهرة 1953 ص 124.

اللحم المشوي كل يوم، و ثوبا من الكتان النظيف مرتين كل شهر» (1)، و في الواقع أنه لو كان ما يقوله «سيتي» صحيحا، لكان عماله يعيشون في مستوى يقارب مستوى العمال في العصر الحديث، و في أكثر البلاد تقدما، فإذا أضفنا إلى ذلك أن «سيتي الأول» هذا، أو ابنه رعمسيس الثاني، هما اللذان تدور حولهما روايات التوراة عن السخرة، و بناء مدينتي «فيثوم و رعمسيس»، لتبين لنا مدى ما في رواية التوراة من مجافاة للحقيقة.

و لعلنا نستخلص الدليل على حسن معاملة الفراعين للعمال من بني إسرائيل من توراة بني إسرائيل نفسها، ذلك أننا نقرأ في سفر الخروج أن الإسرائيليين قد ثاروا على موسى، و لما يمضي شهر و نصف الشهر على خروجهم من مصر، بعد أن أفقدهم موسى حياة الرخاء في مصر، و جاء بهم إلى البرية (2)، ثم سرعان ما تمضي فترة فتعود الثورة و يشتد الحنين إلى مصر، و من ثم نقرأ في سفر العدد: «فعاد بنو إسرائيل أيضا، و بكوا و قالوا من يطعمنا لحما، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا، و القثاء و البطيخ و الكرات و البصل و الثوم (3)، بل إن التوراة في سفر الخروج إنما تؤكد أن الإسرائيليين إنما كانوا يعارضون في الخروج من مصر منذ بادئ الأمر، تقول التوراة- على لسان الإسرائيليين- «ما ذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر، أ ليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين» (4).

و هكذا يبدو لي أن الأمر لم يكن بالصورة التي قدمتها التوراة، و أن

ص: 146


1- , ogacihC, VI, tpygE fo sdroceR tneicnA, detsaerB. H. J 414. p، 1907.
2- خروج 16: 2.
3- عدد 11: 4- 6.
4- خروج: 14: 11- 122.

الإسرائيليين لم يكونوا عبيدا مسخرين في مصر، و إنما كانوا قوما طفيليين اعتادوا حياة الدعة و الرخاء في ظل رعاية الهكسوس و إيثارهم على الوطنيين، و حين ولى ذلك كله، و تحررت البلاد من نير الهكسوس، و أراد الفراعين إعادة الدولة المصرية إلى ما كانت عليه من مجد و سؤدد، فكان لزاما عليهم الاهتمام بزراعتها و إعادة ما تهدم من منشآتها، و هنا كان على القاطنين بأرض الكنانة، الإسهام في هذا الجهد العظيم، فطلب أولوا الأمر من بني إسرائيل أن يشاركوا في ذلك كله، لا أن يكون عملهم مقصورا على رعاية المواشي و الأغنام، و هو أمر يعود عليهم بالنفع وحدهم.

و هنا غضب الإسرائيليون لأنهم ما تعودوا أن يشاركوا بجهد في إقامة الدولة من كبوتها، و لأنهم سوف يفقدون امتيازاتهم القديمة، و ربما فكروا في العمل ضد الدولة، أو أن الدولة نفسها كانت تخشى- كما تقول التوراة (1)- أن يتآمر بنو إسرائيل ضدها في محاولة للانتكاس، بل إن بعض الباحثين إنما يذهب إلى أن شعب مصر إنما كان قد اكتشف فعلا أن بني إسرائيل يتآمرون عليه (2).

و على أي حال، فلو اتفقنا مع الآراء التي تنادي بأن فرعون التسخير، إنما كان «رعمسيس الثاني» (3)- أو حتى أبوه «سيتي الأول»، لرأينا أن ظروف البلاد إنما كانت تستدعي وقت ذاك الحذر و الحيطة من الأخطار الخارجية التي كانت تهددها، و لم يكن لرعمسيس- أو أبوه،- بداهة أن يفاجى ء الناس- على غير علة و لا سبب- بتلك السياسة، عن مجرد مزاج مال

ص: 147


1- خروج 1: 10.
2- سليمان مظهر: قصة العقائد ص 283.
3- قاموس الكتاب المقدس 2/ 923، و أنظر: ehT, ellivan, E و كذا. p, tic- po, hoN. M 134، 120. . p, tic- po, nageniF. J 134، 120. و كذا. p, tnematseT dlO eht fo ygoloeahcrA 39.

به إليها، و شهوة إلى الدم عصفت به في قوم أبرياء. و إنما لا بد و أن تكون هناك أسباب، تستدعي كل هذا العنف، و تلك القوة القاسية.

كان عهد رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م)- و كذا عهد أبيه سيتي الأول (1309- 1291 ق. م) من قبل- قد تميز بالحرب الضروس التي اشتعل أوارها بين القوتين الأعظم في ذلك الوقت، و أعني بهما القوة المصرية و القوة الحيثية، فالتاريخ يحدثنا أن الحيثيين كانوا من وراء الثورات التي شبت في إمبراطورية مصر الآسيوية على أيام أخناتون (1367- 1350 ق. م)، حتى قضوا- أو كادوا- على النفوذ المصري في غربي آسيا (1)، حتى إذا ما كانت أيام «حور محب (1335- 1308 ق. م) بدأت مصر تستعيد قوتها، و تنازع الحيثيين سلطانهم الذي اكتسبوه في غيبة الإمبراطورية المصرية، بل إن الرجل إنما أحرز انتصارا عليهم حتى قبل توليته عرش الكنانة (2).

على أن «سبتي الأول» إنما كان حقا هو الفرعون الذي قام بالمحاولة الجادة لاستراد الإمبراطورية المفقودة في آسيا، و وضع حد لنزوات البدو الذين كانوا يهدون الحدود الفلسطينية من الشرق، فيقوم بحملات ثلاث ينجح فيها في إخضاع كل بلاد فلسطين، و جانب من سورية، ثم يستمر في تقدمه شمالا، حتى إذا ما كانت الحملة الرابعة تحدث المواجهة المباشرة بينه و بين الحيثيين في مكان ما إلى الشمال من مدينة قادش، و طبقا لنصوص

ص: 148


1- , (skooB niugneP), setittiH ehT, yenruG. R. O 51. p، 1969، و كذا. p, I, tselbaT anramA le- lleT ehT, recrem. B. A. S، 21- 417، 215، F. p, II 529، 238.
2- أنظر: دريوتون، فانسيية: مصر، ترجمة عباس بيومي، القاهرة 1950 ص 466- 467، محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 229- 230 و كذا, Y, N, tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 40. p، 1946 و كذا, aej, bahmeraH lareneG eht fo bmoT etihpeM eht, renidraG. H. A 4. p، 1951، 39.

الكرنك، فقد كتب النصر للفرعون، فضلا عما استطاع الحصول عليه من الغنائم و الأسرى، إلى جانب إجبار الحيثيين على العودة إلى بلادهم (1).

و يخلف «رعمسيس الثاني» أباه «سيتي الأول» على عرش الكنانة في عام 1290 ق. م، و يبدأ حكمه بأن يوجه كل جودة في متابعة الانتصارات التي حققها أبوه في فلسطين و مدها نحو الشمال، إلى سورية، و هنا تحدث مواجهة أخرى بين المصريين و الحيثيين على أرض قادش (2)، حيث كانت

ص: 149


1- أنظر محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 230- 232. و كذا TENA ni, nosliW. J، 254. p، 1966. . O. R و كذا, AEJ ni, I, sohteS fo sraW eht, renkluaF. O. R 38- 37. p، 1974، 33. و كذا. fo tpygE, renidraG, HA و كذا, egdirbmaC, 2, trap, II, HAC ni, renkluAF 201- 218. p، 1975. , drofxo, shoarahP eht 254- 253. p. 164، 1964.
2- قادش: بلد تقع على نهر الأورنت (العاصي) في مكان «تل نبي مند»، على الشاطئ الأيسر لنهر العاصي، داخل الزاوية المكونة من التقاء العاصي بنهر الموقادية الصغير من ناحية الغرب، و على مبعدة بضعة أميال جنوبي النهاية الجنوبية لبحيرة حمص، و كانت قادش تدعى في حوليات تحوتمس الثالث «قدشو» و في رسائل العمارنة «كنزا» أو «كدش» و في بعض الحالات «كدشو» و «جيزا» و ربما كان «إدوارد ماير» مصيبا في ظنه أن الاسمين مختلفان حقيقة، فالأول هو الإسم الحقيقي، و الثاني اسم بمعنى «المحراب» من الأصل السامي «قدش» أي مقدس، و يبدو أن المدينة قد خربت بعد المعركة الطاحنة بين رعمسيس الثاني و مواتيلا ملك الحيثيين، ثم جددت بعد ذلك عدة مرات، ربما كان آخرها في العصر الروماني. و ترجع أهمية قادش من الناحية الإستراتيجية أنها تقع في النهاية الشمالية لوادي البقاع، و من ثم فقد كان لزاما على الجيوش المتجهة شمالا أو جنوبا أن تمر بها، إلا إذا فضلت السير على الساحل الضيق بطريق أرواد أو أجاريات. و أما قدش و قادش المذكورتان في التوراة فهما مكانان في جنوب فلسطين (غير قادش الأورنت)، فأما الأولى: فهي قادش برنيع، و التي يرجح أنها على مبعدة 50 ميلا جنوبي بئر سبع، 70 ميلا جنوبي حبرون (الخليل)، و أما الثانية فهي مكان قرية قدس الحالية على مبعدة عشرة أميال شمالي صفد، و أربعة أميال إلى الشمال الغربي من بحيرة الحولة (أنظر قاموس الكتاب المقدس 2/ 708- 709 و كذا ,hsedaK fo elttaB ehT ,detsaerB .H .J ,I ,acitsamonO naitpygE tneicnA ,renidraG .A و كذا. p, tic- po, regnU. F. M 625. و كذا 141- 137.. ogacihC P 13. p، 1903.

معركتها المشهورة في السنة الخامسة من عهد رعمسيس الثاني (حوالي عام 1285 ق م)، و التي انتهت بنصر غير مؤزر للمصريين، مما اضطر الفرعون إلى العودة إلى النضال ثانية عام حكمه الثامن (حوالي عام 1282 ق م) ضد أعدائه في الأرض الأسيوية، و يكتب له هذه المرة نجحا بعيد المدى في إخضاع المدن الثائرة من جنوبي فلسطين حتى شمال سورية، ثم يتقدم حتى بلاد النهرين، و يوقع بالحيثيين هزيمة ثانية في «تونب»، و هكذا ينجح رعمسيس الثاني في أن يستعيد الإمبراطورية المصرية في آسيا، و في أن يسجل اسمه كأحد الفراعين المحاربين، الذين أفنوا عمرهم في الحفاظ على الإمبراطورية المصرية التي ورثوها عن فرعون مصر العظيم «تحوتمس الثالث»، كما كانت الحملة درسا قاسيا للحيثيين أجبرهم على احترام السيادة المصرية في آسيا، و عدم التدخل في شئون الولايات المصرية هناك (1).

هذه هي الظروف التي كانت تمر بها مصر في تلك الفترة التي تحدثت التوراة عن استعباد الإسرائيليين في مصر إبانها، و لعل أي منصف ليرى أن الفرعون ما كان في استطاعته أن يترك البلاد تحت رحمة الدسائس الإسرائيلية، و أغلب الظن أن رعمسيس إنما طارد بني إسرائيل بعد أن أوعز صدره عليهم، و ثقة مفقودة ربما افتقدها عندهم في حروبه ضد الحيثيين، و لعله وجد فيهم ما لم يتعففوا عنه من خيانة و تجارة بولائهم للغالب في ظنهم من المتنازعين، و ما كان من حق الفرعون أن يترك طائفة من الناس- أيا

ص: 150


1- محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث- الإسكندرية 1969 ص 77- 93 (رسالة دكتوراه) و أنظر: hsedaK ehT, renidraG. A و كذا:. p, TENA 265: eht no noitaredisnoC, ekcideoG. H و كذا, drofxo, II, sessemaR fo noitpircsnI 9- 7. p، 1966. , 2 traP, II, HAC ni, renkluaF. O. R: و كذا, AEJ, hsedaK fo elttaB 79- 72. p، 1966، 52. , 7, AEJ, hsedaK fo elttaB eht no setoN snoS, neruB. A: و كذا egdirbmaC، 230- 226. p، 1975. 195- 194. p، 1921.

كانت- تنعم بخيرات الكنانة و دون أن تؤدي عملا يتفق و ظروف الحرب هذه، فضلا عن الخيانة و التجسس، بخاصة و أن الإسرائيليين كانوا يسكنون في منطقة الحدود الشرقية، و هو التي اضطر رعمسيس تحت ضغط الظروف أن ينقل إليها عاصمته، لتكون في مكان وسط بين مملكته في مصر و أملاكها في آسيا، و من ثم يصبح على مقربة من الأحداث التي كانت تدور وقت ذاك في أملاك مصر الأسيوية، أضف إلى ذلك كله أن الإسرائيليين إنما كانوا يرتبطون بفلسطين بالذات بالأساطير التي تجعلها «أرض الميعاد»، فضلا عن أنهم قدموا إلى مصر منها كذلك، و من هنا كان خوف الفرعون من أن يكونوا جواسيس عليه، لمصلحة أعدائه من الأمراء الأسيويين، فضلا عن الحيثيين.

و انطلاقا من هذا كله، كان أمر فرعون أن يعمل عبيده الإسرائيليين في بناء المدن الجديدة- مكرهين كانوا أم راغبين- بل و تحت إشراف رؤساء مصريين، و لم يكن في هذا الأمر شي ء من تعنت أو شذوذ- فما أظن- فالفرعون أراد بوضعهم تحت إشراف المصريين أن يكون في مأمن من جانبهم، و حتى لا يصاب بضربة خيانة منهم، في وقت هو في أشد الحاجة إلى من يؤمن له ظهره إبان قتاله المرير ضد الحيثيين، و ضد الأمراء الأسيويين، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، فإن هذه الشوامخ الراسيات على أرض الكنانة قد قام بها من قبل مصريون، فما الغريب في الأمر، أن يسهم بنو إسرائيل في بناء مدينتي «فيثوم و رعمسيس»- و هما المدينتان اللتان شيدهما رعمسيس الثاني في نفس المنطقة التي يقيم فيها الإسرائيليون- و هو إسهام لم يتجاوز صنع قوالب من اللبن تستخدم في بناء المدن، بل إنه في أشد حالات قسوته- كما تصوره التوراة (1)- أن يجمع الإسرائيليون اللبن الذي يستخدمونه في صنع اللبن بأنفسهم من القرى المصرية، بعد أن كان

ص: 151


1- خروج 1: 8- 14، 5: 6- 11.

المشرفون عليهم هم الذين يقومون بجمعه.

هذا هو العمل القاسي الذي كلف به الإسرائيليون، إسهام في بناء بعض مدن الدلتا، و الحق أنه ما كان من المنطق، و ما كان من العدل، أن يعمل المصريون- فضلا عن الأسرى الأسيويين (1)- في الحقول، و في بناء المدن و تشييد المحاريب و التماثيل، ثم يخوض أشبال الكنانة و أسودها بعد ذلك المعارك الضارية، يقتلون و يقتلون، بينما يظل الإسرائيليون- ما شاء اللّه لهم أن يظلوا- عالة على البلاد التي استضافتهم نيفا و أربعة قرون، منذ أن وصلوا إليها لاجئين، يطلبون الرزق، و يلتمسون وسائل العيش الناعم، و الحياة السهلة الرضية، بين أهلها الكرام أبدا، دون أن يقوموا لأهلها جزءا و لا شكورا.

و الرأي عندي، أنه حتى هذه المرحلة، لم يكن هناك تعذيب للإسرائيليين قد بدأ بعد، و إنما العذاب المهين قد بدأ، حين «أمر فرعون جميع شعبه قائلا: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها (2)»؛ و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ (3)، و قول: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (4). ).

ص: 152


1- أنظر عن استخدام الأسرى في المباني: te itnasaraB و كذا. on, III, ERA, detsaerB. J 498, IX, EASA (ibun) auobeS- SE idauQ a seevuorT seletS, reihtuaG 84. p، 1911.
2- خروج 1: 23.
3- سورة القصص: آية 4، و أنظر: تفسير روح المعاني 20/ 42- 44، في ظلال القرآن 20/ 2676، تفسير ابن كثير 3/ 379- 380 (دار إحياء التراث العربي- بيروت)، تفسير القرطبي ص 4963- 4965.
4- سورة البقرة: آية 49، و أنظر: تفسير روح المعاني 1/ 252- 254، تفسير الكشاف 1/ 127- 138، تفسير الطبري 2/ 36- 29 (دار المعارف)، تفسير النسفي 1/ 49، تفسير القرطبي ص 225- 230 تفسير الطبرسي 2/ 231- 215، التفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية 1/ 98- 100، تفسير البحر المحيط 1/ 187- 188، تفسير المنار 1/ 308- 313، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 68- 69 (طهرا 1377 ه)، في ظلال القرآن 1/ 70- 72، تفسير ابن كثير 1/ 128 130 (القاهرة 1971) الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 59- 61 (للشيخ طنطاوي جوهري).

و سؤال البداهة الآن: لم تغير الحال إلى هذا المصير الأليم؟ و لم أذاق الفرعون بني إسرائيل العذاب المهين؟

إن الإسرائيليين- كما هو معروف- لم يكونوا أول الشعوب الأسيوية التي استضافتها مصر، و لم يكونوا كذلك آخرها، و بخاصة إذا أرخنا مرحلة الاضطهاد هذه بعصر رعمسيس الثاني، فإننا نعلم أن عاصمته التي سخر الإسرائيليين في بنائها، طبقا لرواية التوراة، مثل سائر المدن الكبرى في مصر حيث كان يخالط المصريون الليبيين و الزنوج و الأسيويين، و لا شك في أن موقع العاصمة الجديدة بين مصر و أقاليم الشرق جعل الوفود تقصدها، فظهر الغرباء في بعض وظائف الدولة، و امتلأت لغة المصريين بكلمات أسيوية سامية وردت كثيرا في الأدب المصري، و بخاصة في القرن الثالث عشر ق.

م، و كان ازدواج اللغة واضحا في عاصمة الرعامسة، هذا فضلا عن أن الآلهة الكنعانية قد مثلت في مجمع الآلهة المصري، كذلك شاعت بين المصريين بعض العادات السامية، بل أصبح للغرباء في العاصمة أحياء خاصة، كما أصبح لغير المصريين من جندها ثكنات خاصة بهم في قلبها و في ضواحيها (1).

ص: 153


1- بيير مونتيه: الحياة اليومية في مصر الرعامسة، ترجمة عزيز مرقس منصور، القاهرة 1965 ص 19- 20، و أنظر Y. N, arzE ot maharbA morF, doireP lacilbiB ehT, thgirblA. F. W. 14. p، 1963.

و إذا كان ذلك كذلك، فلم حاق الإسرائيليون بغضب فرعون دون سواهم من ضيوف مصر و أسراها؟

و هنا علينا أن نبحث عن سبب مقنع لهذا التحول الخطير في حياة الإسرائيليين في مصر، و ليس هذا السبب- بحال من الأحوال- ما ترويه الأساطير من أن الإسرائيليين قد أذاعوا بين الناس- أو أن الكهنة المصريين قد تنبّئوا- بأنه سيولد من بني إسرائيل من سيكون على يديه زوال فرعون و ضياع ملكه (1)، فلعمري إنما تلك روايات رأينا مثلها عن إبراهيم الخليل (2) و عن المسيح (3)، عليهما السلام، فضلا عن تلك التي دارت حول «زرادشت» (4).

و من هنا، فليس أمامنا سوى أن نفترض أن أمرا قد حدث من الإسرائيليين الذين ساءهم ما كانوا به من عمل في مدينتي فيثوم و رعمسيس، فعصف ذلك الأمر بالبقية الباقية من صبر فرعون، و إن كنا لا ندري على التحقيق ما هو هذا الأمر، فربما كان خيانة، و ربما كان بداية تمرد، أو على الأقل، فإن الإسرائيليين ربما بدءوا يوجهون حربا نفسية لخلخلة الرأي العام المصري- إن صح هذا التعبير- و بخاصة في منطقة شرق الدلتا، التي كانت تعج بالأجانب من كل جنس، إن لم يكونوا قد قاموا بالاتصال بالعدو الأسيوي، و القوات المصرية في حالة نزال معه على الأرض الأسيوية نفسها، و ربما اكتشف المصريون ذلك بعد عودة قواتهم من معركة قادش

ص: 154


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 137- 238، قصص الأنبياء 2/ 4- 5، تاريخ الطبري 1/ 386- 388، تاريخ اليعقوبي 1/ 33 مروج الذهب 1/ 61.
2- تاريخ الطبري 1/ 234- 236، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 94- 95، ابن كثير البداية و النهاية 1/ 148، أبو الفداء المختصر في أخبار البشر 1/ 13.
3- متى 2: 1- 23.
4- على عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة ص 129- 130.

المشهورة، أو ربما كان ذلك بعد حملة العام الثامن التي قضى فيها رعمسيس الثاني على أعدائه- سواء أ كانوا من الأمراء الأسيويين الثائرين، أو من الملوك الحيثيين الطامعين، ذلك لأننا نميل أن ما حدث إنما كان بعد هذه الحملة الأخيرة، حيث أن الفترة ما بين معركة قادش في السنة الخامسة من حكم رعمسيس الثاني (حوالي عام 1285 ق م)، و بين حملة العام الثامن (حوالي عام 1282 ق م) إنما تميزت باندلاع الثورة في كل فلسطين بتحريض من الحيثيين، و ربما بدسائس الإسرائيليين كذلك.

و من هنا فقد عاد رعمسيس من حملته هذه، و في غضب من أحس أنه طعن من وراء ظهره ممن آوتهم مصر بعد تشرد، و أطعمتهم بعد جوع، فكان العذاب الأليم صبّه فرعون، دونما رحمة أو شفقة، على الإسرائيليين، حيث أمر بذبح أبنائهم و استحياء نسائهم، و في هذه الأيام العصيبة ولد لبني إسرائيل أمل جديد، ذلكم هو «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب» عليه السلام.

و يعلق أحد علماء الإسلام الأجلاء على هذه الأحداث، و على موقف فرعون منها، فيرى فضيلته: أن فرعون كان عظيما و كريما في موقفه من بني إسرائيل، ثم يتساءل فضيلته: ما ذا يفعل أي حاكم- عادل أو ظالم- في قوم دخلاء غرباء، وجدوا في بلاده المرعى الخصيب، و العيش الرطب، و الضيافة الكريمة، على الرغم من أن أهلها يكرهونهم، ثم وجدهم بعد ذلك، و بعد طول الإقامة في بلاده خونة و جواسيس، و مثار فتن و دسائس و أذنابا لأعدائه، يعملون على هدم وطنه و استعباد أهله.

و حين سئل فضيلته: أ يقتل أطفالهم، و يستحي نساءهم، و يسخرهم في تعبيد الطرق، و بناء المدن، كما فعل فرعون؟

أجاب فضيلته: و هل هذا يعد شيئا إذا قيس بما وقع عليهم من «نبوخدنصّر

ص: 155

» (605- 562 ق. م) و «أدولف هتلر» (1889- 1945 م)، و أباطرة الرومان، و ما عانوه من المذابح التي أكلت نساءهم و أطفالهم في روسيا و أسبانيا، و في كل مكان كان لهم فيه كيان؟.

إن هؤلاء كانوا وراء كل فتنة عامة، و خلف كل محنة إنسانية في كل عصر و لم يكن هلاك فرعون تكريما لهؤلاء الذين يقول اللّه فيهم مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا، و إن كان انتقاما من فرعون لتكبره و تجيره و ما آل إليه أمره من الطغيان، حتى انتهى به إلى الكفر، و الإصرار على الكفر (1)، و قال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (2)، و قوله لموسى: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (3)، و قوله: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (4)، و كذلك جاء بعد هذه الآية قوله تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (5)، و هذا التعليل للفرق هو الذي تذكره الآية الكريمة: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (6)، و أخيرا فإن النقيصة التي أخذت على فرعون إنما كانت اندفاعه في العذاب و إسرافه في القتل للمذنب و غير المذنب على السواء (7).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك رأيا يذهب إلى أن سبب اضطهاد الفراعين لبني إسرائيل إنما هي أسباب سياسية و دينية، ذلك أن ديانة

ص: 156


1- عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 192- 193.
2- سورة القصص: آية 38.
3- سورة الشعراء: آية 29.
4- سورة النازعات: آية 22- 24.
5- سورة النازعات: آية 25- 26.
6- سورة الأعراف: آية 136.
7- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 87.

التوحيد التي كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر، لا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك و استقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم، ثم من بعد ذلك في عهد أسرة الرعاة (الهكسوس) فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية، و هكذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني يعقوب، إلى جانب السبب السياسي، و هو أنهم جاءوا و استوطنوا و حكموا و استقروا في عهد ملوك الرعاة (الهكسوس) فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني يعقوب أيضا، و إن كان إختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع، ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعنة، فهي العدو الأصيل للطواغيت و حكم الطواغيت و ربوبية الطواغيت (1).

و رغم جاذبية هذه النظرية، و ما فيها من أوجه صواب، فإن فيها نقاط ضعف أيضا، منها (أولا) أن الهكسوس، على الأقل بعد عهد يوسف عليه السلام، لم يكونوا موحدين بدليل أن ملكهم أبو فيس الذي قامت ضده حرب التحرير لم يكن موحدا، فلقد أطلق على نفسه في رسالته لأمير كوش «عاوسررع، ابن رع، أبوبي»، كما وصف نفسه، كما أشرنا من قبل، بأنه «ابن رع من جسده» و «الصورة الحية لرع على الأرض»، و بدهي أن هذه ليست أسماء أو صفات الموحدين، و منها (ثانيا) أن كثيرا من ملوك الهكسوس، بعد عهد يوسف، قد قبلوا عبادة إله الشمس رع، بجانب ست، كما أن كثيرا من ملوكهم، كما أشرنا من قبل، كانت لهم أسماء مركبة من اسم «رع» مثل «هائلة هي قوة رع» و «رع هو سيد السيف». ).

ص: 157


1- في ظلال القرآن 4/ 1961 (بيروت 1982).

و منها (ثالثا) أن صورة الأنثى العارية التي تظهر على الجعارين من عصر الهكسوس، إنما تمثل الإلهة السامية «عنات» أو «عتر- عشتارت»، و يشار إليها في نصوص متأخرة من عهدهم، و كأنها زوجة للإله «ست- بعل» (1)، و منها (رابعا) أن رويات المفسرين و المؤرخين المسلمين إنما تذهب إلى أن ملك الهكسوس الذي فسر له يوسف رؤياه، هو الذي آمن به فقط، أما من جاء بعده فلم يؤمن، يقول ابن الأثير في الكامل: لما ولي يوسف عمل مصر، دعا الملك الريان إلى الإيمان فآمن ثم توفي، ثم ملك بعده مصر قابوس ... فدعاه يوسف إلى الإيمان فلم يؤمن، و توفي يوسف في ملكه (2).

عقب طرد الهكسوس مباشرة أو حتى بعده بقليل، و إنما تم بعد ذلك بفترة طويلة، و إذا كان ما ذهبنا إليه من أن رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق.

م) هو فرعون التسخير، صحيحا، فإن هذا يعني أن بني إسرائيل لم يضطهدوا إلا بعد قرابة قرون ثلاثة من طرد الهكسوس حوالي عام 1575 ق. م، و منها (سادسا) صحيح أن بني إسرائيل على أيام يعقوب و يوسف عليهما السلام، بل و بعد ذلك بفترة ليست قصيرة، كانوا، دون شك، على ديانة التوحيد، و لكنه صحيح كذلك أنه بعد مضي قرون من عهد يوسف، قد تصل إلى الثلاثة، لم يكن بنو إسرائيل، كما كانوا موحدين، و إن ظلوا على بقايا من دينهم، و خاصة في فترة الاضطهاد العنيفة، و هكذا ما أن تمضي الأيام و تمر السنين على عهد يوسف الصديق، و تطول إقامة بني إسرائيل في مصر إلى

ص: 158


1- محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة- القاهرة 1976 ص 152- 155، و كذا eht morF tpygE, seyaH. C. W و كذا, AEJ, hgrebredaS- evoS. T 65- 64. p، 1951، 37 II ecneuqeS ot, III semenemmA fo htaeD، 18- 17. p، 1965.
2- تاريخ الطبري 1/ 363، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 212، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 83.

قرون، ربما تجاوزت الأربعة، حتى ينسى الإسرائيليون خلالها دعوة التوحيد، التي نادى بها الآباء من أنبياء اللّه الكرام، إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف عليهم السلام، و ينغمسون في وثنية المصريين، و يتعبدون لآلهتهم (1).

و منها (سابعا) أن سيرة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، لا تدل أبدا أنهم كانوا موحدين على أيام الاضطهاد فمن المعروف أنه ما أن كتب اللّه النصر لموسى على فرعون، و نجح في الخروج بقومه من قبضته، حتى عاد بنو إسرائيل إلى الوثنية، و عبادة الأصنام، و في الواقع فإن التراث الديني اليهودي ليزخر بأدلة لا تقبل الشك، على أن اليهود الذين رافقوا موسى لم يكونوا أكفاء لحمل عب ء التوحيد و فلسفته التجريدية الروحية الرفيعة، و لم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع حاجتهم إلى الاعتبارات المادية، بل إنه لا يفهم من حادث واحد من حوادث رحلة الخروج أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسيم الدينية في مصر، و ودوا لو أنهم يعودون إليها، و يعبدونها مسوخة ممسوخة في الصحراء (2)، و من ثم فلم يكد بنو إسرائيل يمضون مع موسى عليه السلام، بعد خروجهم من البحر، و نجاتهم من آل فرعون، حتى رأوا قوما يعبدون أصناما لهم، فنسوا كل ما كانوا يذكرونه من آيات اللّه، و نجاتهم مع موسى، و قالوا ما حكاه القرآن في قوله تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (3)، و الفاء في قوله تعالى: فَأَتَوْا تفيد، كما هو معروف،

ص: 159


1- خروج 12/ 40، حزقيال 20/ 4- 8.
2- عباس العقاد: مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية- القاهرة 1968 ص 107.
3- سورة الأعراف: آية 138- 139.

الترتيب و التعقيب، و معنى ذلك أنه لم يمضي وقت بعد خروجهم من البحر، و نجاتهم من الهلاك، حتى عادوا إلى الوثنية التي ألفوها، و ألفوا الذل معها، و هذا يدل على أن الإيمان لم يخالط بشاشة قلوبهم، و لم يتمكن من ضمائرهم و مشاعرهم، و لم يثمر فيهم الثمرة الطيبة لكل شجرة طيبة، و إنما كان إيمانهم بموسى إيمانا بإمامته و زعامته، لا إيمانا بالذي خلقه و سواه (1).

و هكذا لم يمضي وقت طويل حتى كانت الردة الثانية، بعد فشل الأولى، ممثلة في العجل الذي عبدوه، و التي تحدثت عنها التوراة (2)، كما تحدث عنها القرآن (3)، و ليس هناك من شك في أن هذا من تأثير الديانة المصرية على بني إسرائيل، ذلك أن عبادة العجل في مصر إنما هي جد عميقة الجذور، ترجع إلى أيام اسرة الأولى (4)، و هكذا بقيت الوثنية راسخة في قلوب بني إسرائيل، حتى بعد انغلاق البحر لهم، و حتى بعد أن جاوزوه على يبس، و حتى بعد أن منّ اللّه عليهم بالمن و السلوى، و حتى بعد أن استقوا موسى فضرب الحجر بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط من أسباطهم مشربه، و حتى بعد أن نزلت عليهم شريعته تحذرهم من اتخاذ آلهة غير اللّه، حتى بعد هذا كله، و مع وجود موسى نبيّهم بين ظهرانيهم، فإنهم سرعان ما زاغوا عن الطريق المستقيم، و كفروا باللّه الواحد الأحد «و صنعوا لهم عجلا مسبوكا و سجدوا له و ذبحوا و قالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر (5)»، و هذا ما سوف يفعلونه في دويلة إسرائيل على

ص: 160


1- عبد الرحيم قودة: من معارف القرآن ص 193- 194.
2- خروج 32/ 1- 28.
3- سورة البقرة: آية 51، 54، 92، 93، سورة النساء: آية 153، سورة الأعراف: آية 148- 152، سورة طه: آية 83- 98.
4- , tpygE ciahcrA, yremE. B. W 124. p، 1963.
5- خروج 32/ 8.

أيام ير بعام الأول (922- 901 ق. م) و بعد موت نبيّهم سليمان عليه السلام مباشرة عام 922 ق. م (1).

و منها (ثامنا) أن المفسرين و المؤرخين المسلمين يذكرون أسبابا للاضطهاد، ليس من بينها أبدا عقيدة بني إسرائيل التوحيدية، و إنما هي أسباب تتصل بنبوءات خشى فرعون منها على ملكه (2)، و سوف نناقشها بالتفصيل في مكانها من الفصل التالي، و منها (تاسعا) أن حال بني إسرائيل في مصر لم يكن شرا كله، و لا نكرا كله، إذ أبدوا استعدادا للعيش مع المجتمع و التعاون بين بنيه، بل إن التوراة لتذكر صراحة أن الفرعون إنما كان ينظر إليهم، حتى في أوقات الشغب، و كأنهم من الشعب، و ليسوا مجموعة من العبيد أو حتى المستعبدين «فقال لهما ملك مصر: لما ذا يا موسى و هارون تبطلان الشعب عن أعماله (3)»، بل إن القرآن الكريم إنما يقدمهم على أنهم قد أصبحوا جزءا من رعية فرعون أو طائفة منهم، قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ (4)، و هكذا كان ينو إسرائيل «طائفة منهم» أي من الشعب المصري، و لم يكونوا بالطائفة المنبوذة التي لا يتعامل معها الناس، أو ينفر منها الملوك، بل لقد كان ساقي مرنبتاح رجلا يحمل اسما لا شك في صيغته العبرية هو «بن عزين»، و قد روت التوراة من أمر موسى و التقاطه ما يدل على مكانة بني إسرائيل عامة من المصريين و تسامح المصريين معهم (5).

ص: 161


1- ملوك أول 12/ 25- 33، هوشع 8/ 5- 6.
2- أنظر: ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 231- 238، قصص الأنبياء 3/ 4- 5، تاريخ الطبري 1/ 386- 388، تاريخ اليعقوبي 1/ 33، المسعودي مروج الذهب 1/ 61.
3- خروج 5/ 4.
4- سورة القصص: آية 4.
5- أنظر: خروج 2/ 5- 10، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 91- 92.

ص: 162

الفصل الثّاني موسى من المولد إلى المبعث
[1] موسى في قصر فرعون:

في فترة الاضطرابات العصيبة التي سلط اللّه فيها فرعون على بني إسرائيل، يقتل أبناءهم و يستحي نساءهم (1)، في هذه الظروف القاسية، ولد موسى عليه السلام (2)، و كان أصغر أولاد أبيه، و ثالث ثلاثة، مريم البكر، و هارون الثاني، و هو «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام»، و أما أمه فهي يوكابد بنت لاوى، و هي عمة زوجها عمران، فيما تروي التوراة (3)، و هكذا، و نظرا للظروف المحيطة

ص: 163


1- أنظر عن الروايات التي دارت حول ذبح فرعون لأبناء بني إسرائيل (تفسير الطبري 1/ 269- 328 ط 1954، تاريخ الطبري 1/ 385- 388، تفسير الدر المنثور 5/ 119- 120، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 63- 64، البداية و النهاية 1/ 137- 238. تفسير الفخر الرازي 24/ 225، تفسير الخازن 1/ 58- 59، تفسير النسفي 3/ 225- 226، الكامل لابن الأثير 1/ 95- 96).
2- أنظر عن قصة موسى في القرآن الكريم: سورة البقرة (47- 98) المائدة (20- 26) الأعراف (103- 171) يونس (75- 94) هود (96- 99) إبراهيم (5- 8) الإسراء (2) الكهف (60- 82) مريم (51- 53) طه (9- 98) الأنبياء (48- 49) المؤمنون (45- 49) الفرقان (35- 36) الشعراء (10- 68) النمل (7- 14) القصص (3- 47) العنكبوت (39) الأحزاب (69) الصافات (114- 122) غافر (23- 54) الزخرف (46- 56) الدخان (17- 33) الذاريات (38- 40) و غيرها.
3- خروج 6/ 20، عدد 26/ 58- 59.

ببني إسرائيل، فما أن ولد موسى عليه السلام حتى أخفته أمه عن العيون حينا من الدهر، قدرته التوراة و بعض المفسرين بثلاثة أشهر (1)، و لكنها سرعان ما خشيت أن يفتضح أمرها، بل و كادت تبدي به لو لا أن ربط اللّه على قلبها، ففزعت إلى اللّه مما تخشى على وليدها من بطش فرعون، فأوحى اللّه إليها (2) أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (3).

و شاءت إرادة اللّه، و لا راد لمشيئته، أن تقول لهذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده و سلطة بأسه و اتساع ملكه، قد حكم العظيم الذي لا يغلب و لا يمانع و لا يخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، و قد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد و لا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك و على فراشك، و لا يتغذى إلا بطعامك و شرابك في منزلك، و أنت الذي تتبناه و تربيه، ثم يكون هلاكك في دنياك و أخراك على يديه، لتكذيبك ما جاء به من الحق المبين، حتى تعلم أنت و سائر الخلق أن اللّه هو الفعال لما يريد (4)، و من ثم فإن إرادة اللّه إنما تلقى بالتابوت و من فيه إلى جوار قصر

ص: 164


1- خروج 2/ 2، تفسير النسفي 3/ 227.
2- يقول ابن كثير: ليس هذا بوحي نبوة، كما زعمه ابن حزم و غير واحد من المتكلمين، بل الصحيح أنه وحي إلهام و إرشاد، كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة و الجماعة، هذا و قد ورد عن ابن عباس: أنه وحي إلهام، و قال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك، قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحي إعلام، لا إلهام، و أجمع الكل على أنها لم تكن بنية و إنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع و الأبرص و الأعمى، كما في الحديث المشهور، و كذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، و قد سلمت على «عمران بن حصين» و لم يكن نبيا (تفسير البيضاوي 2/ 88، تفسير القرطبي 13/ 249- 250، صفوة التفاسير 2/ 425، البداية و النهاية 1/ 239.
3- سورة القصص: آية 7، و أنظر: مختصر تفسير ابن كثير 3/ 6.
4- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 238.

فرعون، فيقع موسى من قلب امرأة فرعون (1)، موقع الحب و الحدب و الإشفاق بل إنها لتقول لفرعون قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (2)، فقد كان موسى عليه السلام، لا يراه أحد إلا أحبه، قال تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (3)، لكن الشقي فرعون يقول لامرأته، فيما يروي الطبري، «يكون لك، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، و لذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «و الذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين، كما أقرت به، لهداه اللّه به، كما هدى به امرأته، و لكن اللّه حرمه ذلك»، و مع ذلك فقد قبل رجاء زوجته، فلا يقتل الطفل النبي لحكمة أرادها اللّه، لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (4).

و هنا ظنت أم موسى أنها أوقعت وليدها بنفسها في عرين الأسد، حيث وقع موسى بين عدوه و عدوها، الذي حرصت على أن تباعد بينه و بين ابنها، و رضيت في سبيل استنقاذه منه أن يبتعد عنها إلى حين وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (5)، و لكن للّه حكمة هو مبديها، و أمر هو بالغه، فيحميه و يضمن له الحياة، و يكفل له التربية الكريمة الناعمة، و التعليم الناضج الذي يؤهله لقيادة شعب تعوذه القيادة، و لتعليم

ص: 165


1- ذهب بعض الباحثين إلى أن امرأة فرعون كانت من بني إسرائيل من سبط موسى، بل إن البعض ذهب إلى أنها عمته، (البداية و النهاية 1/ 239، الكامل لابن الأثير 1/ 95) و بدهي أن هذا ليس صحيحا، فامرأة فرعون مصرية، لا شك في ذلك، كما ترى جمهرة المفسرين، ثم إن فرعون ما كان يتزوج من بني إسرائيل، و هو يذبح أبناءهم و يستحي نساءهم، كما أن قوانين وراثة العرش في مصر لا تسمح بذلك.
2- سورة القصص: آية 9.
3- سورة طه: آية 39.
4- سورة القصص: آية 8، تاريخ الطبري 1/ 393.
5- سورة القصص: آية 10- 11.

أمة أعماها الجهل، لحمل رسالة التوحيد، و يحميه بالحب الذي يطغى على كوا من الشر، و غوائل الأحقاد (1).

و يأتي آل فرعون لموسى بالمراضع فيعافهن جميعا، و هنا تتقدم أخته فتعرض على آل فرعون أن تدعو لهم امرأة عبرانية ترضعه و تكفله، و أن تكون له ناصحة مشفقة، و يقبل آل فرعون عرضها، و يبعثوا في طلب الظئر، و سرعان ما تجي ء بأمه، دون أن تشعرهم بأن أمها أمه، و هو أخوها، و يقبل موسى على ثدي أمه، و هنا تذهب المراجع الإسلامية إلى أن فرعون عند ما رأى ذلك، سألها: من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك، فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتي بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها و أجرى عليها، و ذهبت به إلى بيتها، و أنجز اللّه وعده في الرد، فعندها ثبت و استقر في علمها أنه سيكون نبيا، و هكذا عاد موسى إلى أمه ليعيش معها فترة حضانته (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (3).

و لعل في هذا ما يشير إلى أن حال بني إسرائيل في مصر لم يكن شرا كله، و لا نكرا، إن أبدوا استعدادا للعيش في المجتمع و التعاون بين بنيه، و قد كانوا، كما قال سبحانه و تعالى: طائِفَةٌ مِنْهُمْ، و لم يكونوا بالطائفة المنبوذة التي لا يتعامل معها الناس، أو ينفر منها الملوك، بل لقد كان ساقي «مرنبتاح» فرعون موسى، فيما نرجح، رجلا يحمل اسما لا شك في صيغته

ص: 166


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 89.
2- تفسير النسفي 3/ 228- 229، خروج 2/ 7- 10.
3- سورة القصص: آية 12- 13.

العبرية هو «بن عزين»، و قد روت التوراة من أمر موسى و التقاطه ما يدل على مكانة بني إسرائيل عامة من المصريين، و تسامحهم معهم (1)، هذا فضلا عما جاء في القرآن الكريم بشأن قارون، قال تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (2)، و هناك روايات تذهب إلى أنه كان من عشيرة موسى عليه السلام عمه أو ابن عمه، على خلاف في الرأي، و أن فرعون قد ولاه على بني إسرائيل، و أنه قد نافس موسى على رئاسة بني إسرائيل (3).).

ص: 167


1- سورة القصص: آية 4، خروج 2/ 5- 10، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 91- 92.
2- سورة القصص: آية 76.
3- تشير بعض آي الذكر الحكيم إلى أن قارون كان من قوم موسى، و أن موسى أرسل إليه، و إلى فرعون و هامان (القصص: آية 76، العنكبوت: آية 39، غافر: آية 23- 24)، و تذهب الروايات إلى أنه كان عظيم المال، كثير الكنوز، حتى أن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلا، فبغى على قومه بكثرة ماله، و أنه قال لموسى: لك الرسالة، و لهارون الحبورة، و أنا في غير شي ء، إلى متى أصبر، فقال موسى: هذا صنع اللّه، و في رواية أنه قال لموسى: أما لئن كنت فضلت على بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالدنيا، هذا و تذهب بعض الروايات إلى أن قارون قد دبر لموسى مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة مع بغي في مقابل رشوة من المال، قيل إنها ألف دينار أو طست من ذهب، فلما كان يوم عيد و خطب موسى فقال: إن من سرق قطعنا يده و من افترى جلدناه، و من زنى و هو محصن جلدناه، و إن أحصن رجمناه، فقال له قارون: إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانه، فأحضرها و ناشدها بالذي فلق البحر. و أنزل التوراة أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجدا، و هكذا برأ اللّه موسى، و أذن له في قارون، فقال موسى: يا بني إسرائيل إن اللّه بعثني إلى قارون، كما بعثني إلى فرعون، ثم دعا عليه، فخسف اللّه به و بمن اتبعه الأرض، هذا و قد لقب بعض الباحثين المحدثين أن قارون هذا، هو «قورح» الذي جاءت قصته في التوراة (عدد 16/ 1- 50) و رغم وجه بعض شبه بين القصتين، فإنني أتردد في قبول هذا الرأي لوجود اختلافات كثيرة بينهما، إلا أن تكون من تحريفات التوراة (تفسير النسفي 3/ 244- 248، في ظلال القرآن 5/ 2710- 2714، تفسير البيضاوي 4/ 128- 129، تفسيرالكشاف 3/ 340- 342، ابن كثير: مختصر التفسير 3/ 23- 26، البداية و النهاية 1/ 309- 312، تاريخ الطبري 1/ 443- 452، ابن الأثير 1/ 115- 116، سفر التثنية 22/ 22- 29، ثم أنظر حكم الزنا في التوراة: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 194- 195).

و أيا ما كان الأمر، فإن موسى عليه السلام، إنما ينشأ في قصر فرعون، أعظم ملوك الأرض في عصره، كما ينشأ الأمراء، و ما أن يشب عن الطوق، حتى تظهر بوادر ذكائه و قوة شخصيته، فيتعلم، فيما يرى بعض المؤرخين، القراءة و الكتابة و الحساب، و نسخ الصحائف على البردى، و يتعلم شيئا من الفلك و الجغرافية، و أطرافا من التاريخ، و يقرأ من قصص المصريين و آدابهم و حكمهم شيئا كثيرا، و كما جاء في الإنجيل فقد «تهذب بكل حكمة المصريين»، و على أية حال، فلسنا نعرف من حياة موسى عليه السلام، منذ مولده و حتى صدر شبابه شيئا على وجه اليقين، و أكبر الظن أنه تولى منصبا، و تبوأ مكانة في دولة فرعون، حيث بدأ أترابه، كاتبا، و غير بعيد أن يكون قد التحق بالجيش مع من التحق من أمراء البيت المالك (1).

و أما سياق قصة موسى في القرآن الكريم، كما يقول الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه، إنما يسكت عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى عليه السلام، و الحلقة التالية التي تمثل شبابه و اكتماله، فلا نعلم ما ذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه، و لا كيف تربى في قصر فرعون، و لا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة، و لا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه، بعد أن شب و كبر، و لا كيف كانت عقيدته، و هو الذي يصنع على عين اللّه، و يعد في وسط عباد فرعون و كهانته، يسكت القرآن عن كل هذا، و يبدأ الحلقة التالية مباشرة حين بلغ أشده و استوى فقد آتاه اللّه الحكمة و العلم و جزاه

ص: 168


1- أعمال الرسل 7/ 22، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 92- 93، و كذا W. و كذا F, suhpesoJ suivalF fo skroW dna efiL eht, notsihW 77. p، 1957. IX, retpahC, II, kooB, suhpesoJ

جزاء المحسنين، قال تعالى: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً، وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، و بلوغ الأشد اكتمال القوة الجسمية، و الاستواء اكتمال النضج العقلي و العفوي، و هو يكون عادة في سن الثلاثين، فهل ظل موسى في قصر فرعون ربيبا و متبنا لفرعون و زوجته حتى بلغ هذه السن، أم أنه افترق عنهما و اعتزل القصر، و لم تسترح نفسه في ظل الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة، كنفس موسى عليه السلام، و بخاصة و أن أمه لا بد أن تكون قد عرفته من هو و من قومه و ما دينه، و هو يرى كيف يسأم قومه الخسف البشع و الظلم الشنيع، و البغي اللئيم (1).

في الواقع ليس لدينا من دليل على شي ء من ذلك، و إن كان سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا، فلقد كان موسى، فيما يبدو، لا ينسى أنه من بني إسرائيل، أولئك الذين فرض عليهم فرعون العذاب المهين، و ربما كان النبي الكريم يدرك أن اللّه إنما آتاه العلم و الحكمة ليدرك قومه، و ينقذهم من ظلم فرعون و جبروته، فكان كثير الحدب عليهم و الشفقة بهم، و من ثم فقد تعرض بسببهم لمحنة قاسية، انتهت به إلى الخروج من مصر، و البقاء في مدين سنين عددا، ذلك أنه ربما كان خارجا في أحد الأيام من قصر فرعون «و دخل المدينة على حين غفلة (2) من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته (3) و هذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على ا-

ص: 169


1- في ظلال القرآن 5/ 2681.
2- الغفلة: روى عن ابن عباس: أنها بين العشاءين، و روى عنه أيضا، و عن سعيد بن جبير و عكرمة و قتادة و السدى: أنها وقت القائلة يعني انتصاف النهار (أنظر: تفسير القرطبي ص 4976 تفسير النسفي 3/ 229، تفسير الفخر الرازي 4/ 233، صفوة التفاسير 2/ 427، البداية و النهاية 1/ 241، ابن الأثير 1/ 98، تفسير البيضاوي 4/ 125) و قيل الغفلة عن ذكر موسى و نسيان أمره (تفسير الفخر الرازي 24/ 233).
3- يقول الفخر الرازي في تفسيره (24/ 233- 234) قيل الرجلان كانا كافرين، إلا أن أحدهما-

الذي من عدوه فوكزه (1) موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (2)».

و لم يكن المجرمون الذين عزم موسى عليه السلام على ألا يظاهرهم و يناصرهم، إلا هؤلاء من بني إسرائيل، و هكذا ندم موسى على أن ظاهر الإسرائيلي ضد المصري، فكان من نتيجة ذلك أن قتل نفسا حرم اللّه قتلها، و من ثم فقد عزم، بعد أن تاب و أناب، ألا يكون ظهيرا للمجرمين، و هذه العبارة قد يستشف منها أن الكليم عليه السلام إنما كان يستخدم نفوذه في مناصرة بني إسرائيل، و كف أيدي المصريين عنهم، و يبدو أن شبح القتيل إنما كان يلوح أمام عينه، و يعترض طريقه أينما ذهب، و أن خوف الثأر أو القصاص إنما كان يملأ حياته قلقا و أرقا (3)، و مهما يكن من أمر، فسرعان ما يعثر القوم على جثة القتيل، فيطلب أهله من فرعون أن يأخذ لهم القصاص من قاتله، غير أن الفرعون إنما يمهل القوم إلى حين، حتى تكشف الشرطة عن الجاني، و تأتي بمن يشهد على أنه القاتل، أو أن ذلك المصري عند ما سمع الإسرائيلي في اليوم التالي يقول لموسى: «أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس»، فلقفها من فمه ثم ذهب بها إلى باب فرعون و ألقاها عنده، - إسرائيلي، و الآخر مصري، و احتج على أنه موسى قال له: «إنك لغوي مبين»، و المشهور الذي كان من شيعته مسلما لأنه لا يقال لمن يخالف الرجل في دينه و طريقه إنه من شيعته، و قيل إن المصري كان طباخ فرعون و قد سخر الإسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخه، و قيل الرجلان المقتتلان أحدهما السامري، و هو الذي من شيعته، و الآخر طباخ فرعون.

ص: 170


1- الوكز: الضرب بجمع اليد، و قال قتادة بعصا كانت معه، و المفهوم من التعبير أنها و كزة واحدة كان فيها حتف المصري، مما يشي بقوة موسى و فتوته، و يصور كذلك انفعاله و غضبه، و يعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون و من يتصل به (في ظلال القرآن 5/ 2682).
2- سورة القصص: آية 15- 17.
3- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 160.

فعلم فرعون بذلك، فاشتد حنقه و عزم على قتل موسى، فطلبوه (1).

و يصبح موسى في المدينة خائفا و يترقب، و يذهب الأستاذ سيد قطب إلى أن لفظ «يترقب» يصور هيئة القلق الذي يتلفت و يتوجس، و يتوقع الشر في كل لحظة، و هي سمة الشخصية الانفعالية تبدوا كذلك في هذا الموقف، و التعبير يجسم هيئة القلق و الخوف بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي «في المدينة»، فالمدينة عادة موطن الأمن و الطمأنينة فإذا كان خائفا يترقب في المدينة، فأعظم الخوف ما كان في مأمن و مستقر، و حالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن من رجال القصر، و إلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم و الطغيان، و ما كان ليخشى شيئا، فضلا عن أن يصبح خائفا يترقب، لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون و قصره (2)، غير أن ابن كثير يذهب إلى أن اللّه تعالى يخبرنا أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا، أي من فرعون و ملئه أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، و يترتب على ذلك أمر عظيم فصار يسير في المدينة في صبيحة هذا اليوم خائفا يترقب (3)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه.

و على أي حال، فإن موسى عليه السلام يمر بمن استصرخه بالأمس، فإذا به يستصرخه، مرة أخرى، ضد آخر، فيؤنبه موسى على مشاكسته و ميله إلى الخصام، و مع ذلك فما أن همّ موسى بنصرته حتى قال: أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (4).

ص: 171


1- مختصر ابن كثير 3/ 9، تاريخ الطبري 1/ 391.
2- في ظلال القرآن 5/ 2682- 2683.
3- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 242.
4- سورة القصص: آية 19.

و هكذا تورط موسى في قتل مصري، عن غير عمد، روى الإمام النسفى أن اسمه «فاتون»، و لا أدري كيف استقام لمفسري الإسلام هذا الإسم الذي تدل صيغته المصرية على أن سند الرواية و التواتر موصول، ذلك أنه اسم مصري خالص مؤلف من اسم الشمس «آتون» مع فاء التعريف (1)، و على أي حال، فإن موسى إنما يوشك الآن أن يتورط في محنة جديدة بسبب ذلك الإسرائيلي الذي استصرخه بالأمس، و يستصرخه اليوم، و من ثم فقد وصفه الكليم بأنه «غوي مبين».

و يذهب الأستاذ سيد قطب إلى أن العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين و ما تلاهما أنه لا يبرر الفعلة، و لكنه كذلك لا يضخمها، و لعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية، و هو المختار ليكون رسول اللّه، المصنوع على عين اللّه، أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان، و اللّه يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع، كما كف اللّه المسلمين في مكة المكرمة عن الاشتباك حتى جاء الأوان (2).

و على أي حال، فقد كان تصرف الإسرائيلي الأحمق أو هذا الغوي المبين، كما وصفه موسى، أن شاع الخبر، و أنبئت السلطات التي ارتاعت، كما ارتاع الناس، لما ارتكب موسى من قتل رجل، و الشروع في قتل آخر، فكان أن استقر الرأي على محاكمته بما ارتكب، و القصاص منه بما جنت يداه، و إن كان موسى قد رأى في ذلك ظلما صارخا، و إفتئاتا عنيفا، أن يطلب بقتل خطأ لم يتعمده و لم يرغب فيه، و لكن الذي لا شك فيه أنه قتل،

ص: 172


1- تفسير النسفي 3/ 229، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 96.
2- في ظلال القرآن 5/ 2684.

و أن الظواهر و ما وقع منه في اليوم التالي لا تقف إلى جانبه، و من ثم فقد تحقق موسى عليه السلام أنه مطلوب بدم القتيل، و أدرك ألا مظنة من القصاص، فلقد عرف الملأ من قوم فرعون أنها فعلة موسى، و ما من شك أنهم أحسوا فيها بسبح الخطر، فهي فعلة طابعها التمرد و الثورة، و الانتصار لبني إسرائيل، و من ثم فهي ظاهرة خطيرة تستحق التأمل، و لو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون و الملأ و الكبراء، فانتدبت يد القدر واحدا من الملأ، الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه، و الذي جاء ذكره في سورة غافر، انتدبته ليسعى إلى موسى من أقصى المدينة ليبلغه بتآمر القوم ضده قبل أن يبلغوه، قال تعالى: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، و قد سمى اللّه هنا التشاور ائتمارا، لأن كلا من المتشاورين يأمر و يأتمر (1)، و قد جاءت القصة كاملة في «حديث الفتون» الذي يروي قصة موسى عليه السلام، و قد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (2).

و هكذا لم يكد موسى يسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه حتى عزم على التعجيل بالرحيل، و لم يجد مع الخوف فرصة يتزود فيها لهذه الرحلة التي لم يكن يعرف مداها و لا منتهاها، فلقد أوشك القوم أن يحدقوا به، و أن يطبقوا عليه، و أن يفتكوا به، فلا مجال للتفكير فيما وراء ذلك من تعب يضنيه، ).

ص: 173


1- سورة القصص: آية 20، تفسير البيضاوي 4/ 125، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 97- 99، في ظلال القرآن 5/ 2685.
2- أنظر عن حديث الفتون المشهور (ابن كثير: مختصر التفسير 2/ 457- 481، البداية و النهاية 1/ 300- 307، تاريخ الطبري 1/ 392- 296، و أخرجه النسائي في سننه، و ابن جرير و ابن حاتم في تفسيرهما، و هو موقوف من كلام ابن عباس، و ليس فيه مرفوع إلا قليل منه، كما يقول ابن كثير).

و جوع يذوبه، و مسالك يقطعها، و مهالك يرجو النجاة منها، كان كل همه أن يفلت بعنقه من هؤلاء الذين يأتمرون به ليقتلوه، فإن أعوزه الدليل بين متاهات السهول و التلال و الجبال، فلن يعوزه أن يلتمس في رحمة اللّه دليله و سبيله، و إن كمن له الخطر في كل مكمن و مسكن، فعساه يجد في رعاية اللّه ملاذه و معاذه (1)، و هكذا يخرج موسى من مصر هائما على وجهه في صحراوات سيناء المقفرة، فارا مستوحشا، خائفا من أن تناله هروات الشرطة من رجال «المجاي» الأشداء، أو تصل إليه أيدي السلطات، و كان في مصر شرطة منظمة يجند رجالها من قبائل «مدجا» على مقربة من الجندل الثاني (2).

[2] موسى في مدين:-

و يكتب اللّه للنبي الكريم سيدنا موسى عليه السلام نجحا بعيد المدى في اجتياز القفار، ملتمسا الأمن و السكينة و الهدى، حتى يصل إلى مدين، عند خليج العقبة (3)، حيث يجد هناك المأوى و الأمان، و هنا تبدأ حلقة جديدة من حياة موسى عليه السلام، بدأت عند ما ورد ماء مدين، و رأى مشهدا لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، كنفس موسى، رأى الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء، بينما هناك امرأتان تمنعان غنمهما عن ذلك، مع أن الأولى أن تسقي المرأتان و تصدرا بأغنامهما أولا، و أن يفسح

ص: 174


1- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 161.
2- أنظر: shoorahP eht fo tpygE, renidraG. A، 101. p، 1961.
3- عن: مدين القبيلة و الموقع (أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 558- 561، دراسات تاريخية من القرآن 1/ 297- 307)، هذا و قد اختلف المفسرون في «اسم مدين» فذهب فريق إلى أنه اسم رجل في الأصل، ثم كانت له ذرية، فاشتهر في القبيلة كتميم و قيس و غيرهما، و ذهب آخرون إلى أنه اسم ماء نسب القوم إليه، و الأول أصح، لأن اللّه تعالى أضاف الماء إلى مدين في قوله تعالى: «و لما ورد ماء مدين»، و لو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية، و الأصل في الإضافة التغاير حقيقة، (تفسير الفخر الرازي 25/ 64، ياقوت الحموي 5/ 77- 78).

لهما الرجال و يعينوهما، و لم يقعد موسى، و هو الهارب المطارد، و المسافر المكدود، ليستريح، و هو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف، بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب، و عند ما عرف قصتهما تقدم فسقى لهما، ثم تولى إلى الظل، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما، قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا، فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (1).

هذا و يقدم لنا المفسرون عدة روايات عن الحادث، فقد جاء في تفسير ابن كثير (2): روى عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن موسى عليه السلام، لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، و لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال ما خطبكما، فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه، لم يسق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم (أخرجه ابن أبي شيبة و إسناده صحيح)، غير أن صاحب الظلال إنما يذهب إلى أنه لا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى، كرفع الحجر الذي يغطي البئر، و كان لا يرفعه، فيما قالوا، إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل، فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاة يسقون فنحاهم و سقي للمرأتين أو سقي لهما مع الرعاة، و لا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة:

ص: 175


1- سورة القصص: آية 23- 26.
2- مختصر تفسير ابن كثير 3/ 9- 10.

امشي خلفي و دليني على الطريق خوف أن يراها، أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثيابها عن كعبها (1)، فهذا كله تكلف لا داعي له، و دفع لريبة لا وجود لها، و موسى عليه السلام عفيف النظر، نظيف الحس، و هي كذلك، و العفة و الأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل و امرأة، فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف و لا اصطناع.

و على أي حال، فلقد استجاب الشيخ لاقتراح ابنته، و لعله أحسن من نفس الفتاة، و نفس موسى، ثقة متبادلة، و ميلا فطريا سليما صالحا لبناء أسرة، و القوة و الأمانة حين تجتمعان في رجل، لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد و لم تلوث و لم تنحرف عن فطرة اللّه، فجمع الرجل بين الغايتين، و هو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه و يرعى ماشيته ثماني سنين، فإن زادها إلى عشر، فهو تفضل منه لا يلزم به، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (2)، قال الإمام القرطبي: في الآية عرض الولي ابنته على الرجل، و هذه سنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، و عرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر و عثمان، و عرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى اللّه عليه و سلم، فمن الحسن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح (3).

و لعل سائلا يتساءل: من هو شيخ مدين هذا الذي صاهر موسى عليه السلام؟

ص: 176


1- تفسير النسفي 3/ 231، تفسير البيضاوي 4/ 126، الدر المنثور 5/ 126- 127، تفسير الفخر الرازي 4/ 239- 244، مختصر تفسير ابن كثير 3/ 11، تاريخ الطبري 1/ 398، ابن الأثير 1/ 99.
2- سورة القصص: آية 27، في ظلال القرآن 5/ 2687- 2688.
3- تفسير القرطبي 13/ 271.

إن سياق القصة في القرآن الكريم لم يتعرض لاسم هذا الشيخ، ذلك لأن التحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة في القرآن الكريم، و لا يزيد في دلالتها شيئا، و أما التوراة فجد مضطربة في اسم هذا الشيخ، و كذا قبيلته، فمرة هو يثرون كاهن عديان، و مرة هو حوباب بن رعوئيل، و مرة ثالثة هو رعوئيل نفسه، و قبيلته مرة هي قبيلة مديانية و مرة أخرى هي قينية، و مرة ثالثة تأكيد على أنها قينية، حتى زعم البعض أن بني القيني ربما كانوا مديانيين (1).

هذا و قد اختلف علماء المسلمين في صهر موسى عليه السلام، فذهب فريق إلى أنه شعيب عليه السلام، نبي مدين، قال بذلك الأئمة الحسن البصري و مالك بن أنس و النسفي و ابن الأثير (2)، و قال ابن كثير (3): جاء ذلك مصرحا به في حديث في إسناده نظر، و صرح طائفة بأن شعيبا عليه السلام عاش عمرا طويلا، بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام و تزوج ابنته، و روى ابن أبي حاتم و غيره عن الحسن البصري أن صاحب موسى عليه السلام هذا، اسمه شعيب، و كان سيد الماء، و لكن ليس بالنبي صاحب مدين، و قيل إنه ابن أخي شعيب، و قيل ابن عمه، و قيل رجل مؤمن من قوم شعيب، و قال آخرون كان شعيب قبل زمان موسى بمدة طويلة لأنه قال لقومه «و ما قوم لوط منكم ببعيد، و قال ابن عباس و أبوه عبيدة بن عبد اللّه اسمه «يثرون»، زاد أبو عبيدة: و هو ابن أخي شعيب، و روى ابن جرير عن ابن

ص: 177


1- خروج 2/ 16- 18، 3/ 1، عدد 10/ 29، قضاة 1/ 16، 4/ 11، و كذا. p, acilbiB ideapolcycnE, sgnitsaH. J 3080. و كذا I, EAE، 616. p، 1908
2- تفسير النسفي 3/ 232، مختصر تفسير ابن كثير 3/ 10، صفوة التفاسير 2/ 431، تاريخ ابن خلدون 2/ 93، الكامل لابن الأثير 1/ 99، مروج الذهب للمسعودي 1/ 61، تاريخ اليعقوبي 1/ 34.
3- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 244.

عباس أنه «يثري» صاحب مدين، ثم قال: الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، و لا خبر يجب به الحجة في ذلك (1).

و يميل صاحب الظلال (5/ 2687) إلى ترجيح أن صهر موسى عليه السلام ليس شعيبا النبي، و إنما هو شيخ آخر من مدين، و الذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير، و شعيب شهد مهلك قومه المكذبين له، و لم يبق معه إلا المؤمنون به، فلو كان هو شعيب النبي بين بقية قومه المؤمنين، ما سقوا قبل بنتيّ نبيّهم الشيخ الكبير، فليس هذا سلوك قوم مؤمنين، و لا معاملتهم لنبيّهم و بناته من أول جيل، يضاف إلى هذا أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره، و لو كان شعيبا النبي لسمعنا صوت النبوة في شي ء من هذا مع موسى، و قد عاش معه عشر سنوات.

و أيا ما كان الأمر، فلم يكن لموسى من بلد يعرفه، و لا وطن يهفو إليه و يتطلع إلى رؤيته، بعد ذلك المنفى الذي فرض عليه أو قدّر عليه، سوى مسقط رأسه مصر، و كأنى به يستعجل الأيام ليعود إلى ذلك البلد الذي ولد فيه، و نشأ في ربوعه، و تنسم هواءه و سعد به، و هو لذلك لم يقطع على نفسه أطول الأجلين حين العهد مع حميه، فأعطى الأمل، و خص نفسه بالخيار (2)، غير أنه من المعروف أن موسى عليه السلام أتم المدة، و هي عشر سنين، و قد روى أن النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل أي الأجلين قضى موسى، قال: أكملهما و أفضلهما، و عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى، قال: أتمهما و أكملهما، و عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل أي الأجلين قضى موسى، قال: أوفاهما و أبرهما، قال: و إن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما، و أخرج ابن مردوية عن أبي

ص: 178


1- مختصر ابن كثير 3/ 10، تاريخ الطبري 1/ 400، ابن الأثير 1/ 99.
2- أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 101.

هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لي جبريل: يا محمد، إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى، فقل أوفاهما، و إن سألوك أيهما تزوج فقل الصغرى، و روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما و أطيبهما، إن رسول اللّه إذا قال فعل (و رواه النسائي في حديث الفتون)، و جاء في تاريخ الطبري عن سعيد بن جبير قال: سألني رجل من أهل النصرانية: أي الأجلين قضى موسى، قلت لا أعلم، و أنا يومئذ لا أعلم، فلقيت ابن عباس، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني، فقال: أما كنت تعلم أن ثمانيا واجبة عليه، لم يكن نبي لينقض منها شيئا، و تعلم أن اللّه كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده، فإنه قضى عشر سنين» (1).

و هكذا يمكث موسى في مدين عشر سنين (2)، يرزق فيها بولدين من زوجته صفورة (3) ثم يعود إلى مصر، بعد أن قضى أكمل و أتم الأجل الذي كان بينه و بين صهره، و بعد أن علم، طبقا لرواية التوراة، أن ملك مصر الذي كان يطلبه قد مات (4)، فينبعث الأمل في نفس موسى عليه السلام في العودة إلى أرض الكنانة، بل إنه يقرر العودة فعلا، و قد «تنهد بنو إسرائيل من العبودية (5)».

ص: 179


1- تفسير النسفي 1/ 234، الدر المنثور 5/ 126- 127، تاريخ الطبري 1/ 399، ابن كثير: مختصر التفسير 3/ 11، البداية و النهاية 1/ 245.
2- تذهب التقاليد اليهودية و النصرانية إلى أن موسى قد أقام في مدين أربعين عاما (خروج 7/ 7، أعمال الرسل 7/ 30، قاموس الكتاب المقدس 2/ 931).
3- خروج 2/ 21- 22، 18/ 1- 6.
4- خروج 2/ 23، 4/ 29، و أنظر: في ظلال القرآن 5/ 3077.
5- خروج 2/ 23- 25.

ص: 180

الفصل الثّالث موسى الرّسول النّبي
[1] المبعث:-

في الطريق من مدين إلى مصر، ضل موسى عليه السلام طريقه في الصحراء، و الليل مظلم، و المتاهة واسعة، نعرف هذا من قوله لأهله:

امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (1)، قال ابن عباس: إنه رأى شجرة خضراء أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون، فوقف متعجبا من شدة ضوئها، و شدة خضرة الشجرة، فلا النار تغيّر خضرتها، و لا كثرة ماء الشجر تغير ضوءها، و قيل إن الشجرة كانت عوسجة، و قيل كانت سمرة، و هناك طور سيناء، و في تلك الليلة المباركة نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ (2) إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي

ص: 181


1- سورة طه: آية 10، تفسير أبي السعود 6/ 7.
2- ذهب المفسرون مذاهب شتى في أسباب أمر اللّه تعالى لموسى بخلع نعليه، فقالوا ربما لأن الحفوة أدخل في التواضع و حسن الأدب، و ربما تعظيما لهذه البقعة المقدسة، و من ثم فقد كان السلف الصالح يطوفون بالكعبة حافين، و ربما ليباشر الوادي بقدميه تبركا به، و ربما لأن نعليه كانتا جلد حمار غير مدبوغ، و ربما كان المعنى فرغ قلبك من الأهل و المال، ثم قيل إنك بالوادي المقدس و ذلك لتعليل الخلع، ثم نودي باصطفائه رسولا نبيا (تفسير أبي السعود 6/ 7، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 471).

أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1)، و ذهل موسى، و نسي ما جاء من أجله، و بينما هو مستغرق فيما هو فيه ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه، إذا هو يتلقى سؤالا لا يحتاج منه إلى جواب: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2).

و هكذا، هناك، و في هذا الموقف المشهود، الذي وقفه موسى في تلك البقعة المباركة من سيناء، اصطفى اللّه تعالى موسى لنفسه، و عهد إليه برسالته إلى فرعون، اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (3).

و هنا يحس النبي الكريم بثقل العب ء الذي ألقي على كاهله، و قد كان، و هو عائد إلى وطنه، يقدر الأمن بعد الخوف، و القرار بعد الفرار، فإذا

ص: 182


1- سورة طه: آية 11- 14.
2- سورة طه: آية 17- 36.
3- سورة طه: آية 42- 46.

به يبعث، كما يقول ابن كثير إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، و أجبرهم و أشدهم كفرا، و أكثرهم جنودا، و أبلغهم تمردا، و لا ريب في أن في أحداث التاريخ مصداقا لذلك، و موسى نفسه يعرف من هو فرعون، فقد ربّي في قصره، و شهد طغيانه و جبروته، و شاهد ما يصبه على قومه من بني إسرائيل من عذاب و نكال، إن موسى، عليه السلام، يعرف ذلك كله و يعرف أنه ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض و أطغى جبار، و أن قومه قد أذلهم الاستعباد الطويل و أفسد فطرتهم، و من ثم فإن رسالة موسى بالذات، قد تكون فيما يرى صاحب الظلال، أضخم تكليف تلقاه بشر، عدا رسالة سيد الأولين و الآخرين محمد صلى اللّه عليه و سلم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، و أقدمهم عرشا، و أثبتهم ملكا، و أعرقهم حضارة، و أشدهم بعدا للخلق، و استعلاء في الأرض.

و هو مرسل أيضا لاستنقاذ قوم قد شربوا من كئوس الذل حتى استمرءوا مذاقه، فمرءوا عليه و استكانوا دهرا طويلا، و الذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن و تتعفن، و يذهب بما فيها من الخير و الجمال و التطلع، و من الاشمئزاز من العفن و النتن و الرجس و الدنس، فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير، و هو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة انحرفوا عنها و فسدت صورتها في قلوبهم، فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة، ببراءة و سلامة، و لا هي باقية على عقيدتها القديمة، و معالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة، و هو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من أساس، فلأول مرة سيصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة، تحكمها رسالة، و إنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير (1).

و من هنا كانت دعوة موسى و هارون «ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو

ص: 183


1- في ظلال القرآن 5/ 2690.

أن يطغي»، و الفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى، و الطغيان أشمل من الأذى، و فرعون يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما، و هنا يجي ء الرد الحاسم للنبيين الكريمين لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى ثم يحدد لهما قاعدة رسالتهما فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلها هو ربه، و هو رب الناس، فليس هو إلها خاصا بموسى و هارون أو ببني إسرائيل (1)، كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلها أو آلهة، أو كما كان سائدا في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة، الأمر الذي سنناقشه فيما بعد، ثم إيضاح لموضوع رسالتهما «فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم»، ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون، لاستنقاذ بني إسرائيل، و العودة بهم إلى عقيدة التوحيد، و إلى الأرض المقدسة التي كتب اللّه لهم أن يسكنوها إلى أن يفسدوا فيها فيدمرهم تدميرا (2).

على أن موسى عليه السلام سرعان ما يتذكر أنه قتل من المصريين نفسا، ما زال يحمل وزرها في ضميره، و أنه قد خرج من مصر هاربا من

ص: 184


1- تطلق التوراة على اللّه، جل جلاله، لفظ «يهوه» و أحيانا «إلوهيم»، و هو في كلتا الحالتين إله بني إسرائيل دون سائر البشر، و ليس رب العالمين، كما يعتقد المسلمون و المسيحيون، و قد بدأت فكرة الإله الواحد في التوراة مع إبراهيم، حيث جعلت الرب الإله، ربا لإبراهيم ثم إسحاق فيعقوب ثم موسى، ثم جعلته بعد ذلك إلها لبني إسرائيل جميعا على أيام النبي إشعياء، و لكنها لم تخرج به من دائرة بني إسرائيل إلى غيرهم من الشعوب، فقد ظل المعنى المتضمن لمفهوم اللّه تعالى في التوراة على أنه إله إسرائيل في المقام الأول، و هكذا كانت ديانة يهود في التوراة ديانة أسرة بشرية واحدة هي بنو إسرائيل (تكوين 12/ 1- 3، 13/ 14- 18، 15/ 18- 20، 26/ 24، خروج 3/ 6، 6/ 6- 7، يشوع 8/ 3، 9/ 18، 13، صموئيل أول 25/ 33، أخبار أيام أول 16/ 36، ثم أنظر: محمد بيومي مهران: 4/ 219 (الباب الأول- الديانة اليهودية).
2- في ظلال القرآن 4/ 2336- 2337.

الذين ائتمروا به ليقتلوه، فكيف يعود إلى قبضة الحاقدين عليه، المتربصين به، المطالبين بالثأر منه، ليدعو فرعون بترك ألوهيته المزعومة، ثم استنقاذ بني إسرائيل من بين يديه، و هم، فيما يرى، عبيده و خدمه، و لكنه عليه السلام، و هو في حضرة ربه، و ربه يكرمه بلقائه، و يكرمه بنجائه، و يكرمه بآياته، و يكرمه برعايته، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (1)، يقولها لا ليعتذر أو يتقاعس، و لكن ليحتاط للدعوة، و يطمئن إلى مضيها في طريقها، لو لقي ما يخاف، و هو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي (2)، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (3)، و من ثم فسرعان ما تأتيه البشارة من ربه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً

ص: 185


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 102، عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 167.(1) سورة القصص: آية 33.
2- يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره (24/ 122- 123، 249) لما أمر اللّه موسى بالذهاب إلى فرعون و قومه طلب أن يبعث معه هارون إليهم و ذلك لسببين، الأول: أن فرعون ربما كذب موسى، و التكذيب سبب لضيق القلب، و ضيق القلب سبب لتعثر الكلام على من يكون في لسانه جسة، و من ثم فقد بدأ بخوف التكذيب، ثم ثنى بضيق الصدر، ثم تلث بعدم انطلاقة اللسان، و أما هارون فهو أفصح لسانا منه، و ليس في حقه هذا المعنى، فكان إرساله لائقا، و الثاني: أن لهم عندي ذنبا، فأخاف أن يبادروا إلى قتلي، و حينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، و أما هارون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة، و أعلم أنه ليس في التماس موسى أن يضم إليه هارون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون، بل مقصودة فيما سأل ربه أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، و هكذا يكون تصديق هارون لموسى بمعنى أن يعاضده على إظهار الحجة و البيان، و و ذلك بأن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل و يجيب عن الشبهات و يجادل به الكفار، و يذهب السّدى إلى أن نبيّن و آيتين أقوى من نبي واحد و آية واحدة، و إن ذهب آخرون إلى أنه من حيث الدلالة لا فرق بين معجزة و معجزتين و نبي و نبيين.
3- سورة القصص: آية 34.

فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (1)، و هنا تبدأ قصة موسى عليه السلام، و خروج بني إسرائيل من مصر.

[2] بني موسى و فرعون:-

صدع موسى بما أمره اللّه عز و جل به، فولى وجهه، مع أخيه هارون، شطر قصر فرعون، ليدعو صاحبه بدعوة الحق و العدل و العقيدة الصحيحة، أملا من الكليم في أن يسمع فرعون دعوة التوحيد، و يسمح بخروج بني إسرائيل من مصر، تقول التوراة: «و دخل موسى و هارون، و قالا لفرعون:

هكذا يقول الرب إله إسرائيل، أطلق شعبي ليعودوا لي في البرية، فقال فرعون: من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل، لا أعرف الرب، و إسرائيل لأطلقه، فقالا له: إله العبرانيين قد التقانا، فنذهب سفر ثلاثة أيام في البرية، و نذبح للرب إلهنا، لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف (2)»، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (3).

غير أن فرعون لم يؤمن بموسى و لم يسمح له، و إنما اتهمه و هارون بأنهما «يبطلان الشعب من أعماله» ثم أمر ألا يعطي الإسرائيليين تبنا، و من ثم فعليهم أن يجمعوه بأنفسهم من القرى لعمل ما كلفوا به من التبن، و أن من يتأخر منهم عن القيام بصناعة الكمية المحدة إنما سوف يكون عقابه الضرب الشديد (4)، و من عجب أن التوراة و إن أشارت من قبل إلى إيمان بني

ص: 186


1- سورة القصص: آية 35.
2- خروج 5/ 1- 3.
3- سورة الأعراف: آية 104- 105، و أنظر: تفسير القرطبي 13/ 13- 14، تفسير ابن كثير 3/ 450، تفسير المنار 9/ 33، 37- 40.
4- خروج 5/ 4- 18، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 263.

إسرائيل بموسى و هارون و دعوتهما، إلا أنها سرعان ما تعود ثانية لتقول إنهم «لم يسمعوا لموسى من صغر النفس و من العبودية القاسية، رغم ما وعدهم به موسى من إنقاذ لهم من عبودية المصريين، و من اتخاذهم شعبا مختارا لرب إسرائيل، و إدخالهم الأرض التي تفيض لبنا و عسلا، رغم ذلك كله فإنهم لم يؤمنوا بموسى و لم يسمعوا له، بسبب صغار في نفوسهم بسبب العبودية القاسية (1)، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (2) عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ، وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (3)، و النص القرآني يفيد أن الذين أظهروا إيمانهم بموسى من بني إسرائيل إنما كانوا هم الفتيان

ص: 187


1- خروج 4/ 29- 31، 6/ 6- 9.
2- اختلف المفسرون في هذه الذرية التي آمنت بموسى، فذهب فريق، و هم الأكثر، إلى أنهم من بني إسرائيل، و ذلك أن موسى دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، و أجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف، و قال مجاهد: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان و مات آباؤهم، و اختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل، لا من قوم فرعون، لعودة الضمير على أقرب المذكورين، و ذهب فريق آخر إلى أنهم من قوم فرعون، قال ابن عباس: الذرية التي آمنت لموسى من غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، و مؤمن آل فرعون، و خازن فرعون و امرأته خازنة (و إن كان لابن عباس قول آخر من بني إسرائيل)، و يذهب ابن كثير إلى أنهم من قوم فرعون لأن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام، و قد كانوا يعرفون نعته و صفته و البشارة به من كتبهم المتقدمة، و أن اللّه سينقذهم به من أسر فرعون و يظهرهم عليه، و أما الضمير «و في ملئهم» فيرجع إلى فرعون، و الجمع لما هو معتاد في ضمائر العظماء، و لا يأباه مقام بيان علوه في الفساد و التسلط على العباد، أو لأن المراد به فرعون بمعنى آل فرعون أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون أو إلى الذرية على خوف من فرعون و أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم و على أنفسهم (تفسير النسفي 2/ 172- 173، تفسير أبي السعود 4/ 170، تفسير ابن كثير 4/ 222- 223، تفسير الطبري 15/ 163- 167، تفسير الخازن 3/ 2048202، تفسير المنار 11/ 383- 384، تفسير القرطبي ص 3208.).
3- سورة يونس: آية 83.

الصغار، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي، و أن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم و ردهم من أتباع موسى، خوفا من فرعون و تأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب السلطان، و الأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة، و بخاصة من بني إسرائيل، و قد كان فرعون ذا سلطة ضخمة و جبروت، كما كان مسرفا في الطغيان لا يقف عند حد، و لا يتحرج من إجراء قاس (1)، و هكذا يبدو واضحا إلى أي مدى قد أذل الاستعباد قوم موسى، و أفسد طباعهم، فأعرضوا عن الحق و أصبحوا لا يملكون من أمر نفسهم شيئا، فلقي منهم نبيّهم العنت الشديد.

و على أية حال، فلقد عجب فرعون، و هو يرى موسى عليه السلام، يواجهه بهذه الدعوى الضخمة «إني رسول رب العالمين» ثم يطالبه بهذا الطلب الضخم «أن أرسل معي بني إسرائيل»، و من ثم فقد كان بين موسى و فرعون جدل شق و استطال ذكّر فرعون فيه موسى بتربيته في القصر الملكي، و كيف أحسن سلفه (2) مثواه، ثم كيف ارتكب جريمته تلك، يعني قتل موسى لمصري، ثم فر هاربا من مصر كلها، دون أن يناله من القصاص ما يستحق قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (3)، و هكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك معه موسى جوابا، و لا يستطيع مقاومته، و بخاصة حكاية القتل، و ما يمكن أن يعقبها من القصاص، فأجابه موسى عليه السلام قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (4).

ص: 188


1- في ظلال القرآن 3/ 1815.
2- قارن: ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 250.
3- سورة الشعراء: آية 18- 19.
4- سورة الشعراء: آية 20- 22.

و يتصل الجدل و الحوار بين الرجلين، النبي و الملك، قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ، قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (1)، و كانت هذه مفاجأة ضخمة لفرعون و ملئه، فالعصا (2) تنقلب إلى ثعبانا لا شك في ثعبانيته، ثم إن ).

ص: 189


1- سورة الشعراء: آية 23- 33.
2- هناك عدة روايات بشأن عصا موسى هذه، منها (أولا) أن شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء، فأمر موسى أن يأخذ له واحدة منها، فأخذ موسى عصا هبط بها آدم من الجنة و لم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب، فضنّ بها شعيب على موسى و طلب أن يأخذ غيرها، فما وقع في يده غيرها سبع مرات فعلم أن له معها شأنا، و روى أن شعيبا أمر ابنته أن تأتي لموسى بعصا، فلما أتته بها قال ائته بغيرها، فلما أرادت أن تأخذ غيرها لم يقع في يدها غيرها، فلما رآها الشيخ رضى، ثم ندم و خرج يطلب موسى، لكن موسى رفض أن يعطيه إياها، ثم اتفقا على أن يحتكما إلى أول من يلقاهما، فلقيهما ملك فقضى بأن يضعوها على الأرض فمن حملها فهي له، فلم يستطع الشيخ حملها، و أخذها موسى بسهولة، فتركها له الشيخ، و منها (ثانيا) رواية تقول أنه كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا هو و ابنته التي تزوجها موسى، و كان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا، و كان له أحد عشر ولدا، فأخذ كل واحد منهم عصا، ثم احتاج موسى عصا، و لم يجد أهله في الدار، فدخل البيت و أخذ تلك العصا، فلم علم بيرون بما حدث فرح و قال لابنته: إن زوجك هذا نبي، و أن له مع هذه العصا لشأنا، و منها (ثالثا) رواية تقول إن موسى كان يرعى غنم حميه فنام، و إذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى فقتلته و عادت و هي دامية، فلما استيقظ موسى و رأى العصا دامية و التنين مقتولا، أرتاح و علم أن في تلك العصا آية، فأخبر حميه بالقصة ففرح و علم أن لهذه العصا شأنا، و أراد أن يكافئ موسى على حسن رعيه وصلته لابنته، فوهب له كل أبلق و بلقاء تضعها أغنامه في تلك السنة، فأوحى اللّه إلى موسى أن أضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه، فوضعت جميعها ما بين أبلق و بلقاء، فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه اللّه لموسى و زوجته فوفي له شرطة، و منها (رابعا) رواية تقول إن هذه العصا عصا آدم و أن جبريل أخذها بعد موت آدم فبقيت معه حتى لقي موسى ربه ليلا، و منها (خامسا) رواية تنسب للحسن البصري تقول إنها من عرض الشجر أخذها موسى دون أن يتخيرها، و عن الكلبي أنها من شجرة العوسج، و رأى الفخر الرازي أنه لا مطمع في ترجيح رواية على أخرى، لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها و الأخبار متعارضة (تفسير الفخر الرازي 24/ 246- 247).

يده السمراء، و قد كان موسى عليه السلام «آدم» أي مائلا إلى السمرة، يخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، بيضاء ليست عن مرض، و لكنها المعجزة، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء، فإذا فرعون، و قد أحس بضخامة المعجزة و قوتها يسرع بمقاومتها و دفعها، و هو يحس ضعف موقفه، و يكاد يتملق القوم من حوله، و يهيج مخاوفهم من موسى و قومه ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (1).

و لعل سائلا يتساءل: لم اختار اللّه معجزة لموسى عليه السلام من نوع السحر؟

و لعل الجواب على ذلك، إنما يأتي من دراستنا للتاريخ المصري في عصوره القديمة، حتى نستطيع أن ندرك الحكمة من نزول الآية و المعجزة بالصورة التي شاء اللّه أن تنزل بهما، فما كانت لتنزل إلا في أمر من واقع حياة الناس و ما يدور بأذهانهم فتكون محققة في أعينهم على غير قاعدة و لا قياس لخارق من الأعمال، طالما فكروا فيه و سمروا به و ضربوا به أغوار الوهم و تخيلوه، و قد ورد لنا عن الحياة المصرية القديمة من أحاديث السحر و السحارين ما كان الناس يخرجون به إلى عالم الغيب من عالم الشهادة، و من دنيا الواقع إلى آفاق الخيال (2).

ص: 190


1- سورة الشعراء: آية 34/ 35، تاريخ الطبري 1/ 403، في ظلال القرآن 3/ 1347، 5/ 2594.
2- أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 104.

و هكذا كانت معجزة موسى من نوع السحر الذي برع المصريون فيه، و من نفس المنطق، و على نفس الدرب، كانت معجزة القرآن الكريم الأولى في بيانه الذي خرست معه الألسنة فما تنطق، و في فصاحته التي شدهت معها الأفئدة فما تعي، و سوف يظل هذا البيان و تلك الفصاحة حجة على العالمين، تلك كانت معجزة القرآن الأولى يوم طالع الرسول العرب، و هم ما هم بيانا و فصاحة (1)، يستوي في ذلك رجالهم و نساؤهم، و ما أمر أسواق العرب التي كانوا يعرضون فيها بضاعة الكلام و صناعة الشعر و الخطابة، بخاف على متأدب.

فما هو إلا أن جاء القرآن، و إذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، و إذا الأندية صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة و تأخير أخرى، ذلك على أنه لم يسد عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراد أو جماعات، بل تحداهم و كرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف (2)، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله (3)، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله (4)، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله (5)، ثم بسورة واحدة من مثله (6)، و أباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا و من استطاعوا، ثم رماهم- و العلم كله-

ص: 191


1- إبراهيم الأبياري: تأريخ القرآن، القاهرة 1965 ص 44- 45.
2- محمد عبد اللّه دراز: النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، الكويت 1970 ص 84.
3- سورة الإسراء: آية 88.
4- سورة هود: آية 13.
5- سورة يونس: آية 38.
6- سورة البقرة: آية 23.

بالعجز في غير مواربة، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

و هكذا شاء اللّه، أن يقرأ النبي الأمي، و أن تكون معجزته كتابا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (2)، و أن يكون هذا الكتاب بما يتعلق فيه من آيات العلم و الحكمة و السمو الأدبي، هو حجته البالغة على أنه مبلغ عن اللّه، لا بد له فيما يتلوه منه، كما يقول اللّه تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (3)، ثم ليكون هذا الكتاب دستور أمة أمية، لم تكن تقرأ و تكتب، و أن يكون هذا الدستور أكمل و أمثل نظام عرفته البشرية، و أن يكون إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها، معجزة الإنس و الجن في كل دهر و عصر (4).

و عودا على بدء، إلى معجزة موسى عليه السلام، حيث نرى أن المصريين إنما كانوا- فيما تشهد به قصص أدبهم- يحبون أحاديث السحر و خوارق الأعمال، و فيما نسبوه إلى خوفو- و هو اختصار اسمه الكامل خنوم خوفو وى- في بردية و ستكار (5)- أو قصة خوفو و السحرة، من حبه السحر

ص: 192


1- سورة الإسراء: آية 38، و أنظر: تفسير القرطبي ص 3942- 3943، عبد اللّه محمود شحاتة: تفسير سورة الإسراء ص 234- 237.
2- سورة فصلت: آية 42، و أنظر تفسير الكشاف 4/ 201- 202، تفسير مجمع البيان 24/ 24- 26، تفسير روح المعاني 14/ 127- 128، تفسير الفخر الرازي 26/ 131، تفسير النسفي 4/ 380، تفسير القرطبي ص 5810- 5811، تفسير ابن كثير 7/ 171- 172.
3- سورة العنكبوت: آية 48، و أنظر: تفسير القرطبي ص 5067- 5069.
4- عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 4- 6.
5- البردية محفوظة بمتحف برلين، و ترجع إلى أيام الدولة الوسطى، و ربما إلى عصر الهكسوس، و كان «أدولف إرمان» أول من عني بنشرها، كما نشرها «جاستون ماسبيرو» و «ماكس بيير» و «بييت»، و مجموعة من العلماء المصريين و الأوروبيين بعد ذلك، (انظر: , nodnoL, snaitpygE tneicnA eht fo erutaretiL ehT, namrE. A 47- 36. p. 1927. و كذا ,siraP ,euqninoarahP euqopE'L ed neitpygE setnoC te snamoR ,ervbefeL .G 77- 70. p، 1949. F. p, tpygE tneicnA fo seirotS ralupoP, orepsaM. J 21. . F. rutaretiL ehcsitpygA eiD, repeip xaM

و إقباله عليه، ما يصور لنا كذلك ما تعلقت به أوهام الناس في العصور القديمة من خيالات يردونها إلى السحر و يستعينونه عليها (1).

تروى البردية في القصة الثالثة- أو قصة الزوج المخدوع- أن كاهنا يدعى «أوبا أونر» كانت له زوجة قد أقامت علاقة غير شريفة مع فتى من أواسط الناس، و أنهما كانا يلتقيان- في غياب زوجها- في منزل ريفي يملكه الزوج الكاهن على حافة بحيرة، حيث كانا يعاقران الخمر، و يرتكبان ما حرم اللّه، ثم ينزل الفتى آخر النهار في البحيرة، على أن حارس البيت، و قد سدرت المرأة في غيها، و مضت في ضلالها زمنا، قد عمد فمشى بخبرها إلى زوجها، الذي صنع من الشمع كهيئة التمساح، فألقاه في البحيرة بعد أن قرأ عليه من عزائم السحر، ما حوله إلى تمساح مفترس عظيم، فلما نزل الفتى إلى الماء قبض التمساح عليه و نزل به إلى الماء، ثم تحدث الكاهن بخبر زوجته الخاطئة إلى الملك و دعاه إلى بيته ليشهد العشيق الشاب بين فكي التمساح، هنالك وقف الملك على حافة البحيرة مع الكاهن الذي نادى التمساح فخرج إليهما فريسته، فما أن رأى الملك التمساح حتى ارتاع و فزع من مرآة، و لكن الكاهن ما كاد ينحني عليه ليلتقطه حتى عاد سيرته الأولى دمية من الشمع (2).

ص: 193


1- أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 105.
2- جوستاف لوفيغر: روايات و قصص مصرية من العصر الفرعوني، ترجمة علي حافظ، ص 141- 144، أحمد فخري: تاريخ الحضارة المصرية- العصر الفرعوني، الأدب المصري القديم، القاهرة 1962 ص 317، أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 47، 105، سليم حسن: الأدب المصري القديم، الجزء الأول، القاهرة 1945 ص 77- 78.

و تروي البردية في قصة سنفرو- رأس الأسرة الرابعة- و فتيات القصر، أن الملك إنما كان قد أحس ذات يوم ضيقا في الصدر، و حزنا في النفس، فأشار عليه كاهنه «جا جام عنخ» بالنزول إلى بحيرة القصر، مع عشرين فتاة من الغيد الحسان من فتيات قصره، يجدفن و يغنين، و قد فعل الملك، فتسربت إليه البهجة و سرى إلى نفسه السرور، بما شهد من فتيات ليس عليهم من اللباس إلا ثياب من شبك لا تكاد تستر شيئا، و بما سمع من غنائهن، و هن يسرن به في أمواه البحيرة وسط الخمائل و الأغصان، لو لا ما رأى من توقفهن عن التجديف، لما شكت إحداهن من سقوط حليّة لها في الماء و إصرارها على الحصول على حليتها لا ترضى عنها بديلا و لا عوضا من الملك.

و سرعان ما استدعى الكاهن «جا جام عنخ» على عجل، فما أن علم بالخبر، حتى قرأ من عزائم السحر، الذي انشقت له مياه البحيرة، حيث انطوت نصف على نصف، فأصبح ارتفاع ماء البحيرة أربعة و عشرين ذراعا في أحد الجانبين، بعد أن كان اثنى عشر فقط، و رأوا في قاع البحيرة تلك الحلية، و قد استقرت فوق قطعة مكسورة من فخار، فأشار إليها الكاهن ثم سلمها إلى صاحبتها.

و تروي البردية- مرة ثالثة- في قصة الساحر «ددي» الذي بلغ من سحره أن يلحم الرأس المقطوع، و يذلل الأسد لإرادته، أن قد دعى إلى حضرة الملك «خوفو»، حيث عرض سحره عليه، و أوقعه بأوزة ثم ثور، فصل رأس كل منهما، ثم ما زال يقرأ من عزائمه، و الرأس يقترب من الجسد حتى التحما و عادت الحياة إلى كل منهما، ثم أعاد التجربة مرة ثانية في بطة، ثم في ثور، فنجح في ذلك كله (1).

ص: 194


1- جوستاف لفيقر: المرجع السابق ص 147- 151، أحمد فخري: المرجع السابق ص 398- 400، سليم حسن: المرجع السابق ص 81- 83، أحمد عبد الحميد يوسف المرجع السابق ص 105- 106.

و هكذا يمكننا أن نفهم ما دار بين موسى و سحرة فرعون، حينما «كلم الرب موسى و هارون قائلا: إذا كلمكما فرعون قائلا: هاتيا عجيبة تقول لهارون خذ عصاك و أطرحها أمام فرعون فتصير ثعبانا، فدخل موسى و هارون إلى فرعون و فعلا هكذا كما أمر الرب، طرح هارون عصاه أمام فرعون و أمام عبيده فصارت ثعبانا» (1)، و إلى عصا موسى- و ليس هارون كما تقول التوراة- يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (2).

و هنا رأى الملأ من قوم فرعون ما راعهم و روّعهم، و لكن خوفهم من فرعون منعهم من أن يقولوا كلمة الحق، رأوا عصا موسى و قد صارت حية تسعى، و رأوا يده بعد أن أخرجها من جيبه، و قد صارت بيضاء من غير سوء، فلم يصدقوه مع ذاك في أنه مرسل من قبل اللّه رب العالمين، و اتهموه بأنه ساحر ماهر، يريد أن يستعلي هو و أخوه في أرض مصر، ليخرجا منها أهلها، و يمكنا لبني إسرائيل فيها، و انتهوا بعد التشاور إلى أن يرجئ فرعون موسى و أخاه، دون عقاب، حتى تبطل حجتهما و تثبت إدانتهما، و ذلك بأن يحضر المهرة من السحرة من مدائن مصر، ليواجه بهم هذا الساحر الماهر، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ، قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (3).

و اجتمع السحرة في ميقات معلوم، يوم الزينة، و لعله يوم عيد وفاء

ص: 195


1- خروج 7: 8- 10.
2- سورة الشعراء: آية 32- 33.
3- سورة الأعراف: آية 109- 112، و أنظر: تفسير الطبري: 13/ 18- 25، تفسير المنار 9/ 33- 55، تفسير ابن كثير 3/ 451- 452، و أنظر: يونس آية 78- 79، طه 57- 64، الشعراء 34- 38.

النيل، أو غيره من أعياد المصريين (1)، ثم تقدموا ممتلئين ثقة بأن لهم النصر و الأجر، قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (2)، و من ثم فقد خيروا موسى فيمن يبدأ قائلين: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (3)، و يذهب الإمام الفخر الرازي إلى أن السحرة المصريين قد تواضعوا لموسى عليه السلام فقدموه على أنفسهم، فقالوا «إما أن تلقي و إما أن نكون أول من ألقى»، فلما تواضعوا له، تواضع هو أيضا فقدمهم على نفسه، و قال: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، و هكذا قدم موسى السحرة على نفسه، رجاء أن يصير ذلك التواضع سببا لقبول الحق، و لقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب، و يقول الزمخشري في الكشاف: تخيّرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاصموا في الجدال، و المتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع، و قال القرطبي: تأدبوا مع موسى بقولهم «إما أن تلقي» فكان ذلك سبب إيمانهم.

على أن هناك من يذهب إلى أن تخيّرهم لموسى لم يكن من باب الأدب، و إنما كان كما يقول صاحب البحر المحيط، من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر، و إيهام الغلبة و الثقة بأنفسهم، و عدم الاكتراث بأمر موسى، و قد أعطاهم موسى فرصة التقدم، وثوقا بالحق، و علما بأن اللّه تعالى سيبطل سحرهم، كما حكى اللّه عن موسى، حيث قال: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ

ص: 196


1- أنظر عن الأعياد (محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 112- 115).
2- سورة الأعراف: آية 113- 114، و أنظر: الشعراء: آية 41- 42.
3- سورة طه: آية 65، و أنظر: الأعراف: آية 115، ثم قارن: يونس: آية 80 (فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) و الشعراء آية 43 (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) و في هاتين الآيتين (بعكس آيتي الأعراف 115، طه 65) نرى موسى عليه السلام هو الذي يقدم السحرة، دونما تخيير منهم له، على أن يبدءوا بعرض مهاراتهم السحرية.

إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ و يذهب صاحب الظلال إلى أن التحدي إنما كان واضحا في تخيرهم لموسى، و تبدو كذلك ثقتهم بسحرهم و قدرتهم على الغلبة، و في الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى عليه السلام، و استهانته بالتحدي، «قال ألقوا» فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة، و تلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى، على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين (1).

و أيا ما كان الأمر، فلقد تقدم السحرة (2) واثقين من النصر،

ص: 197


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 133- 134، تفسير البحر المحيط 4/ 361، تفسير القرطبي 11/ 214، في ظلال القرآن 3/ 1349.
2- اضطرب الناقلون للأخبار في عدد السحرة اضطرابا متناقضا يعجب العاقل، كما يقول أبو حيان، من تسطيره في الكتب، فمن قائل 12 ألف أو 17 ألف أو 30 ألف أو 80 ألف، أو 70 ألف، ألقوا 70 ألف عصا، 70 ألف حبل، على أن أغرب ما في الروايات أنهم كانوا 72 ساحرا، اثنان من المصريين، 70 من بني إسرائيل، و قيل تسعمائة، ثلاثمائة من الفرس، و ثلاثمائة من الروم، و ثلاثمائة من الإسكندرية، و جاء في تفسير الطبري عن ابن عباس أن فرعون قال: لا نغالبه (أي موسى) إلا بمن هو منه، فبعث بعلماء بني إسرائيل إلى الفرما يعلمونهم السحر، لما يعلم الصبيان الكتاب في الكتاب، فعلموهم سحرا كثيرا، حتى قال كبيرهم أنه علمهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض، إلا أن يكون، أمرا من السماء، فإنهم لا طاقة لهم به، فأما سحر أهل الأرض فإنه لن يغلبهم (تفسير الطبري 13/ 25، تفسير البحر المحيط 4/ 360، 6/ 26، تفسير القرطبي 11/ 214، ابن كثير: مختصر التفسير 2/ 486، البداية و النهاية 1/ 254، تفسير الدر المنثور 3/ 106، تاريخ ابن الأثير 1/ 103، تفسير النسفي 3/ 57) و بدهي أن المبالغة واضحة من هذه الأعداد، فما كان التنافس بينهم و بين موسى يحتاج إلى أعداد تصل إلى تسعمائة ألف ساحر، و ربما كان رقم 72 ساحرا، مقبولا نوعا ما، و أما الأماكن التي جاء منها السحرة كبلاد الفرس و الروم و الإسكندرية، فليت الذين كتبوا ذلك يعلمون أن الإسكندرية أنشئت عام 332 ق. م، و بعد هذه الأحداث بما يقرب من ألف عام، و أن الفرس ظهروا عام 525 ق. م، أي بعد هذه الأحداث بحوالي 700 عام، و الروم بعدها بما يقرب من اثنى عشر قرنا، و أن الفرما أو العريش لم تكن من المراكز العلمية في مصر، و أن مصر باتت تموج بالسحرة، و قد بلغوا شأوا بعيدا فيه، و ما كانوا في حاجة لبني إسرائيل، الذين ما كانوا يعرفون علما أو فنا أو صناعة، غير سخرة في بناء المدن و رعي مواشيهم، ثم كيف يستعين فرعون ببني إسرائيل على موسى الذي جاء لينقذهم من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم و يستبي نساءهم، ثم إن سياق القصة في القرآن يشير إلى استعانة فرعون بالسحرة المصريين، و ليس ببني إسرائيل.

فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (1)، و سرعان ما صارت الحبال و العصي، كما تقول التوراة، ثعابين، أو بالأحرى خيل إليهم من سحرهم إنها تسعى و كما نص الذكر الحكيم فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، قال الزمخشري: استرعبوهم و أرهبوهم إرهابا شديدا، و حسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم، لندرك أي سحر كان، و حسبنا أن نعلم أنهم سحروا أعين الناس و أثاروا الرهبة في قلوبهم، و استرعبوهم، لنتصور إي سحر كان، و لفظ «استرهب» ذاته لفظ مصور، فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس و قسروهم عليه قسرا، ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة، لنتصور حقيقة ما كان، يقول اللّه تعالى:

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (2).

و جاء في تفسير ابن كثير: قال ابن عباس: فجعلت لا تمر بشي ء من حبالهم و لا من خشبهم إلا التهمته، فعرفت السحرة أن هذا شي ء من السماء، ليس هذا بسحر، فخروا سجدا، و قالوا آمنا برب العالمين رب موسى

ص: 198


1- سورة الشعراء: آية 44.
2- سورة الأعراف: آية 116، طه: آية 65- 70، في ظلال القرآن 3/ 1349، تفسير الطبري 13/ 28.

و هارون، قال ابن إسحاق: جعلت تتبع تلك الحبال و العصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل و لا كثير، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، و وقع السحرة سجدا، و قالوا: لو كان هذا ساحرا ما غلبنا، و في هذا إشارة إلى أهمية العلم و تكريمه، فقد كان هؤلاء السحرة أعرف الناس بما جاء به موسى عليه السلام، و أنه من عند اللّه، و ليس من فنون السحر الذي تجروا فيه، و من ثم فقد خروا ساجدين و قالوا: «آمنا برب العالمين رب موسى و هارون»، لأن العالم في فنه إنما هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تنكشف له، لأنه أقرب من غيره إدراكا لهذه الحقيقة، و من ثم فما أن تأكدوا من معجزة موسى حتى ملك الحق قلوبهم، و ملأ الإيمان مشاعرهم، فاستخفوا بتهديد فرعون لهم أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، و يصلبهم في جذوع النخل «و قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين».

و يقول أبو حيان: قال المتكلمون إن في هذا دلالة على فضل العلم، لأنهم كانوا كاملين في علم السحر، و من ثم فما أن علموا أن ما جاء به موسى خارج عن جنس السحر، حتى آمنوا به، و لو لا العلم لتوهموا أنه سحر، و أن موسى أسحر منهم، و لكن نظرا لأنهم كانوا، كما يقول الفخر الرازي، في الطبقة العليا من علم السحر، فقد علموا أن ذلك خارجا عن حد السحر، و ما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر، و من ثم لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا، قال أبو السعود: روى أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس، و كانت الآلات تبقي علينا، فلو كان هذا سحرا، فأين ما ألقيناه من الآلات، فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم، و أن ظهور ذلك على يد موسى دليل على صحة رسالته، و من ثم فقد خروا سجروا، آمنا برب موسى و هارون (1).

ص: 199


1- تفسير البحر المحيط 4/ 364- 365، تفسير الفخر الرازي 24/ 134، تفسير أبي السعود 6/ 27- 28، في ظلال القرآن 3/ 1350، ابن كثير: مختصر التفسير 2/ 42، البداية و النهاية 1/ 258، تاريخ الطبري 1/ 409، الكامل لابن الأثير 1/ 103.

و بدهي أن ذلك كله إنما يدل على أن سلطان السحر محدود، فهو، و إن كان له حقيقة، فإن حقيقته لا تتجاوز الأيدي و الأرجل من خلاف فرعون، و قد جاءت هذه الرواية في معظم كتب التفسير، على أن هناك خلافا في تنفيذ فرعون لوعيده، فليس في القرآن الكريم نص على أن فرعون أنفذ وعيده، و لكن الظاهر من سياق القصة أنه صلبهم و عذبهم، قال ابن عباس و عبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة، و يؤيد هذا قولهم: «ربنا أفرغ علينا صبرا و توفنا مسلمين» (1)، و أما النص الذي يصور وسائل التعذيب في زمان فرعون فقد ورد في معبد عمدا من بلاد النوبة المصرية، و يرجع إلى السنة الرابعة من عهد «مرنبتاح» (حوالي عام 1220 ق. م)، و يؤكد أن مرنبتاح هذا، و الذي شاع في الناس أنه فرعون موسى، إنما قطع من خلاف و صلب، و قد نشر هذا النص الزميل الفاضل الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد كان هذا موقف الذين آمنوا من المصريين، ملك الحق قلوبهم، و ملأ الإيمان مشاعرهم، فاستخفوا بتهديد فرعون لهم أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، و يصلبهم في جذوع النخل قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (3)، و هنا تتجلى قوة الإيمان، إذا سكن القلب و اطمأنت به

ص: 200


1- تفسير الطبري 13/ 34، تفسير البيضاوي 3/ 23، تفسير الفخر الرازي 4/ 135، تفسير البحر المحيط 4/ 365، تفسير النسفي 2/ 70، الدر المنثور 3/ 107، ابن كثير: مختصر التفسير 2/ 43، البداية و النهاية 1/ 258.
2- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 110، و كذا F ,lIV L ,EASA ,adamA ta txeT raey htruof s'hatpnereM ,fessuoJ .A .A 273. p، 1964.
3- سورة الشعراء: آية 50- 51، عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 179.

النفس و تتجلى الحقيقة بالاستعداد للفداء في سبيلها، و يظهر طغيان فرعون هذا الذي يستعظم أن يكون في مصر من يذعن للحق، قبل أن يأذن له الملك.

و فوجئ فرعون بما لم يكن يتوقع من عجز السحرة، و فضيحة الهزيمة أمام موسى بين الناس، و أحس أن صرح كبريائه بدأ ينهار، و أنه كاد أن يكون أضحوكة عامة تشيع في أرجاء مصر كلها، و من ثم فقد وقف يزأر و لا زئير، و يتوعد السحرة و لا وعيد، كما أحس الملأ من حوله أن مقامهم كذلك صائر إلى دمار، و البطانة من حول الملك، و كل الملوك و أصحاب السلطان، لا تخلد إلى السكون، فهي دائمة الحركة، دائمة القول و التحريض، لأن الدعوة الجديدة تعصف بمقامهم و مقام زعيمهم في البلاد، و لعل ذلك يمكن أن يفهم من قولهم لموسى و هارون من أول لقاء أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (1)، و من ثم فإننا نراهم يحرضون فرعون على مذبحة جديدة بين بني إسرائيل، وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ، قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (2)، و في سورة غافر قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (3).

و من المعروف أن بني إسرائيل قد عانوا من قبل، في إبان مولد موسى، مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون و ملئه، كما يقول تعالى:

ص: 201


1- سورة يونس: آية 78.
2- سورة الأعراف: آية 127.
3- سورة غافر: آية 25- 26.

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (1).

و من ثم فهناك، فيما يرى صاحب الظلال، أحد احتمالين، فيما حدث بعد ذلك الأمر، الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر، كان قد مات و خلفه ابنه أو ولي عهده، و هذا ما تذهب إليه التوراة (2)، و لم يكن الأمر منفذا في العهد الجديد، حتى جاء موسى و واجه الفرعون الجديد، الذي كان يعرفه و هو ولي للعهد، و يعرف تربيته في القصر، و يعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور و ترك الإناث من بني إسرائيل، فحاشيته تشير إلى هذا الأمر، و توحي بتخصيصه لمن آمنوا بموسى، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون و ملئه، و الاحتمال الثاني، أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ما يزال، على عرشه، و قد تراخى في تنفيذ الأمر بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته، فالحاشية تشير بتجديده و تخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب و التخويف (3).

و أما قتل موسى عليه السلام، فإنما هو جد صعب المنال، و ربما كان السبب في ذلك خوف الفرعون و ملئه، من حدوث هياج عام بين المصريين أنفسهم، و خاصة بعد أن شاع و ذاع، و ملأ الأسماع، نبأ المعجزة الباهرة التي قهرت المهرة من السحرة و حمّلتهم على أن يؤمنوا و يعلنوا إيمانهم على رءوس الأشهاد بهذه الصورة المؤثرة، و من ثم فأكبر الظن أن النبيين الكريمين لم تكن لهما قوة تحميهما، في نظر فرعون، إلا الخوف من هياج

ص: 202


1- سورة القصص: آية 4.
2- خروج 2/ 23، 4/ 19، ثم قارن: البداية و النهاية 1/ 250.
3- في ظلال القرآن 5/ 3077- 3078.

الرأي العام، إن صح هذا التعبير، بعد أن سمع ما سمع، و رأى ما رأى، و من يدري فقد يوحي هذا للجماهير بتقديس موسى و اعتباره شهيدا، و الحماسة الشعورية له و للدين الذي جاء به، و لعلنا نستطيع أن نلمس هذه المعارضة فيما حكاه القرآن عن فرعون حين قال ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (1)، فإن كلمة «ذرني» تفيد أنه كان هناك من يعوقونه أو يمنعونه أو يشيرون عليه بغير ما كان يرى، و قد يكون بعض مستشاري الفرعون أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له أو يبطش بهم، و ليس هذا ببعيد، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة، و يتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتقدون عليه، و يكون قول فرعون «و ليدع ربه» ردا على هذا التلويح، و إن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون إنما كانت تبجحا و استهتارا، لقي جزاءها في نهاية المطاف، حيث أغرقه اللّه و جنده في البحر (2).

هذا فضلا عن أن هناك دليلا من القرآن يفيد أن هناك من يعارض في قتل موسى عليه السلام، ذلك أن فرعون عند ما ضاق ذرعا بموسى، و عقد مع الملأ مؤتمرا للفتك به، فوجئ بواحد من هذا الملأ يكتم إيمانه، ينهض لمعارضة هذه الفكرة و يقول: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، و هال فرعون ما سمع، فأخذته العزة بالإثم و نفخ الشيطان في روحه، فقال: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ، و عاد الرجل يعقب على كلام

ص: 203


1- سورة غافر: آية 26.
2- في ظلال القرآن 5/ 3078.

فرعون، و يحذره من غضب اللّه و بطشه، و بما حدث لغيره من الطغاة العتاة، ثم أعلن أنه أبرأ ذمته فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (1).

و هكذا فشل فرعون و ملؤه في تدبير خطة لاغتيال موسى، بل إن القرآن إنما يحدثنا أن فرعون إنما وجد المعارضة في داخل بيته نفسه، من زوجته، ذلك أن امرأة فرعون قد استطاعت أن تحرر فكرها و وجدانها من كل الأواصر و المؤثرات و القيود، فترفض أن تسير في ركاب زوجها، و أن تنساق في تيار المجتمع الذي تعيش فيه، بل و تعلن عن موقفها في ثبات و إيمان، بعد أن اتضح لها ضلال فرعون، و تبيّن لها الحق في دعوة موسى، رغم ضغط المجتمع و شدة وطأته، و رغم مغيرات الحياة الرخية الناعمة في قصر أعظم ملوك الأرض، و أكثرهم غنى، و أرفعهم حضارة، و رغم آصرة الزوجية التي تربطها بفرعون، فكانت مثلا للشخصية الإنسانية المستقلة في الإيمان و القيم (2)، و إلى هذه السيدة الجليلة يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (3)، و هي التي ).

ص: 204


1- أنظر: سورة غافر: آية 28- 44، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 315- 330.
2- التهامي نقرة: المرجع السابق ص 401.
3- سورة التحريم: آية 11، هذا و قد جاءت أحاديث شريفة في فضل امرأة فرعون منها قوله صلى اللّه عليه و سلم «خير نساء العالمين أربع، مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد رسول اللّه»، و منها قوله صلى اللّه عليه و سلم: حسبك من نساء العالمين بأربع، مريم بنت عمران و آسية امرأة فرعون و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد» و قوله صلى اللّه عليه و سلم: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و مريم بنت عمران و آسية امرأة فرعون» (و أنظر عن هذه الأحاديث الشريفة و روايات أخرى لها: ابن كثير: التفسير 2/ 32- 34، البداية و النهاية 2/ 59- 63، تفسير الطبري 6/ 393--!؟، صحيح البخاري 4/ 193، 6/ 239، صحيح مسلم 2/ 243، سنن الترمذي 4/ 365- 366، المستدرك للحاكم 3/ 184، تحفة الأحوذي 10/ 389) و أن امرأة فرعون ستكون زوجة للنبي صلى اللّه عليه و سلم في الجنة (أنظر: البداية و النهاية 2/ 62).

أودع اللّه في قلبها حب موسى عليها السلام، و الشفقة عليه، و الرحمة به منذ أول لحظة رأته فيها، وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (1).

و على أي حال، فلقد علم موسى عليه السلام أن فرعون ماض في غلوائه و كبريائه، كما علم بنو إسرائيل ما ينتظرهم من المحن و البلايا و الفتن، فتملكهم الرعب، و لم يجدوا في أنفسهم قوة تعينهم على مجرد الصبر و الاحتمال، فقد قال لهم موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فكان جوابهم مما حكاه القرآن عنهم: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا، و هو جواب ينم عن عدم الإيمان باللّه و الثقة بعونه و نصره، كما ينم عن شعورهم بهوان قدرهم و العجر عن الصبر (2).

و نقرأ في التوراة أن موسى ضرب النهر بعصاه، فتحول الماء دما، و مات السمك و أنتن النهر، و بعد أيام سبعة سلط اللّه عليهم الضفادع حتى اكتظت بها الأرض، و حتى خيل أن الأرض تتحرك بسببها، مما جعل فرعون يطلب من موسى أن يسأل ربه أن يرفع عنه هذا البلاء، و حين أجيب إلى مسئوله عاد ثانية فاشتد قلبه (3)، فسلط اللّه على كل أرض مصر البعوض (4)، فإذا ما تذكرنا أن المصريين كانوا قوما يراعون منتهى الدقة في النظافة، كما ».

ص: 205


1- سورة القصص: آية 9.
2- سورة الأعراف: آية 128- 129، عبد الرحيم مودة: المرجع السابق ص 183.
3- خروج 7/ 14- 22، 8/ 1- 15، ف. ب. ماير: حياة موسى- ترجمة القس مرقص داود ص 104.
4- استعملت الترجمة العربية و الألمانية للتوراة كلمة «البعوض»، و أما الترجمة الإنجليزية و الفرنسية و هامش الكتاب المقدس، فقد استعملت كلمة «القمل» بدلا من كلمة «البعوض».

كان الكهنة أكثر القوم مراعاة للنظافة كانوا يغتسلون مرارا، و يحلقون شعورهم لكي لا يعلق بها أي دنس يعطلهم عن واجباتهم الدينية، و من ثم فقد كانت ضربة «البعوض» هذه، فوق أنها أليمة، فهي بغيضة إلى نفوسهم، فإذا أضفنا إلى ذلك الذباب، و لعله الجعران، لعرفنا السبب الذي جعل فرعون يكرر طلبه إلى موسى أن يسأل ربه أن يرفع عن مصر هذه المصائب، في مقابل أن يسمح لبني إسرائيل أن يذبحوا لربهم في البرية، على ألا يبتعدوا كثيرا، فما أن دعا موسى ربه، و فرج اللّه كربة فرعون و قومه، حتى عاد الطاغية إلى سيرته الأولى، فاشتد على بني إسرائيل، و منعهم من الخروج، و من ثم فإن دعوات موسى بالمصائب على فرعون و قومه سرعان ما تتكرر، و لكنها هذه المرة في الحقول، و على الخيل و الحمير و الجمال (1).

و البقر و الغنم، و لا يستثنى رب إسرائيل من هذا الوباء غير ماشية بني إسرائيل، و لعل الأخيرة كانت السبب في أن فرعون لم يطلق سراح بني إسرائيل، بجانب عناده و إصراره على الكفر و العناد، و من ثم فقد كرر رب إسرائيل مصائبه على فرعون و قومه، فإذا الدمامل تنتشر في كل أرض مصر.

و مع ذلك فإن فرعون لم يؤمن بدعوة موسى و هارون، و لم يسمح بخروج بني إسرائيل من مصر، و من ثم فقد سلط اللّه عليه و على قومه عاصفة محملة بالرعد و البرد، و لم تهدأ إلا برجاء من فرعون لموسى بأن يكف اللّه هذا البرد، و ذلك الرعد عن البلاد و العباد، و ما أن تم ذلك حتى عاد فرعون سيرته الأولى، فسلط اللّه عليه الجراد، حتى أصبح وجه مصر الأخضر أسمرا ).

ص: 206


1- لعل كلمة «الجمال» هنا من تحريفات التوراة، ذلك لأن الجمال وقت ذاك ظلت على التحقيق غريبة على المصريين، بل لقد كانت غريبة على من أقبل على مصر من الساميين، فقد جاءت قبيلة «أبشاي» في الأسرة الثانية عشرة على الحمير، لا الجمال، بل إن استعمال الجمال لم يعرف في هذه المنطقة إلا في أخريات القرن الثالث قبل الميلاد، و ربما بعد ذلك (حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 12- 13، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 26).

بسبب الجراد، و أخيرا، و بدون إنذار، حل الظلام على الأرض، حتى لم يبصر أحد أخاه، فشلت كل حركة في البلاد، و ارتعدت أقسى القلوب، و طلب فرعون من موسى ألا يرى وجهه أبدا (1).

هذه هي الضربات التي أوقعها رب إسرائيل بفرعون و قومه، كما جاءت في توراة يهود، و هي و إن اتسمت بالمبالغة أحيانا، و عدم الدقة أحيانا أخرى، فإن ملامح مما جاء عنها في الذكر الحكيم، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ إلى قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ (2) وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ، وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (3).

و روى ابن كثير في التفسير عن سعيد بن جبير، و غيره من السلف، قال: لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل،

ص: 207


1- خروج 8/ 16- 32، 9/ 1- 35، 10/ 1- 29، مزمور 78/ 47- 48، ماير: المرجع السابق ص 111- 118.
2- اختلف المفسرون في لفظ «القمل» فقيل هي «الدبا» (الدبى) بفتح الباء، و هي صغار الجراد الذي لا أجنحة له، و هي البراغيث، و هي دواب سود صغار، و هي «الحمنان» و هي ضرب من القردان، واحدتها «حمنانة» فوق القمقامة، و هي ضرب شديد التشبث بأصول الشعر، و هي السوس الذي يخرج من الحنطة، و هي الجعلان و هو دابة سوداء من دواب الأرض، و هي القمل جمع قملة، و هي دابة تشبه القمل تأكل الإبل (تفسير ابن كثير 3/ 461- 463، تفسير الطبري 13/ 54- 56، مجاز القرآن 1/ 226، الدر المنثور 3/ 107- 108، تفسير القرطبي ص 2705- 2706، تفسير النسفي 2/ 72، صفوة التفاسير 1/ 467).
3- سورة الأعراف: آية 130- 136، و أنظر: تفسير الطبري 13/ 45- 75، تفسير المنار 9/ 74- 84، تفسير ابن كثير 3/ 455- 464، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 4/ 210- 212، تفسير القرطبي ص 2699- 2708، تفسير البيضاوي 3/ 24- 25، الدر المنثور 3/ 107- 108.

فأرسل اللّه عليهم الطوفان و هو المطر، فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا، فقالوا أدع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فلم يؤمنوا و لم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع و الثمار و الكلأ، فقالوا هذا ما كنا نتمنى، فأرسل اللّه عليهم الجراد فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك فيكشف عنا الجراد، فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا و لم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا و أحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا، فأرسل اللّه عليهم القمل، و هو السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفرة، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا و لم يرسلوا معه بني إسرائيل، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون ما تلقى أنت و قومك من هذا، فقال و ما عسى أن يكون كيد هذا، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، و يهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا، و أرسل اللّه عليهم الدم فكانوا ما استقروا من الأنهار و الآبار و ما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا، فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم و ليس لنا شراب، فقال إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا و نحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا، و قالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا و لم يرسلوا معه بني إسرائيل» (1).

ص: 208


1- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 45- 46.

و على أية حال، فإن الكوارث التي جاءت في القرآن الكريم و ترددت في التوراة، على أنها لحقت بمصر سنين عددا، فأصيبت البلاد بالقحط و العلل و الآفات، إنما تصدقها أحداث التاريخ، فمصر لم تكن، كما رأينا من قبل، بمنجاة مما قد ينزل بها من كوارث، فربما انحبس النيل فصوّح الزرع، أو زاد فأغرق البلاد بطوفان عظيم، و هو على الحالين، كما يدمنا، نذير النوازل و نقص في الثمرات، فإذا وقعت الواقعة انتشرت بها الأدواء و الأوبئة، فحصدت الناس حصدا يعجزهم عن تشييع موتاهم إلى القبور، و قد حدث مثل ذلك على أيام الثورة الاجتماعية، و في أخريات أيام الأسرة العشرين، كما حدثنا «إيبو- ور» عن الأولى، و كما تحدثت وثائق أخريات أيام الدولة الحديثة عن عام اشتد فيه الجوع بالناس، حتى سموه «عام الضياع» (1).

على أن الأمر هنا، بين موسى و فرعون، فيما نعتقده و نؤمن به، إنما هو معجزة نبي، و بدهي أنه ليس بالضرورة أن تتفق المعجزات مع بعض أحداث في التاريخ، فإذا ما كان لها صدى في هذه الأحداث التاريخية، فإن ذلك تصديقا لهذه الأحداث، و ليس للمعجزات، و التي سوف نتحدث عنها بالتفصيل عند حديثنا عن انقلاب البحر لموسى عليه السلام، و على أي حال، فالواضح من نصوص التوراة و آي الذكر الحكيم أن البلاد قد أصيبت في تلك الفترة بالقحط و الجدب، و نقصت ثمراتها بالجوائع الجوية و الآفات السماوية، و غرقت أرضها بطوفان، و هجمت عليها جيوش جرارة من الجراد تجتاح الأخضر و اليابس، و امتلأ الجو بالبعوض، و كثر «الدبا» في الأرض، و كذا الضفادع التي نغصت على الناس حياتهم، فكانوا يجدونها في كل

ص: 209


1- محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 357- 359، و كذا, OA, ynreC. J 177- 173. p، 1933، 6. و كذا, EAL, namrE. A 95. p، 1927.

مكان، و هكذا كانت النقمة عامة، و كان بلاء من السماء، لم يصب الطبقة الحاكمة وحدها، و إنما شمل الناس جميعا، بما فيهم الكهنة و عامة الناس (1)، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2).

و مع ذلك فقد ظل فرعون على عناده و كفره و كبريائه، فدعا موسى على فرعون و ملئه، و استجاب اللّه لدعاء نبيّه الكريم و أخذ فرعون و قومه ببعض ذنوبهم، لعل فرعون يرعوي و يؤمن بموسى و رسالته، و يطلق بني إسرائيل من أسره، غير أن ذلك لم يزده إلا تجبرا و تكبرا، فيعلن للملإ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (3)، و لعل من الأهمية بمكان أن نقف قليلا عند هذه الآية الكريمة، ذلك أن ما عرف عن فراعين مصر، و ما تشهد به اليوم آثارهم، أنهم إنما كانوا ينشئون، ما شاءوا، من الحجر، و هو كثير وافر يغنيهم عما سواه، إن أرادوا لما ينشئون الدوام و طول البقاء، فكانوا يتخذون منه المعابد و المسلات و القبور، و لم يصطنعوا الطوب المحروق، و لغير ذلك كانوا يتخذون اللبن من طين غير محروق، فكانوا يتخذون منه بيوتهم، سواء أ كانت للعلية من القوم و الملوك، أم للعامة و غمار الناس، و ربما تردد القارئ غير المسلم فيما يسمع من قول اللّه في أمر فرعون أن يوقد له هامان على الطين، و قد عرف أن المصريين فيما خلفوا من آثارهم لم يتخذوا الآجر المحروق في البناء قبل عصر الرومان (4).

ص: 210


1- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 183- 184.
2- سورة الأنفال: آية 25.
3- سورة القصص: آية 38، و أنظر: سورة غافر: آية 36.
4- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 137- 138.

و هنا لعلنا نتساءل: ما ذا عن الطوب المحروق الذي جاء في الآية الكريمة على عهد فرعون موسى، و قد سبق عصره عصر الرومان بما لا يقل عن ألف من الأعوام؟

يروي الإمام الطبري في تاريخه عن قتادة أن فرعون موسى كان أول من طبخ الآجر ليبني به الصرح، و روى الإمام النسفي في تفسيره لقوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، أي أطبخ لي الآجر و أتخذه، و إنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الآجر، فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة، و لأنه أفصح و أشبه بكلام الجبابرة، إذ أمر هامان وزيره بالإبقاء على الطين فنادى باسمه ب «يا» في وسط الكلام، دليل التعظم و التجبر، و روى القرطبي عن حبر الأمة و ترجمان القرآن، عبد اللّه بن عباس، رضي اللّه عنهما، أن فرعون موسى إنما كان أول من صنع الآجر و بنى به، و روى عن الإمام السيوطي في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن قتادة: كان فرعون أول من طبخ الآجر و صنع له الصرح، و أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال:

فرعون أول من صنع الآجر و بنى به، و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: «فأوقد لي يا هامان على الطين» قال: أوقد على الطين حتى يكون آجرا، و قال الإمام البيضاوي: أول من اتخذ الآجر فرعون، و لذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة، مع ما فيه من تعظيم، و لذا نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام (1)، و من ثم فأكبر الظن أن المفسرين، كما بدا لنا من قبل، قد كانوا يستندون إلى طائفة من الخبر الصحيح كانت بين أيديهم، و أن اختلط كذلك بما لا قيمة له من الأوهام، كحديثهم عن أصل فرعون موسى هذا (2).

ص: 211


1- تفسير النسفي 3/ 237، تفسير الدر المنثور 5/ 129، تفسير القرطبي ص 5004، تفسير البيضاوي 4/ 128، تاريخ الطبري 1/ 405.
2- يروي المفسرون عن فرعون موسى حكايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، فهو، فيما يزعمون، الوليد بن مصعب أو مصعب بن ريان أو هو قنطورس أو قابوس، و كنيته أبو مرة، و هو مصري أو هو من بني عمليق و من يقايا عاد، على أن أسوأ ما في هذه الأساطير أن يكون فرعون مصر، (أعظم دول العالم وقت ذاك، و أعرقها حضارة و أرسخها ملكا، و أقدمها عرشا، بل و يكاد الوحيد، فيما نعلم، في كل تاريخ النبوات الذي أرسل إليه نبيّين، و ليس نبيا واحدا) فرعون مصر هذا، فيما يزعم المفسرون، كان فارسيا من إصطخر أو أصفهان، و كان عطارا ركبته الديون فأفلس، فخرج إلى الشام فلم يتسن له المقام، فدخل مصر، و رأى في ظاهره حملا من البطيخ بدرهم، و في نفسه بطيخة بدرهم فخرج إلى السواد فاشترى حملا بدرهم، و توجه إلى السوق فكل من لقيه من المكاسين أخذ منه بطيخة، فدخل مصر و ما معه إلا بطيخة فباعها بدرهم، و رأى أهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى أحد سياستهم (تصور هذا في عصر الإمبراطورية و في وقت كانت مصر تحكم فيه الشرق، و كان ملكها سيد الملوك طرا، لأنه أعظمهم و أغناهم و أقواهم) فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لأوليائه، على أنه أمين المقابر، و منعهم من دفنه حتى يدفعوا خمسة دراهم، فدفعوها، و كذا فعل آخرون، حتى جمع في ثلاثة أشهر مالا عظيما، ثم تعرض له يوما أحد أولياء متوفى و ذهبوا به إلى فرعون، فسأله: من أنت و من أقامك بهذا المقام، فقال لم يقمني أحد، و إني فعلت ذلك لأحضر إلى مجلسك، فأنبئك إلى اختلال حال قومك، و قد جمعت بهذا الطريق هذا المال و أحضره و دفعه إلى فرعون، ثم قال ولني أمورك ترني أمينا فولاه فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر و استقامت أحوال الرعية و لبث فيهم أمدا طويلا، و ترامى أمره بالعدل و الصلاح (و بدهي أن المفسرين تأثروا في هذا بقصة يوسف عليه السلام) فلما مات فرعون أقامه مقامه، فكان من أمره ما كان، و كان فرعون يوسف ريان، و كان بينهما أكثر من أربعمائة عام (و لا تعليق على هذه الأساطير سوى أنها تدل على جهل فاضح بالتاريخ المصري القديم). و على أية حال، فلقد ذهب الزمخشري إلى فرعون اسم علم لمن ملك العمالقة، كقيصر لملك الروم و كسرى لملك الفرس. و لعتو الفراعنة اشتقوا تفرعن إذا عتا و تجبر (تفسير الكشاف 1/ 102، الدر المنثور 3/ 105، روح المعاني 1/ 253، تفسير أبي السعود 1/ 172.

و مهما يكن من أمر، فلقد أعثرتنا الأحافير على ما يوافق أقوال المفسرين من حيث البناء بالآجر، فلقد عثر «بتري» على طائفة من غير مألوف المصريين من الآجر المحروق، بنيت به قبور، و أقيمت به بعض من أسس المنشآت، ترجع إلى عصور الفراعين: رعمسيس الثاني و مرنبتاح و سيتي

ص: 212

الثاني، من الأسرة التاسعة عشرة (1308- 1184 ق. م)، و كان عثوره عليها في «نبيشة» و «دفنة» غير بعيد من «بي رعمسيس» (قنيتر) عاصمة هؤلاء الفراعين في شرق الدلتا، و قال «بتري» في ذلك: إن حرق اللبن قد ظل نادرا إلى عصر الرومان، و هو قول لا يكاد يخالف قول المفسرين من بدء اتخاذ الآجر المحروق، على عهد فرعون موسى، و هو كذلك من قرائن القرآن الكريم التي نتخذها مطمئنين في تحديد عصر خروج بني إسرائيل من مصر، و بأنه كان على أيام الأسرة التاسعة عشرة التي بدأت، كما أثبتت الحفائر، و ألمع القرآن الكريم، تصطنع في بنائها الآجر المحروق (1).

[3] ألوهية الفرعون المزعومة:-
اشارة

لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا، و قبل أن نترك موضوع موسى و فرعون، أن نشير إلى «ألوهية الفرعون المزعومة» التي رأيناها موضوع جدل شديد بين النبي الكريم و الملك الفرعون بل هي الصخرة التي تحطمت عليها، فيما نعتقد، كل أوجه التقارب بينهما، و مما يزيد الأمر أهمية أننا لا نعرف في تاريخ النبوات، دعوة يتعرض صاحبها لزعم كذوب ممن أرسل إليه، على أنه إله للناس، بل إن الفرعون إنما يهدد النبي الكريم نفسه قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (2)، ثم يعلن للناس عامة ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (3)، و عند ما يتقدم له موسى عليه السلام بمعجزات تدل على صدق رسالته، إذا به يرفض الدعوة كلها ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (4).

ص: 213


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 138، و كذا. p, henefeD dna hehsebN, eirteP. F. M. W 47، 19- 18.
2- سورة الشعراء: آية 29.
3- سورة القصص: آية 38.
4- سورة النازعات: آية 22- 24.
فما قصة ألوهية فرعون هذه:

يحدثنا التاريخ أن مؤسس الأسرة المصرية الأولى، استطاع أن يكوّن لمصر حوالي عام 3200 قبل الميلاد، حكومة مركزية قوية ثابتة الأركان، كان على رأسها «الملك المؤله» الذي استطاع أن يجمع بين يديه كل السلطات، حكومة كان الملك فيها هو المحور، بل هو الروح التي تبعث الحياة في الدولة هو المحور، بل هو الروح التي تبعث الحياة في الدولة، و كل ما يحدث فيها و حي منه، على أسس دينية عميقة الأثر، فهو «الإله الأعظم»، و هو «الإله الصقر حور»، الذي تجسم في هيئة بشرية، و لهذا فهو- في نظر رعاياه- إله حي على شكل إنسان، يتساوى مع غيره من الآلهة الأخرى فيما لها من حقوق، و من ثم فله حق الاتصال بهم، و له على شعبه- ما لغيره من الآلهة- من التقديس و المهابة (1).

و من هنا كان الأساس السياسي و الاجتماعي الذي قامت عليه الحضارة المصرية، هو التأكيد كل التأكيد، بأن مصر يحكمها إله، و أن هذا الإله الجالس على العرش غير محدود المعرفة و المقدرة، و أنه على علم بكل ما يدور في أرض الكنانة، و من هنا كان من الصعب أن نفرق بين الملك و الدولة، إذ كانت كلمته قانون، و رغبته أمر، و رعيته ملك يمينه، يتصرف فيها كيف شاء، و متى شاء (2).

و قد اختلف المؤرخون فيما بينهم في كيفية إيمان المصريين بأن الجالس على العرش إله يحكم بشرا؟ و كيف أصبحت ألوهية الفرعون عقيدة الدولة الرسمية، فهناك من يرى أنها إنما كانت وليدة أسباب انتصاره على

ص: 214


1- محمد بيومي مهران: التنظيم السياسي في مصر و العراق القديم ص 4 (الإسكندرية 1970)، الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 99- 115.
2- محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة، القاهرة 1976 ص 17.

منافسيه. ثم اصطناعه صفات إلهية، حتى غدا إلها بين الآلهة (1)، و من يرى أن الصعاب التي لاقاها مؤسسوا الوحدة دافعا للقول بأن مصر يحكمها إله، تتمثل فيه القوى التي تهيمن على القطرين (الصعيد و الدلتا)، بل إنه أدعى منذ الأسرة الخامسة بأنه الابن الشرعي لإله الشمس «رع»، أعظم الآلهة طرا و سيدهم، و بذلك تمكن الملك من أن يتباعد بنفسه عن أن يكون من البشر، و عن أن يكون منتسبا لأي جزء من أجزاء مصر، و من ثم فقد انتفت حجة الوجه البحري في معارضته في أن يحكمه رجل من الصعيد (2).

و هناك وجه آخر للنظر، يذهب إلى أن المصري كان لا يحس بضرورة تحديد الأنواع تحديدا صريحا، فقد سهل عليه أن ينتقل من البشري إلى الآلهي براحة تامة، و أن يقبل العقيدة التي تنص على أن الفرعون الذي كان يعيش بين الناس كأنما هو من لحم و دم إنساني، كان في الحقيقة إلها تكرم فأقام فوق الأرض ليحكم أرض مصر، و من ثم فإن طريقة التفكير هذه، فيما يرى جون ويلسون- بجانب العوامل الجغرافية- إنما كانت سببا في عقيدة الملكية الإلهية، التي ربما كانت سهلة و طبيعية بالنسبة للمصريين، و ربما كانت متأصلة الجذور منذ أيام ما قبل التاريخ (3).

و هناك رأي رابع، يجعلها نتيجة أسباب دينية، ذلك أن المصريين القدامى إنما كانوا يعتقدون- كما تروي الأساطير- أن آلهة التاسوعيين قد حكموا الواحد تلو الآخر على الأرض في مصر ذاتها، قبل أن يعرجوا إلى السماء- أو فيما يختص بالذين ذاقوا الموت قبل أن يهبطوا إلى الجحيم-

ص: 215


1- نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم- الجزء الرابع- ص 74 (الإسكندرية 1966.
2- عبد المنعم أبو بكر: تاريخ الحضارة المصرية- العصر الفرعوني، النظم الاجتماعية- القاهرة 1962 ص 111.
3- . p, tic- po, nosliW. A. J 47، 45.

و كانت القوائم الملكية تبدأ بهم، بل و تحدد عدد سنى حكمهم- كما تفعل بردية تورين- و قد ترك «أوزير» آخر الآلهة العظام، لابنه حور ملك مصر، و من «حور» هذا تحدر في زعمهم كل ملوك مصر، و بناء على ذلك، فإن حتى الملك يقوم على طبيعته الإلهية التي كانت تنتقل مع الدم، و في عهد الأسرات الأولى لم تكن ألوهية الملك مؤكدة إلا لتسلسله من «حور» إله الأسرة بغض النظر عن أية مؤلفة دينية (1).

و تذهب وجهة النظر الخامسة إلى أن ألوهية الفرعون إنما تتصل اتصالا وثيقا بالعناصر الأساسية التي شكلت المبادئ و القيم المصرية منذ البداية، و تتركز تلك العناصر بصفة خاصة على تأثر الإنسان بكافة المقومات البيئية المحلية في مصر تأثرا كاملا بطريق مباشر أو غير مباشر، فقد بدأ الإنسان حياته المستقرة بالزراعة، و نشأ لأول مرة المجتمع الزراعي المستقر و المعتمد على ضمان توفير مياه الري و مساعدة العوامل الطبيعية المختلفة اللازمة للإنتاج الزراعي السليم، ثم سرعان ما أدرك الإنسان ضرورة ضمان ذلك الاستمرار حتى يطمئن على حياته المستقلة، و في نفس الوقت آمن بالظواهر الطبيعية المحيطة به و المسيطرة على تلك البيئة، و شعر بارتباط حياته و مستقبله بتلك القوى الكونية المسيطرة على هذا العالم، و قد اعتبر الملك أحق من يقوم بوظيفة الوساطة بين الإنسان و الآلهة، حتى يستطيع أن يضمن رضى تلك القوى على الإنسان، و بالتالي اطمئنانه على حياته الحاضرة و المستقبلة، و لذلك ارتبط ملوك مصر بعالم الآلهة ارتباطا كبيرا لم يألفه المؤرخ في أنظمة الحكم الأخرى في منطقة الشرق الأدنى القديم (2).

ص: 216


1- أيتين دريوتيوجاك فانديه: مصر، ترجمة عباس بيومي، القاهرة 1950 ص 90- 91.
2- رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا- الكتاب الأول- بيروت 1968، ص 282- 283.

و هكذا نرى العلماء يختلفون في تفسيرهم لألوهية الملك المصري، و كيف نشأت؟ و كيف اقتنع المجتمع المصري و آمن بألوهية ملوكه؟

و إذا أردنا مناقشة هذا كله، لرأينا أن الأسباب العسكرية لا تستطيع وحدها أن تصل بالمغلوبين إلى الإيمان بألوهية ملوكهم، ذلك لأن الغزو قد يجبر قوما على الخضوع لآخرين، و قد يجعل من زعيم المنتصرين «دكتاتورا» يأمر فيطيع المغلوبين، و لكنه لا يجعل منه- بحال من الأحوال- إلها يؤمن الناس به، كواحد من آلهتهم الأخرى، و حتى لو آمنوا به في فترة الغزو- و في أعقابه لفترة ما- فكيف تسنى لملوك مصر أن يجعلوا من ألوهيتهم عقيدة يؤمن بها الناس حتى نهاية العصور الفرعونية.

و أما النظرية التي تجعل الصعاب التي لاقاها مؤسسوا الوحدة دافعا إلى القول بأن مصر يحكمها إله تتمثل فيه القوى التي تهيمن على القطرين، فقد يكون الأمر كذلك إلى حد ما، و في هذه الحال، فإن توطيد هذا المبدأ في جميع أنحاء البلاد إنما احتاج إلى وقت طويل، حتى قبل القوم أن ذلك الإنسان الذي يحكمهم ليس بشرا، بل هو من نوع آخر، فلدينا ما يثبت أن الوحدة التي قامت في أول عصر التأسيس لم يكتب لها البقاء طويلا، و إنما إنهارت في النصف الثاني من عصر الأسرة الثانية، إذ تدلنا آثار الملك «خع سخم»- و التي تقتصر على مدينة «نخن»- على مدى جهوده في استرجاع الدلتا، و توطيد الوحدة، و القضاء على الفتنة، الأمر الذي تمّ على يد خلفه «خع سخموي».

و أما الرأي الذي جعل من العوامل الجغرافية- إلى جانب طريقة التفكير المصري- سببا في الإيمان بألوهية الفرعون، فإنها تضعف كثيرا، إذا ما تذكرنا أن ألوهية الملك المصري إنما كانت مرتبطة إلى حد كبير بتقدم البلاد و ازدهارها- و ليس بالعوامل الجغرافية فيها، و أن أية فترة من الفترات

ص: 217

التي كان يضعف فيها الحكم، كان القطران ينفصلان بعضهما عن البعض الآخر، و لم يمسك عليهما وحدتهما إلا اعتمادهما المشترك على مياه النيل.

و أما ذلك الرأي الذي أرجعها لأسباب دينية، فهو في الواقع إنما يعتمد على الأساطير- أكثر من اعتماده على الأدلة التاريخية- إذ لو كان الأمر كذلك، و كان مؤسس الوحدة معترفا بألوهيته على اعتبار أنه سليل الإله «حور»، لما احتاجت الوحدة إلى كل هذه الحروب التي خاضها أبطال التوحيد، من أمثال «عقرب» و «عحا»، و لما احتاجت كذلك إلى جهود خلفائهم بعد النكسة التي أصيبت بها الوحدة في عصر الأسرة الثانية.

و أما النظرية الاقتصادية، فرغم أهمية ضمان توفير الأمن الاقتصادي و غيره من مظاهر الاستقرار في المجتمع، على أساس إمكان توسط الفراعنة بعد حملهم لتلك الصفة الإلهية من أجل تحقيق ذلك، فإن ذلك الأمر ليس بكاف لتعليل إيمان المصريين بألوهية ملوكهم، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان ملوك العراق القديم أحق بالألوهية من ملوك مصر، فبلاد الرافدين إنما كانت معرضة بصورة مستمرة ببتقلبات الجوية التي تحول دون الاستقرار و الطمأنينة، مما أدى إلى تعدد القوى الإلهية، و ظواهر التنبؤ و التمائم، بينما كانت البيئة المصرية مطمئنة إلى حد كبير (1).

و من ثم، فالرأي عندي: أن هذه الأسباب مجتمعة هي التي عملت على تأليه الفرعون في أرض الكنانة، و ربما كانت هناك فكرة أصيلة عن الملكية الإلهية في مصر، و لكنها فكرة غير منتظمة، ثم جاءت الأسرة الأولى و انتهزت فرصة وجود هذا الرأي لتأييد النظام الجديد، فرفعت الفرعون من رتبة بشر متميز- من الجائز أن ينازعه في سلطانه بشر آخر متميزون و أقوياء- إلى مرتبة «إله» لا يمكن منازعته، و هكذا كانت عقيدة الملكية الإلهية، كما

ص: 218


1- رشيد الناضوري: التطور التاريخي للفكر الديني ص 161، 163.

نعرفها قد صيغت و عدلت كثيرا، ثم وجدت قبولا رسميا في أوائل أيام الأسرات، و هذا قول لا يمكن إثباته بالتأكيد، و لكننا نستطيع القول أن العوامل الاقتصادية. و حاجة الناس إلى وسيط يكون بينهم و بين آلهتهم، لتحقيق ما يمكن أن نسميه «بالأمن الوقائي» ضد كل ما يصيبهم بأذى من قريب أو بعيد، ثم بدأ الملوك ينسبون أنفسهم- بعد قيام الوحدة و إخضاع الدلتا- إلى الإله «حور»، خليفة أبيه «أوزير»- آخر الآلهة العظام الذين حكموا مصر في عصور ممعنة في القدم- و منذ الأسرة الخامسة (حوالى عام 2480 ق. م)، يصبح الملوك أبناء للإله «رع» من صلبه، و في عصور تالية، و حين يصبح آمون- سيد الآلهة و كبيرهم- يصبحون أبناء له.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ألوهية الفرعون لم تكن بمعنى أنه خالق الكون و مدبره أو أن له سلطانا في عالم الأسباب الكونية، إنما كان يدعي الألوهية على شعبه، بمعنى أنه حاكم هذا الشعب بشريعته و قانونه، و أنه بإرادته و أمره تمضي الشئون و تقضي الأمور، كما أشرنا من قبل، كذلك لم يكن الناس، في مصر يتعبدون إلى فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له، فقد كانت لهم آلهتهم، كما كان لفرعون نفسه آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر، من قول الملأ له «و يذرك و آلهتك»، و كما يثبت ذلك تاريخ مصر في العصور الفرعونية، و من هنا فإن هذا الملك المؤله لم تكن تقام له المعابد، كما كانت تقام لغيره من الآلهة، كما لم تكن تقدم له القرابين (1)، و أن تسميته بالإله العظيم لم تقف حائلا، دون أن تكون له شخصية بشرية، و أن طبيعته لم تمنع القوم من أن ينظروا إليه كحاكم بشري، له أملاكه الخاصة و مخازنه و دواوينه الخاصة. ).

ص: 219


1- قارن حالات: أمنحتب الثالث و رعمسيس الثاني و الثالث (محمد بيومي مهران- الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 128).

و بدهي أنه في مقابل هذه الحقوق التي كان يتمتع بها الفرعون، كان عليه عدة واجبات، فهو المسئول عن مصر و حماية حدودها من غارات الشعوب المجاورة الطامعة في خيراتها، و هو الذي يعمل على تدعيم العدالة و نشر لواء الحور بين أفراد شعبه، و هو المسئول عن تأمين وسائل الحياة للمصريين بحفر الترع و إقامة الجسور ليتيسر فلاحة الأرض و زراعتها، كما كان عليه حماية المدن من غائلة الفيضان، و تشجيع الصناع و الفنانين، فضلا عن إقامة المعابد للآلهة و تقديم القرابين لها، فإن أهمل واجباته، كلها أو بعضها، فقد قدسيته، و من ثم يحور لغيره من الآلهة ألا يعترفوا به كواحد منهم، و هكذا يبدو أن الملكية، و إن أفاءت على الملك القداسة و الألوهية، فهي في الوقت نفسه، قد حددت من سلطانه، بما فرضت عليه من واجبات.

و من هنا فإن القوم في عصر الثورة الاجتماعية الأولى، و قد تدهورت أحوال البلاد الداخلية و الخارجية، فضلا عن ظهور اللامركزية منذ أخريات الدولة القديمة، لم يعودوا ينظرون إلى ملوكهم تلك النظرة التي كان أسلافهم ينظرون بها إلى ملوك الأسرة الرابعة مثلا، الأمر الذي أدى إلى التقليل من هالة التقديس التي كان يحاط بها الملك أو يحيط بها نفسه، و هكذا لم يعد الملك ذلك الإله المترفع و الحاكم الجبار فوق البشر، و الذي يرجو رعاياه عطفه و رضاه، و إنما أصبح شخصا غير معصوم يتحدث عن ضعفه و عن خطاياه، كما يتحدث الآخرون من رعاياه، بل إننا نرى في هذا العصر الحكيم «إيبو- ور» يتهم الفرعون بأنه سبب الفوضى و الاضطرابات التي سادت في البلاد، فرغم أنه قد أعطي الحكمة و السلطة، فقد بقي في قصره يحيط نفسه بمجموعة من المنافقين، حتى ساءت الحال و فقد الناس الأمن و الأمان، ثم يبلغ به العنف أشده حتى يتمنى للملك أن يذوق البؤس بنفسه، و حين يرد الفرعون بأنه حاول جهده أن يحمي شعبه، يتهمه «إيبو- ور» بالجهل و عدم الكفاءة للمنصب الخطير، ثم يرسم له صورة الملك

ص: 220

الأمثل بأنه الحاكم العادل الكف ء الذي لا يحمل في قلبه شرّا لرعيته، و يعمل جهده على جمع كلمتها و توحيد صفوفها، إنه كالراعي يصرف يومه في جمع قطيعه بعضه إلى بعض، و من ثم فإن الثورة رغم أنها أبقت على مبدأ الملكية الإلهية، فإنها في الوقت نفسه نادت بحقوق الأفراد و بالعدالة الاجتماعية مما جعل الملك المؤله راعيا لشعبه يسهر على مصالحهم و يضني نفسه في سبيل سعادتهم، و هكذا لم يعد الملك ذلك الحاكم الجبار، فوق البشر، و إنما غدا إنسان له ما للإنسان من ضعف و نزوات، و حاكما يعمل لخير شعبه، و يجهد نفسه على أن يكون دائم اليقظة، حتى لا يؤخذ على غرة، شأنه في ذلك، شأن أي إنسان، قد يفعل الخير فيجد خيرا، و قد لا يجد سوى الشر.

هذا و قد أشرنا من قبل عن أن مصر لم تكن أبدا تعرف عبادة الملك الحي طوال العصور الفرعونية، و إن حاول ذلك «أمنحتب الثالث»، و على استحياء شديد في النوبة، و ليس في مصر نفسها، ثم حاول كذلك رعمسيس الثاني في معابده التي أقامها في النوبة للآلهة المصرية و في «هربيط» و كانت مدينة عسكرية، ثم رعمسيس الثالث في منف و في العاصمة «بي رعمسيس»، و إن لم تشر سجلات عصره في بردية هاريس و مدينته هابو إلى ذلك أبدا (1).).

ص: 221


1- أنظر عن الموضوع و المراجع (محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى، الإسكندرية 1966 ص 190- 240، الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 97- 128).

ص: 222

الباب الثاني خروج بني إسرائيل من مصر
اشارة

ص: 223

ص: 224

الفصل الأول الخروج- أسبابه و تاريخه و مكانه
[1] أسباب الخروج:

يختلف العلماء في أسباب خروج بني إسرائيل من مصر، أو طردهم منها، و لعل السبب في ذلك تناقض نصوص التوراة بشأنها، فهي تصوره، و كأنه إضراب عن العمل، و من ثم فإنها تتحدث عن تمرد العمال العبرانيين على رؤسائهم المصريين، كما تتحدث عن تكاسلهم عن القيام بواجباتهم بسبب رغبتهم في الخروج إلى البرية ليذبحوا للرب إلههم، و لكن فرعون يرفض ذلك (1)، الأمر الذي دفع «وارد» إلى القول بأن الخروج لم يكن إلا إضرابا عن العمل (2)، و يذهب «كيلر» إلى أن الإسرائيليين إنما كانوا يكوّنون رصيدا هائلا من الأيدي العاملة الرخيصة، و الأجنبية كذلك، و ما كان المصريين براغبين في تركهم يخرجون من البلاد (3)، في فترة البناء النشطة في عهد رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م) و الذي كان اهتمامه مركزا في الدلتا الشرقية، و من هنا حاول الإسرائليون الهروب ضد رغبة المصريين (4)،

ص: 225


1- خروج 5/ 4- 5.
2- ول ديورانت: قصة الحضارة 2/ 326، و كذا. p, II, ylwoL tneicnA, draW 76.
3- , yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 123. p، 1967.
4- , nodnoL, learsI fo yrotsiH ehT, htoN. M 114. p، 1965.

على أن هناك من يذهب إلى أن مصر عند ما قررت التوسع شرقا إلى بابل، رأت أنه من ضروريات السياسة الجديدة إقرار البدو نشرا للأمن، فضلا عن الاستقرار، فشق هذا الوضع الجديد على بني إسرائيل الذين كانوا ينزلون «وادي جوشن» من عهد يوسف عليه السلام، كبدو يروحون و يغدون، و هم بحكم هذا الضرب من الحياة تغلب عليهم النزعة الفردية، و ينفرون من الملكية الجماعية، و من ثم فقد تمردوا مفضلين البداوة و الترحال، على الحضارة و الاستقرار (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر، يذهب إلى أن الخروج إنما قد تم برغبة المصريين، ذلك لأن الطاعون قد انتشر بين الإسرائيليين، مما اضطر المصريون إلى أن يتركونهم يخرجون حتى لا ينتشر الوباء بين المصريين أنفسهم، و لعل هذا الرأي إنما يتفق مع ما رواه «يوسف اليهودي» نقلا عن مانيتو، من أن خروج بني إسرائيل من مصر، إنما كان رغبة من المصريين في أن يتقوا وباء فشا بين اليهود المستعبدين المملقين، و أن موسى نفسه إنما كان كاهنا مصريا خرج للتبشير بين اليهود المجذومين، و أنه علمهم قواعد النظافة على نسق القواعد المتبعة عند الكهنة المصريين، هذا فضلا عن أن المؤرخين الأغارقة و الرومان إنما يفسرون قصة الخروج على هذا النحو (2).

و لعل الوصول إلى رأي في المشكلة يقرب من الصواب، أو يكاد، من وجهة نظر التوراة، إنما يتطلب منا الرجوع إلى نصوص التوراة نفسها، و بخاصة فيما يتصل بدعوة موسى عليه السلام، و هل كانت لهداية المصريين و الإسرائيليين سواء بسواء، أم أنها كانت تهدي إلى إخراج بني إسرائيل من

ص: 226


1- فؤاد حسنين: إسرائيل عبر التاريخ 1/ 54- 55.
2- ول ديورانت: المرجع السابق ص 326، و كذا ,nmdnoL ,yrutneC hthgiE eht fo elddiM eht ot sgninnigeB sti morF ,learsI ,sdoL .A 168. p، 1962.

مصر فحسب، و من هنا لعلنا نعرف قدر الطاقة، هل خرج بنو إسرائيل من مصر راغبين أم مكرهين؟

إن التوراة تزخر بالنصوص التي تدل على أن دعوة موسى عليه السلام، إنما كانت تهدف إلى إخراج بني إسرائيل من مصر، و إطلاق سراحهم من عبودية المصريين، يبدو هذا واضحا خاصة من الإصحاحات العشرة الأولى من سفر الخروج (1)، و من ثم فالهدف من دعوة موسى، كما تصورها التوراة، إنما هو إخراج بني إسرائيل من مصر، و أن يقيهم شر العذاب المهين الذي كانوا يتعرضون له في أرض الكنانة.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القول بأن موضوع رسالة موسى إنما كان إطلاق بني إسرائيل من عبودية فرعون و قومه، إنما هو أمر يقرره القرآن الكريم في عدة سور، من ذلك قول اللّه تعالى: وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (2)، و قوله تعالى:

فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ (3)، و قوله تعالى: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (4)، و يقول صاحب الظلال: و واضح من هذا أن موسى عليه السلام لم يكن رسولا إلى فرعون و قومه ليدعوهم إلى دينه و يأخذهم بمنهج رسالته، إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون، و قد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل، و هو يعقوب أبو يوسف

ص: 227


1- أنظر: خروج 3/ 7- 11، 5/ 1- 5، 10- 13، 26- 7/ 2- 5، 14، 8/ 1- 2، 20- 32، 9/ 1- 2، 13، 17، 28، 35، 10/ 3، 7- 11، 20.
2- سورة الأعراف: آية 104- 105.
3- سورة طه: آية 47.
4- سورة الشعراء: آية 16- 17.

عليهما السلام، فبهت هذا الدين في نفوسهم، و فسدت عقائدهم، فأرسل اللّه إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون، و يعيد تربيتهم على دين التوحيد، و يقول في مكان آخر من تفسيره أن موضوع رسالتهما (أي موسى و هارون) فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ، ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون، لاستنقاذ بني إسرائيل، و العودة بهم إلى عقيدة التوحيد، و إلى الأرض المقدسة التي كتب اللّه لهم أن يسكنوها إلى أن يفسدوا فيها فيدمرهم تدميرا (1).

و يقول أبو حيان في بحره المحيط في تفسير آية الأعراف (105) لم يطلب موسى من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه، و في غيرها دعاه إلى الإقرار بتوحيد اللّه و ربوبيته، قال تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (2)، و كل بدعوته إلى توحيد اللّه، و قوله تعالى حكاية عن فرعون: فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (3) فهذا و نظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان، خلافا لمن قال إن موسى لم يدعه إلى الإيمان، و لا إلى التزام شرعه، و ليس بنو إسرائيل من قوم فرعون و لا من المصريين (القبط)، أ لا ترى أن بقية المصريين، و هم الأكثر، لم يرجع إليهم موسى (4).

و عودا على بدء، عودا إلى التوراة، حيث نرى اتجاه النصوص يتغير عند ما يعلن فرعون موافقته على رغبة موسى بإطلاق الرجال من بني إسرائيل ليعبدوا للرب إلههم في البرية، غير أن موسى لا يرضى إلا أن يخرج

ص: 228


1- في ظلال القرآن 4/ 2337، 5/ 2590.
2- سورة النازعات: آية 18- 19.
3- سورة المؤمنين: آية 47.
4- تفسير البحر المحيط 4/ 356.

الإسرائيليون جميعا، بل حتى الغنم و البقر، و هنا يرفض الفرعون، و إن كان لا يمضي طويل وقت حتى يوافق على خروج بني إسرائيل جميعا، و إن استثنى من ذلك الأغنام و الأبقار، غير أن موسى لا يقبل إلا بخروج أغنامهم و أبقارهم معهم، لأن بني إسرائيل، فيما ترى توراتهم، ما كانوا بقادرين على عبادة ربهم بدون مواشيهم (1)، و يصر الفرعون على رأيه، و هنا تبدأ التوراة لا تتحدث عن خروج بني إسرائيل من مصر، و إنما تتحدث عن طردهم (2)، كما تبدأ النصوص التوراتية تخطط لسرقة المصريين (3)، و عن البلاياء التي نزلت بمصر مما اضطر فرعون إلى أن يوافق على خروج الإسرائيليين بأغنامهم و أبقارهم (4)، و هنا لا يتورع كتبة التوراة أن يدونوا في نصوصها أن مشروع سرقة المصريين الذي كان قد دبر بليل، إنما قد تم تنفيذه الآن «و أعطي الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، أمتعة فضة و أمتعة ذهب، فسلبوا المصريين (5)»، و أن هذا قد تم برضى من موسى و بأمر منه، و في الحقيقة أن الإساءة إلى الأنبياء الكرام من بني إسرائيل أنفسهم، أمر معروف في التوراة، و نظائره كثيرة.

و أيا ما كان الأمر، فإن نصوص التوراة تشير إلى أن الخروج إنما قد تم بأمر فرعون و موافقته، بل إنها تشير صراحة إلى أن بني إسرائيل قد أكرهوا على الخروج من مصر (6)، أو على الأقل، فإنهم لم يكونوا جميعا راضين عن الخروج، إذ وافق عليه فريق، و أنكره آخرون، إلا أن الغلبة إنما كانت

ص: 229


1- خروج 10/ 9- 11، 24- 26، 11/ 1- 2.
2- خروج 6/ 1.
3- خروج 11/ 1- 3.
4- خروج 12/ 29- 33.
5- خروج 12/ 34- 36.
6- خروج 12/ 39.

للأولين على الآخرين، و من هنا فإن اللّه لم يهدهم إلى أقرب الطرق إلى كنعان «لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا و يرجعوا إلى مصر (1)»، بل إن هناك نصوصا توراتية تقرر أن بني إسرائيل إنما كانوا يعارضون فكرة الخروج من مصر منذ أن عرضها عليهم موسى، بادئ ذي بدء، و أنهم حين خرجوا منها، سواء أ كان ذلك بأمر فرعون أو بتحريض من موسى، فقد كانوا لذلك من الكارهين، و من هنا فقد كثرت ثوراتهم على موسى في سيناء، بل حتى و هم على أبواب كنعان، حيث نادوا بخلع موسى، و المناداة برئيس جديد يستطيع أن يعود بها إلى أرض الكنانة «أ ليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر، فقال بعضهم لبعض نقيم رئيسا و نرجع إلى مصر (2)».

على أن آي الذكر الحكيم إنما تقرر أن الخروج من مصر، إنما كان بوحي من اللّه تعالى إلى موسى عليه السلام، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (3)، و قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (4)، و قال تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (5) و هذا كله يفيد أن الخروج إنما كان بأمر من اللّه لموسى عليه السلام، فلقد أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن يسري بعباده، و أن يرحل بهم ليلا، بعد تدبير و تنظيم، و نبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده، و أمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (6)، و بدهي أنه ليس بعد قول اللّه تعالى قول،

ص: 230


1- خروج 13/ 17- 18.
2- خروج 14/ 11- 12، عدد 14/ 3- 4.
3- سورة طه: آية 77.
4- سورة الشعراء: آية 52.
5- سورة الدخان: آية 23- 24.
6- في ظلال القرآن 5/ 2597.

و بالتالي فإن الخروج من مصر إنما تم بأمر اللّه تعالى، و ليس بأمر موسى أو فرعون.

[2] تاريخ الخروج:-

اختلف المؤرخون، القدامى منهم و المحدثون، في تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر، و بالتالي في الاستقرار الذي تلاه في كنعان (فلسطين)، و من ثم فقد قدموا لنا نظريات مختلفة، يصل الفرق بين أقدمها و أحدثها إلى أربعة قرون، و من ثم فقد رأينا البعض يجعل من طرد الهكسوس من مصر (حوالي عام 1575 ق. م) تاريخا للخروج، بينما يتأخر آخرون إلى ما بعد عصر رعمسيس الثالث (1182- 1151 ق. م)، و الفرق بينهما، كما رأينا، كبير، يصل إلى أربعة قرون، و في نفس الوقت، إنما يشير إلى الغموض الذي يرين على تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر، بقيادة موسى عليه السلام.

و لعل صعوبة الوصول إلى رأي محدد بشأن تاريخ الخروج، إنما يرجع، في أكبر الظن، إلى أسباب ثلاثة، أولها: أن الآثار المصرية، و كذا الفلسطينية، لم تقدم لنا تاريخا محددا عن هذا الحدث الخطير، و الذي أصبح له تأثير ضخم على التاريخ الديني، و ما برح حتى الآن يؤثر في نفسية اليهود، بل إنه هو الذي أثمر بصفة عامة ذاتيتهم الخاصة، و أما سبب عدم ذكر هذا الحادث في الآثار أو الوثائق المصرية، فيرجع، فيما نرى، إلى أمرين، أولهما: أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء و الرسل، صلوات و سلامة عليهم، في النصوص الإنسانية، و خاصة المصرية، ضعيف إلى درجة كبيرة، في ذلك لأن حقيقة الصراع بين القيم السماوية و البشرية، ربما كان سببا، و هو كذلك، في إغفال ذكرها، و هذه ظاهرة يلمسها المؤرخ في تاريخ الشرق الأدنى القديم بوجه عام، بالنسبة إلى تعمد عدم التعريف

ص: 231

بالمعارضين (1)، و ثانيهما: أن المصادر المصرية القديمة، و التي تمتاز عن غيرها من مصادر الشرق الأدنى القديم بوضوحها و كثرة آثارها و نصوصها، كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر المصرية بمعلومات كافية عن موسى عليه السلام، غير أن هذه المصادر، في غالبيتها، إنما كتبت بأمر من الملوك، أو بوحي منهم، أو على الأقل برضى منهم، فإذا تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة مؤلها، كان من الطبيعي ألا يستسيغ الفكر المصري أن يهزم الملك المؤله أو الإله في حرب خاض غمارها، و لهذا فالنصر كاد أن يكون حليفه فيها، و قد تكون الحقيقة غير ذلك (2)، و من المعروف أن قصة موسى، كما جاءت في التوراة و القرآن العظيم، إنما انتهت بغرق الفرعون و جنوده في البحر، و نجاة موسى و من آمن معه بالواحد الأحد، و ليس من المقبول، طبقا للعقيدة الملكية الإلهية في مصر القديمة، أن تسجل النصوص غرق الفرعون الإله، و نجاة عبيده العبرانيين، و من هنا كان من الصعب العثور على اسم موسى و قصة خروجه ببني إسرائيل من مصر، حتى الآن على الأقل، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر في العصور الفرعونية (3).

و أما ثاني الأسباب فإنما يرجع إلى الاضطراب الواضح بين نصوص التوراة، حتى استطاع العلماء أن يستخرجوا منها تاريخين مختلفين للخروج في وقتين مختلفين، يكاد الواحد منهما يبعد عن الآخر بأكثر من قرنين من الزمان، حيث اعتمد البعض على نص في سفر الملوك، توصلوا إلى أن الخروج إنما كان على أيام تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) (4) بينما

ص: 232


1- رشيد الناضوري: الفكر الديني- بيروت 1969 ص 174.
2- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص 3.
3- محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 314- 315.
4- ملول أول 6/ 1.

اعتمد آخرون على نص في سفر الخروج توصلوا منه إلى أن الخروج إنما كان على أيام رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م) (1).

و أما ثالث الأسباب، فيرجع إلى أن القرآن الكريم، و كذا التوراة، لم يذكر أي منهما اسم الفرعون الذي عاصر موسى عليه السلام و ذلك على الرغم من أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم قصتان مسهبتان في أجزائه لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارات الإنسانية، و هما أمة وادي النهرين و أمة وادي النيل، و كانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة، جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم، و لعل السبب في عدم ذكر القرآن لاسم فرعون موسى، أن الإسم لا أهمية له في موضوع القرآن أو في صميم رسالته، فإنه كتاب هداية و إرشاد، و من ثم فهو يكتفي من القصة و الوقائع التاريخية الصحيحة بالقدر الذي يستخلص منه العبرة، و يقتضيه المقام، و من ثم فهدف قصة موسى في القرآن، كهدف غيرها، ليس التأريخ لهما، و إنما عبرا تفرض الإفادة بما حل بالسابقين.

و على أي حال، فإن أهم الآراء التي دارت حول تاريخ الخروج خمسة، أولها رأي يذهب أصحابه إلى أن الخروج إنما تم أثناء طرد الهكسوس من مصر على أيام أحمس الأول، حوالي عام 1575 ق. م، و ثانيهما أنه تم على أيام تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) أو ولده أمنحتب الثاني (1436- 1413 ق. م)، و ثالثها أنه تم في أعقاب أيام إخناتون (1367- 1350 ق. م)، و ربما في الفترة ما بين موت أخناتون و توليه حور محب العرش حوالي عام 1335 ق. م، و رابعها أنه تم على أيام رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م)، و خامسها أنه على أيام ولده «مرنبتاح» (1224- 1214 ق. م)، فإذا كان هذا الرأي صحيحا، و هذا ما

ص: 233


1- خروج 1/ 10.

نميل إليه و نرجحه، فإن الخروج لا بد و أن يكون في العام الأخير من حكم مرنبتاح، سواء أ كان هذا العام العاشر من الحكم (حوالي عام 1214 ق. م) أو العام الثامن من الحكم (حوالى عام 1216 ق. م)، على خلاف في الرأي، و ذلك لأن التوراة (1) و القرآن العظيم إنما يقولان إن الفرعون قد غرق في البحر، و إن أضاف القرآن الكريم أن جثة الفرعون قد انتشلت لتكون آية لمن خلفه (2)، على أن هناك آراء أخرى، ذهب أولها إلى أن الخروج تم على أيام «سيتي الثاني»، و ذهب ثانيها إلى أنه كان في نهاية الأسرة التاسعة عشرة، و أما ثالث الآراء فقد تأخر به إلى ما بعد عهد رعمسيس الثالث، ثاني ملوك الأسرة العشرين، الأمر الذي سنناقشه بالتفصيل في الفصل الثالث (فرعون موسى) من هذا الباب الثاني.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الوصول إلى تاريخ محدد، على وجه اليقين أو حتى على وجه التقريب، أمر في غاية الأهمية من الناحيتين التاريخية و الدينية، فأما من الناحية التاريخية، فلعلنا نستطيع، عن طريق معرفتنا لتاريخ الخروج، أن نعرف وقت دخول بني إسرائيل فلسطين، و بالتالي بداية التاريخ الإسرائيلي، ذلك لأن تاريخ بني إسرائيل كشعب، لا يبدأ إلا بالخروج من مصر، و أما من الناحية الدينية، فإننا نستطيع أن نعرف بداية ظهور اليهودية، ذلك أننا إذا عرفنا فرعون مصر الذي خرج اليهود في عهده من مصر، فإننا نستطيع، اعتمادا على وضوح التاريخ المصري على أيام الفراعين، أن نحدد عصر موسى عليه السلام، ذلك العصر الذي يعتبر واحدا من أهم الأعصر في تاريخ البشرية الديني، لأنه العصر الذي ظهرت فيه أولى الديانات السماوية الثلاثة الكبرى المعاصرة، اليهودية و المسيحية و الإسلام.

ص: 234


1- خروج 14/ 26- 31، 15/ 1- 5، الرسالة إلى العبرانيين 15/ 29.
2- سورة يونس: آية 90- 92.

و لعل مما يزيد الأمر أهمية أننا نعرف البداية المؤكدة للمسيحية و الإسلام، عن طريق معرفتنا لتاريخ نبيّيهما الكريمين سيدنا عيسى و سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه، صلوات اللّه و سلامه عليهما، فأما المسيح عليه السلام، فقد ولد على أيام أول قياصرة روما «أوغسطس» (27 ق. م- 14 م)، و أيام «هرودوس الكبير» (37- 4 ق. م) أو ولده «إرخيلاوس» (4 ق. م- 6 م) حاكمي اليهودية من قبل الرومان، و على أيام «الحارث الرابع» (9 ق.

م- 40 م) ملك الأنباط، هذا و يذهب البعض إلى أن المسيح ولد ما بين عامي 6، 2 قبل الميلاد، بينما رأى آخرون أنه ولد عام 5 ق. م، أو أوائل عام 4 ق. م، أما الاحتفال بمولده في 25 ديسمبر، فقد بدأ في القرن الرابع الميلادي، و من ثم فربما كان مولده في 25 ديسمبر عام 5 ق. م، و هذا يجعله سابقا للتاريخ الذي وضعه «ديونيسيوس» في 25 ديسمبر عام 1 م، بخمس سنوات، على أن هناك من يراه قد ولد في عام 4 م، و أنه رفع إلى السماء في عام 27 م، و ربما في 23 مارس عام 29 م، على أن هناك من يرى المسيح بدأ دعوته، و قد ناهز الثلاثين من عمره في عهد الإمبراطور «تيبريوس» (14- 37 م) (1).

و أما المولد النبوي الشريف لمولانا و سيدنا وجدنا محمد رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، فقد كان، طبقا للمصادر الإسلامية، في عام الفيل (2)، ).

ص: 235


1- قاموس الكتاب المقدس 2/ 684، ه. ج. ويلز: تاريخ العالم- القاهرة 1967 ص 172، 416، فيليب حتى: المرجع السابق 1/ 311- 312، 363، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 359، 2/ 1145، و كذا ehT, suhpesoJ و كذا, VIX, seitiuqtnA, suhpesoJ 4، 6، VX، 5، 3، 8, IIIX, I, raW hsiweJ 8.
2- تاريخ الطبري 2/ 155- 157، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 259- 363، سيرة ابن هشام 1/ 158- 159، دلائل النبوة للبيهقي، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة ص 37، محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 388- 410 (الرياض 1980).

غير أن عام الفيل نفسه غير معروف على وجه التحديد (1)، و الأمر كذلك إلى من يرونه يتفق و موقعه «ذي قار» (2)، و من ثم فقد اعتمد العلماء على تاريخين محققين من السيرة النبوية الشريفة، لتحقيق المولد النبوي الشريف، و هما: تاريخ الهجرة في عام 622 م، و تاريخ الانتقال إلى الرفيق الأعلى في عام 632 م، و مع ذلك لم يصل العلماء، إلى نتائج مؤكدة.

و على أية حال، فإن «جوستاف لوبون» يرى أن مولد المصطفى صلى اللّه عليه و سلم إنما كان يوم 27 أغسطس عام 570 م، بينما يتأخر به «كوسان دي برسيفال» يومين، فيراه في 29 أغسطس 570 م، و أما محمود باشا الفلكي فقد حدد لمولد مولانا و سيدنا وجدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم 9 ربيع الأول، الموافق 20 أبريل عام 571 م، و يتفق معه في ذلك «سلفستر دي ساسي»، و الحق أن الإمام السهيلي (1114- 1185 م) قد سبق كلا من الفلكي و سلفستر في تاريخهما للمولد النبوي الشريف بيوم 20 أبريل (نيسان)، على أن المترجمين لحياة سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنما يجمعون على أنه ولد يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من شهر ربيع الأول من عام الفيل، و يذهب جمهور كبير من العلماء على أن هذا التاريخ يوافق العام الثالث و الخمسين قبل الهجرة، أي عام 571 م، و أما الانتقال إلى الرفيق الأعلى فقد كان يوم 12 أو 13 ربيع الأول عام 11 ه، الموافق 7 أو 8 يونيه عام 632 م، بعد أن بلغ صلى اللّه عليه و سلم 63 عاما قمريا بالكامل، أي أكثر من واحد و ستين عاما شمسيا، بحوالي شهر و أكثر من نصف الشهر، روى البخاري و مسلم و الترمذي عن ابن عباس أنه قال: مكث النبي صلى اللّه عليه و سلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحي إليه، و بالمدينة عشرا، و توفي و هو ابن ثلاث و ستين سنة (3)».

ص: 236


1- تتراوح تقديرات العلماء فيما بين أعوام 552 م، 563 م. 570 م، 571 م.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 594- 597.
3- محمود الفلكي: التقويم العربي قبل الإسلام ص 38، محمد عبد اللّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 22، و انظر: صحيح البخاري 6/ 19، صحيح مسلم 15/ 99- 104 (بيروت 1981) و كذا ed egA ,snenammaL .P ,emsimalsI'L tnava sebarA sed eriotsiH'L rus iassE ,lavecreP ed nissuC و كذا. p, I 283. P, temohaM ed melporP eL, erehcalB. R 15. P, dammahoM 209.
[3] مكان الخروج و بدايته:

التف بنو إسرائيل حول موسى عليه السلام في مصر، لا كنبي، و إنما كقائد يرجي على يديه الخلاص من استعباد المصريين، و بدأ موسى مسيرة الخروج، و معه بطانة من السحرة المصريين الذين آمنوا به و صدقوه، بل كما وصفهم القرآن الكريم أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، هذا فضلا عن الإسرائيليين و من لاذ بهم ممن آمنوا بموسى و دعوته، و كانت بداية المسيرة من مدينة «بي رعمسيس» مقر الفرعون و عاصمة الإمبراطورية المصرية وقت ذاك، و التي قام جدل طويل بين العلماء حول موقفها، و إذا كان صحيحا ما ذهبنا إليه من دراسات سابقة لنا، فإنها تقع مكان قرية «قنتير»، على مبعدة 19 كيلا إلى الجنوب من صان الحجر، و على مبعدة 9 كيلا إلى الشمال الشرقي من فاقوس شرقية (1).

و على أية حال، فلقد ارتحل بنو إسرائيل من «بي رعمسيس».

(رعمسيس في التوراة) إلى سكوت (2)، و كان عددهم، فيما تروي التوراة،

ص: 237


1- محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث- الإسكندرية 1969 ص 46- 62، إسرائيل 1/ 439- 443.
2- سكوت: مكان غير معروف الآن بالضبط، و لكنها تقع في الإقليم الثامن من أقاليم الدلتا، و كان يسمى «واع إيب» أو «نفر إيب» و يقع في نهاية الدلتا الشرقية بين وادي طميلات و البحر الأحمر، و يذهب البعض إلى أن سكوت هي تل المسخوطة على مبعدة 15 كيلا شرقي الإسماعيلية و من يرى أنها «بيثوم» (فيثوم) (بر آتوم) و هي تل سليمان على مبعدة 3 كيلا من غربة أبو سعيد، قريبا من القصاصين، و على مبعدة 13 كيلا غربي تل المسخوطة، أو هي التل الكبير على مبعدة 49 كيلا غربي الإسماعيلية، و من يرى أنها «ثكو» عند المصريين القدامى على مبعدة 10 كيلا من قنتير، و إن رأى فريق رابع أن ذلك أمرا يحتمل الكثير من الشك، (محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية- الإسكندرية 1984 ص 172- 173).

نحو ستمائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد (1)، و قد تابع بعض المؤرخين و المفسرين (2) التوراة في ذكر تلك الأرقام، التي أثارت جدلا بين العلماء حول صحتها، ذلك لأن رقم (600 ألف) إنما يصل ببيت يعقوب، و الذين كانوا سبعين نفسا يوم دخلوا مصر على أيام يوسف (3) منذ 215 عاما، طبقا للترجمة السبعينية (4) للتوراة، أو ضعف هذا الرقم طبقا لرواية التوراة العبرية، يصل بهم الآن، و عند الخروج من مصر، إلى ما يزيد عن المليونين، و ربما الثلاثة، تقول التوراة: كان من بينهم «نحو ست مائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد، فكان جميع الأبكار الذكور، من ابن شهر فصاعد، اثنين و عشرين ألفا و مائتين و ثلاثة و سبعون (5)»، فإذا ضاعفنا هذا الرقم كان الأبكار من الجنسين قرابة 45 ألفا.

و من ثم فقد رفض كثير من العلماء هذه الأرقام، و إن قبلها آخرون، بينما حاول فريق ثالث إيجاد تفسير آخر لهذه الأرقام و من ثم فقد ذهب «فلند

ص: 238


1- خروج 12/ 37.
2- أنظر: تاريخ الطبري 1/ 404، تاريخ ابن خلدون 1/ 94، الكامل لابن الأثير 1/ 106، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 270، تاريخ اليعقوبي 1/ 36، مروج الذهب للمسعودي 1/ 61، تفسير روح المعاني 1/ 270، تفسير الدر المنثور 5/ 84، تفسير أبي السعود 6/ 244، ثم قارن ذلك بما جاء في تفسير النسفي (3/ 60) حيث جعل بني إسرائيل سبعين ألفا فقط، و أن فرعون ركب إليهم في ستمائة ألف، هذا و قد جاء في تفسير السيوطي (5/ 85): روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: كان أصحاب موسى الذين جاوزوا البحر اثنى عشر سبطا، فكان في كل طريق اثنى عشر ألفا، كلهم ولد يعقوب عليه السلام.
3- تكوين 46/ 26- 27.
4- أنظر عن الترجمة السبعينية للتوراة: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 107- 112.
5- خروج 12/ 32، عدد 43/ 43، و انظر: عصام الدين حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي اليهود- القاهرة 1965 ص 35.

رزبتري» إلى القول بأن الألف إنما تعني الأسرة و الجماعة أو العشيرة أو الخيمة، و على ذلك فإن 400 و 54 مثلا، لا تعني إن هناك 54400 شخصا، و إنما تعني (54) عشيرة، عدتها (400) فردا، ثم يفترض «بتري» بعد ذلك أن الخيمة الواحدة كانت تضم في المتوسط تسعة أفراد، هم الجدين و الوالدين و ثلاثة أطفال، فضلا عن اثنين من الرعاة أو التابعين من الجمهور المختلط الذي صعد معهم، و هذا على اختلاف بين القبائل، فالقبيلة الفقيرة كانت تضم خيامها خمسة أفراد و ثلاثة أطفال، بينما تضم القبيلة الغنية أطفالا أكثر، ثم يقترح «بتري» بعد ذلك أن المجموع الكلي كان 5550 (خمسة آلاف و خمسمائة و خمسون شخصا) و بهذا يمكن لموسى عليه السلام أن يحكم في كل الخصومات التي تنشب بين حوالي ستمائة خيمة أو مجموعة، لأن الفصل بين ستمائة ألف رجل جد محال (1).

هذا فضلا عن أن هناك قابلتين، هما شفرة و فوعة (2)، كانتا تقومان بمساعدة نساء بني إسرائيل في مصر أثناء الوضع، و ربما كان مقر الواحدة منهما في مدينة «بي رعمسيس»، و الأخرى «فيثوم» (بر أتوم)، و هو أمر مقبول بالنسبة لمجموعة تعدادها ستة آلاف، و مواليدها بمعدل مولود كل أسبوع (3)، أضف إلى ذلك أننا لو أخذنا الرقم الأكبر، و هو ستمائة ألف، فهذا يعني 140 مولودا في كل يوم، و هو أمر جد محال بالنسبة لأية قابلة (4)، هذا فضلا عن أننا لو قسمنا عدد الجماعة على الأبكار لخلصنا إلى أن المرأة الإسرائيلية كانت تلد زهاء 65 وليدا، و هذا أمر لا يستقيم مع المنطق، فضلا عما تعرضوا له من ذل و عسف تحت رؤساء التسخير، و لا مع ما روى من عبورهم البحر في

ص: 239


1- , nodnoL, learsI dna tpygE, cirteP. F. M. W 44- 42. p، 1925.
2- خروج 1/ 15.
3- . p, tic- po, eirteP. F. M. W 46- 44.
4- نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم 3/ 388.

سويعات قصار، و من ثم فإن علماء اللاهوت و المؤرخين سواء بسواء، أصبحوا الآن لا يعلقون على هذه الأرقام التي ذكرتها التوراة أية أهمية، و يعتبرونها محض خيال إسرائيلي (1).

و على أية حال، فإن التوراة تروي أن الرب كان يعلم ما في الإسرائيليين «من صغر النفس و من العبودية القاسية»، و أنهم لم يصبحوا بعد أكفاء لدفع ثمن الحرية، أو حتى جادين في الخروج من مصر، حرصا منهم على حياة، و تقاعسا عن جهاد، و خوفا من موت، و من ثم فإنه لم يهدهم إلى أقرب الطرق إلى كنعان، مع أنها قريبة، «لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا و يرجعوا إلى مصر، فأدار اللّه الشعب في طريق بحر سوف (2)»، و ربما كان السبب أن لا يمروا بجوار الحصون المصرية التي كانت تحمي البلاد من غارات البدو، و بخاصة عند «ثارو» (و هي تل أبو صيفة الحالي في مجاورات القنطرة شرق) و قد علمنا من نص موظف الحدود، و يرجع إلى العام الثامن من عهد مرنبتاح، كيف كانت سلطات الأمن تسيطر سيطرة كاملة على حركات الناس و البدو في تلك البقاع من تخوم مصر الشرقية (3).

و هكذا ارتحل بنو إسرائيل من سكوت، و نزلوا في «إيثام» في طريق البرية، ثم كلم الرب موسى قائلا «كلم بني إسرائيل أن يرجعوا، و ينزلوا أمام فم الحيروث، بين مجدل و البحر، أمام بعل صفون، مقابله تنزلون عند البحر (4)».

ص: 240


1- عصام الدين حفني ناصف: المرجع السابق ص 35، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 73، و كذا, II, HAC ni, learsI fo esiR ehT, kooC. A. S 358. p، 1931.
2- خروج 13/ 17- 18.
3- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 415- 416، و كذا, ERA, detsaerB. H. J naitpygE, renidraG. H. A و كذا. P, TENA, nosliW. J 259- 258 و كذا, rammarG 77- 76. p، 1966. oN, III 638- 636.
4- خروج 13/ 20، 14/ 1- 2.
الفصل الثّاني معجزة انفلاق البحر
اشارة

علم فرعون أن بني إسرائيل قد فروا بليل، و أنهم قد أخذوا معهم (1) ما

ص: 241


1- جاء في التوراة في ختام قصة يوسف عليه السلام أنه أوصى عند موته أن يحمل بنو إسرائيل عظامه معهم حين يخرجهم الرب من مصر إلى الأرض التي وعدهم بها (تكوين 50/ 24- 26) و أخرج أبو يعلي و الحاكم بسنده عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: أ عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل، فقال أصحابه يا رسول اللّه و ما عجوز بني إسرائيل، قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق، فقال ما هذا؟ فقال علماؤهم نحن نحدثك، إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من اللّه أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن علم موضع قبره، قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا عجوز من بني إسرائيل فبعثنا إليها فأتته، فقال: دلوني على قبر يوسف، قالت:، و اللّه لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: و ما حكمك، قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك فأوحى اللّه إليه أعطيها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء، فقالت: انضبوا هذا الماء فأنضبوا، قالت: احفروا و استخرجوا يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار» (محمد ناصر الدين الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة بيروت 1403 ه، حديث رقم 313). و تذهب رواية إسلامية عن عروة بن الزبير عن أبيه أن اللّه حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحتمل يوسف معه حتى يضعه في الأرض المقدسة، فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره، فما وجد، إلا عجوزا من بني إسرائيل فقالت: يا بني اللّه: أنا أعرف مكانه، إن أنت أخرجتني معك و لم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه، (و أضافت رواية الخازن: ألا ينزل موسى غرفة من غرف الجنة إلا نزلتها معك، فأجابها إلى ذلك، بعد أن سأل ربه، فقالت: هو في (النيل في جوف الماء) فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر، فاحتمله معه، قال عروة: فمن ذلك تحمل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة (تاريخ الطبري 1/ 419، الكامل لابن الأثير 1/ 105، تفسير الخازن 1/ 57- 58، تاريخ اليعقوبي 1/ 35).

أعاره المصريون لهم من الأمتعة و الذهب و الفضة (1) و طبقا لرواية التوراة، فلقد تغير قلب فرعون و ملئه على بني إسرائيل، «و قالوا: ما ذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا (2)»، و هنا لم يجد الفرعون مناصا من أن يلحق بالفارين حتى يعيد ما سرقوه، إن لم يردهم إلى ما كانوا عليه من ذل العبودية، أو يفتك بهم و يستأصل شأفتهم من البلاد، و من ثم فقد أمر بما يسمى في عصرنا الحاضر «التعبئة العامة»، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون الجند، و إن كان هذا الجمع، كما يقول صاحب الظلال، قد يشي بانزعاج فرعون، و بقوة موسى و من معه و عظيم خطرهم، حتى ليحتاج الملك بزعمه، إلى التعبئة العامة، و لا بد إذن من التهوين من شأن المؤمنين إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ، وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ، مستيقظون لمكائدهم محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور، قال الزمخشري: و هذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا يظن به ما يكسر من قهره و سلطانه (3).

و تقول التوراة: و شدد الرب قلب فرعون حتى سعى وراء بني إسرائيل، و أدركتهم جميع خيل مركبات فرعون و فرسانه و جيشه، و هم نازلون عند البحر، و رأى بنو إسرائيل الخطر الزاحف من خلفهم، و هو يقترب منهم، فتملكهم الذعر و الخوف، و أيقنوا أنهم هالكون، و صاحوا

ص: 242


1- خروج 12/ 35- 36، و انظر: تاريخ الطبري 1/ 413- 414، تفسير الخازن 1/ 57، الدر المنثور 5/ 84، ابن الأثير 1/ 106.
2- خروج 14/ 5.
3- سورة الشعراء: آية 52- 56، في ظلال القرآن 5/ 2597- 2598، تفسير الكشاف 3/ 248.

بموسى «ما ذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر، أ ليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر، قائلين: كف عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية» (1)، و يصبح موسى عليه السلام في مأزق حرج، فقد كانت بحيرة البوص على يمينه، و حصن مجدل، بما فيه من حامية، أمامه، سادا الطريق من جهة الشمال، و على يساره مستنقعات فرع النيل البيلوزي، و خلفه الفرعون و قواته الضاربة، و هكذا وقف موسى و قومه أمام البحر، ليس معهم سفن، و لا هم يملكون خوضه، و ما هم بمسلحين، و قد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم و لا يرحمون، و قالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر و البحر أمامهم، و العدو خلفهم (2)، و هنا صاح بنو إسرائيل: «إنا لمدركون»، و قالوا يا موسى: أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبحون أبناءنا و يستحيون نساءنا، و من بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا، إنا لمدركون البحر من بين أيدينا، و فرعون من خلفنا، و في ).

ص: 243


1- خروج 14/ 8- 12.
2- في ظلال القرآن 5/ 2598، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 450. تذهب روايات المفسرين و المؤرخين إلى كثير من المبالغة، بل الخيال، في تقدير أعداد جيش فرعون، فتذهب رواية إلى أن فرعون تبع بني إسرائيل في ألف ألف (مليون) و قيل في ألف ألف و سبعمائة ألف حصان (مليون و سبعمائة ألف) و تذهب أخرى إلى أنهم مليون و ستمائة ألف، و تذهب رواية ثالثة إلى أنهم مليون و مائة ألف، و تذهب رابعة إلى أنهم مليون و خمسمائة ملك، مع كل ملك ألف، و خرج فرعون في جمع عظيم، و كانت مقدمته سبعمائة ألف فارس، و تذهب رواية خامسة إلى أن فرعون كان في سبعة آلاف (7 مليون) و كان بين يديه مائة ألف ألف ناشب، و مائة ألف ألف حراب، و مائة ألف ألف معهم الأعمدة، و بدهي أن سكان مصر جميعا وقت ذاك، ربما لم يبلغوا هذا العدد، ثم إننا حتى لو صدقنا مبالغات التوراة و من تابعها من المفسرين عن أعداد بني إسرائيل وقت الخروج، فإن عددهم (ستمائة ألف غير الأولاد و الشيوخ) لا يتطلب بحال من الأحوال هذه الملايين من جنود مصر، لمطاردتهم، ثم كيف تمكن فرعون من جمع هذه الملايين من الرجال و الخيل من كل أنحاء مصر، حين علم فجأة بخروج بني إسرائيل، وراءهم مطاردا، و ربما كان أقرب إلى الصواب ما قاله الإمام النسفي «فخرج موسى ببني إسرائيل من أول الليل، و كانوا سبعين ألفا، و قد استعاروا حليهم، فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم (تفسير الطبري 1/ 275- 279، تفسير الخازن 1/ 58، الدر المنثور 5/ 84، تفسير أبي السعود 6/ 244، تفسير النسفي 3/ 60، تفسير البغوي 1/ 58، تاريخ الطبري 1/ 414- 415، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 270، تاريخ اليعقوبي 1/ 36، ثم قارن خروج 14/ 5- 9).

رواية قالوا يا موسى: أين ما وعدتنا، فكيف نصنع، هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، و البحر أمامنا إن دخلناه غرقنا (1).

و هكذا سدت السبل أمام بني إسرائيل، و لم يجد موسى عليه السلام من وسيلة لإنقاذهم سوى طلب العون و الرحمة من اللّه، و من ثم فهو يصيح في وجوه الخائفين الفزعين من أتباعه «إن معي ربي سيهدين»، قال الرازي:

قوّى نفوسهم بأمرين أحدهما أن ربه معه، و هذا دلالة النصر و التكفل بالمعونة، و الثاني قوله «سيهدين» أي إلى طريق النجاة و الخلاص، و إذا دله على طريق نجاته و هلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصر، و روى ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن سلام: أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال:

يا من كان قبل كل شي ء، و الكائن بعد كل شي ء، اجعل لنا مخرجا، فأوحى اللّه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ (2)، و هنا تحدث المعجزة الكبرى، إذ أوحى اللّه إلى موسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (3).

و لعل سؤال البداهة الآن: أين و متى و كيف تم انغلاق البحر لموسى عليه السلام؟

ص: 244


1- تاريخ الطبري 1/ 415، تفسير الخازن 1/ 58.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 138 نختصر تفسير ابن كثير 2/ 648.
3- سورة الشعراء: آية 63- 67.
[1] مكان انغلاق البحر:-

قام جدل طويل بين العلماء حول تحديد هذا البحر الذي انغلق لموسى عليه السلام، فهو البحر الأحمر، في رأي التوراة، و هو بحيرة المنزلة أو جزء منها، في رأي آخر، و هو المنطقة التي كان يطلق عليها في العصور الهلينستية و الرومانية «بحر سربونين» (aeS nainobriS) أي «سبخة البردويل» في رأي ثالث، أو هو النهاية الشمالية لخليج السويس، في رأي رابع، أو إحدى البحيرات المرة، دونما تحديد لواحدة منها بالذات، في رأي خامس، أو حتى خليج السويس، في رأي سادس (1).

و هو عند المفسرين و المؤرخين المسلمين بحر القلزم (بحر السويس- أي البحر الأحمر و خليج السويس) أو هو عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات، أو هو النيل (أي أحد فروع النيل في الدلتا الشرقية) أو هو بحر «إساف أو ساف» من وراء مصر، فلقد أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير قوله تعالى: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ قال: في البحر، بحر يقال له ساف من وراء مصر، أغرقهم اللّه فيه، بل إن هناك رواية عن ابن عباس جاءت في تفسير الفخر الرازي تذهب إلى أن موسى لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا، إلا يوشع بن نون، فإنه ضرب دابته و خاض في البحر حتى عبر ثم رجع، فأبوا أن يخوضوا، و ربما كان هذا يشير إلى بعض البحيرات و ربما إلى بحيرة المنزلة بالذات (2).

على أن الحماس لإثبات أن البحر الذي انغلق هو البحر الأحمر،

ص: 245


1- , egdirbmaC, 2. traP, III, yrotsiH tneicnA egdirbmaC ehT 323. p، 1975.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 139، تفسير روح المعاني 1/ 255، تفسير النسفي 3/ 185، تفسير الخازن 1/ 58، تفسير الدر المنثور 5/ 129، تفسير البيضاوي 4/ 67، تفسير أبي السعود 4/ 377، صفوة التفاسير 1/ 468، تاريخ ابن خلدون 1/ 94.

وصل بالبعض إلى أن يتعسفوا له الحلول، و أن يتكلفوا النظريات و من هنا قامت نظرية تنادي بأن فرعون قد غرق في البحر الأحمر، مع خلاف على المكان الذي وقع فيه هذا الحادث العظيم، فهناك ما كان يفكر فيه الحجاج المسيحيون القدامى، و هو الطريق الشمالي لخليج السويس، قرب مدينة السويس الحالية (1)، و هناك من يرون أن البحر الأحمر كان يمتد إلى الشمال بعد خليج السويس الحالي، و من هؤلاء علماء الحملة الفرنسية (1798- 1801 م) الذين افترضوا أن خليج السويس كان في العصور اليونانية يمتد شمالا حتى بحيرة التمساح الحالية، ثم جاء «لينان دي بلفون» و قام بدراسة برزح السويس، و المنطقة التي تليها حتى البحر المتوسط في الفترة ما بين عامي 1821، 1840 م، و ذهب إلى أن تربة البحيرات المرة قبل أن تملؤها المياه قبل حفر قناة السويس، كانت بها أصداف و نباتات لها مثيل على ساحل البحر الأحمر، و من ثم فقد رأى أن مياه البحر الأحمر كانت تغطي هذه الأماكن في فترة غير بعيدة جدا، لا تمتد إلى أبعد من العصور التاريخية (2)، بل و زاد البعض فذهب إلى أن خليج السويس ربما كان في الألف الثانية قبل الميلاد (حيث تم الخروج في أخرياته) ما يزال على اتصال بالبحيرات المرة، بل و مع بحيرة التمساح كذلك، هذا فضلا عن أن بحيرة البلاح إنما كانت على اتصال بالبحر المتوسط، و من ثم فقد كان هناك برزخ ضيق نسبيا بين بحيرة التمساح و بحيرة الملاح، لعل الحادث العظيم كان قد وقع فيه (3).

و يتشكك كثير من العلماء، و منهم جادرنر و كوثمان، فيما قدمناه آنفا،

ص: 246


1- قاموس الكتاب المقدس 1/ 164، و كذا, nodnoL, leartsI fo yrotsiH eht, htoN nitraM 116. p، 1965.
2- , AEJ ni, ellivoN. E 48- 36. p، 1924، 10.
3- . P, tic- Po, htoN. M 116.

لعدم وجود أدلة تدعم هذا الرأي (1)، بل إن «مارتن نوث» إنما يذهب إلى أنه ليس هناك شي ء مؤكد بالنسبة لهذا الأمر، سوى أن هذا الحادث قد وقع على حدود الدلتا الشرقية، و من المستحيل التحقق من مكان الحادث العظيم بدقة أكثر من ذلك، حتى لو كانت لدينا معلومات صحيحة عن امتداد فروع البحر و البحيرات في منطقة قناة السويس الحالية في الفترة التي وقع فيها هذا الحادث (2).

على أن هناك من يرى أن مكان انغلاق البحر إنما كان إلى الجنوب من مدينة السويس، و من هذا الفريق «روبرتسون» الذي خفض مستوى البحر الأحمر بما يتراوح ما بين خمسة عشرة عقدة، و عشرين عقدة، ليجعل عبوره من قبالة الطور ممكنا، و بذلك يقدم للناس اتساعا معقولا، بين سلسلة الجبال المعروفة باسم جلال الشمالية و الجنوبية (3)، و ربما قريب من هذا ما يراه البعض من أن هناك مكانا في خليج السويس يدعى «بركة قارون» يقولون: إن العبور كان بها، و هي بعيدة عن السويس كثيرا، بينما هناك من يرى أن بني إسرائيل قد عبروا في مكان ما، شمالي المكان المعروف باسم «عيون موسى» في البر الأسيوي، و هو لا يبعد كثيرا عن مدينة السويس (4).

هذا و يرى فريق من العلماء في نص التوراة «كلم بني إسرائيل أن يرجعوا و ينزلوا أمام فم الحيروث بين مجدل و البحر، أمام بعل صفون، مقابلة تنزلون عند البحر» (5)، بعض الإشارات الموجزة، و التي تعتبر واضحة

ص: 247


1- . P, tic- po, ellivoN. E 36.
2- . P, tic- po, htoN. M 115.
3- سليم حسن: مصر القديمة 7/ 128.
4- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 203.
5- خروج 14/ 2.

بما يكفي للقول بأنها تخص منطقة كان يطلق عليها في العصور الهلينستية و الرومانية «بحر سربونين» (أي سبخة البردويل الحالية)، و لكن رغم أن الإشارة دقيقة، فإنها موجودة فقط في النص الكهنوتي (1)، و ربما كانت تصور مجهودا متأخرا، لوضع الحادث العظيم و الحاسم في مكان يتفق و الوضع التقليدي للأحداث التاريخية، ذلك لأن أقدم رواية في «البنتاتوك» (2) تبدو و كأنها على غير دارية بمثل هذا المكان المحدد بدقة، و الذي لم نتوصل إليه حتى الآن، و إن أشير فقط، و بغموض، إلى مكان «على البحر» (3).

هذا و يذهب فريق من الباحثين إلى أن المراد بالبحر هنا «بحيرة المنزلة أو جزء منها»، على أساس أن ترجمة «يم سوف» بالبحر الأحمر، ترجمة خاطئة، و الصحيح «بحيرة البوص أو القصب»، ذلك لأن كلمة «يم» ما تزال تعيش في لغتنا العربية، و نفهم أن من معناه «الماء»، و أما قديما فكانت تطلق على فروع النيل، و أما كلمة «سوف» فهي كلمة دخلت في اللغة العبرية من اللغة المصرية القديمة، و تعني «البوص» و هو نبات يكثر وجوده في المياه الضحضاحة عند مصبات الترع و المصارف العامة، و في بحيرة المنزلة، قبالة «قنتير» (و هو مدينة بي رعمسيس التي بدأ منها الخروج) بصفة خاصة، و لما كان هذا النبات الذي تمتد فروعه كالسيوف ينمو بكثرة، و بارتفاع عظيم، في هذه الجهة، و كانت بلاد مصر، و لا سيما العاصمة «بي رعمسيس» (قنتير) تأخذ منه حاجتها، و كانت كلمة «البردي» التي أطلقت عليه من بعد لم تعرف وقت ذاك، لأنها لم تظهر في اللغة المصرية القديمة، إلا في عهد الدولة

ص: 248


1- أنظر عن: النص الكهنوتي و غيره من مصادر التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الثالث- الإسكندرية 1979 ص 97- 106).
2- أنظر عن «البنتاتوك» (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 32، 136).
3- . P, tic- po, htoN. M 116- 115. و كذا traP, III, HAC 323. p، 1975، 2.

الحديثة، فقد عرفت مصر القديمة هذه البحيرة باسم «يم سوف» (1) و ليس هناك من ريب في أن النصوص المصرية مليئة بالإشارات إلى مستنقعات القصب في مجاورات «صوعن» (تانيس) أو مستنقعات البردي في شرق الدلتا، و هكذا يتضح لنا أن المعنى من كلمة «سوف» التي جاءت في الأصل العربي، و ترجمت في التوراة إلى «بحر سوف» فإن معناها العبري هو «بحر القصب»، و الذي ترجم خطأ إلى «البحر الأحمر»، و هو لا يعني شيئا سوى «بحيرة المنزلة» إن لم يكن جزء منها، بخاصة و أن مدينة «بي رعمسيس» هي «قنتير» الحالية، و ليست «تانيس»، كما يعتقد بعض الأثريين من قبل (2).

هذا فضلا عن أن «اليم» في اللغة العربية «البحر أو النهر»، و هو كذلك في اللغة المصرية القديمة، إذ «اليم» لفظة سامية عرفت في اللغة المصرية القديمة منذ الأسرة الثامنة عشرة، حوالي القرن السادس عشر قبل الميلاد، و كان المصريون يطلقون على البحر و النهر، و ما اتسع من لج الماء لفظة «أليم»، و منه جاء اسم منخفض الفيوم بعد إضافة «فاء التعريف» في المصرية إليه (و كانت في الدولة القديمة تدعى تاحنت إن مرور)، على أن الذي يستوقف النظر هنا أن اللفظ ورد في القرآن الكريم ثماني مرات (3)، لم يذكر في أحد ما غير ما يخص مصر، ليس غير، حيث ذكر بمفهوم النيل ثلاثا، و أطلق على البحر الذي غرق فيه فرعون أربعا، و الثامنة بشأن عجل السامري، فكأنما يشير القرآن الكريم إلى موضع معلوم، كما يدعوه أهله

ص: 249


1- سليم حسن: المرجع السابق ص 129، أبكار السقاف: إسرائيل و عقيدة الأرض الموعودة- القاهرة 1967 ص 196.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 46- 62، و كذا. p, II, tpygE fo retpecS ehT, seyaH. W و كذا, EASA, azmaH. M 68- 31. p، 1930، 30. L, EASA, ihcabaH. L 559- 433. p، 1952، 11. و كذا 256.
3- سورة الأعراف: آية 136، طه: آية 39، 39، 78، 97، القصص: آية 7، 40، الذاريات: آية 40.

باسمه المعلوم (1)، هذا و رغم أن كثيرا من المفسرين يرون أنه بحر القلزم، يعنون بذلك البحر الأحمر، غير أن طائفة منهم ترى أنه النيل، و لعلهم يعنون أحد فروع النيل، و يرون أن العرب كانت تسمي الماء و الملح و العذب بحرا، إذا كثر، هذا إلى أن فريقا ثالثا ذهب إلى أنه بحر ساف (بحر سوف)، بل إن الإمام الفخر الرازي روى عن ابن عباس أن يوشع بن نون ضرب دابته و خاض في البحر حتى عبر ثم رجع (2)، كما رأينا من قبل، و بدهي أن يوشع لا يمكنه أن يخوض البحر الأحمر بدابته، و من ثم فربما هذه الرواية قد تشير إلى مكان آخر، غير البحر الأحمر، و ربما كانت بحيرة المنزلة.

هذه هي الآراء المختلفة التي دارت حول مكان انغلاق البحر لموسى عليه السلام، و كل منها له مؤيدوه و معارضوه، و من ثم فإنني لا أستطيع أن أجزم بمكان بعينه انغلاق فيه البحر لموسى، ما دمنا لا نملك نصا صريحا واضحا، و كل ما قدمناه إنما هو اجتهادات، و فوق كل ذي علم عليم، و اللّه وحده يعلم الغيب من الأمر، و هو وحده العليم بكل شي ء.

[2] تاريخ انغلاق البحر:-

في الواقع أن تاريخ انغلاق البحر لموسى عليه السلام، إنما يتصل بتاريخ خروج بني إسرائيل من مصر، و غرق فرعون و جنده، و نجاة موسى و من معه، و هذا ما سوف نناقشه بالتفصيل عند حديثنا عن «فرعون مصر»، و هو موضوع الفصل الثالث من هذا الباب، و يكفي أن نشير الآن إلى أننا نرجح أن فرعون موسى إنما هو «مرنبتاح» (1224- 1214 ق. م)، على أن يكون تاريخ الخروج و غرق الفرعون في العام الأخير من حكمه، ذلك لأن

ص: 250


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 87.
2- تفسير الفخر الرازي 4/ 139، تفسير روح المعاني 1/ 255، تفسير النسفي 3/ 185، و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 446- 449.

التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم إنما تجمع كلها على أن الفرعون قد غرق في البحر عند ما أراد اللحاق ببني إسرائيل (1).

و القرآن العظيم لا يحدد زمنا بعينه للحادث الجلل، ذلك لأن التحديد التاريخي، كما هو معروف، ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية و لا تزيد في دلالتها شيئا، و أما الحديث النبوي الشريف، فليس فيه، على قدر ما أعلم، سوى أن الحادث الجليل إنما كان يوم عاشوراء، فلقد روى البخاري و مسلم و النسائي و البيهقي عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم المدينة، و اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لأصحابه: و أنتم أحق بموسى منهم فصوموه» و أخرج أبو يعلي و ابن مردوية عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: فلق البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء»، و أخرج الإمام أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن ماجة، من طرق، عن ابن عباس أنه قال: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى اللّه عز و جل فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «أنا أحق بموسى منكم، فصامه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أمر بصومه» (2).

و أما التوراة فلا تذكر إلا أن الخروج حدث في شهر أبيب (3)، و هو

ص: 251


1- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 413- 436.
2- تفسير الدر المنثور 1/ 69، تفسير النسفي 2/ 73، تفسير الخازن 1/ 59، تفسير ابن كثير 1/ 138، 2/ 667- 668، صحيح البخاري 3/ 56، 57، 6/ 91، صحيح مسلم 8/ 9- 10، مسند أحمد 1/ 292، 310، مجمع الزوائد 3/ 188، المطالب العالمية ص 3467، تفسير القرطبي ص 333.
3- خروج 13/ 4.

الشهر قبل الأخير من شهور السنة المصرية القديمة، (المعروفة خطأ بالشهور القبطية)، و ليس العبرية، غير أن اليهود إنما يحتفلون بخروجهم من مصر في عيدهم الأكبر، في الشهر الأول من السنة العبرية، شهر أبيب (نيسان- أبريل)، و يبدو أن الطريقة القديمة للتقويم العبري تجعل بدء السنة في الربيع، و ربما كان بدء التأريخ هو قصة خروج بني إسرائيل من مصر، في الفترة التي يقع فيها عيدهم الأكبر «عيد الفصح» حيث يتم الاحتفال به بين العشاءين (أي بين المغرب و العتمة) في ليلة الرابع عشر من أبريل (1).

[3] معجزة انغلاق البحر:-

رأينا من قبل كيف أحاط فرعون بقواته الضاربة ببني إسرائيل، و كيف تملكهم الذعر و الخوف، و أيقنوا أنهم هالكون، و كيف بلغ بهم الكرب مداه، و إن هي إلا دقائق تمر، ثم يهجم الموت و لا مناص و لا معين، و لكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه لا يشك لحظة، و مل ء قلبه الثقة بربه، و اليقين بعونه، و التأكد من النجاة، و إن كان لا يدري كيف تكون، فهي لا بد كائنة، و اللّه هو الذي يوجهه و يرعاه، «قال كلا إن معي ربي سيهدين»، و هكذا، و في اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس و الكرب، و ينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، و هكذا وقعت المعجزة، و انكشف بين فرقي الماء طريق، و وقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم (2)، و أرسل اللّه الريح على أرض البحر، فلحفته حتى صار يابسا كوجه الأرض (3)، فلهذا قال: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا

ص: 252


1- أنظر: عن التقويم العبري و عيد الفصح (محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الرابع- الإسكندرية 1979 ص 153- 163).
2- في ظلال القرآن 5/ 2598- 2599.
3- أخرج الطبراني و أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير: أن هرقل كتب إلى معاوية بن أبي سفيان و قال: إن كان بقي فيهم شي ء من النبوة فسيخبرني عما أسألهم عنه، قال و كتب إليه يسأله عن المجرة و عن القوس و عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة واحدة، قال فلما أتى معاوية الكتاب و الرسول، قال هذا شي ء ما كنت أو به له أن أسأل إلى يومي هذا، من لهذا؟ فقالوا: ابن عباس (ابن عم النبي صلى اللّه عليه و سلم) و طوى معاوية كتاب هرقل و بعثه إلى ابن عباس فكتب إليه: إن القوس أمان لأهل الأرض من الغرق، و المجرة باب السماء الذي تشق منه، و أما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار، فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل (الدر المنثور 1/ 69، حلية الأولياء 1/ 320).

تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (1).

و اقتحم بنو إسرائيل البحر الذي صار فيه اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، و كأن الطريق إذ انغلقت بجدران، فقال: كل سبط، قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك دعا اللّه فجعلها قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا، ثم دنا فرعون و أصحابه فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا، و تحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، فأحجم و لم يتقدم و ندم في نفسه على خروجه في طلب بني إسرائيل، لكنه أظهر لجنوده تجلدا، و قال: أ لا ترون البحر فرق مني، و قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فذلك قول اللّه وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التوراة قد اختلفت في تفسيرها للمعجزة الكبرى عن القرآن الكريم، فالتوراة ترجعها إلى ريح شرقية هبت فأزالت الماء و ظهرت اليابسة، و حينئذ عبر بنو إسرائيل (3)، و يذهب «روبنسون» إلى أن ريحا شرقية شمالية هبت على هذا الجزء، بدرجة تكفي لطرد الماء من بعض الأماكن، و على كل حال، فلقد تغيرت

ص: 253


1- سورة طه: آية 77.
2- سورة الشعراء: آية 64- 66، تاريخ الطبري 1/ 415، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 272.
3- خروج 14/ 21- 31.

المعالم في الصورة الغابرة، بحيث يتعذر معرفة الموضع بالضبط (1)، و هناك من يرى أن منسوب الماء ما يزال حتى الآن متأثرا بدرجة عظيمة بالريح في بحيرة المنزلة و البرلس، و يلاحظ أن الطريق من بلطيم حتى برج البرلس تغطى بالمياه عند ما يهب الهواء غربا، ثم تصبح جافة عند ما يهب الهواء من الشرق، و يمكن للإنسان أن يسير عليها بالسيارة (2)، و في أنشودة الاحتفال بهذا الخلاص، نرى كاتب سفر الخروج يعلن عن قدرته الشعرية فيقول:

«بريح أنفك تراكمت المياه، انتصبت المجاري كرابية» (3)، و قد وضعت هذه التقاليد أخيرا في الترجمات النثرية التي ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد (4).

و يقول «جراي» رغم أننا لا نستطيع أن ننكر التدخل الإلهي في الخلاص العظيم، فإنه لم يتضمن انغلاق البحر، و أن الأمر إنما تم عن طريق عاصفة ممطرة، بطريقة فجائية غير مألوفة، في مكان و وقت يتناسبان مع إرادة اللّه، و لم تقدم المعجزة بطريقة خارقة للطبيعة، كما جاءت في التوراة (5)، و إنما بطريقة مطابقة لها تماما (6).

و أما في القرآن الكريم، فالمعجزة واضحة لا ريب فيها، و ذلك حين أوحى اللّه إلى نبيّه موسى عليه السلام أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (7)،

ص: 254


1- قاموس الكتاب المقدس 1/ 164.
2- سليم حسن: المرجع السابق ص 135.
3- خروج 15/ 8.
4- . Y. N, ygolohtyM nretsaE raeN eht ni, learsI, yarG. J 107. p، 1969.
5- خروج 12/ 32.
6- . P, tic- po. yarG. J 107.
7- سورة الشعراء: آية 62- 67.

و لعل مما تجدر الإشارة إليه هنا أن اللّه، جلت قدرته، قد أسند فرق البحر إلى ذاته الكريمة، ليدل على أن القوم عبروه و قطعوه، و هو معهم، بعنايته، و قوله تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ بيانا للمنة العظمى التي امتن اللّه بها على بني إسرائيل، و التي ترتبت على فرق البحر، لأن فرق البحر ترتب عليه أمران: أولهما: نجاتهم، و ثانيهما إهلاك عدوهم، و كلاهما نعمة عظمى، و الإيمان الصحيح يقتضي بأن نفهم واقعة انفصال البحر لموسى و قومه على أنها معجزة كونية لموسى عليه السلام، و قد زعم البعض أنها كانت حادثة طبيعية، بدون سند و لا دليل (1).

و انطلاقا من كل هذا، فإننا نرفض ما يذهب إليه البعض من أن انغلاق البحر، إنما كان نتيجة المد و الجزر، و بالتالي فتلك علة طبيعية لنظام جغرافي (2)، كما نرفض كذلك القول بأن عنصر التهويل قد لعب دوره في القصة حتى أظهرها بهذه الصورة، و أن هناك رواية مشابهة لها قد رددتها التوراة عن يشوع (3)، خادم موسى و فتاه، و عبوره الأردن على يبس (4)، و أن ).

ص: 255


1- محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في القرآن و السنة 1/ 459 (القاهرة 1968).
2- , elpoP hsiweJ eht fo yrotsoH trohS A, htoR. C 6. p، 1969.
3- يشوع 1/ 10- 18، 4/ 23- 24.
4- تروي المصادر الإسلامية أن الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي كان قد بعثه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى ملك البحرين المنذر بن ساوي فأسلم على يديه و أقام فيهم الإسلام و العدل، فلما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مات المنذر بعده بقليل، فارتد أهل البحرين، فبعث إليهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه العلاء بن الحضرمي، ثم حدثت معركة بين المسلمين و المرتدين، انتصر فيها المسلمون انتصارا حاسما، ففر كثير من المرتدين إلى «دارين» بالبحرين، فتبعهم العلاء حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشقة بعيدة، لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء اللّه، فاقتحم البحر بفرسه و هو يقول «يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حي يا محي، يا قيوم يا ذا الجلال و الإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا»، و أمر الجيش أن يقولوا ذلك و يقتحموا، ففعلوا ذلك، فأجاز بهم الخليج بإذن اللّه، يمشون على مثل رملة دمثة فوقها ماء، لا يغمر أخفاف الإبل، و لا يصل إلى ركب الخيل، و مسيرته للسفن يوم و ليلة، فقطعه إلى الساحل الآخر، فقاتل عدوه و قهرهم، و اجتاز غنائمهم، ثم رجع فقطعه إلى الجانب الآخر، فعاد إلى موضعه الأول، و ذلك كله في يوم، و لم يترك من العدو مخبرا، و استاق الذراري و الأنعام و الأموال، و لم يفقد المسلمون شيئا سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين، و مع ذلك رجع العلاء فجاء بها، ثم قسم الغنائم فأصاب الفارس ألفين، و الراجل ألفا، مع كثرة الجيش، و كتب إلى الصديق فأعلمه بذلك، و روى أن راهبا من هجر رأى ذلك فأسلم، و قال: خشيت إن لم أفعل أن يمسخني اللّه، لما شاهدت من الآيات (ابن كثير: البداية و النهاية 6/ 369- 371، تاريخ ابن خلدون 2/ 505).

خليج العقبة دعي في سفر الملوك «بحر سوف» (1) (بحر القصب)، بيد أن سفر القضاة (2) إنما يتحدث عن رحلة بني إسرائيل البرية من مصر إلى بحر سوف (3)، كما أننا لن نقارن أبدا معجزة فرق البحر لموسى عليه السلام، بما جاء في بردية «و ستكار» عن أساطير تنسب إلى أحد الكهنة المصريين، و أنه استطاع بفضل تعاويذ سحره من أن يشق البحيرة، للملك «سنقرو» مؤسس الأسرة الرابعة، و أن يضع ماء أحد جانبيها على الجانب الآخر، ثم يستخرج حلية كانت قد ضاعت من إحدى المغنيات، ثم يعيد الماء إلى مكانه الأول (4)، كما أننا لا نوافق «برستد» من أن هناك انفجارا بركانيا حدث في سيناء، حينما ضاق الخناق على بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، و أن الزلزال الذي صحب ذلك الانفجار، و موجة المد التي نتجت عنه، هما اللذان أفضيا إلى ابتلاع الجنود المصريين الذين كانوا يتعقبون بني إسرائيل الفارين (5).

ص: 256


1- ملوك أول 9/ 26.
2- قضاة 11/ 16.
3- . P, tic- po, kooC. A. S 91.
4- أنظر عن بردية و ستكار:. namrE. A و كذا F. P,. rutaretiL ehcsitpygA eiD, repeiP xaM 55. . P, EAL 46- 36 F .P ,tpygE tneicnA fo seirotS ralupoP ,orepsaM .J ,siraP ,euqinoarahP euqopE'L ed sneitpygE setnoC te snamoR ,ervbefeL .G 21. و كذا 77- 70. p، 1949.
5- , Y. N, tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 342. p، 1946.

و أما سبب رفضنا للآراء السابقة، فذلك لأننا نرى في حادث انغلاق البحر لموسى رأيا آخر، فهو، فيما نعتقد و نؤمن به الإيمان كل الإيمان، أنه معجزة موسى الكبرى، و المعجزة، فيما نعلم، قوى إلهية يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، و الحصول على نظير لها، و لا تأتي إلا في مقام التحدي و الإعجاز، و هي، كغيرها من معجزات الأنبياء، من عمل اللّه، و لا فضل لأحد فيها سواه سبحانه و تعالى، فليس لنبي يد في هذه الخوارق التي بهرت الناس و قهرت الخلق، و قامت أدلة صادقة على صدق من ظهرت على أيديهم في أنهم مبلغون عن اللّه سبحانه و تعالى، و من هنا خاف موسى عليه السلام، حين تحولت عصاه حية تسعى، فولّى مدبرا و لم يعقب لشدة خوفه منها، حتى هدأ اللّه روعه و أمن خوفه، و على هذا الأساس لا يستغرب و لا يستبعد وقوعها ممن لا يعجزه شي ء في الأرض و لا في السماء (1)، فإنه جل شأنه، كما يقول إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2)، هذا فضلا عن أن المعجزة إنما هي من البراهين العقلية التي تقرر قيومية اللّه الخالق عز شأنه، و إطلاق قدرته من قيود القوانين و العادات المعلومة في حدود مدارك العقول الإنسانية إلى سنن كونية و قوانين للوجود فوق آفاق تلك العقول، تحدث على وفقها تلك الأحداث الكونية و الأعاجيب الإعجازية، إذا تطلبها أسبابها، و حانت مناسبتها، و اللّه سبحانه و تعالى فعال لما يريد لا يسأل عما يفعل (3).

و يقول الإمام الفخر الرازي أن انغلاق البحر لموسى معجزة من

ص: 257


1- أنظر: سورة طه: آية 66- 69، النمل: آية 10، القصص: آية 31- 32، عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 109.
2- سورة يس: آية 82.
3- محمد الصادق عرجون: معجزة الأنبياء بين العقل و العلم- الإسكندرية 1955 ص 2، ثم أنظر عن المعجزة و شروطها: الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن- القاهرة 1969 ص 70- 72.

وجوه، منها (أولا) أن تفرق ذلك الماء معجزة، و ثانيا: أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضا لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده اللّه تعالى حتى يصير كأنه لم يكن، فلما جمع على الطرفين صار مؤكدا لهذا الإعجاز، و ثالثا: أنه إن ثبت ما روى في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون و قومه من الريح و الظلمة ما حيّرهم، فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل، فهو معجز ثالث، و رابعا: أن اللّه تعالى جعل في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض، فهو معجز رابع، و خامسا: أن أبقى اللّه تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون و طمعوا منها آل فرعون و طمعوا أن يتخلصوا من البحر، كما تخلص قوم موسى، فهو معجز خامس (1).

و هكذا نستطيع أن نصل من ذلك كله إلى نتيجة واحدة هي: أن انغلاق البحر لموسى عليه السلام، لا علاقة له ببني إسرائيل فتلك معجزة نبي، كما أن غرق فرعون لم يكن تكريما للإسرائيليين، فتلك عاقبة من أصر على كفر، و لم يؤمن باللّه الواحد الأحد، بل و تجاوزه لكل الحدود البشرية، فقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (2)، ثم يهدد النبي الكريم قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (3)، و أخيرا اندفاعه في العذاب و إسرافه في القتل للمذنب و غير المذنب على سواء، و أما حساب بني إسرائيل فعسير عند اللّه تعالى، حتى أنه عز و جل، ليكتب على هؤلاء الذين أنجاهم من فرعون أن يتيهوا في الأرض أربعين عاما، ثم يحرم عليهم الأرض المقدسة أبدا (4).

ص: 258


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 139.
2- سورة القصص: آية 38.
3- سورة الشعراء: آية 29.
4- سورة المائدة: آية 21- 26، سفر العدد 4/ 34، أعمال الرسل 7/ 26، 42.
[4] إيمان فرعون عند الغرق:-

تحدث القرآن الكريم عن إيمان فرعون حين أدركه الغرق، فقال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (1).

و الآيات الكريمة تشير إلى أن فرعون حين غشيته سكرات الموت آمن، حيث لا ينفعه الإيمان، و لهذا قال تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال:

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، و ذلك لأن التوبة، كما يقول علماء السلف، قبل المرض و الموت، و روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»، أي ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزلة الشي ء الذي يتغرغر به (2).

و يقول ابن السعود في تفسيره: إن فرعون حين أدركه الغرق «قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل»، لم يقل كمقالة السحرة «آمنا برب العالمين رب موسى و هارون»، بل عبّر عنه تعالى بالموصول، و جعل صلته إيمان بني إسرائيل به، تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء، و باتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول و الانتظام معهم في سلك النجاة (3)، و قال النسفي إن في الآية دليل على إن الإيمان و الإسلام واحد، قال آمنت، ثم قال: و أنا من المسلمين»، كرر فرعون المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصا على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ

ص: 259


1- سورة يونس: آية 90- 92.
2- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 205، حسن باجودة: التفسير البسيط للقرآن الكريم 4/ 286 (مكة المكرمة 286، تفسير القرطبي ص 1662.
3- تفسير النسفي 2/ 174- 175.

وقته، و كانت المرة الواحدة تكفي في حالة الاختيار، أ تؤمن الآن في وقت الاضطرار، حين أدركك الغرق، و أيست من نفسك، و روى الخازن في تفسير عن ابن عباس أنه قال: لم يقبل اللّه إيمانه عند نزول العذاب و قد كان في مهل، و قال العلماء: إيمانه، غير مقبول لأن الإيمان و التوبة عند معاينة الملائكة و العذاب غير مقبولين، و قيل إنه قال ليدفع ما نزل به من البلية الحاضرة، و لم يكن قصد به الإقرار بوحدانية اللّه، و الاعتراف له بالربوبية، و قيل إن فرعون كان من الدهريين المنكرين لوجود الخالق، فلهذا قال:

«آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل»، فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه، و لما رجع فرعون إلى الإيمان و التوبة حين أغلق بابهما، بحضور الموت و معاينة الملائكة، قيل له: «الآن و قد عصيت من قبل»، يعني الآن تتوب، و قد أضعت التوبة في وقتها، و آثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، و قيل إن المخاطب بذلك لفرعون هو جبريل و قيل الملائكة، و قيل هو اللّه تعالى، عرف فرعون قبيح صنعه و ما كان عليه من الفساد في الأرض، بدليل قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ، و القول الأول أشهر (1)، و يعضده ما روى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لما قال فرعون: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال قال لي جبريل: لو رأيتني و قد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة» (2)، و عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني و أنا أغطه و أدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة اللّه، فيغفر له، يعني فرعون، و في بعض الروايات إن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى، و لقد

ص: 260


1- تفسير الخازن 3/ 206.
2- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 206، و أنظر: تفسير الدر المنثور 3/ 315.

جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال» (1).

على أن الإمام فخر الدين الرازي اعترض في تفسيره على ذلك، فقال:

هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين، لئلا يتوب غضبا عليه، و الجواب الأقرب أنه لا يصح، لأنه في تلك الحال إما أن التكليف كان ثابتا أم لا، فإن كان ثابتا لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة و على كل طاعة، و أما إن كان التكليف زائلا عن فرعون في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة، و أيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضى ببقائه على الكفر، و الرضا بالكفر كفر، و أيضا كيف يليق بجلال اللّه بأن يمنعه من الإيمان، و إذا قيل إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر اللّه، فهذا يبطله قول جبريل: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.

و على أي حال، فإن موسى عليه السلام حين أخبر بني إسرائيل بغرق فرعون و قومه، قالوا: ما مات و ذلك لعظمته عندهم، و ما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله، فأمر اللّه البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا، كأنه ثور، فرآه بنو إسرائيل، فمن ذلك الوقت لا يقبل البحر ميتا أبدا، و روى عن ابن عباس: أن اللّه أنجى فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق، و أما معنى قوله تعالى: بِبَدَنِكَ، يعني نلقيك جسدا بلا روح فيه، و قيل هذا الخطاب، على سبيل التهكم و الاستهزاء، كأنه قيل له ننجيك، و لكن النجاة لبدنك، لا لروحك، و قيل أراد بالبدن الدروع، و كان، لفرعون دروع من ذهب مرصع بالجواهر يعرف في درعه عرفوه، و قيل ننجيك ببدنك، أي نجعلك على نجوة من الأرض كي ينظروا فيعرفوا أنك مت، و أخرج ابن الأبياري عن ابن سعود أنه قرأ «فاليوم ننجيك بندائك» (2).

ص: 261


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 273.
2- تفسير الخازن 3/ 207- 209، الدر المنثور 3/ 315- 316.

و أما قوله تعالى: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، أي عظة و عبرة، و ذلك أن بني إسرائيل ادعوا أن قتل فرعون لا يموت أبدا، فأظهره اللّه حتى يشاهدوه و هو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم، و يعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة و الذلة، ملقى على الأرض لا يهابه أحد، أو لتكون أية لمن يأتي بعدك من القرون، إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة و نكالا عن الطغيان، أو حجة تدل على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن و كبرياء الملك، إنما هو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية، و قرئ «لمن خلقك» أي لخالقك آية كسائر الآيات، فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل، دليل على أنه نعمد منه لكشف تزويرك و إماطة الشبهة في أمرك، و دليل على كمال قدرته و علمه و إرادته، و أيا كان المعنى، فإنه لم يكن آية لمن خلفه لمدة جيل أو جيلين، و إنما بقي آية للعشرات الكثيرة من الأجيال، و المئات الكثيرة من السنين، و ذلك بما كان رب العرش لأهل مصر من سلطان العلم و أسرار التحنيط (1).

بقيت الإشارة إلى أن موت فرعون غرقا، ناسب هلاك بني إسرائيل على يديه بالذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، و الغرق فيه إبطاء الموت و لا دم خارج، و لما كان الغرق من أعسر الموتات، و أعظمها شدة، فكان لمن ادعى الربوبية و قال: «أنا ربكم الأعلى»، و على قدر الذنب يكون العقاب، و لك أن تقول: لما افتخر فرعون بالماء، و قال: «أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي»، جعل اللّه موته بالماء، بما افتخر به (2).

ص: 262


1- تفسير البيضاوي 3/ 100، الدر المنثور 3/ 316، تفسير الخازن 3/ 209، أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 123، تفسير النسفي 2/ 175.
2- تفسير روح المعاني 1/ 255- 257.
الفصل الثّالث فرعون موسى
اشارة

اختلفت الآراء، كما أشرنا من قبل، في هذا الفرعون الذي كان يعذب بني إسرائيل، فيذبح أبناءهم و يستحي نساءهم، ثم يرفض بعد ذلك دعوة موسى عليه السلام، و كان الفرعون الذي أغرقه اللّه في البحر، انتقاما منه لتجبره و كفره، و ما آل إليه أمره من الطغيان و الكفر، و ادعاء الألوهية، فقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (1)، و قوله لموسى:

لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (2)، و قوله: «أنا ربكم الأعلى»، و من ثم فقد جاء بعد هذه الآية فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)، هذا فضلا عن تجاوزه لحدوده البشرية، و اندفاعه في التعذيب، و إسرافه في القتل للمذنب و غير المذنب على سواء.

و سنحاول هنا، قدر الطاقة، مناقشة الآراء المختلفة التي دارت حول تحديد اسم هذا الفرعون، لعلنا نستطيع، بمشيئة اللّه، أن نصل إلى رأي قريب من الصواب، أو لا يبعد عن الصواب كثيرا، مؤمنين تمام الإيمان، أن اليقين ما زال، و سيظل أبد الدهر، عند صاحب اليقين، و ما زال، و سيظل، العلم عند رب العلم، يؤتيه من عباده من يشاء، و هو علام الغيوب، و ما نقوم

ص: 263


1- سورة القصص: آية 38.
2- سورة الشعراء: آية 29.
3- سورة النازعات: آية 22- 26.

به، أو يقوم به غيرنا، لا يعدو محاولات قد تخطئ و تصيب، بل قد تخطئ كثيرا و تصيب قليلا.

[1] الرأي الأول: فرعون موسى هو أحمس الأول:-

يزعم اليهودي «يوسف بن متى» (37- 98 أو 100 م) أن «مانيتو» المؤرخ المصري، الذي كتب تاريخه حوالي عام 280 قبل الميلاد، إنما يرجع بالهكسوس (1) إلى أصول يهودية (2)، و من ثم فالخروج، في نظر المؤرخ اليهودي، إنما هو طرد الهكسوس من مصر حوالي عام 1575 ق.

م، بقيادة أحمس الأول (1575- 1550 ق. م)، و بالتالي فإن أحمس الأول هو فرعون موسى، هذا و قد تابع يوسف اليهودي بعض المؤرخين، و منهم الدكتور هول و الدكتور باهور لبيب.

و يذهب «هول» إلى توحيد «الخابير و» بالعابير و (العبرانيين)، و أن الخابير و هم قبائل بدوية قدمت إلى الجنوب الشرقي لفلسطين، فاكتسحت كنعان في الفترة ما بين عامي 1390، 1360 قبل الميلاد، و أن رسائل العمارنة تظهر لنا كيف أشاعت هذه القبائل الذعر بين الكنعانيين، ثم سيطرت على فلسطين بعد انسحاب السلطة المصرية منها على أيام «إخناتون» (1367- 1350 ق. م)، و من ثم يجب أن يكون الخروج قبل أيام «أمنحتب الثالث» (1405- 1367 ق. م)، ثم يقترح أن تكون لحظة خروج بني إسرائيل من مصر، هي لحظة قيام الأسرة الثامنة عشرة، و أن مؤسس هذه الأسرة الملك «أحمس الأول» هو فرعون موسى الذي روت التوراة أنه «لم يكن يعرف يوسف»، و بالتالي فإن التقرير التوراتي عن

ص: 264


1- قدم المؤلف دراسة مفصلة عن عصر الهكسوس و طردهم من مصر (محمد بيومي مهران:حركات التحرير في مصر القديمة- دار المعارف- القاهرة 1976 ص 101- 223).
2- F, egdirbmaC (yrarbiL lacissalC beoL ehT), ohtenaM, leddeW. G. W 77. p، 1940.

الخروج إنما هو ترجمة عبرية لطرد الهكسوس من مصر (1).

و لعل مما يعضد نظرية «هول» ما يؤكده «إرنست سيللين»، طبقا لبقايا فخارية عثر عليها في موقع أريحا، من أن المدينة قد دمرت حوالي عام 1500 ق. م، أو حتى بعد فترة وجيزة من عام 1600 ق. م، فيما يرى «كارل فتزينجر»، و هو مكتشف آخر موقع أريحا، و لكن «سيللين» يرفض أن يكون الإسرائيليون هم الذين دمروا أريحا (2)، كما أن «روبنسون» يرى أنه ليس من الميسور أن نضع رواية التوراة في هذا الإطار (3).

و أما الدكتور «باهور لبيب» فيذهب إلى أن الأبحاث الحديثة قد أسفرت عن أن الهكسوس من أصل سامي و موطنهم فلسطين، و أنهم من طائفة اليهود الذين جاء ذكرهم في التوراة و القرآن الكريم (4)، اعتمادا على أن «مانيتو» رأى أنهم قوم شرقيون أتوا إلى مصر من الشرق، و أنهم من بني إسرائيل، و أن أسماءهم من أصل سامي، و أن لهم علاقة بفلسطين، حيث يقطن اليهود، و أن أغلب أسمائهم التي عثر عليها بمصر من أصل سامي كنعاني، مما يدل على أنهم كانوا من أصل يمت بصلة كبيرة إلى العبرانيين، و أن هناك آلهة سامية كانت تعبد أصلا في فلسطين، و قد ظهرت في مصر على أثر غزو الهكسوس لها، فلو لم يكن الهكسوس ساميين لما نقلوا معهم آلهتهم السامية إلى مصر، كما أن استخدام الجواد و العربة في مصر إنما يرجع إلى عهد الهكسوس، هذا و قد أظهرت الحفريات في فلسطين عدة مقابر ترجع إلى أيام الهكسوس و مؤرخة بأسماء ملوكهم، و هذا دليل مادي على وجود صلة

ص: 265


1- ., nodnoL, tsaE raeN ehT fo yrotsiH tneicnA ehT, llaH. R. H 409- 406.، 1963.
2- أنظر:, nodnoL, ohcireJ, regniztaW lraC dna nilleS tsnrE 1913. و كذا. P, tic- po, sdoL. A 182.
3- .. P, learsI fo yrotsiH ehT, nosniboR. W. H 29.
4- . F, netpygeA ni soskyH red tfahcsreH eiD, bibaL ruohaP 8. p، 1934.

بين الهكسوس و اليهود في فلسطين، كما أن العبرانيين كانوا يعبدون الحمار، فإذا أمكن هذه هي كل حجج الباحثين الذين رأوا في اليهود دليلا على أنهم من أصل سامي (1).

هذه هي كل حجج الباحثين الذين رأوا في اليهود هكسوسا، أو في الهكسوس يهودا، و لعل من الأفضل قبل مناقشتنا لهذا الإتجاه، الإشارة إلى أننا لا نطمئن تماما إلى رواية المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى» و من دعوا بدعوته، من أنهم ينقلون عن «مانيتو»، ما دمنا لا نملك النص الكامل لكتاب «مانيتو»، و الذي فقد في حريق الإسكندرية عام 48 ق. م، و قد وصلت إلينا منه مقتطفات مختصرة أحيانا، و مبتورة أحيانا أخرى، و ما دمنا، في نفس الوقت، لا نملك من الأدلة التاريخية ما يقوم دليلا على صحة ما نقله «يوسف اليهودي» و غيره، عن «مانيتو»، بل إن رواية يوسف اليهودي نفسه، و التي يزعم أنه نقلها عن مانيتو، من أن اليهود هم الهكسوس، تناقضها روايته التي أشرنا إليها من قبل، من أن سبب خروج بني إسرائيل من مصر، إنما كان رغبة المصريين في اتقاء وباء تفشى بين اليهود.

هذا فضلا عن أن يوسف اليهودي لم يقبل تفسير مانيتو لكلمة الهكسوس من أنها تعني «الملوك الرعاة» على أساس أن «هك» تعني في اللغة المقدسة «ملك»، و أن «سوس» تعني في اللغة الدارجة «راعي»، فيتابع هذا الاشتقاق باشتقاق آخر لاسم الهكسوس من مصدر آخر، بمعنى «الأسرى الرعاة» لأن كلمة «هك» تعني «أسير»، و هو يفضل هذا الاشتقاق، لأنه يعتقد أن قصة التوراة عن دخول الإسرائيليين مصر، ثم الخروج بعد ذلك، لهما أصول في احتلال الهكسوس ثم طردهما فيما بعد، و الواقع،

ص: 266


1- باهور لبيب: لمحات من الدراسات المصرية القديمة- القاهرة 1947 ص 41- 45، و كذا. P, tic- po, bibaL. P 25.

فيما يرى «سير ألن جاردنر»، العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة، أنه على الرغم من وجود أسس لغوية للاشتقاق، فإنه قد جانبه الصواب، و أن كلمة «هكسوس» مشتقة من غير شك من اصطلاح «حقاخست»، أي «رئيس البلد الأجنبية الجبلية» التي كانت تعني منذ عهد الدولة الوسطى «مشايخ البدو» (1).

و أما أن قصة دخول بني إسرائيل مصر، ثم الخروج منها، لها صلة بدخول الهكسوس مصر، ثم الخروج منها، كما روج ذلك يوسف اليهودي، فقد كان يوسف هذا يهدف منها إلى رفع شأن قومه اليهود، الذين كان يحتقرهم الإغريق و يحطون من قدرهم، و ليبرهن للملإ أن اليهود و الهكسوس من عنصر واحد، و أنهم قد خرجوا من مصر حوالي ألف عام قبل حرب طروادة، التي يراها الإغريق تاريخا سحيقا من القدم، غير أن كثيرا من المؤرخين ينكرون الصلة بين اليهود و الهكسوس، فيذهب «جاردنر» إلى أنه ليست هناك صلة بين الاثنين، بدليل أن الهكسوس لم يتركوا أي أثر في قصص العبرانيين، كما روتها التوراة، كما أن مجي ء يوسف عليه السلام إلى مصر، إنما قد حدث، كما أثبتنا من قبل، على أيام حكم الهكسوس لمصر، هذا فضلا عن أن أحداث الملوك الرعاة (الهكسوس) لم تصور أبدا في قصة خروج بني إسرائيل من مصر، بل إن مدينة «بي رعمسيس» التي أنشأها رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م)، بعد طرد الهكسوس، بحوالي ثلاثة قرون، إنما تدخل في قصة بني إسرائيل في مصر و خروجهم منها، فهي المدينة التي سخر بنو إسرائيل في بنائها، كما أنها كانت بداية مسيرة الخروج من مصر (2)، و من ثم فليس من المستحيل أن تكون اقتباسات يوسف اليهودي

ص: 267


1- , drofxO, shoarahP eht fo tpygE, renidraG. H. A 154. p، 1964.
2- خروج 1/ 11، 12/ 37.

من مانيتو، إنما توحي بأحداث وقعت فيما بعد، في أوائل عهد الأسرة التاسعة عشرة، و أنها قد اختلطت بذكر حوادث الهكسوس، و هناك ما يشير إلى مثل هذه العلاقات الموجودة في أغلب الأحيان بين مصر و أولئك البدو الذين يعيشون على تخومها، جاء ذكرها في «بردية أنسطاسى، السادسة»، و لكن ليس هناك ما يشير إلى حدوث مأساة كالتي مثلت في التوراة، كما جاءت في سفر الخروج (1).

و أما ما ذهب إليه «هول» فيناقضه أنه يتعارض تماما مع ما جاء في التوراة و القرآن العظيم بشأن دخول و خروج بني إسرائيل من مصر (2)، كما أن حملات تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) المظفرة، تكون طبقا لهذا، قد حدثت بعد استقرار بني إسرائيل نهائيا في فلسطين، و هنا فمن الصعب أن نجد تفسيرا لصمت التقاليد الإسرائيلية فيما يختص بالنزاع الذي لا يمكن تجنبه مع الفاتحين المصريين، و خاصة فيما يتعلق بإدارة البلاد بموظفين مصريين، فضلا عن وجود الحاميات المصرية في فلسطين، تلك الحقيقة التاريخية التي كانت أهميتها تظهر أكثر فأكثر (3)، هذا فضلا عن أن التوراة تجعل إقامة بني إسرائيل في مصر 430 سنة (4)، بينما يتفق العلماء الآن على أن مدة حكم الهكسوس في مصر لا تتجاوز القرن و نصف القرن (1725- 1575 ق. م) (5)، أضف إلى ذلك أن التوراة و الإنجيل و القرآن ).

ص: 268


1- , AEJ ni, suduoxE ehT fo yhpargoeG ehT, renidraG. H. A 88- 87، 1924، 10.
2- أنظر: سورة يوسف: آية 8- 22، 57- 100، سفر التكوين: الاصحاحات 37- 47، خروج: اصحاحات 12- 14.
3- . P, tic- po, sdoL. A 183- 182.
4- خروج 12/ 40- 41.
5- انظر: عن عصر الهكسوس في مصر (محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة ص 137- 138، 211).

العظيم، إنما تجعل فترة التيه أربعين سنة (1)، بينما فترة التيه هنا تتجاوز القرنين من الزمان، و هي فترة أطول بكثير مما يجب، و مما افترضته التقاليد العبرانية، كما يرى «هول» نفسه (2).

و أما أدلة «باهور لبيب»، غير اعتماده على رواية مانيتو، كما نقلها يوسف اليهودي، فإنها تقوم أساسا على ما ذهب إليه من أن الهكسوس ساميون، و من فلسطين، و بالتالي فهم يهود، و الواقع أن رأيه هذا يحمل كثيرا من وجوه الخطأ، منها (أولا) أن وجود أسماء كنعانية بين الهكسوس، لا يعني أن اليهود كنعانيون، و إن كان كل منهما ينتمي إلى نفس المجموعة البشرية السامية و إن كانت التوراة ترفض، لأسباب سياسية و دينية، أن يكون الكنعانيون ساميين (3)، مع أنهم كانوا يعلمون ما بينهم و بين الكنعانيين من صلات لغوية و بشرية (4)، و منها (ثانيا) أن العبرانيين لم تكن لهم لغة خاصة بهم قبل عام 1000 ق. م، إذ كانوا يتكلمون الآرامية قبل دخولهم فلسطين، و الكنعانية بعد ذلك، كما أن اللغة العبرية نفسها، ليست إلا خليطا من الآرامية و الكنعانية و كثير من اللغات السامية و غير السامية (5)، و من ثم فإن الاعتماد على اللغة كأساس للعلاقة بين اليهود و الهكسوس، اعتماد مضلل لا يثبت تلك العلاقة، و منها (ثالثا) أن القول بأن اليهود كانوا يعبدون الحمار، قول غير صحيح، على وجه اليقين، بل إنه من المؤكد أن بني إسرائيل كانوا

ص: 269


1- أنظر: سورة المائدة: آية 26، حيث يقول تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، و انظر: سفر العدد 14/ 33، أعمال الرسل 7/ 36، 40.
2- .. P, tic- po, llaH. R. H 408.
3- تكوين 10/ 6.
4- أنظر: محمد بيومي مهران: الساميون و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي- الرياض 1974 ص 247- 248.
5- فؤاد حسنين: التوراة الهيروغليفية ص 4، نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 32.

قبل دخولهم مصر موحدين، على ملة إبراهيم و إسحاق و يعقوب، قال تعالى على لسان يوسف: وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (1)، و من ثم فعبادة الهكسوس للحمار أو عدم عبادتهم لا تفيدنا في معرفة العلاقة بين اليهود و الهكسوس، كما أنه ليس هناك من دليل على أن اليهود عبدوا الحمار في مصر.

و منها (رابعا) أن استخدام العربة و الحصان في عصر الهكسوس لا يدل أبدا على أن اليهود هم الهكسوس، و إن كانت الأسماء كنعانية و ليس الكنعانيون هم اليهود على أية حال، و مع ذلك فهناك من يرى أن الحصان، و ربما العربة التي تجرها الخيل، قد عرفا في وادي النيل، و في ميز و بوتاميا، قبل عصر الهكسوس (2)، بل و يذهب أمري» أن ذلك كان منذ أيام الدولة الوسطى، فقد عثر في حفرياته في منطقة بوهن (وادي حلفا) في عام 1962 م على هياكل دفنت في مستويات قديمة من أحد الحصون المصرية حددها بعصر الدولة الوسطى، و إن لم يعرفوا العربة، و إن كان أستاذنا المرحوم عبد المنعم أبو بكر (1907- 1976) طيب اللّه ثراه، يرد هذا المستوى إلى عهد الدولة الحديثة (3)، هذا فضلا عن أن هناك من يرى أن الهكسوس لم يستخدموا الحصان حتى فترة متأخرة جدا من حكمهم، و أن أقدم نص يشير إلى ذلك إنما يتحدث عن طرد الهكسوس، و أما المقابر التي وجدها «بتري» في تل العجول بجنوب فلسطين، و قد دفنت فيها الحمير مع الخيول، مع الموتى من الآدميين، و أنها تدل على استخدام الهكسوس للحصان، فهي

ص: 270


1- سورة يوسف: آية 38.
2- ,egdirbmaC II ,erneneuqeS ot ,II semenemmA fo htaeD eht morf tpygE ,seyaH .W 18. p، 1965.
3- عبد العزيز صالح: مصر و العراق ص 190، نجيب ميخائيل: المرجع السابق 1/ 407.

ترجع إلى فترة متأخرة من عهد الهكسوس، و ربما ترجع إلى بداية الدولة الحديثة، أما في مصر، فليست هناك أية دفنة لحصان واحد، أو حتى عظام حصان، في المقابر العديدة التي ترجع إلى عهد الهكسوس، كما أنه لا يوجد نقش واحد لحصان ما (1).

و منها (خامسا) أن توحيد كلمة «خابيرو» بكلمة «عابيرو»، و أنها هي نفس الكلمة الحالية «عبري»، فقد اتفقت جمهرة من العلماء على أن هؤلاء العابيرو، لم يكونوا أبدا من بني إسرائيل، و الأرجح أن الكلمة سامية لقبائل بدوية كانت تعيش في شرق الأردن، بل حتى الذين ينادون بتوحيد كلمة خابيرو بعابيرو، يرون أن الأمر غير مؤكد، و لا يمكن أن نتخذه أساسا لأية نتيجة تاريخية (2)، و منها (سادسا) أن اليهود ساميون، بينما الأمر جد مختلف بالنسبة للهكسوس فمن يؤكد أنهم سلالة آرية كان موطنها في آسيا الصغرى (3)، و من يرى أنهم من أعراب شبه الجزيرة العربية (4)، بل و يذهب المؤرخون المسلمون إلى أنهم العمالقة أو من العرب البائدة (5)، و يذهب «جاردنر» إلى أن اصطلاح «حقاخست» (حيق خاس) أي رئيس البلدية الجبلية الأجنبية يشير إلى الحكام، و ليس، كما يظن يوسف اليهودي، إلى

ص: 271


1- , ottO, E و كذا, AEJ, tpygE ni eluR soskyH ehT, hgrevredoS- evaS. T 60- 59. p، 1951، 37. oN, 333. P, II, FOFA, gnissiB noV. W. F 61. و كذا, VPDZ 259. p، 61
2- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 22- 28، الكسندر شارف: تاريخ مصر ص 144، تيودور روبنسون: إسرائيل في ضوء التاريخ ص 108، و كذا, msiaduJ, neitspE, I 1970. F. W و كذا. P, tic- po, nosliW. J 201 و كذا. P, tic- po, nageniF. J 118. و كذا P. 14- 13, sedamoN xuerbeH sed noigileR aL, emrahD. E و كذا, TENA, thgirblA 13., on 486. p، 1966, sellexurB, E. S. N 85- 75، 1937.
3- , retpygeA red ethcihcseG, reknuJ. H 105. p، 1933.
4- F ,nodnoL ,... aisA nretseW dna tpygE ,yrotsiH nretsaE ni seidutS ,gniK .W .L 134. p، 1907.
5- تفسير القرطبي ص 427، تاريخ الطبري 1/ 335- 336، تاريخ ابن الأثير 1/ 10، 104، تاريخ ابن خلدون 2/ 27.

الجنس كله، و طالما أخطأ الباحثون في هذا الأمر، بل إن البعض منهم، كما رأينا، يرى أن الهكسوس جنس معين من الغزاة شقوا طريقهم إلى مصر، بعد أن تم لهم غزو سورية و فلسطين، و ليس هناك ما يؤكد وجهة النظر هذه، و إن بدا أن كلمات مانيتو قد تشير إلى ذلك (1)، و من هنا فإن العلماء يكادون يجمعون على أن الهكسوس ليسوا شعبا معينا، و إنما خليط من شعوب متعددة، اختلطت بعضها بالبعض الآخر و هي في طريقها إلى مصر، و هذا يبدو واضحا في أسمائهم التي تنبئ عن خليط من أجناس مختلفة، حتى و إن غلبت فيها الأسماء السامية، ففيها كذلك عناصر غير سامية، لا شك أن بعضها «كاسي»، و الآخر «حوري»، و كلا الجنسين من أصل «هندو- أوربي» نزل من أواسط آسيا، و على أية حال، فإن الساميين لا يكاد يتألف منهم العامل الرئيسي المسئول عن الزحف الجديد، و قد تغري غلبة الأسماء السامية المعروفة لنا الآن بتفوق الساميين في العدد، و لكن يمكن أن يرجع سببها لعدم كفاية الأدلة التي في متناولنا، أو لأن العناصر غير السامية قد هضمت بسرعة (2).

و منها (سابعا) أن هذا الرأي الذي يرى في طرد الهكسوس قصة خروج بني إسرائيل من مصر، إنما يتعارض تماما عما جاء في التوراة و القرآن الكريم (3)، اللذين لم يتحدثا أبدا عن دخول بني إسرائيل أرض الكنانة غزاة فاتحين، أو أن ملوك مصر كانوا يوما ما ينتمون إلى أرومة سرائيلية، و إن

ص: 272


1- . P, tic- po, renidraG. A 156.
2- أحمد فخري: مصر الفرعونية ص 187، سليم حسن: مصر القديمة 4/ 187، نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 402، و كذا. P, tic- po, nosliW. J 164 و كذا. P, tic- po, renidraG. A 157.
3- أنظر: سورة يوسف: آية 41- 100، تكوين: إصحاحات 37- 47، و أنظر: قصة يوسف في هذه الدراسة.

تحدثنا عن وصول يوسف الصديق إلى منصب كبير في الحكومة المصرية على أيام الهكسوس كما أشرنا إلى ذلك من قبل، كما تحدثنا عن دخول بني إسرائيل مصر، و قد عضهم الجوع في أرض كنعان، فأتوا إلى أرض النيل يلتمسون المأوى و الشبع، و قد حققت لهم مصر ما يريدون، و تلك عادتها طوال عصور التاريخ، و منها (ثامنا) أن التوراة تتحدث في سفر التكوين أن الرب أخبر خليله إبراهيم بأن بني إسرائيل سوف تكتب عليهم الذلة و المسكنة في مصر فترة قوامها قرونا أربعة، زادها سفر الخروج ثلاثين عاما، كما تحدثت عن خروج القوم من مصر، و قد كانوا في عجلة من أمرهم، حتى أنهم ما كانوا قادرين على أن ينتظروا حتى يختمر عجينهم، و من ثم فقد خرجوا دون أن يصنعوا لأنفسهم زادا (1)، و قد أشار القرآن الكريم إلى أن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر بأمر اللّه ليلا قال تعالى في سورة الدخان:

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، و قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (2).

و منها (تاسعا) أن التوراة تجعل من مدينة «بي رعمسيس» نقطة التجمع التي بدا منها بنو إسرائيل الخروج من مصر (3)، و هذه لم تنشأ، كما أشرنا من قبل، إلا على أيام «رعمسيس الثاني» (1290- 1224 ق. م)، و منها (عاشرا) أن التوراة و القرآن العظيم يصفان حياة بني إسرائيل في مصر، بكل الذل و الهوان، تقول التوراة «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، و مرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين و اللبن و كل عمل في الحقل، كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفا» (4)، و كان الهدف، فيما يرى جيمس

ص: 273


1- تكوين 15/ 13، خروج 12/ 31- 40.
2- سورة الشعراء: آية 52، و أنظر سورة طه: آية 77.
3- خروج 12/ 37.
4- خروج 1/ 13- 14، 23- 24.

فريرز، أن المصريين أرادوا أن يحولوا دون تكاثرهم عن طريق تشغيلهم في الأعمال الشاقة التي ربما قضت عليهم، و لما فشلت هذه المعاملة في تحقيق النتيجة المرغوبة، أمر الملك بقتل الذكور من أطفالهم إثر ولادتهم، غير أن القابلات اللاتي كلفن بذلك كن يتهربن في تنفيذه (1)، و من ثم فقد أمر فرعون شعبه جميعا بأن «كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن البنت تستحيونها» (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (3)، و كان من نتائج ذلك كله، أن غدا العرف الشائع بين العبرانيين أنهم يتشاءمون تشاؤما تقليديا بالأيام التي قضوها بمصر، و يحسبونها بلية البلايا، و محنة المحن في تاريخهم كله، من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد النازية الهتلرية، أي طوال أربعين قرنا، من القرن العشرين قبل الميلاد إلى القرن العشرين بعد الميلاد، و قد مرت بهم محنة السبي إلى وادي النهرين، و لكنهم لا يتشاءمون بها، كما تشاءموا بالمقام في مصر، و لا يجعلون الخروج من بابل (عام 539 ق. م) عيدا باقيا متجددا، كعيد الخروج من أرض وادي النيل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، و هكذا كان الخروج من مصر أكبر أعياد اليهود، عيد الفصح، في الرابع عشر من شهر نيسان (أبريل) بين العشاءين.

و هكذا نستطيع أن نقول، دون أن يخالجنا ريب فيما نقول، أن دعوى ).

ص: 274


1- جيمس فريزر: الفلكور في العهد القديم- القاهرة 1974 ص 5 (مترجم) و انظر: خروج 1/ 15- 21.
2- خروج 1/ 22.
3- سورة البقرة: آية 49، و انظر: سورة الأعراف: آية 141، سورة القصص: آية 4 عباس محمود العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان و العبريين- القاهرة 1960 ص 58، و انظر: عن هذا الرأي الأول (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 361- 376).

يوسف اليهودي في الربط بين الهكسوس و أجداده العبرانيين لم تكن إلا من نوع تلك الدعاوي الكذوب التي لا يزال يحذقها أحفادهم الصهاينة المحدثون، و أنه ليست هناك صلة بين الهكسوس و اليهود، و ذلك لأن اليهود لم يكونوا وقت ذاك قد استوطنوا فلسطين كقوم لهم كيان يستطيعون أن يحتلوا دولة كبرى كمصر، بل أكبر و أعظم دول الشرق الأدنى القديم قاطبة، الأمر الذي لم يكتب لهم أبدا، بل إنهم لم يكونوا حتى هذه المرحلة إلا مجموعة من الرحل الذين يستقرون على أطراف إقليم زراعي بموافقة أصحابه، و هم في مركز الرعايا الخاضعين، إن لم يكونوا العبيد المستذلين، و ما حدثنا التاريخ من قبل و من بعد عن مستعمر يستذل في أرض يستعمرها، و من هنا فإننا نستبعد هذا الرأي تماما، و لا نرى أن خروج بني إسرائيل من مصر، بقيادة موسى عليه السلام، و كاموزا و أحمس الأول، و بالتالي فإن أحمس الأول ليس هو فرعون موسى.

[2] الرأي الثاني: تحوتمس الثالث هو فرعون موسى:-

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن فرعون موسى هو تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) أو ابنه «أمنحتب الثاني» (1436- 1413 ق. م) (1) اعتمادا على نص التوراة «و كان في سنة الأربع مائة و الثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان على بني إسرائيل، في شهر زيو، هو الشهر الثاني أنه بنى البيت للرب» (2)، و لما كان حكم سليمان يقع في الفترة (972- 936 ق. م) (3)، فالعام الرابع إذن هو عام 967 ق. م

ص: 275


1- قاموس الكتاب المقدس 2/ 933.
2- ملوك أول 6/ 1.
3- يختلف المؤرخون في فترة حكم سليمان، فيرى فضلو حوراني أنها في الفترة (974- 932 ق. م) و يرى حسن ظاظا أنها في الفترة (973- 936 ق. م) و يرى شموكل أنها في الفترة (970- 932 ق. م) و يرى فيلب حتى أنها في الفترة (963- 923 ق. م) و يرى هيتون أنها في الفترة (961- 922 ق. م) و يرى أولبرايت أنها في الفترة (960- 922 ق. م) و هكذا.

(أو عام 967/ 966 ق. م)، و بالتالي فالخروج في عام 1446 أو 1447 ق.

م (1)، إذا ما عدنا إلى الوراء 480 عاما، و من ثم فالخروج تم في عهد تحوتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) أو بالأحرى في العقد الأخير من عهده.

و يرى أصحاب هذا الإتجاه أن الصورة التي تقدم لتحوتمس الثالث كفرعون لموسى مقبولة تماما، لأنه كان بناء عظيما، و لأنه استخدم الأسرى الأسيويين في مشروعاته البنائية، و لأن مدة الأربعين سنة التي قدرت لفترة التيه (2)، تجعل الإسرائيليين يصلون إلى كنعان حوالي عام 1400 ق. م، و من هنا يمكن توحيد العبرانيين (العابيرو) بالخابير و الذين كانوا يضغطون على كنعان وقت ذاك (3)، هذا إلى جانب ما يقوله «جون جارستلنج» من أنه قد كشف في مقابر أريحا الملكية ما يشير إلى أن موسى قد انتشلته من الماء الأميرة المصرية «حتشبسوت» عام 1527 قبل الميلاد، على وجه التحقيق، و أنه قد تربي في بلاطها بين حاشيتها، ثم فر من مصر حين جلس على العرش المصري عدوها، تحوتمس الثالث، و يعتقد «جارستانج» كذلك أن المخلفات التي وجدت في قبور أريحا (جريكو ohcireJ) تؤيد ما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر يشوع، و أن هذه البقايا ترجع إلى حوالي عام 1400 ق. م، و أن الخروج تم عام 1447 ق. م (4). ).

ص: 276


1- أنظر:, JEI, reviL. J 122- 113. p، 1953، 3. و كذا, ROSAB, thgirblA'. F. W 22- 16. p، 1945، 100. و كذا., SENJ, eleihT. R. E 184- 147. p، 1944، 3.
2- خروج 16/ 35، تثنية 2/ 7، يشوع 5/ 6.
3- , hgrubnidE, sudoxE eht fo etaD ehT, kcaJ. W. J 1925. و كذا. P, tic- po, nageniF. J 118- 117.
4- ول ديورانت: قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 326، و انظر: عن هذا الرأي الثاني (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 377- 390).

هذا و يؤيد «هومل» و «أور» هذا الرأي، مع بعض الاختلافات، فهما يذهبان إلى أن دخول بني إسرائيل مصر، و غزو الهكسوس لها، إنما كان في عام 1877 ق. م، و أن الخروج، طبقا لرواية التوراة التي تجعل إقامة الإسرائيليين في مصر 430 سنة، إنما كان في عام 1447 ق. م، في عهد الملك أمنحتب الثاني، و أن غزو فلسطين تم بعد ذلك بأربعين سنة و هذا بالضبط عصر رسائل العمارنة (1)، ثم بدأ سليمان في بناء معبده بعد خروج أسلافه من مصر ب 480 سنة، أي في عام 967 ق. م (2).

و لعل قريبا من هذا ما يراه «أونجر» من أن موسى عليه السلام ولد في عام 1520 قبل الميلاد، على أيام الملك تحوتمس الأول (1528- 1510 ق. م) و أن ابنة فرعون التي أنجته هي حتشبسوت، و أن اضطهاد بني إسرائيل قد بدأ بعد أن نشب النزاع بين حتشبسوت و تحوتمس الثالث، ثم وصول الأخير إلى العرش المصري، و من ثم فإن «أونجر» يحدد تاريخ الخروج بعام 1441 ق. م، على أيام أمنحتب الثاني الذي يراه قد حكم في الفترة (1450- 1425 ق. م)، و أن أباه تحوتمس الثالث قد حكم في الفترة (1482- 1450 ق.

م) (3).

و رغم جاذبية هذه النظرية، فيما يرى البعض، إلا أننا نعتقد أن هناك عقبات كئود تقف في طريق قبولنا لها، و التي منها (أولا) أن توحيد «عابيرو» رسائل العمارنة بعبراني التوراة أمر بعيد الاحتمال، كما أشرنا آنفا، و منها (ثانيا) أن رسائل «عبد خيبا» أمير أورشليم من قبل الفرعون إنما تفيد أن

ص: 277


1- أنظر: عن رسائل العمارنة و عصرها (محمد بيومي مهران: إخناتون- الإسكندرية 1979 ص 233- 245).
2- خروج 12/ 40، ملوك أول 6/ 1، و كذا .P ,tic -po ,sdoL .A ,aveneG ,tnematseT dlo eht fo melborP eht ,rrO 182. و كذا 424- 422. p، 1908
3- , yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M 333- 332. p، 1970.

مدينته كانت عرضة لهجوم كبير (1)، هذا مع أن رواية التوراة يفهم منها أورشليم لم تكن هدفا رئيسيا بالنسبة إلى يشوع، بل إن احتلالها، طبقا لرواية التوراة لم يتم إلا على أيام داود عليه السلام (2)، و منها (ثالثا) أن التفاصيل التي يقدمها سفر يشوع و القضاة عن الاستيطان الإسرائيلي النهائي في فلسطين، لا يتفق بصفة عامة مع المادة التاريخية التي جاءت في رسائل العمارنة، فمثلا أسماء الملوك الكنعانيين التي جاءت في سفري يشوع و القضاة، إنما تختلف عن أسماء الأمراء الذين حكموا نفس المدن أثناء عهد أمنحتب الثالث و ولده إخناتون، فمثلا «عبدي خيبا» من رسائل العمارنة (3)، هو «أدوني صادق» من يشوع، أو «أدوني بازاق» في القضاة (4)، و كذلك حاكم «جارز» هو «يباخي» أو «يباخو» في رسائل العمارنة (5)، و هو «هورام» في يشوع (6)، و حاكم صور هو «عيد تيرش» في رسائل العمارنة (7)، و هو «يابين» في سفري يشوع و القضاة (8) ... و هكذا.

و منها (رابعا) أن نص سفر الملوك الأول (6/ 1) و الذي يحدد الفترة من الخروج و حتى بناء المعبد في العام الرابع من حكم سليمان بمدة 480

ص: 278


1- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 826- 827، إخناتون ص 233، و كذا ,giapieL ,nlefaT anramA -lE eiD ,rebeW .o dna noztdnuK .A .J ,thgirblA .F .W و كذا. P, TENA 489- 487, otnoroT, II, stelbaT anramA- le lleT eht, recreM. B. A. S 727، 721. p، 1934 و كذا 877. p، 1915.
2- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 828- 839، و كذا, III, HAC ni, retsilacaM. S. A. R 346- 342. p، 1965 و كذا. P, tic- po, nageniF. J 118.
3- . P, TENA 489- 487.
4- يشوع 10/ 1، قضاة 1/ 5- 7.
5- . P, TENA 490.
6- يشوع 10/ 33.
7- . P, tic- po, sdoL. A 184- 182. و كذا. P, tic- po, kooC. A. S 7- 356.
8- يشوع 11/ 1، قضاة 4/ 2.

سنة، يناقضه، فيما يرى سبينوزا، من يجعل هذه الفترة نفسها 440 سنة، كما أن هذه المادة، طبقا لنصوص من التوراة تصل إلى 580 سنة (1)، و من ثم فقد رأى البعض أن مدة أل 480 سنة، إنما هي عنصر متأخر في النص، و أن الترجمة السبعينية للتوراة قد وضعته في مكان آخر، و من ثم فربما كان تخمينا لأحد المؤلفين المتأخرين نسبيا، و الذي ربما قد استخلصها من السجلات التوراتية، ذلك لأن هناك فترة اثنى عشر جيلا تقع ما بين الحادثين (الخروج و بناء المعبد)، و أنه قد أعطى لكل جيل كتقدير أعلى أربعين عاما، فكانت النتيجة 480 عاما (40 x 12- 480 عاما)، و من ثم فنفس الشي ء يكون صحيحا في حالة التقويمات المتصلة في أسفار يشوع و القضاة و صموئيل، و التي تقوم على نفس التقدير، أي 40 عاما لكل جيل (2)، و هناك افتراض آخر، هو أن أل 480 عاما، ربما تشير إلى الوقت الذي دخلت فيه مجموعة مبكرة، ربما يهودا أو قبائل أخرى، إلى فلسطين من الجنوب، و هذا يفصلها عن قبائل «بيت يوسف» التي خرجت من مصر تحت قيادة موسى و يسوع، كما يجعلها سابقة لها، و لو أن التقاليد التوراتية، و كذا آي الذكر الحكيم، تجعل الحادثتين مرتبطتين معا في النهاية (3).

و منها (خامسا) أن الخروج، طبقا لهذه النظرية، كان في عام 1447 ق. م، و إذا سمحنا بفترة 430 سنة للإقامة في مصر، طبقا لرواية التوراة (4)، فإننا سوف نصل إلى عام 1877 ق. م، كما رأى هومل و أور، و هذا يصل بنا إلى قرابة قرن و نصف القرن قبل دخول الهكسوس مصر، و إنه لأمر غير

ص: 279


1- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة- القاهرة 1971 ص 290- 296 (مترجم).
2- , nodnoL, auhsoJ ot hpesoJ morF 1950، و كذا. P, tic- po, nageniF. J, yelwoR. H. H 121- 120 F 147، F 139. P.
3- . P, tic- po, nageniF. J 118.
4- خروج 12/ 40.

مقبول أن يدخل بنو إسرائيل مصر قبل عصر الهكسوس، لأسباب سبق لنا مناقشتها عند الحديث عن يوسف عليه السلام، هذا فضلا عن أن دخول بني إسرائيل مصر عام 1877 ق. م، فإن ذلك يجعل دخولهم على أيام الأسرة الثانية عشرة، و في عصر «سنوسرت الثالث» (1878- 1843 ق. م) على وجه التحديد، إلا إذا اعتمدنا على النص السبتاجوني للتوراة الذي يختزل مدة الإقامة في مصر إلى النصف، أو أخذنا بوجهة النظر التي إذا اعتمدنا على النص السبتاجوني للترابط بين مجموعة «أبشاي» الأسيوية، و عددهم 37 فردا، و التي دخلت مصر على أيام سنوسرت الثاني (1897- 1877 ق. م) و قد وجدت مناظرهم في مقبة «خنوم حتب» أمير بني حسن بمحافظة المنيا (1)، و بين دخول سيدنا إبراهيم عليه السلام أرض الكنانة، فضلا عن دخول بني إسرائيل، بقيادة يعقوب عليه السلام إليها (2)، غير أنه من المعروف أن إبراهيم دخل مصر على أيام سنوسرت الثالث (1878- 1843 ق. م)، و أن يعقوب عليه السلام كان يعيش في الفترة (1780- 1633 ق.

م) و أنه دخل مصر، هو و أسرته، على أيام الهكسوس (1725- 1575 ق. م) بدعوة من الصديق عليه السلام، و كان عددهم، طبقا لرواية التوراة، 70 نفسا، و أقاموا في وادي جوشن على حدود الدلتا الشرقية (3)، كما أشرنا إلى ذلك بالتفصيل من قبل.

و منها (سادسا) أن نص التوراة (ملوك أول 6/ 1) الذي يعضد هذه النظرية، يناقضه نص آخر من التوراة (خروج 1/ 11) يجعل رعمسيس الثاني فرعونا للتسخير، لأن بني إسرائيل قد سخروا في بناء مدينتي «بي رعمسيس و فيثوم»،

ص: 280


1- محمد بيومي مهران: مصر- الجزء الأول- الإسكندرية 1982 ص 646- 648، و كذا, nodnoL, I, nassaH- ineB, yrrebweN. E. P 31- 28. slP، 1893.
2- , sirap, tpygE ne hpesoJ, etogreV 16. p، 1969.
3- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 213- 359.

و قد دلت الحفائر على أن الأولى قد أنشئت في عهد رعمسيس الثاني، و الثانية قد أعيد بناؤها، كما سنشير فيما بعد بالتفصيل، و منها (سابعا) أن تحوتمس الثالث كان بناء عظيما، دون شك، و كما يقول أصحاب هذه النظرية، و لكن مشاريعه البنائية كانت في الصعيد، و بخاصة في العاصمة طيبة (1) (الأقصر الحالية)، هذا فضلا عن أن عاصمة الفراعين المصريين لم تكن أبدا في الدلتا، فيما قبل الأسرة التاسعة عشرة، كما أنه لم تكن هناك اهتمامات رئيسية بمشروعات بنائية في الدلتا، و بخاصة في شرقها، حيث كان يقيم بنو إسرائيل هناك (2)، بل إنه بالكاد يفهم أن التحامسة قد كرهوا هذا المكان لاتصاله بالغزاة الهكسوس المكروهين و ربما كان هذا هو السبب في عدم وجود آثار للأسرة الثامنة عشرة في «تانيس» عاصمة الهكسوس، و أما في الأسرة التاسعة عشرة، و التي كان ملوكها من هذه المنطقة، فقد وجد لدى رعمسيس الثاني الباعث السياسي لاختيار عاصمة ملكه في الدلتا، فبنى أو أعاد بناء «فيثوم»، ثم بنى «بي رعمسيس» التي حملت اسمه (3)، و منها (ثامنا) أن الفترة ما بين عامي 1500، 1200 ق. م، إنما تمثل فترة التقدم الذي أظهره الصناع الكنعانيون في وسائلهم الفنية تحت التأثير الإيجي، و من ثم فقد كان هذا العصر هو العصر الذهبي لصناعة الفخار الكنعاني، و من العجيب أن يتطابق ازدهار الفن، مع غزو البلاد بواسطة هؤلاء البدو، الذين كانوا بالتأكيد أقل مدينة من السكان الأصليين، و لهذا فمن الطبيعي جدا أن يتفق دخول هؤلاء البرابرة أرض كنعان، مع فترة التدهور التي نملك عليها الكثير من الأدلة، و التي جاءت بعد عام 1200 ق. م.

و منها (تاسعا) أن النتائج التي توصل إليها «جون جارستانج» من أن

ص: 281


1- أنظر: سليم حسن: مصر القديمة 4/ 455- 496.
2- . P, tic- po, sdoL. A 183.
3- , AEJ, renidraG. A 127- 126. p، 1933، 19.

أريحا و حاصور، قد دمرتا حوالي عام 1400 ق. م (1)، هناك من يتقدم بحادث تدميرهما إلى عام 1500 ق. م، و من يتقدم إلى ما بعد عام 1600 ق.

م، بفترة وجيزة (2)، و هناك من يتأخر به إلى ما بين عامي 1250، 1200 ق.

م (3)، هذا فضلا عن أن تخريب مدن كنعان، ليس بالضرورة أن يكون قد تم على أيدي بني إسرائيل الخارجين من مصر، و من المرجح أنه حدث في فترة الفوضى التي صحبت عهد إخناتون (1367- 1350 ق. م) و التي انتهت بانسحاب السيادة المصرية إلى حين، و أما عن «أريحا»، فإن حفائر «سيللين» و «جارستانج» و «مس كنيون» دلت على أنها كانت دائما معرضة لهجوم البدو المشاغبين، و الذين كانوا دائما يهاجمونها حتى يفتحوا طريقهم إلى فلسطين، و قد وجدت «مس كنيون» أن الحائط القديم، و الذي كان قد بنى من الآجر الطيني المسطح، قد هدم و أعيد بناؤه أكثر من 17 مرة، و أن الآجر المتبقي من انهياره الأول يشير إلى أنه كان بفعل الزلازل، و أن الأخير كان بفعل الغزاة الآراميين، حوالي عام 1200 ق. م (4)، و على حال، فلا يوجد حتى الآن أي دليل في الموقع يساعدنا على تحديد التاريخ الذي احتل فيه يشوع أريحا (5)، و قد كانت مدينة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، و لكنها اختفت تماما في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، و إذا كانت جدران ).

ص: 282


1- , yrotsiH elbiB fo snoitadnuoF eht, segduJ, uhsoJ, gnatsraG. J و كذا. P, tic- po, nageniF. J 164 F 382، F 184. p.
2- . P, tic- po, sdoL. A 182.
3- , yrotsiH sa elbiB eht, relleK. W 160. p، 1967.
4- و كذا. P, tic- po, nageniF. J 157- 156 و كذا, ohcireJ fo yrotS eht, gnatsraG. E. B. JdnaJ 1940 F, QEP ni, noyneK. M. K 114. p، 1955، F 55. p، 1954، F 88. p، 1953، 64. p، 1952.
5- أريحا: و تعني مدينة القمر أو مكان الروائح العطرية، و هي تل السلطان الحالية، و تقع على مبعدة خمسة أميال غربي نهر الأردن، 13 ميلا شمال شرقي القدس، و قد أثبتت الحفريات أنها واحدة من أقدم مدن العالم (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 605).

المدينة قد انهارت أمام قوات يشوع، فهناك احتمال على أن الزلازل ربما كانت هي السبب، لأن الموقع الجيولوجي للمدينة يبعث على مثل تلك الأحداث هذا إلى أن الجدار الأول، و الذي يرجع إلى عصر البرونز المبكر، كان فيما يبدو، قد انهار بسبب الزلازل كذلك (1).

و منها (عاشرا) أن الدليل الأثري من عبر النهر (شرق الأردن) و كذا من لخيش (2) و دبير، لا يتفق مع الخروج المبكر، فلقد قام «نلسون جلوك» بمسح أثري لمنطقة شرق الأردن، و توصل إلى أن الفترة فيما بين عامي 1900، 1300 ق. م، تمثل ثغرة في السكان المقيمين في المنطقة، فإذا كان خروج بني إسرائيل من مصر، حوالي عام 1400 ق. م، فالمفروض، و الأمر كذلك، ألا يلتقوا بالملوك الآدوميين و العمونيين و المؤابيين، الذين عاقوا تقدمهم، كما تقول التوراة، و إنما كان هناك بدو متفرقون هنا و هناك، و الأمر كذلك بالنسبة للدليل الأثري من «لخيش» و «دبير» (3)، و منها (حادي عشر) أن الحفريات التي أجريت في دبير، (تل بيت مرسيم الحالية على مبعدة 13 ميلا جنوب غربي جبرون) (4) اكتشفت طريق الفرعون أمنحتب الثالث، و الذي كان ما يزال يستعمله الموظفون في دبير، مما يدل على أن مصر كانت ما تزال صاحبة السيادة هناك حتى عصر أمنحتب الثالث، و أن الإسرائيليين لم يكونوا قد قدموا بعد إلى هذه المنطقة، و في نهاية عصر البرونز المتأخر وجدت آثار حريق هائل، و فوقها بقايا إسرائيلية، مما يدل على عدم وصول

ص: 283


1- . P, tic- po, nagniF. J 159. و كذا F. P, tic- po, gnatsraG. J 144
2- لخيش: و هي تل الدوير الحالية، على مبعدة خمسة أميال جنوب غرب بيت جبرين، و قد أثبتت الحفائر أنها سكنت منذ عصر البرونز المبكر (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 614).
3- . P, tic- po, regnU. F. M 334.
4- . P,. dibI 255. و كذا. P, tic- po, nageniF. J 163.

الإسرائيليين حتى هذا العصر (1)، و منها (ثاني عشر) أن حفائر متحف جامعة بنسلفانيا في بيت شان (2) (بيسان) في سهل يزرعيل أثبتت أن المنطقة ظلت تحت سيطرة الحاميات المصرية (3)، كما كانت على أيام أمنحتب الثالث، و حتى أيام رعمسيس الثاني، حيث وجدت أسماؤها على معبد المدينة (4)، مع أنها ذكرت من بين المدن التي استولى عليها يشوع (5).

و منها (ثالث عشر) أن التاريخ يحدثنا أن «حتشبسوت» حكمت مع أختها تحوتمس الثاني (1510- 1490 ق. م)، كزوجة و ليست كملكة، ثم حكمت بعد ذلك مع ابن أخيها تحوتمس الثالث، كوصية على العرش، و إن ظلت المراسيم تصدر باسمه فترة ما بين أربع و سبع سنوات، بل إن «جاردنر» يرى أن هناك نصا لم ينشر بعد، يحدد تتويج حتشبوت كملك بالسنة الثانية (6)، و استمرت كذلك حتى عام 1468 ق. م، حيث خلفها تحوتمس الثالث، و الذي خلفه ولده أمنحتب الثاني، و إذا ما طبقنا ذلك على ما أرتآه «جارستانج» من أن موسى عليه السلام هرب من مصر بعد وفاة حتشبسوت، و جلوس عدوها تحوتمس الثالث على العرش، ثم خروج بني إسرائيل في أخريات عهده، لرأينا ذلك إنما يتناقض مع ما جاء في التوراة و القرآن العظيم من أن موسى عليه السلام قد خرج من مصر إلى مدين لأنه قتل مصريا على سبيل الخطأ (7)، كما أننا لو صدقنا «جارستانج» و من تابعه في رأيه، من أن

ص: 284


1- , thgirblA. F. A و كذا. P, tic- po, seitiC neT s'rehpeS htajriK snoitavacxE, elyK. G. M 192, ROSAA 79، 22- 21. p، 17، 128- 55. p، 13.
2- أنظر:, ainavlysnncP, nahS- hteB fo yrotsiH dna yhpargopoT ehT, ewoR. A 1930.
3- . P, tic- po, thgirblA. F. W 125.
4- . P, tic- po, regnU. F. M 142.
5- يشوع 17/ 11.
6- . P, tic- po, renidraG. A 184.
7- سورة القصص: آية 15- 22، خروج 2/ 11- 15.

هروب موسى من مصر كان بسبب استيلاء تحوتمس الثالث على العرش، لكان على موسى ألا يعود إلى مصر إلا بعد وفاة تحوتمس الثالث، خاصة و أن التوراة تشير إلى أن عودة موسى إلى مصر كانت مرتبطة بوفاة من كان يطالبه بالقصاص (1)، هذا فضلا عن أن تدمير أريحا إن كان في عام 1407 أو عام 1400 ق. م، فهذا يعني أنه حدث في أخريات، عهد تحوتمس الرابع، أو أوائل عهد أمنحتب الثالث، و في كلا العهدين كانت مصر، دون شك، ما تزال تحتفظ بامبراطوريتها الواسعة في آسيا الغربية، بل إن تحوتمس الرابع إنما يعتبر واحدا من الفراعين العظام، و أنه قام بواجبه تماما في الحفاظ على الامبراطورية المصرية هذا فضلا عن أن أمنحتب الثالث كان، على الأقل، في النصف الأول من حكمه كبير ملوك الشرق الأدنى دون منازع.

و لعل سؤال البداهة الآن: كيف استطاع بنو إسرائيل دخول كنعان، و هي ولاية مصرية، ثم تدمير أريحا و عاي و بيت أيل و غيرها من فلسطين، دون أن يحرك الفرعون ساكنا؟ في الحقيقة إن هذا أمرا لا يمكن قبوله بسهولة، ما لم تعضده أدلة قوية، و هذا ما لم يثبت حتى الآن، فضلا عن أنه أمر تحيط به عوامل الشك و الريبة من كل جانب، و من ثم، فإنني أتردد كثيرا في الأخذ بهذا الرأي.

و منها (ثالث عشر) أن بعثة «جامعة ستراسبرج» كشفت عام 1965 م عن نص في معبد أمنحتب الثالث في «صولب» في التوبة السودانية، و فيه ذكر لقبائل من بدو الصحراء، و منهم قبيلة «يهوه» في عصر أمنحتب الثالث (2)، و لعلنا نستنتج من هذا أن قبيلة يهوه البدوية كانت عصر أمنحتب الثالث (1405- 1367 ق. م) ما تزال في مصر، و إن كنا على غير يقين من أن اسم

ص: 285


1- خروج 2/ 23- 25، 4/ 19.
2- مراد كامل: الكتب التاريخية في العهد القديم- القاهرة 1968 ص 19.

«يهوه» هنا له صلة ببني إسرائيل أم لا، و مع ذلك، فهو، على الأقل، يثير ظلالا من شك حول نظرية الخروج في عهد تحوتمس الثالث أو ولده أمنحتب الثاني.

[3] توت عنخ آمون: هو فرعون موسى:-

يعتمد هذا الرأي على آراء العالم اليهودي «سيجموند فرويد» (1856- 1939 م) في موسى الذي يراه مصريا، و ليس عبرانيا، و في ديانة إخناتون، و من ثم فقد عقد مقارنة بين الديانتين، الموسوية و المصرية القديمة، و خلص منها إلى أنهما على طريق نقيض، فبينما نرى في الموسوية وحدانية متشددة (1)، نرى في المصرية القديمة وثنية مفرقة في التعدد، هذا فضلا عن أننا نكاد نعرف شعبا آخر في تاريخ العالم القديم وصل إلى الدرجة التي وصل إليها المصريون من تجاهل للموت، و لا بذل ما بذلوا لتأمين معيشتهم في الآخر، في الوقت الذي أغفلت فيه الموسوية الحياة الأبدية تماما، فلم يرد في أي موضع من التوراة ذكر لإمكان حياة بعد الموت (2)، و هو أمر تزيد غرابته، إذا تبين لنا أن الإيمان بالآخرة يتفق تماما مع عقيدة التوحيد (3).

ص: 286


1- لا ريب في أن دعوة موسى عليه السلام، شأنها في ذلك شأن بقية دعوات الأنبياء الكرام، إنما هي دعوة توحيدية صحيحة غير أن دعوة موسى تلقاها عن ربه، شي ء، و ما سجلته توراة اليهود، و ليست توراة موسى، عن التوحيد شي ء آخر، و قد قدمنا دراسة مفصلة عن الديانة اليهودية، اعتمادا على ما جاء في توراة اليهود المتداولة اليوم، و التي تبعد عن دعوات التوحيد كثيرا أو قليلا (محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الرابع- الباب الأول (7 فصول) الديانة اليهودية ص 1- 218).
2- أنظر عن الحياة بعد الموت، كما قدمتها توراة اليهود (محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل- ص 102- 106، إسرائيل 4/ 234- 236، و كذا: حبيب سعيد: أديان العالم ص 182- 183، و كذا:, Y. N, msiehtonoM dna sesoM, duerF. S 29- 18. p، 1939, naneR. E و كذا, stehporP tnematseT dlo ehT, notaeH. W. E 137- 134. p، 1969. و كذا F. P, i, learsI'd elpueP ud eriotsiH 128.
3- , Y, N, msiehtonoM dna sesoM, duerF. S 20- 18. p، 1939.

و هنا يبدأ «فرويد» يتحدث عن ديانة إخناتون، ثم يعقد مقارنة بينها و بين ديانة العبرانيين، فيقدم لنا صورة عن عقيدة الشمس منذ نشأتها حتى أيام إخناتون (1367- 1350 ق. م)، ثم اعتناق الفرعون لعقيدة التوحيد، و تمجيده لها في أناشيده (1)، و على أن إله الشمس هو الخالق و الحافظ لكل الكائنات، و عن الحرارة التي تبدو في تسبيحاته، و التي تسبه تلك التي تسري بعد ذلك ببضعة قرون في المزامير التي تمجد «يهوه» إله اليهود (2)، غير أن إخناتون، على وجه اليقين، لم يعبد الشمس على أنها شي ء مادي، و إنما على أنها الكائن مقدس تنم هذه الأشعة عن قدرته، و هو أمر ذهب إليه من قبل كثير من الباحثين، من أمثال إرمان و برستد و هول و غيرهم (3)، هذا فضلا عن إخناتون قد أضاف إلى فكرة عالمية الرب شيئا جديدا أوضح فيه فكرة الوحدانية، و هي الطبيعة الخاصة به، و من ثم فهو يقول في تسبيحاته «اللهم إنك أنت الإله الواحد الذي ليس معه سواه» (4)، و من هنا فقد أغلقت معابد الآلهة في كل أنحاء الإمبراطورية المصرية، و صودرت ممتلكاتها، و عطلت شعائرها، و ضرب الحجز على خزائن الكهنوت، و ذهب إخناتون في حماسه إلى حد أنه أمر بفحص الآثار المصرية، و محو كلمة «الآلهة» حيثما وجدت منقوشة عليها في صيغة الجمع، لأن اللّه واحد لا يجمع (5)، كما حرم

ص: 287


1- أنظر: عن عقيدة الشمس قبل أيام إخناتون، و عن التوحيد في دعوة إخناتون و أناشيده (محمد بيومي مهران: إخناتون ص 295- 315، ص 337- 382).
2- . P, tic- po, deurF. S 21.
3- محمد بيومي مهران: إخناتون ص 349- 350، أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة ص 125- 146- القاهرة 1952 (مترجم)، و كذا. P, tic- po, llaH. R. H 300- 298. . P,. tic- po, duerF. S 22- 21.
4- ,. Y. N, necneicsnoC fo nwaD ehT, detsaerB. H. J 280- 278. p، 1939.
5- أدولف إرمان: المرجع السابق ص 133- 138 و كذا. H. J و كذا. P, tic- po, duerF. S 22. P, tic- po, detsaerB 280.

إخناتون جميع الأساطير و أعمال السحر، و عدم السماح بعمل أي صنم لإلهه «آتون» (1) لأن الإله الحق لا صورة له، هذا فضلا عن التغيير في التعبير الشكلي لإله الشمس، فلم يصور بصورة هرم صغير و صقر، و إنما بأسلوب يكاد يكون عقلانيا، يبدو فيه قرص الشمس و قد انبعثت منه أشعة نهايتها على شكل الأيدي، و أخيرا فلم يرد أي ذكر للإله «أوزير»، إله الموتى و رب الآخرة عند المصريين، و لا لمملكة الموتى و الحساب في الآخرة (2).

ثم يبدأ «فرويد» في عقد مقارنة بين الديانتين، الأخناتونية و الموسوية، مع إقراره بأن ذلك سيكون أمرا صعبا، ذلك لأن تعطش كهنة آمون الحاقدين للثأر من ديانة آتون، قد حرمنا الكثير من المعلومات عنها، بسبب تحطيم الغالبية العظمى من آثار إخناتون، كما أننا لا نعرف ديانة موسى عليه السلام، إلا في شكلها، كما تم تثبيتها بعد موسى عليه السلام، بثمانية قرون، على الأقل، (إذا أخذنا بالرأي الذي ينادي بأن الخروج كان على أيام مرنبتاح) على يد رجال الدين اليهودي، في العصر الذي تلا السبي البابلي (586- 539 ق. م)، حيث ابتعثت دولة يهوذا في ظل الحماية الفارسية على يد «عزرا» الذي جاء من السبي، فيما يرى كثير من المؤرخين، حوالي عام 398 ق. م (3)، هو الذي يعزي إليه إرساء العقيدة اليهودية، كما تطالعنا الآن (4). ).

ص: 288


1- . P, tic- po, renidraG. H. A 227.
2- . P, tic- po, detsaerB. H. J 300. و كذا. P, tic- po, duerF. S 26- 22.
3- أنظر: نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 469، F .P ,elbiB eht dna enitsalP fo ygoloeahcrA ehT ,thgirblA .F .W 169 .p ,tic -po ,kooC .A .S ehT no yassE rehto dna droL ehT fo tnavreS ehT ,yelwoR .H 413 و كذا. P, tic- po, nageniF. J 239 و كذا, tnematseT dlO 159- 131. p، 1952. و كذا. P, tic- po, htoN. M 230.
4- إذا كان «عزرا» هذا، هو «عزيز» الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، فإن اليهود وقت ذاك القرن (القرن 4 ق. م) قد أشركوا بربهم، و جعلوا من عزيز ابنا للّه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، قال تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (التوبة: آية 30).

هذا و يقدم لنا «فرويد» بعض المقابلات بين الديانتين، لعل من أهمها (أولا) أن صيغة إعلان الإيمان (الشهادة اليهودية) إنما تنطق على الوجه التالي «شمع يسرائيل أدوناي إلو هينو أدوناي أحاد» و ترجمته إلى اللغة العربية كالتالي «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا إله واحد»، فإذا لم يكن بالصدفة هذا التشابه في اللفظين بين «أتون» المصري، و «أدوناي» العبري و «أدونيس» السوري، و إذا كان هذا التشابه بالعكس نتيجة تماثل في الأصل من حيث اللفظ و المعنى، أمكن أن نترجم الجملة العبرية هكذا «اسمع يا إسرائيل آتون إلهنا إله واحد»، و منها (ثانيا) أنه من السهل أن نبيّن أوجه الشبه و الخلاف بين الديانتين، فكلاهما مظهر لوحدانية مطلقة دقيقة (1)، و يميل «فرويد» أن يرد، من أول وهلة، لهذا الطابع الأساسي فيهما كل نقاط التشابه القائمة بينهما، و منها (ثالثا) أن الدين اليهودي، كما قدمته لنا توراة اليهود المتداولة اليوم، كان يجهل الآخرة و الحياة بعد الموت، و هي معتقدات لا تتعارض مع الوحدانية مهما بلغت من الشدة، و الأمر كذلك بالنسبة لديانة إخناتون، و هذا التوافق بين اليهودية و الآتونية في هذه النقطة، إنما يعتبر أول حجة جديدة، إلى جانب مصرية موسى، و إن كانت ليست بالحجة الوحيدة (2).

و منها (رابعا) أن موسى عليه السلام لم يعط اليهود دينا جديدا فحسب، و إنما فرض عليهم الختان كذلك، و رغم أن التوراة ترجعه إلى عصر الآباء

ص: 289


1- أنظر عن الوحدانية في الآتونية و اليهودية (محمد بيومي مهران: إخناتون ص 462- 477، إسرائيل 4/ 83- 121).
2- . P, tic- po, duerF. S 29- 27.

الأولين، و أن الرب غضب على موسى عند تركه و كاد أن يقتله، لو لا أن أسرعت زوجته المدينية و قامت بختان ابنها (1)، غير أن الحقيقة التي لا شبهة فيها أن الختان جاء إلى اليهود من مصر، و أنه لا يوجد شعب آخر في حوض البحر المتوسط يتبع هذه السنة غير المصريين، الذين تدل آثارهم على أنهم عرفوا الختان منذ عصور ما قبل التاريخ، حوالي عام 4000 ق. م، كما تدل على ذلك أجسام بلغ من حفظها أن أمكن فحصها و الاستدلال منها على اتباع المصريين لسنة الختان، هذا فضلا عن صور تمثل عملية الختان يقوم بها جراح مصري في قبر جبانة مثقف من الدولة القديمة، و آخر في الكرنك من الدولة الحديثة (2)، كما أن رواية التوراة (3) يفهم منها أن إبراهيم عليه السلام قام بعملية الختان بعد عودته من مصر، و إنجابه ولده إسماعيل عليه السلام، هذا فضلا عن أن النص نفسه إنما دونه أحبار السبي البابلي، فيما بين القرن السادس و الخامس ق. م. (4)، أي بعد عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، بما يربو عن ألف و خمسمائة عام، كما أنه لم يدخل في صلب أسفار الشريعة في صورتها الحالية، إلا في عام 400 ق. م، فلا غرو أن يتعارض تعارضا جذريا مع روايات أخرى في سفر التثنية (5)، و التي ربما كانت أصداء خافتة لوقائع في صورة من أساطير عن نشأة سنة الختان، تلك السنة كانت عادة مصرية متأصلة (6).

ص: 290


1- تكوين 17/ 10- 11، خروج 4/ 24- 26.
2- . P, tic- po, detsaerB. J 10. on، 303.
3- تكوين 17/ 10- 11، 23- 27، و انظر: محمد بيومي مهران: قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة (2) مجلة الأسطول- العدد 67، الإسكندرية 1971 ص 5- 6.
4- . P, tic- po, sdoL. A 152.
5- تثنية 5/ 1- 3، و كذا. P, tic- po, sdoL. A 199.
6- محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 6، و كذا, Y. N, stnemdnammoC neT, seivaD. P. A 60- 59. p، 1956.

و هنا يتساءل فرويد: إذا كان موسى يهوديا راغبا في تحرير بني جلدته من نير المصريين، فما الذي دعاه إلى فرض سنة الختان على قومه، و كل ما يتوقع منها أن تجعل اليهود مصريين، و ما الداعي لتخليد ذكرى مصر فيما بينهم، رغم أن جهوده كانت موجهة إلى عكس ذلك، و هذا كله يدل على أن موسى لم يكن يهوديا، بل كان مصريا (1)، الأمر الذي يترتب عليه أن الديانة الموسوية كانت على الأرجح ديانة مصرية، و لكن ليست الديانة السائدة بين الشعب، و إنما ديانة إخناتون التي تتفق مع اليهودية في كثير من النقاط.

و هنا يتجه «فرويد» إلى هدفه مباشرة، و هو أن موسى كان مصريا، و كان طموحا عالي الهمة، و ربما راودته فكرة أن يصبح في يوم ما زعيم شعبه، و رئيس الإمبراطورية المصرية، و لما كان من المقربين إلى فرعون (إخناتون) فقد أبدى حماسة شديدة بالعقيدة الجديدة التي فهم أفكارها الرئيسية و تشربها، و لكن عند ما زحفت الرجعية على إثر موت إخناتون، رأى موسى أن كل آماله و تدابيره تنهار، فمصر لم يعد عندها ما تعطيه له، اللهم إلا إذا كفرت بمعتقداتها التليدة، و هكذا أصبح موسى رجلا فقد وطنه، و هنا واتته فكرة: إن إخناتون الحالم قد بلبل فكر شعبه و ترك إمبراطوريته تتمزق إربا، فإذا موسى، بما جبل عليه من علو الهمة، يتصور خطة ينشئ بها إمبراطورية أخرى يكون دينها هو الدين الجديد الذي نبذته مصر، و ربما كان في ذلك الوقت حاكما للإقليم المتاخم للحدود الشرقية، حيث تقيم في «جوشن» بعض القبائل السامية منذ أيام الهكسوس، فمن هذه القبائل يقرر موسى أن يتخذ له شعبا جديدا، و من ثم فقد قام بإنشاء علاقات مع القبائل السامية في أرض جوشن و نصب نفسه زعيما عليها، و قادها إلى الخروج «بيد (1) ليس صحيحا، على وجه اليقين، أن موسى كان مصريا، و سوف نناقش هذه القضية بالتفصيل في هذه الدراسة (الباب الرابع- الفصل الأول).

ص: 291

قوية»، و يمكننا خلافا للتراث العبراني افتراض أن الخروج تم بسلام و بدون مطاردة، فإن سلطة موسى جعلت ذلك ممكنا، و لم يكن هناك حينئذ قوة مركزية يمكنها أن تمنعه، ثم يرى «فرويد» أن الخروج من مصر حدث خلال فترة السنوات الثماني التي تلت موت إخناتون و سبقت استيلاء «حورمحب» على العرش (1)، بل إن «آرثر و يجال» إنما يحدد الخروج بعام 1346 ق. م، و يرى أنه تم في آخر عهد «توت عنخ آمون» (2).

و في الواقع فإن «كارل إبراهام» إنما سبق «فرويد» في القول بأن إخناتون إنما كان مصلحا، و نبيا عظيما، ففي عصره لم ترسم الآلهة في شكل آدمي، و هكذا كان إخناتون رائد التوحيد الموسوي، بل الأبعد من ذلك أنه كان رائد المسيح عليه السلام، ففكرة إخناتون عن الإله أقرب إلى الفكرة المسيحية منها إلى الفكرة الموسوية (3)، هذا و يذهب المؤرخ" hceeW" إلى أن موسى قد دعا بني إسرائيل إلى التوحيد، و كانت هذه العقيدة قد ظهرت في العالم قبل ذلك على يد «إخناتون»، و يبدو أن موسى، و قد أمضى طفولته و صباه و شبابه في مصر، قد عرف هذه العقيدة و تأثر بها و دعا إليها (4)، و على أية حال، فنحن و إن كنا نرفض الربط بين وحدانية موسى عليه السلام، و دعوة إخناتون، ذلك الربط الذي يصل عند «فرويد» إلى أن الأولى منقولة عن الثانية، فلا نشك في وجود مقابلات بين الديانتين، حتى و إن كانت غير مباشرة، فالوحدانية المطلقة كانت من أوضح الصور الشائعة بينهما، و على سبيل المثال، فإله إسرائيل يقول «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» (5)،

ص: 292


1- . P, tic- po, duerF. S 32- 29.
2- , siraP, enneicnA etpygE'L ed eriotsiH, lagieW. A 146. p، 1968.
3- , I, ogamI, maharbA. C 364- 346. p، 1912.
4- . P, tsaE raeN eht fo noitaziliviC, hceeW. H. E 88.
5- خروج 20/ 3.

و إخناتون يصف إلهه بأنه «الإله الذي لا إله إلا هو»، ثم التأكيد بعد ذلك في التعاليم الآتونية، و الضغط المستمر على «الإله الواحد، و الخالق لكل شي ء»، فآتون، كيهوه، هو الإله الخالق لكل من يأتي إلى هذه الحياة و ما يأتي إليها (1).

و أيا ما كان الأمر، فهناك من الأسباب ما يجعلنا نرفض وجهة نظر «فرويد» هذه، منها (أولا) أن هذه النظرية تحتاج إلى دراسة جادة عميقة متأنية للديانتين، الموسوية و الآتونية، و هذا أمر في منتهى الصعوبة، إن لم يكن محالا، و قد تنبه فرويد نفسه إلى ذلك فنحن حتى الآن لا نستطيع القول بأننا نملك، على وجه اليقين، الصورة الصحيحة للآتونية أو الموسوية، فالأولى قد أضاع حقد كهان آمون أكثر الكثير من نصوصها، و الثانية لعبت فيها أيدي اليهود بما شاءت لهم أهواؤهم، كما أن معلوماتنا الحالية عنها إنما ترجع إلى نصوص كتب بعد الأسر البابلي أو أثناه (586- 539 ق. م)، و موسى عليه السلام عاش في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إن لم يكن في القرن السادس عشر قبل الميلاد، كما رأينا من قبل، و الفرق بين نزول الرسالة على موسى و بين تدوينها، فرق كبير، يصل إلى ثمانية قرون على رأي، و قد يصل إلى أحد عشر قرنا أو حتى عشرة قرون فيما يرى آخرون، و منها (ثانيا) أنا لا نعرف عن إخناتون غير أنه الملك الذي جلس على عرش الكنانة في الفترة (1367- 1350 ق. م)، و أنه نادى بعبادة الإله الواحد الأحد و من ثم فقد أغلقت معابد الآلهة في كل أنحاء الإمبراطورية المصرية، و صودرت ممتلكاتها و عطلت شعائرها، مما أثار عليه تجار الدين من كهنة آمون و غيرهم، و من ثم فقد هاجر من طيبة إلى بقعة عذراء لم تشهد عبادة إله آخر من قبل، فأقام عليها مدينته الجديدة «آخت آتون» (العمارنة) (2)، و بقي

ص: 293


1- , Y. N, arzE ot maharbA morF, doireP lacilbiB ehT, thgirblA. F. w 16- 15. p، 1963.
2- العمارنة، و تقع على مبعدة 190 ميلا جنوبي القاهرة، 260 ميلا شمالي الأقصر، فيما بين ملوي و ديروط، في مقابل دير مواس عبر النهر، و كانت تمتد على مسافة تقرب من الميل شمالي قرية التل، و حتى الحوطة شرقي النهر، و تمثل العمارنة (أخيتاتون) في الوقت الحاضر، قرى بني عمران و الحاج قنديل و العمارنة و الحوطة، ثم الخرائب القليلة التي تقع على طول المدينة القديمة و من ورائها المقابر، و تحمل «أخيتاتون» اسم مليكها لأن المقطعين آخت و أخن مشتقان من نفس الجزع، على حين ألحقت كلمة أتون بكل من اسم الملك و عاصمته.

هناك حينا من جدهر، يتعبد إلى ربه و يزعم مجالس الدعوة إليه، و أخيرا تجمعت قوى الشر ضده حتى انتهى أمره، فصب كهان آمون كل حقدهم عليه و على دعوته و اصطلموا أتباعه، و نصّبوا من بعده على العرش صبيّا لما ييّفع، فمكن لهم و أطلق أيديهم، فأبادوا ديانة آتون، و أعادوا ديانة آمون (1).

و لعل سؤال البداهة الآن: ما صلة كل هذا بأستاذية إخناتون لموسى عليه السلام؟ و هل كانت دعوة إخناتون إرهاصا لدعوة موسى عليه السلام؟

أو هي تمهيد لدعوة التوحيد بين قوم ألفوا تعدد الآلهة، دون أن يجدوا في ذلك أمرا إدّا؟ أم أن إخناتون نبي، كما يرى بعض الباحثين؟

إن الإجابة على واحدة من هذه الأسئلة، لا يستطيع صاحب هذا الكتاب أن يتحمل مسئوليتها أمام اللّه تعالى، أو قل: لا يستطيع أن يتحمل وزر الخطأ فيها رجل صحب القرآن الكريم، و هو لما يعدو السادسة من عمره، و ما يزال و سيظل، إن شاء اللّه في صحبته الكريمة ما دام حيا يرزق في هذه الدنيا، حيث الصحبة الأبدية، إن شاء اللّه، في عالم الآخرة، ذلك لأننا نحن المسلمين ملتزمين بما جاء في محكم التنزيل عن الأنبياء عليهم السلام، و ليس إخناتون، بالتأكيد، واحدا ممن جاء ذكرهم في القرآن الكريم، و في نفس الوقت نحن نعلم كمسلمين، أن موسى عليه السلام، نبي ).

ص: 294


1- أنظر عن النكسة التي أصابت دعوة إخناتون و عودة الوثنية (محمد بيومي مهران: إخناتون ص 383- 421).

اللّه و رسوله، كما نص على ذلك الذكر الحكيم (1)سورة غافر: آية 78.(2)ابن قتيبة: كتاب المعارف ص 26، الماوردي: أعلام النبوة ص 52، مجمع الزوائد 8/210، تفسير ابن كثير 2/ 422- 428، تفسير الكشاف 3/ 18- 19، تفسير القرطبي ص 2014- 2015، تفسير روح المعاني 4/ 88- 89.(3)، بل و نعلم كذلك أسماء خمسة و عشرين من هؤلاء المصطفين الأخيار (4)، غير أننا في الوقت نفسه لا نستطيع القول، و نحن مطمئنون إلى ما نقوله عن إخناتون إنما هو الحق كل الحق، ذلك لأن سبحانه تعالى أخبرنا في كتابه العزيز، أنه ما من أمة إلا و جاءها رسول من عند اللّه، العزيز الحكيم، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (5)، و قال تعالى: وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) ثم يخبر نبيّه و رسوله سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (5)، و قال تعالى: رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (7).

و من هنا كان الخلاف على عدد الأنبياء عليهم السلام، فمن قائل إنهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و من قائل إنهم ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل، و من قائل إنهم أربعة آلاف، و من قائل إنهم ثلاثة آلاف (7)، و أن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة و ثلاثة عشر، أولهم

ص: 295


1- أنظر: عن نبوة موسى عليه السلام: سورة البقرة (87) آل عمران (84) الأنعام (91، 154) الأعراف (103، 104، 144) يونس (75) هود (96)، إبراهيم
2- مريم (51) طه (24، 43، 47) الأنبياء (48) المؤمنون (45) الفرقان (35) الشعراء (10، 16، 27) النمل (10) القصص (32، 36) العنكبوت (39) الأحزاب
3- الصافات (17- 18) غافر (32) الزخرف (46) الدخان (17) الذاريات (38).
4- هم: آدم و إدريس و نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيوب و شعيب و موسى و هارون و يونس و داود و سليمان و إلياس و اليسع و زكريا و يحيى و عيس، و كذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، و سيدهم محمد صلى اللّه عليه و سلم.
5- سورة فاطر: آية 24.
6- سورة الزخرف: آية 6.
7- سورة النساء: آية 164.

آدم، و آخرهم محمد صلى اللّه عليه و سلم (1)، و على أي حال، فليس من المستحب الخوض في إحصاء الرسل و الأنبياء، فإنه لا يعلم إلا بوحي من اللّه تعالى، و لم يبيّن اللّه ذلك في كتابه الكريم، و لا رسوله فيما صح عنه من الخبر (2)، غير أن حديث أبي ذر المشهور، فيما رواه ابن مردوية، و قد جاء فيه أنه دخل المسجد النبوي الشريف، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جالس وحده، فسأله عن أشياء، منها الصلاة و الهجرة و الجهاد و الصيام و الصدقة، ثم قال: يا رسول اللّه كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، قال قلت يا رسول اللّه: كم الرسل من ذلك، قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر، جم غفير، كثير طيب، قلت يا رسول اللّه: من كان أولهم، قال: آدم، قلت يا رسول اللّه نبي مرسل؟ قال نعم، خلقه اللّه بيده، و نفخ فيه من روحه ثم سواه قبيلا، و قد روى هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة، قال قلت: يا نبي اللّه كم الأنبياء؟ قال مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و الرسل من ذلك ثلاثمائة و خمسة عشر، جما غفيرا (3)، غير أن هناك رواية عن أنس بن مالك تذهب إلى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث بعد ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل (4).

و بدهي أنه ليس في كل هذا ما يشير من قريب أو بعيد، على أن إخناتون كان واحدا من أنبياء اللّه الكرام، و إن كانت آيات القرآن الكريم لا تمنع من أن يكون من الذين لم يقصصهم اللّه على رسوله صلى اللّه عليه و سلم، و هذا يعني

ص: 296


1- أنظر: تفسير القرطبي ص 4472 (دار الشعب- القاهرة 1970).
2- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم ص 24.
3- تفسير ابن كثير 2/ 422- 426، مختصر التفسير 1/ 465 مختصر التفسير 1/ 465، ثم قارن سند الإمام أحمد 5/ 265، 266، تفسير روح المعاني 24/ 88.
4- تفسير ابن كثير 2/ 424، مجمع الزوائد 8/ 210.

أن سؤالنا ما يزال بغير جواب، هل كان إخناتون واحدا من أنبياء اللّه الأطهار؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد ملك ثار على دين قومه، و أتى لهم بدين جديد انتهى بانتهاء حياته؟ في الواقع أنه لا توجد لدى صاحب هذا الكتاب إجابة، فإنه لا يعلم الغيب إلا اللّه.

و منها (ثالثا) أن هذا الرأي يذهب إلى أن فرعون الخروج (فرعون موسى) إنما هو «توت عنخ آمون» طبقا لما صرح به «آرثر و يجال» أو لما ارتآه «فرويد»، صاحب النظرية، من أن الخروج تم بعد موت إخناتون بثماني سنوات، و من المعروف أن فترة حكم «توت عنخ آمون» كانت، فيما يرى جاردنر في الفترة (1347- 1339 ق. م) أو في الفترة (1352- 1343 ق. م) فيما ترى «كريستيان نوبلكور»، و كلا التأريخين يقع في الفترة التي حددها «و يجال» (أي في عام 1346 ق. م)، أو ما بين عامي 1350، 1342 ق. م، فيما يرى فرويد، غير أن آخر فحص لمومياء «توت عنخ آمون» في عام 1971، قد أثبتت أن الفرعون الشاب كان عمره في لحظة الوفاة فيما بين الثامنة عشرة و العشرين، كما أثبتت كذلك أنه مات بسبب حادث أو اغتيال، و ذلك من أثر صدمة عنيفة في مؤخر رأسه، قد تكون ضربة من هراوة أو سقوطا من مرتفع (1)، و لم يثبت الفحص أنه مات غريقا، و هو الأمر المؤكد في وفاة فرعون موسى، كما أشارت إلى ذلك التوراة و القرآن العظيم (2).

هذا فضلا عن أن أحداث قصة فرعون مع موسى، و تجبره و عناده و إصراره على الكفر، و وصف اللّه تعالى له في القرآن الكريم بقوله تعالى:

وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، و قوله تعالى:

ص: 297


1- , nemahk natuT, truocelboN. D. C 215، 173. p، 1963.
2- سورة يونس: آية 90- 92، خروج 14/ 26- 31.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (1) و قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (2)، و قوله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (3)، و أخيرا ادعاؤه الألوهية، كما جاء ذلك في كثير من آي الذكر الحكيم (4)، كل هذا و غيره إنما يتناقض و ما نعرفه تاريخيا عن «توت عنخ آمون»، ذلك الطفل الذي ولي العرش صبيا في التاسعة، و ربما الثامنة من عمره، بتدبير من كهان آمون، فمكّن لهم و أطلق أيديهم في شئون الدين و الدنيا، و لم يعمر على عرش الفراعين سوى عقد من الزمان، ثم ذهب غير مأسوف عليه، و إن كانت الأقدار قد حققت لذلك النكرة بين الفراعين أمجادا كان أولى بها غيره من الفرعين العظام، و سبحان علام الغيوب الذي أضاع آثار كبار الفراعين، من أمثال تحوتمس الثالث و رعمسيس الثاني، و أبقى للدنيا آثار نكرة، ما كان لها في تاريخ مصر دور يعتد به، حتى بين المعاصرين لها، و ذلك بسبب الكشف المثير الذي قام به، «هوارد كارتر» في الرابع من نوفمبر عام 1922 م (1342 ه) في طيبة الغربية، حيث عثر على مقبرته بكل ما فيها (5).

و منها (رابعا) أن هذه النظرية لا يمكن أن تكون مقبولة أصلا، إلا إذا كان موسى عليه السلام يعيش فعلا على أيام إخناتون، و أنه، كما يقول جون

ص: 298


1- سورة الزخرف: آية 54.
2- سورة القصص: آية 4.
3- سورة طه: آية 43- 45.
4- سورة الشعراء: آية 29، القصص: آية 38، النازعات: آية 22- 26.
5- أنظر:, nodnoL, sloV 3, nemA- hknA- tuT fo bmoT ehT, retraC drawoH 1933- 1923.

ويلسون، انتهز فرصة الضعف التي سادت أخريات أيام إخناتون و عهد خليفتيه الضعيفين (سمنخ كارع و توت عنخ آمون) ثم نجح مع فريق صغير من الإسرائيليين في الخروج من مصر، و ذلك بأن خادعوا فرعونا من الفراعين، و هربوا إلى صحراء سيناء، و كان ذلك الفريق أكثر العبرانيين تمصرا (1)، و حتى لو صدقنا ذلك كله، فكيف يمكن أن نفسر عدم ذكر إسرائيل في عهد سيتي الأول و رعمسيس الثاني، و المعروف أن «سيتي الأول» أول من عمل على استرداد الإمبراطورية المصرية بعد أزمة العمارنة، فقام بأربع حملات إلى سورية و فلسطين، هذا فضلا عن أن عهد رعمسيس الثاني بالذات، و هو الذي كتب له نجحا بعيد المدى في استرداد الإمبراطورية المصرية في غربي آسيا، و بخاصة في حملة العام الثامن (حوالي عام 1282 ق. م) و التي أخضع فيها كل فلسطين و سورية، بل و وصل إلى أطراف بلاد ما بين النهرين و بلاد الحيثيين (2)، فإذا تذكرنا أن دخول بني إسرائيل فلسطين، طبقا لهذه النظرية، سوف يكون على أيام سيتي الأول (1309- 1291 ق. م) على أساس أن إخناتون مات عام 1350 ق. م، و أن الخروج عام 1342 ق. م، أو حتى ما بين عامي 1350، 1342 ق. م، و دخول فلسطين عام 1302 ق. م، على أساس أن فترة التيه كانت أربعين عاما، كما جاء في التوراة و القرآن العظيم (3)، فهل استطاع بنو إسرائيل حقا دخول فلسطين في عهد سيتي الأول و هل استطاعوا حقا أن ينزلوا بفلسطين كل هذا الدمار و الخراب الذي

ص: 299


1- , tpygE tneicnA fo erutluC ehT, nosliW. J 256. p، 1963.
2- محمد بيومي مهران؛ مصر- الجزء الثاني- الإسكندرية 1984 ص 175- 183، و كذا, AEJ, nruB. A. O. R 195- 194. p، 1921، 7 و كذا, AEJ, renkluaF 39- 37. p، 1947، 33. و كذا, AEJ, kcideoG. H A 79- 72. p، 1966، 52 و كذا, shoarahP eht fo tpygE, renidraG 263- 247. p، 1961. P, tic- po, llagieW. A 159- 157. و كذا.
3- سورة المائدة: آية 26، عدد 14/ 22- 35.

روته التوراة، و رعمسيس الثاني حي يرزق، بل و ما يزال يجلس على عرش الكنانة، و لمدة تقارب ثلاثة أرباع القرن (1290- 1224 ق. م) دون أن ينجح في القضاء على هؤلاء البدو الرحل، و هو الذي كتب له أن يهزم أكبر قوة في عصره، بعد مصر، و هي قوة الحيثيين، ثم يصبح بعد ذلك سيد الشرق كله، و هل من المنطق أن نتصور أنه لم يلتق بهم في حملة السنة الرابعة أو الخامسة أو الثامنة، أو حتى في حملة عامه الحادي و العشرين، ثم كيف استطاع أن يخضع كل فلسطين، و يحارب الحيثيين في شمال سورية، و بنو إسرائيل يعبثون في فلسطين فسادا و ينشرون في ربوعها الخراب و الدمار، بل و يستولون على مدنها الواحدة تلو الأخرى، كما يحلو لمن كتبوا التوراة، أن يصفوا عمالهم، بعد دخولهم فلسطين، بقيادة يشوع بن نون (1)، كل هذه أسئلة لا نجد لها جوابا يتفق و خروج بني إسرائيل من مصر، بعد موت إخناتون بسنوات ثمان، أي في عام 1342 ق. م، طبقا لنظرية «فرويد» هذه.

و من هنا، فإننا نرى «فرويد» نفسه، يتردد في قبول نظريته هذه، ثم يفترض أن موسى عليه السلام، ربما عاش في عصر لاحق لإخناتون (و بهذا يهدم نظريته كلها من أساس) و أن هذا سوف يتأخر بتاريخ الخروج بعض الوقت، و يجعله إلى الزمن المفترض أكثر قربا، أي إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، و إن كان يعود ثانية ليفضل الخروج في أعقاب موت إخناتون (2).

و أخيرا (خامسا) فليس لهذه النظرية من أساس من الآثار و التاريخ

ص: 300


1- أنظر: سفر يشوع، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 601- 622 (الإسكندرية 1978)، ف. ب. ماير: يشوع و أرض الموعد- ترجمة مرقس داود- القاهرة 1949. و كذا, yrotsiH elbiB fo snoitadnuoF ehT, segduJ, auhsoJ, gnatsraG. J 1931.
2- . P, tic- po, duerF. S 36- 35.

تعتمد عليه، غير اعتمادها إلى افتراضات فرويد، هذا فضلا عن معارضتها لكل ما جاء في التوراة و القرآن العظيم بشأن قصة خروج بني إسرائيل من مصر، مثل محاجة موسى فرعون و تقديم المعجزات الباهرة (1)، و تنكيل اللّه تعالى بفرعون و قومه (2)، فضلا عن الجدل الذي طال و استطال حول ألوهية الفرعون المزعومة (3)، و محاولة فرعون قتل موسى (4)، و خروج بني إسرائيل من مصر ليلا (5)، و أن فرعون قد تبعهم و لكن اللّه فرق لهم البحر، فاتخذوا لهم فيه سبيلا إلى النجاة، بينما هلك فرعون و جنده غرقا في البحر (6)، و أن موسى تلقى رسالة ربه على طور سيناء (7)، و غير ذلك من أحداث فصلناها من قبل في قصة موسى عليه السلام، تجاهلها فرويد في نظريته هذه، و ارتضى أن الخروج تم بسهولة لمكانة موسى في مصر، سواء أ كانت هذه المكانة دينية أو سياسية أو عسكرية، و أن التفاصيل التي ذكرتها التوراة عن موسى و الخروج، ليست أكثر من أسطورة دينية تسجل تراثا انحدر من زمن سحيق على نحو يخدم ميولها (8).

و انطلاقا من كل هذا، فإننا نرفض رأي فرويد هذا، لأنه مبني على

ص: 301


1- أنظر: سورة الأعراف: آية 103- 126، طه: آية 17- 24، 42- 76، الشعراء: آية 10- 51، النمل: آية 8- 14، القصص: آية 29- 42.
2- سورة الأعراف: آية 130- 36، خروج 7/ 19- 24، 8/ 11- 32، 9/ 1- 35، 10/ 1- 29.
3- سورة الشعراء: آية 29، القصص: آية 38، النازعات: آية 22- 26، ثم قارن: سورة المؤمنون: آية 45- 49.
4- سورة غافر: آية 26- 28.
5- سورة طه: آية 77، الشعراء آية 52، الدخان: آية 23- 24.
6- سورة البقرة: آية 50، يونس: آية 90- 92، طه: آية 77- 99، الشعراء: آية 52- 68، القصص: آية 40، الدخان: آية 23- 24، الذاريات: آية 40، خروج 14/ 5- 31.
7- سورة طه: آية 9- 16، القصص: آية 29- 35، خروج 3/ 1- 18.
8- . P, tic- po, duerF. S 38.

افتراضات، و أحيانا تخيلات، تتعارض مع الحقائق الدينية و التاريخية، و من ثم فالإيمان بها إنما يتعارض مع إيماننا بما جاء في القرآن الكريم بشأن قصة موسى عليه السلام، و هذا ما نبرأ إلى اللّه منه.

[4] رعمسيس الثاني: هو فرعون موسى:-

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن فرعون موسى الذي حدث الخروج في عهده، إنما هو رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م)، و لعل من أشهر المنادين بهذا الرأي، أو لبرايت و إيسفلت و روكس و أونجر (1)، معتمدين في ذلك على أن رعمسيس الثاني إنما وجد جالية من العبرانيين كبيرة، سخرها فيما اختط له وزراؤه و مهندسوه من العمائر و المنشآت، و كان على أي حال، فيما أثبتت وثائق التاريخ يسخر الأسرى و من حكمهم في إقامة ما يريد، فلقد حفظ لنا من النصوص عند «معبد السبوع» بالنوبة، ما يتحدث فيه، «ستاو» نائب الملك بالنوبة، عما كان من استخدامه أسرى من قبائل «التمحو» (2) غربي مصر في بناء هذا المعبد (3)، و عند معبديه في أبو سنبل، ما يتحدث فيه «رعمسيس عشاحب» عن مليكه من أنه أتى بأفواج العمال من أسرى سيفه من كل البلاد، و أنه ملأ بيوت الأرباب بأبناء «رتنو» (4) الأسيويين.

و من ثم فقد بدأ فريق من المؤرخين يربطون بين الجهود التي بذلت في إنشاء مدينة «بي رعمسيس» (قنتير) و بين ما روته التوراة في قصة الخروج

ص: 302


1- F, Y. N, ytnaitsirhC ot egA enotS eht morF, thgirblA. F. W 194. p، 1957 و كذا, traP, II, HAC ni, sgnirednaW dna sudoxE ehT, tdlefsaiE. O 323- 319. p، 1975، 2 و كذا. P, tic- po, xuoR G 242 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 331
2- أنظر عن التحو (محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 145- 153).
3- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 85.
4- . oN, ERA, detsaerB. H. J 498.

من تسخير فرعون للعبرانيين في إنشاء مدينة ضخمة في أرض جوشن بشرق الدلتا، تقول التوراة «فجعلوا عليهم (أي بني إسرائيل) رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم و رعمسيس» (1)، و اعتمادا على هذا النص رأى البعض أن بني إسرائيل بنوا لفرعون التسخير مدينتين، الواحدة فيثوم، و الثانية رعمسيس، و قد دلت الحفائر على أن الأولى قد أعيد بناؤها، و أن الثانية قد أنشئت في عهد رعمسيس الثاني، و أن الإشارة إلى المدينتين في سفر الخروج لا يمكن أن تكون مصادفة، لأن ذلك إنما يتطابق مع كل ما نعرفه من المصادر الأخرى عن إقامة بني إسرائيل في مصر، لدرجة أنها يمكن أن تعتبر تقاليد يمكن الاعتماد عليها، فإذا كان ذلك كذلك، فإن هذه المعلومات لها وزن تاريخي أكثر من الافتراض المبهم حول الظروف التاريخية، و تاريخ دخول بني إسرائيل مصر.

و انطلاقا من هذا كله، فقد نظر بعض الباحثين إلى رعمسيس الثاني، على أنه «فرعون التسخير» (2)، و هو أمر يتفق تماما مع نشاطه البنائي الكبير، بخاصة و أنه قد استقر في شرق الدلتا، و أن الانطباع العام الذي يعطيه لنا سفر الخروج أن بني إسرائيل إنما كانوا يقيمون في مكان ما ليس بعيدا عن البلاط الملكي في قنتير، هذا فضلا عن أن المزمور (78) إنما يعطينا تأكيدا بأنهم قد عاشوا في «أرض مصر في حقول صوعن» (3)، و صوعن هو الإسم العبري لمدينة «تانيس» (على مبعدة 19 كيلا من قنتير) حيث كان بلاط الفرعون في هذه المنطقة في عهد رعمسيس الثاني، و ليس في فترة مبكرة على أيام تحوتمس الثالث.

ص: 303


1- خروج 1/ 11.
2- . P, tic- po, htoN. M 120.
3- مزمور 78/ 12، 41.

و يذهب «جاك فنجان» (1) إلى أن بني إسرائيل قد استخدموا، بادئ ذي بدء، في عهد «سيتي الأول»، و لكنهم لم يحملوا أثقالهم إلا في أيام رعمسيس الثاني، مما دفعهم إلى الهروب، و في هذا الوقت ولد موسى عليه السلام، و تربى ثم عاش في البرية، و أخيرا عاد إلى مصر، كما يروي سفر الخروج (2/ 1- 25) و هكذا فإن عصر رعمسيس الثاني يجب أن يكون عصر رحيل القوم المستعبدين، و من ثم فيجب أن يكون وصول الإسرائيليين إلى فلسطين و توغلهم في البلاد و التقاء مرنبتاح بهم في حوالي عام 1220 ق.

م، و هذا بالكاد يعطيهم الوقت للتيه في البرية مدة الأربعين سنة، و ربما كان هذا الرقم تقليديا، لأن التيه في الواقع كان أقصر من ذلك (2)، و أما «وليم أولبرايت» فيحدد عام 1290 قبل الميلاد، تاريخا للخروج، على أساس أن حكم رعمسيس الثاني في رأيه كان في الفترة (1301- 1234 ق. م) و أن السنين العشرة الأولى من حكمه قد شغلت بالنشاط العمراني الكبير في المدينة التي حملت اسمه (بررعمسيس) (3)، و يذهب «كيلر» إلى أن المطابقة المدهشة بين هذا التاريخ (أي عام 1290 ق. م) و بين طول مدة إقامتهم بمصر، و التي يحددها سفر الخروج (12/ 40) بمدة 430 سنة، تكاد تكون تامة، و هي في نفس الوقت جديرة بالاعتبار، و من ثم فإن الهجرة الإسرائيلية إلى مصر يجب أن تكون قد حدثت في عام 1720 ق. م (4).

غير أن هناك من العقبات ما يقف في وجه قبولنا لوجهة النظر هذه، منها

ص: 304


1- . P, tic- po,. nageniF. J 134، 120.
2- إن فترة التيه أربعون سنة على وجه التأكيد كما تشير إلى ذلك و الإنجيل و القرآن العظيم (سورة المائدة: آية 26، عدد 14/ 33، أعمال الرسل 7/ 36).
3- . P, tic- po, thgirblA. F. W 194. و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 332
4- جون الدر: الأحجار تتكلم ص 55 (كترجم)، و كذا, yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 1967، 122- 121. P.

(أولا) أنها تجعل من رعمسيس الثاني فرعونا للتسخير و للخروج في آن واحد، و هذا يتعارض مع بعض نصوص التوراة، التي تفرق بينهما (1)، هذا و قد أشرنا من قبل، إلى تحريض الملأ من قوم فرعون على أن يقوم فرعون، بعد إيمان السحرة بدعوة موسى، و فضيحة فرعون أمام موسى بين الناس، بمذبحة جديدة بين بني إسرائيل، و إلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ، قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (2)، و قال تعالى: قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (3)، و نحن نعرف أن بني إسرائيل قد عانوا من قبل، من إبان مولد موسى مثل التنكيل الوحشي من فرعون و ملئه، كما يقول تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)، و من ثم فهناك، فيما يرى صاحب الظلال، أحد احتمالين، أولهما: أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر الأخير، كان قد مات و خلفه ابنه و ولي عهده، و لم يكن الأمر منفذا في العهد الجديد، حتى جاء موسى و واجه الفرعون الجديد، الذي كان يعرفه و هو ولي العهد، و يعرف قصته، و الاحتمال الثاني أن فرعون الذي تبنى موسى ما يزال على عرشه، و لكنه تراخى أو وقف ذبح الأبناء و استحياء النساء، فالحاشية تشير بتجديده، و تخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب

ص: 305


1- خروج 2/ 23- 25، 4/ 19.
2- سورة الأعراف: آية 127.
3- سورة غافر: آية 25- 26.
4- سورة القصص: آية 4.

و التخويف (1)، و بدهي أن الاحتمال الأول يثير الشك حول أن يكون رعمسيس الثاني هو فرعون الخروج.

و منها (ثانيا) أن الفترة الأولى من حكم رعمسيس الثاني، و التي شغلت ببناء المدينة، كما يقول أصحاب هذا الرأي، لا تتناسب، مدة بقاء موسى في مدين أربعين عاما، كما تقول التقاليد اليهودية و المسيحية (2)، و إن كنا نحن المسلمين لدينا ما يتناقض ذلك، ذلك أن اللّه تعالى قد أخبرنا في كتابه الكريم أنها سنون ثمان أو عشرا، و هو الأرجح، كما بينا من قبل، قال تعالى: قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (3)، و منها (ثالثا) أننا لا نستطيع حتى الآن أن نحدد تاريخا معينا لبناء مدينة «بر رعمسيس» بالنسبة إلى عهد الفرعون، فضلا عن أن يكون ذلك في العقد الأول منه بالذات، و هو الذي حدثت فيه كل حروبه تقريبا في غربي آسيا (حملات العام الرابع و الخامس و الثامن من حكمه)، و من ثم فربما كان النصف الثاني من عهد رعمسيس الثاني أكثر ملاءمة لبناء المدينة من النصف الأول، و أن لزواجه ببنت ملك الحيثيين «خاتوسيل» في عام حكمه الرابع و الثلاثين (حوالي عام 1256 ق. م)، نتيجة لمعاهدة التحالف بين البلدين في العام الحادي و العشرين من عهد رعمسيس الثاني (حوالي عام 1269 ق. م) إلى جانب أسباب أخرى، أثر في بناء المدينة،

ص: 306


1- في ظلال القرآن 5/ 3077- 3078، و انظر: البداية و النهاية 1/ 250.
2- خروج 7/ 7، أعمال الرسل 7/ 23، 30، قاموس الكتاب المقدس 2/ 931، شاهين مكاريوس: تاريخ الأمة الإسرائيلية- القاهرة 1904 ص 40.
3- سورة القصص: آية 27- 28.

مما يجعل بناءها في فترة متأخرة من عهده، و ليس، على أية حال، في العقد الأول من عهده (1).

و منها (رابعا) أن فترة التيه، و هي أربعون سنة، ليست رقما تقليديا، كما يقول أصحاب هذا الرأي، و إنما هي حقيقة دينية و تاريخية مؤكدة كل التأكيد، ذلك أن هذا الرقم إنما جاء في التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم (2)، و بدهي أنه ليس من العلم، فضلا عن الإيمان بكتب السماء، أن نشك في أمر أجمعت عليه هذه الكتب، و منها (خامسا) أن القول بدخول بني إسرائيل مصر عام 1720 ق. م، أمر غير مقبول، لأنه يجعل دخولهم مصر مع أو قبل دخول الهكسوس مصر، ذلك لأن الهكسوس، طبقا للوحة الأربعمائة سنة (3)، قد دخلوا مصر ما بين عامي 1730، 1720 ق. م، بل إن «ردفورد» إنما يذهب إلى أن بداية حكم الهكسوس في مصر يجب أن تكون في وقت ما في السنوات العشر التي تقع ما بين عامي 1660، 1649 قبل الميلاد (4)، و من المعروف، كما فصلنا من قبل، أن يوسف عليه السلام دخل مصر على أيام الهكسوس و بعد فترة لا تقل عن ربع قرن بحال من الأحوال، استدعى أباه و إخوته، بل إن هناك، كما رأينا من قبل، من يجعل دخول بني إسرائيل مصر على أيام أمنحتب الثاني (1436- 1413 ق. م)، و إن كنا نرجح الرأي الأول، الذي يذهب إلى أنهم دخلوا على أيام الهكسوس، و من ثم فإن هذه الفترة من دخول بني إسرائيل مصر و حتى خروجهم منها، كما

ص: 307


1- أنظر: محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث- الإسكندرية 1969 ص 46- 62، مصر- الجزء الثاني- الإسكندرية 1984 ص 175- 183.
2- سورة المائدة: آية 26، عدد 14/ 33- 34، أعمال الرسل 7/ 36، 42.
3- أنظر: محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة- القاهرة 1976 ص 137- 139، و كذا na'L ed eletS eL, tetnoM. P 400،, VI, imeK 215- 191. p، 1933.
4- ,abatneirO ,noitidarT dna yrotsiH ni noisavnI soskyH ehT ,drofedR .B .D 28. p، 1970، 39.

يرى أصحاب هذا الرأي، لا تتفق و بقائهم في مصر مدة 430 سنة، و بالتالي فإن رعمسيس الثاني قد يكون فرعون التسخير، و لكنه ليس فرعون الخروج.

[5] مرنبتاح: هو فرعون موسى:-

يعتمد أصحاب هذا الرأي الذي يذهب إليه مرنبتاح (1224- 1214 ق. م) هو فرعون موسى، على نص التوراة الخاص ببناء مدينتي فيثوم و رعمسيس (1)، و على ما جاء في «لوح إسرائيل» (2)، و الذي ذكر فيه اسم إسرائيل لأول مرة في النصوص المصرية، و هكذا رأت جمهرة كبيرة من المؤرخين أن مرنبتاح هو فرعون الخروج، و أن أباه رعمسيس الثاني هو فرعون التسخير، و تتفق آراء «نافيل» و «بتري» و «سايس» على أن خروج بني إسرائيل من مصر إنما حدث على أيام مرنبتاح، ذلك لأن «نافيل» ظل متمسكا برأي «لبسيوس» من أن رعمسيس الثاني هو مضطهد اليهود، و أن ولده مرنبتاح هو الفرعون الذي خرجوا في عهده من مصر (3)، و أما «سايس» فإنه يرى أن الآثار المصرية إنما تحصر هذا الحادث في عصر مرنبتاح (4)، و أما «بتري» فيرى في كتابه «تاريخ مصر» (5) أن الخروج تم في عصر مرنبتاح، و في عام 1213 ق. م بالذات، ثم يقدم لنا في كتابه «مصر و إسرائيل» (6) التقويم التالي: دخول بني إسرائيل مصر في عام 1650

ص: 308


1- خروج 1/ 11.
2- لوح إسرائيل: محفوظ بالمتحف المصري بالقاهرة برقم 25 340، و قد عثر عليه «بتري» عام 1896 م في خرائب معبد مرنبتاح الجنازي في طيبة الغربية، و قد نشره كثير من العلماء، منهم بتري و برستد و كونتز و إرمان و ويلسون و غيرهم.
3- , nodnoL, tnematseT dlO ehT fo ygoloeahcrA, ellivaN. E 93. p، 1913.
4- , nodnoL, sutodoreH dna swerbeH ehT fo tpygE ehT, ecyaS. H. A 1896.
5- , nodnoL, III, tpygE fo yrotsiH A, eirteP. F. M. W 115. p، 1927.
6- , nodnoL, learsI dna tpygE, eirteP. F. M. W 38. p، 1925.

م، و بداية الاضطهاد في عام 1580 ق. م، ثم الخروج من مصر في عام 1220 ق. م، و بناء معبد سليمان في عام 973 ق. م، و أن الاضطهاد قد استمر، طبقا للتقاليد اليهودية و المسيحية، أربعة قرون (1).

و يرى الدكتور عبد الحميد زائد أن حفائر «بيير مونتيه» في تانيس إنما تثبت صحة الرأي القائل بخروج اليهود في عهد مرنبتاح، و أنه لا يوجد أي نشاط لملوك الأسرة الثامنة عشرة هناك، فقد كانت «بي رعمسيس» من إنشاء رعمسيس الثاني، و ليست من عمل ملك آخر، و قد جاء في المزامير (12، 43، 138) ما يفيد أن الحوادث التي سبقت خروج اليهود قد وقعت في تانيس، و تميل جمهرة العلماء إلى ترجيح خروج بني إسرائيل من مصر في الأيام الأولى لعهد مرنبتاح (2)، و أما «فيليب حتى» فيرى أن الفرعون الذي «لم يكن يعرف يوسف» إنما هو رعمسيس الثاني، و أن الخروج قد حدث على أيام ولده مرنبتاح (3)، و أما «رولي» فالرأي عنده أن الخروج كان في عهد مرنبتاح، و في عام 1225 ق. م (4)، و لعل من الأفضل أن نناقش أدلة المعارضين و المؤيدين كل على حدة.

(1) أدلة المعارضين و مناقشتها:-

ما ذهب إليه أستاذنا الدكتور أحمد فخري طيب اللّه ثراه، من أن تحقيق هذا الموضوع من تاريخ العبرانيين و احتساب الزمن، ثم ما جاء من نتائج التنقيبات الأثرية في فلسطين، جعل خروج بني إسرائيل في عهد

ص: 309


1- تكوين 15/ 13، أعمال الرسل 7/ 6.
2- عبد الحميد زائد: الشرق الخالد- القاهرة 1966 ص 378.
3- فيلب حتى: تاريخ سورية و لبنان و فلسطين- بيروت 1958، 1/ 193 (مترجم).
4- , nodnoL, auhsaJ ot hpesoJ morF, yelwoR. H. H 550. p، 1950. و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 332.

مرنبتاح أمرا غير مؤكد (1)، و يجب أن يكون في عهد الأسرة الثامنة عشرة، إلا أنه حتى الآن لم توجد أدلة أثرية تؤيد هذا الرأي (2)، و منها (ثانيا) ما عرف بتقرير موظف الحدود، و الذي يذكر صاحبه أنه سمح لقبائل البدو من أدوم بالعبور من قلعة مرنبتاح لرعي ماشيتهم بالقرب من فيثوم، و من البدهي أن هذا لا يمكن أن يحدث لو كان الإسرائيليون لا يزالون بمصر، حتى كتابه التقرير في السنة الثامنة من عهد مرنبتاح (3)، و منها (ثالثا) ما يراه البعض من أن هذه النظرية إنما تضعف بحقيقة أن جسد الفرعون قد وجد في طيبة الغربية، و بذلك فلا يمكن أن يكون قد غرق في البحر الأحمر، طبقا للتقاليد الإسرائيلية (4)، و منها (رابعا) أن مرنبتاح قد اعتبرهم من نزلاء فلسطين، و لم يذكر أنهم كانوا من رعايا أرض الكنانة، و هذا يعني أن بني إسرائيل قد نزلوا فلسطين قبل عهد مرنبتاح، و بالتالي فقد خرجوا من مصر قبل عهده (5).

و يمكن الرد على ذلك في النقاط التالية، و التي منها (أولا) أن لوح إسرائيل الذي يرى البعض أنه اعتبرهم من نزلاء فلسطين، و بالتالي فقد خرجوا قبل عهد مرنبتاح، قد جاء فيه بعد المقدمة «الأمراء منبطحون يصرخون طالبين الرحمة، و ليس من بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، الخراب للتحنو، بلاد خاتي هادئة، و كنعان قد استلبت في قسوة، و أخذت عقلان، و قبض على جازر، و صارت ينوعام كأن لم يكن لها وجود،

ص: 310


1- أحمد فخري: مصر الفرعونية- القاهرة 1971 ص 359.
2- محمد عبد القادر: الساميون في العصور القديمة ص 197.
3- , TENA, nosliW. A. J 259- 258. p، 1966. و كذا, rammarG naitpygE, renidraG. H. A 77- 76. p، 1966. . oN, III, ERA, detsaerB. H. J 638- 636. و كذا.
4- خروج 14/ 26- 31، 15/ 1- 21، و كذا, drofXO, tpygE fo ycegL ehT, yelretseO. E. O. W 223. p، 1947.
5- عبد العزيز صالح: مصر و العراق ص 236،, traP, II, HAC, renkluaF. O. R 234. p، 1975، 2.

و إسرائيل قد خرجت و أزيلت بذرتها، و أصبحت خارو أرملة لمصر» (1)، فالنص إذن يتحدث عن جهود الفرعون في السنة الخامسة من الحكم عن جهود الفرعون الحربية ضد الأقواس التسعة، و التي يرى «جاردنر» أنها الشعوب المختلفة في و على حدود مصر (2)، و ضد التحنو و خاتي (الحيثيين) و كنعان، ثم ضد عقلان و جازر و ينوعام و إسرائيل و خارو، و ليس في هذا من دليل على أن بني إسرائيل كانوا في فلسطين وقت ذاك، لأن النص إنما يتحدث عن حروب الفرعون في فلسطين، و حروبه ضد الحيثيين، أي خاتي، و هي دولة، و عن تحنو و إسرائيل، و هما أقوام، و عن عقلان و جازر و بنو عام، و هي مدن، أي عن حروب مرنبتاح في مصر، و خارج مصر، على الحدود الشرقية و الغربية، بل و قد تجاوز ذلك حتى بلاد الحيثيين (آسيا الصغرى).

هذا فضلا عن أن اسم «إسرائيل» في النص إنما كان مصحوبا بالمخصص الذي كان يشار به إلى «قوم» و ليس إلى «منطقة» مثل ليبيا و عقلان و جازر و بنو عام، و من هنا يمكن أن نستنتج أن إسرائيل كانت ما تزال قبيلة أو مجموعة قبائل، و لم تكن بعد مثل الليبيين و الحيثيين تسكن منطقة مأهولة بالسكان منذ فترة طويلة (3)، و يفسر الدكتور عبد الحميد زائد (4)، ذلك بأن المخصص الذي كتب به الإسرائيليون، يختلف عن المخصصات التي كتبت بها بقية الجماعات التي هزمت أو الأقطار التي قضى عليها مرنبتاح، فجميع تلك البلاد قد وضع لها المخصص الخاص بالبلاد الأجنبية، أما اسم

ص: 311


1- .P ,tic -po ,renidraG .A cihpylgoreiH naitpygE tneicnA fo yhpargilbiB lacihpargopoT ,ssoM .L .R dna retroP .B 273. و كذا. P, II, stxeT 159
2- , shoarahP ehT fo tpygE, renidraG. A 303. p، 1964.
3- . P, tic- po, sdoL. A 188- 187.
4- عبد الحميد زائد: المرجع السابق ص 746.

«إسرائيل» فقد مثل برجل و امرأة و ثلاثة خطوط رأسية خاصة بالجمع، و لا سبيل في هذه القصيدة إلى التشكيك بما قد يقال من احتمال خطأ الكاتب المصري القديم و سهوه، كما ذهب إلى ذلك «جون ويلسون» (1)، و من ثم فهذا المخصص على هذه الصورة إنما يشير إلى أقوام أجانب أو قبائل أجنبية، و ليس إلى أرض أجنبية (2)، و في الواقع أننا لو نظرنا إلى ترتيب المناطق، كما جاء على اللوح، فإننا نجد أنها قد كتبت من الشمال إلى الجنوب، و من الجنوب إلى الشمال، في داخل كل قطاع، و لا شك في أن الكتاب المصري إنما كان موفقا واعيا، فلقد وردت أسماء الشعوب و البلاد الأجنبية في ذلك النص تسع عشرة مرة، لم يغفل رسم الأرض الأجنبية في واحدة منها، مما سبق اسم إسرائيل أو لحق به، بل كان من دقته أنه في ذكر اسم الشرطة المصرية و قد كان رجالها يتخذون من بجاة النوبة، قد اقتصر مع رسم رمز الناس، على رمز يدل على الأجنبي، دون رسم الأرض، لأنهم في غير أرض لهم (3).

و انطلاقا من هذا كله، يمكننا القول أن إسرائيل إنما ذكرت على أنهم أقوام عاشوا على الحدود المصرية، و أنهم كانوا لا وطن لهم طوال تاريخهم، و من ثم فإن التوراة تسميهم «أبناء إسرائيل»، و أنهم ليسوا سكان هذه الأرض أو تلك، و من ذلك نعرف أن عناصر النقش نفسه إنما تعارض القول بأن الإسرائيليين كانوا يسكنون فلسطين، بل على العكس، فإنها تميل إلى أن الأرض التي كانت، في نظرهم، تفيض بالمن و السلوى لم تكن قد احتلت بعد، إذ كانت كنعان ما تزال بعد، الأرض الموعودة، و لم تصبح بعد

ص: 312


1- . P, TENA, nosliW. A. J 378، oN. 18.
2- , egdirbmaC, 2, traP, HAC, tdlefssiE. O 544. p، 1975.
3- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 145.

الأرض المملوكة، و إذا اعترفنا بذلك، فضلا عن أهمية الرموز المختلفة المخصصة التي استعملت للأقوام المختلفين و إذا قبلنا ترجمة «إدوارد نافيل» و رأيه في كلمة «بذرة»، فمن البدهي إذن القول بأن النقش يشير هنا إلى خروج بني إسرائيل من مصر، و في الوقت نفسه، فإنه يعني أن جنسا أجنبيا من البدو و يدعى «إسرائيل» قد خرج من مصر، و من ثم يصبح لا وجود لهم بالنسبة إلى مصر، و الواقع أن ما جاء في متن هذا اللوح، على ما يظن، إنما يعدو سجلا معاصرا لخروج بني إسرائيل من مصر، كما يدل على أنه قد وقع في السنة الخامسة من عهد مرنبتاح، فيما يعتقد «نافيل» (1).

و منها (ثانيا) أن تقرير موظف الحدود إنما يتحدث عن السماح لبدو أدوم بالعبور من قلعة مرنبتاح في العام الثامن من حكم مرنبتاح، و من المعروف أن بدو أدم ليسوا من بني إسرائيل، و إن كانوا أبناء عمومة، فالإسرائيليون إنما هم أبناء يعقوب عليه السلام، و الذي لقب «إسرائيل» (2)، و أما الأدوميون فهم أبناء شقيقه التوأم «عيسو» (العيص من المصادر العربية) و الذي دعي «أدوم»، و بدهي أن الذين لجأوا إلى مصر من قحط كنعان إنما هم الإسرائيليون أبناء يعقوب، و ليسوا الآدوميين أبناء عيسو، هذا و قد كان الآدوميون وقت خروج بني إسرائيل من مصر، و تجوالهم في التيه، فيما تروي التوراة (3)، يسكنون في شرق الأردن، مكونين مملكة قوية ذات حضارة مزدهرة (4)، كما كان لهم موقف معارض من الإسرائيليين، حتى أنهم منعوهم من أن يمروا في طرقهم (5)، كما أن كلمة «بدو» تعادل الكلمة

ص: 313


1- سليم حسن: مصر القديمة 7/ 112، و كذا, AEJ. ellivaN. E 6- 3. p، 21.
2- أنظر عن لقب «إسرائيل» (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 29- 32، 199- 205).
3- عدد 20/ 14- 17.
4- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 547- 552، و كذا. P, tic- po, nageniF. J 152.
5- عدد 20/ 22- 29.

المصرية «شاسو»، و هم يمثلون القبائل الأسيوية المحيطة بمصر بصفة عامة، هذا فضلا عن أن لنا رأيا خاصا فيما يختص بتاريخ الخروج في عهد مرنبتاح، يتفق و ما جاء في القرآن الكريم عن غرق الفرعون في البحر، و هو ليس في السنة الخامسة على أية حال، كما سنشير إليه في مكانه من هذه الدراسة.

و منها (ثالثا) أن تحقيق تاريخ الخروج و احتساب الزمن، و نتائج الحفريات الأثرية في فلسطين، إنما تؤيد هذا الرأي و لا تعارضه، ذلك أننا لو افترضنا أن الخروج كان في السنة الخامسة من عهد مرنبتاح، كما يقول الكثير من العلماء، أي في عام 1220 ق. م، ثم عدنا إلى الوراء مدة 430 سنة، و هي المدة التي حددتها التوراة (1) لإقامة بني إسرائيل في مصر، لوصلنا إلى عام 1650 ق. م، و هو تاريخ دخول بني إسرائيل مصر، و هو تاريخ يتفق تماما مع عصر الهكسوس، إلا إذا قبلنا وجهة نظر النص السبتاجوني، و الذي بكلمة واحدة تختزل هذه المرحلة إلى النصف، و أما التنقيبات الأثرية، فقد ناقشناها من قبل، و تبيّن لنا أنه لا يوجد حتى الآن دليل أثري واحد نستطيع أن نحدد به وقت دخول بني إسرائيل أرض كنعان، بل إن حفائر «فيشر» في بيسان (بيت شان القديمة) قد كشفت عن قلعة مصرية عثر بها على لوحات من عهد سيتي الأول و رعمسيس الثاني، بل و كذا تمثال لرعمسيس الثالث من الأسرة العشرين، و يقول «فيشر» إن هذه الآثار إنما تقدم برهانا كافيا على أن بيسان ظلت في أيدي المصريين فعلا، من عام 1313 إلى عام 1167 ق. م، و قد أثبتت الحفائر المتوالية أن أيدي الرعامسة ظلت قوية باستمرار على الأرض الموعودة (2).

ص: 314


1- خروج 12/ 40- 41.
2- , AEJ, renidraG. A 88. p، 1924، 10.

و منها (رابعا) أن اكتشاف جثة مرنبتاح في طيبة الغربية، و تناقض ذلك مع التقاليد العبرية التي ترى أن الفرعون غرق في البحر الأحمر، إنما تلك وجهة نظر التوراة، كما جاءت في سفر الخروج (1)، و لكننا نحن المسلمين لدينا ما يناقض ذلك تماما، فلقد أخبرنا اللّه تعالى في القرآن الكريم أن الفرعون قد أنجى ببدنه بعد غرقه، ليكون آية لمن خلفه، كما أشرنا إلى ذلك من قبل بالتفصيل، و صدق اللّه العظيم، حيث يقول: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (2)، و من ثم فإن وجود جثة مرنبتاح بين جثث الفراعين لا تحل المشكلة، كما أنها لا تعقدها كذلك، هذا فضلا عن أن كل الفراعين الذين دارت حولهم روايات تاريخ الخروج، و أيهم فرعون موسى، من أمثال أحمس الأول و تحوتمس الثالث و أمنحتب الثاني و توت عنخ آمون و رعمسيس الثاني و مرنبتاح و سيتي الثاني، قد اكتشفت جثثهم (3)، و في هذا إعجاز للقرآن ما بعده إعجاز.

و منها (خامسا) أن نص التوراة (ملوك أول 6/ 1) و الذي يتحدث عن إقامة سليمان عليه السلام، لهيكله بعد خروج بني إسرائيل من مصر بمدة 480 سنة، و الذي اعتبره بعض العلماء المادة الأساسية في المشكلة (4)، فقد ناقشناه من قبل، و تبيّن لنا مدى الصعوبات التي تقف عائقا في وجه قبولنا إياه، فضلا عن أن هذا الرأي الذي يرجح الخروج في عهد مرنبتاح، إنما يعتمد كذلك على نص توراتي آخر (خروج 1/ 11) و الذي يتحدث عن

ص: 315


1- خروج 14/ 26- 31، 15/ 1- 21.
2- سورة يونس: آية 92، و انظر: تفسير الطبري 15/ 194- 198، تفسير القرطبي ص 3218- 3220، تفسير ابن كثير 4/ 326- 329، تفسير المنار 11/ 387- 390.
3- أنظر: سليم حسن: مصر القديمة 4/ 217، 501، 692- 693، 6/ 357- 359، 8/ 673- 698، أحمد فخري: مصر الفرعونية ص 390- 392 ألن جاردنر: مصر الفراعنة ص 350- 351، و كذا F. P, tic- po, truocelboN. D. C 215، 173.
4- , nagihciM, tnematseT dlo ehTdna ygoloeahcrA, regnU. F. M 141. p، 1954.

تسخير بني إسرائيل في مدينتي فيثوم و رعمسيس، و هكذا استطاع العلماء أن يستخرجوا من التوراة تاريخين للخروج في وقتين مختلفين، يكاد الواحد منهما يبعد عن الآخر بأكثر من قرنين من الزمان.

(1) أدلة المؤيدين و مناقشتها:

و هكذا يبدو لنا مما سبق بوضوح أن أدلة المعارضين لهذا الرأي الذي يرجح أن مرنبتاح هو فرعون الخروج (فرعون موسى) لم تكن بكافية لإسقاطه، أو حتى صرف النظر عنه، بل إننا نستطيع أن نعضده بحجج أخرى، غير ما ذكرنا، منها (أولا) أن التوراة إنما تذكر أن مدينة «رعمسيس» (بر رعمسيس) كانت هي المدينة التي بدأت منها مسيرة الإسرائيليين نحو سيناء، حيث التيه أربعين سنة، و من المعروف أن مدينة «بر رعمسيس» إنما كانت من إنشاء رعمسيس الثاني وحده، و ليس من عمل ملك آخر، بل إننا لنعرف أنه ابتداء من عصر هذا الفرعون قد انتقل مركز الثقل من الصعيد إلى شرق الدلتا، حيث المدينة التي حملت اسمه، و غدت عاصمة البلاد على أيام الرعامسة (2)، و منها (ثانيا) أنه من المعروف تاريخيا أن رعمسيس الثاني (1290- 1224 ق. م) إنما قدّر له أن يجلس على عرش الكنانة 67 عاما و هي أطول فترة عرفها التاريخ المصري لحكم ملك من الملوك، إذا استثنينا ببي الثاني الذي حكم 94 عاما (2)، و من ثم فهو قد حكم الفترة التي تتطلبها التقاليد الإسرائيلية، كما جاءت في التوراة، بشأن هروب موسى إلى مدين ثم بقائه هناك أربعين عاما، حتى إذا ما علم بوفاة الفرعون عاد إلى مصر لإطلاق سراح بني إسرائيل (3)، و إن اختلفت وجهة النظر الإسلامية في

ص: 316


1- أنظر: محمد بيومي مهران: مصر 1/ 442- 443، 2/ 130.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 46- 62، مصر- الجزء الثاني ص 133- 136.
3- خروج 2/ 23، 4/ 19، 7/ 7، أعمال الرسل 7/ 30، قاموس الكتاب المقدس 2/ 931، شاهين مكاريوس: المرجع السابق ص 40.

هذه المدة، فهي في القرآن الكريم، سنون ثمان، و الأرجح أنها كانت عشرا (1)، كما أشرنا من قبل.

و منها (ثالثا) أن القائمة القديمة «للملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبل ما ملك ملك لبني إسرائيل (2)، لا تذكر إلا ثمانية ملوك بين «بالع بن بعود»، و الذي وحّد ببلعام بن باعور، طبقا لتقاليد جاءت في التوراة (3) و بين هدار، فإذا سمحنا بفترة من 25 إلى 30 سنة، كحد وسط لكل عهد، فسوف نحصل على مجموع من السنوات ما بين مائتين و أربعين عاما، و هذه الفترة تتناسب مع الفترة منذ خروج بني إسرائيل من مصر، طبقا لهذه النظرية، و بين قيام ملكية شاؤل (طالوت في القرآن) قبل القرن العاشر قبل الميلاد، بعقد أو عقدين من الزمان (4)، و منها (رابعا) أن هذه النظرية التي تذهب إلى أن مرنبتاح هو فرعون موسى، إنما يمكن أن تعطينا تفسيرا لما حدث في فلسطين في الفترة من 1400 إلى 1300 ق. م (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) فيما يتصل بوجود أسماء «شمعون» و «أشير»، فربما كانا اسمين لمجموعتين عبريتين لم تهاجر إلى مصر، و هذا يخالف التقاليد العبرية (5) فضلا عما جاء في القرآن الكريم بشأن دعوة يوسف عليه السلام أهله أجمعين إلى مصر (6)، أو ربما كانا اسمين لأماكن أو مدن كنعانية، أطلقها الإسرائيليون عليها فيما بعد، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و ربما كان نفس الشي ء صحيحا بالنسبة

ص: 317


1- سورة القصص: آية 27- 28.
2- تكوين 36/ 31- 39.
3- عدد 22/ 14- 41.
4- أنظر عن قيام ملكية شاؤل (طالوت): محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 668- 674 (الإسكندرية 1978).
5- تكوين 46/ 26- 27.
6- سورة يوسف: آية 92- 100.

إلى «يعقوب إل» و «يوسف إل» (1).

و منها (خامسا) أن الفترة الأولى من عهد مرنبتاح قد تميزت بالاضطرابات و الحروب، مما اضطره إلى الخروج إلى غربي آسيا، لإخماد ثورة شبت هناك في السنة الثالثة من حكمه، أو لأن شعوب البحر كانت قد وصلت إلى حدوده الشرقية في تلك السنة، و من ثم فقد زحف إلى فلسطين و سورية، ثم وجه إلى العصاة ضربة قاسية انتهت بإذلالهم (2)، و رغم أن البعض يرى أن مرنبتاح، الذي كان مهددا في دولته بالليبيين، لا يمكن أن يقوم بفتوحات في فلسطين و سورية في السنتين الأولى و الثانية من حكمه، فإن العلماء يكادون يجمعون على قيامه بهذا النشاط الحربي في فلسطين (3)، و لعل مما يؤكد ذلك نعت «قاهر جازر» الذي نلتقي به في نقش معبد عمدا، هذا فضلا عن أنه من العسير أن نوافق على أن نص «لوح إسرائيل» مختلف تماما، إذ يصعب عندئذ أن نجد تفسيرا مقبولا في قائمة الأقاليم المذكورة، بل إن مجرد ذكر إسرائيل يخلع على النص شبهة من الحق لا يمكن إنكارها، لأنه لم يرد في أي نص مصري من قبل (4)، و أيا ما كان الأمر، ففي السنة الخامسة من عهد مرنبتاح تتعرض حدود مصر الغربية للخطر، ذلك أن شعوب البحر، فضلا عن قبائل «ريبو»، أخذوا يتدفقون نحو غرب الدلتا، فخرج إليهم الفرعون بقواته، حيث دارت بين الفريقين معركة حامية الوطيس، انتهت بهزيمة ساحقة للغزاة (5)، و إن اختلف

ص: 318


1- . P, tic- po, sdoL. A 188.
2- محمد بيومي مهران: مصر 2/ 183- 184، دريوتون و فاندييه: مصر ص 480، و كذا, tic- po, detsaerB. J 166- 165. p. و كذا, EASA, niargeL. G 279- 269. p، 1901، 2. و كذا. P, TENA 378- 376.
3- . P, tpygE tneicnA fo erutluc ehT, nosliW. J 255. و كذا, AEJ, ellivaN. E 196. p، 1915، 12.
4- . P, tic- po, renidraG. A 273.
5- fo retpecS ehT, seyaH. C. W و كذا. P, tic- po, nosliW. J، 255- 254، L, LSJA 76- 75. p، 1935، 1, dravraH, II, tpygE 353. p، 1959.

المؤرخون في مكانها، و لعل أرجحها ما ذهب إليه «بتري» (1) من أنها كانت في مكان بين الضهرية (11 كيلا من كوم حمادة) و بين النجيلية (15 كيلا من كوم حمادة) بمحافظة البحيرة، و على أي حال، فأكبر الظن، أنه في هذه الأوقات العصيبة بدأ تفكير الإسرائيليين في الهروب من مصر، دون إذن من الفرعون الذي رفض السماح لهم بالخروج مرارا، بل إن «جان يويوت» يرى أن الهروب إنما تم أثناء الزحف الليبي نفسه (2)، و لعل هذا يفسر قول التوراة على لسان فرعون «فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا و يحاربوننا و يصعدون من الأرض» (3)، على أن ما جاء في القرآن الكريم إنما يفيد أن الخروج لم يكن بتدبير من بني إسرائيل، و إنما كان بأمر من اللّه لموسى، و كان ليلا، و ذلك حين أحس موسى عليه السلام أن القوم لن يؤمنوا له، و لن يستجيبوا لدعوته، و لن يسالموه أو يعتزلوه فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، و أجابه ربه الكريم فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، و السري لا يكون إلا ليلا، فالنص عليه يعيد تصوير مشهد السري بعباد اللّه، و هم بنو إسرائيل، ثم للإيحاء بجو الخفية، لأن سراهم كان خفية عن عيون فرعون و من وراء علمه (4)، فإذا كانت هناك علاقة بين سري بني إسرائيل ليلا بين الحرب الليبية، فلا بد أن تكون في أعقابها بفترة ما، و ليس أثناءها، لأن الفرعون سرعان ما لحق بالقوم قبل أن يعبروا البحر، فأتبعهم بجنوده، حيث غرقوا جميعا، و نجا موسى و من معه، هذا فضلا عن هذه الحرب كانت في السنة الخامسة، و من المعروف أن فرعون غرق في البحر أثناء مطاردته لبني إسرائيل، و من ثم فإن الخروج يجب أن يكون في السنة

ص: 319


1- , nodnoL, III, tpygE fo yrotsiH A, eirteP. F. M. W 109. p، 1927.
2- جان يويوت: مصر الفرعونية- القاهرة 1966 ص 140 (مترجم).
3- خروج 1/ 10.
4- سورة الدخان: آية 22- 23، و انظر: سورة طه: آية 77، الشعراء: آية 52، في ظلال القرآن 5/ 3213.

الأخيرة من حكمه، الثامنة أو العاشرة على خلاف في الرأي، و ليس في السنة الخامسة.

و منها (سادسا) أن الحفريات و الأبحاث أثبتت أن ممالك أدوم و مؤاب و عمون (1)، لم تكن قد تكون حتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مع أن سفر يشوع يذكر هذه الممالك بالاسم، بل و يذهب إلى أنها كانت نامية و مزدهرة إبان فتوحات يشوع و حملاته الحربية (2)، و منها (سابعا) استمرار السلطة المصرية في فلسطين على أيام أمنحتب الثالث (1405- 1367 ق.

م) بدليل اكتشاف جعول صيد الأسود، التي وجدت في «لخيش» (تل الدوير على مبعدة خمسة أميال جنوب غرب بيت جبرين) تخليدا لمهارة الفرعون في صيد 102 أسدا، خلال السنوات العشر الأولى من حكمه (3)، و في الواقع فإن مصر على أيام أمنحتب الثالث إنما كانت مركز الدنيا و قلبها النابض، و كان ملوك مصر حكام العالم دون منازع، على الأقل في النصف الأول من حكم هذا الفرعون، و من ثم فقد سعت الدنيا إلى بلاط هذا الإمبراطور العظيم تحمل جزيتها، و تثبت لنا الاحتجاجات المتذللة التي نقرؤها في رسائل العمارنة التي كان نرسلها أصحابها من حكام الشرق و أمرائه، يؤكدون فيها ولاءهم و خضوعهم، و تسلط مصر على العالم (4)، و قد استمرت السيادة المصرية على هذا المنوال حتى القرن الثالث عشر، إلا على أيام أزمة العمارنة، بدليل وجود جعارين من عهد رعمسيس الثاني، و كما تدلنا كذلك حروبه و حروب أبيه من قبل على السيادة المصرية في فلسطين و سورية (5)،

ص: 320


1- أنظر عن هذه الممالك (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 547- 558).
2- جون إلدر: الأحجار تتكلم- علم الآثار يؤيد الكتاب المقدس ص 54 (مترجم)، و كذا, ogacihC, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M 334. p، 1970.
3- . P, II, ERA, detsaerB. H. J 347- 346. و كذا. P, tic- po, renidraG. H. A 206
4- . P, tic- po, nosliW. A. J 204.
5- . P, tic- po, nageniF. J 162.

و منها (ثامنا) وجود إناء مكسور عليه كتابة مصرية لأحد جباة الضرائب في «لخيش» و قد سجل فيها تسلمه لشحنة من القمح، في السنة الرابعة من عهد فرعون معين، تشير الدلائل جميعها على أنه «مرنبتاح»، و من ثم فالسنة الرابعة هنا إنما تعني عام 1220 قبل الميلاد (1)، مما يؤكد أن السيادة المصرية على فلسطين ظلت قائمة حتى السنة الرابعة من عهد مرنبتاح، و أن الإسرائيليين لم يكونوا قد استولوا على المدينة حتى هذا الوقت أي عام 1220 ق. م.

و منها (تاسعا) أن سلسلة الأنساب الكهنوتية، و كذا تقارير التوراة في سفر القضاة إنما تتفق مع هذا التاريخ المتأخر (2) (أي الخروج في عهد مرنبتاح)، و منها (عاشرا) أن إسرائيل لم تظهر في حملات رعمسيس الثالث (1182- 1151 ق. م) ثاني ملوك الأسرة العشرين، سواء قبل هزيمته لشعوب البحر في عام حكمه الثامن (3) (1174 ق. م) أو بعده، و إنما ظل الفرعون محتفظا بإمبراطوريته الواسعة في فلسطين و جنوب سورية، و قد عثر له على تمثال في بيسان، و آخر في مجدو، فضلا عن بنائه معبدا لآمون في فلسطين و كان خط الحدود المصرية عند «زاهي» في مكان ما عند الشاطئ في فينيقيا الجنوبية، و من هنا فإن حملة الفرعون الثانية على آمور، إنما كان الهدف منها هو الحفاظ على أملاك مصر في فلسطين بصفة خاصة، و في سورية بصفة عامة، و بدهي أن هذا كله إنما يدل على عدم وجود إسرائيل، ككيان مستقر في فلسطين حتى أيام رعمسيس الثالث (1182- 1151 ق.

م).

ص: 321


1- جون الدر: المرجع السابق ص 70 و كذا, OSAB, thgirblA. F. W 1939، 74، F 23. p، 1937، 68،. P, tic- po, nageniF. J 162. و كذا P. 46. p، 1953، 132، 22- 20
2- , learsI d) 3 (tpygE, eirteP. F. M. W 38. p، 1925.
3- , SENJ, ubaH tenideM ta serutciP elttaB lavoN ehT, nosleN. H 55- 40. p، 1943، 4.

و منها (حادي عشر) أن حالة الاضطرابات التي كتب على الكنانة أن تعيشها في الفترة فيما بين وفاة مرنبتاح عام 1214 ق. م، و بداية عهد رعمسيس الثالث في عام 1182 ق. م، كانت أكثر الفترات ملاءمة لأن يعيش بنو إسرائيل في التيه، و هم في مأمن من أن تهاجمهم القوات المصرية فتقضي عليهم أو تعيدهم إلى مصر ثانية، ذلك أعقب موت مرنبتاح فترة من الاضطرابات حدثت فيها مؤامرات شتى حول العرش المصري، فتعاقب عليه عدد من الملوك لم يحكموا سوى فترات قصيرة، كما كانوا ملوكا ضعافا، مما أدى في نهاية الأمر إلى اضطراب الأمور و تعقيدها، و زادت الحال سوءا بالتدريج، حتى آلت آخر الأمر إلى فوضى شاملة، و صفتها «بردية هاريس» بأن أرض مصر قد اضطربت، و أصبح كل رجل يضع شريعته الخاصة، و لم يكن هناك قائد مدى بضع سنين سابقة، حتى كانت مصر في أوقات أخرى تضم أمراء و حكام قرى، ثم جاء وقت بعد سنين فارغة ... و سوري معهم أصبح أميرا، و جعل البلاد كلها تدفع الضرائب» (1)، و من هذا النص استنتج المؤرخون أن «إرسو» السوري حكم البلاد في نهاية الأسرة التاسعة عشرة و ربما كان «إرسو» هذا، هو «باي» رئيس الديوان الذي أرغم الملكة «تاأوسرت» على أن تجلس «سبتاح» على العرش تحت وصايتها، و إن انفردت بالعرش بعد وفاته، ثم بقي الحال هكذا حتى نجح «ست نخت» في أن ينقذ البلاد من وهدتها، و أن يجلس على العرش المصري قرابة عامين (1184- 1182 ق. م) ليخلفه ولده رعمسيس الثالث (2).

و منها (ثاني عشر) أن اضطراب الأمور في سورية و فلسطين بسبب

ص: 322


1- , TENA, nosliW. J 160. p، 1966.
2- محمد بيومي مهران: مصر 2/ 141- 143، ألكسندر شارف: تاريخ مصر ص 159 و كذا., ynreC. J V و كذا. P, tic- po, renidraG. A 281- 279. و كذا, AEJ, htarekceB 74- 71. p، 1963، 49. , AEJ 258- 243. p، 29.

شعوب البحر، التي أدت إلى القضاء على الدولة الحيثية (1)، و بالتالي هروب الحيثيين، مع شعوب أخرى، إلى سورية و فلسطين، الأمر الذي يبدو واضحا في التقاليد اليهودية التي تحدثنا عن تجمعات حيثية كبيرة استقرت في أرض كنعان، و احتلت الإقليم الجبلي، و قد وجدها رسل موسى عليه السلام، الذين ذهبوا يستطلعون الأرض الموعودة التي تفيض لبنا و عسلا، و تخوفوا منهم قائلين «لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا» (2)، و منها (ثالث عشر) أن فترة دخول بني إسرائيل كنعان، طبقا لهذه النظرية، تتفق و غزوات شعوب البحر على سورية، و اشتباك رعمسيس الثالث معهم في حرب ضروس، دارت رحاها على الأرض الأسيوية مرة، و على الأرض الأفريقية مرتين، بل إن انتهاء فترة التيه، و بداية دخول بني إسرائيل أرض كنعان، إنما تتفق و حملة رعمسيس الثالث على سورية في عام حكمه الثامن (حوالي عام 1174 ق. م)، للاشتباك مع شعوب البحر عند «زاهي» ثم انشغاله بعد ذلك في حروبه ضد شعوب البحر على حدوده الغربية (3)، فإذا كان ذلك كذلك، فقد مكنت هذه الظروف بني إسرائيل من دخول كنعان و أعطتهم الفرصة ليعبثوا في الأرض فسادا.

و منها (رابع عشر) أن خلفاء رعمسيس الثالث ما كانوا بقادرين على الحفاظ على الإمبراطورية المصرية في آسيا، ربما لأنهم كانوا أضعف من ذلك، و ربما لأن الظروف الداخلية و الخارجية لم تساعدهم على ذلك،

ص: 323


1- , setittiH ehT, yenruG. R. O 39- 38. p، 1969.
2- عدد 13/ 1- 33.
3- محمد بيومي مهران: مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص 200- 241، حركات التحرير في مصر القديمة ص 251- 268، مصر 2/ 185- 197، و كذا sdroceR lacirotsiH, nosliW. J dna notregdE. W, rehcsloH. W و كذا, grubmaH, netpygeA dna nayliL 1937, ogacihC, III, sessmaR fo 1936.

و ربما لتغير ميزان الاقتصاد العالمي، بظهور معدن الحديد، قد اضطر مصر إلى التخلي عن سلطانها في آسيا الغربية، و ربما كانت هذه الأسباب مجتمعة هي السبب، و أيا ما كان الأمر، فليس هناك من دليل واضح على أن مصر، بعد وفاة رعمسيس الثالث، قد احتفظت بإمبراطوريتها في فلسطين و سورية، و إن ظل لها نفوذ في كثير من المناطق، بدليل العثور على جعارين لرعمسيس الرابع في تل الصافي و تل زكريا و تل جازر، و لرعمسيس السادس في تل أسانة في سورية، و تمثال من البرونز لنفس الفرعون في مجدو، على أن مثل هذه الأشياء الصغيرة لا تدل على معان قوية لها من القيمة ما لها من ناحية سلطان مصر في غربي آسيا، و من هنا كانت فرصة بني إسرائيل في الاستيلاء على جزء من فلسطين، كما تمكن البلست (الفلسطينيين) من احتلال بعض مدن كنعان الساحلية، و كذا الكثير الذين احتلوا مدينة «دور» جنوبي الكرمل (1).

و منها (خامس عشر) ما جاء في القرآن الكريم من أن فرعون قد طلب من هامان أن يوقد له على الطين فيبني له صرحا، قال تعالى: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (2)، و قد ناقشنا من قبل قصة الآجر المحروق، و كيف أن المفسرين، و منهم الإمام الطبري و القرطبي و النسفي و البيضاوي و السيوطي و غيرهم، رووا عن علماء السلف، كابن عباس و قتادة و سعيد بن جبير و ابن جريح و عبد بن حميد و غيرهم، أنهم قالوا: إن فرعون موسى كان أول من اتخذ الآجر ليبني به

ص: 324


1- ,ytsanyD tsriF -ytnewT ehT fo dnE ehT ot ,III ,sessmaR fo htaeD eht fo tpygE ,yenreC .J 13- 11. p، 1965.
2- سورة القصص: آية 38، و انظر: غافر: آية 36.

الصرح (1)، مما يشير إلى أنهم كانوا يستندون إلى طائفة من الخبر الصحيح، هذا و قد أعثرتنا حفائر «بتري» في «نبيشة» و «دفنة» غير بعيد من مدينة «بي رعمسيس» عاصمة ملوك الأسرة التاسعة عشرة، على غير مألوف الفراعين بالبناء بالآجر المحروق، حيث بنيت به قبور، و أقيمت به بعض من أسس المنشآت التي ترجع إلى عصر الفراعين: رعمسيس الثاني و مرنبتاح و سيتي الثاني، و قد قال «بتري» إن حرق اللبن ظل نادرا في مصر إلى عصر الرومان، و هو قول لا يكاد يخالف المفسرين من بدء اتخاذ الآجر المحروق على عهد فرعون موسى، و هو كذلك من قرائن القرآن الكريم التي نتخذها مطمئنين في تحديد عصر خروج بني إسرائيل من مصر على أيام الأسرة التاسعة عشرة التي بدأت، كما ألمح القرآن الكريم و أثبتت الحفائر، تصطنع في بنائها الآجر المحروق (2)، و الذي نرجح من جانبنا أنه عصر مرنبتاح.

و منها (سادس عشر) ذلك الحديث النبوي الشريف (3)، حيث يروي أنس بن مالك عن سيدنا و مولانا وجدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «خير نساء العالمين أربع، مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد رسول اللّه»، و إذا تذكرنا أن «است نفرت»

ص: 325


1- تفسير النسفي 3/ 237، تفسير القرطبي ص 5004 تفسير البيضاوي 4/ 128، تفسير الدر المنثور للسيوطي 5/ 129، تاريخ الطبري 1/ 405.
2- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 138، و كذا. P, hennefeD dna hehsebeN, eirteP. F. M. W 47، 19- 18.
3- أنظر عن الحديث الشريف و رواياته المختلفة: تفسير ابن كثير 2/ 32- 34، البداية و النهاية 1/ 59- 62، تفسير الطبري 6/ 393- 398، صحيح البخاري 4/ 193، 339، صحيح مسلم 2/ 243، سنن الترمذي 4/ 365- 336، مسند الإمام أحمد 3/ 136، تحفة الأحوذي 10/ 389، المستدرك الحاكم 3/ 184.

(أيسة نفرة) كانت الزوجة الثانية لرعمسيس الثاني بعد «نفر تاري»، بل إن الأثرية «مس مري» (1) إنما ترى أنها الزوجة الرئيسية، كما أن بعض الباحثين إنما يعتبرها «أم الأمراء» الذين لهم حق وراثة العرش (2)، و هناك في متحف بروكسل جزء من تمثال صغيرة لهذه الملكة، ما زالت عليه بعض نعوت لها تكاد تكون فريدة في بابها، فعلى الجهة اليمنى نقرأ «و عند ما تدخل في المقر المزدوج، فإن قاعة الاستقبال في القصر تضوع بشذي عبيرها، و إنها لحلوة الرائحة، بجانب والدها الذي يبتهج لرؤيتها، الزوجة الملكية ...»، و على الجهة اليسرى نقرأ «التي تملأ قاعة الجلسة بعبيرها، و هي المنقطعة النظير بعطورها، إذ تعادل بلاد بونت (3) (حيث كان القوم يحصلون على أخشاب البخور و المر و غيرها من الأشجار ذات الرائحة الزكية) بشذي أعضائها، الزوجة الملكية»، و في الواقع أن هذه النعوت النسوية الدالة على طيب العبير، و ما يضوع منها من شذي العطور، لم توصف بها ملكة من قبل (4).

و لعل هذا إنما يدل على شدة حب الفرعون لها، و دالتها عليه، و إذا ما وضعنا هذا في اعتبارنا، و تذكرنا قصة موسى عليه السلام، كما جاءت في التوراة و القرآن العظيم، و كيف ألقته أمه في اليم فالتقطه آل فرعون لينشأ في قصر فرعون نفسه، و ذلك عند ما قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (5)، إذا تذكرنا ذلك كله، و قارنا بين اسم امرأة فرعون، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، و في الآثار

ص: 326


1- , tpygE tneicnA, yrruM ssiM 104- 100. p، 1925.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: مصر 2/ 139- 140.
3- أنظر عن: بلاد بونت و الآراء التي دارت حولها (محمد بيومي مهران: العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة- الرياض 1976- ص 307- 310).
4- سليم حسن: مصر القديمة 6/ 634- 637، و كذا, tpygE'd euqinorhC 79- 74. p، 1934، 33.
5- سورة القصص: آية 9.

المصرية، لما وجدنا صعوبة كبيرة في تقريب «إيسة» (أو إيسي أو حتى است) إلى آسية (أو آسيا)، مع مراعاة اختلاف قراءة أسماء الأعلام في اللغتين العربية و المصرية القديمة، و هكذا نستطيع القول إن الفرعون الذي التقطت امرأته موسى عليه السلام، هو رعمسيس الثاني، و هو فرعون التسخير، و أن الفرعون الذي جابهه موسى هو «مرنبتاح»، و لعل مرنبتاح نفسه هو الذي ذكر موسى بتربيتهم له، و تنشئتهم إياه على فراشهم، ثم قتله واحدا من رعاياهم و هروبه إلى مدين، ثم إذا به يعود آخر الأمر فيدعوهم إلى إطلاق سراح بني إسرائيل، و إلى هذا يشير القرآن الكريم، في قوله تعالى: قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (1).

و هكذا يبدو لي، بعد كل الحجج التي قدمناها، أن الرأي الذي يجعل خروج بني إسرائيل في عهد مرنبتاح، و بالتالي فهو فرعون موسى، إنما هو أقرب الآراء إلى الصواب، و هو الرأي الذي نميل إليه و نرجحه، على أن يكون الخروج في العام الأخير من حكم مرنبتاح، و ليس في العام الخامس كما هو المفترض، سواء أ كان هذا العام الأخير، هو العام العاشر (عام 1214 ق. م) كما ترى جمهرة المؤرخين، أم كان ذلك العام هو العام الثامن (عام 1216 ق. م) فيما يرى البعض، و أما سبب تحديدنا للعام الأخير من حكم مرنبتاح للخروج، فهو أن التوراة (2) و القرآن العظيم (3) يرويان أن الفرعون

ص: 327


1- سورة الشعراء: آية 18- 22.
2- خروج 14/ 26- 31، 15/ 1- 5، الرسالة إلى العبرانيين 5/ 29.
3- أنظر: سورة البقرة: آية 50، الأعراف: آية 136، يونس: آية 90- 92، طه: آية 78، الشعراء: آية 63- 66 و غيرها.

قد غرق في البحر عند محاولته اللحاق بموسى و بني إسرائيل، و إن أضاف القرآن الكريم أن جثة الفرعون قد انتشلت لتكون آية لمن خلفه، قال تعالى:

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (1)، و لم تكن الآية لمن خلفه جيلا أو جيلين، بل بقيت آية للعشرات الكثيرة من الأجيال، و المئات الكثيرة من السنين، و هي إنما صارت كذلك بما مكّن رب العرش لأهل هذا المصر من سلطان العلم و أسرار التحنيط (2).

و هكذا نستطيع، عن طريق تحديدنا للخروج بالعام الأخير من حكم مرنبتاح، أن نوفق إلى حد كبير، بين أحداث التاريخ القديم، و بين ما جاء عن هذه الأحداث في التوراة و القرآن العظيم، فضلا عن إيجاد تفسير مقبول لتسجيل انتصار مرنبتاح على لوحة ليست له، و إنما لسلفه البعيد «أمنحتب الثالث»، و ذلك بسبب موته المفاجئ، و أما أن اللوحة قد حددت حادث الخروج بالعام الخامس من حكم مرنبتاح، فذلك يتناقض تماما مع ما جاء في التوراة و القرآن العظيم عنه، إذ أن ذلك يعني أن الفرعون قد بقي على قيد الحياة بعد خروج بني إسرائيل من مصر (3)، هذا فضلا عن أن حملته على سورية، و التي ذكرت في اللوح، إنما كانت في العام الثالث، و أما تحديد العام الخامس بالذات تاريخا للنص، فربما كان يهدف من كتبه (بعد غرق الفرعون) تخليد ذكرى انتصاره على الليبيين و حلفائهم من القهق

ص: 328


1- سورة يونس: آية 92.
2- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 123.
3- ذهب الدكتور سليم حسن إلى أن الفرعون لم يمت، إذ أنه لا يتصور أن يغرق و عربته و من معه في ضحضاح لا يزيد عمقه عن قدمين أو ثلاث، و يرى أن خيل الفرعون و عرباته قد ساخت في الأوحال فسقط مغشيا عليه، و أن ما جاء في القرآن عن الحادث لا يشعر بأن الفرعون قد غرق و مات (مصر القديمة 7/ 135)، و هذا الإتجاه، فوق مخالفته لكل آراء المفسرين، فهو تعسف في تفسير النصوص المقدسة، و خطأ في الاستنتاج.

و المشوش، إلى جانب خمسة من شعوب البحر، و إنقاذ أرض الكنانة من أن تقع في أيديهم.

[6] آراء أخرى:-

لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الآراء الخمسة، الآنفة الذكر، ليست هي كل ما ذهبت إليه أفكار الباحثين بالنسبة إلى تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر، و بالتالي فرعون موسى، و إنما هناك آراء أخرى لعل أهمها ثلاثة:

أولهما: ما ذهب إليه الزميل الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف من أن فرعون الخروج إنما هو «سيتي الثاني» (سيتي مرنبتاح)، و ليس مرنبتاح نفسه، اعتمادا على تقرير موظف الحدود، الآنف الذكر، و الذي رأى فيه دليلا على سواد الهدوء و النظام على التخوم الشرقية، و على ما كان لسلطات الأمن في عهد مرنبتاح من سيطرة على حركات الناس و البدو في تلك البقاع، و على أن مومياء مرنبتاح تدل على أنه كان قد طعن في السن و تقدمت به الأيام، مما يقعد به عن الخروج في حملات الحرب و القتال، و من ثم فإن فرعون الخروج، على ما يرجح، إنما كان شابا أو رجلا مكتمل الصحة موفور النشاط، و هو ما يتبين من جثة سيتي الثاني بمتحف القاهرة، حيث الموت المفاجئ بغرق أدنى إلى العقل و الاقتناع (1).

و أما الرأي الثاني، فيذهب أصحابه إلى أن الخروج تم بعد نهاية الأسرة التاسعة عشرة (2)، و أما ثالث الآراء، فيذهب إلى أن الخروج إنما كان بعد عهد رعمسيس الثالث (3)، بل إن صاحب هذا يرى أن هناك

ص: 329


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 139- 147، و كذا, oriaC, seimmuM layoR, htimS toillE 69. p، 1912.
2- ,drofxO ,tpygE fo ycageL eht ni ,learsI dna tpygE ,yelretseO .E .O .W 223. p، 1947.
3- , nodnoL, tsaE raeN eht fo yrotsiH tneicnA ehT, llaH. R. H 408. p، 1963.

خروجين، الواحد: عند نهاية حكم تحوتمس الثالث، و الآخر بعد أيام رعمسيس الثالث، و إن كان من البدهي أن ذلك أمرا غير مقبول، على أننا في نفس الوقت، لا نستطيع القول أن هناك ما يمنع طوائف من بني إسرائيل من الخروج من مصر عن طريق الهجرة أو التسلل في أوقات الضعف و الاضطرابات التي رأت مصر بعضا منها في تلك القرون الأربعة التي عاشها بنو إسرائيل في مصر، فيما بين عهدي يوسف و موسى عليهما السلام، خاصة و أن بني إسرائيل إنما كانوا يكوّنون في مصر مجموعة من الرحل يقومون برعي أغنامهم في وادي طميلات بشرق الدلتا أو يستقرون على أطراف الإقليم الزراعي هناك في أغلب الأحايين.

[7] صمت الآثار المصرية عن قصة بني إسرائيل:-

من الغريب أن الآثار المصرية تصمت تماما عن موضوع بني إسرائيل في مصر، اللهم إلا تلك الجملة القصيرة التي جاءت في لوح إسرائيل من عهد مرنبتاح «و خربت إسرائيل و زالت بذرتها»، و من ثم فقد نظر بعض العلماء إلى القصة كلها بعين الحذر، و يذهب «جاردنر» إلى أن قصة خروج بني إسرائيل من مصر يجب أن تبقى تفاصيلها- حتى تظهر في الأفق براهين جديدة تختلف في شكلها عن التي في متناول أيدينا الآن- و كأنها أسطورة، مثلها في ذلك مثل قصة الخلق المذكورة في سفر التكوين من التوراة (1)، و علينا أن نسعى في تفسير هذه القصص على فرض أنها أساطير، و إن رأى بعد ذلك أنه بعيد عن القول أن كل قصة الخروج خرافية، إذا أنها تعكس في مجموعها حادثة تاريخية معينة هي طرد الهكسوس من مصر (2).

ص: 330


1- أنظر: تكوين 1/ 1- 31، 2/ 1- 25، محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الثالث- الإسكندرية 1979 ص 336- 340.
2- , AEJ ni, sudoxE fo yhpargoeG ehT, renidraG. H. A 88. p، 1924، 10.

و يعلل «سمث» سكوت المصادر المصرية عن قصة الخروج بأن ذلك لا يدعو إلى الدهشة، لأن الآثار الفرعونية لم تحفل بحادث خروج بني إسرائيل و لم تسجل خطواته، ذلك لأن فرار مجموعة من العبيد من سادتهم لا يمثل حدثا يثير الاهتمام الفكري لدى المصريين، خاصة و أن بني إسرائيل قد عاصروا بمصر عهودا حافلة بجلائل الأعمال استنفذت، فيما يبدو، نشاط المثالين و مدوني التاريخ (1).

و الرأي عندي أن العلامة «جاردنر» قد أخطأ كثيرا في تصوره عن قصة خروج بني إسرائيل من مصر، ذلك، لأن القصة و إن لم تذكر في المصادر المصرية القديمة لأسباب سنذكرها حالا، فقد ذكرت بالتفصيل في التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم، كما رأينا من قبل، و بدهي أنه ليس من العلم، فضلا عن الإيمان بكتب السماء، و أن نشك في أمر أجمعت عليه هذه الكتب، كما أنه ليس ببعيد أن تكشف أعمال التنقيب، فيما تكشف، عن بعض الآثار التي تروي هذه القصة أو حتى تعين على مزيد من الإيضاح.

و أما تعليل «سمث» للحدث الخطير فبعيد عن الصواب كذلك، لأن الآثار الفرعونية لم تحفل بحادث خروج بني إسرائيل، من مصر لأسباب أخرى، غير ما ذكر «سمث»، منها (أولا) أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء و الرسل في النصوص الإنسانية ضعيف، ذلك لأن حقيقة الصراع بين دعوات الأنبياء، و سلطات الملوك المؤلهين أو شبه المؤلهين يدعو إلى عدم سماح الملوك بتسجيل مبادئ هذه الدعوات و الصراع بينها و بينهم، و تلك ظاهرة يلمسها المؤرخ بوضوح في تاريخ الشرق الأدنى القديم، كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع ملك العراق، و قصة موسى عليه السلام مع فرعون مصر، على سبيل المثال، و منها (ثانيا) أن المصادر المصرية

ص: 331


1- . P, learsI ylraE ni naM dna doG, htimS. D. W. J 38.

القديمة، و التي تمتاز عن غيرها من مصادر الشرق الأدنى القديم، بوضوحها و كثرة آثارها، كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر بمعلومات عن قصة بني إسرائيل في مصر، منذ عهد يوسف و حتى عهد موسى، عليهما السلام، غير أن هذه المصادر، كما هو معروف، إنما كتبت بأمر من الملوك، أو بوحي منهم، أو على الأقل برضى منهم، فإذا ما تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة، كما أثبتت النصوص و ألمع القرآن الكريم (1)، يزعم أنه إله أكثر منه بشرا، و من ثم فقد كان من الطبيعي ألا يستسيغ المصريون أن يهزم الملك في حرب خاض غمارها، و لهذا فإن النصر كان أن يكون حليفه، و قد تكون الحقيقة غير ذلك (2).

و من المعروف أن قصة خروج بني إسرائيل من مصر، بقيادة موسى عليه السلام، كما جاءت في التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم، إنما انتهت بغرق الفرعون و جنوده في البحر، و نجاة موسى و من آمن معه باللّه الواحد القهار، و من ثم فليس من المقبول، طبقا للعقيدة المصرية القديمة، أن تسجل نصوص الفراعين، غرق الإله الفرعون، و نجاة عبيده العبرانيين، و من هنا كان من الصعب العثور على آثار تتحدث عن موسى و قومه، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر الفرعونية، و إن كان هذا لا يقطع الأمل في العثور على تلك الآثار، التي ربما سجلت بطريقة أو بأخرى عن طريق المعارضين لفرعون، المؤمنين برب موسى و هارون، و اللّه وحده يعلم الغيب من الأمر.

ص: 332


1- أنظر: سورة الشعراء: آية 29، سورة القصص: آية 38، سورة النازعات: آية 22- 24.
2- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفرعونية ص 3.
الباب الثالث موسى و بني إسرائيل منذ انفلاق البحر و حتى موت موسى عليه السّلام
اشارة

ص: 333

ص: 334

الفصل الأول بنو إسرائيل في سيناء
[1] محاولة الردة الأولى و عبادة الأصنام:-

انتهت قصة بني إسرائيل مع مصر، و فرعون مصر، بعد انغلاق البحر و غرق فرعون و جنده، و نجاة موسى و قومه، فضلا عن الذين آمنوا معه من غيرهم، باللّه الواحد القهار، و هنا تبدأ حلقة جديدة من حياة موسى مع بني إسرائيل، بما فيها من كفر و غدر، و لو كان موسى مجرد زعيم مخلص عرض حياته للخطر أكثر من مرة لإنقاذهم، لكان له عليهم حق السمع و الطاعة و الإخلاص، و إن كان موسى مجرد زعيم مخلص عرض حياته للخطر أكثر من مرة لإنقاذهم، لكان له عليهم حق السمع و الطاعة و الإخلاص، و امتثال أمره، و اتباع هداه، و لكنه فوق ذلك رسول و نبي من اللّه تعالى، مؤيد بالمعجزات الباهرة، و مع ذلك فإن كليم اللّه عليه السلام لم يجد منهم إلا العناء و التمرد، فضلا عن الكفر و الفسوق و العصيان.

و في الواقع، فإن التراث الديني اليهودي ليزخر بأدلة لا تقبل الشك على أن اليهود الذين رافقوا موسى عليه السلام، إلى سيناء لم يكونوا أكفاء لحمل عب ء التوحيد و فلسفته التجريدية الروحية الرفيعة، و لم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع حاجتهم إلى الاعتبارات المادية، بل إنه لا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا

ص: 335

على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسيم الدينية في مصر، و ودوا لو أنهم يعودون إليها و يعيدونها منسوخة ممسوخة في الصحراوات (1).

كانت سيناء منذ أقدم العصور من أوفر مصادر مصر بالفيروز و النحاس، كانت مستودعا غنيا بالنحاس و من كريم الحجر و بالفيروزج بنوع خاص، و من ثم فقد كانت ميدانا لنشاط اقتصادي خصيب، حرص ملوك مصر منذ طلائع الأسرة الأولى على رعايته و حمايته، و هكذا كان من الواجبات الملقاة على عاتق الملوك منذ قيام الملكية المصرية، حوالي عام 3200 قبل الميلاد، أن يكفلوا حماية القوافل و بعثات المناجم و المحاجر التي تجوس خلال الصحراوات في سيناء، كما تشير إلى ذلك الأدلة التاريخية من عهد الملك «جر» و «دن» (وديمو) من الأسرة الأولى (2)، مما يدل على أن مصر إنما كانت جد حريصة على حماية سيناء منذ عصورها المبكرة، الأمر لم تتخل عنه مصر أبدا.

و على أي حال، فلقد كانت مناجم الفيروزج تكثر في وادي مغارة و سرابة الخادم، حيث أقيم معبد للإلهة «حاتحور» ربه الفيروزج منذ أيام الدولة الوسطى التي عملت على استغلال تلك المنطقة باهتمام كبير، و ما زالت تلك البقاع من سيناء تحفظ على صخورها آلافا من نقوش المصريين، ممن كانوا في تلك البقاع عاملين، و في الوقت نفسه للإلهة «حاتور» متعبدين (3)، و قد حدث في سيناء منذ أقدم العصور التاريخ الفرعوني اتصال بين الإلهة المصرية «حاتور» (و التي كانت الصفة القمرية من بين صفاتها العديدة في مصر) و بين الإلهة السامية القمرية التي كانت تعبد في الكهف

ص: 336


1- عباس العقاد: مطلع النور- أو طوالع البعثة المحمدية- القاهرة 1968 ص 107.
2- F. P, VXXX, SAZ 7. و كذا, drofxO, shoarahP eht fo tpygE, renidraG. H. A 415- 414. p، 1964
3- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 125، 175.

المقدس في معبد سرابيط الخادم في سيناء قبل مجي ء المصريين، و التي حلت حلت «خاتور» المصرية محلها (1).

هذا و قد عبد المصريون الإلهة «حاتور» (حوت حور- مكان أو بيت حور)، و قد حازت شهرة واسعة منذ عصور ما قبل الأسرات و في عصر الأسرتين الأولى و الثانية، كإلهة للسماء، كما كانت وقت ذاك تمثل الصورة النسائية ل «حور» و قد صورت في الفن الديني المصري بأشكال تكاد لا تحصر، و لكنها غالبا كانت تصور كبقرة، أو بشكل امرأة يزين رأسها قرص الشمس بين قرني البقرة، و في كثير من الأحيان كانت تمثل كامرأة لها رأس بقرة تحمل قرص الشمس و القرنين، و قد اختلطت الفكرتان الخاصتان برأس المرأة و رأس البقرة تدريجيا، حتى انتهى الأمر إلى أن تمثل برأس امرأة و أذني بقرة، و هو مظهر كانت تصور به حاتور باستمرار، فنراه مثلا كحلية ليد المرأة البدوية أو كعنصر معماري لتاج عمود، و بهذا الشكل الأخير نرى الإلهة ممثلة في صالة معبد دندرة (5 كيلا شمالي قناعير عبر النهر)، كما كانت حاتور في عقيدة القوم مرضعة «حور بن إيزة) ثم ربه الحب و الحنان و الموسيقى، ثم صارت ربه للجبانة ترعى الموت وتر أمهم، و كانت صاحبة ألقاب و نعوت كثيرة، منها «الذهبية» و «ربة الذهب» و «صاحبة القلادة البراقة كالسماء بنجومها»، كما كانت لها تماثيل مموهة بالذهب حفظت بمتحف القاهرة (2).

هذا و قد انفرد القرآن الكريم، من دون التوراة، بأن بني إسرائيل لم

ص: 337


1- ,nodnoL ,II ,aniS fo snoitpircsnI ehT ,ynreC .J dna teeP .T .A ,renidraG .A 41. p، 1955.
2- محمد بيومي مهران- الحضارة المصرية ص 337- 341، جيمس بيكي: الآثار المصرية في وادي النيل 2/ 190، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 137، و كذا. P, sdoG eht dna pihsgniK, trofknarF. H 12- 10.

يكادوا يمضون مع موسى عليه السلام، بعد خروجهم من البحر، و نجاتهم من آل فرعون، حتى رأوا قوما يعبدون أصناما لهم، فنسوا كل ما كانوا يذكرونه من آيات اللّه لموسى و نجاتهم معه و قالوا ما حكاه القرآن في قوله تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (1)، و «الفاء» في قوله تعالى:

فَأَتَوْا تفيد، كما هو معروف، الترتيب و التعقيب، و معنى ذلك أنه لم يمضي وقت بعد خروجهم من البحر و نجاتهم من الهلاك، حتى عادوا إلى الوثنية التي ألفوها، و ألفوا الذل معها، و هذا يدل على أن الإيمان لم يخالط بشاشة قلوبهم، و لم يتمكن من ضمائرهم و مشاعرهم، و لم يثمر فيهم الثمرة الطيبة لكل شجرة طيبة، و إنما كان إيمانهم بموسى إيمانا بإمامته و زعامته، لا إيمانا باللّه الذي خلقه و سواه (2).

و ليس هناك من ريب في أن بني إسرائيل باتخاذهم العجل من بعد موسى، كما سنرى، و بمطالبتهم موسى أن يتخذ لهم إلها، كما لهؤلاء القوم المتعبدين لحاتور آلهة، إنما كانوا في الحالتين، لما اعتادوا في مصر من الآلهة الوثنية مرتدين، و أنهم ربما اتخذوا العجل من حليهم من الذهب فتنة ب «حاتور الذهبية»، و ما كان لها من منزلة في النفوس وقت ذاك، هذا فضلا تأثروا به من حب المصريين للذهب و صنع تماثيلهم الثمين منه، و ما ندري لعل للّه تعالى حكمة فيما كان من أمره بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، و أنها «بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين»، و لقد كان البقر في مصر من أنواع

ص: 338


1- سورة الأعراف: آية 138- 139، و انظر: تفسير الطبري 13/ 80- 84، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 4/ 215- 216، تفسير القرطبي ص 2709- 2710، تفسير ابن كثير 3/ 464- 465، تفسير المنار 9/ 91- 99، تفسير النسفي 2/ 73- 74.
2- عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 193- 194.

و ألوان حيث كان فيه الأسود، و نوع آخر لا نراه اليوم يجمع بين البياض و السواد، و يشبه ما هو معروف في أوربا اليوم، و لعل فيما أبدى بنو إسرائيل من تلكؤ و مراوغة في ذبح البقرة، و ما كان من تنطعهم في التساؤل عنها و عن لونها من أثر ما كان قد وقر في نفوسهم من تقديس «حاتور» (1)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً، قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (2).

و هكذا يبدو واضحا مدى تأثير الديانة المصرية القديمة في بني إسرائيل، تلك الديانة التي تمكنت من نفوسهم إبان إقامتهم الطويلة في مصر، و التي جاوزت قرونا أربعة، لدرجة أنهم ما كانوا بمستطيعين الإيمان بدعوة موسى، إما خوفا من فرعون، و إما خوفا من شيوخ بني إسرائيل، كما أشرنا من قبل، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (3)،

ص: 339


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 127- 128.
2- سورة البقرة: آية 67- 71، و انظر عن القصة: تفسير الطبري 2/ 182- 222، تفسير المنار 1/ 286- 290، تفسير ابن كثير 1/ 154- 160، البداية و النهاية 1/ 293- 295، تفسير النسفي 1/ 53- 55، تفسير القرطبي ص 378- 387.
3- سورة يونس: آية 83، و انظر، تفسير المنار 11/ 383- 384، معاني القرآن للفراء 1/ 476- 477، تفسير الطبري 15/ 163- 167، تفسير ابن كثير 4/ 222- 223، تفسير القرطبي ص 3208- 3209.

باعتبار أن الضمير في «ملئهم» راجع إلى قوم موسى، بل إن القوم برموا بموسى و ضجروا به، و قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا (1).

هذا و يذهب المفسرون و المؤرخون المسلمون إلى أن الأصنام التي وجدها بنو إسرائيل بعد انغلاق البحر، إنما هي تماثيل بقر، و ذلك، فيما يرى البيضاوي، أول عبادة العجل، و يقول الطبري في تفسيره أن القوم كانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلما كان عجل السامري شبه إليهم أنه من تلك البقر، و من ثم فقد أثار ذلك شبهة لهم في عبادة العجل بعد ذلك، و أما صاحب البحر المحيط، فقد أورد روايتين، الواحدة تذهب إلى أن البقر كان بقرا حقيقيا، و تذهب الثانية إلى أنه كان تماثيل بقر من حجارة و عيدان و نحوه، و كان ذلك أول فتنة العجل، على أن الإمام السيوطي إنما يذهب إلى أنها تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك أول شأن العجل لتكون للّه عليهم حجة فينتقم منهم بعد ذلك، و يقول ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا، فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى، و في جملة ما يتقرب به إلى اللّه تعالى، و إلا فبعيد أن يقولوا لموسى: «اجعل لنا إلها نفرده بالعبادة (2)، فإذا كان ذلك كذلك، فإن القوم ما عرفوا بعد دعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام، و من ثم فما آمنوا بعد برب موسى، أو على الأقل أكثرهم، حتى بعد انغلاق البحر، و ما سبقه من معجزات، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (3)، و تقول التوراة «فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد

ص: 340


1- سورة الأعراف: آية 129.
2- تفسير البيضاوي 3/ 25، تفسير الطبري 3/ 80- 84، تفسير المحيط 4/ 377- 378، تفسير الدر المنثور للسيوطي 3/ 114، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 47، صفوة التفاسير للصابوني 1/ 468، تفسير النسفي 2/ 74.
3- سورة الشعراء: آية 65- 67.

المصريين، و نظر إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر، و رأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين، فخاف الشعب الرب و آمنوا بالرب و بعبده موسى» (1).

هذا فضلا عن أن ذلك يتعارض مع قول اللّه تعالى، على لسان موسى:

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً، و ما ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد و ابن أبي حاتم و ابن جرير عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي اللّه: اجعل لنا هذه ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: اللّه أكبر هذه كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنكم تركبون سنن من قبلكم»، و ما رواه الإمام النسفي في تفسيره من أن يهوديا قال للإمام على بن أبي طالب، كرم اللّه وجهه في الجنة:

اختلفتم بعد نبيّكم قبل أن تجف دماؤه، فقال الإمام: قلتم اجعل لنا إلها و لم تجف أقدامكم»، و على أي حال، فإن موسى عليه السلام وصف قومه في قول اللّه تعالى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، أي إنكم قوم تجهلون عظمة اللّه تعالى، و ما يجب أن ينزه عنه من الشريك و النظير، قال الإمام الزمخشري:

تعجب من قولهم، على إثر ما رأوا من الآية العظمى و المعجزة الكبرى (انغلاق البحر) فوصفهم بالجهل المطلق و أكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم و لا أشنع، و كما يقول أبو حيان: أتى بلفظ «تجهلون» و لم يقل «جهلتم» إشعارا بأن ذلك منهم كالطبع و الغريزة، لا ينفصلون عنه في ماض و لا مستقبل (2).

و هكذا لم يطل العهد ببني إسرائيل، كما يقول صاحب الظلال، منذ

ص: 341


1- خروج 14/ 30- 31.
2- تفسير الكشاف 2/ 150، تفسير البحر المحيط 4/ 378، تفسير النسفي 2/ 74، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 47.

أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الفرعونية عند فرعون و ملئه، و منذ أن أنقذهم نبيّهم و زعيمهم موسى عليه السلام باسم اللّه الواحد رب العالمين الذي أهلك عدوهم، و شق لهم البحر، و أنجاهم من العذاب الوحشي الذي كانوا يسامون، إنهم خارجون للتو و اللحظة من مصر و وثنيتها، و لكن ها هم أولاء ما أن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين عاكفين على أصنام لهم (للمعبودة حاتور في هيئة بقرة أو غيرها من الأشكال) مستغرقين في طقوسهم الوثنية، و إذا هم يطلبون إلى موسى، النبي الرسول، الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام و التوحيد، أن يتخذ لهم وثنا يعبدونه من جديد، و من ثم فإن موسى يغضب لربه أن يشرك به قومه قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى على ربه و الغضب له، و التعجب لنسيان قومه لنعمة اللّه تعالى عليهم، و هي حاضرة ظاهرة، قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.

و التفضيل على العالمين يجب أن يكون واضحا أنه كان في زمانهم فحسب، كما يجمع المفسرون، ذلك لأن لكل زمان عالما، و يجب الحمل على ذلك، لأن أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل منهم لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، و قول سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها و أكرمها على اللّه» (رواه أصحاب السنن)، و على أي حال، فإن تفضيل بني إسرائيل في زمانهم إنما تتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين، و ليس وراء ذلك فضل و لا منة، فهذا ما لا يعدله فضل و لا منة، فكيف بعد هذا يطلبون إلى نبيّهم أن يطلب لهم إلها غير اللّه، و هم في نعمته و فضله يتقلبون (1).

ص: 342


1- في ظلال القرآن 3/ 1365- 1367، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 62، تفسير النسفي 2/ 74.
[2] التمرد الإسرائيلي بسبب الماء و الطعام:-

ما أن تمضي أيام ثلاثة على انغلاق البحر آية اللّه الكبرى لموسى و قومه عند «يم سوف» حتى تذمر ببنو إسرائيل لأنهم «لم يقدروا أن يشربوا ماء من مارة لأنه مر، لذلك دعي اسمها مارة، فتذمر الشعب على موسى قائلين ما ذا نشرب، فصرخ إلى الرب فأراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذبا» (1)، و ما أن يمضي شهر و نصف الشهر حتى يعود بنو إسرائيل إلى التذمر مرة أخرى، و من الغريب أن مصدر التذمر الآن، كما كان في المرة الأولى، شهوة رخيصة، و سعي وراء لذة دنيوية، فإذا كانت الأولى بسبب الماء العذب، فقد كانت الثانية بسبب حرمانهم من طعام كانوا يحصلون عليه من فتات الموائد و فضلات المصريين، كانوا يجدون في سيناء «المن» أو العسل البري يشتارونه في غير مشقة و لا جهد، و كانوا يجدون «السلوى» (2)، و لعله

ص: 343


1- خروج 15/ 23- 25.
2- المن و السلوى: أما المن فقد اختلف المفسرون فيه، قال ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على اشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، و قال السدى كان يسقط على شجرة الزنجبيل، و قال قتادة كان ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منه ما يكفيه يومه، و لا يدخر إلا يوم الجمعة فادخاره مباح ليوم السبت، و قال عبد الرحمن بن أسلم: إنه العسل، و قال الربيع بن أنس كان المن ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، و قيل هو الترنجبين أو ما يسقط على شجرة الترنجبين أو الزنجبيل، و هو يشبه الصمغ حلو مع شي ء من الحموضة، و قيل المن خبز الرقاق، و قيل كان شرابا حلوا يطبخونه فيشربونه، و قيل هو جميع ما منّ اللّه به عليهم في التيه جاءهم عفوا بلا تعب، و أما السلوى: فهو طائر السماني أو طائر يشبه السماني، و كانت تأتيهم من السماء بكرة و عشيا أو متى أحبوا، أو أن ريح الجنوب كانت تسوقها إليهم فيذبح الرجل منها ما يكفيه، و قيل كانت تنزل عليهم مطبوخة أو مشوية، و كان ينزل عليهم، كالمن، من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ما عدا يوم السبت، فكان الواحد منهم يأخذ حاجته ليومه، ما عدا يوم الجمعة فيأخذ ليومين، فخالفوا و ادخروا، فدوّد و فسد، فقطع اللّه عنهم ذلك، و يروي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام و لم يخنز اللحم»، و روى السدى أن السلوى هو العسل بلغة كنعان. (تفسير الطبري 1/ 293- 298، تفسير النسفي 1/ 49، تفسير الخازن 3/ 63، تفسير روح المعاني 1/ 263- 264، الدر المنثور 1/ 70- 71، ابن الأثير 1/ 110- 111، صفوة التفاسير 1/ 60، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 66- 67).

السماني، وفيرا يسيرا صيده، و كانت سيناء، و ما زالت، قبلة للأفواج الكثيرة من طيور الهجرة تقبل في الخريف متعبة مرهقة بعد عبور البحر، فما أن تجد الأرض حتى تحط، فإذا لاحت تباشير الربيع عادت إلى اجتياز سيناء في طريقها إلى البحر تعبره إلى حيث تقيم، و مع ذلك فلم يرضى اليهود بما أنزل عليهم من رزق اللّه (1).

و ليس هناك من ريب في أن ذلك إن دل على شي ء، فإنما يدل على أن اليهود إنما كانوا يفضلون الحياة الذليلة تحت سياط الرق و الاستعباد، بجوار قدور اللحم، على حياة الحرية و الكرامة، تقول التوراة «فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى و هارون في البرية و قال لهما بنو إسرائيل «ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر، لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (2)، ثم طفقوا يعدّدون ما كانوا يجدون في مصر من الخير و ألوان الطعام، تقول التوراة «فعاد بنو إسرائيل أيضا و بكوا و قالوا: من يطعمنا لحما، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا، و القثاء و البطيخ و الكرات و البصل و الثوم، و الآن قد يبست أنفسنا ليس شي ء غير أن أعيننا إلى هذا المن» (3)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها

ص: 344


1- أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 128- 129 و كذا. P, tpygE sdriB s'llociN, negariztrenieM 469- 468، 41.
2- خروج 16/ 2- 3.
3- عدد 11/ 4- 6.

وَ فُومِها (1) وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها، قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (2).

ثم ما يمضي حين حتى تقوم ثورة أخرى، فهناك في «رفيديم» «خاصم الشعب موسى و قالوا أعطونا ماء لنشرب، و تذمر الشعب على موسى و قالوا:

لما ذا أصعدتنا من مصر لتميتنا و أولادنا و مواشينا بالعطش»، و يأمر الرب نبيّه «أن اضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب، ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل، و دعا اسم الموضع مسه و مريبه، من أجل مخاصمة بني إسرائيل و من أجل تجربتهم للرب قائلين: أ في وسطنا الرب أم لا» (3)، و يفسر «يوسف اليهودي» ذلك بأنهم وصلوا إلى رفيديم في حالة يرثى لها بسبب العطش، و لا شك في أن الصخرة في «حوريب» حيث يوجد ماء مغطى، و يرى رواد الصحراء الذين درسوا تربتها و جاسوا خلالها، أمثال «جارفس» و «و ولي» أنه يمكن الحصول أحيانا على الماء في هذه النواحي تحت طبقة رقيقة من الحجر الجيري على عمق قدمين و يظل مخزونا طوال العام (4).

ص: 345


1- الفوم: قيل الثوم و قيل الحنطة، و هو البر الذي يصنع من الخبز، و قال الفخر الرازي: الثوم أوفق للعدس و البصل من الحنطة، و لقراءة ابن مسعود «و ثومها»، و أما القثاء فهو الخيار (تفسير النسفي 1/ 51، تفسير القرطبي 1/ 425، صفوة التفاسير 1/ 64).
2- سورة البقرة: آية 61، و انظر تفسير الطبري 2/ 130- 142، تفسير الطبرسي 1/ 269- 278، تفسير النسفي 1/ 55- 56، تفسير روح المعاني 1/ 273- 278، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1/ 73- 74، تفسير أبي السعود 1/ 182- 183، في ظلال القرآن 1/ 75، تفسير ابن كثير 1/ 145- 102، تفسير القرطبي ص 359- 370، تفسير المنار 1/ 273- 276، تفسير القاسمي 2/ 137- 140، تفسير الفخر الرازي 3/ 98- 102، التفسير الكاشف 1/ 114- 116، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 74- 77.
3- خروج 17/ 1- 7.
4- نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 304.

و الرأي عندي أن الأمر ليس كما فسره هؤلاء الباحثون، و إنما هو، فيما أو من به و اعتقده، معجزة من معجزات موسى عليه السلام، إذ أمره اللّه تعالى بأن يضرب الحجر بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، بقدر عدد أسباط إسرائيل، لكل سبط عين قد عرفوها، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (1)، و قال ابن عباس: و جعل بين ظهرانيهم حجر مربع، و أمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، و أعلم كل سبط عينهم يشربون منها، و قال قتادة: كان حجرا طوريا، أي من الطور، يحملونه معهم إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، و قال النسفي: اللام للعهد، و الإشارة إلى حجر معلوم، فقد روى أنه حجر طوري حمله معه، و كان مربعا له أربعة أوجه، كانت تنبع من كل وجهه ثلاث أعين، لكل سبط عين، و قيل هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل (2)، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة، و لك فيه معجزة، فحمله في مخلاته، قال الزمخشري: و يحتمل أن تكون اللام ).

ص: 346


1- سورة البقرة: آية 60، و انظر: تفسير النسفي 1/ 50- 51، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 68- 69.
2- أخرج البخاري عند تفسير آية الأحزاب (69) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: إن موسى كان رجلا حييّا ستيّرا، لا يرى من جلده شي ء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، و إما أدرة (انتفاخ الخصية) و إما آفة، و إن اللّه أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، و إن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه و طلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى مرّ على ملأ من بني إسرائيل فرأوه أحسن ما خلق اللّه عريانا، و أبرأه مما يقولون ... قال:، فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (صحيح البخاري 6/ 312).

للجنس، لا للعهد، أي اضرب الشي ء الذي يقال له الحجر، و عن الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، و هذا أظهر في المعجزة و أبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر، ثم يضربه فييبس، و على أي حال، فإن انفجار الماء، إنما كان على وجه المعجزة، و أن الحجر الذي ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذي ليس من شأنه الانفجار بالماء، و هنا تكون المعجزة أوضح، و البرهان أسطع (1).

[3] بنو إسرائيل و العماليق:-

تشير التوراة إلى أن بني إسرائيل قد التقوا بالعماليق في «رفيديم» حيث جرت بينهم المعركة الرئيسية على امتلاك الشريط الخصيب الوحيد في شبه جزيرة سيناء، و هو «وادي فيران» الحالي (2)، و طبقا لرواية التوراة فلقد «أتى عماليق و حارب إسرائيل في رفيديم فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجلا و أخرج حارب عماليق، و غدا أقف أنا على رأس التلة و عصا اللّه في يدي، ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق، و أما موسى و هارون و حور فصعدوا على رأس التلة، و كان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، و إذا أخفض يده أن عماليق يغلب، فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا حجرا، و وضعاه تحته فجلس عليه، و دعم هارون و حور يديه، الواحد من هنا و الآخر من هناك، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس، فهزم يشوع عماليق و قومه بحد السيف» (3).

و على أي حال، فما تنتهي المعركة، حتى يلتقي موسى عليه السلام

ص: 347


1- تفسير الطبري 1/ 306- 309، تفسير الكشاف 1/ 107، تفسير النسفي 1/ 50، تفسير أبي السعد السعود 1/ 180، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 69، صفوة التفاسير 1/ 62- 64.
2- , learsI dnatpygE, eirteP. F. W 4. p، 1925.
3- خروج 17/ 8- 13.

بحميه يثرون، الذي جاء و معه صفورة، امرأة موسى و ولداه جرشوم و إليعازر (1)، هذا مع أن التوراة قد ذكرت من قبل، و في نفس سفر الخروج أن موسى قد هبط مصر و معه زوجته و ولداه (2)، و لكن هذا لا يزعجنا كثيرا، فهو نوع من تناقض نصوص التوراة، و نظائره كثيرة، و على أي حال، فإن التوراة (3) تحدثنا أن يثرون، و هو شعيب بني مدين العربي فيما يرجع الكثيرون، كما أشرنا من قبل، كان يقدم القرابين إلى اللّه، و يتبعه موسى و هارون و شيوخ بني إسرائيل، و أنه قد أسدى إلى موسى النصح باختيار رؤساء للشعب لينظروا في القضايا الثانوية، و يبقى هو المرجع الأعلى، فاتبع نصيحة شعيب، و معنى هذا أن شعيبا، كما يقول الأستاذ العقاد، تقدم موسى في عقيدته الإلهية، و علمه تبليغ الشريعة، و تنظيم القضاء في قومه، و أن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي، و لم يكونوا معلمين (4).

[4] الردة و عبادة العجل في سيناء:-

تتحدث التوراة في الإصحاحات من التاسع عشر إلى الحادي و الثلاثين من سفر الخروج عن الشريعة الموسوية، و في الإصحاح الثاني و الثلاثين من نفس السفر تتحدث عن ردة بني إسرائيل عن التوحيد، و حبر وصايا الرب لم يجف كما يقولون، ذلك أن موسى عليه السلام، فيما يروي المفسرون، قد وعد بني إسرائيل و هو بمصر، إن أهلك اللّه عدوهم، أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما، و هو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوق فمه (تغيّر رائحة فمه) فتسوّك، فقالت الملائكة: كنا نشم

ص: 348


1- خروج 18/ 1- 7.
2- خروج 4/ 20.
3- خروج 18/ 12- 27.
4- عباس العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان و العبريين القاهرة 1960 ص 80.

من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، أو أن اللّه أوحي إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة، روي عن ابن عباس و غيره: فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، و حصل فيه التكلم لموسى عليه السلام، و فيه أكمل اللّه الدين لمحمد صلى اللّه عليه و سلم، كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، و كان موسى لما أتم الصيام ثلاثين يوما و عزم على الذهاب إلى الطور، استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون و وصاه بالإصلاح و عدم الإفساد، و هذا تنبيه و تذكير، و إلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على اللّه، و له وجاهة و جلالة صلوات اللّه عليه و على سائر الأنبياء، و هناك كما أشرنا، أنكر ريح فمه فاستاك بعود خرنوب أو بلحاء شجرة، فأمره اللّه أن يصوم عشرة أيام أخرى، و في تلك الليالي العشر، افتتن بنو إسرائيل، لأن الثلاثين انقضت و لم يرجع إليهم موسى (1)، و إلى هنا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (2)، و قال تعالى: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (3).

و هكذا لم يمضي وقت طويل على انغلاق البحر لموسى و قومه، حتى كانت الردة و عبادة العجل، كما جاء في التوراة و القرآن العظيم،

ص: 349


1- تفسير الكشاف 2/ 151، تفسير النسفي 1/ 48، 2/ 74، تفسير أبي السعود 1/ 174، الدر المنثور 3/ 115، تفسير روح المعاني 1/ 257- 258، تفسير البحر المحيط 4/ 379، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 48، تاريخ الطبري 1/ 421- 422، ابن الأثير 1/ 107.
2- سورة الأعراف: آية 142.
3- سورة البقرة: آية 51، 54، 92- 93 سورة طه: آية 83- 98.

و يقول تعالى: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ، أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ، وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (1).

و هكذا بقيت الوثنية راسخة في قلوب بني إسرائيل، حتى بعد انغلاق البحر لهم، و حتى بعد أن جاوزوه على يبس، و حتى بعد أن منّ اللّه عليهم بالمن و السلوى، و حتى بعد أن استسقوا موسى فضرب الحجر بعصاه فأنجبت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط من الأسباط الاثني عشر مشربهم، و حتى بعد أن نزلت عليهم شريعة تحذرهم من اتخاذ آلهة أخرى غير اللّه، حتى بعد هذا كله، فإنهم سرعان ما زاغوا عن الطريق المستقيم، و كفروا باللّه الواحد الأحد، «و صنعوا لهم عجلا مسبوكا و سجدوا له و ذبحوا و قالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (2)، و هو نفس ما سيفعلونه في دويلة

ص: 350


1- سورة الأعراف: آية 148- 152، و انظر: تفسير الطبري 13/ 117- 136، تفسير الطبرسي 9/ 26- 32، تفسير القاسمي 7/ 2859، تفسير روح المعاني 9/ 67- 70، تفسير ابن كثير 3/ 473- 475، تفسير المنار 9/ 172- 183، تفسير القرطبي ص 2720- 2728، تفسير الفخر الرازي 15/ 108- 111، تفسير الكشاف 2/ 118- 120، تفسير أبي السعود 2/ 406- 409، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 4/ 219- 221، تفسير الجلالين ص 155، تفسير و جدي ص 214- 215.
2- خروج 32/ 7- 8.

إسرائيل على أيام «ير بعام الأول» (922- 901 ق. م) و بعد موت سليمان عليه السلام مباشرة ذلك أن يربعام، خوفا من أن تعود قلوب القوم تتعلق بأور شليم، قد هداه تفكيره المريض إلى أن يعيد المكانين المقدسين عند القوم، و كان الواحد منهما في «بيت إيل»، و الآخر في «دان»، و أن يزود كل منهما «بالعجل الذهبي»، بل إن عاصمتهم السامرة فيما بعد، قد زودت كذلك «بعجل ذهبي» (1).

و ليس هناك من ريب في أن هذا، إنما كان، مرة أخرى، من تأثير الوثنية المصرية على بني إسرائيل، ذلك أن عبادة العجل في مصر جد عميقة الجذور، إذ ترجع إلى ما قبل عصر موسى بكثير، إلى أيام الأسرة الأولى حوالي عام 3200 ق. م، ثم استمرت حتى ظهور المسيحية و غلبتها عليها، و يذهب «والتر إمري» إلى أن العجل كان في نظر القوم، رمزا للقوة في الحروب، كما أنه رمز للإخصاب، في نفس الوقت، و أن عبادته بدأت منذ أيام الأسرة الأولى، اعتمادا على تصوير ملوك هذه الأسرة على هيئة ثيران (2)، هذا و قد اشتهرت هذه العبادة باسم «مرور و عبي» (منفيس و أبيس في تصحيف اليونان) حيث عبد الأول في «أون» (عين شمس) رمزا لإله الشمس رع، و عبد الثاني في منف مدينة بتاح، رمزا للإله بتاح، و قد احتفظ المصريون في معبد بتاح بالعجل المقدس «أبيس»، دون أن تكون هناك علاقة ما بين الإلهين، على الأقل في العصور القديمة (3)، كما أن «بتاح» لم يصور أبدا على هيئة ثور، و لم يعتقد أحد أنه تجسد في ثور (4)، و لم يعتبر أبيس كروح للإله بتاح، إلا على أيام الدولة الحديثة، و إن كان هناك اعتقاد

ص: 351


1- ملوك أول 12/ 25- 32، هوشع 8/ 5- 6 و كذا. P, tic- po, htoN. M 232.
2- , tpygE ciahcrA, yremE. B. W 124. p، 1963.
3- أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة- القاهرة 1952 ص 31 (مترجم).
4- , ogacihC, sdoG eht dna pihsgniK, trofknarF. G 10. p، 1942.

يجعل من «أبيس»، و كذا «منقيس» عجل أون، رسولين يقومان بتبليغ الرسائل إلى إلههما، و هو اعتقاد يرجع كذلك إلى عهد الدولة الحديثة (1575- 1087 ق. م) (1).

هذا و قد قام جدال طويل حول حقيقة «العجل» الذي عبده بنو إسرائيل أثناء غياب موسى عليه السلام، فمن قائل أنه كان تمثالا أجوف من ذهب صاغه السامري من الحلي، و صنع بحيث إذا استدبر الريح دخلت جوفه و خرجت من فمه بصوت جهير يشبه خوار البقر، و من قائل إن هذا الرجل المحتال خدع بني إسرائيل و أخذ منهم الحلي، ثم رأى عجلا على هيئة العجول التي رآها تعبد في مصر، فاشتراه و قدمه لهم، على أنه إله، فقال «هذا إلهكم و إله موسى»، و من قائل غير هذين الرأيين، و لكن المتفق عليه من الكتب السماوية (التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم) أنهم عبدوا عجلا، أيا كان هذا العجل (2).

و يختلف المؤرخون المحدثون حول عبادة العجل الذي عبده بنو إسرائيل، ففريق ينسبها إلى عبادة الإلهة «حاتحور» و فريق ينسبها إلى عبادة العجل «أبيس»، ذلك أن «سير ليوناردو و ولي» (3) إنما يذهب إلى أن بني إسرائيل عند ما دخلوا منطقة جنوب سيناء، حيث أقام المصريون المشتغلون بالتعدين معبدا لحاتور، ارتدوا عن الوحدانية إلى العقائد التي اكتسبوها في

ص: 352


1- أدولف إرمان: المرجع السابق ص 31.
2- عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 201، و انظر: تفسير الطبري 1/ 279- 285، تفسير النسفي 1/ 48، 2/ 77- 78، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 51- 52، تفسير البيضاوي 3/ 27- 28، تفسير الخازن 1/ 59- 62، تاريخ الطبري 1/ 422- 425، ابن الأثير 1/ 107- 108.
3- , Y. N, noitaziliviC fo sgninnigeB ehT, yelloW dranoeL riS 515- 513. p، 1965.

مصر، و صاغوا العجل الذهبي، تمجيدا للإلهة البقرة، و التي اصطلح على أنها كانت سيدة تلك البلاد.

هذا و يفترض «أوسترلي» (1)، طبقا لما جاء في التوراة (2)، أن هذا العجل الذهبي إنما كان معبودا مصريا، و أنه هو الإلهة حاتور، و أن هناك تمثالا في المتحف المصري بالقاهرة لهذه الإلهة البقرة يرجع إلى أيام أمنحتب الثاني (1436- 1413 ق. م)، و قد غطى الرأس و العنق و القرنان في الأصل بالذهب، و يشير إلى «العجل الذهبي»، و قد وصف في مكان آخر، و كأنه الإلهة ذات القلائد المضيئة «مثل السماء بنجومها»، و هي تدعى «الواحدة الذهبية» أو «ذهب الآلهة»، و لعل في هذا إشارة كذلك إلى السبب الذي من أجله سمي العجل ب «الذهبي»، و قد وجدت صور هذه الإلهة في بيت شان (بيسان) و جازر و أريحا، و إن الإلهة «عشتار» كانت تمثل أحيانا بلباس الرأس الخاص بحاتور، و لهذا كله، فإننا نستطيع أن نوحّد العجل الذهبي بالإلهة المصرية «حاتور»، هذا فضلا عن أن من صفات حاتور، أنها كانت تدعى إلهة الحب، و الإلهة المرحلة الطروب، و من ثم فقد كانوا يسمونها «بالذهبية»، و قد دعاها اليونان «أفروديت»، و من ثم فقد كانت النسوة يخدمنها و يحتفلن بها، و ذلك بإقامة حفلات الرقص و الغناء و اللعب على الصاجات و الشخشخة بقلائدهن، و بالعزف على الدفوف (3).

و لعل من الجدير بالإشارة أن قارئ التوراة يجد في سفر الخروج صدى لهذه الاحتفالات النسوية بحاتور، من إقامة حفلات الرقص و الغناء

ص: 353


1- ,drofxO ,tpygE fo ycageL ehT ni ,learsI dna tpygE ,ylretseO .E .O .W 1947.
2- خروج 32/ 2- 4، ملوك أول 12/ 28.
3- أدولف إرمان: المرجع السابق ص 36- 37، سليم حسن: المرجع السابق 1/ 208، جيمس بيكي: المرجع السابق 2/ 189.

و اللعب، ذلك أن بني إسرائيل، بعد أن صاغوا عجلهم الذهبي، و قدموا له القرابين، «جلس الشعب للأكل و الشرب ثم قاموا للعب» (1)، و أن موسى عليه السلام عند ما اقترب من المحلة أبصر العجل و الرقص (2)، و طبقا لترجمة اليسوعيين، فلقد «رأى موسى الشعب أنهم عراة، لأن هارون (3) كان قد عراهم أمام أعدائهم، لأجل ما هو عار نجاسة» (4)، و هكذا تصور لنا التوراة جماعة إسرائيل، و هي ترقص عارية، و يذهب بها المرح من حول «العجل الذهبي» كل مذهب، مما يتفق و مظاهر الاحتفال بحاتور (5).

على أن هناك فريقا آخر يعارض هذا الاتجاه، و يرى أن بني إسرائيل عبدوا عجلا، و ليس بقرة، فالأستاذ «دياكونوف» (ffonokaiD. M. I) يرى أن العجل الذهبي إنما كان في صورة حيوان ذكر، و ليس أنثى، و من هنا فإنه يشك كثير في أن الإسرائيليين قد صاغوا هذا العجل الذهبي تمجيدا للإلهة «حاتور» (6)، و يذهب الدكتور ثروت الأسيوطي إلى أن بني إسرائيل قد قدسوا النجوم، و تقربوا إلى القمر ربيب الرعاة في الليالي الرطبة، بعد الشمس المحرقة، و من ثم فقد عبدوا العجل باعتباره رمزا للقمر (7)، بل إن جوستاف لوبون إنما يذهب إلى أن العجل من أصل كلداني، و كان بنو

ص: 354


1- خروج 32/ 2- 8.
2- خروج 32/ 19.
3- لاحظ هنا أن التوراة تجعل هارون، و حاشاه أن يفعل ذلك، هو الذي صنع العجل و أغوى بني إسرائيل، و ليس السامري، و هذا ما سنناقشه حالا.
4- نص ترجمة دار الكتاب المقدس بالقاهرة (ط 1982) كالتالي: و لما رأى موسى الشعب أنه معري لأن هارون كان قد عراه للهزء بين مقاوميه (خروج 32/ 19).
5- أنظر عن: الردة و عبادة العجل في سيناء (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 462- 479- الاسكندرية 1978).
6- . P, tic- po, yellooW. L 514.
7- ثروت الأسيوطي: نظام الأسرة بين الاقتصاد و الدين، بنو إسرائيل ص 149.

إسرائيل يعبدون العجول المعدنية بعد خروجهم من مصر بطويل زمن، لارتوائهم من مبادئ بلاد ما بين النهرين الدينية، و كان هذا هو الوجه المفضل الذي يرمزون به إلى ربهم «يهوه» (1).

و هناك ما يشير إلى أن إله العبريين «يهوه» إنما هو في الأصل إله قمري، فقد كان يرسم في العصور القديمة في صورة «ثور» فضلا عن أننا نجد قرنين في مذبحه (2)، هذا إلى جانب ما يفهم من التوراة (العهد القديم) أن الديانة العبرية كانت توصف قبل السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، بأنها ديانة قمر و شمس و كواكب (3)، مما يدل بوضوح على أن بني إسرائيل، على أيام الملكية، قد تبنى ملوكهم ديانات الشرك، بجانب ديانة يهوه، و أقاموا عجولا من ذهب وضعوها في مبان كالمعابد، كما فعل يربعام أول ملوك دويلة إسرائيل بعد الانقسام في أعقاب موت سليمان عليه السلام، في مدينتي دان و بيت إيل (4)، كما أشرنا من قبل، و كما فعل خليفته البعيد «أخاب» (869- 850 ق. م) في عاصمته السامرة (5).

و انطلاقا من هذا كله، فالرأي عندي، أن عجل الذهب الذي عبده بنو إسرائيل في أوائل مرحلة الخروج من سيناء، و موسى عليه السلام ما يزال بين ظهرانيهم يتلقى الوحي من ربه في طور سيناء، إنما كان تقليد العبادة العجل المقدس في مصر، و ليس تقليدا لعبادة الإلهة البقرة حاتور، و ربما كان من أسباب ذلك (أولا) أن حاتور إنما كانت معبودة في مصر العليا (الصعيد) أكثر منها في مصر السفلى (الدلتا) حيث كان بنو إسرائيل يعيشون على أطراف

ص: 355


1- جوستاف لوبون: اليهود في تاريخ الحضارات الأولى ص 61.
2- ملوك أول 12/ 28، ملوك ثان 23/ 11، خروج 32/ 4، هوشع 8/ 5- 6.
3- ملوك ثان 17/ 16، 21/ 3، 5، 23/ 4- 5، إرميا 8/ 2.
4- ملوك أول 12/ 26- 36.
5- ملوك أول 16/ 31- 33.

الدلتا الشرقية، و من ثم فقد عبدت حاتور في مناطق كثيرة من الصعيد، في كوم أمبو و الجبلين و الأقصر و هو بنجع حمادي و القوصية و أطفيح و منف، كما عبدت في بلاد النوبة و بونت و جبيل، و إن كان أهم مراكز عبادتها في «دندرة» (5 كيلا شمالي قنا عبر النهر) حيث معبدها الكبير، و الذي يضارع معبد أدفو في روعته و اكتماله، و قد بناه بطليموس الثاني (284- 246 ق. م) على أنقاض معبد حاتور القديم، و إن لم يتم البناء إلا حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، و ما يزال حتى الآن يعدّ من أحسن المعابد المصرية، و أكثرها تأثيرا (1)، و هذا يعني أن بني إسرائيل كانوا يعيشون في منطقة بعيدة عن نفوذ عبادة حاتور، و العكس صحيح بالنسبة إلى عبادة العجول كمنفيس و أبيس.

و منها (ثانيا) أن القرآن الكريم قد انفرد، من دون التوراة، بذكر نوعين من الردة، الأولى محاولة عبادة حتحور، بينما الثانية و قد ذكرتها التوراة كذلك، عبادة العجل الذهبي، ذلك أن آية الأعراف (139) إنما تتحدث عن تطلع بني إسرائيل، بمجرد عبورهم البحر، إلى عبادة إله آخر، غير إله موسى، يقول تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (2)، و قد أشرنا من قبل، إلى أن مناجم الفيروزج تكثر في وادي مغارة و سرابة الخادم، حيث أقيم معبد للإلهة حاتور، ربة الفيروزج، منذ أيام الدولة الوسطى، التي عملت على استغلال تلك المنطقة باهتمام

ص: 356


1- محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية- الاسكندرية 1984 ص 160، 337- 341، و كذا. P, I, seuqihpargoeG smoN sed eriannoitciD, reihtuaG. H 105., IV, p 56. A. و كذا ,oriac eL ,knraK a reL sirtsoseS ed llepahc enU ,rairvehC .H dna uacaL .P 224. p، 1956. P, tic- po, renidraG. H 130- 129، 45.
2- سورة الأعراف: آية 139.

كبير، و من ثم فإن بني إسرائيل عند ما دخلوا منطقة جنوب سيناء، حيث أقام المصريون المشتغلون بالتعدين معبدا لحاتور، ارتدوا عن الوحدانية إلى العقائد الوثنية التي اكتسبوها بمصر، و طالبوا موسى عليه السلام بأن يجعل لهم إلها، ربما على هيئة حاتور، غير أن كليم اللّه عليه السلام، استطاع بقوة إيمانه، و رسوخ عقيدته، و قوة شخصيته أن يمنع قطيعه من الردة الأولى هذه، و بالتالي لم يتمكن القطيع من عبادة حاتور أو غيرها من الآلهة الوثنية، لكنهم سرعان ما اهتبلوا فرصة ذهاب موسى لميقات ربه لمدة ثلاثين ليلة، فلما أتمها له ربه أربعين ليلة، كفر القطيع بموسى، و إله موسى، و عادوا إلى ما ألفوه من عبادة العجول في مصر، و انطلاقا من كل هذا، يمكننا القول أن الردة الأولى إنما كانت لعبادة حاتور، الإلهة البقرة، و لكن موسى عليه السلام نجح في وأد المحاولة في بدايتها، و أما الردة الثانية فكانت لعبادة العجل الذهبي، تقليدا لعبادة العجل منفيس أو أبيس، لا ندري على وجه اليقين.

و من ثم فإننا نوافق الرأي الذي ذهب إلى أن معبود إسرائيل الذهبي في سيناء إنما كان عجلا، و لم يكن بقرة، صحيح أن بعض العلماء نادى المعبود إنما كان بقرة، و لكن الذي يلزمنا هنا هو كلام اللّه عز و جل، كما جاء في الذكر الحكيم (1)، فضلا عن التوراة (2)، و ليس ما درج الباحثون أن يقدموا، فإنما هو اجتهاد، و فوق كل ذي علم عليم، و صدق اللّه العظيم حيث يقول:

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (3)، و يقول: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً

ص: 357


1- أنظر: سورة البقرة: آية 51- 54، 92- 93، النساء: آية 153، الأعراف: آية 148- 152، طه: آية 83- 98.
2- خروج 32/ 3- 6.
3- سورة البقرة: آية 92، و انظر: تفسير الطبري 1/ 354- 358، تفسير النسفي 1/ 71- 72، تفسير الطبرسي 1/ 363- 367، تفسير الكشاف 1/ 165، تفسير روح المعاني 1/ 325- 327، تفسير المنار 1/ 308، تفسير ابن كثير 1/ 180- 181.

لَهُ خُوارٌ، أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (1) و يقول: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ، فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى (2).

و يحاول هارون عليه السلام أن يعيد القوم الضالين إلى عقيدة التوحيد، وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (3)، و لكنهم و قد أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أجابوه، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (4)، و أخبر اللّه تعالى نبيّه موسى بردة قومه، و إخلال السامري لهم، فيعود موسى إلى قومه غضبان أسفا، و يشتد في اللوم على هارون أخيه، ظنا منه أن قصر، حين انساق القوم إلى عبادة العجل، يقول تعالى: وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (5)، و يقول:

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي، قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (6).

و هنا تتجه التوراة إلى منزلق خطر، حيث يذهب كتبتها في الضلال

ص: 358


1- سورة الأعراف: آية 148.
2- سورة طه: آية 88.
3- سورة طه: آية 90.
4- سورة طه: آية 91.
5- سورة الأعراف: آية 150.
6- سورة طه: آية 92- 94.

بعيدا، فيرون في سفر الخروج أن الذي صنع العجل و أغوى بني إسرائيل، إنما هارون، و ليس السامري، حين اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار في غيبة موسى (1)، و لست أدري كيف نسي كتبة التوراة أن هارون أخو موسى، و نبي و رسول من اللّه مع موسى، و نائب و خليفة لموسى في غيابه، و لكنهم بنو إسرائيل دائما مع الفاسد المفسد، و لو كان السامري، قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا، وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (2)، و قال تعالى:

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ، وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (3).

و على أية حال، فإن موسى سرعان ما يقرر، فيما تروي التوراة، أن هذا الشر، و أن هذه الردة، ليس لها من توبة، إلا شفار الأسنة يسلونها ليضرب بها اللاويون، سبط موسى، رقاب الآخرين، و طبقا لرواية سفر الخروج فلقد «وقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة الأف رجل» (4)، هذا و قد اختلف المفسرون فيمن عبد العجل من بني إسرائيل، فمن قائل عبده ثمانية آلاف، و من قائل عبده جميعهم، إلا هارون، فضلا عن اثنى عشر ألفا منهم، و من قائل عبده كل بني إسرائيل إلا هارون، و قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه (5)، على

ص: 359


1- خروج 32/ 1- 24.
2- سورة مريم: آية 51- 53، و انظر: طه: آية 29- 36، الشعراء: آية 12- 17، القصص: آية 34- 35.
3- سورة الصافات: آية 114- 122.
4- خروج 32/ 26- 29.
5- تفسير الخازن 1/ 62، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 65.

أن «سبينوزا» يذهب إلى أن الإسرائيليين جميعا، قد عبدوا العجل، باستثناء اللاويين (1)، فإذا كان ذلك كذلك، و إذا كان اللاويون، كما يقول فرويد، هم بطانة موسى من السحرة المصريين الذين وصفهم القرآن بأنهم أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (2)، و من ثم فهم، بجانب المؤمنين من بني إسرائيل، هم وحدهم الذين لم يعبدوا العجل، أو قل هم الذين عبدوا رب موسى و هارون عن عقيدة، لم تضعف حتى أمام وعيد فرعون و تهديده، و لعمري إن الذين هددهم فرعون، كما يقول الذكر الحكيم: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (3)، فكان ردهم: قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (4)، و في آية أخرى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (5)، هم أنفسهم الذين بقوا على إيمانهم باللّه الواحد القهار، لأن الذين آمنوا من أبناء مصر إنما كان إيمانهم أرسخ من الهرم، و كان استخفافهم بوعيد فرعون و تهديده بقطع أيديهم و أرجلهم و تصليبهم في جذوع النخل، إن هؤلاء ليسوا هم الذين ينكثون عهدهم، و يرتدون عن دينهم، بمجرد أن يتخلف نبيّهم في ميقات ربه أياما عشرة، فوق الثلاثين المحددة.

و أما عقاب جريمة كفر بني إسرائيل، فقد كان أشد وبالا و نكالا من

ص: 360


1- باروخ سبينوزا: المرجع السابق ص 415.
2- سورة الشعراء: آية 51.
3- سورة طه: آية 71.
4- سورة طه: آية 72- 73.
5- سورة الشعراء: آية 50- 51.

المحن الأخرى التي تعرضوا لها، لقد كان فرعون يقتل أبناءهم و يستحي نساءهم، و ها هم الآن يقتلون أنفسهم بأنفسهم، و هكذا نرى أن ما حل ببني إسرائيل في ظل فرعون، كان من جنس ما حلّ بهم في ظل موسى، فقد كان ذلك بلاء من اللّه، و كان هذا بأمر من اللّه، و كلاهما محنة تنزل بالعصاة (1)، فلقد كانت توبتهم عن عبادة العجل أن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم، قال تعالى:

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (2)، يقول المفسرون أنهم أمروا أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده، و كان الرجل منهم يرى قريبه فلا يقدر أن يمضي لأمر اللّه تعالى، فأرسل اللّه تعالى ضبابة و سحابة سوداء لا يتباصرون بهما، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشى، حتى دعا موسى و هارون عليهما السلام، فكشفت السحابة و نزلت التوبة، و كان القتلى سبعين ألفا، و قال السدى في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: اجتلد الذين عبدوه و الذين لم يعبدوه (أي العجل) بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتلى، حتى كادوا أن يهلكوا، و حتى قتل منهم سبعين ألفا، و حتى دعا موسى و هارون ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقية الباقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح و تاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا، و من بقي مكفرا عنه، فذلك قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

و روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس: أمر موسى قومه، عن أمر ربه عز و جل، أن يقتلوا أنفسهم، قال: و أخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، و قام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، و أصابتهم ظلمة

ص: 361


1- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 204.
2- سورة البقرة: آية 54.

شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم، و قد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، و كل من بقي كانت له توبة، على أن هناك من يرى أن التوبة لم تكن بالقتل، و إنما بالنجع أو بقطع الشهوات (1).

[5] طلب بني إسرائيل رؤية اللّه جهرة:

و هذا نوع آخر من ردة بني إسرائيل، فرغم تتابع الحجج عليهم و الآيات، و رغم سبوغ النعم من اللّه تعالى عليهم، فإن موسى عليه السلام لم يجد منهم إلا العناء، فما أن جاوزوا البحر، فأتوا على قوم يعكفون على أصنامهم، حتى قالوا لموسى اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة، و كأن اللّه تعالى، الذي فرق لهم البحر ليس هو إلههم الواحد الأحد، و ما أن تمضي بضعة أيام حتى يتذمر القوم من حياتهم الجديدة، بسبب عدم وجود الماء العذب مرة، و بسبب حرمانهم من طعام كانوا يحصلون عليه من فتات الموائد و فضلات المصريين مرة أخرى، و ما أن يمضي حين من الدهر حتى يعودوا إلى ما ألفوه من عبادة العجول في مصر، و هكذا أتعب بنو إسرائيل أنفسهم، و اتعبوا نبي اللّه معهم، لا يطيعون أمره، و لا ينتهون عما نهى عنه، و كأن شعارهم «سمعنا و عصينا»، حتى إذا ما دعاهم إلى قتال عدوهم، أجابوه:

اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، و إذا أمرهم أن ادخلوا الباب سجدا، و قولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم، قالوا مستهزئين: حنطة في شعيرة، و يدخلون الباب من قبل أستاهم (2)، إلى غير ذلك من أفعالهم

ص: 362


1- أنظر: تفسير الطبري 1/ 285- 288، تاريخ الطبري 1/ 424، ابن كثير: مختصر التفسير 1/ 64- 65، البداية و النهاية 1/ 288، تفسير الخازن 1/ 62، تفسير النسفي 1/ 48- 49، تفسير أبي السعود 1/ 175- 176، تفسير البغوي 1/ 62، تاريخ ابن الأثير 1/ 108، ثم قارن: خروج 32/ 22- 29.
2- قال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، و إن استبعده الرازي، و قال السدي عن ابن مسعود: قيل لهم ادخلوا الباب سجدا فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي رافعي رءوسهم، خلاف ما أمروا، و روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم: قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا و قولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا و قالوا حبة في شعرة» (مختصر تفسير ابن كثير 1/ 68).

القبيحة التي آذوا بها نبيّهم، و التي تكاد لا تحصى.

و في هذه المرة يطلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام، حتى يؤمنوا، أن يروا اللّه جهرة، و كأنهم بعد كل هذه المعجزات لم يؤمنوا بموسى و إله موسى، فيطلبون منه، في مقابل إيمانهم، رؤية اللّه جهرة، قال تعالى:

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1)، هذا و قد اختلف العلماء في طلب الرؤية، و هل كانت قبل التوبة من عبادة العجل أم بعدها، فمن قائل إنها كانت قبل التوبة، و من قائل إنها بعدها، و هذا ما نميل إليه، روى الطبري عن السدي: أن بني إسرائيل لما تابت من عبادة العجل، و تاب اللّه عليهم بقتل بعضهم بعضا، أمر اللّه تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل و وعدهم موعدا، فاختار موسى من قومه سبعين رجا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا إلى ذلك المكان و دنا موسى من الجبل و وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، و دنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوا اللّه يكلم موسى يأمره و ينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي و يدعو اللّه و يقول: رب ما ذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم، و قد أهلكت خيارهم، رب لو شئت أهلكتهم و إياي، أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فأوحى اللّه إليه: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، ثم إن اللّه تعالى

ص: 363


1- سورة البقرة: آية 55- 56.

أحياهم، فقاموا و عاشوا، رجلا رجلا، ينظر بعضهم إلى بعض، كيف يحيون، و ذلك قول اللّه تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

و يقول ابن كثير: إن أهل الكتاب غلطوا في دعواهم أن هؤلاء رأوا اللّه عز و جل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون (1)، و هو يشير في ذلك إلى قوله تعالى: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، و من هنا كما يقول النسفي في التفسير، تعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية، لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت، قلنا (أي النسفي) إنما عوقبوا بكفرهم، لأن قولهم: إنك رأيت اللّه، فلن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة كفر منهم، و لأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته، و الإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم، و لا يجوز اقتراح الآيات عليهم، و لأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد، بل سؤال تعنت و عناد.

ثم يقول الإمام النسفي في تفسير آية الأعراف (143) قالَ رَبِّ أَرِنِي ).

ص: 364


1- تقول التوراة إن اللّه أمر موسى أن يصعد إليه هو و هارون و ناداب و أبيهو و سبعون من شيوخ إسرائيل، و أن يسجدوا للرب من بعيد، و لا يقترب إلا موسى، ثم صعدوا «و رأوا إله إسرائيل و تحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف و كذات السماء في النقاوة، و لكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا اللّه و أكلوا و شربوا» (خروج 24/ 1- 11) و من عجب أن التوراة نفسها، و في نفس سفر الخروج تقول إن موسى طلب أن يرى اللّه، فقال له: «لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني و يعيش»، ثم أمره أن يقف على صخرة، و أن الرب حين يجتاز الصخرة سيضع موسى في نقرة من الصخرة و يستره بيده حتى يجتاز «ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، و أما وجهي فلا يرى» (خروج 33/ 20- 23)، و انظر عن هذا التناقض في روايات التوراة و غيره (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 224- 252).

أَنْظُرْ إِلَيْكَ يعني مكّني من رؤيتك بأن تتجلى لي حين أراك، و هو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن اللّه تعالى يرى حتى سأله، و اعتقاد جواز ما لا يجوز على اللّه كفر، قالَ لَنْ تَرانِي بالعين الفانية، بل بالعطاء و النوال بعي باقية، و هو دليل لنا أيضا، لأنه لم يقل «لن أرى» ليكون نفيا للجواز، و لو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي، إذا الحالة حالة الحاجة إلى البيان، و لكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني»، و هو دليل لنا أيضا، لأنه على الرؤية باستقرار الجبل، و هو ممكن، و تعليق الشي ء بما هو ممكن يدل على إمكانه، كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه، و الدليل على أنه ممكن قوله: جَعَلَهُ دَكًّا، و لم يقل اندك، و ما أوجده تعالى كان جائز أن لا يوجد، لو لم يوجده، لأنه مختار من فعله، و لأنه تعالى ما آيسه عن ذلك و لا عاتبه عليه، و لو كان ذلك محالا لعاتبه، كما عاتب نوحا عليه السلام بقوله: «إني أعظك أن تكون من الجاهلين»، حين سأله إنجاء ابنه من الغرق (1).

ص: 365


1- تفسير النسفي 1/ 49، 2/ 75، تفسير الطبري 1/ 289- 293، تاريخ الطبري 1/ 428، ابن كثير: مختصر التفسير 1/ 65- 66، 2/ 48- 49، البداية و النهاية 1/ 283- 286، 289، الكامل لابن الأثير 1/ 108- 109، صفوة التفاسير 1/ 59- 60، 469.

ص: 366

الفصل الثّاني بنو إسرائيل في التيه
[1] ظهور فكرة الوطن عند بني إسرائيل:-

بدأ بنو إسرائيل يفكرون في وطن يستقرون فيه، و كان هذا الوطن هو أرض كنعان، رغم أنها لم تكن لهم من قبل دار قرار، إذ أنهم لم يقيموا فيها إلا لفترة وجيزة، لا تتجاوز أيام إسحاق و يعقوب عليهما السلام، ثم هاجروا منها بسبب قحط عم و طال، فكانت أرض النيل الطيبة هي الملجأ أو المأوى، فقدموا إليها بدعوة من يوسف الصديق عليه السلام، و الذي كان قد أصبح وقت ذاك عزيز مصر (1)، و في تلك الآونة التي أقاموا فيها هناك في الجنوب الفلسطيني لم يمتلكوا، كما تقول توراتهم، حتى مكان خيامهم أو موضع قبورهم (2)، و ها هم الآن بعد أن خرجوا من مصر، أو على الأصح، بعد أن هربوا منها، يهيمون في صحراوات سيناء المقفرة، و هنا، و هنا فقط، بدأت فكرة الوطن عندهم، ذلك لأن ربهم «يهوه» كان، فيما تروي توراتهم (3)، قد وعدهم بأرض كنعان، ففكرة الوطن عند اليهود جاءت بعد ظهور بني إسرائيل، و عادة تتطور الشعوب في ظل أوطانها، و لكن بني

ص: 367


1- سورة يوسف: آية 58- 100، تكوين 41/ 56- 46/ 34.
2- تكوين 23/ 1- 20، 37/ 1، 47/ 9.
3- خروج 3/ 8، 32/ 13، 33/ 1- 2.

إسرائيل ظهروا إلى الوجود أولا، ثم ادعوا ملكية أرض كانت لغيرهم، و لا حق لهم فيها (1).

و لعل سائلا يتساءل: لم وقع اختيار بني إسرائيل على فلسطين لتكون وطنا لهم؟ و لعل الإجابة إنما تكمن في الأسباب التالية، و التي منها (أولا) أن العبرانيين قد اعتادوا العيش في أرض مصر الغنية، و من ثم فهم لا يستطيعون البقاء في الصحراء، و لا بدلهم من الاندفاع تجاه وطن أفضل من هذه الصحراوات القاحلة في شبه جزيرة سيناء، و ما داموا لن يستطيعوا العودة إلى أرض مصر الغنية، فليس أمامهم سوى كنعان، و من المعروف أن العبرانيين، مهما قيل عن أسلافهم و أصلهم التاريخي، فقد كانوا قبائل رحلا، و لما كانوا رحلا في الشرق الأدنى، فقد عاشوا، لا في السهول الخضراء التي لا تنتهي، و إنما في رقعة بين البادية و بين الزرع، بين أخصب البقاع و بين نفي الحياة العام، ذلك لأنه في هذه البقعة العجيبة من العالم، إنما يتجاور الخصب و البوار، و من ثم فلا بد أنهم قد اختبروا رفاه الحياة و عنتها في كلا الحالين، و قد تاق العبرانيون إلى الاستقرار في السهول الممرعة، و لكنهم كانوا يحملون بأرض تفيض غلالا، كالتي تخيلها المصريون لآخرتهم (2).

و منها (ثانيا) ذلك السبب التقليدي، إذ كانت هذه القبائل الرحل، و لعدة أجيال متتالية، ترنوا بناظريها إلى «أرض الميعاد» (3)، حيث كان الأجداد يعيشون قبل رحيلهم إلى مصر (4)، و منها (ثالثا) أن بني إسرائيل حين

ص: 368


1- عبد الحميد زائد: الشرق الخالد، القاهرة 1966 ص 379.
2- , yhposolihP erofeB, srehto dna trofknarF. H 246. p، 1949.
3- أنظر: محمد بيومي مهران: قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة- مجلة الأسطول- العدد 66، 67، الاسكندرية 1970.
4- . P, tic- po, llaH. R. H 409.

خرجوا من مصر فرارا من آل فرعون، أصبح عددهم يكفي لأن يقوم عليه مجتمع، له كيان و نظام و مكان، و قد جاءت التوراة بالنظام فأين يجدون المكان؟ إن أقرب مكان تطمح إليه أنظارهم، بعد مصر، إنما هو فلسطين (1)، أو كنعان كما كانوا يسمونها، فهي، كما حدثتهم توراتهم في أسفار موسى الخمسة، تفيض لبنا و عسلا (2)، و منها (رابعا) أن موسى عليه السلام أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتب اللّه لهم، سواء أ كانت هذه الأرض هي فلسطين بعامة أو القدس أو أريحا فيما يرجح البعض، تنفيذا لأمر اللّه تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (3).

[2] الخوف من دخول كنعان:-

و هكذا بدأ موسى يسير بقومه نحو كنعان، و لكن كنعان كانت عامرة بالسكان، و من ثم فإن محاولة دخولها إنما تعني الحرب بين بني إسرائيل و بين سكان فلسطين الأصليين، و هنا، و في برية فاران، أمر الرب موسى أن يرسل بعضا من رجاله يمثلون الأسباط جميعا لكي يتجسسوا أرض كنعان، و يقوم الجواسيس بمهمتهم ثم يعودون إلى موسى بتفاصيل عما وجدوه في الأرض من تحصينات، و ما فيها من نقاط ضعف و قوة (4)، غير أن الرسل إنما ينقسمون إلى فريقين، الواحد و يضم عشرة رجال، يرى أن اليهود أضعف من أن يقوموا، «لأن الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها هي أرض تأكل سكانها، و جميع الشعب الذي رأينا فيها أناس طوال القامة، و قد رأينا هناك الجبابرة

ص: 369


1- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 210.
2- خروج 3/ 8، 32/ 13، 33/ 3، عدد 14/ 8، تثنية 26/ 15.
3- سورة المائدة: آية 21، و انظر: تفسير الطبري 1/ 299- 303، تفسير النسفي 2/ 278، تفسير روح المعاني 1/ 264، تفسير الخازن 1/ 64، تفسير البيضاوي 1/ 148.
4- عدد 13/ 1- 29.

فكنا في أعيننا كالجراد، و هكذا كنا في أعينهم» (1)، و أما الفريق الآخر، و يضم رجلين، كالب بن يقنة و يشوع بن نون، فقد عارض هذا الإتجاه الجبان، بل إن كالب ليقول: «إننا نصعد و نمتلكها لأننا قادرون» (2).

و هنا يثور بنو إسرائيل على موسى و هارون، و مع ذلك فإن موسى إنما يبدأ يحرضهم على القتال، و لكنهم مع كثرتهم، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى (3)، كانوا يخافون الحرب و يهابون القتال، إذ تمكنت منهم المذلة و الصغار، فصاحوا بموسى و هارون قائلين: «ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر، و لما ذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف، تصير نساؤنا و أطفالنا غنيمة» (4)، بل و قد ذهب بهم التمرد، طبقا لرواية التوراة، إلى حد الثورة على موسى شخصيا، و المناداة بخلع رئاسته، و قيام سلطة جديدة تعود بهم إلى مصر، «أ ليس خير لنا أن نرجع إلى مصر، فقال بعضهم لبعض نقيم رئيسا و نرجع إلى مصر» (5).

و يصور القرآن الكريم هذا الحادث تصويرا صادقا، الصدق كل الصدق، مبينا أن صفة الجبن عند الإسرائيليين، ليست صفة عرضية تزول بزوال أسبابها، و إنما هي جوهر مكوّن للشخصية الإسرائيلية، يتناسق مع بقية الصفات الجوهرية الأخرى، لأن القرآن الكريم إنما يصفهم بالجبن، و بين ظهرانيهم نبيّهم الكريم يحرضهم على القتال للدخول إلى أرض كنعان، و الناس حين يكون بينهم نبيّهم يكونون أكثر تشوقا للاستشهاد تحت

ص: 370


1- عدد 13/ 31- 33.
2- عدد 13/ 30.
3- سورة الحشر: آية 14.
4- عدد 14/ 1- 4.
5- عدد 14/ 3- 4، و انظر: صفوة التفاسير 1/ 336، التسهيل 1/ 173.

قيادته و في ظل لوائه، و لكن الإسرائيليين شعب لم يؤمن بنبيّه (1)، شعب ليس في كيانه إلا عواطف ذليلة خانعة، و كيف يستطيع شعب ذليل لا يعرف سوى رائحة الشواء عند قدور اللحم في مصر، و إن استعبد من أجل ذلك و ذل، و كيف يستطيع شعب كهذا أن يخوض المعارك، حتى و إن كان قائده كليم اللّه موسى عليه السلام.

و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ، قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ، قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (2).

و يقول ابن كثير في التفسير: و هذا نكول منهم عن الجهاد و مخالفة لرسولهم، و تخلف عن مقاتلة الأعداء، و يقال إنهم لما نكلوا على الجهاد و عزموا على الانصراف و الرجوع إلى مصر، سجد موسى و هارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاما لما هموا به، و شق يوشع بن نون و كالب بن يفنة ثيابهما، و لا ما قومهما على ذلك، فيقال إنهم رجموهما، و جرى أمر عظيم و خطر جليل (3)، و قال الصابوني في صفوة التفاسير: و هذا

ص: 371


1- عبد الراجحي: الشخصية الإسرائيلية- الاسكندرية 1968 ص 90.
2- سورة المائدة: آية 21- 24، و انظر: تفسير روح المعاني 4/ 106- 108، تفسير الطبرسي 6/ 65- 68، تفسير الطبري 10/ 171- 187، تفسير المنار 6/ 265- 276، تفسير الكشاف 1/ 619- 621، تفسير القرطبي ص 2120- 2125، تفسير النسفي 1/ 278- 279، في ظلال القرآن 6/ 124- 126.
3- تفسير ابن كثير 3/ 68- 73.

إفراط في العصيان و ما سوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر و الاستهانة باللّه و رسوله (1)، على أن الإمام النسفي إنما يعلق على رأي بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ من حمله على الظاهر، و قال إنه كفر منهم، و ليس كذلك، إذ قالوا ذلك اعتقادا و كفروا به لحاربهم موسى، و لم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء، و لكن الوجه فيه أن يقال: فاذهب أنت و ربك يعينك على قتالك، أو و ربك أي سيدك و هو أخوك الأكبر هارون، أو لم يرد به حقيقة الذهاب، و لكن كما تقول: كلمته فذهب يجيبني، تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا: أريد اقتالهم «فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم (2).

و أيا ما كان المعنى، فمن الواضح تماما، أنه لم يستجب لموسى عليه السلام، إلا أخوه هارون، فيشكو لربه هؤلاء القوم الفاسقين الخانعين، «قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (3)، فموسى عليه السلام يقول ذلك معتذرا إلى اللّه، متبرءا من مقالة السفهاء، فهو لا يملك إلا نفسه و نفس أخيه و هارون، و كأن موسى لا يثق حتى بالرجلين المذكورين (يشوع و كالب) كل الوثوق، فلم يذكر إلا النبي المعصوم، أخاه هارون، ثم يطلب من اللّه تعالى: فافصل بيننا و بينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا، و تحكم عليهم بما وعدتهم، و هو في معنى الدعاء عليهم، خاصة و قد وصفهم بالقوم الفاسقين (4).

و لعل هذا الموقف الجبان من بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه

ص: 372


1- صفوة التفاسير 1/ 336.
2- تفسير النسفي 1/ 278- 279.
3- سورة المائدة: آية 25، و انظر تفسير ابن كثير 3/ 73، تفسير المنار 6/ 276- 277، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 3/ 154، تفسير الطبرسي 6/ 68- 69.
4- تفسير النسفي 1/ 279، صفوة التفاسير 1/ 336.

السلام، بعد ما رأوا من الآيات كفلق البحر و إغراق عدوهم و إنزال المن و السلوى و تظليل الغمام و نحو ذلك من الأمور العظام، يذكرنا- مع الفارق الكبير، بموقف المسلمين، من مهاجرين و أنصار، من سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبيل بداية القتال في غزوة بدر الكبرى، و كانت القوة الإسلامية تكاد لا تبلغ ثلث القوة القرشية الكافرة، عددا و عدة، عند ما وقف «المقداد بن عمرو الكندي» يقول لسيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: يا رسول اللّه، امض لما أراك اللّه، فنحن معك، و اللّه لا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون».

و من هذا المنطق كذلك، يقف «سعد بن معاذ» ليرد على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين أراد أن يعرف رأي الأنصار، «لقد آمنا بك و صدقناك، و شهدنا أن ما جئت به هو الحق، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة، فامضي لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، و ما تخلف منا رجل واحد، و ما نكره أن تلقي بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل اللّه يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على بركة اللّه» (1).

و هكذا بهذه الروح العالية، و بهدى من اللّه، و بإرشاد من رسول اللّه، و باتباع لكتاب اللّه و سنة رسوله، استطاع المسلمون أن يجعلوا راية الإسلام ترفرف عالية على ربوع الشرق، بعد أن طردوا الساسانيين و الرومان من شرقنا (1) صحيح البخاري 5/ 93، 6/ 64- 65، مسند الإمام أحمد 1/ 389- 390، ابن هشام:

سيرة النبي 1/ 614- 615، ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 8، ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 392- 393، تفسير الطبري 10/ 185- 186، تفسير ابن كثير 3/ 71- 72، الواقدي: كتاب المغازي 1/ 48-

ص: 373

العربي، و دكوا عروش الأباطرة، و نشروا الإسلام، و شادوا الحضارة العربية الإسلامية.

[3] التيه:-

و هكذا كان حكم اللّه العادل على هؤلاء القوم الفاسقين من بني إسرائيل بالفناء و التشرد، تقول التوراة: «إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي و آياتي التي عملتها في مصر و في البرية، و جربوني الآن عشر مرات و لم يسمعوا لقولي، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، و جميع الذين أهانوني لا يرونها» (1)، ثم يقول لموسى: «حي أنا يقول الرب، لأفعلن بكم تكلمتم في أذني، في هذا القفر تسقط جثثكم، جميع المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين سنة فصاعدا، الذين تذمروا على، لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكنكم فيها، ما عدا كالب بن يفنة و يشوع بن نون، و أما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة، فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها، فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، و بنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، و يحملون فجوركم حتى تفني جثثكم في القفر، كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة، يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي أنا الرب، قد تكلمت لأفعلن هكذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ، في هذا القفر يفنون و فيه يموتون» (2).

و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (3).

ص: 374


1- عدد 14/ 22- 23.
2- عدد 14/ 28- 35.
3- سورة المائدة: آية 26، و انظر: تفسير الكشاف 1/ 621، تفسير الطبري 10/ 190- 200، في ظلال القرآن 6/ 129- 130 تفسير الطبرسي 6/ 69- 71، تفسير النسفي 2/ 279- 280، تفسير المنار 6/ 277- 279، تفسير القرطبي ص 2126- 2130.

و يقرر بعض العلماء أن «التيه» هو الذي حدد بأربعين سنة، و ليس «التحريم»، فالتحريم مطلق أبدي (1)، و من أجل هذا يوقف في القراءة بعد قوله تعالى: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ثم يبتدأ بقوله تعالى: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ذلك لأن الرجال الصالحين للحرب، الذين عصوا موسى، ماتوا في البرية أثناء السنين الأربعين، و لم يدخل أحد منهم إلى أرض الموعد، فكانت محرمة عليهم بإطلاق (2)، و يتفق هذا التفسير للنص القرآني الكريم تماما مع نص التوراة الآنف الذكر، و من ثم ترى جمهرة العلماء أن جميع الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر، سوف يموتون في البرية، و لن يروا أرض الميعاد أبدا، ما عدا يوشع بن نون و كالب بن يفنة (3).

و جاء في تفسير ابن كثير عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض» قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه و أنزل عليهم المن و السلوى، و هذه قطعة من حديث الفتون، ثم كانت وفاة هارون عليه السلام (4) ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة ).

ص: 375


1- يرى بعض المفسرين أن التحريم هنا تحريم منع، لا تحريم تعبد، كقوله تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ، و لذا قيل إن الحرمة مؤبدة حتى يموتوا و يدخلها أبناؤهم (تفسير النسفي 1/ 279- 280، تفسير الخازن 2/ 33).
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 228، تفسير الكشاف 1/ 622، تفسير الطبرسي 6/ 70، تفسير القرطبي ص 2126- 2127، في ظلال القرآن 6/ 129، تفسير النسفي 1/ 279- 280، تفسير روح المعاني 6/ 109، تفسير المنار 6/ 277، تاريخ الطبري 1/ 436.
3- تفسير ابن كثير 3/ 74، تاريخ الطبري 1/ 436، عدد 14/ 26- 30.
4- روى الطبري في تفسيره عن الإمام علي كرم اللّه وجهه في الجنة في تفسير قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا، كان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل، فلما مات دفنه موسى، قال فلما أتى بني إسرائيل قالوا له أين هارون، قال مات، قالوا قتلته، قال فاختار منهم سبعين رجلا، قال فلما أتوا القبر قال موسى: أ قتلت أو مت، قال مت، فأصعقوا، فقال موسى: رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت، يقولون أنت قتلتهم قال فأحيوا، و في رواية في تفسير الخازن: أن موسى لما اتهم بقتل هارون أمر اللّه الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل و تكلمت الملائكة بموته، فصدقت بنو إسرائيل أنه مات و برأ اللّه موسى مما قالوا، ثم إن الملائكة حملوه و دفنوه، و لم يطلع على قبره أحد، (تفسير الطبري 13/ 142- 143، تفسير الخازن 2/ 34، ثم قارن عدد 20/ 22-! 2، حيث يرى أن هارون مات و دفن على رأس جبل هور).

موسى الكليم عليه السلام، و أقام اللّه فيهم يشوع بن نون نبيا خليفة عن موسى بن عمران، و مات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، و يقال إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع و كالب، و قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض» قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى و هارون في التيه، و كل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، و هو الذي قام بالأمر بعد موسى، و هو الذي افتتحها (أي الأرض المقدسة) (1).

و أما سبب فكرة التيه أربعين سنة في البرية، فهو موضع خلاف بين العلماء، فهناك من يرى أنها كانت بسبب خوف الإسرائيليين من المصريين، و انتظارا للوقت المناسب الذي تضعف فيه السيادة المصرية على كنعان فيدخلونها آمنين (2)، و من ثم فقد مضت أربعون سنة قبل أن يدخل بنو إسرائيل أرض الميعاد، حيث استطاع موسى أن يكوّن من هؤلاء العبيد المحررين حديثا، وحدة واحدة، و أمة منظمة، و أن يطبعهم بطابع الصفات الخلقية الروحية التي كان يتطلبها قدرهم (3).

و الرأي عند «ابن خلدون» أن التية إنما كان لإفناء أبناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل و القهر و القوة، و إنشاء جيل آخر عزيز، لا يعرف

ص: 376


1- مختصر تفسير ابن كثير 1/ 504، و انظر تفسير النسفي 1/ 279- 280.
2- حسين فوزي النجار: أرض الميعاد- القاهرة 1959 ص 156.
3- , msiaduJ, nietspE. I 32. p، 1970.

الإحكام و القهر، و لا يسام الذل و الهوان، و العلماء يقررون أن حضانة العلم خمس عشرة سنة، فإذا ابتدأت أمة تتعلم فإنها تجني ثمرة العلم بعد خمس عشرة سنة، و أما حضانة الأخلاق فمدتها أربعون سنة، فإذا أخذت الأمة تستمسك بالأخلاق فإنها لا تجني الثمرة إلا بعد أربعين سنة، لذلك أراد اللّه تعالى أن يبقي بنو إسرائيل في البرية أربعين سنة حتى يفنى الجيل الذي نشأ في الذل و الاستعباد، و ينشأ جيل ألف الحرية و لم تذله العبودية (1).

على أن هناك فريقا من العلماء يرى أن فترة التيه هذه إنما تتصل اتصالا وثيقا بعقيدة إسرائيل الجديدة، ذلك لأن فترة الأربعين سنة للتيه إنما كانت ملائمة لغرس العقيدة الجديدة في عقول و قلوب القوم الذين اعتادوا رونق الطقوس المصرية، كما أن تلك العقيدة، سوف تتعرض لأخطار أعظم فيما بعد في فلسطين (2)، مما يجعلها في أشد الحاجة إلى فترة كافية لتثبيت الإيمان بها.

و أيا ما كان الأمر، فإن ختام القصة هنا في سورة المائدة بقوله تعالى:

فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ إنما هو تسلية لموسى عليه السلام، أي لا تأسف و لا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، و هذه القصة تضمنت تقريع اليهود و بيان فضائحهم، و مخالفتهم للّه و رسوله، و نكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت نفوسهم عن مصابرة الأعداء و مجالدتهم و مقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول اللّه و كليمه و صفيه من خلقه في ذلك الزمان سيدنا موسى عليه السلام، و هو يعدهم بالنصر و الظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل اللّه بعدوهم فرعون من العذاب و النكال و الغرق له و لجنوده في اليم و هم ينظرون، لتقر به أعينهم و ما بالعهد

ص: 377


1- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 227- 228.
2- . P, tic- po, yellooW. L 497.

من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر، لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها و عدوهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص و العام، و افتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، و لا يسترها الذيل، هذا و هم في جهلهم يعمهون، و في غيّهم يترددون، و هم البغضاء إلى اللّه و أعداؤه، و يقولون مع ذلك نحن أبناء اللّه و أحباؤه، فقبح اللّه وجوههم التي مسخ منها الخنازير و القردة، و ألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، و يقضي لهم فيها بتأييد الخلود، و قد فعل، و له الحمد من جميع الوجود (1).

[4] عودة التمرد ضد موسى:-

و ما أن يمضي حين من الدهر قليل، بعد أن كتب اللّه على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، حتى تعود ثورات بني إسرائيل على موسى من جديد، غير أن الجديد هنا أن ثورة اليوم إنما يتزعمها أحد اللاويين، سبط موسى نفسه، ذلك أننا نقرأ في سفر العدد من التوراة أن مائتين و خمسين من شيوخ إسرائيل، بقيادة «قورح» «اللاوي» قد اتهموا موسى و هارون بأنهما يترفعان على جماعة الرب، رغم أن كل الجماعة بأسرها مقدسة، و في وسطها الرب، و يحاول موسى أن يهدئ من ثائرة القوم، و أن يذكر قورح بأن الرب إنما قرب سبطه اللاويين إليه، دون بقية أسباط بني إسرائيل، غير أن الثورة لا تهدأ، و من ثم يرسل موسى في طلب الزعيمين الآخرين «داثان و أبيرام»، لعله ينجح في تهدئة القوم عن طريقهما، إلا أن الرجلين يرفضان مجرد الاجتماع بموسى، قائلين «أ قليل أنك أصعدتنا من أرض تفيض عسلا و لبنا لتميتنا في البرية، حتى تترأس علينا، كذلك لم تأت بنا إلى أرض تفيض لبنا و عسلا، و لا أعطيتنا نصيب حقول و كروم، هل تقلع أعين هؤلاء القوم، لا نصعد» (2)، و لعل هذا هو السبب في الثورات المتكررة من بني إسرائيل

ص: 378


1- مختصر تفسير ابن كثير 1/ 505.
2- عدد 16/ 1- 14.

على موسى و أخيه و هارون عليهما السلام، ذلك لأن هؤلاء الرحل الشاردين الحائرين الذين كانوا يسعون جاهدين وراء حياة أفضل من الارتحال، و يحلمون، بعد أن ذاقوا مرارة التنقل و اشتد حنينهم إلى أرض كأرض مصر، بأرض تفيض لبنا و عسلا، ما داموا لا يستطيعون العودة إلى مصر، و من ثم فلم يلبثوا أن انحنوا باللائمة على من أثارهم ضد أصحابها (1).

و على أي حال، فإن الثورة قد انتهت بإبادة زعمائها، إذ «فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم»، ثم سرعان ما خرجت نار من عند الرب فأكلت المائتين و الخمسين رجلا، و أما بقية بني إسرائيل فقد سلط اللّه عليهم و باء كاد أن يفنيهم عن بكرة أبيهم، لو لا أن موسى قد أمر ابن هارون بأن يسرع بإيقاد البخور للتكفير عن جماعة الرب و مع ذلك فقد مات بهذا الوباء «أربعة عشر ألفا و سبع مائة، عدا الذين ماتوا بسبب قورح» (2).

و لم يكتف بنو إسرائيل بثورة «قورح» هذه، إذ سرعان ما تعاودهم آفتهم القديمة، فيعاودون التمرد على موسى، بل إن الثورة هذه المرة إنما تتجاوز كل الحدود، حتى تصل إلى ذات اللّه العلية، و ذلك حين «تكلم الشعب على اللّه و على موسى قائلين لما ذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية، لأنه لا خبز و لا ماء، و قد كرهت أنفسنا الطعام السخيف» (يعني المن و السلوى)، فسلط اللّه عليهم الحيات فمات قوم كثيرون من بني إسرائيل، و لم يرفع اللّه عنهم هذا البلاء، إلا بتضرع من موسى «فصلى موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى: اصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكل من لدغ و نظر إليها يحيا (3)، فصنع موسى حية من نحاس و وضعها على الراية

ص: 379


1- نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 222.
2- عدد 16/ 32- 50.
3- من عجب أن يذهب المؤرخ الكبير «برستد» إلى أن موسى كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية، فقد كان يحمل عصا سحرية عظيمة في صورة «ثعبان» تسكن فيها قوة «يهوه»، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس، و كان هذا الثعبان أحد الثعابين المقدسة العديدة في مصر، و قد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل و استمروا في إطلاق البخور له من مدة خمسة قرون بعد موسى، و لم يبعد عن البيت المقدس إلا في حكم «حزقيا» (715- 687 ق. م) ملك يهوذا، و أما الدكتور هانئ رزق فيرى الحدث رمزا لصلب المسيح، فكما رفع موسى الحية لكي يحيا كل من ينظر إليها، هكذا رفع يسوع المسيح على الصلب لكي يحيا كل من يؤمن به (عدد 21/ 9، ملوك ثان 18/ 4، هاني رزق: يسوع المسيح في ناسوته و ألوهيته ص 152- 153 و كذا, Y. N, ecneicsnoC fo nwaD ehT, detsaerB. H. J 354. p، 1939.

فكان متى لدغت حية إنسانا و نظر إلى حية النحاس يحيا» (1).

[5] بنو إسرائيل على تخوم كنعان:-

و يبدأ موسى عليه السلام يستعد لدخول أرض كنعان، فيرسل رسلا من «قادش» (عند طرف برية صين غرب وادي العربة، و يرجح أنها عين قضيرات على مقربة من عين قديس جنوبي بئر سبع بحوالي 50 ميلا) إلى ملك أدوم (2)، قائلا: «دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل و لا في كرم و لا نشرب

ص: 380


1- عدد 21/ 5- 9.
2- أدوم: نسبة إلى عيسو (العيص) بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، و الشقيق التوأم ليعقوب، و من ثم فهم أقرب الناس إلى آل يعقوب، دما و لغة، و مع ذلك فكان بنو إسرائيل يعدون الآدوميين من ألد أعدائهم، حتى أن المنازعات السياسية بينهم قد استمرت حتى انتهى الأمر بفناء الآدوميين و امتزاجهم باليهود من ناحية، و بالأنباط من ناحية أخرى، و أما موطن الآدوميين فكان في أقصى جنوب بلاد شرق الأردن و جنوب وادي الحسا، و تطلق التوراة على هذا الإقليم اسم «سعير» و كانت عاصمتهم «سالع» و هي نفسها «البتراء» التي أصبحت عاصمة الأنباط فيما بعد، و تقع على مبعدة 50 ميلا جنوب البحر الميت، و من أهم مدنهم «بصرة» و هي بصيرة الحديثة على مبعدة 20 ميلا جنوب شرق البحر الميت، ثم «تيمان» على مقربة من البتراء، ثم «عصيون جابر» و هي تل الخليفة على الطرف الشمالي لخليج العقبة بالقرب من «إيلات»، و أما نظامهم السياسي فكانوا أولا يحكمون بأمراء أشبه برؤساء العشائر، ثم كونوا مملكة ربما كان ملوكها منتخبين، و قد جلس على عرشها ثمانية ملوك قبل قيام الملكية الإسرائيلية و استيلاء داود على مملكة أدوم، و قد انتهت حياة الآدوميين ككيان سياسي مستقل حين استولى يوحنا المكابي على مدنهم ثم أجبرهم على الختان و اعتناق اليهودية في القرن الثاني قبل الميلاد، رغبة منه في إزالة الفوارق الدينية بينهم و بين اليهود (أنظر التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 547- 552).

ماء بئر، لا نميل يمينا و لا يسارا، حتى نتجاوز تخومك»، و لكن الملك الآدومي لا يجيب سؤلهم، و من ثم يجد الإسرائيليون أنه لا مناص من الذهاب إلى جبل هور، حيث يموت هارون هناك (1)، و هذا يدل على أنه كانت هناك مملكة قوية في أدوم في ذلك الوقت، و أن الأرض إنما كانت تعبر من «طريق الملك العمومي»، كما يدل على أن هناك حضارة مزدهرة كانت في أدوم في تلك الفترة (2).

و على أية حال، فإن ملك «عراد» (3) الكنعاني عند ما يسمع بقدوم الإسرائيليين، سرعان ما يشن عليهم حربا، و يسبي الكثير منهم، و من ثم «فقد نذر إسرائيل نذرا للرب و قال إن دفعت هؤلاء القوم إلى يدي أحرم مدنهم، فسمع الرب لقول إسرائيل و دفع الكنعانيين فحرموهم، و مدنهم، فدعي اسم المكان حرمة» (4)، و في الواقع أننا لم نسمع من قبل أن ينذر الناس لربهم إحراق أعدائهم، فضلا عن مدنهم، إن كتب اللّه لهم عليهم نصرا، و لكن ما حيلتنا و توراة اليهود لا تصور رب اليهود هذا، إلا قاسيا مدمرا، متعطشا للدماء، متعصبا لشعبه، لأنه إله اليهود فحسب، و ليس إله العالمين، و من ثم فقد دعوا «اللّه» رب الجنود، معتقدين بأن هذا معناه رب جنود إسرائيل، مما جعلهم يعتقدون كذلك بأن اللّه ملزم بأن يحامي عنهم،

ص: 381


1- عدد 20/ 22- 29.
2- , noitcenirP, ... tsaP tneicnA eht morf thgiL, nageniF. J 152. p، 1969.
3- عراد: اسم عبري بمعنى «حمار الوحش» و هي هنا بلد يقع على مبعدة 17 ميلا من حبرون (الخليل).
4- عدد 21/ 1- 3.

لأن كرامة اللّه مرتبطة بكرامة الأمة، و من ثم فإن حمايتهم إنما هي حماية لكرامته، و إذا حدث أن سقطت الأمة، فمعنى هذا في نظرهم أن اللّه نفسه قد سقط (1)، و العياذ باللّه، و من هنا كان عليه أن يكرس كل قوته و سلطانه من جل شعبه إسرائيل، و هو لذلك يحارب إلى جانبهم أو يحارب بدلا عنهم أو يطرد من أمامهم أعداءهم، و ييسر لهم قتلهم، و يحل لهم نهبهم (2).

و أيا ما كان الأمر، فإن الملك الآدومي عند ما رفض أن يسمح للإسرائيليين بأن يمروا في مملكته، فإنهم اضطروا إلى أن يسلكوا طريقا شاقا في البرية، و نقرأ في التوراة أنهم قد ارتحلوا «من جبل هور في طريق بحر سوف (3)، ليدوروا بأرض أدوم (4)»، و هنا يضطر بنو إسرائيل إلى أن يتجولوا هنا و هناك من شرق الأردن، دون أن يستطيعوا العبور إلى غرب هذا الأردن، محتكين بكل القبائل الساكنة هناك، و الرافضة أبدا استقبال أي واحد من بني إسرائيل، و أخيرا وصل الإسرائيليون إلى «مؤاب» شمال أدوم، و ذلك حين «نزلوا في عين عباريم (5) في البرية التي قبالة مؤاب إلى شروق

ص: 382


1- القس عاموس عبد المسيح: دراسة في عاموس- ترجمة حارث قريصة- القاهرة 1966 ص 18.
2- عبده الراجحي: المرجع السابق ص 47، تثنية 9/ 3.
3- بحر سوف: لعل هذا النص (عدد 21/ 4) إنما يعني خليج العقبة، و ليس البحر الذي انفلق لموسى في مصر، و الذي ذكر على أنه يم سوف أو بحر سوف (خروج 13/ 17- 18) خاصة و إن نص الملوك الأول (9/ 26) يقول: «و عمل الملك سليمان سفنا من عصيون جابر التي بجانب إيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم»، مما يؤكد أن بحر سوف في نصي (عدد 21/ 4، ملوك أول 9/ 26) هو خليج العقبة.
4- عدد 21/ 4.
5- عباريم: سلسلة جبال في شرق الأردن سميت عباريم لأنها في عبر النهر، و تمتد من وادي قفرين في الشمال إلى وادي الزرقاء و وادي الحسا في الجنوب، و لها عدة قمم منها «نبو» (حيث دفن موسى عليه السلام) و هوشع و عجلون.

الشمس، و من هناك ارتحلوا و نزلوا في وادي «زارد (1)»، و من هناك ارتحلوا و نزلوا في عبر «أرنون (2)» الذي في البرية خارجا عن تخم الآموريين (3)، لأن أرنون هم تخم مؤاب بين مؤاب و الآموريين» (4).

هذا و يتجه بنو إسرائيل بعد ذلك إلى أرض جلعاد- منطقة الآموريين- و كان «سيحون» ملك الآموريين قد أخذ أرضا من مؤاب، و اتخذ من حشبون (5)» عاصمة له، ثم امتدت أملاكه من نهر أرنون إلى نهر يبوق (6)، و التي هي الآن وادي الزرقاء، و بينما كان الإسرائيليون مضطرين إلى الدوران حول أدوم و مؤاب (7)، فقد نجحوا في تحدي سيحون في ).

ص: 383


1- زارد: اسم عبري معناه «ازدهار» و هو جدول ماء يخرج من جبل عباريم و يصب في البحر الميت (بحر لوط) في الجزء الجنوبي الشرقي منه، و كان يمثل الحد الطبيعي بين أدوم و مؤاب، و يعرف الآن بوادي الحصى (قاموسى الكتاب المقدس (1/ 421- 422).
2- أرنون: و هو نهر يدعى الآن وادي الموجب في المملكة الأردنية الهاشمية و يتكون من وادي «وله» الذي يأتي من الشمال الشرقي، و وادي «عنقيلة» الآتي من الشرق، و «سيل الصعدة» الآتي من الجنوب، و يجري نهر أرنون في غور عميق حتى يصل إلى البحر الميت في نقطة نقع إلى مسافة قصيرة من منتصف الشاطئ الشرقي (قاموس الكتاب المقدس 1/ 57).
3- أنظر عن الآموريين: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 510- 514.
4- عدد 21/ 11- 13.
5- حشبون: و تعرف الآن باسم «حسبان» و هي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون و يبوق، و تقع على مبعدة سبة أميال و نصف شمال «مادبا».
6- يبوق: هو نهر الزرقاء الذي ينبع إلى الغرب من عمان، ثم يسير شرقا ثم شمالا، مارا بمدينة الزرقاء التي حملت اسمه، ثم يصب في نهر الأردن على مبعدة 43 ميلا إلى الشمال من البحر الميت، و هناك في مخاضة في هذا النهر حدثت قصة المصارعة المشهورة مع يعقوب (تكوين 32/ 22- 32، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1051).
7- مؤاب: تنسب مؤاب إلى مؤاب بن لوط عليه السلام، و من ثم على صلة قرابة بالعرب و الإسرائيليين عن طريق لوط ابن أخي إبراهيم، عليهما السلام، هذا و قد امتدت مملكة مؤاب من ناحية الشرق، من البحر الميت حتى الصحراء، و اتسعت شمالا حتى وادي الموجب (نهر أرنون)، و كانت مؤاب، مثل أدوم، حصينة قوية ذات مواقع استراتيجية على الحدود و في الداخل، و من ثم فقد منعت بني إسرائيل من السير في البرية التي تقع قبالتها، و أما عاصمة مؤاب فهي «ديبون» (ذبيان الحالية على مبعدة ثلاثة أميال شمال وادي الموجب)، هذا و قد كشفت آثار كثيرة في مؤاب، و خاصة في ربة مؤاب و كرك و ماديا و معين و أم رصاص، و في عام 1950/ 1951 كشفت بعثة أمريكية في ديبون عن عدد من المباني و الفخار الذي يرجع إلى عصر البرونز المبكر، و حتى العصر العربي المبكر، و إن لم تكشف شيئا عن عصر البرونز المتأخر، و أما لغة مؤاب فهي من اللهجات التي كتبت بها التوراة، و المعروف عادة بالعبرانية، و القرابة بين اللغة المؤابية و العبرية مؤكدة، و المؤابية على أية حال، لغة سامية قريبة من العبرية كذلك، كما يبدو واضحا من نقش «الحجر المؤابي» و الذي يرجع إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، و يقدم لنا أقدم نقش مكتوب على النمط السامي الشمالي القديم، و قد كشف عنه عام 1868 م في ديبون العاصمة، و نقل إلى متحف اللوفر بباريس (أنظر عن التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 552- 556).

«ياهص» (1)، كما نجحوا في تحدي عوج ملك باشان في «أذرعي» (2) و بذلك تمكنوا من الوصول إلى الأردن في مقابل «أريحا» (3).

و هناك من يميل إلى تأريخ هذه الأحداث بنهاية عصر البرونز الأخير، و قرب بداية عصر الحديد، ذلك لأن التوراة إنما تحدثنا عن أن عوج ملك باشان كان له سرير من حديد (4)، و إن كان هناك من يذهب إلى أن هذه العبارة إنما تشير إلى «ناءوس» من البازلت الأسود، كان به 20% من الحديد (5).

و أيا ما كان الأمر، فمن رأس الفسجة، التي يفترض أنها جزء من جبل

ص: 384


1- ياهص: و يقع على مبعدة ميل جنوب زرقاء معين، 12 ميلا شرقي البحر الميت، و هي إما قرية أم المواليد أو خربة إسكندر (قاموس الكتاب المقدس 2/ 1049).
2- أذرعي: و تسمى الآن «درعة» و تقع في وادي زبدة، على مبعدة 29 ميلا شرقي الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية، و على الحدود بين الأردن و سورية (قاموس الكتاب المقدس 1/ 42).
3- عدد 21/ 21- 35، 12/ 1، تثنية 2/ 26- 3/ 11.
4- تثنية 3/ 11.
5- . P, tic- po, nageniF. J 154.

«نبو» على مبعدة ثمانية أميال إلى الشرق من نهر الأردن، نظر موسى عليه السلام إلى أرض الميعاد، و مات و دفن في أرض مؤاب (1)، كما سنفصل ذلك في الفصل الثالث من الباب الرابع.

ص: 385


1- تثنية 3/ 27، 34/ 1- 8، و أنظر: ,sloV 2 ,olbeN tnuoM no sesoM fo lairomiM ehT ,rellaS .J ,retsevlyS 1941.

ص: 386

الباب الرّابع قضايا من سيرة موسى عليه السّلام
اشارة

ص: 387

ص: 388

الفصل الأول موسى بين الأصل الإسرائيلي و المصري

لا ريب في أن شراح التوراة و مفسري القرآن الكريم إنما يجمعون، أو يكادون، على أن كليم اللّه موسى عليه السلام من بني إسرائيل، و أنه «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب، و هو إسرائيل عليه السلام، و إن أضافت المصادر الإسلامية اسم «يصهر» بين عمران و قاهت، و هو في التوراة «موسى بن عمر أم بن قهات بن لاوى»، و أما أمه فهي «يوكابد بنت لاوى، التي ولدت للاوى في مصر، و هي عمة زوجها عمرام، الذي ولدت له ولديه هارون و موسى و أختهما مريم (1).

و لعل من الجدير بالإشارة إلى أن الإمام الطبري، و كذا ابن الأثير من بعده، إنما يذهبان إلى أن اسم موسى، إنما هو اسم مصري، و يتكون في اللغة المصرية القديمة من كلمتين «ماء و شجر» لأنه التقط من بين الماء و الشجر، و الماء في المصرية (القبطية كما يسمونها خطأ) «مو»، و الشجر «شا» أو «سا»، هذا و يذهب الألوسي إلى أن اسم موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية و العجمة، و يقال إنه مركب من «مو» و هو الماء، و «شى»

ص: 389


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 92، تاريخ اليعقوبي 1/ 33، تاريخ الطبري 1/ 385، تفسير الطبري 1/ 279، الكامل لابن الأثير 1/ 95، مروج الذهب للمسعودي 1/ 61، التوراة: سفر الخروج 6/ 20، عدد 26/ 58- 59.

و هو الشجر، و غيّر إلى «سى» كأن من سماه أراد ماء البحر و التابوت الذي قذف فيه، على أن الخازن إنما يراه اسما عبريا عرب، و هو بالعبرانية الماء و الشجر، سمي به لأنه أخذ من بين الماء و الشجر ثم قلبت الشين المعجمة سيناء في العربية، هذا و قد نقل السيوطي عن السدى أنه سمي موسى لأنهم وجدوه بين ماء و شجر، و الماء بالنبطية «مو»، و الشجر «سى» (1)، و بدهي أن اسم موسى اسم مصري على وجه اليقين، كما سنرى.

و في عام 1938 م أصدر العالم النفساني اليهودي «سيجموند فرويد» كتابه موسى و التوحيد (2)»، فأراد أن يثير شبهة حول أصل موسى، الذي رآه «مصريا»، و ليس إسرائيليا، معتمدا في ذلك على أن اسم موسى، و الذي ينطق بالعبرية «موشيه» طبقا لرواية التوراة في سفر الخروج (2/ 10)، ذلك أن الأميرة المصرية، و هي نفس الوقت ابنة فرعون، قد انتشلته من النيل، و سمته إثر ذلك «موسى» معللة لهذه التسمية بعلة لغوية اشتقاقية، حيث رد كاتب التوراة اللفظ إلى اسم المفعول من الفعل العبري «مشه» بمعنى المنتشل أو المستنقذ.

و مع ذلك، فإن هذا التعليل ينطوي على خطأ واضح، إذ جاء في «المعجم اليهودي» أن تفسير التوراة لاسم موسى بأنه «المنتشل من الماء»، تفسير اشتقاقي شعبي، و هو لا يستقيم مع الصيغة و الوزن لكلمة «موشيه»، التي هي في العبرية اسم فاعل، لا اسم مفعول، و دلالتها الصحيحة «المنتشل»- بكسر الشين- لا «المنتشل» بفتحها، و من ثم فهو اسم فاعل،

ص: 390


1- تفسير الطبري 1/ 279، تاريخ الطبري 1/ 390، ابن الأثير 1/ 97، تفسير روح المعاني 1/ 258، تفسير الخازن 1/ 59، الدر المنثور 5/ 120، تفسير البغوي 1/ 58- 59.
2- ,Y .N ,senoJ .K yb namreG eht morf detalsnarT ,msiehtonoM dna sesoM ,duerF dnumgiS 1939.

بمعنى «المنقذ أو المحرر»، كأن الذين أسموه كانوا يعلمون ما سوف يصير إليه ذلك الطفل اللقيط (1).

هذا و هناك نقطتان أخريان تؤكدان عدم اشتقاق هذه التسمية، أولهما:

أنه من غير المؤكد كون الأميرة المصرية على علم بالاشتقاق في اللغة العبرية- هذا إذا كانت هناك لغة عبرية قد ظهرت في هذا الوقت المبكر، على الأقل من القرن الثالث عشر قبل الميلاد (2)؟- هذا فضلا عن أن ابنة فرعون، إنما هي أميرة مصرية، تتكلم المصرية و تفكر بها، و ما كان لها أن تتحدث العبرية في حياتها و بين مواطنيها، حتى تتخذ للطفل- مع كراهية شائعة للعبريين يومئذ- اسما عبريا (3).

و من ثم فقد رأى مؤرخ اليهود «يوسف بن متى» أن يرد اللفظ إلى أصل مصري و اشتقاق مصري، مع تقيّده بما ورد في التوراة، من حيث ارتباط الاسم بما كان من التقاط من الماء، فقال: إن المصريين يسمون الماء «مو» و يقولون للذي يستنقذ من الماء «أوسيس»، غير أن حرص يوسف اليهودي على تفسير يكون مصدقا لما جاء في التوراة قد حمله- متعمدا- على إغفال معنى لفظ أوسيس، المصحوف عن لفظ «حسى» المصري، و هو أصلا- حتى زمان موسى في الأسرة التاسعة عشرة (1308- 1184 ق. م)- بمعنى

ص: 391


1- . 4. P, tic- po, dibT
2- كان أسلاف العبرانيين يتكلمون الآرامية قبل أن يستقروا في فلسطين، ثم بدءوا يتكلمون لغة الشعوب المضيفة لهم، ففي مصر كانوا يتكلمون المصرية، و في كنعان كانوا يتكلمون الكنعانية، و أما اللغة العبرية- و التي كانت خليطا من الآرامية و الكنعانية و كثير من اللغات السامية و غير السامية- فيرجع تاريخ ظهورها إلى ما قبيل عام 1100 ق. م (أنظر محمد عبد القادر: الساميون في العصور القديمة- القاهرة 1968- ص 208، نجيب ميخائيل: المرجع السابق 3/ 32، فؤاد حسنين: التوراة الهيروغليفية ص 4).
3- أحمد عبد الحميد: المرجع السابق- القاهرة 1968- ص 90. و كذا. 4. P, tic- po, duerF. S

«الحميد»، ثم أصبح يطلق منذ الأسرة الثلاثين (380- 343 ق. م) على الموتى من الغرقى المنتشلين من النيل للدفن، و إلى ذلك أشار «كليمنت الإسكندري» (150- 212 م) من بعده (أي من بعد يوسف اليهودي)، فكأنه بذلك قد اتخذ لفظا بمعنى متأخر عن عصر موسى و طبقه تطبيقا غير دقيق و لا سليم (1).

و أما النقطة الثانية التي تؤكد عدم اشتقاق هذه التسمية، فإنه يكاد يكون من المؤكد الآن أن الطفل موسى لم ينتشل من ماء النيل (2) و ربما كان فرويد يعني أحد فروع النيل في الدلتا الشرقية، حيث يوجد قصر الفرعون وقت ذاك.

و على أي حال، فإن كثيرا من الباحثين قد ربطوا منذ سنين طويلة اسم موسى- و هو لفظ مشتق من مصدر الولادة بمعنى الولد أو الوليد- بأصول في اللغة المصرية القديمة، و من هؤلاء المؤرخ الأمريكي الكبير «جيمس هنري برستد» الذي يقول: إنه يجب أن نلاحظ أن اسم موسى كان اسما مصريا، بل هو نفس الكلمة المصرية «مس» (esoM) و معناه «طفل»، و هي مختصرة من اسم مركب كامل، كالأسماء «آمون مس»، و معناها: آمون الطفل، أو «بتاح مس» و معناها: بتاح الطفل، و هذه الأسماء المركبة نفسها، هي الأخرى مختصرات للتركيب الكامل «آمون أعطى طفلا»، أو «بتاح أعطى طفلا»، و قد لقي اختصار الإسم إلى كلمة «طفل» قبولا منذ زمن مبكر، إذ كان سريع التداول و التناول بدلا من الإسم الكامل الثقيل (3).

ص: 392


1- أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 90، و كذا F ,ILX ,EASA ,sisom to emaN eht fo ygolomytE keerG ,ynreC .J 349. p، 1942.
2- 4. P, tic- po, duerF. S
3- . P, ecneicsnoC fo nwaD ehT, detsaerB. H. J 1939، N. Y 350.

على أن الإسم «مس» (طفل) نجده كثير الانتشار على الآثار المصرية القديمة، و لا شك في أن والد موسى كان قد وضع قبل اسم ابنه اسم إله مصري قديم، مثل آمون و بتاح، ثم زال ذلك الاسم الإلهي تدريجيا بكثرة التداول، حتى صار الولد يسمى «موسى» (1).

و يعلق «فرويد» على قول «برستد» هذا، بالدهشة لتجاهل برستد بعضا من الأسماء المركبة من موسى أو «مس» مع أسماء الآلهة، و منها أسماء «أحمس» (إيعح مس) و «تحوتمس» (تحوت مس) و «رعمسيس» (رع مس سو)، ثم يعرب عن دهشته كذلك من أن واحدا من العلماء الكثيري العدد، الذين أقروا مصرية اسم موسى أصلا و اشتقاقا، لم يفكر في أن يكون موسى نفسه- الشخص لا الإسم- مصريا أيضا (2)، حتى أولئك الذين يقررون مثل «برستد» أن موسى قد «تهذب بكل حكمة المصريين» (3).

و يرى «فرويد» أن ذلك، ربما كان مرجع ذلك إلى تقديس لمرويات التوراة التي لا يمكن التغلب عليها، و ربما بدا لهم أن القول بأن موسى مصري غير عبري ادعاء عريض لا يمكن تصوره، على أي حال، فإن الواقع هو أنه مع ترحيبهم عموما لمصرية اسم موسى، فإنهم لم يستخلصوا من ذلك شيئا ماسا بأصله هو نفسه (4).

و هنا يتساءل «فرويد» بأننا لو سلمنا بأن موسى كان مصريا- و لم يكن إسرائيليا- لوجدنا أنفسنا في الحالين مطالبين بحل لغز جديد و صعب؟ فمن المفروض أن نتوقع شخصا ما يتولى رئاسة الحركة أو ينتخبه إخوانه لهذه

ص: 393


1- . P, tic- po, detsaerB. H. J 350.
2- . 5. P, tic- po, duerF. S
3- أعمال الرسل 7: 22.
4- . P, tic- po, duerF. S 6- 5.

المهمة، و على ذلك لا يمكننا أن نتصور أن مصريا من الأرستقراطيين- ربما كان أميرا أو كاهنا أو موظفا كبيرا- قد ساغ له أن يضع نفسه على رأس جمع من الأجانب الطارئين على البلاد، المتخلفين حضاريا، و كيف نفسر أنه غادر البلاد معهم؟ إننا نعرف احتقار المصريين للأمم الأخرى، الأمر الذي يجعل هذه الظاهرة من موسى غير معقولة، و هذا- فيما يرى فرويد- هو الذي منع المؤرخين الذين ردّوا اسم موسى إلى أصل مصري، و نسبوا إلى موسى «كل حكمة المصريين» من القول بإمكان أن يكون موسى نفسه مصريا، هذه هي الصعوبة الأولى.

و أما الثانية، فيجب علينا ألا ننسى أن موسى لم يكن زعيما سياسيا لليهود المستقرين في مصر فحسب، و لكنه كان كذلك المشرع و المعلم، و الرجل الذي اضطرهم إلى اعتناق ديانة جديدة، ما زالت تعرف حتى اليوم «بالموسوية» نسبة إليه.

و هنا يتساءل «فرويد»: هل في استطاعة شخص واحد إيجاد ديانة جديدة بمثل هذه السهولة؟ ثم أ ليس من الطبيعي عند ما يرغب شخص ما في أن يؤثر في ديانة الآخرين أن يحاول تحويلهم إلى ديانته هو؟.

إن اليهود في مصر لم يكونوا بالتأكيد مجردين من نوع ما من الديانة، و إذا كان موسى هو الذي أعطاهم ديانة جديدة. و كان هو نفسه مصريا، فليس من الممكن إذن أن نرفض الظن بأن هذه الديانة الجديدة هي الديانة المصرية (1).

و هنا يعقد «فرويد» مقارنة بين الآتونية و اليهودية، و بين سنة الختان عند المصريين و عند اليهود، الأمر الذي سوف نناقشه فيما بعد، و يرجع

ص: 394


1- .. P, tic- po, duerF. S 18- 17.

«فرويد» ذلك كله إلى مصرية موسى، ثم يشير إلى أن المؤرخ اليهودي المشهور «يوسف بن متى»، قد ذكر في كتابه «تاريخ اليهود القديم»، أن موسى كان قائدا للجيش المصري، و أنه كان قد تولى قيادة حملة مظفرة على الحبشة (1)، و يرى «فرويد» أن يوسف اليهودي، ربما كانت بين يديه نصوصا أخرى، غير تلك التي في التوراة، يؤيد بها وجهة نظره هذه (2).

و هناك سمة أخرى تعزى إلى موسى تستحق منا اهتماما خاصا، إذ قيل أنه كان عيّيا لا يكاد يبين حين يتكلم، أو أنه كان «بطيئا في الكلام»، تقول التوراة- على لسان موسى مخاطبا ربه-: «استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس، و لا أول أمس، و لا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم و اللسان، فقال له الرب: من صنع للإنسان فما، أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى، أما هو أنا الرب، فالآن أذهب و أنا أكون

ص: 395


1- يروي المؤرخ يوسف اليهودي عن هذه الحملة- دونما سند من التاريخ أو تأييد من التوراة- أن موسى، عليه السلام، تولى قيادة الجيش، و لكنه زاد- في قصة لا يخفي زيفها- أنه إنما تولى القيادة، بعد رجاء من الملك و الأميرة التي تبنته، و أن ذلك إنما وقع في أعقاب غارة شهنا أهل النوبة العليا على مصر، فأنزلوا بالمصريين هزيمة نكراء فولوا منهم الأدبار، حيث تعقبهم النوبيون إلى منف فساحل البحر، و هناك استلهم المصريون الوحي فأوحى باستخدام موسى الذي قبل القيادة سعيدا منشرحا، فأما كهان مصر و الإسرائيليين فقد سعدوا كذلك، سعد الكهنة لأنهم ظنوا أنهم بذلك إنما يتخلصون من موسى و من المهاجمين في وقت واحد، و أما الإسرائيليون فسعدوا لأنهم ظنوا أنهم يهربون من المصريين بقيادته، و مضى يوسف يروي أن موسى تمكن من صد العدو بشجاعته و حسن تدبيره، إذ تجنب النيل و صار إليهم برا عبر أرض غاصة بالثعابين الطيارة، فعبرها بفضل ما حمل معه من أعداد من طائر الإبيس و هو أعدى أعداء الثعابين، و عند ما وصل هاجم النوبيين، حيث رأته بنت الملك النوبي فأحبته و عرضت عليه تسليم المدينة بشرط أن يتزوجها، ففعلت و فعل موسى، (أنظر: أحمد عبد الحميد: المرجع السابق ص 93- 94، و كذا.. 77 F. P, tic- po, notsihW. WIX. retpgahC, II. kooB, suhpesoJ
2- .. P, tic- po, duerF. S 32.

مع فمك و أعلمك ما تتكلم به، فقال (أي موسى): استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل، فحمى غضب الرب على موسى، و قال: أ ليس هارون اللاوي أخاك، أنا أعلم أنه هو يتكلم، و أيضا هو خارج لاستقبالك، فتكلمه و تضع الكلمات في فمه، و أنا أكون مع فمك و مع فمه، و أعلمكما ما ذا تصنعان، و هو يكلم الشعب عنك، و هو يكون لك فما» (1).

و هذا يعني أن الكليم، عليه السلام- فيما تروي التوراة- أنه كان يعاني من التلعثم، أو العجز عن النطق، و لذلك كان عليه أن يلتمس مساعدة هارون أخيه في مناقشته المفترضة مع فرعون، و ربما مع بني إسرائيل الذين أشار إليهم النص باسم «الشعب».

و ربما إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2).

فإذا كان ذلك كذلك، فربما أمكن القول أن هذه حقيقة تاريخية، تخدمنا كإضافة مفيدة في توضيح صورة هذا الرجل العظيم- سيدنا موسى عليه السلام- و يمكن أن تكون لها دلالة أخرى أكثر أهمية، فإن القصة قد تدل- إذا أخذنا في اعتبارنا عامل التشويه و التحوير- على حقيقة أن موسى كان يتكلم لغة أخرى، و لم يكن قادرا على التفاهم مع شعبه الجديد من الساميين بدون مساعدة مترجم على الأقل في بداية عهده بهم، و في هذا دليل على صحة نظرية أن موسى كان مصريا، أو لغته على الأقل.

ص: 396


1- خروج 4: 10- 15.
2- سورة طه: آية 24- 36، و أنظر: تفسير القرطبي ص 3231- 4234.

غير أن هناك من يرى أن موسى عيّ لا يكاد يبين حين يتكلم، فقد أصيب بحبسة في لسانه، نتيجة لتأخر إرضاعه (1)، هذا فضلا عن أن أحبار اليهود- إلى جانب المتأثرين بالإسرائيليات- إنما يرون في هذا المجال أسطورة مبناها أن فرعون إنما كان يداعب موسى- و هو ما يزال بعد في الثالثة- فحمله بين ذراعيه، و رفعه مدللا إلى أعلى، فاختطف موسى التاج من على رأس فرعون و وضعه فوق رأسه، فانزعج فرعون بهذا الفأل، و اهتم باستشارة حكمائه، إذ أحس أن الطفل إنما سوف يكون له شأن في تقويض عرشه، فأراد اختباره فأمر بإعداد طبقين، و وضع بأحدهما تمر أحمر، و بالآخر جمر، فأوحى اللّه- كما يدعون- إلى موسى أن يتناول الجمر، إبعادا لشبهة الإدراك الناضج عن الطفل، و وضع الجمر على لسانه، فأصبح عييا لهذا السبب (2).

و إذا ما أردنا مناقشة آراء العالم اليهودي «فرويد»، فيما يختص بمصرية اسم موسى أصلا و اشتقاقا، لرأينا أنها أمر قبول تماما، ذلك لأن فكرة الأصل المصري لاسم موسى، منذ أن نادى به «جيمس هنري برستد»، و «أدولف إرمان» و «سيجموند فرويد»، أصبحت الآن من الحقائق التي يكاد يتفق عليها العلماء- و منهم أدولف لودز (3)، و جريفث (4)، و جاك فنجان (5)، و سيسل روث (6)، و وليم أولبرايت (7)، و ستانلي كوك (8)، و غيرهم.

ص: 397


1- عبد الرحيم فودة: في معاني القرآن ص 167.
2- فؤاد محمد شبل: إخناتون: رائد الثورة الثقافية، القاهرة 1974 ص 87، تفسير أبي السعود 6/ 12، تاريخ الطبري 1/ 390، ابن الأثير 1/ 98.
3- . P, tic- po, sdoL. A 169.
4- , SENJ ni, shtiffirG. G. J 231. p، 1953، 12.
5- . P, tic- po, nagoniF. J 134.
6- . P, tic- po, htoR. C 8- 7.
7- . P, tic- po, thgirblA. F. W 14.
8- . P, tic- po, kooC. A. S 355.

و يضيف أستاذنا الدكتور حسن ظاظا- إلى حجج «فرويد»- أنه لم يرد في أسماء الساميين جميعا- سواء أ كانوا من العبريين أم من غيرهم كالآراميين و الكنعانيين و الأكاديين- اسم نطقه كاسم «موسى»، فهذا النبي هو أول شخص يحمل هذا الإسم (1)، و يقرر «الزوهار» مصرية موسى- و إن لم يستبعد يهوديته في نفس الوقت- اعتمادا على نص التوراة- على لسان بنات رعوئيل- بأنه رجل مصري (2).

و أما المصادر الإسلامية، فتكاد تجمع على أن موسى الكليم- عليه السلام- قد ولد لامرأة من بني إسرائيل، و أن هارون أخوه، فهما إذن من ذرية إبراهيم الخليل، شأنهما في ذلك، شأن إسحاق و يعقوب، عليهم السلام، إلا أن هناك في الكتاب الحكيم آيتين تقصان علينا ما وقع، إذ غضب موسى على أخيه هارون، ظنا منه أن قصر، حين انساق القوم إلى عبادة العجل، يقول سبحانه و تعالى في الآية الأولى: وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (3)، و يقول في الآية الثانية: قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (4). ا-

ص: 398


1- حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي، القاهرة 1971 ص 17.
2- خروج 2: 19.
3- سورة الأعراف: آية 150، و أنظر: تفسير الطبري 13/ 120- 133، تفسير الطبرسي 9/ 27- 21، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 4/ 220، تفسير أبي السعود 2/ 407- 408، تفسير روح المعاني 9/ 68- 69، تفسير الكشاف 2/ 119، تفسير الفخر الرازي 15/ 9- 10 تفسير القاسمي 7/ 2860- 2862، تفسير المنار 9/ 177- 181، تفسير تفسير القرطبي ص 2651- 2652، تفسير و جدي ص 116، تفسير ابن كثير 3/ 474.
4- سورة طه: آية 94، و يقول أبو حيان في البحر المحيط (4/ 396) ناداه يا ابن أم استضعافا و ترفقا، و كان شقيقه و هي عادة العرب تتحنن بذكر الأم، و أيضا كانت أمهما مؤمنة و أيضا لما-

و في كلا الآيتين تركيز على كلمة «ابن أم»، و في ذلك يقول المفسرون إن هارون إنما نادى موسى بنسبته لأمه، مع أنه كان شقيقه، لأن ذكرها أدعى إلى العطف (1)، و لكن الذي يلزمنا هنا هو كلام اللّه- عز و جل- و ليس ما درج المفسرون أن يقدموا، فإنما هو اجتهاد، و فوق كل ذي علم عليم (2)، هذا فضلا عن أن «الزجاج» إنما يقول: قيل كان هارون أخا موسى لأمه، لا لأبيه (3)، فإذا تذكرنا أن اليهود إنما يعتبرون أن من كانت أمه يهودية فهو منهم، لا يعنيهم على أي دين كان أبوه، هو يهودي صميم، حتى و إن ظل أقلف غير مختّن (4)، لكان رأى الزجاج أو الياقوت إنما يستحق كثيرا من التأمل و التفكير.

و أما قصة التمر الأحمر أو الياقوت و الجمر، و دورها في هذا العيب الذي جعل موسى عييّا لا يكاد يبين حين يتكلم، أو «بطيئا في الكلام»، فيمكن الرد عليها في نقاط عدة، منها (أولا) أنه يستحيل على طفل طبيعي أو غير طبيعي أن يلمس النار، دون أن تحرق أصابعه فورا، فما بالك و قد رفع موسى الجمر إلى فمه، ثم أودعه إياه، و لم يحس به إلا بعد أن لدع لسانه، ثم أ لا يكفي هذا الفعل لإقناع فرعون أن الطفل غير طبيعي، و منها (ثانيا) أن موسى لو كان حقا قد أمسك بالجمر و أمكنه احتمال قسوة النار، ثم وضع الجمر على لسانه، لفقد النطق كلية، و منها (ثالثا) هل عدم فرعون- و هو ملك أعظم و أرقى دولة متحضرة في تلك العصور- وسيلة يستكشف بها حقيقة - كان حقها أعظم لمعاناتها الشديدة في حملن و تربيته و الشفقة عليه فذكره

ص: 399


1- تفسير الطبري 3/ 131، معاني القرآن للفراء 1/ 394، تفسير القرطبي ص 2726، تفسير ابن كثير 3/ 474، تفسير المنار 9/ 180، تفسير النسفي 3/ 63.
2- حسين ذو الفقار صبري: توراة اليهود، المجلة، العدد 157. يناير 1970 ص 19- 20.
3- تفسير القرطبي ص 2726 (دار الشعب- القاهرة 1970)، تفسير البيضاوي 4/ 29.
4- .. (skooB niugneP) msiaduJ, nietspE. I. rD ibbaR 168. p، 1970.

الطفل، غير تلك الحيلة البدائية (1)؟

و أيا ما كان الأمر، فيبدو لي أن القول بأن سيدنا موسى عليه السلام، كان مصريا، و لم يكن إسرائيليا، قول فيه من الخطورة ما فيه، فإن احتمالات الخطأ فيه لجسيمة رهيبة خطيرة، و مع ذلك، فهو كافتراض- من حيث هو ظن، نجد له صدى في اسمه المصري (أولا)، و في التوراة حيث وصف، على لسان بنات رعوئيل صهره، بأنه «رجل مصري» (ثانيا) و في «الزوهار» حيث يقر مصريته (ثالثا) و في الآيتين الكريمتين حيث التركيز فيهما على كلمة «ابن أم» (رابعا) و في رواية «الزجاج» على أنه ليس بشقيق لهارون، و كذا في رواية البيضاوي و أبي السعود بأنه كان أخا هارون من الأم، و إن ذهب الجمهور إلى أنهما شقيقان (خامسا)، و أخيرا (سادسا) في الأثر من أنه «كان بطيئا في الكلام»، و في قول التوراة: «أنه ثقيل الفم و اللسان»، و في قول اللّه تعالى في القرآن الكريم في سورة طه حيث يدعو ربه وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، و في الشعراء وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، و في القصص: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ و في الزخرف، على لسان فرعون وَ لا يَكادُ يُبِينُ، و في إجماع التوراة و القرآن العظيم على استعانة موسى بأخيه هارون في توصيل رسالته إلى بني إسرائيل، و إلى فرعون و ملئه (2).

و مع ذلك، فما زلت أشك كثيرا، في أن موسى عليه السلام لم يكن

ص: 400


1- محمد فؤاد شبل: المرجع السابق ص 87 ثم انظر: تفسير القرطبي ص 4232، تفسير الدر المنثور 5/ 119- 120.
2- سورة طه: آية 27، الشعراء: آية 13، القصص: آية 34، الزخرف: آية 52، تفسير القرطبي ص 2726، تفسير البيضاوي 4/ 29، تفسير النسفي: آية 3/ 63، تفسير أبي السعود 6/ 38، سفر الخروج 2/ 19، 4/ 10.

إسرائيليا، و إنما كان مصريا، و بدهي أن شكي هذا لا يتصل بحال من الأحوال بقيمة موسى عليه السلام من الناحية الدينية أو التاريخية، ذلك لأن هذه القيمة لم تأت من كونه إسرائيليا، و إنما لأنه كليم اللّه و رسوله الكريم، و لأنه أحد أولي العزم الخمسة من الرسل، و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و تلك أمور لا تتغير بتغير جنسه و من ثم فلا يؤثر في مكانة النبي الكريم، سيدنا موسى عليه السلام، أن يكون مصريا أو إسرائيليا.

و من ثم فإن شكي في مصرية موسى إنما يرجع لأسباب أخرى، منها (أولا) أن الجمهور على أن موسى إنما كان أخا شقيقا لهارون عليهما السلام، حتى و إن ذهب البعض إلى أنه كان أخاه من الأم، و هارون كان إسرائيليا دونما ريب، و بالتالي كان شقيقه موسى كذلك، و منها (ثانيا) أن الرسل إنما تبعث في أقوامها، و موسى قد أرسل إلى بني إسرائيل، و من ثم فهو إسرائيلي، و منها (ثالثا) أن دعوة موسى عليه السلام كان موضوعها، بجانب دعوة فرعون إلى الإقرار بتوحيد اللّه و ربوبيته، إنما هو إطلاق سراح بني إسرائيل من فرعون و قومه المصريين، كما يبدو ذلك واضحا في عدة آيات من الذكر الحكيم (الأعراف: آية 104- 105، طه: آية 47، الشعراء: آية 16- 17)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى نصوص التوراة (سفر الخروج 3/ 7- 22، 5/ 1- 3، 6/ 10- 13) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في الإصحاحات من السادس إلى العاشر من سفر الخروج، و التي تتحدث عن إخراج بني إسرائيل من مصر، مما يشير بوضوح إلى أن دعوة موسى عليه السلام، كما تصورها التوراة، إنما هو إخراج بني إسرائيل من مصر، و أن يقيهم شر العذاب المهين الذي كانوا يتعرضون له في أرض الكنانة، و ليس من المنطق أن يكون موسى مصريا، ثم تكون دعوته إطلاق بني إسرائيل من مصر، من فرعون و ملئه، ثم الخروج بهم من مصر

ص: 401

إلى كنعان، إلى الأرض المقدسة التي كتب اللّه لهم، و كما يقول صاحب البحر المحيط: و ليس بنو إسرائيل من قوم فرعون المصريين، أ لا ترى أن بقية المصريين (القبط كما يسميهم خطأ) و هم الأكثر، لم يرجع إليهم موسى.

و منها (رابعا) أن اسم موسى المصري، لم يطلقه عليه أبوه، كما يزعم فرويد، و إنما أطلقته عليه امرأة فرعون، و بدهي أن الملكة المصرية، لحما و دما، لغة و ثقافة، إنما تطلق على موسى اسما مصريا، و ليس عبريا، و كما أشرنا من قبل، فهي ملكة مصرية تتكلم اللغة المصرية و تفكر بها، و ما كان لها أن تتحدث العبرية في حياتها و بين مواطنيها، حتى تتخذ للطفل، مع كراهية شائعة للعبريين يومئذ، اسما عبريا، و منها (خامسا) أن وصف التوراة لموسى، على لسان بنات رعوئيل، بأنه رجل مصري، أمر طبيعي، ذلك لأن موسى عليه السلام، و قد تربى في قصر فرعون، و عاش في مصر عمره كله، و الذي ربما وصل وقت ذاك إلى أربعة عقود من الزمان، من البدهي أن يكون مصريا في لسانه و هيئته، بل إن قومه الإسرائيليين أنفسهم، و قد عاشوا في مصر قرابة أربعة قرون، قد أصبحوا مصريين، أو على الأقل متمصرين، بل إن القرآن الكريم ليصفهم بأنهم «طائفة منهم»، هذا فضلا عن أن ابنة رعوئيل ما كانت تعرف حتى ذلك الوقت جنسا يدعى «بنو إسرائيل»، ذلك لأن اليهود قبل موسى و نبوته، ما كان لهم وجود كأمة في مجتمعات الشرق القديم، صحيح أن القبائل الإسرائيلية التي كانت تعيش في مصر منذ عهد يوسف الصديق عليه السلام، على أيام الهكسوس، كانت تدرك، حتى قبل ظهور موسى، أنها تنتمي إلى أرومة واحدة، و لكنها مع ذلك لم تؤلف شعبا واحدا حتى حدث الاستعباد المصري لهم، و نجح موسى في أن يوحد بين هذه العشائر التي تراخت أواصر القربي بينها، و يجعلها أمة واحدة، و ذلك بفضل نبوته و معجزته الكبرى.

و منها (سادسا) الاعتماد على أن موسى عليه السلام «كان بطيئا في

ص: 402

الكلام» أو كان عييّا لا يكاد يبين حين يتكلم، و بالتالي فقد استعان في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل بأخيه هارون، دليل على أنه كان مصريا، و لم يكن إسرائيليا، استنتاج فيه من الخطأ أكثر ما فيه من الصواب، ذلك لأن بني إسرائيل ما كانوا يتحدثون العبرية في مصر، فمن المعروف تاريخيا أن أسلاف العبرانيين كانوا يتكلمون الآرامية قبل أن يستقروا في فلسطين، ثم بدءوا يتحدثون لغة الشعوب المضيفة لهم، ففي مصر كانوا يتكلمون اللغة المصرية، و في كنعان كانوا يتكلمون الكنعانية، و أما اللغة العبرية، و التي كانت خليطا من الآرامية و الكنعانية و كثير من اللغات السامية و غير السامية، فيرجع تاريخ ظهورها إلى ما قبيل عام 1100 قبل الميلاد، و بعد خروج بني إسرائيل من مصر، كما أشرنا من قبل.

و منها (سابعا) أن ما جاء في التوراة و القرآن العظيم من أن الكليم عليه السلام عييّ لا يكاد يبيّن، و من ثم فقد سأل ربه الكريم وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (1)، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، فهو أفصح منه لسانا، إلى غير ذلك من الأدلة التي اعتمد عليها البعض، على أنها ).

ص: 403


1- اختلف المفسرون في زوال العقدة بكاملها، فمن قال به تمسك بقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى و من لم يقل به احتج بقوله تعالى: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي، و قوله تعالى: وَ لا يَكادُ يُبِينُ، و أجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل حل عقدة تمنع الإفهام و لذلك نكرها، و قال: «عقدة من لسان» أي عقدة كائنة من عقد لساني، و جعل قوله تعالى: يَفْقَهُوا قَوْلِي جواب الأمر، و غرضا من الدعاء، فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله، و الحق، كما يقول أبو السعود، أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة، و لكن الحسن البصري قال: حل عقدة واحدة، و لو سأل أكثر من ذلك أعطى، و أما قوله تعالى: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لا تستدعي عدم البقاء لأن الأفصحية توجب بثبوت أصل الفصاحة في المفضول أيضا، و ذلك مناف للعقدة أصلا، و أما قوله تعالى: وَ لا يَكادُ يُبِينُ فمن باب غلو فرعون في العتو و الطغيان، و إلا لدلّ على عدم زوالها أصلا، و تنكيرها يفيد قلتها (تفسير أبي السعود 6/ 12).

دليل على مصرية موسى، و ربما كانوا يعنون عدم إجادته اللغة المصرية، فالرأي عندي أنها لا تدل على شي ء من ذلك، فربما كان سببها أن موسى عليه السلام قد أصيب بحبسة في لسانه نتيجة لتأخر في رضاعة أو لسبب آخر، أضعفه من الناحية العلمية قصة التمر الأحمر أو الياقوت و الجمر (1)، و على أية حال، فالإمام الفخر الرازي تفسير لاستعانة موسى بأخيه هارون يذهب فيه، كما أشرنا من قبل، إلى أن فرعون ربما كذب موسى، و التكذيب سبب لضيق القلب، و ضيق القلب سبب لتعثر الكلام على من يكون في لسانه حبسة، لأنه عند ضيق القلب تنقبض الروح و الحرارة الغريزية إلى باطن القلب، و إذا انقبضا إلى الداخل و خلا منهما الخارج، ازدادت الحبسة في اللسان، فالتأذي من الكذب سبب لضيق القلب، و ضيق القلب سبب للحبسة، فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب، ثم ثنى بضيق الصدر، ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان، و أما هارون فهو أفصح منه، و ليس في حقه هذا المعنى، فكان إرساله لائقا (2).

و منها (ثامنا) أن الذين اعتمدوا على أن هناك حبسة في لسان موسى لا تمكنه من أداء رسالته نحو بني إسرائيل، ثم توصلوا من وراء ذلك إلى أن موسى كان يتكلم لغة أخرى، و لم يكن قادرا على التفاهم مع شعبه الجديد من الساميين (أي بنو إسرائيل) بدون مساعدة مترجم، على الأقل في بداية عهده بهم، و في هذا دليل على صحة نظرية أن موسى كان مصريا، أو لغته على الأقل، نسوا، أو تناسوا، أنهم اعتمدوا في ذلك على نصوص التوراة (سفر الخروج 4/ 10- 16، 27- 31)، و أن هذه النصوص التوراتية

ص: 404


1- أنظر عن القصة: تفسير الطبري 16/ 159، تاريخ الطبري 1/ 390، تفسير القرطبي ص 4232، تفسير النسفي 3/ 52، تفسير أبي السعود 6/ 12، تفسير صفوة التفاسير 2/ 233، ابن الأثير 1/ 98.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 122.

المتداولة اليوم، ليست هي توراة موسى عليه السلام، و إنما قد داخلها كثير من التحريف و التصحيف، و أن القرآن الكريم قد جاء لتصحيح هذا التحريف، و ذلك التصحيف، و من هنا فإن شكوى موسى من حبسة لسانه في القرآن الكريم إنما كانت في مواجهة فرعون، و ليس في مواجهة بني إسرائيل، و هذا ما تدل عليه الآيات بوضوح في سورة طه (24- 32) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، و في سورة الشعراء (10- 13) وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، و في سورة القصص (30- 35) و في سورة الزخرف (51- 52) وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، وَ لا يَكادُ يُبِينُ.

و منها (تاسعا) أن موسى عليه السلام كان على صلة بقومه الإسرائيليين قبل خروجه إلى مدين، بدليل قتله المصري عند ما استغاث به الإسرائيلي على المصري الذي سماه القرآن «عدوه» (أي عدو موسى)، و لا يمكن أن يستغيث الإسرائيلي بموسى إلا إذا كان على معرفة أنه من بني إسرائيل، بل إن قوله تعالى: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ إنما يستشف منه أن موسى كان يستخدم نفوذه في مناصرة بني إسرائيل، و كيف أيدى المصريين عنهم، بل إن موسى كاد أن يتورط في محنة جديدة بسبب ذلك الإسرائيلي الذي استصرخه بالأمس و يستصرخه اليوم، حتى ليكاد أن يفعل ما ندم عليه بالأمس، فيهم بأن يبطش بالذي هو عدو لهما (أي المصري)، و بدهي أن كل هذا إنما يدل على أن موسى إسرائيلي، و أنه كان يعرف تماما تلك

ص: 405

و منها (عاشرا) أن قصة موسى، كما جاءت في سورة القصص (3- 21) و الشعراء (18- 22) لا تدع مجالا لشك في أن كليم اللّه عليه السلام، إنما كان من بني إسرائيل، فلقد ولد في تلك الفترة العصيبة التي سلط اللّه فيها فرعون على بني إسرائيل، يذبح أبناءهم و يستحي نساءهم، فأخفته أمه حينا من الدهر، و لما خشيت أن يفتضح أمرها فزعت إلى اللّه مما تخشى على وليدها، فكان، كما فصلنا من قبل، أن أوحى اللّه إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا، و هكذا أراد اللّه أن ينشئ موسى في قصر فرعون، و بدهي أن موسى عليه السلام لو كان مصريا، و لم يكن إسرائيليا، ما تعرض لكل هذه المحن و البلايا، و لما ألقته أمه في اليم، و لما نشأ في قصر فرعون، ذلك لأن فرعون ما كان يقتل أبناء المصريين و يستحي نساءهم، و إنما كان يفعل ذلك مع بني إسرائيل، دون غيرهم من رعيته، سواء أ كانوا من المواطنين المصريين أو من أبناء الامبراطورية المصرية في إفريقيا أو آسيا، و الحق أن قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، و خاصة ما جاء منها في سورتي الشعراء (18- 22) و القصص (3- 21) لا يدع مجالا للشك في أن النبي الكريم سيدنا موسى عليه السلام، إنما كان من بني إسرائيل، من ذرية أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي جعل في ذريته النبوة و الكتاب.

ص: 406

الفصل الثّاني الوجود التّاريخي لموسى عليه السّلام

من الغريب المؤلم أن شك شراح التوراة و علماء اليهود لم يقتصر على جنسية كليم اللّه عليه السلام، و إنما تجاوزه إلى الوجود التاريخي لموسى عليه السلام نفسه، و لعل السبب في ذلك إنما هي التقاليد العجيبة التي اكتنفت شخصية موسى، كما تبرز في نصوص التوراة، فكأننا أمام تضارب تقييم، شخصية صكت بني إسرائيل بعقد عميقة الجذور، فهم عنها و إليها بين شد و جذب عنيفين.

فالتفسيرات جميعا تكاد تتفق، في سعي خبيث، إلى التهوين من قدر موسى عليه السلام، فأنبياء بني إسرائيل المتأخرون (1)، دون غيرهم، أصحاب الفضل في إرساء أركان الديانة- المتسامية بأخلاقياتها زعموا- و لا بأس من التسليم لموسى، بأن كان علما على منعرج حاسم في تاريخ بني إسرائيل، كفاه أن هيأ لهم بعقيدة اصطفاء، أسبابا من تماسك و تلاحم، تفسيرات تكاد تكون انعكاسا صادقا لما طرأ عبر العصور على كتابات اليهود، فلا ذكر لموسى عليه السلام، أو يكاد، في الأصول التوراتية القديمة، و لا تقع على اسمه إلا خطفا، حتى في كتابات أنبياء القرن الثامن

ص: 407


1- أنظر عن هؤلاء الأنبياء (محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل- الاسكندرية 1978 ص 50- 60).

قبل الميلاد، عاموس (760- 746 ق. م) و هو شع (740- 730 ق. م) و إشعيا الأول (740- 700 ق. م) و ميخا (735- 700 ق. م) (1)، فالنبي إشعياء في المرة الوحيدة التي ذكر فيها موسى في نهايات سفره يقول: «ثم ذكر الأيام القديمة موسى و شعبه، أين الذين أصعدهم من البحر مع راعي غنمه، أين الذين جعل في وسطهم روح قدسه، الذي سيّر ليمين موسى ذراع مجده الذي شق المياه قدامهم، ليصنع لنفسه اسما أبديا» (2).

و هكذا أصبح موسى عليه السلام، في كتابات اليهود، نسيا منسيا أولا، ثم وجها أسطوريا فولكوريا فقط، منذ أيام سليمان، عليه السلام (960- 922 ق. م) إلى قرب نهاية دولة اليهود في فلسطين، يشهد بذلك أيضا الموضع الوحيد الذي تحدث فيه النبي إرميا (626- 580 ق. م) عن موسى (3) بهذه العبارة: «و قال له الرب: لو أن موسى و صموئيل وقفا أمامي لما توجهت نفسي إلى هذا الشعب، فأطرحهم عن وجهي و ليخرجوا (4)».

فإذا ما تكاثفت الأخطار حول مملكة يهوذا، يتهددها سوء مصير، أن يحيق بها ما حاق بمملكة إسرائيل في الشمال، تهيأت الفرصة- فإن الإيمان لهو ملاد الشعب في الملمات- لنفر من «لاويين»، ربما هم أحفاد بطانة موسى من كهنوت مصري، فتنبعث ذكرى كليم اللّه، و تلك الوصايا التي عهد بها إليه الرب في سيناء، بعد أن ظلت مطوية مطمورة في أعماق الوجدان زهاء قرون ستة أو يزيد (5).

ص: 408


1- حسين ذو الفقار صبري: إله موسى في توراة اليهود- المجلة- العدد 163- يوليو 1970 ص 5- 6.
2- إشعياء 63/ 11- 12.
3- حسن ظاظا: الصهيونية العالمية و إسرائيل ص 21.
4- أرمياء 15: 1، قارن الترجمة العربية للتوراة.
5- حسين ذو الفقار صبري: المرجع السابق ص 6.

و لكن مؤلفي التوراة حرصوا مع ذلك على الاستنقاص من مكانته- إعلاء لشأن داود و بيت داود- في أمور أشد ما تكون التصاقا بالعقيدة التوحيدية، كما عند الأنبياء المتأخرين، غمزا و لمزا في سفر الخروج (1)، فكأن موسى لم يختن شأن أي أقلف، و أن قد ظل كذلك، مخالفا تعاليم الرب كما أنزلت على إبراهيم، من حيث السمة الدالة على العهد الأبدي الموثق (2)، بل متحديا ما دفع به الرب مباشرة (3)، فكأن نبي اللّه، حامل رسالته إلى شعب بني إسرائيل، إنما ناكث لعهد الرب (4).

ثم صراحة و دون مواربة، إذ تعزى إليه شوائب من وثنية، فهو صاحب «حية النحاس» (5) «نحثتان» صنعها بيديه و رفعها أمام القوم على سارية (6)، هي من أسباب غواية بني إسرائيل، يقدمون لها القرابين متعبدين، فيسحقها ).

ص: 409


1- خروج 4: 24- 26.
2- تكوين 17: 10- 14.
3- خروج 12: 48.
4- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 6.
5- يرى «برستد» أن موسى كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية، فقد كان يحمل عصا سحرية عظيمة، في صورة «ثعبان» تسكن فيها قوة «يهوه»، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس، و كان هذا الثعبان أحد الثعابين المقدسة العديدة في مصر، و قد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل، و استمروا في إطلاق البخور له مدة خمسة قرون بعد عهد «موسى» و لم يبعد من البيت المقدس إلا في حكم ملك يهوذا حزقيا، و ليس من شك في أن برستد يخطئ في كثير مما ذكره (أنظر: ملوك ثان 18: 4)،,. P, ecneicsnoC fo nwaD ehT, detsaerB. H. J 354.
6- يرى الدكتور هاني رزق: معبرا عن وجهة النظر المسيحية أن هذا الحدث إنما كان رمزا لصلب المسيح، فكما رفع موسى الحية لكي يحيا كل من ينظر إليها، هكذا رفع يسوع المسيح على الصليب لكي يحيا كل من يؤمن به (هاني رزق: يسوع المسيح في ناسوته و ألوهيته، القاهرة 1971 ص 152- 153).

حزقيا ملك يهوذا (715- 687 ق. م)، ضمن ما كان قد حطم من نصب و أصنام (1).

هذا إلى أن التوراة جد حريصة على اثبات أنساب عديدة من شخصيات، و لكنها تمر على موسى مر الكرام، فتقول في سفر الخروج: إن أباه و أمه من بيت لاوى (2) و لا تزيد، لا تسميهما حتى، و إن كانت النسخ العربية للتوراة (3) تقرر: أن أمه هي بنت لاوى، و لكن دقة الترجمة تقتضيها أن تقول «من بيت لاوى»، أما ذلك النص الآخر (4) تقع عليه ضمن أنساب مفصلة لكافة بني إسرائيل، فإنما هو مدسوس على الأصل القديم، نقل نقلا عما أثبته الأحبار في سفر العدد (5)، بعد أن كان النص الأول قد سجل بأحقاب (6).

و لعل هذا كله هو الذي دفع المؤرخ اليهودي «سيسل روث» إلى القول: بأن موسى ينتمي إلى قبيلة أفرايم- مع نوع من الانتساب المصري- أكثر من انتمائه إلى قبيلة لاوى، التي انتسب إليها عن طريق التقاليد (7)- كما أشرنا من قبل- فإذا أضفنا إلى ذلك كله، انعدام أية وثيقة تاريخية معاصرة تحدثنا عن الكليم، عليه السلام، و عن وقائعه في مصر- غير ما ورد في الكتب

ص: 410


1- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 6، عدد 21: 9، ملوك ثان 18: 4.
2- خروج 2: 1- 2.
3- خروج 2/ 1 جاء بحية «و ذهب رجل من بيت لاوى، و أخذ بنت لاوى»، تعني أن عمرام تزوج عمته يوكابد بنت لاوى التي ولدت للاوى في مصر (خروج 6/ 20، عدد 26/ 59).
4- خروج 6: 20.
5- عدد 26: 59.
6- حسين ذي الفقار: توراة اليهود، المجلة يناير 1970، ص 12 و كذا, Y, N, sweJ ehT fo yrotsiH A, rahcaS. L. A 1954
7- . P, tic. po, htoR, C 8- 6.

المقدسة، و نزلت اليهود- فضلا عن أن اليهود أصبحوا لا يعرفون، حتى أين دفن الكليم (1)؟ لتبين لنا كيف أضاع اليهود الرجل العظيم و جحدوا مكانته، مما أدى في نهاية الأمر، إلى أن يبدي بعض علماء التاريخ و الآثار المصرية و الدراسات اليهودية، شكوكهم حول تاريخية الرجل العظيم، بل إن «جوستاف لوبون» ليقول بصراحة: إن موسى شخص أسطوري، أكثر من كونه شخصا تاريخيا، أي أن ذاتيته رتبت، كما رتبت ذاتية «بوذا» بعد حين (2).

و من هنا، فإن جمرة مفكري اليهود العلمانيين في العصر الحديث، تذهلهم تلك الشخصية، كما تتراءى عملاقة جبارة، بينما يؤرقهم في الوقت نفسه افتقارهم إلى الدليل المادي، مهما كان ضئيلا تافها، الذي يقنعهم بأنه كان له وجود، فيقولون بسفسطة رأى بأن: موسى كان، رغم أنه ما كان، أعظم شخصية في تاريخ اليهود، فلا معدي عن ابتداعها بخيال، فيصبح التاريخ اليهودي مغزى و قصدا (3).

و مع ذلك، و رغم كل ما أشرنا إليه آنفا، فإني لأومن- الإيمان كل الإيمان- بالوجود التاريخي لنبي اللّه الكريم، سيدنا موسى عليه السلام، لأسباب كثيرة. منها (أولا) أن الكتب السماوية الثلاثة- التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم- تجمع على ذلك، و ليس من العلم، فضلا عن الإيمان بما جاء في كتب السماء، أن نشك في أمر أجمعت عليه.

و منها (ثانيا) أن الشك الذي يحوم حول موسى عليه السلام، إنما له مثيل بالنسبة إلى أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل، عليه السلام (4)، و في كلا

ص: 411


1- تثنية 34: 1- 6.
2- جوستاف لوبون: المرجع السابق ص 75.
3- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 12، و كذا. P, tic- po, rahcaS. L. A 18- 16.
4- . P, tic- po, yellooW. L 514.

الحالين فإن الذين يشكون- في الكليم و الخليل- إنما يعتمدون في شكهم هذا، على كثرة الأعاجيب و الخوارق في السيرتين الطاهرتين، كما رواها الأقدمون، و لست أعتقد- بحال من الأحوال- أن هذا سببا مقنعا، فنحن الدارسين للتاريخ المصري القديم- على سبيل المثال- نسمع عن الكثير من الأسرار التي حيكت حول «الهرم الأكبر»، مما لا يعتمد على سند، أو دليل تاريخي، و مع ذلك فالهرم الأكبر موجود. و لا يستطيع أحد أن يمتري في وجوده.

و منها (ثالثا) أن ما يراه بعض النقاد من عدم وجود أي أثر يشير إلى تاريخية موسى، عليه السلام، فإذا كان الأمر كذلك، و إذا كانت تلك «الشقف» أكثر أهمية، بل و ربما يعتمد عليها أكثر من ذاكرة الناس، أو السجلات المكتوبة، فإن الأثر الذي تركه المشرع العظيم على العقل الإسرائيلي، و الذي يمكن تتبعه منذ عصر قديم جدا، عميق لدرجة لا يمكن أن تفشل في حالة الاعتماد عليها، لتحقيق شخصية تركت أثرا لا يمحي على المعاصرين (1).

و منها (رابعا) أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء و الرسل في النصوص الإنسانية ضعيف نسبيا، لأن حقيقة الصراع بين القيم السماوية و الإنسانية، ربما يكون قد دفع تلك المجتمعات الإنسانية إلى إغفال ذكرها.

و هذه ظاهرة يلمسها المؤرخ في تاريخ و حضارة الشرق الأدنى القديم بوجه عام، بالنسبة إلى تعمد عدم التعريف بالمعارضين (2).

و منها (خامسا) أن المصادر المصرية القديمة- و التي تمتاز عن غيرها

ص: 412


1- , nodnoL, elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohsA, htoR. C 6. p، 1969.
2- رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا- الكتاب الثالث- المدخل في التطور التاريخي للفكر الديني- بيروت 1969 ص 174.

من مصادر الشرق الأدنى القديم بوضوحها و كثرة آثارها- كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر بمعلومات عن «موسى»، هذه المصادر- في غالبيتها- إنما كتبت بأمر من الملوك، أو بوحي منهم، فإذا ما تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة إلها، أكثر منه بشرا، كان من الطبيعي ألا يستسيغ المصريون أن يهزم الملك في حرب خاض غمارها، و لهذا فالنصر كاد أن يكون حليفه فيها، و قد تكون الحقيقة غير ذلك (1).

و من المعروف أن قصة موسى في مصر- كما جاءت في الكتب المقدسة- إنما انتهت بغرق الفرعون و جنوده في البحر، و نجاة موسى و من آمن معه بالواحد القهار، و ليس من المقبول- طبقا للعقيدة الملكية الإلهية المصرية القديمة- أن تسجل النصوص المصرية غرق الإله الفرعون، و نجاة عبيده العبرانيين، و من هنا كان من الصعب العثور على اسم موسى في النصوص المصرية القديمة حتى الآن، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر الفرعونية.

و انطلاقا من هذا كله، و رغم أن الوجود التاريخي لموسى، عليه السلام، إنما يفتقر إلى الدليل المادي التاريخي، خارج الكتب المقدسة، و تراث اليهود، فإن الغالبية العظمى من المؤرخين يعتقدون أن موسى عليه السلام له وجود تاريخي، و أنه عاش في مصر حينا من الدهر، و أن خروج الإسرائيليين من أرض الكنانة تم تحت قيادته، و أن ذلك كله- فيما أرى-، إنما هو من حقائق التاريخ التي لا يرقى إليها الشك- بحال من الأحوال- إيمانا منا بما جاء في الكتب السماوية، من ناحية، و لأن تاريخ إسرائيل الفعلي- و الذي يبدأ حقيقة بحادث الخروج من مصر- لا يمكن أن يفهم إلا إذا اعترفنا بوجود كليم اللّه، موسى عليه السلام.).

ص: 413


1- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة، الإسكندرية 1966 ص 3 (رسالة ماجستير).

ص: 414

الفصل الثّالث موت موسى عليه السّلام

نجح موسى عليه السلام، كما رأينا من قبل، في الخروج ببني إسرائيل من مصر، و هناك في صحراوات سيناء المقفرة لقي النبي الكريم من قومه الأمرّين، و ينتهي الأمر بأن يكتب على الخارجين من مصر أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ينجح بنو إسرائيل في أخرياتها في الوصول إلى تخوم كنعان، و إن لم يكتب لهؤلاء أن يدخلوا الأرض المقدسة أبدا.

هذا و قد اختلفت المصادر الإسلامية في دخول موسى عليه السلام أرض كنعان، فذهب فريق من علماء السلف على رأسهم ابن إسحاق، إلى أن موسى قد عاش حتى خرج من التيه، و شهد دخول قومه أرض فلسطين، و أنه كان معهم يوم فتح مدينة الجبارين (أريحا أو بيت المقدس)، و كان على مقدمته يوشع بن نون، كما كان معه كالب بن يفنة، صهره على أخته مريم بنت عمران، و يذهب ابن كثير إلى أن هذا خلاف ما عليه أهل الكتاب و جمهور المسلمين، و مما يدل على ذلك قول موسى عليه السلام، لما اختار الموت، كما سيأتي، «رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر»، و لو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، و لكن لما كان مع قومه في التيه و حانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها و حث قومه عليها، و لكن حال بينهم و بينها القدر رمية حجر، و لهذا قال سيد البشر، و رسول

ص: 415

اللّه! أهل الوبر و المدر سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم «فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر».

على أن هناك فريقا آخر، على رأسهم ابن عباس، و كذا قتادة و السدى و عكرمة، إنما يذهب إلى أن موسى و هارون، عليهما السلام، توفيا في التيه، و كذا توفي كل من أبي المسير إلى كنعان مع موسى، حين أمرهم اللّه تعالى بقتال من فيها من الجبارين، و هكذا تذهب المصادر الإسلامية، و كذا التوراة (1)، إلى أن جميع بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر قد ماتوا في البرية، و لم يروا أرض الميعاد، ما عدا يوشع بن نون و كالب بن يفنه، و من لم يتجاوز العشرين من أعمارهم، و أن موسى عليه السلام قد عهد إلى يوشع بن نون بأن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة من بعده، أو أن يوشع قد بعث نبيا من بعد موسى، و أنه هزم الجبارين و دخل مدينتهم (2).

هذا و قد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال:

أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز و جل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعره سنة، قال: أي رب ثم ما ذا، قال ثم الموت، قال فالآن قال: فسأل اللّه عز و جل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، قال أبو هريرة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»، و في رواية في

ص: 416


1- عدد 14/ 22- 38، 33/ 38- 39.
2- تفسير الطبري 10/ 190- 200، تاريخ الطبري 1/ 435- 442، تفسير روح المعاني 6/ 109، تفسير الطبرسي 6/ 70- 71، تفسير الكشاف 1/ 622- 623، تفسير النسفي 1/ 279- 280، تفسير الخازن 2/ 34- 36، ابن كثير: التفسير 2/ 74- 75، البداية و النهاية 1/ 316- 325، تفسير البغوي 2/ 36- 7، تاريخ ابن خلدون 2/ 98- 99، تاريخ اليعقوبي 1/ 45- 46، مروج الذهب للمسعودي 1/ 62- 63، الكامل لابن الأثير 1/ 111- 115.

تفسير البغوي: «و اللّه لو كنت عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»، و روى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: لما أسرى به، مررت بموسى و هو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر»، و في رواية قال صلى اللّه عليه و سلم: «مررت على موسى ليلة أسرى بي عن الكثيب الأحمر، و هو قائم يصلي في قبره» (رواه مسلم و النسائي و أحمد).

و روى الإمام أحمد و ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، قال فرجع فقال: يا رب إن عبدك موسى فقأ عيني، و لو لا كرامته عليك لشققت عليه، فقال: ائت عبدي موسى فقل له: فليضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة، و خيّره بين ذلك و بين أن يموت الآن، قال فأتاه فخيّره، فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال الموت، قال: فالآن إذا، قال: فشمه شمه قبض روحه، قال: فجاء بعد ذلك إلى الناس خفية» (1).

هذا و تقول التوراة في التثنية (3/ 27- 29) و قال الرب لموسى:

«اصعد إلى رأس الفسجة و ارفع عينيك إلى الغرب و الشمال و الجنوب و الشرق و انظر بعينيك لكي لا تعبر هذا الأردن، و أما يشوع فأوصه و شدّده و شجعه لأنه هو يعبر أمام هذا الشعب و هو يقسم لهم الأرض التي تراها، فمكثنا في الجواء مقابل بيت فغور»، ثم تقول في أخر سفر التثنية نفسه (34/ 1- 8) «و صعد موسى من عربات مؤاب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي في قبالة أريحا، فأراه اللّه الأرض من جلعاد إلى دان، و جميع نفتالي و أرض أفرايم و منسي و جميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي و الجنوب و الدائرة بقعة أريحا أرض النخل إلى صوغر، و قال له الرب: هذه هي الأرض التي

ص: 417


1- تاريخ الطبري 1/ 434، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 319.

أقسمت لإبراهيم و إسحاق و يعقوب قائلا لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك و لكنك إلى هناك لا تعبر، فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب، و دفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور، و لم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (1)، و كان موسى ابن مائة و عشرين سنة حين مات، و لم تكل عينه و لا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات مؤاب ثلاثين يوما، فكملت أيام بكاء مناحة موسى».

و هكذا يذهب المؤرخون المحدثون إلى أنه من هناك من رأس الفسجة، التي يفترض أنها جزء من جبل «نبو» (2)، و طبقا لرواية التوراة، ينظر موسى إلى أرض الميعاد، ثم يموت و يدفن في أرض «مؤاب»، و من المحتمل أن جبل «نبو» إنما هو جبل «نبا» الحالي، على مبعدة ثمانية أميال إلى الشرق من نهر الأردن، و أما «الفسجة» فربما كانت القمة الغربية و السفلى لنفس الجبل، و يقودنا الطريق المنحدر من الجبل إلى «عيون موسى»، التي تشرف على خرائب قلعة «خربة عين موسى» (3)، و هناك كذلك خرائب بعيدة عنها، و تعرف ب «خربة المخيط»، التي يمكن أن توجد بمدينة «نبو»، على مبعدة خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي من «حسبان»، بينما على الجبل نفسه بقايا كنيسة بيزنطية (4).

و من الغريب المؤلم، أننا نقرأ في التوراة (5)، أن موت موسى و هارون إنما كان بسبب خيانتهما للرب «عند ماء مريبة قادش في برية صين» إذا لم

ص: 418


1- روى أن الإمام مالك قال: إنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض، غير قبر محمد صلى اللّه عليه و سلم و من كان قبر محمد صلى اللّه عليه و سلم عندهم، فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم».
2- , nodnoL, sioV 2, obeN tnuoM no sesoM fo lairomeM ehT, rellaS. J. S 1941.
3- , nevaH weN, nadroJ eht fo ediS rehto ehT, kceulG, N 143. p، 1945.
4- قاموس الكتاب المقدس 2/ 953- 2954، و كذا،. P. tic- po, nageniF, J 155.
5- تثنية 32: 48- 50.

يقدسانه في وسط بني إسرائيل، و من هنا فقد حرم اللّه الأرض المقدسة على موسى أبدا.

و يعلم اللّه- و تشهد ملائكته- أن موسى و هارون لم يكونا كما صورتهما يهود في التوراة، و إنما كانا رسولين كريمين، بذلا الجهد- كل الجهد- في تبليغ دعوة ربهما، و أفنيا عمرهما من أجلها، حتى لقيا اللّه مطمئنين إلى رضاه، و هكذا نرى القرآن الكريم يكرمهما أمجد تكريم، حيث يقول سبحانه و تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً، وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا، وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (1)، و يقول: وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (2)، و يقول عن موسى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (3)، و يقول: وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (4)، و يقول: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (5).

ص: 419


1- سورة مريم: آية 51- 53 و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 36، تفسير الألوسي 16/ 193- 194، تفسير الفخر الرازي 21/ 221، تفسير الطبري 16/ 94-، تفسير الطبرسي 16/ 44- 46 تفسير القاسمي 11/ 4149، تفسير القرطبي ص 4152- 4153.
2- سورة الصافات: آية 114- 122، و انظر: تفسير البيضاوي 3/ 298- 299، تفسير الفخر الرازي 26/ 159- 160، تفسير الطبري 23/ 90- 92 تفسير روح المعاني 23/ 138- 139، تفسير ابن كثير 7/ 31- 33، تفسير القرطمي 15/ 114- 115.
3- سورة طه: آية 39.
4- سورة طه: آية 41.
5- سورة الأعراف: آية 144، و انظر: الجواهر في تفسير القرآن الكريم 4/ 7- 2، تفسير الطبري 13/ 106- 107، تفسير الطبرسي 19/ 18- 20، تفسير القاسمي 7/ 2854، تفسير المنار 9/ 104- 112، تفسير القرطبي ص 2716، تفسير و جدي ص 214، تفسير ابن كثير 3/ 471.

و هكذا يرفع القرآن الكريم هذين النبيين الكريمين إلى الدرجة التي يستحقانها، ثم يطلب إلى المؤمنين به أن يرتفعوا إلى مستوى دينهم القويم، فلا يتأثروا بما يعرفون عن بني إسرائيل في حكمهم على موسى عليه السلام (1)، فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (2).

انتقل موسى، عليه السلام، راضيا مرضيا عنه، و قد أكمل الرسالة، و بلغ الدعوة، و نقرأ في التوراة (3): «و كان موسى ابن مائة و عشرين سنة حين مات» (4)، و ليست هناك أية دلائل في التوراة تشير إلى أن موسى لقي ميتة عنيفة، غير طبيعية غير أننا نرى في عام 1922 م «أرنست سيللين» يزعم أنه قد وجد في بعض فقرات من سفر «هوشع» (5) بقايا تقاليد مختلفة، ترى أن موسى قد مات شهيدا، فقد ذبحه الكهنة الذين أطاحوا تماما بالدين الذي أسسه (6).

و في عام 1938 م، أصدر «سيجموند فرويد» كتابه الشهير «موسى و التوحيد»، زعم فيه أن هذه التقاليد- الآنفة الذكر، لم تكن مقصورة على

ص: 420


1- عبد الرحيم فودة: المرجع السابق ص 214.
2- سورة الأحزاب: آية 69، و انظر: تفسير الفخر الرازي 25/ 233، تفسير القرطبي 14/ 250- 252 (القاهرة 1967)، تفسير و جدي ص 561، تفسير الطبري 22/ 50- 53.
3- تثنية 34: 7.
4- ترى التقاليد اليهودية و النصرانية أن موسى أقام في مدين أربعين عاما، و أنه حين خرج من مصر لاجئا إلى مدين كان في الأربعين من عمره، ثم بعث نبيا و هو في الثمانين، و أنه مات و هو ابن مائة و عشرون سنة (أعمال الرسل 7: 7، 23، 30، قاموس الكتاب المقدس 2/ 931، شاهين مكاريوس: المرجع السابق ص 40، عدد 14: 33، تنبيه 34: 7).
5- هوشع 4: 4- 9، 5: 1- 4، 8: 3- 7، 9: 7- 11.
6- ,gizpieL .eth cihcsegsnoigileR ohcsiduJ hcsitilearsI eid ruf gnutuedeB enieS dnu esoM nilleS tsnrE 1922.

هوشع، و إنما هي تتكرر في كتابات معظم الأنبياء اللاحقين، بل إنها- فيما يرى سيللين- أساس التوقعات القادمة بمقدم المسيا (المسيح). و قرب نهاية الأسر البابلي (586- 539 ق. م) انبثق الأمل بين الشعب اليهودي في أن الرجل الذي اغتالوه بكل قسوة، سوف يعود من مملكة الموتى، ليقود شعبه النادم- و ربما غير شعبه أيضا- إلى أرض النعيم الخالد.

ثم يعترض «فرويد» على ما ذهب إليه «سيللين» من أن الحادث العنيف قد وقع عند «شيتم mittihs» بشرق الأردن، و إنما يفترض أن ذلك الحادث إنما وقع قبل اتحاد القبائل الخارجة من مصر، مع ذوي قرباها، في الأرض الواقعة بين مصر و كنعان- و في قادش، فيما يرى ماير و جرسمان و آخرون- ثم استبدل بعد ذلك موسى المصري في التقاليد، بموسى آخر، هو الذي أسس فيما بعد ديانة «يهوه»، و هو زوج ابنة «يثرون» كاهن مدين، و الذي أطلقوا عليه اسم «موسى» كذلك (1).

و نحن لا نعرف، على أي حال، شخصية موسى الآخر، الذي يحجبه تماما موسى الأول أو المصري، فيما عدا بعض مفاتيح شخصيته التي تقدمها التناقضات التي يمكن العثور عليها في تصوير التوراة لشخصية موسى، ففي الوقت الذي يوصف فيه بأنه قوي حاد المزاج، بل عنيف أحيانا، يقال عنه في مواضع أخرى، إنه كان أكثر الرجال صبرا و تواضعا، و من الواضح أن مثل هذه الصفات الأخيرة، لا يمكن أن تكون ذات فائدة لموسى المصري الذي قام بمثل هذه المشروعات الشاقة العظيمة، و لربما تعزي هذه الصفات إلى موسى الآخر، موسى مدين.

و لعل لنا الحق بعد ذلك، فيما يرى فرويد- أن نفصل بين الشخصيتين احداهما عن الأخرى، و نفترض أن موسى المصري لم يذهب مطلقا إلى

ص: 421


1- , p, tic- po, duerF. S 46- 42.

«قادش»، كما أن موسى مدين لم يضع قدمه في مصر، و لم يعرف شيئا عن «آتون» و لكن من أجل أن يصبح الاثنان واحدا جعلت التقاليد- أو الأساطير- موسى المصري يذهب إلى مدين، و هكذا نرى أن أكثر من تفسير يمكن أن يقدم (1).

و الرأي عندي أن ذلك أمر غير مقبول، و أنه تحميل للنصوص أكثر مما تحتمل، صحيح أن التوراة تروي أن هناك ثورات عنيفة قامت أثناء فترة التيه في صحراوات سيناء ضد موسى (2)، و أن واحدة من هذه الثورات كانت من اللاويين، رهط موسى الأدنين (3)، بل إن أخرى إنما كانت من بيت موسى نفسه، من أخويه هارون و مريم (4)، و صحيح أن واحدة من هذه الثورات إنما قد طالبت علانية بخلع موسى و العودة إلى مصر (5)، و صحيح أن رواية التوراة عن موت موسى و هارون إنما هي جد غامضة، و أنها تجعل خيانتهما للرب- و العياذ باللّه- سببا في هذا الموت (6).

كل تلك أمور حدثتنا عنها التوراة، بل و صحيح كذلك أن قتل النبيين عند اليهود أمر مألوف، و صدق عز من قال: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (7)، و قد قتلت يهود

ص: 422


1- . p, tic- po, dseL. A 308. و كذا،. p, tic- po, duerF. S 49- 46.
2- خروج 15: 23- 25، 16: 2- 3، 17: 1- 7.
3- عدد 16: 1- 41.
4- عدد 12: 1- 15.
5- عدد 14: 2- 4.
6- تثنية 32: 48- 53.
7- سورة البقرة: آية 87، و انظر: سورة البقرة: آية 61، 91، سورة آل عمران: آية 112، سورة المائدة 70، و كذا: تفسير الطبري 2/ 139- 142، 323- 324، 323- 324، 350- 354، 7/ 116- 118، 10/ 477 (دار المعارف)، تفسير ابن كثير 1/ 45- 147، 175 179، 2/ 77- 86، 3/ 148، تفسير المنار 1/ 273- 276، 311- 312، 317- 318،/ 574- 58، 397- 398.

يحيى عليه السلام (1)، كما حاولت نفس الأمر مع المسيح عيسى بن مريم، و لكن اللّه جلت قدرته نجاه من كيد الفاسقين، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (2).

كل ذلك و غيره صحيح، و لكنه صحيح كذلك، أن التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم، و هي دون شك مصدرنا الأساسي عن الأنبياء عليهم السلام، لم تقل أن موسى عليه السلام، مات مقتولا، أو حتى لقي ميتة عنيفة، و لم يقدم لنا «سيللين» أو «فرويد» نصا واحدا صريحا من نصوص التوراة، التي زعما أنها تشير إلى ذلك، كما أن الدليل التاريخي على هذا الحدث المؤلم مفقود تماما، و من هنا فالأمر، فيما أومن به و اعتقد، مجرد ظن، و إن بعض الظن إثم.

و من ثم فلنا أن نعتبر ما ذهب إليه «سيللين و فرويد» من شطحات

ص: 423


1- متى 14: 2- 11، مرقس 6: 17- 28، تاريخ يوسفيوس ص 214، فيلب حتى: المرجع السابق ص 420، 422 ثم قارن ابن الأثير 1/ 301- 302، تاريخ الطبري 1/ 585- 593، تاريخ ابن خلدون 2/ 144، ابن كثير: قصص الأنبياء 2/ 362- 366، الثعلبي: قصص الأنبياء ص 340- 341، عبد الرازق نوفل: يوحنا المعمدان ص 59- 86، كتابنا «دراسات في تاريخ العرب القديم» ص 516- 518 (الرياض 1977- أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تحت رقم 1 من المكتبة التاريخية).
2- سورة النساء: آية 157- 158، و انظر: تفسير الطبرسي 6/ 279- 284، تفسير الطبري 8/ 376- 379، في ظلال القرآن 6/ 19- 21، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 3/ 108- 109، تفسير النسفي 1/ 376- 377، تفسير الكشاف 1/ 584- 589، تفسير روح المعاني 4/ 10- 12، تفسير أبي السعود 1/ 808- 810، تفسير الفخر الرازي 10/ 99- 102، تفسير ابن كثير 2/ 399- 419 تفسير المنار 6/ 10- 20، تفسير القرطبي ص 2005- 2006.

الباحثين، أو حتى أساطيرهم، التي لا تعتمد على نص سماوي صريح، أو حتى دليل مادي من التاريخ، و ما أكثرها، بل إننا ما كان لنا لنهتم بها، لو لا أنها تتعلق بواحد من المصطفين الأخيار، أنبياء اللّه الكرام البررة، سيدنا موسى عليه السلام، فنظائرها في كتب التاريخ كثيرة، خاصة في كتب هذا النوع من الباحثين الذين عرفوا بالجرأة على إصدار أحكام، باسم العلم، و العلم منها برى ء، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، كما يقولون، و لكن ما حيلتنا، و هناك الكثير من الشباب الذي لم يدرس تاريخ الأنبياء في مصادرها الأصلية إنما يصدقون ما يقوله هؤلاء الباحثون من المستشرقين و المستغربين، هدانا اللّه و إياهم إلى سواء السبيل.

ص: 424

الفصل الرّابع مكانة موسى في التاريخ اليهودي
[1] مكانة موسى عند المسلمين:-

لا ريب في أن سيدنا موسى عليه السلام، إنما يحتل مكانة ممتازة عند المسلمين، ذلك لأن كليم اللّه في القرآن الكريم إنما هو من المرسلين الكبار، أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الأنبياء في آيتين من آي الذكر الحكيم، هما قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (1)، و قوله تعالى. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (2).

و لموسى منزلة كبرى عند اللّه تعالى: و لنقرأ هذه الآية من سورة طه:

ص: 425


1- سورة الأحزاب: آية 7، و انظر: تفسير القرطبي ص 5208- 5209، تفسير النسفي 3/ 295، زاد المسير لابن الجوزي 6/ 354، و انظر: تفسير البيضاوي (1/ 114) حيث يقول: خصهم اللّه بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع، و قدم نبينا عليه الصلاة و السلام تعظيما له و تكريما لشأنه، و قال ابن كثير (مختصر التفسير 3/ 83) بدأ بالخاتم لشرفه صلّى اللّه عليه و سلم، و بيانا لعظم مكانته، ثم رتبهم حسب وجودهم في الزمان.
2- سورة الشورى: آية 13، و انظر: تفسير ابن كثير 7/ 182- 183، تفسير النسفي 4/ 102، تفسير القرطبي ص 5829- 5830، صفوة التفاسير 3/

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، و ما كان في مقدرة لسان بشر أن يصف خلقا يصنع على عين اللّه، إنها لمنزلة، و إنها لكرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية الإلهية، فكيف بمن يصنع صنعا على عين اللّه، إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه، ثم يقول سبحانه و تعالى بعد ذلك: وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي خالصا مستخلصا يمحّضا لي و لرسالتي و دعوتي، ليس بك شي ء من هذه الدنيا و لا لهذه الدنيا، إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها، و اصطنعتك لتؤديها، فما لك في نفسك شي ء، و ما لأهلك منك شي ء، و ما لأحد فيك شي ء، فامض لما صنعتك له (1)، روى البخاري عن تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: التقى آدم و موسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس و أخرجتهم من الجنة، فقال آدم: و أنت الذي اصطفاك اللّه برسالته، و اصطفاك لنفسه و أنزل عليك التوراة، قال: نعم، قال: فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني، قال: نعم، فحجج آدم موسى» (2).

ثم إن موسى عليه السلام، هو الذي كلمه اللّه، و من ثم فقد اشتهر بأنه كليم اللّه، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، يعني موسى و محمد صلى اللّه عليهما و سلم (3) هذا و كان من وجاهة موسى عليه السلام أن شفع في أخيه عند اللّه، و سأله أن يكون معه وزيرا، و ذلك في قول اللّه تعالى: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، و قول اللّه تعالى: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، فأجاب اللّه دعاءه فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى و لهذا قال بعض السلف: ما

ص: 426


1- في ظلال القرآن 4/ 2335- 2336.
2- ابن كثير: مختصر التفسير 2/ 482.
3- نفس المرجع السابق 1/ 226.

شفع أحد شفاعة في الدنيا، أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا، قال اللّه تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا، و قال ابن عباس:

نبى ء هارون ساعتئذ، و حين نبى ء موسى، عليهما السلام، روى عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنزلت ببعض الأعراف فسمعت رجلا يقول:

أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قالوا لا ندري، قال أنا و اللّه أدري، قالت فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت: صدق و اللّه (أخرجه ابن أبي حاتم) (1).

و قد نبه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على مكانة موسى عليه السلام في قوله الشريف، الذي رواه البخاري و مسلم و أبو داود بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم قد لطم وجهه و قال: يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي، قال ادعوه، فدعوه، قال لم لطمت وجهه، قال يا رسول اللّه، إني مررت باليهودي فسمعته يقول:

و الذي اصطفى موسى على البشر، قال: و على محمد، قال فقلت: و على محمد، و أخذتني غضبة فلطمته، فقال صلى اللّه عليه و سلم: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور».

و روى الإمام أحمد و البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال: استب رجلان، رجل من المسلمين و رجل من اليهود، فقال المسلم: و الذي اصطفى محمد على العالمين، فقال اليهودي: و الذي اصطفى موسى على

ص: 427


1- سورة مريم: آية 53، طه: آية 29- 32، القصص: آية 34، و انظر: تفسير النسفي 3/ 51- 52، 179، 236، صفوة التفاسير 2/ 233، 375- 376، 433- 234، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 455، 474.

العالمين، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهودي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسأله فأخبره، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاعترف بذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى ممسك بجانب العرش، فلا أدري أ كان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه عز و جل».

و يقول ابن كثير: و الكلام في قوله صلى اللّه عليه و سلم: «لا تخيروني على موسى» كالكلام على قوله صلى اللّه عليه و سلم: لا تفضلوني على الأنبياء، و لا على يونس بن متى»، قيل من باب التواضع، و إلا فهو صلى اللّه عليه و سلم خاتم الأنبياء، و سيد ولد آدم في الدنيا و الآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض، كما أختصه اللّه تعالى بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون و الآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء و المرسلون، حتى أولو العزم الأكملون، كما ظهر شرفه صلى اللّه عليه و سلم ليلة الإسراء على جميع المرسلين و الأنبياء، و كما ثبت أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم».

و الذي يؤمن المسلمون بأنه أفضل الرسل إطلاقا، بعد سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ليس أدل على هذه الأفضلية من أن المسلمين يصلون على إبراهيم و ماله و يباركونهم، كما يصلون على نبيهم محمد و آله و يباركونهم، ثم يأتي بعد ذلك، كما يقول ابن كثير في التفسير، موسى بن عمران كليم الرحمن (1).

[2] مكانة موسى في التاريخ اليهودي:-

و أما مكانة موسى، عليه السلام، في التاريخ اليهودي، فهي مكانة لا يسمو إليها واحد من معاصريه، أو من اللاحقين به من بني قومه، و لهذا فهو

ص: 428


1- ابن كثير: مختصر التفسير 1/ 226- 227، 2/ 48- 50، البداية و النهاية 1/ 283- 285، 312- 315، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 52- 53، صحيح البخاري، صحيح مسلم.

يعدّ حقا شيخا للأمة الإسرائيلية، بل هو الذي كان سببا في وجود اليهود كأمة، صحيح أن القبائل الإسرائيلية كانت تدرك- قبل ظهور موسى- أنها تنتمي إلى أرومة واحدة، و لكنها مع ذلك لم تؤلف شعبا واحدا، حتى حدث الاستعباد المصري، و نجح موسى في أن يوحد بين هذه العشائر التي تراخت أواصر القرى بينها، و يجعلها أمة واحدة، و ذلك بفضل نبوته و معجزته الكبرى، فقد كان موسى يؤمن- الإيمان كل الإيمان- أن معه إلها أكبر من كل آلهة مصر، معه «يهوه» الذي لا يريد تحرير القبائل العبرية فحسب، بل يريد كذلك أن يكونوا أمة واحدة، و أن شعب موسى لا بد أن يعتقد أن معه قوة فرعون و كل جنده، و قد نجح موسى بفضل عميق إيمانه بدينه الجديد في إقناع اليهود بذلك، رغم كل المتاعب التي وقفت عقبة كئود في طريقه، و التي لم تخفها أسفار التوراة (1).

و هكذا استطاع موسى أن ينشئ من الأسباط الاثنى عشر، اتحادا فيدراليا منذ أول خطوة من رحلة الخروج، محددا لكل سبط مهمته و مسئوليته في المجموعة، و كان لعشيرة موسى- أي سبط اللاويين- الزعامة الدينية و الاجتماعية على سائر الأسباط، و كان لهذا المجتمع مجلس تشريعي، يقابل ما يسمى أحيانا «مجلس الشيوخ»، و يتكون من السبعين رجلا الذين اختارهم موسى- و الذين يرى فيهم فرويد السحرة المصريين الذي آمنوا به- و كان هو نفسه رئيس المجلس، و هذا التنظيم ما يزال يحاكى في المجتمعات اليهودية، و يوكل إليه- كما كان قديما- أمر تطبيق الشريعة الموسوية و تنفيذها و تفسيرها و الإفتاء بمقتضاها في الحالات المشكلة (2).

و مع هذا فإن هذا العمل السياسي الضخم الذي بدأه موسى، عليه

ص: 429


1- تيودور روبنسون: المرجع السابق ص 105.
2- حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم- الاسكندرية 1971- ص 76- 77 و كذا.. p, tic- po, sdoL. A 310، 175.

السلام، لا يكاد يذكر، إلى جانب دعوته الدينية، و التغيير الاجتماعي الذي سببته هذه الدعوة بين العبرانيين، ذلك لأن موسى لم يؤسس أمة فحسب، و إنما أرسى كذلك قواعد دين، و كان الكليم كحامل لوحي ديني- على مثال مولانا و سيدنا محمد رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم، بعد ذلك بحوالي ألفي سنة- استطاع أن ينهض بتحويل بعيد المدى في عادات البدو الساميين للقبيلة، التي لو لا ذلك لظلت باقية على ما هي عليه، و قد ثبّت عبادة «يهوه» لتكون عبادة شعب، و بهذا أتى إلى حيز الوجود بأمة جديدة، و منذ ذلك الحين، صار «يهوه» إله العبرانيين، الذي أطلق سراح آبائهم من العبودية، و قادهم خلال أخطار البرية، إلى أرض الموعد (1).

و من هنا نرى «جيمس هوسمر» يقرر أن مكانة موسى؛ إنما جاءت من كفاءته التي استطاع بها أن يقود بني إسرائيل و يخرجهم من مصر، ثم من مقدرته على إملاء التوراة، التي كانت قانون هذه الجماعة، بعد إن لم يكن لها قانون، كما كانت القاعدة التي قام عليها بناء الدولة من الناحية السياسية (2).

و هكذا تجمع الآراء على أنه لو لا موسى- عليه السلام- لما كان لبني إسرائيل، أو لعقيدتهم وجود، حتى إنه ليقال في الأساطير اليهودية نفسها، أنه لو لم يوجد موسى، لاضطروا إلى ابتداع شخصيته بخيال، فإن ذكراه الحية هي التي تتأممهم إلى وجود (3)، و من ثم نستطيع تفسير وجود الشعب اليهودي، بآرائه و شريعته و فلسفته و دينه (4).

ص: 430


1- و. ج. دي بورج: تراث العالم القديم، ترجمة زكي سوسن- الجزء الأول، القاهرة 1965 ص 66.
2- أحمد شلبي: اليهودية، القاهرة 1967، ص 146، و كذا, P, sweJ ehT, remsoH smaJ 14.
3- حسين ذو الفقار صبري: المجلة، العدد 151 «يولية 1969 ص 18، و كذا, Y, N sweJ ehT fo yrotsiH A, rahcaS. L. A 17- 16. p، 1945.
4- . 7. P, tic- po, htoR. C
الباب الخامس قصّة موسى بين آيات القرآن و روايات التّوراة

ص: 431

ص: 432

من عجب أن موسى عليه السلام، رغم أنه أعظم أنبياء بني إسرائيل، و إليه تنسب توراتهم، أو بمعنى أدق، الأسفار الخمسة الأولى منها (التكوين و الخروج و اللاويون و العدد و التثنية)، و أنه يحتل مكانة في التاريخ اليهودي، لا يسمو إليها واحد من معاصريه أو اللاحقين به من قومه (1)، و لهذا فهو يعدّ شيخا للأمة اليهودية، بل إنه هو الذي كان سببا في وجود اليهودية كأمة، مع ذلك كله، فإنه لم ينج من كيد يهود و تطاولهم عليه، و من ثم فإننا نرى توراة يهود، و ليست توراة موسى عليه السلام، تتهمه، مع أخيه هارون، «بخيانة الرب و لم يقدسانه وسط بني إسرائيل»، و من ثم فقد كتب عليه ألا تطأ قدماه الأرض المقدسة أبدا (2)، و حين يتوسل إلى ربه الكريم، أن يجعل من نصيبه عبور الأردن، فإن رب إسرائيل إنما يغضب عليه، و يطلب منه ألا يحدثه في هذا الأمر، لأنه من نصيب فتاة يشوع، دون سواه (3).

و أما هارون عليه السلام، فهو، في توراة يهود، و مرة أخرى نقول

ص: 433


1- تثنية 34/ 10- 12.
2- تثنية 32/ 48- 52.
3- تثنية 3/ 25- 29.

و ليست توراة موسى، إنما هو الذي صنع العجل الذهبي، و أغوى به بني إسرائيل، و ليس السامري، بعبادته، و ذلك حين اتخذ لهم من حليهم عجلا جسدا في أثناء غياب موسى إلى ميقات ربه ثلاثين ليلة، فلما أتمها له ربه أربعين ليلة، كفرت خراف بني إسرائيل الضالة بموسى و إله موسى، و عادت إلى ما ألفته من عبادة العجول في مصر (1)، و الحق أنني لست أدري، كيف نسي من كتب كل ذلك في توراة يهود المتداولة اليوم، أن هارون أخو موسى، و نبي و رسول من اللّه مع موسى، و نائب لموسى و خليفته في غيابه، و لكنهم بنو إسرائيل دائما مع الفاسد المفسد، و لو كان السامري.

و أما في القرآن الكريم، فإن هارون عليه السلام، إنما هو نبي اللّه و رسوله، و أن اللّه تعالى قد أرسله، مع أخيه موسى، إلى فرعون و ملئه (2)، و ليس هو الذي صنع العجل الذهبي، و حاشاه أن يفعل ذلك، و أغوى بني إسرائيل بعبادته، و إنما ذلك هو السامري (3).

و يعلم اللّه، و تشهد ملائكته، أن موسى و هارون، عليهما السلام، لم يكونا، و لن يكونا، كما صورتهما توراة يهود، و إنما كانا رسولين كريمين، بذلا الجهد في تبليغ دعوة ربهما، و أفنيا عمرهما من أجلها، حتى لقيا اللّه تعالى مطمئنين إلى رضاه، و هكذا يرفع القرآن الكريم هذين النبيين الكريمين إلى الدرجة التي يستحقانها من التكريم و الإجلال و المهابة، ثم يطلب من المؤمنين به أن يرتفعوا إلى مستوى دينهم القويم، فلا يتأثروا بما يعرفون عن بني إسرائيل في حكمهم على موسى، عليه السلام (4)، فيقول

ص: 434


1- خروج 32/ 2- 6.
2- سورة مريم: آية 51- 53، طه: آية 25- 36، 42- 47، الشعراء: آية 10- 16، الصافات: آية 114- 122.
3- الأعراف: آية 148- 152، طه: 83- 98.
4- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 197- 203، عبد الرحيم فودة: من معاني القرآن ص 214.

سبحانه و تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (1).

و على أية حال، فإن قصة موسى عليه السلام في القرآن إنما تختلف عن قصته في التوراة، طبقا للهدف من كل منهما، فقصة القرآن، شأنها في ذلك شأن غيرها من قصص الأنبياء و المرسلين، إنما أنزلت للعظة و العبرة، و لبيان الأسوة الحسنة في الجهاد في سبيل اللّه، فهدفها، كهدف غيرها، ليس التأريخ لها، و إنما عبرا تفرض الإفادة بما حلّ بالسابقين، و أما قصة التوراة، فالغرض منها إنما هو تمجيد بني إسرائيل، و ترديد الحديث عن قصة أرض الميعاد (2)، فضلا عن إباحتها لهم سرقة المصريين بالغش و الخديعة (3)، بل إن مؤلفي التوراة لا يتورعون هنا أن يذكروا في نصوصها، المقدسة زعموا، أن مشروع سرقة المصريين إنما كان قد دبر بليل، و أنه قد نفذ إبان الخروج من مصر، دون أن يحس المصريون، بل و حتى دون أن ينتظر بنو إسرائيل أن يختمر عجينهم، و هكذا لم يعترف كتبة التوراة بجريمة قومهم فحسب، و إنما زادوا على ذلك أن جعلوها تتم برضى من موسى عليه السلام و بأمر منه، و حاشا بنبي اللّه الكريم أن يرضى بذلك، فضلا عن أن يأمر به، و لكنها توراة اليهود، و الحق أن الإساءة إلى أنبياء اللّه الكرام من بني إسرائيل أمر معروف في التوراة، و نظائره كثيرة .

ص: 435


1- سورة الأحزاب: آية 69، و انظر: تفسير الطبري 22/ 50- 53، تفسير القرطبي 14/ 250- 252، تفسير الفخر الرازي 25/ 235، تفسير النسفي 3/ 315.
2- تكوين 17/ 4- 8، 26/ 2- 4، 35/ 11- 12، 26، خروج 3/ 6- 8، 33/ 1- 3، تثنية 7/ 1- 2، 26/ 15، محمد بيومي مهران: قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة- مجلة الأسطول، العدد 66، 67 الاسكندرية 1971 م.
3- خروج 12/ 34- 36، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 355.

و لعل أهم الاختلافات بين قصة موسى عليه السلام في القرآن، و تلك التي جاءت في التوراة، (أولا) أن المرأة التي التقطت موسى من اليم و أنقذته من فرعون إنما هي في القرآن امرأة فرعون، بينما هي في التوراة ابنته (1) ، ومنها (ثانيا) أنه ليس في القرآن الكريم ما يشير إلى أن امرأة فرعون كانت تعرف أن موسى عليه السلام إنما كان من أبناء العبرانيين ، بينما هي في التوراة قد عرفت تلك الحقيقة منذ اللحظة الأولى ، بل وقد أعلنت ذلك للملإ (2) ، ومنها (ثالثا) أن التوراة إنما تصور المصري الذي قتله موسى على أنه كان يضرب رجلا عبرانيا ، وأن موسى عند ما رأى ذلك التفت هنا وهناك ، وعند ما تأكد أن أحدا لا يراه قتل المصري وطمره في الرمل ، وفي اليوم التالي رأى عبريين يتخاصمان ، أحدهما صاحبه بالأمس فزجره ، فقال له صاحبه العبري : أتفكر في قتلي كما قتلت المصري بالأمس ، فلما علم فرعون بالأمر طلب أن يقتل موسى ، ولكنه هرب إلى مدين ، ولكن القصة في القرآن أن موسى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ، ولم يكن المجرمون الذين عزم موسى على ألا يظاهرهم ويناصرهم ، إلا هؤلاء من بني إسرائيل ، وهكذا ندم موسى على أن ظاهر الإسرائيلي على المصري ، فكان من نتيجة ذلك أن قتل نفسا حرم الله قتلها ، ومن ثم فقد عزم ، بعد أن تاب وأناب ، ألا يكون ظهيرا للمجرمين ، (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ، فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ

ص: 436


1- سورة القصص: آية 8- 9، خروج 2/ 5- 10.
2- سورة القصص: آية 7- 9، خروج 2/ 6.

يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، و هكذا فإن القرآن إنما ينفرد من دون التوراة، بأن تدخل موسى إنما كان بناء على استغاثة هذا الذي من شيعته، و على أن موسى قتل مصريا عن غير عمد، و على ندم موسى على قتل المصري، و على استغفاره لربه، و أن اللّه تعالى قد غفر له، و على عزمه ألا يكون ظهيرا للمجرمين، و على أن موسى قد مرّ بمن استصرخه بالأمس، فإذا به يستصرخه مرة أخرى ضد مصري آخر، و على أن موسى قد وصف ذلك الإسرائيلي بأنه غوي مبين بسبب ميله إلى المشاكسة و الخصام، و على أن موسى حين همّ بنصرته على عدوهما المصري قال له: أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، بينما رواية التوراة تذهب إلى أن أحدا لم يستصرخ موسى، و إنما هو الذي التفت هنا و هناك، و حين تأكد أن أحدا لن يراه قتل المصري و طمره في الرمل، كما أن المخاصمة الثانية كانت، في رواية التوراة، بين رجلين عبرانيين، و ليس بين مصري و عبراني و حين أراد موسى أن يفض النزاع الذي نشب بينهما، إذا بصاحبه الذي استصرخه بالأمس يرفض تدخله، و يعلن أنه هو الذي قتل المصري بالأمس، فلما طلبه فرعون للقصاص هرب إلى مدين، و لا تتعرض لشي ء آخر، مما جاء في القصة القرآنية (1).

و منها (رابعا) أن القرآن إنما يحدثنا عن ابنتين لشيخ مدين الذي صاهر موسى عليه السلام، بينما تتحدث التوراة عن سبع بنات، فضلا عن أنها تجعل الرجل كاهنا لمدين (2)، و منها (خامسا) أن إقامة موسى عليه السلام في

ص: 437


1- سورة القصص: آية 15- 19، خروج 2/ 11- 15.
2- سورة القصص: آية 23- 26، خروج 2/ 16.

مدين، إنما هي في القرآن الكريم سنون ثمان، و الأرجح أنها كانت عشرا، فلقد روى عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أنه قضي أكثر الأجلين و أطيبهما»، و في رواية: «قضى أوفاهما و تزوج صغراهما»، كما أشرنا بالتفصيل من قبل، و هي في التقاليد اليهودية و النصرانية أربعون عاما (1)، و منها (سادسا) أن موسى عليه السلام في القرآن تلقى الدعوة من ربه من جانب الطور الأيمن في الوادي المقدس طوى، بينما كان ذلك في التوراة على جبل اللّه حوريب (2)، و منها (سابعا) أن التوراة تذهب إلى أن الفتاة التي تزوج منها موسى إنما كانت تدعى «صفورة» (3)، بينما أغفل القرآن الكريم ذكر اسمها، كما أغفل اسم أبيها، و كما أغفل أسماء النساء عامة، إلا مريم ابنة عمران، أم المسيح عليه السلام، فإنها انفردت بمعنى تذكر به و تشتهر، و تذكر به قدرة اللّه التي أوجدت عيسى من غير أب، و إلى ذلك يشير القرآن الكريم وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (4).

و منها (ثامنا) أن القرآن الكريم لم يذكر لنا اسم ذلك الشيخ الذي أصهر إليه موسى عليه السلام، بينما لم تستقر التوراة على رأي معين بشأنه، و كذا قبيلته، فهو في سفر الخروج «يثرون» كاهن مديان، و هو في سفر العدد «حوباب بن رعوئيل»، و هو مرة ثالثة في سفر الخروج كذلك «رعوئيل» نفسه، و هو كاهن مديان كذلك، بل إن التوراة لا تستقر على رأي واحد بشأن تلك القبيلة التي صاهرها موسى، فهي مرة قبيلة مديانية، كما رأينا كذلك، و هي مرة أخرى، كما في سفر القضاة، قبيلة قينية، ثم هي مرة ثالثة، في سفر

ص: 438


1- سورة القصص: آية 27- 28، تفسير النسفي 3/ 234، مختصر تفسير ابن كثير 3/ 11، خروج 7/ 7، أعمال الرسل 7/ 30، قاموس الكتاب المقدس 2/ 931.
2- سورة طه: آية 12، سورة القصص: آية 29- 30، خروج 3/ 1- 2.
3- خروج 2/ 21.
4- سورة الأنبياء: آية 91.

القضاة أيضا، فينية، على وجه اليقين، كما جاء في قصة «دبورة» قاضية إسرائيل و نبيتها (1)، و منها (تاسعا) أن دعوة موسى في القرآن إنما بدأت بعد أن قضى الأجل الذي بينه و بين صهره شيخ مدين، و بعد أن قرر العودة إلى مصر بأهله، و في الطريق إلى مصر، و عند طور سيناء، و في ليلة مباركة، اختاره اللّه تعالى رسولا نبيّا، و عهد إليه برسالته إلى فرعون، بينما هي في التوراة بدأت، و موسى ما يزال عند صهره كاهن مدين يعمل عنده و يرعى غنمه (2).

و منها (عاشرا) أن من معجزات موسى و آيات نبوته أن يدخل يده في جيبه، فتخرج، كما في القرآن، من غير سوء، أي من غير برص و لا أذى، بينما هي في التوراة تخرج برصاء مثل الثلج (3)، و منها (حادي عشر) أن استعانة موسى بأخيه هارون عليهما السلام في أداء الرسالة و تبليغ الدعوة، إنما سببها في التوراة أن موسى احتج بأنه «ثقيل الفم و اللسان»، و أنه لن يستطيع أداء مهمته عند فرعون، فحمى غضب الرب على موسى و قال: أ ليس هارون اللاوي أخاك، أنا أعلم أنه يتكلم ..... فتكلمه و تضع الكلمات في فمه، و أنا أكون مع فمك و فمه، و أعلمكما ما ذا تصنعان، و هو يكلم الشعب عنك، و هو يكون لك فما و تكون له إلها»، و مرة أخرى يقول موسى لربه: «هو ذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي، فكيف يسمعني فرعون، و أنا أغلق الشفتين»، و لكن الأمر في القرآن غير ذلك، فموسى عليه السلام هو الذي دعا ربه، بعد أن كلفه برسالته رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، فأجابه ربه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى

ص: 439


1- خروج 2/ 16- 18، 3/ 1، عدد 10/ 29، قضاة 1/ 16، 4/ 11.
2- سورة طه: آية 9- 14، القصص: آية 29- 30.
3- سورة طه: آية 22، القصص: آية 32، خروج 4/ 6- 7.

، و في سورة القصص يقول موسى: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (1)، و هكذا يبدو واضحا أن اللّه تعالى في التوراة هو الذي يطلب من موسى أن يلجأ إلى أخيه هارون، بينما في القرآن موسى هو الذي يدعو ربه أن يعينه بأخيه هارون في أداء مهمته العظيمة و الخطيرة كذلك، بمعنى آخر أن موسى في القرآن هو الذي سأل النبوة لأخيه هارون، لأنه أفصح منه لسانا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل بالتفصيل.

و منها (ثاني عشر) أن عصا موسى، إحدى معجزاته، إنما هي في التوراة، عصا هارون، و ليس موسى، و أن الذي ألقاها أمام فرعون و ملئه، إنما هو هارون، و ليس موسى، و لكن الأمر في القرآن جد مختلف، فالعصا معجزة موسى، و ليس هارون، و أن الذي ألقاها فإذا هي ثعبان مبين، إنما هو موسى و ليس هارون، و أن موسى فعل ذلك أول مرة أمام فرعون و ملئه، ثم مرة ثانية حين اجتمع السحرة لمناظرة موسى يوم الزينة (2)، و منها (ثالث عشر) أن معجزة انغلاق البحر لموسى إنما هي في التوراة بسبب ريح شرقية هبت فأزالت الماء، و ظهرت اليابسة، و حينئذ عبر بنو إسرائيل، و اندفع المصريون وراءهم، فرجع الماء، و أغرق جميع مركبات و فرسان جيش فرعون، و رأى بنو إسرائيل ما صنعه الرب بالمصريين فخافوا فآمنوا بالرب و بعبده موسى، و أما في القرآن فالمعجزة واضحة، حيث أمر اللّه تعالى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، 2:

ص: 440


1- سورة طه: آية 25- 36، القصص: آية 32- 35، خروج 4/ 10- 16، 6/ 12.
2- سورة الأعراف: آية 104- 122، طه: آية 57- 70، الشعراء: آية 30- 48، خروج 7/ 8- 12:

وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (1).

و منها (رابع عشر) أن أم موسى في القرآن قد ألقته في اليم بوحي من اللّه، فضلا عن البشري بأن اللّه تعالى سيرده إليها، و أنه سيكون من المرسلين، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، بينما نراها في التوراة تخبئه ثلاثة أشهر، و حين خشيت أن يفتضح أمرها صنعت «سفطا من البردي و طلته بالحمر و الزفت و وضعته فيه بين الحلفاء على حافة النهر، و وقفت أخته من بعيد لتعرف ما ذا يفعل به» (2)، و منها (خامس عشر) أن القرآن الكريم يقص علينا أن موسى عليه السلام عند ما قص قصته على شيخ مدين هدأ من روعه و قال له: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، ثم عرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه، في مقابل أن يخدمه سنوات ثمان، فإن أتم عشرا فهذا من عنده، و ارتضى موسى ذلك، لكنه لم يقطع على نفسه أطول الأجلين، فأعطى الأمل، و خصّ نفسه بالخيار، أو ترك لها الخيار، و إن كان قد قضى أطول الأجلين و أتمهما، بينما لم تشر التوراة إلى أكثر من أن موسى ارتضى أن يسكن مع الرجل، و تزوج ابنته صفورة (3).

و منها (سادس عشر) أن القرآن الكريم إنما يشير إلى أن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر، إنما تم سرا، و بوحي من اللّه تعالى، قال تعالى:

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، و أما في التوراة، فالأمر جد مضطرب، فالخروج مرة إنما يتم دون أمر فرعون، و مرة أخرى بموافقته، بل و في مرة ثالثة نرى بني إسرائيل و قد أكرهوا على الخروج من

ص: 441


1- سورة الشعراء: آية 63- 67، خروج 14/ 21- 31.
2- سورة القصص: آية 7، خروج 2/ 2- 4.
3- سورة القصص: آية 25- 28، خروج 2/ 21.

مصر، و مرة رابعة نرى التوراة تظهر لنا الإسرائيليين، و قد انقسموا على أنفسهم ففريق يرضى بالخروج من مصر، بينما يرفضه آخرون، و إن كانت الغلبة في النهاية للأولين على الآخرين (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما قد انفرد، من دون التوراة، بعدة أمور في قصة موسى عليه السلام، منها (أولا) أن القرآن قد انفرد من دون التوراة، بأن إرادة اللّه، و لا راد لإرادته، قد شاءت أن يقع موسى من قلب امرأة فرعون، موقع الحب و الحدب و الإشفاق، بل إنها لتقول لفرعون قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (2)، و تشاء إرادة اللّه، مرة أخرى، أن يقتنع فرعون بمقالة زوجته، فلا يقتل الطفل النبي، و منها (ثانيا) أن القرآن قد انفرد من دون التوراة، بالإشارة إلى أن موسى قد عاف المراضع جميعا، من غير أمه، و هنا تتقدم أخته فتعرض على آل فرعون أن تدعو لهم امرأة ترضعه و تكفله، و تكون له ناصحة مشفقة، و يقبل آل فرعون عرضها، و يبعثوا في طلب الظئر، و سرعان ما تجي ء بأمها، دون أن تشعرهم بأن أمها أمه، و أنه أخوها، و يقبل موسى على ثدي أمه، و يعيش معها فترة حضانته، قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (3).

و منها (ثالثا) أن القرآن الكريم قد انفرد من دون التوراة، بأن القوم حين استقر رأيهم على القصاص من موسى جاءه ناصح أمين، ربما كان من

ص: 442


1- سورة الشعراء آية 52، و انظر: طه: آية 77، خروج 6/ 1، 11/ 1- 2، 12/ 29- 39، 13/ 17- 18، عدد 14/ 3- 4.
2- سورة القصص: آية 9.
3- سورة القصص: آية 12- 13.

المتصلين بفرعون، يخبره بالأمر، و يشير عليه بالخروج من مصر، قال تعالى: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (1)، و منها (رابعا) أن القرآن قد انفرد، من دون التوراة، بالإشارة إلى ذلك الجدل الذي شق و استطال، ذكّر فيه فرعون موسى عليه السلام بتربيته في القصر الملكي، و كيف أنه عاش بينهم من عمره سنين عددا، و كيف فعل فعلته تلك، يعني قتل موسى لمصري ثم فراره إلى مدين قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (2).

و منها (خامسا) أن القرآن الكريم انفرد من دون التوراة بالإشارات مرات، و في وضع تام، إلى ألوهية الفرعون المزعومة، و التي كانت موضع جدل شديد بين النبي الكريم و الملك الفرعون، بل هي الصخرة التي تحطمت عليها كل الآمال في أن يؤمن فرعون بموسى و دعوته، و يتخلى عن مزاعمه الكذوب، و يؤمن باللّه رب العالمين، و لعل مما يزيد الأمر أهمية أننا نكاد لا نعرف دعوة من دعوات الأنبياء الكرام البررة، يتعرض صاحبها، كما تعرض موسى، لزعم كذوب ممن أرسل إليه، أنه إله للناس، بل إن الفرعون إنما يهدد النبي الكريم نفسه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، ثم يعلن للناس عامة في مصر ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، و عند ما يتقدم له موسى بآية كبرى على نبوته، فما كان منه إلا أن يرفض الدعوة كلها ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (3)، و من عجب أن التوراة تعكس الأمر، فتجعل موسى إلها لفرعون، و هارون نبيا لموسى: «فقال الرب لموسى أنظر: أنا جعلتك إلها لفرعون، و هارون

ص: 443


1- سورة القصص: آية 20.
2- سورة الشعراء: آية 18- 19.
3- سورة الشعراء: آية 29، سورة القصص: آية 38، سورة النازعات: آية 22- 24.

أخوك يكون نبيك، أنت تتكلم بكل ما آمرك، و هارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بني إسرائيل من أرضه» (1)، و لست أدري كيف قبل كتبة التوراة ذلك الكفر الصراح، فكيف يكون موسى، عبد اللّه و رسوله، إلها لفرعون، ثم كيف يكون هارون نبيا لموسى، و هل تعدّ التوراة بعد هذا كتاب توحيد كما يزعمون، فضلا عن أن تكون من لدن عليّ قدير.

و منها (سادسا) أن القرآن الكريم انفرد، من دون التوراة، بطلب فرعون من هامان أن يوقد له على الطين، فيجعل له صرحا، لعله يطلع إلى إله موسى، يقول سبحانه و تعالى: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (2)، و منها (سابعا) أن القرآن الكريم انفرد من دون التوراة، بإيمان السحرة المصريين برب موسى و هارون، كما انفرد كذلك بالإشارة إلى أن فرعون قد فوجئ بإيمان السحرة، فكاد أن يتميز من الغيظ، و من ثم فقد اتهمهم بالتآمر مع موسى، ثم هددهم بأشد العقاب، قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (3).

و منها (ثامنا) أن القرآن الكريم انفرد من دون التوراة بالإشارة إلى أن الملأ من قوم فرعون إنما كانوا يحرضونه على القيام بمذبحة جديدة بين بني إسرائيل، يكون موسى أول ضحاياها، بعد أن شاع و ذاع، و ملأ الأسماع،

ص: 444


1- خروج 7/ 1- 2.
2- سورة القصص: آية 38، و انظر: غافر: آية 36- 37.
3- سورة الشعراء: آية 49- 51، و انظر: الأعراف: آية 123- 126، طه: آية 71- 75.

نبأ المعجزة الباهرة التي قهرت المهرة من السحرة، غير أن قتل موسى إنما كان جد صعب المنال، فهناك معارضة قوية تقف في وجه فرعون و تحول بينه و بين قتل موسى، و لعلنا نستطيع أن نلمس هذه المعارضة فيما حكاه القرآن عن فرعون، حيث يقول: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ، فإن كلمة «ذروني» تفيد أنه كان هناك من يعوقونه أو يشيرون عليه بغير ما كان يرى، بل إن هناك دليلا من القرآن يفيد ذلك، ذلك لأن فرعون عند ما ضاق ذرعا بموسى و دعوته، و عقد مع الملأ مؤتمرا للفتك به، فوجئ بواحد من هذا الملأ ينهض لمعارضة هذه الفكرة، و يقول: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا (1)، و هال فرعون ما اسمع فأخذته العزة بالإثم، و نفخ الشيطان في روحه، فقال: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ، و عاد الرجل يعقب على كلام فرعون، و يحذره من غضب اللّه، ثم يعلن أنه أبرأ ذمته فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (2).

و منها (عاشرا) أن القرآن قد انفرد من دون التوراة، بإخبارنا أن الفرعون قد أنجى ببدنه، ليكون لمن خلفه آية، قال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ، و لم تكن الآية لمن خلفه جيلا أو جيلين، بل بقيت آية للعشرات الكثيرة من الأجيال و المئات الكثيرة من السنين، بما مكن رب العرش لأهل هذا المصر

ص: 445


1- سورة الأعراف: آية 127- 129.
2- سورة غافر: آية 23- 44.

من سلطان العلم و أسرار التحنيط، و من ثم فإن الفراعين الذين دارت حولهم روايات خروج بني إسرائيل من مصر، قد اكتشفت جثثهم، و في هذا إعجاز للقرآن، و ما أكثر معجزاته (1).

و منها (تاسعا) أن القرآن الكريم انفرد، من دون التوراة، بأن الفرعون عند ما أدركه الغرق قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، و لكنه أخطأ الوقت و من ثم لم يقبل إيمانه، قال تعالى: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، و قد ناقشنا ذلك بالتفصيل من قبل (2).

و منها (حادي عشر) أن القرآن انفرد من دون التوراة بالإشارة إلى أن بني إسرائيل ما كادوا يمضون مع موسى بعد خروجهم من البحر و نجاتهم من آل فرعون، بل و غرق فرعون و جنده، حتى رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم، (غير عبادة العجل التي جاءت في التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم) فنسوا كل آيات موسى، و قالوا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى:

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، و «الفاء» في قوله تعالى: فَأَتَوْا تفيد الترتيب و التعقيب، بمعنى أنه لم يمضي وقت بعد خروجهم من البحر و نجاتهم من الهلاك، حتى عادوا إلى الوثنية التي ألفوها في مصر، و ألفوا الذل معها، و يرى الإمام الطبري أن القوم كانوا يعبدون أصناما على صور البقر، و هذا صحيح، كما أشرنا من قبل بالتفصيل، فمن المعروف تاريخيا

ص: 446


1- سورة يونس: آية 92، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 435- 436، أحمد عبد الحميد يوسف: المرجع السابق ص 123.
2- سورة يونس: آية 90- 91.

أن مناجم الفيروز كانت تكثر في سيناء، في وادي مغارة و سرابة الخادم، حيث أقيم معبد للمعبود المصرية «حاتور»، ربة الفيروز عند القوم، حيث كان عمال المناجم يتعبدون للإلهة الوثنية «حاتور» التي كانت تصور غالبا كبقرة، و في كثير من الأحيان كانت تمثل كامرأة لها رأس بقرة تحمل قرص الشمس و القرنين، كما أشرنا من قبل (1).

ص: 447


1- سورة الأعراف: آية 138- 139، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 462- 469.

ص: 448

فهرس

تقديم 5

الكتاب الأول دراسات تمهيدية الفصل الأول: النبوة و الأنبياء 9

1- النبي و النبوة 9

2- الفرق بين النبي و الرسول 13

3- نبوة المرأة 18

4- وظائف الرسل 21

5- وحدة الهدف في دعوات الرسل 26

الكتاب الثاني سيرة يوسف عليه السلام الفصل الأول: يوسف فيما قبل الوزارة 39

1- يوسف و أخوته في كنعان 39

2- يوسف و امرأة العزيز 48

3- يوسف في السجن 56

الفصل الثاني: يوسف عزيز مصر 65

1- يوسف العزيز 65

ص: 449

2- يوسف و إخوته في مصر 74

3- استقرار بني إسرائيل في أرض جوشن 83

4- عصر يوسف عليه السلام 99

الفصل الثالث: قصة يوسف بين آيات القرآن و روايات التوراة 109

1- تمهيد 109

2- قصة يوسف بين آيات القرآن و روايات التوراة 112

الكتاب الثالث سيرة موسى عليه السلام الباب الأول: موسى من المولد إلى المبعث 135

الفصل الأول: بنو إسرائيل في مصر 137

أ- فيما قبل الاضطهاد 137

ب- الاضطهاد- أسبابه و نتائجه 140

الفصل الثاني: موسى من المولد إلى المبعث 163

1- موسى في قصر فرعون 163

2- موسى في مدين 174

الفصل الثالث: موسى الرسول النبي 181

1- المبعث 171

2- بني موسى و فرعون 186

3- ألوهية الفرعون المزعومة 213

الباب الثاني: خروج بني إسرائيل من مصر 223

الفصل الأول: الخروج- أسبابه و تاريخه و مكانه 225

1- أسباب الخروج 225

2- تاريخ الخروج 231

ص: 450

3- مكان الخروج و بدايته 237

الفصل الثاني: معجزة انفلاق البحر 241

1- مكان انفلاق البحر 245

2- تاريخ انفلاق البحر 250

3- معجزة انغلاق البحر 252

4- إيمان فرعون عند الغرق 259

الفصل الثالث: فرعون موسى 263

1- الرأي الأول: فرعون موسى هو أحمس الأول 264

2- الرأي الثاني: تحوتمس الثالث هو فرعون موسى 275

3- توت عنخ آمون: هو فرعون موسى 286

4- رعمسيس الثاني: هو فرعون موسى 302

5- مرنبتاح: هو فرعون موسى 308

6- آراء أخرى 329

7- صمت الآثار المصرية عن قصة بني إسرائيل 330

الباب الثالث: موسى و بني إسرائيل منذ انفلاق البحر و حتى موت 333

موسى عليه السلام.

الفصل الأول: بنو إسرائيل في سيناء 335

1- محاولة الردة الأولى و عبادة الأصنام 335

2- التمرد الإسرائيلي بسبب الماء و الطعام 343

3- بنو إسرائيل و العماليق 347

4- الردة و عبادة العجل في سيناء 348

5- طلب بني إسرائيل رؤية اللّه جهرة 362

الفصل الثاني: بنو إسرائيل في التيه 367

ص: 451

1- ظهور فكرة الوطن عند بني إسرائيل 367

2- الخوف من دخول كنعان 369

4- عودة التمرد ضد موسى 378

5- بنو إسرائيل على تخوم كنعان 380

الباب الرابع: قضايا من سيرة موسى عليه السلام 387

الفصل الأول: موسى بين الأصل الإسرائيلي و المصري 389

الفصل الثاني: الوجود التاريخي لموسى عليه السلام 407

الفصل الثالث: موت موسى عليه السلام 415

الفصل الرابع: مكانة موسى في التاريخ اليهودي 425

1- مكانة موسى عند المسلمين 425

2- مكانة موسى في التاريخ اليهودي 428

الباب الخامس: قصة موسى بين آيات القرآن و روايات التوراة 431

ص: 452

المجلد3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الثالث]

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم و الصّلاة و السّلام على المبعوث رحمه للعالمين سيّدنا محمّد و آله تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسات عن النبوات في بلاد العرب، و من ثم فقد قدمنا دراسة تاريخية عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام و كذا عن هود و صالح و شعيب عليهم السلام، هذا إلى جانب دراسة أحداث تاريخية جاء ذكرها في القرآن الكريم، كقصة سيل العرم و أصحاب الأخدود و أصحاب الفيل.

ثم خصصنا الجزء الثاني من هذه السلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» لدراسة تاريخ النبوات في أرض الكنانة، و من ثم فقد قدمنا دراسة عامة عن النبوة و النبوات، ثم دراسة مفصلة عن تاريخ النبيّين الكريمين يوسف و موسى عليهما السلام، فضلا عن تاريخ بني إسرائيل في مصر.

و في هذا الجزء الثالث من هذه السلسلة نتحدث عن تاريخ النبوات في

ص: 5

بلاد الشام، و من ثم فإن حديثنا في هذا الجزء إنما سيكون عن الأنبياء الكرام: داود و سليمان، ثم أيوب و إلياس و اليسع و زكريا و يحيى، ثم ختمنا هذا الجزء الثالث بسيرة المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و إني لكبير الأمل في اللّه تعالى أن يكون في هذه الدراسة بأجزائها الثلاثة بعض النفع، و اللّه من وراء القصد، و هو الهادي إلى سواء السبيل.

«و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب».

الإسكندرية في 12 ربيع الأول عام 1408 ه.

4 نوفمبر عام 1987 م.

ص: 6

الكتاب الرابع داود و سليمان عليهما السّلام

اشارة

ص: 7

ص: 8

الباب الأول سيرة داود عليه السّلام
اشارة

ص: 9

ص: 10

الفصل الأول بنو إسرائيل فيما بين عهدي و داود عليهما السّلام
[1] دخول بني إسرائيل كنعان:

آل أمر بني إسرائيل بعد موت موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون خادم موسى و فتاه (1)، و منذ تلك اللحظة بدأ كتبة التوراة يضعوه في مكانة لا تقل عن مكانة موسى نفسه (2)، فكما كلم الزب موسى من قبل، كلم يوشع من بعد (3)؛ و كما آثر موسى بمعجزة انفلاق البحر في مصر، فقد آثر يوشع بمعجزة شق الأردن في كنعان، هذا فضلا عن معجزة أخرى يتعطل فيها مسير الأفلاك بإشارة من يوشع، فإذا الشمس تتوقف عن مغيبها عند «جبعون»، و إذا القمر لا يبزغ في حينه على وادي أيلون (4).

ص: 11


1- خروج: 24/ 13، عدد: 27/ 12- 23، تثنية: 1/ 28.
2- يذهب بعض المفسرين إلى أن يوشع قد بعث بعد موسى نبيا (انظر تفسير الطبري: 10/ 192، تفسير الطبري: 6/ 70، تفسير ابن كثير: 2/ 74، تفسير الكشاف: 1/ 622) و بديهي أن هذا من اجتهادات المفسرين، و لكن الذي يلزمنا هنا هو كلام اللّه عز و جل، و ليس ما درج المفسرون أن يقدموا فإنما هو اجتهاد، و فوق كل ذي علم عليم، و ليس في كتاب اللّه نص صريح على نبوة يوشع أو يشوع هذا.
3- يشوع: 1/ 1- 2.
4- خروج: 14/ 21، يشوع: 3/ 14- 17، 10/ 12- 14، مختصر تفسير ابن كثير: 1/ 504، محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 601، 610، و كذا. , Y. N, ygolohtyM nretsaE raeN nI, learsI, yarG. J 111. p، 1969

و قد بدأ يشوع بخطط لغز و كنعان، و بدأ بمدينة أريحا، و من ثم فقد عبر بنو إسرائيل الأردن في «مقابل أريحا» (1)، و هي المخاضة المعروفة بالمغطس أو الحجلة، على مبعدة ميلين جنوبي كوبري النبي، و يبدو أن العبور كان في الربيع عند ما كان النهر ضحلا كما يفهم من بعض نصوص التوراة، و إن ذهب نص آخر إلى أن «المياه المنحدرة من فوق وقفت، و قامت ندا واحدا، بعيدا جدا عن أدام المدينة» (2)، فسار القوم في الأرض الجافة، و أما مدينة «أدام» هذه فيمكن أن توجد «بتل الدامية»، على مبعدة ميل واحد جنوبي اتصال يبوق بالأردن، و هناك يوجد جرف من الحجر الجيري يكوّن عند الزلزال شقا في النهر يسدّه تماما لفترة ما و يمنع تدفق مياه الأردن لمدة تزيد عن عشرين ساعة، الأمر الذي حدث مثيل له في عام 1937 م (3).

و أيا ما كان الأمر، فلقد عبر بنو إسرائيل الأردن، و عسكروا في «الجلجال» عند تخم أريحا الشرقي (4)، ثم سرعان ما تقدموا نحو المدينة الحصينة، ذات الأسوار العالية، و طبقا لرواية التوراة، فلقد دار القوم حول أريحا مرة كل يوم، على مدى سبعة أيام، و في اليوم السابع يدور القوم دورتهم السابعة، و يضرب الكهنة بالأبواق، و تسقط أسوار أريحا، و تحرق المدينة و كل من فيها و ما فيها «من رجل و امرأة و طفل و شيخ، حتى البقر و الغنم و الحمير»، ما عدا «الذهب و الفضة و آنية النحاس فقد جعلوها في خزانة بيت الرب»، و أما «رحاب» الزانية التي خانت قومها و وطنها، و أخفت

ص: 12


1- يشوع: 3/ 16.
2- يشوع: 3/ 15- 16.
3- .p ,tic .P ,nageniF .J .elbiB fo snoitadnuaF ehT ,segduJ ,auhsaJ ,gnatsraG .J 155 و كذا F, nodnoL, yrotsiH 136. p، 1931
4- يشوع: 4/ 19، 24.

جواسيس يشوع في بيتها و سهلت مهمتهم، فقد كافأها بنو إسرائيل بأن أبقوا عليها، هي و بيت أبيها، كما أسكنوها في وسط إسرائيل، و لم يكتف يشوع بكل ما فعله بأريحا، و إنما هو يصب اللعنات على من يعيد بناء المدينة، و إلّا «فببكره يؤسسها، و بصغيره ينصب أبوابها» (1)، هذا و يذهب الكثير من العلماء إلى أن سقوط أريحا لم يكن بسبب ضرب كهنة يهود بأبواقهم، ثم الدوران حول المدينة طيلة أيام سبعة، و إنما بسبب زلازل وقعت في المدينة (2).

و كانت الضربة التالية من نصيب «عاي» التي سقطت عن طريق خدعة يهودية، ثم «ضربوهم حتى لم يبق منهم شارد و لا منقلب» (3) و إن كان البعض يعتبر ذلك مجرد خيال يهودي لأنه لم تكن هناك مدينة وقت ذاك باسم «عاي»، و أن حضائر «مدام جوديت ماركيت كروز» في موقع عاي، و هي التل الحالية على مبعدة 13 ميلا شمال غرب أريحا، تشير إلى بقايا مدينة من عصر البرونز المبكر قد دمرت تماما حوالى عام 2200 قبل الميلاد، كما أن اسم «عاي» يعني الخراب، و من هنا يرى العلماء أن التفسير المحتمل لرواية التوراة هو الخلط بين عاي و بيت إيل (بيتين) على مبعدة ميل من عاي (4)، و على أية حال، و طبقا لرواية التوراة، فلقد امتد هذا المد الإسرائيلي سعيرا، فأحرق بالنار المدن الكنعانية، و قتل أهلها برمتهم، من رجال و نساء و أطفال، بل و في حمى لا واعية، انطلق هذا المد مجنونا، فلم يسلم من يده

ص: 13


1- يشوع: 6/ 1- 27.
2- . P, tiC. pO, nageniF. J 158. و كذا dlroW tneicnA, revolG. R. T 134. p، 1968
3- يشوع: 7/ 3، 8/ 13- 29.
4- , A J A, thgirblA. F. W 158. p، 40, R O S A B dna 31. p، 118 و كذا, (llet- te) yA ed selluoV seL, esuarK- teuqraM htiduJ 1949 slov 2، 1935- 1944 و كذا. P, tiC- pO, nageniF. J 160- 159

شي ء، حتى السائمة لم يستبق يشوع من البهائم واحدة، البقر و الغنم و الحمير أحرقها يشوع أباد يشوع كل شي ء باستثناء المعادن و سبائك الفضة و الذهب.

و تقدم يشوع فاستولى على جبعون (الجيب الحالية، 8 أميال شمال غرب القدس) و لبنه (تل بورناط شمالي غرب بيت جيرين أو تل الصافية) و لخيش (تل الدوير) و جازر (تل الجزر، 17 ميلا جنوب شرق حيفا) و عجلون (خربة عجلا قرب أربد) و حبرون (مدينة الخليل، 19 ميلا جنوب غرب القدس) و دبير (تل بيت مرسيم، 12 ميلا جنوب غرب الخليل) و حاصور (تل القدح، 9 أميال شمال بحر الجليل)، ثم تزعم التوراة بعد ذلك أن يشوع استولى على أملاك 31 ملكا في كنعان، و أنه أخذ كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى و أعطاها ملكا لبني إسرائيل (1)، على أن الباحثين إنما يكادون يجمعون الآن على أن غزو كنعان إنما كان بعيدا عن التمام على أيام يشوع، ذلك لأن هناك كثيرا من المدن الحصينة في طول البلاد و عرضها و لم تخضع لبني إسرائيل، فضلا عن مجموعات من القبائل، بل إن احتلال كنعان حين تم، إنما تم عن طريق جهود كل سبط في الدفاع عن منطقته، و أن ذلك استغرق فترة تزيد عن القرن من الزمان، و من هنا فليس صحيحا ما روته توراة يهود من أن الغزو قد تم في جيل واحد أو في خمسة أو سبعة أعوام، و إنما استمر طوال عهد القضاة، و حتى بداية عصر الملوك الأول، حيث تم الاستيلاء على أورشليم و مجدو و تعناك و بيت شان و منطقة دور و جارز، بل إن أورشليم لم يتم الاستيلاء عليها إلا على أيام داود، و جازر على أيام سليمان و بقوات مصرية (2).

ص: 14


1- يشوع: 9/ 3- 7، 10/ 1- 11، 11/ 23، 12/ 1- 24، محمد بيومي مهران، إسرائيل: 2/ 612- 622، و كذا. P, tic- P, sdoL. A 332 و كذا. P, tiC. pO, nageniF. J 164- 160 و كذا،, AB, drahctirP. B. J 75- 65. p، 1956، 19, BMU dna 24، 12. p، 1958، 26- 3. p، 1957، 21
2- يشوع: 14/ 10- 11، صموئيل ثان: 5/ 6- 9، ملوك أول: 9/ 16، و كذا. P, tiC. pO 242. 33. P, tiC. pO, nietdPE. I و كذا, xuoR O

و هكذا يمكننا القول إن ما تمتلئ به صفحات سفر يشوع من غزوات لا تعد و ما اعتاده الرحل أن يمارسوه من غارات قبلية على السكان المستقرين الآمنين في كنعان، و الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة شيعا و أحزابا، لا تربطهم رابطة و لا يجمعهم حلف واحد، فإذا أضفنا إلى ذلك حروب رعمسيس الثالث ضد شعوب البحر، و انشغال مصر بتلك الحروب، فضلا عن ضياع دولة الحيثيين على أيدي شعوب البحر، هذا إلى جانب ما كان يمر به العراق القديم من فترة ضعف تشبه تلك التي كانت تمر بها مصر في أخريات أيام الأسرة العشرين، و هكذا كانت الظروف التي كانت تمر بها دول الشرق الأدنى القديم و شعوبه، و التخلخل الموجود في سورية و فلسطين في أعقاب غزوات شعوب البحر، الأمر الذي أعطى بنو إسرائيل فرصة شن بعض الغارات البربرية الناجحة في بعض مدن شرق فلسطين بدرجة تكفي لأن يبدأ يشوع من تنظيم حياة قومه السياسية و الدينية، و أن يقسم الأرض المحتلة بين الأسباط طبقا لعدد كل سبط، و أن يشيد في شيلوه (سيلون الحالية، 17 ميلا شمال القدس) محرابا مركزيا يتخذه مركزا للتابوت الذي كان يستخدم كرمز لوحدة القوم السياسية و الدينية (1).

[2] عصر القضاة:

يبدأ عصر القضاة بموت يشوع بن نون و ينتهي بقيام الملكية على يد طالوت (شاؤل في التوراة) و تستغرق هذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل ما بين أربعة قرون و قرن واحد من الزمان، على اختلاف في الرأي (2)، و الرأي

ص: 15


1- . 33. P, tiC- pO, nietspE. I
2- أعمال الرسل: 13/ 20، شاهين مكاريوس: المرجع السابق ص: 8، فيليب حتى: المرجع السابق ص: 195، باروخ سبينوزا: المرجع السابق ص: 29- 294، و كذا, traP, II, HAC nI. segduJ ehT FdoireP ehT, tdlefssiE. O 553. p، 1975، 2 و كذا. P, tic. pO, yorG 112 .egdirbmaC ,learsI ni segduJ ehT fo doirep ylraE ehT .notwoB .B .M . 1965 و كذا.

عندي أنها لا تعدو القرن و نصف القرن، إذا اعتمدنا على الرأي الذي يرجح الخروج على أيام مرنبتاح حوالي عام 1214 ق. م، و قيام ملكية طالوت حوالي عام 1020 ق. م، آخذين في الاعتبار فترة التيه و عهد يشوع بن نون.

و أيا ما كان الأمر، فلقد كانت القبيلة أو السبط هي أساس النظام الاجتماعي عند بني إسرائيل، و طبقا لرواية التوراة فقد كانت الأرض المفتوحة تقسم على إحدى عشرة قبيلة، بينما وزعت القبيلة الاثني عشر، و هي قبيلة لاوي رهط موسى، على القبائل الأخرى للخدمة الدينية، و هذه القبائل كانت بدورها تقسم إلى عشائر، و لكنها تتجمع حول هيكل مركزي في «شيلوه» الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى أن يقارن هذا النظام القبلي العبراني بمجلس «الأمفكتيون» اليوناني (ynoytcihpmA) و الذي يقوم على مبدأ مماثل من المركزية الدينية، و كانت سلطة الكاهن الأكبر عظيمة، و لكن من المبالغة أن نزعم وجود حكومة «ثيوقراطية» فإن سلطته لم تكن سياسية، و إنما كان يتصدر القوم أثناء الأزمات الأزمات زعماء محليون هم «القضاة» الذين حكموا بني إسرائيل طوال القرن و نصف القرن التاليين لدخولهم فلسطين، و كانت سلطة القضاة عارضة محدودة المدى و المدة، و هي في هذا النظام تذكرنا بسلطة زعماء النظام البدوي الذي تتميز به الحياة السامية في مراحلها الأقدم عهدا (1).

و لم يكن القضاة قضاة بالمعنى المفهوم، و لم يكونوا مشرعين بالمعنى القديم، و إنما كانوا طبقة من الأبطال المحاربين و المنقذين أقامهم الرب «ليخلصوهم من يد ناهبيهم»، و لم يكونوا خلفاء لبعضهم البعض، بل إننا

ص: 16


1- يشوع: 8/ 1، 8، 10، موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص: 14- 141، و كذا regnU. F. M و كذا, slearsI emmeatS flowZ red metsyS saD, htoN. M 60- 39. p، 1930. P, tiC- pO. 1015

لنشهد أكثر من واحد في وقت واحد، و لم يكن في إسرائيل ملوك في تلك الأيام، حتى إذا كانوا من الكهنة، و كان الواحد من هؤلاء القضاة يطلق عليه أحيانا لقب ملك أو قاض (1)، و الحق أنك لا تجد واحدا من القضاة استطاع أن يبسط سلطانه على جميع بني إسرائيل، فكل واحد من هؤلاء الحكام و الشيوخ كان يتسلم قيادة زمرة واحدة، عند ما تهدد هذه الزمرة تهديدا مباشرا، و هو إذا ما كتب له النصر، لم يحتفظ حتى بقيادة تلك الزمرة (2)، هذا و تفيد روايات التوراة عنهم أنها تختلف بينها بدرجة كبيرة، فبينما يبدوا بعضها ذو أهمية تاريخية مثل شعر انتصار «دبورة» أو قصة «أبيمالك»، يبدو بعضها الآخر ذو صفة أسطورية لا أقل و لا أكثر، و أما أبطال هذه القصص فلا يظهرون أبدا كمصلحين دينيين، بل إن «شمعون» لم يكن حتى زعيما، كما أن هذه الروايات مستقلة تماما إحداها عن الأخرى، و لم يعد ممكنا أن نقول بالتأكيد ما هو الترتيب التاريخي للأحداث المسجلة (3) من عصر القضاة، و الذين بلغ عددهم خمسة عشر قاضيا، أولهم «عثنيئيل» و آخرهم صموئيل النبي (4).

و من حوالي منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أصبح «عالي» الكاهن قاضيا لإسرائيل في «شيلوه» و لمدة 40 سنة، لم يستطع فيها بنو إسرائيل أن يوقفوا قوة الفلسطينيين (5)، و كان أولى المعارك بينهما في أفيق ).

ص: 17


1- نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص: 325.
2- جوستاف لوبون: المرجع السابق ص: 35.
3- . P, tiC- P, sdoL. A 335.
4- انظر: محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 630- 657.
5- الفلسطينيون هم: «برست» (بلستي) أحد شعوب البحر، و قد اختلف العلماء في مواطنهم الأصلي، فمن قائل أنهم شعب هندي أو ربي أتى من كريت، و لكنه لم ينشأ بها أصلا، و من قائل إن موطنهم الأصلي كريت، و من قائل إنهم ساميون، و لكن الإسرائيليون يشيرون إلى أنهم قوم لا يختنون، و هذا ينأى بهم عن الساميين و المصريين، و من قائل إنهم ينتسبون إلى القومية الإليرية، و من قائل إنهم يتشابهون مع البلاسجيين و أن لغتهم لهجة لوية، و من قائل إنهم من آسيا الصغرى من منطقة سيليسيا الغربية، و الأكثر احتمالا، المنطقة أعلى و أسفل نهر كاليكادنوس في الجزء الشرقي، و من قائل غير ذلك، و يبدو لي أن الذين يرجعون بهم إلى آسيا الصغرى أقرب الآراء إلى الاحتمال، لأن أغلب شعوب البحر من هذه المنطقة، و لأن الأدلة العلمية في صالح هذا الرأي أكثر من غيره، و قد اشترك الفلسطينيون مع غيرهم من شعوب البحر في غزو الامبراطورية المصرية و مصر نفسها على أيام رعمسيس الثالث، و قد هزموا هزيمة منكرة في معركتين، بحرية و برية، و قد صورت المناظر المصرية رؤساءهم ملتحين، و جنودهم دون لحى، و بأغطية رأس ذات ريش، و سيوف طويلة عريضة و خناجر و حراب مثلثة و تروس مستديرة و حراب، و قد سمح لهم الفرعون بعد هزيمتهم بالاستقرار في ساحل فلسطين فيما بين يافا و غزة، و كانت أهم مدنهم غزوة و عسقلان و أشدود و عقرون و جت، و قد نظمت بشكل ممالك أو دويلات مدن، و لكنها كانت تشكل جميعا اتحاد تحت زعامة أشدود، و قد احتفظ التاريخ باسمهم على فلسطين، لا لأنهم أصبحوا غالبية السكان فيها و لأنهم بسطوا نفوذهم عليها جميعا، و لكن ربما لأنهم آخر من نزلها و لكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم ليهود و غلبتهم عليهم، و قد بلغوا ذروة قوتهم عليهم جميعا، و لكن ربما لأنهم آخر من نزلها و لكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم لليهود و غلبتهم عليهم، و قد بلغوا ذروة قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (انظر عن التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 587- 596).

(تل المخمر، أكيلا شرقي حيفا) فلقد تجمع الإسرائيليون في «أبنزير» على حافة الجبال في مواجهة أفيق، و أحضروا معهم التابوت المقدس من شيلوه ليضمنوا وجود ربهم بينهم، و لكن المعركة انتهت بهزيمتهم، و سقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل، و أخذ التابوت، و مات ابنا عالي الكاهن، مما أثار في نفوس بني إسرائيل التشاؤم و الذعر، و لما وصل الخبر إلى عالي سقط عن الكرسي فانكسرت رقبته و مات (1).

و قد كانت نتيجة الهزيمة مروعة، فلقد دمر الفلسطينيون المعبد الرئيسي في شيلوه، و الذي كان يجمع القبائل الإسرائيلية جميعا، فضلا عن إخضاع

ص: 18


1- صموئيل أول: 4/ 4- 1، و كذا. P,. tiC. PO, htoR. C 14 و كذا. P,. tiC. pO, htoN. M 166- 165 ,eromitlaB ,learsI fo noigiler eht dna ygoloeahcrA ,thgirblA .F .W 188- 104. p، 1953 و كذا

قبائل بني إسرائيل نفسها لسلطانهم، و إقامة الثكنات العسكرية الفلسطينية في المناطق الإسرائيلية، و احتلال الجبال الرئيسية في غرب الأردن، و إقامة النصب التذكارية لنصرهم في «جبعة بنياوين» (تل الفول، 5 كيلا شمالي القدس)، و أخيرا فلقد نزعوا سلاح إسرائيل حين منعوهم من صناعة أسلحة جديدة، و هكذا قوى الفلسطينيون امتيازاتهم السياسية عن طريق تفوقهم في السلاح، و ضعف أعدائهم فيه، بل منعه عنهم، فضلا عن القضاة على فكرة الثورة بين بني إسرائيل ضدهم (1).

[3] قيام ملكية طالوت:

يذهب الباحثون إلى أنه من أخريات القرن الحادي عشر قبل الميلاد، و بعد هزيمة أفيق المروعة تجمعت كل العوامل الضرورية لإنهاء نظام حكم القضاة و قيام الحكم الملكي عند بني إسرائيل، و التي كان منها (أولا) ضغط الفلسطينيين على الإسرائيليين، و الذي كان أقوى العوامل لتجميع قوى بني إسرائيل و إنشاء مملكة، بل ربما كان الأصح أن تهديد الفلسطينيين للكيان الإسرائيلي من أساسه هو السبب في قيام الملكية الإسرائيلية، و منها (ثانيا) أن بني إسرائيل كانوا يعيشون بين أقوام يحكمون بملوك، فالآدميون و العمونيون و المؤابيون كان لهم ملوك و الفلسطينيون كان لهم أقطاب أشبه بالملوك، كما كان للفينيقيين ممالك مدن، مما دفع بني إسرائيل إلى المطالبة بملك يحارب حروبهم، و يكون لهم قاضيا كذلك، و منها (ثالثا) أن الكهنوت الإسرائيلي كانت قد تسلمته أياد ضعيفة منذ أيام «فيخاض» و مما

ص: 19


1- صموئيل أول: 10/ 5، 13/ 3- 22،. p, tiC. pO dlefssiE. O 572- 571 و كذا. P, tiC. pO htoN. M 167- 166 olihS fo noitavaxE ehT, reajK. H و كذا F. P, tiC. pO thgirblA: F. W 103 و كذا, soP J nI 1930، 10،. lacilbiB, thgirW. E. G

يؤيد هذا أن «عالي» الكاهن لم يكن من بيت «العازار» الابن الأكبر لسيدنا هارون عليه السلام، و الذي يجب أن تستمر الخلافة في نسله، و إنما كان من بيت الابن الأصغر «إيثمار) و منها (رابعا) أن ولدي عالي الكاهن (حفني و فيخاض) لم يكتفيا بطمعهما الجشع، بل كانا يرتكبان أقذر أنواع العبادة الوثنية وسط كروم شيلوه، حتى أنهما، رغم أنهما متزوجين، لم يترددا عن إفساد النسوة اللاتي كن يترددن على المعبد للقيام بالخدمات التي كانت تتطلب عملا لا يليق بالنساء (1).

و منها (خامسا) أن هناك نصا في التوراة يجعل الحكم في إسرائيل ملكيا (2)، و منها (سادسا) التهديد العموني لحدود إسرائيل الشرقية، و لعل هذا السبب، بجانب التهديد الفلسطيني و تدمير للكثير من مدن إسرائيل، كان السبب المباشر لقيام الملكية الإسرائيلية (3)، و هكذا أدى التهديد الخارجي، و الاضطراب الداخلي إلى أن يضطر شيوخ إسرائيل إلى الاجتماع و المطالبة بتتويج ملك على شعب إسرائيل، و هكذا اختار لهم «صموئيل النبي» ملكا على إسرائيل هو «شاؤل بن قيس» من سبط بنيامين، و مع ذلك، فإن رواية التوراة إنما تشير إلى أنه تردد كثيرا في إجابة شيوخ إسرائيل إلى ما يطلبون، بل (4) لقد ساء الأمر في عيني صموئيل»، و حذر قومه من غضب الرب، إن هو رضي فملك عليهم ملكا، و لكن احتجاج صموئيل كان عديم الجدوى، إذ أصرّ شيوخ إسرائيل على رأيهم، و مع ذلك فما كان عند صموئيل النية في إقامة ملك مستقل حقيقة، بل كان كل ما يرجوه أن يكون قائدا حربيا و زعيما

ص: 20


1- صموئيل أول: 2/ 22- 25، ف. ب. ماير: حياة صموئيل النبي- القاهرة 1967 ص 35، 65 (مترجم).
2- تثنية 17/ 14- 15.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 661- 667.
4- تثنية 17/ 14- 15.

و سندا لكل الشعب يخلصهم من سيطرة الفلسطينيين ثم بعد ذلك يخضع لصموئيل طوال حياته (1).

على أن الاتجاه القرآني، كما بين ذلك بشي ء من التفصيل فيما بعد، يذهب إلى أن الملأ من بني إسرائيل قد طلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم، فحذرهم نبيهم من أن السوابق التاريخية تفيد أنهم ليس لهم صبر على القتال، و لا شجاعة يقفون بها أمام أعدائهم، و مع ذلك فقد أعلمهم أن اللّه تعالى قد اختار لهم طالوت ملكا.

هذا و قد وصف طالوت في التوراة بأنه «شاب حسن، و لم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوقه، كان أطول من كل الشعب»، و في الواقع فإن اختيار شخص بالذات ليكون ملكا على إسرائيل، ليس امرا سهلا، لأن اختياره من إحدى القبائل القوية فيه ما فيه من مساس بقدر القبائل الأخرى، و قد يثير حربا أهلية، كما أن المعارك الأخيرة بين بني إسرائيل و الفلسطينيين قد حطمت من قوة «أفرايم» و هي التي كانت سيادتها على القبائل الأخرى حتى ذلك الوقت أمرا لا نزاع عليه، و من ثم فإن اختيار طالوت «شاؤل في التوراة» كان موفقا، فبالإضافة إلى مميزاته الجسمانية، و كذا العلمية كما جاء في القرآن الكريم، فقد كان من سبط «بنيامين» أضعف الأسباط الإسرائيلية، الأمر الذي كان لا يسبب له حقدا من الأسباط الأخرى، هذا إلى أن خيامه إنما كانت تقع بين أفرايم و يهوذا، أي أنها تقع في مكان وسط إلى حد ما بين القبائل الشمالية و الجنوبية (2).

ص: 21


1- صموئيل أول: 8/ 1- 22، حسن ظاظا: الفكر الدين الإسرائيلي ص 40، و كذا. P, tiC. pO, llaH. R. H. 292 و كذا. P, tiC. pO, sdoL. 395.
2- صموئيل أول: 9/ 1- 2، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 668- 674 و كذا yrotsiH saelbiB eTT, elleK. W 179. p، 1967.

و من عجب أن يزعم الحاخام «أبشتين» أن اختيار شاؤل (طالوت) ملكا على إسرائيل إنما يعتبر أول ملك دستوري في التاريخ، لأنه تم برضى عام من بني إسرائيل (1)، و الحق أن الأحداث التاريخية لا تتفق و مزاعم «أبشتين»، فالنبي صموئيل و ليس بنو إسرائيل، هو الذي اختار شاؤل ملكا، اعتمادا على سلطته الدينية، حيث فرضه عليهم كممثل معتمد لرب إسرائيل هذا إلى أن القوم لم يقبلوه جميعا، فلقد رفضه «بنو بليعال» الذين ازدروه و قالوا: كيف يخلصنا هذا فاحتقروه، و لم يقدموا له هدية فكان كأصم، «على حد تعبير التوراة» (2)، و كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (3)، كما أن اختياره كان تجنبا لحرب أهلية يمكن أن تنشب، لو وقع الاختيار على واحد من أبناء القبائل القوية دون الأخرى، و من هنا كان اختياره من أضعف أسباط بني إسرائيل.

و أما أنه كان أول ملك دستوري في التاريخ، فيكذبه، أننا حتى لو صدقنا ذلك، فإن شاؤل قد اختير ملكا قبيل بداية الألف الأولى قبل الميلاد بأعوام قلائل، بينما نعرف أن هناك ما يدل على تواجد التفكير الديمقراطي منذ الألف الثالثة قبل الميلاد في العراق القديم، و أن انتخاب الحاكم الذي كان يرأس حكومة المدينة إنما كان يتم بناء على قرارات الجمعية العمومية، و التي تتكون من جميع المواطنين، و ربما بما فيهم النساء كذلك (4)، هذا فضلا عن أن مصر الفرعونية قد عرفت منذ النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، إنما لها من الديمقراطية و من العدالة الاجتماعية على أيام الثورة الاجتماعية الأولى، حتى أصبح الملك يوصف بأنه ليس أكثر من «ابن امرأة

ص: 22


1- ., msiaduJ nietspE. I 35. p، 1970.
2- صموئيل أول 10/ 11- 27.
3- سورة البقرة آية 247.
4- . ,II ,SENJ ,simatoposeM tneicnA ni ycarcomeD evitimirP ,nosilocaJ .T 165. p، 1943.

من تاتسي، طفل من نخن» مرة، و بأنه «ابن الإنسان» مرة أخرى، لإقناع القوم بأن حاكمهم ليس من بيوت الإمارة و الملك، و إنما هو من الشعب و ربيب الشعب و صديق الشعب، ثم هو قبل ذلك و بعده، رجل يخدم مصالح الدولة و يرعى شئونها، و يعمل على وحدتها، و يمتلئ قلبه بحب رعاياه، و الرغبة في العمل من أجل مصالحهم (1)، و هكذا يبدو واضحا أن ما ادعاه الحاخام «أبشتين» من تمجيد لقومه اليهود، إنما كان ادعاء عريضا إلى حد كبير.

هذا و قد اختلف المؤرخون في فترة حكم طالوت (شاؤل) فهناك من يرى أنها في الفترة (1030- 1004 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1025- 1013 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1020- 1004 ق. م.)

و من يرى أنها في الفترة (1020- 1000 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1000- 985 ق. م.) (2) و أما قصة طالوت في القرآن الكريم فقد جاءت في سورة البقرة، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا، قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ

ص: 23


1- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص: 200- 210، أحمد بدوي: في موكب الشمس: 2/ 120، و كذا, nosliW. A. J و كذا. P, tic-. pO renidraG. A 120. P,- tic. pO 116- 115, TENA, 415. p، 1960.
2- محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 673- 674، و كذا. p, tic- pO, relleK. W fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. W 181 و كذا, Y. N, dnaL yloH ehT FsaltA lacirotsiH 415. p، 1959 و كذا. P, enitelaP 120. P, tiC. pO, nietspE. I 35 و كذا. Ptic. pO, dlefssiE. O 575 و كذا.

اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ، وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).

و قد اختلف المفسرون في نبيّ إسرائيل الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا، فروي عن قتادة أنه يوشع بن نون، قال ابن كثير في تفسيره: هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، و كان ذلك في زمن داود عليه السلام، و قد كان بين داود و موسى ما يزيد على ألف سنة، و قول ابن كثير صحيح، لكنه بالغ كثيرا في تقديره الفترة بين موسى و داود، و هي التي يحددها الباحثون المحدثون ما بين أربعة قرون و قرن و نصف، و قد رجحنا من قبل أنها تقارب القرنين من الزمان، و قال السدّى إنه شمعون، و قال مجاهد و غيره إنه شمويل (2) (صموئيل) و هو الأرجح، هذا و قد ذهب بعض المفسرين إلى أن سبب تنصيب ملك على بني إسرائيل أن جالوت رأس العمالقة و ملكهم، و هو جبار من أولاد عمليق، أو ملك الكنعانيين على رأي آخر، و كان قومه يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر و فلسطين، قد ظهروا على بني إسرائيل و سبوا أولادهم و أسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة و أربعين نفسا، و ضربوا عليهم الجزية و أخذوا توراتهم، فلما كتب على بني إسرائيل القتال تولوا،

ص: 24


1- سورة البقرة آية: 246- 248، و انظر تفسير الطبري: 5/ 291- 328، تفسير النسفي: 1/ 124- 125، تفسير روح المعاني: 2/ 166- 168، تفسير الكشاف: 1/ 378- 379، تفسير الفخر الرازي: 6/ 181- 193، تفسير القرطبي ص: 1051- 1058، تفسير الطبرسي: 3/ 275- 284، تفسير القاسمي: 2/ 641- 674، في ظلال القرآن: 2/ 266- 269، تفسير المنار: 2/ 372- 373، تفسير ابن كثير: 1/ 449- 452 (دار الكتب العلمية- بيروت 1986) تفسير الجلالين ص: 43- 44، صفوة التفاسير: 1/ 156- 158.
2- تفسير ابن كثير: 1/ 449 (ط 1986)، تفسير البحر المحيط: 1/ 370، تفسير النسفي: 1/ 124.

إلا ثلاثمائة و ثلاثة عشر، بعدد أهل بدر، و قد رفض بنو إسرائيل طالوت ملكا لأنه من سبط بنيامين، و النبوة كانت عندهم في سبط لاوي، و الملكية في سبط يهوذا، و لكن اختياره إنما كان بسبب علمه ليتمكن من معرفة أمور السياسة، و جسامة بدنه ليعظم خطره في القلوب، و يقدر على مقاومة الأعداء و مكابدة الحرب (1).

و أما آية ملكه أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم و بقية مما ترك آل موسى و آل هارون، قال النسفي: هي رضاض الألواح و عصا موسى و ثيابه و شي ء من التوراة و نعلا موسى و شمامة هارون عليهما السلام، تحمله الملائكة قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء و الأرض حتى وضعته بين يدي طالوت و الناس ينظرون، و قال السدي:

أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون و أطاعوا طالوت، و قال عبد الرزاق عن بعض أشياخه: جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة، و قيل على بقرتين، و ذكر غيره أن التابوت كان بأريحا، و كان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته، فأصبح كذلك فسمروه تحته، فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا، فعلموا أن هذا أمر من اللّه

ص: 25


1- تفسير البحر المحيط: 1/ 371- 372، و نلاحظ على هذا الرأي عدة أمور، منها (أولا) أن جالوت هو ملك الفلسطينيين، و ليس العماليق أو الكنعانيين، و منها ثانيا أن بحر الروم و هو البحر الأبيض المتوسط لم يكن يسمى في تلك الفترة «بحر الروم» بل إن الروم حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد ظهروا في العالم كقوة لها كيان يسمى باسمها البحر المتوسط، و على أي حال، فقد كان المصريون يسمون البحر المتوسط باسم «الأخضر العظيم» (وأج- ور: و في الدولة الوسطى سموه «واج ور إن حاونبو» و في الدولة الحديثة «بايم خاروه»، و منها ثالثا أن الكهانة، و ليس النبوة، هي التي كانت في سبط لاوي فقط، بل أن صموئيل النبي الذي أختار طالوت ملكا من سبط أفرايم، كما أن الملك لم يكن بعد في يهوذا، فالقضاة لم يكونوا جميعا من يهوذا إن أول ملك لإسرائيل كان من سبط بنيامين و هو طالوت.

لا قبل لهم به، فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى، فأصاب أهلها داء في رقابهم، فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء، فحملوه على بقرتين فسارتا به، لا يقر به أحد إلا مات، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل، فكسرتا النيرين و رجعتا، و جاء بنو إسرائيل فأخذوه، فقيل إنه تسلمه داود عليه السلام و أنه لما قام إليهما حجل من فرحه بذلك، و قيل شابان منهم فاللّه أعلم، و قيل كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها «أذدوه» (1).

[4] حروب طالوت و ظهور داود:

بدأ طالوت يعد العدة لقتال أعدائه الفلسطينيين الذين كانوا يسيطرون على البلاد، منذ انتصارهم في معركة أفيق، و استيلائهم على التابوت (2)، و تجريدهم من السلاح، فضلا عن إقامة القلاع في أماكن مختلفة من البلاد

ص: 26


1- تفسير ابن كثير: 1/ 451 (ط 1986).
2- التابوت: و تطلق عليه التوراة تابوت العهد أو تابوت الشهادة أو التابوت المقدس أو تابوت إله إسرائيل أو تابوت يهوه، و هو عبارة عن صندوق صنعه موسى بأمر ربه من خشب السنط، طوله ذراعان و نصف و عرضه ذراع و نصف، و ارتفاعه ذراع و نصف، و مغشى بذهب نقي من الداخل و الخارج، و عليه إكليل من ذهب و أربع حلقات ذهبية، و له عصوان من السنط مغشيان بالذهب لحمل التابوت، و كانت مسئولية حراسته لبني فهات من اللاويين رهط موسى، و يذهب البعض إلى أن فكرة التابوت مستعارة من المصريين، بينما يرى آخرون أنها مستعارة من الكنعانيين، و على آية حال، فلقد كان للتابوت مكانة ممتازة عند بني إسرائيل، و طبقا للتقاليد الإسرائيلية فقد كانوا يحملونه معهم أثناء المعارك الحربية، حتى عصر داود، على الأقل، و كان يستقبل بالتهليل و التكبير ليتحقق النصر، و يقع الذعر في قلوب الأعداء الذين كانوا يخافون منه و يقولون «جاء اللّه إلى المحلة»، و في أوقات الهدنة كان التابوت يودع في أحد أماكن العبادة أو في خيمة، في بيت إيل و شيلوه و بيت شمس و يعاريم و أورشليم، و طبقا لوجهة نظر سفر التثنية، فإن قدسية التابوت كانت في كونه يحمل ألواح الشريعة، و من ثم سمي «تابوت العهد أو تابوت الشريعة أو الشهادة»، و طبقا لرواية التوراة فهو عرش يهوه، و كان التابوت على رأس الإسرائيليين عند ما دخلوا كنعان بقيادة يوشع بن نون، و أنهم حملوه عند ما عبروا الأردن، فانشق تيار النهر فوق المياه المنحدرة، و عبر الشعب على اليابسة، ثم بقي مدة في خيمة في الجلجال ثم في شيلوه، حيث بقي فيها أكثر من ثلاثة قرون، ثم وقع في أيدي الفلسطينيين في موقعة أفيق، و عند ما أعاده الفلسطينيون لهم بقي في قرية يعاريم، ثم نقل منها على أيام داود إلى القدس، ثم وضع في هيكل سليمان بعد بنائه حتى أزاله «منسى» و وضع بدله تمثالا، ثم أعاده «يوشيا» و بقي حتى مرحلة السبي البابلي عام 586 ق. م، ثم اختفى، و لا يعلم أحد هل أخذه البابليون أم أن اليهود أخفوه في مكان ما ثم ضاع، و هناك تقاليد أثيوبية تذهب إلى أنه نقل إلى أكسوم في أثيوبيا، و ليس هناك دليل على صحة تلك التقاليد (انظر عن التفصيلات و المراجع، محمد بيومي مهران إسرائيل: 4/ 124- 133).

للسيطرة عليها تماما، و التي كان من أهمها تلك التي عند «بيت شان» (بيسان) للسيطرة على الطريق الموصل بين نهر الأردن و وادي يزرعيل، و التي عند «مخماس» و «جبعة» بين جبل أفرايم و أورشليم، و التي في جنوب القدس عند «بيت لحم» هذا فضلا عن تعيين موظفين فلسطينيين لجمع الضرائب المفروضة على شعب بني إسرائيل المهزوم، كما كانوا يراقبونهم من مراكز المراقبة الثابتة (1)، و على أية حال، فلقد بدأ طالوت في أعداد العدة، فجهز جيشا كثيفا، بالغ المفسرون و المؤرخون في تقدير اعداده حتى وصلوا به إلى ثمانين ألفا (2)، غير أن طالوت إنما أجرى لهم اختبارا، كان من نتيجته أن ترك الجيش و تقاعس عن القتال جميع رجال إسرائيل، إلا أقل القليل ممن عصم اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَ مَنْ لَمْ ).

ص: 27


1- . P, tic- P, llaH. R. H 423.
2- تذهب رواية التوراة إلى أن هذا الحدث كان مع جدعون أحد قضاة إسرائيل، و ليس مع طالوت، و أن عدد جنوده كانوا اثنين و ثلاثين ألفا، بقي منهم على العهد ثلاثمائة، و أن الحرب كانت ضد المدينيين، و ليس الفلسطينيين، و أن المدينيين كانوا قد أذاقوا الإسرائيليين العذاب ألوانا، حتى اضطروهم إلى ترك قراهم و منهم إلى الكهوف و المغاور و الحصون، و مع ذلك فإن جدعون استطاع بمئاته، الثلاث أن يقتل من أعدائه في الجولة الأولى 120 ألف، و في الجولة الثانية 15 ألف، و بدهي أن هذا من تحريفات التوراة (انظر محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 635- 640، قضاة: 6/ 7- 8/ 21).

يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ، قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (1).

و قال ابن عباس: من اغترف بيده روى، و من شرب منه لم يرو، و قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفا، فشرب منه ستة و سبعون ألفا، و تبقى معه (أي طالوت) أربعة ألاف، على أن هناك روايات أخرى تذهب إلى أن من بقي على العهد مع طالوت ثلاثمائة و بضعة عشر نفرا، قيل ثلاثمائة و تسعة عشر، أو ثلاثمائة و ثلاثة عشر، عدة أهل بدر، روى البراء بن عازب: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة و بضعة عشر، عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، و ما جاوزه معه إلا مؤمن، و أما النهر ففي رواية عن ابن عباس أنه نهر بين الأردن و فلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور (2).

و على أية حال فلقد دارت رحى الحرب بين بني إسرائيل و الفلسطينيين، و كادت الهزيمة تحقيق بالأولين، لو لا نصر اللّه و شجاعة داود عليه السلام الذي قتل جالوت قائد الفلسطينيين، و طبقا لرواية التوراة فلقد كان جالوت (جليات) يخرج إلى الميدان صباح مساء طيلة أربعين يوما دون أن يجرؤ واحد من بني إسرائيل على منازلته، حتى اضطر طالوت أن ينادي بين قومه «إن من يقتل هذا الرجل يغنيه الملك غنى جزيلا، و يعطيه بنته

ص: 28


1- سورة البقرة آية: 249.
2- تفسير الكشاف: 1/ 294- 296، تفسير الطبري: 5/ 246- 248، تاريخ الطبري: 1/ 467- 472، تفسير القرطبي ص: 1062- 1063، تفسير المنار: 2/ 382- 389، تفسير النسفي: 1/ 125- 126، تفسير ابن كثير: 1/ 452 (بيروت 1986)، صحيح البخاري: 8/ 228، مسند الإمام أحمد: 4/ 290، تاريخ ابن الأثير: 1/ 123.

و يجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل» و من ثم فقد خرج له داود بن يسى، و هو ما يزال بعد غلاما، و يتغلب على جالوت «فتمكن داود من الفلسطينيين بالمقلاع و الحجر، و ضرب الفلسطيني و قتله و لم يكن سيف بيد داود» (1)، و يشير القرآن الكريم إلى هذا الحادث في قوله تعالى: وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (2).

و هكذا استطاع داود عليه السلام بمقلاعه، و هو ما يزال بعد غلاما، أن يقتل بطل الفلسطينيين جالوت (3)، و أن يكون سببا في انتصار قومه على الفلسطينيين، ).

ص: 29


1- صموئيل أول: 17/ 1- 54، محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 680- 687، ثم قارن: 2/ 635- 640.
2- سورة البقرة آية: 250- 251، و انظر تفسير الطبري: 5/ 354- 376، تفسير الطبرسي: 2/ 289- 292، تفسير الكشاف: 1/ 296- 297، تفسير روح المعاني: 2/ 172- 174، الجواهر في تفسير القرآن الكريم: 1/ 229- 230، محمد جواد مغنية: التفسير الكاشف: 2/ 382- 383، تفسير المنار: 2/ 389- 394، تفسير القرطبي ص: 1064- 1069، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 1/ 318- 319، تفسير النسفي: 1/ 125- 126، تفسير ابن كثير: 1/ 452- 454، هذا و روى في تفسير قوله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أخرج ابن جرير عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» و أخرج ابن مردوية عن عبادة بن الصامت مرفوعا قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الأبدال في أمتي ثلاثون، بهم ترزقون، و بهم تمطرون، و بهم تنصرون»، قال قتادة: إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (تفسير ابن كثير: 1/ 453- 454).
3- يروي تاريخ النبوة الشريف حادثا يشبه ذلك، فبينما كان المسلمون محاصرين في غزوة الأحزاب (5 ه- 1627 م) و قد و جاءتهم جنود من فوقهم و من أسفلهم، حتى زاغت الأبصار، و بلغت القلوب الخناجر، و ظن الناس باللّه الظنون، و زلزل المؤمنون زلزالا شديدا، و بدأ فريق من المنافقين يستأذنون النبي صلى اللّه عليه و سلم في العودة إلى بيوتهم لأنها عورة، و ما هي بعورة، و لكنهم يريدون الفرار من المعركة، في هذا الجو الملي ء بالخوف و الفزع، اقتحم عمرو بن ود، و كان أشجع قريش، و يحسب نفسه كفؤا لألف رجل، اقتحم الخندق بجواده مع مجموعة من فرسان قريش، فركز رمحه في للأرض، و أخذ يصول و يجول، و يطلب المبارزة، فما برز له أحد، فقد كان مقاتلا غادرا فاتكا و بطلا مغوار، لم يبارز أحد إلا صرعه، و هكذا أخذ ينادي من يبارز، فلا يتقدم أحد غير الإمام علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، قائلا: أنا لها يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: اجلس إنه عمرو، ثم نادى عمرو: أ لا رجل يبرز، ثم جعل يؤنبهم فيقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أ فلا تبرزون إليّ رجلا، فقام علي فقال: أنا يا رسول اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: إنه عمر، ثم نادى الثالثة فقام على كرم اللّه وجهه في الجنة، فقال يا رسول اللّه أنا، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: إنه عمرو، فقال علي: و إن كان عمرا، فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال له: أدن مني فعمّمه صلى اللّه عليه و سلم بيده الشريفة، و قال: اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، ثم رفع صلى اللّه عليه و سلم يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه و قال: «اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليا، رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين»، و برز الإمام علي لعمر، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «الآن برز الإيمان كله للشرك كله»، فقال عمرو لعلي: من أنت، قال علي بن أبي طالب، فقال عمرو، و قد أعرض عن الإمام علي استخفافا به، إن أباك كان صديقي و نديمي، و إني و اللّه ما أحب أن أقتلك، فقال الإمام: لكني و اللّه ما أكره أن أقتلك، ثم قال يا عمرو: قد كنت تعاهد اللّه لقريش، ألا يدعوك رجل إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها، قال أجل، قال: فإني أدعوك إلى اللّه عز و جل و إلى رسوله و الإسلام فتشهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، فقال عمرو: لا حاجة لي في ذلك، هات الثانية، قال الإمام: فترجع إلى بلادك، فإن يك محمدا صادقا كنت أسعد الناس به، و إن يك كاذبا كان الذي تريد، قال عمرو: إذن تتحدث عني نساء قريش أنني جبنت و خنت قوما رأسوني عليهم، هات الثالثة، قال الإمام: الحرب، قال عمرو: هذه خصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يروّعني بها، فقال الإمام: كيف أقاتلك و أنت فارس، و أنا راجل، فاقتحم عن فرسه و عقره و سل سيفه كأنه شعلة نار، ثم اندفع نحو الإمام علي مغضبا، و استقبله عليّ برقبته فضربه في الدرقة فشقها و أثبت فيها السيف، و ضربه الإمام علي كرم اللّه وجهه في الجنة، على حبل العاتق فسقط عمرو، و ثار العجاج و بانت سوأة عمرو، و سمع سيدنا و مولانا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التكبير، فعرف أن عليا قتل عمرا، و أقبل الإمام علي رضي اللّه عنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و وجهه يتهلل، فعانقه النبي صلى اللّه عليه و سلم و دعا له، فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لعلي: هلا سلبته درعه، فإن ليس في العرب درع خير منها، فقال الإمام علي: إني حين ضربته استقبلني بسوأته و استحيت ابن عمي أن استلبه، على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الإمام علي ضرب عمرا على ساقيه فقطعهما جميعا، فسقط على الأرض فأخذ علي بلحيته فذبحه و أخذ رأسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فألقاها بين يديه، فقام أبو بكر و عمر فقبلا رأس علي، و روى أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال في قتل علي لعمرو: لضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين، و روى أن حذيفة بن اليمان قال: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لو سعتهم، و قال ابن عباس في قوله تعالى: وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، و قال: بعلي بن أبي طالب (سورة الأحزاب آية: 9- 27، تفسير القرطبي ص: 5210- 5244، ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 202- 207، ابن هشام: سيرة النبي ص: 224- 226، تاريخ الطبري: 2/ 573- 574، الواقدي: المغازي: 2/ 470- 472، البلاذري: أنساب الأشراف: 1/ 345، ابن سعد: الطبقات الكبرى: 2/ 49، السهيلي الروض الأنف: 6/ 316- 320، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة ص: 212- 213، السيرة النبوية للندوي ص: 287- 288).

ص: 30

و من ثم فقد أخذ يملأ أعين الناس و آذانهم و قلوبهم، ثم يصبح ذا مكانة عالية بين قومه الإسرائيليين، مما أثار عليه حقد طالوت و أخذ يسعى إلى قتله، بينما هو في مسيس الحاجة إليه و إلى أمثاله من الرجال الشجعان، و لم تشفع له صداقته لولده ناثان و إصهاره للملك، و على أي حال، فما أن يمضي حين من الدهر، حتى يقتل طالوت و أولاده الثلاثة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام 1000 ق. م) (1) و يصبح داود عليه السلام ملكا على بني إسرائيل.

و أما متى كانت سنوات حكم داود، فذلك موضع خلاف بين المؤرخين، فهناك من يرى أنها كانت في الفترة (1010- 955 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1004- 962 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (985- 963 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1012- 972 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1000- 960 ق. م) و هذا ما نميل إليه و نأخذ به (2).

ص: 31


1- صموئيل أول: 28/ 3- 25، 31/ 7- 12، جيمس فريزر المرجع السابق ص: 43- 51، محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 687- 689، و كذا. P, tic-. pO, htoN. M 178- 177. و كذا. P, tic- P, llaH. R. H 359.
2- فيليب حتى: المرجع السابق ص 303. lacilbiB ehT, thgirblA. F. W و كذا, Y. N, dnaL yloH ehT fo saltA lacirotsiH 81. p، 1959 و كذا, qarI tneicnA, xuaR. G 454. p، 1966 و كذا. Y. N, arzE omaharbA morF doireP 122- 120. p، 1963, msiaduJ, nitspE. I 35. p، 1970 و كذا

ص: 32

الفصل الثّاني داود الرّسول النّبيّ
اشارة

لمع اسم داود عليه السلام، كما رأينا من قبل، و سطع نجمه، و تعلق الشعب به و التفوا حوله، و تنادوا بزعامته، و أصبح مل ء أسماع الناس و أبصارهم، و هم عن طالوت منصرفون، و ما أن يمضي حين من الدهر حتى يقتل طالوت و ولداه و يصبح داود ملكا على بني إسرائيل (1)، ثم تمضي فترة لا ندري مداها على وجه اليقين، يختار اللّه تعالى بعدها عبده داود رسولا نبيا (2)،

ص: 33


1- تروي التوراة أن داود كان ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين و ستة أشهر، و في أورشليم ثلاثا و ثلاثين سنة على جميع إسرائيل و يهوذا (صموئيل ثان: 5/ 4- 5).
2- هناك فروق بين النبوة و الملك، منها أن النبوة لا تكون بالإرث، فولد النبي لا يكون نبيا بطريق الإرث عن أبيه، بل هي بمحض الفضل الإلهي و الاصطفاء الرباني، و منها أن النبوة لا تعطي لكافر أبدا، و إنما تعطي لمؤمن فحسب، بخلاف الملك فقد يعطي لغير المؤمن، و منها أن النبوة خاصة بالرجال، و لا تكون للنساء، لقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ و إن كان ابن خزم يرى أن هذه الآية الكريمة خاصة بالرسل دون الأنبياء، و من ثم فلم يدع أحد أن اللّه تعالى قد أرسل امرأة، و أما النبوة و هي لفظة مأخوذة من الإنباء و هو الإعلام، فمن أعلمه اللّه عز و جل بما يكون قبل أن يكون، أو أوحى إليه منبئا بأمر ما فهو نبي بلا شك، فأمرها مختلف، و قد جاء في القرآن الكريم بأن اللّه تعالى قد أرسل ملائكة إلى نساء فأخبرهن بوحي حق من اللّه تعالى، كما حدث مع أم إسحاق و أم موسى و أم المسيح عليهم السلام، و منها أن النبوة مجالها الدعوة إلى الإيمان باللّه و اليوم الآخر و العمل الصالح، و الملك قد يتعارض مع هذه الدعوة لأنه مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية التي جاءت بالتزهيد عنها الأنبياء عليهم السلام، و لكن قد يجمع اللّه النبوة و الملك لرجل واحد، كما حدث مع داود و سليمان عليهما السلام (انظر ابن حزم: الفصل في الملك و الأهواء و النحل: 5/ 87، محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص: 71- 77، محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص: 10- 11).

و كان قد بلغ سن الكمال أربعين سنة (1) و أنزل عليه الزبور، فيه مواعظ و أذكار، و آتاه اللّه الحكمة و فصل الخطاب، و هكذا أسس داود، و كذا ولده سليمان من بعده، مملكة التوحيد، تؤمن باللّه ربا، و بالإسلام دينا، وسط عالم مشرك، و لم يجتمع النبوة و الملك لأحد قبلهما أو بعدهما من بني إسرائيل، هذا و قد ذكرت قصتهما في القرآن الكريم مطولة أحيانا (2)، و مختصرة أحيانا أخرى، و أحيانا يذكران معا، و أحيانا يفرد أحدهما عن الآخر، ففي سورة البقرة يحكي اللّه تعالى أن داود كان في جيش طالوت، و أنه قتل جالوت، و أن اللّه آتاه من أجل ذلك الكتاب و الحكمة و علمه مما يشاء (3)، و في سورتي النساء و الأنعام يذكران معا على أنهما من الأنبياء الذين أوحى اللّه إليهم و أنهما من نسل إبراهيم عليه الصلاة و السلام (4).

معجزات داود عليه السلام

هذا و قد خص اللّه تعالى داود عليه السلام بكثير من المعجزات، منها (أولا) تسخير الجبال معه يسبحن بكرة و عشيا قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (5)، و منها (ثانيا) ترجيع الطير معه كلما قرأ

ص: 34


1- يكاد يجمع العلماء على أن النبوة لا تكون إلا بعد بلوغ سن الأربعين، و قد أبطل ابن قيم الجوزية ما ذهب إليه البعض من أن عيسى بعث و هو في الثلاثين من عمره، و أما قوله تعالى في حق يحيى: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا فالمراد الفهم و الفقه في الدين كما فسره ابن عباس، و هو غير الحكمة المفسرة بالنبوة في آية البقرة: 251، و سنعود للموضوع ثانية عند الحديث عن يحيى و عيسى (زاد المعاد: 1/ 21، تفسير الكشاف: 2/ 504، عويد المطرفي: داود و سليمان في القرآن و السنة- مكة المكرمة: 1979 ص: 33).
2- سورة الأنبياء آية: 78- 82، النمل آية: 15- 44، سبأ آية: 10- 14، ص آية: 17- 26.
3- سورة البقرة آية: 249- 251.
4- سورة النساء آية: 163- 164، الأنعام آية: 84.
5- سورة ص آية: 18.

الزبور، قال تعالى: وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (1)، و قال تعالى:

وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (2)، و يقول المفسرون عن هذه الآية إن اللّه تعالى قد وهب داود من الصوت ما لم يهبه لأحد، حتى أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه الزبور يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه، و يسبح بتسبيحه، و كذا الجبال تجيبه و تسبح معه كلما سبح بكرة و عشيا، و في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال صلى اللّه عليه و سلم: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (3).

و يقول الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه كان داود عليه السلام أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة و العبادة و الذكر و الاستغفار، و قد آتاه اللّه من فضله مع النبوة و الملك، قلبا ذاكرا، و صوتا رخيما يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه، و بلغ من قوة استغراقه في الذكرى، و من حسن حظه في الترتيل، أن تزول الحواجز بين كيانه و كيان هذا الكون، و تتصل حقيقته بحقيقة الجبال و الطير في صلتها كلها ببارئها، و تمجيدها له و عبادتها، فإذا الجبال تسبح معه، و إذا الطير مجموعة عليه، تسبح معه لو ملاها و مولاه إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، و لقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ: الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشى و الإشراق، حينما يخلو إلى ربه يرتل تراتيله في تمجيده و ذكره، و الطير تتجمع على نغماته لتسمع له و ترجع معه أناشيده، لقد يقف الناس مدهوشين للنبإ، إذ يخالف مألوفهم، و يخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين

ص: 35


1- سورة ص آية: 19.
2- سورة الأنبياء آية: 79.
3- صحيح البخاري: 9/ 241، صحيح مسلم: 2/ 192.

جنس الإنسان و جنس الطير، و جنس الجبال، و لكن فيم الدهش؟ و فيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة وراء تميز الأجناس و الأشكال و الصفات و السمات، حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله، أحيائه و أشيائه جميعا، و حين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص و الإشراق و الصفاء، فإن تلك الحواجز تنزاح، و تنساح الحقيقة المجردة لكل منهم، فتتصل من وراء حواجز الجنس و الشكل و الصفة و السمة التي تميزهم و تعزلهم في مألوف الحياة، و قد وهب اللّه عبده داود هذه الخاصية، و سخر الجبال معه يسبحن بالعشى و الإشراق، و حشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا للّه، و كانت هذه هبة فوق الملك و السلطان، مع النبوة و الاستخلاص (1)، قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبح، و كان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته، و بكت لبكائه (2).

و منها (ثالثا) إلانة الحديد له، فكان بين يديه كالعجين أو كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار، و لا ضرب بمطرقة، و قيل لان الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة (3)، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ، وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)، و في قوله تعالى وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قال الحسن البصري و قتادة و الأعمش و غيرهم: كان اللّه تعالى قد ألان الحديد لداود حتى كان يفتله بيديه لا يحتاج إلى نار و لا مطرقة، و قال الإمام الفخر الرازي: ألان اللّه لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع و هو في قدرة اللّه يسير، فإنه يلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد

ص: 36


1- في ظلال القرآن: 5/ 3017 (بيروت 1982).
2- زاد المسير: 6/ 436.
3- تفسير النسفي: 3/ 319.
4- سورة سبأ: آية: 10- 11.

ذلك على قدرة اللّه، قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، و إنما كانت قبل ذلك من صفائح، و في سياق الآية العاشرة من سورة سبأ، التي ابتدأها اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، ثم ذكر في آخرها وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، ما يشعر بأن اللّه تعالى قد ألان الحديد تفضلا منه و كرما، و آية على الإعجاز من الآيات التي يمنحها اللّه لأنبيائه، و لو أن إلانة الحديد بالنار، كما يقع للناس جميعا، لما ذكرها اللّه في سياق الامتنان على داود، و لما جعلها اللّه نعمة يختصه بها، و قد يقال إنه أول من اهتدى إلى أثر النار في إلانة الحديد، و لم يكن ذلك معروفا قبل داود، فكان هذا من نعم اللّه على داود أولا، ثم أصبح من سنن الطبيعة ثانيا أو بعد ذلك، و لكننا لا نذهب كما يقول الدكتور النجار، لمثل هذا المذهب ما دام فضل اللّه على أنبيائه بالمعجزات الخارقة أمرا مقررا لهم، و واجبا في حقهم (1).

و من ثم يذهب العلامة سيد قطب إلى أنه في ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر، فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين و يصبح قابلا للطرق، إنما كان و اللّه أعلم معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة، و إن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من اللّه يذكر، و لكننا إنما نتأثر بجو السياق و ظلاله، و هو جو معجزات، و هي ظلال خوارق خارقة على المألوف، ثم يقول تعالى:

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ و السابغات الدروع، روى أنها كانت تعمل قبل داود عليه السلام صفائح، الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم و تثقله، فألهم اللّه داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها و تحريكها بحركة الجسم، و أمر بتضيق تداخل هذه الرقائق لتكون

ص: 37


1- تفسير ابن كثير: 3/ 838- 839، تفسير الفخر الرازي: 25/ 245، تفسير النسفي: 3/ 319- 320، تفسير القرطبي: 14/ 266، محمد الطيب النجار تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم و السنة النبوية- الرياض 1983 ص: 234- 235.

محكمة لا تنفذ فيها الرماح، و هو التقدير في السرد، و كان الأمر كله إلهاما و تعليما من اللّه (1).

هذا و قد روى الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكرا، فيسأل الركبان عنه و عن سيرته، فلا يسأل أحدا إلا أثنى عليه خيرا في عبادته و سيرته و عدله، قال وهب: حتى بعث اللّه ملكا في صورة رجل فلقيه داود عليه السلام، فسأل كما كان يسأل غيره، فقال: هو خير الناس لنفسه و لأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه لكان كاملا، قال:

ما هي، قال: يأكل و يطعم عياله من مال المسلمين، يعني بيت المال، فعند ذلك نصب داود إلى ربه عز و جل في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به و يغني به عياله، فألان اللّه عز و جل له الحديد، و علمه صنعة الدروع، فعمل الدروع و هو أول من عملها، فقال اللّه تعالى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ، يعني مسامير الحلق، قال: و كان يعمل الدرع فإذا ارتفع من عمله درع باعها، فتصدق بثلثها، و اشترى بثلثها ما يكفيه و عياله، و أمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها (2).

هذا و قد كشفت حفريات «سير فلندرز بتري» عن مناجم للحديد في جمة و عصيون جابر (3)، على مقربة من خليج العقبة، ترجع إلى أيام داود و سليمان عليهما السلام، و يبدو أن داود قد استولى عليها من الآدوميين بعد هزيمته إياهم.

ص: 38


1- في ظلال القرآن: 5/ 2897- 2898.
2- تفسير ابن كثير: 3/ 839.
3- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- ترجمة زكي اسكندر و محمد عبد القادر، القاهرة 1971 م ص: 128، و كذا, yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 199- 198. p، 1967.

و منها رابعا قوّى اللّه تعالى ملكه و جعله منصورا على أعدائه، مهابا في قومه، قال تعالى: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ، و يذهب بعض المفسرين في معنى الآية الكريمة أن اللّه قواه و جعله منصورا على جميع أعدائه و مناوئيه، فكان لا يقوم له معارض إلا غلبه، قال مجاهد: كان أشد أهل الدنيا سلطانا، و قال السّدي: كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، و قال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة و ثلاثون ألفا، و قال غيره أربعون ألفا، و قد ذكر ابن جرير و ابن أبي حاتم رواية عن ابن عباس أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة و السلام أنه اغتصبه بقرا، فأنكر الآخر و لم يكن للمدعي بيّنة فأرجأ أمرهما، فلما كان الليل أمر داود عليه السلام في المنام بقتل المدعي، فلما كان النهار طلبهما و أمر بقتل المدعي، فقال يا نبيّ اللّه علام تقتلني و قد اغتصب هذا بقري، فقال له إن اللّه تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فقال و اللّه يا نبي اللّه إن اللّه لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه، و إني لصادق فيما ادعيت، و لكني كنت قد اغتلت أباه و قتلته و لم يشعر بذلك أحد، فأمر به داود عليه السلام فقتل، قال ابن عباس: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل، و هو الذي يقول اللّه عز و جل: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ (1)، و على أي حال فإن التاريخ يحدثنا أن اللّه تعالى كتب له النصر المبين على الفلسطينيين أقوى أعدائه و أكثرهم أهمية، و أشدهم خطرا كما كتب له نجحا بعيد المدى في طردهم من مناطق بني إسرائيل، بل إنه وصل إلى مدنهم ذاتها، كما كتب له نصرا مؤزرا على ممالك مؤاب و عمون و أدوم، فضلا عن الآراميين (2)، كما سنفصل ذلك في الفصل التالي. ).

ص: 39


1- تفسير ابن كثير: 4/ 46- 47 (دار الكتب العلمية- بيروت 1986)، تفسير النسفي: 4/ 36 (ط دار الفكر).
2- انظر التفصيلات عن دولة داود عليه السلام (محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 693- 734).

و منها خامسا أن اللّه تعالى آتاه الحكمة و فصل الخطاب، و الحكمة، فيما يرى كثير من المفسرين النبوة (1) أو هي في رأي آخر، الزبور و علم الشرائع أو هي كل كلام وافق الحق فهو حكمة (2)، و أما فصل الخطاب فهو الحكم في القضايا التي تقع بين الناس في عهده، و قد بيّنه اللّه تعالى في قوله جل ثناؤه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (3)، و قال مجاهد و السّدي: هي إصابة القضاء و فهم ذلك، و قال مجاهد أيضا: هي الفصل في الكلام و في الحكم و هذا يشتمل كل ذلك، و هو المراد، و قد اختاره ابن جرير، و قيل فصل الخطاب قطعه و الجزم فيه برأي لا تردد فيه، و ذلك مع الحكمة و مع القوة غاية في الكلام و السلطان في عالم الإنسان، و عن أبي موسى أول من قال: «أما بعد» داود عليه السلام و هو فصل الخطاب، و كذا قال الشعبي: فصل الخطاب «أما بعد»، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن، يفتتح بذكر اللّه و تمجيده فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له فصل بينه و بين ذكر اللّه بقوله (أما بعد) (4).

قصة الخصمين

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى الآيات الكريمة من سورة «ص» (21- 25) و التي ثار جدل حول تفسيرها، يقول تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها

ص: 40


1- انظر تفسير ابن كثير: 4/ 47، تفسير روح المعاني: 2/ 173، تفسير أبي السعود: 1/ 186، فتح القدير للشوكاني: 1/ 266، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 300، الراغب الأصفهاني المفردات في غريب القرآن ص: 128.
2- تفسير النسفي: 4/ 36- 37.
3- سورة ص آية: 26.
4- تفسير ابن كثير: 4/ 47، تفسير النسفي: 4/ 37، في ظلال القرآن: 5/ 3017، عويد المطرفي المرجع السابق ص: 50.

وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ، وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (1).

و تفسير الآيات الكريمة أن رجلين يمتلك أحدهما تسعا و تسعين نعجة، و يمتلك الآخر نعجة واحدة، و قد نازعه فيها صاحب التسع و التسعين، و قد دخل الخصمان على داود من غير المدخل المعتاد، فقد دخلا عليه من فوق الجدران، و هي طريقة توحي في أعراف الناس بشر يقع من هذا التسوّر، فما يتسوّر المحراب هكذا مؤمن و لا أمين، كما أن دخولهما كان في غير وقت جلوسه للحكم، و إنما في وقت خلوته إلى نفسه، و اعتزال مجتمعه و أمته في هذا اليوم، إرضاء لرغبة نفسه في حبه لعبادة ربه، فقد كان داود يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك، و للقضاء بين الناس، و يخصص البعض الآخر للخلوة و العبادة و ترتيل أناشيده تسبيحا للّه في المحراب، و كان إذا دخل المحراب للعبادة و الخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس، روى عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن الحسن البصري قال: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء، يوما لنسائه، و يوما للعبادة، و يوما للقضاء بين بني إسرائيل، و يوما لبني إسرائيل، و روى نحوه عن السّدي فيما أخرجه الحكم في المستدرك و الطبري في التفسير (2).

و من ثم فقد فزع داود من الخصمين ظنا منه أنهما يريدان به شرا، فلما

ص: 41


1- سورة ص آية: 21- 25.
2- انظر تفسير الطبري: 23/ 147- 148، تفسير الدر المنثور: 5/ 301، تفسير الظلال: 5/ 3018، المستدرك للحاكم: 2/ 586، تاريخ الطبري: 1/ 482، عويد المطرفي المرجع السابق ص: 52- 53.

ظهر أنهما جاءا من خصومة ليحكم بينهما فيها، استغفر ربه من هذا الظن و خر ساجدا منيبا إلى اللّه تعالى، فغفر اللّه له ذلك الظن، لأنه ما كان ينبغي من مثله و كما هو معلوم حسنات الأبرار سيئات المقربين، و ربما كان استغفاره لأن انقطاعه للعبادة يوما كاملا عن أمته، و اختلاءه بنفسه ذلك اليوم كله، يؤدي حتما تركه النظر في ذلك اليوم في أمر رعيته و أمته التي استودعه للّه عز و جل رعاية مصالحها، فجاءه مثال من حاجتها إليه في كل وقت ليقوم بإصلاح ذات بينها، و إقرار التراحم و التآخي بين أفرادها حتى يكونوا على هدى من ربهم، كما يدل على ذلك قول الخصمين له «و اهدنا إلى سواء الصراط» ثم بيّن اللّه تعالى لداود عليه السلام مهمته في هذه الحياة الدنيا، باعتباره ملكا على بني إسرائيل، و نبيّا مرسلا، إذ الملك يقتضي خلافته للّه تعالى في الأرض بالنظر في مصالح رعيته و الحكم بينهم بالعدل، و فصل قضاياهم بما يرفع الظلم و البغي عن ضعفائهم، إذا حاوله كبراؤهم و أقوياؤهم (1)، و ذلك لا يتم على الوجه المطلوب إلا إذا وضع نفسه قريبا منهم في كل آن، قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (2)، فأخبره أنه جعله خليفة في الأرض و أمره بالحكم بين الناس و الفصل في قضاياهم بالحق، و النبوة تعود الملك و تحرسه عن أن تندبه مطالب الدنيا عن سبيل الحق و العدل، و تسلك به مسالك الطهر و التزام الهدى (3).

على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الخطأ الذي وقع من داود أنه سمع

ص: 42


1- جاء في بعض الآثار «السلطان ظل اللّه في أرضه»، و قال الخليفة عثمان بن عفان: «إن اللّه ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» البداية و النهاية: 2/ 10.
2- سورة ص آية: 26.
3- عويد المطرفي المرجع السابق ص: 53- 54.

أحد الخصمين و هو صاحب النعجة الواحدة، و لم يسمع حجة الخصم الآخر و هو صاحب التسع و التسعين نعجة، و تسرع من أجل ذلك في الحكم دون أن يمعن النظر و يرى حجة الخصم الآخر، و من أجل ذلك استغفر ربه من هذا الخطأ الذي وقع فيه نتيجة السهو، و هو خطأ لا يتنافى مع العصمة (1)، و لعل عذر داود عليه السلام، أن القضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل، و من ثم اندفع داود يقضي على أثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة، و لم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا، و لم يطلب إليه بيانا، و لم يسمع له حجة، و لكنه مضى يحكم «قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم»، و يبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان فقد كانا ملكين جاء للامتحان امتحان النبي الملك الذي ولاه اللّه أمر الناس ليقضي بينهم بالحق و العدل، و ليتبين الحق قبل إصدار الحكم، و قد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة، و لكن القاضي عليه ألا يستثار، و عليه ألا يتعجل، و عليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله و حجته، فقد يتغير وجه المسألة كله أو بعضه، و ينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعا أو كاذبا أو ناقضا، و عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء، «و ظن داود إنما فتناه»، و هنا أدركته طبيعته إنه أواب «فاستغفر ربه و خر راكعا و أناب» (2).

على أن بعض كتب التفسير قد خاضت مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضا كبيرا تتنزه عنه طبيعة النبوة، و لا يتفق إطلاقا مع حقيقتها، حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطا، و هي لا

ص: 43


1- محمد الطيب النجار المرجع السابق ص: 39.
2- في ظلال القرآن: 5/ 3018.

تصلح للنظر من الأساس، و لا تتفق مع قول اللّه تعالى: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ، كما أن التعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة، و يحدد التوجيه المقصود بها من اللّه لعبده الذي ولاه القضاء و الحكم بين الناس يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ، فهي الخلافة في الأرض، و الحكم بين الناس و عدم اتباع الهوى، و اتباع الهوى، فيما يختص بنبي، هو السير مع الانفعال الأول، و عدم التريث و التثبت و التبيّن مما ينتهي إلى الاستطراد فيه إلى الضلال، أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل اللّه، و هو نسيان اللّه و التعرض للعذاب الشديد يوم الحساب (1).

على أن بعض المفسرين و المؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم، فذهبوا إلى أن هذين الخصمين اللذين تسوّرا المحراب على داود عليه السلام، إنما هما ملكان أرسلهما اللّه تعالى إليه لينتبه إلى خطئه من محاولة ضم امرأة «أوريا» إليه، و عنده تسع و تسعون امرأة، و من ثم فهم يرون أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فتزوجها إذا أعجبته، و كان لهم عادة في المواساة بذلك، و كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن داود عليه السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها، فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها، و هي أم سليمان، فقيل له إنك، مع عظم منزلتك و كثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها لك، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك و قهر نفسك و الصبر على ما امتحنت به، على أن رواية

ص: 44


1- في ظلال القرآن 5/ 3018.

أخرى تذهب إلى أوريا خطب تلك المرأة، ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه (1)، على أن هناك رواية ثالثة تذهب إلى أن خطئه داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا، فتمنى أن تكون له حلالا، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل، فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره (2).

على أن هناك رواية رابعة اندفعت في هذه الحماقة، جريا وراء إسرائيليات باطلة، و قد نسي أصحابها ما في هذا الصنيع من إلصاق تهمة شنيعة برسول كريم، و نبي جليل، تقول هذه الرواية أنه بينما كان داود عليه السلام في خلوة عباده، جاءه الشيطان و قد تمثل في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه و هو يصلي، فمدّ يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، فزاده ذلك فيها رغبة (و في رواية أخرى، فما زال يتبع الحمامة حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها و حسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك أيضا إعجابا بها، فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا غائبا بمسلحة كذا و كذا، فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أوريا (أهريا) إلى عدو كذا و كذا، فبعثه ففتح له، ثم بعثه إلى أخرى حتى قتل في الثالثة، و تزوج داود امرأته (3)، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث اللّه ملكين في ).

ص: 45


1- تفسير النسفي 4/ 37- 38، تفسير البيضاوي 5/ 17- 19.
2- الكامل لابن الأثير 1/ 126.
3- قال مقاتل بلغنا أنها أم سليمان (تاريخ الطبري 1/ 482) و قال ابن كثير: و كانت لداود مائة امرأة، منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة (البداية و النهاية 2/ 15).

صورة إنسيّين، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، ففزع منهما فقالا: لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط، قال قصا على قصتكما، فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فهو يريد أن يأخذها ليكمل بها نعاجه مائة، فقال للآخر ما تقول، فقال إن لي تسعا و تسعين نعجة، و لأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة، قال: و هو كاره، قال و هو كاره، قال: إذا لا ندعك و ذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر، قال: إن ذهبت تروم ذلك ضربنا مئات هذا و هذا (الأنف و الجبهة) فقال يا داود، أنت حق أن يضرب منك هذا و هذا حيث لك تسع و تسعون امرأة، و لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل، و تزوجت امرأته، قال فنظر فلم ير شيئا، فعرف ما وقع فيه، و ما ابتلى به، فخر ساجدا فبكى، فمكث يبكى ساجدا أربعين يوما، لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، حتى أوحى اللّه إليه بعد أربعين يوما، يا داود: ارفع رأسك فقد غفرت لك ...» (1).

و قريب من هذا ما رواه السيوطي في الدر المنثور، و خلاصته أن داود عليه السلام أمر في يوم عبادته ألا يدخل عليه أحد، و بينما هو يقرأ في الزبور، إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير من كل لون، و لما حاول داود عليه السلام الإمساك به طار منه على كوة المحراب، و لما أراد مرة ثانية الإمساك به طار خارج الحجرة، فنظر داود ليراه أي ذهب فإذا به يرى امرأة تستحم عارية، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت كل جسدها، فأرسل إليها و عند ما جاءت علم منها أنها امرأة رجل محارب يدعى أوريا، فأرسل إلى قائد الجيش أن يجعل أوريا من حملة التابوت، الذين كانوا في مقدمة

ص: 46


1- في تاريخ الطبري 1/ 479- 481، و انظر روايات أخرى في: تاريخ الطبري 1/ 481- 484، الكامل لابن الأثير 1/ 125- 126، تاريخ اليعقوبي 1/ 52- 53.

الجيش، و كان من يوضع أمامه لا يرجع حتى يقتل، و لما قتل زوجها و انقضت عدتها خطبها داود لنفسه، و لكنها اشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده، و كتبت بذلك كتابا أشهدت عليه خمسة من بني إسرائيل، و قد أنجبت له سليمان، فإنما شبّ تسوّر عليه الملكان المحراب، فكان شأنهما ما قص اللّه في كتابه، و خر داود ساجدا، فغفر اللّه له و تاب عليه (1).

و هكذا تابع بعض المؤرخين و المفسرين رواية توراة اليهود المتداولة اليوم، إلى حد ما، حين صورت النبي الأواب الذي آتاه اللّه الحكمة و فصل الخطاب، و هو يتمشى فوق سطح قصره، فيرى امرأة رائعة الجمال، و هي تستحم عارية، فيسأل عنها بعضا من بطانته، و يعرف أنها «بتشبع» امرأة أوريا الحثي، فيرسل إليها من يأتيه بها، ثم ينال منها وطره، و هي مطهرة من طمثها، و سرعان ما تحبل المرأة من فورها، و حين تتأكد من حملها تخبر داود بالأمر، فيرسل إلى زوجها يستدعيه من ميدان القتال، حتى إذا ما ظهر الحمل بعد ذلك على المرأة ظن الناس أنه من زوجها، غير أن أوريا يأبى أن يدخل على امراته، و يصر على العودة إلى ميدان القتال، و من ثم يأمر داود بأن يوضع أوريا في وجه العدو، و أن له مثلا برجل يملك نعجة واحدة، و آخر يملك غنما و بقرا كثيرا، ثم جاء للغني ضيف فأخذ نعجة الرجل الفقير، و هيأ منها طعاما لضيفه، فحكم داود بأن يقتل الرجل الفاعل ذلك، و يرد النعجة أربعة أضعاف فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل (2).

و هكذا تنتهي رواية العهد القديم الكذوب عند هذا الحد المحزن، فهل كان النبي الأواب كذلك؟ و هل هذا الاتهام يتجسم مع ما هو معروف عن

ص: 47


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 300- 306.
2- صموئيل الثاني 11/ 1- 27، 12/ 1- 25، و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 203- 205.

داود عليه السلام، من خلق كريم منذ حداثة سنه؟ و هل من البر أن يخون الإنسان، أي إنسان، رجالا في أعراضهم في وقت تدق فيه الحرب طبولها، إنه التناقض إذن، و هو لحن يميز اليهود عن سائر البشر، و لا بأس على الذين يقتلون الأنبياء بغير حق (1)، أن يدمروا سمعه من لم يقتلوهم أيضا بغير حق، و كم من حوادث رهيبة تسجلها التوراة من هذا النوع دون تعقيب عليها، مع أن أحداثها تدور في بيوت الأنبياء (2).

و من عجب أننا نقرأ في سفر صموئيل الثاني، نفس السفر الذي روي القصة الكذوب، نقرأ على لسان داود عليه السلام «يكافئني الرب حسب بري، حسب طهارة يدي، يرد علي، لأنني حفظت طرق الرب، و لم أعصي إلهي، لأن جميع أحكامه أمامي و فرائضه لا أحيد عنها، و أكون كاملا لديه، و أتحفظ من إثمي، فيرد الرب على كبرى، و كطهارتي أمام عينيه» (3)، هذا فضلا عن نصوص أخرى من التوراة نفسها تصف داود عليه السلام، و كأنه يعمل المستقيم في عيني الرب، و أنه الأسوة الحسنة لغيره (4)، و أنه كان «يجري قضاء و عدلا لكل شعبة» (5)، و أن الرب كان معه حيث توجه (6)، لأنه

ص: 48


1- انظر: سورة البقرة: آية 61، 87، 91، آل عمران: آية 112، المائدة: آية 70، و انظر: تفسير الطبري 2/ 139- 142، 323- 324، 350- 354، 7/ 116- 118، 10/ 447، تفسير ابن كثير 1/ 145- 147، 175- 179، 2/ 77- 86، 3/ 148، تفسير المنار 1/ 273- 276، 311، 317- 318.
2- تكوين 12/ 14- 20، 19/ 30- 38، 20/ 1- 18، 26/ 1- 11، 34/ 1- 30، 35/ 22، 38/ 306، صموئيل ثان 13/ 1- 39، 15/ 1- 16/ 23، و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الكتاب الثالث- التوراة و الأنبياء ص 162- 218.
3- صموئيل ثان 22/ 21- 25.
4- ملوك أول 11/ 38، 15/ 3، ملوك ثان 18/ 3، هوشع 3/ 5.
5- صموئيل ثان 8/ 15.
6- ملوك أول 3/ 3- 6.

كان يسير أمام الرب بأمانة و بر و استقامة، و أنه كان يحفظ فرائضه و وصاياه و يسلك طريقه (1)، و أنه كان الناقل لشريعة الرب لشعبه إسرائيل (2)، هذا إلى أن التوراة إنما تشير بوضوح إلى أن الرب إنما قد اصطفى من شعبه إسرائيل سبط يهودا، و من سبط يهودا بيت داود، ثم اصطفى من بيت داود، داود نفسه، و من أولاد داود ولده سليمان (3)، هذا إلى أن داود عليه السلام إنما هو صاحب المزامير المشهورة في التوراة، و أخيرا فهو، في مقام النبوة عند بني إسرائيل، إنما يأتي مباشرة بعد إبراهيم و موسى عليهما السلام (4).

و أما في القرآن الكريم، فقد وصف داود عليه السلام بأنه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (5)، وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ (6)، وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (7)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (8) وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (9)، وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (10)، و في هذه

ص: 49


1- ملوك أول 3/ 14.
2- إشعياء 55/ 3- 6.
3- أخبار أيام أول 28/ 4- 5.
4- محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 203- 210.
5- سورة ص: آية 30.
6- سورة البقرة: آية 251. و انظر: تفسير الطبري 5/ 371- 372، تفسير المنار 2/ 392- 393، تفسير روح المعاني 2/ 173- 174، الدر المنثور 1/ 319، تفسير الطبرسي 2/ 291- 292، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 230، تفسير ابن كثير 1/ 447، تفسير الكشاف 1/ 296.
7- سورة النساء: آية 163.
8- سورة النمل: آية 15.
9- سورة سبأ: آية 10- 11.
10- سورة ص: آية 17.

الآية يذكر اللّه تعالى عن عبده و رسوله داود عليه الصلاة و السلام أنه كان ذا أيد، و الأيد: القوة في العلم و العمل، قال ابن عباس: الأيد القوة، و قال مجاهد: الأيد القوة في الطاعة، و قال قتادة: أعطى داود عليه السلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام، و قد ذكر لنا أنه عليه السلام كان يقوم ثلث الليل، و يصوم نصف الدهر، و هذا ثابت في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:

«أحب الصلاة إلى اللّه تعالى صلاة داود، و أحب الصيام إلى اللّه عز و جل صيام داود، كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه، و كان يصوم يوما و يفطر يوما، و لا يفر إذا لاقى»، و إنه كان أوابا، و هو الرجاع إلى اللّه عز و جل في جميع أموره و شئونه (1).

و انطلاقا من كل هذا، فالقصة التوراتية و ما سار على نهجها من قصص، عن علاقة داود عليه السلام، بزوجة «أوريا» الحشي، لا يتصور صدق وقائعها من رجل عادي ذي خلق، و فضلا عن نبي كريم و رسول جليل، و من هنا فقد أخطأ بعض المفسرين خطأ كبيرا، إذ فسروا ما جاء في سورة ص عن الخصمين اللذين اختصما إليه على نحو قريب مما جاء في التوراة (2)، مع أن العبارة التي ذكرت بها القصة في القرآن لا تدل على شي ء من ذلك، و من هنا فقد ختمت هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ، و بدهي أنه لا يمكن أن تكون الزلفى و حسن المآب للزناة القتلة، و من هنا رأينا السّدى يروي عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، كرم اللّه وجهه في الجنة، أنه قال: «لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين و مائة»، لأن حد قاذف الناس ثمانون، و حد قاذف الأنبياء ستون و مائة، و في رواية النسفي

ص: 50


1- تفسير ابن كثير 4/ 45- 46، تفسير النسفي 4/ 36.
2- انظر: تفسير مقاتل 3/ 1266- 1268.

قال الإمام علي «من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة و ستين»، و هو حد الفرية على الأنبياء، بل إن ابن العربي يرى أن من قال إن نبيّا زنى فقد كفر (1)، كما أنكرت جمهرة المفسرين هذه التهمة الكذوب بالإجماع، كما أن أحدا على الإطلاق لم يقل بأن النبي المعصوم قد قارف من تلك المرأة محرما (2).

و روى النسفي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز، و عنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به و قال: إن كانت القصة على ما في كتاب اللّه فما ينبغي أن يلتمس خلافها، و أعظم بأن يقال غير ذلك، و إن كانت على ما ذكرت و كف اللّه عنها سترا على نبيّه، فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر:

لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، و قال النسفي:

و الذي يدل عليه المثل الذي ضربه اللّه بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، و إنما جاءت على طريق التمثيل و التعريض دون التصريح لكونهما أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه و أشد تمكنا من قلبه و أعظم أثرا فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة (3).

ص: 51


1- تفسير القرطبي ص 5625- 5626، على عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام- القاهرة 1964 ص 43- 44.
2- انظر: تفسير ابن كثير 4/ 47- 50، تفسير البحر المحيط 7/ 393، تفسير القاسمي 14/ 5089- 5090، تفسير البيضاوي 2/ 107- 110، تفسير الفخر الرازي 26/ 188- 198، تفسير القرطبي 15/ 166، الدر المنثور 5/ 300- 306، الإكليل للسيوطي ص 185، ابن خرم: المرجع السابق 4/ 18، تفسير النسفي 4/ 37- 39.
3- تفسير النسفي 4/ 38.

ص: 52

الفصل الثّالث داود- ملك بني إسرائيل
1- داود فيما قبل الملكية:

تروي التوراة أن داود كان حامل سلاح شاؤل (طالوت)، كما كان طلق اللسان فصيحا، خفيف الروح، شجاعا بل مقاتلا جبارا، و داود بن يس من سبط يهوذا، موطنه بيت لحم، و نسبه ينتهي إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و قد أرسله اللّه حين غضب على شاؤل ليكون ملكا على إسرائيل، مختارا إياه من بين أولاد يس الستة على رأي، و السبعة على رأي آخر، بل و الثلاثة عشر، فيما تروي المصادر العربية، و كان أشقر مع حلاوة العينين، و حسن المنظر، و في المصادر العربية عن وهب بن منبه كان قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب نقيّه (1)، و كان قبل اشتراكه في الحرب ضد جالوت و قومه مكلفا بالعناية بأغنام أبيه، و قد أظهر في القيام بهذه المهمة إخلاصا نادرا، و شجاعة فائقة فقد قتل أسدا و دبّا هاجما القطيع (2)، و قد جاء في تاريخ الطبري أنه أتى أباه ذات يوم فقال يا أبتاه: ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرمته، قال أبشر يا بني إن اللّه جعل رزقك

ص: 53


1- صموئيل أول 16/ 1- 17/ 12، أخبار أيام أول 2/ 15، تاريخ الطبري 1/ 472، 476، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 10، الكامل لابن الأثير 1/ 123.
2- صموئيل أول 17/ 34- 36.

في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه و أخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه اللّه، و كان داود راعيا، و كان أبوه خلّفه يأتي إلى أبيه و إلى أخوته بالطعام (1).

و قد بدأ نجم داود يسطع بين قبائل بني إسرائيل منذ أن قتل جالوت، فقرّت به عين الملك، و وعده بأن يزوجه، ابنته الكبرى «ميرب» و لكنه زوجها إلى «عدريئيل المحولي» و لما أحبته أختها «ميكال» وعده بها على أن يمهره إياها مائة غلفة من الفلسطينيين (2)، و لكن يبدو أن الشعبية التي اكتسبها داود قد جعلت الملك يعدل عن الإصهار إليه، و إن كانت الرواية العربية تذهب إلى أن طالوت رجع فأنكح داود ابنته، و أجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود و أحبوه (3)، و من ثم فقد بدأ طالوت يخاف داود «و صار شاؤل (طالوت) عدوا لداود لكل الأيام» (4) بل «و كلم، شارل يوناثان ابنه و جميع عبيده أن يقتلوا داود»، و لكنه سرعان ما يعفو عنه نتيجة توسلات ولده يوناثان، صديق داود، غير أنه سرعان ما يغير رأيه مرة أخرى و يفكر في قتل داود، فيطعنه بالرمح و لكنه يخطئه، فيفر داود من أمامه، فيزداد غضب طالوت، و تتأجج نار الغيرة في صدره فيرسل إلى داود من يقتله في بيته «فأخبرت داود ميكال امرأته قائلة إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تقتل غدا، فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربا و نجا»، و وضعت في مكانه على الفراش الترافيم و لبدة المغري و غطته بثوب (5)، و في الرواية

ص: 54


1- تاريخ الطبري 1/ 472، تاريخ ابن الأثير 1/ 123.
2- صموئيل أول 18/ 7- 29.
3- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
4- صموئيل أول 18/ 29.
5- صموئيل أول 19/ 1- 17.

العربية أن داود لما علم أن طالوت يريد قتله، جعل في مضجعه زقّ خمر و سجاه، و دخل طالوت إلى منام داود، و قد هرب داود، فضرب الزق ضربة خرقة فوقعت قطرة من الخمر في فيه فقال: يرحم اللّه داود ما كان أكثر شربه الخمر (1)، فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئا، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه و حراسه، ثم إن داود أتاه من المقابلة في بيته و هو نائم، فوضع سهمين عند رأسه و عند رجليه، فلما استيقظ طالوت بصر السهام فقال: يرحم اللّه داود هو خير منى، ظفرت به و أردت قتله و ظفر بي فكف عني، و أذكى عليه العيون فلم يظفروا به، و ركب طالوت يوما فرأى داود فركض في إثره، فهرب داود منه و اختفى في غار في الجبل (2).

و هكذا اضطر داود للفرار من مكان إلى آخر، معرضا حياته للخطر، و مع ذلك فلم يذهب إلى موطنه في بيت لحم (5 أميال جنوب القدس) و إنما ذهب إلى صموئيل النبي في الرامة (رامة اللّه) و من هناك إلى «نوب» (مدينة الكهنة) حيث يعيش «أخيمالك» الكاهن، الذي دفع حياته، و كذا مدينته بما فيها من رجال و نساء و أطفال و ماشية، ثمنا لإيوائه داود (3)، و هكذا ضيق طالوت الخناق على داود، حتى اضطره أن يودع أباه و أمه عند ملك مؤاب، و أن يلجأ هو إلى ملك «جت» الفلسطيني، و حين لم يأمن مكره، لجأ هو، إلى مغارة «عدلام» حيث جمع هناك من حوله أربعمائة رجل من مريدية (4).

ص: 55


1- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
2- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
3- صموئيل أول 19/ 18- 22/ 23، قارن: تاريخ الطبري 1/ 273، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
4- صموئيل أول 21/ 10- 15، 22/ 1- 5، و انظر: محمد بيرمي مهران: إسرائيل 2/ 697- 701.
2- اختيار داود ملكا على يهوذا:

سرت الأنباء من كل أرجاء البلاد، كما تسري النار في الهشيم، بأن طالوت قد مات، و أن أولاده الثلاثة (يوناثان و أبيناداب و ملكيشوع) لقوا نفس المصير، و أن الإسرائيليين قد هزموا شر هزيمة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام 1000 ق. م) و أن البلاد قد عادت مرة أخرى تحت النيّر الفلسطيني (1)، و قد أدى ذلك إلى قيام صراع مرير بين القبائل الإسرائيلية على السلطة، خاصة و أن صموئيل النبي كان قد مسح داود أثناء حياته خليفة لطالوت، و إن لم يناد به ملكا على إسرائيل، و في نفس الوقت كان «إيشبعل» بن شاؤل (طالوت) قد اعتبر نفسه الخليفة الشرعي لأبيه بعد وفاته، فضلا عن وفاة إخوته الكبار، و كان يسانده في ذلك «أبنير» قائد جيش أبيه، و أحد أمراء بيته، و من ثم فقد نودي به ملكا في «محانيم» (شمالي عجلون بميلين) عاصمة منطقة أفرايم في أرض جلعاد، جنوب يبوق، حيث ذكرى أعمال أبيه شاؤل الجرئية منذ سنوات مضت ما تزال باقية هناك، و على أية حال، فقد شملت ملكية إيشبعل مناطق غير محددة لقبائل الجبال في شرق الأردن و في الجليل و السامرة، و قد أطلق إيشبعل على نفسه، كما فعل أبوه من قبل، لقب، «ملك إسرائيل» و أدعى أنه يحكم كل القبائل الإسرائيلية، و لكن بما أن القبائل الجنوبية قد انفصلت (تحت حكم داود) عن القبائل الأخرى، فإن التصور السياسي لإسرائيل تحت حكم «إيشبعل» إنما كان يشمل فقط الجزء الأكبر من القبائل فحسب (2).

و في نفس الوقت كانت يهوذا قد مسحت داود ملكا على بيت يهوذا في

ص: 56


1- . tsaE raeN eht fo yrotsiH tneicnA ehT. llaH. R. H 359. p، 1963،. III. HAC 426. p، 1965. . p. tic- po. htoN. M 180- 177. و كذا
2- . p. tic- po. htoN. M 184- 181.

حبرون (مدينة الخليل) أو ممرا (1)، و ليس هناك من شك في أن شخصية داود نفسه كان لها دور كبير في إغراء القبائل الجنوبية لاتخاذ هذه الخطوة، فقد كان لتأثيره الشخصي أثر كبير، ما في ذلك ريب، كما أنه كحامل لدرع طالوت قد جعل منه شخصا محبوبا لكل من حوله، و هو بالنسبة للقبائل الجنوبية رجل من دائرتهم، و قد برهن بنفسه، بعد انفصاله عن طالوت، أنه بالتأكيد رجل من القبائل الجنوبية، و إن كان النظام الملكي قد انتهى سريعا، فإن طالوت هو الملام لفشله، و قد ساهم المركز الخاص و الثابت للقبائل الجنوبية بدور أساسي في الموقف دون شك، و قد استغل داود هذا الموقف لصالحه، كما كانت شخصية داود و علاقاته و حاشيته الحربية، هي الأساس في تنصيبه ملكا على كل بيت يهوذا، هذا فضلا عن أن رجال الدين كانوا موالين له، كما أن اختيار النبي صموئيل له من قبل، قد لاقى قبولا حسنا من غالبية القوم (2).

و أما الفلسطينيون، أعداء بني إسرائيل، فكانوا يرقبون الموقف عن كثب، و كان يهمهم في الدرجة الأولى أن تظل فلسطين تحت سيادتهم تماما، و ربما رأوا في قيام مملكتين إسرائيلين منفصلتين مما يحقق أعراضهم، بل ربما كان الفلسطينيون من وراء قيام هاتين المملكتين، الواحدة في حبرون، و على رأسها داود، و الأخرى في الشمال، و على رأسها «إيشبعل» و ربما كانت هذه المملكة الشمالية تحت السيادة الفلسطينية، و في كل الحالات فإن الوضع الجديد كان في مصلحة الفلسطينيين الذين ما كانوا أبدا بكارهين أن يروا أعداءهم الإسرائيليين ضعافا عن طريق الانقسام الداخلي (3)،

ص: 57


1- صموئيل ثان 2/ 4.
2- , egdirbmaC, III. HAC, llaH. R. H 427. p، 1965. و كذا. p, tic- po, htoN. M 183- 182.
3- , dnoL, dnaL yloH eht ni ygoloeahcrA, noyneK. M. K 240. p، 1970. كذا, aidedpolcycnE hsiweJ ehT 452. p، 1903.

و الذي يقضي بالتأكيد على تحالف القبائل الاثني عشر، كوحدة سياسية و حربية، خاصة و أن داود، و من ورائه القبائل الجنوبية كانوا يعملون على استمرار هذا التحالف، و من هنا فقد سكت الفلسطينيون مؤقتا على ما يجري من أحداث، لأنهم لم يجدوا سببا لمساعدة طرف على آخر، كما كانوا قانعين بترك مواليهم من بني إسرائيل يحطم بعضهم البعض الآخر (1).

3- داود و توحيد إسرائيل:

كان طموح داود أعظم و أكبر من أن تكفيه منطقة ضئيلة في أقصى جنوب فلسطين، كالتي اعترفت بسلطانه، فبدأ يرنو بناظرية إلى الشمال، الذي استقل تحت حكم إيشبعل الضعيف، و كان الصدام بين الحزبين المتنافسين أمرا لا مفر منه، و هكذا بدأ داود يعد عدته سياسيا و عسكريا لاستعادة وحدة إسرائيل، و من ثم فإنه لا يكتفي بعلاقاته الودية مع القبائل الجنوبية، و لكنه يمدها إلى شرق الأردن، و من ثم فقد تزوج من ابنة ملك «جشور» الآرامي، لأن مملكته كانت مجاورة ليابيش جلعاد، حيث لجأ إيشبعل و تحصن هناك، كما أنه دخل في حلف مع ملك عمون، ليطبق كماشته على إيشبعل، و نقرأ في التوراة أن داود بدأ يتفاوض مع رجال عدوه و يدفعهم إلى الانضمام إليه، و قد أجابه كثيرون، و هكذا أصبح الموقف العام في يهوذا ضد إسرائيل، بل و بدأت يهوذا تستغل مشاكل إسرائيل لمصلحتها (2).

ثم سرعان ما لبثت يهوذا و إسرائيل، تحت حكم داود و إيشبعل، أن

ص: 58


1- . p, tic- pO, htoN. M 183. و كذا. P. tic- pO, llaH. R. H 427.
2- صموئيل ثان 2/ 8، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 706- 710، إسماعيل راجي الفاروقي: أصول الصهيونية في الدين اليهودي- القاهرة 1964 ص 44- 45، و كذا, II, HAC, kooC. A. S 373. p، 1931.

غرقتا في اشتباكات عسكرية في منطقة الحدود، و عند ما قرر «جبنير» قائد جيش إيشبعل، غزو مملكة داود الصغيرة، و ضمها لمملكة إسرائيل، فقد هزم في «جبعون» على يد «يوآب» قائد جيش داود (1)، و قد كشفت البعثات الأمريكية عام 1956 م أسوار مدينة «جبعون» (7 أميال شمالي القدس)، كما اكتشفت كذلك مشهد المعركة الدموية في تلك الأيام الخوالي من بداية الألف الأولى قبل الميلاد، و طبقا لرواية التوراة، فلقد حدث قتال عنيف في هذه البقعة يدا بيد بين أعوان المتنافسين (2)، و سرعان ما قتل إيشبعل، و خلص حكم بني إسرائيل لداود وحده، و دانت له الأسباط جميعا (3) و جاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك، إلى حبرون، فقطع الملك داود معهم عهدا في حبرون أمام الرب، و مسحوا داود ملكا على إسرائيل، و كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين و ستة أشهر، و في أورشليم ملك ثلاثا و ثلاثين سنة على جميع إسرائيل و يهوذا» (4)، و قد أشرنا من قبل إلى الآراء المختلفة التي دارت حول تحديد الفترة التي حكم فيها داود عليه السلام، و ارتضينا أن نأخذ بما ذهب إليه «وليم أولبرايت» من أنها في الفترة (100- 960 ق. م) (5).

4- داود و الفلسطينيون:

لم يتقبل الفلسطينيون عن رضى اتحاد قوى اليهودية و إسرائيل في دولة

ص: 59


1- . P, tic- pO, relleK. W 188.
2- صموئيل ثان 2/ 13- 32، و كذا, AB, drahctirP. B. J 75- 62. p، 1956، 19، BMU. 26- 3. p، 1957. 21. . p. tic- pO, relleK. W 188. و كذا
3- صموئيل ثان 2/ 13- 4/ 12، و كذا. p, tic- po, htoN. M 186 و كذا, aideapolcycnE hsiweJ ehT 461. p، 4.
4- صموئيل ثان 5/ 3.
5- . p. tic- pO. thgirellA. F. W 122- 120.

واحدة، تحت زعامة داود، البطل الجديد، و من ثم فقد بدءوا يفكرون في مقاومة هذه الوحدة، التي كانت، دونما ريب، تمثل تهديدا خطيرا لسيطرتهم على فلسطين (1)، و نقرأ في التوراة «و سمع الفلسطينيون أنهم مسحوا داود ملكا على إسرائيل، فصعد جميع الفلسطينيين ليفتشوا على داود، و احتلوا وادي الرفائيين» (2) (وادي البقاع جنوب غربي القدس على الأرجح) ذلك لأن منطقة القدس هي التي تفصل المناطق التي تحتلها إسرائيل عن تلك التي تحتلها يهوذا، و بهذا قطعوا اتصال داود بالأسباط الشماليين أو على الأقبل عملوا على منع تجميع جيوش المملكتين.

و شرع داود يستعد بفرقته من الجنود المحترفين، و ربما قام بهجوم مفاجئ قرب وادي جبعون، نجح فيه في قهر الفلسطينيين تماما، و هزيمتهم باستخدام أسلوبهم الحربي، فلم يواجههم، كما فعل طالوت، بالجانب الأكبر من قواته، و إنما بفرقة من المحترفين التي ربما كانت قد عززت و تطورت أثناء حكم داود في يهوذا (3)، و كان لديهم الفهم المحترف لفن ».

ص: 60


1- .. p. tic- po, htoN. M 187.
2- صموئيل ثان 5/ 17- 18.
3- كان جيش إسرائيل على أيام داود يتكون من عنصرين هما: (1) السبا (abaS) أي أفراد الحرس الملكي، و هم جماعة من رجال القبائل الأقوياء يستدعون بصوت النفير، و برفع الأعلام أو إشعال النار على التلال، و هي قوات بدون زي موحد كان تجميعها و وضعها تحت السلاح يعتمد على الإرادة الفردية الجيدة، و كان داود يستخدمهم ضد الشعوب المجاورة في شرق الأردن، و كانوا يحملون مع التابوت إلى أرض المعركة، و من الواضح أن داود كان ينظر إلى التابوت بأهمية كبيرة، فهو إلى جانب قيمته الدينية، إنما كان يمثل تحالف القبائل الإسرائيلية جميعا.(2) الجبوريم (mirobbiG) و هي القوات الدائمة و قد تكونت نواتها الأولى من ستمائة مقاتل كانوا قد تجمعوا حول داود عند ما هرب عن طالوت، و كانوا يسمعون «رجال داود الأقوياء» و إن لم يكونوا جميعا من بني إسرائيل، بل إن معظمهم من شعوب أجنبية (و منهم أوريا الحشي) و كانوا ينتمون إلى داود شخصيا، و ليس إلى القبائل الإسرائيلية، و كانوا سلاحه في خطواته الأولى نحو عرش إسرائيل، و قد أحرز بهم انتصارات هامة، كانتصاره على الفلسطينيين و كاحتلاله «دولة المدينة أورشليم».

الحرب، و هكذا هزم داود الفلسطينين بهذا الجهاز السريع الحركة، و بمهارته المنقطعة النظير (1)، و لكن سرعان ما قام الفلسطينيون بمحاولة ثانية، بعد أن قدّروا، نتيجة للجولة السابقة، القوة و المهارة الحربية لداود، و لم يعدوا كل قوتهم لمواجهته، و من ثم فسرعان ما ظهروا في وادي رفائيم، و هزمهم داود مرة أخرى في مكان تصفه التوراة بأنه «مقابل أشجار البكا» (2)، و ربما أطبق داود بقواتهم عليهم من الشمال، من جانب دولة إسرائيل، فجأة، كاحدث من قبل، و على أية حال، فطبقا لرواية التوراة، فلقد قام داود «بضرب الفلسطينين من جبع إلى مدخل جازر» و إن ذهبت رواية أخرى إلى أنه ضربهم» من جبعون إلى جازر، مقتفيا أثرهم حتى حدود بلادهم (3).

و هكذا كتب لداود النصر المبين على أقوى أعدائه، و أكثرهم أهمية، كما كتب له نجما بعيد المدى في طردهم من المناطق الإسرائيلية بل إننا لنسمع عن حرب دقت طبولها عند «جت»، إحدى المدن الخمسة الرئيسية في الاتحاد الفلسطيني، بل و قد أصبحت مدينة «جت» فيما بعد مدينة إسرائيلية تحت حكم داود (4).

غير أن تلك الانتصارات التي حققها داود ضد الفلسطينين، كما جاءت في التوراة، لم تجعل الفلسطينين تابعين لداود سياسيا، صحيح أنها أجبرتهم على الاعتراف بسيادة داود على الجزء الأكبر من فلسطين، و لكنه صحيح كذلك أنهم بقوا في إقليمهم الصغير على ساحل البحر المتوسط، القوة

ص: 61


1- .. p, tic- pO, htoN. M 188- 187.
2- صموئيل ثان 5/ 23.
3- صموئيل ثان 5/ 25، أخبار أيام أول 14/ 16، و كذا:. p, tic- pO, htoN. M 189- 188.
4- .. p, tic- pO, sdoL A 360.

الوحيدة التي لم يقدر لداود أن يخضعها، و لعل السبب في ذلك فيما يرى بعض الباحثين، أن مصر، رغم أنها كانت تمر بفترة ضعف في تلك الآونة، قد أعطت الفلسطينيين من تأييدها، ما يمنع داود من ضمهم إلى نفوذه، بل إن السهل الساحلي الفلسطيني لم يصبح أبدا جزءا من الأملاك الإسرائيلية، هذا فضلا عن أن الفلسطينيين سرعان ما يظهرون مرة أخرى كجماعة مستقلة في القرن الثامن و السابع قبل الميلاد (1).

5- داود و مؤاب و عمون و آرام و أدوم:

كانت مؤاب أول قوة، من أعداء إسرائيل القدامى، هوجمت و هزمت و أصبحت ولاية تابعة لداود عليه السلام، و طبقا لرواية التوراة، فلقد «أصبح المؤابيون عبيدا لداود يقدمون هدايا»، و إن استمر النظام الملكي فيها قائما كما كان من قبل، مع الاعتراف بالتبعية لداود عليه السلام (2).

و كانت عمون هي القوة التالية التي ضربها داود، و لعل السبب المباشر للصدام بين داود و بنحمون إنما هو إساءة العمونيين لرسل داود الذين كانوا في مهمة ودية بمناسبة تغيير السلطة في عمون، حيث قام «حانون» ملك عمون الجديد «فأخذ عبيد داود و حلق أنصاف لحاهم و قص ثيابهم من الوسط إلى أستاههم، ثم أطلقهم» (3)، و من ثم فقد أدرك العمونيون، بعد فعلتهم هذه، أن الحرب مع بني إسرائيل أصبحت أمرا لا مفر منه، و من هنا فقد بدءوا يطلبون معونة جيرانهم الآراميين في «أرام بيت رحوب» و أرام «صوبة» و في معكة و طوب (4)، و أتى هؤلاء بحشد كامل من الرجال و المعدات لمساعدة

ص: 62


1- صموئيل ثان 5/ 17- 25 و كذا. p, tic- pO, noyneK. M. K 244. و كذا. p, tic- pO, htoN. M 194
2- صموئيل ثان 8/ 2، و كذا. p, tic- pO, htoN. M 194. و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 430
3- صموئيل ثان 10/ 1- 5.
4- انظر عن هذه الولايات الآرامية في شرق الأردن (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 539- 542).

العمونيين ضد الهجوم الإسرائيلي المرتقب، و قد نجحت قوات داود بقيادة «يؤاب» في هزيمة هؤلاء الآراميين، ثم «رجع يؤاب عن بني عمون و أتى إلى أورشليم» (1).

و يعلم «هدد عزره ملك صوبة بذلك، فيستدعي «أرام الذي في عبر النهر» إلى «حيلام» (ربما كانت عليم أو علمه في سهل حوران) و يتقدم قائده «شوبك» لملاقاة بني إسرائيل، و ينجح داود، الذي كان على رأس جيشه هذه المرة، في إحراز النصر، و في العام التالي يأمر داود قائده «يؤاب» بالاتجاه نحو عمون، و سرعان ما يحاصر يؤاب «ربة» (ربه عمون» (2)، غير أنه لا يستطيع إخضاعها، و من ثم يطلب نجدة من داود، الذي يسرع لإنقاذ قائده بنفسه، فيستولي على قلعة المدينة، و يعاقب العمونيين بقسوة، و طبقا لرواية التوراة، فإن داود أمر بحرق المغلوبين، و سلخ جلودهم و وشرهم بالمنشار، بعد أن وضعهم تحت نوارج و فئوس من حديد (و بدهي أن ذلك من تحريفات التوراة، فما كان النبي الأواب يفعل ذلك أبدا)، ثم وضع التاج العموني، بما فيه من ذهب و أحجار كريمة، على رأسه، و بعبارة أخرى، فلقد أصبح داود ملكا على عمون (3).

ثم اتجه جيش داود بعد ذلك إلى أدوم، و طبقا لرواية التوراة، «فإن يؤاب و كل إسرائيل أقاموا في أدوم ستة أشهر، حتى أفنوا كل ذكر في أدوم»، و هكذا هزمت قوات إسرائيل أدوم، و قتل «حداد الثاني»، و هو الملك الثامن

ص: 63


1- صموئيل ثان 1/ 6- 14 و كذا., nodnoL, learsI fo yrotsiH ehT, htoN. M 195. p، 1965.
2- ربة أوربة عمون: هي عاصمة العمونيين، و قد سميت في العصر الإغريقي «فيلادلفيا، نسبة إلى ملك مصر «بطليموس الثاني فيلادلفيوس» (284- 246 ق. م)، و هي في موقع تشغله حاليا عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية «عمان» حيث يوجد في اسمها جزء من اسم العمورتين (محمد بيومي مهران) إسرائيل 2/ 557).
3- صموئيل ثان 12/ 26- 31، و كذا.. p, tic- pO, htoN. M 195

من سلسلة ملوك أدوم، و لكن ولده «هدد»، و الذي ربما كانت أمه مصرية، قد استطاع الهروب إلى مصر، حيث تزوج هناك من أميرة مصرية «أخت تخفنيس الملكة»، و عاش ضيفا على فرعون إلى أن مات داود عليه السلام، حيث بدأ الأمل يعاوده في استعادة حقه الشرعي في عرش أدوم (1).

و قد نجح داود إلى حد بعيد في تنظيم أدوم، كولاية تحت إمرته، و رغم أنها كانت بعيدة نسبيا عن دولته، إلا أنها كانت مهمة بالنسبة إليه، فهي تمكنه من الوصول إلى خليج العقبة، و من ثم إلى البحر الأحمر، هذا فضلا عن أنها كانت تحتوي على كثير من الرواسب المعدنية على حدود وادي العربة، و من هنا كانت أدوم ذات أهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة إلى داود، ذلك لأن الصحراء العربية و التي تمتد من نهاية جنوب البحر الميت و حتى خليج العقبة إنما كانت غنية بمعدني النحاس و الحديد، و قد استغل داود ذلك أفضل استغلال، «و هيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب و الوصل، و نحاسا كثيرا بلا وزن» (2).

6- دولة داود و مدى اتساعها:

لا ريب في أن داود عليه السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في أن يخلص قومه الإسرائيليين من النير الفلسطيني، و في أن يحقق لهم الاستقلال التام، بل و أن يوجد لنفسه نفوذا في مؤاب و أدوم و عمون، و في أن تقدم له الهدايا- و ليس الجزي- من أرامي دمشق، و في أن يقيم علاقات المودة مع «توعي» ملك حماة، ضد عدوهما المشترك «هدد عزر» ملك الآراميين في صوبة، و مع ذلك فعلينا ألا نبالغ كثيرا في تقدير سعة مملكة داود عليه

ص: 64


1- صموئيل ثان 8/ 13، ملوك أول 11/ 14- 22، و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 431 و كذا, nodnoL, learsI dna tpygE, eirteP. F. M. W 65. p، 1925.
2- أخبار أيام أول 22/ 4، و كذا. p, tic- pO, htoN. M 196. و كذا. p, tic- pO, relleK. W 188

السلام، فنطلق عليها وصف «إمبراطورية»، كما أراد أن يصفها بعض المؤرخين المحدثين (1)، أو نبالغ في حدودها كما فعل بعض الكتاب المصريين المحدثين، فجعلها تمتد من نهر الفرات إلى البحر المتوسط، و من دمشق إلى الخليج العربي (2)، بل إن هناك من زعم، دونما أي دليل، أن داود و سليمان عليهما السلام قد أقاما دولة تشمل الشام كله، و الجزيرة العربية كلها (3)، الأمر الذي يدعونا إلى مناقشته بشي ء من التفصيل عند الحديث عن دولة سليمان عليه السلام.

و على أية حال، فربما كان تحديد الدكتور الحاخام «أبشتين» أقل مبالغة من غيره، فقد ذهب إلى أن دولة داود كانت تمتد من فينيقيا (لبنان) في الغرب، إلى حدود الصحراء العربية في الشرق، و من نهر العاص (الأورنت) في الشمال إلى خليج العقبة في الجنوب (4)، و أما التوراة فقد ذهبت إلى أن مملكة إسرائيل كانت في أقصى اتساع لها «من دان إلى بئر سبع» (5)، و من ثم فالتوراة التي اشتهرت بمبالغاتها فيما يتصل بمملكة إسرائيل، إنما تحدد لها من الشمال مدينة «دان» و تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي حيث منابع الأردن على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس (6)، و من الجنوب «بئر سبع» الحالية، و لم تشر التوراة إلى حدود لإسرائيل من الغرب أو الشرق، هذا أو قد ذهب المسعودي إلى أن ملك داود

ص: 65


1- , egdirbmaC, 2, traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 583. p، 1975.
2- علي إمام عطية: الصهيونية العالمية و أرض الميعاد ص 63.
3- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس- الرياض 1986 ص 255- 256، 259، 270.
4- , msiaduJ, nietspE, I 35. p، 1970.
5- قضاة 20/ 1، صموئيل أول 3/ 20، صموئيل ثان 24/ 15 أخبار أيام أول 21/ 2، و كذا. p, tic- pO, regnU. F. M 236.
6- قاموس الكتاب المقدس 1/ 356- 357.

إنما كان على فلسطين و الأردن، كما جاء في مروج الذهب (1/ 70).

و لعل من الجدير بالإشارة أن فينيقيا كانت- و خاصة على أيام «حيرام» (980- 936 ق. م) الذي عاصر داود و سليمان و كان ذا نشاط كبير في الاقتصاد و الفن و العمارة في إسرائيل- دولة مستقلة، و ليست هناك أية إشارة في التوراة أو الوثائق التاريخية إلى أن حيرام كان خاضعا لداود، كما أن هناك ما يشير إلى محاولة داود توطيد علاقاته بحماة من أقصى الشمال، فضلا عن الفلسطينيين في الغرب، و أن السيطرة الإسرائيلية على أيام داود لم تكتمل بالاستيلاء على كل فلسطين، و حتى الجزية، فيما يبدو، لم تكن ترسل إلى القدس، أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين الجنوبيين قد وضعوا أنفسهم، راغبين لا مكرهين، تحت حماية فراعين مصر الشماليين في تانيس، و الذين كانوا يتبعون سياسة نشطة في فلسطين في تلك الأيام، حتى إن «شيشنق، مؤسس الأسرة الثانية و العشرين، عند ما غزا يهوذا بعد موت سليمان عليه السلام، لم يذكر المدن الفلسطينية، مما يدل على أنها كانت تحت الحكم المصري من قبل» (1).

و من ثم يذهب «هربرت ويلز» إلى أن أرض الميعاد (المزعومة) لم تقع يوما- و لن تقع، في قبضة العبرانيين، هذا فضلا عن أن ما وطد ملك داود، و هيأ له شيئا من الاتساع، أن أمور مصر كانت في عهده مرتبكة، فخفت هيمنتها على فلسطين و بلاد الشام، و كانت أمور آشور مرتبكة كذلك، و قد منح هذا كله لداود عليه السلام شيئا من الحرية و النشاط و ممارسة السيادة (2).

ص: 66


1- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية- ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة ص 71، و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 431.
2- , nodnoL, yrotsiH fo eniltuo eht, slleW. G. H 279. p، 1965.

و أيا ما كان الأمر، فإن حكم داود- و كذا سليمان، عليهما السلام، إنما يمثل فترة الرخاء الوحيدة التي قدّر للشعوب العبرانية أن تعرفها على مرّ الدهور، و هي تقوم على محالفة وثيقة الأواصر مع مدينة «صور» الفينيقية التي يلوح أن ملكها «حيرام» كان رجلا قد أوتى نصيبا كبيرا من الذكاء و القدرة على المغامرة، و كان يبغي أن يكفل للتجار في البحر الأحمر طريقا آمنا عبر منطقة التلال العبرانية، و كان الأصل في التجارة الفينيقية أن تذهب إلى البحر الأحمر عن طريق مصر، بيد أن مصر كانت في تلك الفترة تمر بحالة من الفوضى، هذا و قد أنشأ حيرام أوثق العلاقات مع داود و سليمان عليهما السلام، و قد أنشئت بمساعدة حيرام أسوار أورشليم و قصرها و معبدها، و في مقابل ذلك بني حيرام سفنه على البحر الأحمر و سيّرها فيه، و أخذ سيل جسيم من التجارة يتدفق خلال أورشليم نحو الشمال و الجنوب (1)، بخاصة و أن داود عليه السلام قد سيطر تماما على طرق لقوافل القادمة من بلاد العرب الجنوبية و التي كانت تمر في مملكته عند النهاية الشمالية لخليج العقبة على الجانب الشرقي لوادي عربة، و حتى غوطة دمشق، ثم ترتبط بالطرق المؤدية إلى شمال سورية فآسيا الصغرى، و تلك التي كانت تمر بالصحراء الغربية إلى «ميزوباتاميا»، مما كان له أكبر الأثر في حالة دولة داود الاقتصادية، بل إن هناك من يذهب إلى أن حروب داود إنما كانت لهذا الغرض، على الرغم من أن المصادر المتبقية من عهده لا تعطي أهمية لذلك (2)، و هذا ما نرفضه تماما، ذلك أن داود، و إن كان ملك اليهود القدير، فهو قبل ذلك و بعده نبيّ اللّه و رسوله، و ما كان الأنبياء أبدا يحاربون من أجل أسباب اقتصادية، و إنما كانت حروبهم كلها جهادا في سبيل اللّه و نشر كلمة «لا إله إلا اللّه».

ص: 67


1- . p, dlroW eht fo yrotsiH trohsA, slleW. G. H 76.
2- . p, tic- pO, tdlefssiE. O 583.
7- وراثة العرش و الخلافات العائلية:

لم تكن هناك قاعدة عامة قد وضعت بعد لخلافة العرش في دولة إسرائيل الجديدة، و لكن مما لا شك فيه أن الابن الأكبر كان صاحب الحق في ذلك، إلا أن مكانة الأم و رغبة الملك و اختيار الشعب و الموافقات الدينية قد تكون سببا في اختيار أحد أخوته الصغار (1).

و يذهب بعض الباحثين إلى أنه ربما كانت فكرة داود عليه السلام عند ما طلب «ميكال» ابنة طالوت (شاؤل) لتكون زوجة له، إنما كان يبغي من وراء ذلك أن الابن الأكبر من هذا الزواج، تكون له الأفضلية على بقية إخوته من علات ميكال، و ربما يستطيع هذا الابن المرتقب أن يجذب إليه عواطف هؤلاء الذين كانوا يؤيدون بيت شاؤل، بصفته حفيدا لشاؤل، و لكن «لم يكن لميكال بنت شاؤل ولد إلى يوم موتها» (2)، و هكذا ضاع الأمل في أن يكون خليفته داود هو في نفس الوقت حفيد شاؤل (طالوت)، و أما بالنسبة لبقية أبناء داود فطبقا للقانون الإسرائيلي- كما قررته التوراة في سفر التثنية (3)، فإن للابن الأكبر نصيب الأسد في ميراث أبيه، بصرف النظر عن مكانة الأم بين علاتها من زوجات الأب، و من هنا كان من الطبيعي أن يخلف داود على عرش إسرائيل أكبر ولده، و لكن هنا في حالة داود عليه السلام، مؤسس الملكية و البيت المالك، فإن الابن الأكبر، الذي ولد بعد اعتلائه العرش مباشرة، ربما كانت له أفضلية خاصة، و لكن أبناء داود أنفسهم ما كانوا

ص: 68


1- . p, tic- pO, sdoL. A 364.
2- صموئيل ثان 6/ 23.
3- تثنية 21/ 5- 17، و انظر عن «البكورية» عند بني إسرائيل (تكوين 25/ 31، تثنية 21/ 17، خروج 22/ 29، قاموس الكتاب المقدس 1/ 187، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 189- 192).

يعيرون المظهر الأخير أية أهمية خاصة، و إنما كانوا يعتبرون أنفسهم جميعا خلفاء محتملين للعرش، طبقا لترتيب أعمارهم (1).

و هناك في التوراة قائمة بستة أبناء ولدوا في حبرون، أثناء فترة ملكية داود على يهوذا و هم «و كان بكره أمنون من أخينو عم اليزرعيلية، و ثانية كيلاب من أبيجايل، و الثالث أبشالوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور، و الرابع أدونيا بن جحيث، و الخامس شفطيا بن أبيطال، و السادس يثر عام من عجلة» (2)، و لكن نظرا لأن داود كانت له زوجتان، على الأقل، تعتبران أقدم من الأخريات (أخينوعم و أبيحايل)، و طبقا لرواية التوراة في صموئيل الأول (25/ 42- 43) فربما كان البعض من هؤلاء الأبناء أكبر قليلا من الآخرين، و أن القائمة السابقة كانت إضافة لإحصاء أبناء داود الذين ولدوا في أورشليم (3)، و هم طبقا لرواية صموئيل الثاني (5/ 13- 16): شموع و شوباب و ناثان و سليمان و بيجار و اليشوع و نافج و يافيع و البشمع و البداع و اليفلط».

هذا و يوصف «أمنون» صراحة في سفر صموئيل الثاني (3/ 2) بأنه ابن داود البكر، و من ثم فقد اعتبر نفسه، كما اعتبره إخوته كذلك، وليا للعهد أو الملك القادم، غير أنه لم يكن حكيما بما فيه الكفاية، كما لم يكن كريما و لا عفيفا، و طبقا لرواية التوراة في صموئيل الثاني (إصحاح 13- 14) فقد اعتدى على أخته غير الشقيقة، مما دفع أبشالوم إلى أن يثأر لعرض شقيقته «تامار» فيقتله، ثم هرب عند أخواله في جشور، و بقي هناك ثلاث سنوات (4)، و من ثم فقد أصبح كيلاب الابن الثاني لداود وليا للعهد، و لكنه ).

ص: 69


1- . p, tic- pO, htoN. M 200
2- صموئيل ثان 3/ 2- 5.
3- . p, tic- pO, htoN. M 200
4- انظر عن قصة أمنون و أخته ثامار (صموئيل ثان 13/ 1- 39، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 211- 213).

سرعان ما يختفي لسبب لا ندريه على وجه اليقين، و من ثم فقد أصبح أبشالوم الابن الثالث لداود وليا للعهد، و لكنه بدوره سرعان ما يختفي في ثورة دامية، كما سنرى، و من ثم تصبح ولاية العهد من حق الابن الرابع «أدونيا»، و لكنه لم يصل إلى العرش أبدا، حيث سيكون ذلك من نصيب سليمان، الابن العاشر كما سنشير إلى ذلك بالتفصيل فيما بعد.

8- ثورة أبشالوم:

بدأ أبشالوم يعدّ العدة لاعتلاء عرش أبيه، و كان أول ما فعله أن حصل- بمساعدة يؤاب- على عفو أبيه المطلق عن جريمته بقتل أخيه أمنون، و من ثم فقد عاد أبشالوم من جشور إلى أورشليم، و بدأ يبث الدعوة لنفسه بين المقربين إليه، ثم سرعان ما نجح في اكتساب عطف و تأييد القبائل الإسرائيلية و خاصة يهوذا قبيلة أبيه، و حين استوثق من النجاح ذهب إلى حبرون بإذن من أبيه، بحجة الوفاء بنذر كان قد نذره إبان إقامته في «جشور»، و هناك في حبرون أعلن عصيانه و نادى بنفسه ملكا على إسرائيل، و من أسف أن القوم سرعان ما انضموا إليه ضد داود، بل إن ثورة أبشالوم سرعان ما ضمت إليها «أخيتوفل» و هو واحد من مستشاري داود المقربين (1).

و تعلل بعض المصادر الإسلامية سرعة استجابة اليهود لأبشالوم، بأن قصة امرأة أوريا الحثي كانت سببا في إزالة طاعة داود عن بني إسرائيل و استخفوا بأمره و وثب عليه ابن يقال له «إيشا» و أمه ابنة طالوت، فدعى إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما تاب اللّه على داود اجتمع إليه طائفة من الناس، فحارب ابنه حتى هزمه، و وجه إليه بعض قواده

ص: 70


1- صموئيل ثان 13/ 29، 14/ 1- 3، 15/ 7- 10، ماير: حياة داود ص 362 (مترجم)، و انظر: تاريخ اليعقوبي 1/ 53.

و أمره بالرفق به و التلطف لعله يأسره و لا يقتله، و طلبه القائد و هو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزنا شديدا و تنكر لذلك القائد (1).

و يذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن القبائل الإسرائيلية ربما كانت غير راضية عن اتساع أملاك داود التي بدأت تمتد إلى ما وراء مناطقها، ذلك لأن ضم إسرائيل لعديد من المدن المستقلة ذات المستوى الحضاري المتقدم، و التي تمتلك صناعات هامة، فضلا عن سيطرتها على أراض كبيرة و غنية تمر خلالها طرق القوافل، كل ذلك أدى إلى رخاء مفاجئ في إسرائيل، تمتعت به طبقة خاصة صغيرة من رجال البلاط و كبار الموظفين و قادة الجيش و التجار، بينما لا يتمتع العامة من القوم ممن كانوا يعملون جنودا عاديين في الجيش بمثل هذا الرخاء، مما جعلهم غير راضين عن الوضع الجديد المفاجئ و يتقبلون دعاوي أبشالوم ضد أبيه (2)، أضف إلى ذلك، فيما يرى البعض، التوتر القائم بين يهوذا و إسرائيل، و الذي ظل قائما أبدا، و رغم أنه لم يكن السبب الرئيسي للثورة، إلا أنه لعب دورا هاما فيها، بخاصة و أن يهوذا حيث قامت الثورة في حبرون، بدأت تحس أن داود بدأ يفضل إسرائيل عليها (3)، و أخيرا فلعل من أسباب الثورة ذلك الاتجاه العدائي من القبائل الإسرائيلية، التي اعتادت النظام القبلي، ضد سياسة المركزية التي بدأت تسير عليها مملكة داود (4).

و مع ذلك فإن أسباب ثورة أبشالوم ما زالت تنتظر مزيدا من الوضوح،

ص: 71


1- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 127، و انظر: تاريخ الطبري 1/ 484.
2- . p, tic- pO. dlefssiE. O 586- 585 F 1 ,nehc .ruM ,anitsalaP ni netilearsI red gnudiulnetaatS eiD ,tlA .A 56. p، 1953.
3- . p, tic- pO, tdlfssiE 586.
4- . p, learsI fo noigileR dna ygoloeahcrA, thgirblA. W 158.

ذلك لأن حركة السخط التي قام بها «شبع بن بكري» من سبط بنيامين (1) (سبط طالوت) ضد داود، بعد انتصاره على ولده أبشالوم، إنما قد استمدت قوتها من المعارضة الدائمة بين قبائل الشمال و الجنوب، و رغم أن داود عليه السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في القضاء على كليهما، و أن القضاء على ثورة شبع كان أسرع من القضاء على ثورة أبشالوم، فالذي لا شك فيه أن الأمور في إسرائيل ربما كانت سوف تتغير كثيرا بسبب هاتين الثورتين، لو لا وجود شخصية داود القوية (2)، ذلك لأن التنافس بين قبائل الشمال و الجنوب كان أقوى عوامل هدم مملكة إسرائيل، و هو تنافس لم يقض عليه أبدا، بل هو نفسه الذي قضى على الدولة (3).

و أيا ما كان الأمر، فإن ثورة أبشالوم إنما كانت جد خطيرة، حتى إن داود عليه السلام لم يجد بجواره غير حرسه الخاص و حتى اضطر إلى أن يعبر الأردن إلى «محانيم» تحت حماية التابوت مع رجاله، حتى لا يفاجأ بأبشالوم و أتباعه في العاصمة أورشليم (4)، بل إن بعض المصادر العربية جعلته يلحق بأطراف الشام، بل إن الخيال ذهب بهم إلى أن يصلوا به إلى خيبر و ما إليها من بلاد الحجاز (5)، بينما ذهب آخرون إلى أن داود هرب ماشيا على رجليه حتى صعد عقبة طور سيناء، و بلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز و زيت فأكل منه، و دخل أبشالوم مدينة أبيه، و صار إلى داره و أخذ سراري أبيه فوطأهن و قال: ملكني اللّه على بني إسرائيل، و خرج معه اثنا عشر ألفا فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن (6)، و هكذا يبدو واضحا مدى ).

ص: 72


1- صموئيل ثان 20/ 1- 22.
2- . p, tic- pO, tdlefssiE. O 586.
3- سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص 141.
4- صموئيل 14115- 16/ 14.
5- تاريخ ابن خلدون 2/ 111 (بيروت 1981).
6- تاريخ اليعقوبي 1/ 53 (بيروت 1980).

اضطراب الروايات في تحديد المكان الذي لجأ إليه داود عليه السلام، فهو في رواية لجأ إلى محانيم في عبر الأردن، و هو في رواية ثانية إنما يلجأ إلى خيبر في شمال غرب الجزيرة العربية، و في رواية ثالثة صعد إلى عقبة طور سيناء، بل إن نفس الرواية سرعان ما تعكس الاتجاه و تذهب به إلى الشرق، فتعبر به الأردن، و بدهي أن اضطراب هذه الروايات إنما يقلل من قيمتها التاريخية، و يجعلها في مظان الشك و هواتف الريبة، فضلا عن الشك في القصة من أساس، و هذا ما نميل إليه و نرجحه.

و على أية حال، فإن أبشالوم، طبقا لرواية التوراة، قد استطاع أن يستولى على أورشليم، و أن يغتصب عرش أبيه بل إنه حتى لم يتورع عن أن ينتهك عرض أبيه بمشورة أخيتوفل على مرأى من الناس «فنصبوا لأبشالوم الخيمة على السطح، و دخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل» (1)، غير أن بني إسرائيل بدءوا بعد ذلك يعودون إلى داود و الانضمام إلى جيشه تدريجيا، ربما نتيجة لما بذله بعض المخلصين له من جبرون، و ربما نتيجة لغرور أبشالوم و أخطائه الكثيرة، و إصغائه للحمقى من المقربين إليه، و ما ترك ذلك من آثار سيئة في نفوس الناس.

و أيا ما كان السبب، فإن أبشالوم قد حاول بكل ما وسعته المحاولة من أن يمنع عودة أبيه إلى أورشليم، و من ثم فقد جمع أنصاره قبل تفاقم الأمر، و زحف بهم إلى شرق الأردن، حيث كان أبوه في جلعاد، و قد اجتمع إليه عدد كبير من الأنصار، و هكذا بدأ القتال في «وعر أفرايم» قرب محانيم على الأرجح، و أثبت رجال داود أنهم أعلى كعبا من رجال القبائل الإسرائيلية الذين التفوا حول أبشالوم، و دارت الدائرة على أبشالوم الذي أمر الملك بعدم قتله، «و كانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم، قتل عشرون ألفا،

ص: 73


1- صموئيل ثان 16/ 22 و انظر: تاريخ اليعقوبي 1/ 53.

و كان القتال هناك منتشرا على وجه كل الأرض، و زاد الذين أكلهم الوعر من الشعب على الذين أكلهم السيف في ذلك اليوم»، و قتل أبشالوم أثناء هروبه، على الرغم من أوامر الملك الصريحة على ملأ من الشعب بعدم قتله، و كما يقول الطبري: وجه داود في طلبه قائدا من قواده (يؤاب) و تقدم إليه أن يتوقى حتفه، و يتطلف لأسره، فطلبه القائد و هو منهزم، فاضطره إلى شجرة فركض فيها، و كان ذا جمّة، فتعلق بعض أغصان الشجرة بشعره فحبسه، و لحقه القائد فقتله مخالفا لأمر داود، فحزن عليه داود حزنا شديدا، و تنكر للقائد، و ربما طبقا لرواية التوراة أن رجلا رأى أبشالوم معلقا من رأسه في شجرة كبيرة ملتفة الأغصان فأخبر القائد يؤاب الذي أمره بقتل أبشالوم على أن يعطيه عشرة من الفضة و منطقة، لكن الرجل رفض أن يقتل ابن الملك، بعد أن سمع الملك يوصي بعدم قتله، و لو أعطاه ألفا من الفضة، و من ثم فقد تقدم يؤاب «و أخذ ثلاثة سهام بيده و نشبها في قلب أبشالوم، و هو بعد حي في قلب البطمة، و أحاط بها عشرة غلمان حاملوا سلاح يؤاب و ضربوا أبشالوم و أماتوه»، و قد أدى ذلك كله إلى حزن داود المرير على ولده، حتى «صعد إلى علية الباب و كان يبكي و يقول، و هو يتمشى، يا ابني يا أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم، يا ليتني مت عوضا عنك يا أبشالوم ابني يا ابني»، و هكذا لم يعد أمام القبائل الإسرائيلية سوى المناداة بداود ملكا عليها مرة ثانية (1).

9- التعداد العام و نتائجه:

تروي التوراة أن رب إسرائيل غضب على شعبه إسرائيل «فأهاج عليهم داود قائلا: امض و احص إسرائيل و يهوذا، فقال الملك ليؤاب رئيس الجيش الذي عنده: طف في جميع أسباط إسرائيل من دان إلى بئر سبع

ص: 74


1- صموئيل ثان 18/ 1- 19/ 41، تاريخ الطبري 1/ 484، تاريخ ابن خلدون 1/ 111، تاريخ اليعقوبي 1/ 53، الكامل لابن الأثير 1/ 127.

و عدوا الشعب فاعلم عدد الشعب»، و يقوم يوآب بالمهمة التي تستغرق ستة أشهر و عشرين يوما. «و كان إسرائيل ثمان مائة ألف بأس مستل السيف، و رجال يهوذا خمس مائة ألف رجل»، غير أن رب إسرائيل سرعان ما يرسل جاد النبي ليخيّر داود بين «سبع سني جوع في أرضك، أم تهرب ثلاثة أشهر بين أعدائك، أم يكون ثلاثة أيام وباء في أرضك»، و يترك داود الخيرة لربه «الذي يجعل وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع، سبعون ألف رجل، و بسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب (1) عن الشر، و قال للملاك المهلك للشعب كفى، الآن رويدك» (2).

و من عجب أن التوراة لم تقدم لنا هنا سببا مقنعا لغضب يهوه على شعبه، و إن أشارت أن ذلك إنما كان بسبب خطايا داود، و من ثم فهو يقول، ملتمسا عفو ربه و رحمته بشعبه «ها أنا أخطأت، و أنا أذنبت، و أما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا؟ فلتكن يدك على و على بيت أبي»، ثم تعود مرة أخرى فتروي نفس الرواية، و لكنها تقدم أرقاما للإحصاء تختلف عن المرة الأولى «فإسرائيل كان ألف و مائة ألف رجل مستلى السيف، و يهوذ أربع مائة و سبعين ألف رجل مستلى السيف»، هذا بخلاف سبطي لاوي و بنيامين (3)، و التعارض هنا بين نصوص التوراة ليس أمرا جديدا علينا فنظائره كثيرة.

ص: 75


1- من المؤلم أن توراة اليهود، و ليست توراة موسى، كثيرا ما تصور يهوه (اللّه) ليس معصوما، و أنه كثيرا ما يقع في الخطأ ثم يندم على خطئه، حدث ذلك عند ما فكر في إهلاك اليهود عن بكرة أبيهم، مما اضطر موسى إلى أن ينصحه فينتصح، ثم هناك ندمه على اختيار شاؤل (طالوت) ملكا، غير أن أشنع أخطائه خلقه الإنسان، ثم ندم على ذلك (انظر: تكوين 6/ 6، خروج 12/ 14، 32/ 10، صموئيل أول 15/ 11، إرميا 18/ 7- 10، عاموس 7/ 1- 6، يونان 3/ 9- 10، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 12- 14).
2- صموئيل ثان 24/ 1- 17.
3- أخبار أيام أول 21/ 5- 6، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 738- 740.

و على أي حال، فإن التوراة تجعل التعداد الذي قام به داود، بأمر من رب إسرائيل، سببا من البلايا التي أنزلها رب إسرائيل بإسرائيل، و إن كنا لا ندري لم يغضب رب إسرائيل من قيام ملك إسرائيل بهذا التعداد، الذي تقوم به شعوب كثيرة (1)، حتى يفرض عليه واحدة من بلايا ثلاثة: أقلها و باء يروح ضحيته سبعون ألف رجل، غير أن الإمام الطبري يروي عن «وهب بن منبه» أن سبب غضب الرب أن داود فعل ذلك دون أمر من ربه، فعتب اللّه عليه ذلك و قال: قد علمت أني و عدت إبراهيم أن أبارك فيه و في ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء، و أجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم عدد ما قلت، إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين أو أسلط عليكم العد ثلاثة أشهر أو الموت ثلاثة أيام، فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبرا، و لا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإذا كان لا بد فالموت بيده لا بيد غيره، فذكر وهب أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كثيرة، لا يدري ما عددهم، فلما رأى داود ذلك شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى اللّه و دعاه فقال: يا رب أنا آكل الحماض (أي ما في جوف الأترجة) و بنو إسرائيل يضرسون، أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شي ء فبى، و اعف عن بني إسرائيل، فاستجاب اللّه لهم و رفع عنهم الموت» (2).

و الغريب في هذه الرواية أنها تناقض رواية التوراة في أمور، منها أن التعداد هنا كان بأمر داود، مع أن رواية التوراة صريحة في أن الذي أمر

ص: 76


1- لعل أول شعوب العالم التي قامت بعمل تعداد عام إنما هم المصريون، و قد قام به الملك «دن» (و ديمو» رابع ملوك الأسرة الأولى الفرعونية، و ذلك قبل عام 3000 ق. م، و لأول مرة في التاريخ، و بالمناسبة فإن آخر تعداد تم في مصر كان في نوفمبر عام 1986، و بلغ سكان مصر أكثر من 50 مليون.
2- تاريخ الطبري 1/ 485، و انظر تاريخ اليعقوبي 1/ 55- 56، تاريخ ابن خلدون 1/ 111.

بالتعداد إنما هو رب داود، و ليس داود، و منها أن بني إسرائيل هنا هم الذين اختاروا الموت عقابا لهم، و في رواية التوراة أن داود ترك الخيّرة لأمر ربه، فاختار لهم الموت، و منها أن عدد القتلى هنا غير معروف و إن كان ألوفا كثيرة، مع أنه في رواية التوراة قد حدد بسبعين ألفا، و منها أن داود اعتذر هنا بأنه يأكل الحماض و بنو إسرائيل يضرسون، و في رواية التوراة اعتراف صريح «ها أنا أخطأت و أنا أذنبت، و أما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا» و الأعجب أننا ما ندري لوهب بن منبه مصدرا في روايته هذه غير التوراة، و لم يقل لنا الإمام الطبري، أو وهب بن منبه، عن مصدر آخر غير التوراة اعتمد عليه في روايته هذه، فما بالك و التوراة نفسها موضع شك كبير.

10- وفاة داود عليه السلام:

و تنتهي أيام داود، النبي الأواب، في هذه الدنيا، و ينتقل عليه السلام إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه من ربه الكريم، «و اضطجع داود مع آبائه و دفن في مدينة داود»، و في الواقع فإن دفن النبي الأواب في مدينة أورشليم (1) (مدينة داود) لأمر غريب، ذلك لأن هناك عبارة طالما تكررت في التوراة، و هي أن فلانا قد انضم إلى قومه» أو «انضم إلى آبائه» (2)، و ربما لا تعدو أن تكون إشارة إلى عقيدة القوم في أن الموتى من أسرة ما، يجب أن يدفنوا في مكان واحد، ليبقوا كما كانوا على قيد الحياة (3)، و من هنا فقد كان من المنتظر أن يدفن داود في مقابر أسرته في «بيت لحم»، و هو الحريص على التقاليد، و التي يستطيع قارئ التوراة أن يقدم الكثير من الأدلة عليها، بل إن داود لينقل عظام شاؤل، و كذا ولديه، من يابيش

ص: 77


1- يذهب ابن خلدون في تاريخه (1/ 112) إلى أن داود دفن في بيت لحم.
2- تكوين 25/ 8، قضاة 2/ 1.
3- , SENJ, nipieY. S 30. p، 1948، 7.

جلعاد، ليدفنوا» في أرض بنيامين في صيلع في قبر قيس أبيه» (1)، و مع في ذلك فإن داود نفسه الذي كان مخلصا للعادات و التقاليد إلى هذا الحد، لم يدفن في مقبرة أسلافه في بيت لحم، و إنما في مقبرة جديدة في القدس (مدينة داود)، و قد يقال إن ذلك تم بدون رغبة منه أو أنه لم يترك تعليمات فيما يختص بمكان دفنه، و لكن هناك عبارات في التوراة يفهم منها أن الرجل المحتضر كان يوصي أقرباءه بدفنه في مقبرة الأسرة (2)، و أن داود الذي أعطى تعليماته النهائية لولده و خليفته سليمان فيما يختص بأعدائه لم ينس بطبيعة الحال التعليمات الخاصة بمكان دفنه (3).

و يذهب بعض الباحثين إلى أن السبب في دفن داود في القدس، و ليس في بيت اللحم. و الأمر كذلك بالنسبة إلى خلفائه المباشرين الاثني عشر، هو تقليد الملك داود لجيرانه من الملوك، ذلك أنه منذ القرن الثالث عشر، و حتى القرن السادس أو السابع قبل الميلاد على الأقل كان العرف السائد في كل حوض شرق البحر المتوسط هو أن يدفن الملوك في قصورهم، أو على مقربة منها، و ليس داخل أسوار مدنهم فحسب (4)، و إني لأظن، و ليس كل الظن إثما، أن المؤرخين قد أخطئوا كثيرا في تفسير الأحداث الخاصة بداود عليه السلام، فهم يتعاملون معه على أنه ملك إسرائيل فحسب، و نسوا، أو تناسوا، أنه قبل ذلك و بعده نبيّ اللّه و رسوله، و طبقا لهذه الحقيقة التي يتغافل عنها البعض، يمكننا تفسير مكان دفن داود عليه السلام في القدس، و ليس في بيت لحم، اعتمادا على ما روي عن سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، فلقد حدث أبو بكر الصديق أنه

ص: 78


1- قضاة 8/ 32، صموئيل ثان 19/ 37- 38، 21/ 11- 14.
2- تكوين 49/ 29- 33. .( 7 ),SENJ ,divaD fo esuoH eht fo sgniK eht fo srehclupeS ehT ,nivieY .S 31. p، 1948، 7.
3- .. p, tic- p, nivieY. S 38- 36.

سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض»، و في رواية «ما مات نبيّ إلا دفن حيث قبض».

هذا و كان عمر داود عليه السلام، فيما وردت به الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مائة سنة (1)، فقد جاء من الأحاديث الواردة في خلق آدم أن اللّه لما استخرج ذريته من ظهره، فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام، و رأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا، قال ابنك داود، قال أي رب كم عمره، قال ستون عاما، قال رب زد في عمره، قال لا إلا أن أزيده من عمرك، و كان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال بقي من عمري أربعون سنة، و نسي آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها اللّه لآدم ألف سنة، و لداود مائة سنة» (رواه الإمام أحمد عن ابن عباس، و الترمذي عن أبي هريرة و صححه، و ابن خزيمة و ابن حبان، و رواه الحاكم في المستدرك و قال صحيح على شرط مسلم) (2)، و قال الطبري: و أما بعض أهل الكتاب فإنه زعم أن عمره كان سبعا و سبعين سنة (3)؛ و أما رواية التوراة فتجعل عمره سبعين عاما «كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة» (4) و بدهي أن رواية التوراة، و كذا رواية بعض أهل الكتاب كما نقلها الطبري و غيره، غير صحيحة، أو كما يقول ابن كثير فهذا غلط مردود عليهم، و أما مدة ملكه، و هي أربعون سنة (5)، فقد يقبل منهم، لأنه ليس عندنا ما ينافيه و لا ما يقتضيه (6).

ص: 79


1- تاريخ الطبري 1/ 485.
2- ابن كثير. البداية و النهاية 1/ 87- 88، 2/ 16.
3- تاريخ الطبري 1/ 485، و انظر: تاريخ اليعقوبي حيث يذهب إلى أن داود عليه السلام مات و له مائة و عشرون سنة، و كان ملكه أربعين سنة (تاريخ اليعقوبي 1/ 56).
4- صموئيل ثان 5/ 4.
5- صموئيل ثان 5/ 4- 6، أخبار أيام أول 29/ 26- 27.
6- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 16، الكامل لابن الأثير 1/ 128، تاريخ المسعودي 1/ 70، تاريخ الطبري 1/ 485.

ص: 80

الفصل الرابع داود بين آي الذكر الحكيم و روايات التّوراة

داود عليه السلام، نبي اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل، و أحد الدوحة الطاهرة من ذرية أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، التي جعل اللّه فيها النبوة و الكتاب، قال تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ (1)، و قال تعالى:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ (2)، فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء: بعد إبراهيم، فمن ذريته و شيعته (3)، و كان من هذه الكتب «الزبور» الذي أنزل على داود عليه السلام، و كما أن داود: من ذرية إبراهيم، فهو كذلك واحد من فروع تلك الشجرة المباركة التي ينتسب إليها المسيح عليه السلام (4)، فضلا عن أن داود هو والد سليمان، نبي اللّه و رسوله، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين.

و من أجل هذا و غيره، فإن القرآن الكريم إنما يصف سيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (5)،

ص: 81


1- سورة الأنعام: آية 84.
2- سورة الحديد: آية 26.
3- ابن كثير: البداية و النهاية في التاريخ 1/ 167 (بيروت 1965).
4- متى 1/ 1- 16، لوقا 3/ 23- 28.
5- سورة ص: آية 30، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 51 (بيروت 1986)، تفسير النسفي 4/ 40، تفسير القرطبي ص 5636- 5637.

وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ (1)، وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (2)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً، وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (3)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)، و وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (5)، ثم يأمر اللّه تعالى نبيّه و حبيبه مولانا و سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (6).

هذا هو رأي الإسلام في داود عليه السلام، كما جاء في القرآن الكريم، و ليس هناك من ريب في أنه ليس لمسلم بعد رأي الإسلام رأي.

ص: 82


1- سورة البقرة: آية 251، و انظر: تفسير النسفي 1/ 126، تفسير الطبري 5/ 371- 372، تفسير الكشاف 1/ 296، تفسير المنار 2/ 392- 393، تفسير روح المعاني 2/ 173- 174، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1/ 319، تفسير الطبرسي 2/ 291- 292، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 230، تفسير القرطبي ص 1064- 1066، تفسير ابن كثير 1/ 453.
2- سورة النساء: آية 163، و انظر، تفسير الألوسي 4/ 16- 17، في ظلال القرآن 6/ 24، تفسير الطبرسي 6/ 399- 402، تفسير النسفي 1/ 263، تفسير القرطبي ص 2013، تفسير ابن كثير 2/ 421- 422، (القاهرة 1970) تفسير المنارة 5/ 57.
3- سورة النمل: آية 15، و انظر: تفسير النسفي 3/ 204، تفسير ابن كثير، 3/ 572- 573 (بيروت 1986)، الدر المنثور 5/ 103، تفسير الطبري 19/ 87، صفوة التفاسير 2/ 404.
4- سورة سبأ: آية 10- 11، و انظر تفسير القرطبي ص 5346- 5350، تفسير النسفي 3/ 319- 320، تفسير ابن كثير 3/ 838- 839، تفسير الفخر الرازي 25/ 245، زاد المسير لابن الجوزي 6/ 436، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/ 294.
5- سورة الإسراء: آية 55، تفسير النسفي 2/ 317، تفسير ابن كثير 3/ 76- 77.
6- ص: آية 17- 20، و انظر تفسير النسفي 4/ 36- 37، تفسير ابن كثير 4/ 45- 47، تفسير القرطبي ص 5602- 5608.

و لكن: ما هو رأي التوراة في داود عليه السلام؟

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى أن التوراة تنظر إلى داود، على أنه ملك اليهود القدير، قبل أن يكون نبي اللّه و رسوله الكريم، و من ثم فإنها لم ترتفع إلى مستوى داود النبي، الأمر الذي صوّره القرآن في جلاء و وضوح، و إن حاولت في بعض الأحايين أن تتخلص من السقوط المريع الذي وصلت إليه بشأن النبي الأواب، فوصفته بما يتفق إلى حد ما و مكان النبوة السامي، كما نرى في بعض آيات من أسفار صموئيل الثاني (8/ 15، 22/ 21- 25) و الملوك الأول (3/ 3- 16، 14، 11/ 38، 15/ 3) و الملوك الثاني (18/ 3) و أخبار الأيام الأول (28/ 4- 5) و إشعياء (3/ 5، 55/ 3- 6) و هوشع (3/ 5) و غيرها.

و على أية حال، فليست هناك صورة تجمع بين النقيضين اللذين لا التقاء بينهما، كالصورة التي تقدمها التوراة عن داود عليه السلام، ملك اليهود القدير، فهو الشجاع قاتل جالوت (جليات) الجبار بمقلاعه دون سيف في يده (1)، و بدا يصبح مطاردا من الفلسطينيين يوما ما، و لكنه سرعان ما يشترك معهم في حروبهم ضد عدوهم يوما آخر، بل و يضع سيفه تحت تصرفهم ضد مواطنيه اليهود (2)، و هو يعمل حامل سيف طالوت (شاؤل) الإسرائيلي يوما ما، ثم حارسا للملك الفلسطيني «أخيش» يوما آخر، (3)، و هو قد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين، ثم أنهاه و قد قضى على نفوذهم في المناطق الإسرائيلية تماما، و هو عدو شاؤل (طالوت) اللدود، ثم هو في نفس الوقت زوج ابنته، و حبيب ولده «يوناثان»، و كثير من فتيان و فتيات

ص: 83


1- صموئيل أول 17/ 50.
2- صموئيل أول 29/ 2- 12.
3- صموئيل أول 28/ 1- 2.

إسرائيل (1)، و هو يعمل مغنيا في بلاط شاؤل لأنه يجيد العزف على القيثار، و يغني أغانيه العجيبة بصوته الرخيم، و لكنه في نفس الوقت الفارس المغوار، حامل سلاح الملك و قاتل أعدائه (2).

و هو قاس غليظ القلب، كما كان الناس في وقته، و كما كانت قبيلته، و هي صورة مستحبة في أذهان اليهود، خلعوها على إلههم «يهوه» من بين ما خلعوا عليه من صفات، و لكنه في نفس الوقت كان مستعدا لأن يعفو عن أعدائه، كما كان يعفو عنهم قيصر و المسيح، و كان يقتل الأسرى جملة، كأنه ملك من ملوك الآشوريين، بل إنه حتى ليبالغ في القسوة حين يأمر بحرق المغلوبين، و سلخ جلودهم، و وشرهم بالمنشار (3)، و عند ما يطلب منه شاؤل مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته ميكال، إذ به يقتل مائتي رجل من الفلسطينيين و يقدم غلفهم مهرا لابنة شاؤل هذه (4)، و حين يوصي ولده سليمان، و هو على فراش الموت، بأن يجدر بالدم إلى الهاوية شيبة شمعي بن جبرا، الذي لعنه منذ سنين طويلة (5).

و هو يأخذ النساء من أزواجهن غصبا، مستغلا في ذلك جاهه و سلطانه، فهو يشترط لمقابلة «أبنير»، قائد جيوش شاؤل، أن يأتي بابنة شاؤل ميكال، و التي كان قد خطبها من أبيها، و دفع مهرها رءوس مائتين من الفلسطينيين من زوجها «فلطيئيل بن لايش» الذي أدمى قلبه فراقها، ثم سار وراءها، و هو يبكي، حتى «بحوريم»، و لم يرجع من ورائها إلا بتهديد من

ص: 84


1- صموئيل أول 18/ 1- 7.
2- صموئيل أول 16/ 21- 23.
3- صموئيل ثان 12/ 29- 31.
4- صموئيل أول 18/ 25- 28.
5- ملوك ثان 2/ 9.

«أبنير و خوف منه (1)، ثم هو يأخذ «بتشبع» امرأة قائده» أوريا الحثي» من زوجها، و يأتي بها إلى نسائه، فيضطجع معها، و هي مطهرة من طمثها، و حين تحس المرأة أن ثمرة اللقاء بدأت تتحرك في بطنها، يرسل إلى زوجها فيستدعيه من ميدان القتال، حتى إذا ما ظهر الحمل ظن الناس أنه من زوجها، و لما رفض الرجل أن يدخل إلى فراش زوجته الدافئ، بينما أخوة له يقتلون و يقتلون في ساحة الوغى، و أصر على أن ينام على عتبة بيت الملك مع النائمين، و ألا يضاجع امرأته أبدا، حتى يقتضي اللّه أمرا كان مفعولا، فإذا بداود يرسل به إلى الصف الأول، مع أمر واضح صريح، أن «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت»، و حين يتم له ذلك يضم المرأة إلى حريمه، ثم هو يقبل بعد ذلك زجر «ناثان» على فعلته، و لكنه مع ذلك يحتفظ بالمرأة في حريمه (2).

و هو يعفو عن «طالوت» (شاؤل) عدة مرات، و لا يسلبه إلا درعه، في نفس الوقت الذي كان في مقدوره أن يسلبه حياته، و هو يعفو عن «مفيبوشت»، حفيد طالوت، و قد يكون من المطالبين بالعرش، عرش عمه وجده من قبل، بل و يعينه على أمره (3)، و هو يعفو عن ولده «أبشالوم»، أن قبض عليه بعد قتله أخيه أمنون، ثم بعد قيامه بثورة مسلحة، و بعد أن دنس عرضه على ملأ من القوم، و بعد أن طارده حتى شرق الأردن، لو لا أن يوآب قتله، رغم أوامر داود الصريحة بعدم قتله (4)، بل إنه ليعفو عن «شاؤل» الذي

ص: 85


1- صموئيل ثان 3/ 12- 16، ثم قارن: صموئيل أول 19/ 11- 17، حيث يروي كيف أن ميكال هي التي أنقذت زوجها داود من مؤامرات أبيها شاؤل، و أنها أخرجته من كوة في الدار، ليفر بنفسه من أبيها و رجاله، و قد وضعت في مكانه في الفراش الترافيم، كما أشرنا من قبل، و بدهي أن هذا نوع من تناقضات التوراة و تعارض نصوصها لبعضها البعض.
2- صموئيل ثان 11/ 2- 29، 12/ 1- 12.
3- صموئيل ثان 4/ 4- 5.
4- صموئيل ثان 16/ 32، 18/ 33.

كان يسعى لقتله، بعد أن تمكن منه مرات، و في أمان مطلق، و مناعة تامة (1)، و من ثم يذهب «ول ديورانت» طبقا لأوصاف التوراة هذه لداود، إلى أن ذلك وصف رجل حقيقي، لا رجل خيالي، اكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة، ينطوي على جميع بقايا الهمجية، و على كل مقومات الحضارة (2).

و بدهي أن هذا ليس رأينا، و لم و لن يكون، فحاشا النبي الأواب أن يكون هكذا، و لكنه رأى توراة اليهود المتداولة اليوم، ذلك لأن داود عليه السلام، فيما نعتقد و نؤمن به الإيمان كل الإيمان، هو نبيّ اللّه و رسوله الكريم، قبل أن يكون ملك اليهود القدير، و من ثم فنحن لا نرضى للنبيّ الكريم، إلا ما ارتضاه له رب العزة و الجلال في كتابه الكريم، و قد أشرنا إليه من قبل، و لكننا نقدم هذه الصورة ليعرف القارئ الكريم، رأى التوراة، كتاب اليهود المقدس، حتى في أنبياء بني إسرائيل و ملوكهم، و لأننا ندرس حياة داود الملك النبي ذلك لأننا نقدم هنا دراسة تاريخية دينية، و ليس من شك في أن الجانب التاريخي، و ليس الديني، إنما يعتمد على التوراة، كواحد من مصادر تاريخ الملك داود، و ليس النبي داود، و مع ذلك، فإننا إن اتفقنا معها في بعض الأمور، فإننا نختلف معها في الكثير من هذه الأمور، و بخاصة فيما يتعلق بالأنبياء و عصمتهم، تلك الصفوة المختارة من عباد اللّه الذين بعثوا بأمر من ربهم هداة راشدين، و اختارهم اللّه سبحانه و تعالى، مبشرين و منذرين، و اصطفاهم من خلقه، و صدق اللّه حيث يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3)، هذا فضلا عن اختلافنا مع توراة يهود فيما

ص: 86


1- صموئيل أول 24/ 2- 22.
2- ول ديورانت: قصة الحضارة 2/ 331- 332 (القاهرة 1961)، نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 362- 373، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 693- 697.
3- سورة الأنعام: آية 124.

يتصل بالحقائق التاريخية، ذلك لأن من كتبوا التوراة (1)، كانوا بشرا مثلنا، و هم كمؤرخين، لا يختلفون عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق القديم، و بدهي أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه. ).

ص: 87


1- انظر عن كتابة التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 18- 106).

ص: 88

الباب الثاني سيرة سليمان عليه السّلام
اشارة

ص: 89

ص: 90

الفصل الأول سليمان- الرّسول النّبي
1- وراثة سليمان داود:

جاء ذكر سيدنا سليمان عليه السلام في كثير من آي الذكر الحكيم (1)، و هو أحد أنبياء بني إسرائيل، شأنه في ذلك شأن أبيه داود عليه السلام، فلقد كان سليمان، كما كان أبوه داود، عليهما السلام، نبيّا ملكا، فقد جمع اللّه لكل منهما النبوة و الملك، و أعطاه خيري الدنيا و الآخرة، فكان نبيّا ملكا، قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (2)، قال ابن كثير: أي في الملك و النبوة، و ليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداود مائة امرأة، و لكن المراد بذلك وراثة الملك و النبوة، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في قوله الشريف: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة» (3)، و قال النسفي: ورث النبوة و الملك دون سائر بنيه، و كانوا تسعة عشر، قالوا أوتى النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه، و إلا فالنبوة لا تورث (4)، و قد

ص: 91


1- انظر: سورة البقرة (102) و النساء (163) و الأنعام (84) و الأنبياء (78- 82) و النمل (15- 44) و سبأ (12- 14) و ص (30- 40).
2- سورة النمل: آية 16.
3- تفسير ابن كثير 3/ 573 (ط بيروت 1986)، صحيح البخاري 8/ 185، صحيح مسلم 5/ 153، مسند الإمام أحمد 1/ 4.
4- تفسير النسفي 3/ 204.

أشرنا من قبل أن النبوة لا تكون بالإرث، فولد النبي لا يكون نبيّا بطريق الإرث عن أبيه، بل هي بمحض الفضل الإلهي و الاصطفاء الرباني (1)، و يقول صاحب الظلال: أن داود أوتى الملك مع النبوة و العلم، و لكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة اللّه عليه و على سليمان، إنما يذكر العلم، لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال، و من ثم فالمفهوم في الوراثة أنها وراثة العلم، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر (2)، و يقول الطبري أن سليمان ورث أباه داود في العلم الذي كان آتاه اللّه في حياته، و الملك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه، دون سائر ولد أبيه (3).

و يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: أما قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن البصري: المال، لأن النبوة عطية مبتدأة و لا تورث، و قال غيره: بل النبوة، و قال آخرون: بل الملك و السياسة و لو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من اللّه تعالى، و لذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا، و لا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا، و لكن اللّه تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، و ليس كذلك النبوة، لأن الموت لا يكون سببا لنبوة اللّه، فمن هذا الوجه يفترقان، و ذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته، و مما يبيّن ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال: و ورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله «و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير» معنى، و إذا قلنا و ورث مقامه من النبوة و الملك حسن

ص: 92


1- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 10، محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص 71- 77.
2- في ظلال القرآن 5/ 2634.
3- تفسير الطبري 19/ 141.

ذلك، لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، و كذلك قوله تعالى: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ لأن وارث الملك يجمع ذلك، و وارث المال لا يجمعه، و قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل و الناقص، و ما ذكره اللّه تعالى من جنود سليمان بعده، لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل: و ورث المال و الملك معا، فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله صلى اللّه عليه و سلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (1).

و قال قتادة في قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ورث نبوته و ملكه و علمه، و هذه الثلاثة هي المذكورة في حق داود عليه السلام في آية البقرة (251) وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، و يدخل في هذا أيضا ما أخبر اللّه تعالى به في سورة النمل (15) مما أكرم اللّه به هذين النبيين الكريمين من عظيم المنح، و جزيل الفضل في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً، و هذا يشمل على ما شرفهما اللّه به من النبوة و الرسالة و ما يسر لكل منهما من علوم الدنيا و الآخرة (2)، أو هو، كما يقول الطبري، علم كلام الطير و الدواب، و غير ذلك مما خصهم اللّه بعلمه» (3)، و قالا الحمد للّه الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين»، يقول النسفي: و الكثير المفضل عليه من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما، و فيه أنهما فضلا على كثير، و فضل عليهما كثير، و في الآية دليل على شرف العلم و تقدم حملته و أهله و أن نعمة العلم من أجل النعم، و أن من أوتيه فقد أوتى خيرا كثيرا، و فضلا على كثير من عباده، و ما سماهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم

ص: 93


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 186.
2- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 64.
3- تفسير الطبري 19/ 140.

في الشرف و المنزلة لأنهم القوامون بما بعثوا من أجله، و فيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا اللّه على ما أوتوه، و أن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير، فقد فضل عليه مثلهم (1). و يقول الفخر الرازي: و أما قوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ففيها أبحاث، أحدها: أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما مثل علمهما، و فيه أنهما فضلا على كثير، و فضل عليهما كثير، و ثانيهما: في الآية دليل على علو مرتبة العلم، لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما، فلم يكن شكرهما على الملك كشركهما على العلم، و ثالثها: أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل و ذلك يدل على حسن التواضع، و رابعها: أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم باللّه و بصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على العلم،، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين، فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم باللّه و بصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا فيه بحيث لا يخطر بباله شي ء من الشبهات، و لا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان، و لا ساعة من الساعات (2).

2- من أحكام سليمان:

يذهب كثير من المؤرخين و المفسرين إلى أن سليمان عليه السلام قد تولى الملك صبيّا لما ييفع، و من ثم فقد ذهب فريق منهم إلى أنه كان في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة (3)، عند ما خلف أباه في الحكم، و مع ذلك، فقد

ص: 94


1- تفسير النسفي 3/ 204.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 185- 186.
3- تاريخ اليعقوبي 1/ 56، المسعودي 1/ 71، تاريخ ابن الأثير 1/ 128، ثم قارن ابن خلدون: حيث يذهب إلى أنه كان في الثانية و العشرين من عمره حين ولي الحكم (تاريخ ابن خلدون 2/ 112).

كان، مع حداثة سنه، من ذوي الفطنة و الذكاء، و قد أعطاه اللّه الحكمة و حسن القضاء منذ الصغر، و قد ذكر القرآن الكريم طرفا من ذلك النبوغ و الذكاء الذي كان عند سليمان، و ذلك في الفتوى التي عرضت على أبيه داود، فأفتى فيها كل منهما بوجه يختلف عن الآخر، و كانت فتوى سليمان أضمن للحق و أقرب إلى الصواب، كما قال تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً، فقوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يدل على أن ما أفتى به سليمان كان أقرب إلى الصواب، و قوله تعالى: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً يدل على أن داود و سليمان كانا على جانب عظيم من الحكمة و العلم (1)، و قال أبو حيان: و الظاهر أن كلا من داود سليمان حكم بما ظهر له، و هو متوجه عنده، فحكمهما باجتهاد، و هو قول الجمهور (2).

و خلاصة القصة، كما يقدمها لنا أصحاب التفسير، أن زرعا دخلت فيه غنم لقوم لبلاد فأكلته و أفسدته، فجاء المتخاصمون لداود، و عنده سليمان، و قصوا عليه القصة، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع عوضا عن حرثه الذي أتلفته الغنم ليلا، فقال سليمان: غير هذا أرفق، تدفع الغنم لصاحب الزرع فينتفع بألبانها و أولادها و أشعارها، و تدفع الحرث إلى أهل الغنم يقومون بإصلاحه حتى يعود كما كان، ثم يترادان بعد ذلك، فيعود لأهل الغنم غنمهم، و لأهل الحرث حرثهم، فقال داود: قد أصبت القضاء فيما قضيت (3)، ثم أمضى حكم سليمان لما فيه من حفظ أصول المال ).

ص: 95


1- سورة الأنبياء: آية 78- 79، محمد علي الصابوني: المرجع السابق 283.
2- انظر: تفسير البحر المحيط 6/ 330، تفسير النسفي 3/ 85، تفسير أبي السعود 6/ 78- 80.
3- جاء في تفسير النسفي و الفخر الرازي: قال الحسن البصري هذه الآية محكمة، و القضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة، غير أن النسفي يذهب إلى أن هذا كان في شريعتهم، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة و أصحابه بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، و عند الشافعي. لا ضمان بالنهار لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار، و حفظ الزرع بالنهار على صاحبه، و إن كان ليلا يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه، و قال الجصاص إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها و نسخ الضمان بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «جرح العجماء جبار، و احتج الشافعي بما روي عن البراء بن عازب أنه قال: كانت ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، و أن حفظ الماشية بالليل على أهلها، و أن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل»، و قال مجاهد: كان هذا صلحا، و ما فعله داود كان حكما، و الصلح خير» (تفسير النسفي 3/ 85، تفسير الفخر الرازي 22/ 199).

لصاحبيهما، و يقول صاحب الظلال: كان حكم داود و حكم سليمان اجتهادا منهما في القضية، و كان اللّه حاضرا حكمهما، فألهم سليمان حكما أحكم، و فهمه ذلك الوجه و هو أصوب، و لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث، و هذا عدل فحسب، و لكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء و التعمير، و جعل العدل دافعا إلى البناء و التعمير، و هذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة، و هو فتح من اللّه و إلهام يهبه من يشاء، و لقد أوتى داود و سليمان كلاهما الحكمة و العلم» و كلا آتينا حكما و علما، و ليس في قضاء داود من خطأ، و لكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام.

و قريب من هذه القصة التي جاءت في القرآن الكريم، ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى:

يرحمك اللّه هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى» (1). و هناك قصة أخرى أوردها الحافظ ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه بسنده

ص: 96


1- الحديث أخرجه أيضا البخاري و مسلم في صحيحهما، و بوّب له النسائي في كتاب القضاء، و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 299، تاريخ الطبري 1/ 486- 487.

عن ابن عباس ملخصها: «أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان و اجتمع معه ولدان مثله، فانتصبت حاكما و تزيا أربعة منهم بزي أولئك، و آخر بزي المرأة، و شهدوا عليها بأنها مكّنت من نفسها كلبا، فقال سليمان، فرقوا بينهم، فسأل أولهم ما كان لون الكلب، فقال أسود، فعزله، و استدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال أحمر، و قال الآخر أغبش، و قال الآخر أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم» (1).

3- من معجزات سليمان:

منح اللّه سبحانه و تعالى عبده و رسوله سليمان عليه السلام كثيرا من المعجزات، منها (أولا) أن اللّه تعالى علمه منطق الطير، و سائر لغات الحيوان، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس، و ربما تحدث معها، كما كان الأمر مع الهدهد و النمل و غيرهما، روي ابن عساكر قال: مرّ سليمان بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه أ تدرون ما يقول، قالوا و ما يقول يا نبي اللّه، قال يخطبها إلى نفسه و يقول: زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت قال سليمان عليه السلام لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، و لكن كل خاطب كذاب» (2).

و روى النسفي و أبو السعود: يحكي أن سليمان مرّ على بلبل في شجرة

ص: 97


1- تفسير ابن كثير 3/ 299.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 18- 19.

يحرك رأسه و يميل ذنبه فقال لأصحابه: أ تدرون ما يقول، قالوا اللّه و نبيّه أعلم، قال يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، و صاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، و صاح طاوس فقال يقول: كما تدين تدان، و صاح هدهد فقال يقول: استغفروا اللّه يا مذنبين و صاحت رخمة فقال تقول: سبحان ربي الأعلى مل ء سمائه و أرضه، و صاح قمري فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى و قال: الحدأة تقول كل شي ء هالك إلا اللّه، و الديك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين، و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت و العقاب، و الضفدع يقول: سبحان ربي القدوس (1).

و قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (2)، يذيعها سليمان عليه السلام في الناس تحدثا بنعمة اللّه و إظهار الفضلة، لا مباهاة و لا تنفجا على الناس فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا اللّه، و كذلك لا يؤتى أحدا من كل شي ء، بهذا التعميم، إلا اللّه، و من المعروف أن للطيور و الحيوان و الحشرات وسائل للتفاهم، هي لغاتها و منطقها، فيما بينها، و اللّه سبحانه خالق هذه العوالم يقول: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم»، و لا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، و وسائل معينة للتفاهم فيما بينها، و ذلك ملحوظ في أنواع كثيرة من الطيور و الحيوان و الحشرات، و يجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شي ء من لغاتها و وسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس و الظن، لا عن الجزم و اليقين، فأما ما وهبه اللّه لسليمان عليه السلام، فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا على طريق المحاولة منه، و الاجتهاد لتفهم وسائل

ص: 98


1- تفسير أبي السعود 6/ 276- 277، تفسير النسفي 3/ 205.
2- سورة النمل: آية 16.

الطير و غيره في التفاهم على طريق الحدس، كما هو حال العلماء اليوم (1).

و قال تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها (2)، و لا شك أن فهمه عليه السلام لكلام النمل إعجازا اختصه اللّه عز و جل به، إظهارا لما أكرمه اللّه به من شرف النبوة و الرسالة (3)، و نحن هنا، كما يقول صاحب الظلال، أمام خارقتين، لا خارقة واحدة، خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها، و خارقة إدراك النملة أن هذا سليمان و جنوده، فأما الأولى، فهي مما علمه اللّه لسليمان، و سليمان إنسان و نبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة، فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر، و أنهم يحطمون النمل إذا داسوه، و قد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع اللّه فيه من القوى الحافظة للحياة، أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان و جنوده، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف، و تحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال (4).

و منها (ثانيا) أن جند سليمان عليه السلام إنما كان مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، و قد نظم لهم أعمالهم و رتب لهم شئونهم، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل، يحيط به الجند و الخدم من كل جانب، فالإنس و الجن يسيرون معه، و الطير تظلله بأجنحتها من الحر (5)، قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (6)، و الجدير

ص: 99


1- في ظلال القرآن 5/ 2634.
2- سورة النمل: آية 18- 19.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 68.
4- في ظلال القرآن 5/ 2637.
5- الصابوني: المرجع السابق ص 288.
6- سورة النمل: آية 17.

بالإشارة هنا أن اللّه سخر لسليمان طائفة من الجن و طائفة من الطير، كما سخر له طائفة من الإنس، و كما أنه لم، يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان، إذ إن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين و لبنان و سورية و العراق إلى ضفة الفرات، فكذلك لم يكن جميع الجن، و لا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء و نستدل في مسألة الجن إلى أن إبليس و ذريته من الجن كما قال القرآن: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ و قال: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ، و هؤلاء كانوا يزاولون الإغراء و الشر و الوسوسة للبشر في عهد سليمان، و ما كانوا ليزاولون هذا، و هم مسخرون له مقيدون بأمره، و هو نبيّ يدعو إلى الهدى، فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له، و نستدل في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد، و لو كانت جميع الطيور مسخّرة له، محشورة في موكبه، و منها جميع الهداهد، ما استطاع أن يتبيّن غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد، هذا فضلا عن بلايين الطير، و لما قال: ما لي لا أرى الهدهد، فهو إذن هدهد خاص بشخصه و ذاته، و قد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه، و يعين على هذا ما ظهر من أن هذا الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد، و لا الطير بصفة عامة، و لا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان، لا لجميع الهداهد و جميع الطيور، فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس (1).

و منها (ثالثا) تسخير الريح له، قال تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً

ص: 100


1- في ظلال القرآن 5/ 2635- 2636.

غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1)، و قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (2)، و قال تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (3)، و هكذا كان من معجزات سليمان عليه السلام تسخير الريح عاصفة قوية لتحمله و تحمل جنوده و ما معهم من الأثقال، و تقوم بأداء ما يريده منها مما سخر اللّه له فيه، و هي تجري بأمره إلى الأرض التي بارك اللّه فيها، معجزة قاهرة أكرمه اللّه بها، و أجراها على يديه إظهارا لنبوته و تأييدا لرسالته (4)، و يقول الفخر الرازي: المسخر لسليمان كانت ريحا مخصوصة، لا هذه الرياح، فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات و يدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد، فما قرأ أحد الرياح (5)، و يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب، طيب اللّه ثراه، و تخير الرياح لسليمان تتكاثر حوله الروايات (6)، و تبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات، و إن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها، و التحرج من الخوض في تلك الروايات أولى، و الاكتفاء بالنص القرآني أسلم، مع الوقوف عند ظاهر النص لا تتعداه، و منه يستفاد أن اللّه سخر الريح لسليمان، و جعل غدوها، أي توجهها غادية إلى بقعة معينة (هي الأرض المقدسة في آية الأنبياء 81) يستغرق شهرا، و رواحها، أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهرا كذلك، وفق مصلحة تحصل من غدوها و رواحها، يدركها سليمان عليه السلام، و يحققها بأمر اللّه، و لا نملك أن

ص: 101


1- سورة سبأ: آية 12.
2- سورة ص: آية 36.
3- سورة الأنبياء: آية 81.
4- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 77- 78.
5- انظر: تفسير الطبري 17/ 55- 56، 22/ 68- 69. 23/ 160، تفسير النسفي 3/ 320 تفسير ابن كثير 3/ 300، 840.

نزيد هذا إيضاحا حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها و لا تحقيق (1).

و منها (رابعا) أن اللّه تعالى سخر لسليمان طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر، كبناء الصروح الضخمة و القصور العالية و القدور الراسيات، و الجفان التي تشبه الأحواض، كما قال تعالى:

وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)، هذا و المحاريب، كما هو معروف، من أماكن العبادة، و التماثيل الصور من نحاس و خشب و غيره، و الجواب جمع جابية و هي الحوض الكبير الذي يجبى فيه الماء، و قد كانت الجن يصنعون لسليمان جفانا كبيرة للطعام تشبه الجوابي، قيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس، كما كانت تصنع له قدروا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها، لا تنقل لكبرها، و إنما يغرف منها في تلك الجفان، و هذه كلها نماذج مما سخر اللّه الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن اللّه، و كلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها، إلا بأنها خارقة من صنع اللّه، و هذا هو تفسيرها الواضح الوحيد (3). و قال تعالى:

وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ، و هذا العمل فيه احتمال قوي أن يكون من قبيل المعجزات، بل هو معجزة، ذلك لأن التحكم في جماعات الشياطين و استخدامهم في الغوص، و عمل الأعمال التي دون الغوص، و حفظ اللّه تعالى لهم، ليكونوا تحت أمره عليه السلام خاصة، إنما هو أمر ظاهر في الإعجاز (4).

ص: 102


1- في ظلال القرآن 5/ 2898.
2- سورة سبأ: آية 12- 13.
3- في ظلال القرآن 5/ 2899. و انظر: تفسير الفخر الرازي 25/ 248.
4- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 78.

و منها (خامسا) أن اللّه تعالى جعل لسليمان عليه السلام سلطة على طائفة من الجن (1)، يسخر من يشاء منهم في الأعمال الشاقة، و يقيد من يشاء في الأغلال ليكف شرهم عن الناس، كما قال تعالى: وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، و لم يكن هذا التسخير لأحد من الأنبياء غير سليمان عليه السلام، و ذلك غاية العظمة و نهاية الملك و السلطان لملوك الدنيا، فلم ينل أحد من الملوك ما ناله سليمان عليه السلام، نبي اللّه و رسوله، روي البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة ليقطع على صلاتي، فأمكنني اللّه منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان «رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد بعدي» فرددته خاسئا» (2)، و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه كان في مكنة سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يربط العفريت، كما هو واضح من لفظ الحديث الشريف، و كما في حديث أبي الدرداء عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ثم أردت أن آخذه، و اللّه لو لا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» (3)، و كما في حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لو

ص: 103


1- يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير قوله: «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» أن الآية (سبأ: آية 14) تبين أن الجن لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حيّ، و قوله: «ما لبثوا في العذاب المهين» دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين (تفسير الفخر الرازي 25/ 250).
2- انظر: صحيح البخاري 4/ 197، صحيح مسلم 1/ 384، و انظر رواية أخرى للحديث الشريف عن أبي الدرداء (صحيح مسلم 2/ 72، سنن النسائي 3/ 13) و ثالثة للإمام أحمد في المسند (3/ 83) عن أبي سعيد الخدري (انظر تفسير ابن كثير 4/ 56- 57 (ط بيروت 1986).
3- صحيح مسلم 2/ 72.

رأيتموني و إبليس فأوهيت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعي هاتين- الإبهام و التي تليها- و لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة» (1)، و لكن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبى أن يفعل ذلك تحقيقا لدعوة أخيه سليمان عليه السلام (2).

و منها (سادسا) أسال اللّه لسليمان عين القطر، قال تعالى: وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ (3)، و هذه من خصوصيات سليمان كما كانت إلانة الحديد من خصوصيات أبيه داود، فهو إذن من المحتمل للإعجاز، و قد يكون ذلك بأن فجر اللّه له عينا بركانية من النحاس المذاب من الأرض، أو هو من قبيل العلم الذي آتاه اللّه تعالى عبده سليمان، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و ذلك بأن ألهمه اللّه تعالى إذابة النحاس حتى يسيل، و يصبح قابلا للصب و الطرق، و هذا فضل من اللّه كبير (4).

هذا و قد أثبتت الحفريات الأثرية، كما سنوضح بالتفصيل في مكانة من هذه الدراسة، أن مدينة «عصيون جابر»، إنما كانت ميناء و مركزا صناعيا في دولة سليمان، و قد اكتشفها بعثة أمريكية برياسة «نلسون جلوك» في موقع «تل الخليفة» على مبعدة 500 مترا من ساحل البحر، على الطرق الشمالي من خليج العقبة، على مقربة من ميناء «إيلات» الحالي (5)، و على أية حال، فإنه لم يعثر حتى الآن في

ص: 104


1- مسند الإمام أحمد 3/ 83.
2- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 116.
3- سورة سبأ: آية 12، و القطر هو النحاس، و إسالته إذابته حتى يكون كالماء ليستطاع صبه في قوالب خاصة تنشأ فيها الصناعات التي يريدها سليمان من آلات الحرب و غيرها، للنحاس خاصية في هذا يدل على أنه أقوى من الحديد، بدليل قوله تعالى: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، إذ لو لم يكن القطر أقوى من الحديد، لما احتاج إلى تقوية الحديد و إمساكه بإفراغ القطر عليه (عويد المطرقي: المرجع السابق ص 81).
4- في ظلال القرآن 5/ 2898، عويد المطرفي: المرجع السابق ص 81.
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 792- 794، و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 66. p، 1947، 21 و كذا, nevaH weN, nedroJ eht fo ediS rehtO ehT, kceulG. N 113- 50. p، 1940. M. K و كذا, nodnoL, dnaL yloh eht ni ygoloeahcrA, noyneK 257. p، 1970 eht, thgirillA. F. W و كذا, Y. N, enitselaP fo ygoloeahcrA 128- 127، 44. p، 1963.

أي مكان آخر في العالم القديم، على ما يضاهي معامل تنقية النحاس في عصيون جابر و لعل أفضل هذه المعامل من جهة الإعداد و البناء ما وجد في الطبقة (ط) التي تحوي مخلفات أقدم للفترات الخمسة الرئيسية لعمران هذا الموقع (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك بعضا من آي الذكر الحكيم التي تتصل بسيدنا سليمان عليه السلام، قد أسرف المفسرون على أنفسهم و على الناس في تفسيرها، فيها قوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (2)، و في قصة الخيل هذه أو الصافات الجياد، و هي الخيل الكريمة، روايتان، تقول الأولى: إن سليمان عليه السلام، استعرض خيلا له بالعشى، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال ردوها علي فجعل يضرب أعناقها و سيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه، و رواية أخرى إنما جعل يمسح سوقها و أعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل اللّه، و كلا الروايتين، فيما يرى صاحب الظلال، لا دليل عليها و يصعب الجزم بشي ء عنها، و في تفسير ابن كثير و غيره أن هذه الخيل التي شغلت سليمان عليه السلام كانت عشرين ألف فرس فعقروها (3).

ص: 105


1- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- القاهرة 1971 ص 128 (مترجم) و كذا.. p, tic- po, relleK. W 199- 198.
2- سورة ص: آية 30- 33.
3- في ظلال القرآن 5/ 3020، تفسير ابن كثير 4/ 51- 52، تفسير الطبري 23/ 153- 156، تفسير الفخر الرازي 26/ 203- 206، تفسير النسفي 4/ 40- 41.

هذا و قد ذكر غير واحد من السلف و المفسرين أن سليمان اشتغل بعرض الصافنات الجياد حتى فات وقت صلاة العصر، و الذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا، بل نسيانا، كما اشتغل النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب، و يحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو و القتال، و الأول أقرب، لأنه قال بعدها «ردوها على فطفق مسحا بالسوق و الأعناق»، قال الحسن البصري: لا، قال: و اللّه لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعقرت، و كذا قال قتادة، و قال السّدى: ضرب أعناقها و عراقيبها بالسيوف، و لهذا عوّضه اللّه عز و جل ما هو خير منها، و هي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر و رواحها شهر، فهذا أسرع و خير من الخيل (1).

و هكذا يوصم سليمان عليه السلام بأنه تلهى عن ذكر اللّه، و يوصم كذلك بأنه قتل الخيول البريئة المعدة للجهاد، دون سبب أو مسوغ معقول (2)، و من ثم فقد رد حذاق العلماء هذا القول بأنه عقوبة لما لا يستحق العقوبة، و بأنه إفساد للمال في غير منفعة المسلمين، و يقول الفخر الرازي أن هذا بعيد (أي عقر سليمان للخيل) و يدل عليه وجوه (الأول) أنه لو كان مسح السوق و الأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ قطعها، و هذا مما لا يقوله عاقل، بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق، أما إذا لم يذكر لقط السيف لم يفهم البتة من المسح العقر و الذبح، و (الثاني) القائلون بهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة، فأولها: ترك الصلاة، و ثانيها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة و الإنابة البتة، و رابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: «ردوها علي» و هذه الكلمة لا يذكرها الرجل

ص: 106


1- تفسير ابن كثير 4/ 51- 52 (ط بيروت 1986).
2- محمد الطيب النجار: المرجع السابق ص 40.

الحصيف إلا مع الخادم الخسيس، و خامسها: أنه تبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها و أعناقها، و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه: «نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة»، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام، مع أن لفظ القرآن لم يدل على شي ء منها (1).

على أن هناك اتجاها آخر في القصة، فلقد روي الطبري عن ابن عباس، كما روي القرطبي عنه و عن قتادة و الحسن و الزهري و ابن كيسان أن المراد بمسح سوق الخيل و أعناقها في هذه الآية الكريمة هو مسح حبالها و كشفا للغبار عنها، و قال الإمام الطبري في التفسير: و هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس (أي جعله يمسح أعراف الخيل و عراقيبها حبالها) أشبه بتأويل الآية، لأن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن إن شاء اللّه ليعذب حيوانا بالعرقبة، و يهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، و لا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها (2)، و من ثم يذهب الفخر الرازي إلى أن الصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلى اللّه عليه و سلم، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغز و فجلس و أمر بإحضار الخيل و بإجرائها، و ذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا و نصيب النفس، و إنما أحبها لأمر اللّه و طلب تقوية دينه، و هو المراد في قوله: «عن ذكر ربي»، ثم إنه بإعدائها و تسييرها حتى توارت بالحجاب، أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق

ص: 107


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 205- 206.
2- تفسير الطبري 23/ 156، ثم قارن تفسير ابن كثير 4/ 52، حيث يقول: و هذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، و لا سيما إذا كان غضبا للّه تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة، و لهذا لما خرج عنها اللّه تعالى عوضه اللّه عز و جل ما هو خير منها و هو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر و رواحها شهر، فهذا أسرع و خير من الخيل.

يمسح سوقها و أعناقها، و الغرض من ذلك المسح أمور، الأول: تشريفا لها و إبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، و الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة و الملك يتضح إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، و الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل و أمراضها و عيوبها، فكان يمتحنها و يمسح سوقها و أعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرنا، ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا، و لا يلزمنا نسبة شي ء من تلك المنكرات و المحذورات (1).

هذا فضلا عن أن حب الخيل من سنن الأنبياء و المرسلين، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين، روي النسائي و أبو داود و أحمد عن أبي وهب الجشمي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ارتبطوا الخيل و امسحوا بنواصيها و أكفالها» (2)، و روي البخاري و مسلم و أصحاب السنن و مالك و أحمد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (3)، و روي الطحاوي في مشكل الآثار بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، و أهلها معانون عليها، و امسحوا نواصيها و ادعوا لها بالبركة» (4)، هذا إلى أن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح، فكذلك في التوراة ممدوح (5)، و قد روت التوراة أن سليمان عليه السلام كان شغوفا بالخيل (6)، و أنه كان يقول:

ص: 108


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 206.
2- سنن النسائي 6/ 218، سنن أبي داود 3/ 24، مسند الإمام أحمد 6/ 282.
3- صحيح البخاري 4/ 34، صحيح مسلم 3/ 493، سنن الدارمي 2/ 212، سنن ابن ماجة 2/ 47، سنن أبي داود 3/ 22، سنن الترمذي 4/ 202، سنن النسائي 6/ 215، موطأ مالك ص 279، مسند الإمام أحمد 6/ 282.
4- مشكل الآثار 1/ 132 (حيدرآباد 1333 ه).
5- تفسير الفخر الرازي 26/ 204.
6- ملوك أول 10/ 26- 29، أخبار أيام ثان 1/ 14- 17.

«الفرس معدة ليوم الحرب»، و إن «كانت النصرة من الرب» (1)، هذا و قد أثبتت الحفريات الأثرية أن سليمان عليه السلام قد أقام حظائر للخيل في أماكن متعددة من مملكته، و قد ألقت بعثات الحفائر الأمريكية في مدينة «مجدو» القديمة، الضوء على هذه الحظائر، فلقد عثر المكتشفون، كما سنوضح ذلك في مكانة من هذه الدراسة، هناك على بقايا إسطبلات الخيول، و التي كانت دائما تنتظم حول فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري، و يخترق وسط كل إسطبل ممر عرضه عشرة أقدام، و قد وصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل، و قد وضعت على كل جانب، وراء نتوءات الأحجار، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام، و ما يزال الكثير من هذه الإسطبلات محتفظا بمعالف طعام الخيل، كما لا تزال كذلك أجزاء من معدات السقي ظاهرة، كما تدل فخامة الإسطبلات و العناية الشديدة التي بذلت بوفرة في المباني و الخدمات على أن الخيل كانت مرغوبا فيها في تلك الأيام، و عند ما تم الكشف عن المبنى بأكمله، قدر بعض الباحثين لكل إسطبل 450 حصانا، و لكل حظيرة 150 عربة (2)، هذا و قد كشفت نظائر لإسطبلات محدد هذه في بيت شان و حاصور و تعنك و القدس (3).

و هناك كذلك آية الفتنة و الجسد الذي ألقى على كرسي سليمان، يقول عز من قال: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (4)، فلقد

ص: 109


1- سفر الأمثال 21/ 31.
2- . 591 و كذا. p, tic- po, thgirillA. F. W 124 و كذا F, gezpieL, I, sanitselaP relamkneD:, negniztaW. C 87، F 67. p، 1933.
3- مجدو: تل المتسلم، على مبعدة 20 ميلا جنوب شرق حيفا، و حاصور: على مبعدة 5 كيلا جنوب غرب بحيرة الحولة و تسمى الآن تل قدح، و تعنك: على مبعدة 8 كيلا جنوب شرق مجدو.
4- سورة ص: آية 34.

روي بعض المفسرين و المحدثين عدة روايات عن فتنة سليمان، و عن الجسد الذي ألقى على كرسيه، كثير منها تقدح في النبوة، و تتنافى مع العصمة التي أوجبها اللّه للأنبياء، و التي عرفت من الدين بالضرورة إجماعا، فضلا عن أنها تحط من مقام الاصطفاء الإلهي للنبوة و الرسالة، و كلها قصص و روايات باطلة و فاسدة عقلا و نقلا (1).

و لعل من أغرب و أنكر تلك الروايات، ما رواه ابن أبي حاتم (2) من أن سليمان عليه السلام، أراد أن يدخل الخلاء، فأعطى الجرادة خاتمة، و كانت أحب نسائه إليه، فجاءها الشيطان بصورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فظنته سليمان، فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس و الجن و الشياطين، و زادت بعض الروايات أنه تسلط حتى على نسائه (3)، و ذهبت رواية ثالثة إلى أن الفتنة إنما كانت بسبب أن امرأته جرادة كانت تبكي على أبيها الذي قتله سليمان، فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته، و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيا مع جواريها يسجدن لها، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة و عاقب المرأة (4)، ثم خرج

ص: 110


1- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 116.
2- مختصر تفسير ابن كثير 3/ 203 (هامش/ 2).
3- تفسير الفخر الرازي 26/ 208، الدر المنثورة 5/ 312، تاريخ الطبري 1/ 499، ثم قارن: تفسير الطبري (23/ 158) حيث يقول و سلط الشيطان على ملك سليمان كله غير نسائه، و في تفسير ابن كثير (4/ 55) أن المشهور عن مجاهد و غير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهن اللّه عز و جل منه تشريفا و تكريما لنبيّه عليه السلام.
4- هذه الأسطورة لا ريب أنها منقولة عن توراة اليهود المتداولة اليوم، و التي تزعم كذبا أن سليمان عليه السلام قد ضم إلى حريمه مئات سبعة من الزوجات، و مئات ثلاث من السراري، و أنه كان طوع أمرهن، حتى إنه أقام رغبة في مرضاتهن هياكل صغيرة، و دورا لعبادة الآلهة الوثنية، تقول التوراة «و كان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الرب كقلب أبيه داود، فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين و ملكوم إله العمونيين، و عمل سليمان الشرفي عيني الرب، و بنى مرتفعة لكموش رجس المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، و لو لك رجس بني عمون، و هكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن و يذبحن لآلهتهن»؛ و هكذا تصور توراة يهود، النبي الكريم، و هو يختم حياته، و غضب الرب، و العياذ باللّه، قد حلّ به، لأن قلبه مال عن الرب و لم يحفظ وصاياه، (انظر: سفر الملوك الأول 11/ 1- 13، محمد بيومي مهران. إسرائيل 3/ 213- 218)، و انطلاقا من كل هذا، فإن هذه الروايات التي ذكرها بعض المفسرين و المؤرخين، شأنها شأن ما جاء بتوراة يهود، إنما هي أكاذيب ضد النبي الكريم عليه السلام.

وحده إلى فلاء، و فرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى اللّه، و رواية رابعة تذهب إلى أن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس؟ فقال أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه و قعد هذا الشيطان على كرسيه أربعين يوما، عدد ما عبد الوثن في بيته، ثم أعطاه أحد الصيادين سمكة فبقر بطنها، فإذا هو بالخاتم فتختم به، و وقع ساجدا للّه، و رجع إليه ملكه، ثم أخذ ذلك الشيطان و أدخله في صخرة و ألقاها في البحر (1).

هذا و قد أظهر حذاق العلماء، كابن كثير و ابن حزم و ابن العربي و الفخر الرازي و النسفي و الزمخشري و أبي حيان و غيرهم (2) زيف هذه الأساطير، يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير: و اعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه (الأول) أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة و الخلقة بالأنبياء، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شي ء من

ص: 111


1- انظر: تفسير الفخر الرازي 26/ 207- 208، تفسير الطبري 23/ 157- 158، تفسير ابن كثير 4/ 53- 55، تاريخ الطبري 1/ 496- 497، الكامل لابن الأثير 1/ 133- 135، تاريخ اليعقوبي 1/ 59- 60.
2- انظر: تفسير ابن كثير 4/ 55، تفسير البحر المحيط 7/ 397، تفسير الكشاف 3/ 375، تفسير الفخر الرازي 26/ 208- 209، تفسير النسفي 4/ 42، ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل- القاهرة 1964- الجزء الثالث ص 20، ابن العربي: أحكام القرآن 4/ 1638 (فاس 1376 ه)، محمد محمد أبو شهبة: الإسرائيليات و الموضوعات في كتب التفسير- القاهرة 1393 ه ص 380.

الشرائع، فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد و عيسى و موسى عليهم السلام، ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء و الإضلال، و معلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية، و (الثاني) أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي اللّه سليمان بمثل هذه المعاملة، لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع الأنبياء و الزهاد، و حينئذ وجب أن يقتلهم و أن يمزق تصانيفهم و أن يخرب ديارهم، و لما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى، و (الثالث) كيف يليق بحكمة اللّه و إحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ و لا شك أنه قبيح، و (الرابع) لو قلنا أن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، و إن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة، فكيف يؤاخذ اللّه سليمان بفعل لم يصدر عنه؟.

و أما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء الأول أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين إن عاش صار متسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله، فعلم سليمان ذلك فكان يريبه في السحاب فبينما هو مشتغل في مهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على اللّه، فاستغفر ربه و أناب، و (الثاني) روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل إن شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجي ء به على كرسيه فوضع في حجره، فو الذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا كلهم في سبيل اللّه فرسانا أجمعون»، فذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، و (الثالث) و لقد فتنا سليمان بسبب مرض شديد ألقاه اللّه عليه، و ألقينا على كرسيه منه جسدا و ذلك لشدة المرض، و (الرابع) لا يبعد أن يقال إنه ابتلاء اللّه تعالى بتسليط خوف و توقع بلاء من بعض الجهات عليه، و صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد

ص: 112

الضعيف الملقى على ذلك الكرسي، ثم أزال اللّه عنه ذلك الخوف و أعاده إلى ما كان عليه من القوة و طيب القلب (1).

و أياما كان الأمر، فإن العلماء المحققين إنما يذهبون إلى أن يكون بيان الفتنة في قول سليمان عليه السلام و هو ما يتصل أيضا بالخيل اتصالا قريبا، فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين (2) كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه، فقال له صاحبه قل إن شاء اللّه، فلم يقل إن شاء اللّه، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، و الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون» (3)، و المراد بشق رجل، تفسره رواية أخرى عند البخاري أيضا في كتاب الأنبياء بلفظ «إلا واحدا ساقطا أحد شقيه» أي مشلولا فاقدا لكثير من مظاهر الرجولة، و لما رأى سليمان عليه السلام حرمانه مما تمنى من الولد للجهاد بهم في سبيل اللّه، لأنه لم يقل إن شاء اللّه، علم أنه ابتلى فأسرع إلى الإنابة إلى اللّه تعالى و الرجوع إليه بالتوبة من عدم استثنائه في طلبه و استعانته بمشيئة اللّه تعالى ثم استغفر ربه، متذللا خاشعا راجيا عفوه و مغفرته و فضله فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ

ص: 113


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 208- 209.
2- كانت زوجات سليمان يبلغن المائة أو أقل، كما جاء في روايات الحديث المتعددة عند البخاري (صحيح البخاري 4/ 27، 197، 7/ 50، 8/ 162، 182، 9/ 169) ثم قارن ذلك برواية التوراة التي جعلتهن لفا «سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري (ملوك أول 11/ 1- 4) و كذا قارنه بما جاء في كتب المفسرين و المؤرخين التي وافقت رواية التوراة (تاريخ ابن خلدون 1/ 113، الكامل لابن الأثير 1/ 129) و في رواية اليعقوبي 1/ 59) أنهن سبعمائة، و في تفسير الطبري (23/ 162- 163) عن ابن عباس قال: كان سليمان في ظهره ماء مائة رجل بان له ثلاث مائة امرأة، و تسع مائة سرية».
3- صحيح البخاري 4/ 27، و انظر: تفسير القرطبي ص 5645- 5646.

بَعْدِي (1) ليستعين بذلك الملك على الجهاد في سبيل اللّه، ناشرا لدين اللّه، مقيما لأحكام شرعه، فيحقق به من النصر على أعدائه أكثر مما كان يؤمله فيما فاته من إنجاب مائة ولد.

ص: 114


1- سورة ص: آية 35، و انظر: تفسير القرطبي ص 5648- 5649.
الفصل الثّاني بناء المسجد الأقصى

المسجد الأقصى أو بيت المقدس، موطن العديد من الأنبياء و المرسلين، ابتداء من أبيهم إبراهيم و حتى عيسى ابن مريم عليهم السلام، و ثاني مسجد وضع في الأرض بعد الكعبة البيت الحرام (1) و أولى القبلتين (2)، و ثالث الحرمين الشريفين (3)، و مسرى النبي الأعظم سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ (4)، و ليس هناك من شك في أن هذا الإسراء أو هذه الرحلة المباركة من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف إنما هي رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم رسول اللّه و خاتم النبيّين،

ص: 115


1- صحيح البخاري 4/ 177، صحيح مسلم 1/ 370، 2/ 153- 154، مسند الإمام أحمد 5/ 150، 167، تفسير القرطبي ص 1379، تفسير المنار 4/ 6- 7.
2- انظر: سورة البقرة: آية 142- 144، صحيح البخاري 6/ 25- 27، صحيح مسلم 2/ 160- 162، مسند الإمام أحمد 5/ 246- 247، مجمع الزوائد للهيثمي 2/ 13.
3- انظر: صحيح مسلم 1/ 541 (القاهرة 1971)، الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 287.
4- سورة الإسراء: آية، و انظر: تفسير القرطبي ص 3819- 3828، تفسير ابن كثير 3/ 5- 41، فتح الباري 7/ 159- 173، صحيح البخاري 5/ 66- 69/ 140.

و تربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا، و كأنما أريد بهذه الرحلة المباركة إعلان وراثة النبي الخاتم محمد صلى اللّه عليه و سلم لمقدسات الرسل قبله، و اشتمال رسالته على هذه المقدسات، و ارتباط رسالته بها جميعا، و لهذا فقد جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم و دارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، و الرئيس المقدم، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين، و من ثم فقد كانت رحلة الإسراء ترمز إلى أبعد من حدود الزمان و المكان، و تشمل آمادا و آفاقا أوسع من الزمان و المكان، و تتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى (1).

و لعل سائلا يتساءل: من هذا الذي نال شرف بناء المسجد الأقصى؟

أخرج الإمام أحمد و ابن ماجة و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و النسائي (و اللفظ له) بأسانيدهم عن عبد اللّه بن فيروز الديلمي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن سليمان بن داود عليهما السلام، لما بنى بيت المقدس سأل اللّه عز و جل خلا لا ثلاثة، سأل اللّه عز و جل حكما يصادف حكمه فأوتيته، و سأل اللّه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (2).

و روى البخاري و مسلم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أول، قال المسجد الحرام، قلت ثم أي، قال المسجد الأقصى، قلت كم كان بينهما، قال أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة

ص: 116


1- في ظلال القرآن 4/ 2212، تفسير ابن كثير 3/ 5.
2- سنن النسائي 2/ 43، سنن ابن ماجة 1/ 451، انظر: جامع الأصول ج 9 حديث 6307، صحيح الجامع الصغير: حديث 2086، البداية و النهاية 2/ 26، تفسير ابن كثير 4/ 58.

بعده فصله، فإن الفضل فيه» (1)، و في رواية عن أبي ذر أيضا قال: قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أول، قال المسجد الحرام ثم قلت أي، قال المسجد الأقصى، قلت كم بينها، قال أربعون سنة، و أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد» (2). هذا و قد أثار هذان الحديثان الشريفان جدلا بين العلماء، على أساس أن إبراهيم عليه السلام هو باني البيت الحرام، و أن سليمان عليه السلام هو باني المسجد الأقصى، و بينهما ما يقرب من ألف عام (3)، و من ثم فقد ذهب أبو جعفر الطحاوي بأن الوضع غير البناء، و السؤال عن مدة ما بين وضعهما، لا عن مدة ما بين بنائهما، فيحتمل أن يكون واضع المسجد الأقصى بعض الأنبياء قبل داود و سليمان، ثم بنياه بعد ذلك (4)، و لعل قريبا من هذا ما ذهب إليه ابن الجوزي و القرطبي بأنه ليس المراد أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس بناء الكعبة المشرفة (5)، و لا أن سليمان عليه السلام بنى بناء بيت المقدس، و إنما هما جددا ما كان قد

ص: 117


1- صحيح البخاري 4/ 177، صحيح مسلم 1/ 370.
2- صحيح مسلم 2/ 153- 154 (القاهرة 1971)، مسند الإمام أحمد 5/ 150، 167، تفسير الطبري 7/ 22، تفسير ابن كثير 2/ 63، تفسير القرطبي ص 1379، تفسير المنار 4/ 6- 7.
3- الواقع أن الفترة بين وفاة إبراهيم و ولادة سليمان عليهما السلام، لا تصل أبدا إلى ألف عام، فإبراهيم عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م) و سليمان عاش في الفترة (973- 922 ق. م).
4- صحيح مسلم 2/ 153 (هامش/ 2).
5- الرأي عندي أن الكعبة المشرفة ترجع في بنائها إلى إبراهيم و ولده إسماعيل عليهما السلام، دون غيرهما من العالمين و يرى ابن كثير و غيره من العلماء أنه لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم صلى اللّه عليه و سلم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، و من تمسك في هذا بقوله مكان البيت فليس بناهض و لا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم اللّه المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمن إبراهيم (ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 163، 2/ 298، تفسير المنار 1/ 466- 467، الكشاف 1/ 446، تفسير الطبري 3/ 70، محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية في القرآن الكريم 1/ 183- 185.

أسسه غيرهما (1)، كما ذهب برهان الدين الزركشي إلى أن سليمان عليه السلام، إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه (2) على أن الأستاذ رشيد رضا يذهب إلى أن هذا التفسير ضعيف لأنه سماه بيتا، و لو جعل المكان مسجدا و لم يبن فيه لما سمى بيتا، بل مسجد أو قبلة، ثم إن ذلك مبنى على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس، و ذلك معقول، و إن لم يكن عندنا نص صريح (3).

هذا و يذهب ابن قيم الجوزية إلى أن الذي أسس بيت المقدس إنما هو يعقوب عليه السلام، و أن سليمان كان مجددا له، و إلى هذا ذهب ابن كثير أيضا، حيث يقول: و عند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى (4)، و هو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه اللّه، و هذا متجه و يشهد له ما ذكرناه من الحديث (يعني حديث أبي ذر المشهور) فعلى هذا يكون بناء يعقوب، و هو إسرائيل عليه السلام، بعد بناء الخليل و ابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء (5) كما ذهب إلى نفس الرأي

ص: 118


1- فتح الباري 6/ 408، تفسير القرطبي 4/ 138.
2- الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 30.
3- تفسير المنار 4/ 7 (القاهرة 1973).
4- يذهب أهل الكتاب، كما جاء في العهد القديم، إلى أن داود عليه السلام، كان أول من فكر في بناء المسجد الأقصى، بل و قد اشترى مكانه من رجل يبوسى يدعى «أرنان» (أرونا أو أرونة) كان قد اتخذه جرنا أو يبدر، و كان قد عرض على داود أن يأخذ المكان بلا مقابل، فرفض داود و اشتراه منه، و كذا بقرا ليقدمه محرقة للرب، بخمسين شاقلا من الفضة، و تذهب الرواية إلى داود قد منع من بناء البيت، لأن ذلك سيكون من نصيب ولده سليمان، و لكنها قد سجلت معاونة داود الفعالة لولده سليمان في إقامة البيت، و ذلك بتجهيز المواد اللازمة للبناء، فضلا عن كميات من الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و غيرها (صموئيل ثان 24/ 16- 25، أخبار أيام ثان 22/ 1- 19، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 843- 844، تاريخ ابن خلدون 2/ 111- 112) ثم قارن: تفسير ابن كثير 4/ 58 (ط بيروت 1986).
5- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 163، 2/ 298.

الزركشي في إعلام الساجد (1)، و الحميري في الروض المعطار (2)، و أخيرا فلقد ربط البعض بناء المسجد الأقصى، كما ربطوا بناء المسجد الحرام من قبل، بالملائكة، و ربطه آخرون بآدم عليه السلام، بل إن فريقا رابعا ربطه بسام بن نوح عليه السلام (3)، و جاء في تفسير القرطبي أن آدم هو الذي بنى المسجد الأقصى، بعد بنائه للبيت العتيق بأربعين عاما، و أن يعقوب قد أقام قواعده و جدده فقط، بعد أن رفع جده إبراهيم عليه السلام القواعد من البيت العتيق (4).

و يذهب الدكتور عويد المطرفي إلى أن أقرب الروايات إلى المعقول أن الذي بنى المسجد الأقصى تأسيسا، إنما هو سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، بعد فراغه من بناء الكعبة المشرفة، و رجوعه إلى مستقرة بالشام (5)، كما استظهر ذلك أبو حيان في تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (6)، من أن إبراهيم عليه السلام، كما وضع الكعبة، وضع بيت المقدس (7).

و في الواقع فإن كثيرا من المفسرين و المؤرخين إنما يذهبون إلى أن سليمان عليه السلام هو الذي بنى بيت المقدس، ففي تفسير أبي السعود أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج، و هناك في مكة كان يذبح كل

ص: 119


1- الزركشي: المرجع السابق ص 30.
2- الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1975 ص 556.
3- مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس و الخليل النجف 1388 ه، الجزء الأول ص 8، فتح الباري 6/ 409، الزركشي: المرجع السابق ص 30.
4- تفسير القرطبي 4/ 138، فتح الباري 6/ 408- 409.
5- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 149.
6- سورة آل عمران: آية 96.
7- تفسير البحر المحيط 3/ 6.

يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، و خمسة آلاف بقرة، و عشرين ألف شاه (1)، و يقول الحافظ السهيلي: و بيت المقدس بناه سليمان عليه السلام، و كان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام، و اسمه إيلياء، و تفسيره العربية: بيت اللّه (2)، ذكره البكري، و في الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام بأربعين سنة، و هذا يدل على أنه قد كان بنى أيضا في زمن إسحاق و يعقوب عليهما السلام، و لكن بنيانه على التمام و كمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام (3)، و يقول الطبري في التاريخ:

و أصاب بني إسرائيل في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون اللّه و يسألونه كشف ذلك البلاء عنهم، فاستجيب لهم، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا، و كان ذلك فيما قيل، لإحدى سنة مضت من ملكه، و توفي قبل أن يستتم بناءه، فأوصى إلى سليمان. باستتمامه، و قتل القائد الذي قتل أخاه (يعني يوآب الذي قتل أبشالوم كما ذكرنا من قبل) فلما دفنه سليمان نفذ لأمره في القائد و قتله و استتم بناء المسجد، ثم يتحدث الإمام الطبري بعد ذلك عن التعداد الذي قام به داود في بني إسرائيل، و البلايا التي حاقت بالقوم بسببه، كما أشرنا من قبل، و أن داود استغفر ربه و طلب العفو عن بني إسرائيل، فاستجاب اللّه لهم و رفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب عن الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى اللّه إليه أن هذا بيت مقدس، و أنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانية، و لكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان

ص: 120


1- تفسير أبي السعود 6/ 278، و انظر تاريخ ابن خلدون 2/ 113.
2- قارن: (محمد بيومي مهران: إسرائيل الجزء الثاني ص 1155- 1158، الإسكندرية 1979).
3- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 354، هامش/ 1.

أسلمه من الدماء، فلما ملك سليمان بناه و شرفه (1): و يتفق ابن الأثير في روايته مع الطبري تماما (2).

و يقول المسعودي: و ابتدأ سليمان ببنيان بيت المقدس، و هو المسجد الأقصى، الذي بارك اللّه عز و جل حوله (3)، و يقول اليعقوبي: و ابتدأ سليمان في بيت المقدس و قال: إن اللّه أمر أبي داود أن يبنى بيتا، و إن داود شغل بالحروب، فأوحى اللّه إليه أن ابنك سليمان يبنى البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر و خشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه و لبسه الخشب من الداخل، و جعل الخشب منقوشا، و جعل له هيكلا مذهبا، و فيه آلة الذهب ثم أصعد تابوت السكينة فجعله في الهيكل، و كان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى (4)، و يقول ابن خلدون: و لأربع سنين من ملكه (أي سليمان) شرع في بناء بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك، و قد تم بناء الهيكل في سبع سنين (5).

هذا و قد أشرنا من قبل إلى الحديث الشريف الذي يقول فيه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن سليمان عليه الصلاة و السلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز و جل خلالا ثلاثا، سأل اللّه عز و جل حكما يصادف حكمه فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (6)، و عن رافع بن عمير قال سمعت رسول

ص: 121


1- تاريخ الطبري 1/ 484- 485، ثم قارن: صموئيل ثان 7/ 1- 17، 24/ 16- 24.
2- الكامل لابن الأثير 1/ 127- 128.
3- مروج الذهب للمسعودي 1/ 70، و انظر 1/ 69.
4- تاريخ اليعقوبي 1/ 58.
5- تاريخ ابن خلدون 2/ 111- 113، ثم قارن ملوك أول 6/ 1- 9/ 25.
6- سنن النسائي 2/ 43، سنن ابن ماجة 1/ 451، تفسير ابن كثير 4/ 58.

اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: قال اللّه عز و جل لداود عليه الصلاة و السلام ابن لي بيتا في الأرض، فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى اللّه إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي، قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى اللّه عز و جل، فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال و لم يا رب، قال لما جرى على يديك من الدماء، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك و محبتك، قال بلى و لكنهم عبادي و أنا أرحمهم، فشق ذلك عليه فأوحى اللّه إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، و لما تم قرب القرابين و ذبح الذبائح و جمع بني إسرائيل، فأوحى اللّه إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي، فسلني أعطك، قال أسألك ثلاث: خصال، حكما يصادف حكمك، و ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، و من أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أما الثنتان فقد أعطيهما، و أنا أرجو أن يكون قد أعطى الثالثة» (1).

و انطلاقا من كل هذا، فإنني أميل، حدسا عن غير يقين، إلى أن إبراهيم عليه السلام، هو الذي وضع الأسس للمسجد الأقصى، على أساس أن رواية مسلم إنما تتحدث عن أول مسجد، و ليس أول بيت، و هي العقبة التي احتج بها صاحب تفسير المنار، و على أساس ما جاء في الأحاديث الشريفة من أن سليمان هو الذي بنى بيت المقدس، و على أساس ما ذهب إليه جمع كبير من المؤرخين من أن سليمان قد بنى المسجد الأقصى بعهد أبيه إليه بذلك، و على أساس أن إبراهيم عليه السلام، طبقا لرواية العهد القديم (2)، إنما قد زار القدس، و أنه قد أقام المحاريب للّه في فلسطين،

ص: 122


1- تفسير ابن كثير 1/ 58 (ط بيروت 1986).
2- تكوين 12/ 6- 9، 14/ 19- 20.

و خاصة في شكيم و بيت إيل و بلوطات ممرا، و من ثم فليس هناك ما يمنع من أن يكون أبو الأنبياء قد فعل الشي ء نفسه في القدس، هذا فضلا عن أنه إذا ما كان صحيحا ما ذهبنا إليه في هذه الدراسة و غيرها من أن إبراهيم عليه السلام كان يعيش في الفترة (1940- 1765 ق. م) و أنه قد بنى الكعبة البيت الحرام حوالي عام 1824 قبل الميلاد (1)، و من ثم فإن بناءه أو وضعه لأسس المسجد الأقصى بعد ذلك بأربعين عاما، أي حوالي عام 1784 قبل الميلاد، يكون أمرا مقبولا، و أن ذلك قد تم قبل أن يولد حفيده يعقوب عليه السلام بأربع سنوات ذلك لأنه طبقا لما جاء في هذه الدراسة، و كما أشار العهد القديم (2)، فإن الخليل عليه السلام قد رزق بولده إسحاق عليه السلام، و قد أكمل المائة من عمره (بعد أن رزق بإسماعيل و هو في السادسة و الثمانين من عمره) و قد عاش إسحاق 180 عاما، و من ثم فهو كان يعيش في الفترة (1840- 1660 ق. م)، و أن يعقوب كان يعيش في الفترة (1780- 1633 ق. م) على أساس أنه ولد لأبيه إسحاق، و هو في الستين من عمره، و أنه عاش 147 سنة، و أن بنى إسرائيل قد دخلوا مصر حوالي عام 1650 قبل الميلاد، حين كان يعقوب في الثلاثين بعد المائة من عمره (3)، و أما سليمان فهو الذي بدأ بناء المسجد الأقصى، الذي وضع إبراهيم أسسه، في عام حكمه الرابع، حوالي عام 957 قبل الميلاد (4).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا بإيجاز إلى رواية العهد القديم

ص: 123


1- انظر عن بناء الكعبة المشرفة (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 183- 197).
2- تكوين 17/ 17، 25/ 26، 35/ 28، 47/ 9، 28.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 80- 82، دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 194- 195.
4- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 840- 860.

عن بناء المسجد الأقصى، و الذي تدعوه بيت الرب، حيث تذهب إلى أن مكان البيت إنما كان على جبل المريا في بيدر أرونة اليبوسي، فاشتراه منه داود و معه بقر للقرابين بخمسين شاقلا من الفضة (1)، هذا و تشير الرواية بوضوح إلى أن داود عليه السلام إنما كان أول من فكر في إقامة بيت للرب، إلا أن فكرته هذه لم تجد قبولا حسنا من رب إسرائيل، الذي كان يدخر هذا العمل لولده سليمان (2)، و مع ذلك فإن داود عليه السلام، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه، أراد أن يسجل معاونته الفعالة لولده سليمان في إقامة بيت الرب، فأخذ يجهز المواد اللازمة للبناء، و كان القوم في عصره ما يزالون في بداوة بدائية، يندر فيهم من يعرف أصول حرفة أو صناعة أو علم من علوم الدنيا، و سنرى أن الاعتماد على الفينيقيين كان الحل الوحيد الممكن أمام داود و سليمان حتى يرتفع هيكل الرب، و نقرأ في التوراة أن داود قد «أمر بجميع الأجانب الذين في أرض إسرائيل فاتخذ نحاتين لنحت حجارة مربعة لبناء بيت اللّه، و هيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب و الأوصال، و نحاسا كثيرا بلا وزن، و خشب أرز لم يحدد له عدد»، هذا فضلا عن كميات كبيرة من الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الخشب (3).

و هكذا، و في ربيع السنة الرابعة من عهد سليمان (حوالي عام

ص: 124


1- من عجب أن بعض الروايات العربية التي تنسب إلى أبي بن كعب تذهب إلى أن صاحب المكان غلام إسرائيلي، و ليس يبوسيا كنعانيا، و أن داود أراد أن يغتصبه منه، فنهاه ربه عن ذلك، و من ثم فقد اشتراه بتسعة قناطير من الذهب (السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 343 ط القاهرة 1320 ه) و الثمن جهد مغالا فيه، بل إن رواية التوراة جعلت ثمنه هو و البقر، خمسين شاقلا من الفضة صموئيل ثان 24/ 24).
2- صموئيل ثان 7/ 1- 17، 24/ 26- 24، ملوك جول 2/ 2، و انظر: تفسير ابن كثير 1/ 58، تاريخ اليعقوبي 1/ 58، تاريخ ابن خلدون 1/ 111، ابن الأثير 1/ 127- 128.
3- أخبار أيام أول 22/ 2- 16، أخبار أيام ثان 2/ 17- 18.

957 ق. م) وضع الحجر الأساسي لبناء بيت المقدس الذي استمر العمل فيه قائما على قدم و ساق سبعة أعوام، ثم واصل مهرة الصناع و الفعلة العمل ثلاثة عشر عاما بعد ذلك ليشيدوا صرحا أكبر يسكن فيه سليمان و نساؤه (1).

هذا و لم يقدم لنا موقع المعبد أي دليل الاعتماد عليه لتحقيق تصميمه، و من هنا فإن أية محاولة في هذه المجال لا تزيد عن كونها مجرد اجتهاد (2)، غير أن المعلومات التي يوفرها سفر حزقيال (40- 44) للمعبد الجديد، ربما تجعل من الإمكان استعادة تخطيطه، كما يمكن قول شي ء عن شكله الخارجي و تنظيمه الداخلي (3)، و من ناحية أخرى فإن المعلومات التي جاءت في سفر الملوك الأول (6/ 1- 38) إنما تشير بوضوح إلى التأثير المصري و العراقي، رغم الإشادة المستمرة بالمساعدة الفينيقية و بضخامة الإنفاق (4).

و نقرأ في التوراة أن سليمان عليه السلام، إنما أقام حفلا كبيرا بمناسبة الانتهاء من بناء المسجد الأقصى، دعا إليه شيوخ إسرائيل و كل رءوس الأسباط «لإصعاد تابوت عهد الرب من مدينة داود، و أن الجميع، و على رأسهم سليمان، قد اجتمعوا أمام التابوت «يذبحون من الغنم و البقر ما لا يحصى و لا يعد من الكثرة، و أدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت، في قدس الأقداس، و هنا ملأ الغمام بيت الرب، حتى أن الكهنة، ما كانوا بقادرين على أداء الطقوس الدينية، و يعلن سليمان أن الرب إنما يسكن في الضباب (5)، و نقرأ في سفر الملوك الأول (8/ 22- 53)

ص: 125


1- ملوك أول 6/ 1- 2، 37- 38، 7/ 2، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 112- 113.
2- ,QEP ,trA fo skroW dna sgnidluB rehto dna elpmeT s'nomoloS gnitcurtsnoceR ,seryM .L .J و كذا F 14. p، 1948، 80 F, AB, elpmeT s'nomoloS gnitcurtsnoceR, reilraG. L. P 2. p، 1951، 14.
3- . p, tic- po, tdlefssiE. O 598.
4- أندريه إيمار و جانين أو بوايه: المرجع السابق ص 267.
5- ملوك أول 8/ 1- 13.

دعوات سليمان الحارة إلى اللّه تعالى، ثم ينهض من أمام المذبح، و يداه مبسوطتان إلى السماء، ليعلن أمام خراف بيت إسرائيل الضالة «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو اللّه، و ليس آخر، فليكن قلبكم كاملا لدى الرب إلهنا، إذ تسيرون في فرائضه، و تحفظون وصاياه» (1)، ثم يشكر الرب على أنعمه التي أسبغها عليه و على بيت أبيه من قبل، سائلا إياه سبحانه و تعالى أن يجيب دعوات بني إسرائيل حين يدعونه في هذا البيت، و أن يغفر لهم خطاياهم (2)، ثم تنتهي الاحتفالات بتقديم الذبائح لرب إسرائيل، و التي بلغت عددا كبيرا جدا، وصل إلى «اثنين و عشرين ألفا من البقر، و من الغنم مائة ألف و عشرين ألف، فدشن الملك و جميع بني إسرائيل بيت الرب» (3).

و على أية حال، فإن المسجد الذي بناه سليمان إنما قد دمر تماما أثناء غزو «نبوخذ نصر» للقدس عام 586 ق. م و نهب الغزاة القدس و أشعلوا فيها النيران و أحرقوا القصر الملكي و المسجد، و هكذا ضاع كل أثر للمسجد، و معه البقية الباقية من التابوت الذي كفت الروايات عن ذكره بعد نقله لمعبد سليمان (4)، و لم يستطع القوم إعادة البناء إلا عام 515 ق. م.، على أيام الملك الفارسي «دارا الأول» (5)، ثم دمر المعبد الثاني هذا عام 70 م على يد القائد الروماني تيتوس، و أضرمت النيران في المدينة، و هدم المعبد و ضارعت آثاره تماما، حتى أن الناس قد نسوا فيما بعد، إذا كان هذا المعبد

ص: 126


1- ملوك أول 8/ 60- 61.
2- ملوك أول 8/ 25- 34.
3- ملوك أول 8/ 62- 65، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 113.
4- محمد بيومي مهران، إسرائيل 2/ 997- 1004، و كذا ,nodnoL ,learsI fo yrotsiH ehT ,htoN .M eht niygoloeahcrA ,noyneK .M .K 287. p، 1965. و كذا. P, dnaL ylaH 291
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1036- 1049، و كذا: عزرا 3/ 7، 6/ 15، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1014، و كذا, nodnoL, elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohSA, htoR. C 55- 54. p، 1969 و كذا. p, tic- po, kooC. A. S 409 و كذا. p, tic- po, htoN. M 314.

على التل الشرقي أو الغربي من المدينة المقدسة (1).

و في عام 135 م استولى الروم على القدس، ثم أمر الامبراطور «هدريان» (117- 138 م) بتدمير المدينة تماما و بنى فوقها مدينة جديدة باسم «إيليا كابيتولينا» (anilotipaC aileA) و أبدل المعبد القديم بمعبد آخر كرس للإله الوثني «جوبتر كابيتولينس» (sunilotipaC retipuJ) ثم قام الرومان بمذبحة نهائية ختمت مصير اليهود في فلسطين، كدولة و كقومية، و انتهت بذلك علاقة اليهود بفلسطين سياسيا و سكانيا و دينيا (2).

ص: 127


1- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1150- 1155، و كذا. p, tic- po, htoR. C 107- 103 و كذا, yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 388. p، 1967.
2- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1155- 1158، و كذا F, BJ P, nnamhtartS. H 92. p، 1927، 23 و كذا F, VPDZ, netluhcS. A 180. p، 1933، 56 و كذا. p, tic- po, htoN. M 454- 453.

ص: 128

الفصل الثّالث سليمان و ملكة سبأ

جاءت قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ في التوراة (1) و الإنجيل (2) و القرآن العظيم (3)، و إن اختلفت الكتب الثلاثة في سردها للقصة تبعا للهدف من القصة لكل منها، غير أنها جميعا لم تذكر اسم ملكة سبأ، أو الأرض التي كانت تقيم فيها، إلا إذا كان المراد بكلمة سبأ هنا، تلك الدولة التي قامت في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية (4).

و من عجب أن يذهب بعض النقاد ممن تعرضوا لقصص التوراة بالنقد، إلى أن قصة زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام، إنما هي أسطورة من الأساطير دونها كتبة التوراة لبيان عظمة سليمان و حكمته (5)، و لو تريث هؤلاء البعض من النقاد بعض الشي ء، و لما وقعوا في هذا المنزلق الخطير، و ربما خيّل لهؤلاء المتحذلقين من أدعياء التاريخ الذين يجمعون التمحيص كله في الإنكار، أنه خبر يسهل إنكاره بغير حجة، و كأن المنكر لا يطالب بحجة، و لا

ص: 129


1- ملوك أول 10/ 1- 13، أخبار أيام ثان 9/ 1- 9.
2- إنجيل متى 12/ 42.
3- سورة النمل: آية 20- 44.
4- قدم المؤلف دراسة مفصلة عن تاريخ دولة سبأ في أدوارها الأربعة (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 261- 368).
5- , grubnidE, elbiB eht fo yranoitciD A, sgnitsaH. J 843. p، 1936.

يعاب على النفي الجزاف، و الحق أن إنكارنا لأمر تجمع عليه التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم، لا يتفق و منهج البحث العلمي، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء بإجماع، أضف إلى ذلك إنه ليس في زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام أمرا مستحيلا، أو تصرفا شاذا يستوجب الاستنكار، كما يجنح إلى ذلك بعض الباحثين (1)، و خاصة إذا كان هؤلاء الباحثون لهم دراية بقصص القرآن.

على أن هناك فريقا آخر من الباحثين إنما يذهب إلى أن هذه القصة لا يمكن فهمها جيدا، إلا إذا قدّرنا أن السبئيين إنما كانوا يقطنون في شمال بلاد العرب (2)، و لعل أصحاب هذا الرأي ممن يذهبون إلى أن السبئيين إنما ترجع أصولهم الأولى إلى شمال بلاد العرب، في بلاد الجوف أو قريبا منها، و ليس في جنوبها (3)، و أن دولتهم الحقيقية لم تبدأ في جنوب بلاد العرب، إلا حوالي عام 800 قبل الميلاد (4)، أي بعد هذه الأحداث بما يقرب من القرن و نصف القرن من الزمان، و من ثم فإن هذه الملكة التي زارت سليمان عليه السلام، لم تكن ملكة سبأ الشهيرة في اليمن، و إنما كانت ملكة على مملكة

ص: 130


1- محمد عزة دروزة: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم- بيروت 1969 ص 162- 163.
2- فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص 63 (مترجم).
3- انظر عن: السبيئيين و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 265- 270).
4- يرى بعض الباحثين أن عصر مملكة سبأ إنما يبدأ حوالي عام 750 ق. م و يرى آخرون أنه كان حوالي عام 800 ق. م، و يذهب فريق ثالث إلى أنه كان في القرن التاسع قبل الميلاد، و الرأي عندي أنه كان في القرن العاشر، أو قبله بقرن، اعتمادا على علاقة ملكة سبأ بسليمان عليه السلام، و الذي كان، فيما يجمع المؤرخون، يعيش في القرن العاشر قبل الميلاد (انظر: محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 271- 273، جواد على: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 269، و كذا, ROSAB 38. p، 1955، 173 و كذا ,aibarA htuoS ni seirevocsiD lacigoloeahcrA ,thgirblA .W dna newoB .R 37. p، 1958 و كذا, nehcnuM, neibarA, nnamhorG. A 122. p، 1963.

صغيرة في أعالي شبه الجزيرة الغربية، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال، أو هي ملكة على الحكومات المحلية في منطقة معان و العلا، و التي ورثها السبئيون عن المعينيين (1)، و يستدلون على ذلك بأدلة منها (أولا) العثور على أسماء ملكات عربيات مثل زبيبة و شمس (2) و يثعي (ياتي) و تلخونو (تعلخونو) و تاربو (بتوءة) (3) و بائلة (باإيلو) و غيرهن في النصوص الآشورية، في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على اسم أية ملكة في النصوص العربية الجنوبية، غير أن هذا السبب في حاجة إلى إعادة نظر، ذلك لأن هؤلاء الملكات اللائي ذكرن آنفا إنما عشن في فترة متأخرة زمنيا عن عصر سليمان عليه السلام، كما أن عدم العثور حتى الآن على أسماء ملكات في اليمن لا يعني بالضرورة عدم وجود ملكات في تاريخ سبأ، كما أنه من المعروف أنه لم تجر حتى الآن حفريات كافية تثبت عدم وجود ملكات في سبأ، و من يدري فقد تكشف لنا الحفريات في وقت قريب أو بعيد عن أسماء

ص: 131


1- كثيرا ما تخلط الوثائق الآشورية بين ملك معين أو سبأ في جنوب غرب بلاد العرب، و بين الوالي المقيم في العلا و معان نائبا عن ملك معين أو سبأ، و من ثم فقد كان الآشوريون يذكرون هذا الوالي كما لو كان هو الملك الجنوبي، و هذا يفسر لنا الإشارات التي ترد في الوثائق السريانية و العبرية عن المعينيين و السبئيين و تذكرهم كما لو كانوا يقيمون في الجنوب الشرقي للبحر الميت، و قد أدى هذا الخلط إلى أن يظن البعض أن الملكين الأشوريين سرجون الثاني و سنحريب قد وصل نفوذهما إلى سبأ نفسها، و مع أن المراد في النصوص الجاليات المعينية و السبئية في العلا و معان، و إن أطلق الآشوريون على حكامها لقب ملك (محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 275- 278 و كذا, sageH nrehtroN ehT, lisuM. A 295. p، 1926. . 141. p, malsI fo dnuorgkcaB ehT, ylluhP. B. J و كذا. p, ssirdnurG, lemmoH. F 580)
2- . p, tic- pO, lisuM. A 477 و كذا, LSJA, sneeuQ cimalsI- erP, tobbA. N 4. p، 1941، 58 و كذا, TENA, niehcneppO. L. A 288. p، 1966
3- , II, BARA, lliulnekcuL. D. D 518. p، 1927 و كذا. p, tic- pO, miehneppO. L. A 291 و كذا, atreseD aibarA, llisuM. A 480. p، 1938.

ملكات في اليمن، فعلم ذلك عند علام الغيوب.

و منها (ثانيا) صعوبة تصور زيارة ملكة عربية جنوبية لسليمان عليه السلام، و تعجبها من بلاطه و حاشيته و عظمة ملكه، مع أن بلاط أورشليم (القدس) يجب ألا يكون شيئا بالنسبة إلى بلاط ملوك سبأ، و من ثم يجب ألا تكون هذه الملكة التي زارت سليمان، في نظر هذه الجماعة من علماء التوراة و بعض العلماء المحدثين (1)، إلا ملكة عربية صغيرة، لم تكن بعيدة عن عاصمة دولة سليمان في فلسطين، فقد تكون في جبل شمر، و تقع بين الحافة الجنوبية للنقود الكبير، و في وادي الرمة، و تتكون من سلسلتي جبال أجأ و سلمى، و قد تكون في نجد أو في الحجاز (2).

و الرأي عندي، أن من لجأوا إلى المقارنة بين بلاط سليمان عليه السلام، و بلاط ملكة سبأ، للوصول إلى رأي بشأن ملكة سبأ، و هل هي ملكة عربية جنوبية أو شمالية، إنما قد أخطئوا الطريق، فالمقارنة هنا لا تجدي نفعا و لا تحل المشكلة، كما أنها لا تعقدها، بل إن المقارنة لا تصح هنا أصلا بحال من الأحوال، و ذلك لأن بلاط سليمان، فيما نرى و نؤمن به الإيمان كل الإيمان، إنما يمثل معجزة نبيّ، و ليس عظمة ملك من الملوك، فالحديث هنا عن سليمان النبي عليه السلام، و ليس سليمان الملك، و الذي يقرأ الآيات الكريمة التي تحدثت عن القصة، كما جاءت في سورة النمل،

ص: 132


1- انظر عن هذه الآراء:. و كذا. p, tic- po, htoN. M 206 و كذا. p, tic- po, htoR. C 23- 21. p, tic- po, sdoL. A 375- 368 و كذا, SENJ, tamalaM. A 16- 13، 9- 48., on 21. p، 1963، 22 و كذا. p, tic- po, slleW G. H 77- 76 و كذا P, tpygE fo yrotsih A, detsaerB. H. J. 529.
2- جواد علي: المرجع السابق 1/ 636، 2/ 262، عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام ص 83- 89 و كذا, aihpledalihP, elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. J 181. p، 1934 و كذا, siraP, malsI'L tnava airyS ne sebarA seL, duassuD. R 10. p، 1907 و كذا. P, euqilbiB euveR, mrohD E 105.

و التي سنوردها هنا بنصها كاملا فيما بعد، ليعرف تماما أن الملك سليمان ما كان في استطاعته مثلا أن يفعل بعرشها ما فعل، و إنما الذي يستطيع ذلك، بإذن اللّه، إنما هو سليمان النبيّ، ذلك لأن ما حديث إنما كان يمثل معجزة للنبي الكريم، سيدنا سليمان عليه السلام، و صدق اللّه العظيم حيث يقول تعالى، على لسان سليمان، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

أضف إلى ذلك أن سليمان عليه السلام، كما رأينا من قبل، قد منحه اللّه تعالى كثيرا من المعجزات، فقد علمه اللّه منطق الطير و سائر لغات الحيوان، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس، و ربما تحدث معها، كما كان الأمر مع الهدهد و النمل، كما كان جند سليمان عليه السلام مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، و قد نظم لهم أعمالهم و رتب لهم شئونهم، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل يحيط به الجند و الخدم من كل جانب، فالإنس و الجن يسيرون معه، و الطير تطلّله بأجنحتها من الحر، هذا فضلا عن تسخير الريح له، بل و تسخير طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له من الأعمال ما يعجز عنها البشر، كبناء الصروح الضخمة و القصور العالية و القدور الراسيات و الجفان التي تشبه الأحواض، و أخيرا، و ليس آخرا، فكما الآن اللّه الحديد لداود أبيه، فقد أسال له عين القطر (2)، و كل تلك أمور من معجزات النبي سليمان عليه السلام، و ما كان و لن يكون أبدا لملكة سبأ، أيا كانت، شي ء من ذلك، و من ثم فالمقارنة بين البلاطين غير ذي موضوع.

ص: 133


1- سورة النمل: آية 38- 40.
2- انظر سورة الأنبياء: آية 81- 82، النمل: آية 15- 31، سبأ: آية 12- 13، ص: آية 30- 40.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أننا نستطيع أن نقدم، من آي الذكر الحكيم و من دراستنا لتاريخ العرب القديم، كثيرا من الأدلة التي تشير بوضوح إلى أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام، إنما كانت ملكة عربية جنوبية، و أنها كانت تجلس على عرش مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية و التي منها (أولا) أن الذي يفهم صراحة من القصة القرآنية أن سليمان عليه السلام، لم يكن يعرف شيئا عن هذه الملكة سواء من ناحية دولتها أو ديانتها (1)، و من هنا نراه يقول للهدهد، بعد أن أعلمه خبرها قال: سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (2)، و ليس من المقبول أن يكون سليمان، و هو الملك العظيم، كما هو النبي الكريم، لا يعرف شيئا عن ملكة سبئية تقيم في مجاورات فلسطين، و على تخوم دولته، خاصة و أن هناك علاقات تجارية بين سبأ و فلسطين، تتولى أمرها الجالية السبئية في العلا و معان، كما أن فلسطين مقر دولة سليمان، إنما تقع في نهاية طريق القوافل التي تشرف عليهما الجالية السبئية في واحة «ديدان» (العلا) و معون (معان)، هذا فضلا عن أن «عصيون جابر» (تل الخليفة على الطرف الشمالي لخليج العقبة) و كانت نقطة بداية تحرك أسطول سليمان التجاري، إنما كانت تمثل محطة هامة في طريق القوافل التجارية القادمة من جنوب بلاد العرب إلى وادي عربة و شرق الأردن حتى سورية، و هو طريق ذو أهمية خاصة للملك سليمان (3)، فكيف لا يعرف سليمان شيئا عن هذه الملكة الشمالية، سواء كانت ملكة لمملكة مستقلة أو على الجاليات السبئية في العلا و معان، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذه الملكة التي زارت سليمان إنما كانت ملكة في جنوب بلاد العرب حيث تقع دولة سبأ المشهورة.

ص: 134


1- سورة النمل: آية 22- 26.
2- سورة النمل: آية 27.
3- , egdirbmaC, 2 traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 593. p، 1975.

و منها (ثانيا) أن النص القرآني صريح في أن هذه الملكة إنما كانت ملكة دولة سبأ، قال تعالى: وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فالآية الكريمة تحدد هنا مجي ء الهدهد من سبأ، و لا يعرف التاريخ دولة بهذا الاسم غير دولة سبأ المعروفة في جنوب غرب بلاد العرب، و منها (ثالثا) أن وصف القرآن الكريم لملكة سبأ بها أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (1)، يجعلها يقينا ملكة جنوبية، و ليست شمالية، بخاصة و أن القرآن الكريم يصف قومها بالقوة و البأس الشديد، قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد، «و يصف هذه الملكة بأنها صاحبة الأمر و النهي في دولتها. وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (2)، و من ثم فإن ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين من أوصاف لهذه الملكة و قومها، لا يمكن أن ينطبق على ملكة صغيرة في شمال شبه الجزيرة العربية، و إنما على ملكة عظيمة تجلس على عرش دولة عظيمة تدعى سبأ، و لا يعرف التاريخ دولة بهذه الأوصاف سوى مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب بلاد العرب، و بعبارة أخرى، فإن هذه الملكة إنما هي، على وجه اليقين، ملكة جنوبية، و ليست شمالية.

و منها (رابعا) أنه من المعروف أن العرب الشماليين إنما كانوا يعبدون الأصنام، بينما سادت عبادة الكواكب عند العرب الجنوبيين، و خاصة عبادة ذلك الثالوث المشهور، و المكون من القمر و الشمس و الزهرة (و كانت الشمس تمثل فيه دور الأم، و يمثل القمر دور الأب، بينما كانت الزهرة تمثل دور الابن) و قد عبدت الشمس بصفة خاصة في ممالك معين و سبأ و حضرموت و قتبان (3)، و القرآن الكريم صريح في أن ملكة سبأ هذه و قومها إنما كان ).

ص: 135


1- سورة النمل: آية 23.
2- سورة النمل: آية 33.
3- كانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح»، و عند السبيئيين» ذات غضرن» و «ذات حمى» (ذات حميم) بمعنى ذات حرارة أو «ذات الحمى»، و الحمى الموضع الذي يحمي، و يخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة، و المكان الذي يحيط بالمعبد يكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه، و تسمى الشمس عند القتبانيين «ذات صبهرن» و «ذات رحبن»، و هذا و قد انتسب بعض العرب إلى الشمس فسمي «عبد شمس»، و طبقا لرواية الإخباريين فقد كان سبأ الأكبر، أول من تسمى بهذا الاسم، كما كان أول من تعبد للشمس، و من ثم فقد دعى «عبد شمس» (انظر عن التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الإسكندرية 1978 ص 22- 24، 86- 90).

يسجدون للشمس من دون اللّه، قال تعالى: وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1)، و من ثم فهذا دليل واضح على أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام إنما كانت ملكة عربية جنوبية، و ليست شمالية.

على أن الغريب من الأمر، أن يزعم المؤرخ اليهودي يوسف بن متى «أن ملكة سبأ هذه إنما هي ملكة أثيوبية، كما يزعم أن «سبأ abaS» هو اسم عاصمة الأحباش، و أن اسم الملكة هو (silakuam)، و من ثم تكون ملكة سبأ حبشية، و ليست عربية (2)، و أما الروايات الحبشية نفسها فتذهب إلى أن «منيلك» أول ملوك أثيوبيا في القرن العاشر قبل الميلاد، إنما كان ابنا لبطلة الشمي «بلقيس» (أو مكيدا أو مقيدا) و بطل القمر سليمان الحكيم، و من ثم فقد حمل ملوك الحبشة (أثيوبيا) من بين ألقابهم لقب «أسد يهوذا» أو «الأسد الخارج من سبط يهوذا» (3) حتى نهاية دولتهم في (21 مارس 1975)، على أن الأمر بهذه الصورة جد مضلل، فليس صحيحا أن اسم عاصمة الأحباش كان «سبأ» كما زعم يوسف اليهودي، هذا فضلا عن أن مملكة أكسوم إنما قامت في القرن الأول قبل الميلاد، و ليس في القرن العاشر، كما تزعم الروايات الحبشية، كما أن ملكة سبأ ليست حبشية، و إنما هي ملكة عربية

ص: 136


1- سورة النمل: آية 24.
2- . P, I, IE 027.
3- الحيمي الحسن بن أحمد: سيرة الحبشة- القاهرة 1958، نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم 3/ 378- 385، و كذا.. P, I, einissybA'L ed eriotsiH, xuaeblenoC. B. J 108 و كذا, nodnoL, I, ainissybA dna ailuN, aipoihtE fo yrotsiH, egduB. W. A. E 193. p، 1928.

تحكم دولة عربية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، و من ثم فليس هناك من شك في أن تلك أساطير نشأت بعد هجرة اليهود إلى الحبشة، في القرن السادس قبل الميلاد، أو القرن الأول أو حتى الثاني بعد الميلاد، حتى إن «ليتمان» قد قرأ في بعض نقوش الملك الحبشي «عيزانا» عبارة «ملك صهيون»، و رغم أن هذا الرجل الذي اعتلى العرش عام 325 م، قد اعتنق النصرانية، فربما كانت هناك حركة تبشير باليهودية و النصرانية، أو بمذهب يجمع بين الديانتين (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر في تفسير الروايات التي تذهب إلى أن ملكة سبأ حبشية، و ليست عربية، أقدمه هنا بحذر، و اعتمد فيه على فرضين، لا أرجح الواحد على الآخر، أما أول الفرضين فهو أن تلك الروايات ربما كانت نتيجة انتشار آراء التوراة المضطربة حول أصل السبيئيين، فهم مرة من الساميين (2)، و أخرى من الحاميين (3)، ثم إن سبأ مرة من ولد يقطان (4)، و مرة من ولد يقشان (5)، و من ثم فقد ذهب بعض الباحثين، نتيجة لهذا الاضطراب إلى أن هذا دليلا على انتشار السبيئيين في آسيا (اليمن) و في إفريقيا (أرتيريا و الحبشة) (6)، و أما الفرض الثاني، فربما كانت نفس تلك الآراء متأثرة بالرأي الذي ينادي بأن مملكة أكسوم نفسها إنما أقامها العرب الجنوبيون (7).

ص: 137


1- , siraP, einissybA'D euqitnA eriotsiH'L rus aisE, reremmaK. A 68. p، 1926.
2- تكوين 10/ 28.
3- تكوين 10/ 7، أخبار أيام أول 1/ 9.
4- تكوين 19/ 28.
5- تكوين 25/ 1- 3، و كذا انظر: , nodnoL, tsaE raeN tneicnA eht dna elbiB ehT, thgirllA. F. W 300. p، 1961.
6- . P, BE 2564 و كذا. p, tic- po, gnitsaH. J 40.
7- جواد علي 3/ 451، جورج فضلو حوراني: العرب و الملاحة في المحيط الهندي ص 85 (مترجم)، و كذا. F. Altheim and R. Steihl, Die Arabier in der Alten Welt, Berlin, I, 114. p، 1964.

و تذهب الروايات العربية إلى أن ملكة سبأ هذه إنما كانت تسمى «بلقيس» أو «بلقمة أو يلقمة» (1)، و يرى أستاذنا الدكتور أحمد فخري، طيب اللّه ثراه، أن أحد الاسمين، و ربما كان يلقمه، نتيجة خطأ في النقل عن الآخر، و ربما كان اسم الإله الوثني «الموقاة» (بمعنى إيل قوي، أي اللّه قوي) يدخل تركيبه، أما اسم «بلقيس» الذي تكرر ذكره في كتب المؤرخين المسلمين، فلم يرد على الإطلاق بين الأسماء السبئية (على الأقل حتى الآن) و هناك احتمال بأنه منقول عن العبرية التي نقلته عن اليونانية، و معناه «أمة»، أو «جارية» (2)، و أما أستاذنا الدكتور حسن ظاظا، فالرأي عنده أن اسم هذه الملكة لم يكن يقينا «بلقيس»، و ربما كانت هذه صفة تنطق في العبرية و الآشورية «بلجشن» أو «فلجش»، و معناه العشيقة أو الزوجة غير الشرعية، و الراجح أن ملكة سبأ و صمت بذلك من الشعب اليهودي الذي لم يكن يستريح إلى مثل هذه الصلات بين ملوكه و النساء الأجنبيات (3).

و أيا ما كان اسم ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام، و أيا كان السبب في تسميتها بهذا الاسم أو ذاك، كما تذكره المصادر العربية و العبرية و اليونانية و الحبشية، فالتوراة تزعم أن ملكة سبأ إنما كانت تهدف من وراء زيارتها هذه إلى البحث عن الحكمة و امتحان سليمان، و أنها حينما تأكدت من حكمته و عظمة ملكه، سرعان ما قدست إله إسرائيل، الذي جعل سليمان ملكا تجري على يديه الحكمة و فصل الخطاب، ثم دعت إله إسرائيل أن يثبت عرشه إلى الأبد «ليكن مباركا إلهك الذي سر بك و جعلك على كرسي

ص: 138


1- تاريخ الطبري 1/ 489، الكامل لابن الأثير 1/ 129، البكري 4/ 1298، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 21.
2- أحمد فخري: المرجع السابق ص 73.
3- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 133.

إسرائيل، لأن الرب أحب إسرائيل إلى الأبد جعلك ملكا لتجري حكما و برا»، ثم انتهى بأن تبادل الملكان الهدايا، «و أعطت الملك مائة و عشرين وزنة ذهب و أطيابا كثيرة جدا و أحجار كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان»، و أعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان، و ذهبت إلى أرضها هي و عبيدها» (1).

على أن هناك فريقا من الباحثين إنما يجنح إلى أن زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام، إنما كانت لتوثيق العلاقات التجارية و تسهيل التعاون التجاري بينهما، بل إن هناك من يزعم أن هذه الملكة لم تكن الحاكم الفعلي لبلادها (2)، و لكنها هي التي قامت بالزيارة، و من ثم فيمكن الاستنتاج من ذلك أنها هي التي رغبت في القيام بأعمال تجارية مع سليمان، و ربما كان ذلك لتنظيم سير القوافل التجارية و الإشراف عليها، على أن هناك من يرى أن سليمان هو الذي دعا ملكة سبأ لزيارته و الإقامة فترة من الزمان في مكان ما من هضاب أدوم لمشاهدة عمال الملك و هم يستخرجون النحاس من المناجم الممتدة من هناك (3).

و هكذا يبعد هؤلاء الباحثون عن الأهداف الحقيقية لزيارة ملكة سبأ لنبيّ اللّه سليمان عليه السلام، و إيمانها بدعوة النبي الكريم «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» (4)، يبعد الباحثون عن

ص: 139


1- ملوك أول 1/ 1- 13.
2- تكذب آيات القرآن الكريم هذا الادعاء، كما يبدو ذلك واضحا من الآيات 23- 35، 41- 42، 44 من سورة النمل.
3- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 772 و كذا, learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA, thgirblA. W 124. p، 1963, melasureJ ni noitavacxE, nogneK. M. K 1962، F, QEP ni 7. p، 1963، 95. و كذا
4- سورة النمل: آية 44.

هذا الهدف النبيل من الزيارة، فيذهبون إلى أن مملكة سليمان إنما كانت في نهاية طريق البخور، و كان وكلاء سليمان يقومون بالإجراءات الجمركية، إن صح هذا التعبير، على البضائع الثمينة، كما كانوا هم الذين يسمحون للقوافل بالاستمرار في رحلتها إلى مصر و فينيقيا و سورية عبر مملكة سليمان في فلسطين، و من ثم فليس من الغريب أن تصل شهرة سليمان إلى ملكة سبأ (1)، و هكذا «فقد أتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا، بجمال حاملة أطيابا و ذهبا كثيرا جدا، و حجارة كريمة، و أتت إلى سليمان و كلمته بكل ما في قلبها» (2).

و الحق كل الحق، أن القصة كلها إنما تتصل بدعوة النبي سليمان عليه السلام، و ليس بالملك سليمان، و لنقرأ أولا هذه الآيات الكريمة التي تصور القصة أصدق تصوير، يقول تعالى: وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبإ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شي ء و لها عرش عظيم، وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون اللّه و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، ألا يسجدوا للّه الذي يخرج الخب ء في السموات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون، اللّه لا إله إلا هو رب العرش العظيم، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون، قالت: يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتاب كريم، إنه من سليمان و إنه بسم اللّه الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، قالوا

ص: 140


1- جواد علي 2/ 263، و كذا. S. p, tic- po, relleK. W 215- 213 و كذا. p, tic- po, sgnitsaH. J 843. p, tic- po, tdlefssiE. O 39593. و كذا
2- ملوك أول 10/ 2.

نحن أولوا قوة و ألوا بأس شديد، و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين: قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون، و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني اللّه خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم كفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم، قال نكروا لها عرشها ننظر أ تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أ هكذا عرشك قالت كأنه هو، و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين، و صدها ما كانت تعبد من دون اللّه إنها كانت من قوم كافرين، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة و كشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» (1).

و تبدأ القصة بالنبي الملك سليمان عليه السلام في موكبه الفخم الضخم، من الجن و الإنس، و يتفقد عليه السلام الطير، فلا يجد الهدهد،

ص: 141


1- سورة النمل: آية 20- 44، و انظر: تفسير الطبري 19/ 143- 170، تفسير الطبرسي 19/ 208- 230، تفسير روح المعاني 19/ 182- 210، تفسير القرطبي 13/ 176- 213، تفسير أبي السعود 4/ 127- 134، في ظلال القرآن 5/ 2631- 2643، تفسير الكشاف 3/ 142- 151، تفسير البيضاوي 2/ 172- 178، تفسير النسفي 3/ 207- 215، تفسير الفخر الرازي 24/ 188- 200، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 104- 112، صفوة التفاسير 2/ 406- 412، تفسير ابن كثير 3/ 574- 586، تيسير العلي القدير لتفسير ابن كثير 3/ 320- 240، تاريخ الطبري 1/ 489- 495، الكامل لابن الأثير 1/ 224- 238، تاريخ ابن خلدون 2/ 113- 114، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 18- 24.

و قد اختلف العلماء فيما لأجله تفقده على وجوه، أحدها قول وهب: أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده، و ثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه، و كان يعرف الفصل بين قريبه و بعيده، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه و تفقده (1)، و ثالثها أنه كان يظله من الشمس، فلما فقد ذلك تفقده (2)، و لعل في هذا ما يشير إلى أنه هدهد خاص معين في نوبته، و ليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد، كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته، سمة اليقظة و الدقة و الحزم، فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن و الإنس و الطير الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق و ينتكث، و هو يسأل عنه في صيغة مرتفعة مرنة جامعة «ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» و يتضح أنه غائب و يعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن، و حينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم كي لا تكون فوضى، و من ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف «لأعذبنه عذابا شديدا، أو لأذبحنه»، و لكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي، و هو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع و يتبيّن عذره، و من ثم تبدر سمة النبي العادل «أو ليأتيني بسلطان مبين» أي حجة قوية توضح عذره، و تنفي المؤاخذة عنه (3).

ص: 142


1- جاء في تفسير الطبري (19/ 144) اختلف عبد اللّه بن سلام و القائلون بقوله، و وهب بن منتبه، فقال عبد اللّه: كان سبب تفقده الهدهد و سؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره، و قال وهب: كان تفقده إياه و سؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها، و اللّه أعلم، كما يقول الطبري، بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل، و لا خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صحيح، و الصواب أن يقال إن اللّه أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير، إما للنوبة التي كانت عليها و أخلت بها، و إما لحاجة كانت إليها عن بعد الهاء.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 189.
3- في ظلال القرآن 5/ 2638.

و يأتي الهدهد بعد مكث غير بعيد، فيقول للنبي الكريم «أحطت بما لم تحط به»، و في هذا، كما يقول الإمام الفخر الرازي، تنبيه لسليمان على أن من أدنى خلق اللّه تعالى من أحاط علما بما لم يحط، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب، و الإحاطة بالشي ء علما أن يعلم من جميع جهاته (1)، ثم يخبره بهذا الذي لم يحط به وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، أي أنني أتيت من سبأ- و هي مملكة عظيمة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية- و قد وجدت القوم تحكمهم امرأة» (2) أوتيت من كل شي ء»، كناية عن عظمة ملكها و ثرائها و توافر أسباب الحضارة و القوة و المتاع، «و لها عرش عظيم» أي سرير ملك فخم ضخم يدل على الغنى و الترف و ارتقاء الصناعة أو عظيم في قدره و عظم خطره، لا عظمة في الكبر و السعة، لكن هذه المرأة و قومها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، و هنا نجد أنفسنا أمام هدهد عجيب، صاحب ذكاء و إيمان، و براعة في عرض النبأ، و يقظة إلى طبيعة موقفه و تلميح و إيماء أريب، فهو يدرك أن هذه ملكة و أن هؤلاء رعية، و يدرك أنهم يسجدون للشمس من دون اللّه، و يدرك أن السجود لا يكون إلا للّه رب العرش العظيم، و ما هكذا تدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف (3).

و من ثم فقد أراد النبي الكريم أن يختبر صدق الهدهد في دعواه، و في

ص: 143


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 190.
2- روي البخاري و الترمذي و النسائي بسنده عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: لن يفلح قوم و لوا أمرهم امرأة (البداية و النهاية 2/ 22).
3- في ظلال القرآن 5/ 2638، و انظر تفسير الطبري 19/ 148.

نفس الوقت أن يدعو هؤلاء المنحرفين عن عبادة اللّه الواحد القهار «قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون»، و تجمع الملكة الملأ من القوم و تعرض عليهم الأمر يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ، و يقول الفخر الرازي في وصف الكتاب بأنه كريم، فيه ثلاثة أوجه، أحدها حسن مضمونة و ما فيه، و ثانيها وصفه بالكريم لأنه من عند ملك كريم، و ثالثها أن الكتاب كان مختوما، و قال صلى اللّه عليه و سلم: «كرم الكتاب ختمه»، و كان صلى اللّه عليه و سلم: يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتما» (1)، كما يدل ذلك أيضا على أدب جم تحلت به الملكة العربية، و على أية حال، فإن الكتاب يفيد أن الملكة كانت لا تعبد اللّه، و لكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة، و لغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء و حزم و جزم، مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته، و فحوى الكتاب في غاية البساطة و القوة، فهو مبدوء باسم اللّه الرحمن الرحيم، و مطلوب فيه أمر واحد: ألا يستكبروا على مرسله و يستعصوا و أن يأتوا إليه مستسلمين للّه الذى يخاطبهم باسمه (2).

و تطلب الملكة الرأي و المشورة من الملأ في هذه الأزمة التي أتت إليها من حيث لا تحتسب، و في نفس الوقت تعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر، إلا بعد هذه المشورة، برضاهم و موافقتهم «يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون»، و يأتيها الجواب سريعا من المؤتمرين «نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد، و الأمر إليك فانظري ما ذا

ص: 144


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 194، تفسير النسفي 3/ 209- 210.
2- في ظلال القرآن 5/ 2639- 2640.

تأمرين»، و ليس هناك من ريب في أن هذا السياق القرآني إنما يدل بوضوح على أنها صاحبة السلطان الفعلي في مملكتها، بعكس ما ذهب إليه بعض الباحثين (1)، كما أشرنا من قبل، و أما القوة و البأس اللتان أشار إليهما الملأ، فالمراد بالقوة قوة الأجسام و قوة الآلات، و أما البأس فالمراد النجدة و الثبات في الحرب، و حاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين، أحدهما إظهار القوة الذاتية و العرضية ليظهر أنها إن إرادتهم للدفع و الحرب وجدتهم بحيث تريد، و الآخر قولهم: «و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» و في ذلك إظهار الطاعة لها، إن أرادت السلم و لا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا (2)، و يقول الإمام النسفي: أرادوا بالقوة، قوة الأجسام و الآلات، و بالبأس النجدة و البلاء في الحرب، «و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» أي موكول إليك، و نحن مطيعون لك، فأمرينا بأمرك نطعك و لا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأي و المشورة، و أنت ذات الرأي و التدبير فانظري ما ذا تريدين نتبع رأيك نتبع رأيك، فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة، مالت إلى المصالحة و رتبت الجواب، فزيفت أولا ما رتبوه، و أرتهم الخطأ فيه حيث «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية (عنوة و قهرا) أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون «أرادت و هذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك (3)، و جاء في تفسير ابن كثير: قال الحسن البصري: فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا، كانت هي أحزم رأيا منهم و أعلم بأمر سليمان، و أنه لا قبل لها بجنوده و جيوشه و ما سخر له من الجن و الإنس و الطير، و قد شاهدت مع الهدهد أمرا عجيبا

ص: 145


1- . p, tic- po, tdlefssiE. O 593.
2- تفسير الرازي 24/ 195.
3- تفسير النسفي 3/ 210.

بديعا (1)، فقالت لهم إني أخشى أن نحاربه و نمتنع عليه فيقصدنا بجنوده و يهلكنا بمن معه و يخلص إلى و إليكم الهلاك و الدمار دون غيرنا، و لهذا قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، قال ابن عباس: أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه، و جعلوا أعزة أهلها أذلة، أي و قصدوا من فيها من الولاة و الجنود و أهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل أو الأسر .. ثم عدلت إلى المصالحة و المهادنة و المسالمة و المخادعة و المصادفة (2).

و هكذا تبدأ الملكة في أعمال الحيلة و التدبير، بل و هنا تظهر شخصية المرأة من وراء الملكة، المرأة التي تكره الحروب و التدمير، و التي تنعني سلاح الحيلة و الملاينة، قبل أن تنفي سلاح القوة و المخاشنة (3)، و من ثم فإنها تعمل على أن تضع النبي الكريم موضع الاختبار لتصل إلى رأي تطمئن إليه بشأنه، و هل هو من الهداة المرشدين أم من الطغاة الطامعين، و من ثم فإنها تبعث برسل من عندها إلى صاحب هذه الرسالة الذي يطلب منها، و كذا قومها، ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» يحملون الهدايا الثمينة (4)، كما أنها

ص: 146


1- قارن في ظلال القرآن (5/ 2639) حيث يرجح صاحبه أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب، و لا كيف ألقاه، و لو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به، كما تقول التفاسير، لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم، و لكنها قالت بصيغة المجهول، مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقى إليها و لا من ألقاه.
2- تفسير ابن كثير 3/ 579 (ط بيروت 1986).
3- في ظلال القرآن 5/ 2640.
4- روت كتب التفسير عن ابن عباس أنها بعثت إليه بوصائف و وصفاء و ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الاثنى ثم رد الهدية فإنه نبيّ، و ينبغي لنا أن نترك ملكنا و نتبع دينه و نلحق به، و عن ابن جريح قال مجاهد: فخلص سليمان بعضهم من بعض و لم يقبل هديتها، و عن ثابت البناني قال: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقى في الطرق، فلما جاءوا فرأوه ملقي ما يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به، و في تفسير النسفي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري و حليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم و السروج بالذهب المرصع بالجواهر، و خمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان و ألف لبنة من ذهب و فضة و تاجا مكللا بالدر و الياقوت، و حقّا فيه درة عذراء و جزعة معوجة الثقب، و بعثت كتابا فيه نسخة الهدايا و قالت: إن كنت نبيا فميّز بين الوصفاء و الوصائف و أخبر بها في الحق و اثقب الدرة ثقبا و اسلك في الخزرة خيطا، ثم قالت لكبير رسلها: إن نظر إليك نظرة غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظرة، و إن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبيّ، فأقبل الهدهد و أخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب و الفضة و فرشوها في ميدان بين يديه طوله، سبعة فراسخ و جعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب و الفضة، و أمر بأحسن الدواب في البر و البحر فربطوها عن يمين الميدان و يساره على اللبنات و أمر بأولاد الجن و هم خلق كثير فأقيموا عن اليمين و اليسار، ثم قعد على سريره و الكراسي من جانبيه، و اصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، و الإنس صفوفا فراسخ، و الوحش و السباع و الطيور و الهدام كذلك، فلما دنا القوم و رأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا، و لما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه و قال: أين الحق فأمر الأرضة فأخذت شعرة و نفذت في الدرة و أخذت دودة بيضاء الخيط بفيها و نفذت فيها، و دعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، و الغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية، و في تفسير ابن كثير: أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء، و لا من الأرض، فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك، و بخرزة و سلك ليجعله فيها ففعل و اللّه أعلم أ كان ذلك أم لا، و الظاهر أن أكثره من الإسرائيليات، و أن سليمان لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية و لا اعتنى به، بل أعرض عنه (تفسير الطبري 19/ 155، تفسير النسفي 3/ 211، تفسير ابن كثير 3/ 580.

في الوقت نفسه طلبت من رسلها أن يقفوا على قوة سليمان، ثم يعودوا إليها بتقرير واف شامل عن حقيقته، و مدى ما يمكن أن يقدر عليه من المكيدة، و هل يمكنه أن يهدد أمنها و أمن قومها، إن لم تخضع لأمره، و ذلك لتكون على بينة من أمرها، و حتى يمكنها اتخاذ القرار المناسب، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها و شركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، ذلك لأن الهدية تلين القلب و تعلن الود، و قد تفلح في دفع القتال، و هي تجربة، فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، و وسائل الدنيا إذن تجدي، و إن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة الذي لا يصدفه عنه مال، و لا عرض من أعراض

ص: 147

الدنيا، قال ابن عباس: قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، و إن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه (1).

و جاءت الرسل إلى سليمان عليه السلام بالهدايا فرفضها، و أعلم رسل الملكة أن ما آتاه اللّه من الملك و النبوة و الرسالة و ما جعل له فيهما من ثواب عظيم، و مقام كريم، إنما هو خير من هداياهم، و من كل ما عندهم من عرض الدنيا، ثم توعّدهم بأن يرسل إليهم، و في بلادهم نفسها، بجنود لا قبل لهم بها، و ليخرجنّهم منها أذلة و هم صاغرون، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (2)، و هنا تتأكد الملكة العربية أنها أمام واحد من المصطفين الأخيار، يطلب لها، و كذا لقومها، الهداية إلى سواء السبيل، و ليس رجلا غزته قوته، فأراد أن يجعل دولتها جزءا من مملكته، فتقرر الذهاب بنفسها إلى النبي الكريم، قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان و أخبروها الخبر قالت: قد عرفت ما هذا بملك، و ما لنا به من طاقة، و بعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي و ما تدعو إليه من دينك (3).

و يستعد سليمان لاستقبال الملكة بأمر يخرج عن قدرة البشر العاديين، و يدخل في عداد معجزات الصفوة المختارة من أنبياء اللّه و رسله الكرام البررة، قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ

ص: 148


1- في ظلال القرآن 5/ 2640، تفسير ابن كثير 3/ 579- 580.
2- سورة النمل: آية 36- 37.
3- انظر: حاشية زادة على البيضاوي 3/ 493، صفوة التفاسير 2/ 409.

مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

هذا و قد اختلف المفسرون و المؤرخون في قصد سليمان عليه السلام من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها، كما اختلفوا كذلك في هذا الذي عنده علم من الكتاب، و الذي قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فأما عن الهدف من استحضار العرش، فذهب رأي إلى أنه وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده لتؤثر في قلب الملكة و تقودها إلى الإيمان باللّه و الإذعان لدعوته، و يقول الفخر الرازي: و اختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرش على وجوه، أحدها: أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة اللّه تعالى، و على نبوة سليمان عليه السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت، و ثانيها: أراد أن يؤتي بذلك العرش فيغيّر و ينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره، و المقصود اختبار عقلها، و قوله تعالى: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي كالدلالة على ذلك، و ثالثها، قال قتادة: أراد أن يأخذه قبل إسلامها، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها، و رابعها: أن العرش سرير الملك فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، و قال أبو جعفر:

و أولي الأقوال بالصواب أنه أراد أن يجعل ذلك حجة عليها في نبوته، و يعرفها بذلك قدرة اللّه و عظيم شأنه، و أما أولي التأويلين في قوله تعالى:

قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فهو قول ابن عباس من أن معناه طائعين، لأن المرأة لم تأت سليمان إذ أتته مسلمة، و إنما أسلمت بعد مقدمها عليه، و بعد محاورة جرت بينهما و مساءلة (2).

و أما الذي عنده علم من الكتاب فقد اختلفوا فيه على قولين، قيل كان

ص: 149


1- سورة النمل: آية 38- 40.
2- تفسير الطبري 19/ 160- 161، في ظلال القرآن 5/ 2641، تفسير الفخر الرازي 24/ 197، تفسير البيضاوي 2/ 83، تفسير النسفي 3/ 212، تفسير ابن كثير 3/ 581، صفوة التفاسير 2/ 409، تفسير القرطبي ص 4918- 4919.

من الملائكة و قيل كان من الإنس، فمن قال بالأول اختلفوا، قيل هو جبريل عليه السلام، و قيل هو ملك أيد اللّه تعالى به سليمان عليه السلام، و من قال بالثاني اختلفوا على وجوه، أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه السلام، و ثانيهما، و هو المشهور، من قول ابن عباس: إنه آصف بن برخيا وزير سليمان، و كان صديقا يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب، و كذا روي عن يزيد بن رومان أنه «آصف بن برخيا» و كان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعى اللّه به أجاب، و إذا سئل به أعطى، و ذهب ابن عطية و أبو حيان إلى أن هذا القول هو قول الجمهور، و عدّه الشوكاني قول أكثر المفسرين و ثالثها قول قتادة إنه رجل من بني آدم، قال معمر: أحسبه قال من بني إسرائيل، كان يعلم اسم اللّه الذي إذا دعى به أجاب، و رابعها قول ابن زيد: كان رجلا صالحا في جزيرة في البحر، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان، فلما سمع العفريت يقول: «أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إنه عليه لقوي أمين»، قال: «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» ثم دعا باسم من أسماء اللّه، فإذا هو يحمل بين عينيه، و قرأ «فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي» إلى قوله تعالى فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

على أن هناك من يذهب إلى أنه النبي الكريم نفسه سيدنا سليمان عليه السلام (2)، و يذهب الدكتور المطرفي (3) إلى أن سليمان قال ذلك ليظهر

ص: 150


1- تفسير القرطبي 19/ 162- 163، تفسير القرطبي 13/ 205- 206، تفسير ابن كثير 3/ 582، تفسير الكشاف 3/ 149، تفسير البحر المحيط 7/ 76، تفسير النسفي 3/ 213، صفوة التفاسير 2/ 409، فتح القدير للشوكاني 4/ 139، البداية و النهاية 2/ 23، الكامل لابن الأثير 1/ 132، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
2- تفسير الكشاف 3/ 149، تفسير القرطبي 13/ 205، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق 75- 76.

معجزة من اللّه تعالى تجري على يديه، توثيقا لإيمان جموعه بنبوته و رسالته، و يكون الخطاب، كما قال ابن عطية، على هذا التأويل للعفريت لما قال أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، كأن سليمان استبطأ ذلك، فقال له على جهة تحقيره أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، ليبيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإيتان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت (1)، و قد أيد القرطبي ابن عطية و قال: إن النحاس قال بذلك في معاني القرآن، و هو قول حسن إن شاء اللّه، و أن القائلين بأن قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ من قول سليمان عليه السلام، استدلوا على ذلك بما جاء في هذه الآية نفسها من قوله فيها، إظهار الفضل اللّه تعالى عليه هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (2).

هذا و قد ذهب الفخر الرازي (3) إلى هذا الرأي، فقال إنه سليمان نفسه، و المخاطب هو العفريت الذي كلمه، و أراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة، فتحداهم أولا، ثم بيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت، و هذا القول أقرب لوجوه، أحدها أن لفظه الذي موضوعه في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة، و الشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام، فوجب انصرافه إليه، و أقصى ما في الباب أن يقال: كان آصف كذلك، لكننا نقول إن سليمان عليه السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبيّ، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان أولى، و الثاني: أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان، لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان، و أنه غير جائز، و الثالث: أن سليمان عليه السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال

ص: 151


1- تفسير القرطبي 13/ 205، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
2- تفسير القرطبي 13/ 205 (دار الكاتب العربي- القاهرة 1967).
3- تفسير الفخر الرازي 24/ 197- 198.

سليمان في أعين الخلق، و الرابع: أن سليمان قال: «هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر»، و ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره اللّه تعالى بدعاء سليمان، على أن الأستاذ سيد قطب إنما يرجح أنه غير سليمان، و حجته أنه لو كان هو لأظهره السياق باسمه، و لما أخفاه، و القصة عنه، و لا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر (1).

بقيت الإشارة إلى أن بعض المفسرين حاولوا تفسير «الكتاب» في قوله تعالى: عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، فقال بعضهم إنه التوراة، و قال بعضهم إنه كان يعرف اسم اللّه الأعظم، الذي إذا دعى به أجاب، كما أشرنا من قبل، و هو «يا حي يا قيوم يا ذا الجلال و الإكرام، أو يا إلهنا و إله كل شي ء، إلها واحدا، لا إله إلا أنت»، و قيل كان له علم بمجاري الغيوب إلهاما، و أنه قال لسليمان، فيما يروي عن وهب بن منبه، «امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به»، فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب، ثم قام فتوضأ و دعا اللّه تعالى، قال مجاهد، قال يا ذا الجلال و الإكرام، و قال الزهري قال: يا إلهنا و إله كل شي ء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، قال فمثل بين يديه، قال مجاهد و سعيد بن جبير و محمد بن إسحاق و زهير بن محمد و غيرهم، لما دعا اللّه تعالى و سأله أن يأتيه بعرش بلقيس، و كان في اليمن و سليمان عليه السلام ببيت المقدس، غاب السرير و غاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد تمت المعجزة، و رأى سليمان عليه السلام عرش ملكة سبأ مستقرا بين يديه، فأمر أن تنكر لها معالم هذا العرش ليمتحن بذلك قوة ملاحظتها و انتباهها، فلما جاءت فوجئت بأول ظاهرة عجيبة،

ص: 152


1- في ظلال القرآن 5/ 2641.
2- تفسير النسفي 3/ 213، تفسير ابن كثير 3/ 582، في ظلال القرآن 5/ 2641.

فعرض عليها عرشها و قيل لها: أ هكذا عرشك، فأجابت: كأنه هو، لا تنفي و لا تثبت، مما يدل على فراسة و بديهية في مواجهة المفاجأة العجيبة، فضلا عن غزارة في الفهم و قوة في الملاحظة، فلقد استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن، و لم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب، قال النسفي: أجابت أحسن جواب، فلم تقل هو هو، و لا ليس به، و ذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم: أ هكذا عرشك شبهت عليهم بقولها: كأنه هو، مع أنها علمت أنه عرشها، ثم كانت في انتظارها مفاجأة أخرى، فلقد أمر سليمان بأن يقام لها صرح من قوارير (زجاج) تجري تحته المياه حتى يحسبه من لا يعرف أمره أنه ماء (1).

و هكذا ما إن وصلت الملكة السبئية إلى القدس، عاصمة سليمان، حتى وجدت أمامها مفاجأتين، الواحدة عرشها، و قد نكر لها، و الأخرى ذلك الصرح الزجاجي الذي تجري المياه من تحته، أو ذلك القصر البلوري، الذي أقيمت أرضيته فوق الماء، فظهر و كأنه لجة، فلما قيل لهما: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة فكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها «قال إنه صرح ممرد من قوارير»، و كل من المفاجأتين إنما تدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاعة البشر، فرجعت إلى اللّه و ناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان، لا لسليمان، و لكن «للّه رب العالمين» (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ، وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ، وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ

ص: 153


1- تفسير النسفي 3/ 214، الصابوني: المرجع السابق ص 293- 294.
2- في ظلال القرآن 5/ 2643.

مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1).

و هكذا رأت الملكة كل ما يبعد عنها أية ريبة في أنها أمام نبيّ كريم، أمام نبيّ اللّه سليمان عليه السلام، و ليس، كما كانت تظن بادئ ذي بدء، أنها أمام ملك يطمع في دولتها أو يبغي الاستيلاء عليها، ثم يجعل من أعزة قومها أذلة، و كذلك يفعل الطامعون المستعمرون، و عندئذ تصرفت سيدة سبأ تصرفا تفخر به المرأة العربية على طول العصور، تصرفا لم يقدر عليه من قبل، ملك العراق مع الخليل عليه السلام، أو فرعون مصر مع الكليم عليه السلام، كما رأينا من قبل في هذه الدراسة، كما لم يقدر عليه من بعد جبابرة قريش و طواغيت ثقيف و غيرهم من بعض رجالات العرب، مع سيد الأولين و الآخرين سيدنا و مولانا وجدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أو قل هي رحمة اللّه التي تداركت هذه السيدة الكريمة، و أراق لها الهداية و الرشاد، و من ثم فقد أنهت الأمر كله، كما رأينا، «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و حتى في إسلامها فقد كانت عاقلة رشيدة، فلقد اهتدى قلبها و استنار، و من ثم فقد عرفت أن الإسلام للّه وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه، حتى و إن كان هذا الأحد هو سليمان النبي الملك صاحب المنجزات، إنما الإسلام إسلام للّه رب العالمين، و مصاحبة للمؤمنين به و الداعين إلى طريقة، على سنة المساواة «و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و قد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة و أبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان باللّه، و الإسلام له، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين، بل التي يصبح فيها الغالب و المغلوب أخوين في اللّه لا غالب

ص: 154


1- سورة النمل: آية 42- 44.

منهما و لا مغلوب، و هما أخوان في اللّه رب العالمين على قدم المساواة (1).

هذه عجالة نلخص بها قصة سليمان عليه السلام، مع ملكة سبأ، كما جاءت في القرآن الكريم، غير أن بعض المفسرين و المؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم و على الناس، فعالجوا هذه القصة الواضحة بطريقة عجيبة، فأضافوا إليها ما شاء لهم الخيال أن يضيفوا تذهب بعضهم إلى أن بلقيس إنما هي بلقمة ابنة «ليشرع بن الحارث بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان»، و ذهب آخرون إلى أنها بلقيس (تلقمة أو بلقمة) بنت السيرج، و هو الهدهاد بن شرحبيل، و أنها حكمت اليمن مائة و عشرين سنة، بينما نزل البعض بحكمها إلى سبع سنين (2)، و من عجب أن بعض الأخباريين إنما يذهب به الخيال إلى أن يرى أن «أم بلقيس» إنما كانت «جنية» بنت ملك الجن، و اسمها «رواحة» بنت السكر، أو بلقمة بنت عمرو بن عمير الجني، و ذهب آخرون إلى أن والد بلقيس كان من أكابر الملوك، و كان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال أنه تزوج من امرأة من الجن اسمها «ريحانة» بنت السكن، فولدت له بلقيس و اسمها تلقمة، و يقال لها بلقيس (3)، و أما كيف وصل أبو بلقيس إلى الجن و خطب ابنة ملكهم، فإنهم إنما يقدمون روايات من ذلك النوع من الأساطير، على أن أسوأ ما في الأمر و أشده خطورة أن يحاول بعض الرواة أن يعطوا لرواياتهم سندا من شرعية أو نصيبا عن صواب، فينسبوا إلى سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، عن طريق أبي هريرة،

ص: 155


1- في ظلال القرآن 5/ 2643.
2- تاريخ الطبري 1/ 489، الكامل لابن الأثير 1/ 129- 130، الثعلبي: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص 278، 290، تاريخ اليعقوبي 1/ 196، مروج الذهب للمسعودي 2/ 50، تاريخ ابن خلدون 2/ 59.
3- تفسير القرطبي ص 4898- 4927، الثعلبي: المرجع السابق ص 278، مروج الذهب 2/ 49- 50، ابن كثير: البداية و النّهاية 2/ 21، ابن الأثير 1/ 129، قصص الأنبياء 2/ 290- 291، تفسير الفخر الرازي 24/ 200- 201.

أحاديث تؤيد مزاعمهم هذه (1)، ثم لا يقتصر القوم على ذلك، و إنما يقدمون كل دني ء عن القوم (2)، فالملك السبئي يعتدي على الأعراض، فلا تفوته عروس إلا و يفتضها قبل زوجها، و بلقيس، و هي ابنة عمه، لا تنجو من هذه الإذلال، إلا أن تثور على قومها مؤنبة إياهم على قبولهم هذا الصغار، و تلك الخسة و الدناءة، فنقول: «أما فيكم من يأنف لكريمته و كرائم عشريته»، ثم تعد له من وراء ستار رجلان يقتلانه في اللحظة التي يهمّ بها (3).

و يبلغ الخيال بمؤرخينا أشده حين يزعمون أن بلقيس كانت عريضة الملك، كثيفة الجيش، و يقدم لنا الطبري عدة روايات عن قوة جيشها و كثرة عدده، فرواية تذهب إلى أنه كان مع بلقيس اثنا عشر ألف فيل، مع كل فيل مائة ألف، و أخرى تذهب إلى أنه كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل ما قيل مائة ألف، و في الكامل لابن الأثير «كان لها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل ).

ص: 156


1- جاءت في البداية و النهية (1/ 21) أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: «كان أحد أبوي بلقيس جنيا»، و هو، فيما يرى ابن كثير، حديث غريب و في سنده ضعف، و في تفسير الطبري (19/ 169) «كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنيا».
2- تسرف المصادر العربية كثيرا في ذكر الجرائم الجنسية، في تاريخ العرب القديم، رغم أن هذه الجرائم، فضلا عن تعارضها مع المنطق و التاريخ، فإنها تتعارض أيضا مع التقاليد العربية التي يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، فضلا عن الحاقدين و المتشككين في كل خلة عربية كريمة، و مع ذلك فقد تكرر ذكر هذه الجرائم المنحطة في مصادر لها ما لها من القيمة عند الناس، بصورة أو بأخرى، و في مواضع مختلفة من الجزيرة العربية، تكررت في طسم و جديس، و في المدينة بين العرب و اليهود، و في اليمن مع بلقيس و عتودة مولى أبرهة الحبشي (انظر تاريخ الطبري 1/ 629- 632، 2/ 128- 129، ابن الأثير: الكامل 1/ 232- 233، 350، 354، 432- 433، 656- 658، مروج الذهب 2/ 111- 119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24- 25، 287- 289، المقدس: البدء و التأريخ 1/ 179- 180، 3/ 28- 29، معجم ياقوت 2/ 242، 5/ 84- 87، الأغاني 19/ 96- 97، عبد الفتاح شحاتة: المرجع السابق ص 286- 292)، ثم انظر مناقشة هذه الأكاذيب (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 169- 173، 376- 377، 461- 475).
3- الديار بكري: تاريخ الخميس ص 276، ابن الأثير 1/ 232- 233 (بيروت 1965).

قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس و عشرون سنة»، و صدق ابن الأثير حيث يقول: و ما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب، حتى يعرف مقدار جهله، و لو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم، شبابهم و شيوخهم و صبيانهم و نساؤهم، هذا العدد (1).

هذا و يجعل الأخباريون أمر بلقيس كله بيد سليمان، و حين ترفض الزواج من أحد رعاياها، يزوجها سليمان من «ذي تبع» ملك همدان، بحجة أن ذلك لا يكون في الإسلام، و كأن الملوك قبل عصر سليمان ما كانوا يتزوجون من غير أنداد لهم، و كأن التاريخ لا يعرف زواجا بين الأمراء و غير الأمراء، و مع ذلك فإن سليمان لم يزوجها بواحد من رعاياها أو حتى من عظماء قومها، و إنما زوجها من ملك همدان، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا، و ليت الذين كتبوا كله، كانوا يعرفون أن قبيلة همدان لم تصبح لها المكانة الأولى بين قبائل اليمن، و لم يحمل شيوخها لقب «ملك» متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين (2)، إلا منذ أيام «نصريهأمن» (نصريهنعم) و شقيقه «صدق يهب» حوالي عام 200 قبل الميلاد (3)، و أن بلقيس، و قد عاصرت الملك سليمان (960- 922 ق. م)، إنما كانت تعيش في القرن العاشر قبل الميلاد، أي قبل ظهور ملوك همدان بما يقرب من سبعة قرون على الأقل، و على أية حال، فهناك رواية تذهب إلى أن سليمان قد زوجها من «سدد بن زرعة بن سبأ»، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا كسابقه، علي

ص: 157


1- تفسير الطبري 19/ 154، تاريخ الطبري 1/ 491، الكامل لابن الأثير 1/ 131 (بيروت 1978).
2- , eromitlaB, siuqliB marhaM snoitpircsnI naeabaS, emmaJ. A 278. p، 1961
3- , airdnaxelA, malsI fo dnuorgkcaB eht yllihP. B. J 142. p، 1947.

أن هناك رواية تذهب إلى أن الزوج الذي ارتضته بلقيس، إنما كان سليمان نفسه، و أنه قد أحبها حبا شديدا، وردها إلى ملكها باليمن، و كان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام، و على أية حال، فليس لذلك ذكر في الكتاب، و لا في خبر مقطوع بصحته، و مع ذلك فإن بعض الروايات تزعم أن سليمان جعل الجن تحت إمرتها، و على رأسهم «زوبعة» أمير جن اليمن، و أن بلقيس ماتت على أيام سليمان، و أنه قد دفنها باليمن على رواية، و في الشام على رواية أخرى، و أنه دفنها بتدمر و أخفى قبرها، على رواية ثالثة (1).

ص: 158


1- تفسير القرطبي ص 4926، تفسير النسفي 3/ 214- 215، تفسير الطبري 19/ 169- 170، تفسير الفخر الرازي 24/ 201، تاريخ الطبري 1/ 494- 495، الكامل لابن الأثير 1/ 133، الثعلبي: المرجع السابق ص 269- 270، البداية و النهاية 2/ 24 ابن دريد: الاشتقاق 2/ 311، تاريخ ابن خلدون 2/ 59، 113- 114.
الفصل الرّابع سليمان ملك بني إسرائيل
[1] السياسة الداخلية:-

ورث سليمان داود في مملكته، و من ثم فقد أصبح ملكا في أورشليم (القدس) و حاكما على مملكة إسرائيل، هذا و يتفق المؤرخون على أن سليمان قد حكم في القرن العاشر قبل الميلاد، و لكنهم يختلفون في تحديد فترة حكمه من هذا القرن العاشر، فهناك من يرى أنها في الفترة (974- 932 ق. م) (1)، و من يرى أنها في الفترة (973- 936 ق. م) (2)، و من يرى أنها في الفترة (970- 933 ق. م) (3)، و من يرى أنها في الفترة (963- 923 ق.

م) (4)، و من يرى أنها في الفترة (961- 923 ق. م) (5)، و من يرى أنها في الفترة (971- 931 ق. م) (6)، و من أنها في الفترة (963- 629 ق. م) (7)،

ص: 159


1- فضلو حوراني: المرجع السابق ص 34.
2- حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 84.
3- فيلب حتى: المرجع السابق ص 205.
4- نفس المرجع السابق.
5- سبتينو موسكاتي: الحصارات السامية القديمة ص 143 (مترجم) و كذا, nodnoL, stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E 172. p، 1969.
6- , msiaduJ, nietspE. I 36. p، 1970.
7- , dnaL yloH eht fo saltA lacirotsiH 81. p، 1959.

و من يرى أنها في الفترة (960- 922 ق. م) (1)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و سنسير عليه في هذه الدراسة.

هذا و كان اختيار سليمان بعد أبيه داود، عليهما السلام، ملكا على بني إسرائيل، إنما يرجع إلى كفاءته الشخصية، فهو لم يكن أبدا أكبر أبناء داود الكثيرين، كما أنه لم يكن حتى أكبر الأبناء الذين ولدوا بعد اعتلاء داود عرش إسرائيل، و أيا ما كان الأمر، فلقد خلف سليمان أباه دونما أية صعوبات أو ثورات داخلية، ثم سرعان ما عمل على القضاء على منافسيه و التخلص من مؤامراتهم، و ما قد يحيكون له من دسائس (2)، ثم اتجه بعد ذلك إلى تدعيم عرشه في الداخل، فاستخدم معظم موارد دولته في تقوية دعائم الحكومة، و تجميل العاصمة أورشليم، و من ثم فقد أقام سليمان كثيرا من الحصون، كما رمّم القديم منها، و وضع حاميات في المواقع ذات الأهمية الاستراتيجية، ليرهب بها الثائرين و الغازين على السواء.

ثم عمل سليمان بعد ذلك على القضاء على طموح البطون و العشائر التي كانت تسعى للاستقلال، ذلك لأن سليمان إنما كان يعرف تماما أن أخطر المشاكل التي واجهت أبوه داود من قبل، إنما كانت طموح بعض القبائل إلى التمتع بحكم ذاتي، و لا شك أن هذه الرغبة إنما كانت تتعارض كثيرا مع رغبة سليمان في الحكم المركزي، و من ثم فقد ركز كل جهوده في تفتيت أي تحالف يقوم بين هذه القبائل و يهدد الوحدة الإسرائيلية العامة، و هكذا قسم سليمان مملكته إلى اثنتي عشرة محافظة، على كل واحدة منها محافظ يتولى الضرائب، كما فرض على كل محافظة إعاشة الملك و حاشيته و جيشه و خيله شهرا في السنة، ذلك لأن سليمان كان في حاجة إلى تزويد ).

ص: 160


1- , Y. N, ARZE ot maharbA morf doireP lacilbiB ehT, thgirblA. F. W 122- 120. p، 1963.
2- ملوك أول 1/ 1- 53، 2/ 3- 48، 3/ 12- 13، تاريخ الطبري 1/ 485، الكامل لابن الأثير 1/ 127 (بيروت 1978).

الجنود، و كذا الخيول، الموجودة في الحصون التي أقامها، بالمؤن و العلف، فضلا عن إعاشة رجالات القصر الذين زاد عددهم عن أيام أبيه كثيرا (1).

و أيا ما كان الأمر، فلقد كانت حدود المناطق الجديدة، باستثناء أربع أو خمس حالات، ليست متطابقة مع حدود القبائل الإسرائيلية، مما يتفق و هدف سليمان من تحطيم البناء الحكومي الإقليمي المستقل، و بالتالي يمكن أن يضعف النزعة الانفصالية بين القبائل الإسرائيلية، و أن يؤلف منهم شعبا واحدا (2)، و على أي حال، فلقد كان على كل منطقة من المناطق الجديدة «مشرفا» أو «وكيلا» عليه توزيع المسئولية الخاصة بالمئونة بين الملاك المختلفين، و أن يراقب وصولها في الوقت المحدد، و أن يجمعها في مدن الصوامع، ثم يسلمها في أورشليم في الشهر المعين، و كان على رأس هذا النظام موظفا أعلى يسمى «رئيس الوكلاء» لم تظهر وظيفته على أيام داود، و إنما ظهرت، و لأول مرة، بين الموظفين الكبار في عهد سليمان، و من هنا كان الصدام بما يسمى حرية القبائل الإسرائيلية، و ذلك عن طريق التصرف في إنتاج زراعتهم و نتاج مواشيهم بطريقتهم الخاصة أو على حسب هواهم (3).

و يبدو أن المدن الكنعانية التي كانت قد احتفظت باستقلالها حتى ذلك الوقت، مثل دور و مجدو و تعنك و بيسان، قد ضمت إلى مملكة إسرائيل، أما منطقة يهوذا، أو على الأقل الإقليم الجبلي منها، فلا يبدو أنها كانت تكون جزءا من أي إقليم من الأقاليم الاثني عشر، الأمر الذي يرى فيه بعض

ص: 161


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 237، أندريه إيمار، و جانين إبوايه: المرجع السابق ص 266، صموئيل ثان 9/ 9، 13/ 23، 16/ 1 و ما بعدها، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 591.
2- ول ديورانت: المرجع السابق ص 334، و كذا. P, tic- po, sdoL. A 371.
3- . P, tic- po, htoN. M 213- 212.

الباحثين دلالة على أن سليمان قد أعفى هذه القبيلة الملكية من الواجبات المفروضة على غيرها، و بالتالي كان سببا في تذمر قبائل الشمال عند ما فرض عليهم العمل في تحصين العاصمة، و قد أخمد التذمر، و أجبر زعيمه «يربعام» إلى الهروب إلى مصر (1)، على أن كثيرا من الباحثين يرون أن يهوذا، لا بد و أنها قد كلفت بعمل آخر، لأنه من غير المقبول أن تترك بدون أي التزام مالي نحو الدولة (2)، فضلا عن أن سليمان، و هو الملك النبيّ، ما كان في حاجة إلى إجبار بني إسرائيل للعمل في تحصين العاصمة، و قد سخر اللّه له الجن يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ (3).

[2] السياسة الخارجية:-

كان سليمان عليه السلام سياسيا حكيما، كما كان محاربا عظيما، و إداريا قديرا، و رغم أنه قد أدرك بفطرته السليمة أنه من الضروري أن يكون له جيش قوي يحمي مملكته (4)، و يساعده في تبليغ الدعوة، فسليمان كما كان ملكا عظيما، فقد كان كذلك رسولا نبيّا، فقد أدرك في نفس الوقت بتفكيره السليم أن مملكته الصغيرة في مساحتها لن تعيش في سلام إلا بالتفاهم مع جيرانها، و أن من وسائل هذا التفاهم، و ربما من وسائل نشر الدعوة أيضا، أن يرتبط برباط المصاهرة مع جيرانه من الملوك و الأمراء، و من ثم فقد تزوج من بنات أمراء العمونيين و المؤابيين و الآراميين و الكنعانيين و الحيثيين (5) و غيرهم، بل و قد تخطت مصاهراته حدود الشام، فصاهر فرعون

ص: 162


1- . P, tic- po, sdoL. A 72- 371. ثم قارن: تاريخ ابن خلدون 2/ 214.
2- . P, tic- po, tdlefssiE. O 591 و كذا ,eromitlaB ,learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcarA ,thgirblA .F .W 140. p، 1963.
3- سورة سبأ: آية 13.
4- . P, tic- po, tdlefssiE. O (6). 589
5- ملوك أول 11/ 1- 2.

مصر، و من ثم فقد أصبحت الأميرة المصرية السيدة الأولى في مملكته (1).

و نقرأ في التوراة أن فرعون «قد صعد و أخذ جازر و أحرقها بالنار، و قتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، و أعطاها مهرا لابنته امرأة سليمان» (2)، و نطالع هذه الأمور، فيما يرى جاردنر، و كأنها تاريخ حقيقي، و لكننا لا نلتقي بما يؤكدها من الجانب المصري، و أما الشك من الناحية التاريخية في هذا الزواج، فإنه، و إن حصر في حدود ضيقة نسبيا، إلا أنه يكفي للتشكيك في أي الفراعين هو المقصود هنا، هذا إلى أن اسم «تحبنيس» (senephaT) لا يستطاع مطابقته على نظير له بالهيروغليفية (3)، و من ثم فقد اختلف الباحثون في اسم هذا الفرعون الذي صاهر سليمان عليه السلام، فمن يرى أنه «سي أمون» (4)، و من يرى أنه «بسوسنس الثاني» (5)، و من يرى أنه آخر ملوك الأسرة الحادية و العشرين (6) (1087- 945 ق. م) أو ما قبل الأخير من ملوك هذه الأسرة (7)، بل إن هناك من اقترح «شيشنق الأول» مؤسس الأسرة الثانية و العشرين (8) (945- 730 ق. م)، و على أي حال،

ص: 163


1- ملوك أول 3/ 1، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 601، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 112، تاريخ اليعقوبي 1/ 57، ثم قارن:, Y. N, yrotsiH fo eniltuO ehT, slleW. G. H 280. p، 1965.
2- ملوك أول 9/ 16.
3- , drofxO, shoarahP eht fo tpyGE, renidraG. H. A 329. p، 1964.
4- عبد الحميد زائد: الشرق الخالد- القاهرة 1966 ص 389، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 588 و كذا p .1 F ,SENJ ,nomoloS dna divaD fo seiciloP ngieroF eht fo stcepsA ,tamalaM .A ، 1963، 22
5- محمد أبو المحاس عصفور: المرجع السابق ص 211، و كذا, nodnoL, learsI dna tpygE, eirteP. F. W 66. p، 1925.
6- من المفروض أن «بسوسنس الثاني» هو آخر ملوك الأسرة الحادية و العشرين، غير أن هناك من يرى أنه (بسوسنس الثالث) (أنظر:, siraP, III, etpygE'd sioR sed erviL eL, reihtuaG. H 301. p، 1907 و كذا.). P, tic- po, renidraG. A 447
7- . P, tic- po, sdoL. A 368.
8- , tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 529. p، 1946. و كذا. P, tic- po, yelretseO. E. O. W 226.

فأيا كان فرعون مصر هذا، الذي تنسب التوراة إليه مصاهرة سليمان عليه السلام، فالذي لا شك فيه أن هذا الزواج، فيما يرى المؤرخ اليهودي سيل روث، قد ساعد سليمان عليه السلام في أن يضيف إلى مملكته إقليم جازر، و هي القلعة الكنعانية القديمة، و واحدة من أهم المراكز التجارية في الشرق الأدنى القديم، و من ثم فقد اكتسب مملكة إسرائيل موطئ قدم على البحر المتوسط (1)، و إن كنا لا نرى أبدا أن سليمان كان في حاجة إلى عون فرعون، و قد سخر اللّه طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر، كما أشرنا من قبل، فضلا عن أن جند سليمان إنما كان مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (2).

[3] التنظيمات العسكرية:-

يجمع المؤرخون أو يكادون، على أن خليفة داود، عليهما السلام، المحارب الشجاع، إنما قد أدرك جيدا ضرورة تكوين جيش قوي للدفاع عن دولته، فضلا عن دعوته، و ربما تجارته كذلك، و من ثم فإن المصادر التاريخية إنما تنسب إلى سليمان عليه السلام استعمال «العربات الحربية»، و لأول مرة، في جيش إسرائيل، و نقرأ في التوراة أن داود عليه السلام عند ما هزم مملكة «أرام صوبة» قد استولى على مئات الخيول (3)، غير أن داود لم يكن يملك عربة حربية واحدة، رغم أنه قد أدرك بنفسه أهمية هذا السلاح أثناء حروبه مع الآراميين، هذا فضلا عن أن المصريين كانوا قد استخدموا هذا السلاح منذ مئات السنين (4)، و كذا فعل الكنعانيون.

ص: 164


1- . P, tic- po, htoR. C 21.
2- سورة النمل: آية 17.
3- صوئيل ثان 8/ 3- 5.
4- محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة- دار المعارف- الاسكندرية 1976 ص 140- 143، ص 197- 198.

و هكذا ما أن ورث سليمان ملك أبيه داود، عليهما السلام، حتى أدخل هذا السلاح «العربات الحربية» في جيشه بل إنه إنما جعل منه القوة العسكرية الرئيسية في هذا الجيش، و ربما كان السبب المباشر في ذلك، أن الآراميين في دمشق قد عملوا على استرداد نفوذهم المفقود بعد موت داود مباشرة، و في أوائل أيام سليمان، و من ثم فقد أصبحت دولة «أرام دمشق» نتيجة استخدامها لهذا السلاح، إنما تمثل تهديدا مباشرا لإسرائيل (1)، و طبقا لما جاء في التوراة (2)، فإن سليمان إنما كان يملك ما بين 1400، 4000 حصانا (3)، و أما عن مباني الثكنات العسكرية الخاصة بفصائل العجلات الحربية، و طبقا لما جاء في الملوك الأول (4)، فقد اكتشف في «مجدو» و غيرها إسطبلات للخيول، و حظائر للعربات مع بعضها، و كانت تلك التي في «مجدو» تسع 150 عربة، 450 حصانا (5).

هذا و كان قائد العربة يتلقى تدريبات طويلة شاقة، و يظل في الخدمة طالما كان قادرا على أداء وظيفته، أو على الأقل لعدة سنوات، و من ثم فإنه يصبح جنديا محترفا، و عند ما زاد عدد العربات أصبح من الضروري استخدام عدد لا بأس به من الجنود غير المحترفين، ذلك لأن عددا قليلا من الإسرائيليين الذين كانوا مكلفين بالخدمة العسكرية كانوا يصبحون جنودا محترفين، و ليس هذا يعني أن هؤلاء الإسرائيليين المجندين بالجيش، و لا يعملون في سلاح العربات الحربية، قد أعفوا من القيام بالمهمات

ص: 165


1- , egdirbmaC, 2, traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 589- 583. p، 1975.
2- ملوك أول 10/ 26.
3- F. P, tic- po, thgirblA. F. W 135 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 589.
4- ملوك أول 9/ 19، 10/ 16.
5- . P, ytinaitsirhC ot egA enotS eht morF, thgirblA. F. W 233، 127 و كذا F, AB, oddigeM s'nomolaS no thgiL weN, nidaY. Y 62. p، 1960، 23 و كذا, gezpieL I, sanitsalP, relamkneD, regniztaW. C 81- 80. F gif 67. p، 1933 و كذا. P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. F. W 124.

العسكرية، بل على العكس من ذلك، فقد كان الواحد منهم إذا لم يستدع للخدمة في الجيش، فقد كان يكلف بالعمل في بناء التحصينات و الحظائر الخاصة بالعربات، فضلا عن العمل في المشاريع البنائية الأخرى، و من ثم فمن الأفضل أن نطلق على العمل الذي اشتهر خطأ باسم «السخرة»، اسم خدمة الأعمال العامة لبناء و صيانة التحصينات الدفاعية و خدمة الجيش (1)، و كان الرجال المكلفون بالخدمة العامة يستدعون طبقا لكشوف ثابتة، تحدد الأعمال التي يمكنهم القيام بها في المجال الزراعي و الصناعي، و كانوا بطبيعة الحال يتأثرون من هذا الاستدعاء في أعمالهم الخاصة (2)، و طبقا للتقاليد الخاصة بانقسام مملكة إسرائيل بعد موت سليمان، فلقد تحملت إسرائيل، و ليس يهوذا، العب ء الأكبر من هذه الخدمة العامة (3).

[4] النشاط التجاري:-

امتاز عهد سليمان عليه السلام بنشاط تجاري عظيم، فلقد احتلت التجارة من اهتمامه و تدبيره مكانا عظيما، حتى أن فصائل العربات إنما كانت في خدمة التجارة، عند ما لا تكون في خدمة الدفاع عن الدولة (4) و نشر الدعوة، و قد ساعد على نجاح التجارة سيطرة سليمان عليه السلام على الطرق التجارية في سورية و فلسطين و التي كانت قائمة منذ عهد أبيه، و ليس هناك من ريب في أن سليمان قد احتفظ بحقوق كاملة على طرق القوافل التي كانت تمر عبر أراضي «أرامي دمشق»، فضلا عن تلك التي كانت تمر عبر أراضي الآدوميين (5)، و من هنا نراه يهتم بتحصين المراكز التي كانت تسيطر

ص: 166


1- . P, tic- po, tdlefssiE. O 590.
2- . P,. dibI 590.
3- ملوك أول 4/ 6، 5/ 27- 30، 11/ 20- 23، و كذا.. P, tic- po, tdlefssiE. O 591.
4- . P,. dibI 596.
5- . P,. dibI 587.

على الطرق التجارية الهامة التي كانت تمر بمملكته، حتى أصبحت فلسطين قنطرة بين آسيا و إفريقيا، كما استغل سليمان علاقاته الودية من ناحية، و مهارته السياسية من ناحية أخرى، فضلا عن أن حدوده الجنوبية إنما كانت آمنة بسبب صلاته الطيبة بمصر، هذا إلى أن تحالفه مع «حيرام» ملك صور، أقوى الأمراء الفينقيين، قد حمى مواصلات سليمان مع المدن الفينيقية، و هكذا تمكنت القوافل من السفر، بصفة دائمة، من أرض مصر إلى بلاد الرافدين، و من فينيقيا إلى الجزيرة العربية، في أمان و سلام، و هكذا نجح سليمان عليه السلام في السيطرة على مصدر الثروة العائد من التجارة (1)، و لعل الذي دفع سليمان إلى الإتجاه إلى التجارة، أن فلسطين إنما كانت بلدا زراعيا خاليا من الصناعة مما اضطره أن يحضر الصناع من صور، و النجارين من جبيل (ببلوس) عند ما بنى بيت المقدس، كما أن فلسطين لم تكن تملك سلعا للتصدير يمكن أن تقوم عليها تجارة ناجحة، و لكنه في موقع يمكن التصرف منه كوسيط، و قد استغل هذا الموقع أحسن استغلال (2)، فإلى جانب العمل في التجارة، فقد عبّدت الطرق و زودت ببعض المحطات، و هكذا كانت القوافل الآتية من الجزيرة العربية (3)، و المحملة بالتوابل، خاضعة لدفع الرسوم عند ما كانت تمر بتلك الطرق).

ص: 167


1- . P, tic- po, llaH. R. H 433.
2- . P, tic- po, sdoL. A 370.
3- أهم طرق القوافل هذه طريقان: الأول: الطريق الجنوبي الشمالي: و يبدأ من عدن و قنا في بلاد اليمن و حضرموت، ثم مأرب إلى نجران فالطائف ثم مكة و يثرب و خيبر و العلا و مدائن صالح، و هنا ينقسم إلى فرعين، فرع يتجه إلى تيماء صوب العراق، و يستمر الفرع الآخر إلى البتراء ثم غزة فالشام و مصر، و أما الطريق الثاني فهو طريق «جرها- البتراء» و يبدأ من الهفوف ثم إلى شمال اليمامة في موقع مدينة الرياض الحالي، ثم يتجه غربا إلى بريدة ثم حائل ثم تيماء فالبتراء (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 133- 136).

و المحطات التي تقع في فلسطين (1).

و نقرأ في التوراة أن سليمان عليه السلام كان شغوفا بالخيل (2)، رغم أن رب إسرائيل، فيما تروي التوراة، كان قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل و النساء و الذهب (3)، غير أن سليمان إنما كان يرى أن «الفرس معدة ليوم الحرب» و إن كانت «النصرة نمن الرب» (4)، و من ثم فقد اهتم سليمان عليه السلام بالخيل كثيرا، لأنها أداة الجهاد في سبيل اللّه، فضلا عن أنها وسيلة كسب، و من ثم فإن دولة سليمان إنما كانت في تلك الفترة تحتكر تجارة الخيل تماما، ذلك لأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر و سورية و آسيا الصغرى كانت تمر بمملكة سليمان (5).

و كانت مصر المصدر الرئيسي للخيل و المركبات، و نقرأ في التوراة «و كان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر، و جماعة تجار الملك أخذوا جليبة بثمن، و كانت المركبة تصعد و تخرج من مصر بست مائة شاقل من الفضة، و الفرس بمائة و خمسين» (6)، أي أن قيمة الحصان إنما كانت تساوي ربع قيمة العربة، و ربما كان ذلك لأن سليمان كان يتمتع في مصر بامتياز خاص، و لأن صناع المركبات المصريين إنما كانوا على درجة عالية من المهارة في صنع المركبات ذات العجلتين الخاصة بالصيد و الحرب، كما كانوا يستوردون الخشب المتين من فينيقيا و سورية، و هذا يفسر لنا الفرق بين

ص: 168


1- فيليب حتى: المرجع السابق ص 207، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 238.
2- ملوك أول 10/ 26- 29، أخبار أيام ثان 1/ 14- 17.
3- تثنية 17/ 16- 17.
4- سفر الأمثال 21/ 31.
5- , yrotsiH sA elbiB ehT, relleK renreW 207. p، 1967.
6- ملوك أول 10/ 28- 29.

سعر المركبة و الفرس في مصر (1)، و على أية حال، فهناك مصدر آخر للخيل، هو «aoK» و هو اسم دولة في سيليسيا كانت تقع في السهل الخصيب بين جبال طوروس و البحر الأبيض المتوسط، و تشتهر بتربية الخيول، و طبقا لرواية «هيرودوت» فإن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا (2)، و أما سوق هذه التجارة فقد كان عند ملوك الآراميين و الحيثيين (3).

و هناك ما يشير إلى أن سليمان قد أقام حظائر للخيل في جهات متعددة، و قد ألقت بعثة الحفائر الأمريكية في «مجدو» الضوء على هذه الحظائر، حيث عثر على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من اسطبلات الخيول، و التي كانت دائما تنتظم حول فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري، و يخترق وسط كل اسطبل ممر عرضه عشرة أقدام، و قد رصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل، و قد وضعت على كل جانب وراء نتوءات الأحجار، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام، و ما يزال الكثير من هذه الإسطبلات محتفظا بمعالف طعام الخيل، كما لا تزال كذلك أجزاء من معدات السقي ظاهرة، و لعل مما يثير الانتباه فخامة تلك الإسطبلات حتى بالنسبة لظروف الحياة الحاضرة، فضلا عن العناية الفائقة التي بذلت بوفرة في المباني و الخدمات، و التي يمكن الحكم عن طريقها بأن الخيول إنما كانت مرغوبا فيها في تلك الأيام، و عند ما تم الكشف عن المبنى بأكمله، قدر بعض الباحثين لكل اسطبل 450 حصانا و لكل حظيرة 150 عربة، هذا و قد

ص: 169


1- , ecneicsnoC fo nwoD ehT, detsaerB. H. J 355. p، 1939 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 593 و كذا.. P, learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA, thgirblA. F. W 135.
2- . P, tic- po, relleK. W 207 و كذا, ogacihC, uranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M 1036. p، 1970.
3- ملوك أول 11/ 29.

اكتشفت نظائر لهذه الإسطبلات في بيسان و حاصور و تعنك و أورشليم (1)، كما أشرنا من قبل، و أما تاريخ هذه الإسطبلات، فهناك من يرجعها إلى عهد «أخاب» (869- 850 ق. م) أكثر من عهد سليمان (2) (960- 922 ق. م)، غير أن أكثر الدراسات أهمية في تاريخ مدينة «مجدو» إنما تضع الطبقة الرابعة التي وجدت بها هذه الإسطبلات جزئيا على الأقل في عهد الملك سليمان، و أن بقايا هذه المباني المشهورة إنما ترجع حقيقة إلى عهد سليمان، دون غيره (3)

[5] النشاط البحري:-

اتجه سليمان أيضا نحو البحر ليفتح لبلاده أبواب التجارة مع البلاد الواقعة على الأبحر، و لكن قومه العبرانيين لم يكونوا قد ألفوا ركوب البحر من قبل، كما أنهم لم يكونوا على خبرة، أيا كانت، بشئون بناء السفن و ملاحتها، و من هنا بدأ سليمان يعمل على تأمين الطرق عبر وادي عربة، ثم الاتفاق مع «حيرام» ملك صور، على إنشاء أسطول في ميناء «عصيون جابر» تستغل فيه المهارة الفينيقية، هذا و قد ركزت التوراة على التجارة البحرية في عهد سليمان أكثر من التجارة البرية، و قد أثبتت الحفريات مما يؤكد كثيرا من النصوص الخاصة بهذه التجارة البحرية (4)، و نقرأ في التوراة «و قد عمل سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في

ص: 170


1- . P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. F. W 124 و كذا F. P, tic- po, regniztaW. C 67 و كذا F, nevaH- weN, senotS esehT naeM tahw, sworuB. M 127. p، 1941 و كذا. P, tiC- po, relleK. W 195.
2- , QEP, toofworC. W. J 147- 143. p، 1940.
3- . P, tic- po, thgirblA. F. W 124 و كذا. P, tic- po, nageniF. J 181 و كذا, AB, thgirW. E. G 44. p، 1950، 13 و كذا, AJA 550- 546. p، 1940، 44 و كذا F, AB, grebgnE. M. R 12. p، 1941، 4.
4- . P, tic- po, tdlefssiE. O 593.

أرض أدوم (1)»، و قد كشف في تل الخليفة «عصيون جابر» (2) مسامير كبيرة من الحديد أو النحاس الممزوج بالحديد، و قطع من حبال غليظة و كتل من القار لضم السفن، و أخرى من الصمغ لطلائها، و كان من الممكن قطع الأخشاب اللازمة من غابات البلوط التي كانت توجد في أدوم في ذلك الوقت (3)، و مع ذلك، و رغم وجود غابات كثيرة من النخيل في مجاورات هذا المكان، إلا أنه لا توجد الأخشاب اللازمة لأغراض البناء، و من ثم فقد أرسل «حيرام» الصوري الأخشاب التي حملها ثمانية آلاف من الرجال، بنى بها أسطول من عشر سفن، و قد عرفنا الكثير عن هذا الأسطول حتى أسماء ربانية من الفينيقيين (4)، كما عرفنا كثيرا عن أسطول منفصل لحيرام، أبحر مع أسطول سليمان إلى «أوفير»، و أتى من هناك بالذهب و الأخشاب النادرة و الأحجار النفيسة، و كل ما هو نادر و غريب (5)، هذا و قد كشف قرب «تل أبيب»- leT) (vivA عن «أوستراكا» ترجع إلى ما بين عامي 900، 800 قبل الميلاد، و عليها نص يقول: «ذهب أوفير من أجل بيت حورن» (6). ).

ص: 171


1- ملوك أول 9/ 26.
2- كان يظن من قبل أن «عصيون جابر» تقع عند «عين الغديان» في قعر وادي العربة، غير أن بعثة أمريكية، برياسة نلسون جلوك، قد كشفت موقعها في «تل الخليفة» على مبعدة 21 كيلا من ساحل البحر على الطرف الشمالي لخليج العقبة على مقربة من ميناء «إيلات» الحالي، في منتصف الطريق بين مدينة العقبة و الطرف الشرقي من خليج العقبة، و «أم الرشراش» على الطرف الغربي، و قد عرفت عصيون جابر فيما بعد باسم «برنيسا» (ecinreP)، فيما يرى البعض، ثم أعاد «عزايا» ملك يهودا بناءها باسم إيلات (أنظر:, nevaH- weN, nedroJ eht fo edis rehto ehT, kceulG. N 113- 50. p، 1940 و كذا. P, tic- po, noyneK. M. K 257 و كذا.. P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA W 128، 127، 44 و كذا. P, tic- po, sgnitsaH. J 253 و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 66. p، 1947، 21.
3- جورج فضلو حوراني: المرجع السابق ص 34.
4- .. P, tic- po, relleK. W 201.
5- ملوك أول 10/ 11- 12.
6- . F, SENJ, elisaQ- lleT morf acartsO werbeH owT, reliaM. B 265. p، 1951، 10 و كذا -, IVXX airyS 157. p، 1949، و أما بيت حورن، فيعني المغارة، و يطلق على قريتين على حدود أفرايم و بنيامين، و مكانهما على مبعدة 12 ميلا شمال القدس، و يسميان بيت عور الفوقانية و بيت غور التحتية (قاموس الكتاب المقدس 1/ 202).

و لعل سؤال البداهة الآن: أين تقع أوفير؟

لقد قام، و ما يزال، جدل طويل حول أوفير هذه، و هناك دائما من يزعم أنه وجدها في شرق إفريقيا، فهناك «كارل ماوخ» الذي وصل إلى أنقاض مدينة أحد المعابد في عام 1864 م، على حدود روديسيا الجنوبية و موزامبيق في شرق إفريقية، و هناك «ستنبرج» الذي اكتشف بعد ذلك بخمسة عشر عاما، و على مبعدة أميال قليلة إلى الجنوب من المكان الأول، محلات للتعدين من عصر ما قبل المسيحية، ظن أنها كانت تتصل بمعبد المدينة، و في عام 1910 م صوّر الرحالة الدكتور «كارل بطرس» نقوشا من هذا الموقع يزعم المتخصصون أنهم لاحظوا فيها ملامح فينيقية عربية (1)، و هناك وجه آخر للنظر يذهب صاحبه (وليم أولبرايت) أن أوفير في الصومال، و يتفق هذا مع رواية التوراة عن طول الوقت الذي يلزم للوصول إلى أوفير، حيث تقول «فكانت سفن ترشيش تأتي مرة كل ثلاث سنوات» (2)، ثم يقترح «أولبرايت» بعد ذلك أن الأسطول ربما كان يبحر من عصيون جابر في نوفمبر أو ديسمبر من السنة الأولى، و يعود في مايو أو يونية من السنة الثالثة و بهذا يتجنب الجو الحار، قدر استطاعته، و أن الرحلة في هذه الحالة لا تأخذ أكثر من ثمانية عشر شهرا، هذا فضلا عن أن طبيعة السلع (الذهب و الفضة و العاج و القرود) تشير إلى إفريقية من الواضح أنه كمكان إنما هو الأصل (3).

و هناك وجه ثالث للنظر يحاول أن يوحّد «أوفير» ببلاد «بونت» (4)

ص: 172


1- . P, tic- po, relleK. W 202- 201.
2- ملوك أول 10/ 12.
3- . P, tic- po, relleK. W 434.
4- . P, tic- po, llaH. R. H 454.

(و صحة الإسم فيما يرى جاردنر بويني) (1)، و التي يرى كثير من العلماء (2) أنها تقع على الساحلين، و جنوب بلاد العرب في ناحية أخرى (3)، على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن أوفير إنما تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية (4)، و إن اختلفت الآراء في هذا المكان من جنوب بلاد العرب، بين أن تكون في الجنوب الغربي (اليمن) متضمنا الساحل الأفريقي المجاور (5)، و بين أن تكون في الجنوب الشرقي، متضمنا الخليج العربي و خليج عمان (6)، و بين أن تكون في العويفرة (7)، القريبة من قرية «الفاو» السعودية (على مبعدة 60 كيلا جنوب غرب مدينة الخماسين)، و أن الإسم القديم هو «عفر»، و قد حرف بالنقل إلى اللغتين العبرية و اليونانية، فأصبح «أوفير»، و بين أن تكون في المنطقة ما بين «القنفذة» و «عتود» في المملكة العربية السعودية (8).

و هناك وجه خامس للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في الهند، اعتمادا على أن كثيرا من أسماء بعض السلع التي كانت تأتي من «أوفير» إنما

ص: 173


1- . P, tic- po, renidraG. H. A 37.
2- أنظر الآراء المختلفة عن موقع بونت (محمد بيومي مهران: العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة- الرياض 1976 ص 307- 311).
3- أحمد فخري: مصر الفرعونية ص 133، دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 140، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص 52- 53، و كذا ,eveneG ,sennsioV snoitaN sel ceva etpygE enneicnA 'L ed ecremmoC eL ,ellivaN .E 7. p، 1911 و كذا F, IIIVXL, SAZ 112. p، 1932 و كذا 3. P, tic- po, ittiH. K. P و كذا. P, tic- po, nosliW. J 176.
4- . P, tic- po, sdoL. A 370 و كذا, III, HAC, kooC. A. S 357. p، 1965.
5- . P, tic- po, regnU. F. M 810 و كذا. p, tic- po, sgnitsaH. J 669 و كذا. P, tic- po, htoN. M 215.
6- , acirfa dnu neibarA ni reinissebA eiD, resalG. E 373- 368. p، 1895 و كذا-. P, tic po, sgnitsaH. J 669.
7- ,Y .N ,aibarA fo retrauQ ytpmE ehT ssorC A ,xileF aibarA ,samohT .B 163. p، 1932.
8- , revonnaH, neibarA, ztiroM. B 110. p، 1923.

هي دخيلة في اللغة العبرية من بعض لغات أخرى مثل «السنسكريتية» (1)، على أن الخيال ذهب بالبعض إلى أن يذهب أن أوفير إنما تقع في ولاية «الأمازون» البرازيلية في أمريكا الجنوبية، اعتمادا على أن هناك حتى اليوم في ولاية الأمازون أمكنة كثيرة حافظت على أسماء عبرية و فينيقية، كما أن السلع التي نقلتها سفن سليمان و حليفه حيرام من أوفير إلى أورشليم و صور و صيدا، يوجد نماذج كثيرة منها هناك، كما أن أسماءها ليست عبرية أو فينيقية، و إنما هي من صميم لغة سكان الأمازون، فضلا عن أن اسم «سوليمونس» الذي يحمله أحد فروع الأمازون، إنما هو اسم الملك سليمان نفسه، و قد أطلقه على النهر الكبير أحد أفراد الأسطول تيمنا بالملك العظيم (2)، و هكذا يصل الخيال بالبعض إلى هذا الحد، إلى أن تكون أوفير في أمريكا الجنوبية.

و هناك وجه سابع للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في «عسير»، و ثامن يرى أنها في مدين، و رجح كثيرون أنها على سواحل بلاد العرب الغربية أو الجنوبية، على أساس أن هذه الأماكن أقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من غيرها (3)، هذا و قد ذكر الهمداني في معاد اليمامة موضعا سماه «الحفير» فقال: «و معدن الحفير بناحية عماية، و هو معدن ذهب غزير» و وجود الذهب بغزارة في الحفير إنما ينطبق على وصف أوفير إلى حد كبير، إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر، و لكن من يدري فلعل كتبة التوراة لم يكونوا على معرفة بموقع أوفير، و إنما سمعوا بذهبه الذي يتاجر به العرب

ص: 174


1- , siraP, learsI'd elpueP ud eriotsiH, naneR tsenrE 122. p، 1887 و كذا. 181. P, tic- po, nageniF. J
2- الأب أميل أدة: الفينيقيون و اكتشاف أمريكا- بيروت 1969 ص 24- 25.
3- جواد عل: المرجع السابق 1/ 639، و كذا. P, tic- po, yremogtnoM. B. J 38 و كذا، 7. p, tic- po ztiroM. B و كذا P, II, ezzkiS, naidiM fo seniM dloG ehT, notruB. F. R. 347.

الجنوبيون، من المواني الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى موضع بيعه في سواحل بلاد العرب لشرائه، و من هنا ظن كتاب التوراة أن أوفير على ساحل البحر، و الحفير كما يبدو اسم قريب جدا من أوفير (1)، و أخيرا فهناك من يرى أن «أوفير» معناها «الأرض الحمراء» (أي الحمراء بلون الذهب)، و أنها لم تكن علما على بلد بعينه، و إنما كانت اسم جنس ينطبق على بلاد عدة كاليمن و شرق إفريقية و غرب الهند (2).

هذا و قد قدم لنا الأستاذ الدكتور السيد يعقوب بكر، دراسة عليمية جادة عن موقع أوفير، ناقش فيها كل النظريات المختلفة و خلص منها إلى أن الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية هو مكان «أوفير» (3)، فقد كانت بلاد العرب موطنا للذهب الأمر الذي شاع بين الكتاب القدامى من الأغارقة و الرومان، حتى أنهم يذهبون إلى أنه كان يستخرج في مواضع معينة منها، خالصا نقيا لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة و لا يصهر لتنقيته، و لهذا قيل له «norypA» و من ثم فقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن العبرانيين إنما قد أخذوا لفظة «أوفير» من «أبيرون» (norypA) هذه (4)، و قد عثر في «مهد الذهب»، و يقع شمالي المدينة المنورة، على أدوات استعمالها القدامى في استخراج الذهب و استخلاصه من شوائبه مثل رحى و أدوات تنظيف و مدقات و مصابيح، فضلا عما تركه القوم من آثار في حفر العروق التي يتكون منها الذهب، مما يدل على أن الموقع كان منجما للذهب في عصور ما

ص: 175


1- الهمداني: صفة جزيرة العرب ص 153، جواد علي: المرجع السابق 1/ 639- 640.
2- ,ytiuqitnA ,III ,sesmaR dna namoloS fo yad eht ni ytivitcalavaN ,llenroH .J - 239. p، 1947، 21, ytiuqitnA, semiT ylraE ni edarT- aeS, llemroH. J 364- 361. p، 1941، 15. و كذا
3- السيد يعقوب بكر: أوفير ص 116- 190 (من كتاب فضلو حورابي- العرب و الملاحة في المحيط الهندي- القاهرة 1958).
4- , elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J 39. p، 1934.

قبل الإسلام، و لعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى سليمان (1).

و هكذا كان من الطبيعي أن يطلب سليمان الذهب في بلاد العرب، و ليس في مكان أقصى كالهند و إفريقية، و كان من الطبيعي أيضا أن يطلبه في الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب، لأنه أقرب أجزائه إليه، و بخاصة في «بيشة» و في «خنكان» و في المنطقة ما بين القنفذة و مرسى حلج، فضلا عن «وادي تثليت» على مقربة من «حمضة»، و على مبعدة 183 ميلا من نجران (2)، و ربما قد حدث ذلك بعد إسلام ملكة سبأ، في أغلب الظن.

و كان أمام سليمان للوصول إلى ذهب بلاد العرب طريقان، طريق البر عبر الصحراء، و طريق البحر على طول ساحل البحر الأحمر، و لكنه آثر الطريق البحري، رغم أن قومه كانوا أهل زراعة و رعي، لم يتمرسوا بالبحار، ذلك لأن طريق البر جد شائق و قد تزيد نفقاته على طريق البحر، و ثمة سبب آخر دعا سليمان إلى اختيار طريق البحر هو أنه أراد أن يشرك معه حليفه «حيرام» ملك صور، رغبة في الانتفاع بمهارة الفينيقيين في الملاحة، و ربما بإلحاح من حيرام نفسه، و أيا كان السبب، فإن الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب، إنما كان المصدر الذي استقى منه سليمان الذهب، و كان الذهب أهم السلع التي كانت تجلب من أوفير، ثم يلي الذهب في الأهمية بين سلع أوفير، خشب الصندل و الحجارة الكريمة و هما سلع عربية كذلك، هذا فضلا عن أن التوراة (3) إنما تعد «أوفير» من أبناء يقطان (قحطان في جنوب بلاد العرب) تضعه بين سبأ و حويلة، و «أوفير بن يقطان» هذا (أي شعب أوفير القحطان) هو الشعب الذي يسكن أرض «أوفير»،

ص: 176


1- جواد علي 1/ 193، و كذا, llenroC, alusnineP naibarA ehT, regnaS. H. R 23، 20. p، 1954.
2- tnuoccA na htiW aibarA iduS, llehctiwT. S. K و كذا. P, tic- po. ztiroM. B 110, notecnirP, secruoceR larutaN sti fo tnempolevD fo 77. p، 1943.
3- تكوين 10/ 29.

و بدهي أنه ليس هناك «أوفيران»، أوفير في الجزيرة العربية، و أوفير في مكان آخر، كما يزعم البعض (1).

و أما الفضة و العاج و القرود و الطواويس، فالفضة كانت دائما غالية في بلاد العرب، و لهذا رأى بعض الباحثين أنها مقحمة في النص (2)، و لكن من الممكن أنها كانت تستورد إلى أوفير، و الأمر كذلك بالنسبة إلى العاج، إما من إفريقية القريبة، و هو الأرجح، و إما من الهند البعيدة، و أما القرود فهي مستوردة أيضا، إلا إذا كان المراد «النسانيس» كما يقول «مونتجمري» (3)، و هي ما تزال ترى في مرتفعات اليمن و حضرموت، و عندئذ فهي سلعة عربية، و كذلك «الطيوب» التي يجعلها «جلازر» مكان القرود، سلعة عربية كذلك، بل هي السلعة التي يتهافت عليها الشرق و الغرب، و كانت مصدر غنى و ثروة لعرب الجنوب، ثم يتبقى بعد ذلك «الطواويس»، و هي سلعة هندية في الأصل، فلا بد أن أوفير كانت تستوردهما من الهند، و إذا صح ما يقوله «نيبور» من أن المراد «العبيد»، كانت السلعة مستوردة أيضا، و لكن من إفريقية (4).

أضف إلى ذلك كله أن هناك ما يثبت أن الاتصال البحري بين شمال البحر الأحمر و الهند لم يتم إلا في عصر قريب من القرن الأول الميلادي أو في عصر لا يبعد كثيرا عن القرن الأول، و في هذا زعزعة للنظرية الهندية (5)، و كذا النظرية «جلازر» و التي تذهب إلى أن أوفير التوراة إنما هي الساحل

ص: 177


1- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 150- 154.
2- , Y. N, I, slateM dna naM, drakciR. A. T 267. p، 1932.
3- . P, tic- po, yremogtnoM. J 39.
4- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 154- 155.
5- 212. P, I, HAC و كذا. P, tic- po, naneR. C 122- 119 و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 244. p، 1941، 15،, ytiuaitnA 73- 72. p، 1947.

العربي من الخليج الفارسي (العربي) من الشمال حتى رأس مصندم (1)، ثم إن هذا يثبت كذلك أن السفن قبل القرن الأول كانت تستطيع عبور باب المندب إلى عدن، و في هذا زعزعة لرأي «موريتز» (2) الذي يرى أن السفن في عصر سليمان كانت أضعف من أن تتجاوز مضيق باب المندب، و إذن فإن سفن سليمان كانت تستطيع حمل سلع أوفير من ميناء عربي قبل باب المندب، كميناء «مخا» أو بعده كميناء «عدن» ثم إن انتساب العاج و القرود و الطواويس في العربية إلى أصول هندية، ليس دليلا على أن السلع كانت تستورد من الهند نفسها، فقد كان باب الاستيراد مفتوحا، كذلك لا يستطيع الاستدلال على أن أوفير في بلد ما، بورود أسماء متشابهة لأوفير في هذا البلد، فكثيرا ما يكون التشابه اللفظي عارضا (3).

و يناقش الدكتور يعقوب بكر بعد ذلك الاعتراضات التي وجهت إلى هذه النظرية، و منها أن ذهب بلاد العرب كان قليلا بالقياس إلى المقادير الهائلة التي كانت تصل منه إلى سليمان، و أن السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها رحلة أوفير، يستحيل معها أن تكون أوفير في مكان قريب من عصيون جابر، فهذان الاعتراضات يقومان على أساس التسليم بقصة التوراة عن أوفير حرفيا، و لكن ألا تجوز المبالغة في هذا المجال الأدبي، و لا سيما أن الأمر يتعلق بسليمان الذي سارت بذكره الركبان، و الذي كان يحتاج فعلا إلى ذهب كثير لتزيين الهيكل و قصر الملك، ثم ألا يمكن أن يكون الغرض من المبالغة التوراتية إظهار حملات أوفير، و كأنها أبهى من حملات الفراعنة إلى «بونت» أو بمنزلتها على الأقل، و أخيرا فمن المتفق عليه أن نصوص التوراة ليست فوق مظان الشك و الريبة.

ص: 178


1- . P, II, sneibarA sihpargoeG dnu ethcihcseG red ezzikS, resalG. E 373- 368.
2- . P, tic- po, ztiroM. B 89- 86.
3- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 156- 157.

و أما عن ذكر السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها الرحلة إلى أوفير، فهي أولا قد وردت في المصادر التوراتية المتأخرة، ثم هي مبالغة أيضا، فقد يجوز أن يكون المعنى أن سليمان كان يبعث بسفنه مرة كل ثلاث سنين، و عندئذ لا تكون الإشارة إلى زمن الرحلة، و لكن إلى المدة الفاصلة بين كل رحلة و أخرى (1)، هذا فضلا عن أن وجهة نظر «أولبرايت» عن الرحلة، ربما كانت تتصل برحلة أخرى غير رحلة أوفير، ذلك لأن «ستانلي كوك» (2) يرى أن سليمان و حيرام قد امتلكا أسطول «ترشيش»، و الذي يمكن الحكم عليه من اسمه أنه قد ذهب إلى ترشيش في أسبانيا، و أما أسطول الفينقيين فقد أبحر من عصيون جابر في أدوم ليحضر الذهب من أرض أوفير (في جنوب بلاد العرب)، و هكذا يبدو أن رحلة السنوات الثلاث ربما لا تتصل بأوفير، و لكنها تتصل بأسطول «ترشيش» (3) إلى أسبانيا، و إن كان ذلك سيجرنا إلى متاعب أخرى، علما بأن هناك من يرى أن هناك علاقات تجارية بين حيرام من ناحية، و بين قبرص و أسبانيا من ناحية أخرى (4).

[6] النشاط الصناعي:-

لم تكن عصيون جابر ميناء تجاريا فحسب، و لكنها كانت كذلك مركزا صناعيا، و في الواقع فلقد كان اختيار موقعها اختيارا موفقا، في مكان لم يسكن من قبل بين تلال أدوم من الشرق، و تلال فلسطين من الغرب، حيث

ص: 179


1- انظر عن مصادر التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 97- 106.
2- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 148- 160.
3- . P, tic- po, kooC. A. S 367.
4- يذهب البعض إلى أن «ترشيش» تقع في سردينيا، و يذهب آخرون إلى أنها هي «ترتيسوس» في جنوب أسبانيا على مقربة من جبل طارق أو لعلها قرطاجة في شمال إفريقية (قاموس الكتاب المقدس 1/ 215- 216 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 1071- 1070 و كذا., nodnoL, namoloS gniK, regrebeihT F 206. p، 1957.

يمكن الإفادة إلى أقصى الحدود من الريح التي تهب من الشمال، حيث تبلغ غاية سرعتها في وسط وادي عربة، و ذلك للانتفاع بها في تأجج النار اللازمة للتكرير، هذا فضلا عن أدوم، و كل المنطقة الواقعة بين البحر الميت و خليج العقبة، غنية بالنحاس و الحديد (1)، و نقرأ في التوراة عن «أرض حجارتها حديد، و من جبالها تحفر نحاسا» (2)، و من هنا كانت عصيون جابر، بجانب وادي عربة و النقب، مركزا لصهر الحديد و النحاس في عهد سليمان، حتى كانت فلسطين في عهده من أكبر مصدري النحاس في العالم القديم (3).

هذا و قد كشف «بتري» في «جمة» معامل لاستخراج الحديد، أصغر كثيرا من تلك التي في عصيون جابر، و يبدو أن داود عليه السلام كان قد نازع الآدومين احتكار الحديد، و استولى عليه بعد هزيمتهم، و من ثم فإن مخزونات النحاس و الحديد قد استخرجت و صهرت في عهد سليمان عليه السلام بدرجة كبيرة، حتى أنه لم يعثر حتى الآن في أي مكان آخر في العالم القديم على ما يضاهي معامل تنقية النحاس في عصيون جابر، و لعل أفضل هذه المعامل من جهة الإعداد و البناء ما وجد في الطبقة (ط) التي تحوي مخلفات أقدم للفترات الخمسة الرئيسية لعمران هذا الموقع (4).

[7] مملكة سليمان و مدى اتساعها:-

اختلف المؤرخون، و ما يزالون مختلفين، حول اتساع مملكة سليمان

ص: 180


1- موسكاتي: المرجع السابق ص 280، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE 181. P,. tiC. pO, nageniF. J 594.
2- تثنية 8/ 12.
3- F ,eromitlaB ,learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA ,thgirblA .F .W 133. p، 1963 و كذا و كذا, MGN 236- 233. p، 1944، 85. و كذا F. P, tic- po, kceulG. N 89.
4- وليم أولبرايت: آثار فلسطين ص 128، فيليب حتى: المرجع السابق ص 207 و كذا.. P, tic- po, relleK W 199- 198.

عليه السلام، فرأي يذهب أصحابه من المؤرخين المحدثين إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما السلام، أكبر من تلك التي ورّثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك بيت يهوذا و إسرائيل، و ذلك لأن الأمور في خارج فلسطين لم تكن تسير في نفس المجرى الذي اتخذته في الداخل (1)، و قد بدأت المتاعب ضد دولة سليمان تظهر على الحدود، ذلك أن «يوآب» قائد جيش داود كان قد اجتاح «أدوم» قبل ذلك بنصف قرن، و قتل كل ذكورها بحد السيف، و قد استطاع «هدد»، و هو طفل أدومي من الأسرة المالكة، أن يهرب إلى مصر، و حين اشتد ساعده وجد رضا في عين فرعون الذي زوجه من «تحبنيس» (تحفنيس) أخت زوجة الملكة، ثم عاد هدد إلى أدوم، بغير موافقة فرعون، و أصبح العدو اللدود لسليمان مدى الحياة (2)، و نقرأ في التوراة أنه «أصبح ملكا على أدوم» (3)، و ربما قد حدث ذلك في فترة مبكرة من عهد سليمان، و طبقا لرواية أخرى في التوراة (4)، فقد كان لسليمان مدخل إلى خليج العقبة و ميناء «عصيون جابر»، عبر وادي عربة، أي عبر الجزء الأساسي الهام من أدوم، و يفترض بعض المؤرخين أن سليمان قد عقد اتفاقا مع «هدد»، بتوسط من فرعون الذي كان يريد أن تفسد علاقاته الودية مع صهره سليمان، إن صحت روايات التوراة، و إن لم تعد لسليمان سيطرة على ولاية أدوم، كما أنه ليس هناك ما يدل على أن سليمان قد اتخذ من الخطوات ما يجعله يستعيد سيطرته على أدوم مرة أخرى (5).

و نقرأ كذلك في التوراة «أن اللّه أقام لسليمان خصما آخر، هو «رزون

ص: 181


1- . P, tic- po, sdoL. A 268. و كذا. P, tic- po, htoN. M 206.
2- . P, tic- po, sdoL. A 368 و كذا. P, tic- po, htoR. C 23 و كذا. P, tic- po, htoN. M 256- 250 و كذا. P, tic- po, llaH. R. H 433.
3- ملوك أول 11/ 14- 22 و كذا, shoarahp eht fo tpygE, renidraG. H. A 329. p، 1961.
4- ملوك أول 11/ 25.
5- . P,. tiC. PO, sdoL. A 268 و كذا. P,. tic. pO, htoN. M 206.

بن اليداع» (رصين) الذي هرب من سيده «هدد عرر» ملك صوبة، و أقام مملكة في دمشق، و كان خصما لإسرائيل كل أيام سليمان مع «هدد» (1)، و هكذا نمت المملكة الآرامية في دمشق، ثم تطورت بعد فترة قصيرة حتى غدت أقوى سلطة في سورية، الأمر الذي أدى إلى أن ما أوجده داود من نفوذ في دمشق قد ضاع الآن (2).

هذا و في نفس الوقت كانت مصر قد بدأت حالتها في الانتعاش، و بالتالي فقد بدأت تحاول إعادة سيطرتها في غربي كنعان فهناك ما يشير إلى حملة ضد الفلسطينيين شعوب البحر في جنوب غرب كنعان، فقد عثر في «تانيس» على نقش بارز على جدران مبنى شيده «بسوسنس الأول» و «سيامون» (سي آمون) من الأسرة الحادية و العشرين، جنوب معبد آمون الرئيسي، يصور فيه «سيامون»، و هو يضرب عدوا راكعا أمامه، و قابضا في يده على فأس للحرب مزدوجة من ذلك النوع الذي كان يتخذه الإيجيون من أسلحة الحرب (3)، هذا فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن سيامون قد أرسل جيوشه لمحاربة الفلسطينين في جنوب غرب كنعان، و أن مدينة أسدود قد غزيت، و أن هناك آثارا في «تل فرعة» لنفس الفرعون (4)، بل إن هناك من يذهب إلى أن سيامون قد فكر في غزو إسرائيل نفسها (5).

أضف إلى ذلك أن أعداء سليمان قد نشطوا كثيرا، و نجحوا في

ص: 182


1- ملوك أول 11/ 23- 25.
2- .. P, tic- po, htoN. M 206.
3- ., pl. 1. P, II, nokrosO, tetnoM. P 36.
4- . ,SENJ ni ,nomoloS dna divaD fo seiciloP ngieroF eht fo stcepsA ,tamalaM .A 49- 48. no، 12. p، 1963، 22.
5- . F. P,. dibI 16، 13.

استعادة بعض البقاع التي كانت خاضعة لداود، و أصبح ملك سليمان في غرب الأردن فقط (1) (فلسطين)، و أصبح الفلسطينيون الهند و أوربيون في غزو و ما بعدها في نجوة من سلطانه، هذا فضلا عن أن ممالك و ملوك شعوب شرق الأردن إنما كانوا يمارسون سلطانهم المحلي بعيدا عن قبضة سليمان، مما يدل على أن هذه الممالك و الشعوب التي كان داود قد أخضعها في شرق الأردن و سورية الآرامية قد تفلتت من سيادته، كما تفلت الفلسطينيون منها كذلك (2).

و على أي حال، فإن النبي الكريم ما أن ينتقل إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه، حتى يستولي «شيشنق الأول» أول فراعنة الأسرة الثانية و العشرين (945- 730 ق. م) على أورشليم، و يأخذ معظم ما فيها من كنوز (3)، و سواء أ كانت حملة شيشنق هذه، فيما يرى البعض (4)، بسبب استنجاد «يربعام» زعيم الثوار الإسرائيليين بمصر، ضد بيت سليمان، أو أنها كانت، فيما يرى آخرون، لإعادة سورية و فلسطين إلى حظيرة الامبراطورية المصرية (5)، فإن التدخل المصري في إسرائيل، في أعقاب موت النبي الكريم، إنما أدى إلى احتلال معظم مدن فلسطين، و الاستيلاء على خزائن معبد سليمان و قصره (6)، بل إن التوراة نفسها (7) إنما تشير إلى خضوع

ص: 183


1- , elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohs A, htoR. C 21. p، 1969.
2- محمد عزة دروزة: المرجع السابق ص 262- 263.
3- , dlroW eht fo yrotsiH trohS A, slleW. G. H 77- 76. p، 1965.
4- . P, tic- po, sdoL. A 375- 374 و كذا. P, tic- po, htoR. C 31 و كذا. P, tic- po, llaH. R. H 437- 436.
5- . P, tic- po, renidraG. H. A 330- 329.
6- ملوك أول 14/ 25- 27.
7- أخبار أيام ثان 12/ 18.

«يهوذا» التي كانت من نصيب رحبعام بن سليمان، للامبراطورية المصرية، أو على الأقل، فإن معظم المدن هناك إنما كانت تقوم بدفع الجزية لمصر، و أما الدويلة الأخرى (إسرائيل) فقد أصبحت تحت النفوذ المصري تماما (1).

على أن فريقا آخر يذهب أصحابه من المؤرخين المسلمين إلى ملك واسع لسليمان عليه السلام، و ربما بغير حدود، بل إن المصادر الإسلامية إنما تزعم لدولة سليمان ما لم تزعمه لها المصادر اليهودية نفسها، ذلك أن التوراة رغم المبالغات المعروفة عنها، إنما تذهب إلى أن مملكة إسرائيل في أقصى اتساع لها، و في أزهى عهودها، إنما كان «من دان إلى بئر سبع» (2) (و دان تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي، على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس) (3) من الشمال إلى الجنوب، و أما من الشرق إلى الغرب، «فمن النهر (الأردن) إلى أرض فلسطين و إلى تخوم مصر» (4)، و هي حدود تشمل فلسطين بالكاد، و مع ذلك فإن بعض المصادر العربية تجعل سليمان عليه السلام واحدا من أربعة ملكوا الدنيا كلها (نمرود و بختنصر و هما كافران، و سليمان بن داود و ذو القرنين و هما مؤمنان) (5)، بل إن الخيال ليذهب بالبعض الآخر إلى أن يجعل عاصمة سليمان بعيدا في إيران، حيث ).

ص: 184


1- . p, tic- po, kooC. A. S 359.
2- قضاة 20/ 1، صوئيل أول 3/ 20، صموئيل ثان 24/ 15، أخبار أيام أول 21/ 2، و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 236.
3- قاموس الكتاب المقدس 1/ 356- 357.
4- ملوك أول 4/ 21، ثم قارن ملوك أول 9/ 11.
5- أنظر: تاريخ الطبري 1/ 234، الكامل لابن الأثير 1/ 54، البداية و النهاية 1/ 148، ثم أنظر مناقشتنا لهذا الاتجاه (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 116- 119).

اتخذ من «اصطخر» (التي ينسبون إليه أو إلى الجن المسخر بأمره، أمر بنائها)، مقرا لحكمه، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن ملك سليمان إنما قد وصل إلى اليمن (1).

و في عام 1986 م صدر كتابان، يزعم الأول منهما أن دولة داود و سليمان عليهما السلام إنما قامت في غرب شبه الجزيرة العربية (من الطائف و حتى نجران)، و ليست في فلسطين، و كما تقول التوراة «من دان إلى بئر سبع» غير أن «دان» فيما يزعم المؤلف، ليست هي المدينة التي تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي، حيث منابع الأردن، على مبعدة ثلاثة أميال من بانياس، كما هو معروف، و إنما هي «الدنادنة» في تهامة زهران، و أن «بئر سبع» ليست هي المدينة المعروفة في جنوب فلسطين، و إنما هي الشباعة في مرتفعات خميس مشيط، و من ثم فإن دولة داود و سليمان، فيما يزعم المؤلف، إنما تمتد من «الدنادنة» في تهامة زهران جنوب وادي أضم، و حتى شباعة في مرتفعات خميس مشيط، شرقي رجال ألمع، و أما عاصمة الدولة القدس (أورشليم) فيذكر المؤلف رواية التوراة أن داود عليه السلام نقل عاصمته من حبرون إلى أورشليم، لكنه يزعم أن هناك خمسة أماكن تسمى «حبرون» ما تزال تحمل اسم «خربان» على المنحدرات البحرية لعسير، و من الأمكنة الخمسة يختار المؤلف قرية «الخربان» الحالية في منطقة المجاردة، كعاصمة أولى لداود، و هي نفسها، فيما يزعم، حبرون إبراهيم عليه السلام، و ليست «حبرون» المشهورة في فلسطين، و هي مدينة الخليل الحالية، على مبعدة 19 كيلا شمال القدس، و أما «أورشليم» فهي ليست،

ص: 185


1- ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/ 211 (بيروت 1955)، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 458- 569 (دار الشعب- القاهرة 1970) علي إمام عطية: الصهيونية العالمية و أرض الميعاد ص 71- 72.

فيما يزعم، مدينة القدس الحالية (حيث المسجد الأقصى) و إنما هي قرية «آل شريم» الحالية، على مبعدة 35 كيلا شمالي بلده «النماص» في سراة عسير، شمال مدينة أبها (1).

و أما الكتاب الثاني فيزعم صاحباه أن سليمان عليه السلام قامت على عهده، و عهد أبيه (داود عليه السلام) دولة إسلامية عاصمتها بيت المقدس، و حدودها من المؤكد كانت تشمل بلاد الشام الحالية (سورية و فلسطين) و تشمل الجزيرة العربية كلها، و أنهما يعتبران ذلك من تمكين اللّه لسليمان فأعطاه ملكا لم و لن ينبغي لأحد من بعده (2)، ثم يقولان بعد ذلك، و في نفس الكتاب: لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان الذي طويت له الأرض، و مكن له فيها، و أوتي من كل شي ء (3)، فضلا عن أنهما زعما في كتاب آخر أن سليمان عليه السلام كان نبيا عربيا (4)، بينما يذهبان في كتاب آخر أنه من سلالة إسرائيل عليه السلام (5).

و لعل من الأفضل هنا، أن نرد أولا على هذه الآراء الآنفة الذكر، قبل أن نتعرض لرأي المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (6)، فأما أصحاب الرأي الأول، و الذي يذهب إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما السلام أكبر من تلك التي ورثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك

ص: 186


1- كمال سليمان الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب- ترجمة عفيف الرزاز- ط ثانية- بيروت 1986- مؤسسة الأبحاث العربية ص 175- 193.
2- جمال عبد الهادي و وفاء محمد رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس- دار طيبة- الرياض 1986 ص 256، 259.
3- نفس المرجع السابق ص 270.
4- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: جزيرة العرب ج 1 ص 80.
5- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس ص 255- 256.
6- سورة طه: آية 35.

يهوذا و إسرائيل، و ذلك بسبب عودة «هدد» أمير أدوم من مصر و استقلاله بدولته، و بسبب «رصين» الذي أقام مملكة في دمشق و قضى على نفوذ إسرائيل فيها، و بسبب حالة الانتعاش في مصر و التي صاحبت عهد سليمان، فذلك رأي بالغ أصحابه فيه كثيرا، فضلا عن اعتمادهم في الدرجة الأولى على التوراة، فيما يتصل بهدد و رصين، و التوراة كما هو معروف، مصدر غير موثوق فيه، و أقل ما يوصف به أنه نص محرف (1)، و من ثم فلا يمكن الاعتماد عليه، ما لم تؤيده مصادر أخرى، و هذا ما لم يثبت حتى الآن، ثم إن كل الدلائل، الدينية و التاريخية، تشير إلى أن سليمان قد مكّن له، كما مكّن لأبيه من قبل، و أما الانتعاش المصري و الرغبة في إعادة السيادة المصرية على غربي كنعان، فأدلة أصحاب هذا الرأي تعتمد على آثار تشير إلى حملات مصرية ضد الفلسطينيين الهند و أوربيين، و الذين كانوا يسكنون المنطقة ما بين يافا و غزة على ساحل البحر المتوسط، و ليس هناك دليل واحد يشير إلى حملات مصرية ضد مملكة سليمان، بل إن الأدلة كلها تشير إلى علاقات و دية بين مملكة سليمان و مصر، و أن فرعون كان حريصا على أن لا يفسد العلاقات الودية بينه و بين صهره سليمان ملك إسرائيل، كما رأينا من قبل، و أما حملة «شيشنق» على فلسطين، و التي يعتبرها البعض دليلا على ضعف مملكة سليمان، فيكفي القول إن هذه الحملة كانت بعد موت سليمان بأعوام خمسة، و من ثم فهي غير ذي موضوع بالنسبة لعهد سليمان، كما أنها كانت بعد انقسام مملكة سليمان بين ولده رحبعام و الثائر يربعام.

و أما ما ذهب إليه «برستد» من أن سليمان كان واليا تحت النفوذ المصري (2)، فيكذبه أن صاحبه لم يقدم دليلا واحدا على صحته، و هي

ص: 187


1- أنظر: سورة البقرة آية 79، 159، آل عمران: آية 78، النساء: آية 46، المائدة 13، 15، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 136- 379.
2- , Y. N, tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 529. p، 1946.

سقطة لا شك فيها من المؤرخ الكبير، كما أن مصر على أيام سليمان لم يكن لها نفوذ في فلسطين من أي نوع، و الأهم من ذلك كله: هل يقبل عاقل أن يكون نبيّ، أي نبيّ، تابعا لملك كافر، و لما ذا يتبعه، هل ليكون ملكا على فلسطين، و لكن ما قيمة ملك فلسطين، بجانب شرف النبوة، فما بالك إذا كان هذا النبي هو سليمان، الذي وهبه اللّه، بجانب النبوة، ملكا لا ينبغي لأحد بعده، الهم إنا نبرأ من قول كهذا، و نسألك أن تلهمنا جانب الصواب و الأدب مع أنبيائك و رسلك، و أن تحمينا من أن ننساق، دون أن ندري، في تيار كتبة التوراة، أو في تيار قلة من المؤرخين المحدثين ممن يلقون التهم جزافا على سيدنا سليمان عليه السلام، و بدهي أن خضوع سليمان النبي لفرعون من الفراعين تهمة لا شك فيها، نبرأ إلى اللّه منها، و أخيرا فإن أصحاب هذا الرأي تسقط كل حججهم بالرجوع إلى قصة سليمان مع ملكة سبأ، كما جاءت في القرآن الكريم، فإن الذي يهدد ملكة سبأ، أعظم دول الجزيرة العربية، و هي بعيدة عن مملكة سليمان بآلاف الكيلومترات، لا يمكن بحال من الأحوال، أن تكون دولته ضعيفة، يهددها أمثال أمير أدوم أو دمشق أو غيرهم من النكرات التي كانت تعيش في سورية و فلسطين تحت ظلال دولة سليمان، ثم إن سليمان الذي سخر اللّه له طائفة من الإنس و الجن و الطير و الشياطين، لن يعجز عن جماع قوم من ضعاف المشركين، و لا ريب في أن من سخر له من يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه، يمكن أن يسخر له، ما يستطيع به القضاء على كل أعدائه.

و أما أصحاب الرأي الذي يعطي سليمان عليه السلام ملكا واسعا، ربما بغير حدود، و يجعل عاصمته في «اصطخر» و يملكه بلاد اليمن، فأما عن «اصطخر» فليت الذين ذهب بهم الخيال إلى هذا الحد يعرفون أن اصطخر لم يبدأ الفرس في بنائها إلا حوالي عام 520 ق. م، على أيام دارا الأول (522- 486 ق. م)، و لم يتم البناء إلا في عهد «أرتخششتا الأول»،

ص: 188

حوالي عام 460 ق. م، أي بعد وفاة سليمان (960- 922 ق. م) بحوالي أربعة قرون (1)، و أما ملك اليمن فأمره عجيب، فالبعض خلط بين إسلام ملكة سبأ و بين خضوع دولتها لسليمان، و البعض أعطى سليمان ملك اليمن 320 سنة، مع أن المؤرخين، و منهم صاحب هذا الرأي، يجمعون على أن ملك سليمان لم يزد عن أربعين سنة، و أنه مات، و له اثنتان و خمسون سنة (2)، و أما إسلام ملكة سبأ فقد كان للّه مع سليمان «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و هكذا اهتدى قلبها و استنار، و عرفت أن الإسلام للّه وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه، حتى و إن كان هو سليمان، النبي الملك صاحب المعجزات، إنما الإسلام إسلام للّه رب العالمين، و مصاحبة للمؤمنين به و الداعين إلى طريقه على سنة المساواة «و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» و قد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة و أبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان باللّه و الإسلام له، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين، بل التي يصبح فيها الغالب و المغلوب أخوين في اللّه لا غالب منهما و لا مغلوب، و هما أخوان في اللّه رب العالمين على قدم المساواة (3)، ثم إن الذين يقولون بضم اليمن إلى مملكة سليمان إنما يخطئون في فهم دعوة الرسل، فهم لا يريدون ملك الناس و دنياهم، و إنما يريدون هدايتهم إلى عبادة اللّه وحده، و إلى الإيمان بشرائعه، كما أشرنا إلى ذلك من قبل في قصة سليمان مع ملكة سبأ.

و أما الدكتور الصليبي فلم يقدم لنا في دعواه أية أدلة علمية يمكن أن تؤيد مزاعمه التي تمس الدين و الوطن، سوى الزعم بأن هناك قرى في غرب

ص: 189


1- أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 229، آرثر كريستنس: إيران في عهد الساسانيين ص 80.
2- تاريخ اليعقوبي 1/ 60، 196.
3- في ظلال القرآن 5/ 2643.

الجزيرة العربية، يمكن أن تتشابه أسماؤها مع أسماء أماكن جاءت في توراة يهود و من ثم زعم أن غرب الجزيرة العربية هي أرض التوراة، و ليست فلسطين، و في الواقع لو طبقنا مزاعمه هذه على الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، لكان الكثير من مدنها، اعتمادا على تشابه أسماء بعض المدن، إنما هي مدن عربية، كان يسكنها العرب في العصور القديمة، ناهيك عن تشابه أسماء بعض المدن و القرى في البلاد، العربية نفسها، الأمر الذي يمكن أن يتفق و ما زعمه الدكتور الصليبي من مسخ للحقائق الدينية الثابتة، فضلا عن الحقائق التاريخية و الجغرافية المتعارف عليها منذ آلاف السنين.

و أما دعوة الدكتور جمال عبد الهادي و الدكتورة وفاء رفعت من أن سليمان قامت على عهده، و عهد أبيه داود، عليهما السلام دولة إسلامية عاصمتها القدس، و حدودها من المؤكد أنها كانت تشمل الشام كله و الجزيرة العربية كلها، فلست أدري من أين جاءا بدعواهما أن داود كون دولة شملت الشام كله و الجزيرة العربية كلها، و ليس في القرآن الكريم و الحديث الشريف و لا في المصادر العربية أو اليهودية أو الأثرية ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، و أما ملك سليمان لليمن فقد ناقشناه من قبل، و ليس هناك من دليل يثبت استيلاء سليمان على اليمن و ضمها إلى مملكته، فضلا عن ضم الجزيرة العربية كلها، و اليمن جزء من الجزيرة العربية، و ليس كل الجزيرة العربية، ثم يقول المؤلفان أن اللّه مكّن سليمان فأعطاه ملكا لم و لن ينبغي لأحد من بعده؟ فهل ملك الشام و الجزيرة العربية يعتبر هو الملك الذي لم ينبغ لأحد من بعد سليمان، أم أن هناك آخرون ملكوا أكثر من الشام و الجزيرة العربية، فمثلا الإسكندر المقدوني في التاريخ القديم، و الدولة الإسلامية على أيام الراشدين و الأمويين و العباسيين، ناهيك عن الامبراطوريات الأوربية في العصر الحديث.

و أما القول بأنه لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان

ص: 190

الذي طويت له الأرض و مكن له فيها، و أوتي من كل شي ء، فلست أدري ما ذا يعني المؤلفان بذلك، و هل تبق حقا أمة مشركة في عهد سليمان بعد إيمان ملكة سبأ، و هل أصبحت مصر الفرعونية أو العراق القديم مثلا، و هما أقرب إلى فلسطين مقر مملكة سليمان من اليمن، من الأمم المسلمة في عهد سليمان؟ ثم، و هذا في منتهى الأهمية، هل بعث سليمان للناس عامة، أم أنه بعث إلى قومه خاصة، ذلك أنه من المعروف أن كل نبيّ إنما كان يبعث إلى قومه خاصة، و أن سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو وحده الذي بعث إلى الناس كافة بشيرا و نذيرا «قل يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعا»، «و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا»، و في الصحيحين عن جابر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، و أحلت لي الغنائم و لم تحل لأحد قبلي، و أعطيت الشفاعة، و كان النبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس عامة» (1).

ثم إن المؤلفين مضطربان في نسب سليمان عليه السلام، فهو مرة نبي عربي، و هو مرة أخرى من بني إسرائيل من سلالة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و هذا هو الصحيح، ثم كيف يكون سليمان نبيّا عربيا، و سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في حديث أبي ذر المشهور:

و أربعة من العرب، هود و صالح و شعيب و نبيّك يا أبا ذر» (2)، و في رواية:

«و أربعة من العرب، هود و صالح و شعيب و محمد عليه السلام» (3).

بقي الآن أن نتحدث عن رأي المفسرين و المؤرخين المسلمين في قوله تعالى:

ص: 191


1- تفسير ابن كثير 3/ 857.
2- البداية و النهاية تفسير ابن كثير 1/ 891- 892 (بيروت 1986).
3- تفسير النسفي 1/ 263- 264.

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (1)، إذ ترى جمهرة كبيرة من المفسرين و المؤرخين أن سياق الآيات الكريمة تفيد أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه السلام في ملكه المعبر عنها بقوله تعالى:

مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنما هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السلام، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى:

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (2)، المتضمن استجابة اللّه تعالى لدعائه، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط و التعقيب و الترتيب (3)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و يقول ابن الأثير أن سليمان عليه السلام سأل اللّه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب اللّه و سخر له الإنس و الجن و الشياطين و الطير و الريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه، عكفت عليه الطير، و قام له الإنس و الجن حتى يجلس (4)، و يقول الطبري (5): و سخرت له الريح و الشياطين يومئذ، و لم تكن سخرت له من قبل (أي بعد أن جلس الشيطان على كرسيه) و هو قوله تعالى: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (6)، و من هنا فقد ذهب المسعودي إلى أن ملك سليمان كان أربعين سنة على فلسطين و الأردن (7)، و قول ابن خلدون: إن سليمان قد ضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين و عمون و كنعان و مؤاب ).

ص: 192


1- سورة ص: آية 35.
2- سورة ص: آية 36- 37.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 114- 115.
4- الكامل لابن الأثير 1/ 128.
5- تاريخ الطبري 1/ 501.
6- سورة ص: آية 35.
7- مروج الذهب للمسعودي 1/ 70 (بيروت 1965).

و أدوم و الأرمن (أي الآراميين) و هذا لا يعدو أيضا فلسطين و شرق الأردن (1).

و إذا ما رجعنا إلى كتب التفسير لرأينا الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه، يقول في تفسير الآية الكريمة: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، أن أقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان عليه السلام لم يرد به أثره، و إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة، فقد أراد به النوع، أراد به ملكا ذا خصوصية تميّزه من ملك كل ملك آخر يأتي بعده، و ذا طبيعة معينة ليست مكررة و لا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس، و قد استجاب اللّه له، فأعطاه فوق الملك المعهود، ملكا خاصا لا يتكرر (2)، ثم يحدد صاحب الظلال هذا الملك المعهود بأنه لا يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين و سورية و لبنان و العراق إلى ضفة الفرات (3)، أي الشام بمعنى آخر، لا أكثر و لا أقل، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعده هذه السلبة (يعني الشيطان الذي جلس على كرسيه) أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته (4)، و يقول النسفي أن سليمان عليه السلام سأل ملكا بهذه الصفة (لا ينبغي لأحد من بعدي) ليكون معجزة له، لا حسدا (5)، و كان قبل ذلك لم يسخر له الريح و الشياطين، فلما دعا بذلك ».

ص: 193


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 112.
2- في ظلال القرآن 5/ 3020.
3- في ظلال القرآن 5/ 2635.
4- الدر المنثور 5/ 313.
5- تفسير البيضاوي 5/ 19. جاء في تفسير الطبري (23/ 164 ط بيروت 1984) ذكر عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قرأ قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال: «إنه كان لحسودا، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء، قيل: أما رغبته إلى ربه فيما رغب إليه من الملك، فلم تكن إن شاء اللّه به رغبة في الدنيا، و لكن إرادة منه أن يعلم منزلته من اللّه في إجابته فيما رغب إليه فيه، و قبول توبته، و إجابته دعائه».

سخرت له الريح و الشياطين و لن يكون معجزة حتى يخرق العادات (1).

و يقول ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: قال بعضهم: معناه لا ينبغي لأحد من بعدي، أي لا يصح لأحد أن يسلبنيه بعدي، كما كان من قضية الجسد الذي ألقى على كرسيه، لا أن يحجر على من بعده من الناس، و الصحيح أنه سأل من اللّه تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر، و هذا هو ظاهر السياق من الآية، و بذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، قال البخاري عند تفسير هذه الآية، حدثنا إسحاق إبراهيم أخبرنا روح و محمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إني عفريتا من الجن تفلت على البارحة، أو كلمة نحوها، ليقطع على الصلاة، فأمكنني اللّه تبارك و تعالى منه، و أردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا و تنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة و السلام: «رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي»، قال روح: «فرده خاسئا»، و كذا رواه مسلم و النسائي من حديث شعبة به (2).

هذا و قد قدم لنا الإمام الطبري عدة روايات في تفسير الآية الكريمة، منها أن اللّه تعالى سخر لسليمان الريح و الشياطين يومئذ، و لم تكن سخرت له من قبل ذلك، و هو قوله: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، لا يسلبنيه أحد، كما سلبنيه قبل هذا الشيطان، و منها يقول تعالى ذكره: -

ص: 194


1- تفسير النسفي 4/ 43.
2- تفسير ابن كثير 4/ 56- 57 (ط بيروت 1986) و انظر: صحيح البخاري 6/ 156، صحيح مسلم 2/ 72، سنن النسائي 3/ 13، مسند الإمام أحمد 3 ك 83.

فاستجبنا له دعائه، فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، «فسخرنا له الريح» مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة «تجري بأمره رخاء» يعني رخوة لينة، و هي من الرخاوة عن الحسن: أن نبيّ اللّه سليمان صلى اللّه عليه و سلم لما عرضت عليه الخيل، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر «حتى توارت بالحجاب» فغضب اللّه، فأمر فعقرت، فأبدله اللّه مكانها، سخر الريح تجري بأمره رخاء حيث شاء، و منها ما روى عن الضحاك في قوله تعالى: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فإنه دعا يوم دعا، و لم يكن في ملكه الريح، و كل بناء و غواص من الشياطين فدعا ربه عند توبته و استغفاره، فوهب اللّه له ما سأل، فتم ملكه، و عن الضحاك أيضا «و الشياطين كل بناء و غواص» قال لم يكن هذا في ملك داود، أعطاه اللّه ملك داود، و زاده الريح، «و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد»، يقول في السلاسل، و يقول الإمام الطبري:

و أولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن و الضحاك من أنه عني بالعطاء ما أعطاه اللّه تعالى ذكره من الملك، و ذلك أنه جل ثناؤه ذكر عقيب خبره عن مسألة نبيّه سليمان، صلوات اللّه و سلامه عليه، إياه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأخبره أنه سخر له ما لم يسخر لأحد من بني آدم، و ذلك تسخيره له الريح و الشياطين على ما وصفت، ثم قال له عز ذكره:

هذا الذي أعطيناك من الملك، و تسخير ما سخرنا لك عطاؤنا، و وهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك «فامنن أو أمسك بغير حساب» (1).

و يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير في تفسير الآية: أن الملك هو القدرة، فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي و رسالتي، و الدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال عقيبه: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً ).

ص: 195


1- تفسير الطبري 23/ 158- 163 (ط بيروت 1984).

حَيْثُ أَصابَ، فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة و ملك عجيب، و لا شك أنه معجزة دالة على نبوته، فكان قوله؛ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها، فقوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يعني لا يقدر أحد على معارضته، و هناك وجه آخر أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة، عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، و ذلك الذي سأله بقوله: مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري (1).

و هكذا يبدو واضحا أن جمهرة المفسرين لا يذهبون إلى أن سليمان عليه السلام، سأل اللّه ملكا واسعا، بمعنى مساحات واسعة من الأرضين، و إنما سأل اللّه تعالى ملكا معجزا لا يكون لأحد غيره من بعده، فكانت هذه المعجزات من تسخير الريح بأمره رخاء حيث أصاب، و الشياطين كل بناء و غواص، و آخرين مقرنين في الأصفاد، إلى غير ذلك من معجزات لم يشاركه فيها أحد، كما أشرنا إلى كل ذلك في مكانه من هذه الدراسة، و من ثم فلا مكان للربط بين ملك شاسع المساحات، كما ذهبت إلى ذلك بعض المصادر العربية، و بين نبوة سليمان عليه السلام، و كأن مكانة النبي الكريم لا تكون إلا بملك الدنيا كلها، كما ذهب البعض، حيث جعلوا من سليمان عليه السلام، واحدا من أربعة (نمرود و بختنصر و ذو القرنين و سليمان) ملكوا الدنيا بأسرها، بل إن سليمان، فيما يقولون، «كان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يذله»، و نسوا، أو تناسوا، أن سليمان عليه السلام، لم يكن، و لن يكون، جبارا في الأرض، و إنما كان رسولا نبيّا، و هاديا إلى اللّه بإذنه، و مبشرا و نذيرا، و نسوا كذلك أن النبوة أشرف و أكرم من ملك الدنيا و ما فيها، و إن جمع اللّه لسليمان، كما جمع لأبيه من قبل، بين

ص: 196


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 209- 210.

النبوة و الملك، و نسوا أيضا أنهم ربطوا سليمان بملوك أربعة، منهم على الأقل كافران، فإذا كان هذا الملك الواسع المساحات هو المراد من دعاء النبي الكريم: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فهم إذن قد ساووا بين سليمان عليه السلام، و بين هؤلاء الثلاثة (نمرود و بختنصر و ذو القرنين) في هذا الملك الواسع العريض، و هذا ما لم يقل به أحد.

و هكذا يبدو واضحا أن سياق الآيات الكريمة، كما أشرنا من قبل، إنما يشير إلى أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه السلام في ملكه و المعبر عنها بقوله: مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السلام، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، المتضمن استجابة اللّه تعالى لدعائه، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط و التعقيب و الترتيب (1).

[8] القدس عاصمة سليمان:-

تقع القدس على مبعدة 14 ميلا إلى الغرب من البحر الميت، 33 ميلا إلى الشرق من البحر المتوسط، و قد عرفت بأسماء كثيرة، حيث أطلقت عليها التوراة أو العهد القديم اسم «أريئيل» (إشعياء 29/ 1) و مدينة العدل (إشعياء 1/ 26) و المدينة (مزمور 72/ 16) و مدينة اللّه (مزمور 48/ 1) و مدينة الحق (زكريا 8/ 3) و مدينة القدس (نحميا 11/ 1) و جبل القدس (إشعياء 27/ 13) و المدينة المقدسة (متى 4/ 5) و مدينة داود، و أما أسماؤها العربية فهي: بيت المقدس و المقدس و القدس الشريف، أما الإسم الغالب فهو «القدس»، و الذي يبدو أنه رافق المدينة منذ بداية تاريخها، غير أن أشهر اسمين للمدينة إنما هما القدس و أورشليم.

ص: 197


1- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 114- 115.

هذا و يظن كثير من الناس خطأ أن اسم «أورشليم» اسم عبري أو يهودي، و الحقيقة غير ذلك تماما، ذلك لأن أقدم النقوش التي ورد فيها اسم المدينة المقدسة إنما هو نقش مصري، يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر قبل الميلاد، و ربما إلى أيام «سنوسرت الثالث (1878- 1843 ق. م) أو بعده بقليل، و ربما قبله بقليل، حيث ذكرت المدينة تحت اسم «أورشليم» (mumilasrU) على رأي (1)، و إلى أيام الأسرة الثالثة عشرة المصرية (1786- 1650 ق. م) فيما عرف بنصوص اللعنة تحت اسم «أوشاميم» (memahsuA على رأي آخر (2)، و نقرأ في رسائل العمارنة من القرن الرابع عشر قبل الميلاد (3)، في رسالة من نائب الفرعون إخناتون (1367- 1350 ق. م) و يدعى «عبد خيبا» أمير القدس و كانت تدعى «أورسالم» يقول فيها «لا أبي و لا أمي وضعاني في هذا المكان، بل يد الملك القوية هي التي وضعتني في بيت آبائي» (4)، و بقيت المدينة تدعى «أورسالم»، حتى استقل بها اليبوسيون في فترة الضعف التي انتابت الإمبراطورية المصرية، و سموها «يبوس» (5)، حتى جاء داود عليه السلام (1000- 960 ق. م) و استولى عليها منهم، ثم اتخذها عاصمة لدولته، و نقل إليها «تابوت العهد»، و أطلق عليها اسم «مدينة داود»، و من ثم فقد أصبحت المدينة المقدسة مركزا للحياة

ص: 198


1- .. P, tic- po, regnU. F. M 576.
2- أحمد فخري: المرجع السابق ص 335 و كذا, TENA, nosliW. J 329. p، 1966 ,allatneirO ni ,.C .B munnelliM dnoceS eht ni naenarretideM tsaE ehT dna tpygE ,draW .W 30،, amoR 32. p، 1961.
3- أنظر عن رسائل العمارنة (محمد بيومي مهران: إخناتون- الإسكندرية 1979 ص 233- 245).
4- ., otnoroT, II, tselbaT anramA- lE- leT ehT, recreM. B. A. S 89- 286. p، 1939 و كذا. P, TENA, thgirblA. F. W 489- 487.
5- . 19/ 10- 11.

السياسية و الدينية معا، هذا و يختلف الباحثون في أسباب تغيير اسم المدينة القديم، فمن قائل لأن اسمها القديم كان غريبا على العبرانيين، و من قائل لأن فيه تخليدا للاهوت أجنبي، و من قائل لأن داود عليه السلام أراد أن يخلد اسمه على المدينة أو حتى على جزء منها، ذلك لأن اليهود أطلقوا على المدينة أيضا اسم «يورشالايم» أو «أورشالم» بإضافة لاحقة عبرية كي تصبح عبرية النطق، و أيا كان السبب فإن الإسم الجديد لم يحل محل الإسم القديم، الذي له جذور عميقة في الوعي الشعبي (1).

هذا و قد دعيت المدينة في النقوش الآشورية باسم «أورساليمو» (ummilasrU) و في النقوش اليونانية باسم «هيروسوليما» (amylosoreiH) (2)، هذا و لم يذكر «هيرودوت» (484- 430 ق. م) في تاريخه اسم «أورشليم» و لكنه ذكر مدينة كبيرة في الجزء الفلسطيني من الشام، و سماها «قديتس»، مرتين في الجزء الثاني و الثالث من تاريخه، و يقول المستشرق اليهودي «سالومون مونك» في كتابه «فلسطين» أن هذا الإسم على الأرجح هو «القدس»، محرفا في اليونانية عن النطق الآرامي «قديشتا» (3).

و أما معنى «أورشليم» فموضع خلاف، و لعل أرجح الآراء من الناحية العلمية أنها مركبة من «أور» بمعنى مدينة أو موضع، و من «شالم» و هو إله وثني لسكان فلسطين الأصليين هو «إله السلام»، فالمدينة إذن كانت مكرسة لإله السلام، و هناك من يقول أن كلمة «أور» معناها «الميراث»، فتكون

ص: 199


1- صموئيل ثان 5/ 9، 6/ 12- 13، 8/ 17- 18، 20/ 25- 26، عبد الحميد زائد: الشرق الخالد ص 56- 57، و كذا, learsI fo yrotsiH ehT, htoN. M 191. p، 1965 و كذا, SENJ, nivieY. Y 10. p، 1948، 7.
2- . P, tic- po, regnU. F. M 576.
3- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 8، قاموس الكتاب المقدس 1/ 135.

أورشليم بمعنى «ميراث السلام» أما أحبار اليهود فيدعون أن «سام بن نوح» قد سماها «شلم» أي السلام، و أن إبراهيم الخليل عليه السلام، قد سماها «يرأه»، و هي باللغة العبرية بمعنى الخوف، فقرر اللّه أن يسميها بالاسمين معا، «يرأه- شلم» أي «أورشليم» بمعنى الخوف و السلام، و بنوا على هذه التخريجات الفلوكلورية عقائد رهيبة حول السلام المتولد عن الرعب، و قيل أيضا أن «يرو» يمكن أن تكون في اللغات السامية بمعنى «إله»، و يكون اسم المدينة بكل بساطة «مدينة إله السلام» (1).

و أيا ما كان الأمر، فما أن يأتي الرومان، و تحدث مذبحة «هدريان» (117- 138 م) عام 135 م، حتى تكون ختاما نهائيا لليهود في فلسطين سياسيا و سكانيا، ثم يغير الرومان اسم المدينة إلى «إيليا كابيتولينا» أو «إيليا» فقط، و يصبح لفظ أورشليم لفظا تاريخيا، يطلق فقط على المدينة التي كانت على عهد الملوك و الأنبياء من بني إسرائيل، و ظلت المدينة تسمى «إيليا» و لا يسكنها اليهود حتى القرن السابع الميلادي، و في العام الخامس عشر الهجري يفتح المسلمون المدينة المقدسة، و يعيدون إليها اسمها «القدس»، و إن اشترط أهلها ألا تسلم مدينتهم إلا للخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضوان اللّه عليه، و أن يمنحهم الأمان لدينهم و كنائسهم، و يقبل الخليفة أن يتسلم المدينة بنفسه، و يأتي إلى القدس في عام 15 ه (أو عام 16 ه 635/ 636 م) و يتسلم المدينة من البطريرك «صفرنيوس»، و يمنح أهلها النصارى الأمان في دينهم و أموالهم و أعراضهم، لا يضار أحد منهم بسبب دينه، و لا يكره على شي ء في أمره، و لا يسكن معهم أحد من اليهود (2)، و بينما كان الخليفة الراشد في كنيسة القيامة مع البطريرك أدركته ).

ص: 200


1- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 9.
2- هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الفارق عمر رفض الموافقة على استمرار القرار الروماني بمنع اليهود من النزول بالمدينة، معتذرا بأن القرآن الكريم قد حدد لأهل الكتاب ما لهم و ما عليهم، و ليس فيه شي ء يسمح بهذا، و لكنه تعهد للنصارى بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم (حسن ظاظا: المرجع السابق ص 30).

الصلاة، فطلب إليه أن يصلي بها فرفض حتى لا يتبعه المسلمون إذ يرون أن عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم و خالفوا عهد الأمان، و اعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة (1)، و إنما صلى في مكان قريب عند الصخرة المقدسة، و خطّ المسجد الذي عرف باسمه (2).

[9] مباني سليمان:-

لا ريب في أنه كان للقدس نصيب الأسد في المباني التي شيدت في عهد سليمان عليه السلام و طبقا لما جاء في التوراة فقد شيد سليمان سور المدينة و قلعتها، و إن كان بناء المسجد الأقصى و قصر سليمان إنما يمثلان أعظم إنجازات الملك النبي المعمارية، و أما المسجد الأقصى فقد خصصنا له فصلا مستقلا من قبل، و أما القصر فقد اختيرت له الهضبة الغربية، و طبقا لرواية التوراة، فلقد أقيم القصر على المنطقة الصخرية التي تدعى «تل

ص: 201


1- يقول المسعودي: أن سليمان عليه السلام بعد أن بنى المسجد الأقصى، بنى لنفسه بيتا في الموضع الذي يسمى في وقتنا هذا (أي وقته هو) كنيسة القيامة، و هي الكنيسة العظمى ببيت المقدس عند النصارى (مرجع الذهب 1/ 70) و هي الكنيسة التي بنتها «هيلانة» أم الامبراطور قسطنطين (306- 337 م) في عام 326 م، في المكان الذي يعتقد النصارى أن جثمان المسيح عليه السلام قد دفن فيه، ثم رفع إلى السماء، و هذا خطأ لأن المسيح لم يقتل و لم يصلب، قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (سورة النساء: آية 157- 158).
2- تاريخ الطبري 3/ 607- 613، الواقدي: فتوح الشام 2/ 26، 244، 267، البلاذري: فتوح البلدان ص 144- 145، حسن ظاظا: المرجع السابق ص 30، عبد الحميد زائد: القدس الخالدة ص 173- 175، البداية و النهاية 7/ 60- 67.

موريا» (1)، و يذهب المسعودي، كما أشرنا آنفا، أنه في مكان كنيسة القيامة (2)، و كان القصر يتكون من عناصر ثلاثة: «بيت وعر لبنان»، و كان يستخدم كترسانة أسلحة (3)، و ربما كمكان للمالية في نفس الوقت (4)، و يحتمل كذلك أنه استخدم كحوش للإسطبلات، و أما «صالة الأعمدة» فلم يعرف الغرض الذي استخدمت من أجله، و أما «غرفة الاجتماعات الكبيرة»، فقد استخدمت كمكان للقضاء، فضلا عن الاحتفالات الرسمية (5)، هذا و قد وجد إلى جانب هذا القصر الكبير من ناحية الغرب مباشرة، قصر آخر أحيط بجدار فاصل، و قد اتخذ مكانا لسكني الملك و سيدات القصر، هذا و قد وجد أيضا، إلى الشمال مباشرة، و فوق هضبة مرتفعة، مبنى آخر أحيط بسور خاص، اتخذ كمصلي، و أمامه مذبح لحرق الأضاحي (6).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات التي وصلتنا عن مباني سليمان إنما تضعه في مرتبة أعلى البنائين المشهورين، و من ثم فقد نسبت إليه مبان كثيرة في منطقة الشرق الأدنى القديم، حتى أن بعض تلك المباني إنما كانت تقع بعيدا جدا عن منطقة نفوذه (7)، و قد نافست المصادر العربية المصادر اليهودية في نسبة مبان كثيرة إلى سليمان، حتى أن «ياقوت الحموي» يقول: «إن الناس كانوا إذا ما رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه، أضافوه إلى سليمان و إلى جن سليمان (8)، و مع ذلك، فالذي لا شك فيه أن ).

ص: 202


1- أخبار أيام ثان 3/ 1.
2- مروج الذهب 1/ 70.
3- ملوك أول 10/ 16- 17.
4- ملوك أول 10/ 17- 20.
5- ملوك أول 10/ 18- 20، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 596.
6- . P,. dibI 596.
7- . P,. dibI 594.
8- ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/ 17 (بيروت 1957).

لسليمان إنجازات معمارية كثيرة، و قد ذكرنا من قبل تشييده لكثير من الثكنات لفصائل عجلاته الحربية، و التي أطلقت عليها التوراة «مدن المركبات» و «مدن الفرسان» و كذا «مدن المخازن» (1) التي أقيمت للمؤن و العلف التي تحتاجها المعسكرات و المحطات التي أقيمت على الطرق التجارية، و ذلك لأن «مدن المخازن التي بناها سليمان في حماة» (2) إنما قد خدمت الهدفين، و بالتالي فربما أمكن القول أن الأماكن المحصنة التي أقيمت في مجاورات مجدو و تدمر و حماة و أورشليم إنما كانت «مدن مخازن» (3).

هذا و قد كشف عن بعض مبان لسليمان في حاصور (4) (تل قدح على مبعدة 5 كيلا جنوب غرب بحيرة الحولة) و في «عصيون جابر» اكتشف «جلوك» حصنا يرجع إلى أيام سليمان، و كذا في «قادش برينع»، و هي خربة القضيرات أو عين قديس، على مبعدة 50 ميلا جنوب بئر سبع (5)، و نقرأ في التوراة أن سليمان «بنى جازر و بيت حورن السفلى و بعلة و تدمر في البرية» (6)، أما «جازر» فهي المدينة الكنعانية الواقعة على مبعدة 18 ميلا شمال غرب أورشليم، و قد أشرنا من قبل إلى أن فرعون قد استولى عليها و قدمها مهرا لابنته امرأة سليمان، و يبدو أن سليمان قد أعاد بناء المدينة بعد ذلك (7)، و أما «بيت حورن السفلي» فتقع على مبعدة 12 ميلا شمال

ص: 203


1- ملوك أول 9/ 19.
2- أخبار أيام ثان 8/ 4.
3- . P, tiC. pO, tdlefssiE. O 595.
4- ملوك أول 9/ 15.
5- قاموس الكتاب المقدس 2/ 708- 709، و كذا. P, tiC. pO, tdlefssiE. O 595. 595 و كذا F, Y. N, dnaL elbiB ni seirevocsiD tneceR, thgirblA. F. W 86. p، 1955.
6- ملوك أول 9/ 17- 18.
7- ملوك أول 9/ 15- 17، قاموس الكتاب المقدس 1/ 242 و كذا. p, tic- po, regnU. F. M 401.

أورشليم، و تسمى حاليا «بيت عور السفلى» و هي أقدم من عصر سليمان، و من ثم فيبدو أن سليمان قد حصنها و لكنه لم يبنها (1)، و أما «بعلة» فهي مدينة في منطقة «دان» لا يعرف الآن مكانها على وجه التحقيق، و يرجح أن سليمان حصنها و لم يبنها كذلك (1).

و أما مدينة «تدمر» فهي مدينة «تمر» التي قام سليمان ببنائها في البرية، و قد أشارت التوراة و يوسف بن متى أن سليمان قد أقام مدينة تدمر (2)، و لا شك في أن وجهة النظر اليهودية هذه خاطئة، ذلك لأن مدينة تدمر إنما ظهرت للمرة الأولى في التاريخ على أيام الملك الأشوري «تجلات بلاسر» (1116- 1090 ق. م) في صورة «تدمر أمورو» (3) أي قبل أن يولد النبي الكريم، و كذا بفترة تسبق ما دون في التوراة بشأنها بأكثر من سبعة قرون، و من هنا يذهب العلماء إلى أن الرواية التوراتية بشأن بناء سليمان لمدينة تدمر، إما أنها من نوع المبالغة، و من ثم فقد نسبت إلى سليمان بناء مدينة تقع في منطقة بعيدة عن حدود دولته إسرائيل (4)، و إما أن هناك خطأ وقع فيه كاتب الحوليات العبراني حين خلط بين «تامارا» (تمر) التي بناها سليمان في جنوب شرق يهوذا (5)، و ربما كانت الشهرة التي اكتسبتها «تدمر» (6) على أيام كتبة الأسفار العبرانيين هي السبب في نسبة بنائها إلى النبي الكريم، و من ثم فقد ذهب هؤلاء الكتبة إلى أن المدينة التي بناها سليمان هي «تدمر» و ليست

ص: 204


1- ملوك أول 11/ 18، قاموس الكتاب المقدس 1/ 82).
2- ملوك أول 9/ 18، أخبار أيام ثان 8/ 4، و كذا, BR, sneiryssA setxeT seL snad arymlaP, emorhD. E 106. p، 1924 و كذا. P, III, IE 1020.
3- . p, III, IE 1020 و كذا, BE 488، 17،. P, tic- po, emorhD. E 106 و كذا, BE 161. p، 17.
4- فيليب حتى: المرجع السابق ص 432، جواد علي 3/ 77، و كذا. P, tic- po, sgnitsaH. J 889.
5- حزقيال 47/ 19، قاموس الكتاب المقدس 1/ 282.
6- عن «تدمر» أنظر (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 533- 541.

«ثامار»، و سرعان ما انتقلت تلك الرواية إلى المصادر العربية، عن طريق مسلمة أهل الكتاب، فأخذوها بغير تدقيق و لا تحقيق، فضلا عن أن آثار المدينة ربما أدهشتهم و من ثم فقد نسبوا أبناءها إلى الجن، بأمر من سليمان عليه السلام (1).

هذا و قد ناقش الأستاذ «إيسفلت» الموضوع عام 1975 م بشي ء من التفصيل، و خلص إلى أن «تدمر» المشار إليها في التوراة إنما هي «تمر»، و تقع في أو بالقرب من «عين الرس»، على مبعدة 5 كيلا إلى جنوب النهاية الجنوبية للبحر الميت، و ليست تدمر التي تقع على مبعدة 150 كيلا شمال شرق دمشق، في منتصف المسافة بين دمشق و الفرات و على أي حال، فإن بناء «تمر» إنما كان جزءا من مشروع أكبر لخدمة الأغراض التجارية التي كانت دولة سليمان ميدانا لها (2).

ص: 205


1- فيليب حتى: المرجع السابق ص 432، جواد علي 3/ 78، الألوسي: بلوغ الأرب 1/ 209- 210، ياقوت 2/ 17- 19، البكري 1/ 306- 307، ثم قارن المسعودي 2/ 244- 245 (بيروت 1973).
2- ملوك أول 3/ 1، 9/ 15، و كذا, BE. O 161. p، 17 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 593- 592.

ص: 206

الكتاب الخامس الأنبياء من أيوب إلى يحيى عليهم السّلام

اشارة

ص: 207

ص: 208

الفصل الأول أيوب عليه السّلام
[1] قصة أيوب عليه السلام:-

وردت قصة أيوب عليه السلام في القرآن الكريم في سورة النساء (آية 163) و الأنعام (آية 84)، و في سورة الأنبياء و ص بشي ء قليل من التفصيل، قال تعالى في الأنبياء: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (1)، و قال تعالى في سورة ص: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (2).

هذا و يشير القرآن الكريم إلى أن أيوب إنما هو من ذرية إبراهيم

ص: 209


1- سورة الأنبياء: آية 83- 84، و انظر: تفسير الطبري 17/ 56- 73، تفسير ابن كثير 3/ 300- 304، تفسير الفخر الرازي 22/ 203- 209، تفسير النسفي 3/ 86- 87، تفسير القرطبي ص 4362- 4367، في ظلال القرآن 4/ 2391- 2392، تفسير روح المعاني 17/ 79- 82، صفوة التفاسير 2/ 272.
2- سورة ص: آية 41- 44، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 59- 61، تفسير النسفي 4/ 42- 43، تفسير الفخر الرازي 26/ 211- 215، تفسير الطبري 23/ 165- 169، في ظلال القرآن 5/ 3021- 3022، تفسير القرطبي ص 5651- 5656.

الخليل عليهما السلام، قال تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (1)، و من ثم فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه من سلالة العيص (عيسو) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و أن أمه، فيما يرى ابن عساكر، بنت لوط عليه السلام، و إن ذهب رأي إلى أنه من الروم، قال ابن إسحاق: كان رجلا من الروم، و هو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، و لعل خطأ وقع هنا في كلمة «الروم»، و المقصود «أدوم» و ليس «روم»، ذلك لأن عيسو (العيص) بن إسحاق (شقيق يعقوب التوأم)، إنما كان يسمى «أدوم» (الأحمر)، و إليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن، و جنوب وادي الحسا، و كانت عاصمتهم «البتراء» (2)، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن أبا أيوب عليه السلام، إنما كان ممن آمن بإبراهيم عليه السلام و هاجر معه إلى فلسطين، على أن هناك رواية رابعة تنسب لابن إسحاق تذهب إلى أن أيوب كان من بني إسرائيل، و لم يصح في نسبه شي ء، إلا أن اسم أبيه أموص، و على أية حال، فالصحيح، فيما يرى كثير من المفسرين و المؤرخين، أنه من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، و أما امرأته فهي «ليا» (دينة) بنت يعقوب عليه السلام، و قيل هي «رحمة» بنت أفرايم بن يوسف أو ماضر بنت منشا (منسى) بن يوسف عليه السلام، و طبقا لهذا، فإن أيوب إنما قد عاش قبل موسى عليه السلام، و قال ابن جرير: كان بعد شعيب عليه السلام، و في التاريخ أنه كان نبيّا في عهد يعقوب عليه السلام، و أنه عاش ثلاثا و تسعين سنة، و قال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان عليه السلام (3)، و سوف نناقش ذلك بالتفصيل فيما بعد.

ص: 210


1- سورة الأنعام: آية 84.
2- انظر: التفصيلات و المراجع (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 547- 552).
3- تفسير روح المعاني 17/ 80، تفسير الفخر الرازي 22/ 203، تفسير النسفي 3/ 86، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 220- 221، تاريخ الطبري 1/ 322- 324، الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 264.

هذا و قد اقترن ذكر أيوب عليه السلام بالصبر، لأنه كان من أشد الأنبياء صبرا، إن لم يكن أشدهم، فلقد ابتلى عليه السلام بلاء شديدا في أهله و بدنه و ماله، و لكنه كان مثال العبودية الحقة للّه تعالى، فصبر على ذلك حتى أصبح يضرب به المثل في الصبر على الأذى، فيقال: «صبر كصبر أيوب»، و قد روى الليث عن مجاهد ما معناه: أن اللّه يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، و بيوسف عليه السلام على الأرقاء، و بأيوب عليه السلام على الأرقاء (1)، و قد أثنى اللّه تعالى على أيوب بقوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (2).

هذا و يتحدث المفسرون عما كان يملكه أيوب عليه السلام من المزارع و الحدائق، و ما كان له من أموال و دواب و أنعام و حرث، يضيق بها الحصر و التعداد، فضلا عن نعمة القوة و الصحة، إلى جانب زوجة صالحة حسنة الخلق و الخلق، و مع هذا لم تبطره هذه النعم الكثيرة، و إنما صبر لها و أدى لها كل ما يلزم، من شكر للمنعم جل جلاله و تقدير و عرفان لفضله، و كان رحيما بالمساكين، كما كان يكفل الأيتام و الأرامل، و يكرم الضيف، و مع ذلك فقد شاءت إرادة اللّه، و لا راد لمشيئته، أن تتغير الأحوال، فصوّح الزرع، و جف الضرع، و نفدت الأموال، و نفقت الماشية، و زال الثراء العريض، و هاجم الفقر الشديد، و المرض القاسي العنيد، نبيّ اللّه الكريم، ثم كانت مصيبته في موت البنين و البنات أنكى و أفدح، روى الإمام النسفي (3) أنه عليه السلام كان له سبعة بنين و سبع بنات و ثلاثة آلاف بعير، و سبعة آلاف شاة، و خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة و ولد و نخيل،

ص: 211


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 225.
2- سورة ص: آية 44.
3- تفسير النسفي 3/ 86- 78.

فابتلاه اللّه تعالى بذهاب ولده و ماله و بمرض في بدنه، فما وهن لما أصيب به من البلايا، و ما ضعف و لا استكان و إنما قابل ذلك كله بالصبر الجميل و الإيمان الكامل، فكان في حالتي الرخاء و البلاء مثالا لعباد اللّه الصالحين في إرضاء الرحمن، و إرغام أنف الشيطان.

هذا و قد روى الإمام الرازي في التفسير الكبير: (1) أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال اللّه تعالى: نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه و هو يرى إبليس عيانا و لا يلتفت إليه، فقال يا رب إنه قد امتنع علي فسلّطني على ماله، و كان يجيئه و يقول له: هلك من مالك كذا و كذا، فيقول: اللّه أعطى و اللّه أخذ، ثم يحمد اللّه، فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي فسلطني على ولده، فجاء و زلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه و أخبره فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله و ولده فسلطني على جسده، فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب، و حدثت أسقام عظيمة و آلام شديدة، فمكث في ذلك البلاء سنين (2)، و مع ذلك فقد ظل صابرا حتى ضرب في هذا المجال أروع المثل، و غدا صبره و إيمانه حديث القرون و الأجيال، و صدق سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث يقول كما ثبت في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (3).

و قد اختلف المفسرون في مدة بلاء أيوب عليه السلام و شدته، فذهبت

ص: 212


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 212.
2- يعترض كثير من العلماء على هذه الرواية لأن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض و الآلام، فضلا عن أن يكون ذلك مع الأنبياء على وجه الخصوص، و قد حكى اللّه تعالى عن الشيطان أنه قال: «و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي»، فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر، إلا على إلقاء الوساوس و الخواطر الفاسدة (راجع: تفسير الفخر الرازي 26/ 213).
3- البداية و النهاية 1/ 222، انظر مسند الإمام أحمد 1/ 172، تفسير ابن كثير 3/ 301.

رواية إلى أنها كانت ثماني عشرة سنة، روى ابن شهاب عن أنس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن أيوب بقي في البلاء ثماني عشرة سنة فرفضه القريب و البعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان و يروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: و اللّه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه:

و ما ذاك، فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى و لم يكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام، فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن اللّه تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكر إن اللّه عز و جل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه إلا في حق» (1)، و ذهبت رواية أخرى عن الحسن البصري قال: مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين و أشهر، و لم يبق له مال و لا ولد صديق، غير امرأته رحمة صبرت معه، و كانت تأتيه بالطعام و تحمد اللّه تعالى مع أيوب، و كان أيوب مواظبا على حمد اللّه تعالى و الثناء عليه و الصبر على ما ابتلاه، و في رواية ثالثة قال الضحاك و مقاتل بقي في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيام و سبع ساعات، و قال وهب في رواية رابعة بقي في البلاء ثلاث سنين، بل إن هناك رواية خامسة تذهب إلى أن البلاء بقي ثلاث عشرة سنة (2).

و يذهب المفسرون إلى أن شدة البلاء وصلت إلى أن ألقى به في كناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته، و قد تنكر الناس له، حتى الذين آمنوا به، و كانوا ثلاثة (3)، لما رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه و اتهموه من

ص: 213


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 205، و انظر: تفسير الطبري 23/ 167، تفسير ابن كثير 4/ 60، تفسير الفخر الرازي 26/ 214.
2- تفسير الطبري 17/ 70، تفسير روح المعاني 17/ 80، تفسير الفخر الرازي 22/ 206، تفسير ابن كثير 3/ 301.
3- قال النسفي في تفسيره (4/ 43): روى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسئل عنه فقيل: ألقى الشيطان أن اللّه لا يبتلي الأنبياء و الصالحين.

غير أن يتركوا دينه، و في تفسير الطبري عن الحسن قال: و مر رجلان و هو على تلك الحال (يعني حال البلاء)، و لا و اللّه ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على اللّه من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان للّه في هذا حاجة ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة، و في رواية أخرى، قال أحدهما لصاحبه: لو كان اللّه علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى، فما جزع أيوب من شي ء أصابه جزعه من كلمة الرجل، و بلغ من شدة البلاء أيضا أن امرأته اضطرتها الحاجة، بعد العز و الجاه، إلى أن تخدم الناس في بيوتهم، لتطعم زوجها، وليت المصاب اقتصر على ذلك، فإن الناس ما لبثوا أن كفوا عن استخدامها، لئلا ينالهم من بلاء يعقوب شي ء، أو تنقل إليهم عدوى أمراضه، فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا و أنكره، فقالت خدمت به أناسا، فلما لم تجد في الغد أحدا باعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتت به فأنكره أيضا و حلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه: «أني مسني الضرّ و أنت أرحم الراحمين»، و في رواية أن أيوب عليه السلام كان إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه و اشتد غمه (1).

و كان نبي اللّه أيوب عليه السلام، في كل ذلك، في غاية الصبر، و به يضرب المثل في ذلك، روى أن أبي حاتم عن يزيد بن ميسرة قال: لما ابتلى اللّه أيوب عليه السلام بذهاب الأهل و المال و الولد، و لم يبق له شي ء أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليّ، أعطيتني المال

ص: 214


1- تفسير روح المعاني 17/ 80 تفسير الطبري 17/ 71، تاريخ الطبري 1/ 324، تفسير الفخر الرازي 22/ 207، 26/ 214، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 222- 223.

و الولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، و فرغت قلبي، فليس يحول بيني و بينك شي ء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني، قال فلقي إبليس من ذلك منكرا، قال و قال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال و الولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، و أنت تعلم ذلك، و إنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها، و أقول لنفسي يا نفسي إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك (1).

هذا و قد أشار القرآن الكريم إلى محنة أيوب، و كيف أنه لجأ إلى اللّه طالبا كشف الضر عنه، و راجيا رحمة ربه، فاستجاب اللّه له فكشف عنه الضر و أبدله خيرا مما فقد منه، يقول تعالى: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (2)، و يقول صاحب الظلال: و قصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء، و النصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل، و هي في هذا الوضع تعرض دعاء أيوب، و استجابة اللّه للدعاء، لأن السياق (في سورة الأنبياء) سياق رحمة اللّه بأنبيائه و رعايته لهم في الابتلاء، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم و إيذائهم، كما في قصص إبراهيم و لوط و نوح، أو بالنعمة كما في قصة داود و سليمان، أو بالضر كما في حال أيوب (3).

على أن المفسرين أنما يذهبون مذاهب شتى في تفسيرهم لقول أيوب «أني مسني الضر»، فرواية تذهب إلى أن البلاء لما طال على أيوب رفضه

ص: 215


1- تفسير ابن كثير 3/ 103.
2- سورة الأنبياء: آية 83- 84.
3- في ظلال القرآن 4/ 2392.

القريب و البعيد، غير زوجته، إلا رجلان كانا يغدوان و يروحان إليه، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان اللّه علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شي ء قط، فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان و أنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من في السماء و هما يسمعان، ثم قال اللهم أن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، و أنا أعلم مكان عار، فصدقني، فصدق من في السماء و هما يسمعان، ثم قال اللهم بعزتك ثم خر ساجدا، فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه» (1).

و تذهب رواية أخرى إلى أن الشيطان وسوس إلى زوجته لو أن أيوب ذبح لي أو سجد أو أكل طعاما و لم يسم اللّه تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء، و في رواية ثالثة أنه قال: لو شئت فاسجد لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال و الولد، و أعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، فقال لها أيوب: أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني اللّه لأجلدنك مائة جلدة، و قال عند ذلك «مسني الضر» يعني طمع إبليس في سجودي له و سجود زوجتي و دعائه إياها و إياي إلى الكفر، و في رواية رابعة قال وهب: كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس و تأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها، فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا، فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك، فأخبرته بذلك، فحينئذ قال: «مسني الضر»، و في رواية خامسة قال إسماعيل السّدى لم يقل أيوب: «مسني الضر» إلا لأشياء ثلاث:

أحدهما: قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى للّه تعالى لما أصابك

ص: 216


1- تفسير ابن كثير 3/ 302- 303، و انظر: تفسير الفخر الرازي 22/ 206.

الذي أصابك، و ثانيهما: كان لامرأته ثلاث ذوائب، فعمدت إلى احداها و قطعتها و باعتها فأعطوها بذلك خبزا و لحما فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا؟ فقالت كل فإنه حلال، فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، و كذلك فعلت في اليوم الثالث، و قالت: كل فإنه حلال، فقال لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما اللّه به عليم، و قيل إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر و قال: لئن تركتم أيوب في قريتكم، فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم إن امرأته تدخل بيوتكم و تعمل و تمس زوجها، أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها، و ثالثها: حين قالت له امرأته ما قالت، و أخيرا هناك رواية سادسة ذهبت إلى أن إبليس أتاها في هيئة عظيمة فقال لها: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني و عبد إله السماء، فلو سجد لي سجدة رددت عليه و عليك جميع ما أخذت منكما (1).

على أن كثيرا من العلماء يرفضون معظم هذه الروايات فهي مشوبة بالإسرائيليات التي تطغى عليها، هذا فضلا من أن انتهاء هذا المرض الذي أصيب به أيوب إلى حد التنفير عنه غير جائز، لأن الأمراض المنفرة غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام، و قد قرر علماء التوحيد أن الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة، فكيف يتفق هذا مع منصب النبوة، و الصحيح أن المرض الذي ألم بأيوب عليه السلام لم يكن مرضا منفرا، و ليس فيه شي ء من هذه الأقوال العليلة و إنما هو مرض طبيعي و لكنه استمر به سنين عديدة، و هو أجل طويل لا يصبر عليه عادة لإنسان، ثم إن بلاءه لم يكن في جسمه فحسب، بل شمل المال و الأهل و الولد (2)، و لهذا قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ

ص: 217


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 206- 208، تفسير روح المعاني 17/ 80.
2- الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 267.

مَعَهُمْ، و من ثم فالحد المأمول من هذه القصة، كما يقول صاحب الظلال، أن أيوب عليه السلام كان، كما جاء في القرآن، عبدا صالحا أوابا، و قد ابتلاه اللّه فصبر صبرا جميلا، و يبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال و الأهل و الصحة جميعا، و لكنه ظل على صلته بربه و ثقته به و رضاه بما قسم له، و كان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، و منهم زوجته، بأن اللّه لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، و كانوا يحدثونه بهذا فيؤذونه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر و البلاء، فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه اللّه لئن يضربنها عدد أعينه، قيل مائة (1).

و على أية حال، فلقد استجاب اللّه تعالى لدعاء عبده أيوب، فرفع عنه الضر في بدنه، فإذا هو معافى صحيح، و رفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم، و رزقه مثلهم، و قيل هم أبناؤه فوهب اللّه له مثليهم أو أنه وهب له أبناء و أحفادا (2)، يقول تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (3)، فأما قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، أي اضرب الأرض، و هي أرض الجابية فيما يروي عن قتادة، برجلك، فامتثل ما أمر به فأنبع اللّه له عينا باردة الماء، و أمر أن يغتسل فيها و يشرب منها، فأذهب اللّه عنه ما كان يجده من الألم و الأذى و السقم و المرض الذي كان في جسده ظاهرا و باطنا، و أبدله اللّه بعد ذلك كله صحة ظاهرة و باطنة و جمالا تاما (4).

و قال بعض المفسرين نبعث له عينان فاغتسل من إحداهما و شرب

ص: 218


1- في ظلال القرآن 5/ 3021.
2- في ظلال القرآن 4/ 2392.
3- سورة ص: آية 42- 44.
4- البداية و النهاية 1/ 224.

الأخرى، فذهب الداء من ظاهره و من باطنه بإذن اللّه، و قيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، فذهب الداء من ظاهرة و باطنة بإذن اللّه تعالى، و كساه اللّه حله، ثم خرج فجلس على مكان مشرف، و أقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده، فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت: يا عبد اللّه، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا، قال: لا، ثم تبسم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته، و في الحديث الذي رواه ابن شهاب عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«و كان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، و أوحى إلى أيوب في مكانه «أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب»، فاستبطأته، فتلقته تنظر، فأقبل عليها قد أذهب اللّه ما به من البلاء، و هو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك اللّه فيك، هل رأيت نبيّ اللّه هذا المبتلي، فو اللّه على ذلك ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا؟ قال: «فإني أنا هو» (1).

هذا و يذهب بعض المفسرين إلى أن اللّه تعالى، بعد أن أذهب عن أيوب كل آلامه، و عاد إليه شبابه و جماله، كأحسن مما كان و أفضل، جعل يتلفت و لا يرى شيئا مما كان له من أهل و مال، إلا و قد أضعفه اللّه له، حتى أن الماء الذي اغتسل به، تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده، أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب عليه الصلاة و السلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عز و جل، يا أيوب أ لم أكن أغنيتك عما ترى، قال عليه الصلاة و السلام: بلى يا رب، و لكن لا غنى بي عن

ص: 219


1- تفسير الطبري 17/ 68- 72، 23/ 166- 167، تفسير ابن كثير 4/ 60، تفسير الفخر الرازي 26/ 214- 215، تفسير روح المعاني 17/ 81، تفسير النسفي 4/ 43.

بركتك» (1)، انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرازق به (2)، و عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: لما عافى اللّه أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده و يجعله في ثوبه، قال فقيل له: يا أيوب أما تشبع، قال يا رب: «و من يشبع من رحمتك» (3).

هذا و قد اختلف أهل التأويل في أهل أيوب الذين قال اللّه تعالى فيهم في سورة الأنبياء: وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، و في سورة ص: وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا، أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده اللّه أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم: إنما أتى اللّه أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا، و إنما وعد اللّه أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة (4)، أخرج ابن مردوية و ابن عساكر من طريق جويبر الضحاك عن ابن عباس، رضي اللّه تعالى عنهما، قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى:

وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ الآية، قال: رد اللّه تعالى امرأته و زاد في شبابها حتى ولدت له ستا و عشرين ذكرا»، فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا، مع زيادة مثل آخر (5)، أو أنهم أبناؤه فوهب اللّه له مثيلهم، أو أنه وهب له أبناء و أحفادا (6)، و روى ابن جرير بسنده عن الليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول اللّه لأيوب: وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فقال: قيل له: أن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت

ص: 220


1- مسند الإمام أحمد 2/ 314.
2- صحيح البخاري 1/ 78، تفسير ابن كثير 4/ 61، تفسير روح المعاني 17/ 81.
3- تفسير ابن كثير 3/ 303.
4- تفسير الطبري 17/ 72.
5- تفسير روح المعاني 17/ 81.
6- في ظلال القرآن 4/ 2392.

عجلناهم لك في الدنيا، و إن شئت كانوا لك في الآخرة و آتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، و أوتي مثلهم في الدنيا، قال: فرجع إلى مجاهد فقال أصاب» (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر، ذهب إليه ابن مسعود و ابن عباس و قتادة و مقاتل و الكلبي و كعب و الحسن البصري و السدى يقول إن اللّه تعالى أحيا له أهله، يعني أولادهم بأعيانهم، قال ابن مسعود: مات أولاده سبعة من الذكور، و سبعة من الإناث، فلما عوفي أحيوا له، و ولدت له امرأته سبعة بنين و سبع بنات، و قال ابن عباس: لما دعا أيوب استجاب اللّه له، و أبدله بكل شي ء ذهب له ضعفين، رد إليه أهله و مثلهم معهم، و في روح المعاني:

قال ابن مسعود و الحسن و قتادة في الآية: إن اللّه تعالى أحي له أولاده الذين هلكوا في بلائه، و أوتي مثلهم في الدنيا، و قال الألوسي: و الظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضا، و يميل الإمام الرازي إلى هذا الرأي الثاني لأنه هو الظاهر، فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة، غير أن صاحب الظلال يقول إنه ليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات، و قد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة و العافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، و أنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام و الرحمة و الرعاية، مما يصلح ذكرى لذوي العقول و الإدراك، و يقول الأستاذ الصابوني في صفوة التفاسير إن القول بأن اللّه أحيا أولاده بعد موتهم فيه نظر، لأنه لا يرجع أحد إلى الدنيا بعد انتقاله منها، إلا ما كان من معجزة المسيح عليه السلام، و الصحيح أن اللّه تعالى عوّضه من زوجته أولادا مثل من فقدهم (2).

ص: 221


1- تفسير الطبري 17/ 72.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 210، 26/ 215، تفسير الطبري 17/ 72- 73، 23/ 167- 168، تفسير روح المعاني 17/ 81، تفسير ابن كثير 3/ 303- 304، 4/ 61، تفسير النسفي 3/ 87، في ظلال القرآن 5/ 3022، صفوة التفاسير 2/ 272.

و أما قوله تعالى: وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (1)، فأما «الضغث» فهو ما يحمل من شي ء مثل حزمة الرطبة، و كمل ء الكف من الشجر أو الحشيش و الشماريخ و نحو ذلك مما قام على ساق، و في تفسير النسفي هو حزمه صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك، و عن ابن عباس: قبضة من الشجر، و عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، و أرادها إبليس على شي ء، فقال: لو تكلمت بكذا و كذا، و إنما حملها عليها الجزع، فحلف نبيّ اللّه: لئن اللّه شفاه ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بغصن فيه تسعة و تسعون قضيبا، و الأصل تكملة المائة، فضربها ضربة واحدة، فأبر نبيّ اللّه، و خفف اللّه عن أمته، و اللّه رحيم، و في رواية في تفسير النسفي: كان أيوب حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ، فحلل يمينه بأهون شي ء عليه و عليها لحسن خدمتها إياه، و هذه الرخصة باقية، و يجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة، و السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة، فخرج صدره، و قيل باعت ذؤابتيها برغيفين، و كانتا متعلق أيوب إذا قام، و يذهب الفخر الرازي إلى أنه يبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، و يبعد أيضا أنها خالفته في بعض المهمات، و ذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برأ، و من ثم فرحمة من اللّه به و بزوجة التي قامت على رعايته و صبرت على بلائه و بلائها به، أمره اللّه أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده، فيضربها به ضربة واحدة، تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها (2).

و يذهب الرازي و النسفي إلى أن هذه الرخصة باقية، و هي اليوم في الناس

ص: 222


1- سورة ص: آية 44.
2- تفسير الطبري 23/ 168- 169، تفسير النسفي 4/ 43، تفسير الفخر الرازي 26/ 215، في ظلال القرآن 5/ 3022.

يمين أيوب من أخذ بها فهو حسن، و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه أتى بمجذم خبث بأمة فقال: «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة»، و هكذا أمر اللّه أيوب أن يبرّ بيمينه بأهون شي ء عليه و عليها، قال ابن كثير: و هذا من الفرج و المخرج لمن اتقى اللّه و أطاعه، و لا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة، المكابدة الصّديقة، البارة الراشدة، و لهذا عقب اللّه هذه الرخصة و علّلها بقوله: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، ثم عقب ابن كثير على الرخصة بأن كثيرا من الفقهاء قد استعمل هذه الرخصة في باب الإيمان و النذور، و توسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الأيمان، و صدوره بهذه الآية، و أتوا فيه بأشياء من العجائب و الغرائب (1).

[2] سفر أيوب:-

من المعروف أن لأيوب عليه السلام سفرا في العهد القديم (2)، و مكانه في الترجمة السريانية (3) بين سفري التثنية و يشوع، و قد اختلف الباحثون في السفر و في صاحبه، فيرى فيه شراح التوراة القدامى تاريخا حقيقيا، و ينسبه بعضهم إلى موسى عليه السلام، غير أن كثيرا من الباحثين يرون أن أيوب أقدم من موسى (4)، عليهما السلام، بل و يحددون له تاريخا حوالي عام 1520 قبل الميلاد (5)، غير أن هناك فريقا يذهب إلى أن أيام عاش على أيام يعقوب عليه السلام (1780- 1633 ق. م) و قد تزوج من ابنته «دينة» (6)،

ص: 223


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 215، تفسير النسفي 4/ 43، البداية و النهاية 1/ 224- 225.
2- انظر عن سفر أيوب (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 67- 73).
3- انظر عن الترجمة السريانية للتوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 115).
4- أنظر عن تاريخ موسى عليه السلام و الآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 281- 455).
5- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة- القاهرة 1971 ص 315 (مترجم.
6- نفس المرجع السابق ص 315، ثم قارن: تفسير روح المعاني 17/ 80، تاريخ الطبري 1/ 322، البداية و النهاية 1/ 221.

بدليل قول الكاتب في مستهل السفر «رجل في أرض عوص» (1)، فضلا عن الإشارة إليه في سفر حزقيال (2)، على أن فريقا رابعا، و منهم موسى بن ميمون و بعض الأحبار، أنما يحسبون سفر أيوب هذا مجرد قصة روائية للموعظة فحسب (3)، و بدهي أن هذا ليس صحيحا، فصاحب السفر هو نبيّ اللّه أيوب عليه السلام، و قصته صادقة، الصدق كل الصدق، كما أخبرنا القرآن الكريم و حديث المصطفى صلى اللّه عليه و سلم.

و يذهب الحبر اليهودي «إبراهام بن عزار» (1092- 1167 م)، و يوافقه سبينوزا و غيره، إلى أن سفر أيوب إنما قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى (4)، بل إن الترجمة السبعينية (5) للتوراة أنما تنص صراحة على أن السفر مترجم عن السريانية (الآرامية) (6)، و من هنا اتجه البعض إلى اعتبار أيوب عليه السلام، عربيا، و ليس يهوديا، و أن سفره هذا ما هو إلا ترجمة لأصل عربي مفقود (7)، و لعل الأديب الفرنسي «فرنسوا فولتير» (1694- 1778 م) كان أول من نادى في العصر الحديث بأن أيوب و سفره أقدم من التوراة، و أن العبريين قد أخذوه عن العرب و ترجموه إلى لغتهم، و يستدل على ذلك بأدلة، منها (أولا) أن اسم الشيطان الذي يشغل مكانا رئيسيا في السفر، ليس كلمة عبرية، بل كلدانية، و منها (ثانيا) أن أصدقاء أيوب إنما

ص: 224


1- أيوب 1/ 1.
2- حزقيال 14/ 14.
3- سبينوزا: المرجع السابق ص 315.
4- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 144.
5- أنظر عن الترجمة السبعينية للتوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 107- 112).
6- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 144.
7- ,nodnoL ,malsI fo esiR eht ot roirP seitilearsI dna sbarA neewteb snoitaleR ehT ,htuoilograM .D .D 30. p، 1924 و كذا, LSJA, retsoF. F 31. p، 1932 و كذا, aihpledalihP, elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J 172. p، 1934 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 593.

كانوا فيما يبدو، من العرب، اليعازر من تيمان، و بلد كان شوحيا من منطقة السويس، فيما يرى فولتير، و صوفر كان من نعمات (1).

و منها (ثالثا) ما لاحظه الباحثون من ذكر «الجمال» عند الحديث على ثروة أيوب من الماشية، و نحن نعلم أن لحوم الإبل محرمة على اليهود، و أنها لم تذكر بين ثرواتهم إلا نادرا، بل إن اسم أيوب نفسه لا مثيل له في أسماء العبريين (2)، و منها (رابعا) ما جاء في السفر من أن أيوب رجل من أرض «عوص»، و أرض «عوص» هذه، و إن اختلف العلماء في مكانها، فالراجح عندهم أنها في بلاد العرب، أو في مناطق يسكنها عرب (أي في نجد و عمان أو في شمال بلاد العرب، في شمال غربي المدينة المنورة، أو في بلاد الشام، في حوران أو في اللجاة، أو على حدود و أدوم أو في أدوم نفسها، أو في شرقي فلسطين أو جنوبها الشرقي) و بعبارة أخرى، فهي أما في شبه الجزيرة العربية أو في بادية الشام (3)، و لعل تحديدها ببادية الشام ربما كان هو الأرجح، و ذلك لسببين، الأول: ما ذكره معظم المفسرين و المؤرخين من أن أيوب من ولد العيص، و هو عيسو بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و الذي كان يسمى كذلك «أدوم» (الأحمر) و إليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن و جنوب وادي الحسا، و الثاني: ما جاء في حديث أبي ذر المشهور في ذكر الأنبياء و المرسلين، حيث يقول سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: و أربعة من العرب: هود و صالح و شعيب

ص: 225


1- أيوب 2/ 11، حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي ص 55، و كذا, reinnraG- siraP euqihPosolihP eriannoitciD, eriatloV. F 260- 257. p، 1954.
2- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 56.
3- جواد علي: المرجع السابق 1/ 631، قاموس الكتاب المقدس 1/ 148، و كذا. P, elbiB eht fo yranoitciD A, sgnitsaH. J 469، 200.

و نبيك يا أبا ذر» (1) و في رواية «و أربعة من العرب: هود و صالح و شعيب و محمد عليه السلام» (2).

على أن هناك فريقا من العلماء يذهب إلى أن أيوب عليه السلام كان مصريا، و ذلك بدليل الأثر الثقافي المصري الذي يطل علينا من ثنايا هذا السفر في مواضع كثيرة، فسفر أيوب في الواقع ما هو إلا صورة صادقة لقصة المتشائم المصري القديم (3)، (اليائس من الحياة) (4)، هذا فضلا عن ذكره للأهرام و المقابر التي يبنيها الملوك لأنفسهم، و أخيرا ذكره للثواب و العقاب و الحياة بعد الموت، و عدم ضياع الناس في متاهات «شيول» (5)، كما آمن بذلك الأولون، و المعروف أن العبريين، طبقا لما جاء في كتبهم المتداولة اليوم، و ليس كما جاء بها أنبياء اللّه، قد عرفوا عقيدة الحياة بعد الموت في حقبة متأخرة من تاريخهم، ربما في القرنين الثالث و الثاني قبل الميلاد (6)، ).

ص: 226


1- تفسير ابن كثير 1/ 891- 892 (بيروت 1986)، البداية و النهاية 1/ 120.
2- تفسير النسفي 1/ 263- 264.
3- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 145.
4- أنظر: عن اليائس من الحياة (محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص 10- 12.
5- شيول: كان العبرانيون، كما يفهم من نصوص العهد القديم، يعتقدون أنه من غير الممكن للإنسان أن يتلقى البركات و حكم الرب إلا في هذه الدنيا فقط، و بجسده فقط، و العودة إلى الأرض هي البعث، ذلك لأن الروح تنزل عند الموت إلى عالم سفلي يدعى «شيول» (loehS)، و كانت شيول هذه، أو العالم السفلي، تعني نقيض ما تعني به الضوء و الحياة، و هي منطقة تقرب من العدم و النسيان، تنظر إلى البشر كوحوش، و تغلق عليهم أبوابها دونما أي احتمال للهروب، إن سكانها من الأموات مجرد ظلال، يتميزون بالضعف الشديد، و هم منقطعون عن تبعية الرب، «لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك» (مزمور 88/ 10، 107/ 18، أيوب 7/ 9، 26/ 5- 6، أمثال 2/ 18، إشعياء 14/ 9- 11، 26/ 14، 19، و كذا., stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E (137. p، 1969.
6- أنظر عن الحياة بعد الموت عند بني إسرائيل (محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص 102- 106).

الأمر الذي سبقهم إليه المصريون بآلاف السنين (1).

و على الجملة، و كما يقول الأستاذ العقاد، يبدو سفر أيوب غريبا في موضعه و موضوعه بين أسفار العهد القديم، و لم يكن من عادة بني إسرائيل أن يجمعوا كتابا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم و ميعادهم، و لكنهم جمعوا هذا السفر مع الأسفار المشهورة لأنهم وجدوه في بقاع فلسطين الجنوبية، محفوظا يتذاكره الرواة، و حسبه بعضهم من كلام موسى، و بعضهم من كلام سليمان و لا عجب أن يشيع هذا الكتاب العجيب، حيث تسامع به الناس، فإنه عزاء للمتعزين، و عبرة صالحة للمعتبرين، و لا تزال قصة أيوب منظومة شائعة يتغنى بها شعراء اللغة الدارجة في مصر و الشام (2).

و أما زمن كتابة سفر أيوب، فهو موضع خلاف بين الباحثين، فهناك من يرجحه إلى عصر الآباء الأوائل، بل إن «هاليس» إنما يجعل من عام 2300 ق. م تاريخا لأيوب، اعتمادا على أن السفر لم يشر بكلمة واحدة إلى خروج بني إسرائيل من مصر، و الذي نراه حوالي عام 1214 ق. م (3)، فضلا عن المدن التي دمرتها الزلازل وقت ذاك، كما أنه لم يرد في صلب السفر أي ذكر ليهوه رب إسرائيل، و إنما ورد ذلك في المقدمة و الذيل، و هما مضافان بعد عصره، كما هو راجح عند شراح التوراة (4).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب أنما كتب على أيام سليمان عليه السلام (960- 922 ق. م)، و حجتهم أنه يحمل بين ثناياه

ص: 227


1- حبيب سعيد: المدخل إلى الكتاب المقدس ص 153.
2- عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص 163.
3- أنظر عن تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر و الآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 357- 439).
4- عباس العقاد: المرجع السابق ص 160- 161، قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.

إشارات من ذلك العهد (1)، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن السفر قد كتب قبل السبي البابلي (586- 539 ق. م)، و ربما في عصر النبي إرميا (626- 580 ق. م) بالذات، ذلك لأن النبي حزقيال (593- 572 ق.

م) إنما يذكر رجلا اسمه أيوب مثالا للبر، مع نوح و دانيال (2)، و أن ذهب البعض إلى أن حزقيال لم يستق الفكرة من سفر أيوب في وضعه الحالي، و لعل صورة من القصة النثرية كانت في ذهن النبي عن رجل خرج مبررا من أقسى تجربة، و أمر محنة جازها إنسان (3)، و أما الجزء الشعري من السفر، فيرجع إلى تاريخ متأخر، ذلك لأن الإيمان بإله واحد ثابت فيه بوضوح، فضلا عن محاولته الجادة تبرئة نفسه من خطيئة عبادة الشمس و القمر، و وصفه للّه القدير بأنه أعلى من في السموات، و أعمق من الهاوية، و أعرض من البحر، و لم يذكر شيئا عن «البعل» و غيره من الآلهة الوثنية التي عبدتها الشعوب قبل السبي البابلي (4)، و أخيرا فهناك وجه رابع للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب إنما كتب بعد السبي البابلي بسبب الصراع الواضح فيه بشأن الثواب و العقاب (5).

و أما لغة سفر أيوب ففيها تأثيرات أرامية و عربية لا تخطئها العين (6)، و ربما تشير إلى تاريخ متأخر لكتابة السفر (7)، و من ثم ذهب البعض إلى

ص: 228


1- قارن: أيوب 15/ 8، 26/ 1- 14، بالإصحاح الثامن من سفر الأمثال (. P, tic- po, regnU. F. M (594.
2- حزقيال 14/ 14.
3- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
4- أيوب 31/ 26- 28، عباس العقاد: المرجع السابق ص 161، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
5- قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.
6- F. P, tic- po, htuoilograM. S. D 149. و كذا. P, tic- po, yremogtnoM. A. j 15، 8.
7- قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.

أنه إنما كتب حوالي عام 400 ق. م (1)، و فضل آخرون القول بأنه كتب خلال القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد (2).

و أيا ما كان الأمر، فإننا لا نعرف سفرا من أسفار التوراة ظفر في رأي النقاد بالإعجاب الأدبي، الذي ظفر به سفر أيوب، فقال «توماس كارليل» عنه: «إنه واحد من أجل الأشياء التي وعتها الكتابة، و إنه أقدم المأثورات عن تلك القضية التي لا تنتهي، قضية الإنسان و القدر، و الأساليب الإلهية معه على هذه الأرض، و لا أحسب أن شيئا كتب مما يضارعه في قيمته الأدبية»، و قال «فيكتور هيجو»: إنه ربما كان أعظم آية أخرجتها بصيرة الإنسان»، و قال «شاف»: إنه يرتفع كالهرم في تاريخ الأدب، بلا سابقة و بغير نظير» (3).

ص: 229


1- . P, tic- po, regnU. F. M 594.
2- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 162.

ص: 230

الفصل الثّاني إلياس و إليسع عليهما السّلام
[1] إلياس عليه السلام:-

جاء ذكر إلياس عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، في آية من سورة الأنعام و في آيتين من سورة الصافات (1)، أولاهما ذكر فيه لفظ «إلياس»، و في الثانية ذكر لفظ إلياسين قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، قال ابن كثير: أي إلياس، و العرب تلحق النون في أسماء كثيرة، و تبدلها من غيرها، كما يقال إسماعيل و إسماعين و إسرائيل و إسرائين، و إلياس و إلياسين، و هي لغة بني أسد (2)، و يقول صاحب الظلال: و نقف هنا لنلم بالناحية الفنية في الآية: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، و قد روعيت الفاصلة و إيقاعها الموسيقى في إرجاع اسم إلياس بصيغة «إلياسين» على طريق القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير (3).

هذا و قد ذهب فريق من علماء السلف إلى أن إلياس هو إدريس عليه السلام، قال قتادة و ابن إسحاق يقال: إلياس هو ادريس، و كذا قال عكرمة، و روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد اللّه بن مسعود قال: إلياس هو إدريس،

ص: 231


1- سورة الأنعام: آية 85، الصافات: آية 123- 132.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 339، التفسير 4/ 31.
3- في ظلال القرمان 5/ 2998.

و كذا قال الضحاك، على أن هناك فريقا آخر، و هو أكثر المفسرين، يذهب إلى أن إلياس إنما هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، و هو إلياس بن ياسين من ولد هارون أخي موسى عليه السلام، و أن اللّه تعالى بعثه في بني إسرائيل بعد حزقيل، عليهما السلام، و كانوا قد عبدوا صنما يقال له «بعل» فدعاهم إلى اللّه تعالى، و نهاهم عن عبادة ما سواه (1).

و لعنا نستطيع القول، و لكن بحذر (2)، إن إلياس النبي عليه السلام الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، إنما هو «إيليا» (و هو صيغة مختصرة من إلياهو بمعنى اللّه يهوه) الذي جاء ذكره في العهد القديم، معتمدين في ذلك على قصة هذا النبي الكريم، كما جاءت في التوراة و القرآن العظيم، فقصة التوراة تشير إلى عبادة «بعل» في إسرائيل على أيام الملك «أخاب» (869- 850 ق. م) و زوجه «إيزابيل» الصورية، ثم معارضة إيليا العنيفة لهذه الوثنية الصورية و دعوته إلى عبادة اللّه (يهوه) رب إسرائيل (3)، و أما في القرآن الكريم، فقد ذكر إلياس عليه السلام في سورة الأنعام حيث يقول تعالى: وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (4)، و في سورة الصافات، حيث يقول تعالى: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ، أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي

ص: 232


1- تفسير النسفي 4/ 27، تفسير ابن كثير 4/ 30، تفسير الطبري 23/ 91- 92، تفسير الفخر الرازي 26/ 161.
2- الأرجح، فيما يرى صاحب الظلال (5/ 2997) أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء.
3- ملوك أول 16/ 29- 33.
4- سورة الأنعام: آية 85، و انظر: تفسير المنار 7/ 487- 490، تفسير الطبري 11/ 508 510، تفسير ابن كثير 2/ 247- 248.

الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (1).

هذا و قد اختلف المفسرون في قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، فقال بعضهم: هو اسم إلياس، و أنه كان يسمى باسمين: إلياس و إلياسين، مثل إبراهيم و إبراهام، و يستشهد على ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله «سلام»، فإنه سلام على النبي الذي ذكر دون آلة، فكذلك إلياسين إنما هو سلام على إلياس دون آلة، أو كما ذكرنا من قبل أنه إلياس بن ياسين، فكان إلياس آل ياسين، على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن المراد «آل سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم»، فقد قرأ عامة قراء المدينة «سلام على آل ياسين» بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى سلام على مال محمد صلى اللّه عليه و سلم، بينما ذهب فريق ثالث أن ياسين اسم القرآن، كأنه قيل سلام اللّه على من آمن بكتاب اللّه الذي هو ياسين (2).

هذا و يقدم العهد القديم قصة النبي الكريم في سفر الملوك الأول، فيروي أن «أخاب بن عمري» ملك إسرائيل، قد اقترف كل أنواع الشرور، التي اقترفها أسلافه من قبل، و لعل السبب في ذلك أن أخاب كان قد تزوج من «إيزابيل» بنت «إيثبعل» ملك صور، و التي كانت ذات شخصية قوية، و من ثم فقد استطاعت أن تسيطر على زوجها تماما، و قد أثار هذا الزواج

ص: 233


1- سورة الصافات: آية 123- 132، و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 299، تفسير النسفي 4/ 27- 28، تفسير روح المعاني 23/ 138- 142، تفسير ابن كثير 4/ 30- 32، تفسير القرطبي ص 5551- 5554، تفسير الطبري 23/ 91- 96، تفسير الفخر الرازي 26/ 160- 162، تفسير الجلالين ص 398، تفسير القاسمي 14/ 5059- 5061، تفسير مجمع البيان 23/ 80- 82، (و انظر: الثعلبي: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص 223- 229، أبو الحسن علي الماوردي: أعلام النبوة- القاهرة 1971 ص 52).
2- تفسير الطبري 23/ 95- 96، تفسير ابن كثير 4/ 31، تفسير الفخر الرازي 26/ 162.

معارضة قوية في إسرائيل، تزعمها النبي إيليا، ذلك لأن «إيزابيل» (1) الصورية لم تأت في الواقع لإسرائيل بأفكار الحكم المطلق الغريبة عن التصور العبري التقليدي عن الملكية فحسب، و إنما حاولت كذلك احلال آلهة الفينيقيين الوثنية شيئا فشيئا محل عبادة اللّه في مملكة إسرائيل، و ليس هناك من ريب في أن إيزابيل و حاشيتها الصورية كانوا يمارسون ديانتهم

ص: 234


1- ليس صحيحا ما ذهبت إليه بعض المراجع العربية من أن هذه الملكة الصورية إيزابيل (أربيل كما يدعونها) ابنة ملك سبأ، و أنها تزوجت بعد أخاب (لاجب أو آجب كما يدعونه) سبعة من ملوك إسرائيل و قتلهم بالاغتيال، و أنها ولدت سبعين ولدا، و كانت معمرة، و أنها هي التي قتلت يحيى عليه السلام (الماوردي: أعلام النبوة ص 52، الثعلبي: قصص الأنبياء ص 224)، و ربما اختلط الأمر عليهم بين هذه الملكة إيزابيل الصورية، و بين ابنتها «عثليا» التي تزوجت من «يهورام» (849- 842 ق. م) ملك يهوذا، و قد سيطرت على زوجها كأمها، و أدخلت عبادة «البعل» في يهوذا، كما جعلت القتل وسيلة من وسائل سياسة الدولة، و هكذا نتيجة لتأثيرها القوي و غير المحدود على زوجها، فإنه لم يحتضن عبادة «بعل» مدينة صور فحسب، بل إنه عقد العزم كذلك على تثبيتها كديانة رسمية للبلاد، و ربما لكي يزيل المعارضة عن هدفه في سياسة عبادة الأوثان، فقد قتل إخوته الستة، كما قتل كثيرا من النبلاء، و إن كان التنافس على العرش ربما لعب دوره في هذه المجزرة المروعة، و على أية حال، فلقد خلفه ولده أخزيا من عثليا ابنة إيزابيل و أخاب، و لكنه قتل بعد عام، فانتهزت عثليا الفرصة، و كانت شديدة الرغبة في الحكم، فقتلت أبناء الأسرة المالكة جميعا (إلا طفلا خبأه الكاهن الأكبر في المعبد) ثم أعلنت عبادة بعل صور كعبادة رسمية في العاصمة القدس و في جميع أنحاء البلاد، بل إن هناك من يذهب إلى أنها كانت تخطط لإقامة أسرة ملكية جديدة في القدس من وطنها صور، رغم أنها صورية الأم، إسرائيلية الأب، غير أن حياتها انتهت فجأة، أما بمؤامرة من الجيش أو بتمرد شعبي عام ضد عبادة البعل، الذي سادت عبادته في دويلتي إسرائيل و يهوذا، و إن اعتبرت عبادته في يهوذا عبادة رسمية تعتنقها الدولة نفسها، و أما قتلها ليحيى عليه السلام فغير صحيح، لأن عهودها يسبق عهد يحيى بما يقرب من ثمانية قرون و نصف القرن، كما أن الذي قتل يحيى عليه السلام أنما هو هيرودوس إرضاء لهيروديا و ابنتها سالومي، كما سنرى فيما بعد (ملوك ثان 8/ 8- 22، 11/ 1، أخبار أيام ثان 21/ 1- 10، 22/ 10، إنجيل متى 14/ 3- 12، مرقس 6/ 16- 30، تاريخ يوسفيوس ص 214، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 916، 960- 694، و كذا-. P, tic- po, sdOL. A 385- 384. P, tic- po, nietspE. I 47. و كذا. P, tic- po, htoR. C 32. و كذا.

الصورية الوثنية في معبد أنشئ في «السامرة» (1) نفسها من أجل هذا الغرض (2).

و على أي حال، فلم تكن هذه الديانات هي عبادة الدولة الرسمية، فقد ظلت عبادة اللّه هي العبادة الرسمية، و إن كان الملك نفسه، فيما تروي التوراة، قد عبد «البعل» و سجد له (3)، كما أن وجود هذه الديانة الأجنبية و عبادتها في العاصمة السامرة، قد أثار مقاومة التقاليد القديمة الصارمة للقبائل الإسرائيلية التي كانت تعتبر خدمة «يهوه» هو هدفها النهائي (4)، و قد تزعم النبي «إيليا» الثورة ضد أخاب و زوجه إيزابيل اللذين جهدا لإلغاء عبادة اللّه، و احلال عبادة البعل في مكانها، فهدما مذابح رب إسرائيل و قتلا أنبياءه، و من ثم فقد اندفع إيليا في طول البلاد و عرضها كالإعصار مهددا متوعدا بأنه لا ظل و لا مطر في هذه السنين، و في السنة الثالثة يقول الرب لإيليا «اذهب و تراء لأخاب فأعطي مطرا على وجه الأرض» (5).

و مع أن المجاعة كانت شديدة في كل مكان، إلا أنها كانت في السامرة أشد قسوة، و أعنف ضراوة، و يطلب النبي إيليا من أخاب أن يدعو كل

ص: 235


1- حكم عمري والد أخاب إسرائيل من «ترزة» و لكنه في عام حكمه السادس (حوالي عام 870 ق. م) أقام عاصمة إسرائيل الجديدة في «السامرة»، و هي سبسطية الحالية على مبعدة ستة أميال شمال غرب شكيم شرقي نابلس، في موقع استراتيجي هام، و قد سميت السامرة نسبة إلى شامر صاحب التل الذي أقيمت فوقه، و إن رأى البعض أن الاسم بمعنى مركز المراقبة أو جبل المراقبة و قد قامت عدة هيئات علمية بحفريات في السامرة، لعل أهمها ما كان في أعوام 1908/ 1910، 1931/ 1933، 1935 (أنظر التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 900- 902).
2- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية ص 74، و انظر تفسير الطبري 23/ 92- 93.
3- ملوك أول 16/ 31.
4- . 242. P, tic- po, htoN. M
5- ملوك أول 17/ 1- 19/ 21، إنجيل لوقا 4/ 25- 26، رسالة يعقوب 5/ 17.

إسرائيل إلى جبل الكرمل، حيث يلتقي هناك سدنة البعل، و عددهم 450 سادنا، و كذا سدنة السواري (1) الذين يعيشون على مائدة إيزابيل، عددهم 400 سادنا، و أصدر أخاب أمره الملكي باستدعاء «جميع بني إسرائيل و جميع الأنبياء إلى الكرمل»، و طلب منهم إيليا أن يدعو بعولهم و أصنامهم أن تنزل عليهم المطر، فإن استجابت، فهم على حق، و إن لم تستجب، فهم على باطل، فدعوا فلم تستجب لهم، و دعا إيليا ربه فاستجاب له، و أرسل اللّه المطر فأغاثهم، فحييت بلادهم و فرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم أمر إيليا القوم أن «امسكوا أنبياء البعل، و لا يفلت منهم رجل، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر «ميشون» (نهر المقطع في وسط سهل مرج ابن عامر) و ذبحهم»، و تسمع إيزابيل بما حدث، و في غضب مرير تنذر قتل إيليا، (انتقاما منه لقتله كهنة البعل، و لكن إيليا يترك إسرائيل إلى جبل حوريب، بعد أن يعهد إلى حواريه «اليسع» الذي يتولى الدعوة من بعده (2).

هذا و قد اختلفت المصادر العربية في عبادة البعل (3) و مكانها، قال ابن ).

ص: 236


1- انظر عن السواري و أهميتها الدينية في إسرائيل (محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 123- 124).
2- ملوك أول 18/ 1- 19/ 17، و انظر: تاريخ الطبري 1/ 462- 464 (بيروت 1984).
3- البعل: و جمعه بعليم أو بعاليم، و هو اسم سامي بمعنى، «سيد أو رب أو زوج»، و قد جرى بعض الباحثين على اعتبار «بعل» إلها وثنيا معينا، و هذا فيما يرى كونتنو، خلط يحسن أن يزول، فإن اللفظ يطلق على الآلهة الوثنية بوجه عام، فيما عدا إطلاقه في نصوص رأس الشمرا على الإله الوثني الأكبر «بعل»، فيقال، فيما عدا ذلك، بعل هذا الإقليم أو ذاك مثل بعل صور، و بعل لبنان، بمعنى سيد صور و سيد لبنان، و بما أنه كان لأغلب المدن الفينيقية بعولة يقدسونها، فكل بعل يوصف في الغالب باسم المكان الذي يعبد فيه، مثل «بعل روش» (سيد الرأس) و بعل آسافون (سيد الشمال) و بعل شمين (سيد السماوات)، و بعل لبنان (سيد لبنان)، كما كان الاسم من أسمائه يبتدئ غالبا ببعل و ينتهي باسم تلك البلاد أو المدينة الموجود فيها أو بشي ء ينسب إليه، مثل بعل فعور، و بعل زبوب، و بعلبك، و كان بعل إلها و ثنيا كنعانيا فينيقيا، و هو، في عقيدة القوم، ابن الإله إيل، و زوج الآلهة بعلة أو عشيرة أو عنات أو عشتارت، و كان إله المزارع و رب الخصب في الحقول و المواشي، كما كان يتولى أمر القمم العالية و العواصف و الرعد و المطر، و يصور على هيئة محارب ذي خوذة ممسك بيده صاعقة أمور، مما يجعل هويته نفس هوية الإله الكبير المعروف في سورية العليا ولدى الحيثيين و الحوريين أيضا، و هو على الجملة إله أسيوي، و قد أولع أهل المشرق بعبادة البعل فكان يضحون بالذبائح البشرية على مذابحه، و يقيمون هياكله على الأماكن المرتفعة كالجبال و التلال، و قد صار البعل بعد ذلك عشرة للإسرائيليين الذين كسروا شريعة اللّه تعالى حين أدخلوا عبادته إلى بلادهم، كما كان للبعل كهنة كثيرون يخدعون الناس بسحرهم و شعوذتهم، كما رأينا في قصة إيليا، كما روتها توراة اليهود (كونتنو: الحضارة الفينيقية ص 104، 119- 120، قاموس الكتاب المقدس 1/ 181- 182).

عباس و مجاهد و عكرمة و قتادة و السدي: بعلا يعني ربا، قال عكرمة و قتادة:

و هي لغة أهل اليمن، و في رواية عن قتادة هي لغة أزد شنوءة، و قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، و قال الضحاك هو اسم صنم كانوا يعبدونه، و في تفسير النسفي: بعل اسم صنم من الذهب كان موضعه يقال له «بك» فركب و صار «بعلبك» و هي من بلاد الشام، و قال الرازي في التفسير الكبير: في بعل قولان، أحدهما: أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة و هبل، و قيل كان من ذهب، و كان طوله عشرين ذراعا، و له أربعة أوجه، و فتنوا به و عظموه، حتى عينوا له أربعمائة سادن و جعلوهم أنبياء، و باسم هذا الصنم سميت مدينتهم بعلبك، و ثانيهما: أن البعل هو الرب بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار، أي من ربها، و سمي الزوج بعلا لهذا المعنى، قال تعالى:

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، و قال تعالى: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً فعلى هذا التقدير المعنى: أ تعبدون بعض البعول و تتركون عبادة اللّه؟ و قال صاحب الظلال إن إلياس أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنما كانوا يسمونه بعلا، و ما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة (1).

ص: 237


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 161، تفسير النسفي 4/ 28، تفسير ابن كثير 4/ 31، في ظلال القرآن 5/ 2997.

و قال ابن إسحاق: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون اللّه، يقول اللّه لمحمد: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ- إلى قوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فجعل إلياس يدعوهم إلى اللّه، و جعلوا لا يسمعون منه شيئا، ألا ما كان من ذلك الملك، و الملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره، و يراه على هدى من بين أصحابه، يوما يا إلياس: و اللّه ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا، و اللّه ما أرى فلانا و فلانا، يعدّد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون اللّه، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون و يشربون و ينعمون مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، و ما نرى لنا عليهم من فضل، فيزعمون و اللّه أعلم، أن إلياس استرجع و قام شعر رأسه و جلده، ثم رفضه و خرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه: عبد الأصنام، و صنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك، و العبادة لغيرك فغيّر ما بهم من نعمتك»، قال (أي ابن إسحاق) فذكر لي أنه أوحى إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك و إليك، حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك، فقال إلياس:

اللهم فامسك عليهم المطر، فحبس عنهم ثلاث سنين، حتى هلكت الماشية و الهوام و الدواب و الشجر و جهد الناس جهدا شديدا، و في رواية عن وهب ابن منبه: أنهم سألوه أن يكشف ذلك عنهم و وعدوه الإيمان، أن هم أصابهم المطر، فدعا اللّه تعالى لهم فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل اللّه أن يقبضه إليه، و كان قد نشأ على يديه «اليسع بن أخطوب» عليهما السلام، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا و كذا، فمهما جاءه فليركبه و لا يهبه، فجاءته فرس من نار، فركب و ألبسه اللّه تعالى النور و كساه الريش، و كان يطير مع الملائكة إنسيا سماويا أرضيا، و في تفسير النسفي: قيل في إلياس و الخضر إنهما حيان، و قيل إلياس و كل بالفيافي،

ص: 238

كما و كل الخضر بالبحار، و الحسن يقول: قد هلك إلياس و الخضر، و لا تقول كما يقول الناس: أنهما حيان (1).

و أما متى كان عصر إلياس عليه السلام، فالثابت من نصوص العهد القديم، و بعض المصادر العربية، فضلا عن المؤرخين المحدثين، أن إلياس إنما أرسل إلى بني إسرائيل على أيام الملك أخاب بن عمري، ملك إسرائيل في الفترة (869- 850 ق. م) (2)، أي أن إلياس عليه السلام كان يعيش في القرن التاسع قبل الميلاد، و ربما في النصف الأول من هذا القرن التاسع ق. م.

[2] اليسع عليه السلام:-

أوجز القرآن الكريم عن حياته عليه السلام فلم يذكر عنها شيئا، و اكتفى بذكره بين مجموعة الأنبياء الكرام البررة الذين يجب الإيمان بهم إجمالا، و ذلك في سورتي الأنعام و ص، يقول اللّه تعالى: وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، و يقول تعالى: وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (3).

و اليسع، في روايات العهد القديم، هو «اليشع بن شافاط» (4)، و في

ص: 239


1- تفسير الطبري 23/ 93- 94، تفسير ابن كثير 4/ 31، تاريخ الطبري 1/ 463- 464، تفسير النسفي 1/ 28.
2- أنظر عن عهد أخاب (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 903- 913).
3- سورة الأنعام: آية 86، سورة ص: آية 48، و انظر: تفسير الطبري 11/ 510- 512، 23/ 172- 173، تفسير الفخر الرازي 13/ 64- 65، 26/ 216- 217، تفسير روح المعاني 7/ 218- 219، 23/ 211- 212، تفسير ابن كثير 2/ 247- 248، 4/ 62، تفسير الكشاف 2/ 34، تفسير البيضاوي 2/ 312، تفسير المنار 7/ 487- 491 تفسير القرطبي ص 2467- 2469، 5662- 5663، تفسير أبي السعود 2/ 245.
4- ملوك أول 19/ 16.

المصادر العربية، هو «اليسع بن أخطوب» من سبط أفرايم، و قيل ابن عم إلياس، و قال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم بن أفرايم (1)، و في تفسير الطبري: أن إلياس عند ما دعا على بني إسرائيل، فحبس المطر عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية و الهوام و الدواب و الشجر و جهد الناس جهدا شديدا، استخفى إلياس عن الناس شفقة على نفسه منهم، ثم إنه آوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له «اليسع بن أخطوب»، به ضرّ، فآوته و أخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضرّ الذي كان به، و اتبع اليسع إلياس، فآمن به و صدقه و لزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب (2).

و يذهب بعض المفسرين إلى أن «اليسع» معرب الإسم العبراني «يوشع» فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف، على خلاف القياس، بينما ذهب آخرون إلى أنه اسم عربي منقول من «يسع» مضارع «وسع»، و أنه من ولد إسماعيل عليه السلام، و يذهب صاحب تفسير المنار إلى أنه تعريب «اليشع»، و هو أحد «أنبياء بني إسرائيل و كان خليفة إلياس (إيليا) و من المعهود في نقل الإسم العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة (3)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، روى عن وهبه بن منبه أن اللّه قبض حزقيل و عظمت في بني إسرائيل الأحداث، و نسوا ما كان من عهد اللّه إليهم، حتى نصبوا الأوثان و عبدوها دون اللّه، فبعث اللّه إليهم إلياس من ولدها هارون نبيا و إنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال ).

ص: 240


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 129- 130.
2- تفسير الطبري 23/ 93.
3- تفسير المنار 7/ 490- 491 (القاهرة 1974)، تفسير القرطبي ص 2468- 2469 (القاهرة 1970).

له «أحاب» كان اسم امرأته «أربل»، و كان يسمع منه و يصدقه، و كان إلياس يقيم له أمره، و كان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون اللّه يقال له «بعل» (1).

و قد جاءت قصة اليسع (اليشع) مفصلة في سفر الملوك الثاني (2- 9) من العهد القديم، و عاش على أيام ملك إسرائيل «يهورام» (849- 842 ق.

م) آخر ملوك أسرة عمري، و نقرأ في سفر الملوك الأول أن الرب أمر إيليا أن «امسح اليشع بن شافاط من آبل محوله، نبيا عوضا عنك»، فذهب إيليا و وجد اليشع «يحرث و اثنا عشر فدان بقر قدامه و هو مع الثاني عشر، فمر إيليا و طرح رداءه عليه، فترك البقر و ركض وراء إيليا و قال: دعني أقبل أبي و أمي و أسير وراءك، فقال له اذهب راجعا لأني ما ذا فعلت لك، فرجع من ورائه و أخذ فدان بقر و ذبحهما و سلق اللحم بأدوات البقر، و أعطى الشعب فأكلوا، ثم قام و مضى وراء إيليا و كان يخدمه» (2)، ثم تولى الدعوة إلى اللّه تعالى بعد إلياس كما سار على نهجه و شريعته.

ص: 241


1- تفسير الطبري 23/ 92- 93، تاريخ الطبري 1/ 461.
2- ملوك أول 19/ 16، 19- 21.

ص: 242

الفصل الثّالث زكريّا و يحيى عليهما السّلام
اشارة

جاء ذكر زكريا و ولده يحيى عليهما السلام في عدة سور من القرآن الكريم، منها ما جاء في سورة آل عمران في قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ، قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (1)، و في قوله تعالى في سورة مريم: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قالَ رَبِ

ص: 243


1- سورة آل عمران: آية 37- 41، و انظر: تفسير النسفي 1/ 155- 157، تفسير روح المعاني 3/ 139- 154، تفسير الطبري 3/ 243- 262، في ظلال القرآن 1/ 393- 396، تفسير الفخر الرازي 8/ 29- 42، تفسير ابن كثير 1/ 539- 542، البداية و النهاية 2/ 47- 55، صفوة التفاسير 1/ 199- 201، تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 181- 182، تفسير القرطبي ص 1314- 1324.

أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا، يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (1)، كما جاء ذكرهما في سورتي الأنعام (آية 85) و الأنبياء (الآيات 89- 90).

و لعل مما تجدر الإشارة إليه أن هناك بين القصة، كما جاءت في سورتي آل عمران و مريم، بعض المقابلات، منها (أولا) أن اللّه تعالى بيّن في سورة مريم أن زكريا دعا ربه و لم يبين الوقت، بينما بيّنه في آل عمران بقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، و المعنى أن زكريا لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع فيه في حق نفسه فدعا، و منها (ثانيا) أن اللّه تعالى صرح في آل عمران بأن المنادى هو الملائكة لقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، و في سورة مريم الأظهر أن المنادى بقوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ هو اللّه تعالى، و لا منافاة بين الأمرين، و منها (ثالثا) أنه قال في آل عمران: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ، فذكر أولا كبر نفسه، ثم عقر المرأة، و في سورة مريم قال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، و جوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب، و منها (رابعا) قال

ص: 244


1- سورة مريم: آية 2- 15، تفسير روح المعاني 16/ 58- 74، تفسير الطبري 16/ 45- 59، في ظلال القرآن 4/ 2301- 2304، تفسير الفخر الرازي 21/ 179- 194، تفسير النسفي 3/ 28- 30، تفسير ابن كثير 3/ 179- 185.

تعالى في آل عمران؛ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، و في مريم: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، و قد دلت الآيتان أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ (1).

هذا و قد كان زكريا قد كفل مريم أم المسيح عليهم السلام، بعد وفاة أبيها عمران، فقد كان زوجها لخالتها، أو أختها، على الأرجح، كما سنرى إن شاء اللّه فيما بعد عند الحديث عن مريم البتول، و اتخذ لها محرابا (2)، و هو المكان الشريف في المسجد، لا يدخله عليها أحد سواه، و قد شاء اللّه تعالى أن يطلعه على كرامة مريم، و جليل قدرها، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، و كان زكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتيا، و كانت امرأته عاقرا، قال ابن عباس: كان ابن عشرين و مائة سنة، و كانت امرأته بنت تسع و تسعين (3)، فلما رأى من كرامات اللّه تعالى ).

ص: 245


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 195.
2- المحراب: هو الموضع العالي الشريف، و احتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، و التسور لا يكون إلا من علو، و قيل المحراب أشرف المجالس و أرفعها، قال أبو عبيدة: سيد المجالس و أشرفها و مقدمها، و كذلك هو من المسجد، بل هو المكان الشريف في المسجد أو موقف الإمام، و يقول الألوسي: اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة، و إلى ذلك ذهب سيدنا الإمام على كرم اللّه وجهه في الجنة، و إبراهيم رحمه اللّه، فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، و هي من البدع التي لم تكن في العصر الأول، فعن أبي موسى الجهني قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى»، و عن عبد اللّه بن أبي الجعد قال: «كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد»، و عن ابن عمر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «اتقوا هذه المذابح»، يعني المحاريب، و الروايات في ذلك كثيرة، و للإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها (تفسير روح المعاني 3/ 146، تفسير الفخر الرازي 8/ 30، تفسير البحر المحيط 2/ 433).
3- تذهب رواية أخرى إلى أن سن زكريا كان مائة، و سن زوجته تسعا و تسعين، و قيل كان له من العمر تسع و تسعون، و قيل اثنتان و تسعون، و قيل خمس و ثمانون، و قيل خمس و سبعون، و قيل سبعون، و قيل ستون (تفسير الفخر الرازي 8/ 39، 22/ 217، تفسير روح المعاني 3/ 149).

لمريم، البنية الصالحة المرزوقة، طمع في فضل اللّه و رحمته، يقول الفخر الرازي: و الجمهور الأعظم من المحققين و المفسرين أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، و من فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها اللّه تعالى في حقه أيضا، فيرزق الولد من الزوجة الشيخة العاقر (1)، و من ثم فقد أخذت تحرك في نفسه، و هو الشيخ الذي لم يوهن ذرية، تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية، الرغبة في الذرية، و في الامتداد و في الخلف، و تلك الرغبة التي لا تموت في نفوس العبّاد الزهاد الذين وهبوا أنفسهم للعبادة و نذروها للهيكل، إنها الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة و ارتقائها (2)، و من ثم فإنه يتوجه إلى ربه يناجيه، و يطلب منه أن يهب له من لدنه غلاما تقيا يرثه النبوة و هداية بني إسرائيل، و يجعله من عباده الصالحين:

قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (3) وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (4).

و هكذا تشير الآيات الكريمة إلى أن زكريا يشكو إلى ربه و هن العظم،

ص: 246


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 32- 33.
2- في ظلال القرآن 1/ 393.
3- اتفق أكثر المفسرين على أن «يعقوب» هنا، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فإن زكريا من ولد هارون من نسل لاوى بن يعقوب، و كان متزوجا من أخت مريم بنت عمران، و هي من ولد سليمان بن داود من نسل يهوذا بن يعقوب، و إن ذهب آخرون (الكلبي و مقاتل) أن يعقوب هنا، هو يعقوب بن ماثان أخو عمران والد مريم البتول، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنه أخو زكريا نفسه (روح المعاني 16/ 62).
4- سورة مريم: آية 4- 6، و انظر: آل عمران: آية 38- 41.

و حين يهن العظم يكون الجسم كله وهن، فالعظم هو أصلب ما فيه و هو قوامه الذي يقوم به و يجتمع عليه، و يشكو إليه اشتعال الرأس شيبا، و التعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل، و يجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد، و وهن العظم و اشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة و ضعفها الذي يعانيه زكريا و يشكوه إلى ربه، و هو يعرض عليه حاله و رجائه، ثم يعقب عليه بقوله: وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا معترفا بأن اللّه قد عوّده أن يستجيب إليه أذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، و هو في فتوته و قوته، فما أحوجه الآن في هرمه و كبرته أن يستجيب اللّه له و يتم نعمته عليه، و هذا و قد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه: يا رب، قال اللّه سبحانه و تعالى له: لبيك عبدي، و روى أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه: يا رب، فقال سبحانه و تعالى له: لبيك يا موسى، فقال موسى: أ هذا لي خاصة، فقال اللّه تبارك و تعالى: لا، و لكن لكل من يدعوني بالربوبية، و قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه، فليدع اللّه تعالى بما يناسبه من أسمائه و صفاته عز و جل (1).

هذا و قد اختلف العلماء في قوله تعالى: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2)، فأما «الموالي»، فيما يروي عن ابن عباس و مجاهد، عصبة الرجل، و عن ابن عباس أيضا و الحسن البصري: ورثته، و عن أبي صالح: الكلالة (3)، و عن الأصم ينو العم، و هم الذين يلونه في النسب، ).

ص: 247


1- في ظلال القرآن 4/ 2302، روح المعاني 16/ 59- 61.
2- سورة مريم: آية 5- 6.
3- الكلالة: المراد هنا من يرثه من حواشيه، لا أصوله و لا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه، أنه سئل عن الكلالة، فقال أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن اللّه، و إن يكن خطأ فمني و من الشيطان، و اللّه و رسوله بريئان منه، الكلالة: من لا ولد له، و لا والد، فلما ولي عمر رضي اللّه تعالى عنه، قال إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأيه، و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت آخر الناس بعمر فسمعته يقول: الكلالة من لا ولد له و لا والد، و هكذا قال الإمام علي و ابن مسعود، و به يقول الشعبي و النخعي و الحسن البصري و قتادة و جابر بن زيد و الحكم، و به يقول أهل المدينة و الكوفة و البصرة، و هو قول الفقهاء السبعة و الأئمة الأربعة و جمع السلف و الخلف، و قد حكي الإجماع عليه غير واحد، و إن روى عن ابن عباس أيضا أنه من لا ولد له، و الصحيح الأول (تفسير ابن كثير 1/ 693، تفسير الطبري 4/ 283- 289).

و عن أبي مسلم المولي يراد به الناصر، و ابن العم و المالك و الصاحب، و هو هنا من يقوم بميراثه مقام الولد، و المختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده، إما في السياسة أو في المال الذي كان له في القيام بأمر الدين، فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب، فإنه كان متعينا في الحياة، و على أي حال، فهم على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، و كان زكريا يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه، و تراثه هو دعوته التي يقوم عليها، و هو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين، و أهله الذين يرعاهم، و منهم مريم البتول التي كان قيّما عليها و هي تخدم المحراب الذي يتولاه، و ماله الذي يحسن تدبيره و إنفاقه في وجهه، و هو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، و يخشى ألا يسيروا فيه سيرته، لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث (1)، على أن هناك من يرى احتمال أن يكون اللّه تعالى قد أعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبيّ له أب إلا واحد، فخاف أن يكون ذلك من بني عمه، إذ لم يكن له ولد، فسأل اللّه تعالى أن يهب له ولدا يكون هو ذلك النبي، و ذلك يقتضي أن يكون خائفا من أمر يهتم بمثله الأنبياء، و إن لم يدل على تفصيل ذلك، و لا يمتنع أن زكريا كان إليه، مع النبوة، السياسة من جهة الملك و ما يتصل بالإمامة، فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما، و من أجل ذلك

ص: 248


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 182، في ظلال القرآن 4/ 2302.

دعا زكريا أن يهبه من لدنه وليا، أي ولدا من صلبه، و يؤيده (أولا) قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، و (ثانيا) قوله تعالى في سورة مريم: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، و (ثالثا) قوله تعالى في الأنبياء: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً، و هذا يدل على أنه سأل الولد، لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي، و أنه غير منفرد عن الورثة، و هذا، و إن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه، لكن حمله على الولد أظهر (1).

و أما قوله تعالى: يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، فقد اختلف العلماء في المراد بالميراث هنا على وجوه، أحدهما: أن المراد بالميراث في الموضوعين هو وراثة لمال، و هذا قول ابن عباس و الحسن و الضحاك، و ثانيهما: المراد في الموضعين وراثة النبوة، و هو قول أبي صالح، و ثالثها:

يرثني المال (2)، و يرث من آل يعقوب النبوة، و هو قول السّدى و مجاهد و الشعبي، و روى أيضا عن ابن عباس و الحسن البصري و الضحاك، و عن أبي صالح قال: يرث مالي من آل يعقوب النبوة، و في تفسير الطبري: يرثني من بعد وفاتي مالي، و يرث من آل يعقوب النبوة، و ذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب، و رابعها: يرثني العلم و يرث من آل يعقوب النبوة، و هذا مروى عن مجاهد، و قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع و العلم، فإن الأنبياء لا يورثون مالا، و قال النسفي: أي هب لي ولدا وارثا مني العلم و من آل يعقوب النبوة، و معنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه، و لم يرد أن نفس النبوة تورث، كما أشرنا من قبل إلى ذلك مرارا، و يقول الفخر الرازي: أن هذه

ص: 249


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 183.
2- جاء في تفسير ابن كثير (1/ 179- 180): و في صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في التجارة، و من ثم فلم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب يده، و مثل هذا لا يجمع مالا، و لا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شي ء في الدنيا.

الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة و هي المال و منصب الحبورة و العلم و النبوة و السيرة الحسنة، و لفظ الإرث مستعمل في كلها، أما في المال، فلقوله تعالى: أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ، و أما في العلم فلقوله تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، و قال صلى اللّه عليه و سلم:

العلماء ورثة الأنبياء، و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و إنما ورثوا العلم»، و ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»، و في رواية عن الترمذي بإسناد صحيح: «نحن معشر الأنبياء لا نورث»، و قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، و هذا يحتمل وراثة الملك و النبوة، و على أي حال، فلقد ثبت أن اللفظ محتمل لكل تلك الوجوه (1).

هذا و قد احتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر و المعقول، فأما الخبر فلقد أخرج ابن جرير في التفسير بسنده عن الحسن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: رحم اللّه أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول فهب لي من لدنك وليا، يرثني و يرث من آل يعقوب»، و عن قتادة: ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا قرأ هذه الآية، و أتى على «يرثني و يرث من آل يعقوب»، قال: رحم اللّه زكريا ما كان عليه من ورثته» (2)، و ظاهر ذلك يدل على أن المراد إرث المال، و ثانيهما: أنه قال «و اجعله رب رضيا»، و لو كان المراد من الإرث إرث النبوة، لكان سأل جعل النبي رضيا، و هو غير جائز، لأن النبي لا يكون إلا رضيا معصوما، و أما قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»، فهذا لا يمنع أن يكون خاصا به، و أما من حمله على العلم أو المنصب و النبوة، فقد احتج بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد ).

ص: 250


1- تفسير البيضاوي 2/ 14، تفسير الفخر الرازي 21/ 184، تفسير النسفي 3/ 29، تفسير ابن كثير 3/ 180.
2- تفسير الطبري 16/ 48 (بيروت 1984).

بأمر المال، كما يشتد بأمر الدين، و قيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين، فلهذا كان مهتما به (1).

هذا و قد استدل الشيعة بالآية (يرثني و يرث من آل يعقوب) على أن الأنبياء عليهم السلام تورث عنهم أموالهم، لأن الوراثة حقيقة في وراثة المال، و لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة، و قد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس و مجاهد و عكرمة و أبي صالح أنهم قالوا في الآية: يرثني مالي، و أخرج عبد الرازق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى اللّه عليه و سلم قال في الآية: «يرحم اللّه تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة»، و في رواية: ما كان عليه ممن يرث ماله»، و قال بعضهم: إن الوراثة ظاهرة في ذلك و لا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغوا قوله: وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، و لا على وراثة العلم لأنه كسبي، و الموروث حاصل بلا كسب، و مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يرثون مالا، و لا يورثون، لما صح عندهم من الأخبار (2).

و على أي حال، فإن زكريا، النبي الصالح، إنما يختم دعاءه:

وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، و هكذا يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته بأن يجعله اللّه تعالى رضيا، لا جبارا و لا غليظا، و لا متبطرا و لا طموعا، و لفظة «رضى» إنما تلقي هذه الظلال، فالرضى هو الذي يرضى و يرضى، و ينشر ظلال الرضى فيما حوله و من حوله، يقول الطبري: و اجعل يا رب الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت و يرضاه عبادك، دينا و خلقا و خلقا (3).

و يتقبل اللّه، سبحانه تعالى، دعاء عبده زكريا، و تحدث الاستجابة

ص: 251


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 184.
2- تفسير روح المعاني 16/ 64 (بيروت 1978).
3- في ظلال القرآن 4/ 2302، تفسير الطبري 16/ 49.

التي لا تتقيد بسن، و لا تتقيد بمألوف الناس، لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (1)، و هكذا بشرت الملائكة زكريا عليه السلام بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده (يحيى)، و في آية أخرى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (2)، و في تعيين اسمه عليه السلام تأكيد لوعد اللّه تعالى لزكريا عليه السلام، و تشريف ليحيى عليه السلام حيث تولى اللّه تعالى تسميته، و من المعروف عادة أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم و أمهاتهم بعد مولدهم، و أما يحيى عليه السلام فإن اللّه تعالى هو الذي سمّاه قبل دخوله في الوجود، فكان ذلك من خواصه، فلم يكن له مثل و شبيه في هذه الخاصية (3)، و أما قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، فقد اختلف المفسرون فيه على وجوه، أحدهما: و هو قول ابن عباس و الحسن البصري و سعيد بن جبير و عكرمة و قتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الإسم، و ثانيها: أن المراد بالسمى النظير، كما في قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، أي شريكا في الإسم، و في تفرده بهذا الإسم ضرب من التعظيم، و مزيد تشريف و تفخيم له عليه السلام و هذا، كما قال الزمخشري، شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة، و إياها كانت العرب تنحي في التسمية، لكونها أنبه و أنوه و أنزه عن النبر، و ثالثها: ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، من أن العواقر لم تلد قبله مثله، و كما يقول ابن كثير ).

ص: 252


1- سورة آل عمران: آية 39.
2- سورة مريم: آية 7.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 186، غير أننا نلاحظ أن هناك شبها لهذا، ذلك أن إسحاق و يعقوب و المسيح عليهم السلام، قد بشربهم، و سمعوا بأسمائهم قبل مولدهم (سورة آل عمران: آية 45، هود: آية 71، الصافات: آية 112)، بل إن التوراة تشير إلى أن إسماعيل قد بشر به و أعطى اسمه قبل أن يولد (تكوين 16/ 11).

و في هذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، و كذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم و سارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما، لا لعقرهما (1) و لهذا قال: أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، مع أنه كان قد ولد له من قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة و قالت امرأته: يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ، قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2) و أخرج الإمام أحمد في الزهد، و ابن المنذر و غيرهما عن مجاهد أن «سميا» بمعنى شبيها، و روى عن عطاء و ابن حبير مثله أي لم نجعل له شبيها، حيث أنه لم يعصي و لم يهم بمعصية، فقد أخرج الإمام أحمد و الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و ابن مردوية عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: ما من أحد من ولد آدم، إلا و قد أخطأ أو همّ بخطإ، إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام، لم يهم بخطيئة و لم يعملها»، و عن ابن المسيب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما من أحد يلقي اللّه يوم القيامة إلا أذنب، إلا يحيى بن زكريا»، و قال قتادة: ما أذنب، و لا همّ بامرأة، و الأخبار في ذلك متظافرة، و قيل لم يكن له شبيه لذلك (3).

هذا و قد وصف اللّه تعالى نبيّه يحيى عليه السلام في سورة آل عمران بأربع صفات، قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى (3) مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ).

ص: 253


1- هذا صحيح بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، أما السيدة سارة فقد كانت عجوز عقيم، كما أخبرنا القرآن الكريم في سورة الذاريات: آية 29.
2- سورة هود: آية 72- 73، تفسير ابن كثير 3/ 181- 182.
3- روى أنه سمي «يحيى» لأن اللّه تعالى أحيا به عقر أمه أو لأن اللّه تعالى أحيا قلبها لإيمان و الطاعة، و اللّه تعالى سمي المطيع حيا و العاصي ميتا بقوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ و قال تعالى: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، أو لأنه يحيا بإرشاد الخلق و هدايتهم أو لأن اللّه تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعصي أو يعم بمعصية أو لأنه استشهد، و الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، و قيل غير ذلك (تفسير الفخر الرازي 21/ 186).

وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (1)، فأما الصفة الأولى، فقد وصفه اللّه تعالى بأنه كان «مصدقا بكلمة من اللّه»، و المراد بالكلمة هنا عيسى بن مريم، أي مصدقا بعيسى مؤمنا به، فهو أول من آمن به، و سمي عيسى كلمة اللّه لأن تكونه بكن بلا أب (2)، و رغم أن صاحب الظلال (3) يرى أنه ليس هناك ما يحتم هذا الفهم (أي التصديق بعيسى)، فإن المفسرين يروون عن ابن عباس أنه قال: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، و كان يحيى أول من آمن و صدق بأنه كلمة اللّه و روحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى، و أخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم، إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك، و أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: كان يحيى و عيسى ابني خالة، و كانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك»، فذلك تصديقه له، و كان أكبر من عيسى بستة أشهر، و قيل بثلاث سنين (4)، و في تفسير ابن كثير (5): روى العوفي و غيره عن ابن عباس، كما قال الحسن و قتادة و عكرمة و مجاهد و أبو الشعثاء و السدي و الربيع بن أنس و الضحاك و غيره في هذه الآية: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى بن مريم، و قال الربيع هو أول من صدق بعيسى بن مريم، و قال قتادة: و على سنته و منهاجه، غير أن هناك رواية أخرى تنسب إلى عبيدة، و تذهب إلى أن معنى «بكلمة من اللّه»، بكتاب منه، و المراد به

ص: 254


1- سورة آل عمران: آية 39.
2- تفسير النسفي 1/ 156.
3- في ظلال القرآن 1/ 394.
4- تفسير روح المعاني 3/ 147، تفسير الطبري 3/ 253.
5- تفسير ابن كثير 1/ 450.

الإنجيل، و إطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على العصيدة، غير أن الإمام الطبري إنما يعتبر ذلك جهلا بتأويل الكلمة، و اجتراء على ترجمة القرآن (1).

و أما (ثانيا) فكان سيدا: و قد فسره ابن عباس بالحليم و بالكريم و بالتقي، و قال الجبائي: إنه كان سيدا للمؤمنين، رئيسا لهم في الدين، أعني في العلم و الحلم و العبادة و الورع، و قال مجاهد: الكريم على اللّه، و قال ابن المسيب: الفقيه العالم، و قال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب، و قال الضحاك: الحليم التقي؛ و قال ابن زيد السيد هو الشريف، و في تفسير النسفي: السيد هو الذي يسود قومه، أي يفوقهم في الشرف، و كان يحيى فائقا على قومه لأنه لم يرتكب سيئة قط، و يا لها من سيادة، و قال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين عوضا عن المكون، و قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيدا في الدين و قدوة فيه، فتدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم و الحلم و الكرم و العفة و الزهد و الورع (2).

و أما (ثالثا) فكان حصورا: و الحصر في اللغة الحبس، يقال حصره حصرا، و حصر الرجل: أي اعتقل بطنه، و الحصور الذي يكتم السر و يحبسه، و الحصور الضيق البخيل، و أما المفسرون فلهم قولان، أحدهما:

أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، فقد روى عن ابن مسعود و ابن عباس سعيد بن جبير و أبي الشعثاء و عطية العوفي أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء، و عن أبي العالية و الربيع بن أنس: هو الذي لا يولد و لا ماء له، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، و منهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال، و منهم من قال كان ذلك لعدم القدرة، و قد روى الحفاظ عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن ما معه عليه السلام كان كالأنملة، و في بعض الروايات كالقذاة، و في

ص: 255


1- تفسير الطبري 3/ 253- 254، تفسير روح المعاني 3/ 147.
2- تفسير النسفي 1/ 156، تفسير الفخر الرازي 8/ 36.

أخرى كالنواة، و في بعض كهدبة الثوب، و تذهب جمهرة العلماء إلى أن هذا الرأي غير مقبول أصلا، لأن هذه من صفات النقصان، و ذكر صفة النقصان، في معرض المدح لا يجوز، و لأنه على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا و لا من تعظيما، و أما القول الثاني، و هو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء، لا للعجز، بل للعفة و الزهد، و ذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس و منعها، و المنع إنما يحصل أن لو كان المقتضى قائما، فلولا أن القدرة و الداعية كانتا موجودتين، و إلا لما كان حاصرا لنفسه، فضلا عن أن يكون يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر و الدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة و الداعية و القدرة، و على هذا الحصور بمعنى الحاصر، فعول بمعنى فاعل (1).

و قال القاضي عياض في الشفا (2): اعلم أن ثناء اللّه تعالى على يحيى أنه كان «حصورا»، ليس كما قال بعضهم إنه كان هيوبا و لا ذكر له، بل قد أنكر ذلك حذاق المفسرين و نقاد العلماء و قالوا: هذه نقيصة و عيب و لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، و قيل مانعا نفسه من الشهوات، و قيل ليست له شهوة في النساء، و قد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، و إنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من اللّه عز و جل كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها، و قام بالواجب فيها، و لم تشغله عن ربه، درجة عليا، و هي درجة نبيا صلى اللّه عليه و سلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادته ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن و قيامه عليهن و إكسابه ).

ص: 256


1- تفسير روح المعاني 3/ 148، تفسير الفخر الرازي 8/ 36- 37، تفسير الطبري 3/ 255- 256.
2- القاضي عياض اليحصبي: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 88- 89 (بيروت 1979)، شرح الشفا للملا على القاري 1/ 209- 210 (دار الكتب العلمية- بيروت).

لهن و هدايته إياهن، بل و قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: «حبب إلي من دنياكم»، و المقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور، ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو و غيره: أنه معصوم من الفواحش و القاذورات، و لا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال و غشيانهن و إيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم، حيث قال: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كأنه قال: ولدا له ذرية و نسل و عقب (1)، و أما ما أخرجه الحفاظ، على تقدير صحته، يمكن أن يقال إنه من باب التمثيل و الإشارة إلى عدم انتفاعه عليه السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.

و من هنا قيل: إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، استدلا لا بحال يحيى عليه السلام، و من ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أربعة لعنوا في الدنيا و الآخرة و أمنت الملائكة، رجل جعله اللّه تعالى ذكرا فأنث نفسه و تشبه بالنساء، و امرأة جعلها اللّه تعالى أنثى فتذكرت و تشبهت بالرجال، و الذي يضل الأعمى، و رجل حصور، و لم يجعل اللّه تعالى حصورا، إلا يحيى بن زكريا»، و في رواية «لعن اللّه تعالى و الملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا»، و يجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس و حبسها عن الشهوات مع المقدرة، و قد كان حاله عليه السلام كذلك، و أخرج عبد الرازق عن قتادة موقوفا، و ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا، أنه عليه السلام مرّ في صبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: «ما للعب خلقت» (2).

و أما (رابعا) فكان نبيا من الصالحين: و هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى عليه

ص: 257


1- تفسير ابن كثير 1/ 541- 542.
2- تفسير روح المعاني 3/ 148.

السلام بعد البشارة بولادته، و هي أعلى من الأولى، كقوله تعالى لأم موسى:

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (1)، و أما الصلاح فالمراد به هنا ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه، و عليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام: وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (2)، و ذلك لأن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، و كل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا (3).

و عودا على بدء، إلى زكريا عليه السلام، ذلك أن النبي الكريم قد عجب من أن يكون له غلام، على كبر سنه، و عقم زوجته، فقيل له كذلك يفعل اللّه ما يشاء، و طلب آية من ربه تدل على حمل امرأته، فقيل له آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا، مع أنك سوى صحيح، و الغرض أن يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (4)، و قد ذكر المفسرون في تفسير الآية الأخيرة (مريم: آية 10) (5) وجوها، أحدها: أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا، و الرمز: الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما، قال الطبري: الإيماء ً.

ص: 258


1- سورة القصص: آية 7.
2- سورة النمل: آية 19.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 37.
4- سورة مريم: آية 8- 10، و انظر: سورة آل عمران: آية 40- 41.
5- و كذا: آية آل عمران 41 أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.

بالشفتين، و قد يستعمل في الحاجبين و العينين أحيانا، و فيه فائدتان، إحداهما: أن يكون ذلك آية على علوق الولد، و الثانية: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، و أقدره على الذكر و التسبيح و التهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر اللّه تعالى، و الشكر على تلك النعمة الجليلة، و على هذا التقدير يصير الشي ء الواحد علامة على المقصود، و أداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعا لكل المقاصد، هذا فضلا عن أن تلك الواقعة إنما كانت مشتملة على المعجز من وجوه، أحدهما: أن قدرته على التكلم بالتسبيح و الذكر، و عجزه عن الكلام بأمور الدنيا، من أعظم المعجزات، و ثانيهما:

أن حصول ذلك المعجزة في تلك الأيام المقدورة، مع سلامة البنية، و اعتدال المزاج، من جملة المعجزات، و ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات (1).

و ولد يحيى عليه السلام، فشب على الطهر و الاستقامة، و كان آية في ورعه و زهده و طاعته لربه، و بره بوالديه و آتاه اللّه العلم و الحكمة و منّ عليه بالرسالة، و قد روى أنه لم يهم بمعصية قط، و لم ينشغل في طفولته بما ينشغل به الأطفال، و كان يقول: ما للعب خلقت، و كان يحيى عليه السلام هو الآية الثانية لبني إسرائيل، و كانت الأولى ولادة مريم، و كانت أمها «حمنة» عقيما لا تلد، و أما الثالثة فكانت ولادة عيسى عليه السلام من غير أب (2)، و قد قدم اللّه تعالى قصة يحيى، و كذا مريم، على قصة عيسى، عليهم السلام، ذلك لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب، و أحسن الطرق في التعليم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب.

ص: 259


1- تفسير الطبري 3/ 260، تفسير الفخر الرازي 8/ 40.
2- محمد خليل هراس: المرجع السابق ص 183.

هذا و قد أثنى اللّه تعالى على يحيى عليه السلام بالثناء العاطر، و وصفه بالبر و التقوى و الصلاح و الاستقامة قال تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا، وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (1).

و يقول المفسرون أن اللّه تعالى وصف يحيى عليه السلام في هذه الآيات بصفات تسع، منها (أولا) أن اللّه تعالى أعطاه الكتاب، و الكتاب هو التوراة، كتاب بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، و عليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به و يحكمون و هو نعمة اللّه على بني إسرائيل، قال تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ (2)، و يقول ابن عطية:

أن الإجماع هو التوراة، على أن «أل» للعهد، و لا معهود إذ ذاك سواها، فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ، كما خص كثير من الأنبياء عليهم السلام بمثل ذلك، و قيل المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السلام، و قيل المراد الجنس، أي كتاب اللّه تعالى، و على أي حال، فإن يحيى قد ورث أباه زكريا، و نودى ليحمل العب ء و ينهض بالأمانة في قوة و عزم، لا يضعف و لا يتهاون و لا يتراجع عن تكاليف الوراثة (3).

و منها (ثانيا) آتاه اللّه الحكم صبيا: و هكذا كان يحيى عليه السلام، فذا في زاده لينهض بالتبعة الكبرى، كما كان فذا في اسمه و في ميلاده، فالحكمة تأتي متأخرة، و لكن يحيى قد زوّد بها صبيا (4)، أخرج أبو نعيم و ابن مردوية و الديلمي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال في ذلك: أعطى الفهم و هو ابن سبع سنين، و جاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا، قال الغلمان ليحيى

ص: 260


1- سورة مريم: آية 12- 15.
2- سورة الجاثية: آية 16.
3- تفسير روح المعاني 16/ 72، في ظلال القرآن 4/ 2304.
4- في ظلال القرآن 4/ 2304.

بن زكريا عليهما السلام: اذهب بنا نلعب، فقال: أ للعب خلقنا، اذهبوا نصلي، فهو قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، و قد اختلف العلماء في معنى «الحكم» هنا، فمن قائل أنها بمعنى الحكمة، و هي الفهم في التوراة و الفقه في الدين، قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال، و من قائل إنها بمعنى العقل و الفراسة الصادقة، و من قائل إنها النبوة و عليه كثير، قالوا: أوتيها و هو ابن ثلاثين، و قبل و هو ابن سبع سنين أو ابن اثنتين، و لم يتنبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين، و إن رأى البعض أن الحكم هنا ليس بمعنى النبوة، فهي على سن الأربعين، و إنما المراد الفهم و الفقه في الدين، و هو غير الحكمة المفسرة بالنبوة، كما في الآية (251) من سورة البقرة، و التي جاءت في حق داود عليه السلام (1).

هذا و يرجح الفخر الرازي في التفسير الكبير أنها النبوة، ذلك لأن اللّه تعالى قد أحكم عقله في صباه و أوحى إليه، و ذلك لأن اللّه تعالى بعث يحيى و عيسى عليهما السلام، و هما صبيان، لا كما بعث موسى و محمد عليهما السلام، و قد بلغا الأشد، و الأقرب حمل الحكم على النبوة لوجهين، الأول: أن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه و منقبته، و معلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها، فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية، و لا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها، و الثاني: أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره و لغيره على الإطلاق، و ذلك لا يكون إلا بالنبوة، فإن قيل كيف يعقل حصول العقل و الفطنة و النبوة حال الصبا؟ قلنا هذا السائل، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع، فإن منع منه فقد سدّ

ص: 261


1- تفسير الطبري 16/ 54- 55، تفسير النسفي 3/ 30، تفسير ابن كثير 3/ 183، تفسير روح المعاني 16/ 72، صفوة التفاسير 2/ 213، تفسير الكشاف 2/ 504.

باب النبوات لأن الأنبياء بناء الأمر فيها على المعجزات، و لا معنى لها إلا خرق العادات، و إن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد، فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا، أشد من استبعاد انشقاق القمر، و انفلاق البحر (1).

و منها (ثالثا) و حنانا من لدنا: أي أن اللّه آتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه و لا يتعلمه، و إنما هو مطبوع عليه، و مطبوع به، و الحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب و النفوس، و تألفها و اجتذابها إلى الخير في رفق، و عن زيد أن الحنان هنا المحبة، و هو رواية عكرمة، أي و آتيناه محبة من لدنا، و المراد جعلناه محببا عند الناس، فكل من رآه أحبه، نظير قوله تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، و عن عطاء بن رباح أي آتيناه الحكم صبيا تعظيما، إذ جعلناه نبيا و هو صبي، و لا تعظيم أكثر من هذا، و الدليل عليه ما روى أنه مرّ و ورقة بن نوفل على بلال و هو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء، و يقول: أحد أحد، فقال: و الذي نفسي بيده لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي معظما (2).

و منها (رابعا) و زكاة: و الزكاة: الطهارة من الدنس و الآثام و الذنوب، و قال قتادة: الزكاة العمل الصالح، و قال الضحاك و ابن جريح: العمل الصالح الزكي، و قال العوفي عن ابن عباس: و زكاة، قال بركة، و المعنى آتاه اللّه الطهارة و العفة و نظافة القلب و الطبع يواجه بها أدران القلوب و دنس النفوس، فيطهرها و يزكيها (3)، و يقول الرازي (4): قوله تعالى: وَ زَكاةً فيه وجوه، أحدهما: المراد و آتيناه زكاة، أي عملا صالحا زكيا، كما روى عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و ابن جريح، و ثانيها: عن الحسن البصري:

ص: 262


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 191- 192.
2- تفسير روح المعاني 16/ 73، تفسير الفخر الرازي 21/ 192- 193.
3- تفسير ابن كثير 3/ 184، في ظلال القرآن 4/ 2304.
4- تفسير الفخر الرازي 21/ 193.

زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء، و ثالثها: زكيناه بحسن الثناء، كما تزكي الشهود الإنسان، و رابعها: عن الكلبي: صدقة تصدق اللّه تعالى بها على أبويه، و خامسها: بركة و نماء، و هو الذي قاله عيسى عليه السلام وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ.

و منها (خامسا): و كان تقيا: أي كان موصولا باللّه، متحرجا معه، مراقبا له يخشاه و يستشعر رقابته عليه في سره و نجواه و أولى الناس بهذا الوصف من لم يعص اللّه و لا يهم بمعصيته، و كان يحيى عليه السلام كذلك، و قد سبق أن أشرنا إلى عدة أحاديث تدل على ذلك، و منها قوله صلى اللّه عليه و سلم: «ما من أحد يلقي اللّه يوم القيامة إلا أذنب، إلا يحيى بن زكريا»، و أخرج الأئمة مالك و أحمد في الزهد و عبد اللّه بن المبارك و أبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب و إنه كان ليبكي من خشية اللّه حتى لو كان القار على عينيه لخرقه، و قد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه» (1).

و منها (سادسا): و برا بوالديه: كان يحيى برا بوالديه مسارعا في طاعتهما و محبتهما، غير عاق بهما، و ذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى مثل تعظيم الوالدين، و لهذا السبب قال تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (2). ).

ص: 263


1- تفسير الطبري 16/ 58، تفسير روح المعاني 16/ 73.
2- سورة الإسراء: آية 23، هذا و قد جاء في بر الوالدين كثير من الأحاديث الشريفة، منها ما روي الإمام أحمد بسنده عن أنس و غيره أن النبي صلى اللّه عليه و سلم صعد المنبر ثم قال: آمين آمين آمين، قيل يا رسول اللّه علام ما أمنت، قال أتاني جبريل فقال يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل آمين، فقلت آمين، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له، قل آمين فقلت آمين، ثم قال رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين فقلت آمين» (مسند الإمام أحمد 4/ 344)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 344) بسنده عن مالك بن عمرو القشيري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «من أعتق رقبة مسلم فهي فداؤه من النار، فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه، و من أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده اللّه عز و جل، و من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه و شرابه حتى يغنيه اللّه وجبت له الجنة»، و روى الإمام أحمد في مسنده (5/ 29) عن أبي مالك القشيري قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك، فابعده اللّه و أسحقه» (و رواه أبو داود الطيالسي عن شعبه)، و روى الإمام أحمد في مسنده (2/ 346) عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك أبويه أو كلاهما عند الكبر، و لم يدخل الجنة» (و رواه الإمام مسلم في صحيحه 8/ 5 من حديث أبي عوانة و جرير و سليمان بن بلال عن سهيل)، و روى الإمام أحمد في مسنده (2/ 254) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، و رغم أنف رجل دخل عليهم شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له، و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة»، قال ربعي: لا أعلمه إلا قال: «أو أحدهما»، و روى الإمام أحمد في مسنده (3/ 497) عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ جاءه رجل من الأنصار، فقال يا رسول اللّه: هل بقي عليّ من برّ أبوي شي ء بعد موتها أبرهما به، قال نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، و الاستغفار لهما، و إنفاذ عهدهما، و إكرام صديقهما، و صلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلها، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» (و رواه أبو داود و ابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان، و هو ابن الغسيل (سنن ابن ماجة 2/ 1208، سنن أبي داود 2/ 629) و روى الإمام أحمد في مسنده (3/ 429) بسنده عن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه، أردت الغزو، و جئتك أستشيرك، فقال: «فهل لك من أم» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها»، ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول (و رواه النسائي و ابن ماجة من حديث ابن جريح)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 132) بسنده عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه يوصيكم بآبائكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بالأقرب فالأقرب» (و أخرجه ابن ماجة من حديث عبد اللّه بن عياش، سنن ابن ماجة 2/ 1207)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 64) بسنده عن رجل من بني يربوع قال: «أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فسمعته و هو يكلم الناس، يقول: «يد المعطي العليا، أمك و أباك، و أختك و أخاك، ثم أدناك أدناك»، و قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى اللّه عليه و سلم: هل أديت حقها؟ قال: لا، و لا بزفرة واحدة» أو كما قال: (و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 57- 60- بيروت 1986).

ص: 264

و منها (سابعا): و لم يكن جبارا: لم يكن متكبرا متعاليا عن قبول الحق و الإذعان له أو متطاولا و لا على الخلق، و قيل الجبار: هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا، و عن ابن عباس أنه هو الذي يقتل و يضرب على الغضب (1)، و المراد وصفه بالتواضع و لين الجانب، و ذلك من صفات المؤمنين، و قد وصف اللّه تعالى نبيّه سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم بقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2)، قال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى اللّه عليه و سلم بعثه اللّه به، هذا و لأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل، و معرفة ربه بالعظمة و الكمال، و من عرف نفسه بالذل، و عرف ربه بالكمال، كيف يليق به الترفع و التكبر، و لذا فإن إبليس لما تجبر و تمرد صار مبعدا عن رحمة اللّه و عن الدين (3).

و منها (ثامنا) و لم يكن عصيا: و العصي أبلغ من العاصي، كما أن العليم أبلغ من العالم، و المراد المبالغة في النقي، لا نفي المبالغة، و قيل:

عصيا: مخالفا أمر مولاه عز و جل، و قيل: عاقا لأبويه، و يقول الطبري: و لم يكن جبارا عصيا، أي لم يكن مستكبرا عن طاعة اللّه و طاعة والديه، و لكنه كان للّه و لوالديه، متواضعا متذللا، يأتمر لما أمر به، و ينتهي عما نهي عنه، لا يعصي ربه و لا والديه (4).

و منها (تاسعا) «و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا: و فيه أقوال، أحدهما: قال الطبري: و أمان من اللّه يوم ولد من أن يناله الشيطان

ص: 265


1- تفسير روح المعاني 16/ 73.
2- سورة آل عمران: آية 159، و انظر: تفسير الطبري 4/ 150- 153، تفسير ابن كثير 1/ 628- 630 تفسير روح المعاني 4/ 105- 106، في ظلال القرآن 1/ 500- 501، تفسير النسفي 1/ 191.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 193.
4- تفسير الطبري 16/ 58.

من السوء بما ينال به بني آدم، و ثانيها: قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، و يوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط، و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم اللّه يحيى عليه الصلاة و السلام، فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة، و ثالثها: قال عبد اللّه بن نفطويه: «و سلام عليه يوم ولد»، أي أول ما يرى الدنيا، و «يوم يموت» أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة، و «يوم يبعث حيا» أي أول يوم يرى فيه الجنة و النار، و هو يوم القيامة، و إنما قال «حيا» تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، و قال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام: التحية المتعارفة و التشريف بها، لكونها من اللّه تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف و الحاجة و قلة الحيلة و الفقر إلى اللّه عز و جل، و روى ابن جرير في التفسير بسنده عن قتادة أن الحسن البصري قال: «إن يحيى و عيسى التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي، و سلم اللّه عليك، فعرف و اللّه فضلها (و رواه الإمام أحمد في الزهد عن الحسن أيضا، كما ذكره الألوسي في روح المعاني) (1).

استشهاد يحيى عليه السلام:-

ترجع المصادر النصرانية قتل يحيى عليه السلام، و هو يوحنا المعمدان عندهم، إلى أن «هيرودوس أنتباس» (6- 39 م) حاكم اليهودية من قبل الرومان، أراد أن يتزوج من «هيروديا» امرأة أخيه «فيلبس»، إلا أن يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام) أفتى بعدم الزواج لأنها لا تحل له، و من ثم فقد قرر هيرودوس التخلص منه، إلا أنه خشي غضب القوم الذين كانوا

ص: 266


1- تفسير الطبري 16/ 58- 59، تفسير روح المعاني 16/ 74، تفسير الفخر الرازي 21/ 193- 194، تفسير النسفي 3/ 30.

يعتقدون في نبوة يحيى عليه السلام، و لهذا فقد اكتفى بإلقائه في غياهب السجن، و تنتهز «هيروديا» فرصة الاحتفال بعيد ميلاد هيرودوس، و تتفق مع ابنتها «سالومي» على أن ترقص شبه عارية لعمها الملك، و حين تنتهي من رقصتها، و يفتتن الملك بها، تطلب منه رأس يحيى على طبق، و تفعل سالومي ما أشارت به أمها، و يضطر هيرودوس إلى تنفيذ رغبة ابنة أخيه، بناء على وعد منه أن يعطيها ما تريد، أيا كان الذي تريد، و من ثم يأمر بقتل يحيى فورا بالسيف و أن يؤتي برأسه على طبق ليكون هذا ختام الاحتفال، ثم يقدم الرأس الشريف إلى الداعرة سالومي التي قدمته بدورها إلى أمها، و عندئذ يسرع تلاميذ يحيى فيرفعوا الجسد و يدفنوه، ثم يخبروا السيد المسيح بالمأساة المروعة (1).

و الأمر بهذه الصورة يحتاج، فيما أرى إلى وقفة، (فأولا) ليس هناك من ريب في أن سيدنا يحيى عليه السلام، و هو الذي يسميه النصارى يوحنا المعمدان، نبيّ من أنبياء اللّه المصطفين الأخيار، كما جاء في ذلك في القرآن الكريم، و كما رأينا من

ص: 267


1- أنظر: إنجيل متى 14/ 3- 12، إنجيل مرقس 6/ 16- 30، تاريخ يوسفيوس ص 214، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1011، فيلب حتى: المرجع السابق ص 420- 422، عبد الرازق نوفل: يوحنا المعمدان- القاهرة 1977 م ص 61- 68، و كذا, yranoitciD elbiB s'regnU, reGNU. F. M 472. p، 1970- ثم قارن: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 301- 302، تاريخ الطبري 1/ 585- 593، تاريخ ابن خلدون 2/ 172، مروج الذهب للمسعودي 1/ 75- 76، غير أن المراجع العربية مضطربة في تأريخها لهذه الفترة، حتى أنها تذهب إلى أن اللّه تعالى قد سلط على اليهود «بختنصر» (نبوخذ نصر 605- 562 ق. م) جزاء وفاقا لما ارتكبوه في حق النبي الكريم يحيى عليه السلام، و أنه قتل منهم سبعين ألف رجل و امرأته، هذا مع العلم بأن تاريخ «نبوخذ نصر» أصبح الآن من الحقائق التاريخية المسلم بها، و هو أنه كان يعيش في أواخر القرن السابع، و حتى عام 562 من القرن السادس قبل الميلاد، و أن سيدنا يحيى كان يعيش بعد ذلك بأكثر من خمسة قرون و نصف القرن، حيث أنه عاصر المسيح عليه السلام.

قبل، و ليس كما يقول إنجيل متى «لأنه كان عندهم مثل نبي» (1) أو أنه «رجل بار و قديس» كما يقول إنجيل مرقس (2)، (و ثانيا) لما ذا يمنع يوحنا المعمدان (3) هذا الزواج، و مبلغ علمي أن التوراة، و التي كان على شريعتها كل من هيرودوس و هيروديا، لا تمنع ذلك الزواج، بل تفرضه على المؤمنين بها، بل إنها إنما تفرض كذلك أن ينسب الأبناء من هذا الزواج الجديد إلى الأخ المتوفي (4) و إذا كان ذلك صحيحا فإن التفسير الآنف الذكر للحدث الخطير المحزن إنما هو تفسير أناجيل النصارى، و ما كان هيرودوس نصرانيا، إنما كان ملكا يهوديا آدوميا على مملكة آدومية يهودية، فالتاريخ حتى تلك اللحظة ما كان يتعامل مع ملوك أو حتى شعوب نصرانية، كما أن يحيى عليه السلام لم يكن نصرانيا حتى يفتى بشريعة النصارى، بل إن السيد المسيح نفسه لم يكن حتى ذلك الوقت قد بعث رسولا نبيا، و بالتالي لم يكن يحكم بشريعة الإنجيل، و من ثم فلا بد أن يكون هناك سبب آخر يمنع هذا الزواج، و هنا نجد رواية تذهب إلى أن هيرودوس إنما كان قد ألقى بأخيه فيلبس، زوج هيروديا، في غياهب السجون، ثم أمر به فقتل، ثم أراد أن يتزوج من امرأته، و لعل هذا هو السبب في ثورة النبي الكريم على هذا الزواج و معارضته بشدة (5).

على أن المراجع العربية إنما تقدم روايات تختلف عن الرواية السابقة، فتذهب في أسباب قتل يحيى عليه السلام إلى أن ملك دمشق وقت

ص: 268


1- متى 14/ 5.
2- مرقس 6/ 20.
3- يسمى النصارى يحيى عليه السلام «يوحنا المعمدان»، فأما يوحنا فهو اسمه، و أما المعمدان، فلأنه، طبقا لما جاء في الأناجيل، إنما كان يعمّد القوم، أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، و قد عمّد يحيى السيد المسيح نفسه (متى 3/ 1- 16).
4- سفر التكوين 38/ 6- 11.
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1147- 1149.

ذاك أراد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له أن يتزوجها، فنهاه يحيى عن ذلك، فتبقى في نفسها منه، فلما كان بينها و بين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، و جاء برأسه و دمه في طشت إلى عندها، فيقال إنها هلكت من فورها و ساعتها، و قيل بل أحبته امرأة ذلك الملك و راسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله و أحضر إليها رأسه و دمه في طشت.

و أما مكان قتله، فذهب فريق إلى أنه قتل على الصخرة التي ببيت المقدس، و ذهب فريق آخر إلى أنه قتل في دمشق، و تذهب رواية لابن عساكر عن قاسم مولى معاوية إلى أن «هداد بن هداد» ملك دمشق كان قد زوج ابنه بابنة أخيه «أريل» ملك صيدا، فحلف بطلاقها ثلاثا ثم أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال له: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه و سألت الملك رأس يحيى، و ذلك بإشارة من أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، و بعث إليه و هو قائم يصلي في مسجد حبرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فأخذت المرأة الطبق فحملته إلى أمها، و هو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسفت بها الأرض إلى قدميها، ثم إلى حقويها ثم إلى منكبيها، فأمرت أمها بقطع رأسها لتتسلى برأسها، فلفظت الأرض جثتها، و لم يزل دم يحيى يفور حتى قدم «بخت نصر» (نبوخذ نصر) فقتل عليه خمسة و سبعين ألفا، ثم ما زال الدم يفور حتى وقف عنده إرميا النبي، فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن اللّه، فسكن فرفع السيف، و هرب نبو هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم نبوخذ نصر إليها فقتل منهم خلقا كثيرا لا يحصون كثرة، و سبى منهم ثم رجع عنهم (1).

ص: 269


1- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 53- 55، قصص الأنبياء 2/ 362- 366.

و هذه الروايات، و إن كان فيها بعض الشبه من رواية الأناجيل، ففيها كذلك بعض نقاط ضعف، منها (أولا) أن يحيى عليه السلام إنما كان من أنبياء بني إسرائيل، و لم يكن أبدا من أنبياء الآراميين سكان دمشق، و بنو إسرائيل لم يكونوا في دمشق، و إنما كانوا في فلسطين، و بالتالي فإن حادث مقتل النبي الكريم إنما كان في بيت المقدس و لم يكن في دمشق، و منها (ثانيا) أن دمشق كانت على أيام يحيى عليه السلام، بل و بالتحديد منذ عام 64 قبل مولد المسيح، مستعمرة رومانية، و بالتالي فلم يكن بها ملك، و إنما كان بها وال روماني (1)، و منها (ثالثا) أن «هدد» (بنحدد) إنما كان ملك الآراميين في دمشق، و ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد، و قد اشترك في موقعه «قرقر» عام 853 ق. م ضد الملك الأشوري «شلمنصر الثالث (859- 824 ق. م)، إلى جانب «أخاب» ملك إسرائيل و غيره من حكام ولايات سورية و فلسطين، و من ثم فهو قد عاش قبل عهد يحيى عليه السلام بأكثر من ثمانية قرون، و منها (رابعا) أن حاكم دمشق، أيا كان اسمه، لم يكن أبدا أخا لملك صيدا، فالأولى ولاية أرامية، و الثانية فينيقية، و منها (خامسا) ما أشرنا إليه من قبل من أن عهد يحيى عليه السلام إنما كان بعد عهد «بخت نصر» (نبوخذ نصر ).

ص: 270


1- افتتح القائد الروماني «بومبي» (yepmoP) مدينة دمشق عام 64 ق. م، و في عام 63 ق. م، و في يوم سبت احتل مدينة القدس و دمر حصونها و قتل رجالها، و بذا أصبحت كل من دمشق و القدس ولاية رومانية ثم سرعان ما بدأ «بومبي» تنظيماته الجديدة، فأدخل سورية الجغرافية و التقليدية كلها تحت اسم واحد هو «ولاية سورية» (airyS aicnivorP) و حلت ولاية سورية محل مملكة سورية القديمة و أصبحت عاصمتها «أنطاكية»، بينما جعلت «قليقيا» ولاية قائمة بذاتها، و أبقيت اليهودية ولاية خاضعة ضمن إطار ولاية سورية، و بعد فترة منحت المدن ذات الدساتير اليونانية حرية داخلية في ظل حكام الولايات الرومان، و شكلت عشرة من هذه المدن اتحادا عرف باسم «الديكابوليس» ثم انضمت إليها مدن أخرى فيما بعد، و على أية حال فلقد ظلت سورية و فلسطين، طوال عصر مجد الامبراطورية الرومانية مجرد ولايات رومانية (أنظر: التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1136- 1139).

605- 562 ق. م) بأكثر من خمسة قرون و نصف القرن، و من ثم فلا علاقة بين الحادثين.

و منها (سادسا) أن فتوى يحيى عليه السلام بشأن المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، بأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، إنما هي فتوى إسلامية على شريعة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ليس الأمر كذلك في شريعة موسى، كما جاءت في التوراة المتداولة اليوم، و ليس لدينا غيرها عن شريعة موسى (إلا بنص من الكتاب أو السنة يبطل هذا الحكم) و قد كان يحيى يفتي بشريعة التوراة، و التي اشترطت في الطلاق أن يعطي الرجل امرأته المطلقة وثيقة تسريح، ثم لها بعد ذلك أن تتزوج من غيره و لكنها لا تعود إلى زوجها الأول، إذا ما طلقت من زوجها الثاني أو حتى في حالة وفاة هذا الزوج الثاني (1)، تقول التوراة في سفر التثنية «إذا أخذ الرجل امرأة و تزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شي ء، و كتب لها كتاب طلاق و دفعه إلى يدها و أطلقها من بيته أو مات الرجل الآخر الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست» (2).

بقيت الإشارة إلى أن سيدنا يحيى عليه السلام، و قد عاصر المسيح عليه السلام، فإنه من ثم يكون قد عاش على أيام القيصر «أوغسطس» (27 ق. م- 14 م) و القيصر «تبيريوس» (14- 37 م)، كما عاصر من حكام القدس من قبل الرومان «هيرودوس الكبير» (37- 4 ق. م) و ولده «أرخيلاس» (4 ق.

م- 6 م) ثم ولده الثاني «هيرودوس أنتيباس» (6- 39 م)، و من الحكام العرب من الأنباط «الحارث الرابع» (9 ق. م- 40 م).

ص: 271


1- أنظر عن الزواج و الطلاق في التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 239- 286).
2- تثنية 24/ 1- 4.

ص: 272

الكتاب السّادس المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه

اشارة

ص: 273

ص: 274

الفصل الأول مريم ام المسيح عليهما السّلام

تذهب الروايات إلى أن «حنة» امرأة عمران، و أم مريم البتول كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت، و كانوا أهل بيت من اللّه، جل ثناؤه، بمكان، فبينما هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت اللّه أن يهب لها ولدا، فحملت مريم، و هلك عمران أثناء الحمل، فلما عرفت أن في بطنها جنينا، جعلته للّه نذيرة، و النذيرة أن تعبّده للّه فتجعله حبسا في الكنيسة، لا ينتفع به بشي ء من أمور الدنيا (1)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2)، و كانت حنى تظن أن ما في بطنها ذكرا، ذلك لأن الذكر (3) أقوى على الخدمة

ص: 275


1- تفسير الطبري 3/ 235، و انظر: تفسير أبي السعود 1/ 230، تفسير النسفي 1/ 155، روح المعاني 3/ 133.
2- سورة آل عمران: آية 35.
3- كانت المرأة اليهودية المقلات تنذر لربها، إن رزقت أطفالا و عاشوا، فإنها تهب أكبرهم للإله (يهوه)، و من ثم يصبح هذا الطفل خادما للكهنة و حارسا للمعبد، و ربما يصبح كاهنا، كما يمكن افتداء الطفل بدفع مبلغ من المال للمعبد (لاويون 27/ 1- 8)، و طبقا لرواية التوراة في سفري الخروج و صموئيل أول، فقد جندت بعض النساء للخدمة، عند باب خيمة الاجتماع، غير أن هذين النصين إنما هما تعديل لا حق، كما أنهما ليسا واضحين، و إن كانت روايتهما عن خدم المعبد و الأشخاص المتدينين الذين يعيشون بداخله، أو النساء المتدينات المشتركات في الأعياد (أنظر:, siraP, learsI'd noitasiliviC al ed eriotsiH, telohtreB. A 356. p، 1929). P, tic- po, sdoL. A 449- 448. و كذا.

و أقوم بها، و أن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس و القيام بخدمة الكنيسة لما يعترضها من الحيض و النفاس (1)، و من ثم فإن النذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ليخدموا الهيكل، و ينقطعوا للعبادة و التبتل، و لكن «حنة» رزقت بأنثى، و من ثم فهي تتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (2)، و هكذا تودع الأم هديتها بين يدي ربها و تدعها لحمايته و رعايته، و تعيذها به و ذريتها من الشيطان الرجيم، و هذه كلمة القلب الخالص، و رغبة القلب الخالص، فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة اللّه من الشيطان الرجيم (3) و استجاب اللّه لها فأعاذها اللّه و ذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا، أخرج الشيخان، البخاري و مسلم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما من مولد يولد إلا و الشيطان يمسه حين يولد، فيستهل من مسه صارخا، إلا مريم و ابنها»، و في رواية: «ما من ولد يولد، إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسّة الشيطان، إلا مريم و ابنها»، ثم يقول أبو هريرة:

اقرءوا إن شئتم: «و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم» (4)، و هكذا قبل اللّه تعالى نذر حنة، قال تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً

ص: 276


1- تفسير الطبري 3/ 237.
2- سورة آل عمران: آية 36.
3- في ظلال القرآن 1/ 392- 293 (بيروت 1982).
4- صحيح البخاري 6/ 42، صحيح مسلم 7/ 96- 97، و انظر روايات أخرى للحديث الشريف في: تفسير الطبري 3/ 238- 240، تفسير روح المعاني 3/ 137، تفسير ابن كثير 1/ 538- 539، تاريخ ابن خلدون 2/ 168- 169.

حَسَناً (1) جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، و هذا التجرد الكامل في النذر، و إعداد لها أن تستقبل نفخة الروح و كلمة اللّه، و أن تلد عيسى عليه السلام، على غير مثال من ولادة البشر (2).

هذا و قد روى عن ابن عباس، حبر الأمة و ترجمان القرآن، أن حنة لما وضعت مريم خشيت أن لا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في خرقة و وضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها لأنها كانت ابنة إمامهم، أيهم يأخذها (3)، فقال زكريا، و هو رأس الأحبار: أنا آخذها و أنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: و لكننا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي و جمعوها في موضع ثم غطوها، و قال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس:

أدخل يدك فأخرج، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى و لكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جرى الماء، فقالوا: نقترع الثالثة: فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء و ارتفعت أقلامهم في جرية الماء، و قبضها عند ذلك زكريا (4)، و يقول الفخر الرازي أن المراد بالأقلام التي يكتبون بها التوراة و سائر كتب اللّه تعالى، و كان القراع على أن كل من جرى قلمه عكس الماء، فالحق معه، فلما فعلوا ذلك

ص: 277


1- سورة آل عمران: آية 37.
2- في ظلال القرآن 1/ 393.
3- يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير 8/ 46): اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة، فقيل لأن عمران أباها كان رئيسا لهم و مقدما عليهم، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها، و قيل لأن أمها حررتها لعبادة اللّه و خدمة بيته، و قيل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها و أمر عيسى عليه السلام حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.
4- تفسير روح المعاني 3/ 138.

صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، و هذا قول الأكثرين (1)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2)، و النص القرآني يشير إلى حادث لم يذكره العهد القديم، و لا العهد الجديد، المتداولان، و لكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار و الرهبان، حادث إلقاء أقلام سدنة الهيكل، لمعرفة من تكون مريم من نصيبه، و النص القرآني لا يفصل الحادث ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة (3).

و هكذا كفل زكريا مريم أم المسيح عليهم السلام، بعد وفاة أبيها عمران، فقد كان زوجا لخالتها، أو أختها، كما ورد في الصحيح: «فإذا يحيى و عيسى و هما ابنا الخالة»، و قد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق و ابن جرير من أنه كان زوجا لخالتها، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها، و قد ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها، امرأة جعفر بن أبي طالب، و قال صلى اللّه عليه و سلم: «الخالة بمنزلة الأم» (4)، و على أية حال، فلقد اتخذ زكريا لمريم محرابا، و المحراب مقدم كل مسجد و مصلي، و هو سيد المجالس و أشرفها و أكرمها، و كذلك هو من المساجد، أو هو المكان الشريف من المسجد، لا يدخله عليها أحد سواه، و قد شاء اللّه أن يطلعه على كرامة مريم و جليل قدرها، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: ).

ص: 278


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 45.
2- سورة آل عمران: آية 44.
3- في ظلال القرآن 1/ 396.
4- تفسير ابن كثير 1/ 539 (بيروت 1986).

وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (1)، روى الطبري عن السّدى قال: جعلها زكريا معه في بيت، و هو المحراب، فكان يدخل عليها في الشتاء، فيجد عندها فاكهة الصيف، و يدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء، و عن ابن عباس قال: وجد عندها ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، و فاكهة الشتاء في الصيف (2).

و روى الحافظ أبو يعلي عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شي ء آكله فإني جائع، فقالت: لا، بأبي أنت و أمي، فلما خرج من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين و قطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، و قالت: و اللّه لأوثرن بهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على نفسي و من عندي، و كانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت و أمي، قد أتى اللّه بشي ء فخبأته لك، قال: هلمي يا بنية، قالت فأتيته بالجفنة، فكشفت عنها، فإذا هي مملوءة خبزا و لحما، فلما نظرت إليها بهت و عرفت أنها بركة من اللّه، فحمدت اللّه و صليت على نبيه، و قدمته إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فلما رآه حمد اللّه و قال: من أين لك هذا يا بنية، قالت يا أبت: «هو من عند اللّه إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب»، فحمد اللّه و قال: الحمد اللّه الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها اللّه شيئا و سئلت عنه قالت: هو من عند اللّه، إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى عليّ، ثم أكل رسول ).

ص: 279


1- سورة آل عمران: آية 37.
2- تفسير الطبري 3/ 245- 246 (بيروت 1984).

اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أكل علي و فاطمة و حسن و حسين و جميع أزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم و أهل بيته حتى شبعوا جميعا، قالت: و بقيت الجفنة كما هي، فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، و جعل اللّه فيها بركة و خيرا كثيرا (1).

و هكذا نشأت مريم البتول على الطهارة و العبادة و البعد عن الدنس و رذائل الأمور، قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (2)، و يقول الفخر الرازي: (3) اعلم أن المذكور في هذه الآية:

أولا هو الاصطفاء، و ثانيا التطهير، و ثالثا الاصطفاء على نساء العالمين، و لا يجوز أن يكون الاصطفاء الأول من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، و الاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها، و من النوع الأول من الاصطفاء أمور: أنه تعالى قبل تحريرها، مع أنها كانت أنثى، و لم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث، و ثانيها: قال الحسن البصري: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، و كان رزقها يأتيها من الجنة، و ثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته و خصها في هذا المعنى بأنواع اللطف و العناية و الصحة، و رابعا: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان رزقها يأتيها من عند اللّه تعالى على ما قال اللّه تعالى: أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، و خامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، و لم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، و أما التطهير ففيه وجوه، أحدها: أنه تعالى طهرها من الكفر و المعصية، و ثانيها:

أنه طهرها عن مسيس الرجال، و ثالثها: طهرها من الحيض، قالوا كانت

ص: 280


1- تفسير ابن كثير 1/ 539- 540، تفسير روح المعاني 3/ 141.
2- سورة آل عمران: آية 42- 43.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 43.

مريم لا تحيض، و رابعها: طهرها من الأفعال الذميمة و العادات القبيحة، و خامسها: طهرها من مقالة اليهود و تهمتهم و كذبهم، و أما الاصطفاء الثاني:

فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، و أنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، و جعلها و ابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.

هذا و قد ناقش العلامة الألوسي في تفسيره: «روح المعاني» قضية اصطفاء مريم على نساء العالمين (1)، و قيل على جميع النساء في سائر الأعصر، و استدل به على أفضليتها على السيدة فاطمة الزهراء، و أمها السيدة خديجة، و السيدة عائشة رضي اللّه تعالى عنهن، و أن ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: سيدة نساء أهل الجنة: مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون»، و بما أخرجه ابن جرير عن فاطمة، صلى اللّه تعالى على أبيها و عليها و سلم، أنها قالت: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول».

و أما القول الثاني: فالمراد عالمها، فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي اللّه تعالى عنها (2)، و يقول ابن كثير: يحتمل أن يكون عالمي زمانها، كقوله تعالى لموسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ، و كقوله عن بني إسرائيل: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، و معلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى و أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم أفضل منهما، و كذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها و أكثر عددا و أفضل علما و أزكى عملا من بني إسرائيل و غيرهم (3).

ص: 281


1- روى الطبري و ابن كثير عدة أحاديث شريفة في فضل السيدة مريم (تفسير الطبري 1/ 263- 264، تفسير ابن كثير 1/ 542- 544، البداية و النهاية 2/ 59- 63).
2- تفسير روح المعاني 3/ 155.
3- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 59.

و يؤيد الألوسي قوله بأن اصطفاء مريم على نساء عالمها، و لا يلزم منه أفضليتها على الزهراء، بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه و سلم و أفضلهن عالما فاطمة»، و ما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح، لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها»، و إلى هذا ذهب أبو جعفر رضي اللّه تعالى عنه (أي الإمام محمد الباقر)، و هو المشهور عن أئمة أهل البيت، و الذي أميل إليه (أي العلامة الألوسي): أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات و المتأخرات من حيث أنها بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بل و من حيثيات أخرى أيضا، و لا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات و بحيثية من الحيثيات، و به يجمع بين الآثار، و هذا شائع على القول بنبوة مريم أيضا، إذ البضعية من روح الوجود و سيد كل موجود صلى اللّه عليه و سلم لا أرها تقابل بشي ء، و أين الثريا من يد المتناول، و من هنا يعلم أفضليتها على عائشة، رضي اللّه تعالى عنها، الذاهب إلى خلافها الكثير، محتجين بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» و قوله صلى اللّه عليه و سلم:

«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام»، و بأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و فاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي، كرم اللّه تعالى وجهه في الجنة، و فرق عظيم بين مقام النبي صلى اللّه عليه و سلم و مقام علي كرم اللّه وجهه.

و أنت تعلم ما في هذا الاستدلال، و أنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء، أما (أولا) فلأن قصارى ما في الحديث الأول، على تقدير ثبوته، إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، و هذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته الزهراء صلى اللّه عليه و سلم، و لعلمه صلى اللّه عليه و سلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، و لو علم لربما

ص: 282

قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، و عدم هذا القول في حق من دل العقل و النقل على علمه، لا يدل على مفضوليته، و إلا لكانت عائشة أفضل من أبيها، رضي اللّه تعالى عنه، لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل، لقلة لبثه و كثرة غائلته بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، على أن قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إني تركت فيكم الثقلين، كتاب اللّه تعالى و عترتي، لا يفترقان حتى يردا على الحوض»، يقام مقام ذلك الخبر و زيادة، كما لا يخفي، كيف لا، و فاطمة، رضي اللّه تعالى عنها، سيدة تلك العترة؟.

و أما (ثانيا) فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها، رضي اللّه تعالى عليها، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية و أكمل في المدح، عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب و التعسف، لأن ذلك الخبر، و إن كان ظاهرا في الأفضلية، لكنه قيل، و لو على بعد، إن «أل» في النساء فيه للعهد، و المراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار، و لم يقل مثل ذلك في هذا الحديث، و أما (ثالثا) فلأن الدليل الثالث يستدعى أن يكون سائر زوجات النبي صلى اللّه عليه و سلم أفضل من سائر الأنبياء و المرسلين، عليهم الصلاة و السلام، لأن مقامهم بلا ريب، ليس كمقام المحمود صلى اللّه عليه و سلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية، لزم ذلك قطعا، و لا قائل به.

و بعد هذا كله، الذي يدور في خلدي: أن أفضل النساء قاطبة: فاطمة ثم أمها (خديجة) ثم عائشة، بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى اللّه عليه و سلم أفضل من عائشة، لا أرى عليه بأسا، و عندي بين مريم و فاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، و أما بالنظر إلى الحيثية، فقد علمت ما أميل إليه، و قد سئل الإمام السبكي، عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره و ندين اللّه تعالى به، أن فاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل، ثم أمها ثم عائشة، و وافقه في ذلك البلقيني،

ص: 283

و قد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل من عائشة، لما ثبت أنه صلى اللّه عليه و سلم قال لعائشة، حين قالت: قد رزقك اللّه خيرا منها، فقال لها: لا و اللّه ما رزقني اللّه تعالى خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، و أعطتني مالها حين حرمني الناس، و أيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى اللّه عليه و سلم من جبريل، و خديجة أقرأها السلام جبريل من ربها، و بعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها، و إلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الأسروشني منا، و ذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم، و أشكل ما في هذا الباب حديث الثريد، و لعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، و تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، و اللّه تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل (1). ).

ص: 284


1- تفسير روح المعاني 3/ 155- 156 (دار الفكر- بيروت 1978).
الفصل الثّاني مولد المسيح عليه السّلام

السيد المسيح عيسى بن مريم: اسمه عيسى، و لقبه المسيح، و يكنى ابن مريم، نسبة إلى أمه مريم بنت عمران، و أما سبب تقديم اللقب على الاسم، فذلك، فيما يرى الفخر الرازي، لأن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفا رفيع الدرجة مثل الصديق و الفاروق، فذكره اللّه تعالى أولا بلقبه ليفيد علو درجته، ثم ذكره باسمه الخاص، و أما نسبه لأمه، فلأن الأنبياء إنما ينسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فلما نسبه اللّه تعالى إلى الأم، دون الأب، كان ذلك إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله و علو درجته (1).

و كلمة المسيح عند أهل الكتاب تعني المخلص المنتظر الذي يتم على يديه خلاص الشعب المختار، و من ثم فقد أطلق على أتباع المسيح لفظ «المسيحيين» تمييزا لهم عن اليهود (2)، و ربما تعني كلمة المسيح، الممسوح بزيت البركة، كما كان اليهود يفعلون عند تنصيب ملك جديد (3)، و أما كلمة «يسوع» التي استعملت في الأناجيل فهي الصيغة الهيلينية لكلمة «يشوع»،

ص: 285


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 50.
2- جواد علي: المرجع السابق 6/ 585.
3- صموئيل أول 10/ 1.

و هو بالعربية تعني «يهوه هو الخلاص» (1)، على أنه من الجدير بالملاحظة أن هذه اللفظة اليونانية لم تستعمل في القرآن الكريم، و كذا المؤلفات العربية القديمة، فضلا عن الشعر الجاهلي، فالكلمة على ما يبدو من الكلمات المتأخرة (2)، و إن ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن عيسى معرب يشوع و معناه «السيد» (3).

و أما كلمة المسيح عند المسلمين فهي: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق و الفاروق، و أصله مشيحا بالعبرية و معناه المبارك، و قيل بمعنى مسحه اللّه فطهره من الذنوب، و قيل لأنه مسح بالبركة، و عن إبراهيم النخعي بمعنى الصديق، و عن أبي عمرو بن العلاء بمعنى الملك، و عن كثير من السلف أن المسيح مشتق من المسح، و اختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه السلام، فقيل لأنه مسح بالبركة و اليمن، و قد روى ذلك عن الحسن البصري و سعيد بن جبير، و عن ابن عباس لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ، و عن الكلبي لأنه كان يمسح عين الأكمة فيبصر، و عن الجبائي لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه، و كانت الأنبياء تتمسح به، و لا يمسح به غيرهم، و أن هذا الدهن يجوز أن يكون اللّه تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيّا، و قيل لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذه من الشيطان الرجيم، و قيل لأنه حين مسح اللّه تعالى ظهر آدم عليه السلام، فاستخرج منه ذرات ذريته لم يرده (أي المسيح) إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح، و قيل لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، و قيل لكثرة سياحته، فقد كان يمسح الأرض بالسياحة لا

ص: 286


1- فيلب حتى: المرجع السابق ص 363.
2- . P, malsI fo yranoitciD, sehguH 431.
3- تفسير روح المعاني 3/ 161.

يستوطن مكانا، أو لأنه كان يمسح رأس اليتامى للّه تعالى، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن (1).

و أما أتباع المسيح فيسمون «النصارى»، و النصارى جمع واحدهم «نصراني»، بإسقاط الياء فيما يرى «سيبويه»، و الأنثى «نصرانية» و هي نكرة يعرف بالألف و اللام، و ذهب الخليل إلى أن واحد النصارى «نصري» هذا و قد سمع في جمعهم أنصار، و الكلمة ليست عربية أصلية، و إنما معربة عن السريانية من كلمة «نصريو أو نصرايا» على رأي (2)، و من التسمية العبرية «الناصريين» أو «النذيريين» حيث أطلقها اليهود على أتباع السيد المسيح، على رأي آخر (3)، على أن البعض إنما يرى أن للكلمة صلة بالناصرة، بلد المسيح عليه السلام، فعن ابن عباس: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى بن مريم كانت تسمى «الناصرة»، و كان أصحابها يسمون «الناصريين» و كان يقال لعيسى «الناصري»، أو نسبة إلى الناصريين إحدى الفرق اليهودية القديمة المنتصرة، أو أنهم سموا النصارى لتناصرهم فيما بينهم، و قد يقال لهم أنصار أيضا، كما قال عيسى عليه السلام: «من أنصاري إلى اللّه قال الحواريون نحن أنصار اللّه» (4)، و قد بقي اليهود يطلقون كلمة النصارى على من اتبع دين المسيح، و بهذا المعنى وردت الكلمة في

ص: 287


1- تفسير الطبري 3/ 270 تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير روح المعاني 3/ 161، تفسير الكشاف 1/ 278، صفوة التفاسير 1/ 201، لسان العرب 2/ 594، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير الفخر الرازي 8/ 49- 50، تفسير المنار 3/ 251- 252.
2- لسان العرب 7/ 68، تفسير الطبري 1/ 318، تفسير القرطبي ص 369، تفسير ابن كثير 1/ 156، تفسير البحر المحيط 1/ 238، معاني القرآن للفراء 1/ 44، أمالي ابن الشجري 1/ 79، 371، غرائب اللغة ص 207، و كذا.. 848. P, III, IE
3- أعمال الرسل 24/ 5، و كذا., ERE, sgnitsaH. J 574. p، 3.
4- تفسير الطبري 1/ 318، تفسير ابن كثير 1/ 156.

القرآن الكريم، و من ثم فقد أصبحت النصرانية علما على ديانة المسيح عند المسلمين (1).

و أما النصارى أنفسهم فقد كان القدامى منهم ينظرون إلى السيد المسيح نظرتهم إلى «المعلم»، و من ثم فقد كانوا يسمون أنفسهم «التلاميذ» و «تلاميذ المسيح» (2)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى نظرتهم إلى «الحواريين» (و هي لفظة أرامية على رأي، و عربية على رأي آخر، و حبشية على رأي ثالث) (3)، كما دعوا أنفسهم «الأخوة» و «الأخوة في اللّه»، على أساس أن العقيدة الدينية قد آخت بينهم (4)، ثم سرعان ما أصبحت الكلمة مقصورة على رجال الدين الذين دعوا أنفسهم «القديسيين» و «الأخوة المؤمنين في المسيح» و «المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسيين» (5)، هذا و قد عرف النصارى كذلك «بالمسيحيين»، و نقرأ في أعمال الرسل أن «برنابا» قد خرج إلى طرطوس، و هناك التقى بشاؤل حيث جاء به إلى أنطاكية و بقيا هناك عاما يعلمان جمعا غفيرا من الكنيسة و دعي التلاميذ «مسيحيين» في أنطاكية أولا (6)، كما نقرأ أيضا «فقال أغريباس لبولس بقليل تقنعني أن أصير مسيحيا» (7)، و ربما كانت الكلمة نسبة إلى السيد المسيح، هذا و قد أطلق

ص: 288


1- سورة البقرة: آية 62، المائدة: آية 18، 51، 69، 82، التوبة: آية 30، الحج: آية 17، و انظر: محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة الإسكندرية 1978 ص 59- 70، 103- 107.
2- , elbiB eht fo yranoitciD, sgnitsaH. J 192. p، 1936.
3- الأب لويس شيخو: النصرانية و آدابها بين عرب الجاهلية- بيروت 1933 ص 189، المشرق- السنة السابقة 1904 م ص 620.
4- . P, tic- po, sgnitsaH. J 104.
5- أعمال الرسل 1/ 15- 16، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1/ 2، 10.
6- أعمال الرسل 11/ 25- 26.
7- أعمال الرسل 11/ 26، 26/ 28، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 4/ 16، و كذا.. P, tic- po, sgnitsaH. J 127.

القرآن الكريم على النصارى «أهل الإنجيل» في قوله تعالى: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (1).

و على أي حال، فالمسيح عيسى بن مريم هو عبد اللّه و رسوله، و كلمته ألقاها إلى مريم البتول العذراء، الطاهرة العفيفة التي أحصنت فرجها و صدقت بكلمات ربها و كتبه، و كانت من القانتين، و يمثل المسيح عليه السلام آخر طور من أطوار الديانة الإسرائيلية، فهو آخر أنبياء بني إسرائيل، و قد جعله اللّه عز و جل، هو و أمه، آية في ولادتهما و نشأتهما، قال تعالى:

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (2)، يقول الرازي: و أما مريم فآياتها كثيرة، أحدها: ظهور الحبل فيها، لا من ذكر، فصار ذلك آية و معجزة خارقة عن العادة، و ثانيها:

أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة، و هو قوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا، قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، و ثالثها و رابعها: قال الحسن البصري: إنها لم تلتقم ثديا يوما قط، و تكلمت هي أيضا في صباها، كما تكلم عيسى عليه السلام (3)، و أما آيات عيسى عليه السلام، فسوف نتحدث عنها بالتفصيل في مكانها من هذه الدراسة، و يقول تعالى: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً، وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (4)، أما الآية فهي آية غير مسبوقة و لا ملحوقة (أعني ولادة مريم للمسيح من غير مسيس)، آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا، ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها

ص: 289


1- سورة المائدة: آية 47.
2- سورة الأنبياء: آية 91.
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 218.
4- سورة المؤمنون: آية 50.

جميعا، و تدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس، و لكنها لا تحتبس داخل النواميس (1).

و أما الربوة المشار إليها في الآية الكريمة، فقد اختلفت الروايات في تحديدها، بين مصر و دمشق و بيت المقدس (2)، و رغم أنه ليس المهم تحديد موضعها، و إنما المقصود هو الإشارة إلى إيواء لمريم و ابنها في مكان طيب، ينضر فيه النبت، و يسيل فيه الماء، و يجدان فيه الرعاية و الإيواء (3)، و على آية حال، فلقد ذهبت رواية الإنجيل إلى أنها مصر (4)، و إلى هذا ذهب الطبري في التاريخ (5)، و كذا ابن خلدون الذي يرى أنهما أقاما بمصر اثنى عشر سنة (6)، و كذا ابن كثير الذي يروي عن وهب بن منبه أن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره اللّه أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا (بيت المقدس) فقدم عليه يوسف ابن خال أمه، فحملها على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا، و أقام بها حتى أحدث اللّه له الإنجيل و علمه التوراة و أعطاه إحياء الموتى و إبراء الأسقام و العلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم، و تحدث الناس بقدومه و فزعوا لما كان يأتي من العجائب فجعلوا يعجبون منه، فدعاهم إلى اللّه ففشا فيهم أمره (7)، و كذا ذهب اليعقوبي و ابن الأثير في تاريخهما، و الألوسي في تفسيره، إلى أنها مصر (8).

ص: 290


1- في ظلال القرآن 4/ 2395.
2- أنظر: تفسير الطبري 18/ 26- 28، تفسير روح المعاني 18/ 37- 39، تفسير ابن كثير 3/ 394- 395، تفسير النسفي 3/ 121، تفسير الفخر الرازي 23/ 102- 103.
3- في ظلال القرآن 4/ 2469.
4- إنجيل متى 2/ 13- 15.
5- تاريخ الطبري 1/ 597.
6- تاريخ ابن خلدون 2/ 172.
7- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 77.
8- تاريخ اليعقوبي 1/ 69، الكامل لابن الأثير 1/ 178، تفسير روح المعاني 18/ 38- 39.

و أيا كان مكان هذه الربوة، فما يهمنا الآن الإشارة إلى أن الشعب الإسرائيلي في ذلك الوقت إنما كان قد فقد الروح الديني الصحيح، و جمد على الطقوس و المراسيم و أشكال العبادة، و ارتكب الجرائم المروعة التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها (1)، فأراد اللّه أن يهز في هذا الشعب ما جمد من عواطفه، و يحرك فيه المعاني الروحية التي نسيها، فأجرى له ثلاث آيات كبار، جاءت متتابعة متقاربة، الأولى في ولادة مريم، و الثانية في ولادة يحيى، و أما الثالثة فكانت في ولادة المسيح، و ذلك أن مريم البتول ما أن بلغت مبلغ النساء، حتى أراد اللّه أن يجعل لها من الكرامة ما لم يتيسر لغيرها من نساء العالمين، فهيأ لها الحمل دون تتوافر لها أسبابه، و ذلك بأن جاءها جبريل، في أرجح الآراء، في صورة فتى غض الشباب فتملكها الرعب و الخوف، و ظنت أنه يريد بها السوء، و من ثم فهي تنتفض منه انتفاضة العذراء يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى اللّه تستعيذ به و تستنجد و تستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، و الخوف من اللّه و التحرج من رقابته في هذا المكان الخالي «قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا»، فالتقى ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، و يرجع عن دفعة الشهوة و نزغ الشيطان (2).

و روى عن ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد الشعر مستوى الخلقة (3)، قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه و لا تنفر عنه، و لو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت و لم تقدر على السماع لكلامه، و دل على عفافها و ورعها أنها تعوذت باللّه من تلك الصورة الجملية الفائقة في الحسن (4)، و يقول الفخر الرازي إن في

ص: 291


1- أنظر: سورة آل عمران: آية 36، النساء: آية 160- 161.
2- في ظلال القرآن 4/ 2305.
3- زاد المسير 5/ 217.
4- تفسير البحر المحيط 6/ 180، تفسير النسفي 3/ 31.

قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا وجوه، أحدها:

أرادت إن كان يرجى منك أن تتقي اللّه و يحصل ذلك بالاستعاذة باللّه، فإني عائذة به منك، و هذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي، و هو كقوله: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي أن شرط الإيمان يوجب هذا، لا أن اللّه يخشى في حال دون حال، و ثانيها: أن معناه ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي و خلوت بي، و ثالثها: أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه «تقي» يتبع النساء فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي، و الأول هو الوجه (1)، و من ثم ذهب الألوسي إلى أن من قال إن «تقيا» اسم رجل صالح أو حتى طالح، ليس بسديد (2).

و على أية حال، فلقد أخبرها جبريل عليه السلام أن اللّه تعالى أرسله إليها ليهب لها غلاما زكيا، يكون له شأن عجيب، و يهبه اللّه النبوة و الحكمة و حينئذ تملكها العجب، و أدركتها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها، فتسأل في صراحة أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا، و يبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما، إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر و الأنثى، و هذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري، قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا (3). و في سورة آل عمران تفصيل أكثر عن الغلام المبشر به قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (4)، و هكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من اللّه اسمه المسيح

ص: 292


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 197- 198.
2- تفسير روح المعاني 16/ 77.
3- سورة مريم: آية 20- 21، في ظلال القرآن 4/ 2306.
4- سورة آل عمران: آية 45- 46، و انظر: تفسير الطبري 3/ 269- 273، تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير روح المعاني 3/ 159- 164، تفسير الفخر الرازي 8/ 46- 52، تفسير الكشاف 1/ 277- 278، تفسير القرطبي ص 1330- 1331، تفسير المنار 3/ 249- 255، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 182- 183.

عيسى ابن مريم، فتضمنت البشارة نوعه، و تضمنت اسمه و نسبه، و ظهر من هذا النسب أن مرجعه لأمه، ثم تضمنت البشارة كذلك صفته و مكانه من ربه وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، و لمحة من مستقبله «و كهلا»، و سمته و الموكب الذي ينتسب إليه «و من الصالحين»، فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بما لوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة، و اتجهت إلى ربها تناجيه و تتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحيّر عقل الإنسان: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و حين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب و تزول الحيرة و يطمئن القلب، و هكذا كان القرآن يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، و يقر الأمر في القلوب و في العقول سواء (1).

و على أية حال، فليس هناك من ريب في أن ولادة المسيح عيسى بن مريم، على هذا الوضع العجيب آية بالغة على كمال قدرة اللّه على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر و لا أنثى، و خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، و خلق حواء من ذكر بلا أنثى، و خلق بقية الخلق من ذكر و أنثى، يقول ابن كثير: فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته و عظيم سلطانه، فلا إله غيره و لا رب سواه (2)، و على هذا المنوال الأخير من الخلق (أي من ذكر و أنثى) جرت سنة اللّه التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر و أنثى في

ص: 293


1- في ظلال القرآن 1/ 398.
2- تفسير ابن كثير 3/ 187.

جميع الفصائل و الأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر و أنثى متميزان، تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير و التأنيث، جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، و نسوا الحادث الأول، حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس، فأراد اللّه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم عليه السلام، ليذكرهم بحرية القدرة و طلاقة الإرادة، و أنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها، و لم يتكرر حادث عيسى، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها اللّه، و أن ينفذ الناموس الذي اختاره، و هذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، و عدم احتباسها داخل حدود النواميس وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، و نظرا لغرابة الحادث و ضخامته، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته و أن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم عليه السلام، صفات الألوهية، و تصوغ حول مولده الخرافات و الأساطير، و تعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، و هي إثبات القدرة الإلهية التي لا نتقيد، تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد (1)، بينما تدنت آراء أخرى إلى الحضيض، فاتهمت الطاهرة البتول بما هي منه براء.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه من البشارات التي جاءت في الإنجيل عن سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قول المسيح عليه السلام: «ذاك يمجدني» (2)، و القرآن الكريم، كما رأينا من قبل، حافل بآيات الدفاع عن السيد المسيح و أمه الطاهرة البتول، و دفع الشبهات عنه بالحجة البالغة، و الاعتراف به عبدا للّه تعالى، و رسولا إلى بني إسرائيل، و قد أيده اللّه تعالى بالإنجيل و الروح القدس، و من البدهي أنه ليس هناك من تمجيد، أرفع، و لا

ص: 294


1- في ظلال القرآن 4/ 2304- 2305.
2- إنجيل يوحنا 16/ 14.

دفاع أقوى و أشرف، مما جاء في كتاب اللّه الكريم- القرآن الكريم (1)- من ثناء و تقدير و تكريم للسيد المسيح عليه السلام، و تبرئه لعرضه، و عرض أمه مريم الطاهرة البتول العذراء مما اتهمها به اليهود (2)، من ذلك قوله تعالى:

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ

ص: 295


1- أنظر مثلا: سورة آل عمران: آية 35- 37، 42- 51، سورة مريم: آية 16- 35.
2- يروى التلمود أن يسوع الناصري (و حاشاه أن يكون كما وصفه اليهود كذبا و افتراء) ارتد عن ديانة اليهود و عبد الأوثان، و كل مسيحي لم يتهود فهو و ثني عدو لليهود، كما يسمى التلمود السيد المسيح «ابن البخار» (ربما يقصد اليهود يوسف البخار خطيب السيدة مريم الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل) على نحو ما كان اليهود يطلقون عليه أثناء حياته، و يصفه بأنه كان ساحرا و وثنيا و مجنونا و كافرا لا يعرف اللّه، و من ثم فإن المسيحيين إنما هم كفرة مثله، و أن الطقوس الدينية المسيحية نوع من عبادة الأصنام، و أن أمه مريم قد أتت به من العسكري الروماني «باندارا» بمباشرة الزنا. و يشير اليهود إلى «يوسف باندارا» الذي عاش في الجليل، و عرف بالفسق و الفجور، إلى جانب شكله الحسن، ثم أقدم على التغرير بالفتاة «ميريام» (مريم) ابنة الأرملة، و هناك كتاب يهودي يحكي القصة بأكملها، و يرجع تاريخه إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي، استخدمه اليهود في الهجوم على المسيحية و تحقيرها و يسمى «سفر حياة يشوع» ( tsirhC fo efiL hsiweJ ehT ,suseJ fo noitareneG eht fo kooB :todloT rehpeS ) و يبدو أن الكتاب قد وقع في أيدي الكنيسة في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، و قد نشر الراهب الدومينيكي «ريموند مارتن» (1225- 1284 م) بعض من مقتطفات من «سفر حياة يسوع» دون ذكر اسمه في مقدمة كتابه «خنجر الإيمان أو سيف الدين» soeaduJ te soruaM susrevdA iediF oiguP, nitraM dnumyaR)، 1278) الذي نشره للدفاع عن الدين المسيحي ضد تحديات اليهود و أكاذيبهم المفتراة، ثم قام «مارتن لوثر» (1483- 1546 م) زعيم الإصلاح البروتستاني، بترجمة «سفر حياة يسوع» إلى الألمانية، كما نشره المستشرق الألماني «يوحنا كريستوني فاجنزايل»، فوضع النص اللاتيني مقابل النص العبري في مجموعته الشهيرة التي ضمت العديد من النصوص و الكتابات اليهودية التي تضمر العداء للمسيحية، ثم عكف على دحض كل ما فيها من تهجمات و افتراءات،, frodtlA eanataS aengI aleT, liesnegeW hpotsirhC nnshoJ) 1681) و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الكتاب الثالث- التوراة و التلمود- الاسكندرية 1979 ص 445- 451.

الْعالَمِينَ (1)، و هنا يجب أن نلاحظ أمرين: أحدهما: أن القرآن الكريم لم يذكر اسم أية امرأة، إلا مريم بنت عمران، أم المسيح عليهما السلام، و الهدف واضح هو ألا يكون في براءتها و طهرها أية ريبة لمستريب، و ثانيهما: أن القرآن الكريم قد أطلق اسمها على سورة من سوره، الأمر الذي لم يحدث لغيرها من النساء، و في حاشية الصاوي على الجلالين: قال بعض العلماء: إن الحكمة في أن اللّه لم يذكر في القرآن امرأة باسمها، إلا «مريم» هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس و لينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، و لهذا قال تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (2).

و يستمر السياق القرآني فيذكر مشهدا جديدا من القصة، يقول تعالى:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا، فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (3)، و لا يذكر السياق القرآني كيف حملت مريم وليدها المبارك، و لا كم حملته، و هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء، و تكون النفخة قد بعثت الحياة و النشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى باللحم و يستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز، فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط و النمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، و النفخة تكون قد أدت دور التلقيح فصارت البويضة سيرتها الطبيعية، كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة ألا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتنحصر المراحل اختصارا، و يعقبها تكوين

ص: 296


1- سورة آل عمران: آية 42، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 42- 44، تفسير الطبري 3/ 262- 264، تفسير ابن كثير 1/ 542- 544، تفسير النسفي 1/ 157- 158، تفسير روح المعاني 3/ 154- 156، تفسير القرطبي ص 1324- 1326، تيسير الكريم الرحمن 1/ 182، تفسير المنار 3/ 246- 247.
2- صفوة التفاسير 1/ 204.
3- سورة مريم: آية 22- 23.

الجنين و نموه و اكتماله في فترة وجيزة، ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين (1)، و من ثم فقد اختلف العلماء في مدة حمل مريم بعيسى على وجوه، الأول: قول ابن عباس أنها كانت تسعة أشهر، كما في سائر النساء بدليل أن اللّه تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع، فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر، و الثاني: أنها كانت ثمانية أشهر، و لم يعش مولود وضع لثمانية، إلا عيسى بن مريم عليه السلام، و الثالث: قول عطاء و أبي العالية و الضحاك سبعة أشهر، و الرابع: أنها كانت ستة أشهر، و الخامس: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، و صور في ساعة، و وضعته في ساعة، و السادس: قول آخر لابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة، ما هي إلا أن حملت فوضعت، و استدل عليه من وجهين، أولهما:

قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فَناداها مِنْ تَحْتِها، و الفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحدة من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل، و ذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة، لا يقال انتباذها مكانا قصيا كيف يحصل في ساعة واحدة، لأن السّدى فسرها بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها، و ثانيهما: أن اللّه تعالى قال في وصف عيسى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فثبت أن عيسى كما قاله اللّه تعالى: كُنْ فَيَكُونُ، و هذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، و إنما تعقل المدة في حق من يتولد من النطفة (2)، و أخيرا فإن «إليان» و أشياعه من النصارى إنما يذهبون إلى أن مريم لم تحبل بعيسى تسعة أشهر، و إنما مرّ في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، و خرجت من حيث يخرج الولد من

ص: 297


1- في ظلال القرآن 4/ 2306.
2- تفسير الفخر الرازي 21/ 202، تفسير روح المعاني 16/ 79- 80 و انظر: تفسير الطبري 16/ 65، تفسير النسفي 3/ 32، تفسير ابن كثير 3/ 188- 189، البداية و النهاية 2/ 65- 66، الكامل لابن الأثير 1/ 176.

ساعتها (1)، هذا و اختلفوا كذلك في سن مريم يوم حملت بالسيد المسيح، بين أن تكون بنت عشر سنين أو خمس عشرة أو سبع عشرة أو عشرين، و قيل أنها كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، و ليس في القرآن ما يدل على شي ء من هذه الأحوال (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد حملت مريم الطاهرة البتول بالمسيح، كلمة اللّه و روحه، ثم انتبذت به مكانا قصيا، و قد اختلف المفسرون في المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه، و أجاءها إليه المخاض، فقال بعضهم:

كان ذلك في أدنى أرض مصر، و آخر أرض الشام، و ذلك أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم (3)، على أن هناك رواية أخرى، و هي الأرجح، أنها ولدته في «بيت لحم» (4)، و يؤكده أن أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس، و البيهقي عن شداد بن أنس، أن ذلك كان في بيت لحم، و هو المشهور، و لا يشك النصارى أن المسيح ولد في بيت لحم (5)، و في مروج الذهب يقول المسعودي أن مولد المسيح كان في يوم الأربعاء (الثلاثاء عند اليعقوبي) لأربع و عشرين ليلة خلت من كانون الأول (ديسمبر) (6)، و قال ابن العميد، مؤرخ النصارى، فيما يروي عنه ابن

ص: 298


1- في ظلال القرآن 2/ 864.
2- تفسير الفخر الرازي 21/ 201، تفسير النسفي 3/ 32 مروج الذهب للمسعودي 1/ 76، الكامل لابن الأثير 1/ 175.
3- تفسير الطبري 16/ 64 (بيروت 1984).
4- بيت لحم: مدينة على مبعدة خمسة أميال جنوب القدس، و قد بنت الامبراطور «هيلانة» حوالي عام 330 م كنيسة هناك فوق المغارة التي يظن النصارى أن المسيح ولد فيها، و هي أقدم كنيسة مسيحية في العالم (قاموس الكتاب المقدس 1/ 205- 206 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M) 140 و لكن القرآن الكريم يذكر أنه ولد عند جذع نخلة (مريم آية 23) و من ثم فالصحيح أنه ولد عند جذع نخلة أو عند بيت لحم، و ليس في مغارة.
5- تفسير ابن كثير 3/ 189، تاريخ ابن خلدون 2/ 171، و انظر: إنجيل متى 2/ 1- 6، لوقا 2/ 4- 6.
6- مروج الذهب للمسعودي 1/ 76، تاريخ اليعقوبي 1/ 68.

خلدون، ولد المسيح لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا، عليهم السلام، و لإحدى و ثلاثين من دولة هيرودوس الأكبر، و لاثنتين و أربعين من ملك أو غسطس قيصر (1).

على أن المؤرخين المحدثين إنما يختلفون في تاريخ مولد السيد المسيح، و إن كان الخلاف محصورا في سنوات قلائل، فلقد كان مولد المسيح على أيام أول قياصرة روما «أوغسطس» (27 ق. م- 14 م)، و على أيام «هيرودوس الكبير» (37- 4 ق. م) حاكم اليهودية من قبل الحاكم الروماني «بيلاطس النبطي»، و على أيام «الحارث الرابع» (9 ق. م- 40 م) ملك الأنباط، هذا و يذهب البعض إلى أن السيد المسيح إنما قد ولد فيما بين عامي 6، 2 قبل الميلاد، بينما يذهب فريق ثان إلى أنه ولد عام 5 قبل الميلاد أو أوائل عام 4 قبل الميلاد، أما الاحتفال بمولده في 25 ديسمبر، فقد بدأ في القرن الرابع الميلادي، و من ثم فربما كان مولده في 25 ديسمبر عام 5 ق.

م، و هذا يجعله سابقا للتاريخ الذي وضعه «ديونيسيوس» في 25 ديسمبر عام 1 م، بخمس سنوات، على أن هناك فريقا رابعا يرى أن مولد المسيح كان في عام 4 م، و أنه رفع إلى السماء في عام 27 م، و ربما في 23 مارس عام 29 م، و هذا يجعله و كأنه عاش 23 سنة أو 25 سنة، مع أن المشهور أنه عاش ثلاثا و ثلاثين سنة، و أخيرا فهناك من يرى أن المسيح عليه السلام إنما بدأ دعوته، و قد ناهز الثلاثين من عمره في عهد الامبراطور «تيبريوس» (14- 37 م)، و كان حاكم اليهودية من قبل الرومان «هيرودوس أنتيباس» (6- 39 م) الابن الثاني لهيرودوس الكبير (2)

ص: 299


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 171.
2- ه. ج. ويلز: تاريخ العالم- القاهرة 1967 ص 172- 416 (مترجم)، فيلب حتى: المرجع السابق 1/ 311- 312، 263، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 359، 2/ 1145، و كذا., VIX, seitiuqitnA, suhpesoJ 4، 6، XV، 5، 3، 8،. 8, IIIX, I, raW hsiweJ ehT

هذا و قد يحدثنا العهد الجديد أن هيرودوس علم أن مجوسا من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم يسألون عن المولود ملك اليهود، و من ثم فقد جمع رؤساء الكهنة و سألهم أين يولد المسيح، فأخبروه أنه يولد في بيت لحم، و من ثم فقد أسرع الطاغية فأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم و في كل تخومها، من ابن سنتين فما دونها، و هنا رأي يوسف النجار، فيما يرى النائم، من يأمره بأن يأخذ الصبي و أمه (المسيح و مريم البتول) و أن يلجأ بهم إلى أرض الكنانة، حيث بقوا هناك إلى مات هيرودوس، ثم عادوا من مصر إلى اليهودية، و لكنهم لم يقيموا في بيت لحم و إنما أقاموا في الناصرة بأرض الجليل، خوفا على السيد المسيح من «أرخيلاوس» ابن هيرودوس و خليفته (1).

و أما مكان الولادة فكان، كما جاء في القرآن الكريم، عند جذع نخلة، قال تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ (2)، و قال الزمخشري في الكشاف: كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس و لا ثمر و لا خضرة، و كان الوقت شتاء، و التعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم و الصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس، فإذا قيل جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره، و إما أن يكون تعريف الجنس، أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة، كان اللّه قد أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء، و لأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد، و لا تثمر إلا عند اللقاح، و إذا قطعت رأسها تثمر، فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا مع اللقاح، ثم إني أظهر الرطب من غير لقاح، ليدل ذلك

ص: 300


1- متى 2/ 1- 23 و كذا. P, tic- po, regnU. M 471. و كذا. P, tic- po, htoR. C 109.
2- سورة مريم: آية 23.

على ظهور الولد من غير ذكر (1).

و على أية حال، فبينما كانت البتول الطاهرة تستند إلى جذع النخلة إبان الوضع: قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (2)، مع أنها كانت تعلم أن اللّه تعالى بعث جبريل إليها، و خلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام، و وعدها بأن يجعلها و ابنها آية للعالمين (3)، و إنما قالت ذلك استحياء من الناس و خوفا من لائمتهم، أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها، قال ابن كثير: في الآية دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى و تمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، و لا يصدقونها في خبرها، و بعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، و من ثم قالت و هي تطلق من الحبل استحياء من الناس، فيما يروي عن ابن عباس و السدى، يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، و الحزن بولادتي المولود من غير بعل، و هكذا تمنت الموت، و تمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه، نعم يكره تمنيه لضرر نزل بالإنسان من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، ففي صحيح مسلم و غيره، قال صلى اللّه عليه و سلم: لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي»، و من ظن أن تمنيها ذلك كان لشدة الوجع، فقد أساء الظن، و العياذ باللّه (4).

و في حدة الألم و غمرة الهول، تقع المفاجأة الكبرى فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ

ص: 301


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 203.
2- سورة مريم: آية 23.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 203.
4- تفسير ابن كثير 3/ 189، تفسير روح المعاني 16/ 81- 82.

عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (1)، و قد اختلف في المنادى على قولين، الأول أنه عيسى عليه السلام، و هو قول الحسن البصري و سعيد بن جبير، و استظهر أبو حيان كون المنادى عيسى، و الضمير لمريم، و الفاء فصيحة، أي فولدت غلاما فأنطقه اللّه تعالى حين الولادة، فنادها المولود من تحتها، و روى ذلك أيضا عن مجاهد و وهب و ابن جرير و ابن زيد، و الثاني أنه جبريل، و نقل في البحر عن الحسن أنه قال: ناداها جبريل و كان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها، و لعله إنما كان موقفه هناك إجلالا لها، و تحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال، و القول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، و يعضد الفخر الرازي القول الأول بأدلة منها: الأول أن قوله: فَناداها مِنْ تَحْتِها بفتح الميم، إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا، و الذي علم كونه حاصلا تحتها هو عيسي عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، و أما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادى جبريل عليه السلام، و الثاني: أن ذلك الموضع موضع اللوث و النظر إلى العورة، و ذلك لا يليق بالملائكة، و الثالث: أن قوله فناداها فعل، و لا بد أن يكون فاعله قد تقدم ذكره، و لقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل و عيسى عليهما السلام، إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ و الضمير هنا عائد إلى المسيح فحمله عليه أولى، و الرابع: هو دليل الإمام الحسن بن علي عليه السلام، أن عيسى لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام، فأما من قال إن المنادى هو عيسى عليه السلام، فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطيبا لقلبها و إزالة للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما

ص: 302


1- سورة مريم: آية 24- 26.

بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد، و من قال إن المنادى جبريل قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها بما تقدم من أصناف البشارات، و أولى القولين عند جمهرة المفسرين أن المنادى هو عيسى عليه السلام (1).

و أما السرى، فقد اتفق المفسرون، إلا الحسن البصري و عبد الرحمن بن زيد، أنه النهر و الجدول، سمي لأن الماء يسرى فيه، قال ذلك البراء بن عازب و ابن عباس و عمرو بن ميمون و قتادة و إبراهيم النخعي و ابن منبه، و اختاره الطبري، و روى عن ابن عباس أنه جدول من الأردن أجراه اللّه تعالى منه لما أصابها العطش، و روى أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا، و قيل فعل ذلك عيسى عليه السلام، و هو المروي عن أبي جعفر الباقر، رضي اللّه تعالى عنه، و قيل كان ذلك موجودا من قبل، إلا أن اللّه تعالى نبهها عليه، و الأرجح، عند صاحب الظلال، أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل، و عن الحسن و ابن زيد و الجبائي أن المراد بالسرى عيسى عليه السلام، و هو من السرو بمعنى الرفعة، كما قال الراغب، أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر، و روى أن الحسن البصري رجع عنه، فقد تلا هذه الآية، و بجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، فقال إن كان لسريا، و إن كان لكريما، فقال له حميد: يا أبا سعيد إنما هو الجدول، فقال له الحسن: من ثم تعجبنا مجالستك، و روى أن خالد بن صفوان قال له: إن العرب تسمي الجدول سريا، فقال له الحسن:

صدقت و رجع إلى قوله، و احتج من قال إنه النهر بوجهين، أحدهما: أن النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل عن السري، فقال هو الجدول، و ثانيهما: أن قوله تعالى:

ص: 303


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 204، تفسير روح المعاني 16/ 82، تفسير الطبري 16/ 68- 69، تفسير ابن كثير 3/ 190، تفسير النسفي 3/ 32، الكامل لابن الأثير 1/ 177.

فَكُلِي وَ اشْرَبِي يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب، فتأكل و تشرب (1).

و على أي حال، فإن اللّه تعالى أمرها أن تهز النخلة فتساقط عليها رطبا جنيا فتأكل منه، قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولا، و ذلك ليسكن ألمها و تعلم أن ذلك كرامة من اللّه، فَكُلِي وَ اشْرَبِي أي كلي من هذا الرطب الشهي، و اشربي من هذا الماء العذب السلسبيل (2)، و هكذا أعطاها اللّه تعالى طعاما و شرابا، و الطعام الحلو مناسب للنفساء، و الرطب و التمر من أجود طعام النفساء، و نحسبها قد دهشت طويلا، قبل أن تمديدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا، ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن اللّه لا يتركها، و إلى أن حجتها معها، هذا الطفل الذي ينطق في المهد، فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها (3).

و أتت الطاهرة البتول بوليدها المبارك تحمله: قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (4)، و هكذا بدأت ألسنة القوم بالتقريع و التأنيب، ثم سرعان ما تحولت إلى تهكم مرير، قائلين: يا شبيهة هارون في الصلاح و العبادة، ما كان أبوك رجلا فاجرا، و ما كانت أمك زانية، فكيف صدر هذا منك، و أنت من بيت طاهر معروف بالصلاح و العبادة، قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا في بني إسرائيل مشهورا بالصلاح فشبهوها به، و ليس بهارون أخي موسى،

ص: 304


1- تفسير روح المعاني 16/ 83، تفسير ابن كثير 3/ 190، تفسير الفخر الرازي 21/ 205، تفسير الطبري 16/ 69- 71، تفسير النسفي 3/ 32، في ظلال القرآن 4/ 2307.
2- صفوة التفاسير 2/ 214- 215.
3- في ظلال القرآن 4/ 2307.
4- سورة مريم: آية 27- 28.

عليهما السلام، لأن بينهما ما يزيد على ألف عام، و قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، و ليس بهارون بن عمران النبي، فإن بينهما دهرا طويلا، و من ثم فقد أخطأ كثيرا جدا من قال أنها أخت هارون النبي لأبيه و أمه، كما أنها أخت موسى عليه السلام، التي قصت أثره، و قد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني و بينه نبي»، و أخرج الإمام أحمد بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى نجران فقالوا: أ رأيت ما تقرءون «يا أخت هارون» و موسى قبل عيسى بكذا و كذا، قال فرجعت فذكرت ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: أ لا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء و الصالحين قبلهم» (1)، و عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن كعبا قال: إن قوله: «يا أخت هارون»، ليس بهارون أخي موسى، قال، فقالت له عائشة: كذبت، قال يا أم المؤمنين: إن كان النبي صلى اللّه عليه و سلم قاله فهو أعلم و أخبر، و إلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، قال:

«فسكتت» قال ابن كثير: و في هذا التاريخ نظر (2)، و هذا صحيح لأن ما بين موسى و عيسى عليهما السلام قرابة اثنين و عشرين قرنا.

و اشتد القوم على الطاهرة البتول: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (3)، قال السّدى: لما أشارت غضبوا و قالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها، قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، أي من هو موجود في مهده في حالة صباه و صغره، كيف يتكلم؟ قال الرازي في التفسير الكبير: روى أنه كان يرضع فلما سمع

ص: 305


1- تفسير روح المعاني 16/ 88، تفسير ابن كثير 3/ 193، تفسير الطبري 16/ 77- 78، مسند الإمام أحمد 4/ 252، صحيح مسلم 6/ 171، تحفة الأحوذي 5/ 601.
2- تفسير الطبري 16/ 77، تفسير ابن كثير 3/ 193.
3- سورة مريم: آية 29.

ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه و اتكأ على يساره و أشار بسبابته، و قيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان، و قيل إن زكريا عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى عليه السلام: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عيسى عند ذلك» (1)، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (2).

و هكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته للّه، فليس هو ابنه كما تدعى فرقة، و ليس هو إليها كما تدعي فرقة، و ليس هو ثالث ثلاثة، هم إله واحد، و هم ثلاثة، كما تدعي فرقة، و يعلن أن اللّه جعله نبيا، لا ولدا و لا شريكا، و بارك فيه، و أوصاه بالصلاة و الزكاة مدة حياته، و البر بوالدته و التواضع مع عشيرته، فله إذن حياة محدودة ذات أمد، و هو يموت و يبعث، و قد قدّر اللّه له السلام و الأمان و الطمأنينة يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا، و النص صريح هنا في موت عيسى و بعثه، و هو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة و لا جدالا (3).

ص: 306


1- تفسير ابن كثير 3/ 193، تفسير الفخر الرازي 21/ 208، تفسير روح المعاني 16/ 89.
2- سورة مريم: آية 30- 33.
3- في ظلال القرآن 4/ 2308.
الفصل الثّالث نبوّة المسيح و معجزاته
[1] نبوة المسيح:-

لم يذكر القرآن الكريم متى بدأت نبوة المسيح عليه السلام، و لا كيف كان ذلك، و لكن عبارات الإنجيل اتفقت على أن نبوته كانت على رأس ثلاثين من عمره، و على ذلك جرى المؤرخون و كثير من المفسرين، يقول الألوسي في تفسير روح المعاني: و اختلف في زمن رسالته عليه السلام، فقيل في الصبا و هو ابن ثلاث سنين، و في البحر: أن الوحي أتاه بعد البلوغ و هو ابن ثلاثين سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، قيل و ثلاثة أشهر و ثلاثة أيام، ثم رفع إلى السماء، و هو القول المشهور (1)، و في تفسير الطبري عن وهب بن منبه: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى اللّه إلى أمه، و هي بأرض مصر، و كانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر، أن اطلعى به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، و كانت نبوته بثلاث سنين، ثم رفعه اللّه إليه (2)، و يقول ابن الأثير في الكامل: أتت المسيح النبوة و الرسالة و عمره ثلاثون سنة، و ظل رسولا سنتين، إذ رفع إلى السماء، و هو ابن اثنتين و ثلاثين سنة و أياما، و يقول

ص: 307


1- تفسير روح المعاني 3/ 167.
2- تفسير الطبري 3/ 278.

علماء التوحيد إن النبوة تكون على رأس الأربعين من العمر، أما عيسى عليه السلام فقد نبى ء على رأس الثلاثين، و هذه خصوصية له عليه السلام، لأنه قد رفع إلى السماء قبل أن يبلغ سن الأربعين (1)، و يذهب الدكتور الطيب النجار إلى أنه لا بأس من ذلك، أي أن نبوة المسيح كانت على رأس الثلاثين، فإن سن الأربعين ليست شرطا لتحديد بدء نبوة الأنبياء، فلقد أوتي يحيى عليه السلام العلم و الحكمة و هو صبي و بدأت نبوته قبل أن يبلغ الثلاثين (2).

على أن الدكتور الشريف إنما يحدد ابتداء نبوة المسيح من منطوق الآيات (29- 33 من سورة مريم) يقول تعالى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا، وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (3)، و ظاهر الآيات الكريمة إنما يفيد أن المسيح نبئ و هو في المهد، و لا غرابة في ذلك، فالقرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا عليهما السلام:

وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، هذا فضلا عن اعتراف المسيح في الآية (30 مريم) و هو ما يزال في المهد، بأن اللّه جعله نبيا و آتاه الكتاب، و التعبير بصيغة الماضي في (آتاني و جعلني)، كل ذلك يرجح أنه بعث في المهد و هو صبي صغير، و لا حاجة بنا بعدئذ لأن نجاري البعض الذين قالوا إن المسيح نبئ على رأس الثلاثين، و لا برهان لهم على هذا، إلا من تكلف من

ص: 308


1- محمد علي الصابوني: المرجع السابق، ص 198، محمد بن الشريف: الأديان في القرآن، جده 1979، ص 157، ابن الأثير 1/ 179.
2- محمد الطيب النجار: المرجع السابق، ص 278.
3- سورة مريم: آية 29- 33، و انظر تفسير الطبري 16/ 78- 82، تفسير ابن كثير 3/ 191- 194، تفسير الفخر الرازي 21/ 207- 216، تفسير روح المعاني 16/ 88- 91) تفسير النسفي 3/ 34- 35. في ظلال القرآن 4/ 2308، تفسير القرطبي ص 4140- 4144.

تمحلات لغوية، و لا أن نقول كما قال بعض علماء التوحيد إن الرسالة لا تكون إلا بعد الأربعين، و لا غرو فنحن أمام شخصية جعلها الإعداد الإلهي، و الإعجاز الإلهي لا تسير على سنن العادة، فعيسى مخلوق غير عادي في مولده و في مبعثه و في مماته (1)، عليه صلوات اللّه و سلامه.

و جاء في تفسير النسفي: روى عن الحسن أنه كان في المهد نبيّا و كلامه معجزته، و قيل إن معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد (2)، و يقول الفخر الرازي: إن قوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا يدل على أن ذلك قد حصل من قبل، إما ملاصقا لذلك الكلام أو متقدما عليه بأزمان، و الظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه اللّه الكتاب و جعله نبيّا، بالصلاة و الزكاة و أن يدعو إلي اللّه تعالى و إلى دينه و إلى ما خص به من الشريعة، فقيل هذا الوحي نزل عليه و هو في بطن أمه، و قيل لما انفصل من الأم آتاه اللّه الكتاب و النبوة، و أنه تكلم مع أمه و أخبرها بحاله و أخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها، فلهذا أشارت إليه بالكلام، ثم يرد الإمام الرازي على من قال إنه نبي، و لكنه ما كان رسولا، لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة، و معنى كونه نبيّا أنه رفيع القدر على الدرجة، فيقول إن هذا ضعيف، لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصّه اللّه بالنبوة و بالرسالة، خصوصا إذا قرن إليه ذكر الشرع، و هو قوله و أوصاني بالصلاة و الزكاة (3).

و أما دليل نبوة المسيح في القرآن الكريم، فقوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ، وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ (4) و قوله

ص: 309


1- محمود بن الشريف: الأديان في القرآن ص 157- 158.
2- تفسير النسفي 3/ 34.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 214.
4- سورة آل عمران: آية 48- 49، و انظر: تفسير الطبري 3/ 273- 275، تفسير الفخر الرازي 8/ 53- 54، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير ابن كثير 1/ 545- 546، تفسير روح المعاني 3/ 166- 167، تفسير الظلال 1/ 399- 400، تفسير المنار 3/ 249- 256، تفسير القرطبي ص 1335- 1337.

تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

هذا و من المعروف أن دعوة المسيح عليه السلام، شأنها في ذلك شأن دعوات كل الرسل الكرام قبل بعثة سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، إنما هي دعوة خاصة إلى بني إسرائيل، كما جاء في القرآن الكريم (2)، و كما يقول الإنجيل على لسان المسيح «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (3)، و من ثم فقد اتجه السيد المسيح عليه السلام بدعوته إلى بني إسرائيل يبغي من ورائها هداية خراف بيت إسرائيل الضالة، و أما الذي عمم الدعوة فهم تلاميذ المسيح، أو بالأحرى، فقد عممها «بولس» الذي زعم أن المسيح تراءى له، و جعله تلميذا له، مع أنه لم يره، و ذلك بعد تكرارها على بني إسرائيل، و لجاجتهم في الإعراض عنها، و من ثم فقد وجهت إلى كل مستمع لها، مقبل عليها، و قال لهم: إن العاملين بالخير هم ذرية إبراهيم الخليل، أقرب و أوفي ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة، لأنهم أبناؤه بالروح (4)، و مع ذلك تبقى دعوة المسيح في صميمها، دعوة خاصة، و أما الدعوة العامة فهي دعوة سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذي أرسل إلى الناس كافة بشيرا و نذيرا، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً

ص: 310


1- سورة الصف: آية 6.
2- سورة آل عمران: آية 48- 49، الصف: آية 6.
3- متى 15/ 24.
4- متى 15/ 23- 28، عباس العقاد: مطلع النور ص 96، محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة ص 61- 62.

وَ نَذِيراً (1)، و يقول: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (2)، و يقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (3) هذا فضلا عن أن المسيح عيسى بن مريم إنما هو واحد من أولى العزم الخمسة، خيار ولد آدم قاطبة، و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و قد ذكروا في القرآن الكريم تخصيصا من بين الأنبياء جميعا في آيتين، الأولى قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (4)، و الثانية:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (5).

[2] معجزات المسيح:-
اشارة

لا ريب في أن مولد المسيح معجزة، و حياته معجزة، و وفاته معجزة، فعيسى عليه السلام، كما قلنا، غير عادي في مولده و في مبعثه و في مماته، فأما مولده، فلقد شاء اللّه، بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة، أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا، طريق التقاء ذكر و أنثى، و اجتماع بويضة و خلية تذكير، فيتم الإخصاب، و يتم الإنسال، و البويضة حية غير ميتة، و الخلية حية كذلك متحركة، و مضى مألوف الناس على هذه القاعدة، حتى

ص: 311


1- سورة سبأ: آية 28.
2- سورة النساء: آية 79.
3- سورة الأعراف: آية 158 و انظر: سورة إبراهيم: آية 1، 52، الحج: آية 49، الفرقان آية 1، الأحزاب: آية 40، ص؛ آية 87.
4- سورة الأحزاب: آية 7.
5- سورة الشورى: آية 13، و انظر تفسير الطبري 25/ 14- 16، تفسير القرطبي 16/ 9- 12 (الغالب 1967)، تفسير البيضاوي 2/ 354- 355، تفسير روح المعاني 25/ 21- 22، تفسير الفخر الرازي 27/ 154، تفسير الكشاف 3/ 463- 464، تفسير الرحمن في تفسير كلام المنان 7/ 96- 97 (مكة المكرمة 1398 ه).

شاء اللّه تعالى أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان، فينشئه نشأة قريبة و شبيهة بالنشأة الأولى، و إن لم تكن مثلها تماما، أنثى فقط تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء، فتنشأ فيها الحياة (1)، و هكذا جاء عيسى بن مريم إلى هذه الدنيا بطريقة أشبه بتلك التي جاء بها آدم عليه السلام، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2).

صحيح أن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف الناس، و لكنه صحيح كذلك أنه لا غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر، و أهل الكتاب الذين يناظرون و يجادلون حول عيسى بسبب مولده، و يصوغون حوله الأوهام و الأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب، أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، و أن النفخة من روح اللّه هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، و دون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي ولد به عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا و ذاك، و إن هي إلا الكلمة «كن» تنشئ ما تراد له النشأة «فيكون» و هكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة، حقيقة عيسى و حقيقة آدم و حقيقة الخلق كله، و تدخل إلى النفس في يسر، و في وضوح، حتى ليعجب الإنسان، كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، و هو جار وفق السنة الكبرى، سنة الخلق و النشأة جميعا (3).

ص: 312


1- في ظلال القرآن 1/ 398.
2- سورة آل عمران: آية 59، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 74- 76، تفسير الطبري 3/ 295- 297، تفسير ابن كثير 1/ 550- 552، تفسير النسفي 1/ 160- 161، تفسير روح المعاني 3/ 186- 187.
3- في ظلال القرآن 1/ 404- 405.

و أما معجزات المسيح عليه السلام، فقد جاءت في عدة آيات من آي الذكر الحكيم (1)، نذكر منها (أولا) أن اللّه تعالى يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، فأما «الكتاب» فقد يراد به الكتابة، و كان عليه السلام أحسن الناس خطا في زمانه (2)، و قد يكون هو التوراة و الإنجيل، و أما «الحكمة» فهي حالة في النفس يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها و إدراك الصواب و اتباعه، و هي خير كثير (3)، أو هي السنة التي يوحيها اللّه إليه في غير كتاب، و أما «التوراة»، فهو الكتاب الذي أنزله اللّه على موسى عليه السلام، و أما «الإنجيل» فهو الكتاب الذي أنزله اللّه على عيسى عليه السلام، و قد كان عيسى يحفظ هذا و ذاك (4).

و لعل مما تجدر الإشارة إليه أن التوراة إنما كانت كتاب عيسى كالإنجيل، فهي أساس الدين الذي جاء به، و الإنجيل تكملة و إحياء لروح التوراة، و لروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل، و هذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، و هي قاعدة دين المسيح عليه السلام، و فيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع، و لم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل (5)، و من ثم فإن اللّه تعالى يقول على لسان المسيح: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (6)، يقول ابن كثير: و فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة، و هو الصحيح،

ص: 313


1- أنظر: سورة آل عمران: آية 47- 50، المائدة: آية 110- 115، مريم: آية 29- 33.
2- تفسير النسفي 1/ 158.
3- تفسير الظلال 1/ 399.
4- تفسير ابن كثير 1/ 546.
5- في ظلال القرآن 1/ 399.
6- سورة آل عمران: آية 50.

و قد قال بعض العلماء: لم ينسخ منها شيئا، و إنما أحل لهم بعض ما كان يتنازعون فيه خطأ و انكشف لهم عن الغطاء في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ (1)، و يقول الطبري: إن عيسى كان مؤمنا بالتوراة مقرابها، و أنها من عند اللّه (2)، و كذلك الأنبياء كلهم يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب اللّه و رسله، و إن اختلفت بعض شرائع أحكامهم لمخالفة اللّه بينهم في ذلك، مع أن عيسى كان، فيما بلغنا، عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها، إلا ما خفف اللّه عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددا عليهم فيها (3)، و جاء في التفسير الكبير عن وهب بن منبه: أن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام، كان يقرر السبت و يستقبل بيت المقدس، ثم إنه فسر قوله: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بأمرين، أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند

ص: 314


1- تفسير ابن كثير 1/ 546.
2- نرى لزاما علينا أن نبيّن هنا: أن التوراة التي كان عيسى عليه السلام مؤمنا بها مقرا بما فيها، إنما هي التوراة التي أنزلها اللّه على موسى عليه السلام، فيها هدى و نور، فهي تقرر وحدانية اللّه تعالى و تنزيهه عن كل مظاهر النقص، و التي ترتكز على الاعتراف باليوم الآخر، و الإيمان بما فيه من ثواب و عقاب و جنة و نار، و التي تضمنت عظات و أفكار و شريعة لبني إسرائيل يحكم بها أبناؤهم، و التي تقرر عصمة هؤلاء الأنبياء، غير أن هذه التوراة الأصلية ببنودها و نصوصها و تعاليمها، لا وجود لها بهذه الصورة الإلهية في التوراة المتداولة اليوم، فلقد امتدت إليها يد أثيمة من أحبار يهود فحرفت و بدلت، ثم كتبت سواها بما يتلاءم مع يهود، و يتواءم مع مخططاتهم، ثم زعموا بعد كل هذا، أنها التوراة التي أنزلها اللّه تعالى على موسى عليه السلام: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، هذا فضلا عن أن توراة موسى شي ء، و العهد القديم شي ء آخر، فالتوراة لا تعدو خمسة أسفار من أسفار العهد القديم، البالغ عددها 39 سفرا، عند البروتستانت، و أكثر من ذلك بسبعة أسفار، عند الكاثوليك، فضلا عن أسفار الأبوكريفا، و الأسفار المفقودة أو الخفية (قدم المؤلف دراسة مفصلة عن التوراة: أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 1- 379- الاسكندرية 1979).
3- تفسير الطبري 3/ 281.

أنفسهم شرائع باطلة و نسبوها إلى موسى، فجاء عيسى و رفعها و أبطلها، و أعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام، و ثانيهما: أن اللّه تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، ثم بقي هذا التحريم حتى جاء عيسى عليه السلام، و رفع تلك التشديدات عنهم، و قال آخرون: إن عيسى رفع كثيرا من أحكام التوراة، و لم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه، و رفع السبت و وضع الأحد قائما مقامه، و كان محقا في كل ما عمل لأن الناسخ و المنسوخ كلاهما حق و صدق (1).

و من ثم فإن قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، إنما يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة، فالتوراة التي تنزلت على موسى، و هي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، و ملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام و جاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم اللّه عليهم، و كان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص و انحرافات، أدبهم اللّه عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم، ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم (2)، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام، و كان فيما حرم عليهم فيما جاء به موسى، لحوم الإبل و الثروب فأحلها لهم على لسان عيسى،

ص: 315


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 59.
2- في ظلال القرآن 1/ 400.

و حرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، و في أشياء من السمك و في أشياء من الطير، مما لا صيصة له، و في أشياء أخرى حرمها عليهم و شدد عليهم فيها، فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، و هذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة، و أن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، و لا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة، فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول، لا رفع و إبطال (1).

هذا و قد جاء في إنجيل متى، على لسان السيد المسيح، «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس و الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء و الأرض لا يزول حرف أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (2) و ليس هناك من شك في أن التصديق بالكتب السابقة يعني أن الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة و تذكير بها، فلا تبدل معنى و لا تغير حكما، و إنما الواقع غير ذلك، فقد جاء الإنجيل بتغيير بعض أحكام التوراة، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل، و لكن يجب أن يفهم أن هذا و ذاك لم يكن من المتأخرة نقصا للمتقدم، و لا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها، و إنما كان وقوفا عند وقتها المناسب، و أجلها المقدر (3)، و من هنا كان قول سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» (4).

و هكذا يمكن القول أن الإنجيل إنما كان نفحة إحياء و تجديد لروح الدين، و تهذيب لضمير الإنسان، بوصلة مباشرة باللّه من وراء النصوص،

ص: 316


1- تفسير روح المعاني 3/ 171، تفسير الطبري 1/ 282.
2- إنجيل 5/ 17- 18.
3- محمد عبد اللّه دزار: الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان- القاهرة 1969 ص 185- 186.
4- عبد الحليم محمود: دلائل النبوة و معجزات الرسول- القاهرة 1974 ص 462.

هذا الإحياء و هذا التهذيب، هما اللذان جاء بهما المسيح و جاهد لهما حتى مكرت يهود به عليه السلام (1).

و منها (ثانيا) أن اللّه تعالى جعله يكلم الناس في المهد و كهلا: فأما المهد فهو حجر الأم أو مضجع الصبي وقت الرضاع، و المراد أن المسيح عليه السلام يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد، و لا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد، و أما الكهل في اللغة فهو ما اجتمع قوته و كمل شبابه، و هو مأخوذ من قول العرب: اكتهل النبات إذا قوي (2)، و المراد أن المسيح يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالة الطفولة و حالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل، و يستنبأ فيها الأنبياء، و أما كلامه في المهد (3)، فدلالة على براءة أمه مما قذفه بها المفترون، و حجة على نبوته، قال ابن عباس: كان كلامه في ).

ص: 317


1- في ظلال القرآن 1/ 399.
2- نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثا و ثلاثين و ستة أشهر، و على هذا فهو ما بلغ الكهولة، و الجواب من وجهين، الأول: أن الكهل في أصل اللغة هو الكامل التام، و أكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين و الأربعين، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت، و الثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي: أن المراد بقوله: «كهلا» أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، و يكلم الناس و يقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل: و في هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة و السلام سينزل إلى الأرض، و من ثم فقد ذهب سعيد بن المسيب و زيد بن أسلم و غيرهما أنه عليه السلام رفع إلى السماء، و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و أنه سينزل إلى الأرض و يبقى حيّا فيها أربعا و عشرين سنة، كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار، و يؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد كلمهم عيسى في المهد، و سيكلمهم إذا قتل الدجال و هو يومئذ كهل (تفسير الفخر الرازي 8/ 52، تفسير روح المعاني 3/ 164، تفسير الطبري 3/ 272- 273، تفسير القرطبي ص 1332- 1334، تفسير المنار 3/ 252- 255).
3- روى ابن إسحاق عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى و صاحب جريح»، و في رواية أخرى قال صلى اللّه عليه و سلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى و صبي كان في زمن جريح و صبي آخر» (تفسير ابن كثير 1/ 545).

المهد ساعة واحدة بما قصى اللّه تعالى لنا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام، على أن ابن الأخشيد إنما يذهب إلى أنه كان يتكلم دائما، و كان كلامه فيه تأسيسا لنبوته، و إرهاصا لها، و عليه يكون قوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا إخبارا عما يؤول إليه، و قال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك و أوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة و جوّز أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها و براءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، و أما كلامه في الكهولة فقد ذكر، رغم أنه غير معجز، لأسباب منها بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة، و التغيير على اللّه تعالى محال، و المراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلها، و منها أن يكلم الناس في المهد مرة واحدة لإظهار براءة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي و النبوة، و منها أنه يكلم الناس حال كونه في المهد و كهلا على حد واحد، و صفة واحدة، و ذلك لا شك أنه في غاية المعجز، و منها أن المراد أنه سيبلغ الكهولة (1).

بقيت الإشارة إلى أن النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، محتجين بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور و أغربها، و بأنه لو حدث لشهده الجمع العظيم الذي يحصل القطع و اليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد و الاثنين لا يجوز، و متى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد و أن تتوافر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر، و إخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع، كما أن الإخفاء ممتنع لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها، و من كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه و فضائله، بل ربما

ص: 318


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 51- 52، تفسير الطبري 3/ 271- 273، تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير الكشاف 1/ 278، تفسير روح المعاني 3/ 162- 164.

يجعل الواحد ألفا، فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان النصارى أولى الناس بمعرفتها، و لما أطبقوا على إنكارها، علمنا أنه ما كان موجود البتة.

ورد المتكلمون عليهم بأن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم عليها السلام من الفاحشة، و كان الحاضرون جمعا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعا قليلا، و لا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، و بتقدير أن يذكروا ذلك، إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك و ينسبونهم إلى البهت، فهم أيضا سكتوا لهذه العلة، فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر اللّه تعالى نبيّه محمد صلى اللّه عليه و سلم بذلك، و أيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب، رضي اللّه تعالى عنه: لما قرأ علي النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، و بين المذكور في هذا الكلام، بذرة (1).

و منها (ثالثا) شفاء المرضى و إبراء الأكمة و إحياء الموتى و الإخبار عن بعض المغيبات، قال تعالى، على لسان المسيح: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2)، و لعل من الأهمية بمكان، و قبل الحديث عن هذه الخوارق المعجزة، الإشارة إلى أنه في هذه الآية (آل عمران 49) و في آية المائدة (110) أن النص القرآني الكريم يذكر، على لسان المسيح، أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند اللّه تعالى، كما حرص النص على ذكر

ص: 319


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 52- 53، تفسير روح المعاني 3/ 163.
2- سورة آل عمران: آية 49.

اللّه بكل واحدة منها تفصيلا و تحديدا، و لم يدع القول يتم حتى يذكر في نهايته إذن اللّه زيادة في الاحتياط، و هذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أوردها، أورد العافية و هي فرع عن الحياة، و رؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية، و هي في صميمها تتسق مع مولد عيسى و منهج الوجود و الحياة على غير مثال، إلا مثال آدم عليه السلام، و إذا كان اللّه قادرا على أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال، و لا حاجة إذن لكل الشبهات و الأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص، متى رد الأمر إلى مشيئة اللّه الطليقة، و لم يقيد الإنسان اللّه، سبحانه و تعالى، بمألوف الإنسان (1).

و أما هذه المعجزات التي جاءت في هذه الآية و في غيرها فهي:-
أولا: كان المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه تعالى:-

و المراد بالخلق هنا، فيما يرى صاحب روح المعاني، التصوير و الإبراز على مقدار معين، لا الإيجاد من العدم، و المعنى أنني أقدر، لأجل تحصيل إيمانكم و دفع تكذيبكم إياي، أن اجعل من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته، فأنفخ فيه فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور، و في تفسير النسفي أي أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير، أي في ذلك الشي ء المماثل لهيئة الطير، فيصير طيرا كسائر الطيور، و في التفسير الكبير:

أي أقدر و أصور، فالخلق هو التقدير و التصوير، و ذلك لأن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين و الإبداع، فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير و التسوية، و هكذا كان المسيح عليه السلام يصور من الطين شكل، طير، ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن اللّه عز و جل، الذي جعل هذا معجزة له، تدل على أنه تعالى

ص: 320


1- في ظلال القرآن 1/ 399.

أرسله، و من ثم فقد جوّز بعض المفسرين أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية بحيث متى نفخ في شي ء، كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشي ء حيا، أو يقال ليس الأمر كذلك، بل اللّه تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخه عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، و هذا القول الثاني هو الحق لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ، و حكى عن إبراهيم عليه السلام إنه قال في مناظرته مع الملك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ، فلو حصل لغيره هذه الصفة، لبطل ذلك الاستدلال.

و أظهر المعجزات أنهم أخذوا يتعنتون عليه و طالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا و صوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء و الأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ثم اختلف الناس فقال قوم لم يخلق غير الخفاش، و قال آخرون: إنه خلق أنواعا من الطير (1).

ثانيا: إبراء الأكمة و الأبرص بإذن اللّه تعالى:-

و قد اختلف العلماء في معنى الأكمة، فمن قائل إنه الذي ولد أعمى، و كما روى عن ابن عباس و قتادة: كنا نتحدث أن الأكمة الذي ولد و هو أعمى مضموم العينين، و قال الخليل و غيره: هو الذي عمى بعد أن كان بصيرا، و أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس: أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره، و لم يخلق له حدقة، قيل: و لم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى، غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير، و عن

ص: 321


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 56، تفسير روح المعاني 3/ 168، تفسير النسفي 1/ 159، تفسير ابن كثير 1/ 546، تفسير الطبري 3/ 275، الكامل لابن الأثير 1/ 179، تفسير القرطبي ص 1335- 1336، تفسير المنار 3/ 255- 257.

مجاهد: الأكمة هو الذي يبصر بالنهار و لا يبصر بالليل، فهو يتكمه، و عن عكرمة أنه الأعمش، و أما الأبرص فهو الذي به الوضع المعروف، يقول الإمام الطبري: و إنما أخبر اللّه تعالى عن عيسى عليه السلام أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجا منه بهذه العبر و الآيات عليهم في نبوته، و ذلك أن الأكمة و الأبرص لا علاج لهما، فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله إنه للّه رسول لأنه من المعجزات مع سائر الآيات التي أعطاه اللّه إياها دلالة على نبوته، و أما ما قاله عكرمة من أن الكمه هو العمش، و ما قاله مجاهد من أنه سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما، لأن اللّه لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها، و لو كان ما احتج به عيسى على بني إسرائيل في نبوته أنه يبرئ الأعمش أو الذي يبصر بالنهار و لا يبصر بالليل لقد روا على معارضته بحجة أن فيهم خلقا يعالجون ذلك، و ليسوا للّه أنبياء و رسلا، هذا و زعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، و من لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، و إنما كان يداويهم بالدعاء إلى اللّه (1).

ثالثا: إحياء الموتى بإذن اللّه:-

قيد اللّه الإحياء بالإذن، كما فعل في المعجزات السابقة، لأنه خارق عظيم يكاد يتوهّم منه ألوهية فاعلة، لأنه ليس من جنس أفعال البشر، و كان إحياء عيسى الموتى بدعاء اللّه، يدعو لهم فتستجاب له، قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات، بيا حي يا قيوم، و أحيا عازر و كان صديقا له، و دعا سام بن نوح من قبره فخرج حيا، و مرّ على ابن ميت لعجوز فدعا اللّه فنزل عن سريره حيا، و رجع إلى أهله و ولد له (2).

ص: 322


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 57، تفسير روح المعاني 3/ 169، تفسير الطبري 3/ 277- 278.
2- تفسير روح المعاني 3/ 169، تفسير الفخر الرازي 8/ 57.
رابعا: إخبار القوم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم:-

و قد اختلف العلماء في وقت هذا الإخبار على قولين، أحدهما: أنه عليه السلام كان يخبر عن الغيوب من أول أمره، أخرج ابن عساكر عن عبد اللّه بن عمر و بن العاصي، و كذا روى عن السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم و أمهاتهم، و كان يخبر الصبي بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله و يبكي إلى أن يأخذ ذلك الشي ء، ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر، و جمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا له: ليسوا في البيت، فقال فمن في البيت، قالوا خنازير، قال عيسى كذلك يكونون، فإذا هم خنازير، و أما القول الثاني:

فإن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، و ذلك لأن القوم نهوا عن الإخبار، فكانوا يحزنون و يدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم، و قد أيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق و غيره عن عمار بن ياسر في الآية أنه قال:

وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من المائدة و ما تدخرون منها، و كان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا و لا يدخروا، فادخروا و خانوا، فجعلوا قردة و خنازير (1).

و بدهي أن الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، ذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخبر لا يمكنهم ذلك، إلا عن سؤال تتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآله و يتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة و لا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من اللّه تعالى، و هذا هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب و إخبارهم عنها، و بين علم سائر المتكذبة على اللّه أو المدعية علم ذلك، ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً

ص: 323


1- تفسير روح المعاني 3/ 170، تفسير الفخر الرازي 8/ 57.

لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يعني بذلك السيد المسيح: إن في خلقي من الطين الطير بإذن اللّه، و في إبرائي الأكمه و الأبرص، و إحيائي الموتى، و إنبائي إياكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم، ابتداء من غير حساب و لا تنجيم، و لا كهانة و لا عرافة، لعبرة لكم، و متفكرا تتفكرون في ذلك، فتعتبرون به أني محق في قولي لكم: إني رسول من ربكم إليكم، و تعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر اللّه و نهيه، صادق، إن كنتم مؤمنين، يعني إن كنتم مصدقين حجج اللّه و آياته مقرنين بتوحيده و نبيه موسى، و التوراة التي جاءكم بها (1).

ص: 324


1- تفسير الطبري 3/ 281، تفسير الفخر الرازي 8/ 58، تفسير القرطبي ص 1337.
الفصل الرّابع دعوى تأليه المسيح و صلبه
اشارة

ليس هناك من ريب في أن الخلاف الأساسي و الأصيل بين المسلمين و المسيحيين حول السيد المسيح عليه السلام، إنما يدور حول دعوى النصارى بألوهية المسيح و صلبه.

[1] دعوى التأليه:-

يعرض القرآن الكريم أكثر من مرة لعبودية المسيح للّه تعالى، و أنه عبد اللّه و رسوله، و كفاه فخرا بهذه العبودية للّه تعالى، كما اعتبر القرآن من ألهوا المسيح كفارا، و من ثم فإنه يؤكد كثيرا أن عيسى بن مريم بشر، و أنه رسول من اللّه، مؤيد بكتاب إلهي، و بوحي سماوي، و أنه نادى بعقيدة التوحيد، فدعا إلى عبادة اللّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد، و يذهب صاحب الظلال (1) إلى أن عقيدة التوحيد عاشت بعد المسيح عليه السلام في تلامذته و في أتباعهم، و أحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت، و هو إنجيل «برنابا» يتحدث عن عيسى عليه السلام بوصفه رسولا من عند اللّه، ثم وقعت بينهم الاختلافات، فمن قائل: إن المسيح رسول من عند اللّه كسائر الرسل، و من قائل: إنه رسول نعم، و لكن له باللّه صلة خاصة، و من قائل: إنه ابن اللّه لأنه خلق من غير أب، و لكنه على هذا

ص: 325


1- في ظلال القرآن 2/ 864- 865.

مخلوق للّه، و من قائل: إنه ابن اللّه، و ليس مخلوقا، بل له صفة القدم كالأب.

و لتصفية هذه الخلافات عقد «مجمع نيقية» عام 325 م الذي اجتمع فيه ثمانية و أربعون ألفا من البطارقة و الأساقفة، و قد اختار المجمع مقالة من كانوا يقولون بألوهية المسيح، و هي مقالة «بولس الرسول» و مقالة الثلاثمائة و ثمانية عشر أسقفا، و قد اختار الإمبراطور الروماني «قسطنطين» (306- 337 م) (1) هذا الرأي و سلط أصحابه على مخالفيهم و شرد أصحاب سائر المذاهب، خاصة القائلين بألوهية الأب وحده، و ناسوتية المسيح، و قد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار: إن الجامعة المقدسة و الكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن اللّه موجودا فيه، و أنه لم يوجد قبل أن يولد، و أنه وجد من لا شي ء، أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر اللّه الأب، و كل من يؤمن أنه مخلوق أو من يقول إنه قابل للتغيير و يعتريه ظل دوران»، و لكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع «آريوس» و قد غلبت على القسطنطينية و أنطاكية و بابل و الاسكندرية و مصر.

ثم سار خلاف جديد حول «روح القدس» فقال بعضهم هو «إله» و قال آخرون ليس بإله، فاجتمع مجمع القسطنطينية الأول عام 381 م، و فيه تقررت ألوهية روح القدس، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية عام

ص: 326


1- يذهب البعض إلى أن قسطنطين لم يعترف بالمسيحية كديانة رسمية فحسب، بل إنه هو نفسه اعتنق المسيحية في عام 312 م، بينما يذهب آخرون إلى أنه بقي وثنيا طوال حياته، و لم يتقبل النصرانية إلا على فراش المرض، و قد بنت أمه «هيلانة» كنيسة القيامة في القدس عام 326 م نتيجة اعتقاد خاطئ أن جثمان المسيح دفن في مكان هذه الكنيسة ثم رفع إلى السماء (عمر كمال توفيق: تاريخ الامبراطورية البيزنطية ص 29، فيلب حتى: المرجع السابق ص 387 ثم قارن. hC, XI, KB, suilesuE 2، 9. و كذا 4. hC. I. KB, sunemozoS

325 م، و تم الثالوث من الأب و الابن و الروح القدس.

ثم ثار خلاف آخر حول طبيعة المسيح الإلهية و طبيعته الإنسانية، أو اللاهوت و الناسوت كما يقولون، فقد رأى «نسطور» بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما و طبيعة، فأقنوم الألوهية من الأب و تنسب إليه، و طبيعة الإنسان و قد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان في المسيح، و ليست أم الإله، و يقول في المسيح الذي ظهر بين الناس و خاطبهم، كما نقله عنه ابن البطريرق، ثم يقول: «إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته، بل هو إنسان مملوء من البركة و النعمة، أو هو ملهم من اللّه، فلم يرتكب خطئة و ما أتى أمرا إدّا»، و خالفه في هذا الرأي أسقف روما و بطريرك الاسكندرية و أساقفة أنطاكية فاتفقوا على عقد مجمع رابع، و انعقد مجمع «أفسس» عام 431 م، و قرر: «أن مريم العذراء والدة اللّه، و أن المسيح إله حق و إنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم»، و لعنوا نسطور.

ثم خرجت كنيسة الاسكندرية برأي جديد، انعقد له «مجمع أفسس الثاني» الذي قرر «أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت و الناسوت»، و لكن هذا الرأي لم يسلم، و استمرت الخلافات الحادة، فاجتمع مجمع «خلقدونية» عام 451 م، و قرر: «أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة، و أن اللاهوت طبيعة وحدها، و الناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح»، و لعنوا مجمع أفسس الثاني، و لم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع، و وقعت بين المذهب المصري «المنوفيسية» و المذهب «الملوكاني» الذي تبنته الدولة البيزنطية ما وقع من الخلافات الدامية (1). ).

ص: 327


1- في ظلال القرآن 2/ 864- 866، محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية ص 127- 149 (القاهرة 1966).

و ظل الأمر كذلك حتى بعث اللّه تعالى خاتم النبيين و سيد المرسلين سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم بالرسالة العامة، و نزل القرآن الكريم ليبّين للناس أن النصارى على فرق ثلاثة في عقيدتهم في المسيح، عبد اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل ففرقه تزعم أنه اللّه، و أخرى تؤمن بعقيدة التثليث، و ثالثة تزعم أنه ابن اللّه.

1- تزعم الفرقة الأولى أنه اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، و أن اللّه تعالى تجسم و تجسد في صورة يسوع المسيح و نزل إلى الأرض ليخلص الناس من آثامهم، و إلى هذا الفريق يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (1)، و يقول تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (2)، و يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (3)، و يقول تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (4).

و هكذا يفرق القرآن الكريم بين ذات اللّه تعالى و طبيعته و مشيئته و سلطانه، و بين ذات عيسى، عليه السلام، و كذا ذات أمه، و كل ذات أخرى، في نصاعة قاطعة حاسمة، فذات اللّه، سبحانه و تعالى، واحدة،

ص: 328


1- سورة المائدة: آية 72.
2- سورة المائدة: آية 75.
3- سورة المائدة: آية 17.
4- سورة النساء: آية 172.

و مشيئته مطلقة، و سلطانه متفرد، و لا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه، إن أراد أن يهلك المسيح و أمه و من في الأرض جميعا، و هو سبحانه و تعالى، مالك كل شي ء، و خالق كل شي ء، و الخالق غير المخلوق، و كل شي ء مخلوق: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، و كذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية، و وضوحها و بساطتها، و تزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات و التصورات و الأساطير و الوثنيات و المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب، و تبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية في تقرير حقيقة الألوهية، و حقيقة العبودية، و الفصل التام الحاسم بين الحقيقتين، بلا غبش و لا شبهة و لا غموض (1).

2- يز عم الفريق الثاني أن اللّه ثالث ثلاثة: و هذا الفريق هو الذي يعتقد بعقيدة التثليث، و هي عقيدة تزخر بمزاعم و أضاليل و أباطيل، فهي تزعم أن اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، ثالث ثلاثة (2)، و أنه ثلاثة أصول (أقانيم) متساوية: اللّه الأب و اللّه الابن، و اللّه الروح القدس، فالمسيح عيسى ابن مريم إله، و هو ابن إله، و في الوقت نفسه هو بشر و إله، هو لاهوت و ناسوت، هو اللّه و ابن اللّه، و أصل من الأصول الثلاثة المكونة للّه، و يصدر القرآن الكريم حكمه في هذه العقيدة، فيحكم بكفر من اعتنقها و اعتقد ).

ص: 329


1- في ظلال القرآن 2/ 866.
2- يحكي المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، أب و ابن و روح القدس، و هذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص و الشعاع و الحرارة، و عنوا بالأب الذات، و بالابن الكلمة، و بالروح الحياة، و أثبتوا الذات و الكلمة و الحياة، و قالوا: إن الكلمة التي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر، و اختلاط الماء باللبن، و زعموا أن الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و الكل واحد، و اعلم إن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحدا، و الواحد لا يكون ثلاثة (تفسير الفخر الرازي 12/ 60).

فيها (1)، يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)، و يقول تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ، وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3).

و قال الزجاج: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، و ذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون: إن اللّه و المسيح و مريم ثلاثة آلهة، و الدليل عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (4)، و قال الفراء: و لا تقولوا هم ثلاثة كقوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ، و ذلك لأن ذكر عيسى و مريم مع اللّه تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين، و بالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة و بعدا عن العقل من مذهب النصارى، ثم قال اللّه تعالى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، ثم أكد التوحيد بقوله: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ، ثم نزه اللّه تعالى نفسه عن الولد بقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (5).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القرآن الكريم إنما يقرن لفظ المسيح أو عيسى بكلمة: ابْنَ مَرْيَمَ ليقرع آذان النصارى بأنه «ابن مريم»، و ليس «ابن اللّه»، كما ينبه القرآن الكريم المسيحيين إلى أن

ص: 330


1- محمد بن الشريف: المرجع السابق ص 190.
2- سورة المائدة: آية 73.
3- سورة النساء: آية 171.
4- سورة المائدة: آية 116.
5- تفسير الفخر الرازي 11/ 115- 116.

المسيح و أمه كانا يأكلان الطعام، يقول تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (1)، و من البيّن أن الذي يأكل الطعام فيتحول في جسمه دما و لحما و عظما، و ينضح عرقا، و يخرج فضلة لو بقيت في الجسم لأضرته، من الواضح أن كائنا من هذا النمط لا يمكن إلا أن يكون بشرا خاضعا لكل قوانين البشر التي لا تؤدي إلى نقص في مرتبته كرسول (2)، و يقول الفخر الرازي اعلم أن المقصود من قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ الاستدلال على فساد قول النصارى، و بيانه من وجوه، الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، و كل من كان كذلك كان مخلوقا، لا إلها، و الثاني: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، و الإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون (المحتاج) إلها، و الثالث أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، و هذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، و الرابع: أن الإله هو القادر على الخلق و الإيجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام و الشراب، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه، كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين، و بالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل (3).

و أما قوله تعالى: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (4)، فهذا، كما يقول الفخر الرازي، دليل آخر على فساد قول النصارى، و هو يحتمل أنواعا من الحجة، الأول: أن اليهود كانوا يعادونه و يقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، و كان أنصاره و صحابته

ص: 331


1- سورة المائدة: آية 75.
2- عبد الحليم محمود: التفكير الفلسفي في الإسلام- القاهرة 1964 ص 74.
3- تفسير الفخر الرازي 12/ 61.
4- سورة المائدة: آية 76.

يحبونه، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، و العاجز عن الإضرار و النفع، كيف يعقل أن يكون إلها، و الثاني أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه و مزقوا أضلاعه، و لما عطش و طلب الماء منهم، صبوا الخل في منخريه، و من كان في الضعف هكذا، كيف يعقل أن يكون إلها، و الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، و يكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة اللّه تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله، و لما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات و العبادات، علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع و دفع المضار إلى غيره، و من كان كذلك، كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد و دفع المضار عنهم، و إذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، و هذا هو عين الدليل الذي حكاه اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام، حيث قال لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (1).

ثم إن الإله موجود، واجب الوجود لذاته، و يجب ألا يكون جسما و لا متحيزا و لا عرضا، و عيسى عليه السلام عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما، و قتل بعد أن كان حيا على قول النصارى، و كان طفلا أولا ثم صار مترعرعا ثم صار شابا، و كان يأكل و يشرب و يحدث و ينام و يستيقظ، و قد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما، و المحتاج لا يكون غنيا، و الممكن لا يكون دائما، كما أن النصارى يقولون بأن اليهود أخذوه و صلبوه و تركوه حيا على الخشبة، و قد مزقوا ضلعه، و أنه كان يحتال في الهرب منهم، و في الاختفاء عنهم، و حين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد (2)، فإذا كان إلها أو أن الإله كان حالا فيه، ».

ص: 332


1- تفسير الفخر الرازي 12/ 62.
2- جاء في إنجيل متى (27/ 46- 50) «و صرح يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لما ذا تركتني، فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا إنه ينادي إيليا، و للوقت ركض واحد منهم و أخذ اسفنجة و ملأها خلا، و جعلها على قصبة و سقاه، و أما الباقون فقالوا: اترك لنرى هل يأتي إيليا يخلصه، فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم و أسلم الروح».

أو كان جزءا من الإله حال فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ و لم لم يهلكهم بالكلية؟ و أي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم، و الاحتيال في الفرار منهم؟

كما يظهر بطلان القول بألوهية المسيح مما ثبت بالتواتر من أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة و الطاعة للّه تعالى، و لو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه، ثم لو كان المسيح حقا إلها، و قد قتله اليهود و صلبوه، فهذا يعني أن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله، ثم إن اليهود إنما هم أشد الناس ذلا و دناءة، و من ثم فإن الإله الذي تقتله اليهود إنما هو إله فى غاية العجز (1).

هذا و يسجل القرآن الكريم أن دعوة المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، إنما كانت إلى التوحيد الكامل يقول تعالى: وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (2) و قال تعالى: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3).

ص: 333


1- تفسير الفخر الرازي/ 78- 79.
2- سورة المائدة: آية 72.
3- سورة المائدة: آية 116- 117، و انظر: تفسير روح المعاني 7/ 64- 70، تفسير ابن كثير 2/ 192- 195، تفسير الفخر الرازي 12/ 133- 137، تفسير النسفي 1/ 310- 311، تفسير البحر المحيط 4/ 58- 59.

و يقول الألوسي (1): استشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها، و أجيب عنه بأجوبة، الأول: أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلها، ألزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر «إلهين» على طريق الإلزام لهم، و الثاني: أنهم لما عظموها تعظم الإله أطلق عليها اسم الإله (2)، كما أطلق اسم الرب على الأحبار و الرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كما أنهم عظموهم تعظيم الرب، و الثالث:

أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك (3).

و أيا ما كان الأمر، فإن النصوص القرآنية ستظل أبد الدهر، بما تحمل من قول المسيح، أو اعترافه، إن جاز هذا التعبير، بأنه بشر يتبرأ من دعوى الألوهية، و ينفي ما لصقه به المنحرفون و المخرفون من أتباعه و أشياعه، و بأن علمه محدود، و أجله محدود، و أنه عبد اللّه و رسوله، لا يبلغ إلا ما أمر اللّه مولاه أن يبلغه، و كذا بما تحمل من دلائل على جوهر المسيحية، الحقة، و نقائها، ستظل مسجلة على أهل التثليث غلوهم و كفرهم، و لعلهم، إن كانوا أتباع المسيح حقا، أن يثوبوا إلى عقيدته الحقة (4)، و أن يؤمنوا بما بشر به، سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما أنزل عليه، فقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى اللّه عليه و سلم: «و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، و لا يؤمن بي إلا دخل النار» (5).

و من عجب أن أناجيل النصارى إنما تشير إلى غير ما يزعمون، فهناك ).

ص: 334


1- تفسير روح المعاني 7/ 65.
2- انظر: تفسير الفخر الرازي 12/ 134.
3- أنظر: ديتلف نلسن و آخرون: التاريخ العربي القديم ص 242- 243.
4- محمود بن الشريف: المرجع السابق ص 192.
5- صحيح مسلم 1/ 367 (القاهرة 1971).

نصوص تشير إلى عبودية المسيح (1) للّه تعالى و إلى رسالته (2) و إلى وحدانية اللّه (3)، و إلى إنسانية المسيح و أمه، و إلى أنه ابن الإنسان (تعني ابن مريم) و ليس ابن اللّه كما يزعمون (4).

و لعل سائلا يتساءل: من أين جاءت عقيدة التثليث هذه لديانة المسيح التوحيدية؟ و الجواب أن ذلك إنما كان من تأثير الديانات الوثنية التي كانت شائعة وقت ذاك في الشرق الأدنى القديم، و ربما المصرية بصفة خاصة، و التي شاعت فيها عقائد التثليث، حتى كان لكل مدينة ثالوثها الخاص بها، و المكون من الإله الأب، و الإله الأم، و الإله الابن، فمثلا ثالوث طيبة (الأقصر الحالية) يتكون من الإله آمون (الأب) و الإلهة موت (الأم) و الإله خونسو (الابن)، و في مدينة منف (ميت رهينة بمركز البدرشين بمحافظة الجيزة) يتكون الثالوث من الإله «بتاح» (الأب) و الإلهة سمخت (الأم) و الإله نفرتوم (الابن)، و في اليفانتين (جزيرة أسوان) يتكون الثالوث من الإله خنوم و عنقت و ساتت، هذا فضلا عن ثالوث أوزير المشهور، حيث يمثل أوزير الإله الأب، و تمثل إيزة الإلهة الأم، و يمثل حور الإله الابن (5).

ص: 335


1- يوحنا 20/ 17.
2- يوحنا 14/ 24.
3- متى 23/ 9، 22، مرقس 12/ 28- 33، حيث يقول: «فجاء واحد من الكتبة و سمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، و تحب الرب إلهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك و من كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، و ثانية مثلها: هي تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين، فقال له الكاتب جيدا يا معلم، بالحق قلت لأنه اللّه واحد، و ليس آخر سواه، و محبته من كل القلب و من كل الفهم و من كل النفس، و من كل القدرة، و محبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات و الذبائح».
4- متى 1/ 1- 17، 8/ 20، 13/ 37، 26/ 64، يوحنا 1/ 51، 17/ 3.
5- أنظر: محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية القديمة- الاسكندرية 1984 ص 243- 361.

و الأمر كذلك بالنسبة إلى بلاد الرافدين (العراق القديم) و سورية و فينيقيا، فضلا عن بلاد العرب، حيث نرى اللات و العزى و مناة الثالثة في الشمال، و حيث سادت في الجنوب عبادة ثالوث من الكواكب هي القمر و الشمس و الزهرة، و يمثل القمر في هذا الثالوث دور الأب، و تمثل الشمس دور الأم، بينما كانت الزهرة تمثل دور الابن، و لم يكن بنو إسرائيل بعيدين عن عقيدة التثليث هذه، فقد وجد عندهم ثالوث (يهوه و بعل و عشتارت)، و قد كان هذا الثالوث يقدس عند العبرانيين في عصر الملوك بين جميع أفراد الشعب (1)، و إن كانت عبادة «بعل» على أيام الملك الإسرائيلي «أخاب» (869- 850 ق. م) معاصر النبي «إيليا»، و هو إلياس عليه السلام فيما نرجح (2)، أوضح من غيرها (3)، و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة الصافات (4)، و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أننا نجد عند بني إسرائيل تلك الظاهرة العربية، أعني أن الشمس كان ينظر إليها كإلهة أم و مؤنثة، كما في زواج «يهوه» رب يهود الشمس، و في جميع الحالات ترد الشمس كإلهة مؤنثة، بينما ترد الزهرة (عشثر) مذكرة (5)، و كان العربانيون يعظمون بعلا كثيرا، حتى حمل كثير منهم اسم «بعل» كجزء من أسمائهم مثل «إيشبعل» و «مريبعل» و «يربعل» و «بعلزكار» و «بعلاة» (6)، كما تقبلوا «كيموش» كإله للقوم، و كذا «بلزيوب» إله عقرون، و ملكوم إله عمون و غيرهم (7)، و رغم

ص: 336


1- ديتلف نالسن: المرجع السابق ص 236.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 910- 916.
3- ملوك أول 16/ 30- 34.
4- سورة الصافات: آية 122- 128.
5- ديتلف نلسن: المرجع السابق ص 236، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 21- 22.
6- أخبار أيام أول 8/ 33- 34، 9/ 39- 40، أخبار أيام ثان 14/ 7، 27/ 28، قضاة 6/ 32، 7/ 1، 8/ 9، 9/ 1، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 24- 25، 32- 33، و كذا., RTH, noyL. G D 143- 136. p، 1911.
7- قضاة 11/ 24، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 25.

أن البعض حاول أن يفسر ذلك على أنه نوع من النزعة الانفصالية التي كانت تتملك نفوس القوم من الناحيتين السياسية و الاقتصادية و التي أدت إلى ما يمكن أن يسمى استقلالا دينيا (1)، إلا أن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئا، و هو أنه شرك محض، و انطلاقا من هذا، و كما يقول أنجنل، فإن الوحدانية التي كان يدركها الإسرائيليون في ذلك الزمن إنما كانت وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب (2).

و هكذا لم يمض القرن الأول الميلادي حتى كانت ديانة المسيح، و هي ديانة توحيدية في أصلها و جوهرها، لا تختلف كثيرا عن ديانات الشرق القديم الوثنية، بل إنها لم تعد ديانة توحيدية، و إنما غدت ديانة متعددة الآلهة، فالمسيح و أمه كانا يقدسان فيها ككائنين إلهيين، و نافست الديانات المنتشرة وقت ذاك في عقيدة التثليث (3).

3- يزعم الفريق الثالث من النصارى أن المسيح إنما هو ابن اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)، و يقول تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (5)، و إذا كان النصارى يعجبون من أمر عيسى لأنه ولد بدون أب، فأمر آدم عليه السلام أعجب، لأنه خلق بدون أب و بدون أم، فالذي خلق آدم من تراب و قال له كن فيكون، هو

ص: 337


1- ول ديورانت: قصة الحضارة- الجزء الثاني من المجلد الأول- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 243.
2- عباس محمود العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء دار الهلال- ص 122.
3- ديتلف نلسن: المرجع السابق ص 242- 243.
4- سورة التوبة: آية 30.
5- سورة النساء: آية 171.

الذي خلق عيسى من غير أب، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (1)، و قد أجمع المفسرون أن آية آل عمران (59) نزلت عند حضور وفد نجران على سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و كان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه (أي عيسى) لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو اللّه تعالى، فقال صلى اللّه عليه و سلم: إن آدم ما كان له أب و لا أم، و لم يلزم أن يكون ابنا للّه تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، و أيضا إذا جاز أن يخلق اللّه تعالى آدم من التراب، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم، بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم، أقرب من تولده من التراب اليابس (2).

و أخرج في الدلائل بسنده عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، منهم السيد، و هو الكبير، و العاقب، و هو الذي يكون بعده و صاحب رأيهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسلما، قالا أسلمنا قال ما أسلمتما، قالا بلى قد أسلمنا قبلك، قال كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، و أكلكما الخنزير، و زعمكما أن للّه ولدا، و نزل «إن مثل عيسى» الآية، فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، و نزل «فمن حاجك» الآية، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن اللّه تعالى قد أمرني، إن لم تقبلوا هذا، أن أباهلكم، فقالوا يا أبا

ص: 338


1- سورة آل عمران: آية 59- 61، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 74، تفسير النسفي 1/ 160- 162، تفسير روح المعاني 3/ 186- 193، تفسير الطبري 3/ 295- 298، تفسير ابن كثير 1/ 550- 555، في ظلال القرآن 1/ 404- 406، تفسير المنار.
2- صفوة التفاسير 1/ 206- 207.

القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض و تصادقوا فيما بينهم، قال السيد للعاقب: قد و اللّه علمتم أن الرجل نبي مرسل، و لئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم، و ما لاعن قوم نبيّا قط، فبقي كبيرهم و لا نبت صغيرهم، فإن أنتم لم تتبعوه و أبيتم، إلا إلف دينكم، فوادعوه و ارجعوا إلى بلادكم، و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج و معه علي و الحسن و الحسين و فاطمة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن أنا دعوت فأمنوا أنتم، فأبوا أن يلاعنوه و صالحوه على الجزية»، و روي أن أسقف نجران لما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقبلا، و معه علي و الحسنان و فاطمة، رضي اللّه عنهم، قال: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها، لو سألوا اللّه تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا و تهلكوا»، و في التفسير الكبير أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج و عليه مرط من شعر أسود، و كان قد احتضن الحسين، و أخذ بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و علي رضي اللّه عنه، خلفها، و هو يقول:

«إذا دعوت فأمنوا، قال أسقف نجران: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة» (1).

و لا ريب أن هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى اللّه عليه و سلم، قال أبو حيان في البحر: و في ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته صلى اللّه عليه و سلم (2)، كما أن في دلالتها على فضل آل اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم، أي أهل البيت، مما لا يمتري فيها مؤمن (3)، كما تدل على أن الحسن و الحسين عليهما السلام كانا ابني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن و الحسين، فوجب أن يكونوا أبنية، و مما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة

ص: 339


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 80، تفسير روح المعاني 3/ 188- 189.
2- تفسير البحر المحيط 2/ 480.
3- تفسير روح المعاني 3/ 189.

الأنعام: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ... إلى قوله وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى و معلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم، لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ولدا، و كذا ما روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي اللّه عنه، فأدخله، ثم جاء الحسين رضي اللّه عنه، فأدخله، ثم فاطمة ثم علي رضي اللّه عنهما، ثم قال:

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، و اعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير و الحديث (1).

هذا و قد استدل الشيعة بقصة المباهلة هذه على أولوية الإمام علي كرم اللّه وجهه بالخلافة، بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بناء على رواية مجى ء علي كرم اللّه تعالى وجهه، مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و وجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن و الحسين و بنسائنا فاطمة، و بأنفسنا الأمير، و إذا صار نفس الرسول، و ظاهران المعنى الحقيقي مستحيل، تعني أن يكون المراد المساواة، و من كان مساويا للنبي صلى اللّه عليه و سلم فهو أفضل و أولى بالتصرف من غيره، و لا معنى للخلافة إلا ذلك (2)، و هكذا كان سائر الشيعة قديما و حديثا يستدلون بهذه الآية (آل عمران آية 61) على أن عليا رضي اللّه عنه، مثل نفس محمد صلى اللّه عليه و سلم، إلا فيما خصه اللّه بالنبوة، و كان نفس محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل من الصحابة رضوان اللّه عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضا من سائر الصحابة (3).

[2] دعوى الصلب:-

تمثل عقيدة الصلب عند النصارى (4) موضوع الخلاف الثاني بينهم

ص: 340


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 80.
2- تفسير روح المعاني 3/ 189.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 81.
4- أنظر القصة بالتفصيل (إنجيل متى 26/ 1- 28/ 20، إنجيل مرقس 14/ 1- 16/ 20، إنجيل لوقا 22/ 1- 24/ 53، إنجيل يوحنا 18/ 1- 21/ 25).

و بين المسلمين بشأن المسيح عليه السلام، فالقرآن الكريم إنما ينفي قصة صلب المسيح و قتله تماما، قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ، وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (1)، و قال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (2)، هذا و قد كشف إنجيل برنابا هذه الأسطورة، فجاء فيه، على لسان المسيح، «فلما كان الناس دعوني اللّه و ابن اللّه، على أني كنت بريئا في العالم، أراد اللّه أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، و سيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول اللّه، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة اللّه».

و هذا النص يشير إلى أمرين، الواحد: أن الذي صلب إنما هو «يهوذا الإسخريوطي»، الذي خان السيد المسيح و دل عليه أعداءه حين قبله، و لذا نطق المسيح بمثله المشهور «يا يهوذا أ بقبلة تسلم ابن الإنسان» (3)، و أن المسيح عليه السلام لم يحاكم و لم يصلب و لم يرقد في قبر، و لم يقم من بين

ص: 341


1- سورة النساء: آية 157- 158، و انظر: تفسير الطبري 6/ 12- 18، صفوة التفاسير 1/ 316، تفسير البيضاوي 1/ 141- 142، تفسير ابن كثير 1/ 872- 889، التسهيل لعلوم التنزيل 1/ 163، في ظلال القرآن 2/ 801- 803، تفسير روح المعاني 6/ 10- 13، تفسير النسفي 1/ 261- 263.
2- سورة آل عمران: آية 55، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 67- 70، تفسير ابن كثير 1/ 548، في ظلال القرآن 1/ 403- 404، تفسير الطبري 3/ 289- 293، تفسير روح المعاني 3/ 179- 184، تفسير النسفي 1/ 160.
3- أنظر: إنجيل لوقا 22/ 1- 71.

الأموات، كما يدعي النصارى، و إنما كانت الواقعة تدور في فلك يهوذا الأسخريوطي، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، الذي أراد اللّه له تنكيلا جزاء خيانته، و رفع نبيه المسيح إليه، و من ثم فالذي صلب، كما حققه برنابا، أحد الحواريين، إنما هو يهوذا، شبيه المسيح، و ليس المسيح ذاته (1)، و أما الأمر الثاني، فهو نبوءة المسيح بالنبي الخاتم، سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم و أنه هو الذي سيكشف خدعة الصلب للمؤمنين بشريعة اللّه و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورتي آل عمران (55) و النساء (157- 158) (2).

و أما الإسلام فيقرر في وضوح و تأكيد، كما أشرنا آنفا، أن المسيح لم يقتل و لم يصلب، و إنما رفعه اللّه إليه، قال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، و قد اختلف علماء المسلمين في معنى الوفاة و الرفع و التطهير، و قد ساق الأستاذ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» عدة آراء لعديد من المفسرين بلغت تسعا (3)، ثم اختار منها أوجهها إليه، و هو أن المراد في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هو أني مستوف أجلك و مميتك حتف أنفك، لا أسلط عليك من يقتلك، و أن الآية كناية عن عصمته من الأعداء، ثم تساءل: أين مكان عيسى، و ما الذي آل إليه أمره؟

و أجاب عن ذلك: أن اللّه تعالى أبهم أمره علينا و لم يقصه، فنحن نفوض العلم بذلك إلى اللّه تعالى، فليكن أنه أماته في الأرض، أو أنامه كما أنام أهل الكهف، أو أصعده إلى السماء، لا نقطع بشي ء من هذه الأشياء بعينه، ).

ص: 342


1- انظر: بعض الروايات العربية عن الموضوع (تفسير ابن كثير 1/ 873- 876).
2- إبراهيم خليل أحمد: محمد صلى اللّه عليه و سلم في التوراة و الإنجيل و القرآن- الطبعة الخامسة- القاهرة 1983 ص 218- 220.
3- هذه الأوجه هي: (1) المعنى رافعك إلي و متوفيك و أن الكلام فيه تقديم و تأخير. (2) المراد أني مستوفيك أجلك و مميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك، فالكلام كتابة عن عصمته من الأعداء، و ما هم بصدده من الفتك به عليه السلام، لأنه يلزم من استيفاء اللّه أجله موته حتف أنفه.(3) المراد قابضك و مستوف شخصك من الأرض و من توفي المال بمعنى استوفاه و قبضه. (4) المراد بالوفاة هنا النوم، لأن النوم و الوفاة، يطلق على كل منهما على الآخر، و قد روي عن الربيع أن اللّه تعالى رفع عيسى عليه السلام و هم نائم رفقا. (5) أجلك كالمتوفي لأنه بالرفع أشبه. (6) المراد آخذك وافيا بروحك و بدنك فيكون وَ رافِعُكَ إِلَيَّ كالمفسر لما قبله. (7) المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن اتصاله بالملكوت. (8) أن المراد مستقبل عملك! قال الألوسي: لا يخلو أكثر هذه الأوجه من بعد، و لا سيما الأخير. (9) أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى اللّه عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، و في رواية للحاكم عنه: أنه توفاه سبع ساعات ثم أحياه (عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 423).

بل نبهمه كما أبهمه اللّه تعالى، و من أراد أن يقطع فعليه دليل ما قطع به، و تفويض العلم إلى اللّه تعالى أسلم في العاقبة، و أكثر احتياطا للدين، فليس بهين أن يشهد المرء على اللّه بأمر لم يشهد به على نفسه، و ليس عنده عليه سلطان مبين (1).

و يقول صاحب الظلال: لقد أراد اليهود صلب عيسى عليه السلام و قتله، و أراد اللّه أن يتوفاه، و أن يرفعه إليه، و أن يطهره من مخالفة الذين كفروا و البقاء بينهم، و هم رجس و دنس، إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فأما كيف كانت وفاته، و كيف كان رفعه، فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه، و لا طائل وراء البحث فيها، لا في عقيدة و لا في شريعة، و الذين يجرون وراءها، و يجعلونها مادة للجدل ينتهي بهم الحال إلى المراء و إلى التخليط و إلى التعقيد، دونما جزم بحقيقة، و دون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم اللّه (2).

و على أي حال، و كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير

ص: 343


1- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 423.
2- في ظلال القرآن 1/ 403.

المنار، فإن للعلماء هنا طريقتين، إحداهما، و هي المشهورة، أنه رفع بجسمه حيّا، و أنه سينزل في آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعة محمد صلى اللّه عليه و سلم ثم يتوفاه اللّه تعالى (1)، و يقول الفخر الرازي: معنى قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، و مقربك بملائكتي، و أصونك عن أن يتمكنوا من قتلك، و هذا تأويل حسن، و هناك وجه آخر في تأويل الآية هو: أن الواو في قوله:

مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ تفيد الترتيب، فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، و متى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، و قد ثبت الدليل أنه حي، و ورد الخبر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أنه سينزل و يقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك (2).

و أما الطريقة الثانية، فيما يرى الأستاذ الإمام، فهي أن الآية على ظاهرها، و أن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه و هو «الإماتة العادية» و أن الرفع يكون بعده، و هو رفع الروح (3)، يقول الفخر الرازي: إني «متوفيك» أي مميتك، و هو مروي عن ابن العباس و محمد بن إسحاق، قالوا:

و المقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتلة، ثم أنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه، أحدها: قال وهب توفي ثلاث ساعات، ثم رفع، و أخرج الحاكم عنه أن اللّه تعالى توفي عيسى سبع ساعات ثم أحياه، و أن مريم حملت به و لها ثلاث عشرة سنة و أنه رفع و هو ابن ثلاث و ثلاثين، و أن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، و ثانيها: قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات (و هو قول لوهب كما رأينا) ثم أحياه اللّه و رفعه، و ثالثها، قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال

ص: 344


1- تفسير المنار 3/ 260.
2- تفسير الفخر الرازي 8/ 67.
3- تفسير المنار 3/ 260.

تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (1)، و روى عن الربيع أيضا و عن الحسن أن اللّه تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، و هو نائم، رفقا به (2).

و هكذا وجد عندنا رأيان، الأول، و هو رأي الجمهور، و يذهب إلى أن المسيح عليه السلام رفع إلى السماء حيا، بجسده و روحه، و أنه الآن ما يزال حيا يرزق عند ربه، و في رفعه إلى أي سماء خلاف، و الذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة، و عن ابن عباس، رضي اللّه تعالى عنهما، أنه رفع إلى السماء الدنيا، فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه اللّه تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس (3)، و يستدل الذي ينادون بأن المسيح رفع حيا إلى السماء بآيتي سورة النساء (157- 158) الآنفتي الذكر، و كذا بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (4)، فهي تفيد أن عيسى سينزل آخر الزمان، و إذا نزل آمن به كل من كان موجودا حينئذ من أهل الكتاب لأنه سينزل ليحكم بشريعة محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و يقول الإمام القرطبي في تفسيره: إن الضمير يعود على عيسى عليه السلام، أي قبل موت عيسى، ثم يذكر رواية عن يزيد بن زريع عن الحسن البصري يقول فيها: «و اللّه إنه لحي الآن عند اللّه، و لكن إذا نزل آمن به أجمعون» (5)، و روى ابن أبي

ص: 345


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 67، تفسير روح المعاني 3/ 179.
2- تفسير روح المعاني 3/ 179.
3- تفسير روح المعاني 3/ 182.
4- سورة النساء: آية 159، و انظر: تفسير الطبري 6/ 18- 23، تفسير ابن كثير 1/ 876- 878، تفسير النسفي 1/ 162- 163، تفسير روح المعاني 6/ 12- 13، في ظلال القرآن 2/ 802- 803.
5- تفسير القرطبي ص 2007- 2008.

حاتم عن جويرية بن بشير، قال: سمعت رجلا قال للحسن يا أبا سعيد، قول اللّه تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، قال: قبل موت عيسى، إن اللّه رفع إليه عيسى، و هو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر و الفاجر، و كذا قال قتادة، و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، و غير واحد (1).

و يقول الإمام الطبري في التفسير: أن أولى الأقوال بالصحة قول من قال إنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به (أي عيسى) قبل موت عيسى عليه السلام، و لا شك أن الذي قاله ابن جرير، فيما يرى ابن كثير، هو الصحيح، لأن المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى و صلبه، و تسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر اللّه تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، و إنما شبّه لهم، فقتلوا الشبه و هم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، و إنه باق حي، و إنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الظلالة و يكسر الصليب، و يقتل الخنزير، و يضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، و لا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، و لهذا قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى عليه السلام، الذي زعم اليهود و من وافقهم من النصارى أنه قتل و صلب (2).

و أما الأحاديث الشريفة المتواترة (3) بذلك، فمنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «و الذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، ).

ص: 346


1- تفسير ابن كثير 1/ 877.
2- تفسير الطبري 6/ 21، تفسير ابن كثير 1/ 878.
3- أنظر: تفسير ابن كثير 1/ 879- 889 (بيروت 1986).

فيكسر الصليب و يقتل الخنزير، و يضع الجزية، و يفيض المال حتى لا يقبله أحد، و حتى تكون السجدة خير له من الدنيا و ما فيها»، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (1).

و كذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني و عبد بن حميد (2)، كلاهما عن يعقوب به، و أخرجه البخاري و مسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري به، و أخرجاه من طريق الليث عن الزهري به (3)، و روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «ليهلن عيسى بن مريم بفج الروحاء بالحج أو العمرة أو ليثنيهما جميعا» (4)، و كذا رواه مسلم منفردا به من حديث سفيان بن عيية و الليث بن سعد و يونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزهري به (5)، و روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«ينزل عيسى بن مريم، فيقتل الخنزير و يمحو الصليب، و تجمع له الصلاة، و يعطى المال حتى لا يقبل، و يضع الخراج، و ينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعها»، قال و تلا أبو هريرة: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية (6)، و أخرج البخاري عن ابن شهاب عن نافع مولي أبي قادة الأنصاري أن أبا هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم و إمامكم منكم» (7)، و روى عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «و ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا،

ص: 347


1- صحيح البخاري 4/ 205.
2- صحيح مسلم 1/ 93، صحيح البخاري 3/ 178.
3- صحيح البخاري 3/ 107، صحيح مسلم 1/ 93.
4- مسند الإمام أحمد 2/ 513.
5- صحيح مسلم 4/ 60.
6- مسند الإمام أحمد 2/ 260.
7- صحيح البخاري 4/ 250، و رواة أيضا الإمام أحمد و مسلم.

فيقول لا، إن بعضهم أمير بعض تكرمة اللّه لهذه الأمة» (1).

هذا و يستدل القائلون بنزول عيسى قبل يوم القيامة أيضا بآية الزخرف: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (2)، و فيها قراءتان الأولى: «و إنه لعلم للساعة» بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها، و القراءة الثانية: «و إنه لعلم للساعة» بمعنى أمارة و علامة، و كلاهما قريب من قريب (3)، و هذه القراءة الأخيرة (بفتح العين و اللام) قرأ بها ابن عباس و قتادة الأعمش، و المعنى أمارة و علامة على اقتراب الساعة، قال ابن عباس في قوله: «و إنه لعلم للساعة» هو خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة»، رواه الإمام أحمد و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه هو و الذهبي، و قد رواه ابن حبان في صحيحه، و قال مجاهد: «و إنه لعلم للساعة»، أي آية للساعة خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، و هكذا روى عن أبي هريرة و ابن عباس و أبي العالية و أبي مالك و عكرمة و الحسن البصري و قتادة و الضحاك و غيرهم (4).

و هكذا تستدل جمهرة العلماء من آيات القرآن و من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان (5)، و ما قاله ابن عباس و أبو هريرة و غيرهما من السلف في تفسير آيتي النساء (159) و الزخرف ).

ص: 348


1- حمود بن عبد العزيز التجري: إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي و الدجال و نزول المسيح في آخر الزمان- مجلة البحوث الإسلامية- العدد 13- شوال 1405 ص 109.
2- سورة الزخرف: آية 61.
3- في ظلال القرآن 5/ 3198.
4- تفسير ابن كثير 4/ 201، حمود التويجري: المرجع السابق ص 105.
5- جاء في نزول عيسى عليه السلام أكثر من خمسين حديثا مرفوعا أكثرها من الصحاح، و الباقي غالبه من الحسان، فمن زعم أنها كلها مزيفة، فلا شك أنه فاسد العقل و الدين (حمود التويجري: المرجع السابق ص 105- 106).

(61) من أن نزول عيسى عليه السلام حق، و قال إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل في عقيدة أهل السنة و الجماعة التي رواها عنه «عبدوس بن مالك العطار»، «و الإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر، و الأحاديث التي جاءت فيه، و الإيمان بأن ذلك كله كائن، و أن عيسى بن مريم ينزل فيقتله بباب لدّ، و في الحديث: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لدّ»، و في رواية «إلى جانب لدّ» (1)، و قال أبو محمد البربهاري في شرح السنة: و الإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل فيقتل الدجال و يتزوج، و يصلي خلف القائم من آل محمد صلى اللّه عليه و سلم و يموت و يدفنه المسلمون»، و القائم من آل محمد صلى اللّه عليه و سلم هو المهدي، كما جاء في حديث جابر، الآنف الذكر، و فيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، قال: «و ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا، فيقول لا، إن بعضهم أمير بعض تكرمة اللّه لهذه الأمة»، رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بإسناد جيد، و قد ذكره ابن القيم في كتاب «المنار المنيف» و قال إسناده جيد، و قال الطحاوي في العقيدة المشهورة «و نؤمن بأشراط الساعة (2) من خروج الدجال و نزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء».

و قال الإمام ابن تيمية أن عيسى بن مريم عليه السلام حي رفعه اللّه تعالى إليه بروحه و بدنه، و قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، أي قابضك، ).

ص: 349


1- مسند الإمام أحمد 3/ 420، تحفة الأحوذي 6/ 513.
2- روى الإمام أحمد بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من عرفة، و نحن نتذاكر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، و الدخان، و الدابة، و خروج يأجوج و مأجوج، و نزول عيسى ابن مريم و الدجال، و ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب، و نار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا، و تقيل معهم حيث قالوا»، و هكذا رواه مسلم و أهل السنن من حديث فرات الفزارية (مسند الإمام أحمد 4/ 7، صحيح مسلم 8/ 178، تفسير ابن كثير 1/ 887).

و كذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال و يكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية حكما عدلا مقسطا، و يراد بالتوفي الاستيفاء، و يراد به الموت و يراد به النوم، و يدل على كل واحد القرينة التي معه، و قال القاضي عياض في شرح مسلم: نزول عيسى و قتله الدجال حق و صحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك، و ليس في العقل و لا في الشرع ما يبطله، و أنكر ذلك بعض المعتزلة و الجهمية و من يوافقهم، و زعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، و بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «لا نبي بعدي»، و بإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى اللّه عليه و سلم، و أن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ، و هذا استدلال فاسد لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أن ينزل نبيّا ينسخ شرعنا، و لا في الأحاديث شي ء من هذا، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا، و يحيى من أمور شرعنا ما هجره الناس، و قد نقله النواوي في شرح مسلم و أقره، و قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أجمعوا على نزول عيسى عليه السلام نبيّا، لكنه بشريعة نبينا صلى اللّه عليه و سلم، و قال «السفاريني» في شرح عقيدته: نزول المسيح عيسى بن مريم ثابت بالكتاب و السنة و إجماع الأمة، و لم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، و إنما أنكر ذلك الفلاسفة و الملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، و قد انعقد الإجماع على أنه ينزل و يحكم بهذه الشريعة المحمدية (1).

و أما الرأي الثاني، و يقول به بعض علماء المسلمين، و يذهب إلى أن المسيح عليه السلام قد توفي فعلا، بعد أن نجاه اللّه من مؤامرة اليهود، و لم يمكنهم من قتله و صلبه، و من ثم فإن معنى قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (2)

ص: 350


1- حمود التويجري: المرجع السابق ص 101- 113.
2- سورة النساء: آية 158.

و قوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ (1)، إنما يراد به: رفع التعظيم و التكريم، و يستدلون على ذلك بأن اللّه عز و جل قد قدم كلمة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ على كلمة وَ رافِعُكَ إِلَيَّ، كما يستدلون بقوله تعالى: (2) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3)، بأن المقصود بها بأنه ليس من أحد من أهل الكتاب، اليهود أو النصارى، إلا و يؤمن بعيسى عليه السلام، إذ عاين ملك الموت، و لكنه إيمان لا ينفع، لأنه إيمان عند اليأس، و حين التلبس بحالة الموت، فاليهودي في ذلك الوقت يقر بأنه رسول اللّه، و النصراني يقر بأنه كان رسول اللّه (4).

ص: 351


1- سورة آل عمران: آية 55.
2- سورة المائدة: آية 117.
3- يذهب الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه، في تفسير هذه الآية إلى أن ظاهر النصوص القرآنية يفيد أن اللّه سبحانه و تعالى قد توفي عيسى بن مريم ثم رفعه إليه، و بعض الآثار تفيد أنه حيّ عند اللّه، و ليس هناك، فيما يرى، أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون اللّه قد توفاه من حياة الأرض، و أن يكون حيا عنده، فالشهداء كذلك يموتون في الأرض، و هم أحياء عند اللّه، أما صور حياتهم عنده، فنحن لا ندري لها كيفا، و كذلك صورة حياة عيسى عليه السلام، و هو هنا يقول لربه: إنني لا أدري ما ذا كان منهم بعد وفاتي (في ظلال القرآن 2/ 1001)، و يقول في تفسير قوله تعالى: وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (مريم آية 33) بأن المسيح إذن حياة محدودة ذات أمد، و هو يموت و يبعث، و قد قدّر اللّه له السلام و الطمأنينة يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا، و النص صريح هنا في موت عيسى و بعثه، و هو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة، و لا جدالا (في ظلال القرآن 4/ 2308)، و يقول في تفسير قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (آل عمران: آية 55) بأنهم أرادوا صلب عيسى عليه السلام و قتله، و أراد اللّه أن يتوفاه و يرفعه إليه، و أن يطرّه من مخالطة الذين كفروا و البقاء بينهم، و هم رجس و دنس، و أما كيف كانت وفاته، و كيف كان رفعه، فهي أمور غيبية تدخل في التشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه، و لا طائل وراء البحث فيها، لا في عقيدة و لا شريعة (في ظلال القرآن 1/ 403.
4- محمد الطيب النجار: تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن و السنّة النبوية- الرياض 1983) ص 282- 283.

و يقرر الأستاذ الإمام محمود شلتوت في الفتاوي أن معنى قوله تعالى:

يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مميتك إماتة عادية، إذ المعنى اللغوي الوضعي و المعنى القرآني لكلمة «متوفيك» إنما هو مميتك إماتة عادية (1)، و من قال إن عيسى حيّ في السماء، فذلك ادعاء و زعم منه، كما قرر أن معنى الرفع في «و رافعك إلي»، رفع مكانة، لا رفع جسد، بدليل التعقيب الذي جاء بجانب الرفع، و هو قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مما يدل على أن الأمر أمر تشريف و تكريم، و يؤيد ذلك أن الرفع جاء في القرآن كثيرا بهذا المعنى (في بيوت أذن اللّه أن ترفع- نرفع درجات من نشاء- و رفعنا لك ذكرك- و رفعناه مكانا- يرفع اللّه الذين آمنوا ... إلخ)، و من ثم فقد حكم بأن التعبير بقوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ، «بل رفعه اللّه إليه»، كالتعبير في قولهم: «لحق فلان بالرفيق الأعلى» و في «أن اللّه معنا» و في «عند مليك مقتدر»، و كلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية و الحفظ، و الدخول في الكنف المقدس، فمن يؤخذ كلمة «السماء» من كلمة «إليه»، اللهم إن هذا الظلم للتعبير القرآني الواضح، خضوعا لقصص و روايات لم يقم على الظن بها، فضلا عن اليقين، برهان و لا شبه برهان.

ثم يذهب الأستاذ شلتوت بعد ذلك إلى أنه ليس في القرآن و لا في السنة المطهرة (2)، مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، و أنه حيّ إلى الآن فيها، و أنه سينزل منها آخر الزمان، و أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد اللّه عيسى أنه متوفيه أجله و رافعه إليه، و عاصمه من الذين كفروا، و أن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه و لم يصلبوه، و لكن وفاه اللّه أجله و رفعه إليه، و أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء و أنه حيّ إلى الآن، و أنه سينزل آخر

ص: 352


1- روى عن الجبائي: أن عيسى مات ثم رفع إلى السماء بعد ذلك (روح المعاني 7/ 69).
2- أنظر: ما سبق أن ذكرناه من الأحاديث النبوة الشريفة.

الزمان، فإنه لا يكون بذلك منكر لما ثبت بدليل قطعي، فلا يخرج عن إسلامه و إيمانه.

ثم أورد بعد ذلك رأي الأستاذ الإمام محمد عبده، و تلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا (في الجزء العاشر من المجلد 28 من مجلة المنار) و الذي قال فيه: و جملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه و جسده إلى السماء حيا، حياة دنيوية بهما، بحيث يحتاج بحسب سنن اللّه تعالى إلى غذاء، و ليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، و إنما هي عقيدة أكثر النصارى، و قد حاولوا في كل زمان، منذ ظهور الإسلام، بثها في المسلمين (1).

هذا و يذهب الأستاذ الإمام المراغي إلى أنه ليس في القرآن نص صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام، رفع بجسمه و روحه، و على أنه حيّ بجسمه و روحه، و قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، الظاهر منه أنه توفاه و أماته ثم رفعه، و الظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفعه درجات عند اللّه، كما قال في إدريس عليه السلام: «و رفعناه مكانا عاليا»، و هذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين، فهو عند هؤلاء العلماء توفاه اللّه وفاة عادية، ثم رفع اللّه درجاته عنده، فهو حيّ حياة روحية، كحياة الشهداء، و حياة غيره من الأنبياء، لكن جمهور العلماء على أنه رفع بجسمه و روحه، فهو حيّ الآن بجسده و روحه، و فسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوّغ تفسير القرآن بها، لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة، و العقيدة لا تجب إلا

ص: 353


1- محمود شلتوت: الفتاوي ص 52- 57، محمود بن الشريف: المرجع السابق ص 207- 209.

بنص من القرآن أو بحديث متواتر، و على ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه السلام حيّ بروحه و جسده، و الذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية (1)، و الأئمة المجتهدون الذي اتجهوا هذا الاتجاه كلهم قد استقوا من معين واحد، و استمدوا رأيهم من رأي الإمام الرازي الذي قال: و اعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله:

وَ رافِعُكَ إِلَيَّ هو الرفعة بالدرجة و المنقبة، لا بالمكان و الجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان، بل بالدرجة و الرفعة (2).

و أما النصارى، فقد جعلوا خاتمة المسيح عليه السلام، كما يقول الأستاذ رشيد رضا، خاتمة شنيعة، و مأساة مروعة، و جعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم، و دعامة من دعائم عقيدتهم، لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها، و هي الاعتقاد بصلب المسيح، و قد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم، و أسسوا عليه صلب المسيح، فقالوا: إن آدم، و هو أول كل البشر، قد عصي اللّه تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، فصار خاطئا، و صار جميع ذريته خطاه مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي، و قد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين، فهم يحملون وزر ذنوبهم، و وزر ذنب أبيهم، و لما كان اللّه من صفاته العدل و الرحمة، فمن عدله ألا يترك الجريمة دون عقاب، و إلا لم يكن عادلا، و لهذا شاء اللّه أن يحمل ابنه، الذي هو بنفسه (اللّه) في رحم امرأة من ذرية آدم، و يتجسد حنينا في رحمها و يولد منها، فيكون ولدها «إنسانا» كاملا من حيث أنه ابن لتلك المرأة، و «إلها» كاملا، من حيث أنه ابن اللّه، و يكون معصوما من جميع المعاصي، ثم بعد أن يعيش كما يعيش

ص: 354


1- نفس المرجع السابق ص 209- 210.
2- تفسير الفخر الرازي 8/ 69.

الناس، و يأكل كما يأكلون، و يشرب مما يشربون، و يتلذذ و يتألم، كما يتلذذون و يتألمون يأتي أعداء اللّه، و أعداء شريعته، و يقتلونه شر قتلة و أفظعها، و هي أن يصلبوه و يسمروا يديه و رجليه في الخشب، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه و يسخروا منه، و يضفروا له إكليلا من الشوك و يبصقوا في وجهه، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو، و لا هم (1).

ص: 355


1- تفسير المنار 6/ 25، و انظر التفصيلات عن قصة الصلب هذه: إنجيل متى 26/ 1- 28/ 20، مرقس 14/ 1- 16/ 20، لوقا 22/ 1- 24/ 53، يوحنا 18/ 1- 21/ 25.

ص: 356

فهرست

تقديم 5

الكتاب الرابع داود و سليمان عليه السلام الباب الأول سيرة داود عليه السلام الفصل الأول: بنو إسرائيل فيما بين عهدي موسى و داود عليهما السلام 11

1- دخول بني إسرائيل كنعان 11

2- عصر القضاة 15

3- قيام ملكية طالوت 19

4- حروب طالوت و ظهور داود 26

الفصل الثاني: داود الرسول النبي 33

1- معجزات داود عليه السلام 34

قصة الخصمين 40

الفصل الثالث: داود ملك إسرائيل 53

1- داود فيما قبل الملكية 53

2- اختيار داود ملكا على يهوذا 56

3- داود و توحيد إسرائيل 58

ص: 357

4- داود و الفلسطينيون 59

5- داود و موآب و عمون و أرام و أدوم 62

6- دولة داود و مدى اتساعها 64

7- وارثة العرش و الخلافات العائلية 68

8- ثورة أبشالوم 70

9- التعداد العام و نتائجه 74

10- وفاة داود عليه السلام 77

الفصل الرابع: داود بين آي الذكر الحكيم و روايات التوراة 81

الباب الثاني سيرة سليمان عليه السلام الفصل الأول: سليمان الرسول النبي 91

1- وراثة سليمان داود عليهما السلام 91

2- من أحكام سليمان عليه السلام 94

3- من معجزات سليمان عليه السلام 97

الفصل الثاني: بناء المسجد الأقصى 115

الفصل الثالث: سليمان و ملكة سبأ 129

الفصل الرابع: سليمان ملك بني إسرائيل 159

1- السياسة الداخلية 159

2- السياسة الخارجية 162

3- التنظيمات العسكرية 164

4- النشاط التجاري 166

5- النشاط البحري 170

ص: 358

6- النشاط الصناعي 179

7- مملكة سليمان و مدى اتساعها 180

8- القدس عاصمة سليمان 197

9- مباني سليمان 201

الكتاب الخامس الأنبياء: من أيوب إلى يحيى عليهم السلام الفصل الأول: أيوب عليه السلام 209

1- قصة أيوب عليه السلام 209

2- سفر أيوب عليه السلام 223

الفصل الثاني: إلياس و اليسع عليهما السلام 231

1- إلياس عليه السلام 231

2- اليسع عليه السلام 239

الفصل الثالث: زكريا و يحيى عليهما السلام 243

1- زكريا عليه السلام 243

2- يحيى عليه السلام 259

3- استشهاد يحيى عليه السلام 266

الكتاب السادس المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه الفصل الأول: مريم أم المسيح عليهما السلام 275

الفصل الثاني: مولد المسيح عليه السلام 285

ص: 359

الفصل الثالث: نبوة المسيح و معجزاته 307

1- نبوة المسيح 307

2- معجزات المسيح 311

الفصل الرابع: دعوى تأليه المسيح و صلبه 325

1- دعوى التأليه 325

2- دعوى الصلب 340

ص: 360

المجلد4

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية

١٤٠٨ ه_ - ١٩٨٨ م

دار النهضة العربية

للطباعة والنشر

بروت - ص.ب ١١٠٧٤٩

الإدارة : بيروت، شارع مدحت باشا بناية

كريدية، تلفون: 303816

312213 /309830

برقياً : دانهضة ، ص . ب ٧٤٩-١١

تلکس : NAHDA 40290 LE

29354 LE

المكتبة : شارع البستاني، بناية اسكندراني

رقم ٣ غربي الجامعة العربية،

تلفون : ٣١٦٢٠٢

المستودع : بشر حسن ، تلفون : 833180

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الرابع]

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمه للعالمين سيدنا محمد واله بفضل الله ونعمته نقدم هذا الجزء الرابع من سلسلة دراسات تاريخية من القرآن الكريم وقد خصصناه للأحداث التاريخية التي جاء ذكرها من القرآن الكريم وكان مجالها أرض العراق الطيبة.

وقد تحدثنا في الباب الأول منه عن سيرة سيدنا نوح عليه السلام وعن قصة الطوفان المشهورة كما جاءت في آثار بلاد الرافدين فضلاً عن التوارة والقرآن الكريم.

هذا وقد خصصنا الباب الثاني لسيرة أبي الانبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في العراق بعد ان تحدثنا عن سيرة الخليل العطرة صلوات الله وسلامه عليه في الشام ومصر والحجاز في بعض فصول الأجزاء السابقة.

وكان الباب الثالث مخصصاً لسيرة سيدنا يونس عليه السلام والذي

ص: 5

تذهب المراجع إلى أنه أرسل هادياً وبشيراً لأهل نينوى من أرض الموصل بالعراق.

والله تعالى أسأل أن يكون في هذه الدراسة بأجزائها الاربعة بعض النفع وأن بتقبلها وأن بتقبلها سبحانه وتعالى خالصة لوجهه الكريم.

(وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)

الاسكندرية في ١٥ ربيع الاخر عام ١٤٠٨ ه_

٧ ديسمبر عام ١٩٨٧ م.

ص: 6

الباب الأوّل سيرة نوح عليه السّلام

اشارة

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول دعوة نوح عليه السّلام
[1] نوح عليه السلام:-

نوح عليه السلام نبي اللّه و رسوله، شيخ المرسلين، و أول رسل اللّه إلى الأرض، و أطول الأنبياء عمرا، و أكثرهم جهادا، و أحد أولى العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الأنبياء في آيتين من القرآن الكريم، و هما قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (1)، و قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (2).

و قال الإمام البيضاوي في تفسيره: خصّهم اللّه (أي أولى العزم الخمسة) بالذكر، لأنهم أولو العزم، و مشاهير أرباب الشرائع، و قدّم نبينا صلى اللّه عليه و سلّم

ص: 9


1- سورة الأحزاب: آية 7.
2- سورة الشورى: آية 13، و انظر: تفسير القرطبي ص 5829- 5830، تفسير ابن كثير 7/ 182- 183، تفسير النسفي 4/ 102.

(في آية الأحزاب) تعظيما له، و تكريما لشأنه (1)، و روى أبو بكر البزار عن أبي هريرة قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و خيّرهم محمد، صلى اللّه عليه و سلّم (2).

هذا و قد وردت قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاثة و أربعين موضحا، و إن ذكرت بشي ء من التفصيل في سورة الأعراف و هود و المؤمنون و الشعراء و القمر و نوح (3).

هذا و قد لبث نوح في قومه- بنص القرآن الكريم- ألف سنة إلا خمسين عاما، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (4).

و قد اختلف المفسرون في مبلغ عمر نوح عليه السلام، فقيل مبلغ عمره ما ذكره اللّه تعالى في كتابه، قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، و دعاهم ثلاثمائة سنة، و لبث بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة، و قال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة، و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الغرق ستين سنة، حتى كثر الناس و فشوا، و عنه أيضا: أنه بعث و هو ابن

ص: 10


1- تفسير البيضاوي 1/ 114.
2- تفسير ابن كثير 3/ 748 (ط بيروت 1986).
3- انظر: سورة آل عمران. و النساء (آية 163) الأنعام (84) و الأعراف (59، 69) و التوبة (70) و يونس (71- 73) و هود (25- 48) و إبراهيم (9) و الإسراء (3، 17) و مريم (58) و الأنبياء (76- 77) و الحج (42) و المؤمنون (23- 30) و الفرقان (37) و الشعراء (105- 122) و العنكبوت (14- 15) و الأحزاب (7) و الصافات (75- 16) و الحديد (26) و التحريم (10) و كذا سورة نوح.
4- سورة العنكبوت: آية 14، و يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير (25/ 42) و في قوله تعالى: وَ هُمْ ظالِمُونَ إشارة لطيفة، و هي أن اللّه لا يعذب على مجرد وجود الظلم، و إنما يعذب على الإصرار على الظلم، و لهذا قال تعالى: وَ هُمْ ظالِمُونَ يعني أهلكم و هم على ظلمهم.

مائتين و خمسين سنة، و لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين، و عاش بعد الطوفان مائتي سنة، و قال وهب: عمّر نوح ألفا و أربعمائة سنة، و قال كروب الأحبار: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الطوفان سبعين عاما، فكان مبلغ عمره ألف سنة و عشرين عاما، و قال عون بن أبي شداد: بعث نوح، و هو ابن خمسين و ثلاثمائة سنة، و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة و خمسين سنة، فكان مبلغ عمره ألف سنة و ستمائة و خمسين سنة، و نحوه عن الحسن (أي الحسن البصري) (1).

[2] معبودات قوم نوح:-

تعرض القرآن الكريم لمعبودات قوم نوح في قوله تعالى: وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (2)، و هكذا يبيّن لنا القرآن الكريم أن الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، هي ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و هي من أقدم الأصنام (3) التي عبدت قاطبة، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، و أن ذلك

ص: 11


1- تفسير القرطبي ص (5048- 5049) (ط الشعب- القاهرة 1970).
2- سورة نوح: آية 23.
3- يرى علماء اللغة أن كلمة «الأصنام» ليست عربية أصيلة، و إنما هي معربة من كلمة «شنم»، و رغم أنهم لم يذكروا لنا اسم اللغة التي عربت منها، فربما كانت من الآرامية «صلموا» أو العبرية «صلم»، و على أية حال، فإن الكلمة قد وردت في النصوص العربية الجنوبية تحت اسم «صلمو»، بمعنى «صنم» و «تمثال»، و في الكتابات العربية الشمالية من أعالي الحجاز، تحت اسم «صلم» كاسم لإله علم ازدهرت عبادته في «تيماء» حوالي عام 600 ق. م، هذا و يبدو أن العرب كانوا يغرقون بين الأصنام و الأوثان، فالصنم، فيما يرى علماء اللغة، هو ما اتخذ إلها من دون اللّه، و ما كان له صورة كالتمثال، و عمل من خشب أو ذهب أو فضة أو و عرّف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو «وثن»، و أما «ابن الكلبي» فالتمثال عنده إذا كان معمولا من خشب أو ذهب أو فضة أو غيرها من جواهر الأرض في صورة الإنسان فهو «صنم»، و إذا كان من حجارة فهو «وثن» و أما النصب فهي حجارة غفل ليست على صورة معينة تجرى عليه قبيلة من القبائل أوضاع العبادة لما تزعمه من أصلها السماوي، إن كانت حجرا بركانيا أو ما يشبهه، و لعل أدق الأصنام صنعا ما كان لأهل اليمن، و لا عجب، فخطهم من الحضارة لم يعرفه أهل الحجاز، و لا عرفه أهل نجد و كندة. انظر: القاموس المحيط 4/ 141، 274، اللسان 12/ 349، 15/ 141، تاج العروس 8/ 371، ابن الكلبي: كتاب الأصنام- القاهرة 1965 ص 53، محمد عبد المعيد خان: الأساطير العربية قبل الإسلام- القاهرة 1936 ص 113، السهيلي: المروض الأنف- القاهرة 1971- الجزء الأول ص 62، محمد حسين هيكل: حياة محمد- القاهرة 1970 ص 99، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام- القاهرة 1952 ص 163، و كذا: . 67. P, 1934, ebliB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J و كذا: .80 -79 .P ,1927 ,nodnol ,setimes eht fo noigiler eht no serutceL ,htimS .R .W و كذا. 196- 195. P, 1964, 17, BE, arymlaP, kooC. A. G)

يرجع إلى ما قبل طوفان نوح، و ذلك حين صوّر القوم بعض الصالحين منهم، ثم وضعوا لهم الصور و التماثيل لإحياء ذكراهم و الاقتداء بهم، ثم بعد ذلك عبدوا هذه الصور، و تلك التماثيل (1).

هذا و يحاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين المعبودين الوثنيين، «ود» العربي، و «إيروس» اليوناني، و أن الأول مستورد من بلاد اليونان، إلا أن هناك في الوقت نفسه من يعارض هذا الاتجاه، لانتفاء التشابه بينهما (2)، كما أن «ود» هذا هو إله «معين» الكبير، فضلا عن أنه قد عرف منذ ما قبل الطوفان، كما أشار القرآن الكريم، بين قوم نوح عليه السلام.

و على أية حال، فالذي لا شك فيه أن هذه الأصنام إنما كان يعبدها قوم نوح عليه السلام، روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال:

صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب (3)، أما ود كانت لكلب ).

ص: 12


1- انظر: تفسير المنار 7/ 454، 8/ 436، تفسير البيضاوي 2/ 508، تفسير الألوسي 29/ 77، تفسير الطبري 29/ 71، تفسير النسفي 4/ 297، تفسير ابن كثير 4/ 666- 667.
2- انظر:. 17. P, 1927. nilreB. smutnedieH nehcsibarA etseR, nesuahleW. J و كذا. 180 P, 8, ERE, sgnitsaH. J
3- انظر: عن عبادة هذه الأصنام في بلاد العرب (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الإسكندرية 1978 ص (44- 47)، (93- 99).

بدومة الجندل، و أما سواع كانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف في الجوف عند سبأ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و تنسخ العلم عبدت (1).

و هكذا يبيّن لنا عبد اللّه بن عباس، حبر الأمة و ترجمان القرآن، في هذا الحديث أن هذه الأسماء كانت لرجال صالحين من قوم نوح، و أنهم لما ماتوا سوّل الشيطان لقومهم و زيّن لهم أن ينصبوا لهم صورا، و يسموها بأسمائهم حتى ينشطوا في العبادة إذا رأوهم و لم يعبدوهم آنذاك حتى إذا هلك أولئك القوم الذين نصبوا تلك الأنصاب و عمّ الجهل فيمن خلفهم عبدوهم من دون اللّه تعالى.

و ذكر ابن عباس في هذا الحديث أن الأوثان صارت في العرب بعد ذلك، و أن «ودا» كان لقبيلة كلب في دومة الجندل، و «سواعا» لقبيلة هذيل، و «يغوث» لقبيلة مراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، و «يعوق» لقبيلة همدان، و «نسرا» لقبيلة حمير (2).

هذا و قد جاء في تفسير القرطبي: قال عروة بن الزبير و غيره: اشتكى آدم عليه السلام، و عنده بنوه، ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و كان ود أكبرهم و أبرهم به، قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين:

ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و كانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا ).

ص: 13


1- صحيح البخاري 6/ 199.
2- تفسير ابن عباس و مروياته في التفسير من كتب السنة- الجزء الثاني- الرياض 1987 ص 910- 911 (نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة).

عليه. فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا افعل فصوّره في المسجد من صفر و رصاص، ثم مات آخر، فصوره، حتى ماتوا كلهم فصوّرهم، و تنقصت الأشياء كما تنتقص اليوم إلى أن تركوا عبادة اللّه تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا و ما نعبد، قال: آلهتكم و آلهة آبائكم، أ لا ترون في مصلاكم، فعبدوها من دون اللّه، حتى بعث اللّه نوحا فقالوا: «لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا، و قال محمد بن كعب و محمد بن قيس أيضا: بل كانوا قوما صالحين من آدم و نوح، و كان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زيّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، و ليتسلوا بالنظر إليها، فصوروهم، فلما ماتوا هم و جاء آخرون قالوا: ليت شعرنا، هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها، فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم و تسقيهم المطر، فعبدوها، فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.

و يقول الإمام القرطبي: و بهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة و أم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «إن أولئك كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، و صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة» (1).

و من أجل هذا كله، جاءت الشريعة الإسلامية الغراء تحظر التصوير باليد لكل ذي روح، و تحرم اتخاذ التماثيل أيا كان الغرض منها، روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي اللّه ).

ص: 14


1- تفسير القرطبي ص (6786- 8687)، تفسير ابن كثير (4/ 666- 667)، تفسير النسفي 4/ 297، صفوة التفاسير 3/ 454، تفسير جزء تبارك ض (135- 137).

عنهم قال: قال النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا تصاوير» (1)، و روى البخاري أيضا في صحيحه عن الأعمش عن مسلم قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير، فرأى في صفته تماثيل، فقال: سمعت عبد اللّه، قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «إن أشد الناس عذابا عند اللّه يوم القيامة المصورون»، و روى أيضا عن نافع أن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، أخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم قال: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم احيوا ما خلقتم، و في رواية «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، و يقال لهم احيوا ما خلقتم»، و روى أيضا عن ابن عباس قال: سمعت محمدا صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، و ليس بنافخ» (2).

[3] دعوة نوح عليه السلام:-

كانت دعوة نوح عليه السلام- كما يقول صاحب تفسير جزء تبارك- مؤسسة على ثلاثة أركان كما جاء في قوله تعالى:

أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3): الركن الأول: ترك عبادة الأصنام (ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر) التي كان يعبدها أهل ذلك الزمان من دون اللّه، فكان نوح يأمرهم بخلعها، و عبادة اللّه وحده، و هذا معنى قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، و الركن الثاني: تقوى اللّه و اجتناب المعاصي و الذنوب و الفواحش التي تفسد عليهم صحتهم و أخلاقهم و آدابهم، و تفكك روابط الألفة و عرا النظام بينهم، و هذا معنى قوله تعالى: وَ اتَّقُوهُ، و الركن الثالث: إطاعة ولي الأمر فيهم، و هو نوح عليه السلام نفسه، و هذا معنى قوله تعالى: وَ أَطِيعُونِ.

ص: 15


1- صحيح البخاري 7/ 214- 215 (دار الجيل- بيروت 1986). و انظر: صحيح مسلم 14/ 81- 86 (بيروت 1981).
2- صحيح البخاري 7/ 214- 217، و انظر: صحيح مسلم 14- 90- 94.
3- سورة نوح: آية 3.

فالدعوة السماوية التي هي أول ما أنزل على البشر، و بلغ إليهم، هي مطوية في ثلاث كلمات فقط: إيمان و تقوى و طاعة، بالإيمان ينتظم أمر عقائد الأمة فتسلم من الخرافات و الأوهام، و بالتقوى ينتظم أمر أخلاقها و آدابها فتسلم من السقوط و الفساد، و بالطاعة ينتظم أمر اتحاد كلمتها و علو شأنها، فتسلم من الانحلال و الضياع، و ما زالت الأمم على سلم هذه الأركان السماوية تعلو في الحياة الاجتماعية و تسقط، و ترقى في العزة و الغلبة و تهبط، و آية ذلك التاريخ، فهو الشاهد العدل، و إليه في هذه المسألة القول الفصل (1).

و هكذا أرسل اللّه تعالى نوحا إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده، و إفراده بالشكر و الضراعة، و ترك ما هم عليه من عبادة الموروثات الباطلة، و أفرغ عليهم من طيب كلامه ليستميلهم إليه، و يذعنوا لدعوته، و يؤمنوا بها، و كان نوح عليه السلام، رجلا فتيق اللسان، عظيم الأناة، صابرا على الجدل، بصيرا بمسالك الإقناع، قادرا على تصريف الحجج، لكن روح الضلال و التقليد المتسلطة على المعاندين المستكبرين من قومه أبت عليهم أن يعرفوا طريق الهداية، و تحجرت قلوبهم فلم تلن لدعوته، و لم تنقد لرجائه، كان، عليه السلام، كلما دعاهم إلى اللّه أعرضوا، و إذا أنذرهم بالعذاب و الويل عموا و صموا، و إذا رغبهم في ثواب اللّه و رضائه استهانوا و سخروا منه و استكبروا و وضعوا أصابعهم في آذانهم (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (3).

ص: 16


1- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك- المطبعة الأميرية- القاهرة 1947 ص 122.
2- سعد صادق: من قصص الأنبياء في القرآن- القاهرة 1969 ص 37.
3- سورة نوح: آية 5- 7. و انظر: تفسير القرطبي ص (6779- 7780)، تفسير ابن كثير 4/ 664- 665، تفسير النسفي 4/ 294- 295، تفسير جزء تبارك ص 123- 125.

و رغم ذلك كله، فقد صابرهم و طاولهم، و مدّ لهم في حبل صبره و أناته، و ناضلهم و أخذ يفنن في الدعوة، من غير يأس و لا ملل، دعاهم ليلا و نهارا، و سرا و علانية، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (1).

كان نوح عليه السلام يتكتم في أول الأمر في عرض الدعوة على قومه، فكان يدلي لهم بالمناصحة سرا، مستغرقا في ذلك جميع وقته، ليله و نهاره، كما هو شأن الداعي الحريص على بث دعوته، الحاذق في أدائها، العالم بطرق تبليغها، يتحين لها الفرص، و يختار لها الأوثق فالأوثق من الرجال، و لا يتسرع في إفشائها خشية أن يكاد لها، و تقام العواثير دونها، و مع كل ذلك لم تنجح دعوة نوح عليه السلام في القوم لفرط عتوهم، و تحجر العناد في نفوسهم، و هذا ما حمل نوحا على سلوك طريق آخر في الدعوة، و هو مصارحتهم بها، و تبليغهم إياها جهارا، من دون تكتم و لا خوف و لا تقية، و هو معنى قوله تعالى: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، إذ ربما فرط تكتمه في أمره، و استخفائه بدعوته، يجعلهم يظنونها باطلة، و إلا فما الذي يمنعه من الجهر بها؟ أو يظنون أنه عاجز جبان عن تبليغها فهو يكتمها خشية إيقاعهم به، و هذا مما يزيدهم نفورا و عنادا، و من ثم قام نوح عليه السلام يصدعهم بدعوته صدعا، شأن الواثق من صدقها، المعتمد على ربه في حياطته و حياطتها، كأنه يقول: «هاكم دعوتي أبلغكموها على رءوس الأشهاد، فإن كان لكم سلطان بيّن على بطلانها فهاتوه، أو كنتم تريدون قتلى و صدى بالقوة فافعلوه (2).

ص: 17


1- سورة نوح: آية 8- 9.
2- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك ص 125.

غير أن القوم لجوا في عنادهم، و أجابوه بأربع حجج، ظنوا كذبا أنها داحضة، الأولى: أنه بشر مثلهم، فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه، و هكذا كان كل رسول من وسط قومه (1)، و وجه الجواب: أن المسألة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر، بجعل أحدهما تابعا طائعا، و الآخر متبوعا مطاعا، لأنه ترجيح بغير مرجح.

و الثانية: أنه لم يتبعه منهم إلا أرذلهم في الطبقة و المكانة الاجتماعية «بادي الرأي» لا بديل من العقل و العلم، و بهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن ).

ص: 18


1- من المعروف أنه من فضل اللّه تعالى على رسله و أنبيائه، و سنته في اصطفائهم أن يختارهم من أكرم البيوت و أشرف الظهور، و أطهر البطون و أبعدها عن الدنايا، و ألصقها بمكارم الأخلاق، على ما يقوله اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، و على ما يقول جل شأنه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. و قد بيّن سيدنا و ملانا و جدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، هذا المعنى بقوله الشريف، فيما رواه مسلم و الترمذي، «إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، و اصطفى قريشا من كنانة، و اصطفى من قريش بني هاشم، و اصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار»، و أخرج ابن مردوية عن أنس أنه قال: «قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، «لقد جاءكم من أنفسكم، بفتح الفاء»، و قال: «أنا أنفسكم نسبا و صهرا و حسبا»، و روى الحاكم و البيهقي عن عائشة إنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها و مغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، و قلبت الأرض من مشارقها و مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم (و رواه أيضا الطبراني في الأوسط و ابن عساكر). و في الواقع فلقد كان بنو هاشم في ميزان المجتمع العربي سادته و قادته و أشرافه، و كانوا في ميزان القيم أجود الناس كفا، و أوفاهم ذمة، و أنداهم عطاء، و أكثرهم في سبيل الخير بلاء، و أحماهم للذمار، و بكلمة واحدة هم في قومهم و زمانهم ضمير أولئك القوم و ذلك الزمان، و هكذا كان بنو هاشم، كما يقول ابن تيمية، أفضل قريش، و قريش أفضل العرب، و العرب أفضل بني آدم، و هكذا كان منبت النبي صلى اللّه عليه و سلّم، كما يقول الأستاذ الغزالي، في أسرة لها شأنها، بعض ما أعده اللّه لرسالته من نجاح، و لعل هذا كله يبيّن لنا الحكمة في اختيار الرسل من أواسط أقوامهم، و من الجبهة القوية فيهم، حتى يكونوا لهم سندا و عضدا، ضد سفاهة السفهاء و بغي الباغين، (انظر التفصيلات: محمد بيومي مهران: في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين- الجزء الأول- السيرة النبوية الشريفة- الكتاب الأول).

رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى، و هذا مرجح لرد دعوته و التولي عنه، و الثالثة: عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم من قوة عصبية أو كثرة غالبة، أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأرذال من مقعدهم من السفلة، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه.

و الرابعة: أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي و التعارض، يرجحون الحكم عليه و عليهم بالكذب في هذه الدعوى، و هذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة، و قد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه، و هي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها، و هذه الأخيرة طعن لهم على نوح عليه السلام أشركوه فيه مع اتباعه، و لم يجابهوه به وحده، و لم يجزموا به، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة (1).

و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا (2)، وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ، وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (3).

و كان رد نوح عليه السلام على قومه، كما جاء في القرآن الكريم:

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، ).

ص: 19


1- تفسير المنار 12/ 53 (الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1975).
2- كرر القوم هذا الكلام مع نوح عليه السلام كما جاء في سورة المؤمنين (آية 24)، كما كرره فرعون مع موسى و هارون عليهما السلام، كما جاء في الآيات 45- 48 من نفس سورة المؤمنين.
3- سورة هود: آية 27، و انظر: تفسير المنار 12/ 5- 54، تفسير القرطبي ص 3250- 3252، تفسير ابن كثير 2/ 685- 686، تفسير النسفي 2/ 185، تفسير الطبري 15/ 295- 297 (دار المعارف- القاهرة 1960).

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (1).

و مع ذلك كله، فلم ينته القوم عن غيّهم، و لم يؤمنوا بنبيّهم، و إنما تمادوا في الكفر و العصيان و التطاول على النبي الكريم صلى اللّه عليه و سلّم، فاتهموه بالسفه و الضلال، قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)، ثم اتهموه بالجنون، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (3)، و قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (4).

ثم اتهموه بكثرة الجدل و الافتراء على اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (5)، و لم تكف كل هذه الاتهامات الكذوب، في نظر هؤلاء اللئام، فإذا بهم يسخرون من النبي الكريم و يستهزءون، قال تعالى:

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا،

ص: 20


1- سورة هود: آية 28- 31، و انظر: تفسير القرطبي ص 3253- 3255، تفسير الطبري 15/ 297- 303، تفسير المنار 12/ 54- 58، تفسير النسفي 2/ 185- 186، تفسير ابن كثير 2/ 686- 687 (بيروت 1986)، صفوة التفاسير 2/ 14- 15، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/ 195- 197 (مكة المكرمة 1398 ه).
2- سورة الأعراف: آية 60- 62.
3- سورة القمر: آية 9.
4- سورة المؤمنون: آية 25.
5- سورة هود: آية 32.

فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (1).

و هكذا كانت حياة نوح عليه السلام، حياة شاقة مريرة، و محنته مع قومه محنة شريدة أليمة، فقد قام بينهم قرونا و دهورا، بذل فيها أقصى جهده لكي يؤمن قومه باللّه تعالى، و أن يذروا عبادة الأصنام، و طال الزمن و هو يدعو قومه في السر و العلانية، و يضرب لهم الأمثال، و يوجه نظرهم إلى صنع اللّه بخلقهم أطوارا مختلفة، و عنايته بهم في حياتهم الجنينية، و حياتهم في الدنيا، و خلقه السماوات و الأرض، و أن من بدأهم قادر على إعادتهم، ذلك أن من خلق لهم الأرض و متعهم بما خلق فيها، قادر على إعاداتهم و مجازاتهم (2).

و رغم ذلك كله، فإن نوحا عليه السلام، لم ير من قومه إلا آذانا صماء، و قلوبا غلفا، و عقولا متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر، و أفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكير، و لم يزجرهم وعيد أو تحذير، و كلما ازداد لهم نصحا، ازدادوا في طريق الضلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، و لا يبالون بتحذيره و إنذاره و قد أقام بينهم تسعمائة و خمسين عاما داعيا و مذكرا و ناصحا، و سلك جميع الطرق الحكيمة لإنقاذهم، و إبعادهم عن عبادة الأصنام و الأوثان، فلم يفلح معهم أبدا، و كانت دعوته لهم ليلا و نهارا، و سرا و جهارا، و مع ذلك لم تلن قلوبهم، بل قابلوا الإحسان بالشدة، و مالوا عليه بالضرب و الأذى، و هو لا يفتأ يقول:

اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

روى المفسرون أن نوحا عليه السلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى

ص: 21


1- سورة هود: آية 38، و انظر: تفسير المنار 12/ 61- 62، تفسير القرطبي ص 3258- 3259، تفسير الطبري 15/ 310- 317، تفسير ابن كثير 2/ 688- 669، تفسير النسفي 2/ 187.
2- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم- القاهرة 1970 ص 133- 134.

اللّه، فيجتمعون عليه و يضربونه الضرب المبرح، و يخنقونه حتى يغشى عليه ثم يلفونه في حصير و يرمون به في الطريق، و يقولون إنه سيموت بعد هذا اليوم، فيعيد اللّه سبحانه و تعالى إليه قوته فيرجع إليهم و يدعوهم إلى اللّه، فيفعلون به مثل ذلك (1).

و قال مجاهد و عبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

و قال ابن عباس، رضي اللّه عنه، إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه مات، ثم يخرج فيدعوهم، حتى إذا يئس من إيمان قومه، جاءه رجل و معه ابنه و هو يتوكأ على عصا، فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأخذ العصا، ثم قال:

ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، و سالت الدماء، فقال نوح: «رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خير فاهدهم، و إن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم و أنت خير الحاكمين» (2).

و هكذا بقي النبي الكريم يؤذى و يعذب، و هو مع ذلك صابر، لا يدعو على قومه بالعذاب، و إنما كان يؤمل فيهم أو في أبنائهم الخير و الصلاح، و يقول: لعل اللّه يخرج من أصلابهم من يستجيب لدعوتي و يؤمن باللّه، و لكن مع هذه المدة الطويلة لم يؤمن معه إلا القليل منهم، و كان كلما انقرض جيل جاء من بعده جيل أخبث و ألعن، فلقد كان القوم يوصون أولادهم بعدم الإيمان به، و كان الوالد يقول لولده إذا بلغ و عقل: يا بني احذر هذا لا يغرنك عن دينك و ألهتك (3).

ص: 22


1- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء- بيروت 1970 ص 150.
2- تفسير القرطبي ص 3271.
3- محمد علي الصابوني: المرجع السابق ص 150- 151.

و أوحى اللّه تعالى إلى نبيه نوح إنه لن يؤمن من هؤلاء القوم الكافرين أحد بعد ذلك، بل إنه لم يبق في أصلاب الرجال، و لا في أرحام النساء مؤمن (1)، قال تعالى: وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (2)، قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بذلك فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً»، و قيل إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: أعطني حجرا، و رمى به نوحا عليه السلام فأدماه، فأوحى اللّه تعالى إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ، فدعا عليهم، فكان الطوفان الذي أغرقهم جميعا (3).

[4] قضية ابن نوح:-

اختلف المفسرون في ابن نوح الذي غرق في الطوفان من دون أهله، و قد أشار القرآن الكريم إلى قصته في قوله تعالى:

وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (4).

ص: 23


1- تفسير القرطبي ص 3271.
2- سورة هود: آية 36.
3- سورة نوح: آية 26- 27، تفسير القرطبي ص 3257، 3271، و انظر: تفسير الطبري 15/ 306- 307.
4- سورة هود: آية 42- 47، و انظر: تفسير ابن كثير 2/ 690- 694، تفسير القرطبي ص 3264 3276، تفسير الطبري 15/ 331- 352، تفسير النسفي 2/ 188- 192، تفسير المنار 12/ 65- 84، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/ 200- 201، صفوة التفاسير 2/ 16- 19، التسهيل 2/ 106- 107.

و قد انقسم المفسرون في ابن نوح هذا إلى فرق، ففريق يرى أنه ولد على فراشه و لم يكن ابنه، قال قتادة: سألت الحسن (أي الحسن البصري) عنه فقال:

و اللّه ما كان ابنه، قلت إن اللّه أخبر عن نوح إنه قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، فقال: لم يقل مني، و هذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر، فقلت له: إن اللّه حكى عنه إنه قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» و «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و لا يختلف أهل الكتاب إنه ابنه، فقال الحسن: و من يأخذ دينه عن أهل الكتاب، إنهم يكذبون، و قرأ «فخانتاهما»، و قال ابن جريج: ناداه و هو يحسب أنه ابنه، و كان ولد على فراشه، و كانت امرأته خانته فيه، و لهذا قال:

«فخانتاهما» (1).

هذا و قد استهجن كثير من علماء السلف و الخلف هذا الإتجاه، فقال ابن عباس- حبر الأمة و ترجمان القرآن- «ما بغت امرأة نبي قط»، و قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: و القائلون بهذا القول (أي أنه ولد على فراشه لغير رشده) فقد احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح و امرأة لوط «فخانتاهما» فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه، قيل لابن عباس، رضي اللّه عنه، ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، و امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا، و في تفسير الطبري:

عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يسأل، و هو إلى جنب الكعبة، عن قوله تعالى: فَخانَتاهُما، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، و لكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، و كانت هذه تدل على الأضياف، ثم قرأ «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ»، ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب، قوله تعالى:

ص: 24


1- تفسير القرطبي ص 3274.

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ، و قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (1).

و قال الألوسي في روح المعاني: و ما يقال من أنه كان لغير رشده لقوله سبحانه و تعالى: فَخانَتاهُما، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها، فإن اللّه قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل، فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بإصبع الطعن، و إنما المراد بالخيانة في الدين، و نسبة هذا القول إلى الحسن و مجاهد كذب صريح.

و قال أبو السعود في بحره المحيط: و ما يقال إنه كان لغير رشده لقوله «فخانتاهما»، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم، أرفع من أن يشار إليهم بإصبع الطعن، و إنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، و قال البيضاوي: و كان لغير رشده لقوله تعالى:

فَخانَتاهُما، و هو خطأ، إذ أن الأنبياء عصمت من ذلك، و المراد بالخيانة الخيانة في الدين.

و أما ما استند إليه البعض في عدم استبعاد أن تكون امرأة النبي زانية من القياس على الكفر، الذي هو أشد ذنبا من الزنا، و امرأة نوح كانت كافرة، و قد ضربها اللّه مثلا في الكفر، و من أتى الذنب الأكبر يهون عليه الإتيان بالأصغر، فواضح البطلان، لأن كفر المرأة، و إن كان من أكبر الكبائر لا يعود ضرره إلا عليها، و لا يلحق الزوج منه عار و لا فضيحة بين الناس، و لذلك أباح اللّه للمسلم أن يتزوج من الكتابيات، بخلاف زناها، فإنه، و إن كان أصغر من الكفر، لا يقصر ضرره عليها وحدها، بل يلحق الزوج أيضا

ص: 25


1- سورة النور: آية 3، 26، تفسير الطبري 15/ 343، تفسير القرطبي ص 3274، عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء- القاهرة 1966 ص 41.

بسببه عار و فضيحة بين الناس في مطرد العادة، بحيث يكون بحالة لا يستطيع معها مجالسة الناس، و من ثم، فقد نص، كما يقول ابن كثير، غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، و إنما كان ابن زانية (1).

و هناك وجه آخر للنظر يذهب إلى أنه كان ابن امرأته، قاله الحسن و مجاهد و عبيد بن عمير و أبي جعفر الباقر و ابن جريج (2)، و في تفسير القرطبي، قرأ عروة بن الزبير: «و نادى نوح ابنها» يريد ابن امرأته، يقول القرطبي: إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليه لها، و اللّه أعلم (3).

على أن هناك وجها ثالثا للنظر، يذهب إلى أنه ابنه من صلبه، و هذا ما نؤمن به الإيمان كل الإيمان، و إنه كان ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره و مخالفته أباه نبيّ اللّه نوحا عليه السلام، قال ابن عباس: «ما بغت امرأة بني قط، و أنه كان ابنه لصلبه، و كذلك قال الضحاك و عكرمة و سعيد بن جبير و ميمون بن مهران و غيرهم، و إنه كان ابنه لصلبه، و قيل لسعيد بن جبير يقول نوح: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» أ كان من أهله؟ أ كان ابنه؟ فسبح اللّه طويلا ثم قال: لا إله إلا اللّه، يحدث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلّم، إنه ابنه، و تقول إنه ليس ابنه، نعم كان ابنه، و لكن كان مخالفا في النية و العمل و الدين، و لهذا قال اللّه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (4).

و يقول القرطبي: و هو الصحيح في الباب إن شاء اللّه تعالى لجلالة من قال به، و إن قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ليس مما ينفي عنه أنه ابنه، و قوله «فخانتاهما»، يعني في الدين، لا في الفراش، و ذلك أن هذه كانت تخبر

ص: 26


1- انظر: عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 41- 45.
2- تفسير ابن كثير 2/ 693.
3- تفسير القرطبي ص 3275.
4- تفسير القرطبي ص 3274.

الناس أنه مجنون، و ذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها نعم، قالت فمتى، قال: إذا فار التنور، فخرجت تقول لقومها: يا قوم و اللّه إنه مجنون، يزعم أنه لا ينصره اللّه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها، و خيانة الأخرى إنها كانت تدل على الأضياف (1).

و روى الطبري في تفسيره عن فضالة بن الفضل الكومي قال قال بزيغ: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح، فقال: أ لا تعجبون إلى هذا الأحمق، يسألني عن ابن نوح، و هو ابن نوح، كما قال اللّه تعالى: (قال نوح لابنه)، و عن جويبر عن الضحاك قال: هو و اللّه ابنه لصلبه، و روى الطبري أيضا عن الضحاك إنه قرأ «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و قوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»، قال يقول: ليس هو من أهلك، قال يقول: ليس هو من أهل ولايتك، و لا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ»، قال يقول: «كان عمله في شرك» (2).

و روى النسفي في تفسيره، قال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه، كان عند نوح عليه السلام أن ابنه كان على دينه لأنه كان ينافق، و إلا لا يحتمل أن يقول ابني من أهلي، و يسأله نجاته، و قد سبق منه النهي عن سؤال مثله بقوله: وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، فكان يسأله على الظاهر الذي عنده، كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لنبينا عليه الصلاة و السلام، و يضمرون الخلاف له، و لم يعلم بذلك حتى أطلعه اللّه عليه، و قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي من الذين و عدت النجاة لهم، و هم المؤمنون حقيقة في السر و الظاهر (3).

ص: 27


1- تفسير القرطبي ص 3275.
2- تفسير الطبري 5/ 345.
3- تفسير النسفي 2/ 191- 192.

و أولى الأقوال بالصواب، عند الإمام الطبري، قول من قال: تأويل ذلك، إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفا، و بي كافرا، و كان ابنه، لأن اللّه تعالى ذكره، قد أخبر نبيه محمدا صلى اللّه عليه و سلّم، أنه ابنه، فقال: «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و غير جائز أن يخبر أنه ابنه، فيكون بخلاف ما أخبر، و ليس في قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» دلالة على إنه ليس بابنه، إذ كان قوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» محتملا من المعين ما ذكرنا، و محتملا «إنه ليس من أهل دينك»، ثم يحذف الدين، فيقال: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»، كما قيل «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» (1).

ص: 28


1- تفسير الطبري 15/ 346 (دار المعارف- القاهرة 1960.
الفصل الثّاني قصّة الطّوفان بين الآثار و التّوراة
اشارة

من المعروف منذ زمن طويل أن قصص الطوفان الكبير الذي هلك فيه كل الناس على وجه التقريب، تنتشر انتشارا واسعا في جميع أنحاء العالم، فهناك قصص عن الطوفان، في بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم، و في الهند و بورما و الصين و الملايو و استراليا و جزر المحيط الهادي، و في مجتمعات الهنود الحمر (1).

و قد قدم لنا «السير جيمس فريزر rezarF semaJ ris» دراسة عن قصص «الطوفان الكبير» في أساطير الأمم المختلفة، نستنتج منها أنها كانت منتشرة في قارة آسيا و في استراليا و في أمريكا الشمالية و الوسطى و الجنوبية- فيما قبل العهد الأوربي- و لكنها قليلة نسبيا في قارة أوربا، و أقل منها في إفريقيا (2).

و لعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أنه رغم كثرة قصص الطوفان و انتشارها، فإنها تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة، كما أن قسما منها أساطير وضعت وضعا لتفسير بعض العوارض الأرضية كالمنخفضات الواسعة في البلاد التي وضعت فيها تلك الأساطير (3) أضف إلى ذلك أنه ليست هناك رواية واحدة أصيلة عن الطوفان الكبير دونت في إفريقيا، فمثلا لم يكتشف أثر لهذه الحكاية في الأدب المصري القديم- و هو دون شك أهم الآداب الأفريقية و أكثرها أصالة دون منازع- أما عن رواية الطوفان التي تنسب

ص: 29


1- 11. P,, 1962, noodnol, dooiF ehT. E. redrelloS
2- جيمس فريزر، الفلكلور في العهد القديم، ترجمة نبيلة إبراهيم، مراجعة حسن ظاظا، ص 91- 219
3- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارة القديمة- الجزء الأول- العراق، ص 460.

إلى «غينيا الشمالية» فهي أسطورة أكثر منها قصة، اختلطت فيها الخرافات بالمعجزات حتى بات من الصعب علينا مقارنتها بغيرها من قصص الطوفان، هذا إلى أنها نقلت إلينا عن طريق المبشرين الأوربيين، حتى أصبحنا لا نستطيع الحكم عليها و إرجاعها إلى أصل غيني أو أوربي، أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الرجال قد تحولوا بعد الطوفان إلى قرود، كما تحولت النساء إلى سحالي، و أن ذيل القرد هو بندقية الرجل، مما يدل بوضوح على مدى التأثير الأوربي الحديث في هذه الأسطورة الأفريقية عن الطوفان، كما أن الروايات التي اكتشفها الكتاب الألمان عن الطوفان الكبير بين سكان إفريقيا الشرقية ليست سوى روايات مختلفة لقصة الطوفان في الكتاب المقدس (التوراة و الإنجيل) و التي تسربت إلى هؤلاء البدائيين عن طريق المسيحيين (1).

و بديهي أننا لن نناقش هنا كل القصص و الأساطير التي دارت حول الطوفان الكبير الذي أغرق العالم، و لكننا سوف نقتصر على دراسة قصة الطوفان في منطقة الشرق الأدنى القديم، سواء تلك القصص التي روتها المصادر التاريخية، أو تلك التي تحدثت عنها الكتب المقدسة- التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم- و كلها- دون استثناء- أنزلت على أرض هذا الشرق القديم، كما أنه ليس واحدا من أصحابها- صلوات اللّه و سلامه عليهم- إلا و كان من هذا الشرق الخالد.

و لعل الذي دفعني إلى دراسة هذا الموضوع إحساس عميق بأن تنال الموضوعات التاريخية المتصلة بالكتب المقدسة قسطا وافرا من المؤرخين المسلمين، بعد أن ظل الميدان في العصر الحديث يكاد يكون مقصورا على الغربيين من يهود و نصارى، و ساعدني على هذه المحاولة تخصصي في التاريخ القديم، فضلا عن دراسات إسلامية قضيت فيها الشطر المبكر من حياتي العلمية، و إن كنت لا أزعم لنفسي فيها- بحال من الأحوال- مكانة تعدو مكانة عامة المسلمين الذين تعلموا من أمور دينهم القدر الذي يتعرفون به عليه، و إن كان مما لا ريب فيه أنه لا يصل بهم إلى مكانة الخاصة من المتخصصين في دراسات القرآن الكريم و الحديث الشريف و علومهما، ثم كان لوجودي بين أعضاء

ص: 30


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 201- 202.

هيئة التدريس بقسم التاريخ في كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية سبب آخر للقيام بهذه الدراسة.

أولا: قصة الطوفان السومرية:

كان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان، و لكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أن ذلك مجرد و هم، حيث عثر في عام 1853 م على نسخة من رواية الطوفان البابلية، و في الفترة ما بين عامي 1889، 1900 م، اكتشفت أول بعثة أمريكية قامت بالحفر في العراق اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة «نيبور» (نفر)، و كان «أرنو بوبل» أول من قام بنشره في عام 1914 م، ثم تبعه آخرون (1)، و إن كانت ترجمة «بوبل» هي الأساس الذي ما يزال يعتمد عليه الباحثون.

و يبدو من طابع الكتابة التي كتبت بها القصة السومرية أنها ترجع إلى ما يقرب من عهد الملك البابلي الشهير «حمورابي» (1728- 1686 ق. م)، على أنه من المؤكد أن القصة نفسها، إنما ترجع إلى عصر أقدم من ذلك بكثير، ذلك لأنه في هذا الوقت الذي كتب فيه اللوح لم يكن هناك وجود للسومريين، بوصفهم عنصرا مستقلا، إذ كانوا قد ذابوا في الشعب السامي، كما أن لغتهم الأصلية كانت قد أصبحت من قبل لغة ميتة، و ذلك على الرغم من أن الكهنة و الكتاب الساميين كانوا لا يزالون يدرسون الأدب القديم و النصوص المقدسة المحفوظة في ثنايا تلك الآداب، و يعيدون كتابتها، و من ثم فإن اكتشاف رواية قصة الطوفان السومرية يدعو إلى افتراض أنها إنما ترجع إلى زمن سابق على احتلال الساميين لوادي الفرات، و أن هؤلاء الساميين قد أخذوا هذه

ص: 31


1- «أ». 70- 9. P. I. tP, VI, ni, lebeoP onrA «ب» .1914 noitidarT worbeH ot noitaleR ni tpygE dna nolybaB fo sdnegeL ,gniK .W .L «ح». 98- 97. p. 1944. aihpledalihP, ygolohtyM nairemuS, remarK. N. S و كذلك. 44/ 42. P, TENA

لقصة- فيما يبدو- بعد هجرتهم إلى وادي الفرات عن السومريين (1) الذين سكنوا المنطقة قبلهم (2).

و أما سبب الفيضان، فلا يعسر علينا إدراكه، و لا سيما في بلد تكثر فيه الفيضانات الفجائية كالقسم الجنوبي من العراق، و لكن طوفانا كبيرا كالذي تحدثت عنه المصادر لسومرية و البابلية هو دون شك حدث عظيم وقع قبيل تغلب الإنسان على الأنهار، بما أنشأه من السدود و أعمال الإرواء، و أن هطول الأمطار كان مصحوبا بعواصف مدمرة (3).

و تتضمن قصة الطوفان السومرية عدة وقائع هامة، يتعلق أول ما يمكن قراءته من سطورها بخلق الإنسان و النبات و الحيوان، و بأصل الملكية السماوي، فضلا عن خمس مدن ترجع إلى ما قبل فترة الطوفان، و من أسف أن من بين اللوحات التي تتناول القصة لم تبق سوى لوحة واحدة، و حتى هذه فإن ما بقي منها لا يعدو ثلثها الأخير فحسب، و قد فقدت المقدمة و النهاية الخاصة بذلك النص، و من ثم فإنه غامض في أكثر نواحيه، هذا و يقدر عدد الأسطر التي يتكون منها النص في جملته بحوالي ثلاثمائة سطر، لم يعثر إلا على حوالي المائة منها، و رغم ذلك فانها تقدم لنا الخطوط الرئيسية للنص.

ص: 32


1- السومريون: يتفق المؤرخون على أن السومريين جنس غير سامي، و أن لغتهم غريبة لا تشبه اللغات السامية، و لا يعلم زمن مجيئهم إلى وادي الرافدين، و إن رأى البعض أن ذلك ربما كان في فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م.، (64- 156. p، 1948، 52، AJA) و قد اختلفت الآراء في موطنهم الأصلي، فقد ذكرت أساطيرهم أنهم جاءوا من الجنوب، و من ثم ذهب رأي إلى أنهم مهاجرون من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند و بين أفغانستان و بلوجستان عن طريق الخليج العربي و جزيرة البحرين بعد أن استقروا في غربي إيران فترة ما (عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم ج 1 ص 838)،) deveiver melborP nairemuS ehT, resiepS. A. E (و ذهب رأي ثان إلى اعتبارهم بدوا مما وراء القوقاز أو مما وراء بحر قزوين، و يرى «روتزني» أنهم جاءوا من آسيا الصغرى، بينما رأى آخرون أنهم جاءوا من السند (أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 28) بل لقد ذهب طه باقر (المرجع السابق ص 89- 90) إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ، و أن حضارتهم أصيلة في العراق، بل و يمكن تسمية أهل حضارة «العبيد» بالسومريين، على الرغم من أننا لا نعرف اللغة التي تكلم بها أهل حضارة العبيد.
2- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 103.
3- مجلة سومر- المجلد السابع 1951 م- العدد الأول.

و على أى حال، فبعد 37 سطرا، نلتقي بمعبود يشير إلى أنه سوف ينقذ البشر من الهلاك و أن الإنسان سوف يبني المدن و المعابد، و يلي ذلك ثلاثة سطور غامضة، ربما كانت تتضمن ما سوف يبذله المعبود في هذا السبيل، ثم الحديث عن خلق الإنسان و الحيوان و ربما النبات ... ثم 37 سطرا ضائعة، نعرف بعدها أن الملكية هبطت من السماء، و أن خمس مدائن أسست ... ثم 37 سطرا ضائعة ... ربما تشير إلى إصرار الآلهة على الإتيان بالفيضان و تدمير البشر، و حين يصبح النص مقروءا نجد بعض الآلهة غير راضين، و تجتاحهم التعاسة بسبب القرار القاسي .... ثم نلتقي ببطل القصة «زيوسودرا ardusuiZ» الذي يوصف بالتقوى، و بأنه ملك يخاف الإله، و يكب على خدمته في تواضع و خشوع، و يطيل النظر إلى المكان المقدس، و هو يقيم بجوار حائط يستمع منه إلى صوت معبوده أنكى الذي أخبره بالقرار الذي اتخذه مجمع الآلهة بإرسال الطوفان «لإهلاك بذرة الجنس البشري».

و لعل من المؤكد أن ما يلي ذلك تعليمات مسهبة إلى «زيوسودرا» ببناء سفينة هائلة لينقذ نفسه من الهلاك، غير أن هذا كله ناقص لوجود كسر كبير في اللوحة، ربما كان يشغل 40 سطرا، و من ثم فنحن ننتقل فجأة من موضوع تحذير الإله للإنسان إلى موضوع الطوفان، فيصف اللوح العاصفة و الأمطار و قد ثارت جميعا، ثم تستمر الرواية فتقول «و بعد أن هبت العاصفة الممطرة على الأرض سبعة أيام و سبع ليال يكتسح الفيضان فيها الأرض، و يدفع الفلك قدما على المياه المضطربة، ثم يظهر بعد ذلك إله الشمس «أوتو» و هو يكسب الضوء على السماء و الأرض، و عند ما تخترق أشعة الشمس السفينة، و يرى «زيوسودرا» نور ربه، و يعلم بصفحة، يخرج من الفلك و يسجد للرب مضحيا له بفحل و شاة».

و يلي ذلك كسر يشغل 39 سطرا، ثم تصف الأسطر الباقية كيف نفث الإله روح الخلود في «زيوسودرا»، مستقرا بأرض دلمون، حيث تشرق الشمس، أي حيث القوة القاهرة للموت (1)، دلمون التي هي مركز الخلق في الأساطير السومرية، جنة الخلد، .E

ص: 33


1- .247 .p ,1960 ,siraP ,neicnA tneieO -ehcorP el snsd setiR te sehtyM ,semaJ .O .E

«أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان مقدس (1)»، ثم يوصف «زيوسودرا» بعد ذلك بأنه «الشخص الذي حافظ على سلامة الجنس البشري» (2).

و يحتمل من سياق لوح صغير أن «زيوسودرا» كان قد تلقى الحكمة عن أبيه «شورباك» بن «و بار- توتو» أحد ملوك ما قبل الطوفان، و قد كرر في وصاياه لولده أن يتقبل نصائحه و أن يعمل بها، و ألا يحيد عنها (3) و هاك ترجمة للنص السومري لقصة الطوفان- كما هو موجود الآن (4).

37 سطرا على وجه التقريب مهشمة في بداية النص، ثم يلي ذلك:

إن البشر عبادي، و عن الهلاك المحيق بهم سأعمل ... إلى نينتو ... سأعيد مخلوقاتي.

سأعيد القوم إلى مواطنهم، أما المدن، فحقا سوف يبنون فيها لأنفسهم أماكن للشرائع الإلهية، و سأجعل ظلالها في سلام، و أما عن بيوتنا (ربما يعني أماكن الشرائع الإلهية) فحقا سوف يضعون آجرها في أماكن طاهرة، و هو (أي الإله) قد وجه ... الخاص بالحرم، و أكمل الشعائر، و الشرائع الإلهية المبجلة، و على الأرض ... قد وضع ...

هناك، و بعد أن خلق آتو وانليل وانكى و نينهو رساج البشر «ذوي الرءوس السود (5)»،

ص: 34


1- 59- 58. p, 1965, sirap, eimatoposeM aL, dranyA. M. J te loryaguoM. J
2- «أ» صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ترجمة د. أحمد عبد الحميد يوسف، مراجعة د. عبد المنعم أبو بكر، ص 97، «ب» جيمس فريزر: المرجع السابق ص 103- 105، «ج» نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم ج 6 ص 264- 265، «د» رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا- الكتاب الأول ص 222- 224، و كذلك. 44- 42. P, 1966, TENA ni, eguleD ehT, remarK haoN leumaS
3- . F 92. P, 1960, drofxO, erutaretiL modsiW nainolybaB, trebmaL. G. W و كذا عبد العزيز صالح: المرجع السابق ص 439.
4- «أ» محمد عبد القادر محمد: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين ص 110- 114. «ب». 31- 30. P, 1969, tsap tneicnA eht morf thgiL, nageniF kcaJ «ج». F 97. P, ygolohtyM nairemuS dna, 44- 42. P, TENA ni, remarK. N. S «د». 8- 206. P, 1931, ygolohtyM citimeS, nodgnaL. S و كذلك كريمر: من ألواح سومر ص 252- 259.
5- أصحاب الرءوس السوداء: أرضهم سومر، و هم ليسوا ساميين و لا آريين، و لغتهم ليست سامية أو هندو أوروبية (انظر، p .532 ,n .2( ,tneirO tneicnA eht fo erutcetihcrA dna trA eht ,trofknarF .H و ربما كانت كتابة الوركاء التصويرية سومرية، و من ثم فإن هؤلاء القوم ربما كانوا في ميزوبوتاميا على الأقل منذ الفترة الأخيرة من عصر الوركاء، و ربما منذ فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م (انظر،) 29. p, tic- po, nageniF. J على أن هذا التعبير، و إن كان يعني السومريين، فربما يعني كذلك سكان سومر و اكد معا، و ربما يشير في هذا النص إلى البشر عامة.

و ازدهر الزرع في الأرض، و أخرجت الحيوانات و مخلوقات السهول ذوات الأربع إلى الوجود بحكمة ... ثم نجابه بحوالي 37 سطرا مهشمة ... و بعد أن أنزلت الملكية من السماء، و بعد أن أنزل «تيارا» المعظم، عرش الملك من السماء ... أكمل الشعائر و الشرائع الإلهية المبجلة، و أسس المدن الخمس في ... مواضع طاهرة، و سماها بأسمائها و جعلها مراكز للعبادة، و كانت أولى هذه المدن «أريدو» فأعطاها إلى «نوديمو» القائد، و الثانية «بادتيبيرا» و أعطاها إلى ...، و كانت الثالثة «لاراك» و أعطاها إلى أندو بيلهور ساج، و أعطى الرابعة «سيبار» للبطل «أوتو»، و أما الخامسة ف «شورباك» و قد أعطاها ل «سود»، و حين سمى هذه المدن و جعلها مراكز للعبادة، فإنه أحضر ...

ثم قرر تطهير الأنهار الصغيرة ... ثم حوالي 37 سطرا مهشمة ...

الطوفان ... هكذا حلّ ب ... ثم بكت نينتو مثل ... و ناحت «أنانا» الطاهرة من أجل أناسها، ثم قام زيوسودرا، الملك، الباشيشو (لقب كهنوتي) و بنى ... ضخما، مطيعا متواضعا في احترام ... حاضرا كل يوم دائما ... محضرا كل أنواع الاحترام ...

ناطقا اسمي السماء و الأرض ... الآلهة حائط ... و كان زيوسودرا واقفا إلى جانبه، و قد سمع ... قف عند الحائط إلى جانبي الأيسر، و عند الحائط سوف ألقي إليك كلمته ... أصغ إلى تعليماتي، بقضائنا ... طوفانا سوف يكتسح مراكز العبادة، و يقضي على بذرة البشر، ذلك قرار، إنها كلمة مجلس الآلهة، بناء على الكلمة التي أمر بها «أنو» و «إنليل» ... و سوف ينتهي ملكها و حكمها ... (حوالي 40 سطرا مهشمة).

وهبت جميع الزوابع بعنف و ضراوة كقوة واحدة، و بعد ذلك و لمدة سبعة أيام و سبع ليال، اكتسح الطوفان الأرض (1) فيها، و تقاذفت الأعاصير السفينة الضخمة فوق المياه (

ص: 35


1- المقصود أرض سومر، و ليس الكرة الأرضية.) 43. P, TENA (

الضخمة، و ظهر «أوتو» الذي يضي ء السماء و الأرض، و فتح زيوسودرا كوة (نافذة) في الفلك العظيم، و أنفذ البطل «أوتو» أشعته في الفلك العظيم، و سجد زيوسودرا الملك أمام أوتو العظيم، و في نفس الوقت اكتسح الطوفان مراكز العبادة، و ضحى الملك بفحل و شاة ... (حوالي 39 سطرا مهشمة) تنطق أنت «نسمة السماء» و «نسمة الأرض» حقا، و تبسط نفسها عنه ... و نادى آنو و أنليل نسمة السماء و نسمة الأرض ب ... فبسطت نفسها ... و ازدهر الزرع الذي ينبت من الأرض، و سجد زيوسودرا أمام أنو و إنليل، و رضي أنو و إنليل عن زيوسودرا، الملك، الذي حافظ على اسم الزرع و بذرة البشر، و في أرض دلمون، أرض العبور، حيث تشرق الشمس أسكناه هناك، ... أما بقية اللوح (39 سطرا) فهي مكسورة، و لهذا لا نعرف ما ذا حدث لزيوسودرا بعد ذلك.

و لكن أين أرض دلمون هذه؟

إن العلماء مختلفون في موقع دلمون السومرية هذه، فذهب بعضهم إلى أنها في الجهة الجنوبية الغربية من بلاد فارس (الجزء الشرقي من ساحل الخليج العربي) (1)، و منهم من رأى أنها منطقة وادي السند (2)، و منهم من رأى أنها سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل (3)، و هناك من رأى أنها إنما تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين مجان و بيت نبسانو (4)، إلا أن غالبية العلماء يكادون يتفقون على أن موقع دلمون، إنما هو جزيرة البحرين الحالية، أو جزيرة البحرين و الساحل المقابل لها (5).

و سؤال البداهة الآن: هل هناك من الأدلة الأثرية في العراق ما يثبت قصة الطوفان السومرية هذه؟. J

ص: 36


1- ..28 -18 .P ,1944 ,96 ,RoSAB ,gniviL eht fo dnal eht ,numliD ,remarK .N .S
2- ..45 .P ,1946 ,aihpledalihP ,noitidepxE dnaL esidaraP nairemuS eht ,numliD dna noitaziliviC sudnI eht ,remarK .N .S
3- جون ألدر: الأحجار تتكلم- ترجمة عزت زكي- ص 30.
4- .. 250. S, I, ssirdnurG, lemmoH. F
5- ., numliD fo noitacoL eht nO, llewnroC. B. P و كذلك. 11- 3. P, 1946, 103, ROSAB 32. P,. tic- po, nageniF. J

لقد عثر «سير ليونارد و ولي (1)» في حفائره في «أور» عام 1929 م على طبقة من الغرين السميك الذي يقدر بحوالي ثمانية أقدام و الذي اعتبره دليلا ماديا على الطوفان السومري نظرا لكثافة تلك الطبقة الغرينية و توافقها الزمني إلى حد كبير مع النصوص السومرية، هذا مع ملاحظة أن تلك الطبقة الغرينية تقع فوق و تحت آثار تنتمي إلى عصر حضارة العبيد، و التي تمثل عصر ما قبل الأسرات الأول في جنوب العراق، ثم اتجه «و ولي» بعد ذلك إلى الحفر في موقع بعيد عن «أور» بحوالي ثلاثمائة ياردة من ناحية الشمال الغربي للبحث عن مدى امتداد تلك الطبقة الغرينية، و كانت نتيجة الحفر إيجابية، مما أدى إلى القول بوجهة نظره المشهورة في ارتباط تلك الطبقة الغرينية السميكة بالطوفان الذي ذكرته الكتب المقدسة (2).

و لكن أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري يرى أنه لا ينبغي الجزم بصورة حاسمة في هذا الشأن، ذلك لأن جنوب العراق القديم قد واجه الكثير من الفيضانات و الطوفان، فهناك أدلة غرينية على فيضان أو طوفان كبير في شورباك يرجع إلى نهاية عصر «جمدة نصر»، و آخر في «كيش» يرجع إلى فترة لاحقة للفيضان السابق، و هكذا بات من الصعب علينا المقارنة بين تلك الفيضانات، و أيها هو الذي يتفق مع قائمة الملوك السومرية، و لعل فيضان «شورباك» أكثر قربا منها على أساس أن تلك القائمة قد أشارت إلى المدينة الأخيرة، كآخر مدينة قبل حادث الطوفان، و لكن في نفس الوقت علينا ألا نستبعد كلية طوفان «أور» ذي الطبقة السميكة للغاية، أضف إلى ذلك أن عدم العثور على الطبقة الغرينية الموازية في كافة المدن السومرية يدفع إلى الاتجاه باحتمال كون الطبقة الغرينية التي عثر عليها «و ولي» في أور، إنما هي مجرد ترسيب محلي، ليس له الصفة الشاملة (3). .H

ص: 37


1- .36 -26 .P ,ru ta snoitavacxE ,29 -22 .P ,1950 ,nodnoL ,seedlahC eht fo ru ,yellooW .L .C
2- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 225.
3- نفس المرجع السابق ص 225- 226، و انظر كذلك 24. P, tic po, nageniF. J. و كذلك .35 -34 .P ,etontoof ,1962 ,nodnoL ,nolybaB saw taht ssentaerG eht ,sggaS .F .W .H

و هناك من الأدلة كذلك قائمة الملوك السومرية. و المكتوبة بالخط المسماري بعد عام 2000 ق. م (1)، أو في فترة لا تتأخر كثيرا عن منتصف عهد أسره أور الثالثة (حوالي 2112- 2015 ق. م)، و ربما قبيل عهد «أوتوحيجال» من أسرة الوركاء الخامسة، و إن كان يبدو أنها نسخت عن قوائم قديمة ربما ترجع إلى أخريات العهد الأكدي، و على أى حال، فإنها تحتوي على معلومات تاريخية ترجع إلى بداية العصر التاريخي في العراق القديم، و ربما إلى أقدم من ذلك (2).

و تبدأ الوثيقة بالقول أنه «عند ما أنزلت الملكية من السماء كانت في مدينة «أريدو»، ثم تذكر القائمة ثمانية ملوك حكموا قبل الطوفان في خمس مدن هي: أريدو، بادتيبيرا (تل المدائن قرب تللو) لارك (الوركاء: قرب كوت العمارة)، سيبار (أبو حبة) و شورباك (تل فارة)، و أن هؤلاء الملوك قد حكموا 200، 241 سنة، و أن آخر هؤلاء الملوك كان «وبار- توتو» و أنه قد حكم في مدينة شورباك لمدة 600، 18 سنة، ثم جاء من بعدهم الطوفان الذي أغرق الأرض، و بعد زوال الطوفان هبطت الملكية ثانية من السماء إلى «كيش»- و هي تل الأحيمر الآن قرب الحلة- ثم الوركاء (إرك في التوراة)، و هنا تعود القائمة مرة أخرى إلى ذكر أسماء المدن التي حكمت العراق القديم بعد ذلك (3).

و رغم الأرقام الأسطورية التي قدمتها الوثيقة كفترة حكم لملوكها، حتى بات من الصعب علينا أن نعرف منها متى انتهى العصر الأسطوري و متى بدأ العصر التاريخي؟، إلا أن الوثيقة- دون شك- تحمل بين طياتها كثيرا من المعلومات التاريخية الصحيحة، و مع ذلك، فما يهمنا هنا في الدرجة الأولى، أن الوثيقة تتحدث بوضوح عن طوفان يفصل بين فترتي حكم، الأولى سابقة له، و الثانية تالية له، تبدأ بنزول الملكية مرة ثانية .G

ص: 38


1- . 14. P, 1963, nodnoL, rU tA snoitavacxE, yellooW. L. S
2- . 29. P,. tic. po, nage niF. J و كذلك 14. P,. dibI
3- 30- 29. P,. tic- po, nage niF. J و كذلك, 15- 14. P,. tic. po, yellooW. L. S و كذلك 67- 265. P, TENA ni, miehneppO. L. A و كذلك 1939 ,ogacihC ,11 ,seidutS nairyssA ,tsiL gniK nairemuS eht ,nosbocaJ dlikrohT و كذلك .F 346 .P ,dakkA dna remuS fo snoitpircsnI layoR eht ,notraB .A .G

من السماء إلى كيش ثم الوركاء فأور، و لعل في هذا دليلا واضحا على أن قائمة الملوك السومرية إنما تعتبر حادث الطوفان الخطير بمثابة كسر في عملية استمرار تاريخ العراق القديم، و من ثم فهو حد فاصل بين عصور ما قبل التاريخ و العصر التاريخي.

و من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الأدلة الأثرية التي عثر عليها في طبقات مدينتي أريدو و الوركاء لتثبت حقيقة ما نصت عليه وثيقة قائمة الملوك السومرية من حيث انتقال السيادة السياسية في جنوب العراق القديم بين تلك المدن (1).

و يتجه «yellooW dranoeL riS» إلى اعتبار هذا الطوفان- موضوع الحديث- طوفانا كبيرا لا مثيل له في أي عصر لاحق من تاريخ العراق القديم، صحيح أن هناك في أور، و في مواضع أخرى من ميزوبوتاميا، أدلة على فيضانات مؤقتة و محلية حدثت في أوقات مختلفة من تاريخ العراق القديم، و في بعض الأحايين لم يكن أكثر من نتيجة أمطار هطلت في منطقة محدودة، و لكن صحيح كذلك أن الطوفان الذي وضع نهاية لحضارة «العبيد» إنما يتفق في توقيته مع التاريخ السومري الذي وصل إلينا عن طريق التقاليد، و أنه بعينه الطوفان الذي تحدثت عنه قائمة الملوك السومرية، و هو الطوفان الذي روته التوراة في سفر التكوين، على أنه يجب ألا يفهم أن القصة بحذافيرها صحيحة، صحيح أن الخلفية حقيقة تاريخية، و لكن التفاصيل قد زخرفها المؤلف السومري و العبري ببيانات و أوصاف تتفق و هدف كل منهما من كتابتها، فمثلا تقول التوراة إن الماء قد ارتفع 26 قدما، و هذا ما يبدو صحيحا إلى حد كبير، كما أن القصة السومرية تصف إنسان ما قبل الطوفان بأنه كان يعيش في أكواخ من بوص، و هذا أمر أثبتته الحفائر في العبيد و في أور، و أن نوحا قد بنى فلكه من خشب خفيف لا ينفذ منه الماء و لا يؤثر فيه، و أنه قد طلاه من داخل و من خارج، و هو أمر قد أثبتته الحفائر (2).

و هناك من الأدلة كذلك ما حدثنا عنه «سير ليونارد و ولي» من أنه قد وجد في أمور iS

ص: 39


1- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 247.
2- . 36- 34. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS

أسفل طبقة المباني السومرية طبقة طينية مليئة بقدور من الفخار الملون، مختلط بها أدوات من الصوان و الزجاج البركاني، و كان سمك هذه الطبقة حوالي 16 قدما (3 أمتار تقريبا) أسفل المباني الطينية التي يمكن تأريخها بحوالي عام 2700 ق. م، و أن أور قد عاشت أسفل هذه الطبقة في عصر ما قبل الطوفان، و لم تجر حتى الآن أي حفائر على نطاق واسع في هذه المنطقة، و كل ما أمكن إثباته هو وجود مدينة قبل الطوفان ... و أن الفخار الملون قد اختفى، و يستنتج «و ولي» أن سبب اختفاء هذا الفخار الملون الذي كان منتشرا في جنوب بلاد الرافدين قبل الطوفان اختفاء تاما مرة واحدة، هو أن الطوفان قد قضى قضاء تاما على سكان هذه البلاد، و حتى من بقي منهم حيا فقد فقد القدرة على الإنتاج، فجاء شعب جديد، هم السومريون، إلى تلك البلاد الخالية، و أسسوا حضارة جديدة، و كان فخارهم مصنوعا على دولاب الفخار، بدلا من الفخار المصنوع باليد الذي كان سائدا في عصور ما قبل الطوفان، كما استعملوا الأدوات المعدنية بدلا من الصوان (1).

و لعل سائلا يتساءل، و هل كان الطوفان السومري هذا طوفانا عاما أغرق الدنيا كلها، أم أنه كان مقصورا على جنوب العراق؟.

و يجيب «و ولي» بأن الطوفان لم يكن طوفانا عالميا عمّ الكون بأسره، و إنما كان مقصورا على الحوض الأسفل لنهري الدجلة و الفرات، و أنه قد أغرق المنطقة الصالحة للسكنى هناك بين الجبال و الصحراء،- و التي هي بالنسبة إلى السكان الذين يعيشون فيها بمثابة العالم كله- و أن المساحة التي شملها الطوفان ربما كانت 400 ميل طولا، في 100 ميل عرضا، و أن الغالبية العظمى من السكان قد أغرقهم الطوفان، و أن القوم قد رأوا أن هذه الكارثة بمثابة عقاب من الإله بسبب آثام الناس و خطاياهم، و أن قلة نادرة قد نجت، و أن رأس هذه القلة قد نظر إليه كبطل للقصة، و هو هنا «زيوسودرا» (2). iS

ص: 40


1- محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 96- 97.
2- , yrotsiH sA biB eht, relleK renreW و كذلك. 15- 50. P, 1967, nodnoL. 36. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
ثانيا: قصص الطوفان البابلية
1- ملحمة جلجاميش:

لقد ظل العالم لا يعرف شيئا عن قصة الطوفان البابلية إلا من خلال رواية «بيروسوس» التي كتبت باللغة اليونانية- و التي سوف نتحدث عنها فيما بعد- إلى أن عثر «ه. رسام massaR. H» في عام 1853 م على نسخة من رواية الطوفان البابلية في مكتبة «آشور بانيبال» (668- 626 ق. م) الشهيرة في العاصمة الآشورية «نينوى» ترجع إلى القرن السابع ق. م.

و في الثالث من ديسمبر 1872 م أعلن «سيدني سمث» نجاحه في جمع القطع المتناثرة من ملحمة جلجاميش بعضها إلى بعض، مكتوبة في اثني عشر نشيدا، أو بالأحرى لوحا، و محتوية على قصة الطوفان في لوحها الحادي عشر (1).

و أما «جلجاميش» هذا فهو واحد من الملوك الذين ورد اسمهم في ثبت ملوك الوركاء في عهد أسرتها الأولى التي لا نعرف عنها شيئا سوى أسماء ملوكها، و قد صار بعضهم- مثل جلجاميش- موضوعا لقصص و ملاحم شعرية، و يرجح العلماء الآن أن هؤلاء الملوك قد حكموا في العراق- في مدينة الوركاء- قبل عصور فجر الأسرات أو في بدايته (2)، على أننا نستطيع أن نعين تاريخا تقريبيا لعهد «جلجاميش» هذا عن طريق قطعة من المرمر موجودة بالمتحف العراقي- و إن كانت مجهولة الأصل- كتب عليها «مي- براج- سي» ملك كيش، و قد ثبت أنه الملك الثاني و العشرين من أسرة كيش الأولى «إن مي- براج- سي» هو في نفس الوقت والد «أجا» ملك كيش الذي حارب ضد «جلجاميش» خامس ملوك الوركاء- كما تحدثنا أسطورة جلجاميش و أجا السومرية (3)- و يرى «جورج روكس» أن «إن- مي- براج- سي» هو أقدم حاكم

ص: 41


1- . 371. P, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M و كذا: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 96- 97.
2- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج 1 ص 459.
3- . 47- 44. p, TENA ni, remarK. N. S و كذا نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 265- 267.

سومري معروف لنا، و إذا ما اعتبرنا أن «سرجون الأكدي» كان يعيش في الفترة (2371- 2316 ق. م)، فإنه من الممكن تقدير تاريخ حكم «إن- مي- براج- سي» هذا بحوالي عام 2700 ق. م، كما يمكن اعتبار ذلك التاريخ بداية للعصر التاريخي في العراق القديم (1)، و من ثم فإن جلجاميش كان يعيش بعد هذا التاريخ بفترة ليست بعيدة على أي حال.

و قد اشتهر جلجاميش في آداب العراق القديم منذ أقدم عصور التاريخ، و صار موضوعا لعدة ملاحم سومرية و بابلية، تدور حول مغامراته و أعماله البطولية، حتى صار أشبه ما يكون بأبطال اليونان في عهد الأشعار الهومرية، و هرقل و الإسكندر في المآثر العربية، و نمرود الوارد في التوراة (2)، و إن كانت ملحمته المشهورة بقصة جلجاميش، و التي يؤلف خبر الطوفان جزءا منها، أشهر ما عرف عنه من قصص و ملاحم.

و هاك ملخصا لها:

تبدأ قصة الطوفان بعد أن ينتهي جلجاميش من قصته التي فقد في أخرياتها صديقه «أنكيدو»، ذلك أن جلجاميش كان ملكا حكيما واسع المعرفة، شجاعا جريئا، و لكنه كان ظالما مستبدا، و من ثم فإن الآلهة قد خلقت له «أنكيدو» ليدافع عن الناس ضد ظلمه، إلا أن الصراع بينهما لم يحسم في مصلحة واحد منهما، و من ثم فقد تمّ الصلح بينهما، و قام الاثنان بمغامرات كثيرة، ثم مات أنكيدو فجأة، فحزن جلجاميش لفقده، ثم أسلمه الحزن إلى المرض، و ظل خائفا يترقب مصيره المحتوم، و إن كان في الوقت نفسه بدأ يفكر في وسيلة يتقي بها غائلة الموت، و هكذا هداه تفكيره إلى البحث عن جده «أوتنابيشتم» بن «وبار- توتو» ليسأله عن كيفية إمكان أن يكون الإنسان الفاني مخلدا، إذ كان على يقين من أن «أوتنابيشتم» على علم بهذا الأمر، ذلك لأن الآلهة قد رفعته إلى مصافها، و جعلته يسكن بعيدا في مكان ما متمتعا بنعمة الخلود.

و يتحمل جلجاميش من أجل بغيته هذه رحلة مضنية خطيرة، يلتقي في أثنائها

ص: 42


1- محمد أبو المحاسن عصفور: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم ص 349- 350. و كذا. 120- 119. P, 1966,) skooB niugneP (, qarI tneicnA, xuoR egroeG و كذا. 14. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
2- طه باقر: المرجع السابق ص 459.

برجل و امرأة في شكل ثعبانين يحرسان جبلا، كما يخترق طريقا مفزعا مظلما لم تطأه قدما إنسان فان من قبل، ثم يعبر بحرا مترامي الأطراف، و أخيرا يلتقي بإحدى الإلهات فيطلب منها أن تدله على مكان جده «أوتنابيشتم»، و لكنها- و قد علمت هدفه- تسدي إليه النصح قائلة: إلى أين تسعى يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجدها، ذلك لأن الآلهة لما خلقت البشر جعلت الموت من نصيبهم، و استأثرت هي بالخلود ...

لتكن مبتهجا ليل نهار، و لتجعل كل يوم من حياتك يوم فرح و حبور ... دلّل الطفل الذي يمسك بيدك، أدخل السرور إلى قلب المرأة التي في أحضانك ... فهذا هو نصيب البشرية»، و مع ذلك فإن جلجاميش يصر على سؤاله، فلا تجد الإلهة إلا أن تجيبه إلى ما يريد.

و يلتقي جلجاميش بجده «أوتنابيشتم» فيطرح سؤاله عن كيفية حصول الإنسان على الخلود، و هنا يجيبه «أوتنابيشتم»: هل بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟ هل عقدنا عهدا على أن نستمر إلى أبد الآبدين؟ لم يكن هناك خلود منذ القدم، ما أعظم الشبه بين الميت و النائم، أ لا تظهر على وجهيهما هيبة الموت؟ و هكذا مصير السيد و العبد حتى ينتهي أجلهما في هذه الدنيا ... و حين يتعجب جلجاميش من هذه الإجابة من شخص كان هو نفسه إنسانا فانيا ثم أصبح مخلدا فيما بعد، كان على «أوتنابيشتم» أن يشرح له كيف استطاع هو نفسه أن يهرب من المصير المحتوم لكل إنسان، فقص عليه قصة الطوفان الكبير التي تجرى على النحو التالي.

و هاك ترجمة (1) لها: E

ص: 43


1- . 99- 72. P, TENA ni, hsemagliG fo cipE ehT, resiepS. A. E و كذلك محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 98- 110، و كذلك طه باقر: المرجع السابق ص 467- 470، و كذا نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 347- 359، و كذلك: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 97- 101. و كذلك. 63- 33. P,. tic. po, nageniF. J و كذلك. 51- 48. P, ygolohtyM nretsaE raeN, yarG. J و كذا 23- 210 P, ygolohtyM citimeS, nodgnaL. S و كذلك .1949 ,slellaraP tnematseT dlO dna cipE hsemagliG ehT ,ledieH rednaxelA و كذلك 1920 ,hsemagliG fo cipE eht dna eguleD eht fo yrots nainolybaB eht ,egduB sillaW .A .E و كذلك. F 40. P, AENA و كذا 1930, hsemagliG fo cipE eht, nospmohT llebpmaC. E

قال أوتنابيشتم له، لجلجاميش، سأكشف لك يا جلجاميش عما خفي من الأمر، سوف أخبرك بسر الآلهة، شورباك مدينة أنت تعرفها على ضفاف الفرات، و هي مدينة قديمة قدم الآلهة التي بها، عند ما انتوت الآلهة إحداث الطوفان، كان من بينهم «آنو» أبوهم، و «انليل» الشجاع مستشارهم، و «نينورتا» مساعدهم، و «إينوجي» مفتش الترع، و «نينجيكو- أيا» كان حاضرا معهم، و أعاد قولهم إلى كوخ القصب (ربما مسكن أوتنابيشتم): يا كوخ القصب، يا حائط، يا حائط، اصغ يا كوخ القصب، استمع يا حائط، يا رجل شورياك، يا ابن «وبار- توتو».

اهدم هذا البيت، و ابن فلكا، دع الأملاك و أنقذ حياتك، اهجر المتاع ودع الروح حية، و احمل على ظهر الفلك بذرة كل شي ء حي، و الفلك التي ستبنيها ستكون أبعادها حسب هذا المقياس، عرضها مثل طولها، و اجعل سقفها كسقف الأيسو (العالم السفلي). ففهمت و قلت لمولاي «إيا»: نعم يا مولاي، إن ما تأمر به يشرفني أن أنفذه، لكن بم أجيب المدينة: الناس و الشيوخ.

ففتح «إيا» فاه و أجاب قائلا لخادمه، لي أنا، قل لهم: علمت أن إنليل يعاديني، و من ثم فلا أستطيع أن أقيم في مدينتكم أو أضع قدمي في أملاك أنليل، و لذا فسوف أنزل إلى الأعماق، و أسكن مع مولاي «إيا»، و أما أنتم فسوف ينزل عليكم مطرا مدرارا ... خير الطيور و أندر الأسماك، و سوف تمتلئ الأرض بمحاصيل وفيرة، و مع انبثاق الفجر تجمعت الأرض من حوالي ... النص مهشم، و حمل الصغار القار، و جاء البالغون بكل ما احتجنا إليه.

و في اليوم الخامس أقمت هيكلها (أي السفينة)، و كانت أرضيتها فدانا كاملا، و كان ارتفاع كل حائط من حوائطها 120 ذراعا، و طول كل ضلع من السطح 120 ذراعا، و بنيت هيكل جوانبها و ربطتها إلى بعضها، و جعلت فيها ستة أسطح، قسمتها إلى سبعة طوابق، و قسمت أرضيتها تسعة أجزاء، و دققت سدادات المياه بها، و جهزتها بما نحتاج إليه من المؤن، و صببت في الفرن ست سار (السار- 800 جالون) من القار، كما صببت كذلك ثلاثة سار من الأسفلت، (فضلا) عن ثلاثة سار من الزيت نقله

ص: 44

حاملو السلال، و سار من الزيت استهلكته القلفطة، كما خزن الملاح سارين من الزيت، و ذبحت ثيرانا للناس، و نحرت ماشية كل يوم، و أعطيت العمال عصير فواكه، و نبيذا أحمر و آخر أبيض، و كأنه مياه النهر، ليشربوا و كأنهم في يوم عيد رأس السنة، و فتحت ... الدهون، لوضعها على يدي.

و اكتمل الفلك في اليوم السابع، و كان إنزاله إلى الماء بالغ المشقة، حتى إنهم اضطروا لدفع ألواح الأرضية من أعلى و من أسفل، حتى أمكن إنزال ثلثي هيكله إلى الماء، و حملتها بكل ما عندي، حملتها بكل ما لذي من فضة، حلمتها بكل ما لدي من ذهب، حمّلتها بكل ما أملك من الكائنات الحية و كل عائلتي و ذوي قرباي، أركبتهم الفلك، و كذا حيوان الحقل و وحوش الحقل، و كل الصناع أركبتهم معي.

و قد حدّد لي «شمس» (شماس) وقتا معينا، عند ما ينزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا، أصعد إلى الفلك و أوصد بابه. و جاء اليوم الموعود، و أنزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا، و أخذت أرقب وجه السماء، و كان منظر العاصفة مخيفا يثير الرعب، فصعدت إلى الفلك و أوصدت بابه، و عهدت إلى النوتي «بوزور- أمورى» بقيادة الفلك، و بسد جميع منافذه.

و مع انبثاق الفجر، ظهرت في السماء غمامة سوداء، و أرعد «أداد» من داخلها، و تقدمها «شولات» و «هانيش» كنذيرين فوق التل و السهل، و نزع «إيرجال» (نرجال إله العالم السفلي) الأعمدة (أي الأعمدة الخاصة بسد العالم)، و جاءت «نينورتا» و جعلت السدود تفيض، و حمل «أنوناكي» المشاعل و جعلوا الأرض تشتعل نارا، و وصل الذعر من «أداد» إلى عنان السماء، فأحال النور إلى ظلمة، و انصدعت الأرض الواسعة، و كأنها جرة، وهبت عاصفة الجنوب يوما كاملا بسرعة عنيفة حتى أخفت الجبال، و حلت بالناس و كأنها حرب، فلا يرى الأخ أخاه، و لم يعد الناس يعرفون من في السماء، و خشي الآلهة الطوفان فأجفلوا و صعدوا إلى سماء «أنو» (أعلى سماء في النظرية العالمية عند الأكديين) حيث ربضوا كالكلاب على الأسوار الخارجية، و صرخت عشتار و كأنها امرأة جاءها المخاض، و ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت الشجي

ص: 45

بصوت عال: وا حسرتاه!، لقد تحولت الأيام الخوالي إلى طمي، لأني لعنت الناس في مجمع الآلهة، و لكن: كيف ألعن الناس في مجلس الآلهة، و أعلن حربا لفناء الناس، بينما أنا التي وهبتهم الحياة، إنهم يملئون البحر كبيض السمك، و بكى آلهة «أنوناكي» معها و جلس الآلهة جميعا يبكون في ذلة، و قد التصقت شفاههم بعضها ببعض، و استمرت ريح الفيضان تهب ستة أيام و ست ليال، و عاصفة الجنوب تكتسح الأرض.

و في اليوم السابع سكنت عاصفة الجنوب عن الحرب التي شنتها و كأنها جيش من الخيالة، و هدأ البحر، و سكنت العاصفة و توقف الطوفان، و تطلعت إلى الجو، فإذا السكون شامل، و إذا الناس و قد تحولوا إلى طين، و إذا الأرض قد تشققت و كأنها جرة، ففتحت كوة و سقط الضوء على وجهي، فجلست و بكيت و سالت دموعي على وجهي، و تطلعت إلى الدنيا في عرض البحر، و في كل من الأقاليم الأربعة عشر، (الاثني عشر) طلع نجم.

و استوت الفلك على جبل نيصير (1)، و أمسك جبل نيصير بالفلك و لم يدعها تتحرك، و يوم ثم يوم آخر، و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا، و يوم ثالث و رابع، و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا و يوم خامس ثم يوم سادس و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا، فلما كان اليوم السابع أطلقت حمامة فذهبت و عادت و عزّ عليها أن تجد مكانا ظاهرا تحط عليه، ثم أطلقت «سنونو»، إلا أنه عاد، إذ لم يكن ثمة مكان ظاهر يحط عليه، ثم أطلقت غرابا فذهب و رأى الماء يتناقص فأكل و عبّ و دار و لم يعد، ثم أطلقت الجميع إلى الرياح الأربعة، و ضحيت و أرقت سكيبة على قمة الجبل، و نصبت 4 أقدار، و على صحاف قوائمها كومت القصب و خشب الأرز و الآس. فشمت الآلهة الرائحة الزكية، و تكأكأت حول الأضاحي، و عند ما وصلت سيدة الآلهة (عشتار) نزعت المجوهرات العظيمة التي صاغها لها «أنو» ).

ص: 46


1- تصف النصوص المسمارية البابلية القديمة موقع جبل نيصير (نيزير) بأنه بين الدجلة و الزاب الأسفل و حيث سلسلة جبال كردستان في شرق الدجلة، و على أى حال فهو يمكن توحيده بجبل بئر عمر جدرون (انظر 57,. tic. po, relleK و كذا. 35. P,. tic. po, nageniF و كذا. 18- 17, 7. P, 27- 1926, 8, ROSAA, reziepS و محمد عبد القادر: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين).

طبقا لمشتهاها، و قالت: أيتها الآلهة، كما أنني سوف لا أنسى حقا عقد اللازورد الذي في عنقي، فسوف أذكر هذه الأيام و لن أنساها، ليتقدم الآلهة إلى القربان، إلا أنليل، فإنه لا يتقدم، لأنه أحدث الطوفان دون روية، وقاد شعبي إلى التهلكة.

و لما جاء أنليل و رأى الفلك عزّ عليه ذلك، و امتلأ غضبا على آلهة «أجيجي» (آلهة السماء) و قال: هل نجت روح، ما كان للبشر أن يبقى، ففتح «نينورتا» فاه و قال: من غير «إيا» يفشي الخطط، فإنه، يا أنليل الباسل، يعلم كل شي ء. و فتح «إيا» فاه و قال لأنليل البطل: أنت يا أحكم الآلهة، أيها البطل، كيف تحدث الطوفان دون روية، على الآثم وزر إثمه، و على المعتدي وزر اعتدائه، كن رحيما و إلا قطع ... كن صبورا و إلا أقضي ...

ليت أسدا هب و قلل من بني الإنسان، بدلا من أن تأتي بالطوفان، ليت ذئبا هب و قلل من بني الإنسان، بدلا من إحداث الطوفان، ليت مجاعة هبت و قللت من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان، ليت طاعونا هب و قلل من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان.

لست أنا الذي أفشيت سر الآلهة العظام، بل جعلت «أتراخاسيس» (حكيم الحكماء- أوتنابيشتم) يرى حلما كشف فيه سر الآلهة، فاقض فيه ما أنت قاض، و حينئذ صعد أنليل إلى ظهر السفين و أمسك بيدي و أخذني إلى ظهرها و أخذ زوجتي و جعلها تركع بجانبي و وقف بيننا ليباركنا و قال: لم يعد أوتنابيشتم بشرا، سيكون هو و زوجته أشبه بنا معشر الأرباب، و على ذلك أخذوني و أسكنوني بعيدا عند مصاب الأنهار، و لكن أنت يا جلجاميش من يجمع لك مجمع الآلهة ليهبوا لك الحياة التي تريد؟ ..

2- قصة بيروسوس:

في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، و على أيام الملك «أنتيوخوس الأول» (280- 261 ق. م)، كان هناك أحد كهنة الإله «مردوك» البابلي، و يدعى «بيروسوس sossoreB» قد كتب تاريخ بلاده باللغة اليونانية في ثلاثة أجزاء، و من

ص: 47

أسف أن هذه الكتابات- شأنها في ذلك شأن كتابات الكاهن المؤرخ المصري مانيتو من نفس الفترة- و التي تقدم وجهة النظر القومية حينئذ عن تاريخ العراق القديم لم تصل إلينا كاملة، و كل ما وصلنا منها مقتطفات حفظها لنا المؤرخون المتأخرون من الأغارقة، و من حسن الحظ أن هذه المقتطفات كانت تحتوي على قصة الطوفان البابلية التي تجري أحداثها على النحو التالي:

في عهد الملك «أكسيسوثروس»، و في ليلة ما، رأى هذا الملك فيما يرى النائم أن الإله «كرونوس» يحذره من طوفان سوف يغمر الأرض و يهلك الحرث و النسل، في اليوم الخامس عشر من شهر «دايسيوس»- و هو الشهر الثامن من السنة المقدونية- و من ثم فإن عليه أن يكتب تاريخ البشرية منذ بدايتها، و أن يدفن ما يكتبه في مدينة سيبار، بلد الشمس، حتى لا يضيع في طوفان سوف يدمر كل شي ء، كما أمره كذلك أن يبني فلكا يأوي إليه.

و يسأل «أكسيسوثروس» ربه عن المكان الذي يبحر إليه بفلكه هذا، فإذا به يجيبه «إلى الآلهة، و لكن بعد أن تصلي من أجل خير الناس»، و يصدع الملك بأمر إلهه، و يبني فلكا طوله مائة و ألف ياردة، و عرضه أربعمائة و أربعون ياردة، يجمع فيه كل أقربائه و أصحابه، و يختزن فيه زادا من اللحم و الشراب، فضلا عن الكائنات الحية من الطيور و ذوات الأربع.

و يغرق الطوفان الأرض، و عند ما ينحسر عنها يطلق الملك سراح بعض الطيور التي تعود إليه ثانية، ثم يطلقها بعد أيام، فإذا بها تعود و أرجلها ملوثة بالطين، و حين يكرر الأمر مرة ثالثة لا تعود الطيور إلى الفلك، و يعلم الملك أن الماء قد انحسر عن الأرض، و ينظر من كوة في السفين فيرى الشاطئ الذي يتجه إليه، و هناك تستقر الفلك عند جبل، حيث ينزل الملك و زوجته و ابنته و قائد الدفة.

و يسجد الملك لربه و يقدم له القرابين، ثم يختفي هو و من معه، و يبحث الذين ما يزالون في الفلك عن الملك و رفاقه، و لكنهم لا يجدون لهم أثرا، و حين يجدّون في البحث عن المختفين يسمعون صوتا يدوي في الهواء، و يطلب منهم أن يتقوا الآلهة و يكفوا عن

ص: 48

البحث عن المختفين، لأن الآلهة قد اختارتهم لكي يسكنوا إلى جوارها، ثم يأمرهم الصوت بالعودة إلى بابل و البحث عن الكتابات المدفونة هناك، و أن يوزعوها فيما بينهم، كما أخبرهم الصوت أن الأرض التي يقفون عليها، إنما هي أرض أرمينيا، و هكذا عاد القوم- دون المختفين- إلى بابل، و استخرجوا الكتابات المدفونة في سيبار، و شيدوا مدنا كثيرة، و أعادوا الأرض المقدسة و عمروا بابل بنسلهم (1).

و هناك رواية أخرى لأسطورة الطوفان قديمة كل القدم، اكتشفت في مدينة «نيبور» (2) في أثناء عمليات الحفر التي قامت بها جامعة بنسيلفانيا، و هذه الرواية مدونة على كسرة من الفخار غير المحترق، و قد رأى الأستاذ «ه. و. هيلبرخت» مرتكزا على أسلوب كتابتها، و على المكان الذي عثر عليها فيه، أن هذه الرواية لم تدون بعد عام 2100 ق. م، و قد ورد في هذه الرواية أن الإله ظهر ليذيع نبأ حدوث طوفان سيكتسح الجنس البشري في الحال، و حذر من هذا الطوفان شخصا بعينه، فطلب منه أن يبني فلكا كبيرا، ذا سقف قوي، لينجو فيها بحياته، و أن يأخذ معه فيها صنوف الحيوان الأليفة و طيور السماء (3).

و هكذا فإن هناك الكثير من الشواهد الأثرية لقصة الطوفان البابلية، تؤيدها كتابات على لوح مهشم اكتشف في مدينة «سيبار» أثناء عملية الحفر التي قامت بها الحكومة التركية، و يرجع إلى حوالي عام 1966 ق. م، نستطيع أن نستخلص منه اسم «أثرخاسيس» (أترام خاسيس)، فضلا عن إشارات إلى المطر الغزير، و إلى السفين

ص: 49


1- سير جيمس فريزر: الفلكور في العهد القديم- ترجمة نبيلة إبراهيم- مراجعة حسن ظاظا- ج 1- ص 94- 95.
2- نيبور: و تقع على مبعدة مائة ميل إلى الجنوب من بغداد، و في منتصف المسافة تقريبا بين كيش و شورباك، و تعتبر نيبور أهم المراكز الثقافية السومرية في العراق القديم، كما أنها أكبر مدينة مقدسة، و ربما أكبر مركز ديني في بابل، كما أن «انليل» إله المدينة كان رئيس مجمع الآلهة البابلي، و قد أمدتنا المدينة بالآلاف من اللوحات المكتوبة و الجذاذات التي صنفت في الألف الثالثة و الثانية ق. م، و التي تدل بوضوح على مدى انتشار الثقافة السومرية (انظر 277. P, STFK) و كذلك .1897 ,.slov 2 ,setahpuE eht no snoitarolpxE ro ,ruppiN ,sreteP .P .J و كذك FF 289 .P ,1903 ,ainolybaB dna aieyssA ni snoitavacxE eht ,thcepliH .W .H
3- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 102.

الذي أمر الملك التقي في «شورباك» ببنائه، و إلى الأفراد الذين أنقذوا من الطوفان بواسطة الفلك (1).

هذه هي أهم الروايات لقصة الطوفان في العراق القديم، و قبل أن نعقد مقارنة بين القصص السومرية و البابلية، نودّ أن نشير إلى أنه قد عثر في أرشيف «بوغازكوي» العاصمة الحيثية على نسخة ترجع إلى الألف الثاني ق. م، فضلا عن ترجمة للقصة باللغة الحيثية، و أخرى بالحورية على جزء من لوحة حورية.

يرى «جيمس فريزر (2)» أن قصة الطوفان السومرية تتفق في ملامحها الأساسية مع قصة الطوفان كما جاءت في ملحمة جلجاميش التي تتميز عن أختها السومرية بطولها و كثرة حوادثها، ففي كلتا القصتين قرر إله كبير أن يهلك الجنس البشري عن طريق إغراق الأرض بالأمطار، و في كليتهما حذر إله آخر رجلا من حدوث الكارثة، و قد أنقذ هذا الرجل و من معه عن طريق سفينة أمر ببنائها، و في كلتا الحكايتين بلغ الفيضان ذروته في اليوم السابع، و في كلتا الحكايتين قدم الإنسان ضحيته للآلهة بعد أن انتهى الطوفان، ثم رفعته الآلهة بعد ذلك إلى مصافها.

أما الاختلاف الجوهري الوحيد بين الروايتين، فيتمثل في اسم البطل فيهما، فهو «زيوسودرا» في الرواية السومرية، و هو «أوتنابيشتم» أو «أثرخاسيس» في الرواية السامية.

ثالثا: قصة الطوفان اليهودية كما ترويها التوراة:
اشارة

وردت هذه القصة في الإصحاحات من السادس إلى التاسع من سفر التكوين، و تجري أحداثها على النحو التالي- كما يصورها النص العربي للتوراة-:

بدأ الناس يتكاثرون على الأرض، و يلدون بنات، و هنا رأى أبناء اللّه أن بنات الناس حسناوات، و من ثم فقد اتخذوا منهن لأنفسهم نساء، و سرعان ما أنجبت النسوة من بنات الناس، أبناء للرجال من أبناء اللّه، «و هم الجبابرة منذ الدهر».

ص: 50


1- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 102. و كذا F 24. P, doolF ehT, regreblloS. E و كذا f 24. p, doolf eht, regrebllos. e
2- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 105.

و هنا رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن أنه عمل الإنسان في الأرض و تأسف في قلبه، و عزم على أن يمحو الإنسان و البهائم و الدواب و الطيور عن وجه الأرض، و إن استثنى من ذلك نوحا، لأنه «كان رجلا بارا كاملا في أجياله، و سار نوح مع اللّه».

و تزداد شرور الناس، و تمتلئ الأرض ظلما، و يقرر الرب نهاية البشرية، إذ تحدرت إلى شر و غواية، و يحيط نوحا علما بما انتواه، آمرا إياه بأن يصنع فلكا ضخما، «ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك و خمسين ذراعا عرضه، و ثلاثين ذراعا ارتفاعه»، و أن يكون طلاؤها بالقار و القطران من داخل و من خارج، حتى لا يتسرب إليها الماء، و أن يدخل فيها اثنين من كل ذى جسد حي، ذكرا و أنثى، فضلا عن امرأته و بنيه و نساء بنيه، هذا إلى جانب طعام يكفي من في الفلك و ما فيه (1).

و يكرر الرب أوامره لنوح في الإصحاح التالي، فيأمره أن يدخل الفلك و من معه، «و من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا و أنثى، و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و أنثى، و من طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا و أنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض»، ذلك لأن الرب قرر أن يغرق الأرض و من عليها و ما عليها بعد سبعة أيام عن طريق مطر يسقط على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة، و يصدع نوح بأمر ربه فيأوي إلى السفين و معه أهله و اثنين من البهائم الطاهرة و غير الطاهرة، فضلا عن الطيور و كل ما يدب على الأرض.

و في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من عام ستمائة من حياة نوح بدأ الطوفان، «و انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم و انفتحت طاقات السماء، و استمر الطوفان أربعين يوما على الأرض»، و تكاثرت المياه و رفعت الفلك عن الأرض و تغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء، خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، و مات كل جسد كان يدب على الأرض، من الناس، و الطيور و البهائم و الوحوش و كل

ص: 51


1- تكوين 6: 1- 22.

الزحافات، و بقي نوح و الذين معه في الفلك فحسب (1).

و مضت مائة و خمسون يوما نقصت من بعدها المياه، حتى إذا ما كان اليوم السابع عشر من الشهر السابع استقرت الفلك على جبل أراراط، ثم ظهرت رءوس الجبال في اليوم الأول من الشهر العاشر، ثم تمضي أربعون يوما، و بعدها يرسل نوح غرابا ثم حمامة تعود بعد فترة، «لأنها لم تجد مقرا لرجلها»، ثم يعود نوح فيرسلها ثانية بعد سبعة أيام أخر، فتعود و معها ورقة زيتون خضراء، و يكرر نوح المحاولة بعد سبعة أيام أخر، فلا تعود إليه الحمامة.

و في أول الشهر الأول من السنة الواحدة بعد الستمائة من حياة نوح «فإذا وجه الأرض قد نشفت»، و أمر نوحا أن يخرج من السفين، و كذا من معه و كل الحيوانات و الدواب و الطيور، و يبني نوح مذبحا للرب و يصعد له محرقة، «فتنسم الرب رائحة الرضا، و قال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان .. و لا أعود أميت كل حي كما فعلت» (2).

«و بارك اللّه نوحا و بنيه و قال لهم أثمروا و اكثروا و املئوا الأرض، و لتكن خشيتكم و رهبتكم على كل حيوانات الأرض و طيور السماء»، ثم حرم عليهم قتل بعضهم البعض الآخر، لأن «سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن اللّه على صورته عمل الإنسان»، ثم يقيم اللّه ميثاقه مع نوح و بنيه و مع نسلهم من بعدهم، فضلا عن الطيور و البهائم و كل وحوش الأرض، على ألا يكون هناك طوفان بعد اليوم، ذلك لأن الرب قد وضع قوسه في السحاب كعلامة ميثاق بينه و بين كل ذي جسد على الأرض، و أنه متى نشر السحاب على الأرض و ظهر القوس، تذكر الرب ميثاقه، فلا يكون طوفان يهلك كل ذي جسد على الأرض (3).

و تختم التوراة قصة الطوفان برواية دنيئة كاذبة مؤداها أن نوحا قد شرب مرة بعد

ص: 52


1- تكوين 7: 1- 23.
2- تكوين 7: 1- 21.
3- تكوين 9: 1- 17.

نجاته من الطوفان نبيذ العنب الذي غرس كرمه بيده، ففقد وعيه و انكشفت سوأته، فرآه ابنه حام على هذه الصورة فسخر منه و حمل الخبر إلى أخويه سام و يافث، و لكن هذين كانا أكثر منه أدبا، فحملا رداء و سارا به القهقرى نحو أبيهما و سترا عورته دون أن يبصراها، فلما أفاق نوح من خمره، و بان له ما فعله به حام، لعن كنعان و دعا على نسله أن يكونوا عبيدا لعبيد أولاد سام و يافث (1).

و عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسع مائة و خمسين سنة و مات (2).

1- مناقشة قصة التوراة عن الطوفان:

يجمع نقاد التوراة (العهد القديم) (3)، على أن أسطورة الطوفان العبرية كما هي مدونة في سفر التكوين تجمع بين قصتين متميزتين في أصلهما، و متناقضتين تناقضا جزئيا، و قد مزج المؤلف بين القصتين لكي يكون منهما قصة واحدة متجانسة من ناحية الشكل، و مع ذلك فقد مزج المؤلف بينهما بطريقة فجة للغاية، بحيث لا يفوت القارئ ما فيهما من تكرار و تناقض، حتى و إن كان القارئ غير مدقق في قراءته (4).

و أما هذان المصدران اللذان أخذ سفر التكوين قصة الطوفان عنهما، فأولهما:

المصدر اليهوي «tnemucoD citsivhaJ» و يرمز له بالحرف «J»، و ربما ألف حوالي عام 850 ق. م في يهوذا، و سمي كذلك لأنه يستعمل اسم العلم «يهوه»، و أما ثانيهما فهو المصدر الكهنوتي «tnemucoD yltseirP» و يرمز له بالحرف

ص: 53


1- تكوين 9: 20- 27 و كذلك علي عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة ص 32.
2- تكوين 9: 28، 29.
3- التوراة: كلمة عبرانية تعني الهداية و الإرشاد، و يقصد بها الأسفار الخمسة الأولى (التكوين و الخروج و اللاويين و العدد و التثنية) و التي تنسب إلى موسى- عليه السلام- و هي جزء من العهد القديم، و الذي يطلق عليه تجاوزا اسم «التوراة» من باب اطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة و نسبتها إلى موسى- و التوراة، أو العهد القديم- تمييزا له عن العهد الجديد (كتاب المسيحيين المقدس)- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم و شرائعهم، و يقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس و الأنبياء و الكتابات (راجع كتابنا إسرائيل ص 19 و ما بعدها).
4- جيمس فريزر: المرجع السابق، ص 106.

«P»، و هو حواشي الكهنة التي أضافوها إلى نص التوراة على عهد عزرا و نحميا، و قد أدمج في مصادر التوراة (1) الأخرى حوالي نهاية القرن الخامس، و ربما الرابع ق. م، و ليس من شك أن كلا المصدرين يختلف عن الآخر اختلافا بيّنا في أسلوبه و صيغته، كما أنهما ينتميان إلى عصور مختلفة، كما رأينا، هذا إلى جانب أن الرواية «اليهوية» تنبض بحيوية و خيال، بينا النص «الكهنوتي»، و إن كان جافا بالقياس، فهو يتميز بدقة و تدبر (2).

و تتميز العناصر التفصيلية التي تتألف منها قصة الطوفان في سفر التكوين بعضها عن بعض من حيث اللفظ و المادة (3)، فإذا بدأنا بوجوه الاختلاف الشكلية، فإن أول ما يلفت النظر هو اختلاف اسم الرب في كلا المصدرين فهو في المصدر اليهوي «يهوه»، و هو في المصدر الكهنوتي «إلوهيم»، و كلا الاسمين نقلتهما «الترجمة الإنجليزية المعتمدة» إلى كلمتي «السيد» و «الرب» على التوالي (4)، و أما الترجمة العربية للتوراة، فانها تستعمل كلمة «الرب» و «اللّه» بدلا من «يهوه» و «إلوهيم».

على أن الاختلافات المادية بين الحكايتين- اليهوية و الكهنوتية- لا تزال تلفت النظر إلى أكثر من ذلك، و حيث إن هذه الاختلافات تصل في بعض الحالات إلى حد التناقض القاطع، فإن إثبات أن هذه الحكايات مستمدة من مصدرين منفصلين يصل إلى حد اليقين، و لنقرأ ما جاء في سفر التكوين (5)، من أن اللّه أمر نوحا أن يأخذ «من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة ذكرا و أنثى، و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و أنثى، و من طيور السماء أيضا سبعة ذكرا و أنثى»، ثم نقرأ بعد ذلك في نفس السفر- بل و في نفس الإصحاح- «و من البهائم الطاهرة و البهائم التي ليست

ص: 54


1- راجع عن «مصادر التوراة» كتابنا إسرائيل ص 45- 48.
2- .14 .P ,1961 ,siraP ,freC ud .dE )melasu reJ ed euqilbiB elocE( elbiB etniaS aL و انظر التعليق في الهامش، و كذلك: حسين ذو الفقار صبري: توراة اليهود، المجلة، العدد 157، يناير 1970 م.
3- راجع «التناقضات في التوراة» في كتابنا إسرائيل، ص 97- 109.
4- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 110.
5- تكوين 7: 2- 3.

بطاهرة و من الطيور و كل ما يدب على الأرض، دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكرا و أنثى، كما أمر اللّه نوحا» (1)، فهل أمر اللّه نوحا أن يأخذ «سبعة سبعة» أم «اثنين اثنين»؟ أم أن نوحا- و حاشا نبي اللّه أن يكون كذلك- قد عصى أمر ربه؟

أم أن هذا كان خطأ من الكاتب؟ و إذا كان ذلك كذلك، ففي أي النصين كان الخطأ، أ في نص الأمر، أم في نص التنفيذ؟ علما بأن نص التنفيذ قد تكرر مرة ثانية في التكوين «و دخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة» (2)، كما أن الواضح من نص التكوين هذا أنه يضغط على أن ما أمر به الرب «اثنين اثنين»، و لكنه في التكوين (7: 2) يختلف عن ذلك كثيرا.

و لعل السبب في هذا التناقض- فيما يرى جيمس فريزر (3)- أن الحكاية اليهوية عن الطوفان تميز بين الحيوانات الطاهرة و الحيوانات النجسة، فبينما أخذ نوح معه في الفلك سبعة من كل صنف من صنوف الحيوان الطاهر، لم يأخذ معه سوى زوج من كل صنف من صنوف الحيوان النجس، أما الكاتب الكهنوتي فلم يميز بين صنوف الحيوان على هذا النحو، بل جعلها تدخل الفلك و هي على قدم المساواة مع بعضها البعض، و إن قصر عددها بدون تحيز على زوج من كل صنف، و السبب في هذا الاختلاف البين، هو أن الكاتب الكهنوتي لم يفرق بين ما هو طاهر من الحيوان و ما هو نجس، على أساس أن هذه التفرقة قد أوحى بها الرب لموسى لأول مرة، و من ثم فإن نوحا لم يكن يعرفها، أما الكاتب الكهنوتي فقد رأى أن التفرقة بين صنوف الحيوان على أساس الطهارة و النجاسة كانت معروفة لدى الجنس البشري منذ العصور الأولى.

و مرة أخرى تناقض التوراة نفسها في سبب الطوفان، ففي الرواية اليهوية يعزو «يهوه» القضاء على البشرية، إذ تحدرت إلى شر و غواية (4)، أما في الرواية الكهنوتية، فإن اللّه (إلوهيم)- لاحظ مرة أخرى الاختلاف بين «يهوه» هناك، و بين «إلوهيم»

ص: 55


1- تكوين 7: 8- 9.
2- تكوين 7: 15- 16.
3- جيمس فريزر: المرجع السابق. ص 112.
4- تكوين 6: 5- 7. كذلك: حسين ذو الفقار صبري. توراة اليهود، المجلة، العدد 157 يناير 1970 ص 11.

(اللّه) هنا- إنما يتخذ قراره! إذ يرى الأرض قد فسدت جميعا ... كل من و ما عليها من حي» (1).

و الأمر كذلك بالنسبة إلى مصدر الطوفان، فبينما يعزوه النص اليهوي إلى مطر عارم يتهاطل على الأرض أربعين يوما بلياليها دون انقطاع (2)، يعزوه النص الكهنوتي ليس إلى المطر وحده، و إنما تنفجر أيضا ينابيع الغمر العظيم من أسفل كما من فوق، فكأن قد انهار «الجلد» الذي نصبه الإله عند بدء الخليقة فاصلا بين المياه السفلية و التي في السماء، كما تحدثنا التوراة (3).

ثم إن هناك اختلافا جوهريا آخر بين الكاتبين يتعلق بدوام مدة الطوفان، فقد ظلت الأمطار تهطل في قصة الكاتب اليهوي مدة أربعين يوما و أربعين ليلة (4)، ثم ظل نوح في فلكه بعد ذلك مدة ثلاثة أسابيع قبل أن ينحسر الماء بمقدار يمكنه من الرسو بسفينته، و وفقا لهذا الحساب فإن الفيضان يكون قد دام واحدا و ستين يوما، أما في الحكاية الكهنوتية فقد أخذ الطوفان يهطل مدة مائة و خمسين يوما (5)، و بعده أخذت المياه في الانخفاض، أما مدة الطوفان في العموم فقد استغرقت اثني عشر شهرا و عشرة أيام، و حيث إن الشهور العبرية كانت شهورا قمرية، فإن الاثني عشر تقدر بثلاثمائة و أربعة و خمسين يوما، و إذا أضفنا إلى هذا الرقم عشرة أيام أخرى، فإن المدة تكون حينئذ سنة شمسية كاملة، أي ثلاثمائة و أربعة و ستين يوما، و حيث إن الكاتب الكهنوتي قد حسب مدة الفيضان بما يساوي سنة شمسية، فإنه يمكننا أن ندعي- و نحن مطمئنون- أن هذا الكاتب قد عاش في الزمن الذي استطاع فيه اليهود أن يصححوا الخطأ الكبير في التقويم القمري عن طريق مراقبتهم للشمس (6).

و أخيرا فإن الكاتب اليهوي- كما يقول جيمس فريزر (7)- عن بناء نوح للهيكل

ص: 56


1- تكوين 6: 11- 13 و كذلك: حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 11.
2- تكوين 7: 4، 12.
3- تكوين 1: 6- 7 و كذلك حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 11.
4- تكوين 7: 5، 13، 17.
5- تكوين 7: 24، 8: 3.
6- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 112.
7- نفس المرجع السابق ص 113.

و تقديمه الضحية للرب شكرا له على إنقاذه من الطوفان، في حين أن الكاتب الكهنوتي لا يذكر شيئا عن بناء الهيكل أو تقديم الضحية، و سبب هذا بدون شك هو أنه لم يكن هناك هيكل سوى هيكل أورشليم من وجهة نظر القانون «اللاوي» الذي انشغل به الكاتب الكهنوتي، كما أن تقديم الضحية من قبل رجل عادي مثل نوح يعد عملا غير لائق لم يحدث من قبل، كما يعد تعدّيا كبيرا على حقوق رجال الدين لم يفكر الكاتب الكهنوتي لحظة في أن ينسبه إلى الشيخ المبجل.

و بناء على ذلك فإن الموازنة بين الحكايتين تؤكد بصورة واضحة النتيجة التي توصل إليها النقاد، و هي أنهما كانتا في الأصل مستقلتين، و أن الحكاية اليهوية تعد بحق أقدم من الحكاية الكهنوتية، ثم مزج كاتب النص الحالي في التوراة بينهما بطريقة فجة للغاية.

ثم يزعمون بعد ذلك- و يا للعجب- أن هذا تنزيل من عليّ قدير، «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا» (1). فإن كتابا من عند اللّه لا تتضارب نصوصه بعضها مع بعض «أ فلا يتدبّرون القرآن و لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» (2).

بقيت نقطة أخيرة في قصة الطوفان- كما قدمتها التوراة- تتصل بوجهة نظر جديدة في الحقيقة، ذلك لأنه نظرا لما تتمتع به الأساطير الطوفانية من دلالات خاصة في كافة الديانات، فإنما ترمز إلى إعادة خلق (3)، أو إلى تكرار عملية التكوين الأولى، فتتأكد فيه بالنسبة للمكان قدسية «المركز الكوني»، و إنا لنجد إيحاءات بذلك في الكتابات الحاخامية، تقريرا بأن «العالم خلق إلى وجود ابتداء من صهيون»، و أن آدم إنما «سوّي في أورشليم» (4)، ثم الادعاء بأن أرض فلسطين متسامقة عن غيرها، لم تغمرها مياه الطوفان، مع التركيز في نصوص أخرى على أن مدينة أورشليم و جبل صهيون بالذات، هما اللذان أفلتا من الغمر العظيم (5).

ص: 57


1- سورة الكهف: آية 5.
2- سورة النساء: آية 82.
3- .182 .P ,1964 ,siraP ,snoigileR sed eriortsiH'd etiarT ,edailE aecriM
4- . 18- 16. P, 1959, kroY weN, yrotsiH dna somsoC, edailE aecriM
5- . 15- 13. P,. dibI، و كذلك حسين ذو الفقار: إله موسى في توراة اليهود: المجلة- العدد 163 يوليو 1970 ص 15.

فلو كانت العقيدة اليهودية صادقة مع نفسها، لما انحط فلك نوح على جبل «أراراط»، و إنما على جبل صهيون، الذي انعقدت من بعد نصوص التوراة على تجسيده في صورة من تفرد قدسي، من حول معبد سليمان، مما حدا بالحاخامات أن يدونوا ما دونوا- و سبق الإشارة إليه- من أنها منطقة متسامقة قصر عن أن يغمرها الطوفان، في تحد سافر لما تقرره النصوص القديمة (1) من أن قد «تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء»، و من هنا، فهو إذن صهيون، و ليس أراراط، الجبل الذي انحط عليه فلك نوح، إلا أن نكون أمام حقيقة تاريخية- فهو «الجودي» استوت عليه سفينة نوح، إذ «غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ» (2)، و لكن من أدرانا أن «لجودي» كان قمة من جبال أراراط، حتى نسلم أننا أمام حقيقة تاريخية، إنما هو افتراض لا يستقيم مع المنطق- نستخلصه من الدراسات المقارنة- الذي خضعت له في جوهرها أساطير الأولين- بل و حتى تحبيرات الحاخامات، بعد ذلك بقرون- حريصة كل الحرص على قدسية المكان، من حيث مركزية تكوين، و بالضرورة، من حيث إعادة خلق، أو إعادة توالد و تكاثر من صلب ذرية مصطفاة، و قد أبيدت أسباب الحياة جميعا (3).

إننا بصدد أسطورة أجمع النقاد على أنها استعيرت من أصول سابقة- سومرية أو بابلية فيما قيل- استنادا إلى النصوص التي تمّ الكشف عنها، و لكن ليس حتما و بالضرورة، فقد كانت شائعة ذائعة فيما بين الشعوب القديمة، فمن يدرينا أن لم تستق عناصرها عند العبريين من روايات أخرى، ضاعت أصولها فيما ضاع، أو ربما هي بعد في طي الغيب، لم تتهيأ ظروف الكشف عنها، كما كان الحال بالنسبة للرواية السومرية قبل عام 1914 م (4).

و لعل الذي يدفعنا إلى هذا التساؤل، إنما هو كلمة «أراراط» استوقفتنا فنحار

ص: 58


1- تكوين 7: 19.
2- سورة هود آية: 44.
3- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 15.
4- نفس المرجع السابق ص 15، و كذلك, nodnoL, ygolohtyM nretsaE elddiM, ekooH. H. S 16. P، 1963.

كيف أمكنها التسلل إلى نصوص التوراة ... لا تفسير إلا أن الأسطورة هنا مستقاة من أصول تداولها أقوام استوطنوا وقتا ما هضاب أرمينيا، تلك المنطقة الجبلية، حرية بأن تكون قد أورثتهم عبادة إله ما، بركاني الصفات و السمات، يطلقون عليه من بعد- إذ يستقر بهم المقام في أرض كنعان- تحريفا أو تبديلا، أسماء سامية أو قريبة في مخارجها على الأقل من اللغات السامية، مثل «أداد» و «شداي». و إل وه ربما كان هو الاسم العتيق للإله «يهوه» إله القينيين منذ الأزل ... بل إن بعض الثقات يرجعون أسطورة الطوفان- كما في التوراة- إلى أصول «حورية» من الذين استقروا بأرض فلسطين في عصر إبراهيم (تك 14: 6) تعثر بنقوشهم متناثرة فيما بين تل الحريري (ماري القديمة) و رأس شمرا (أوجاريت)، و لكن أقدمها، تلك التي في «بوغازكوي» عاصمة الحيثيين القديمة بقلب الأناضول، اشتملت على مقاطع من ملحمة جلجاميش، و لغتهم- أو لهجة متفرعة عنها- هي التي كانت سائدة في مملكة «أورارتو utrarU»- أرمينيا القديمة- إليها تنسب جبال «أرارات» أو «أراراط» كما في التوراة (1)، و مع ذلك فإننا نميل إلى أن قصة الطوفان، كما جاءت في التوراة، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على أساطير طوفانية- سومرية أو بابلية- من العراق القديم، الأمر الذي سوف نوضحه فيما بعد.

و لكن: لعل من الأفضل قبل ذلك، أن نشير إلى الدور الذي لعبه الخيال اليهودي في العصور المتأخرة بحكاية الطوفان- كما روتها التوراة- فأضافوا إليها تفاصيل جديدة تميل إلى المغالاة أحيانا، و إلى الزخارف الرخيصة أحيانا أخرى، و إلى تشويه القصة في غالب الأحايين، و كأن هؤلاء اليهود لم يكفهم ما فعله أسلاف لهم في عصور خلت من مسخ القصة الحقيقية- كما أنزلها اللّه على كليمه موسى عليه السلام- فخلطوا بينها و بين ما وجدوه في العراق القديم- على أيام السبي البابلي- من قصص عن طوفان يروي السومريون، و البابليون من بعدهم أنه أغرق أرضهم. nA

ص: 59


1- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 15، 16 و كذلك: : 124- 123. P, 1969,) skooB niugneP (setittiH eht, yenruG. R. O و في الترجمة العربية للدكتور محمد عبد القادر ص 171، و كذلك. .92 .P ,1963 ,sirap ,egnaG ua eenarretideM al ed seigolohtyM ni xuatnediccO setimeS seD seigolohtyM ,touqaC erdnA

و من بين الزخارف الرخيصة أو الإضافات الغريبة التي أضيفت إلى الأسطورة القديمة، تصوير الناس و هم يعيشون في دعة قبل أن يحدث الطوفان، فقد كانوا من زراعة واحدة يجنون محصولا يكفي حاجاتهم طيلة أربعين عاما، كما كانوا بفنونهم السحرية يسخرون الشمس و القمر لخدمتهم، و لم تكن الأجنة تمكث في بطون أمهاتها سوى بضعة أيام بدلا من تسعة شهور، و بمجرد أن يولد الأطفال يكونون قادرين على الكلام و السير على الأقدام، بل إنهم يتحدون الشياطين و يستهزءون بهم. و إن هذه الحياة السهلة المرفهة كانت هي السبب فيما وصل إليه الناس من ضلالة، كما كانت دافعا لهم إلى ارتكاب الآثام، و بخاصة الفسق و السلب، الأمر الذي أثار غضب الرب و جعله يقرر أن يقضي على العاصين بأن يغرقهم في الطوفان.

و مع ذلك فقد أمهلهم الرب و أمر نوحا بأن يعظهم حتى يرجعوا عن هذه الطريق، و هددهم بأن الرب سيغرقهم في الطوفان جزاء جورهم، و قد أخذ نوح يعظهم طيلة مائة و عشرين عاما، بل إن الرب منحهم مهلة أسبوع آخر في نهاية هذه المدة، و في هذا الأسبوع جعل الرب الشمس تشرق كل صباح من المغرب، و تغرب في المساء في المشرق، و لكن هذا كله لم يحرك هؤلاء العاصين للرجوع إلى التوبة، بل على العكس أخذوا يسخرون من نوح الورع، و يستهزءون به عند ما أبصروه يبني الفلك، و كان نوح قد تعلم بناءه عن طريق كتاب مقدس كان قد سلمه الملاك «رزائيل» إلى آدم، و كان يحتوي بين ثناياه على العلم الديني و الدنيوي معا، و قد كان هذا الكتاب من الياقوت الأزرق، و قد وضعه نوح في صندوق ذهبي أحكم إغلاقه و أخذه معه في الفلك، فقام مقام الساعة في التمييز بين الليل و النهار في أثناء فترة الفيضان التي لم تكن تسطع فيها الشمس أو يبزغ فيها القمر، أما الطوفان فقد تسبب عن التقاء المياه المذكرة التي هطلت من السماء بالمياه الأنثوية التي تدفقت من الأرض، و قد تدفقت مياه السماء من تجاويف صنعها الرب بأن انتزع نجمين من برج الثريا فتركا مكانهما تجويفا، و عند ما شاء الرب بعد ذلك أن يسكت الأمطار الهاطلة من السماء عاد فسد التجويفين بنجمين أخذهما من برج الدب، و هذا هو السبب في أن برج الدب ما زال يلاحق برج الثريا حتى اليوم مطالبا بأولاده و لكنه لن يحصل عليهم إلى الأبد.

و منها كذلك أن هناك حيوانا ضخما هو «الريم» لم يجد له مكانا في الفلك لضخامته،

ص: 60

و لهذا فقد قيده نوح بحبل طويل ربطه في الفلك، و أخذ الحيوان يخب من ورائها، و بالمثل كان المارد «عوج بن عنق» ملك باشان من الضخامة بحيث لم يجد مكانا في الفلك، فجلس على ظهره و بذلك أنقذ، أما عن الناس الذين كانوا مع نوح في الفلك فهم زوجته «نعمة» ابنة «أنوش» و أولاده الثلاثة و زوجاتهم.

على أن مشكلة المشاكل التي كان على نوح أن يواجهها هي مشكلة توزيع المؤن، إذ كان عليه أن يطعم حيوان النهار نهارا، و حيوان الليل ليلا، كما كان عليه أن يقدم الطعام للمارد «عوج» من خلال ثقب في سقف السفينة، و رغم أنه كان يقضي ليله و نهاره صاعدا هابطا في السفينة لإطعام ما فيها و من فيها، فإنه لم يسلم من الأذى، ذلك أن الأسد الذي كان هادئا نسبيا لإصابته بالحمى طوال الوقت كان فظا للغاية، و ذات مرة لم يقدم له نوح الغذاء الكافي، فما كان منه إلا أن ضرب نوحا بكفه ضربة أصابته بالعرج سائر أيام حياته (1).

و هناك رواية لكاتب مسيحي- ربما عاش في فترة الفتح الإسلامي- عثر عليها من بين مخطوطات دير سانت كاترين في سيناء، تقدم لنا تفصيلات مثيرة عن نظام الفلك الداخلي، فالقطعان و الوحوش قد سكنت جوف السفينة، كما سكنت الطيور الدور الأوسط منها، و خص نوح سطح النزهة في السفينة له و لأسرته بعد أن عزل الرجال عن النساء، فأقام نوح و أولاده في الجانب الشرقي من هذا السطح، كما أقامت الزوجات مع أطفالهن في الطرف الغربي منه، و كان الحاجز بين هؤلاء و أولئك جثة آدم التي كانت قد انتشلت من قبر غمرته المياه، كما تخبرنا الرواية بعد ذلك بأبعاد السفينة على وجه التحديد بالذراع و عن اليوم و الشهر الذي ركب فيه الركاب الفلك (2).

2- قصة الطوفان: بين التوراة و قصص السومريين و البابليين:

يكاد يتفق العلماء- من أمثال ليوناردو ولي (3)، و أدولف لودز (4)، و ستانلي

ص: 61


1- راجع عن هذه الصور الغريبة و أمثالها: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 116- 119.
2- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 119.
3- . 34. P, rU tA snoitavacxE, yellooW dranoeL riS
4- .486 .P ,yrutneC thgiE ehtfo elddiM eht ot sgninnigeB sti morf ,learsI ,sdoL ehplodA

كوك (1)، و جورج بارتون (2)، و جاك فينجان (3)، و يونجر (4)، و ول ديورانت (5)، و جيمس فريزر (6)- على أن قصة الطوفان، كما جاءت في التوراة، ليست قصة عبرية أصيلة، و إنما أخذها الإسرائيليون من ميزوبوتاميا، و لكن القصة لم تنقل بطريقة عمياء، و إنما تصرفوا فيها بطريقة تتفق و أهداف كتابهم المقدس، ذلك لأن القصة التوراتية هي نفس القصة التي وجدت على ألواح مكتوبة منذ فترة ترجع إلى ما قبل عصر إبراهيم- عليه السلام (7)- بل إن الرواية البابلية أقدم من الرواية العبرية بما يقرب من أحد عشر أو اثني عشر قرنا، فضلا عن أن الحكاية العبرية في جوهرها- كما لاحظ تسيمرن- تقضي بأن يكون البلد المشار إليه قابلا لحدوث الفيضان مثل بابل، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن الحكاية نشأت أصلا في بابل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فلسطين، فإذا أضفنا إلى ذلك أن القصتين تتفقان لا في الأحداث الأساسية فحسب، بل إن وجوه الاتفاق بين القصتين تتعدد حتى تشمل التفصيلات الجزئية، بحيث لا يمكننا أن نرجع ذلك إلى محض الصدفة (8)، أو حتى إلى توارد الأفكار، يتبين لنا إلى أي حد اعتمدت قصة الطوفان في التوراة على قصص سومر و بابل الخاص بالطوفان.

و لعل سؤال البداهة الآن: إذا كان ذلك كذلك، و إذا كانت قصة الطوفان في التوراة تعتمد على قصص الطوفان في بلاد النهرين، فمتى و كيف تمّ ذلك؟

يقول (ه. ج. ويلز): إنه من الراجح أن العهد القديم (التوراة) قد جمع لأول مرة

ص: 62


1- .481 .P ,1965 ,egdirbmaC ,III ,yrotsiH tneicnA egdirbmaC eht ni ,kooC .A .S
2- . 320. P, 1937, elbiB eht dna ygoloeahcrA, notraB. A egroeG
3- .30 .P ,1969 ,notecnirP ,ytinaitsirhC dna msiaduJ fo dnuorgkcaB lacigoloeahcrA eht ,tsap tneicnA eht morf thgiL ,nageniF kcaJ
4- . 372. P, 1970, ogacihC, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. llirreM
5- ول ديورانت: قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 368.
6- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 113- 119.
7- . 34. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
8- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 113/، 115.

في بابل، ثم ظهر في التاريخ في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، ذلك لأن اليهود قد جمعوا هناك أثناء السبي البابلي تاريخهم بعضه إلى بعض، و طوروا تقاليدهم و نموها، و من ثم فقد أصبح الذين آبوا إلى أورشليم بأمر كيروش الثاني (558- 529 ق. م) شعبا يختلف اختلافا عظيما في الروح و المعارف عن ذلك الشعب الذي خرج منها مأسورا، و ذلك لأنهم تعلموا الحضارة هناك من البابليين (1).

و يقدم العلماء الكثير من الأدلة على تأثير الأدب البابلي في التوراة، و إن كانوا يختلفون على وقت هذا التأثير و طريقته، فهناك من يرى أن ذلك إنما كان على أيام الأسر البابلي (2) (586- 539 ق. م)، بينما يذهب رأي آخر إلى أن ذلك ربما كان في القرن الثامن و السابع ق. م، أثناء فترة اتصال الإسرائيليين الفعلي بالآشوريين، ذلك لأن قصة الطوفان هذه- على ما يبدو- لم تكن موجودة في الروايتين المبكرتين في المصدر «اليهوي»، ذلك لأن واحدة منهما تعتبر أبناء «لامك» الثلاثة من زوجتيه «عادة» و «صلة» أساسا لتقسيمات الجنس البشري، و أما الأخرى، فإن اختراع النبيذ- فيما ترى هذه الرواية- لهو أبرز حادث في حياة نوح (3).

و هناك رأي ثالث يذهب إلى أن الروايتين- السومرية و البابلية- إنما تسربت إلى بني إسرائيل منذ زمن طويل عن طريق مصادر سومرية و سامية كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى القديم (4)، لدرجة أن أصبحت معها في متناول الأقوام جميعا ينتحلها هذا أو ذاك، فيأخذ عنها الرواة كل على هواه، تمجيدا لذكرى أسلاف، و قد تكون- في أغلب الأحايين- لا تمت إلى بني إسرائيل أو إلى بني يهوذا أصلا، إلا أنها صارت بمرور الزمن شائعة مشتركة بين شعوب المنطقة جميعا (5)، فقد مضى الزمن الذي كانت تعالج فيه الأصول الإسرائيلية بعزلة عما كان يتحوطها من مؤثرات، و إنما تداخلت مع غيرها، نهبا لتفاعلات اجتاحت المنطقة كلها، فرسمت مسار التاريخ A

ص: 63


1- .78 ,73 .P ,1965 ,)kooB nacileP( dlroW eht fO yrotsiH trohS A ,slleW .G .H
2- . 481. P,. tic. po, kooC. A. S
3- . 486. P,. tic. po, sdoL. A و كذا تكوين. 92: 5, 22- 02: 4
4- ول ديورانت: المرجع السابق ص 368.
5- 161- 160. P, tic- po, sdoL. A

في الشرق القديم جميعا (1)، بخاصة في الفترة التي كتب اليهود فيها توراتهم (2).

و هكذا يمكننا القول أن كتاب التوراة قد تعرفوا على التراث البابلي- عن طريق الروايات الشفوية أو المدونة- و ذلك إبان قيام دولتهم في كنعان، و ربما أثناء السبي البابلي أو بعده، و يحق لنا أن نفترض أن العلاقة الوثيقة بين البلدين التي مهد لها الغزو البابلي في فلسطين، ربما أدت على نحو ما إلى انتشار الأدب البابلي في فلسطين، كما أدى السبي إلى انتشار الأدب اليهودي في بابل، و بناء على وجهة النظر هذه، فإن بعض التفصيلات التي تختلف فيها الرواية الكهنوتية عن الرواية اليهوية، و تتفق فيها مع الرواية البابلية، ربما نقلها الكتاب الكهنوتيون مباشرة عن المصادر البابلية، و هذه التفصيلات تتعلق ببناء السفينة و طلائها بالقار أو القطران اللذين يعدان بصفة خاصة من منتجات بابل، على أن احتمال معرفة العبريين لحكاية الطوفان الكبير قبل أن يؤخذوا في الأسر بزمن طويل، و قرب حكايتهم في شكلها من الحكاية البابلية، هذا الاحتمال تؤيده كل التأييد الحكاية اليهوية في سفر التكوين التي يمكن أن ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد و التي لا يمكن أن تتأخر بحال من الأحوال عن القرن الثامن ق. م (3).

و أيا ما كان الأمر، فهناك إجماع بين العلماء على أن هناك تأثيرات بابلية في التوراة- فضلا عن التأثيرات المصرية الواضحة (4)- كما أن الأساطير البابلية مثل قصة الطوفان قد وجدت في بابل قبل أن توجد في التوراة، و لكنها لم تنقل بطريقة عمياء (5).

و ربما كانت المقارنة السطحية بين الحكايتين اليهودية و البابلية كافية لأن تؤكد لنا أن كلتا الحكايتين لم تنشأ في الأصل مستقلة، بل من المؤكد أن إحداهما قد اعتمدت S

ص: 64


1- .35 .P )23 .n div( tsaE raeN .tneicnA eht dna elbiB eht ni noitisnarT ni yrotsiH lacilbiB ,llahnedneM egroeG
2- راجع مراحل كتابة التوراة في كتابنا إسرائيل ص 24- 45.
3- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 115، 116.
4- راجع أمثلة لهذه التأثيرات في كتابنا إسرائيل ص 151- 159.
5- 104. P,. tic. po, yarG. J و كذلك 481. P,. tic. po, kooC. A. S

على الأخرى، ذلك لأنه من الجلي أن بين الرواية العبرية و البابلية عناصر مشتركة كثيرة، و ربما رجعا كلاهما إلى مصدر واحد (1).

و إذا ما أردنا أن نقدم أدلة على ذلك، وجدنا عدة مقابلات بين قصة الطوفان في التوراة، و بينها في الأدب الميزوبوتامي القديم، فمن ذلك (أولا) أن الطوفان هنا و هناك بسبب إلهي، و ذلك حين قررت القوى الإلهية أن تقضي على الجنس البشري عن طريق طوفان عظيم، و منها (ثانيا) أن البطل هنا و هناك ينال تحذيرا مما هو مؤكد أن يكون، فيبني فلكا للخلاص، و هذا الفلك يطليه بالقار حتى لا ينفذ إليه الماء، و يحضر معه حيوانات و طيور و يدخلها إلى الفلك، فينقذ نفسه و ينقذ معه صنوف الكائنات الحية جميعا، و منها (ثالثا) أن الطوفان هنا و هناك كان لأن القوم قد فسدوا، و أن الشر قد انتشر بينهم، و أن المبادئ الخلقية قد لطخت تماما، و من ثم فالطوفان للقضاء على بذرة البشر (2).

و منها (رابعا) أن بطل القصة هنا و هناك كان رجلا كريم الخلق، نقي السريرة ف «زيوسودرا» في القصة السومرية يوصف بالتقوى، و بأنه ملك متواضع يخشى الإله، و الأمر كذلك بالنسبة إلى نوح التوراة، فقد كان «رجلا بارا كاملا في أجياله، و سار مع اللّه» (3)، و منها (خامسا) أن الأمطار الغزيرة قد هطلت هنا و هناك، و من ثم فقد تجمع الطوفان بمقدار كبير، و دام أياما يختلف عددها قلة أو كثرة، و كان في كلتا الحالتين بأسباب طبيعية، ريح عاتية و أمطار مستمرة، و عواصف مرعبة في القصة البابلية، و «انفجار كل ينابيع الغمر العظيم، و انفتاح طاقات السماء» في القصة التوراتية، و منها (سادسا) أن البطل هنا و هناك قد أنقذ هو و عائلته، و كذا الحيوانات التي صاحبته في السفين، و إن كان عدد الناجين في القصة البابلية، أكثر منه في القصة التوراتية، و منها (سابعا) أن السفينة الضخمة- و المكونة من عدة طوابق- تظهر هنا

ص: 65


1- قاموس الكتاب المقدس- ج 2- ص 584.
2- . 372. P,. tic. po, regnU. F. M
3- راجع كتابنا اسرائيل ص 145.

و هناك، و إن كانت السفينة البابلية قد احتاجت في تحريكها إلى خمسة أمثال ما احتاجته سفينة التوراة (1).

و منها (ثامنا) أن الفلك يستقر على قمة جبل- نيزير (نيصير) في القصة البابلية، و «أراراط» في التوراة- و منها (تاسعا) أن البطل هنا و هناك يرسل طيورا لاستكشاف حالة الجو، و لمعرفة مدى انحسار مياه الطوفان عن الأرض، و في كلتيهما عادت الحمامة إلى السفين، لأنها لم تجد مكانا تستقر فيه، أما الغراب فلم يعد في كلتا الحالتين، و منها (عاشرا) أن البطل هنا و هناك يقدم تقدمة بعد خروجه من السفين شكرا على إنقاذه، و في كلتا الحالتين اشتمت الآلهة رائحة الشواء الطيبة، فسكن غضبها، و تنسمت رائحة الرضا (2).

و منها (حادي عشر) أن البطل هنا و هناك ينال البركات بعد الكارثة، فضلا عن الأمان في المستقبل، ففي القصة السومرية، ينفث الإله في «زيوسودرا» روح الخلود، و يستقر في دلمون، حيث تشرق الشمس، أي حيث القوة القاهرة للموت (3)، و في القصة البابلية يصبح «أوتنابيشتم» و زوجته مخلدين، و يعيشان بعيدا عند مصاب الأنهار، و في التوراة يبارك اللّه نوحا و بنيه و يعقد معهم ميثاقا و يمنحهم خشية و رهبة على كل الحيوانات و الطيور (4).

و منها (ثاني عشر) أن الإله هنا و هناك يندم على إهلاك البشر بالطوفان، ففي القصة البابلية يندم أنليل لأنه «أحدث الطوفان دون روية، و قاد الناس إلى التهلكة»، بل إن الآلهة نفسها قد لامته على ذلك، و تمنت لو أرسل أسدا أو ذئبا أو مجاعة أو طاعونا، فأهلك بني البشر الآثمين، «فعلى الآثم وزر إثمه، و على المعتدي وزر

ص: 66


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114 و كذا. 372. P,. tic. po, regnU. F. M
2- . 372. P،.، و كذا جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114.
3- ..247 .P ,1960 ,siraP ,neicnA tneirO -ehcorP el snad setiR te sehtyM ,semaJ .O .E
4- تكوين 9: 1- 2، 11.

اعتدائه» (1)، و في التوراة يندم الرب كذلك على إحداث الطوفان و يعزم على ألا يلعن الأرض من أجل الإنسان أبدا، و ألا يميت بعد اليوم كل حي، بل و يقطع الرب على نفسه ميثاقا «لا يكون طوفان ليخرب الأرض»، و يضع للميثاق علامة، هي «القوس في السماء، فيذكر وعده و لا يأتي بطوفان يغرق الأرض أبدا» (2).

و منها (ثالث عشر) التركيز على الشخص العاشر فيما قبل الطوفان، ففي القصة البابلية- وفقا لرواية بيروسوس- أن البطل الذي أنقذ من الطوفان، إنما كان ملك بابل العاشر، و في قصة التوراة إنما هو «نوح» الرجل العاشر في سلسلة العشرة الرؤساء الآباء من آدم إلى نوح (3)- عليهما السلام-.

و هكذا تتعدد وجوه الشبه بين الحكايتين البابلية و العبرية في مجموعهما، فإذا شئنا بعد ذلك أن نتعمق التفصيلات، فإننا نجد أن الحكاية البابلية أقرب إلى الحكاية اليهوية منها إلى الكهنوتية، فكل من الرواية البابلية و اليهوية تعطي أهمية للعدد سبعة، فقد حذر نوح في الرواية اليهوية من حدوث الطوفان سبعة أيام على التوالي، كما أخذ معه في السفينة سبعا من كل صنف من صنوف الحيوانات الطاهرة ثم إن المدة الزمنية بين إطلاقه طائرا و آخر كانت سبعة أيام، و بالمثل دام الطوفان في الرواية البابلية حتى بلغ قمته سبعة أيام، كما أن البطل فيها وضع مجموعات أوعية التضحية فوق الجبل، و كانت كل مجموعة تكون من سبعة أوعية. على أننا نجد من ناحية أخرى أن الحكاية الكهنوتية في سفر التكوين تقترب من الحكاية البابلية في بعض التفصيلات المحددة، أكثر من اقتراب الرواية اليهوية منها، ففي كل من الروايتين، أصدرت الآلهة تعليمات محددة إلى البطل لبناء السفينة، و من ثم فقد بنيت السفينة في كل منهما من عدة طوابق و قسم كل طابق إلى عدة حجرات، كما أنها طليت في كل منهما بالقار أو القطران و رست J

ص: 67


1- انظر في هذا المجال ما جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و ما جاء في سورة الزلزلة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»، ثم انظر ما جاء في التوراة «أنا الرب إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث و الرابع من مبغضي» (خروج 20: 5- 6).
2- تكوين 9: 8- 17.
3- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 249 و كذا 320. P,. tic. po, notraB. A. G و كذا. 3. P,. tic. po, nageniF. J

كل منهما على جبل، و استقبل البطلان بركة الإله عند خروجهما (1).

و لعل أفضل ما نختم به أوجه الشبه بين الروايتين البابلية و التوراتية لقصة الطوفان، أن نقدم نصوصا من الروايتين جنبا إلى جنب (2)، ثم نترك للقارئ الحكم في أمر هذه الشبه.

الصورة

ص: 68


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114، 115.
2- انظر كذلك.. 57- 53. P,. tic. po, relleK. W

الصورة

و يقدم لنا «الدكتور جون إلدر» خلافات بين القصتين، ففي التوراة يحدث الطوفان كعقاب من اللّه لمحو الأشرار، و في القصة البابلية يحدث الطوفان لهوى في نفس

ص: 69

الآلهة القساة، و في التوراة يخلص نوح من معه لأنه إنسان بار، و في القصة البابلية ينال البطل النجاة لأن له نصيرا من بين الآلهة الكثيرة، فقصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية، و لكن البابليين يقدمون لنا أحط دركات الديانات التي تنادي بتعدد الآلهة، و هكذا نرى الفارق العظيم بين فكرة الوحي السامية في قصة التوراة، و بين الفكرة الخرافية المليئة بالخيالات و الأوهام و المتناقضات في القصة البابلية، مع أنها خلاصة أرقى ما وصل إليه الفكر البشري في دولة ساميّة متحضرة (1).

و الحق أن ما يقوله الدكتور «جون إلدر» ليس هو الحق كل الحق، ذلك لأن الطوفان كان في القصتين عقابا من الإله لمحو الأشرار، فكما أخبر نوح بأن الطوفان كان لأن الرب أراد أن يمحو الإنسان الذي خلقه لأن شره كثر في الأرض (2)، فكذلك أخبر «زيوسودرا» أن الآلهة أرادت بالطوفان أن «تقضي على بذرة الشر»، و كما أن نوحا قد أنجي لأنه إنسان بار، فالأمر كذلك بالنسبة إلى «زيوسودرا»، لأنه كان ملكا صالحا تقيا، يخشى الإله، كما كان يتلهف شوقا إلى الاتصال بالوحي الإلهي في الأحلام و في تلاوة التعاويذ و الأدعية- و هي صفات لو كان الدكتور إلدر غير متعصب في حكمه، لعرف أن التوراة لم تسبغها على نوح، الأمر الذي لم يظهر بما يتفق و مكانة النبي الكريم في غير القرآن الكريم- بخاصة إذا علمنا أن القصة السومرية- و ليست قصة التوراة- هي التي تقدم لنا بطل الطوفان (زيوسودرا) و هو يجلس إلى جانب حائط، يستمع إلى صوت وحي إلهه، و هو يبلغه القرار بإهلاك البشر (3).

و أما أن قصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية، و أن الأخرى ليست كذلك، فذلك أمر نتفق فيه معه بحذر، كما أن أحدا لم يقل- بل حتى لم يفكر- في أن ديانة السومريين-- و البابليين من بعدهم- كانت ديانة توحيدية، و مع ذلك ألا يرى «الدكتور جون إلدر» أن قصة التوراة لا تقدم لنا ديانة توحيدية- كما نعرف التوحيد الآن-. صحيح أن ديانة السومريين و البابليين ديانة وثنية، بل و مغرقة في الوثنية كذلك، و لكن صحيح

ص: 70


1- جون إلدر: الأحجار تتكلم: ص 34، 35 و انظر كذلك.. 373- 372. P,. tic. po, regnU. F. M
2- تكوين 6: 5- 12.
3- صمويل نوح كريمر: من ألواح سومر- ترجمة طه باقر ص 254- 256، القاهرة 1957.

كذلك- رغم أن دعوة موسى عليه السلام كانت دعوة توحيد، و أن كليم اللّه دعا إلى عبادة اللّه الواحد الأحد- أن توراة اليهود المتداولة اليوم، لا تقدم لنا بين صفحاتها ما يتفق و دعوة الوحدانية، و تنزيه اللّه- جل و علا- عن صفات البشر (1).

و إلا فهل من التوحيد- الذي يريد لنا الدكتور إلدر أن نفهمه من توراة اليهود- أن يوصف اللّه- جل و علا- بالحزن و الأسف لخلقه الإنسان، كما جاء في سفر التكوين (2) (6: 6- 7)، و هل من التوحيد أن يكون للّه- جل جلاله- أولاد منذ بدء الخليقة، و أنهم قد فتنوا بجمال بنات الناس، «فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا»، ثم تحدر من هؤلاء و أولئك نسل رزقه اللّه بسطة في الجسيم، و هم الجبابرة الذين سكنوا في الأرض قبل الطوفان (3)، و هل من التوحيد أن تكون قوس قزح (4) التي تظهر في الأفق غبّ المطر، أنشأها اللّه لتكون تذكرة له بألا يعود إلى إغراق الأرض أبدا (5)، و هل من التوحيد أن يوصف اللّه- سبحانه و تعالى- في التوراة (6)، بأن نفسه ترتاح من رائحة الدخان المتصاعد من المحرقات، و أنه يغضب كل الغضب إذا لم تقدم له في الصورة التي يرتضيها (7). ).

ص: 71


1- راجع في ذلك صفات اللّه- سبحانه و تعالى- كما تقدمها التوراة (كتابنا إسرائيل ص 57- 69).
2- لبيان أمثلة كثيرة ترددت في التوراة في هذا الصدد انظر كتابنا «اسرائيل» ص 64- 65.
3- تكوين 6: 1- 5.
4- و «قزح» هذا من أسماء الشيطان، و لهذا فقد نهى الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- عن هذه التسمية، مؤثرا تسميتها بقوس اللّه (راجع ص 41 من كتاب محنة التوراة على أيدي اليهود لمؤلفه عصام حفني ناصف).
5- تكوين 9: 13- 15.
6- تكوين 8: 20- 21، لاويون 1: 1- 9، 10: 1- 2، و كذلك إبراهيم خليل: إسرائيل و التلمود ص 86، 87.
7- و يرد القرآن الكريم على مزاعمهم هذه بقوله تعالى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (الحج: آية 37) و إذ يقول عز و جل في هدي الحج من الأنعام: «فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (الحج: آية 28).

ص: 72

الفصل الثّالث قصّة الطّوفان في القرآن الكريم

يزخر القرآن الكريم بالكثير من القصص الذي ساقه اللّه لتأكيد قيم دينية شتى فهو يحارب الوثنية و يدعو إلى الوحدانية، و يؤكد المعاني الخلقية السامية، و يضرب الأمثال، ثم هو يطمئن صاحب الرسالة- صلوات اللّه و سلامه عليه- و يواسيه في الشدائد، مذكرا إياه بما لاقه إخوة كرام له من عنت الضالين و بغي الكافرين، فما وهنوا و ما استكانوا، و ما ضعفوا و ما تخاذلوا، و لكنهم صبروا و صابروا، و من هنا يخاطب اللّه رسوله الكريم في كتابه الكريم، «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (1)».

و القرآن الكريم في كل ما جاء به من قصص- و إن لم يكن كتاب تاريخ يقدم لنا تفصيلات عن الأحداث التي يتعرض لها، إلا في عرض القصة حيث يقتضيه السياق- تعليم للمصلحين، و تربية للهداة، و لكنه في كل ذلك «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (2) ثم «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (3) و «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (4).

و إن في القرآن الكريم لقصصا شتى من غير قصص الدعوة، أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة، و لكنها تراد كذلك لعبرتها، و لا تراد لأخبارها التاريخية، و منها قصة

ص: 73


1- سورة هود: آية 120.
2- سورة فصلت: آية 42.
3- سورة آل عمران: آية 62.
4- سورة يوسف: آية 111.

يوسف، و كذا قصة إسماعيل عليها السلام، فقصة يوسف قصة إنسان قد تمرس منذ طفولته بآفات الطبائع البشرية، من حسد الإخوة إلى غواية المرأة إلى ظلم السجن، إلي تكاليف الولاية و تدبير المصالح في إبان الشدة و المجاعة، و قصة إسماعيل تتخللها هذه التجارب الإنسانية من عهد الطفولة كذلك، فيصاب بالغربة المنقطعة عن العشيرة و عن الزاد و الماء، و إن كان الأخطر من ذلك كله أن تكتب عليه التجارب الإنسانية ضريبة الفداء، و هي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت- في معظم مجتمعات الشرق القديم- لا تتورع عن الذبائح البشرية، و بين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة، و لكنها تتورع عن ذبح الإنسان، ثم يكتب لهذا الغلام الوحيد بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، أن تنمي إليه أمة ذات شعوب و قبائل تتحول على يديها تواريخ العالم على مدى الأيام (1).

على أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم قصتان مسهبتان في أجزائه لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارة الإنسانية، و هما أمة وادي النهرين و أمة وادي النيل، و من أجل ذلك كانت قصة إبراهيم و موسى عليهما السلام أو فى القصص بين جميع قصص الأنبياء، و كانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم (2).

و في قصة نوح- عليه السلام- نرى كيف ينقاد الجهلاء للأمر و السطوة، و لا ينقادون للحجة و الدليل، و يريدون من صاحب الدعوة أن يكون ملكا، أو تكون عنده خزائن الأرض، و يقولون له «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» (3)، كما نرى كذلك أن المسيطرين على أقدار القوم يكرهون التغيير، و يتشبثون بالقديم، و يأخذون على النبي الكريم أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة و الجاه «و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين» (4).

ص: 74


1- عباس العقاد: الإسلام دعوة عالمية- القاهرة 1970 ص 218- 219، و انظر كذلك قصة التضحية البشرية في كتابنا إسرائيل ص 207- 209، قصة يوسف في مصر ص 225- 245.
2- عباس العقاد: المرجع السابق ص 218.
3- سورة هود: آية 32.
4- سورة هود: آية 27.

و أما الطوفان- موضوع هذا الفصل- فلقد تحدث القرآن الكريم عنه، حين تعرض لقصة نوح عليه السلام، في سور كثيرة منها سورة الأعراف (59- 64) و يونس (71- 73) و هود (25- 49) و الأنبياء (76- 77) و المؤمنون (23- 30) و الشعراء (105- 122) و العنكبوت (14- 15) و الصافات (75- 82) و القمر (9- 17) ثم سورة كاملة، هي سورة نوح، فضلا عن ذكره في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، كما في سورة النساء و الأنعام و التوبة و إبراهيم و الإسراء و الأحزاب و «ص» و غافر و الشورى و «ق» و الذاريات و النجم و الحديد و التحريم.

و في كل هذه السور الكريمة، كان نوح- شأنه في ذلك شأن غيره من المصطفين الأخيار- يدعو قومه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، «و كان قومه قد صوروا بعض الصالحين منهم، ثم وضعوا لهم الصور و التماثيل لإحياء ذكرهم و الاقتداء بهم، ثم عبدوا صورهم و تماثيلهم» (1)، و استمر نوح في دعوته، يحثهم ليل نهار على عبادة اللّه تعالى وحده، إلا أن القوم «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (2)، إذ كبر عليهم أن يكون داعي الهدى، و حامل لواء التوحيد، واحدا منهم، لا يمتاز عليهم بإمارة، و لا يفضلهم بغنى أو ثروة، كما أنفوا أن ينضموا إلى جماعة المهتدين من الضعفاء.

و يبذل النبي الكريم الجهد كل الجهد، بغية أن يؤمن القوم بربهم، و أن يكفوا عن عبادة الأصنام، و يطول الزمن، و نوح يغاديهم بالنصح و يراوحهم بالعظة سرا و علانية، و مع ذلك كله، فالذين أجابوا الدعوة، إنما كانوا قلة نادرة، فيشتكي نوح إلى ربه عجزه و قلة حيلته، و ما يلاقيه على أيدي السفهاء من قومه من عنت و هوان، فيناديه ربه «لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (3)، و يدعو نوح ربه «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (4).

ص: 75


1- محمد رشيد رضا: تفسير المنار، الجزء السابع ص 454 و ما بعدها، الجزء الثامن ص 436، القاهرة القاهرة 1974 (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب)، و كذلك: صحيح البخاري.
2- سورة نوح: آية 7.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة نوح: آية 27، 28.

و يجيب العليّ القدير دعوة النبي الكريم، فيأمره أن يصنع الفلك «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ، قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (1)، و هكذا أنقذ اللّه نوحا و من آمن معه، و أهلك الكافرين من قومه «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ، وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (2) ثم أمر اللّه نوحا أن «اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» (3).

هذه هي الخطوط الرئيسية بإيجاز شديد لقصة نوح عليه السلام- كما أخبر عنها ربي جلّ جلاله في القرآن الكريم- و هي هنا إذا ما قورنت بغيرها من القصص الذي تعرض لقصة الطوفان، سواء أ كان ذلك من القصص الإنساني أو السماوي، لبان لنا بوضوح الفرق الشاسع- بغير حدود- بين ما أنزله اللّه على مولانا و سيدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و بين ما كتبته أقلام ناقصة معرفة أحيانا، و متعصبة أحيانا أخرى، و ساذجة في أغلب الأحايين، و إن كان بعضها يزعم لها أصحابها ما يزعمون من قداسة.

و القرآن الكريم حين تناول قصة الطوفان تناولها بما يتفق و أغراض القصص القرآني، دونما حاجة إلى تفصيلات لا يقتضيها سياق القصة، ثم جاء المفسرون و المؤرخون الإسلاميون و حاولوا تفسير هذه القصة بإسهاب و تفصيل، إلا أن هذا التفصيل لعبت فيه الإسرائيليات دورا عكّر صفوها في كثير من الأحايين، فيرون مثلا أن اللّه أمر نوحا أن يغرس شجرا ليصنع منه السفينة، و أن النبي الكريم قد غرس هذا الشجر، ثم انتظره مائة عام، ثم نجره في مائة أخرى على رواية، و في أربعين على رواية أخرى (4)، و لست أدري من أين جاءوا بهذا الأرقام، و ما هو المصدر الذي اعتمدوا عليه.

و الأمر كذلك بالنسبة إلى طول السفينة، فهي ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ).

ص: 76


1- سورة هود: آية 40.
2- سورة هود: آية 44.
3- سورة هود: آية 48.
4- الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير:- البداية و النهاية في التاريخ ج 1 (القاهرة 1932) ص 110، و كذلك الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن- دار الشعب 1970- ص 3259، و كذلك الإمام الطبري: تاريخ الرسل و الملوك ج 1 ص 181 (حيث يذكر رواية ثالثة تذهب إلى أنها أربعمائة عام).

ذراعا- فيما ترى التوراة على رأي، و فيما يرى ابن عباس على رأي آخر- و هي ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة، فيما يرى الحسن البصري، و هي ألف و مائتا ذراع في عرض ستمائة، فيما يرى ابن عباس، و هي ثمانون ذراعا في عرض خمسين على رواية رابعة، و هي ألفا ذراع في عرض مائة ذراع على رواية خامسة، بل و ذهبت رواية سادسة إلى أنها سفينة عظيمة لم يكن لها نظير من قبل، و لن يكون لها نظير من بعد، هذا فضلا عن أن الرواية قد تنسب أحيانا إلى شخص معين، بينما تنسب في مرة ثانية إلى شخص آخر، و إن كانت الروايات جميعا تكاد تتفق على أن ارتفاع السفينة إنما كان ثلاثين ذراعا- و هو رأي التوراة- إلا واحدة تنسب إلى الكلبي و قتادة و عكرمة رأت أنها ثلاثمائة ذراع (1)، و هكذا بات من الصعب علينا أن نصل إلى رأي نطمئن إلى أنه القول الفصل، ذلك لأن هذه الروايات لا تقدم لنا دليلا على صحتها و ضعف غيرها حتى نستطيع أن نختار الأقوى حجة منها.

و هناك رواية تنسب إلى ابن عباس- رضي اللّه عنه- تقسم السفين إلى ثلاثة بطون، الأسفل للوحوش و السباع و الدواب، و الأوسط للطعام و الشراب، و الأعلى لنوح و من معه، فضلا عن جسد آدم معترضا بين الرجال و النساء- و الذي دفنه بعد ذلك في بيت المقدس- كما كان معهم إبليس في الكوثل (مؤخر السفينة) (2).

و اختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في أمر التنور، فهناك من يذهب إلى أنه «وجه الأرض» أي صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار (3)، و هناك من ذهب إلى أنه تنور الخبز، و كان من حجارة لحواء حتى صار لنوح، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه مسجد الكوفة، و ذهب رأي رابع- ينسب

ص: 77


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 109، 110، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 180- 184، و كذلك القرطبي المرجع السابق ص 3259، و كذلك ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 1 (بيروت 1965) ص 70.
2- القرطبي: المرجع السابق ص 326، و كذلك محمد بن سعد كاتب الواقدي- الطبقات الكبرى ج 1 (دار التحرير- القاهرة 1968) ص 17.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، تفسير القرآن العظيم ج 4 (دار الشعب- القاهرة 1971) ص 254.

إلى الإمام علي رضي اللّه عنه- إلى أنه فلق الصبح و تنوير الفجر- أي إشراقة و ضياؤه- و رغم أن هذه الرواية- فيما يرى ابن كثير- غريبة، فإنها الرواية الأكثر قبولا، فيما نظن، فضلا عن أنها الرواية الوحيدة التي تتفق إلى حد ما مع النصوص القديمة، و أما مكان التنور، فهو موضوع خلاف كذلك، فهناك من يراه في الهند، و هناك من يراه في الكوفة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه في الجزيرة، بل و يتجه رأي رابع إلى أن هذه الآراء جميعا ليست بمتناقضة، لأن اللّه عز و جل أخبرنا أن الماء جاء من الأرض و من السماء «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، و فجرنا الأرض عيونا» فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة (1).

و مما هو جدير بالذكر أن «ابن بطوطة» يذكر أن بالكوفة مسجدا صغيرا محلقا عليه أيضا بأعواد الساج، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور، إيذانا بطوفان نوح عليه السلام، و في ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام، و إزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه السلام، و يتصل بذلك فضاء متصل بالجدار القبلي يقال إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام، هذا و يذكر «ستون لويد»- و هو من كبار علماء الآثار الآشورية- أنه بالجامع الكبير بالكوفة مقصورة في باطن الأرض تعرف باسم السفينة حيث يعتقد المسلمون أن الفلك قد استقر بها، و يرى أن موقعها على صخرة مطلة على ساحل البحر القديم أفضل مكان بلا شك لرسو السفينة من قمة جبل «أرارات»، و يرى الدكتور محمد عبد القادر، أننا إذا نظرنا إلى خريطة العراق، لوجدنا أن الكوفة تتوسط المنطقة التي حدث بها الطوفان، و الممتدة تقريبا من أبو حبة (سيبار) في الشمال إلى أبو شهرين (أريدو) في الجنوب، كما أنها قريبة نسبيا من فارة (شورباك) المذكورة في القصة السومرية و التي كانت يوما ما على الفرات، فالقصة المتواترة في الكوفة و التي رواها ابن بطوطة و غيره من الرحالة- و كانوا لا يعلمون عند ما كتبوا بالقصص السومري و الأكدي القديم- كان لها أساس قوي من الصحة (2). eS

ص: 78


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، تفسير القرآن العظيم ص 254، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 186- 187. و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 70.
2- محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 97، و كذلك. 30. P, 1955) nacileP (tsuR eht ni snoitsdnuoF, dyoiL noteS

و قد اختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في عدد من ركب الفلك، فذهب رأي إلى أنهم ثمانون نفسا (1)، و ذهب رأي آخر إلى أنهم اثنان و سبعون نفسا، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنهم كانوا ثلاثة عشرة، و ذهب رأي رابع إلى أنهم كانوا عشرة فقط، بينما ذهب رأي خامس إلى أنهم كانوا ثمانية- نوح و امرأته و بنوه الثلاثة و نساؤهم- و أخيرا ذهب رأي سادس إلى أنهم سبعة فقط (2).

و الأمر كذلك بالنسبة إلى مدى ارتفاع الماء على أعلى جبل في الأرض، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان خمسة عشر ذراعا، و ذهب رأي آخر إلى أنها ثمانون ذراعا، و أنه لم يبق من الأحياء عين تطرف إلا نوح و من معه في الفلك، و إلا عوج بن عنق، فيما يزعم أهل التوراة (3)، و في الواقع إن هذه رواية متأخرة ليست في التوراة، فضلا عن أنها تتعارض مع رأي هؤلاء العلماء في أن الطوفان عام، كما أن طول عوج بن عنق- إن كان هناك من يسمى عوج بن عنق- يتعارض مع ما جاء في الصحيحين عن المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- من «أن اللّه خلق آدم و طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» و قوله- صلى اللّه عليه و سلم- «لو رحم اللّه من قوم نوح أحدا، لرحم أم الصبي».

و يذهب المفسرون إلى أن الطوفان قد غطى كل بقاع الأرض إلا الكعبة الشريفة، ذلك لأن سفينة نوح- فيما يرون- قد طافت بالأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شي ء، حتى أتت الحرم فلم تدخله و دارت بالحرم أسبوعا، و رفع اللّه البيت الذي بناه آدم عليه السلام- و هو البيت المعمور و الحجر الأسود- على جبل أبي قبيس (4)،

ص: 79


1- راجع رواية ياقوت الحموي (معجم البلدان 3: 23) عن قرية الثمانين و أنها عند جبل الجودي قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111- 112، تفسير القرآن العظيم ص 255 و كذلك القرطبي ص 3263، و كذلك الطبري ص 187- 189، و كذلك الطبقات الكبرى ص 18، و كذلك ابن الأثير ص 70.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 112، و كذلك الطبري ص 185، و كذلك الطبقات ص 17، و كذلك ابن الأثير ص 70.
4- الطبري ص 185، و كذلك الطبقات ص 17.

و ذهب رأي آخر إلى أن اللّه أمر جبريل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة، و خبأ الحجر الأسود بجبل أبي قبيس، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله في موضعه (1)، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن البيت لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم أنه كان مبنيا قبل أيام الخليل، و أن الروايات التي ذهبت إلى أن آدم قد نصب عليه قبّة، و أن الملائكة قالوا قد طفنا قبلك بهذا البيت، و أن السفينة قد طافت به أربعين يوما (أو أسبوعا)، كل هذه الأخبار مأخوذة عن بني إسرائيل (2).

و الواقع أن هناك خلافا على وقت بناء الكعبة، فهناك رواية تنسب بناءها إلى الملائكة قبل أن يبرأ اللّه عز و جل الأرض، و قبل أن يخلق آدم بألفي سنة (3)، و هناك رواية أخرى تنسب بناءها إلى آدم عليه السلام (4)، بينما ينسب ابن قتيبة- في رواية ثالثة- بناء الكعبة إلى شيث بن آدم (5)، و ليس في كل هذا خبر صحيح يعول عليه و إنما اقتبسوه من مجمل الآية «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ»، فظاهر التعبير أن القواعد كانت موجودة، و أن كل عمل إبراهيم و إسماعيل إنما كان رفعها و ليس تأسيسها، و ليس في لغة العرب ما يمنع من أن يراد برفع القواعد ابتداء بناء البيت، على ضرب من التوسع في التعبير (6).

و أما الرواية الرابعة- و هي ما نميل إليه و نرجحه، فهي رواية للطبري (7)- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- تقول إن إبراهيم جاء فوجد إسماعيل يصلح نبلا له من وراء زمزم، فقال إبراهيم: يا إسماعيل إن ربك قد أمرني أن أبني له بيتا، فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه، قال:

إذا أفعل، فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه و إسماعيل يناوله الحجارة، و يقولان

ص: 80


1- ابن الأثير: المرجع السابق ص 70.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 163.
3- العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ج 1 ص 93 (طبعة دار الكتب 1924 م).
4- نفس المرجع السابق ص 93، و راجع: علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مر العصور ص 7، القاهرة 1967.
5- ابن قتيبة: المعارف ص 10 (المطبعة الحسينية، 1934).
6- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 47.
7- الطبري: المرجع السابق ص 259- 260.

«رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (1)، فلما ارتفع البنيان و ضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر- و هو مقام إبراهيم- فجعل يناوله و يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت الذي أمره اللّه عز و جل ببنائه، أمره اللّه أن يؤذن في الناس بالحج، فقال له «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (2)، و هكذا بنى إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام «الكعبة المشرفة» بيتا للّه تعالى، ليكون رمزا إلى الحقيقة الكبرى في الوجود، حقيقة التوحيد، توحيد التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و تضرع خليل اللّه و دعا ربه، و أمن إسماعيل، أن يجعل اللّه أفئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت المحرم (3)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (4).

و إذا كان صحيحا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن إسماعيل- عليه السلام- كان في الثلاثين من عمره يوم أمر اللّه عز و جل إبراهيم ببناء الكعبة (5)، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون في حوالي عام 1824 ق. م، على أساس أن إسماعيل قد ولد في عام 1854 ق. م، (و توفي عام 1717 ق. م) على أساس أنه ولد لإبراهيم و هو في السادسة و الثمانين من عمره، و أن إبراهيم قد عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م) (6)، و هو تاريخ متأخر جدا عن طوفان نوح عليه السلام.

هناك روايات كثيرة عن دخول الحيوانات و الطيور إلى السفين، و من أسف أنها روايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، و من أمثلة ذلك دخول إبليس إلى السفينة في ذيل الحمار (7)، بناء على كلمة صدرت من النبي الكريم دون أن يقصد منها ما

ص: 81


1- سورة البقرة: آية 127.
2- سورة الحج: آية 27.
3- محمد الصادق عرجون: محمد صلى اللّه عليه و سلم من نبعته إلى بعثته- القاهرة 1971 ص 17.
4- سورة إبراهيم: آية 37.
5- علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 16.
6- راجع في ذلك كتابنا إسرائيل ص 177، 202، و انظر كذلك تكوين 12: 4، 16: 16، 25: 7، 17.
7- الطبري: المرجع السابق ص 184.

حدث، و الرواية التي تذهب إلى أن «عوج بن عنق» لم يغرق في طوفان نوح، و أنه قد عاش من قبل عهد نوح، و إلى أيام موسى، و أنه كان جبارا عنيدا، كافرا متمردا، و أن أمه عنق بنت آدم قد ولدته من زنا، و أنه كان طويلا بدرجة لا يمكن أن تحدث، حتى إنه كان يأخذ السمكة من قرار البحار ثم يشويها في عين الشمس، و أن طوله كان 3/ 1 3333 ذراعا، و أنه كان يستهزئ بسفينة نوح و بصاحبها و أنه كان يسميها القصيعة، و الواقع أن هذه الأسطورة لا تستحق حتى أن تناقش، و لكني أتساءل مع ابن كثير، إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقبل العقل أن يهلك ابن نوح، و لا يرحم من أمته حتى صبيانها، ثم يترك هذا الجبار الباغي ابن الزنى، ثم كيف تتفق هذه الخرافة مع الآيات الكريمة التي استخلصوا منها أن الطوفان كان قد قضى على كل ما و من في الدنيا، ثم حديث سيدنا و مولانا الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- عن طول آدم، و أنه كان 60 ذراعا، و أن الناس من بعده كانوا أقل منه طولا (1).

و من هذا النوع من الروايات كذلك، رواية تذهب إلى أن السيد المسيح- عليه السلام- بناء على رغبة الحواريين، قد أعاد «حام بن نوح» إلى الحياة، ثم سأله عن فلك نوح، فأخبر أن طولها كان ألف ذراع و مائتي ذراع، و أن عرضها ستمائة ذراع، و من هذا النوع كذلك رواية تذهب إلى أنه لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر و لا بحر، و أن مياه البحار إنما هي من بقية الطوفان، و من هذا النوع كذلك رواية تذهب إلى أن القوم بعد أن استوت بهم السفينة على الجودي هبطوا إلى أسفله و ابتنوا قرية سموها ثمانين، و أنهم قد أصبحوا ذات يوم، و قد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة- إحداها اللسان العربي- فكان بعضهم لا يفهم كلام بعض، و كان نوح عليه السلام يعبر عنهم (2).

و ليس هناك باحث منصف يستطيع أن ينكر أثر الإسرائيليات في هذه الروايات التي تجنح إلى الخيال أحيانا و إلى منافاتها للعقيدة الإسلامية الصحيحة أحيانا أخرى،

ص: 82


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 114.
2- نفس المرجع السابق ص 116، تفسير القرآن العظيم ص 254- 257، و كذلك القرطبي المرجع السابق ص 3259- 3266.

و إلى تعارض بعضها مع بعضها الآخر في أحايين كثيرة، و إذا ما أردنا أن نقدم الدليل على ذلك، و أخذنا على سبيل المثال قصة تبلبل ألسنة الناجين من الطوفان، لوجدنا أثر التوراة واضحا فيها- إن لم تكن منقولة عنها أو تكاد- ذلك أن التوراة حاولت أن تقدم تفسيرا ساذجا غير علمي لاختلاف اللغات و الأجناس، فروت أن الناجين من الطوفان أرادوا أن يبنوا برجا عاليا، بغية الصعود إلى اللّه- عز و جل- في علياء سمائه، إذ كانوا يحسبون السماء أشبه شي ء بلوح زجاجي يعلو على الأرض بضع مئات من الأمتار، فخشي اللّه شرهم و احتاط لنفسه فهبط إلي الأرض و بلبل ألسنتهم فتفرقوا شذر مذر، و من ثم فقد سميت المدينة «بابل» لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض (1).

و لعل سؤال البداهة الآن: هل عمّ الطوفان الأرض كلها، أم كان طوفانا خاصا بقوم نوح دون سواهم من العالمين؟

يكاد يتجه غالبية المؤرخين الإسلاميين و علماء التفسير إلى أن طوفان نوح كان طوفانا عاما، و أنه أهلك كل من و ما على وجه الأرض، و لم يبق عليها إلا نوح و من معه، و إلا عوج بن عنق، و أن السفينة طافت بالأرض كلها لا تستقر، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ثم انتهت آخر الأمر إلى الجودي، فاستوت عليه (2).

و يحتجون على ذلك بالآيات الكريمة «وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (3)، و قوله تعالى: «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (4)، و قوله تعالى «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (5).

و قوله تعالى: «فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (6) و قول الحبيب المصطفى، سيدنا و مولانا رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- «أول رسول أرسل

ص: 83


1- تكوين 11: 1- 9 و كذلك كتابنا إسرائيل ص 117 و كذلك. 104. P,. tic. po, yarG. J و كذلك عصام حفني: المرجع السابق ص 42.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 163، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 72.
3- سورة نوح: آية 26، 27.
4- سورة هود: آية 40.
5- سورة الصافات: آية 77.
6- سورة الشعراء: آية 119، 120.

نوح، و أرسل إلى جميع أهل الأرض، فلذلك لما كفروا أغرق اللّه أهل الأرض جميعا» (1).

و هناك رأي آخر يتجه إلى أن الطوفان كان محليا في المنطقة التي كان يعيش فيها نوح و قومه، و أما بقية بقاع الأرض فلم يعمها هذا الطوفان (2).

و إنني لأظن- و ليس كل الظن إثما- أن الطوفان كان خاصا بقوم نوح دون سواهم من العالمين، معتمدا في ذلك على أدلة كثيرة، منها (أولا) أن كل آيات القرآن الكريم تنص- دونما لبس أو غموض- على أن نوحا إنما أرسل إلى قومه خاصة، و من ذلك قوله تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (3)، و قوله تعالى: «أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (4)، و قوله تعالى: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» (5) و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا

ص: 84


1- القرطبي: المرجع السابق ص 6777.
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 36.
3- سورة الأعراف: آيات 59- 63.
4- سورة التوبة: آية 70.
5- سورة يونس آية 71.

رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» (1) و قوله تعالى: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (2)، و قوله تعالى: «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» (3)، و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ، فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» (4)، و قوله تعالى:

«كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ» (5)، و قوله تعالى:

«قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (6) و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ» (7)، و قوله تعالى: «وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» (8)، و قوله تعالى: «وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (9)، و قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ» (10)، و قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (11)، و قوله تعالى: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (12) ... إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تؤكد كل التأكيد أن دعوة نوح إنما كانت لقومه خاصة- شأنه في ذلك شأن غيره من المصطفين الأخيار، غير الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه-.

ص: 85


1- سورة هود: آيات 25- 30.
2- سورة هود: آية 36.
3- سورة إبراهيم: آية 9.
4- سورة المؤمنون: آية 23، 24.
5- سورة الشعراء: آية 105، 106.
6- سورة الشعراء: آية 117، 118.
7- سورة العنكبوت: آية 14.
8- سورة الذاريات: آية 46.
9- سورة النجم: آية 52.
10- سورة القمر: آية 9.
11- سورة نوح: آية 1، 2.
12- سورة نوح: آية 5.

و منها (ثانيا) أن هناك اتفاقا عاما على أن الرسل جميعا قد أرسلوا إلى قومهم خاصة، باستثناء حبيب اللّه محمد- صلى اللّه عليه و سلم- و هكذا يحكي القرآن الكريم عن رسالات الأنبياء السابقين على سيدنا محمد- عليه الصلاة و السلام- بعنوان القومية الخاصة، يقول اللّه سبحانه و تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ» (1)، و قوله تعالى: «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ» (2)، و قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ، وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ، وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» (3)، و قوله تعالى: «وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (4)، و قوله تعالى: «وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (5)، و قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» (6)، و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» (7)، و قوله تعالى عن عيسى عليه السلام:

«وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» (8).

و منها (ثالثا) أن النبي الوحيد من بين الأنبياء جميعا الذي قد أرسله اللّه إلى الناس كافة هو سيدنا و مولانا محمد- صلى اللّه عليه و سلم- و قد دلّ القرآن على عالمية الدعوة

ص: 86


1- سورة ص: آيات 12- 14.
2- سورة غافر: آية 31.
3- سورة ق آيات 12- 14.
4- سورة الأعراف: آية 73.
5- سورة الأعراف: آية 80.
6- سورة الأعراف: آية 103، 104.
7- سورة إبراهيم: آية 5، 6.
8- سورة آل عمران: آية 49.

المحمدية بأساليب متعددة في نصوص واضحة (1)، بل إن هناك أكثر من أربعين آية في القرآن الكريم يذكر فيها اللّه سبحانه و تعالى باسم رب العالمين، هذا عدا الآيات التي ذكر فيها بالنص الواضح أنه- صلوات اللّه عليه و سلامه عليه- قد أرسل إلى الناس كافة، و أن القرآن قد تنزل عليه ليقرأه على الناس كافة» (2)، و من ذلك قوله تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (3)، و قوله تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (4)، و قوله تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (5)، و قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (6)، و قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (7)، و قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (8)، و قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (9)، و قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ» (10)، و قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (11)، ثم هناك قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ» (12)، فمن يقرأ وصف هؤلاء العباد الذين سخر لهم

ص: 87


1- راجع في ذلك البحث الرائع لفضيلة الشيخ مناع القطان تحت عنوان «الإسلام شريعة اللّه الخالدة إلى البشرية كافة» في مجلة كلية الشريعة العدد الخامس ص 11- 40.
2- انظر المجلة الإنجليزية (yadoT yrotsiH) يونية 1961، و كذا عباس العقاد: المرجع السابق ص 157.
3- سورة النساء: آية 49.
4- سورة الأنبياء: آية 107.
5- سورة سبأ: آية 28.
6- سورة إبراهيم: آية 1.
7- سورة الفرقان: آية 1.
8- سورة الأعراف: آية 158.
9- سورة الحج: آية 49.
10- سورة إبراهيم: آية 52.
11- سورة ص: آية 87.
12- سورة إبراهيم: آيات 31- 33.

البحر و سخر لهم الأنهار و سخر لهم الليل و النهار، لا يخطر له لحظة أنهم أبناء الجزيرة العربية دون غيرهم من بني الإنسان في جميع البلدان (1)، و أخيرا فليس هناك من يشك أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- هو خاتم النبيين «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (2)، و بالتالي فإن دعوته لن تكون- بحال من الأحوال- مقصورة على قوم دون آخرين، و من ثم كانت عالمية الدعوة الإسلامية.

و منها (رابعا) أن السنة الشريفة تتفق مع القرآن الكريم على عالمية الدعوة المحمدية، و أن تلك ميزة الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- على غيره من أنبياء اللّه الكرام الذين كانت دعواتهم مقصورة على أقوامهم دون غيرهم من العالمين، يقول- صلى اللّه عليه و سلم- كما جاء في الصحيحين «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، و أحلت لي الغنائم و لم تحل لأحد قبلي، و أعطيت الشفاعة، و كان النبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس عامة»، و عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- قال: «و الذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي و لا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار»، و يذهب سعيد بن جبير إلى أن تصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» (3).

و منها (خامسا) أن قول أهل الموقف لنوح- كما في حديث الشفاعة- أنت أول رسول إلى أهل الأرض، ليس المراد به عموم بعثه، بل إثبات أولية إرساله (4)، و من ثم فإن نوحا- عليه السلام- هو أول رسول أرسله اللّه تعالى إلى قوم مشركين، هم قومه (5).

ص: 88


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 160.
2- سورة الأحزاب: آية 40.
3- راجع في ذلك: مجموعة فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: الجزء الرابع ص 203- 208، ج 11 ص 169- 170، ج 19، ص 9- 12، 101، 103، الرياض 1381- 1382 ه، و كذلك مناع القطان: المرجع السابق ص 20- 21، و كذلك صحيح البخاري.
4- محمد رشيد رضا: تفسير المنار ج 7 ص 503.
5- نفس المرجع السابق ج 8، ص 436.

و منها (سادسا) أن مبلغ علمي- و أنا واحد من عامة المسلمين لم يكتب له شرف التخصص في الدراسات القرآنية- أن القاعدة الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم هي إلا يعذب اللّه قوما إلا إذا أرسل إليهم رسولا يهديهم سواء السبيل، تصديقا لقوله تعالى:

«وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (1)، فإذا افترضنا أن نوحا- عليه السلام- كان في جنوب العراق- كما هو المتواتر، أو الذى يميل إليه أغلب الباحثين على الأقل فكيف يعذب اللّه- و هو أعدل العادلين- المصريين أو السوريين أو سكان الجزيرة العربية، على سبيل المثال، بسبب كفر العراقيين بنوح و بدينه القويم بخاصة و أن القرآن الكريم يقول «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» (2)، و هذا يعني أن الذين أغرقوا، إنما بسبب خطيئتهم في حق نوح و كفرهم بدعوته، بل إن القرآن الكريم ليصرح- دونما لبس أو غموض- بأنهم قد عصوا نوحا حقيقة، يقول اللّه سبحانه و تعالى: «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي»، و أنهم لم يتركوا وثنيتهم الضالة المضلة إلى عبادة اللّه الواحد القهار، فإذا كان الطوفان عاما، فلا بد أن تكون دعوة نوح بالتالي عامة، و هذا يتعارض مع مبادئ الإسلام الأساسية، فضلا عن معارضته لآيات من القرآن الكريم، و من ثم فلا بد أن تكون الدعوة خاصة، و أن الذين أغرقوا كانوا من الخاطئين، أو كما يقول ابن كثير «اجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم و فجورهم و دعوة نبيهم عليهم»، ثم هناك قوله تعالى: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (3)، أ ليس في هذه الآية الكريمة دليل على أن الكافرين، إنما كانوا من قوم نوح فحسب، و أن الفلك التي ستبنى إنما هي لإنقاذ المؤمنين من قومه، و إغراق الكافرين منهم، ثم أ ليس في قوله تعالى: «وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» (4) دليل على أن الساخرين من نوح كانوا من قومه، و أنهم هم أنفسهم الكافرون به، و الأمر كذلك بالنسبة إلى قوله تعالى: «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» (5)، و قوله تعالى:

ص: 89


1- سورة الإسراء: آية 15.
2- سورة نوح: آية 25.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة هود: آية 38.
5- سورة المؤمنون: آية 26.

«فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (1)، و قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ»، (2) و كل هذه الآيات و غيرها تضغط بشدة على أن الذين أغرقوا إنما كانوا من المكذبين لسيدنا نوح عليه السلام، بل إن الآية الأخيرة لتشير بوضوح إلى أن ما حدث لهم كان بعد إنذارهم «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» تصديقا لقوله تعالى «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا». (3)

و منها (سابعا) أن اللّه سبحانه و تعالى رحمة منه بالعالمين، أنه ما من أمة إلا و جاء أهلها رسول من عند اللّه العليّ القدير، «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» (4)، بل إنه لمن أصول العقائد الإسلامية أنه يجب الإيمان بأن اللّه أرسل في كل الأمم رسلا (5)، يقول سبحانه و تعالى: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (6)، و يقول: «وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» (7)، «مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» (8)، «وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (9)، و من هنا كان الخلاف على عدد الأنبياء عليهم السلام، فمن قائل إنهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و من قائل إنهم ثمانية آلاف نبي، و من قائل إنهم ثلاثة آلاف ... إلخ (10).

و منها (ثامنا) أن حديث الرسول عليه الصلاة و السلام، الذي يحتج به على أن اللّه

ص: 90


1- سورة المؤمنون: آية 28.
2- سورة يونس: آية 73.
3- سورة الإسراء: آية 15.
4- سورة النحل: آية 36.
5- محمد رشيد رضا: تفسير المنار ج 7، ص 500.
6- سورة فاطر: آية 24.
7- سورة الزخرف: آية 6.
8- سورة غافر: آية 78.
9- سورة النساء: آية 164.
10- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج 2 ص 422- 428، و كذلك القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ص 2014- 2015، و كذلك محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم، و كذلك كتابنا إسرائيل ص 288- 289.

ثم يرحم أحدا من طوفان نوح حتى الأطفال، أنه نفسه- فيما أظن- دليل على أن الغارقين إنما كانوا من قوم نوح، و ليس من كل بقاع الأرض، و لنقرأ الحديث الشريف- حيث التركيز على كلمة قوم- «فلو رحم اللّه من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي».

و منها (تاسعا) أن الذين ينادون بعالمية الطوفان (1) هم أنفسهم الذين يرون أن الفترة ما بين آدم و نوح عليهما السلام، تقارب عشرة قرون، فإذا كان المراد بالقرن مائة سنة- كما هو معروف- فبينهما ألف سنة، و إن كان المراد بالقرن الجيل من الناس، فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم و نوح ألوف من السنين، بل إن بعضهم يذهب إلى أنه ما كان في زمن نوح شبر من الأرض إلا و هناك إنسان يدعيه، و هناك رواية تنسب إلى الإمام مالك- عن زيد بن أسلم- أن أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل و الجبل، فهل يتفق ذلك مع رأي آخر لهم هو أن العالم كان في تلك الفترة قليل السكان بدرجة يستطيع أن يبلغ فيها دعوته للناس كافة، و بالتالي فإن الكافرين به قد انتشروا في كل أنحاء المعمورة، مما يستدعي أن يكون الطوفان عاما، ثم ما علاقة ذلك بفكرة العشرة الأجيال، أو رؤساء الآباء، ما بين آدم و نوح التي جاءت في التوراة (2)، بل ما علاقة الأخيرة بالعشرة الحكام الذين سبقوا الطوفان، كما يقدمهم المؤرخ البابلي بيروسوس (3)؟

و منها (عاشرا) أن الرواية التي تذهب إلى أن الطوفان قد حدث في العام الستمائة من حياة نوح- و تلك للعلم منقولة عن التوراة (4)- و في عام 2256 بعد هبوط آدم

ص: 91


1- القرطبي: المرجع السابق ص 3259، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 178، 190، و كذلك ابن كثير: البداية و النهاية ص 101.
2- تكوين 5: 5- 32، و هم كالآتي: آدم و عاش 930 سنة، و شيث و عاش 912 سنة، و أنوش و عاش 905 سنة، و قينان و عاش 910 سنة، و مهلائيل و عاش 895 سنة، و يارد و عاش 962 سنة، و أخنوخ و عاش 365 سنة، و متوشالح و عاش 969 سنة، و لامك و عاش 595 سنة، و نوح و عاش 950 سنة.
3- . 30. p,. tic. po, nagenif. j و كذا. 320. P,. tic. po, notaB. A. G
4- تكوين 7: 6.

إلى الأرض، أ لا تكفي كل هذه السنين لإيجاد أقوام غير قوم نوح في هذه الدنيا؟

أم أن الأمر كان مقصورا على قوم نوح؟

و إذا كان طوفان نوح قد حدث في الفترة التي تسبق بداية العصر التاريخي في العراق القديم، و التي يرى علماء الآثار أنها قد حدثت في حوالي عام 2700 ق. م (1)، فإن عصور ما قبل الطوفان تزيد بآلاف السنين عما قدره علماء التوراة، و نقله عنهم أصحاب هذه الروايات.

و منها (حادي عشر) أن اللّه سبحانه و تعالى يقول في القرآن الكريم «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» (2)، أ لا يفهم من قوله تعالى «أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» أن هناك آخرين لم يشملهم طوفان نوح، و أن اللّه سبحانه و تعالى سيمتعهم إلى حين، ثم يمسهم عذاب أليم؟.

و منها (ثاني عشر) أن المفسرين و المؤرخين الإسلاميين أنفسهم يكادون يجمعون على أن الطوفان إنما بدأ و انتهى في العراق القديم، فهناك رواية مجاهد و الشعبي التي تذهب إلى أن التنور إنما كان بأرض الكوفة، و رواية قتادة من أنه كان بأرض الجزيرة، فضلا عن رواية ثالثة تذهب إلى أن سفينة نوح قد بدأت رحلتها من «عين وردة»، و عين وردة هذه- كما يقول ياقوت الحموي- رأس عين المدينة المشهورة في الجزيرة (3)، فإذا أضفنا إلى ذلك ما جاء في القرآن الكريم من أن سفينة نوح قد استوت على الجودي- و الجودي جبل يقع شرق جزيرة ابن عمر إلى جانب دجلة عند الموصل- فإذا كانت كل هذه الأماكن التي ذكرت إنما تقع في العراق، فمن البدهي أن رحلة سفينة نوح إنما بدأت و انتهت في العراق.

ص: 92


1- . 120- 119. P, 1966, qarI tneicnA, xuoR. G و كذلك-. 16. P, rU tA snoita vacxE, yellooW dranoeL riS
2- سورة هود: آية 48.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 70 و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 190.

و منها (ثالث عشر) أن صاحب «تفسير جزء تبارك» يتجه إلى أن مسألة شمول الطوفان لجميع أقسام الأرض، و عدم شموله لم يرد عنها في الكتاب نص قطعي، و كلمة لأرض في قوله تعالى: «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» ليست نصا في الدلالة على جميع أجزاء سطح الأرض، و إنما هي تستعمل أحيانا كثيرة استعمالا فصيحا في الجهة الواحدة من جهات الأرض، ففي سورة يوسف «قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، «وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ»، و المراد بالأرض في الموضعين «أرض مصر»، لا الكرة الأرضية كلها، و ليس هذا مماراة منا في قدرة اللّه أن يعم سطح الأرض كلها بالطوفان، و إنما يجب أن نقف في العقائد خاصة على ما جاء في صحيح النقل و ارتاح إليه العقل (1).

و منها (رابع عشر) أن صاحبي «تفسير الجلالين» يتجهان في تفسيرهما لقوله تعالى: «وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ» (2) إلى أن الأرض هنا هي أرض مصر (3).

و منها (خامس عشر) أن صاحب «تفسير جزء تبارك» يتجه في تفسير قوله تعالى:

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» (4) إلى أن نوحا عليه السلام ختم دعاءه بالدعاء للمؤمنين و المؤمنات جملة واحدة، يومئ هذا من طرف خفي إلى أن هناك مؤمنين و مؤمنات غير جماعة بيته الذين نجو معه في السفينة، و على هذا فالطوفان لم يعم الأرض كلها، و يكون في بعض جهاتها البعيدة مؤمنون و مؤمنات لم يغرقوا، و قد دعا لهم نوح مع أهل بيته المذكورين (5).

و منها (سادس عشر) أن هناك جماعة من أهل فارس و الهند- كما يروي المؤرخون الإسلاميون- يرون أن الطوفان كان خاصا، و أنه كان ببابل و مجاوراتها، و لم يصل إليهم، و أن تاريخ الملك عندهم يمتد في الماضي إلى تاريخ أبعد من الذي قدرته التوراة

ص: 93


1- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك، المطبعة الأميرية- القاهرة 1947 م ص 139.
2- سورة يونس: آية 83.
3- جلال الدين المحلي، و جلال الدين السيوطي: تفسير الجلالين، دار الشعب- القاهرة 1970 ص 193.
4- سورة نوح: آية 28.
5- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك. ص 143.

لطوفان نوح، و أن عمرانهم متصل من أعمق أجيال التاريخ إلى اليوم (1).

و منها (سابع عشر) أن الآثار تثبت، دونما ريب، أن هناك طوفانا- بل طوفانات- حدثت في العراق القديم، و من ثم فإن الأثريين يكادون يتفقون- و على رأسهم سير وليم ويلكوكس، و سير ليونارد و ولي- على أن الطوفان لم يشمل الكرة الأرضية كلها، و إنما كان طوفانا كبيرا على وادي دجلة و الفرات أغرق كل الأرض الصالحة للسكنى في هذه المنطقة بين الجبال و الصحراء، و التي هي في نظر سكان المنطقة- و بخاصة في تلك الفترة المبكرة- بمثابة العالم كله، و تقدر المساحة التي شملها الطوفان- في نظر بعض علماء الآثار- بحوالي 400 ميل طولا (حوالي 650 كيلومترا) في 100 ميل عرضا (حوالي 150 كيلومتر)، و كان ذلك كافيا لأن يغمر الوادي كله، إذ بلغ 40 ألف ميل مربع، و رغم أن أحدا لم يستطع حتى الآن أن يحدد زمن الطوفان تحديدا تاما، إلا أن هناك من يرى أنه ربما يرجع إلى قرب نهاية «عصر جمدة نصر»، أي قبيل بداية الألف الثالثة ق. م (2).

و منها (ثامن عشر) أنه من المعروف في كلام الأنبياء و الأقوام و في أخبارهم أن تذكر «الأرض»، و يراد بها أرضهم و وطنهم، كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى و هارون «وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» (3)، يعني أرض مصر، و قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها (4) فالمراد بالأرض هنا مكة المكرمة، و قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي

ص: 94


1- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 36 و كذلك ابن كثير: البداية و النهاية ص 118-، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 73، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 192.
2- F 22 P ,1950 ,seedlahC eht fo rU ,36 .P ,rU tA snoitavacxE ,yellooW .L .S و كذلك. 51- 50. P,. tic. po, relleK. W و كذلك محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 95، و كذلك عبد الحميد زائد: الشرق الخالد ص 12.
3- سورة يونس: آية 78.
4- سورة الإسراء: آية 76.

الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» (1)، و المراد بها الأرض التي كانوا يعيشون فيها، أي فلسطين.

و لعل من الأفضل هنا أن ننقل فتوى الأستاذ الإمام محمد عبده في طوفان نوح، كما جاءت في تفسير المنار، ردا على سؤال الشيخ عبد اللّه القدومي بمدينة نابلس.

يقول الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية:

وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317 ه، الذي أنهيتم به أنه ظهر قبلكم نش ء جديد من الطلبة ديدنهم البحث في العلوم و الرياضة و الخوض في توهين الأدلة القرآنية، و قد سمع من مقالتهم الآن: أن الطوفان لم يكن عاما لأنحاء الأرض، بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح عليه السلام، و أنه بقي ناس في أرض الصين لم يصبهم الغرق، و أن دعاء نوح عليه السلام بهلاك الكافرين لم يكن عاما بل هو خاص بكفار قومه، لأنه لم يكن مرسلا إلى قومه، بدليل ما صح «و كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، و بعثت إلى الناس كافة».

فإذا قيل لهم: إن الآيات الكريمة ناطقة بخلاف ذلك، كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»، و قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، قالوا هي قابلة للتأويل و لا حجة فيها، و إذا قيل لهم: إن جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن نوحا عليه السلام أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض، و أنه يتعين أن يكون قومه أهل الأرض، و يكون عموم بعثته أمرا اتفاقيا لعدم وجود أحد غير قومه، و لو وجد غيره لم يكن مرسلا إليهم، سخروا من المحدثين، و استندوا إلى حكايات منسوبة إلى أهل الصين، و رغبتهم منا بذلك المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم، و رغبتم منا

ص: 95


1- سورة الإسراء: آية 4.

يقتضيه الحق، و يطمئن إليه القلب.

و الجواب على ذلك و الحمد للّه، أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، و لا على عموم رسالة نوح عليه السلام، و ما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين، و المطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين، لا الظن، إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين.

و أما المؤرخ و مريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، و ما يذكره المؤرخون و المفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، و لا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني.

و أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، و أهل النظر في طبقات الأرض، و موضوع خلاف بين مؤرخي الأمم، أما أهل الكتاب و علماء الأمة الإسلامية فعلى أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، و وافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، و احتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف و الأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا تكون إلا في البحر، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، و لن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض، و يزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، و لهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات و الأحاديث التي صح سندها، و ينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير المراد، و الوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج

ص: 96

إلى بحث طويل، و عناء شديد، و علم غزير في طبقات الأرض و ما تحتوي عليه، و ذلك يتوقف على علوم شتى عقلية و نقلية، و من هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمع له قول، و لا يسمح له ببث جهالاته، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.

و يقول السيد محمد رشيد رضا: و خلاصة هذه الفتوى أن ظواهر القرآن و الأحاديث أن الطوفان كان عاما، شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، فيجب اعتقاده، و لكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض، و كذلك وجود الأصداف و الحيوانات البحرية في قمم الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوين الجبال و غيرها من اليابسة في الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر منها، و كما قلنا فإن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن، و لذلك لم يبيّنها بنص قطعي، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص، و لا نتخذه عقيدة دينية قطعية، فإن أثبت علماء الجيولوجية خلافه لا يضرنا، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا.

و بعد: فهذه قصة الطوفان، كما قدمتها الآثار و التوراة، و كذا القرآن الكريم، و لعل مما يلفت النظر أنها جميعا تتفق على أن القوم قد انحرفوا عن سواء السبيل، و من ثم فقد كان قضاء اللّه العادل في صورة طوفان أهلك الحرث و النسل، و لم تكتب النجاة من عقاب اللّه لأحد، إلا بطل القصة و الذين آمنوا معه، و هو الذي اتفقت الروايات جميعا على أنه كان بارا تقيا ورعا، و لكن هناك خلافات جوهرية بين النص القرآني و بين غيره من النصوص- سواء كانت تلك النصوص بشرية كنص سومر و بابل، أو نصوصا يزعم لها أصحابها ما يزعمون من قداسة، كنص التوراة.

و من هذه الاختلافات (أولا) أن النص القرآني كان هو النص الوحيد الذي

ص: 97

حدثنا أن نوحا كان رسولا من رب العالمين، و أنه قضى من الزمن ما شاء اللّه له أن يقضي في دعوة قومه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، و أن اللّه- جل و علا- لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في دعوته كل صنوف الأذى و الاضطهاد، و إلا بعد أن جرّب نبي الكريم كل سبل الإقناع، دونما أية نتيجة، «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (1)، و إلا بعد أن يئس النبي الكريم من أن يؤمن به قومه، فدعا «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (2)، و إلا بعد أن أوحى اللّه إليه «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (3)، و هكذا اتبع نبي اللّه الكريم كل ما يمكن اتباعه تصديقا لقوله تعالى: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (4).

و منها (ثانيا) أن الناجين من الطوفان في القصة القرآنية، إنما نجو لأنهم آمنوا باللّه العزيز الحكيم، و صدقوا بدعوة نوح عليه السلام، بعكس النصوص الأخرى التي جعلت نجاتهم، إنما ترجع إلى أنهم من أهل بطل القصة و ذوي قرباه، و يزيد القرآن الكريم الأمر وضوحا في هذه النقطة بالذات، فيقص علينا- من بين ما يقص من أحداث- ما حدث مع ابن نوح، و كيف كان من الغارقين، ثم كيف «نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (5). و هكذا يبدو واضحا المبدأ القرآني العظيم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»، «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6).

ص: 98


1- سورة نوح: آيات 5- 10.
2- سورة نوح: آية 26، 27.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة الإسراء: آية 15.
5- سورة هود: آيات 45- 47.
6- سورة الزلزلة: آية 7، 8.

و منها (ثالثا) أن زوجة بطل القصة في النصوص السومرية و البابلية- و كذا في نص التوراة- تنجو من الطوفان مع الناجين، و لكن القرآن الكريم كان وحده هو الذي أخبرنا أن زوج النبي الكريم لم تكن من المؤمنين به «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (1)، و لا شأن لنا بروايات ذهبت إلى غير ما ذهب إليه النص القرآني الكريم، فإنما هي اجتهادات على مسئولية أصحابها، و هي قبل ذلك باطلة لمخالفتها للقرآن الكريم.

و منها (رابعا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي يتفق إلى حد كبير- مع الفارق الشاسع بين ما أنزله اللّه و ما كتبته أيدي البشر- مع أقدم نصوص قصة الطوفان في أن الطوفان إنما بدأ و انتهى- أو على الأقل انتهى- في العراق، و ذلك حين «غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ».

و منها (خامسا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي تسامى عن مهاوي الشرك و ضلال الوثنية، فهو في صراحة تامة يذكر أن القوم قد حادوا عن عبادة ربهم و انصرفوا إلى عبادة الأوثان، و في كل هذا يقدم لنا وصفا للّه سبحانه و تعالى- بما يتفق و مقام الذات العلية- فلا يتنزل إلى الدرك الأسفل من التفكير الوثني في قصص العراق القديم، أو يصف اللّه سبحانه و تعالى بما وصفته التوراة من أوصاف لا يرتضيها عقل و لا يقرها منطق، بل هي أوصاف لا يرتضيها عقلاء الناس لأنفسهم في كثير من الأحيان.

و منها (سادسا) أن النص القرآني الكريم هو النص الوحيد الذي تنزه عن التناقض الذي ساد قصة التوراة مثلا.

و منها (سابعا) أن النص القرآني هو الوحيد الذي نزّه اللّه سبحانه و تعالى عن الندم على إحداث الطوفان، بعكس النصوص الأخرى التي ذهبت إلى ندم اللّه- أو الآلهة في النصوص البابلية- على الإتيان بالطوفان، بل ذهبت التوراة إلى أبعد من ذلك، حين زعمت أن اللّه- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- قد عزم ألا يحدث طوفانا بعد ذلك،

ص: 99


1- سورة التحريم: آية 10.

و أنه قد وضع علامة هي القوس في السماء، ليتذكر وعده، فلا يكون طوفان يغرق الأرض أبدا.

و منها (ثامنا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي تنزه عن الماديات، ذلك أن كلا من النصين- البابلي و التوراتي- يضحي فيه البطل بالأضاحي، فتشم الآلهة في القصة البابلية، و يشم الرب في قصة التوراة، رائحة الشواء فيسكن غضبه و يتنسم رائحة الرضا، بل إن القرآن الكريم ليرد على فحش يهود هذا- و هم يزعمون أنهم موحدون و أن كتابهم هذا تنزيل من عليّ قدير- بقوله تعالى «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (1) و يقول: «فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (2).

و منها (تاسعا) أن النص القرآني هو الوحيد الذي لا تجد فيه نصا قطعيا على أن الطوفان قد شمل الأرض كلها- الأمر الذي ناقشناه من قبل- و إن كانت النصوص السومرية و البابلية، إنما عنت بالأرض المنطقة التي يسكنها أصحاب الطوفان، ثم جاءت يهود، و نقلت ما نقلت من المصادر البابلية، ثم مزجت ذلك كله بما أنزله اللّه على موسى عليه السلام، ثم أخرجت لنا التوراة الحالية التي لا تمثل وحيا من عند اللّه، كما أنها لا تمثل الكتابات الإنسانية، و إنما هي خليط من هذا و ذاك، و من ثم كانت روايتها أكثر الروايات تعرضا للخطأ، فضلا عن أنها لا تقدم لنا رواية سماوية مقدسة تماما، و لا وجهة النظر الإنسانية التي فيها ما في الإنسان نفسه من خطأ و صواب، و إنما هي بين بين.

و منها (عاشرا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي لم يعتمد على غيره من المصادر القديمة، ذلك أن السومريين بعد أن كتبوا روايتهم عن الطوفان، جاء البابليون من بعدهم، و أخذوا منها ما أخذوا، ثم جاءت يهود و نقلت ما نقلت عن الاثنين، و هكذا كانت كل رواية طوفانية تعتمد على رواية سبقت في التدوين- و لكن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى القصة القرآنية، و التي هي وحي من رب العالمين، ذلك أنه في القرن السابع الميلادي، و في مكة المكرمة، و في غار حراء بدأ نزول الوحي على مولانا و سيدنا

ص: 100


1- سورة الحج: آية 37.
2- سورة الحج: آية 28.

رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- بالقرآن الكريم، و لم يكن رسول اللّه- عليه الصلاة و السلام- و لا قومه، على دراية بقصة الطوفان هذه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (1).

ثم أ ليس كل ما جاء في هذه الدراسة يدل بوضوح على هيمنة القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية- فما بالك بالكتابات الإنسانية- مصداقا لقوله تعالى، مخاطبا الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (2)، ثم أ ليس هو الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (3).

ص: 101


1- سورة هود: آية 49.
2- سورة المائدة: آية 47.
3- سورة فصلت آية 42.

ص: 102

الباب الثاني سيرة إبراهيم الخليل عليه السّلام في العراق

اشارة

ص: 103

ص: 104

الفصل الأول معبودات قوم إبراهيم

لعل من الأفضل أن نشير هنا، و قبل الحديث عن معبودات قوم إبراهيم، إلى أننا قدمنا في الجزء الأول من هذه السلسلة و غيرها، دراسات مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام، عن: نسبه و عصره، فضلا عن موطنه الأصلي، و هجراته في بلاد الشام و مصر و الحجاز (1)، و من ثم فلسنا في حاجة إلى تكرار ذلك في هذا الجزء الرابع من سلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم»، و الذي سوف تقتصر الدراسة فيه عن دعوة أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل، عليه السلام، في موطنه الأصلي، في العراق القديم.

معبودات قوم إبراهيم:- من الحقائق المتفق عليها في تاريخ أبي الأنبياء، عليه السلام، أنه ولد و نشأ في العراق، كما أنه تلقى وحي ربه و بلّغ رسالاته، أول ما بلغها، في العراق كذلك، و أن قومه إنما كانوا يعبدون الأصنام، فضلا عن عبادة الكواكب.

هذا و يكاد يتفق المؤرخون أن أهل بلاد الرافدين (بلاد النهرين- ميزوبوتاميا- بارابوتاميا) قد نسبوا إلى معبوداتهم صفات البشر، و التي لا تختلف عنها إلا أنها أكثر تجريدا و كمالا، كما كانت ثياب الآلهة كثياب البشر،

ص: 105


1- قدم المؤلف دراسة مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه السلام شملت الموضوعات التالية (1- إبراهيم بين التوراة و القرآن الكريم 2- اسم الخليل و نسبه 3- موطن الخليل 4- عصر الخليل 5- هجرات الخليل 6- الرحلة إلى مصر 7- رحلة الخليل إلى الحجاز 9- قصة الذبيح 10- زوجات الخليل)، و ذلك في كتابين لنا. (انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الأول- الإسكندرية 1978 ص (49- 184)، دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الأول- في بلاد العرب- الرياض 1980 ص (113- 183).

و لكن ثياب الآلهة أبهى من ثياب الأمراء، و يصدر عنها بريق يخطف الأبصار، و للآلهة أسر و أسلحة، و صراعها كصراع الناس، و لكنه بالطبع على نطاق أعظم و أهول، و مع ذلك فقد ميّز القوم آلهتهم عن البشر بالخلود، و بأنهم كانوا خيرين دائما، و لم يكن الشر من عملهم، بل من أرواح خبيثة تفوق البشر، و لكنها دون الآلهة.

و كان الثالون الأعظم بين معبودات بلاد النهرين يتكون من: آنو و إنليل و إيا.

(1) آنو:- اعتبر القوم منذ أقدم العصور معبودهم «آنو» (و أصله من السومرية آن) بمثابة الإله الأعظم، و كان دائما يتصدر قوائم الآلهة، و يلقب خاصة بملك السماوات، إلى جانب لقبيه إله السماوات و أبي السماوات، و عرشه في قمة قبة السماء، و له السلطة العليا، يخضع له آلهة السماء و آلهة الأرض معا، و هو الذي يخوّل لملوك الأرض السلطة التي يحكمون بها، و نظيره «زيوس» لدى اليونان، و امرأته هي الإلهة «أنتم»، و اسمها مأخوذ من اسمه، بزيادة تاء التأنيث.

و كانت مدينة «أوروك» (و هي أونوك في السومرية، و إرك في التوراة، و الوركاء في الوقت الحاضر) هي المركز الرئيسي في العصور القديمة لعبادتهما، و عند ما انتقل مركز الثقل السياسي من سومر إلى بابل، أصبح «مردوك» إله بابل، سيد الآلهة، و بالتالي فقد حل محل «آنو»، و مع ذلك فقد أطلق الملك البابلي الشهير «حمورابي» (1728- 1686 ق. م) على «آنو» لقب الإله العظيم في استهلال قانونه.

هذا و تشير أساطير القوم إلى أن «آنو» إنما كان يسكن قمة قبة السماء (سماء آنو)، و كان يحرس بوابته معبودان هما: تموز و جيزيدا، و كان يوضع أمامه: الصولج و العصا و التاج و عصا القيادة، قبل نشوء الملكية على وجه الأرض، و حين كان الآلهة في خوف من الطوفان هربوا و صعدوا إلى سماء

ص: 106

آنو، و جثوا، كما يفعل الكلب على الحائط، و رقدوا هناك حتى اشتموا الرائحة الجميلة للضحية.

(2) إنليل:- و هو أكبر معبودات السومريين (و معنى اسمه المركب «إن- ليل» سيد الريح) و لما كانت الريح تهب، في اعتقادهم، من الجبل، فقد سمى «الجبل الكبير»، و لما كان رمز الجبل في السومرية هو رمز بلد في الأكدية، فقد لقب إنليل أيضا بسيد البلاد، و هو لقب حملة من أقدم النصوص السومرية، و احتفظ به من نقوش بابل و آشور التاريخية و الدينية، و هكذا صار إله الجبل إله الأرض.

و من ثم فقد فرض إنليل قانونه على سكان الأرض، و هو قانون، فيما يزعم القوم، مكتوب في ألواح القدر، كما أن إنليل لم يكن يكتف بتحديد مصائر الناس، و إنما كان أيضا يشرف بنفسه على تنفيذ أحكامه، و هو أيضا محارب عنيف يلقب بالثور الوحشي، و هو مستشار الآلهة، كما أنه هو الذي أحدث الطوفان.

و كانت زوجته «ننليل»، و اسمها مأخوذ من اسمه، و ذلك بوضع (nin) سيدة، موضع () سيد، و كانت مدينته «نيبور»، و هي «نفر» الآن (سوم- نيبور) في بلاد بابل، مركز عبادتهما.

(3) إنكي:- كان إنكي هو اسم ثالث إله من الثالوث، و هو نفسه الإله السامي «إيا» بمعنى «بيت الماء» و إنكي في السومرية بمعنى «سيد الأرض»، حيث كان القوم يعتقدون، فيما تروى أساطيرهم، أن هناك ثلاث أرضين، الأرض العليا حيث يحكم إنليل، و الأرض السفلى حيث يهيمن المعبود «نرجل»، و الأرض الوسطى التي تقع بين سطح الأرض و الأرض السفلى، و هي مملكة «إنكي» أو «إيا»، و هو يلقب في النصوص القديمة بملك «إبسو» أي ملك المياه العذبة، فقد كان السومريون و الأكديون يعتقدون أنه يوجد تحت أرضنا، عند مشارف الأرض الوسطى، سطح كبير من المياه العذبة

ص: 107

تطفو عليه أرضنا، و هو الحوض الذي تتدفق منه منابع الجداول و الأنهار.

و كان «إيا» (انكي) هو إله السحر و المعوّذ بين الآلهة، و لا غرو فالماء كان يستعمل في التطهير و القضاء و التنبؤ، و كان ماء «إبسو» المقدس في معبد مدينة «أريدو» (أبو شهرين الحالين على مبعدة سبعة أميال جنوب غرب مدينة أور) يستخدم كثيرا في طقوس السحر للشفاء أو الوقاية من الأمراض.

و كان «إيا» كذلك إلها للحكمة، خلق الإنسان من كتلة من الطين (الطمي)، ثم نفخ فيها نسمة الحياة، و هو الذي أنقذ البشر من الفناء في زمن الطوفان؟) و علمهم مختلف الصناعات، و منح الذكاء للملوك، و هو الذي أقام عبادة الآلهة على الأرض.

و كانت زوجته «ننكي»، و معنى اسمها في السومرية «سيدة الأرض»، و قد سميت فيما بعد «دمكينا»، و كانت مدينة «أريدو» المركز الرئيسي لعبادتهما.

هذا و قد عرف القوم كذلك عبادة الكواكب، و من ثم فقد كان هناك ثالوث آخر من أجرام سماوية هي: الشمس و القمر و كوكب الزهرة (1) (نجم الصباح)، و كان إله القمر يعدّ أقدم آلهة هذا الثالوث، و يعتبر أبا لإله الشمس و كوكب الزهرة، و على هذا كان إله الشمس أخا للزهرة، و كانت الزهرة أختا ).

ص: 108


1- سادت جنوب بلاد العرب عبادة ثالوث من الكواكب هي القمر و الشمس و الزهرة، و يمثل القمر في هذا الثالوث دور الأب، كما تمثل الشمس دور الأم، بينما تمثل الزهرة دور الابن، و ربما كان العرب الجنوبيون متأثرين في هذا الثالوث ببلاد النهرين، حيث يحتل هذا الثالوث فيها مكانة ممتازة، و إن كنت أميل إلى أن عبادة التثليث هذه كانت أمرا مشاعا بين سكان المنطقة العربية كلها، و من ثم فقد رأيناه في بلاد الرافدين و سورية و فينيقيا، و إلى حد ما في مصر، بل إن الرمز الذي اتخذه أهل بابل و آشور و سورية و آسيا الصغرى، لإله الشمس، و هو قرص ذو جناحين، إنما هو رمز الشمس في مصر، و مع ذلك فربما كان تأثير بلاد الرافدين الديني على جنوب بلاد العرب، أكبر من تأثير غيرهم من الساميين (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة ص 19).

له، و إله الشمس ذكر كأبيه إله القمر، أما كوكب الزهرة (عشتر)، و هي تارة نجمة الصباح، و تارة نجمة المساء، فقد كان يكتنفها الغموض، فكانت تارة ذكرا، و تارة أنثى، و لكن غلب الجانب الأنثوي، و قضى على التعارض بين الذكورة و الأنوثة بأن اتحدت في شخصها إلهة الحرب (جانب الذكورة) و إلهة الحب (جانب الأنوثة).

(1) إله القمر:- يأتي إله القمر عند القوم، في المرتبة التي تلي «إنكي» (إيا)، و قد أطلق السومريون و الأكديون عليه اسم «سين» و هو اسم سومري نقله الأكديون عن السومريين، و نظائره السامية هي «ود» لدى عرب الجنوب (1)، و «سهر» لدى الآراميين، و «رخ» أو «يرخ» لدى الأموريين،».

ص: 109


1- اعتبر عرب الجنوب القمر أبا في الثالوث الكوكبي، و من ثم فقد صارت له منزلة خاصة عندهم، فهو المقدم على غيره، و هو كبير الآلهة، و هو الذي ينفرد بالكثرة المطلقة من الأسماء، و الألقاب في الأساطير و الطقوس و أسماء الأعلام و غيرها، و هكذا أصبح الإله القمر مهيمنا على سائر مناحي الحياة، هيمنة أشبه ما تكون بهيمنة الشمس في الديانات السامية الشمالية، حتى قيل إن الديانة العربية الجنوبية ديانة قمرية، و ذلك بسبب العوامل الجغرافية و المناخية، حتى أصبحنا نرى في العربية «القمران» كتعبير يدل على الشمس و القمر. هذا و يعرف الإله القمر بالإله «ود» عدن المعنيين، و «المقة» عند السبيئيين، و «عمّ» في قتبان، و «سين» في حضرموت، فأما «ود» فهو في طليعة الآلهة المدونة في نصوص المسند، و هو إله «معين» الكبير، فضلا عن قبائل عربية أخرى، كثمود و لحيان، كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور الإسلام، و قد حكى القرآن الكريم عنه بأنه إله جاهلي قديم، وجد قبل زمن الطوفان، و قد عبده قوم نبي اللّه نوح عليه السلام، كما كان المعبود القومي لدويلة أوسان، و كان معبده الرئيسي في وادي نعمان. و أما «المقه» إله سبأ الكبير، و يتكون اسمه من «إل»، و هو اسم الإله «إيل» الشهير عند الساميين، و من «مقهو» بمعنى قوي، و من ثم يصبح معنى الإسم «إيل قوي» بمعنى «اللّه قوي» و قد اتخذ القوم الثور رمزا للإله «المقه»، و هو من الرموز الدالة على الإله القمر عند الساميين القدامى. و أما الإسم «عم» فهو من الأسماء السامية الواسعة الانتشار، و التي كانت من أوصاف الآلهة، ثم صارت علما على إله قتبان، و أما «سين» إله حضرموت، فهو اسم سومري، و ليس ساميا، نقله الأكديون عن السومريين، و يبدو أن الآلهة القمرية كانت أكثر من ذلك، فهناك في النقوش العربية الجنوبية «و رخن»، و الظاهر أنه كان يدل على الهلال، فقد استعملت في اللغات السامية كلها تقريبا ألفاظ مشابهة لهذه اللفظة لمعايير متصلة بالهلال، منها «يرخ» بالعبرية، و «يرخا» بالسريانية و الآرامية، و «أرخو» بالآشورية، و «أرخ» بالبابلية، و «رخ» بالعربية اليمنية و بالحبشية، و كلها بمعاني الهلال و القمر و الشهر، و منها جاء الفعل «أرخ» من العربية الفصحى، أي حسب الأيام و الشهور على دورة القمر، و الإسم «التاريخ» و أخيرا، فهناك من يرى أن اسم «سيناء لا بد و أن يكون له علاقة بإله القمر «سين».

و لإله القمر عند السومريين اسم آخر هو «ننا» بمعنى رجل السماء، و قد حرفه الأكديون الساميون إلى «ننر» بمعنى المنير، و يرمز إليه في كثير من الأحيان بالهلال، و بجانبه قرص الشمس، رمزا لإله الشمس، و نجمة في وسط دائرة، رمزا لكوكب الزهرة.

و الإله «سين» هو سيد الشهر، ينظم أيام الشهر و السنة، و من ثم فهو الذي يقيس الزمن، و هو الذي ينهى الأيام و الشهور و السنين للملوك المذنبين بالدموع و التأوهات، و كان رمزه الهلال، هذا و كانت لحركات القمر دور هام في التنبؤ، و كان خسوف القمر أهول الظواهر و أشدها روعا، و كان ينسب إلى هجوم محل الإله «سين» من سبع أرواح شريرة في السماء، و كانت صورة الكارثة تختلف حسب الشهر الذي يقع فيه الخسوف فكانت ترسل الدعوات إلى الإله، و تقدم إليه القرابين، و أخيرا يولد من جديد أشد بهاء من ذي قبل منتصرا على الظلمات و الموت، و ذلك عن طريق القوس التي يدافع بها عن نفسه ضد القوى التي تعترض مجراه، أو تحاول حجب نوره.

و كانت زوجته «ننجل» بمعنى السيدة الكبيرة، و إلى هذا الإسم يرجع الإسم «نكل» الذي يطلقه عليها كل من الآراميين و أهل أوجاريت (تل شمرا)، و قد أنجبا الإله شمس و الإلهة عشتر، و يعتبر «نسكو» إله النار، في بعض الأحيان، ابنا لهما.

و كانت مدينة «أور» (تل المقير، على مبعدة 120 ميلا شمال مدينة البصرة) مركز عبادة «سين» و زوجته «ننجل» و ولدهما «نسكو» (سدرننا)، ثم

ص: 110

انتقلت عبادتهم جميعا إلى الشمال في «حران» (حاران، و تقع على نهر بلخ، على مبعدة 60 ميلا من اتصاله بالفرات)، و قد انتشرت عبادة القمر من أور إلى كل أرجاء بابل، و من «حران» إلى كل من سورية و فينيقيا، و كان البدو الآراميون و العرب يعبدون إله القمر، و لا يستبعد أن يكون لاسم «شبه جزيرة سيناء» علاقة بإله القمر «سين».

(2) إله الشمس:- يأتي إله الشمس (شمش) في المرتبة الثانية بعد أبيه إله القمر، و كان السومريون يسمونه «أوتو» و يسمون الشمس «ببر» و هي تشرق، أما الساميون فقد أطلقوا على الإله الأكدي اسم الشمس نفسها (شمش) و كان العبرانيون و الآراميون ينطقون «شمش»، و العرب «شمس» (1)، و أهل أوجاريت «شبش، و كان عرب الجنوب و الأوجاريتيون يعتبرونها إلهة مؤنثة، بينما كان السومريون و الأكديون يعتبرونها إلها ذكرا، و كان الحيثيون يميزون بين إمله للشمس، و إلهة للشمس يسمونها «أرنا».

و كان يرمز لإله الشمس في بابل و آشور و سورية و آسيا الصغرى بقرص ذي جناحين، أي بصورة الشمس في مصر، و من ألقابه في بلاد الرافدين «نور العالم»، هذا و كان إله الشمس، في نظر القوم، هو القاضي الأعظم الذي أملى قوانين العدالة على الملوك، و كانت مدينة «لارسا» في سومر، ».

ص: 111


1- عبدت الشمس في قتبان و حضرموت و سبأ تحت اسم شمس، و غالبا ما كانت أسماء الشمس في بلاد العرب الجنوبية تبدأ ب «ذات»، و كانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح»، و ربما بمعنى «ذات حميم»، كما كانت تسمى عند السبئيين «ذات غضرن» و «ذات حميم»، بمعنى ذات حرارة في الغالب، و هذا المعنى قريب من «آل حمون» و «بعل حمون» في العبرية، و إن فسر البعض «ذات حميم» بمعنى ذات الحمى، و الحمى الموضع الذي يحمى، و يخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة، فيكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه أو التعدي عليه، و أما في النقوش القتبانية فهي «ذات صهرن» «ذات رحبن»، فضلا عن اسم آخر للشمس ذكرته الكتابات القتبانية، و أعنى «إ ث ر ت»، و هو بعينه اللفظ العبراني «أشرت»، و يرجح «هومل»، و يؤيده نقش جلازر رقم 1600، أن هذا الإسم القتباني إنما يشير عادة إلى آلهة الشمس، و إلى زوج الإله «ود».

و مدينة «سبر» من أكبر، مركزين لعبادة شمش منذ أقدم الأزمان، و أما زوجته فهي «أيا».

(3) الإلهة الزهرة:- كانت الإلهة الزهرة (عشتر- عشتار) أهم إلهة في سومر و أكبر، و كان السومريون يسمونها «أنينا» بمعنى سيدة السماء، و «عشتر» هو الإسم الأكدي السامي، و نظيره «عشتار» لدى الفينيقيين و العبريين، إلهة أنثى، و «عنتر» لدى العرب الجنوبيين إله ذكر (1)، و هي تأتي في المرتبة بعد «سين» أبيها، و «شمش» أخيها مباشرة، و هي أخت «أرشكيجل» إلهة العالم السفلى.

و كان يرمز إليها بنجمة ذات ثمانية أشعة أو ستة عشر شعاعا، منقوشة داخل دائرة، و هي التي ترشد النجوم إلى طريقها، و هي نجمة الصباح تارة، و المساء تارة، و هي إلهة الحب و اللذة حين تكون إلهة المساء، ترفع إلى عرش الملك من تهواه من البشر، و قد مجدها الآشوريون كإلهة محاربة، سلاحها المفضل هو القوس، و حيوانها الأثير هو الأسد، نراها واقفة على ظهره في أغلب الصور التي تمثلها، و قد انتشرت عبادتها في سومر و أكد، ثم انتقلت من أكد إلى آشور، ثم امتدت غربا و شمالا و شرقا مع جيوش آشور الفاتحة.

هذا، و إلى جانب هذه المعبودات الوثنية، كانت كل قوى الطبيعة، و كل قوى الخير، تؤله عند السومريين و البابليين، كما كان لكل مدينة معبودات، حتى أصبح عدد المعبودات كثيرا جدا، غير أن أهمها جميعا، إنما كان مردوك و آشور.

ص: 112


1- كان الإله العربي «عشتر» ذكرا، بينما كانت نظائره في جميع الأديان السامية الأخرى مؤنثة، و هكذا رأينا الشعر العربي يذكر الزهرة مذكرة، و حتى عند العرب الذين عرفهم «نيلوس» كان هذا النجم مذكرا، و لما كانت العادة أن يقدم القربان من جنس المقرب إليه، إن كان ذكرا فذكر، و إن كان أنثى فأنثى، و حيث نظر للقمر كشيخ كان قربانه رجلا هرما ما ممتلئ الوجه، و أما هنا فكان ينظر إلى الزهرة كطفل صغير يتفق و مكانته بين العائلة المقدسة، كابن لإله القمر، و أمه إلهة الشمس.

(1) مردوك:- بلغ هذا المعبود الوثني من الشهرة مبلغا ربما بم يبلغه إله وثني آخر من تاريخ الشرق الأدنى القديم، و قد ارتبط مصيره بمصير مدينة بابل، و التي كان لها شأن عظيم في التاريخ القديم، سياسيا و عسكريا و دينيا و اجتماعيا، و يدل على هذه الصلة الوثيقة بين مردوك و بابل قول إرميا، النبي العبراني، «قولوا أخذت بابل، خزي بيل، تضعضع مردوخ» و ذلك عند سقوط بابل عام 539 ق. م.

و كان مردوك، في نظر القوم، هو ابن انكى البكر، و من ثم فقد ورث عنه العلم و السحر، و صار مثله المعوذين الآلهة، و كان الساحر عند ما يمارس مهنته إنما يعمل باسم مردوك، كما يعمل باسم أبيه «أيا»، و في الأمور المستعصية كان مردوك يلجأ إلى أبيه انكى طلبا للمعونة، و كما كان «أيا» إله الحكمة، كان مردوك أحكم الحكماء، و الخبير بين الآلهة.

هذا، و كما تبيّن لنا مقدمة قانون حمورابي المكانة العليا التي وصل إليها مردوك في الإمبراطورية البابلية، تبين لنا قصيدة الخلق البابلية مكانته السامية أيضا، حيث أسبغت عليه خمسين اسما أو لقبا، مما جعل «دورم» يزعم أنه في نسبة هذه الأوصاف جميعا إلى إله واحد، اتجاها إلى التوحيد، و هو يجد هذا الاتجاه أيضا في عصر الدولة الكلدانية، إذا صارت الآلهة المختلفة مجرد جوانب من شخص مردوك.

و كانت «صبريانيتم» بمعنى الفضية أو اللامعة كالفضة، زوجة لمردوك، و كان الاثنان يبجلان حينما تعلو مكانة بابل، و عند ما فتح ملوك آشور أرض بابل أبدوا ولاءهم لآلهتها، و هي في مقدمتها مردوخ و زوجته، و كذا في أيام الكلدانيين و الفرس، بل ظلا موضع الاجلال بعد ذلك أيام السلوقيين، سواء في الحياة الخاصة أو الاحتفالات الرحية.

(2) آشور:- و هو الإله القومي للآشوريين، و كبير آلهتهم الوثنية،

ص: 113

و كانوا ينطقون اسمه «أسور» (بسين مشددة) و قد حل في قصيدة الخلق الآشوري محل مردوك، كما حل مردوك لدى البابليين محل أنليل إله السومريين من قبل، مما يشير إلى أن الدين كان عونا للسياسة، و صدى لمصالح المدن و الشهوب و الملوك.

و كان معبد الإله الوثني آشور، و تقع على الضفة الغربية لنهر الدجلة، على مبعدة 40 ميلا، جنوب الزاب الأعلى، و كان معبده يسمى «اشرا»، و يقيم فيه مع زوجته «ننليل» (ملكة اشرا)، و التي كانت في الأصل زوجا لإنليل، فجعلها الآشوريون زوجا لإلههم آشور كذلك، و كان لآشور معبد آخر خارج المدينة يسمى «أكستو».

و قد أطلق القوم على إلههم لقب «الجبل الكبير»، و هو، فيما يزعم القوم، خالق الآلهة و منجبها و سيدها و ملكها، و منه يستمد الملوك الصولجان و التاج و العرش، و هو ملك الآلهة، و هو يرأس في معبده مجتمع الآلهة التي تقرر أقدار البشر، و هو الذي يأمر بخروج ملوك آشور إلى الحرب، و يكتب لهم النصر، و إليه يساق المغلوبون من أعدائهم خاضعين، و يؤتى بتماثيل آلهتهم إلى معبده (1). yM

ص: 114


1- انظر عن هذا الفصل (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الاسكندرية 1978 ص 19- 28، ول ديورانت قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 211- 225، سبنيتو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة- ترجمه و زاد عليه يعقوب بكر- القاهرة 1968 ص 73- 76، 252- 265، ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين: ترجمه محرم كمال- القاهرة ص 165- 175، ليو أوينهام: بلاد ما بين النهرين- ترجمه سعدي فيضي- بغداد 1981، محمد أبو المحاسن عصفور: معالم حضارات الشرق القديم- الاسكندرية 1969 ص 216- 223، و كذا .102 -68 ,67 -22 .P ,1930 ,sirap ,seuqitimeS serutirce te seugnaL emrohD .P و كذا .59 -56 .P ,1927 ,nodnoL ,setimeS eht fo noigileR eht no serutceL ,htimS .R .W و كذا nretsaE raeN yraG. J A و كذا .F 882 .P ,I ,ERE ,sgnitsaH .J F 60 .P ,1951 ,ogacihC ,siseneG nainoylaB ehT ,ledieH و كذا. 51- 17. P, 1969, nodnoL, ygolohtyM
الفصل الثّاني دعوة إبراهيم عليه السّلام
اشارة

أشرنا آنفا إلى أن قوم إبراهيم إنما كانوا يمارسون عبادة الأصنام، فضلا عن عبادة الكواكب، و من ثم فمن الأفضل هنا أن نناقش موقف أبي الأنبياء عليه الصلاة و السلام من ممارسات قومه الوثنية في شتين، الواحد:

موقف إبراهيم من عبادة الكواكب، و الثاني: موقفه من عبادة الأصنام.

[1] موقف إبراهيم من عبادة الكواكب:-

قدم لنا القرآن الكريم تلك المناظرة التي دارت بين إبراهيم عليه السلام و بين قومه من عبدة الكواكب في الآيات الكريمة من سورة الأنعام، يقول عز من قال: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ، وَ تِلْكَ

ص: 115

حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1).

و الآيات الكريمة تفيد أن إبراهيم، صلوات اللّه و سلامه عليه، تطلع إلى السماء فرأى كوكبا يعبده القوم (و لعله كوكب الزهرة) فيما يعبدون، فقال: «هذا ربي، ثم اصطبر قليلا حتى أفل الكوكب، فقال: لا أحب الآفلين»، أي أنه لا يحب الآلهة المتغيرة المتحولة التي لا تبقى في مكان واحد، و لا تستقر على حال.

ثم تطلع بعد ذلك إلى السماء، فرأى القمر ساطعا يأخذ نوره بالأبصار، فقال: هذا ربي، لكنه لم يلبث إلا يسيرا، ثم أفل و احتجب نوره، فقال إبراهيم: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

ثم رأى الشمس في كبد السماء بعد ذلك، يعم نورها الأرجاء، تملأ أشعتها الكون دفئا و ضياء، ثم ما لبث أن رآها تأفل، كما أفل الكوكب، و كما أفل القمر، من قبل، فقال: يا قوم إني بري ء مما تشركون (2).

هذا و قد اختلف المفسرون من وقت هذه الرؤية؟ و في وقت هذا القول من عمر إبراهيم عليه السلام؟ و هل كان ذلك في مقام النظر و الاستدلال لنفسه؟ أم كان في مقام المناظرة و الحجاج لقومه؟.

و هكذا ذهب فريق إلى أن ذلك الوقت اعتبار، و لا يترتب عليه حكم، لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ.

ص: 116


1- سورة الأنعام: آية 75- 83، و انظر: تفسير الطبري 11/ 470- 506، في ظلال القرآن 2/ 1135- 1143، تفسير النسفي 2/ 19- 21، تفسير الجلالين ص 174- 176، تفسير ابن كثير 2/ 240- 247، صفوة التفاسير 1/ 401- 403، تفسير البحر المحيط 4/ 165- 169، تفسير الكشاف 2/ 30- 33، تفسير القرطبي ص 2459- 2467، تفسير المنار 7/ 444- 486.
2- محمد حسني عبد الحميد: أبو الأنبياء إبراهيم الخليل- القاهرة 1947 ص 39.

و قد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على ما روي في التفسير بالمأثور من عبادته، عليه السلام، لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه، حتى أراه اللّه تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها، و الاستدلال بأفولها و تعددها و غير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها، و أن ذلك كله كان قبل النبوة و دعوتها، و منه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم عليه السلام، ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم «نمرود بن كنعان» أن يقتله، إذ كان قد أخبره المنجمون بأنه سيولد في قريته غلام يفارق دينهم، و يكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا، و فيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم، كما يشب غيره في شهر، و في الشهر كما يشب غيره في سنة، و أنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته، أن تخرجه من المغارة، فأخرجته فنظر و تفكر في خلق السماوات و الأرض، و ذكر رؤيته للكواكب فالقمر فالشمس (1).

و كان اللّه تعالى قد خصّه بالعقل الكامل و النظرة السليمة، و من ثم فقد تفكر في نفسه و قال: لا بد لهذا الخلق من خالق، و هو إله الخلق، ثم نظر حال تفكره، فرأى الكوكب و قد ازدهر فقال: هذا ربي على ما سبق إلى و همه، و ذلك في حالة طفولته، و قبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه و تعالى، و قد استدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، و هذا يدل على نوع من التحيّر، و ذلك لا يكون إلا في حالة الصغر، و قبل البلوغ و قيام الحجة (2).

ص: 117


1- تفسير المنار 11/ 464، و انظر: تفسير النسفي 2/ 20، تفسير الطبري 11/ 481- 482، تفسير القرطبي ص 246، محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم ح- 1- ص 116- 117، إسرائيل ح 1- ص 280.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص 40.

و ليس هناك إلى سبيل من شك في أن هذا القول غير صحيح تماما، لأسباب كثيرة، منها أن رواية ابن إسحاق و أمثالها، إنما هي موضوعة لهذه المسألة، و قد أخذها ابن إسحاق عن بعض اليهود الذي كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص، ليلبسوا عليهم دينهم، فتبطل ثقة يهود و غيرهم (1)، و منها أن الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، معصومون في كل حال من الأحوال، و لا يجوز أن يكون للّه عز و جل رسول يأت عليه وقت من الأوقات، إلا و هو باللّه عارف، و له موحد، و من كل منقصة منزه، و من كل معبود سواه، سبحانه و تعالى، بري ء، و إن هذا القول لينقصنه تماما كون اللّه تعالى قد أتى إبراهيم رشده من قبل، و أطلعه على أسرار الكون، و ملكوت السماوات و الأرض، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (2)، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3).

و قال أبو حيان في بحره المحيط: لما أوضح لهم أن الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا، ارتقب ما هو أنور منه و أضوأ، فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر و أضوأ، و أكبر جرما، و أعم نفعا، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم، و بيّن أنها مساوية للنجم من صفة الحدوث (4)، و روى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، و فرجت له الأرضون فنظر إليهن، و رأى مكانه في الجنة، فذلك قوله تعالى:

وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا (5).

ص: 118


1- تفسير المنار 11/ 464.
2- سورة الأنبياء: آية 51.
3- سورة الأنعام: آية 75.
4- تفسير البحر المحيط 4/ 167.
5- تفسير القرطبي ص 2459- 2460.

و هكذا استحق إبراهيم عليه السلام، بصفاء فطرته و خلوصها للحق، أن يكشف اللّه لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، و الدلائل الموحية بالهدى في الوجود، قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، و بمثل هذه الفطرة السليمة، و هذه البصيرة المفتوحة، و على هذا النحو من الخلوص للحق، و من إنكار الباطل في قوة، نرى إبراهيم حقيقة هذا الملك، ملك السماوات و الأرض، و نطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، و نكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، و نصل بين قلبه و فطرته و موحيات الإيمان و دلائل الهدى في هذا الكون العجيب، لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق (1).

و بديهي أن من يكن هذا مقامه، لا يعقل بحال من الأحوال، أن يرى الكوكب فيقول: هذا ربي، عن عقيدة، فإبراهيم الخليل لأرشد من أن يعتقد ذلك، قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ و غلط ممن قاله، و قد أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم أنه قال: «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ»، و قال عز و جل: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لم يشرك قط، قال: و الجواب عندي أنه قال «هذا ربي» على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام و الشمس و القمر، و نظير هذا قوله تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ، و هو جلا و علا واحد لا شريك له، و المعنى:

أين شركائي على قولكم (2).

و من العجيب، كما يقول صاحب تفسير المنار، أن ابن جرير اختار هذا القول، مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه، و هو الذي جزم به الجمهور، من أنه كان مناظرا لقومه (3)، و قد احتج ابن جرير أولا بالرواية،

ص: 119


1- في ظلال القرآن 2/ 1139.
2- تفسير القرطبي ص 2461.
3- قال أبو جعفر في تفسيره (11/ 483- 484): و أنكر من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس و عمن روى عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو القمر: هذا ربي، و قالوا: غير جائز أن يكون للّه نبي ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقت من الأوقات و هو بالغ، إلا هو للّه موحد، و به عارف، و من كل ما يعبد من دونه بري ء، قالوا: و لو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات و هو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا و في غيره من أهل الكفر به مثله، و ليس بين اللّه و بين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة، قالوا: و إنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة، و زعموا أن خبر اللّه عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو الشمس أو القمر «هذا ربي» لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه، و إنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، و على العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذ كان الكوكب و القمر و الشمس أضوأ و أحسن و أبهج من الأصنام، لوم تكن مع ذلك معبودة، و كانت آفلة زائلة غير دائمة، فالأصنام التي هي دونها في الحسن و أصغر منها في الجسم، أحق أن لا تكون معبودة و لا آلهة، قالوا: و إنما قال ذلك لهم، معارضة.

و هي، كما يقول صاحب تفسير المنار، لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل، عليه الصلاة و السلام، و لو في الصغر، على أنها مطلقة، و ثانيا:

بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر، يعني قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (1).

و هناك وجه آخر للنظر، و هو الذي جزم به الجمهور (2)، من أن ذلك كان في مقام المناظرة و الحجاج لقومه، و أن هذه الرؤية، و هذا القول إنما كانا بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام، و حين شرفه اللّه بالنبوة، و أكرمه بالرسالة، و قد حدث بين أصحاب هذا الرأي خلاف في تفسير الآية و تأويلها و ما تحمل من معان، فذكروا فيها وجوها:

الوجه الأول: أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول، و يعرفهم جهلهم و خطأهم في تعظيم النجوم و عبادتها، لأنهم

ص: 120


1- سورة الأنعام: آية 77، تفسير المنار 7/ 465.
2- انظر: تفسير ابن كثير 2/ 242، تفسير القرطبي ص 2461 تفسير الكشاف 2/ 31، تفسير البحر المحيط 4/ 167، تفسير الفخر الرازي 13/ 47، تفسير المنار 11/ 465.

كانوا يرون أن الأمر كله إليها، لا إلى اللّه خالقهم، فأراهم إبراهيم تعظيمه ما يعظمون، فلما أفل الكوكب، و أفل القمر، و أفل الشمس، أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة و الأفول، ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية (1)، و يقول الأستاذ النجار: و يرى فريق من الناس أنها تدرج في تكوين العقيدة، ذلك أن القوم كانوا يعبدون الأصنام ينحتونها على أسماء الكواكب كالشمس و القمر و نحوهما، فأراد أن يلزمهم أن الكواكب و الشمس و القمر لا تصلح لأن تكون آلهة، و إنما الإله هو الذي خلقهن و خلق السماوات و الأرض، و بيده ملكوت كل ما فيهما، و أن التماس الصحة و العافية و الرزق من غيره تعالى باطل (2).

و يقول الإمام ابن كثير: و الحق أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل و الأصنام، فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، و إنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق و النصر، و غير ذلك مما يحتاجون إليه، و بيّن في المقام خطأهم و ضلالهم في عبادة الهياكل، و هي الكواكب السيارة السبعة المتحيّرة، و هي القمر و عطارد و الشمس و المريخ و المشتري و زحل، و أشدهم إضاءة و أشرفهن عندهم: الشمس ثم القمر ثم الزهرة، فبيّن أولا صلوات اللّه و سلامه عليه، أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا و لا شمالا، و لا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها اللّه منيرة، لماله في ذلك من الحكم العظيمة، و هي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه و بين المغرب حتى تغيب عن

ص: 121


1- محمد حسنى: المرجع السابق ص 40- 41.
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء- القاهرة ص 80.

الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، و مثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثل ما بيّن في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، و تحقق ذلك بالدليل القاطع: «قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» أي أنا بري ء من عبادتهن و موالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء و مخترعها و مسخرها و مقدرها و مدبرها، الذي بيده ملكوت كل شي ء، و خالق كل شي ء، و ربه و مليكه و إلهه، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (1).

و قال الإمام الزمخشري: كان أبوه و قومه يعبدون الأصنام و الكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالهم و يرشدهم إلى الحق من طريق النظر و الاستدلال، و يعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى ألا يكون شي ء منها إلها، و أن وراءها محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها، و قوله: «هذا ربي» قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة (2)، و قال أبو حيان في بحره: لما أوضح لكم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا، ارتقب ما هو أنور منه و أضوأ، فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر و أضوأ، و أكبر

ص: 122


1- تفسير ابن كثير 2/ 242- 243.
2- تفسير الكشاف 2/ 31.

جرما و أعم نفعا، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم، و بيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث (1).

و أما الوجه الثاني: فإن إبراهيم عليه الصلاة و السلام، قال هذا على سبيل الاستفهام الإنكاري و التوبيخ للقوم، و تقديره أ هذا ربي الذي تزعمون، و قد جرى العرف على إسقاط حرف الاستفهام، و هو كثير في كلامهم، و من هذا القبيل، قوله تعالى: أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ، يعني أفهم الخالدون، و المعنى فيما نحن بصدده، أ يكون هذا ربا، و دلائل النقص فيه ظاهرة. و يقول الإمام النسفي: كان أبوه و قومه يعبدون الأصنام و الشمس و القمر و الكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، و أن يرشدهم إلى طريق النظر و الاستدلال، و يعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى شيئا منها ليس بإله، لقيام دليل الحدوث فيها، و لأن محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها و سائر أحوالها، فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال: «هذا ربي» أي قال لهم: هذا ربي في زعمكم، أو المراد أ هذا استهزائهم، و إنكار عليهم، و العرب تكتفي عن حرف الاستفهام بنغمة الصوت، و الصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل، فيحكي قوله، كما هو، غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحوار، و أنجى من الشعب، ثم يكر عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة، فلما أفل قال:

«لا أحب الآفلين» أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، لأن ذلك من صفات الأجسام، «فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين»، نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها، فهو ضال، و إنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، و كلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج به أظهر، لأنه انتقال مع

ص: 123


1- تفسير البحر المحيط 4/ 167.

خفاء و احتجاب، فلما رأى الشمس بازغة قال: «هذا ربي»، و إنما ذكره لأنه أراد الطالع، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر، لأنهما شي ء واحد معني، و فيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث، و لهذا قالوا: في صفات اللّه تعالى علام، و لم يقولوا علامة، و إن كان الثاني أبلغ، تفاديا من علامة التأنيث، «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»، أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها (1).

و أما الوجه الثالث: لو كان إلها، كما تزعمون، لما غاب، فهو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، يعني عند نفسك و بزعمك، و قد جرى العرب على إضمار القول، و منه قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.

و أما الوجه الرابع: أن في هذه الآية إضمارا تقديره: يقولون: هذا ربي، أي يقولان: ربنا تقبل منا (2).

على أن هناك أخيرا وجها خامسا، يذهب إلى أن اللّه سبحانه و تعالى قال في حق إبراهيم: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، هذا فضلا عن تشبيه إراءة اللّه تعالى إياه هذا الملكوت و ما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه و قومه في عبادة الأصنام، و من إسناد هذه الإراءة إلى اللّه تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها، و من تعليل الإراءة بما تقدم، و من التعقيب على ذلك بمحاجة قومه، و قوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم (3)، كل هذا و غيره، فضلا عن منزلة إبراهيم العالية عند اللّه تعالى، و اتخاذ إياه خليلا، و أنه كان أمة قانتا للّه

ص: 124


1- تفسير النسفي 2/ 19- 20.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص 41.
3- تفسير المنار 7/ 465.

حنيفا، ثم أمر اللّه تعالى لأشرف خلقه سيدنا و مولانا وجدنا محمد، صلى اللّه عليه و آله و سلم، أن اتبع ملة إبراهيم (1)، كل ذلك و غيره من أوصاف إبراهيم من القرآن الكريم، إنما يؤكد، التأكيد كل التأكيد، أنه من المحال، بحال من الأحوال، أن يعبد إبراهيم الكواكب، و يتخذها ربا، و أما قوله: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين»، فإن الأنبياء، عليهم السلام لا يسألون اللّه التثبيت، و منه قوله: «و اجنبني و بنّي أن نعبد الأصنام».

و أخيرا، و كما يقول ابن كثير في تفسيره: كيف يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام، و هو الذي قال اللّه في حقه: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (2)، و قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة»، و في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «قال اللّه إني خلقت عبادي حنفاء»، و قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، و قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قالُوا بَلى فإذا كان في حق سائر الخلق، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله اللّه أمة قانتا للّه حنيفا و لم يك من المشركين، ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، و السجية المستقيمة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بلا شك و لا ريب، و مما يؤيده أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرا، قوله تعالى: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَ

ص: 125


1- انظر: سورة النساء: آية 125، الأنعام: آية 161، هود: آية 75: النحل: آية 120، 123، الأنبياء: آية: 51، الممتحنة: آية 4.
2- سورة الأنبياء: آية 51- 52، و انظر: العمران: آية 95، النساء: آية 95، النساء: آية 125، الأنعام: آية 161، النحل: آية 120- 123.

شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ، وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1).

و هكذا يختم القرآن الكريم هذا الفصل من قصة إبراهيم مع قومه وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني ما جرى بين إبراهيم و قومه، و استدل به على حدوث الكواكب و الشمس و القمر بالأفول، و كانت هذه هي الحجة التي ألهمها اللّه تعالى إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه، و لقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسي ء إليه، و واضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود اللّه، و لا أنه صاحب القوة و السلطان في الكون، و لكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة، فلما واجههم إبراهيم بأن من كان يخلص نفسه للّه، لا يخاف من دونه، فأما من يشرك باللّه فهو أحق بالمخافة، لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها اللّه له و ألهمه إياها، سقطت حجتهم، و علت حجته، و ارتفع إبراهيم على قومه عقيدة و حجة و منزلة، و هكذا يرفع اللّه من يشاء درجات، متصرفا في هذا بحكمته و علمه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (2).

و هكذا يبدو واضحا من هذه المناظرة التي دارت بين إبراهيم و قومه، أن الأنبياء، عليهم السلام، قد عمدوا إلى طرق خاصة في الإقناع، و أن أبي الأنبياء، عليه السلام، قد عمد إلى طريقة تدل على صفاء ذهنه، و سرعة بديهته، و هي طريقة المجاراة و التظاهر بالتصديق، ليصل إلى غايته، و هي إظهار فساد تلك العبادات، و كاشفة عابديها بأن آلهتهم غير جديرة بالعبادة أو

ص: 126


1- سورة الأنعام: آية 80- 83، تفسير ابن كثير 2/ 243- 244 (بيروت 1986).
2- في ظلال القرآن 2/ 1142.

التقديس، لأنها آلهة زائفة يقوم دليل الحدوث فيها، ذلك بأن لها محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها و سائر أحوالها (1).

[2] موقف إبراهيم من عبادة الأصنام:-
اشارة

كان قوم إبراهيم، كما أشرنا من قبل، يعبدون الأصنام، كما كانوا يعبدون الكواكب و النجوم، و من ثم فقد أرسله اللّه تعالى إلى قومه يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، قال تعالى:

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ، وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ، وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (2).

ص: 127


1- محمد حسني: المرجع السابق ص 43.
2- سورة العنكبوت: آية 16- 27، و انظر: تفسير النسفي 3/ 252- 256، تفسير القرطبي ص 5051- 5056، صفوة التفاسير 2/ 455- 458، في ظلال القرآن 5/ 2726- 2733، تفسير ابن كثير 3/ 649- 656 (و انظر: عن موقف إبراهيم من عبادة الأصنام: سورة الأنعام: آية 74، مريم: آية 41- 48، الشعراء: آية 69- 89، الصافات: آية 83- 99).

و هكذا تشير هذه الآيات الكريمة بوضوح إلى دعوة أبي الأنبياء، سيدنا إبراهيم صلى اللّه عليه و سلم مرسومة الخطوط واضحة المعالم، بشر فيها و أنذر، غير أن القوم قد تملكهم الغرور، و ركبوا رءوسهم، و قد عزّ عليهم أن يرجعوا إلى الحق أو يثوبوا إلى الرشد، و هم يحسبون أن آلهتهم تنجيهم من عذاب أليم ينتظرهم، و لم تكن تلك الآلهة التي أصموا آذانهم عن كلمة الحق فيها، غير نصب و أوثان من خشب و حجارة لا تنفع و لا تضر، لكنهم كانوا يعظمونها و يقدسونها، و يقدمون لها القرابين، و يركعون أمامها و يسجدون، و من ثم فقد أعدوا عدتهم لمقاومة دعوة إبراهيم، حفاظا على أوثانهم و أصنامهم.

و هنا لعل من الأفضل هنا أن نناقش موقف إبراهيم عليه السلام منهم و من أوثانهم، و كذا موقفهم منه، عليه السلام، في شقين، الأول مع أبيه، و الآخر مع قومه:

(أ) بين إبراهيم و أبيه

:- كان والد إبراهيم في طليعة عابدي الأصنام و صانعيها من الأخشاب، و الداعين لها، و كان يعرضها على الناس ليشتريها منه من يرغب فيها، و قد عزّ على إبراهيم أن يكون والده (1) زعيما من زعماء المشركين، و إماما من أئمة الإفك المبين، و هو أقرب قومه إليه، و أولى الناس بتصديق دعوته، و الإيمان برسالته، فرأى إبراهيم عليه السلام من واجبه أن يبصر والده بأمره، و يحذره عاقبة كفره بما فيه الخير له، برأيه، و حرصا على أن يكون مسلكه سليما، فيتبع الدين القويم و الطريق المستقيم، و قرر أن تكون مفاتحته والده في الأمر بالحسنى، إذ ما كان له أن يرشده إلى الحق بغيرها، و هو المؤمن بما للأبوة من جليل القدر، و رفعة الشأن.

ص: 128


1- انظر الآراء التي دارت حول «آزر» و هل هو والد الخليل أم عمه؟ (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 53- 61.

و يقص علينا القرآن الكريم، كيف بدأ النبي الكريم دعوته مع أبيه بلهجة تسيل أدبا ورقة، يهديه بها صراطا مستقيما، فأشار إلى الأصنام مبينا أنها لا تنفع و لا تضر، و لا تسمع و لا ترى، و لا تشعر بعابد يعبدها، أو عاص يعصاها، ثم بيّن لأبيه أنه ليس مخترعا للدعوة، و أنها من لدن عليّ قدير، و أنه قد تلقى من العلم ما لم يتلق أبوه، و أنه لا ضرر عليه إذا اتبع ملة ولده أو عمل برأيه، و اختتم نصحه برجاء تقدم به إلى أبيه أن يحذو حذوه، و يسلك سبيله، و إلا فالطريق التي يسلكها غير طريق الهدى، هي طريق ملأى بالأشواك، و هي طريق الشيطان الرجيم، و هو عدو لا يرشد إلى خير، و لا يبتغي إلا إيقاع الناس في الشر و إهلاكهم، فقد عصى ربه فطرده و أبعده عن رحمته، فتوعّد الناس بالإغواء و الضلالة (1).

و لكن «آزر» رفض الدعوة، بل و أصر على عناده، و صمم على كفره، و تجاهل بنوته، و أنكر إشفاقه به، و نصحه له، و هدّده إن لم ينته عن دعوته هذه ليرجمنه، و ليهجرنه مليا، و كان آزر في ذلك مغمضا عينيه عن اعتبارات النبوة، متجاهلا إياها، فاستنكر النصيحة، و سفه الرأي، و سخر من الشرعة الجديدة، فما كان من الخليل، تأدبا مع أبيه و حدبا عليه، إلا أن يدعو له بالمغفرة، و أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة مريم، قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا، قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا، قالَ

ص: 129


1- محمد حسني: المرجع السابق ص 31.

سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (1).

و هكذا تشير هذه الآيات الكريمة إلى شخصية إبراهيم الرضي الحليم، تبدو وداعته و حلمه في ألفاظه و تعبيراته التي يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية، و في تصرفاته و مواجهته للجهالة من أبيه (2)، و يصف اللّه تعالى خليله إبراهيم بأنه كان صديقا نبيّا، فجمع اللّه له بين الصديقية و النبوة، فالصديق كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله و أفعاله و أحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، و ذلك يستلزم العمل العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه الموجب لليقين، و العمل الصالح الكامل، و لا غرو فإبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام، أفضل الأنبياء و المرسلين قاطبة بعد سيدنا و مولانا محمد صلى اللّه عليه و سلم، و هو الذي جعل اللّه في ذريته النبوة و الكتاب (3).

و قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: و إيراد الكلام يلفظ «يا أبت» في كل خطاب، دليل على شدة الحب و الرغبة في صونه عن العقاب، و إرشاده إلى الصواب، و قد رتب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبهه أولا إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال و ترك التقليد الأعمى، ثم ذكره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام، مع رعاية الأدب و الرفق، و قوله «إني أخاف» دليل على ).

ص: 130


1- سورة مريم: آية 41- 48، و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 198- 200، تفسير القرطبي ص 4149- 4153، تفسير النسفي 3/ 36- 38، تفسير ابن ناصر السعدي 5/ 53- 56، في ظلال القرآن 4/ 2310- 2313، صفوة التفاسير 2/ 218- 219، تفسير الفخر الرازي 21/ 225- 227، تفسير البيضاوي 2/ 16- 18.
2- في ظلال القرآن 4/ 2311.
3- عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/ 54 (مكة المكرمة 1398 ه).

شدة تعلق قلبه بمصالحه، قضاء لحق الأبوة (1).

غير أن أباه، كما يقول الإمام البيضاوي، قابل استعطافه و لطفه بالفظاظة و غلظة العناد، فناداه باسمه، و لم يقابل قوله «يا أبت» ب «يا ابني» و قدّم الخبر و صدره بالهمزة لانكار نفس الرغبة، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل (2).

و هكذا تشير الآيات الكريمة بوضوح، كيف راعى إبراهيم الخليل المجاملة و الرفق و الخلق الحسن كما أمر، ففي الحديث «أوحى إلى إبراهيم إنك خليلي، حسن خلقك و لو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»، فطلب من أبيه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه و تناهيه، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة، و هم الأنبياء، كان محكوما عليه بالغي المبين، فكيف بمن يعبد حجرا أو شجرا لا يسمع ذكر عابده، و لا يرى هيآت عبادته، و لا يدفع عنه بلاء، و يقضي له حاجة، ثم ثني بدعوته إلى الحق مترفقا به، متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، و لا نفسه بالعلم الفائق، و لكنه قال:

إن معي شيئا من العلم ليس معك، و ذلك علم الدلالة على الطريق السّوى، فهب أني و إياك في مسير، و عندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل و تتيه، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم و زينها لك، فأنت عابده في الحقيقة، ثم ربع بتخويفه العاقبة و ما يجره ما هو فيه من التبعية و الوبال، مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به، و أن العذاب لاحق به، بل قال أخاف أن يمسك عذاب بالتفكير المشعر بالتقليل، كأنه قال إني أخاف أن يصيبك نفيا من عذاب الرحمن، و جعل ولاية الشيطان و دخوله في

ص: 131


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 226.
2- تفسير البيضاوي 2/ 17.

جملة أشياعه و أوليائه أكبر من العذاب، كما أن رضوان اللّه أكبر من الثواب في نفسه، و صدّر كل نصيحة بقوله: يا أبت، توسلا إليه و استعطافا، و إشعارا بوجوب احترام الأب، و إن كان كافرا (1).

غير أن الخلاف بين أبي الأنبياء و أبيه إنما كان عميق الجذور، فإذا أبو إبراهيم يقابل الدعوة بالاستنكار و التهديد و الوعيد، بل و يأمر ولده بالهجرة، ما دام راغبا عن آلهته، حيث لا أمل في اتفاق، و لم يغضب إبراهيم الحليم، و لم يفقد بره و عطفه و أدبه مع أبيه «قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، و أعتزلكم و ما تدعون من دون اللّه، و أدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا»، و هكذا يرد الخليل عليه السلام على تهديد أبيه «سلام عليك»، فلا جدال و لا أذى، و لا رد للتهديد و الوعيد، سأدعو اللّه أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال و تولى الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى، و قد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي، و إذا كان وجودي إلى جوارك و دعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت و قومك، و أعتزل ما تدعون من دون اللّه من الآلهة، و أدعو ربي وحده، بسبب دعائي للّه، ألا يجعلني شقيا (2).

و قد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، و بعد أن هاجر إلى الشام، و بعد أن بنى المسجد الحرام، و بعد أن ولد له إسماعيل و إسحاق عليهما السلام، في قوله «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب» (3).

و لم يجد سيدنا إبراهيم من بين القوم من يؤمن به، إلا ابن أخيه لوط، عليه السلام، يقول سبحانه و تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى

ص: 132


1- تفسير النسفي 3/ 36- 37.
2- في ظلال القرآن 4/ 2312.
3- تفسير ابن كثير 3/ 200.

رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)، و من ثم فقد اعتزل إبراهيم أهله، و ودع والده، ثم هجره لحكمة هي حرصه على أن لا يكون في إقامته مع أبيه معنى الرضا بعصيانه و كفرانه.

و يكتب اللّه، جل جلاله، لخليله عليه السلام، و كذا لابن أخيه لوط، النجاة من القوم الكافرين، بعد أن أعدوا العدة لإحراقه قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (2).

و ليس في هذه الآيات الكريمة ما يشير إلى هجرة أبي إبراهيم معه، و لو/ آمن أبوه به، ثم هاجر معه، لكان ذلك حدثا هاما جديرا بالتنصيص عيه، تكريما له و لإبراهيم في نفس الوقت، و لم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه، حتى ينال وحده شرف الهجرة، و مثوبة التوحيد (3).

بل إن القرآن الكريم ليشير بصراحة و وضوح إلى أن إبراهيم إنما تبرأ من أبيه، بعد ما تبيّن له أنه عدو للّه قال تعالى: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (4)، هذا فضلا عن أن القرآن الكريم قد أمر المسلمين أن يقتدوا

ص: 133


1- سورة العنكبوت: آية 26.
2- سورة الأنبياء: آية 68- 71، و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 76- 77، تفسير القرطبي ص 4343- 4345، في ظلال القرآن 4/ 2387- 2388، تفسير النسفي 3/ 83- 85، صفوة التفاسير 2/ 267- 269، زاد المسيرة 5/ 367- 369، تفسير ابن كثير 3/ 294- 296.
3- محمود عمارة: اليهود في الكتب المقدسة- القاهرة 1969 ص 12- 13.
4- سورة التوبة: آية 114، و انظر: تفسير الطبري 14/ 511- 536، تفسير القرطبي ص 3112- 3115، تفسير ابن كثير 2/ 610- 614، تفسير المنار 11/ 45- 49، مسند الإمام أحمد 2/ 116 (طبعة دار المعارف)، صفوة التفاسير 1/ 565- 566، في ظلال القرآن 3/ 1721- 1722.

بإبراهيم و الذين معه، إلا من استغفاره، قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (1).

و حكمة تحريم الاستغفار للمشركين أن اللّه تعالى لا يغفر الشرك أبدا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ، و من ثم فطلب الغفران للمشركين معدوم الفائدة، و يوهم أمرا بالملإ، و هو أنه يجوز شرعا أن يغفره، و لما كان هذا الخطر يعارضه استغفار سيدنا إبراهيم لأبيه، و قد كان من الكافرين، و أحكام الأصول لا نسخر فيها، فيشعر استغفاره ذلك بجوازه ببيّن اللّه عذره في ذلك الاستغفار بأنه استغفر لوالده بناء على وعد من الوالد أن يتوب، فلما تبيّن له أنه عدو للّه و لم يتب، تبرأ منه، فليس ما فعله دليلا للجواز، لأنه إنما يكون دليلا إذا استغفر له، و هو يعلم أنه كافر، فالحكم بأن اللّه لا يغفر الشرك و أن طلبه غير جائز لم يتغير، فلا يجوز طلبه، و لا ينبغي للنبي و الذين آمنوا أن يطلبوه، و لو لأقاربهم (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أمرين، يختلف القرآن فيهما عن التوراة، الواحد: أن أبا إبراهيم لم يهاجر أبدا مع النبي الكريم، فضلا عن عدم الإيمان به، و الآخر: أن الهجرة إنما كانت «إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين»، و ليست هذه الأرض بحال من الأحوال «حران» (حاران)،

ص: 134


1- سورة الممتحنة: آية 4، و انظر: تفسير الفخر الرازي 29/ 300- 301، تفسير روح المعاني 28/ 69- 73، تفسير الطبري 28/ 62- 63، تفسير الطبرسي 28/ 47- 49، تفسير الزمخشري 4/ 90، تفسير القاسمي 16/ 5765- 5766، تفسير القرطبي ص 6535، تفسير ابن كثير 4/ 543- 54.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص.

كما ذهب إلى ذلك كعب الأحبار، و إنما هي موضع خلاف بين المفسرين، فيما بين مكة و بيت المقدس و مصر (1)، و كلها أماكن حط الخليل رحاله فيها بعد هجرته من حاران، موطنه الأصلي، و ليس أور التي في منطقة الفرات الأدنى، و من ثم فقد كانت هجرة الخليل من حاران إلى كنعان، ثم مصر، فكنعان فالحجاز، فكنعان مرة ثالثة، حيث استقر هناك في حبرون (مدينة الخليل الحالية) (2).

(ب) بين إبراهيم و قومه

:- لا ريب في أن جدنا الأكبر، سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام، إنما كان عظيما بكل ما وسعته هذه الكلمة من معان، و لم تكن الشدائد التي وقفت في طريقه، و الأهوال التي اعترضت سبيله، لتقل من غربه أو توهن من عزمه، فلقد كان، عليه السلام، في أحرج موقف حيال من بعث بالحق إليهم، ذلك أن قومه و أهله، و على رأسهم أبوه، كل أولئك قد نقم عليه دعوته و ضاق به صدرا و ضاعف من دقة موقفه إزاء المناوءيين، تلك الغلطة التي بدت في لهجة أبيه، و ذلك التهديد الذي قابل به دعوته، و أمره إياه بهجره و إصراره على ما هو فيه من ضلال و عبادة أصنام، كما رأينا من قبل، قد حزت كل هذه الأحداث في نفس إبراهيم، لكنها لم تكن لترجعه القهقري، أو لتدخل على قلبه اليأس، أو لتفقده الأمل في نصر اللّه تعالى، فصمد كالطود الراسخ، و زاده الإصرار من جانب الكفار، قوة على قوة، و إيمانا مع إيمان، فاعتزل أباه، و اعتز باللّه، و مضى في طريقه غير وجل أو هياب، موطنا النفس على تحمل المكاره، مستنصرا بخالقه و باعثه إلى الناس رسولا نبيّا (3).

ص: 135


1- انظر: تفسير القرطبي ص 4345، تفسير البيضاوي 2/ 76- 77، ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 1- 1- 2- 1 (القاهرة 1968)، تفسير ابن كثير 3/ 296.
2- انظر: عن موطن الخليل و هجراته (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 61- 132).
3- محمد حسني: المرجع السابق ص 48.

و هكذا كانت مواقف إبراهيم مع قومه متعددة، فتارة يحاج والده، و تارة يحاج الجمهور، و تارة يحاج الملك، و تارة يفعل ما يستفزهم إلى محاجته، كتكسير الأصنام ليحاجوه في شأنها، إلى أن أوقدوا النار لتحريقه، فنجاته منها، بعد أن ألقى فيها (1).

و يقص علينا القرآن الكريم، في آيات كريمة من سورة مريم (2)، كيف بدأ إبراهيم الخليل عليه السلام دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما، كما أشرنا من قبل، و كيف أن أباه قد رفض الدعوة، و هدده إن لم ينته عنها ليرجمنّه و ليهجرنه مليا، فما كان من أبي الأنبياء- تأدبا مع أبيه و حدبا عليه- إلا أن يدعو له بالمغفرة، و إلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل و قومه، حين بذل أبو الأنبياء الجهد، كل الجهد، لصرفهم عن عبادة الأوثان، و الاتجاه إلى عبادة اللّه، الواحد القهار، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسنة، و من ثم فقد حطم الأصنام و ترك كبيرهم، لعل القوم يفكرون في هذا الموقف الجديد، أملا في أن يهديهم اللّه سواء السبيل، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا، و لا تمنع عنها ضرا، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم، إلا أن هذه العقول المتحجرة، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها، و لم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل، و أنها الحل السعيد لمشكلتهم، مع هذا الذي سفه عقولهم و حطم أصنامهم، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة، و دون أن يرجعوا إلى الحق ما دام الحق مع إبراهيم، و تلك- ويم اللّه- عادة من طمس اللّه على قلوبهم، و أعمى أبصارهم، في كل زمان و مكان، لا

ص: 136


1- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 81.
2- سورة مريم: آية 41- 48.

يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة، التي تبغي لهم الخير و الفلاح.

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة الأنبياء وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ، قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ؛ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ، قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (1).

و تقدم لنا الآيات الكريمة كما يقول صاحب الظلال حلقة من سيرة أبي الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليه، تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد، و يعني به الهداية إلى التوحيد، فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة «الرشد» في هذا المقام، ثم تشير إلى محاجة إبراهيم قومه «إذ قال

ص: 137


1- سورة الأنبياء: آية 51- 70، و أنظر: تفسير ابن كثير 3/ 291- 29، تفسير القرطبي ص 433- 4345، في ظلال القرآن 4/ 2382- 2388، صفوة التفاسير 2/ 266- 268، تفسير النسفي 3/ 81- 84 تفسير الخازن 3/ 240- 242، تفسير ابن ناصر السعدي 5/ 118- 122، تفسير الجلالين ص 425- 427.

لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون»، فكانت قولته هذه دليل رشده، فقد سمى تلك الأحجار و الخشب باسمها، فقال «هذه التماثيل»، و لم يقل إنها آلهة و استنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة، و كلمة «عاكفون» تفيد الانكباب الدائم المستمر، و هم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها، و لكنهم يتعلقون بها، فهو عكوف معنوي لازمني، و هو يسخف هذا التعلق و يبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل.

و كان جوابهم و حجتهم أن «قالوا إنا وجدنا آباءنا له عابدين»، و هو جواب يدل على التحجر العقلي و النفسي داخل قوالب التقليد الميتة، في مقابل حرية الإيمان، و انطلاق للنظر و التدبر، و تقويم الأشياء و الأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية، فالإيمان باللّه طلاقة و تحرر من القداسات الوهمية التقليدية، و الوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، و ما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها، و لا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها، فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء و تقديسهم، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق.

و عند ما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير، و بهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون: «قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ»، و هو سؤال المزعزع العقيدة الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه، لأنه لم يتدبره و لم يتحقق منه، و لكنه كذلك معطل الفكر و الروح بتأثير الوهم و التقليد، فهو لا يدري أي الأقوال حق، و العبادة تقوم على اليقين، لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل، و هذا هو هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل و الضمير.

فأما خليل الرحمن، صلوات اللّه و سلامه عليه، فهو مستيقن واثق عارف بربه، متمثل له في خاطره و فكره، يقولها كلمة المؤمن المطمئن

ص: 138

لإيمانه «قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ»، فهو رب واحد، رب السموات و الأرضين، ربوبية ناشئة عن كونه الخالق، فهما صفتان لا تنفكان، فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق، و أن الخالق هو اللّه، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق و أن الخالق هو اللّه، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا و هم يعلمون.

ثم يعلن إبراهيم عليه السلام لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار، أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا رجعة فيه «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ»، و يترك ما اعترفه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه، و لا يذكر السياق كيف ردوا عليه، و لعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا، فتركوه، «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ»، و تحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة و الأخشاب المهشمة، إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم، لعلهم يسألونه كيف وقعت الواقعة، و هو حاضر، فلم يدفع عن صغار الآلهة، و لعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم، و يدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف و تهافت.

و عاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا، إلا ذلك الكبير، و لكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه، و لا إلى أنفسهم يسألونها، إن كانت هذه الآلهة فكيف وقع لها ما وقع، دون أن تدافع عن نفسها شيئا، و هذا كبيرهم كيف لم يدفع عنها؟

ذلك لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، و لأن التقليد قد غلّ أفكارهم عن التأمل و التدبر، فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حط آلهتهم، و صنع بها هذا الصنيع «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»، و عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه و من معه

ص: 139

عبادة التماثيل، و يتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ».

و يبدو من هذا أن إبراهيم عليه السلام كان شابا صغير السن، حينما آتاه اللّه رشده، فاستنكر عبادة الأصنام و حطمها، و لكن أ كان قد أوحى إليه بالرسالة في ذلك الحين؟ أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة، فدعا إليه أباه، و استنكر على قومه ما هم فيه؟ و هذا هو الأرجح، فيما يرى صاحب الظلال، و هناك احتمال أن يكون قولهم «سمعنا فتى» يقصد به إلى تصغير شأنه، بدليل تجهيلهم لأمرهم في قولهم «يقال له إبراهيم»، للتقليل من أهميته، و إفادة أنه مجهول لا خطر له؟ قد يكون هذا هو المراد، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و لكن الأستاذ سيد قطب، يرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين.

ثم أرادوا التشهير به، و إعلان فعلته على رءوس الأشهاد «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ»، فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة، و هي جذاذ مهشمة، و من ثم فقد أراد إبراهيم أن يسخر منهم «قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ».

و يبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، و ردهم إلى شي ء من التدبر و التفكير «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» و لكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، و إلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ»، و من ثم فإن الخليل عليه السلام يجيبهم بعنف و ضيق، على غير عادته و هو الصبور الحليم، لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم «قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا

ص: 140

تَعْقِلُونَ»، و هي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، و غيظ النفس، و العجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف».

و عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ»، فيا لها من آلهة ينصرها عبادها، و هي لا تملك نفعا و لا ضرا، و لا تحاول لها و لا لعبادها نصرا، و لكن كلمة اللّه العليا ردت على كلمتهم «حرقوه»، فأبطلت كل قول، و أحبطت كل كيد، لأن كلمة اللّه العليا لا ترد «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ».

و أما كيف لم تحرق النار إبراهيم؟ و المشهور المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية، فلا نسأل عن ذلك، لأن الذي قال للنار: كوني حارقة، هو الذي قال لها: كوني بردا و سلاما على إبراهيم، و هي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول، مألوفا للبشر أو غير مألوف، و عز من قال «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1).

و من عجب أن يحاول بعض المؤرخين الإسلاميين كما أشرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة (2)، أن يقدموا لنا قصصا تدعو إلى العجب في هذه المواقف الجادة، فيرون أن «نمرودا»- و هو الملك المعاصر لإبراهيم فيما يقولون- أمر بجمع الحطب، حتى أن المرأة العجوز كانت تحمل الحطب على ظهرها، و تقول: «اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا»، و حتى أن المرأة لتنذر إن بلغت ما تريد أن تحتطب لنار إبراهيم، و أن أمه نظرت إليه في النار، فطلبت أن تجي ء إليه فيها، على أن يدعو إبراهيم ربه ألا يضرها شي ء من حر النار، ففعل، و هكذا ذهبت إليه فاعتنقته و قبلته، ثم عادت و قد

ص: 141


1- في ظلال القرآن 4/ 2384- 2388.
2- انظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الرياض 1980 1/ 129- 134.

اطمأنت على ولدها (1)، و يتسابق البعض الآخر في رواية الأساطير، فيذهب إلى أنها إنما كانت ابنة نمرود، و ليست أم الخليل، هي التي ذهبت إليه في النار، و أن الخليل قد زوجها بعد ذلك من ولده مدين، فحملت منه عشرين بطنا، أكرمهم اللّه بالنبوة (2).

و لست أدري كيف احتاج نمرود، و هو في رأي هذا النفر من المؤرخين قد ملك الدنيا بأسرها، إلى أن تحمل المرأة العجوز ما لا تطيق، و إلى أن ينتظر نذر النساء بجمع الحطب لناره، و هل كان جمع الحطب يحتاج إلى فترة تمضى بين أن يتحقق للمرأة ما طلبت و بين أن توفي بنذرها حطبا للنار التي أعدها النمرود للخليل عليه السلام؟، و أما قصة أم إبراهيم فأمرها عجب، فكيف رأته في النار سليما معافى، ثم اعتنقته و قبلته، ثم كيف سمح لها القوم- و خاصة زوجها- بأن تذهب إليه؟ أم أن أصحابنا المؤرخين أرادوا أن تذهب خلسة، كما وضعته خلسة (3) فيما يزعمون، و إن كان الأعجب من ).

ص: 142


1- تاريخ الطبري 1/ 241، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 98- 99 (بيروت 1965)، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 146 (الرياض 1966).
2- الديار بكري: تاريخ الخميس ص 93- 95 (القاهرة 1302 ه).
3- يروى الأخباريون أن أصحاب النجوم قد أخبروا النمرود أن غلاما يقال له إبراهيم سوف يولد في شهر كذا من سنة كذا من عهده، و أنه سيفارق دين القوم و يحطم أصنامهم، و من ثم فقد أمر النمرود بقتل كل غلام يولد في تلك الفترة، غير أن أم إبراهيم قد أخفت حملها، ثم وضعته سرا في مغارة قريبة من المدينة، و من ثم فقد نجا إبراهيم من القتل، ثم أعلمت زوجها بأن الغلام قد مات على زعم، و أخبرته بالحقيقة على زعم آخر، و على أي حال، و طبقا للرواية، فقد أخذت تتردد على وليدها يوما بعد آخر، و أنها كانت تتعجب كثيرا من أنه كان يشب في اليوم ما يشبه غيره في الشهر (انظر: تاريخ الطبري 1/ 234- 236) الكامل لابن الأثير 1/ 94- 95، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 1/ 13، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 148، تاريخ الخميس ص 89- 91، 114، كتاب البدء و التأريخ للمقدسي 3/ 45- 48، المحبر ص 392- 394، مروج الذهب 1/ 56)، و في الواقع أن مثل هذه الروايات و الأساطير إنما دارت كذلك عن مولد موسى و المسيح عليهما السلام (تاريخ اليعقوبي 1/ 33، مروج الذهب 1/ 61، تاريخ الطبري 1/ 386- 388، تاريخ ابن كثير 1/ 237- 238، متى 2/ 1- 23).

ذلك أن تكون هذه المرأة بالذات هي بنت النمرود، و أن يزوجها أبو الأنبياء من ولده مدين، و أن تنجب له عشرين بطنا من الأنبياء، و أخيرا ما الهدف من هذا القصص و أمثاله، كقصة الميرة، و قصة جيوش الذباب، و قصة أفراخ النور (1).

و أياما كان الأمر، فليس هناك إلى سبيل من شك في أن حادث إلقاء إبراهيم في النار و نجاته، إنما كان معجزة للخليل عليه السلام حفظه اللّه بها، ورد كيد الكافرين في نحورهم، روى المفسرين أن القوم حين ألقوا إبراهيم عليه السلام في النار مقيدا مغولا، قال: حسبي اللّه و نعم الوكيل، و روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي اللّه و نعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقى في النار، و قالها محمد عليه السلام، حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، و قالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل (2).

و روى أبيّ بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك»، قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل:

فاسأل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللّه تعالى، و هو أصدق القائلين «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ»، قال بعض العلماء:

ص: 143


1- تاريخ الطبري 1/ 288- 290، تاريخ ابن الأثير 1/ 115- 117، تاريخ ابن كثير 1/ 149، تاريخ الخميس ص 95- 96، المقدسي 3/ 56، أخبار الزمان للمسعودي ص 104- 109، تفسير مقاتل 1/ 123- 124.
2- تفسير ابن كثير 3/ 294.

جعل اللّه فيها حرا يمنع بردها، و بردا يمنع حرها، فصارت سلاما عليه، قال أبو العالية: و لو لم يقل «بردا و سلاما»، لكان بردها أشد عليه من حرها، و لو لم يقل «على إبراهيم» لكان بردها باقيا على الأبد (1).

و روى عن الإمام علي و ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما، لمات إبراهيم من بردها، و لم تبق يومئذ نار إلا أطفئت، ظنت أنها تعني، و عن ابن عباس: لوم لم يقل ذلك لأهلكته ببردها، و المعنى، كما يقول الإمام النسفي، أن اللّه تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر و الإحراق، و أبقاها على الإضاءة و الإشراق كما كانت، و هو على كل شي ء قدير (2).

و روى الحافظ أبو يعلي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لما ألقى إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، و أنا في الأرض واحد أعبدك»، و يروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك» (3).

و قال سعيد بن جبير- و يروى أيضا عن ابن عباس- قال: لما ألقى إبراهيم، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر اللّه أسرع منه، قال اللّه: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت، و قال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار، و لم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.

و قال كعب و قتادة و الزهري: و لم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بقتلها و سماها فويسقة، و روى ابن أبي حاتم عن مولاة الفاكه بن المغيرة

ص: 144


1- تفسير القرطبي ص 4343- 4344.
2- تفسير القرطبي ص 4344، تفسير النسفي 3/ 84.
3- تفسير ابن كثير 3/ 294، تفسير الدر المنثور 4/ 323، تفسير القرطبي ص 4343.

المخزومي قالت: دخلت على عائشة، فرأيت في بيتها رمحا، فقلت يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح، نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن إبراهيم حين ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار، غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقتله».

ص: 145

ص: 146

الفصل الثّالث بين إبراهيم و الملك

فشا في الناس أمر الدعوة التي أخذ أبو الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليه، ينشرها و يروج لها، و إذا القوم لا حديث لهم غير إبراهيم و دعوته، و أحس الملك أن خاتمته قد دنت، أو على أن زلزالا يهدد عرشه، و قد يقضي عليه بعد حين من الدهر، و من ثم فقد ازداد غضبه، و كاد يطير منه الصواب، فأمر بدعوة إبراهيم، و قامت بينهما مناظرة، ليس أبلغ من القرآن الكريم في عرضها، يقول عز من قال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ، قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (1).

و تحكى الآيات الكريمة حوارا بين إبراهيم عليه الصلاة و السلام، و ملك في أيامه يجادله في اللّه، لا يذكر السياق باسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا، و هذا الحوار يعرض على النبي صلى اللّه عليه و سلم، و على الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج

ص: 147


1- سورة البقرة: آية 258، و انظر: تفسير الطبري 5/ 429- 438، تفسير النسفي 1/ 130، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 153- 154، تفسير الحلالين ص 56- 57، تفسير القرطبي ص 1091- 1096، صفوة التفاسير 1/ 165، تفسير ابن كثير 1/ 468- 469، تفسير المنار 11/ 38- 40، في ظلال القرآن 1/ 296- 298.

إبراهيم في ربه، و كأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب (1).

و جاء في تفسير المنار: قال الأستاذ الإمام (أي الإمام محمد عبده)- و عزاه إلى المحققين، الكلام متصل بما قبله، و شاهد عليه، كأنه يقول: انظروا إلى إبراهيم كيف كان يهتدي بولاية اللّه له إلى الحجج القيمة و الخروج من الشبهات التي تعرض عليه، فيظل على نور من ربه، و إلى الذي حاجه كيف كان بولاية الطاغوت له، يعمى عن نور الحجة و ينتقل من ظلمات الشبه و الشكوك إلى أخرى، قالوا: الاستفهام في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، للتعجيب من هذه المحاجة و غرور صاحبها و غباوته، مع الإنكار (2).

و يقول صاحب الظلال: إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود اللّه أصلا، إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية و الربوبية، و لتصريفه للكون و تدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود اللّه، و لكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية و عملا في حياتهم، و كذلك كان منكرا أن الحاكمية للّه وحده، فلا حكم إلا حكمه في شئون الأرض و شريعة المجتمع (3)، على أن الأستاذ النجار إنما يذهب إلى أن قصة إبراهيم المحكية في القرآن إنما تشعرنا أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعبدون ملوكهم مع آلهتهم، يدل على ذلك المحاجة التي كانت بين إبراهيم و بين الملك، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه، و أن يعبده و آلهته (4).

ص: 148


1- في ظلال القرآن 1/ 297.
2- تفسير المنار 11/ 39.
3- في ظلال القرآن 1/ 297.
4- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 81.

و على أية حال، فإن هذا الملك المنكر المتعنت، إنما ينكر و يتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن و يشكر، هذا السبب هو «أن آتاه اللّه الملك»، و جعل في يده السلطان (1)، أو كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: إن الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء اللّه تعالى الملك له، فكان منشأ إسرافه في غروره، و سبب كبريائه و إعجابه بقدرته (2)، مع أن المفروض أن يشكر و يعترف بنعمة اللّه عليه، لو لا أن الملك يطغى و يبطر من لا يقدرون نعمة اللّه، و لا يدركون مصدر الإنعام، و من ثم يصنعون الكفر في موضع الشكر، و يضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا مهتدين، فهم حاكمون لأن اللّه حكّمهم، و هو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم، فهم كالناس عبيد اللّه، يتلقون مثلهم الشريعة من اللّه، و لا يستقلون دونه بحكم و لا تشريع، فهم خلفاء لا أصلاء، و من ثم يعجب اللّه من أمره، و هو يعرضه على نبيه (3).

هذا و يروي المفسرون في سبب هذه المحاجة روايتين، إحداهما:

أنهم خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال لهم: أ تعبدون ما تنحتون، فقال: فمن تعبد، قال: أعبد ربي الذي يحيي و يميت، و قال بعضهم أن نمرود كان يحتكر الطعام، فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: ما لك لا تسجد لي، قال: أنا لا أسجد إلا لربي، فقال له نمرود: من ربك، قال إبراهيم: ربي الذي يحيي و يميت، و ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم و إلهكم، فيقولون أنت، فيقول: ميروهم، و جاء إبراهيم عليه السلام

ص: 149


1- في ظلال القرآن 1/ 297.
2- تفسير المنار 11/ 39، و انظر: تفسير النسفي 1/ 130، صفوة التفاسير 1/ 165، تفسير الطبري 5/ 431.
3- في ظلال القرآن 1/ 7297.

يمتار فقال له: من ربك و إلهك، فقال: ربي الذي يحيي و يميت، فلما سمعها نمرود قال: أنا أحي و أميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، و قال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شي ء، فمر على كثيب رمل كالدقيق، فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا، فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك، فلما بلغ منزله فرح الصبيان و جعلوا يلعبون فوق الغرارتين، و نام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري (الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق و أجوده و أخلصه) فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟، فقالت: من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن اللّه تعالى يسر لهم ذلك (1).

و أما وقت هذه المحاجة فهو موضع خلاف، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان بعد أن كسر إبراهيم الأصنام التي كانت تعبد من دون اللّه، و سفه أحلام عابديها (2)، و ذهب رأي آخر إلى أنها كانت بعد خروج إبراهيم من النار، و لم يكن إبراهيم اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة (3)، على أنه قد يفهم من رواية ابن الأثير أن ذلك كان قبل تكسيره الأصنام (4).

و أما هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه، فهو، فيما يرى كثير من المفسرين و المؤرخين، «النمرود بن كنعان بن كوش»، و الذي كان، فيما يزعمون، واحدا من ملوك أربعة ملكوا الأرض كلها: نمرود و بختنصر

ص: 150


1- تفسير القرطبي ص 1092- 1093، و انظر: تفسير الطبري 5/ 433- 434، تفسير ابن كثير 1/ 469.
2- تفسير المنار 11/ 39.
3- تفسير ابن كثير 1/ 469.
4- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 96.

(نبوخذ نصر) و هما كافران، و سليمان بن داود و ذي القرنين، و هما مؤمنان، كما كان نمرود هذا أول جبار تجبر في الأرض، و أول ملك في الأرض، و هو كذلك صاحب الصرح في بابل، و أول من صلب و أول من قطع الأيدي و الأرجل، إلى غير ذلك من صفات أسبغت عليه، و لا يعلم إلا اللّه سبحانه و تعالى، من أين أتى بها مؤرخونا، و كثير منهم ممن يعتد بهم، و لهم مكانة عالية في التاريخ، فضلا عن التفسير (1).

و الواقع أن تلك الأسطورة التي تتردد في المصادر العربية عن الملوك الأربعة الذين حكموا الدنيا بأسرها (2) تتفق و الحقائق التاريخية المتعارف عليها، بحال من الأحوال، فأول هؤلاء الملوك، و هو نمرود، و الذي يهمنا هنا، قد لا يعلم أصحاب هذه الأسطورة أن التاريخ البابلي لا يعرف ملكا بهذا الاسم، حتى الآن على الأقل، و لست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون، و أكبر الظن أنهم أخذوه من مسلمة أهل الكتاب، حيث جاء في توراة يهود «و كوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ... و كان ابتداء مملكته بابل و أرك و أكد و كأنه في أرض شنعار» (3)، على أن التاريخ يعرف بلدا باسم «نمرود»، على مجرى الزاب الأعلى، و قد كانت عاصمة للامبراطورية الآشورية على أيام الملك «سرجون الثاني» (722- 705 ق. م)، و هي نفسها مدينة «كالح» في التوراة (4)، و التي أسسها «آشور بانيبال الثاني» عام 883 ق. م، و تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة، و على مبعدة 22 ميلا جنوب الموصل الحالية، و هكذا خلط كاتب سفر التكوين من التوراة بين الملك و المدينة،

ص: 151


1- انظر: تفسير الطبري 5/ 431- 433، تفسير القرطبي ص 1092، تفسير ابن كثير 1/ 468، تاريخ الطبري 1/ 233- 234، تاريخ ابن الأثير 1/ 94، أبو الفداء 1/ 13، المقدسي 3/ 45- 48، تاريخ الخميس ص 89- 91، مروج الذهب 1/ 56، المحبر ص 392- 394، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 148.
2- تكوين 10/ 8- 10.
3- تكوين 10/ 8- 10.
4- تكوين 10/ 711.

ثم جاء مؤرخونا و نقلوا ما في التوراة، و كأنه التاريخ الذي يرقى فوق كل هواتف الريبة و الشك، و هو غير ذلك بكل مقاييس منهج البحث التاريخي و الديني.

هذا فضلا عن مؤرخينا أنفسهم هم الذين يزعمون أن النمرود إنما كان من الأنباط، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض، و من ثم فإن النمرود إنما كان عاملا للضحاك، و هو فارسي، على السواد و ما اتصل به يمنة و يسرة (1)، و ليت هؤلاء الذين كتبوا ذلك كانوا يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق، و إنما في شمال غرب الجزيرة العربية، و أن عاصمتهم إنما كانت «البتراء»، و أنهم أقاموا دولة مستقلة، فيما بين القرنين الثاني قبل الميلاد، و أوائل الثاني بعد الميلاد، حيث استولى الرومان على البتراء عام 106 م، على أيام «تراجان (98- 117 م)، و من ثم فالفرق الزمني بين عهد الخليل عليه السلام و بين عهد الأنباط، جهد كبير (2).

و أما أن نمرود هذا إنما كان أول من تجبر في الأرض، فليس هناك من دليل يؤكده، أو حتى يعضده، و الأمر كذلك إلى بنائه لصرح بابل، بل إن هذا الصرح نفسه في حاجة إلى دليل يؤيد وجوده، و أما أنه أول من ملك في الأرض، فمن المعروف تاريخيا أن مصر إنما كانت أول «أمة» في التاريخ نمت فيها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح، و بعدها كانت أول «دولة» بالمعنى السياسي المنظم، نجحت في أن تؤسس أول ملكية عرفتها البشرية على طوال تاريخها و بالتالي فإن الملك «مينا» (نعرمر- عحا) مؤسس الأسرة المصرية الأولى، إنما كان أول ملك في التاريخ، و أن ذلك كان حوالى عام

ص: 152


1- انظر عن دولة الأنباط (محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم- الرياض 1980 ص 493- 523- طبعة ثانية).
2- تاريخ الطبري 1/ 291- 192، الكامل لابن الأثير 1/ 116- 117، تفسير القرطبي ص 1092.

3200 قبل الميلاد، و قبل عهد إبراهيم عليه السلام (1940- 1765 ق. م) و الذي شرفت مصر بزيارته لها على أيام الملك «سنوسرت الثالث (1878- 1843 ق. م) من ملوك الأسرة الثانية عشرة (1991- 1786 ق. م)، بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان (1).

و أما أنه أول من صلب و قطع الأيدي و الأرجل، فيعارضه إن ذلك إنما كان فرعون موسى، كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون موسى (2)، و كما جاء في تفسير النسفي (3)، هذا إلى وجود تاريخي يصور وسائل التعذيب هذه في زمان فرعون موسى، و قد ورد النص في معبد عمدا، و يرجع إلى السنة الرابعة من عهد الفرعون «مرنبتاح» (1224- 1214 ق. م) و هو الفرعون الذي شاع في الناس أنه فرعون الخروج (4)، و هذا ما نميل إليه من دراساتنا عن فرعون موسى (5).

و على أية حال، فإن بعض المفسرين إنما يذهبون إلى أن الناس كانوا يمتارون من عند هذا الذي آتاه اللّه الملك، الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مرّ به ناس قال (أي الملك): من ربكم، قالوا أنت، حتى مرّ إبراهيم، قال من ربك، قال: الذي يحيي و يميت (6)، أو كأنه كان قد سأله عن ربه الذي يدعو إلى عبادته، و قد كسر الأصنام التي تعبد من دونه و سفه

ص: 153


1- انظر (محمد بيومي مهران: مصر- الكتاب الأول- الإسكندرية 1988 ص 241- 272- طبعة رابعة، إسرائيل- الكتاب الأول- الإسكندرية 1978 ص 72- 82، 91- 104).
2- انظر: سورة الأعراف: آية 123- 126، طه: آية 71- 76.
3- تفسير النسفي 2/ 70.
4- أحمد عبد الحميد يوسف: مصر في القرآن و السنة- القاهرة 1973 ص 110، و كذا: .F 273 .P ,1964 mIIIV L ,EASA ,adamA ta txeT raey htruof s'hatpnereM ,fessuoY .A
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 351- 439.
6- تفسير الطبري 5/ 433.

أحلام عابديها لأجله، فأجاب بهذا الجواب، فأنكره الملك الطاغية الذي حكي عنه ادعاء الألوهية لنفسه، و قال «أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ»، أحي من أحكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، و أميت من شئت إماتته بالأمر بقتله، فدل جوابه هذا على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى اللّه عليه و سلم (1)، ذلك لأن إبراهيم عليه السلام و هو رسول موهوب موهبة ربانية إنما يعني من الاحياء و الاماتة الانشاء، إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء، فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه، و لكن الذي حاج إبراهيم في ربه، رأى في كونه حاكما لقومه، و قادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة و الموت مظهرا من مظاهر الربوبية، فقال لإبراهيم: أنا سيد هؤلاء القوم، و أنا المتصرف فيهم و في شئونهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له و تسلم بحاكميته (2).

و قال قتادة و ابن إسحاق و السدى و غير واحد: و ذلك أنه أوتي بالرجلين قد استحقا القتل، فأمر بقتل أحدهما، فيقتل، و أمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء و الإماتة، و الظاهر و اللّه أعلم، أنه ما أراد هذا، لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم، و لا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع، و إنما أراد أن يعي لنفسه هذا المقام، عنادا و مكابرة و يوهم أنه الفاعل لذلك، و أنه هو الذي يحيي و يميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي»، و لهذا قال إبراهيم، لما ادعى هذه المكابرة:

«فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب» (3).

و قال الأستاذ الإمام محمد عبده: لم يقل «فقال إني أحي و أميت»، لأن جوابه مقطع عن الدليل لا يتصل به بالمرة، فإنه أراد أن يكون سببا للإحياء و الإماتة، و الكلام في الإنشاء و التكوين، لا في اتخاذ الأسباب و التوسل في

ص: 154


1- تفسير المنار 11/ 39.
2- في ظلال القرآن 1/ 298.
3- تفسير ابن كثير 1/ 468.

الشي ء المكون، فالمراد بالذي يحيي و يميت الذي ينشئ الحياة في جميع العوالم الحية من نبات و حيوان و غيرها، و يزيل الحياة بالموت، و عبرب «الذي» الدال على المعهود المعروف صلته دون «من» التي فيها الإبهام، و بالمضارع الدال على التجدد و الاستمرار، الإفادة أن هذا شأنه دائما، كما هو معهود معروف لمن نظر في الأكوان نظر المفكر المستدل، و لما رأى إبراهيم أنه لم يفهم أن مراده بالذي يحيي و يميت مصدر التكوين الذي يحيا كل حيّ بإحيائه، و يموت بقطع إمداده بالحياة «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ»، فهذا إيضاح لقوله الأول، و إزالة لشبهة الخصم، لا أنه جواب آخر، كما فهم الجلال و غيره، و المعنى إن ربي الذي يعطي الحياة و يسلبها بقدرته و حكمته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، أي هو المكون لهذه الكائنات بهذا النظام و السنن الحكيمة التي نشاهدها عليها، فإن كنت تفعل كما يفعل، فغيّر لنا نظام طلوع الشمس، و ائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنته تعالى بظهورها منها (1).

و هذا، كما يقول الإمام النسفي، ليس بانتقال من حجة إلى حجة، كما زعم البعض، لأن الحجة الأولى كانت لازمة، و لكن لما عاند اللعين حجة الإحياء، بتخلية واحد و قتل الآخر، كلمة من وجه لا يعاند، و كانوا أهل تنجيم، و حركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم، و الحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية، كتحريك الماء النمل على الرحى، إلى غير جهة حركة النمل، فقال إن ربي يحرك الشمس قسرا على غير حركتها، فإن كنت ربا فحركها بحركتها، فهو أهون (2)، «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ»، ذلك لأن التحدي قائم، و الأمر ظاهر، و لا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء، و كان التسليم أولى و الإيمان أجدر، و لكن الكبر عن الرجوع إلى الحق

ص: 155


1- تفسير المنار 11/ 39، و انظر: تفسير الجلالين ص 57.
2- تفسير النسفي 1/ 130.

يمسك بالذي كفر، فيبهت و يبلس و يتحير، و لا يهديه اللّه إلى الحق، لأنه لم يلتمس الهداية، و لم يرغب في الحق، و لم يلتزم القصد و العدل «وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (1).

و هذا التنزيل على هذا المعنى، كما يقول الإمام ابن كثير، أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين، أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني، انتقال من دليل إلى أوضح منه، و منهم من قد يطلق عبارة ترديه، و ليس كما قالوه، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، و يبيّن بطلان ما ادعاه نمرود في الأول و الثاني (2).

و انطلاقا من كل هذا، فلا محل للشبهة التي يوردها بعض الناس على حجة إبراهيم عليه السلام، و هي أنه كان للنمرود أن يقول له: إذا كان ربك هو الذي يأتي بالشمس من المشرق، و هو قادر على ما طالبتني به من الاتيان بها من المغرب، فليأت بها يوما ما، قال بعض المقلدين: و لا يمكن أن يسأل إبراهيم ربه ذلك، لأن فيه خراب العالم، و قال بعض المرتابين: إنه لو قال له نمرود ذلك لألزمه، و قد فهم نمرود، على طغيانه و غروره، من الحجة ما لا يفهم هؤلاء القائلون، فهم أن مراد إبراهيم أن هذا النظام في سير الشمس لا بد له من فاعل حكيم، إذ لا يكون مثله بالمصادفة و الاتفاق، و إن ربي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى، و من فهم هذا لا يمكن أن يقول: اطلب من هذا الحكيم أن يرجع عن حكمته و يبطل سنته، كذلك لا محل لقول بعضهم لم سكت إبراهيم عن كشف شبهته الأولى، إذ زعم أن ترك القتل إحياء، فقد علمت أن مسألة الشمس قد كشفت ذلك انكشافا لا يخفى إلا على من تخفى عليه الشمس (3).

ص: 156


1- في ظلال القرآن 1/ 298.
2- تفسير ابن كثير 1/ 469.
3- تفسير المنار 11/ 40.
الفصل الرّابع سرّ الحياة و الموت

كان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام محبا لربه، خالق الناس جميعا، غاية الحب، محبا للتحدث بما لهذا الرب من قوة، دونها كل قوة، و بما يقدر عليه هذا الرب العظيم، بما لا يقدر عليه مخلوق في الوجود، محبا لإظهار ما خفى من أسرار تلك الوحدانية التي برأت النسم، و خلقت الدنيا من العدم، و تقول للشي ء كن فيكون، و بهذا الشوق إلى اجتلاء أسرار القدرة الإلهية، و التحدث بما للّه من عظمة و قوة، سأل إبراهيم ربه «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى .

قال تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).

يقول الأستاذ الباقوري، طيب اللّه ثراه، «فأول ما ينبغي أن يبدأ به

ص: 157


1- سورة البقرة: آية 260، و انظر: تفسير الطبري 5/ 485- 512، في ظلال القرآن 1/ 297- 298، صفوة التفاسير 1/ 166- 167، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 156، تفسير الجلالين ص 57- 58، تفسير القرطبي ص 1105- 1110، تفسير ابن كثير 1/ 471- 472، تفسير البحر المحيط 2/ 293- 295، تفسير المنار 3/ 44- 49، علي بن أحمد الواحدي: أسباب النزول- القاهرة 1968 ص 53- 55، تفسير النسفي 1/ 132- 133.

الحديث حول هذه الآية الكريمة، هو أن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كان بغير شك مؤمنا بقدرة اللّه على إحياء الموتى، إيمانا لا يرقى إلى سمائه غبار الشكوك و الأوهام، و قد أراد بسؤاله هذا أمرا يزيد إيمانه، و يضاعف يقينه، فأعطاه اللّه تبارك و تعالى مثالا من الحس، تتضح به سورة إحياء الموتى، و المعاني المجردة حين توضع في صور تدركها الحواس، تكون أبيّن و أتم وضوحا.

و الذين يتأملون كتاب اللّه يرونه في مجال إقامة الحجة، يضع المعاني المجردة في صورة حسيّة يزداد بها إيمان المؤمن و تتضح بها لغير المؤمن سبل الإيمان، و هذه الصور الحسية منبثة في القرآن الكريم انبثاثا، لا يستعصى على رائديه فمن ذلك قول اللّه عز و جل في سورة الرعد لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ، فالمعنى المجرد الذي أشارت إليه هذه الآية هو أن الذين اتخذهم الكافرون أولياء من دون اللّه يفزعون إليهم، لا يقدرون على جلب النفع لهم، و لا دفع الضرر عنهم، و الصورة الحسية لهذه الصورة المعنوية هي أن هؤلاء الكفار في دعائهم آلهتهم هذه، مثلهم كمثل من يبسط كفيه إلى الماء و يريده أن يبلغ فاه، و الماء لا يشعر بمن يبسط إليه كفه طلبا للري، و لا يقدر أن يجيب دعاءه فيبلغ فاه، ذلك هو الفرق بين المعنى يذكر مجردا، و المعنى يذكر في صورة تدركها الحواس.

فإبراهيم عليه السلام كان يطلب صورة حسية تنطوي على المعنى المجرد للإيمان بقدرة اللّه على إحياء الموتى، و قد أعطاه اللّه تعالى هذه الصورة، لا لتغرس الإيمان في نفسه، فإن إيمانه موجود لا شك فيه، و لكن لتزيده قوة و استمساكا، من حيث كانت الصورة الحسية في مجتلى الأعين، تظاهر الصورة المعنوية في أعماق النفوس، و من أجل هذا أجاب اللّه تعالى إبراهيم على دعائه قائلا: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ فقال عليه السلام: بلى، يعني

ص: 158

آمنت، و لكنني أطلب ذلك ليطمئن قلبي، يعني ليزيد سكونا و طمأنينة بمظاهرة المحسوس للمعقول، فتفضل اللّه عليه بإعطائه الدليل القائم على الحس و العيان، لمظاهرة الدليل القائم على الحجة و البرهان (1).

و يقول صاحب الظلال: إنه التشوف إلى ملامسة سر الصنعة الإلهية، و حين يجي ء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل، فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق و التطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين، إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان و ثباته و كماله و استقراره، و ليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان، إنما هو أمر الشوق الروحي إلى ملابسة السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي، و مذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب، و لو كان إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، و يقول له ربه، و ليس وراء هذا إيمان، و لا برهان للإيمان، و لكنه أراد أن يرى يد القدرة و هي تعمل، ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها، و يتنفس في جوها، و يعيش معها، و هي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده أيمان (2).

هذا و قد اختلف المفسرون في السبب المباشر لتوجيه الخليل هذا السؤال لربه سبحانه و تعالى، فذهب فريق إلى أن إبراهيم عليه السلام مر على دابة ميتة قد توزعتها دواب البر و البحر، قال: «رب أرني كيف تحيي الموتى»، و قال الحسن و عطاء الخرساني و الضحاك، فيما يروي الواحدي عن سعيد عن قتادة، و ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر (بحيرة طبرية في رواية عطاء) قالوا: فرآها قد توزعتها دواب البر و البحر، فكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان و دواب البحر فأكلت منها، فما وقع منها يقع في

ص: 159


1- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 197- 198.
2- في ظلال القرآن 1/ 301- 302.

الماء، و إذا جذر البحر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها، فما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها و قال: يا رب قد علمت لتجمعنها، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك.

و قال ابن زيد: مرّ إبراهيم بحوت ميت، نصفه في البر، و نصفه في البحر، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، و ما كان منه في البر فدواب البر تأكله، فقال له إبليس الخبيث: متى يجمع اللّه هذه الأجزاء من بطون هؤلاء، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى و لكن ليطمئن قلبي، بذهاب وسوسة إبليس منه (1).

و قد أراد الخليل عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخير ليس كالمعاينة فتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، و لم يكن إبراهيم عليه السلام، و لن يكون، شاكا في قدرة اللّه تعالى على أحياء الموتى، و لكنه أحب أن يصير له الخبر عيانا، قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب و لكن أراد رؤية العين، و قال الحسن البصري و قتادة و سعيد بن جبير و الربيع: سأل ليزداد يقينا على يقينه (2).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن مسألة إبراهيم ربه ذلك المناظرة و المحاجة التي جرت بينه و بين النمرود في ذلك، قال محمد بن إسحاق بن يسار: إن إبراهيم لما احتج على نمرود فقال: ربي الذي يحيي و يميت، و قال النمرود: أنا أحيي و أميت، ثم قتل رجلا و أطلق رجلا، قال: قد أمت هذا، و أحييت هذا، قال له إبراهيم: فإن اللّه يحيي بأن يرد الروح إلى جسد ميت، فقال له نمرود: هل عاينت هذا الذي تقوله، و لم يقدر أن يقول

ص: 160


1- علي بن أحمد الواحدي النيسابوري: أسباب النزول ص 53- 54.
2- تفسير القرطبي ص 1106، و انظر: تفسير الطبري 5/ 485- 486.

نعم رأيته، فتنقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الميت لكي يطمئن قلبه عند الاحتجاج، فإنه يكون مخبرا عن مشاهدة و عيان (1).

و ذهب فريق ثالث إلى أن ذلك إنما كان عند البشارة التي أتته من اللّه بأنه اتخذه خليلا، فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلاقة على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا، و يكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا (2)، قال ابن عباس و سعيد بن جبير و السدي: لما اتخذ اللّه إبراهيم خليلا، استأذن ملك الموت ربه أن يأتي إبراهيم فيبشره بذلك، فأتاه فقال: جئتك أبشرك بأن اللّه تعالى اتخذك خليلا، فحمد اللّه عز و جل و قال: ما علاقة ذلك، قال: أن يجيب اللّه دعاءك، و تحيي الموتى بسؤالك، ثم انطلق و ذهب، فقال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أو لم تؤمن، قال بلى، و لكن ليطمئن قلبي بعلمي إنك تجيبني إذا دعوتك، و تعطيني إذا سألتك، إنك اتخذتني خليلا (3).

على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن الخليل عليه السلام قال ذلك لربه، لأنه شك في قدرة اللّه على إحياء الموتى، قال عبد الرزاق:

أخبرنا معمر بن أيوب في قوله: «و لكن ليطمئن قلبي»، قال قال ابن عباس:

ما في القرآن آية أرجى عندي منها (4).

و روى ابن أبي حاتم عن ابن المنكدر أنه قال: التقي عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو: أي آية في القرآن أرجى عندك، فقال عبد اللّه بن عمرو «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا

ص: 161


1- تفسير الطبري 5/ 486، الواحدي: المرجع السابق ص 54.
2- تفسير الطبري 5/ 487.
3- الواحدي: المرجع السابق ص 55، تفسير الطبري 5/ 487- 488، تفسير القرطبي ص 1108.
4- تفسير الطبري 5/ 489- 490، تفسير الدر المنثور 1/ 335.

عَلى أَنْفُسِهِمْ» حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: لكني أقول قول اللّه عز و جل: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فرضي من إبراهيم قوله «بلى»، قال فهذا لما يعترض في النفوس و يوسوس به الشيطان، و هكذا رواه الحاكم في المستدرك (1).

و قال أبو جعفر في التفسير: و أولى الأقوال عندي بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أنه قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال:

رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ»، و أن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، ذلك أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر و بعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر و دواب البحر و طير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء، فسأل إبراهيم ربه حينئذ أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي القى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: أ و لم تؤمن؟.

يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر، قال بلى يا رب، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقى في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت (2).

و الحديث الشريف الذي ذكره الطبري في تفسيره، ورد في صحيح البخاري بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة و سعيد، عن أبي هريرة، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك في إبراهيم، إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (3)، و كذا رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

ص: 162


1- تفسير ابن كثير 1/ 471- 482، المستدرك للحاكم 1/ 60.
2- تفسير الطبري 5/ 491- 492.
3- صحيح البخاري 6/ 39، فتح الباري 6/ 293- 394، 8/ 150- 151.

و سعيد المسيب عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، و يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد و لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» (1).

فالحديث صحيح إذن، ما في ذلك من ريب، و لكن تفسيره بشك إبراهيم في قدرة اللّه على إحياء الموتى تفسير خاطئ فاسد، ما في ذلك من ريب أيضا، و لعل من أحسن و أصح ما نقل المزني و غيره من قول النبي صلى اللّه عليه و سلم، إن الشك مستحيل في حق إبراهيم إذ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، و لقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، و إنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة أن القصد منها احتمال الشك، فنفي ذلك عنه.

و قال الخطابي: ليس في قوله صلى اللّه عليه و سلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه و لا على إبراهيم، لكن فيه نفى الشك عنهما، و معناه: إذا لم أشك أنا في قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، و قد قال صلى اللّه عليه و سلم ذلك على سبيل التواضع، و كذلك قوله: لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، و فيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان، و العيان يفيد من المعرفة و الطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال (2).

و قال ابن عطية: و ما ترجم به الطبري عندي مرود (يعني شك إبراهيم في قدرة اللّه على إحياء الموتى)، و ما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول

ص: 163


1- صحيح مسلم 15/ 122- 123 (دار الكتب العلمية- بيروت 1981).
2- محمد حسن عبد الحميد: المرجع السابق ص 45- 46.

ابن عباس «هي أرجى آية»، فمن حيث فيها الإدلال على اللّه تعالى، و سؤال الأحياء في الدنيا، و ليست فطنة ذلك، و يجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله «أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ» أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير و بحث، و أما قول عطاء بن أبي رباح «دخل قلب إبراهيم ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم، و أما قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»، بمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، و نحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام، أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، و الذي روى فيه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في خواطر التي لا تثبت، و أما الشك فهة توقف بين أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر، و ذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام، و إحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، و قد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ»، فالشك يبعد على من تثبت قدمه من الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة و الخلة، و الأنبياء معصومون من الكبائر، و من الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا.

و إذا تأملت سؤاله عليه السلام و سائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، و ذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شي ء موجود، متقرر الوجود عند السائل و المسئول، نحو قولك «كيف علم زيد» و نحو ذلك، و متى قلت:

كيف زيد، فإنما السؤال عن حال من أحواله و قد تكون «كيف» خبرا عن شي ء، شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، و نحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، و «كيف» من هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، و الإحياء متقرر و لكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شي ء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشي ء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشي ء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع:

أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه، فهذه طريقة

ص: 164

مجاز في العبارة، و معناها تسليم جدلي، كأن يقول: افرض أنك ترفعه، فارني كيف ترفعه، فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص اللّه له ذلك، و حمله على أن بيّن له الحقيقة فقال له:

«أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ، فكمل الأمر و تخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

و يقول الإمام القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية، و هو بالغ، و لا يجوز على الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، مثل هذا الشك، فإنه كفر، و الأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث، و قد أخبر اللّه أن أنبياءه و أولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، و قد اللعين: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ و إذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ و إنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، و إيصال الأعصاب و الجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين، فيقول: أرني كيف، طلب مشاهدة الكيفية (1).

و يقول صاحب تفسير المنار: فهم بعض الناس من سؤال إبراهيم عليه السلام أنه كان قلقا مضطربا في اعتقاده بالبعث و ذلك شك فيه، و ما أبلد أذهانهم و أبعد أفهامهم عن إصابة المرمى، و قد ورد في الصحيحين «نحن أولى بالشك من إبراهيم»، أي أننا نقطع بعدم شكه، كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعا نعم ليس في الكلام ما يشعر بالشك، فإنه ما من أحد إلا و هو يؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينا، و هو لا يعرف كيفيتها، و يودّ لو يعرفها ... ذلك لأن طلب المزيد من العلم، و الرغبة في إسكانه الحقائق، و التشوق إلى الوقوف على أسرار الخليقة مما فطر اللّه عليه الإنسان، و أكمل الناس علما و فهما أشدهم للعلم طلبا، و للوقوف على المجهولات تشوفا، و لن يصل أحد

ص: 165


1- تفسير القرطبي ص 1106- 1107.

من الخلق إلى الإحاطة بكل شي ء علما، و قتل كل موجود فقها و فهما، و قد كان طلب الخليل عليه الصلاة و السلام رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه القدسية من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل عقد الإيمان بالبعث الذي عرفه بالوحي و البرهان، دون المشاهدة و العيان (1).

و في صفوة التفاسير: سؤال الخليل ربه بقوله «كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، ليس عن شك في قدرة اللّه، و لكنه سؤال عن كيفية الإحياء، و يدل عليه وروده بصيغة «كيف»، و موضوعها السؤال عن الحال، و يؤيد المعنى قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» و معناه: و نحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى و أولى (2).

و هكذا كان إبراهيم عليه السلام، كما يقول صاحب الظلال، ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد اللّه تعمل، و اطمئنان التذوق للسر المحجب، و هو يجلي و يتكشف، و لقد كان اللّه يعلم إيمان عبده و خليله، و لكنه سؤال الكشف و البيان، و التعريف بهذا الشوق و إعلانه، و التلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب، و لقد استجاب اللّه لهذا الشوق و التطلع في قلب إبراهيم، و منحه التجربة الذاتية المباشرة قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، و هكذا أمر اللّه إبراهيم أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه و يميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن و مميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن، و أن يذبحهن و يمزق أجسادهن، و يفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن فتتجمع أجزاءهن مرة أخرى، و ترتد إليهن الحياة، و يعدن إليه ساعيات، و قد كان طبعا.

ص: 166


1- تفسير المنار 11/ 46.
2- صفوة التفاسير 1/ 167.

و رأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، طيورا فارقتها الحياة، و تفرقت مزقها من أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، و تعود إليه سعيا، و أما كيف؟ فهذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم، و قد يصدق به، كما يصدق به كل مؤمن، و لكنه لا يدرك طبيعته و لا يعرف طريقته، إنه من أمر اللّه، و الناس لا يحيطون بشي ء من علمه إلا بما شاء، و هو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، و طبيعته غير طبيعتهم، و لا حاجة لهم به في خلافتهم، إنه الشأن الخاص للخالق الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين، فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب، و ضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك السر المحجوب لعلام الغيوب (1).

و يقول الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن، و على أن إبراهيم قطع أجزاءها، و روى أنه عليه السلام أمر بذبحها و نتف ريشها، و تقطيعها جزءا جزءا، و خلط دمائها و لحومها، و أن يمسك رءوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر ثم يصيح بها «تعالين بإذن اللّه»، قال الراوي: فأخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها، و انضم كل رأس إلى جثته، و صار الكل أحياء بإذن اللّه تعالى.

هذا و يقول صاحب مفاتيح الغيب أن الاجماع قد انعقد على ما قاله، و لكن الأستاذ الباقوري يقول: إنه لن يستطيع منصف أن يقبل القول بالاجماع على هذه الصورة، و لا هو يستطيع أن يتصور إجماعا بغير أن يكون فيه مثل أبي مسلم الأصفهاني، فكيف و أبو مسلم ينكر هذا الذي قيل،

ص: 167


1- في ظلال القرآن 1/ 302.

فيقول: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من اللّه تعالى أراه اللّه تعالى مثالا قرب به الأمر عليه، و علينا أن نفهم من الكلمة القرآنية فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ (1) الإمالة و التمرين على الإجابة، يعني جل ثناؤه: خذ أربعة من الطير فمرنها تمرينا تعتاد به إن أنت دعوتها أن تأتيك، فإذا صارت كذلك و اعتادته و قبلت التمرين، فاجعل على كل جبل من هذه الطيور الأربعة واحدا حال حياته، ثم ادع الجميع يأتينك سعيا.

و قال أبو مسلم: و الغرض ذكر مثال محسوس من عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، و أنكر أبو مسلم أن يكون المراد من كلمة «صرهن»: قطعهن، و مضى يحتج لرأيه هذا بوجوه: أولها: أن كلمة «صر» معناها في اللغة: الإمالة، و أما التقطيع و الذبح فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية إلحاقا و زيادة بغير دليل، و هذا لا يجوز.

و ثاني الوجوه: أنه لو كان المراد بكلمة صرهن قطعهن، لم يقل إليك، فإن الكلمة حينئذ لا تتعدى بحرف إلى، و إنما يتعدى الفعل بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم و تأخير، و التقدير: فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن يعني فقطعهن، قلنا لهذا القائل: إن التزام التقديم و التأخير من غير دليل ملجئ إلى ذلك التزام بغير ملزم، و هو خلاف الظاهر.

و ثالث الوجوه: أن الضمير في كلمة «ثم ادعهن» عائد إلى الأربعة من الطير، لا إلى الأجزاء، و إن كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة، و كان الموضوع (1) انظر عن معنى «فصرهن إليك» تفسير الطبري 5/ 595- 505، معاني القرآن للفراء 1/ 174، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 81، تفسير القرطبي ص 1109- 1110، تفسير الجلالين ص 58، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 156، تفسير النسفي 1/ 132، تفسير ابن كثير 1/ 471، صفوة التفاسير 1/ 166، أبو بكر السجستاني: غريب القرآن ص 41 (القاهرة 1980).

ص: 168

على كل جبل بعض تلك تلك الأجزاء، لا إليها، و هو خلاف الظاهر، و أيضا الضمير في كلمة «يأتينك سعيا» عائد إليها، لا إلى الأجزاء.

و يرى الأستاذ الباقوري أن رأي أبي مسلم أدنى إلى القبول بأيسر كلفة، من حيث كان غير محوج إلى تقدير محذوف لفهم الآية، ثم من حيث كانت اللغة نصيرا له أي نصير، فإن هذه المادة تعطي معنى الميل، كما تقول: إني إليكم لأصول، أي مشتاق مائل، ثم يرى أن معنى قوله سبحانه «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» أملهن إليك و وجهن نحوك، كما يقال: صر وجهك إلي، أي أقبل به عليّ (1).

على أن القائلين بالقول المشهور (أي الذبح و ليس الإمالة) قد احتجوا على رأي أبي مسلم بوجوه: الأول: أن كل المفسرين الذي كانوا قبل أبي المسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور و تقطيع أجزائها، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع، و الثاني: أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى اللّه عليه و سلم، فلا يكون له فيه مزية على الغير، و الثالث: أن إبراهيم أراد أن يريه اللّه كيف يحيى الموتى، و ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك، و على قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة.

و الرابع: أن قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة، و الجواب أن ما ذكرته (أي الرازي) و إن كان محتملا، إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر، و التقدير: فاجعل على جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا.

و يقول صاحب المنار: و آية فهم الرازي و غيره فيها، خلاف ما فهمه

ص: 169


1- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 198- 200.

جميع المفسرين من قبله، و لم يقل أحد: إن فهم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين، على أن ما فهمه أبو مسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة، و ما قالوه أخذوه من روايات حكموها في الآية، و لآيات اللّه الحكم الأعلى، و على ما في تلك الرواية هي لا تدل.

و أما قوله: إن ما ذكره أبو مسلم غير مختص بإبراهيم فلا يكون فيه مزية، فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء اللّه للموتى أو لكيفية التكوين، فيه توضيح لها، و تحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة، و لا دليل على أن العلم بذلك كان عاما بين الناس، فيقال: إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم، على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه اللّه الملك، و حجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام، فإن مثل هذه الحجج التي أيد اللّه تعالى بها إبراهيم، مما يحتج به الرازي و غيره، فهل ينفى ذلك أن تكون هداية من اللّه لإبراهيم، و إخراجا من ظلمات الشبه التي كانت محيطة بأهل زمنه إلى نور الحق (1)، و قد قال اللّه تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (2).

و أما قوله: إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم، و إنما تحصل بقول الجمهور، فلأمر بعكسه، و ذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها و تفريق أجزائها، من الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء، إذ ليس فيها إلا رؤية كيفية الإحياء، إذ ليس فيها إلا رؤية الطيور، كما كانت قبل التقطيع، لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة، و افرض أنك رأيت رجلا قتل و قطع إربا إربا، ثم رأيته حيا فتقول إذن أنك عرفت كيفية إحيائه، هذا ما يدل عليه قولهم.

ص: 170


1- تفسير المنار 11/ 48 (القاهرة 1973).
2- سورة الأنعام: آية 83.

و أما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر عن سر التكوين و الإحياء، و هو توضيح معنى قوله تعالى للشي ء «كُنْ فَيَكُونُ»، و لو لا أن اللّه تعالى بين لنا ذلك، بما حكاه عن خليله، لجاز أن يطمح في الوقوف على سر التكوين الطامحون، و لو فهم الرازي هذا لما قال: إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير، و هذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى، إذ طلب رؤية اللّه تعالى، و نهى عما زاد على ذلك.

و جملة القول، فيما يرى صاحب تفسير المنار، أن تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم، و هو الذي يجلي الحقيقة في المسألة، فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء، و إنما تكون بتعلق إرادة اللّه تعالى بالشي ء المعبر عنه بكلمة التكوين «كن» فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له، إلا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادة اللّه تعالى، و كيفية تعلقها بالأشياء، و ظاهر القرآن، و ما هو عليه المسلمون، أن هذا غير ممكن، فصفات اللّه منزهة عن الكيفية، و العجز عن الإدراك فيها، هو الإدراك؛ و هو ما أفاده قول أبي مسلم رحمه اللّه تعالى، و مما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور و تأنيسها على أن لفظ «صرهن» يدل على التأنيس، و لو لا أن هذا هو المراد لقال: فخذ أربعة من الطير فقطعهن، و اجعل على كل جبل منهن جزءا، و لم يذكر لفظ الإمالة إليه، و يعطف جعلها على الجبال ب «ثم»، و يدل عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم، دون اسم القدير، و العزيز: هو الغالب الذي لا ينال.

و ما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه، إلا الرواية بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا و كذا، و قطعها و فرقها على جبال الدنيا، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه، حتى كانت طيورا تسرع إليه، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا، و لو بالتكلف، و أما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية، و إن كان المقام

ص: 171

مقام العلم و البيان و الإخراج من الظلمات إلى النور، و هو أكبر الآيات، و لكل أهل زمن غرام في شي ء من الأشياء يتحكم في عقولهم و أفهامهم، و الواجب على من يريد فهم كتاب اللّه تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه، فإنه الحاكم على كل شي ء، و لا يحكم عليه شي ء، و للّه در أبي مسلم ما أدق فهمه، و أشد استقلاله فيه (1).

بقيت الإشارة إلى أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الأربعة من الطيور، فذهب ابن إسحاق و مجاهد و ابن جريج إلى أنها: الديك و الطاوس و الغراب و الحمام، و قال ابن زيد: قال فخذ أربعة من الطير:

قال: فأخذ طاوسا و حماما و غرابا و ديكا، مخالفة أجناسها و ألوانها، و قال ابن عباس: هي الغرنوق و الطاوس و الديك و الحمامة، إلى غير ذلك من آراء، و إن كان لا طائل تحت تعيين هذه الطيور الأربعة، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن (2).

ص: 172


1- تفسير المنار 11/ 48- 49.
2- تفسير الطبري 5/ 494- 495، تفسير ابن كثير 1/ 471.

الباب الثالث سيرة يونس عليه السّلام

اشارة

ص: 173

ص: 174

يونس عليه السّلام
[1] قصة يونس عليه السلام

:- هو يونس بن متى، و هو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري و غيره، و صححه ابن حجر قال: و لم أقف في شي ء عن الأخبار على اتصال نسبه (1)، روى البخاري بسنده عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى، و نسبه إلى أبيه»، و رواه أحمد و مسلم و أبو داود من حديث شعبة به، قال شعبة، فيما حكاه أبو داود عنه، لم يسمع قتادة عن أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا احداها (2)، و قال ابن كثير في التفسير: و في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»، و نسبه إلى أمه (3)، و روى الإمام أحمد بسنده عن أبي وائل عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (4)، و قال ابن الأثير و غيره: إنه اسم أمه، و لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره و غير عيسى عليهما السلام (5)، و في العهد القديم دعى «يونان بن

ص: 175


1- تفسير روح المعاني: 17/ 82- 83.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 236.
3- صحيح البخاري: 4/ 193، و صحيح مسلم: 7/ 102، تفسير ابن كثير: 4/ 32.
4- مسند الإمام أحمد: 1/ 390، تفسير ابن كثير: 4/ 639.
5- تفسير روح المعاني: 17/ 83، تاريخ ابن الأثير: 1/ 360.

أمتاي» (1) و قد ذكر في القرآن الكريم بيونس و بذي النون، و النون هو الحوت (السمكة)، و يجمع على «نينان» كما في البحر، و أنوان أيضا، كما في القاموس (2)، و يقول الرازي في التفسير الكبير: إنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة، و أن الإسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا، و بين أن يكون مفيدا، فحمله على المفيد أولى، خصوصا إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف (3).

هذا و قد ذكر يونس عليه السلام في القرآن باسمه أربع مرات، في سورة النساء (163) و الأنعام (86) و يونس (98) و الصافات (139)، و ذكر بالوصف في موضعين، حيث لقبه اللّه تعالى «بذي النون» (أي الحوت) في سورة الأنبياء (87)، و بصاحب الحوت في سورة القلم (48) لأن الحوت التقمه ثم نبذه، غير أن ذكر النبي الكريم في سورتي الأنبياء و الصافات إنما فيه شي ء من التفضيل، قال تعالى: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (4)، و قال تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ،

ص: 176


1- يونان: 1/ 1.
2- تفسير روح المعاني: 17/ 83، القاموس المحيط: 4/ 276.
3- تفسير الفخر الرازي: 22/ 212.
4- سورة الأنبياء: آية 87- 88، و انظر: تفسير الطبري 17/ 76- 82 (بيروت 1984)، تفسير ابن كثير: 3/ 306- 309 (بيروت 1986)، تفسير النسفي: 3/ 87- 88 (دار الفكر- بيروت) تفسير البحر المحيط 6/ 335- 336، تفسير روح المعاني: 17/ 82- 87 (بيروت 1978)، صفوة التفاسير للصابوني 2/ 273 (بيروت 1981)، تفسير الفخر الرازي: 22/ 212- 217، تفسير القرطبي ص 4369- 4375 و انظر: صحيح البخاري: كتاب الأنبياء 4/ 193، صحيح مسلم 7/ 102- 103.

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (1).

و الآيات الكريمة تذكر أن يونس عليه السلام كان مرسلا إلى قوم، غير أنها لا تذكر أين كان قوم يونس عليه السلام، و إن كان المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر، على أن الروايات تذهب في الغالب الأعم إلى أنه أرسل إلى أهل «نينوى» (2) من أرض الموصل بالعراق (3)، و في السيرة النبوية الشريفة أن «عداسا»، و هو غلام نصراني لعتبة و شيبة ابني ربيعة، قدم لسيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو في الطائف، طبقا من عنب، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيه يده، قال: باسم اللّه، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال:

و اللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: و من أي أهل البلاد أنت يا عداس، و ما دينك؟ قال: نصراني، و أنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال

ص: 177


1- سورة الصافات: آية 139- 148، و انظر: تفسير القرطبي 15/ 121- 125 (القاهرة 1967)، تفسير روح المعاني 23/ 142- 144، تفسير الطبرسي 23/ 83- 86 (بيروت 1961)، تفسير الطبري 23/ 98- 106 (بيروت 1984)، تفسير البيضاوي 2/ 299- 300، تفسير الفخر الرازي 26/ 163- 166 (القاهرة 1938)، تفسير ابن كثير 4/ 32- 34، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 231- 237، قصص الأنبياء 1/ 380- 398، تفسير النسفي 4/ 28- 30، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 291- 292، صحيح البخاري- كتاب الأنبياء، باب قول اللّه تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 4/ 193، صحيح مسلم 7/ 102- 103- كتاب الفضائل، باب ذكر يونس عليه السلام.
2- نينوى: عاصمة الإمبراطورية الآشورية، و تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة، على فم رافد صغير يدعى «الخسر» على مبعدة 25 ميلا من التقاء الدجلة بالزاب، قبالة الموصل، و كان العبرانيون يعممون اسم نينوى ليشمل كل المنطقة حول التقاء الزاب بالدجلة (تكوين 10/ 11- 12، يونان 1/ 2، 3/ 2- 7، قاموس الكتاب المقدس 2/ 990).
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 213، تفسير ابن كثير 2/ 670، تفسير روح المعاني 17/ 84، البداية و النهاية 1/ 232.

له عداس: و ما يدريك ما يونس بن متى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ذاك أخي، كان نبيا، و أنا نبي فأكب عداس على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقبل رأسه و يديه و قدميه (1).

و في تفسير الفخر الرازي عن ابن عباس، رضي اللّه عنهما، أنه قال:

كان يونس عليه السلام و قومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا، و بقي سبطان و نصف، فأوحى اللّه تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك، و قل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا، فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى، و كان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس بن متى، فإنه قوي و أمين، فدعا الملك بيونس و أمره أن يخرج، فقال يونس:

هل أمرك اللّه بإخراجي، قال: لا، قال: فهل سماني لك، قال: لا، قال:

فههنا أنبياء غيري، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك و لقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدة أمور في هذا النص، منها (أولا) أن الملك الذي غزا قوم يونس في فلسطين ربما كان، فيما نميل إليه و نرجحه، إنما هو «سرجون الثاني» الآشوري (722- 705 ق. م)، فهو فيما يحدثنا التاريخ، الملك الذي غزا بني إسرائيل و استولى على السامرة، و سبى منهم تسعة أسباط و نصف (3)، كما أن «نينوى» كانت عاصمة آشور وقت ذاك، غير أن «نينوى» لا يمكن الذهاب إليها عن طريق بحر الروم (البحر المتوسط)، إلا إذا صحت تلك الرواية التي تقول إن الحوت التقمه A

ص: 178


1- انظر: السير النبوية لابن هشام 2/ 266- تحقيق أحمد حجازي السقا.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 212، و انظر: تفسير روح المعاني 17/ 83.
3- ملوك أول 11/ 35، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 884- 886، 940- 1950، و كذا .210 .P ,tic -po ,nageniF .J .6 .P ,salannA ehT ,I ,traP ,II ,nograS fo snoitpircsnI ehT ,eiL .G .A و كذا. 248. P, 1966, TENA, miehneppO. L. A

من ذلك المكان الذي ألقي به فيه من السفينة (و الذي ربما كان شمال أيلة أو إيلات على خليج العقبة) ثم انطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الأيلة، ثم انطلق به حتى مرّ على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى (1) (أي أنه دار به حول شبه الجزيرة العربية من خليج العقبة، فالبحر الأحمر، فخليج عدن، ثم بحر العرب فخليج عمان ثم الخليج العربي، فنهر دجلة ثم نينوى).

و منها (ثانيا) أن النبي شعيب عليه السلام، ربما لا يقصد به هنا شعيب النبي العربي الذي بعث في مدين، و إنما النبي الإسرائيلي أشعياء، و ذلك لسببين، أحدهما: أن أشعياء كان معاصرا أو قريبا من فترة الغزو الأشوري لإسرائيل حيث كان يعيش في الفترة (734- 680 ق. م)، بينما النبي العربي شعيب كان يعيش حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل إن هناك من يرجح أنه هو نفسه صهر موسى عليه السلام، و ثانيهما: أن الملك حزقيل المذكور في النص هو الملك اليهودي «حزقيال» (715- 687 ق. م).

و أيا كان الأمر، فما أن ركب يونس عليه السلام السفينة، و وصلت إلى وسط اللجة حتى ناوأتها الرياح و الأمواج و كان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة، و أنه لا بد أن يلقى في الماء لكي تنجو السفينة من الغرق، فاقترعوا على من يلقونه من السفينة، فخرج سهم يونس، و كان معروفا عندهم بالصلاح، و لكن سهمه خرج بشكل أكيد، فألقوه في البحر، أو ألقى هو نفسه فالتقمه الحوت و هو مليم (2)، ثم تذهب الرواية بعد ذلك إلى أن اللّه أنجى يونس، ثم أوحى إليه أن يذهب إلى ملك من أرسل إليهم و أن يطلب إليه أن يرسل معه بني إسرائيل، فقالوا له: ما

ص: 179


1- تفسير الطبري 23/ 105.
2- في ظلال القرآن 5/ 2998.

نعرف ما تقول، و لو علمنا أنك صادق لفعلنا، و لقد أتيناكم من دياركم و سبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا اللّه عنكم، فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه، فأوحى اللّه تعالى إليه، قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب، فأبلغهم فأبوا، فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يصلبونه فلم يقدروا عليه، ثم ذكروا أمرهم و أمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم، فقالوا: انظروا و اطلبوه في المدينة، فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شي ء و إن كان قد خرج فهو كما قال، فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي، فلما آيسوا أغلقوا أبواب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم و لا غنمهم، و عزلوا الوالدة عن ولدها و كذا الصبيان و الأمهات، ثم قاموا ينتظرون الصبح، فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم و وضعت الحوامل ما في بطونها، و صاح الصبيان، و ثغت الأغنام و البقر، فرفع اللّه تعالى عنهم العذاب، فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به، و بعثوا معه بني إسرائيل، فعلى هذا القول، كما يقول الإمام الرازي، كانت رسالة يونس عليه السلام، بعد ما نبذه الحوت، و دليل هذا القول قوله تعالي في الصافات فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، و في هذا القول رواية أخرى، و هي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نينوى و أنذرهم أن العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السلام: التمس دابة، فقال الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة، و باقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت، فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى، فألقاه هناك (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن قصة الحوت كانت بعد

ص: 180


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 212- 213، تفسير المعاني 17/ 83.

دعائه أهل نينوى و تبليغه رسالة اللّه إليهم، و لكنهم استعصوا عليه، فضاق بهم صدرا، و عاد مغاضبا (1)، و لم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظانا أن اللّه لن يضيّق عليه الأرض، فهي فسيحة، و القرى كثيرة، و الأقوام متعددون، و ما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة فسيوجهه اللّه إلى قوم آخرين، ذلك معنى «فظن أن لن نقدر عليه» أي أن لن نضيق عليه (2)، و ذلك لأن يونس عليه السلام ظن، كما يقول الإمام الرازي، أنه مخيّر إن شاء أقام و إن شاء خرج، و أنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، و كان من المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، و هذا من اللّه تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية، لكنه لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم و يؤخر، و كان الصلاح خلاف ذلك (3).

هذا و قد ظن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان أنه من القدرة، فاستشكل ذلك، إذ لا يظن أحد، فضلا عن النبي عليه السلام، عدم قدرة اللّه تعالى، و فزع إلى ابن عباس في ذلك (4)، «روى أن ابن عباس، رضي اللّه عنهما، دخل يوما على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال: و ما هي يا معاوية، فقرأ الآية فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقال: أو يظن نبيّ اللّه أن لا يقدر عليه، قال:

ص: 181


1- يقول الألوسي في روح المعاني: و قيل مغاضبا لربه عز و جل، و حكى في هذه المغاضبة كيفيات و تعقب (أبو حيان) ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول، إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة، و ينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كابن مسعود و الحسن و الشعبي و ابن جبير و غيرهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى و حمية لدينه، فاللام لام العلة، لا اللام الموصولة للمفعول به (روح المعاني 3/ 83- 84، و انظر أيضا: تفسير البحر المحيط 6/ 335، تفسير الطبري 17/ 76- 1/ 7، تفسير الفخر الرازي 22/ 214).
2- في ظلال القرآن 4/ 2393.
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 215.
4- تفسير روح المعاني 17/ 84.

هذا من القدر لا من القدرة (1)، و يقول الرازي في التفسير الكبير (22/ 215): من ظن عجز اللّه تعالى فهو كافر و لا خلاف في أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام.

و على أي حال، و كما أشرنا من قبل، فلقد اتجه يونس عليه السلام إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها، حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، و قال ربانها: إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق، فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه أو القى هو بنفسه، فالتقمه الحوت (2) و هو مليم، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله اللّه بها، و ترك قومه مغاضبا قبل أن يأذن اللّه له، و روى عن عبد اللّه بن رافع مولى أم سلمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لما أراد اللّه حبس يونس في بطن الحوت، أوحى اللّه إلى الحوت أن خذه، و لا تخدش له لحما و لا تكسر له عظما، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّا فقال في نفسه ما هذا، فأوحى اللّه إليه و هو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: و سبّح و هو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا:

يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه من كل يوم و ليلة عمل صالح، قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال اللّه تعالى «وَ هُوَ سَقِيمٌ»، رواه ابن جرير و رواه البزار في مسنده (3)، و عن عوف الأعرابي قال: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجله، فلما تحركت سجد

ص: 182


1- تفسير النسفي 3/ 87.
2- في ظلال القرآن 4/ 2393.
3- تفسير ابن كثير 3/ 307- 308، تفسير الطبري 17/ 81، 23/ 100، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، 26/ 165، تفسير القرطبي ص: 4370- 4371.

مكانه، ثم نادى: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد (1)، و في رواية «يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس» (2).

هذا و قد اختلف المفسرون في المدة التي لبثها يونس عليه السلام في بطن الحوت، فقال قتادة: ثلاثة أيام (و هذا ما جاء في العهد القديم) (3)، و قال الإمام جعفر الصادق رضوان اللّه عليه: سبعة أيام، و روى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما، و عن الضحاك عشرين يوما، و قيل شهرا، و روى مجاهد عن الشعبي قال: التقمه ضحى و لفظه عشية، و قال الحسن: لم يلبث إلا قليلا و أخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه (4).

و على أية حال، فما أن أحس النبي الكريم بالضيق في بطن الحوت، حتى سبح اللّه و استغفره، «فنادى من الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، و قد اختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عني بها ظلمة الليل و ظلمه البحر و ظلمة بطن الحوت، و قال آخرون: إنما عنى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر، أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر في ظلمة، و الصواب من القول، عند الطبري، إن اللّه تعالى أخبر يونس أنه ناداه في الظلمات «أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، و لا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات بطن الحوت، و بالأخرى ظلمة البحر، و في الثالثة اختلاف: و جائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، و جائز أن تكون

ص: 183


1- تفسير الطبري 17/ 81، 23/ 100.
2- تفسير ابن كثير 3/ 307.
3- يونان 2/ 17.
4- تفسير الطبري 17/ 79، 23/ 101، تفسير روح المعاني 17/ 85 (بيروت 1978)، تفسير ابن كثير 4/ 32 (بيروت 1986)، تفسير الفخر الرازي 26/ 165.

كون الحوت في جوف حوت آخر، و لا دليل يدل على أي ذلك من أي، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل (1)، و أما من قال: إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة، فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام، و إن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات، فما قدمناه يغني عن ذلك (2).

و إما قوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (3)، فلقد أخرج الإمام أحمد و الترمذي و النسائي، و الحكيم في نوادر الأصول، و الحاكم في المستدرك (و صححه) و البيهقي في الشعب و جماعة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شي ء قط إلا استجاب له» (4)، و في رواية «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» (5)، و عن الحسن البصري: ما نجاه اللّه تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم (6)، و روى ابن أبي حاتم عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطى، قال ابن أخي أما تقرأ القرآن قول اللّه تعالى: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً- إلى قوله: وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، ابن أخي، هذا اسم اللّه الأعظم، إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطى (7).

ص: 184


1- تفسير الطبري 17/ 80 (بيروت 1984)، و انظر روح المعاني 17/ 84.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 216.
3- سورة الأنبياء: آية 87- 88.
4- تفسير روح المعاني 17/ 85.
5- تفسير النسفي 3/ 87، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، و أصل الحديث في سنن أبي داود.
6- تفسير الفخر الرازي 22/ 216، تفسير النسفي 3/ 87.
7- تفسير ابن كثير 3/ 309.

و روى ابن جرير في التفسير بسنده عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك (سعد بن أبي وقاص) يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول:

اسم اللّه الذي إذا دعى به أجاب، و إذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى قال: فقلت يا رسول اللّه: هي ليونس بن متى خاصة، أم لجماعة المسلمين، قال: هي ليونس بن متى خاصة، و للمؤمنين عامة إذا دعوا بها، أ لم تسمع قول اللّه تبارك و تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، فهو شرط اللّه لمن دعا بها (1).

و روى الإمام أحمد بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سعد قال: حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص (رض) قال: مررت بعثمان بن عفان (رض) في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يرد عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شي ء، مرتين، قال: لا، و ما ذاك، قلت: لا، إلا أنني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد السلام، قال:

فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام، قال: ما فعلت، قال سعد قلت بلى حتى حلف و حلفت، قال: ثم إن عثمان ذكر، فقال بلى، و استغفر اللّه و أتوب إليه، إنك مررت بي آنفا، و أنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لا و اللّه ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري و قلبي غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله، ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: «من هذا، أبو إسحاق، قال: قلت: نعم يا رسول اللّه، قال

ص: 185


1- تفسير الطبري 17/ 82.

«فمه» قلت، لا و اللّه إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك، قال: «نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شي ء قط، إلا استجاب له» (1)، و رواه الترمذي (2) و النسائي: في اليوم و الليلة، في حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به (3).

و هكذا استجاب اللّه تعالى لعبده يونس لأنه كان من قبل من المسبحين، «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (4)، روى ابن جرير عن ميمون بن مهران قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروا اللّه في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبدا للّه ذاكرا، فلما أصابته الشدة دعا اللّه، فقال اللّه: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فذكره اللّه بما كان منه» (5)، و من ثم فقد استجاب اللّه لدعائه فلفظه الحوت على الشاطئ، و كان سقيما عاريا، قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، و قال ابن عباس و السّدى كهيئة الضبي حين يولد، و هو المنفرش ليس عليه شي ء (6)، و قال ابن زيد: ما لفظه الحوت حتى صار مثل الضبي المنفوس قد نشر اللحم و العظم، فصار مثل الصبي المنفوس، فألقاه في موضع، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين (7)، و الجمهور على أن شجرة اليقطين هي «القرع»، و فائدته أن الذباب لا يجتمع عنده، و أنه أسرع الأشجار نباتا و امتدادا، قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إنك لتحب

ص: 186


1- مسند الإمام أحمد 1/ 170.
2- تحفة الأحوذي 9/ 479.
3- تفسير ابن كثير 3/ 308، تفسير روح المعاني 17/ 85.
4- سورة الصافات: آية 143- 144.
5- تفسير الطبري 23/ 100.
6- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 235.
7- تفسير الطبري 23/ 102.

القرع، قال: «أجل هي شجرة أخي يونس» (1)، قال المبرد و الزجاج:

اليقطين كل شجر لا يقوم على ساق، و إنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين، نحو الدّبّاء و الحنظل و البطيخ، و روى عن ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد و عكرمة و سعيد بن جبير و وهب بن منبه و هلال بن يساف و عبد اللّه بن طاوس و السّدي و قتادة و الضحاك و عطاء الخراساني و غير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع، و عن سعيد بن جبير: اليقطين هو كل شي ء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق، و في رواية عنه أيضا: كل شي ء ينبت يموت من عامه (2)، و قد ثبت أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يحب الدّبّاء و يتتبعه من حواشي الصفحة (3)، و قال الواحدي: و الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون، أحدهما: إن هذا اليقطين لم يكن قبل، فأنبته اللّه تعالى لأجله، و الآخر: أن اليقطين كان معروشا ليحصل له ظل، لأنه لو كان منبسطا على الأرض لم يكن أن يستظل (4).

و على أية حال، فما أن استكمل يونس عليه السلام عافيته حتى رده اللّه تعالى إلى قومه الذين تركهم مغاضبا، و كانوا قد خافوا ما أنذرهم به من العذاب بعد خروجه، فآمنوا و استغفروا و طلبوا العفو من اللّه فسمع لهم و لم ينزل بهم عذاب المكذبين فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ و كانوا مائة يزيدون و لا ينقصون، و قد آمنوا أجمعين (5)، و حكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون، هذا و قد اختلف المفسرون في عدد زيادة قوم يونس عن المائة ألف، فعن ابن عباس كانوا

ص: 187


1- تفسير النسفي 4/ 29.
2- تفسير الفخر الرازي 26/ 166، تفسير ابن كثير 4/ 34، تفسير الطبري 23/ 104.
3- انظر: صحيح البخاري 7/ 98، 102.
4- تفسير الفخر الرازي 26/ 166.
5- في ظلال القرآن 5/ 2999.

مائة ألف و ثلاثين ألف، و عنه أيضا مائة ألف و بضعة و ثلاثين ألفا، و عنه مائة ألف و بضعة و أربعين ألفا، و عن مكحول إنهم كانوا مائة ألف و عشرة آلاف، و عن سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفا، و عن أبىّ بن كعب أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال:

يزيدون عشرون ألفا، و عند الرازي أن المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى إنهم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة (1).

و تنتهي قصة يونس عليه السلام بقوله تعالى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (2)، أي متع اللّه أهل نينوى في مدينتهم مدة إقامة يونس فيهم و بعده آمنين مطمئنين إلى حين، أي إلى الوقت الذي جعله اللّه تعالى أجلا لكل واحد منهم، كقوله تعالى جلت عظمته: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (3).

[2] سفر يونان (يونس عليه السلام)

و كان هذا السفر في العهد القديم بين سفرى عوبديا و ميخا، و هو من أسفار الأنبياء الصغيرة، و يتكون من أربع إصحاحات (48 آية)، و لا يقدم لنا العهد القديم إلا أقل المعلومات عن صاحب سفر يونان (hanoJ) فكل ما جاء عنه في سفر الملوك الأول (14/ 25) إنه النبي «يوناثان بن أمتاي» من «جت حافر»، على مقربة من الناصرة، بأرض الجليل.

هذا و يذهب بعض الباحثين إلى أن يونان إنما كان يعيش في الفترة (785- 745 ق. م)، و إنه كان نبيّا قوميا من أنبياء بني إسرائيل على أيام

ص: 188


1- تفسير ابن كثير 4/ 34، تحفة الأحوذي 9/ 97، تفسير الطبري 23/ 104، تفسير النسفي 4/ 29، تفسير الفخر الرازي 26/ 166.
2- سورة الصافات: آية 148.
3- سورة يونس: آية 98، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 34، تفسير الطبري 23/ 104- 105.

ملك إسرائيل «يربعام الثاني» (786- 746 ق. م)، و إنه أرسل إلى أهل «نينوى» في الفترة (765- 759 ق. م) في أخريات أيام العاهل الآشوري «آشوردان الثالث» (771- 754 ق. م) (1)، و إما أنه كان نبيا قوميا أو عبرانيا، فذلك ما جاء في السفر نفسه (2)، و إما إنه كان على أيام يربعام الثاني فهذا ما يخالف ما ذهبنا إليه من قبل (اعتمادا على رواية ابن عباس) من إنه كان نبيّا إسرائيليا على أيام الملك «حزقيال» (715- 687 ق. م) و النبي أشعياء (734- 680 ق. م)، هذا فضلا عن أن من ذهبوا إلى أن يونان (يونس عليه السلام) كان على أيام يربعام الثاني، لم يقدموا أي دليل يؤيدون به وجهة نظرهم هذه.

و على أي حال، فإن العلماء لا يعرفون حتى الآن من الذي كتب سفر يونان هذا في روايته الحالية، كما جاءت في العهد القديم، و إن كانوا يذهبون إلى أنه كتب ربما حوالي عام 350 قبل الميلاد، و ليس هناك أي دليل يثبت أن يونان هو كاتب هذا السفر الذي يحمل اسمه من بين أسفار العهد القديم (3).

هذا و يختلف الباحثون كذلك في موضوع السفر نفسه، فهناك فريق يذهب إلى أن كاتب السفر لم يقصد أن يروي قصة تاريخية عن نبي عاش قبله بقرون، و إنما أراد أن يكتب موعظة في قالب قصة، معتمدين في ذلك على

ص: 189


1- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127- 129، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 114- 116، و كذا 1911 ,RCL ,hanoJ fo elcariM eht fo ssenelb snosaeR ehT ,llulmurT .C .H 456 -430 ,298 -280 .P ,16 ,RTP ,hanoJ fo yticitnehtuA ehT ,nosliW .D .R و كذا 21- 20. P, 1969, stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E و كذا. 602- 601. P, tic- po, regnU. M
2- يونان 1/ 9.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 52- 57.

أسباب منها (أولا): وجود السفر مع الأسفار النبوية، و ليس مع الأسفار التاريخية (1)، و منها (ثانيا): ذكره لمعجزات تختلف عن المعجزات المذكورة في الأسفار التاريخية، و لا سيما النبأ المتعلق بالحوت (2)، و منها (ثالثا): عدم الاتفاق بين ما قيل عن توبة أهل «نينوى»، و ما جاء في سفر «ناحوم» ويل لمدينة الدماء، كلها ملآنة كذبا و خطفا، و «جرحك عديم الشفاء، كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم عليك» (3)، و من المعروف أن ناحوم عاش بعد يونان أي أن نبوته كانت حوالي عام (650- 625 ق. م)، و منها (رابعا): ما جاء في سفر إرميا، (و الذي عاش في الفترة 626- 580 ق. م) (4)، «أكلني أفناني، نبوخذ نصر ملك بابل، جعلني إناء فارغا، ابتلعني كتنين ... و أخرج من فمه ما ابتلعه» (5)، و هذا القول تشبيه بغير شك، و من ثم فقد ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أن رواية سفر يونان، إنما هي أيضا تشبيه ليس إلا (6).

على أن هناك فريقا من الباحثين من المحافظين من شراح العهد القديم إنما يذهب إلى أن سفر يونان هذا، إنما هو سفر تاريخي كتبه «يونان النبي بن أمتاي» من سبط «زبولون» (أحد أبناء يعقوب الاثني عشر) من «جت حافز»، على مبعدة ثلاثة أميال من الناصرة (قرية المسيح عليه

ص: 190


1- انظر عن أسفار الأنبياء و الأسفار التاريخية (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 33- 60).
2- باروخ سبينوزا: المرجع السابق ص 32، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126- 1127، و كذا. 257. P, 1949, tnemtseT dlO ehT ot noitcudaitnI, gnuoY. J
3- ناحوم 3/ 19.
4- انظر عن سفر إيرميا و عصره (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 997- 1012، 3/ 44- 47).
5- إرميا 51/ 34، 44.
6- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1127.

السلام)، و يؤيد هذا الفريق وجهة نظره هذه بعدة أدلة، منها (أولا): أن السفر لا يقول «صار قول الرب إلى إنسان»، و إنما يقول «صار قول الرب إلى يونان بن أمتاي» (1)، فالخطاب هنا موجه إلى شخص معين بذاته، و منها (ثانيا): ما جاء في كلام السيد المسيح «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ... رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان و هو ذا الأعظم من يونان هاهنا»، و منها (ثالثا): أن نبأ الحوت ليس من الحكايات التي غايتها أن تثير فضول الناس و دهشتهم، بل غايته الرمز إلى موت المسيح و قيامته، و أما بخصوص توبة أهل نينوى فمن المحتمل إنهم تابوا توبة وقتية فقط، و لعل هذا السفر من عداد الأسفار النبوية، لأن ما ورد فيه إنما يرمز إلى أمور مستقبلية (2).

و الرأي عندي أن «قصة الحوت» التي جاءت في سفر يونان (3) هذا، و التي ثار حولها جدل طويل بين علماء التوراة و شراحها، ليس كما يزعم بعض الباحثين المحدثين، قصة رمزية أو رواية تمثيلية في قالب تاريخي (4)، و إنما هي دونما أي ريب، و بكل يقين المسلم و إيمانه بما جاء في كتاب اللّه (5)، و حديث المعصوم سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم (6) كما رأينا من قبل، إنما هي قصة تاريخية حقيقية، لأنها فيما نعتقد و نؤمن به الإيمان كل

ص: 191


1- يونان 1/ 1.
2- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126- 1127، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 52- 56.
3- يونان 1/ 1- 2/ 10.
4- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127.
5- انظر: سورة يونس: آية 98، الأنبياء: آية 87- 88، الصافات: آية 139- 148، سورة القلم: آية 48.
6- انظر: تفسير روح المعاني 17/ 85، تفسير النسفي 3/ 87، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، تفسير الطبري 17/ 82، تفسير ابن كثير 3/ 308، مسند الإمام أحمد 1/ 170، تحفة الأحوذي 9/ 479.

الإيمان، إنما تمثل معجزة نبيّ، و المعجزة فيما نعلم، قوى إلهية يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، و الحصول على نظير لها، و لا تأتي إلا في مقام التحدي و الإعجاز، و هي، كغيرها من معجزات الأنبياء، من عمل سبحانه و تعالى، و لا لأحد فيها سواه، جلّ جلاله، فليس لنبيّ يد في الخوارق التي بهرت الناس، و قهرت الخلق، و قامت أدلة صادقة على صدق من ظهرت على أيديهم في أنهم مبلغون عن اللّه سبحانه و تعالى (1)، و من هذا النوع كانت معجزة الحوت لسيدنا يونس (يونان) عليه السلام كما رأينا من قبل. ).

ص: 192


1- محمد الصادق عرجون: معجزات الأنبياء بين العقل و العلم- الإسكندرية 1955 ص 2، و انظر عن المعجزة و شروطها: تفسير القرطبي ص 70- 72 (القاهرة 1969).

المراجع المختارة

أولا- القرآن الكريم :

المراجع المختارة (1)

1- القرآن الكريم.

ثانيا- كتب الحديث:

2- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (10 أجزاء)، للألباني، بيروت 1979.

3- إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، للقسطلاني، بيروت 1323 ه.

4- الجامع الصحيح، للترمذي، المدينة المنورة 1967.

5- الجامع الصغير، للسيوطي، القاهرة 1954.

6- الجامع الكبير، للسيوطي، القاهرة 1969.

7- السنن الكبرى، للبيهقي، حيدرآباد 1347 ه.

8- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، حيدرآباد 1335 ه.

9- جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير، دمشق 1974.

ص: 193


1- هذه المراجع المختارة تختص بالأجزاء: الثاني و الثالث و الرابع، من هذه السلسلة (دراسات تاريخية من القرآن الكريم)، و أما الجزء الأول فقد ذكرت مراجعه في آخره.

10- تهذيب الآثار- مسند عبد اللّه بن عباس (جزءان)، للطبري، القاهرة 1982.

11- تهذيب الآثار- مسند عمر بن الخطاب، للطبري، القاهرة 1983.

12- تهذيب الآثار- مسند علي بن أبي طالب، للطبري، القاهرة 1983.

13- سنن ابن ماجة، القاهرة 1972.

14- سنن أبي داود (جزءان)، القاهرة 1952.

15- سنن النسائي، القاهرة 1964.

16- صحيح البخاري (9 أجزاء)، القاهرة 1386 ه.

17- صحيح مسلم بشرح النووي (18 جزءا)، بيروت 1981.

18- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، القاهرة 1959.

19- كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال، للمتقي الهندي، حلب 1399 ه.

20- مجمع الزوائد و منبع الفوائد، للهيثمي، بيروت 1967.

21- مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيروت 1969.

22- موطأ الإمام مالك، القاهرة 1970.

23- المعجم الصغير، للطبراني، المدينة المنورة 1968.

24- المعجم الكبير، للطبراني بغداد 1404 ه.

25- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار (8 أجزاء)، للشوكاني، القاهرة 1980.

ثالثا- كتب التفسير:

26- تفسير ابن كثير، (تفسير القرآن العظيم)، (4 أجزاء)، بيروت 1986.

27- تفسير أبي السعود، (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، القاهرة 1347 ه.

ص: 194

28- تفسير الألوسي، (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني)، بيروت 1978.

29- تفسير البيضاوي، (أنوار التنزيل و أسرار التأويل)، القاهرة 1968.

30- تفسير الخازن، (لباب التأويل في معاني التنزيل)، القاهرة 1955.

31- تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق عوامل التنزيل و عيون الأقاويل في وجود التأويل)، القاهرة 1966.

32- تفسير الصابوني، (صفوة التفاسير)، بيروت 1981.

33- تفسير الطبرسي، (مجمع البيان في تفسير القرآن)، بيروت 1961.

34- تفسير الطبري، (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، القاهرة 57/ 1960.

35- تفسير السيوطي، (الدر المنثور في التفسير بالمأثور)، طهران 1377 ه.

36- تفسير سيد قطب، (في ظلال القرآن)، بيروت 1400 ه.

37- تفسير الجلالين، بيروت 1402 ه.

38- تفسير الفخر الرازي، (التفسير الكبير)، القاهرة 1938.

39- تفسير القرطبي، (الجامع لأحكام القرآن)، القاهرة 1970.

40- تفسير المنار، (تفسير المنار، (تفسير القرآن الحكيم)، القاهرة 73/ 1975.

41- تفسير القاسمي، (محاسن التأويل)، القاهرة 1957.

42- تفسير طنطاوي جوهري، (الجواهر في تفسير القرآن الكريم)، القاهرة 1974.

43- تفسير ابن حبان، (تفسير البحر المحيط)، بيروت 1983.

44- تفسير ابن ناصر السعدي، (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، مكة المكرمة 1398 ه.

ص: 195

45- تفسير النسفي، (مدارك التنزيل و حقائق التأويل)، بيروت 1980.

46- تفسير محمد عزة دروزة، (التفسير الحديث)، القاهرة 1963.

47- تفسير ابن عطية، (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، الرباط 1979.

48- تفسير الرازي، (مفاتيح الغيب)، بيروت 1970.

49- تفسير ابن العربي، (أحكام القرآن)، القاهرة 1957.

50- تفسير النيسابوري، (غرائب القرآن و رغائب الفرقان)، القاهرة 1381 ه.

51- تفسير الجصاص، (أحكام القرآن)، القاهرة 1959.

52- تفسير ابن عباس و مروياته في التفسير في كتب السنة، مكة المكرمة 1986.

رابعا- المراجع العربية:

53- التوراة، طبعة دار الكتاب المقدس، القاهرة 1970.

54- إبراهيم خليل: إسرائيل و التلمود، القاهرة 1967.

55- أبكار السقاف: إسرائيل و عقيدة الأرض الموعودة، القاهرة 1967.

56- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، بيروت 71965 57- ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، (37 جزءا)، الرياض 1382 ه.

58- ابن تيمية: كتاب النبوات، بيروت 1982.

59- ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل، القاهرة 1964.

60- ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، بيروت 1971.

61- ابن سعد: الطبقات الكبرى، القاهرة 1968.

62- ابن كثير: البداية و النهاية، بيروت 1966.

63- أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، القاهرة 1325 ه.

ص: 196

64- أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء و طبقات الأصفياء (10 أجزاء)، بيروت 1985.

65- الدكتور أحمد بدوي: في موكب الشمس (جزءان)، القاهرة 1952.

66- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن، القاهرة 1970.

67- الدكتور أحمد شلبي: اليهودية، القاهرة 1967.

68- الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف: مصر في القرآن و السنة، القاهرة 1973.

69- الدكتور أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1963.

70- الدكتور أحمد فخري: مصر الفرعونية، القاهرة 1971.

71- الدكتور إسرائيل و لفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب، القاهرة 1927.

72- الدكتور إسرائيل و لفنسون: تاريخ اللغات السامية، القاهرة 1929.

73- الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي: أصول الصهيونية في الدين اليهودي، القاهرة 1964.

74- الشهرستاني: الملل و النحل، القاهرة 1968.

75- البكري: معجم ما استعجم من أسماء البلاد و المواضع، القاهرة 45/ 1951.

76- الثعلبي: قصص الأنبياء- المسمى عرائس المجالس، القاهرة.

78- الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، بيروت 1975.

79- الدكتور التهامي نقرة: سيكولوجية القصة في القرآن، تونس 1974.

80- العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، القاهرة 1924.

81- الدكتور السيد يعقوب بكر: أوفير (من كتاب العرب و الملاحة في المحيط الهندي)، القاهرة 1958.

ص: 197

82- الطبري: تاريخ الطبري، (تاريخ الرسل و الملوك)، القاهرة 1967.

83- المسعودي: مروج الذهب و معادن الجوهر، بيروت 1973.

84- المقدسي: كتاب البدء و التأريخ، باريس 3/ 1907.

85- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، بيروت 1960.

86- باهور لبيب: لمحات من الدراسات المصرية القديمة القاهرة 1947.

87- الدكتور جمال حمدان: شخصية مصر، القاهرة 1970.

88- الدكتور جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت 68/ 1971.

89- حبيب سعيد: خليل اللّه في اليهودية و المسيحية و الإسلام، القاهرة-.

90- الدكتور حسن ظاظا: القدس مدينة اللّه، أم مدينة داود؟، القاهرة 1970.

91- الدكتور حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم، القاهرة سنة 1970.

92- الدكتور حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي، القاهرة 1971.

93- حسين ذو الفقار: توراة اليهود- المجلة العدد 157، القاهرة 1970.

94- حسين ذو الفقار: إله موسى في توراة اليهود- المجلة العدد 163، القاهرة 1970.

95- الدكتور رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا (جزءان)، بيروت 8/ 1969.

96- الدكتور سليم حسن: مصر القديمة (16 جزءا)، القاهرة 40/ 1960.

97- شاهين مكاريوس: تاريخ الأمة الإسرائيلية، القاهرة 1904.

98- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة (جزءان)، بغداد 1955.

99- عباس محمود العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء، القاهرة-.

ص: 198

100- عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام و أباطيل خصومه، القاهرة 1965.

101- عباس محمود العقاد: الإسلام دعوة عالمية، القاهرة 1970.

102- الدكتور عبد الحميد زائد: مصر الخالدة، القاهرة 1966.

103- الدكتور عبد الحميد زائد: الشرق الخالد، القاهرة 1966.

104- الدكتور عبد الحميد زائد: القدس الخالدة، القاهرة 1974.

105- عبد الرحيم فودة: في معاني القرآن، القاهرة.

106- الدكتور عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، القاهرة 1967.

107- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، القاهرة 1966.

108- عصام الدين حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي اليهود، القاهرة 1965.

109- الدكتور عويد المطرفي: داود و سليمان في القرآن و السنة، مكة المكرمة 1979.

110- الدكتور محمد أبو المحاسن عصفور: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم، الإسكندرية 1968.

111- الدكتور محمد الطيب النجار: تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم و السنة النبوية، الرياض 1983.

112- الدكتور محمد بيومي مهران: مصر (جزءان)، الإسكندرية 1982.

113- الدكتور محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة، القاهرة 1976.

114- الدكتور محمد بيومي مهران: إخناتون، القاهرة 1979.

115- الدكتور محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية القديمة، الإسكندرية 1984.

116- الدكتور محمد بيومي مهران: إسرائيل (أربعة أجزاء)، الإسكندرية 1978- 1979.

ص: 199

117- الدكتور محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل، الإسكندرية 1979.

118- الدكتور محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم، الرياض 1977.

119- الدكتور محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة، الإسكندرية 1978.

120- الدكتور محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم (أربعة أجزاء)، بيروت 1988.

121- الدكتور محمد بيومي مهران: قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة، الرياض 1975.

122- الدكتور محمد بيومي مهران: في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين (خمسة أجزاء)، تحت الطبع.

123- محمد حسني عبد الحميد: أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، القاهرة 1947.

124- محمد رشيد رضا: تفسير سورة يوسف، القاهرة 1936.

125- الدكتور محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في القرآن و السنة (جزءان)، القاهرة 8/ 1969.

126- محمد عزة دروزة: تاريخ بين إسرائيل من أسفارهم، بيروت 1969.

127- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء، بيروت 1980.

128- محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام، القاهرة 1952.

129- الشيخ محمد متولي الشعراوي: الفتاوي (10 أجزاء في مجلدين)، بيروت 1981.

130- الدكتور محمود بن الشريف: الأديان في القرآن، جدة 1979.

ص: 200

131- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم، القاهرة 1970.

132- الشيخ محمد شلتوت: الفتاوى- ط ثالثة، القاهرة.

133- مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس و الخليل، النجف 1388 ه.

134- الدكتور مراد كامل: الكتب التاريخية في العهد القديم، القاهرة 1968.

135- الدكتور نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم (6 أجزاء)، الإسكندرية 1966.

136- الدكتور محمد عبد القادر محمد: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين، القاهرة 1965.

137- ياقوت الحموي: معجم البلدان (5 أجزاء)، بيروت 55/ 1957.

138- قاموس الكتاب المقدس (جزءان)، بيروت 64/ 1967.

139- مجلة سومر- المجلد السابع-، بغداد 1951.

خامسا- المراجع المترجمة:

140- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة- ترجمة حسن حنفي، القاهرة 1971.

141- جرني: الحيثيون- ترجمة محمد عبد القادر محمد، القاهرة 1963.

142- جون الدر: الأحجار تتكلم- ترجمة عزت زكي، القاهرة 1960.

143- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية- ترجمة محمد عبد الهادي شعيره، القاهرة.

144- جان يويوت: مصر الفرعونية- ترجمة سعد زهران، القاهرة 1966.

145- جورج فضلو حوراني: العرب و الملاحة في المحيط الهندي- ترجمه و زاد عليه: يعقوب بكر، القاهرة 1958.

ص: 201

146- جوستاف لوبون: اليهود في الحضارات القديمة- ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1967.

147- جيمس فريزر: الفلكور في العهد القديمة- ترجمة نبيلة إبراهيم، القاهرة 1972.

148- جيمس هنري برستد: تاريخ مصر- ترجمة حسن كمال، القاهرة 1929.

149- جيمس هنري برستد: فجر الضمير- ترجمة سليم حسن، القاهرة 1956.

150- جيمس هنري برستد: تطور الفكر و الدين في مصر- ترجمة زكي سوسن، القاهرة 1961.

151- سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة- ترجمه و زاد عليه يعقوب بكر، القاهرة 1968.

152- صمويل نوح كريمر: من ألواح سومر- ترجمة طه باقر، القاهرة 1957.

153- صويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم- ترجمة أحمد عبد الحميد، القاهرة 1974.

154- فيلب حتى: تاريخ سورية و لبنان و فلسطين- ترجمة جورج حداد و عبد الكريم رافق، بيروت 1958.

155- م. سيجال: حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل- ترجمة حسن ظاظا، بيروت 1967.

156- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- ترجمة زكي اسكندر و محمد عبد القادر، القاهرة 1971.

157- ول ديورانت: قصة الحضارة- ترجمة محمد بدران، القاهرة 1961.

ص: 202

158- يوسفيوس: تاريخ يوسفيوس، بيروت.

159- دائرة المعارف الإسلامية- دار الشعب، القاهرة 69/ 1972.

سادسا- المراجع الأجنبية:

160. 'Albiright, (W.F), the Archaeology of Palestine, London, 1949.

161. Albiright,(W.F.), the Bible and the Ancient near east, London,1961.

162. Albiright, (W.F.), the Bilblical period from Abraham to Ezra, N.Y.1963.

163. Barton (G.A.), Archaeology and the Bible, 1937.

164. Baron, (S.W.), A social and religious history of the Jews,N.Y.1967.

165. Bulber, (M.), moses, Oxford, 1946.

166. Budge (E.A.), The Babylonian story of the deluge and the epic of Gilgamesh, 1920.

167. Burney (C.F.), Israel's (C.F.), Israel's canaan, London, 1918.

168. Cook (S.A.), in CAH, III, Cambridge, 19653settlement in

169. Davies (A.P.), the ten commandment, N.Y.1965.170. Dhorme (E), La religion des hebreux Nomades, Bruxelles, 1937.

171. Dimont, (M.), Jeuis god and history, N.Y.1956.

172. Eliade (M.), Traite d'histoire des religions, paris, 1964.

173. Eissfeldt (O.) the hebrew kingdom, in CAH,II,Part, 2, 1975.

174. Finegan (J.) light from the ancient past, I, Princeton, 1969.

175. Gray (J.) Near eastern mythology, N.Y.1969.

176. Epstein (R.I.), Judaism, 1970.

177. Freud (S.), moses and monotheism, N.Y.1939.

178. Faster (C.K.), A history of the hebrew people, London, 1940.

179. Gardiner, (A.H.) the geography of the exodus, in JEA,10,1924.

180 Gardiner, (A.H.) Egypt of the Pharaohs, Oxford, 1964.

181. Gastring (J.) Jashua, Judge, the faundations of the bible history London 1031.

182. Glueck (N), the other side of Jardan, New haven, 1945.

ص: 203

183. Glueck (N.) the Excavations of soloman's seaport, Ezian Gaber, STAR, 1941.

184. Guillaume, prophecy and divination among the hebrews and other semeites, London 1938.

185. Hall, (H.) the ancient history of near east, london, 1963. 186. Hastings, (J.), A dictionary of the bible, edinburgh, 1936.

187. Heaton,(E. W.) the old testament prophets, 1969.

188. James (E.O.), mythes et rites dans le proche-orient, Paris 1960.

189. Keller (W) the bible as history, 1967.

190. Kenyon (K.M.), Archaeology in the holy land, London 1970. 191. Kramer (S. A), sumerian mythology, 1944.

192. Krmer (S.A.), The deluge, in ANET, 1966.

193. Lods (A), Israel, from the beginnings to the middle of the eight century, London, 1962.

194. Malamat (A.) the last wars of the kingdom of judah, JNES, 9,1950.

195. Malamat (A.) Aspects of the foreign policies of david and solaman, JNES,22,1963.

196. Montet (P.), L'Egypte et la bible, Neuchatel, 1959.

197. Myres (J.L.), king soloman's temple and other buldings and works of art, PEQ,80,1948.

198. Manille, (E.), the Geography of the exadus, JEA.,I,1924. 199. Noth (m.) the history of Israel, London, 1965.

200. Oesterley (W.O.E.) Egypt and Israel, in the legacy of egypt, Oxford, 1948.

201. Oppenheim, (A.L.), Babyloniam and Assyrian historical texts in ANET, 1966.

202. Parker (J.), A, history of the Jewish people, London, 1964.

203. Petrie (W.F), Egypt and Israel, London 1955.

204. Renan (E.) histoire du peuple d'Israel, Paris, 1887.

205. Rowley (h.), From Joseph to joshua, London, 102T.

206.Raui (G.), Ancient Iraq 1966.

207. Saggs (H. F.), The Creatness that was babylon, London, 1962.

208. Saller (S.L.), the memorial of moses on maunt nebo, 2 vols, London, 1941.

ص: 204

209. Sollberger (E.), The Flood, London, 1962.

210. Unger (M.F.), unger's bible dictionary, chicago, 1970.

211. Waterman (L.), the treasuries of soloman's private chapel, in JNES,6,1947.

212. Woolley (L.), Ur of the chaldees, 1938.

213. Wolley (L.), excavations at ur, London, 1963.

214. Wright (G.E), the bible and the ancient near east, N.Y.1965.

215. Yadin (Y.) new light on Soloman's mejiddo, BA,23,1963.

216. Yeiuin (G.E.), the sepulchers of the kings of the house of david, in JNES,7,1948.

217. Encyclopaedia Biblica. 218. Encyclopaedia Britanica.

219. Encyclopaedia of Islam.

220. Encyclopaedia of religion and Ethics.

221. The Jewish Encyclopaedia, N.Y. 1903.

222. Historical Atlas of the holy land, N.Y.1959.

223. The Westminester historical Atlas to the bible philadelphia,1946.

ص: 205

ص: 206

مؤلّفات الاستاذ الدكتور محمد بيومي مهران أستاذ تاريخ مصر و الشرق القديم و رئيس قسم التاريخ و الآثار المصريّة و الإسلامية كليّة الآداب جامعة الاسكندريّة

أولا- في التاريخ المصري القديم:

1- الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة الاسكندرية 1966.

2- مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث الاسكندرية 1969.

3- حركات التحرير في مصر القديمة- دار المعارف القاهرة 1976 (و هو الجزء الثالث من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم) 4- أخناتون: عصره و دعوته الاسكندرية 1979 (و هو الجزء الرابع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم) 5- مصر الكتاب الأول- التاريخ الاسكندرية 1982.

6- مصر الكتاب الثاني- التاريخ الاسكندرية 1984 و هما الجزءان الأول و الثاني من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

7- الحضارة المصرية القديمة الاسكندرية 1984 (و هو الجزء الخامس من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم)

ص: 207

ثانيا- في تاريخ اليهود القديم:

8- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (1)- مجلة الأسطول- العدد 63 الاسكندرية 1970.

9- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (2)- مجلة الأسطول- العدد 64 الاسكندرية 1970.

10- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (3)- مجلة الأسطول- العدد 65 الاسكندرية 1970.

11- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة (1)- مجلة الأسطول- العدد 66 الاسكندرية 1971.

12- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة (2)- مجلة الأسطول- العدد 67 الاسكندرية 1971.

13- النقاوة الجنسية عند اليهود- مجلة الأسطول- العدد 68 الاسكندرية 1971.

14- أخلاقيات الحرب عند اليهود- مجلة الأسطول- العدد 69 الاسكندرية 1971.

15- التلمود- مجلة الأسطول- العدد 70 الاسكندرية 1972.

16- إسرائيل- الكتاب الأول- التاريخ الاسكندرية 1978 (و هو الجزء السابع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

17- إسرائيل- الكتاب الثاني- التاريخ الاسكندرية 1978 (و هو الجزء التاسع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

18- إسرائيل- الكتاب الثالث- الحضارة الاسكندرية 1979 (و هو الجزء التاسع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

19- إسرائيل- الكتاب الرابع- الحضارة (و هو الكتاب العاشر من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

ص: 208

20- النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل الاسكندرية 1979.

ثالثا- في تاريخ العرب القديم:

21- الساميون و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي مجلة كلية اللغة العربية- العدد الرابع الرياض 1974.

22- العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- العدد السادس الرياض 1976.

23- مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الأول الرياض 1977.

24- دراسات في تاريخ العرب القديم (و هو الجزء السادس من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم. و قد أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تحت رقم (1) من المكتبة التاريخية) الرياض 1977.

25- دراسات تاريخية من القرآن الكريم، الجزء الأول، في بلاد العرب (أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعو الإسلامية- تحت رقم (2) من الرياض 1981.

26- دراسة حول الديانة العربية القديمة، الإسكندرية 1978.

27- العرب و الفرس في العصور القديمة، الإسكندرية 1978.

28- دراسات في الحضارة العربية القديمة.

29- الفكر الجاهلي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1982 (بحث في كتاب الحضارة الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا).

رابعا: في تاريخ العراق القديم:

30- قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة مجلة كلية اللغة العربية

ص: 209

و العلوم الاجتماعية- العدد الخامس الرياض 1975.

21- قانون حمورابي و أثره في تشريعات التوراة، الإسكندرية 1979.

22- المدخل في تاريخ الشرق الأدنى القديم- (بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور رشيد الناضوري)، (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

خامسا: سلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم»

33- الجزء الأول- في بلاد العرب، بيروت 1988.

34- الجزء الثاني- في مصر، بيروت 1988.

35- الجزء الثالث- في بلاد الشام، بيروت 1988.

36- الجزء الرابع- في العراق، تحت الطبع.

سادسا: سلسلة «في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين»

37- السيرة النبوية- الجزء الأول، تحت الطبع.

38- السيرة النبوية- الجزء الثاني، تحت الطبع.

39- الإمام علي بن أبي طالب، تحت الطبع.

40- الإمام الحسن بن علي، تحت الطبع.

41- الإمام الحسين بن علي، تحت الطبع.

ص: 210

الفهرس

تقديم 5

الباب الأول سيرة نوح عليه السلام الفصل الأول: دعوة نوح عليه السلام 9

(1) نوح عليه السلام 9

(2) معبودات قوم نوح 11

(3) دعوة نوح عليه السلام 15

(4) قضية ابن نوح 23

الفصل الثاني: قصة الطوفان بين الآثار و التوراة 29

أولا: قصة الطوفان السومرية 31

ثانيا: قصص الطوفان البابلية 41

ثالثا: قصة الطوفان اليهودية كما ترويها التوراة 50

الفصل الثالث: قصة الطوفان في القرآن الكريم 73

الباب الثاني سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام في العراق الفصل الأول: معبودات قوم إبراهيم 105

الفصل الثاني: دعوة إبراهيم عليه السلام 115

(1) موقف إبراهيم عليه السلام من عبادة الكواكب 115

ص: 211

(2) موقف إبراهيم من عبادة الأصنام 127

الفصل الثالث: بين إبراهيم و الملك 147

الفصل الرابع: سر الحياة و الموت 157

الباب الثالث سيرة يونس عليه السلام (1) قصة يونس عليه السلام 175

(2) سفر يونان (يونس عليه السلام) 188

المراجع المختارة 193

مؤلفات الأستاذ الدكتور محمد بيومي مهران 207

ص: 212

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.