الدراسات الصوتية عند علماء التجويد

اشارة

سرشناسه : حمد، غانم قدوري
Hamad, Ghanim Qaddyri
عنوان و نام پديدآور : دراسات الصوتيه عند علماء التجويد/ تاليف غانم قدوري الحمد
مشخصات نشر : ق‌۱۴۰۶ = .م‌۱۹۸۶ = .۱۳۶۵(بغداد: خلود).
مشخصات ظاهري : ص ۶۴۳
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : كتابنامه ص ۶۳۳ - ۶۱۴
مندرجات : نمايه موضوع : قرآن -- تجويد
موضوع : قرآن -- قرائت موضوع : قرآن -- تجويد -- تاريخ رده بندي كنگره : BP۷۹/۶/ح۸د۴ ۱۳۶۵
شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۰-۳۹۵۸۴

«الإهداء»

بسم اللّه الرحمن الرحيم إلي علماء الأندلس الخالدين الذين أسهموا في إغناء علم الأصوات العربي:
مكي، مؤلف كتاب (الرعاية لتجويد القراءة) (ت 437 ه).
و أبي عمرو الداني، مؤلف كتاب (التحديد في الإتقان و التجويد) (ت 444 ه).
و عبد الوهاب القرطبي، مؤلف كتاب (الموضح في التجويد) (ت 462 ه).
و شريح الرعيني الإشبيلي، مؤلف كتاب (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) (ت 539 ه).
و ابن الطحان الإشبيلي، مؤلف كتاب (الإنباء في تجويد القرآن) (ت حوالي 560 ه).
و ابن الناظر الغرناطي، مؤلف كتاب (الترشيد في علم التجويد) (ت 679 ه).
إلي هؤلاء أهدي رسالتي.
اعترافا بفضلهم و اعتزازا بأعمالهم و تجديدا لذكراهم
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 5

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه، و سلام علي عباده الذين اصطفي، أما بعد، فإن المتأمل لا يخطئ ملاحظة أمرين:
الأول: أن أكثر أصول هذا الكتاب كان مخطوطا وقت كتابته و ظهوره في طبعته الأولي، و اليوم و الكتاب يظهر في طبعته الثانية فإن أكثر تلك الأصول قد حقّق و نشر، و الحمد للّه.
و الأمر الآخر: ظهور دراسات و أبحاث قامت حول جهود عدد من علماء التجويد الصوتية، بالإضافة إلي ما ظهر من كتب علم الأصوات اللغوية في السنوات الأخيرة.
و بان لي أن متابعة معطيات ذينك الأمرين، مع ما استجد عندي من ملاحظات أمر يصعب استيعابه في هذه الطبعة، و من ثم فإني آثرت أن يظهر الكتاب بصورته التي ظهر بها في طبعته الأولي، و لكني حاولت متابعة ما استجد لدي من ملاحظات أو أفكار حول الموضوع في أعمال أخري، و الحمد للّه الذي هدانا لهذا، و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه، هو حسبنا و نعم الوكيل.
المؤلف 10/ 8/ 2001 تكريت
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 7

مقدمة الطبعة الأولي‌

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه، و الصلاة و السلام علي رسول اللّه، و بعد.
فإن اللغة العربية قد حظيت بجهود كبيرة من أجل المحافظة علي نطقها بريئا من شوائب اللحن، نقيا من مظاهر اللكنة، و ارتبطت تلك الجهود ببزوغ شمس الإسلام في بلاد العرب، و كان ظهور القرآن الكريم سببا في نشأة علوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل، منها علوم اللغة التي اتسمت بالشمول لكل جوانب الدرس اللغوي المعروفة: الأصوات، و الصرف، و النحو، و المعجم.
و كانت جهود علماء العربية مثل الخليل و سيبويه و ابن جني في دراسة الأصوات اللغوية يشار إليها دائما في عصرنا علي أنها من الإنجازات المتميزة في الدرس اللغوي، و قامت حولها دراسات ليست قليلة، و لكن أحدا من المشتغلين بدراسة الأصوات العربية من المحدثين لم يلتفت إلي كتب علم التجويد التي تتضمن دراسة للأصوات اللغوية لا تقل في أهميتها عن جهود علماء العربية، فلم يستخدم أحد منهم تلك الكتب، فظلت مهملة و ظلت مادتها مجهولة، مما حرم الدرس الصوتي العربي من مصدر غني و أصيل.
و كانت هذه القضية، و أعني بها إهمال دارسي الأصوات العربية المحدثين لكتب علم التجويد و عدم الاستفادة منها في أبحاثهم، قد لفتت نظري منذ عدة سنوات، و صرت أتتبع كتب علم التجويد المطبوعة، و أجمع منها ما تقع عليه يدي. و قد انتهيت من ذلك التتبع إلي نتيجة تتلخص في أن كتب علم التجويد المتداولة في أيدي الناس في زماننا معظمها من الكتب المتأخرة أو الحديثة التأليف، التي يغلب عليها إيجاز العبارة غالبا و غموضها أحيانا، مما لا يشجع المشتغلين بعلم الأصوات علي دراستها و الاستفادة منها.
و بعد أن انتهيت إلي تلك النتيجة طمحت نفسي إلي معرفة كتب علم التجويد القديمة، و قد أخذ ذلك مني سنوات أخري من البحث و التتبع في فهارس المخطوطات، حتي وقفت
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 8
علي أسماء عشرات من تلك الكتب، و حصلت علي بعض مخطوطاتها، و قد فتحت لي هذه الخطوة عدة جوانب للبحث تتراوح بين البحث في تاريخ علم التجويد و التعريف بكتبه القديمة المجهولة لدي المعاصرين، و العمل علي تحقيق بعض تلك الكتب.
و حاولت أن أقدّم خلاصة ذلك التتبع و البحث إلي المهتمين بعلم التجويد و المشتغلين بدراسة الأصوات العربية، فكتبت بحثا عن (علم التجويد: نشأته و معالمه الأولي) «1». و لم يتوقف اهتمامي بكتب علم التجويد عند هذا الحد، فكان يشغلني التفكير بالقيام بعمل كبير هو تقديم بحث عن (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)، و لكن كانت تحول دون القيام بهذا العمل عقبات تتمثل في حاجته إلي الوقت الطويل و التفرغ التام، و تتمثل في صعوبة الحصول علي مصادره التي لا يزال معظمها مخطوطا و مفرقا في بلدان العالم.
و كان التحاقي للدراسة بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد قد وفر لي الوقت الكافي للشروع في ذلك العمل، و قد حصلت الموافقة من القسم علي أن يكون موضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراة عن (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد). و من ثمّ أخذت بجمع المصادر المتصلة بالموضوع، و وقفت علي كثير منها في مكتبات العراق، و طلبت عددا منها من مكتبات البلدان الأخري، حتي تجمع لديّ ما يمكن معه القيام بالبحث علي نحو مقبول.
و بعد أن انتهيت من جمع المادة و مراجعتها شرعت في الكتابة علي أساس خطة تقسم البحث إلي ثلاثة فصول، و ضممت إليها ثلاثة ملحقات تعالج موضوعات لا تندرج بشكل مباشر في الفصول الثلاثة.
و قد درست في الفصل الأول (مصادر الدراسة الصوتية عند علماء التجويد) فجاء هذا الفصل في خمسة مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن نشأة علم التجويد و بدء التأليف فيه. و قدمت في المبحث الثاني قائمة تتضمن أشهر كتب هذا العلم من لدن ظهور التأليف فيه إلي أواخر القرن الثالث عشر الهجري. و بينت في المبحث الثالث الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد، و هي تدور حول اجتناب اللحن الخفي. و وقفت في المبحث الرابع عند منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية، و بينت أهم خصائص (1) نشر في مجلة كلية الشريعة في جامعة بغداد سنة 1400 ه- 1980 م، في العدد السادس (ص 331- 396).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 9
ذلك المنهج، و ختمت الفصل بمبحث عن صلة علم التجويد بعلوم القرآن و علم اللغة.
إن الأصوات اللغوية تظهر في الاستخدام الحي للغة علي شكل مجموعات يضمها الكلام (أو التركيب) و لكن متطلبات الدراسة تقتضي النظر إلي الأصوات من خلال مستويين، المستوي الأول: أن تجرد عن التركيب و تدرس مفردة لمعرفة طريقة نطقها بتحديد مخارجها و صفاتها، و المستوي الثاني: أن تدرس و هي في التركيب لمعرفة ما يلحق خصائصها الصوتية من تغيير بسبب المجاورة، إذ إن المجاورة لها تأثير، و من ثمّ خصصت فصلا للمستوي الأول و فصلا للمستوي الثاني.
تناولت في الفصل الثاني (دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد مفردة) و هو تأليف من ستة مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن وصف علماء التجويد لأعضاء آلة النطق، و تحدثت في المبحث الثاني عن إنتاج الأصوات اللغوية، و في الثالث عن تصنيف الأصوات إلي جامدة (صامتة) و ذائبة (مصوّتة)، و بيّنت في المبحث الرابع كيفية تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج، و في الخامس كيفية تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات التي تقسم إلي مميّزة و محسّنة، و تحدثت في المبحث السادس عن الأصوات الذائبة (حروف المد و الحركات)، فبينت طريقة علماء التجويد في دراسة هذه الأصوات و كيفية تصنيفها و تحديد مخارجها و توضيح العلاقة بين أنواعها.
و تناولت في الفصل الثالث (دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد متصلة) و ذلك في ثلاث مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن فكرة التأثر بين الأصوات في الكلام المتصل، و بينت موقف علماء التجويد من هذه القضية، و خصصت المبحث الثاني لدراسة الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة، و تحدثت في المبحث الثالث عن الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة.
أما الملحقات فقد تحدثت في الملحق الأول منها عن تاريخ علم التجويد في القرن الرابع الهجري، في محاولة لاستكشاف بعض جوانب هذا العلم. و تحدثت في الملحق الثاني عن أساليب القراءة، و بينت فيه موقف علماء التجويد من القراءة بالألحان، و تحدثت فيه أيضا عن ظاهرة التنغيم. و خصصت الملحق الثالث للكلام عن عيوب النطق أو أمراض الكلام عند علماء التجويد.
و قد لخصت أهم نتائج هذا البحث في الخاتمة.
و اتبعت في كتابة هذا البحث خطة تستند علي ركيزتين:
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 10
الأولي: العناية بالنصوص المقتبسة من كتب علم التجويد، و ذلك لأن هذه النصوص هي المادة التي ينبني عليها البحث، و قد حرصت علي إيراد كل نص تضمن فكرة جديدة أو إضافة قيمة في دراسة الأصوات، و ذلك لأن الكتب التي أخذت منها هذه النصوص لا يزال معظمها مخطوطا لا يصل إليه الباحثون بسهولة، فكنت أرجو بعملي هذا أن أضع بين أيدي المشتغلين بعلم الأصوات تلك النصوص النادرة عسي أن تكون دليلا لهم إلي كتب علم التجويد، فينشطوا لدراستها و تحقيقها.
الثانية: الموازنة بين المادة الصوتية المقتبسة من كتب علم التجويد و المادة الصوتية لدي علماء العربية كالخليل و سيبويه و ابن جني، و ذلك لأن دراسات هؤلاء العلماء تشكل الأساس الذي قامت عليه الدراسة الصوتية عند علماء التجويد. و من خلال تلك الموازنة يمكن معرفة مقدار ما أضافه علماء التجويد إلي الدرس الصوتي العربي. و كنت أضع بجانب ذلك كله نتائج الدرس الصوتي الحديث لكي نتبين المنزلة التي يجب أن نضع فيها جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات، فهذه ثلاث حلقات متصلة لدراسة الأصوات: علماء العربية، و علماء التجويد، و علماء الأصوات المحدثون، لا ينبغي الفصل بينها في أي دراسة عن الأصوات العربية يراد لها أن تكون مفيدة:
و لم يخل العمل في هذا البحث من بعض الصعوبات، فمن ذلك كون أكثر مصادره كتبا مخطوطة، و هذا يعني صعوبة الحصول عليها، لا سيما المخطوطات التي تحتفظ بها مكتبات خارج العراق، ثم إن ما اطلعت عليه من تلك الكتب يحتاج إلي جهد مضاعف من أجل قراءة النصوص فيه قراءة صحيحة، خاصة إذا كانت المخطوطات رديئة الخط، و كنت أستعين بأكثر من نسخة كلما تيسر ذلك من أجل توثيق النصوص التي أنقلها.
و كنت في بعض الموضوعات أشعر بالحاجة إلي استخدام الأجهزة الحديثة التي أصبحت معروفة لدي المشتغلين بعلم الأصوات، من أجل تقديم نتائج محددة و واضحة، و لكن تلك الأجهزة غير متيسرة الآن، و لم تكن المصادر المكتوبة بالعربية في علم الأصوات كافية في سد تلك الحاجة دائما، و أرجو أن تتوفر تلك الأجهزة في بلادنا حتي يتمكن الباحثون من المضي في تدقيق نتائج الأبحاث الصوتية العربية القديمة و الحديثة، إلي جانب العمل علي كشف أسرار الصوت الإنساني.
و أخيرا فهذا هو البحث الذي شغلت بأمره مدة من الزمن قد تمكنت بفضل اللّه تعالي من إنجازه علي هذه الصورة التي أرجو لها أن تكون حافزا يدفع الباحثين إلي الاهتمام بكتب علم
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 11
التجويد، فلا يمضي وقت طويل حتي نري أهم كتب هذا العلم قد حقّقت و نشرت، و بدأ المشتغلون بعلم الأصوات يستفيدون من مادتها الصوتية الأصلية.
و في الختام أشكر الأستاذ الدكتور عدنان محمد سلمان الذي أشرف علي إعداد هذه الرسالة، و قام بقراءة أصولها الخطية، و أفادني بملاحظاته القيمة، و كان مثالا طيبا للأستاذ المخلص للعلم، الحاني علي طلبته. و أشكر كل من أسدي إليّ عونا، لا سيما الذين يسروا لي الاطلاع علي بعض المصادر المخطوطة، جزاهم اللّه كل خير.
و يلزمني أيضا توجيه الشكر إلي لجنة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف و الشئون الدينية في العراق علي قيامها بطبع هذا الكتاب علي نفقة الوزارة، وفّق اللّه القائمين عليها.
لخدمة تراثنا الإسلامي الخالد.
و اللّه تعالي أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه و أن ينفعني به و بدعاء من نظر فيه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
غانم قدوري الحمد 8/ 11/ 1984 بغداد
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 13

الفصل الأول مصادر الدراسة الصوتية عند علماء التجويد (تاريخ و منهج)

اشارة

إن كتب علم التجويد القديمة تكاد تكون مجهولة لدي معظم المشتغلين بالدراسات الصوتية العربية في الوقت الحاضر «1». و هي تكاد تكون مجهولة أيضا لدي المتخصصين بدراسة علوم القرآن عامة و علم التجويد خاصة.
و لا يزال معظم تلك الكتب مخطوطا بعيدا عن متناول أيدي الباحثين «2»، و لعل ذلك هو أحد الأسباب التي حالت بين الباحثين المعاصرين و الاستفادة من المادة الصوتية التي تضمنتها تلك الكتب. و يبدو لي أن الرسائل الموجزة التي كتبها المتأخرون و بعض المعاصرين في علم التجويد كانت من بين الأسباب التي صرفت الدارسين عن تتبع كتب علم التجويد القديمة و دراستها و الاعتماد عليها، و ذلك لما يغلب علي تلك الرسائل من الإيجاز الذي أدي إلي غموض العبارات في كثير من الأحيان.
و قد كان لإهمال دارسي الأصوات العربية المعاصرين كتب علم التجويد و عدم الاستفادة منها في بحوثهم نتائج تتمثل في حرمان تلك البحوث من المادة التي تتضمنها تلك الكتب، (1) لم يستخدم رواد الدراسة الصوتية العربية الحديثة أيّا من كتب علم التجويد. فالذين كتبوا كتبا مستقلة في دراسة الأصوات العربية مثل (الدكاترة): إبراهيم أنيس، و عبد الرحمن أيوب، و كمال محمد بشر، و أحمد مختار عمر، لم يعتمدوا علي تلك الكتب.
(2) لم يطبع من كتب علم التجويد القديمة سوي كتاب (الرعاية لتجويد القراءة لمكي بن أبي طالب (ت 437 ه)، و (شرح الواضحة) لابن أم قاسم المرادي (ت 749 ه)، و (التمهيد) لابن الجزري (ت 833 ه)، و بعض شروح المقدمة الجزرية، مثل شرح ابن الناظم (كان حيا سنة 829 ه) و شرح الشيخ خالد الأزهري (ت 905 ه) و شرح القاضي زكريا الأنصاري (ت 926 ه) و شرح علي القاري (ت 1014 ه). و كذلك طبع كتاب (تنبيه الغافلين و إرشاد الجاهلين) لأبي الحسن علي بن محمد الصفاقسي (ت 1118 ه).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 14
و تتمثل في عدم الدقة في تقويم جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية «1».
و في هذا الفصل نحاول التعريف بكتب علم التجويد منذ ظهور التأليف المستقل فيه حتي نهاية القرن الثالث عشر الهجري، مع الوقوف علي منهج علماء التجويد في التأليف و في طريقة دراسة الأصوات، و بيان ما تميز به ذلك المنهج. ممهدين لذلك بالبحث عن نشأة علم التجويد. و من ثم جاء هذا الفصل في خمسة مباحث هي:
الأول: نشأة علم التجويد.
الثاني: تعريف بأشهر كتب علم التجويد.
الثالث: الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد.
الرابع: منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية.
الخامس: صلة علم التجويد بعلوم القرآن و علم اللغة.
*****
(1) قال جان كانتينو (دروس في علم أصوات العربية ص 11) في حق الدراسات الصوتية القديمة عند النحويين: «و لو رجع إليها الباحثون العصريون أكثر مما فعلوا لتمكنوا من اجتناب كثير من الهفوات التي وقعوا فيها»، و هذا القول ينطبق علي جهود علماء التجويد علي نحو أكثر وضوحا.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 15

المبحث الأول نشأة علم التجويد

لم يعرف مصطلح (التجويد) بمعني العلم الذي يعني بدراسة مخارج الحروف و صفاتها و ما ينشأ لها من أحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق إلا في حدود القرن الرابع الهجري، كذلك لم يعرف كتاب ألّف في هذا العلم قبل ذلك القرن، و معني هذا أن علم التجويد تأخر في الظهور علما مستقلا بالنسبة إلي كثير من علوم القرآن و علوم العربية أكثر من قرنين من الزمان.
و قد جاء في بعض المصادر المتأخرة أن الصحابي عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: «جوّدوا القرآن ...» «1». و استند بعض المحدثين إلي هذه الرواية في القول بأن نشأة علم التجويد ترجع إلي عصر الصحابة، و قال: «و لسنا نملك لهذا النوع من الدراسة مادة كافية تسمح بتتبع تطوره و وصف المراحل التي قطعها حتي صار علما مستقلا هو (علم التجويد)، و كل الذي يعرف عن مراحله الأولي أن أول من استخدم هذه الكلمة في معني قريب من معناها هو ابن مسعود الصحابي الذي كان ينصح المسلمين بقوله: (جوّدوا القرآن و زينوه بأحسن الأصوات) ... و يبدو أن نشأة علم التجويد جاءت استجابة لدعوة ابن مسعود، و محاولة لتقنين قواعد القراءة اقتفاء لأثره ...» «2».
و حين تتبعت هذه الرواية في المصادر القديمة وجدت أنها تنقل الرواية علي نحو آخر لا تصلح معه للاستشهاد في ما نحن بصدده، فقد جاء فيها (جرّدوا) بالراء بعد الجيم مكان (جودوا) بالواو بعد الجيم «3»، و يترجح لديّ أن الرواية تصحفت في المصادر المتأخرة، لأنها (1) ابن الجزري: النشر 1/ 210، و السيوطي: الإتقان 1/ 281.
(2) أحمد مختار عمر: البحث اللغوي عند العرب ص 77.
(3) انظر: ابن أبي شيبة: الكتاب المصنف 2/ 497، و أبو عبيد: غريب الحديث 4/ 94، و ابن أبي داود:
المصاحف ص 139. و أبو بكر بن الأنباري: إيضاح الوقف و الابتداء 1/ 16، و الداني: المحكم ص 10، و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 65 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 16
تنقل النص بإسناد ينتهي إلي أسانيد المصادر القديمة، ثم يختلف النص بعد ذلك في حرف واحد «1». و هذه الرواية تتعلق في الأصل بموضوع تجريد القرآن من الزيادات المتمثلة بالخموس و العشور و أسماء السور و نحو ذلك «2».
و من المعلوم أنه لم يرد في القرآن الكريم من مادة (ج و د) شي‌ء في وصف القراءة، كذلك لم أجد في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي يعتمد علي تسعة من أشهر كتب الحديث، شيئا من ذلك «3». و هذا أمر يمكن أن يستدل به علي أن كلمة (التجويد) لم تكن مستعملة في عصر النبوة بالمدلول الذي صارت تدل عليه فيما بعد.
و كانت هناك كلمات أخري تستخدم في عصر النبي صلّي اللّه عليه و سلّم و أصحابه في معني كلمة (التجويد)، مثل: الترتيل، و التحسين، و التزيين، و التحبير، و هي تستخدم في وصف القراءة حين تكون مستوفية لصفات النطق العربي الفصيح، جامعة إلي ذلك حسن الصوت و العناية بالأداء «4» و لم يرد من هذه الكلمات الأربع في القرآن الكريم سوي كلمة الترتيل «5».
و لا يعني ذلك أن مفردات مادة (ج و د) لم تكن مستخدمة في اللغة العربية، فنجد عددا من الكلمات المشتقة من تلك المادة مثل: الجيّد نقيض الردي‌ء، و جاد الشي‌ء جودة و جودة، أي: صار جيّدا. و أجاد أتي بالجيّد من القول و الفعل. و رجل جواد سخي، و جاد الفرس فهو جواد ... الخ «6». و التجويد مصدر جوّدت الشي‌ء. قال الداني: و معناه انتهاء الغاية في إتقانه، و بلوغ النهاية في تحسينه «7».
و أقدم نص وردت فيه كلمة (التجويد) مستعملة بمعني يقرب من معناها الاصطلاحي، (1) ذكر ابن الجزري (التمهيد ص 3) أن عليا رضي اللّه عنه سئل عن معني الآية وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فقال: «الترتيل تجويد الحروف و معرفة الوقوف»، و لكني وجدت السمرقندي يذكر في روح المريد (137 و) أن عليا روي عن النبي صلّي اللّه عليه و سلّم في معني الآية قوله: «الترتيل حفظ الوقوف و بيان الحروف»، و هذه الرواية أقرب إلي واقع الاستخدام الاصطلاحي لكلمة (التجويد).
(2) انظر: الزركشي: البرهان 1/ 479.
(3) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي 1/ 396- 397.
(4) انظر: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي، بحث لكاتب هذه الرسالة في مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، العدد السادس 1980، ص 378- 382.
(5) قال اللّه تعالي: وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32]. و قال: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4].
(6) ابن منظور: لسان العرب 4/ 110 جود.
(7) التحديد 2 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 17
في المصادر التي اطلعت عليها، هو قول ابن مجاهد (ت 324 ه) مؤلف كتاب (السبعة في القراءات)، فقد قال الداني (ت 444 ه): «حدثني الحسين بن شاكر السمسار، قال: حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت ابن مجاهد يقول: اللحن في القرآن لحنان: جليّ و خفيّ.
فالجليّ لحن الأعراب، و الخفيّ ترك إعطاء الحرف حقّه من تجويد لفظه» «1». و نقل أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) الرواية علي هذا النحو: «... و الخفي ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها، بلا زيادة فيها و لا نقصان» «2».
إن الوقت الذي ظهرت فيه كلمة التجويد بمعناها الاصطلاحي هو الوقت الذي ظهر فيه أول مصنف مستقل في علم التجويد، فقد قال ابن الجزري، و هو يترجم لأبي مزاحم موسي ابن عبيد اللّه بن يحيي الخاقاني البغدادي المتوفي سنة 325 ه: «هو أول من صنّف في التجويد فيما أعلم، و قصيدته الرائية مشهورة، و شرحها الحافظ أبو عمرو ...» «3».
و المصنّف الذي أشار إليه ابن الجزري هنا علي أنه أول مصنف في التجويد هو قصيدة أبي مزاحم الخاقاني الرائية المشهورة بالقصيدة الخاقانية، التي يقول في مطلعها:
أقول مقالا معجبا لأولي الحجر و لا فخر، إنّ الفخر يدعو إلي الكبر
و عدد أبياتها واحد و خمسون بيتا، ذكر فيها أبو مزاحم بعض الموضوعات التي صارت فيما بعد جزءا من علم التجويد، و كان لهذه القصيدة أثر واضح في جهود اللاحقين في علم التجويد، فهم بين مقتبس منها مستشهد بأبياتها، و بين معارض لها، أو شارح موضح لمعانيها «4».
و مع أن القصيدة الخاقانية هي أول مصنف مستقل ظهر في علم التجويد إلا أن أبا مزاحم لم يستخدم فيها كلمة (التجويد) و لا أيا من الألفاظ الأخري التي تشاركها في المادة اللغوية، و استخدم مكانها كلمة (الحسن) و ما اشتقّ من مادتها. فقد قال في صدر البيت الخامس:
أيا قارئ القرآن أحسن أداءه (1) التحديد 22 ظ.
(2) الإيضاح 68 ظ.
(3) غاية النهاية 2/ 321.
(4) لمعرفة المزيد عن هذه القصيدة و الاطلاع علي نصها يراجع بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي لا سيما المبحث الثاني و المبحث الثالث ص 339- 365.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 18
و قال في صدر البيت السابع عشر:
فقد قلت في حسن الأداء قصيدة و عدم استخدام أبي مزاحم لكلمة (التجويد) في قصيدته يدل علي أن هذا المصطلح لم يكن مشهورا حينذاك، علي الرغم من ظهوره في ذلك الوقت، فقد استخدمه معاصره ابن مجاهد، كما مر في النص الذي نقلناه عنه.
و أول من استخدم مصطلح (التجويد) بعد ابن مجاهد هو أبو الحسن علي بن جعفر السعيدي المتوفي في حدود 410 ه «1» فقد قال في أول كتابه (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي): «سألتني ... أن أصنّف لك نبذا من تجويد اللفظ بالقرآن». و قال في موضع آخر:
«و يؤمر القارئ بتجويد الضاد من (الضالين) و غيرها» «2». و شاع استخدام مصطلح (التجويد) بعد عصر السعيدي علي نطاق واسع «3».
و إذا وافقنا ابن الجزري في قوله إن القصيدة الخاقانية هي أول مصنف كتب في علم التجويد فإن هناك قريبا من قرن من السنين بين تاريخ ظهورها و تاريخ ظهور كتاب السعيدي (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي) الذي يتميز بأنه أقدم كتاب معروف لدينا اليوم في علم التجويد بعد القصيدة الخاقانية، و هو يمثل بدء التأليف المستقل في علم التجويد.
و حين رجعت إلي كتاب (الفهرست) لابن النديم المتوفي سنة 385 ه علي الأرجح، لم أجده يذكر أيّ كتاب يحمل اسم التجويد أو يمكن أن يكون موضوعه في هذا العلم، علي الرغم من أنه ذكر في الفن الثالث من المقالة الأولي من كتابه مئات الكتب المؤلفة في علوم القرآن «4». و هذا أمر يدل علي أن علم التجويد لم يزل في القرن الرابع الهجري يخطو خطواته الأولي و لم تشتهر كتبه حين ألف ابن النديم كتابه سنة 377 ه «5». و لا يزال تاريخ علم التجويد في القرن الرابع بحاجة إلي نصوص جديدة تلقي مزيدا من البيان علي نشأته «6».
و حين نتقدم خطوة إلي الأمام و ندخل في القرن الخامس الهجري نجد أن المؤلفات في (1) انظر ترجمته: الذهبي: معرفة القراء 1/ 298، و ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 529.
(2) كتاب التنبيه ورقة 45 ظ، و 47 ظ.
(3) ينظر في ذلك بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي، ص 384- 389.
(4) انظر: الفهرست ص 27- 42.
(5) المصدر نفسه ص 3.
(6) راجع ملحقا عن علم التجويد في القرن الرابع الهجري في آخر هذه الرسالة.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 19
علم التجويد يتتابع ظهورها حتي إننا لنجد أن أعظم مؤلفات علم التجويد قد ظهرت في هذا القرن، فبعد كتاب (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي) للسعيدي الذي ظهر في نهاية القرن الرابع أو السنين الأولي من القرن الخامس يظهر في الأندلس كتابان كبيران في علم التجويد، هما (الرعاية) لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 ه) و (التحديد) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 ه).
و نجد في مقدمة كتاب (الرعاية) لمكي ما يشير إلي أن القرن الخامس هو التاريخ الحقيقي لظهور المؤلفات في علم التجويد، قال مكي: «و ما علمت أن أحدا من المتقدمين سبقني إلي تأليف مثل هذا الكتاب، و لا إلي جمع مثل ما جمعت فيه من صفات الحروف و ألقابها، و لا ما أتبعت فيه كل حرف منها من ألفاظ كتاب اللّه تعالي، و التنبيه علي تجويد لفظه، و التحفظ به عند تلاوته. و لقد تصور في نفسي تأليف هذا الكتاب و ترتيبه من سنة تسعين و ثلاثمائة، و أخذت نفسي بتعليق ما يخطر ببالي منه في ذلك الوقت، ثم تركته إذ لم أجد معينا فيه من مؤلّف سبقني بمثله قبلي، ثم قوّي اللّه النية و حدّد البصيرة في إتمامه بعد نحو من ثلاثين سنة، فسهّل اللّه تعالي أمره، و يسّر جمعه، و أعان علي تأليفه» «1».
و جاء في مقدمة كتاب (التحديد) للداني ما يشير إلي معني الذي يفهم من قول مكي السابق من انعدام المؤلفات في علم التجويد في وقتهما، فقال الداني: «أما بعد فقد حداني ما رأيته من إهمال قراء عصرنا و مقرئي دهرنا من تجويد التلاوة و تحقيق القراءة، و تركهم استعمال ما ندب اللّه تعالي إليه، و حث نبيه صلّي اللّه عليه و سلّم و أمته عليه، من تلاوة التنزيل بالترسل و الترتيل- أن أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل، قريب المأخذ في وصف علم الإتقان و التجويد، و كيفية الترتيل و التحقيق» «2».
و إذا كان بإمكاننا أن نقول إن مكيا ألف كتاب (الرعاية) سنة 420 ه اعتمادا علي النص الذي سبق أن نقلناه من الكتاب، فإننا لا نعلم يقينا السنة التي ألف فيها الداني كتاب (التحديد)، و لا نعلم هل ألفه قبل أن يظهر كتاب (الرعاية) أو بعد ظهوره؟ «3».
و مهما يكن من أمر فإن نشأة علم التجويد ترتبط بقصيدة أبي مزاحم الخاقاني، و إن (1) الرعاية ص 42.
(2) التحديد ورقة 1 ظ.
(3) ينظر في ذلك بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي ص 375- 377.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 20
مؤلفاته الأولي تتمثل بكتاب (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي) للسعيدي، و كتاب (الرعاية) لمكي، و كتاب (التحديد) للداني، ثم تتوالي المؤلفات بعد ذلك متواصلة حتي عصرنا الحاضر.
و ارتباط نشأة علم التجويد بالمؤلفات المذكورة هنا يعني أن علم التجويد قد تأخر ظهوره بشكله المتميز المستقل أكثر من قرنين من الزمن عن ظهور كثير من علوم القرآن و العربية، و يبدو أن جهود علماء العربية من النحويين و اللغويين و جهود علماء القراءة كانت تقوم بالمهمة التي قام بها علم التجويد بعد ظهوره، في تعليم الناطقين بالعربية أصول النطق الصحيح، و تحذيرهم من الانحراف في نطق الأصوات العربية.
و تكاد تتلخص جهود اللغويين و النحاة في دراسة الأصوات العربية حتي أواخر القرن الرابع الهجري بما كتبه الخليل بن أحمد (ت 170 ه) في مقدمة كتاب العين عن مخارج الحروف و صفاتها «1». و سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان ت 180 ه) في (الكتاب) في باب الإدغام خاصة «2». و المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد ت 285 ه) في كتاب (المقتضب) في أبواب الإدغام «3»، و ابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن ت 321 ه) في مقدمة جمهرة اللغة «4». و الزجاجي (أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق ت 337 ه) في آخر كتاب الجمل في باب الإدغام «5». و الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد ت 370 ه) في مقدمة تهذيب اللغة «6». و أخيرا ابن جني (أبو الفتح عثمان ت 392 ه) في سر صناعة الإعراب «7». و هناك نتف أخري متناثرة في بعض الكتب «8».
أما كتب القراءات القديمة التي ترجع إلي القرنين الثاني و الثالث فإنه لم يصل إلينا منها شي‌ء يذكر «9». و أقدم كتاب وصل إلينا من كتب القراءات هو كتاب (السبعة في القراءات) لأبي (1) العين 1/ 52- 67.
(2) الكتاب 4/ 431- 485، و مواضع أخر متفرقة.
(3) المقتضب 1/ 192- 236.
(4) جمهرة اللغة 1/ 4- 8.
(5) الجمل ص 375- 382.
(6) تهذيب اللغة 1/ 41- 52.
(7) سر صناعة الإعراب 1/ 1- 75.
(8) مثل الواضح في علم العربية لأبي بكر الزبيدي ص 281- 283.
(9) ينظر لمعرفة أسماء تلك الكتب: عبد الهادي الفضلي: القراءات القرآنية ص 27- 32.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 21
بكر أحمد بن موسي بن العباس بن مجاهد البغدادي (ت 324 ه)، الذي حققه الدكتور شوقي ضيف، و لا نجد في هذا الكتاب أبوابا مستقلة تعالج موضوع الأصوات العربية، و إنما جاءت الملاحظات الصوتية متناثرة في ثناياه.
و قد قام علماء التجويد باستخلاص المادة الصوتية من مؤلفات النحويين و اللغويين و علماء القراءة، و صاغوا منها هذا العلم الجديد الذي اختاروا له اسم (علم التجويد)، و واصلوا أبحاثهم الصوتية مستندين إلي تلك المادة، و أضافوا إليها خلاصة جهدهم حتي بلغ علم التجويد منزلة عالية من التقدم في دراسة الأصوات اللغوية.
و بالرغم من استناد علماء التجويد علي جهود سابقيهم من علماء العربية و علماء القراءة فقد جاء عملهم متميزا، و لا يمكن أن نعده جزءا من تلك الجهود، و إنما جاء عملا شاملا للدرس الصوتي، أما علماء العربية فإنهم عالجوا الموضوع في إطار الدرس الصرفي و هو أمر تجاوزه علماء التجويد و ذلك بالنظر إلي أصوات اللغة نظرة أشمل من ذلك.
أما علماء القراءة فإنهم كانوا مشغولين برواية النص القرآني الكريم و ضبط حروفه كما نقلتها طبقات علماء القراءة طبقة عن طبقة حتي تنتهي إلي طبقة الصحابة رضوان اللّه عليهم، الذين تلقوا القرآن من النبي صلّي اللّه عليه و سلّم.
و لا يمكن أن تعدّ الكتب التي ألفها القراء في وصف القراءات القرآنية بدءا للتأليف في علم التجويد، لأن علم القراءة و علم التجويد، و إن كان كل منهما يرتبط بألفاظ القرآن، يختلفان في الموضوع كما يختلفان في المنهج، أما الموضوع فإن علم التجويد لا يعني باختلاف الرواة بقدر عنايته بتحقيق اللفظ و تجويده، مما لا اختلاف في أكثره بين القراء، و أما المنهج فإن كتب القراءات كتب رواية، و كتب التجويد كتب دراية، تعتمد علي مقدرة العالم في ملاحظة أصوات اللغة و تحليلها و وصفها.
و يتضح ذلك من عدة نصوص وردت في كتاب (الرعاية) لمكي، منها قوله في مقدمة الكتاب: «و لست أذكر في هذا الكتاب إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القراء، فيجب علي كل من قرأ بأيّ حرف كان من السبعة أن يأخذ نفسه بتحقيق اللفظ و تجويده، و إعطائه حقه علي ما نذكره مع كل حرف من هذا الكتاب» «1». و منها قوله و هو يتحدث عن أحكام تجويد الهمزة:
«و قد تقدم ذكر أصول القراء و اختلافهم في الهمز و تليينه و حذفه و بدله و تحقيقه و غير ذلك من (1) الرعاية ص 42.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 22
أحكامه في غير هذا الكتاب، فلا حاجة بنا إلي ذكر ذلك، و كذلك ما شابهه، فليس هذا كتاب اختلاف، و إنما هو كتاب تجويد ألفاظ و وقوف علي حقائق الكلام و إعطاء اللفظ حقه و معرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها، مما لا اختلاف في أكثره» «1». و منها قوله أيضا و هو يتحدث عن تجويد حرف الذال: «و قد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما تدغم فيه الذال و غيرها من الحروف مما اختلف القراء فيه، فأغني عن ذكر ذلك في هذا الكتاب، فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، و هذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، و هذا كتاب دراية» «2».
و قد لخص محمد المرعشي (الملقب ساج‌قلي‌زاده ت 1150 ه) ذلك كله في قوله:
«إن قلت: ما الفرق بين علمي التجويد و القراءات؟ قلت: علم القراءات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، فإذا ذكر فيه شي‌ء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم، إذ لا يتعلق الغرض به. و أما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شي‌ء من اختلاف الأئمة فهو تتميم، كذا حقق في الرعاية» «3»، و كتاب الرعاية هو من تأليف مكي بن أبي طالب. و قد نقلنا منه عدة نصوص قبل هذا النص.
و قد تحدث المرعشي عن هذا الموضوع في كتابه (ترتيب العلوم) أيضا، فقال: «اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد لأن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا و حقيقة الترقيق كذا و في القراءة [يعرف فخمها فلان و رققها فلان. و بهذا يندفع ما عسي أن يقال علم القراءة يتضمن مباحث صفات الحروف كالإدغام و الإظهار و المد و القصر و التفخيم و الترقيق، و هي مباحث علم التجويد» «4».
و لا يعني تأخر ظهور التأليف في علم التجويد أن القراء كانوا ينطقون القرآن قبل ذلك علي غير أصل واضح، كما لا يعني أن علماء التجويد اختلقوا هذه الأصول أو ابتدعوها، فالواقع هو أن قراء القرآن كانوا يعتنون غاية الاعتناء بتجويد الألفاظ و إعطاء الحروف حقها منذ (1) المصدر نفسه ص 128.
(2) المصدر نفسه ص 199- 200، و انظر أيضا ص 176 و 205.
(3) جهد المقل ورقة 2 ظ.
(4) ترتيب العلوم ص 64- 65، طبع مركز إحياء التراث العلمي بجامعة بغداد 1404 ه 1984 م.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 23
عصر الصحابة و هلم جرا حتي عصر ظهور المؤلفات في علم التجويد، و كانوا يستندون في ذلك إلي الرواية الأكيدة و الأصول المرعية عند العرب في نطق لغتهم.
فأصول علم التجويد و قواعده إذن كانت موجودة في الكلام العربي، يحرص عليها القراء و يعتمدون عليها في قراءتهم و إقرائهم، و إن لم تكن مدونة، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو و الصرف التي استنبطها علماء العربية في وقت لا حق، فعلم التجويد الذي يدرس النظام الصوتي للغة كان موضوعه تحليل ذلك النظام و استخلاص ظواهره و وضعها في قواعد تساعد المتعلم علي ضبطها و إتقانها حين يستخدم اللغة، و هم في ذلك يسيرون علي خطي علماء العربية الذين سبقوهم في هذا الميدان.
و يوضح لنا قول محمد المرعشي الآتي كيفية قراءة القرآن في المرحلة التي سبقت ظهور كتب علم التجويد حيث يقول: «و تجويد القرآن قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجوّد، بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، و تزيد المهارة، و يصان به المأخوذ عن طريان الشك و التحريف» «1»، فكانت أجيال المسلمين تجوّد القرآن بالمشافهة منذ عصر الصحابة حتي ظهرت المؤلفات التي تعني بالتجويد، و ظلت المشافهة و التلقي عن الشيخ المتقن هي الأساس في قراءة القرآن و إتقان اللفظ بحروفه.
*****
(1) جهد المقل ورقة 2 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 24

المبحث الثاني تعريف بأشهر كتب علم التجويد

التأليف في علم التجويد لم ينقطع منذ ظهور مؤلفاته الأولي في القرن الرابع الهجري، حتي وقتنا الحاضر، و هذه ظاهرة توضح مقدار ارتباط المسلمين بالقرآن العظيم و حرصهم علي تجويد حروفه و إتقان النطق بألفاظه. و قد أنتجت تلك الحركة التأليفية عشرات الكتب علي مدي القرون المتتابعة، و يبدو أن تقديم قائمة كاملة بأسماء تلك الكتب أمر غير متيسر للدارسين اليوم، فالمراجع القديمة المتخصصة بالحديث عن العلوم و الكتب المؤلفة فيها لا تقدم لنا إلا عددا محدودا من أسماء تلك الكتب، فلم يتجاوز ما ذكره السيوطي عن هذا الجانب في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) السطر الواحد حيث قال: «من المهمات تجويد القرآن، و قد أفرده جماعة كثيرون بالتصنيف، و منهم الداني و غيره» «1».
و ما ذكر حاجي خليفة في (كشف الظنون)، و هو يتحدث عن علم التجويد، يعد شيئا يسيرا جدا إلي ما هو معروف من كتب هذا العلم، قال: «و أول من صنف في التجويد موسي ابن عبيد اللّه بن يحيي بن خاقان الخاقاني البغدادي المقرئ المتوفي سنة خمس و عشرين و ثلاثمائة، ذكره ابن الجزري. و من المصنفات فيه: الدر اليتيم، و شرحه، و الرعاية، و غاية المراد، و المقدمة الجزرية، و شروحها، و الواضحة» «2».
و المشكلة الأساسية التي تعترض الدارس و هو يحاول استقصاء كتب علم التجويد هي أن ما سلم منها من التلف و الضياع لا يزال معظمه مخطوطا، و لا شك في أن معرفة أسماء تلك المخطوطات و تحديد أماكن وجودها أمر غير متيسر دائما، لندرة فهارس المخطوطات، و هي إن توفرت في بلد فلا تتوفر في بلد آخر. و إن توفر بعضها فقد لا يتوفر بعضها الآخر. أما الحصول علي نسخ مصورة من تلك المخطوطات فذلك أمر دونه خرط القتاد. (1) الإتقان 1/ 281.
(2) كشف الظنون 1/ 354.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 25
و ما سنذكره من أسماء كتب علم التجويد هو المحاولة الأولي في هذا السبيل، علي ما أعلم، و من ثمّ تظل هذه القائمة مظنّة النقص و القصور، علي أمل أن يكملها النظر المستمر و الجهد المتواصل من المهتمين بهذا العلم الذي لم يحظ بما يستحقه من درس إلي اليوم.
و قد استخلصت هذه القائمة من فهارس المخطوطات التي تيسر لي الاطلاع عليها، و من فهارس الكتب مثل (كشف الظنون)، و من كتب التراجم، مثل (غاية النهاية في طبقات القراء) لابن الجزري (ت 833 ه)، الذي استخلصت منه أسماء جميع الكتب التي تتصل بعلم التجويد، و رتبت هذه القائمة علي أساس تاريخي تبعا لوفاة المؤلفين، موردا اسم المؤلف و تاريخ وفاته و اسم الكتاب، مشيرا إلي ما هو مخطوط منها أو مطبوع، من غير أن أستقصي أماكن وجود المخطوط، فإن لذلك مظانه الخاصة، من بدء التأليف في هذا العلم، حتي أواخر القرن الثالث عشر الهجري «1»:
1- أبو مزاحم موسي بن عبيد اللّه الخاقاني البغدادي (ت 325 ه): (1) تضمن عدد من كتب القراءات القرآنية مباحث (لا تتجاوز عشر ورقات) عن مخارج الحروف و صفاتها، و ما يتصل بذلك من موضوعات علم التجويد، و هذه أسماء بعض تلك الكتب، معتمدا في ذكرها علي ما أورده المستشرق أوتو برتزل في مجلة إسلاميكا (سنة 1934 م) حيث أثبت فهارس موضوعات بعض كتب القراءات المخطوطة:
أ- شرح الهداية في القراءات السبع المشهورة- أحمد بن عمار المهدوي (ت بعد 430 ه)، برتزل ص 24.
ب- الإقناع في القراءات السبع- أحمد بن علي بن أحمد المعروف بابن الباذش (ت 540 ه)، برتزل ص 28.
ج- الموضح في القراءة- نصر بن علي الفارسي (القرن السادس)، برتزل ص 33.
د- المصباح الزاهر- المبارك بن الحسن الشهرزوري (ت 505 ه)، برتزل 39.
ه- روضة القارئ- موسي بن الحسين المعدل (القرن الخامس)، برتزل ص 44.
و مما لم يذكره برتزل.
و- الإيضاح في القراءات- أحمد بن أبي عمر الخراساني (ت بعد 500 ه) (انظر الإيضاح ورقة 65- 75).
ز- النشر في القراءات العشر- أبو الخير محمد بن الجزري (ت 833 ه) (النشر 1/ 981- 224).
ح- لطائف الإشارات لفنون القراءات- أحمد بن محمد القسطلاني (ت 923 ه) (لطائف 1/ 182- 247).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 26
القصيدة الخاقانية التي قالها في حسن الأداء «1»، و مطلعها:
أقول مقالا لأولي الحجر و لا فخر إن الفخر يدعو إلي الكبر
و كان لهذه القصيدة تأثير في جهود علماء التجويد الذين عاشوا بعد عصر أبي مزاحم، و يتمثل ذلك التأثير في نواح ثلاث:
أ- المعارضة، مثل قصيدة أبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (ت 377 ه)، التي مطلعها:
أقول لأهل اللّب و الفضل و الحجر مقال مريد للثواب و للثواب و للأجر
«2» و مثل قصيدة محمد بن أحمد العجلي، التي رواها عنه أبو علي الأهوازي (ت 446 ه) في البطائح سنة 386 ه، و مطلعها:
لك الحمد يا ذا المنّ و الجود و البرّ كما أنت أهل للمحامد و الشكر
«3» ب- الشرح، مثل شرح أبي عمرو الداني (انظر رقم 4 الآتي).
ح- الاقتباس، حيث لا يكاد يخلو كتاب من كتب علم التجويد القديمة من بعض أبيات قصيدة أبي مزاحم «4».
2- أبو الحسن علي بن جعفر بن محمد الرازي السعيدي، نزيل شيراز (ت في حدود 410 ه):
أ- التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي.
ب- اختلاف القراء في اللام و النون.
و هما كتابان صغيران، الأول قدر عشر ورقات، و الثاني قدر ثلاث ورقات، و لا يزالان مخطوطين «5». (1) حققت هذه القصيدة و نشرتها في مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، في العدد السادس (سنة 1980 م)، ضمن بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي (انظر ص 348- 354).
(2) انظر: ابن خير: فهرسة ما رواه عن شيوخه ص 73- 74، و ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 67.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 85- 86.
(4) يمكن الاطلاع علي أمثلة من تلك الاقتباسات في بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي ص 354- 365.
(5) انظر: فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 170. و قد قمت بتحقيق هذين الكتابين و طبعا في دار عمار/ الأردن.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 27
3- أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني ثم القرطبي (ت 437 ه):
الرعاية لتجويد القراءة و تحقيق لفظ التلاوة- مطبوع «1».
4- أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 ه):
أ- التحديد في الإتقان و التجويد- مخطوط «2».
ب- شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني- مخطوط «3».
ج- كتاب الإدغام الكبير- مخطوط «4».
د- المنبهة في الحذق و الإتقان و صفة التجويد للقرآن- مخطوط «5».
ه- كتاب البيان و الإدغام «6».
و- رسالة في مخارج الحروف- مخطوط «7».
5- أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن بندار العجلي الرازي (ت 454 ه):
كتاب في التجويد «8».
6- أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه):
الموضح في التجويد- مخطوط «9».
7- أبو عمر يوسف بن عبد اللّه بن محمد بن عبد البر النمري (ت 463 ه):
أ- التجويد و المدخل إلي العلم بالتحديد. (1) طبع في دار المعارف بدمشق سنة 1973 م و في دار عمار/ الأردن، بتحقيق د. أحمد حسن فرحات.
(2) منه نسخة في مكتبة وهبي أفندي بتركيا رقمها (40/ 1)، و قد أكملت تحقيقه و طبع في دار عمار/ الأردن.
(3) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (279) و جستربتي‌بدبلن رقم (3653/ 10).
(4) المتحف البريطاني رقم (مشرقيات 3067)، و منه نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة (فهرس المخطوطات المصورة 1/ 6).
(5) الخزانة العامة للكتب في الرباط رقم 2809 (د 2186).
(6) ذكره الداني نفسه في كتاب (الإدغام الكبير) ورقة 20 و 28 و.
(7) المكتبة الوطنية بباريس رقم (610).
(8) ابن الجزري: النشر 1/ 212.
(9) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (283)، طبع في دار عمار/ الأردن.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 28
ب- البيان عن تلاوة القرآن «1».
8- أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد اللّه المعروف بابن البناء البغدادي 471 ه):
أ- كتاب بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء، و إيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء- مخطوط «2».
ب- التجريد في التجويد «3».
9- أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي (ت 539 ه):
نهاية الإتقان في تجويد القرآن- مخطوط «4».
10- أبو علي سهل بن محمد بن أحمد الأصبهاني الحاجي (ت 543 ه):
التجريد في التجويد- مخطوط «5».
11- أبو حميد (و أبو الأصبغ) عبد العزيز بن علي بن محمد الأندلسي المعروف بابن الطحان (ت حوالي 560 ه):
أ- الإنباء في تجويد القرآن- مخطوط.
ب- مقدمة في التجويد- مخطوط «6».
ج- رسالة في مخارج الحروف- مخطوط «7».
د- مرشد القارئ إلي تحقيق معالم المقارئ- مخطوط «8». (1) الحميدي: جذوة المقتبس ص 345. القاضي عياض: ترتيب المدارك 4/ 810.
(2) مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقم (5/ 20 مجاميع المدرسة الإسلامية)، و قد قمت بتحقيقه و طبع في دار عمار/ الأردن.
(3) ذكره ابن البناء نفسه في كتابه (بيان العيوب) ورقة 174 ظ.
(4) مكتبة الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال بكلكتا بالهند رقم (795).
(5) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (285).
(6) كلاهما في مكتبة جستربتي في دبلن بإيرلندة رقم (3453/ 3).
(7) المكتبة الظاهرة بدمشق رقم (66)، و الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية بالقاهرة رقم (397)، و قد علمنا أخيرا أن الكتاب طبع بمكة المركمة سنة 1984 بعنوان (مخارج الحروف و صفاتها) بتحقيق الدكتور محمد يعقوب تركستاني.
(8) مكتبة جستربتي رقم (3925/ 4)، و الخزانة التيمورية رقم (397).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 29
12- أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن الهمذاني العطار (ت 569 ه):
التمهيد في التجويد- مخطوط «1».
13- أبو بكر محمد بن حامد بن محمد الأصفهاني (من علماء القرن السادس) «2»:
أ- التبيين في شرح النون و التنوين.
ب- الإدغام الكبير بعلله «3».
14- أبو المعالي محمد بن أبي الفرج بن بركة فخر الدين الموصلي ثم البغدادي (ت 621 ه):
أ- نبذة المريد في علم التجويد «4».
ب- الدر الموصوف (أو المرصوف) في وصف مخارج الحروف- مخطوط «5».
15- أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين السخاوي (ت 643 ه):
أ- منهاج التوفيق إلي معرفة التجويد و التحقيق- و هو باب في كتاب (جمال القراء) للمؤلف «6».
ب- عمدة المفيد و عدة المجيد في معرفة لفظ التجويد. قصيدة نونية مطلعها:
يا من يروم تلاوة القرآن و يرود شأو أئمة الإتقان
(1) مكتبة جستربتي رقم (3954)، و هو منسوب في فهرس المكتبة إلي أبي بكر جعفر بن محمد المستغفري (ت 432 ه) و لكني رجحت في بحث (علم التجويد ص 359 هامش 2). أنه لأبي العلاء، و أعود هنا لتأكيد ذلك بعد أن وازنت بين شيوخ مؤلف (التمهيد) و شيوخ أبي العلاء الذين ذكرهم في كتابه المخطوط (الهادي في المقاطع و المبادي) حيث أن أسماء أولئك تتطابق مع أسماء هؤلاء، فدل هذا علي أنهما لمؤلف واحد.
(2) ذكر جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894 ه) في كتاب (الجامع المفيد في صناعة التجويد) (ورقة 83 و من مخطوطة برلين رقم 1307) كتاب: (وسيلة الحفي في إيضاح اللحن الخفي) لهاشم بن أحمد بن عبد الواحد الحلبي المتوفي سنة 577 ه.
(3) ذكرهما ابن الجزري في غاية النهاية 2/ 114.
(4) ابن الفوطي: تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب ج 4، ق 3، ص 360.
(5) مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقم (5/ 20 المدرسة الإسلامية)، و قد أكملت تحقيقه.
(6) الأوراق (189 و- 195 ظ) من جمال القراء.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 30
و قد ضمها علم الدين السخاوي إلي كتابه (جمال القراء) «1»، و قد تنسخ مفردة «2»، و عليها عدة شروح «3».
16- أبو عبد اللّه محمد بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي (ت 646 ه):
الدر المكللة في الفرق بين الحروف المشكلة «4».
17- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن وثيق الإشبيلي (ت 654 ه):
كتاب في تجويد القراءة و مخارج الحروف- مخطوط «5».
18- أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص الأندلسي المعروف بابن الناظر (ت 679 ه):
الترشيد في علم التجويد «6».
19- أبو الحسن علي بن يعقوب بن شجاع، عماد الدين الموصلي المعروف بابن أبي زهران (ت 682 ه):
التجريد في التجويد «7».
20- أبو العباس أحمد بن عبد اللّه بن الزبير الخابوري الحلبي (ت 690 ه):
الدر النضيد في التجويد «8».
21- أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن سعيد المعروف بالديريني (ت 697 ه): (1) الأوراق (195 ظ- 197 و) من جمال القراء.
(2) منها نسخة مفردة في مكتبة المتحف ببغداد ضمن مجموع برقم (9414).
(3) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1172.
(4) البغدادي: هدية العارفين 1/ 124. و يبدو مما نقله ابن غانم المقدسي منه أن الكتاب أرجوزة (انظر بغية المرتاد ورقة 6 ظ).
(5) مكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7) و مكتبة الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال رقم (795). في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة مصورة من نسخة أيا صوفيا (انظر: فهرس المخطوطات المصورة 1/ 13).
(6) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 242.
(7) البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 228، و هدية العارفين 1/ 713.
(8) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 73.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 31
أ- ميزان الوفي في معرفة اللحن الخفي «1».
ب- منظومة في التجويد- مخطوط «2».
22- أبو محمد عبد الكريم بن عبد الباري بن عبد الرحمن الصعيدي (لم أتمكن من تحديد تاريخ وفاته و لكن أباه قد توفي سنة 650 ه):
أ- بغية المريد في معرفة التجويد.
ب- البلغة الراجحة في تقويم الفاتحة.
ج- جزء في مخارج الحروف «3».
23- أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن إبراهيم الشريشي الخراز (ت 718 ه):
المقصد شرح نظم ابن برّي في أصوات القرآن- مخطوط «4».
24- محمد بن قيصر بن عبد اللّه، البغدادي الأصل، الشهير بالمارديني النحوي (ت 721 ه):
الدر النضيد في معرفة التجويد- مخطوط.
و هو قصيدة لامية في (271) بيتا، أولها:
بدأت بحمد اللّه ذي الطّول و العلا «5» 25- إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري (ت 732 ه):
للجعبري عدد من المؤلفات في علم التجويد، و قد ظفرت بفهرس مصنفات الجعبري مخطوطا بمكتبة المتحف ببغداد، و هو من تصنيف الجعبري نفسه، فكان خير دليل إلي معرفة (1) البغدادي: هدية العارفين 1/ 580.
(2) مكتبة جستربتي رقم (3846/ 6). و لا أعلم هل هي ميزان الوفي، أو كتاب آخر.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 401.
(4) المتحف البريطاني رقم (7533 مشرقيات). و غير متيسر القول بأن المقصود بنظم ابن بري هنا هو (متن ابن بري في التجويد) الذي تحتفظ بنسخة منه دار الكتب الوطنية بتونس رقم (277) و المكتبة ببرلين رقم (1775). و الاطلاع علي الشرح و المتن كفيل وحده بتوضيح العلاقة بينهما، و هذا ليس في متناول اليد الآن. مع العلم أن ابن بري هو علي بن محمد بن علي (ت 709 أو 730) كما جاء في وصف نسخة برلين، و ليس علي بن بري اللغوي النحوي (ت 582 ه).
(5) مكتبة جستربتي رقم (3653/ 4).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 32
تلك المؤلفات، و هي مقسمة في الفهرس إلي ما كان منها منظوما، و ما كان منها منثورا، أما المنظومة فهي «1»:
أ- عقود الجمان في تجويد القرآن «2».
ب- حدود الإتقان في تجويد القرآن «3».
ج- القيود الواضحة في تجويد الفاتحة «4».
د- المرصاد الفارق بين الظاء و الضاد.
ه- تحقيق التعليم في الترقيق و التفخيم «5».
أما المؤلفات المنثورة فهي «6»:
أ- المنة في تحقيق الغنة «7».
ب- حقيقة الوقوف علي مخارج الحروف.
ج- إتمام التبيين في أحكام النون الساكنة و التنوين.
26- أبو عبد اللّه محمد بن بضحان الدمشقي (ت 743 ه):
التذكرة و التبصرة لمن نسي تفخيم الألف أو أنكره «8».
27- أبو محمد الحسن بن قاسم بن عبد اللّه، بدر الدين المرادي، المعروف بابن أم قاسم (ت 749 ه): (1) الجعبري: الهبات الهنيات في المصنفات الجعبريات ورقة 1 ظ.
(2) المكتبة الوطنية بباريس رقم (5937) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1154.
(3) الوادي آشي: برنامجه ص 47، و البغدادي: هدية العارفين 1/ 14، و إيضاح المكنون 1/ 396.
(4) و هي قصيدة مشهورة باسم (الواضحة في تجويد الفاتحة) شرحها جماعة مثل ابن أم قاسم المرادي (انظر رقم 27)، و أحمد بن علي المعروف بالمقيني (من شرحه نسخة في المتحف البريطاني رقم 4253 مشرقيات). كما اختصرها آخرون مثل فضل بن سلمة (كشف الظنون 2/ 1996).
(5) البغدادي: هدية العارفين 1/ 14. و منه نسخة مخطوطة في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد رقم (1002/ 3).
(6) الجعبري: الهبات الهنيات ورقة 2 ظ.
(7) نقل منه القسطلاني في لطائف الإشارات (1/ 195).
(8) ابن الجزري: النشر 1/ 215، و انظر: غاية النهاية 2/ 58.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 33
أ- المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم و التجويد- (و هو شرح نونية علم الدين السخاوي في التجويد، انظر رقم 15) مخطوط «1».
ب- شرح الواضحة في تجويد الفاتحة- (و الواضحة قصيدة للجعبري، انظر رقم 25) مطبوع «2».
ج- أرجوزة في مخارج الحروف و صفاتها، و شرحها «3».
28- أبو بكر عبد اللّه بن أيدغدي بن عبد اللّه الشهير بابن الجندي (ت 769 ه):
التسديد في علم التجويد «4».
29- محمد بن محمود بن محمد بن أحمد السمرقندي الأصل، الهمذاني المولد، البغدادي الدار (ت 780 ه):
أ- التجريد في التجويد «5».
ب- العقد الفريد في نظم التجويد.
ج- روح المريد في شرح العقد الفريد- مخطوط «6».
د- القصيدة الفائحة في تجويد الفاتحة، و شرحها- مخطوط «7».
30- موسي بن أحمد بن إسحاق الشهبي (ت 784 ه):
قال ابن الجزري: «صاحبي الشاب الخير .. مات شهيدا بالطاعون ... و ألف في (1) مكتبة جستربتي رقم (3653/ 3)، و الخزانة التيمورية رقم (462).
(2) صدر حديثا من دار القلم ببيروت (د. ت) بتحقيق د. عبد الهادي الفضلي.
(3) ذكرها المرادي نفسه في كتابه (المفيد) ورقة 101، و شرح التسهيل (له) 304 و. و قد ذكر ابن الجزري (غاية النهاية 1/ 595) أن أبا حفص عمر بن علي بن عمر السراج القزويني شيخ بغداد (ت 750 ه) جمع شيئا في التجويد.
(4) ذكره جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894 ه) في كتابه (الجامع المفيد في صناعة التجويد) انظر: ورقة 59 ظ، 62 و، 63 ظ، 74 ظ، من مخطوطة مكتبة برلين (رقم 1307).
(5) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 260.
(6) مكتبة المتحف ببغداد رقم (9181/ 1) و الأوقاف بالموصل رقم (2/ 22 مجاميع مدرسة الحجيات) و القادرية ببغداد (انظر فهرس مخطوطات المكتبة القادرية 1/ 144).
(7) مكتبة آقائي السيد محمد مشكاة بمكتبة جامعة طهران رقم (105).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 34
التجويد ... و لو عاش لكان آية في هذا الفن» «1». و لم أقف علي أي كتاب له.
31- علي بن عثمان بن محمد، الشهير بابن القاصح (ت 801 ه):
نزهة المشتغلين في أحكام النون الساكنة و التنوين- مخطوط «2».
و كان قد ألف في هذا الموضوع قبل ابن القاصح أبو بكر محمد بن حامد الأصفهاني (رقم 13) و إبراهيم بن عمر الجعبري (رقم 25)، و ألف فيه بعد ابن القاصح جماعة من العلماء، و ربما ذكروا مع أحكام النون الساكنة موضوعات أخري، و من تلك المؤلفات:
أ- تحفة نجباء العصر في أحكام النون الساكنة و التنوين و المد و القصر- للقاضي زكريا ابن محمد بن أحمد الأنصاري (ت 926 ه)، و هو مخطوط «3».
ب- مرشدة المشتغلين في أحكام النون الساكنة و التنوين- لناصر الدين محمد بن سالم ابن علي الطبلاوي (ت 966 ه)، و هو مخطوط «4».
ج- فتح المبين شرح مرشدة المشتغلين- لمحمد بن محمد بن رجب البهنسي الأصل الدمشقي (ت 986 ه)، و هو شرح (مرشدة المشتغلين) للطبلاوي، و لا يزال مخطوطا «5».
د- العمدة السنية في أحكام النون الساكنة و التنوين، و المد و القصر، و لام الفعل و اللام القمرية و الشمسية- لمحمد بن القاسم بن إسماعيل البقري (ت 1111 ه) «6».
32- خليل بن عثمان بن عبد الرحمن القرافي، المعروف بابن المشبب (ت 801 ه):
قال ابن الجزري: «و ألف كراسا في التجويد» «7». و لعله (تحفة الإخوان فيما تصح به تلاوة القرآن) الذي ذكره حاجي خليفة «8». و قد سماه جعفر بن إبراهيم السنهوري (تحفة (1) غاية النهاية 1/ 316- 317.
(2) مكتبة المتحف ببغداد رقم (690/ 4).
(3) مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب- جامعة بغداد رقم (1212) و المتحف ببغداد (21312/ 2) و الأوقاف ببغداد (21/ 22811 مجاميع).
(4) مكتبة المتحف ببغداد (690/ 5) و الأوقاف ببغداد (13587/ 3).
(5) المكتبة الوطنية بباريس رقم (4533).
(6) عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 11/ 136.
(7) غاية النهاية 1/ 276.
(8) كشف الظنون 1/ 361، و انظر: البغدادي هدية العارفين 1/ 353.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 35
الإخوان في تجويد القرآن) «1».
33- أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، المشهور بابن الجزري (ت 833 ه):
أ- التمهيد في علم التجويد «2».
ب- المقدمة فيما علي قارئ القرآن أن يعلمه، و تعرف بالمقدمة الجزرية.
و هي نظم يتألف من (107) أبيات و مطلعها:
يقول راجي عفو ربّ سامح محمد بن الجزريّ الشافعي
و هي من أشهر كتب علم التجويد في العصور المتأخرة، و أكثرها تداولا، و قد شرحت شروحا عدة، و طبعت مفردة أو مشروحة طبعات كثيرة، كما أنها ترجمت إلي بعض لغات المسلمين الأخري. و سوف أذكر هنا أشهر ما عثرت عليه من أسماء تلك الشروح علي سبيل الاختصار، و هي جديرة ببحث مستقل و دراسة مستفيضة لا يناسبها هذا المكان «3».
أ- الحواشي المفهمة في شرح المقدمة- لأبي بكر أحمد بن محمد الجزري، و هو ابن المصنف، كان حيا سنة 829 ه، و هو مطبوع «4».
ب- الطرازات المعلمة في شرح المقدمة- لعبد الدائم بن علي الأزهري الحديدي (ت 870 ه) «5».
ج- تحفة المريد لمقدمة التجويد- لبرهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري (من علماء القرن التاسع) «6». (1) الجامع المفيد في صناعة التجويد ورقة أو (مخطوطة برلين رقم 1307).
(2) طبع في مصر سنة 1326 ه 1908 م. و قد أعدت تحقيقه، و هو يطبع الآن في مؤسسة الرسالة.
(3) انظر حول ذلك: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1799- 1800، و البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 542، و آلورد: فهرس المخطوطات العربية بالمكتبة الملكية في برلين (بالألمانية) 1/ 201 و قد ذكر أسماء الشروح بالعربية.
(4) طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1309 ه.
(5) منه نسخة مخطوطة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد رقمها (20165) و أخري في المتحف البريطاني رقمها (96).
(6) منه نسخة مخطوطة في المكتبة الأزهرية رقمها (37) 2794. و أخري في مكتبة جامعة الرياض رقمها (2417).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 36
د- الحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية- للشيخ خالد بن عبد اللّه الأزهري (ت 905 ه) و هو مطبوع «1».
ه- اللئالئ السنية في شرح المقدمة الجزرية- لأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني (ت 923 ه) «2».
و- الدقائق المحكمة في شرح المقدمة- للقاضي زكريا بن محمد الأنصاري (ت 926 ه) و هو مطبوع «3»، و عليه عدة حواش «4».
ز- ترجمة المستفيد لمعاني مقدمة التجويد- لمحمد بن عمر بن مبارك الحضرمي الملقب ب (بحرق) (ت 930 ه) «5».
ح- شرح الدلجي (شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد (ت 947 ه) «6».
ط- شرح المقدمة الجزرية- لعصام الدين أحمد بن مصطفي المعروف بطاش كبري زاده (ت 968 ه) «7».
ي- الفوائد السرية في شرح المقدمة الجزرية- لمحمد بن إبراهيم بن يوسف الحلبي (1) طبع بمطبعة محمد علي صبيح و أولاده بميدان الأزهر بمصر (د. ت) مع متن الجزرية.
(2) سماه حاجي خليفة (كشف الظنون 2/ 1799) (العقود السنية) و منه نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد رقمها (2402).
(3) طبع بمطبعة محمد علي صبيح و أولاده بميدان الأزهر بمصر سنة 1375 ه 1956 م مع متن الجزرية.
(4) منها حاشية زين العابدين بن محيي الدين الأنصاري (ت 1068 ه) (انظر البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 542) و حاشية أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملّسي القاهري (ت 1087 ه) و منها نسخة مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون رقمها (623). و حاشية أبي السعود أحمد بن عمر الأسقاطي (ت 1159 ه) و منها نسخة في مكتبة (رضا) برامبور بالهند رقمها (318). و حاشية أبي النصر عبد الرحمن النحراوي، و منها نسخة في مكتبة المسجد الأحمدي بطنطا رقمها (خ 11 د 1397) و أخري في جامعة برنستون رقمها (634).
(5) منه نسخة في مكتبة (رضا) برامبور رقمها (335).
(6) حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1799.
(7) منه نسخة في مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب رقمها (621/ 3) و ثلاث نسخ أخري في مكتبة المتحف العراقي ببغداد، أرقامها (2808- 17403- 29806)، و نسخة في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقمها (1 عبد اللّه مخلص).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 37
(ت 971 ه) «1».
ك- المنح الفكرية علي متن الجزرية- لعلي بن سلطان محمد القاري (ت 1014 ه)، و هو مطبوع «2».
ل- الجواهر المضيّة علي المقدمة الجزرية- لأبي الفتوح سيف الدين بن عطاء اللّه الوفائي البصير (ت 1020 ه) «3».
م- شرح الجزرية- لعمر بن إبراهيم المسعدي (كان حيا سنة 999 ه) «4».
ن- الدرة المنظمة البهية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية- لمنصور بن عيسي بن غازي الأنصاري السمنودي (كان حيا سنة 1084 ه) «5».
34- أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن داود الدمشقي المعروف بابن النجار (ت 870 ه) «6»: (1) منه نسخة في المكتبة الوطنية بباريس رقمها (4531) و أخري في مكتبة جامعة الرياض رقمها (2416).
(2) طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1322 ه.
(3) منه نسخة في مكتبة الأوقاف العامة رقمها (2402/ 2) و قد فات واضع فهرس مخطوطات المكتبة ذكر هذه النسخة. و اعتبر المخطوطة المرقمة 2402 كتابا واحدا هو: اللئالئ السنية للقسطلاني. و الواقع أن المخطوط المذكور مجموع يضم كتاب (اللئالئ)، و كتاب (الجواهر) (انظر عبد اللّه الجبوري: فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد 1/ 34) و من كتاب (الجواهر المضية) نسخة أخري في مكتبة عاشر أفندي رقمها (8).
(4) نقل منه ملا حسين بن اسكندر الحنفي (ت في حدود 1084 ه) في كتابه (لباب التجويد) (انظر: 1 ظ- 6 ظ- 17 و). و في الظاهرية جاءت باسم (الفوائد المسعدية) الرقم 3966. و أنه ألفها سنة 999 ه.
(5) كحالة: معجم المؤلفين 13/ 18. و إلي جانب ما ذكرناه توجد في دار الكتب الوطنية بتونس (رقم 287): الدرة المنظمة في شرح المقدمة لأحمد بن يحيي السوسي (؟). و في المكتبة الوطنية بباريس (رقم 4804 و 606): ضياء المعنوي علي المقدمة الجزرية لمحمد ضياء أبي البقاء (؟). و قد ذكر حاجي خليفة (كشف الظنون) (2/ 1800): أن الشيخ محمد بن عمر المعروف بقورد أفندي شرحها بالتركية. و أن محمد بن أحمد الشهير بصوفي‌زاده (ت 1024 ه) ترجمها إلي التركية، و لا يصح ما نسبه البغدادي في إيضاح المكنون (2/ 543) و نقله كحالة في معجم المؤلفين (11/ 116) إلي محمد بن أبي الفتح البعلي (ت 709 ه) أنه شرح المقدمة، لأنه توفي قبل أن يولد ابن الجزري بأكثر من أربعين عاما! و في الظاهرية شرح المقدمة لعلاء الدين الطرابلسي (ت 1032 ه) رقمها 334.
(6) هناك كتاب (موجز في التجويد) ليوسف بن علي بن محمد الحلالي (؟) في مجموع تحتفظ به مكتبة جستربتي برقم (3653/ 11) و لم نجد ترجمة للمؤلف، كما أن الكتاب لم يؤرخ، فرأيت أن أشير إليه
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 38
غاية المراد في إخراج الضاد «1»- مخطوط «2».
و هناك عدد من الكتب المؤلفة بعد عصر ابن النجار عالجت الموضوع نفسه منها:
أ- بغية المرتاد لتصحيح الضاد- لعلي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004 ه) و هو مخطوط «3».
ب- رسالة في كيفية النطق بالضاد- لعلي بن سليمان المنصوري (ت 1134 ه)- مخطوط «4».
ج- رد الإلحاد في النطق بالضاد- لعلي بن سليمان المنصوري السابق (ت 1134 ه)- مخطوط «5».
د- رسالة في كيفية أداء الضاد- لمحمد المرعشي الملقب ساج‌قلي‌زاده (ت 1150 ه)- مخطوط «6».
ه- السيف المسلول علي من ينكر المنقول في حق أداء الضاد- لأبي بكر بن محمد البروسي (ت 1187 ه)- مخطوط «7».
و- رسالة في الرد علي المرعشي في الضاد- لمحمد بن إسماعيل الإزميري- مخطوط «8».
و تحتفظ مكتبة الغازي (خسرو) في مدينة (سراييفو) بيوغسلافيا بمجموع مخطوط رقمه (2626) يضم ثلاث عشرة رسالة في علم التجويد، إحدي عشرة منها في موضوع نطق الضاد، في الهامش الآن، مع احتمال أن يكون تاريخ كتابته هو نفس تاريخ الرسائل الأخري في المجموع و هو سنة 859 ه.
(1) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1193.
(2) دار الكتب الشعبية كيريل و ميتودي بصوفيا رقم (مج 1633).
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (11068/ 7) و الأوقاف بالموصل (13/ 19 مخطوطات جامع النبي شيت).
(4) مكتبة الغازي خسرو بسراييفو بيوغسلافيا رقم (2626/ 8).
(5) مكتبة الغازي خسرو رقم (2626/ 10). و انظر: البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 552.
(6) مكتبة المتحف ببغداد رقم (11068/ 6).
(7) مكتبة الغازي خسرو رقم (2626/ 1).
(8) الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية رقم (231).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 39
بضمنها الرسائل السابقة عدا (غاية المراد). و ليس متيسرا الآن الحديث عن الرسائل الأخري التي يضمها المجموع، لأن ذلك يحتاج إلي الاطلاع علي المخطوط نفسه، لغموض المعلومات التي يقدمها فهرس المكتبة، لا سيما أن أكثر تلك المعلومات مكتوب بغير العربية «1».
35- الحسن بن شجاع بن محمد بن الحسن التوني (عاش قبل سنة 878 ه) «2».
المفيد في علم التجويد- مخطوط «3».
36- محمد بن أحمد بن مفلح (كان حيا سنة 882 ه).
غنية المريد لمعرفة الإتقان و التجويد- فرغ من تأليفه سنة 882 ه- مخطوط «4».
37- أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885 ه):
القول المفيد في أصول التجويد- مخطوط «5».
38- أحمد بن عبد اللطيف البركوي (من رجال القرن العاشر):
الدر النضيد في المسائل المتعلقة بالتجويد- مخطوط «6».
39- شهاب الدين أحمد بن أحمد بن الطيبي (ت 979 ه):
المفيد في علم التجويد، أرجوزة- مخطوط «7».
40- محمد بن بير علي البركوي (ت 981 ه): (1) انظر: قاسم دوبراجا: فهرس المخطوطات العربية و التركية و الفارسية في مكتبة الغازي خسرو 1/ 98.
(2) لم أقف علي ترجمة للمؤلف و لا تاريخ وفاته، و استفدت التاريخ المذكور من نسخة مخطوطة من كتاب (المفيد) مكتوبة في شوال سنة 878 ه في مكتبة جامعة طهران رقم (141).
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (24083/ 3). و مكتبة الحرم المكي (43 دهلوي).
(4) مكتبة الجامع الأزهر بالقاهرة رقم (1393) 53035.
(5) الخزانة العامة للكتب بالرباط رقم 634 (د 503).
(6) مكتبة الجامع الأزهر رقم (305) 22312. و دار الكتب المصرية (24343 ب). و قد اطلعت بعد كتابة هذا البحث علي مخطوط كتاب (الجامع المفيد في صناعة التجويد) لجعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894 ه) و هو في مكتبة برلين برقم 1307.
(7) مكتبة (رضا) برامبور رقم (295)، و جستربتي رقم 4432/ 5). و قال حاجي خليفة (كشف الظنون 2/ 1777): «و شرحه بعضهم و سماه: نزهة المريد في حل ألفاظ المفيد».
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 40
الدر اليتيم في علم التجويد- مخطوط «1».
و قام الشيخ أحمد فائز الرومي؟؟؟ بشرحه شرحا ممزوجا- و هو مخطوط «2».
41- محمد بن بدر الدين بن عبد القادر الشهير بابن بلبان الحنبلي (ت 1083 ه):
بغية المستفيد في علم التجويد- مخطوط «3».
42- منصور بن عيسي بن غازي الأنصاري السمنودي (كان حيا سنة 1084 ه):
أ- تحفة الطالبين في تجويد كتاب رب العالمين- مخطوط «4».
ب- الدرة المنظمة البهية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية- و قد سبق ذكرها (رقم 33).
43- ملا حسين بن إسكندر الرومي الحنفي (ت في حدود 1084 ه):
أ- مختصر في التجويد.
ب- لباب التجويد للقرآن المجيد. و هو شرح المختصر السابق.
ج- بيان المشكلات علي المبتدئين من جهة التجويد «5». و الكتب الثلاثة مخطوطة «6».
44- محمد بن القاسم بن إسماعيل البقري (ت 1111 ه):
أ- غنية الطالبين و منية الراغبين- مخطوط «7».
ب- العمدة السّنيّة في أحكام النون الساكنة و التنوين- سبق ذكرها (رقم 31). (1) دار الكتب المصرية رقم (23047 ب).
(2) مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب بجامعة بغداد رقم (610). و انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 737.
(3) مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (5437/ 11 مجاميع).
(4) مكتبة الأوقاف بالموصل (3/ 19 مخطوطات جامع النبي شيت).
(5) انظر: البغدادي: هدية العارفين 1/ 323.
(6) مكتبة المتحف ببغداد: لباب التجويد رقم (10104/ 2) و هناك ثماني نسخ مخطوطة من (بيان المشكلات) و لكنها خالية من اسم المؤلف. و في مكتبة الأوقاف بالموصل نسخة من (بيان المشكلات) منسوبة إلي ملا حسين (انظر فهرس مخطوطات المكتبة 6/ 151) و توجد في بانكي نور في الهند الكتب الثلاثة مخطوطة و منسوبة إليه، أرقامها 97- 165- 166.
(7) مكتبة المتحف ببغداد رقمها (12975). و في المكتبة نفسها رسالة رقمها (10104) بعنوان (نهاية المبتدي و تذكرة المنتهي) لمحمد بن علي المرشدي، يبدو أنها تلخيص لغنية الطالبين للبقري، كما اتضح لي من الموازنة بين عبارات الكتابين.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 41
45- أبو الحسن علي بن محمد بن سليم النوري الصفاقسي (ت 1118 ه):
تنبيه الغافلين و إرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب اللّه المبين- مطبوع «1».
46- محمد بن عمر بن عبد القادر الكفيري الدمشقي (ت 1130 ه):
بغية المستفيد في أحكام التجويد «2».
47- عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي (ت 1143 ه):
كفاية المستفيد في علم التجويد- مخطوط «3».
48- محمد بن أبي بكر المرعشي، المعروف بساجقلي‌زاده (ت 1150 ه):
أ- جهد المقل (في علم التجويد).
ب- بيان جهد المقل (شرح و حاشية علي جهد المقل).
ج- رسالة في كيفية أداء الضاد.
د- رسالة في مخارج الحروف.
ه- رسالة في التغني و اللحن «4».
49- حسن بن إسماعيل بن عبد اللّه الدركزلي الموصلي (ت 1327 ه) «5»: (1) طبع في المطبعة الرسمية بتونس سنة 1974 م بتقديم و تصحيح محمد الشاذلي النيفر.
(2) البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 190 و هدية العارفين 2/ 314.
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (10895).
(4) في الخزانة التيمورية مجموع مخطوط (رقم 173) يضم الكتب الخمسة. و في مكتبة المتحف ببغداد مخطوط برقم (11068) يضم الكتب الثلاثة الأولي. و كان الكتابان الأولان قد طبعا في الأستانة سنة 1288 ه كما طبعا في الهند طبعة قديمة.
(5) ليس له ترجمة في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة. و قد أخذت تاريخ وفاته عن فهرس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (2/ 251). و قد جاء في آخر كتاب (خلاصة العجالة): «و كان الفراغ منه يوم السبت يوم الثلاثين من شهر ذي القعدة ... سنة ألف و مائتين و ست و ستين من الهجرة».
و هذا بعني أن المؤلف عاش بعد تأليفه الكتاب أكثر من ستين سنة. و في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل شرح للقصيدة اليائية للشيخ عبد القادر الجيلاني، شرحها سنة 1272 ه. (انظر: فهرس مخطوطات المكتبة 7/ 127). و كل ما يمكن قوله هنا الآن أن الدركزلي عمر عمرا طويلا.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 42
خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة- مخطوط «1».
و هذا الكتاب شرح لرسالة مختصرة في علم التجويد، و قد ذكر الدركزلي أنه لخص هذا الشرح من شرحه المسمي (العجالة)، بعد أن استطاله «2».
و هذا الكتاب أكبر كتب علم التجويد التي اطلعت عليها حجما، علي الرغم من قول المؤلف أنه اختصره من أصل له أكبر منه، إذ بلغت أوراقه (217) ورقة.
و هناك غموض كبير يحيط بمؤلف الرسالة المختصرة التي شرحها الدركزلي، فقد جاء في أول هذا الشرح أنها لموفق الدين أبي عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن محمد الرحبي، و إذا كان قد حصل تصحيف في اسم (عبد اللّه) و أن الصواب (محمد بن علي بن محمد) فهو الرحبي صاحب الأرجوزة المسماة (بغية الباحث في جمل الموارث) المشهورة بالرحبية، المتوفي سنة 577 ه «3». و يبدو أن الدركزلي قد عناه. فقد ذكر في آخر الكتاب المصادر التي اعتمد عليها، و قال: «هذا تنبيه وضع لبيان أسماء الكتب التي نقل منها ما له تعرض بلفظ الرسالة الرحبية في التجويد» «4» و ذكر مائة و ستة من أسماء تلك الكتب، و ذكر من بينها (شرح السلامي «5» علي منظومة المؤلف الشهيرة بالرحبية في الفرائض).
و يعارض نسبة هذه الرسالة إلي الرحبي أن مؤلفها ينقل عن الشاطبي (ت 590 ه) و ابن الجزري (ت 833 ه) «6». و هناك عدد من نسخ هذه الرسالة في مكتبة المتحف ببغداد كلها مجهولة المؤلف «7» إلا اثنتين ذكر فيهما اسم المؤلف. و لكنه عالم آخر غير الرحبي. فقد جاء في الأولي «8»: «و هذه الرسالة في علم التجويد من تأليف العلامة فريد دهره و وحيد عصره (1) مكتبة المتحف ببغداد رقم (23513).
(2) خلاصة العجالة ورقة 1 ظ- 2 و.
(3) انظر: كحالة: معجم المؤلفين 11/ 47.
(4) خلاصة العجالة ورقة 216 ظ.
(5) لعله محمد بن إبراهيم بن محمد السلامي المتوفي سنة 879 ه (كحالة: معجم المؤلفين 8/ 217).
و شرحه يعرف باسم: الأنوار الإلهية في شرح فرائض الرحبية (البغدادي: هدية العارفين 2/ 208).
(6) انظر: الرسالة في علم التجويد (مكتبة المتحف ببغداد الرقم 16290/ 4). ورقة 13 ظ، 15 ظ.
(7) أرقامها: 12686- 15250- 3428- 10601- 5295- 5328- 6887- 2020- 23142- 24186- 27193- 27134- 3331- 22505- 8353- 23864- 25109- 24900- 15569- 15914- 16878.
(8) رقمها (16290).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 43
محمد جلبي الشهير بحكيم زاده» و جاء في الثانية «الشهير بالحكيم» «1» فقط. و لعله محمد جلبي بن علي بن علي الرومي المتوفي سنة 1040 ه، المذكور في (هدية العارفين) للبغدادي «2».
تلك هي أشهر كتب علم التجويد المؤلفة منذ القرن الرابع الهجري، حتي أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، و قد أهملت ذكر الرسائل التي كتبت بعد ذلك، لأنها إما ملخصة عن الرسائل المتأخرة في علم التجويد، أو أن مؤلفيها تأثروا أو نقلوا من كتب (علم الأصوات اللغوية) المؤلفة حديثا، مما يجعلها خارج ميدان البحث، و إن كانت في ذاتها قيمة نافعة «3». (1) رقمها (26474).
(2) هدية العارفين 2/ 276.
(3) و أذكر هنا أشهر تلك الكتب مما اطلعت عليه أو عرفت اسمه:
1- إرشاد الإخوان شرح منظومة هداية الصبيان- محمد بن علي بن خلف الحسيني الحداد، القاهرة 1320.
2- أصوات القرآن: كيف نتعلمها و نعلمها- يوسف الخليفة أبو بكر، الخرطوم 1392 ه 1973 م.
3- البرهان في تجويد القرآن- محمد الصادق قمحاوي، القاهرة (د. ت).
4- التجويد الواضح- أحمد فروخي، الجزائر 1972.
5- التجويد و آداب التلاوة- داود العطار، بغداد 1393 ه 1973 م.
6- التجويد و الأصوات- د. إبراهيم محمد نجا، القاهرة (د. ت).
7- حق التلاوة: حسني شيخ عثمان، ط 2 مؤسسة الرسالة 1397 ه 1977 م.
8- خلاصة في علم التجويد- الحاج محمد عواد حمودي العاني، بغداد 1979 م.
9- الرائد في تجويد القرآن- محمد سالم محيسن، القاهرة 1395 ه 1975 م.
10- رسالة في قواعد التلاوة- كمال الدين الطائي، ط 2، بغداد 1394 ه 1973 م.
11- عمدة المفيد و عدة المجيد في أصول التجويد- عبد المجيد الخطيب، الموصل 1977 م.
12- فتح الأقفال بشرح متن تحفة الأطفال- سليمان الجمزوري، طبعة الحلبي، القاهرة 1364 ه 1945 م.
13- فن الترتيل- عبد اللّه توفيق الصباغ، دمشق 1965 م.
14- قواعد التلاوة و علم التجويد- فرج توفيق الوليد.
15- كفاية الراغبين في تجويد القرآن المبين- محيي الدين عبد القادر الخطيب، ط 1 بغداد 1957 م.
16- ملخص العقد الفريد في فن التجويد- علي أحمد صبره، القاهرة 1331 ه 1913 م.
17- نظرات في علم التجويد- إدريس الكلاك، بغداد 1401 ه 1981 م.
18- نهاية القول المفيد في علم التجويد- محمد مكي نصر، القاهرة 1323 ه.
19- هداية المستفيد في أحكام التجويد- محمد محمود المشهور بأبي ريمة حلب (د. ت).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 44
إن مجموع ما ورد في هذه القائمة من أسماء كتب علم التجويد يتجاوز مائة كتاب، و لا أزعم أن ما اطلعت عليه هو كل ما كتب في هذا العلم، فلا أكاد أشك في أن تتبع فهارس المخطوطات التي لم يتيسر لي الاطلاع عليها، و كذلك كتب الفهارس و التراجم، يمكن أن يكشف عن أسماء كتب أخري في علم التجويد، كما يبدو لي أن عددا من تلك الكتب قد طواه النسيان فلا هو مخطوط و لا هو مذكور في الكتب.
و يمكن أن نميز في ذلك العدد الكبير من كتب علم التجويد اتجاهين في التأليف، هما:
الاتجاه العام الذي يعالج جميع الموضوعات المتصلة بعلم التجويد، و هو الاتجاه الغالب في التأليف. الاتجاه الخاص الذي يعالج موضوعا واحدا، فيتعمق في دراسته و يستفيض في شرحه بشكل أكثر مما نجده في المؤلفات العامة. و من أمثلة هذا الاتجاه الخاص في التأليف الكتب المؤلفة في أحكام النون الساكنة و التنوين (انظر رقم 31 في قائمة الكتب) و كذلك الكتب المؤلفة لمعالجة موضوع الضاد (انظر رقم 34). و يمكن أن ندرج في هذا الاتجاه الكتب المؤلفة في تجويد الفاتحة (انظر رقم 22 و 25 و 29).
*****
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 45

المبحث الثالث الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد

إن توجه علماء قراءة القرآن إلي دراسة الأصوات اللغوية و انتظام هذه الدراسة في علم مستقل هو علم التجويد لا بد أن يكون مستندا إلي فكرة معينة فما تلك الفكرة؟.
سوف نمهد لبيان هذه القضية بالبحث في دوافع الدراسة الصوتية عند علماء العربية، الذين سبقوا علماء التجويد في دراسة الموضوع بأكثر من قرن و نصف من الزمان، لكي نبين هل كانت وجهة علماء التجويد في هذا الموضوع امتدادا لوجهة علماء العربية فيه، أو كانت لهم فكرة خاصة يستندون إليها في معالجته؟.
كان علماء العربية من النحاة و اللغويين قد سبقوا علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية، و كان دراستهم لها تتناسب مع حاجة الموضوعات التي كانوا يعالجونها، فالذي يقرأ مقدمة معجم (العين) للخليل بن أحمد، و هي الجزء الذي لا يختلف اللغويون حول صحة نسبته إلي الخليل، كما قال الأزهري قديما «1»- يجد أن دراسة الخليل للأصوات كانت لأغراض تتعلق بالمعجم و تنظيمه و بالكلمات و أبنيتها، فانشغاله بترتيب الحروف في أول المعجم، و تقديمه طريقة لاختبار مخارجها كان لتوضيح منهجه الذي سار عليه في الكتاب «2».
و كذلك كلامه عن الحروف الذلقية كان مرتبطا بأبنية الكلمات الرباعية و الخماسية «3». و مثل ذلك كلامه عن تقسيم الحروف إلي صحاح و معتلّة كان مرتبطا بتوزيع الكلمات في أبواب المعجم، فإنه كان يؤخر المعتل و يقدم الصحيح من الأبنية «4». و بالجملة كانت دراسة الخليل للأصوات ترتبط بمنهجه في بناء (العين) الذي اختار له طريقة تعتمد في جوهرها علي أسس (1) تهذيب اللغة 1/ 41.
(2) العين 1/ 47- 48.
(3) العين 1/ 51- 52.
(4) العين 1/ 57.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 46
صوتية محضة.
أما دراسة سيبويه للأصوات في (الكتاب) فكانت ترتبط بموضوع الإدغام، فقد قال:
بعد أن ذكر عدد حروف العربية و بيّن مخارجها و صفاتها: «و إنما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام و ما يجوز فيه، و ما لا يحسن فيه ذلك و لا يجوز فيه، و ما تبدله استثقالا كما تدغم، و ما تخفيه و هو بزنة المتحرك» «1». و ردد المبرد و ابن يعيش ما قاله سيبويه حين درسا موضوع الأصوات العربية «2». و قال ابن جني في مقدمة كتابه (سر صناعة الإعراب) و هو يبين خطته في الكتاب: «و أذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها و مدارجها و انقسام أصنافها، و أحكام مجهورها و مهموسها و شديدها و رخوها ... ثم أفرد، فيما بعد، لكل حرف منها بابا اغترق فيه ذكر أحواله و تصرفه في الكلام، من أصليته و زيادته، و صحته و علته، و قلبه إلي غيره، و قلب غيره إليه» «3». و كان ما ذكره ابن جني في هذه الأبواب المفردة التي تغلب عليها الدراسة الصرفية أضعاف ما ذكره في دراسة الأصوات في مقدمة الكتاب.
كانت دراسة الأصوات عند علماء العربية إذن ترتبط بأغراض معينة في الموضوعات التي كانوا يبحثونها، و لم تكن تتبع نظرة شاملة مستقلة تهدف إلي بيان النظام الصوتي للغة العربية و ما يخضع له ذلك النظام من الاعتبارات الصوتية في الكلام المنطوق. و ليس هذا الكلام من باب النقد أو الطعن علي جهود علماء العربية، و إنما هو من باب تقرير الحقائق لنحدد بالموازنة اتجاهات علماء التجويد في دراسة الأصوات. علي أننا نلاحظ أن اتجاها جديدا برز لدي بعض النحاة المتأخرين، و إن ظلت دراسة الأصوات تسير عندهم في نفس الإطار، ذلك الاتجاه مو أنهم جعلوا من أسباب البحث في الأصوات أن ينطق غير العربي بالأصوات العربية مثل ما ينطق العربي، و هو اتجاه تعليمي محض لا أستبعد تأثرهم فيه بجهود علماء التجويد.
و يبدو أن أبا حيان الأندلسي (أثير الدين محمد بن يوسف ت 745 ه) هو أول من ذهب هذا المذهب الجديد في تحديد غاية الدراسة الصوتية عند النحاة، و لم نطلع علي كلامه بصورة مباشرة، و لكن عن طريق من نقلوا كلامه من تلامذته و غيرهم. و قد وجدت المقدسي (علي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم ت 1004 ه) يقول في كتابه (بغية المرتاد لتصحيح (1) الكتاب 4/ 436.
(2) انظر: المقتضب 1/ 196، و شرح المفصل 10/ 122، و انظر: الزجاجي: الجمل ص 375.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 3- 4.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 47
الضاد): «قال الأستاذ أبو حيان في شرح التسهيل: إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين: إحداهما لأجل الإدغام. ثم قال: و الفائدة الثانية و هي الأولي في الحقيقة بيان الحروف العربية حتي ينطق من ليس بعربي بمثل ما ينطق به العربي، فهو كبيان رفع الفاعل و نصب المفعول، فكما أن نصب الفاعل و رفع المفعول لحن، كذلك النطق بحروفها مخالفة مخارجها لما روي من العرب في النطق بها لحن» «1».
و كان قد نقل كلام أبي حيان تلميذه الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) في كتابه (شرح التسهيل) «2». دون أن يصرح باسمه، و فعل السيوطي مثله في (همع الهوامع) «3».
و ينبغي أن أشير هنا إلي أن أبا حيان الأندلسي لم يكن نحويا كبيرا فحسب و إنما كان أيضا عالما كبيرا من علماء القراءات و التجويد، و قد وصفه ابن الجزري في كتابه (النشر) بأنه (شيخ التجويد) «4» و إنه (أستاذ العربية و القراءات) «5» و قال عنه في كتابه (غاية النهاية): (شيخ العربية و الآداب و القراءات) «6»، و من ثم فإني لا أستبعد أن يكون هذا الاتجاه الجديد عند أبي حيان متأت من تأثره بعلم التجويد الذي كان ينحو هذا المنحي في دراسة الأصوات العربية لا سيما أن أبا حيان كان قد عكف علي دراسة علم التجويد دراسة عميقة علي يد شيخه ابن الناظر (ت 679 ه) و أخذ عنه مؤلفه في التجويد، قال ابن الجزري و هو يترجم لابن الناظر: «و ألف كتابا كبيرا حسنا في التجويد، سماه الترشيد، قال أبو حيان: رحلت إليه قصدا من غرناطة لأجل الإتقان و التجويد ... قلت (ابن الجزري): و قرأ عليه أيضا كتابه الترشيد و هو الذي أدخله القاهرة» «7».
أما علماء التجويد فإن دراستهم للأصوات كانت ترتبط بشكل أساسي بمعالجة ما سموه باللحن الخفي، فقد قسّموا اللحن إلي قسمين هما: اللحن الجلي، و هو الخطأ الظاهر في الحركات خاصة، و قالوا: بأنه ميدان عمل النحاة و الصرفيين. و اللحن الخفي و هو الخلل (1) بغية المرتاد لتصحيح الضاد ورقة 6 و- 6 ظ.
(2) المرادي: شرح التسهيل 304 ظ.
(3) همع الهوامع 6/ 296- 297.
(4) النشر 1/ 210.
(5) النشر 1/ 216.
(6) غاية النهاية 2/ 285.
(7) غاية النهاية 1/ 242.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 48
الذي يطرأ علي الأصوات من جراء عدم توفيتها حقوقها من المخارج أو الصفات أو ما يطرأ لها من الأحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق، و قالوا بأن هذا هو ميدان عمل علماء التجويد، و هو يستلزم في نظرهم دراسة ثلاثة أمور: مخارج الحروف، و صفاتها، و أحكامها التركيبية.
و هذه هي عناصر علم التجويد الأساسية.
و كان ابن مجاهد (ت 324 ه) هو صاحب فكرة تقسيم اللحن إلي جلي و خفي، فقد قال الداني: «حدثني الحسين بن شاكر السمسار، قال: حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت ابن مجاهد يقول: اللحن في القرآن لحنان: جلي و خفي، فالجلي لحن الإعراب، و الخفي ترك إعطاء الحرف حقه من تجويد لفظه»، و في بعض المصادر «ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها» «1».
و قد تضمن كتاب (السبعة في القراءات) معني الرواية السابقة، التي قد تكون في أحد كتب ابن مجاهد المفقودة أو أن تلميذه أحمد بن نصر الشذائي تلقفها عن أستاذه مشافهة، فقد قال ابن مجاهد في كتاب السبعة: «كذلك ما روي منن الآثار في حروف القرآن، منها المعرب السائر الواضح، و منها المعرب الواضح غير السائر، و منها اللغة الشاذة القليلة، و منها الضعيف المعني في الإعراب غير أنه قد قرئ به. و منها ما توهّم فيه فغلط به- فهو لحن غير جائز- عند من لا يبصر من العربية إلا اليسير. و منها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير» «2». فابن مجاهد إذن هو مؤسس فكرة تقسيم اللحن إلي جلي و خفي «3».
و كانت هذه الفكرة في تقسيم اللحن قد عرفت في أعمال علماء التجويد منذ مراحله (1) التحديد 22 ظ، و انظر: شرح قصيدة أبي مزاحم للداني أيضا ورقة 135 ظ، و أحمد بن أبي عمر:
الإيضاح 57 ظ، و المرادي: المفيد 101 و، شرح الواضحة له ص 31.
(2) كتاب السبعة ص 49.
(3) يبدو لي أن ما ورد في كتاب (إبراز المعاني) لأبي شامة المقدسي من إسناد هذا التقسيم إلي مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 ه) غير صحيح، قال أبو شامة (صفحة 1 من باب مخارج الحروف): «قال مكي: اللحن لحنان جلي و خفي ...». و كذلك وردت هذه النسبة في كتاب (موجز في التجويد) ليوسف بن علي بن محمد الحلالي حيث قال (152 ظ): «قال أبو محمد مكي: اللحن لحنان ...».
فلم أجد لهذا القول أثرا في كتاب (الرعاية) لمكي، كما أني لم أجده يستخدم مصطلح (اللحن) في كتابه علي الإطلاق، و إذا احتاج إلي التعبير عن معناه استخدم كلمة (تصحيف) انظر الرعاية ص 199)، و هو استخدام يحتمل المناقشة، و لكنه يكشف لنا هنا عن أن مكيا لم يطلع علي فكرة اللحن الخفي عند ابن مجاهد، و لم يستخدمها، فكيف يمكن أن تنسب إليه؟.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 49
الأولي، و كانت مستندهم في بناء منهج كتبهم و طريقة معالجتهم للظواهر الصوتية. قال أبو مزاحم الخاقاني (ت 325 ه) و هو معاصر لابن مجاهد في قصيدته مشيرا إلي اللحن «1»:
فأوّل علم الذكر اتقان حفظه و معرفة باللحن فيه إذا يجري
فكن عارفا باللحن كيما تزيله فما للذي لا يعرف اللحن من عذر
و أشار إلي فكرة تقسيم اللحن أبو الحسن السعيدي (ت في حدود 410 ه) حتي إنه سمي كتابه (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي)، و قد قال في مقدمته: «ينبغي لقارئ كتاب اللّه عز و جل بعد معرفته باللحن الجلي أن يعرف اللحن الخفي لأن اللحن لحنان، لحن جلي و لحن خفي».
«فاللحن الجلي هو أن يرفع المنصوب و ينصب المرفوع أو يخفض المنصوب و المرفوع، و ما أشبه ذلك، فاللحن الجلي يعرفه المقرءون و النحويون و غيرهم ممن قد شم رائحة العلم».
«و اللحن الخفي لا يعرفه إلا المقرئ المتقن الضابط الذي قد تلقن من ألفاظ الأستاذين المؤدي عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه و لا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات و الضمات و الكسرات و الهمزات و تشديد المشددات، و تخفيف المخففات، و تسكين المسكنات، و تطنين النونات، و تفريط المدات و ترعيدها، و تغليظ الراءات و تكريرها، و تسمين اللامات و تشريبها الغنة، و تشديد الهمزات و تلكيزها ...» «2».
و تحدث الداني (ت 444 ه) عن موضوع اللحن الخفي في كتابيه (التحديد في الإتقان و التجويد) و (شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني) «3»، و الداني هو الذي نقل لنا الرواية التي تحكي لنا تقسيم ابن مجاهد للحن إلي جلي و خفي كما سبق قبل قليل، و إذا كنا نلاحظ أن الداني لم يطل الوقوف عند هذه القضية فإن عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه) قد جعلها أساس كتابه (الموضح في التجويد) و لهذا سنقف عنده هنا وقفة أطول مما وقفنا عند غيره. (1) انظر: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي- مجلة كلية الشريعة، العدد السادس سنة 1980 ص 351.
(2) كتاب التنبيه 45 ظ- 46 ظ. و قد طبق السعيدي فكرة اللحن الخفي في كتابه و هو يعالج صورا نطقية معينة فكان يقول (48 و): (و ذلك لحن غير جائز عند أهل التحقيق) أو يقول (50 ظ): (و هو لحن خفي) و انظر أيضا 51 و، 52 و.
(3) التحديد 22 ظ و شرح قصيدة أبي مزاحم 136 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 50
يتكوّن كتاب (الموضح) من ثلاثة أبواب رئيسية مع مقدمة تتكون من خمسة فصول قصيرة، و قد ذكر المؤلف في أول الكتاب السبب الذي دفعه إلي التأليف فقال: «و لما رأيت الناشئين من قرأة هذا الزمان و كثيرا من منتهيهم قد أغفلوا إصلاح ألفاظهم من شوائب اللحن الخفي، و أهملوا تصفيتها من كدره و تخليصها من درنه، حتي مرنت علي الفساد ألسنتهم، و ارتاضت عليه طباعهم، و صار لهم عادة، بل تمكن منهم تمكن الغريزة ... رأيت لفرط الحاجة إلي ذلك و عظم الغناء به أن أقتضب مقالا يهز عطف الفاتر، و يضمن غرض الماهر، و يسعف أمل الراغب، و يؤنس وسادة العالم» «1».
ثم بين المنهج الذي سوف يسير عليه فقال: «أذكر معني اللحن في موضوع اللغة و حدّه، و حقيقته في العرف و المواضعة، و السبب الذي من أجله علق بالألسنة و فشا في كلام العرب، و أبين ما المقصود بالتنبيه عليه، و المراد من الإعلان بالتحذير منه، و ما الفائدة الحاصلة بذلك و الثمرة المجتناة عنه، ثم أشفع ذلك بالكلام عليه من جهة التفصيل و التقسيم، و أبعث علي تجويد القراءة بذكر ما يستقبح منها و يستحسن و يختار منها و يستهجن، بقدر الطاقة و منتهي الوسع و الإمكان» «2».
أما الفصول الخمسة التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي في المقدمة فهذه عناوينها:
1- فصل: في بيان معني اللحن في موضوع اللغة.
2- فصل: في اللحن و حقيقته في العرف و المواضعة و ذكر السبب الموجب لانتشاره و استمراره.
3- فصل: في بيان المراد بالتنبيه علي اللحن الخفي و المقصود بالحض علي اجتناب الألفاظ المستهجنة.
4- فصل: فيما يستفاد بتهذيب الألفاظ و ما ذا تكون الثمرة الحاصلة عند تثقيف اللسان.
5- فصل: في الكلام علي اللحن الخفي و الألفاظ المستكرهة من جهة التفصيل و علي وجه التقسيم.
و قد قال عبد الوهاب القرطبي في أول الفصل الخامس: «قد بينا أن اللحن الخفي خلل يطرأ علي الألفاظ، و إذ قد وضح ذلك فبنا حاجة إلي تبين حقيقة ما تتركب منه الألفاظ بالحد، (1) الموضح 144 و.
(2) الموضح 144 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 51
و إيضاحه بالقسمة و الحصر، ليكون الخلل الطارئ عليها منقسما بانقسامها، مستوعبا باستيعابها. فنقول: الألفاظ بأسرها إنما تتركب من حروف و حركات و سكون، و هذه الأشياء الثلاثة لكل منطوق به كالمادة، عنها يأتلف، و منها ينشأ ...» «1».
ثم مضي يتحدث عن كيفية إنتاج الحروف و الحركات حتي قال: «و إذ قد وضح ما ذكرناه و بانت حقيقة الحروف و الحركات و السكون وجب من أجل ذلك أن تكون قسمة ما نحن بصدده علي وفقه و بمقتضاه و حسبه، فنجعل الكلام عليه من ثلاثة أوجه، نودع كل وجه منها بابا نتقصي فيه ذكر ما نضمنه إياه، و نستوعب إيراد ما به.
فنستوفي في الباب الأول الكلام علي بسيط الحروف، فنحقق مخارجها و ما يتبع ذلك من أحكامها، و ننبه علي ما يطرأ عليها من الخلل المستكره فيها.
و في الباب الثاني الكلام علي ما يلزم هذه الحروف عند الائتلاف و ما يحدث فيها لذلك، مما يكره و يختار.
و في الباب الثالث الكلام علي الحركات و السكون، و ما الواجب معرفته من ذلك «2».
و نضيف إلي ذلك أن المؤلف ختم الكتاب بفصل (في ذكر كيفية القراءة، و بيان ما يستقبح منها و يستحسن و يختار منها و يستهجن». تحدث فيه إلي جانب كيفيات القراءة عن عيوب النطق.
و لعل ما ذكرته هنا عن كتاب (الموضح في التجويد) لعبد الوهاب القرطبي كاف في توضيح أثر نظرية اللحن الخفي علي منهج المؤلف في تبويب الكتاب، و (الموضح) بعد ذلك جدير بوقفة أطول، فهو متميز في كثير من نواحي الدراسة الصوتية، و أرجو أن أتمكن خلال فصول هذا البحث من توضيح جانب من تلك النواحي بقدر ما يتيسر.
و إذا كنا نلاحظ أن عبد الوهاب القرطبي كان أكثر علماء التجويد عناية بفكرة اللحن الخفي و بيانها، و الاعتماد عليها في رسم منهج كتابه (الموضح)، فإن هذه الفكرة ظلت موضع عناية علماء التجويد من بعده حتي العصور المتأخرة، و سوف أذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح أنها كانت الأساس الذي تستند إليه دراسة الأصوات عند علماء التجويد، مع ملاحظة أن من بين ذلك العدد الكبير من مؤلفات التجويد لا يستبعد أن نجد من العلماء من يهمل (1) الموضح 149 ظ- 150 و
(2) الموضح 151 ظ- 152 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 52
الإشارة إلي هذه الفكرة و يكتفي بدراسة الأصوات و يعالج مشكلاتها و ظواهرها التركيبية.
فنجد أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) يكتب عدة أبواب عن التجويد في كتابه (الإيضاح في القراءات العشر و اختيار أبي عبيد و أبي حاتم) و كان لموضوع اللحن بها جزء واضح. و هذه عناوين تلك الأبواب:
الباب السادس و العشرون: في ذكر الحدر و الترتيل و غير ذلك مما يحتاج إليه القارئ (ورقة 65 ظ).
الباب السابع و العشرون: في ذكر اللحن الخفي و مقالات أرباب الصناعة في ذلك (68 ظ).
الباب الثامن و العشرون: في ذكر مخارج الحروف (72 و).
الباب التاسع و العشرون: في ذكر أجناس الحروف و أصنافها و صفاتها و ألقابها (73 و- 75 و).
و قد قال في مطلع الباب الخاص باللحن الخفي: «و اعلم أن اللحن الخفي لا يعرفه إلا النحارير الماهرون من القراء و الحذاق المحققون من العلماء بالقرآن، بلغنا عن أبي بكر أحمد ابن موسي بن العباس بن مجاهد- رحمه اللّه- أنه قال: اللحن في القرآن لحنان جلي و خفي، فالجلي لحن الإعراب، و الخفي ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها بلا زيادة فيها و لا نقصان» «1»، ثم مضي يتحدث في هذا الباب عن عشرات الصور النطقية التي تندرج تحت موضوع اللحن الخفي (68 ظ- 72 و).
و نجد أبا العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه) يتحدث عن الموضوع في الباب السابع من كتابه (التمهيد) الذي خصصه لبيان موضوع الإعراب، و يقسم اللحن الخفي علي قسمين، فمما قاله بعد أن تحدث عن حد الإعراب و أصله: «و إذ قد ثبت ما ذكرناه فاعلم أن اللحن لحنان جلي و خفي. فأما الجلي فهو الظاهر الذي يستوي في معرفته المبتدئ و المنتهي، و هو تصحيف الحروف و تغيير الحركات و السكون، و ما يجري مجراها. و قد سقنا في كراهة ذلك الأخبار و الآثار التي مرت.
و أما الخفي فهو الذي لا يقف علي حقيقته إلا نحارير القراء و مشاهير العلماء، و هو علي ضربين. (1) الإيضاح 68 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 53
أحدهما: لا تعرف كيفيته و لا تدرك حقيقته إلا بالمشافهة و بالأخذ من أفواه أولي الضبط و الدراية، و ذلك نحو مقادير المدات، و حدود الممالات، و الملطفات، و المشبعات و المختلسات، و الفرق بين النفي و الإثبات، و الخبر و الاستفهام، و الإظهار و الإدغام، و الحذف و الإتمام، و الروم و الإشمام، إلي ما سوي ذلك من الأسرار التي لا تتقيد بالخط، و اللطائف التي لا تؤخذ إلا من أهل الإتقان و الضبط» «1».
ثم تحدث عن الضرب الثاني و قال: «فأما الضرب الثاني من ضربي اللحن الخفي فإنه يتقيد بالخط و يدرك وصفه بالشكل و النقط، و يحتاج مبتغيه أولا إلي معرفة مخارج الحروف و مدارجها» «2». و يلاحظ هنا أن أبا العلاء أدرك في الضرب الأول من ضربي اللحن الخفي ظواهر نطقية دقيقة تندرج في باب التنغيم الصوتي للجملة المنطوقة، و ذلك مثل (الفرق بين الخفي و الإثبات، و الخبر و الاستفهام).
و تحدث الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) عن موضوع اللحن و تقسيمه إلي جلي و خفي في كتابيه (المفيد في شرح عمدة المجيد) و (شرح الواضحة) «3». و خصص ابن الجزري (ت 833 ه) الباب الرابع من كتابه (التمهيد في علم التجويد) لذكر معني اللحن و بيان أقسامه و الحض علي اجتنابه «4». و قد لخص فيه كلام عبد الوهاب القرطبي عن اللحن في مقدمة كتابه (الموضح في التجويد).
و تحدث محمد المرعشي (ت 1150 ه) في كتابه (جهد المقل) عن موضوع اللحن في الفصل الثاني من الفصول الخمسة التي تتألف منها مقدمة الكتاب، و حدد كلا من قسمي اللحن الجلي و الخفي تحديدا جيدا، و خلص في نهاية الفصل إلي أن اللحن بقسميه يتناول دراسته و معالجة ظواهره عدد من علوم العربية علي هذا النحو: «أقول فاللحن يعرف:
بعضه بالاطلاع علي علم التجويد، و هو الخطأ في المبني و الصفات.
و بعضه بالاطلاع علي علم اللغة، و هو الخطأ في حركات الأوائل و حركات الأواسط و سكناتها. (1) التمهيد 119 ظ- 120 و.
(2) التمهيد 141 و.
(3) المفيد 101 و، شرح الواضحة ص 31.
(4) التمهيد في علم التجويد ص 12- 14.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 54
و بعضه بالاطلاع علي علم النحو، و هو الخطأ في حركات الأواخر و سكناتها.
و بعضه بالاطلاع علي علم الصرف، و هو الخطأ في الإعلال مثل القلب و الحذف و النقل» «1».
و قول المرعشي في موضوع علم التجويد أنه (الخطأ في المبني و الصفات) يقصد بقوله (المبني) الحروف، فقد قال في بداية الفصل: «و المراد من المبني حروف الكلمة، و من الخطأ فيه تبديل حرف بحرف، كتبديل الطاء دالا، بترك إطباقها و استعلائها، أو تاء بتركهما و بإعطائها همسا» «2». و كأن المرعشي يريد أن يقول أن موضوع علم التجويد هو دراسة ما يتعلق بأصوات اللغة العربية، و معالجة ما يلحق تلك الأصوات من انحراف عند نطقها في كلام متصل.
و قد عالج حسن بن إسماعيل الدركزلي موضوع اللحن في خاتمة كتابه (خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة) الذي فرغ من تأليفه سنة 1266 ه، و هو آخر من عالج هذا الموضوع، و كتابه آخر كتب علم التجويد التي وقفنا عندها، و هو مع إفاضته في الكلام لم يأت بجديد في الموضوع «3».
و قد كانت لفكرة اللحن الخفي تأثيرها الكبير علي دراسة علماء التجويد، سواء أ كان ذلك في المنهج أم في التفصيلات، حتي إن تعريف (التجويد) كان انعكاسا لتلك الفكرة، فإذا كان اللحن الخفي هو (ترك إعطاء الحروف حقوقها) كان التجويد (إعطاء الحروف حقوقها) و يبدو لنا هذا المعني واضحا في قول أبي مزاحم الخاقاني في قصيدته «4»:
فذو الحذق معط للحروف حقوقها إذا رتّل القرآن أو كان ذا حدر
و في قول السعيدي: «و اللحن الخفي لا يعرفه إلا المقرئ الضابط الذي قد تلقن من ألفاظ الأستاذين المؤدي عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه و لا ناقص منه» «5».
و في قول مكي بن أبي طالب: «ليكون الوقوف علي معرفة ذلك عبرة في لطف قدرة اللّه (1) جهد المقل 3 و- 3 ظ.
(2) جهل المقل 3 و.
(3) خلاصة العجالة 195 ظ- 208 ظ.
(4) انظر بحث: علم التجويد نشأته و معالمه الأولي (مجلة كلية الشريعة العدد السادس 1980) ص 349.
(5) التنبيه 36 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 55
الكريم، و عونا لأهل تلاوة القرآن علي تجويد ألفاظه و إحكام النطق به، و إعطاء كل حرف حقه من صفته و إخراجه من مخرجه» «1».
و قول الداني: «فتجويد القرآن هو إعطاء الحروف حقوقها» «2».
و قول أبي العلاء الهمذاني العطار: «و تزيين القراءة هو إعطاء الحروف حقوقها» «3».
و قول علم الدين السخاوي: «لأن المراد بالتجويد إعطاء الحروف حقوقها، و إخراجها من مخارجها و اجتناب اللحن الخفي» «4».
و قول المرادي: «إن التجويد هو إعطاء كل حرف حقه من مخرجه و صفته» «5».
و قول ابن الجزري في المقدمة في تعريف التجويد «6»:
و هو إعطاء الحروف حقّها من صفة لها و مستحقّها
و قد شرح ابنه أبو بكر أحمد في (الحواشي المفهمة) هذا التعريف و بيّن الفرق بين حق الحرف و مستحقه، حيث قال: «و الفرق بين حق الحرف و مستحقه: أن حق الحرف صفته اللازمة له من همس و جهر و شدة و رخاوة و غير ذلك من الصفات الماضية، و مستحقه ما ينشأ عن هذه الصفات كترقيق المستفل و تفخيم المستعلي و نحو ذلك» «7». و قد ردد شراح المقدمة هذه الفكرة نقلا عن ابن الناظم أبي بكر أحمد و هم يشرحون قول ابن الجزري السابق «8». و يبدو لي أن أساس التفرقة يحتمل المناقشة، و لعل ابن الجزري لم يقصد من كلمة (مستحقها) سوي توكيد معني (حقها) و إقامة الوزن للنظم.
و يتضح مما سبق أن ملاحظة اللحن الخفي في قراءة القرآن و محاولة معالجتها و تصحيح النطق بها كانت السبب الذي يقف وراء الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، و أنهم درسوا (1) الرعاية ص 41.
(2) التحديد 2 و.
(3) التمهيد 11 ظ.
(4) جمال القراء 189 ظ.
(5) المفيد 100 ظ، و انظر شرح الواضحة (له) ص 29.
(6) انظر: ابن الجزري: متن الجزرية ص 15.
(7) الحواشي المفهمة 26 ظ.
(8) انظر مثلا: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 23 و. و خالد الأزهري: الحواشي الأزهرية ص 17. و القسطلاني: اللئالئ السنية 15 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 56
أصوات اللغة و حددوا صور نطقها الصحيحة، و رصدوا الانحرافات المتوقعة في نطقها مما سموه باللحن الخفي، ليحترز الناطق منها و يجتنبها، و قد تحققت لعلماء التجويد بذلك فرصة لدراسة أصوات العربية دراسة شاملة، لم تتحقق للنحاة الذين كانت تشغلهم دراسة الأصوات لمعالجة بعض القضايا الصرفية.
*****
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 57

المبحث الرابع منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية

اشارة

يتميز منهج علماء التجويد، أعني طريقتهم في دراسة الأصوات اللغوية، بأنه منهج شامل استغرق جميع المباحث المتعلقة بعلم الأصوات النطقي، و بأنه منهج صوتي خالص لم تختلط فيه الدراسة الصوتية بما عداها من الموضوعات.

أولا- منهج علماء التجويد منهج شامل:

أما كون منهج علماء التجويد شاملا للمباحث الصوتية فإن ذلك يتمثل بشكل واضح في قول الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) في كتابيه (المفيد في شرح عمدة المجيد) و (شرح الواضحة في تجويد الفاتحة) الذي لخص فيه منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات، و هو:
«إن تجويد القراءة يتوقف علي أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
و الثاني: معرفة صفاتها.
و الثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
و الرابع: رياضة اللسان بذلك و كثرة التكرار.
و أصل ذلك كله و أساسه تلقيه من أولي الإتقان، و أخذه عن العلماء بهذا الشأن، و إن انضاف إلي ذلك حسن الصوت و جودة الفك و ذرابة اللسان، و صحة الأسنان كان الكمال» «1».
و قد تضمن النص السابق إلي جانب الأمور الأربعة الإشارة إلي أمرين مهمين في تعليم (1) شرح الواضحة ص 30 من المطبوع، و لكون النسخة المطبوعة منشورة علي نسخة مخطوطة واحدة رجعت في توثيق النص إلي النسخة المخطوطة المحفوظة في مكتبة جستربتي تحت رقم (4741) و هي منسوبة في فهرس المكتبة إلي محمد بن علي بن طولون، و هي في الحقيقة للمرادي، و ابن طولون هو الناسخ. و انظر: المفيد 100 ظ- 101 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 58
الأصوات، و سلامة النطق، الأول: التلقي عن المعلم المتقن. و الثاني: السلامة من عيوب الكلام مع صحة أعضاء النطق.
و لم يكن المرادي أول من حدد هذا الإطار العام للدراسة الصوتية عند علماء التجويد، و لا آخر من تحدث عنه، و لكنه أول من حدده علي هذا النحو من الوضوح، فنجد الداني (ت 444 ه) يقول عن الأمرين الأولين: «اعلموا أن قطب التجويد و ملاك التحقيق معرفة مخارج الحروف و صفاتها التي بها ينفصل بعضها من بعض، و إن اشترك في المخرج» «1».
و يقول أبو العلاء المهذاني العطار (ت 569 ه) في كتابه (التمهيد في التجويد): «الباب الثامن: في معرفة أسماء الحروف و مخارجها و مجاريها و مدارجها و مستحسن فروعها و مستقبحها. اعلم أن هذا الباب من أشرف أصول القراءة و أهم فصول التلاوة، و ذلك أن الحروف أصل الكلام كله و عليها مدار تأليفه، ثم من يقرأ القرآن و يتعاطي هذا الشأن متي ما لم يتقن مخارج الحروف و أجناسها لم يقف علي الخلل الواقع فيها، و لم يهتد إلي تجويد القراءة و تهذيبها، و كان كمن رام قطع تيه بلا دليل، و إصعاد قنّة نيق بلا ما سبيل، فإذا عرف الحروف و أتقنها، و لاحظ أجناسها و أحكمها، ثم انضاف إلي ذلك طبع يتقبل هذا الشأن، و يمتزج به أشفي به ذلك علي القراءة الصحيحة و الألفاظ القويمة، بعون اللّه و منّه» «2».
و يقول أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454 ه) عن الأمر الثالث: «ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث بعض الحروف في بعض من النقصان، لاستطالة حرف علي حرف في التجاور، و يستشعر بعضها من بعض في تداخل المخارج ...» «3».
و يقول ابن الجزري (ت 833 ه) عن ذلك كله: «أول ما يجب علي مريد إتقان قراءة القرآن تصحيح إخراج كل حرف من مخرجه المختص به تصحيحا يمتاز به عن مقاربه، و توفية كل حرف صفته المعروفة به، توفية تخرجه عن مجانسه. يعمل لسانه و فمه بالرياضة في ذلك إعمالا يصير ذلك له طبعا و سليقة، فكل حرف شارك غيره في مخرج فإنه لا يمتاز عن مشاركه إلا بالصفات، و كل حرف شارك غيره في صفاته فإنه لا يمتاز عنه إلا بالمخرج ... فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف علي حدته موفّ حقّه، فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه (1) التحديد 16 و.
(2) التمهيد 141 ظ.
(3) نقلا عن: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 68 ظ، و انظر 67 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 59
ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، و ذلك ظاهر، فكم ممن يحسن الحروف مفردة و لا يحسنها مركبة، بحسب ما يجاورها من مجانس و مقارب، و قويّ و ضعيف، و مفخم و مرقق، فيجذب القوي الضعيف، و يغلب المفخم المرقق، فيصعب علي اللسان النطق بذلك علي حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب، فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان و التدريب» «1».
أما الأمر الرابع، و هو (رياضة اللسان بذلك و كثرة التكرار) فكان علماء التجويد قد أولوه عناية كبيرة، فكانوا يعتمدون علي التلقي بالمشافهة، و يحضون علي رياضة اللسان، أي تدريبه، علي نطق الحروف و توفية حقوقها من المخارج و الصفات حالة إفرادها، و توفيتها أحكامها الخاصة بها عند تركيبها.
قال أحمد بن نصر الشذائي، و هو من تلامذة ابن مجاهد: «كان ابن مجاهد، رحمه اللّه، لعلمه بتفاوت الناس في العلم بالقراءة، و قصور أفهامهم، يستثبت كثيرا ممن يقرأ عليه ...» «2».
و قال الداني بعد تعريف التجويد: «و ليس بين التجويد و تركه إلا رياضة من تدبّره بفكّه» «3». و قد أخذ ابن الجزري هذا المعني و صاغه بقوله في المقدمة «4»: (1) النشر 1/ 214- 215.
(2) نقلا عن الداني: التحديد 22 ظ.
(3) التحديد 2 و. و نقله عن الداني: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 189 و. و ابن الجزري: التمهيد ص 6 و النشر (له) 1/ 213. و قد ذكر أحمد بن أبي عمر (الإيضاح 66 ظ): «و قال الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، رحمه اللّه: التجويد أفضل من الجوهر، و أعز عند العلماء من الكبريت الأحمر، و هو حلية التلاوة و زينة القراءة، و هو إعطاء الحروف حقوقها و ترتيبها مراتبها ... و ليس بين التجويد و تركه إلا رياضة من تدبره بقلبه». و في إسناد هذا النص إلي أبي الفضل الخزاعي (ت 408 ه) إشكال كبير، لأنه يتطابق إلي حد كبير مع النص الوارد عند الداني (ت 444 ه) و نقلنا بعضه هنا. و المشهور عند علماء التجويد أنه للداني. و لا يمكن اعتمادا علي تاريخ وفاة الخزاعي، و هو مشرقي، أن يكون نقل عن الداني، و هو أندلسي، و تبقي بعد ذلك أربعة احتمالات:
1- أن يكون الداني نقل عن الخزاعي، و لم يصرح، و هو بعيد.
2- أن يكون كلاهما نقل عن مصدر واحد أقدم.
3- أن يكون مؤلف الإيضاح غلط في نسبة النص إلي الخزاعي.
4- أن يكون ما نقله عن الخزاعي ينتهي عند قوله (الكبريت الأحمر) و نقل ما بعده عن الداني دون أن يصرح بذلك، لا سيما أن مؤلف الإيضاح توفي بعد 500 ه.
(4) ابن الجزري: متن الجزرية ص 17.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 60
و ليس بينه و بين تركه إلا رياضة امرئ بفكّه
و قال ابنه أبو بكر أحمد في شرحه: «أي ليس بين التجويد و تركه فرق إلا رياضة امرئ، أي مداومته علي القراءة و التكرار و السماع من أفواه الحذاق، لا مجرد الاقتصار علي النقل، و قوله: بفكه، أي: بفمه» «1».
و قد ردد الداني هذا المعني في حاجة القارئ إلي المشافهة في التلقي، و الرياضة في الأداء كثيرا «2».
و وضح مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) حاجة المتعلم إلي الأخذ عن الشيخ المتقن، و حاجة الشيخ أيضا إلي إتقان تجويد الحروف بالاعتماد علي الأصول التي يسطرها علماء التجويد في كتبهم، و ذلك حيث قال: «و المقرئ إلي جميع ما ذكرناه في كتابنا هذا أحوج من القارئ، لأنه إذا علمه علّمه، و إذا لم يعلمه لم يعلّمه، فيستوي في الجهل بالصواب في ذلك القارئ و المقرئ، و يضل القارئ بضلال المقرئ، فلا فضل لأحدهما علي الآخر. فمعرفة ما ذكرنا لا يسع من انتصب للإقراء جهله و به تكمل حاله، و تزيد فائدة القارئ الطالب و يلحق بالمقرئ.
و ليس قول المقرئ أنا أقرأ بطبعي و أجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئا مما ذكرته- بحجة، بل ذلك نقص ظاهر فيهما، لأن من كانت هذه حجته يصيب و لا يدري، و يخطئ و لا يدري، إذ علمه و اعتماده علي طبعه و عدة لسانه، يمضي معه أين ما مضي به من اللفظ، و يذهب معه أين ما ذهب، و لا يبني علي أصل و لا يقرأ علي علم، و لا يقرئ عن فهم. فما أقربه من أن يذهب عنه طبعه، أو تتغير عليه عادته، و تستحيل عليه طريقته، إذ هو بمنزلة من يمشي في ظلام في طريق مشتبه، فالخطأ و الزلل منه قريب، و الآخر بمنزلة من يمشي علي طريق واضح معه ضياء، لأنه يبني علي أصل، و ينقل عن فهم، و يلفظ عن فرع مستقيم و علة واضحة فالخطأ منه بعيد، فلا يرضينّ امرؤ لنفسه في كتاب اللّه- جل ذكره- و تجويد ألفاظه إلا بأعلي الأمور و أسلمها من الخطأ و الزلل، و اللّه الموفق للصواب» «3». (1) الحواشي المفهمة 31 ظ. و انظر أيضا: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 25 و. و علي القاري:
المنح الفكرية ص 21.
(2) انظر: التحديد 16 و، 41 ظ.
(3) الرعاية ص 227- 229.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 61
و مما يوضح مقدار عناية علماء التجويد بالتدريب العملي لنطق الأصوات، و مكابدتهم ذلك مع الطلبة قول مكي أيضا: «و كل ما ذكرته من هذه الحروف لم أزل أجد الطلبة تزل بهم ألسنتهم إلي ما نبهت عليه، و تميل بهم طباعهم إلي الخطأ فيما حذرت منه، فبكثرة تتبعي لألفاظ الطلبة بالمشرق و المغرب وقفت علي ما حذرت منه، و وصيت به من هذه الألفاظ كلها، و أنت تجد ذلك من نفسك و طبعك» «1».
و قد جعل ابن الجزري التدريب و رياضة اللسان الطريق الأمثل لتحصيل التجويد، فقال:
«و لا أعلم سببا لبلوغ نهاية الإتقان و التجويد، و وصول غاية التصحيح و التسديد مثل رياضة الألسن و التكرار علي اللفظ المتلقّي من فم المحسن ...» «2».
و هناك قضية تتصل بالاتجاه التعليمي للأصوات العربية عند علماء التجويد، و هي أنهم مع تأكيدهم ضرورة التلقي من فم الشيخ المحسن ينصّون علي ضرورة استخدام الحس النقدي عند التلقي، و اجتناب التقليد المحض، فيجب علي الطالب أن يعرض ما يتلقاه عن شيخه علي الأصول المقررة في كتب علم التجويد، خشية أن يكون شيخه قد وهم في بعض ما يلقنه إياه.
قال الداني: «و قراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد و المعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياسا و تمييزا، و هو الحاذق النبيه، و منهم من يعلمه سماعا و تقليدا، و هو الغبي الفهيه «3». و العلم فطنة و دراية آكد منه سماعا و رواية، و للدراية ضبطها و نظمها، و للرواية نقلها و تعلمها، و الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء، و اللّه ذو الفضل العظيم» «4».
و ينازع الداني هذا النص عالم آخر، و هو معاصره مكي بن أبي طالب، فقد نقله في كتابه (الرعاية) بنصه تقريبا، مع تصريحه في أول النص بأنه نقله من غيره، حيث قال: «و قد وصف من تقدمنا من المقرئين و القراء، فقال: القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد ...» «5».
و قد ناقش تلك القضية، أعني التدقيق في التلقي عن الشيوخ، الأستاذ محمد المرعشي الملقب ساج‌قلي‌زاده (ت 1150 ه) في كتابيه (جهد المقل) و (بيان جهد المقل). فقال في الكتاب الأول: «و تجويد القرآن قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجود بدون معرفة مسائل (1) الرعاية ص 144.
(2) النشر 1/ 213.
(3) الفهيه: هو الكليل اللسان العييّ عن حاجته (انظر: ابن منظور: لسان العرب 17/ 421 مادة فهه).
(4) التحديد 2 و.
(5) الرعاية ص 69- 70.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 62
هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، و يزيد به المهارة، و يصان به المأخوذ عن طريان الشك و التحريف كما صرح به في الرعاية» «1».
و شرح محمد المرعشي قوله هذا في كتابه الثاني (بيان جهد المقل) بكلام دقيق، جدير بأن ننقله لأنه يمس جوهر القضية التي نناقشها هنا، و لأنه يعبر عن موقف متميز من عالم عاش في العصور المتأخرة التي غلبت فيها نزعة التقليد و جمود العبارة، لكن المرعشي كان واضحا في رأيه سلسا في عبارته مستقلا في تحليله و موقفه، قال في توضيح النص السابق و التعليق عليه:
«و قوله (بمشافهة الشيخ)، قال في الصحاح: المشافهة المخاطبة من فيك إلي فيه، انتهي. أقول: فإضافة المشافهة إلي الشيخ من قبيل إضافة المصدر إلي الفاعل، أي بمشافهة الشيخ المجود إياه. قوله (هي العمدة) يجي‌ء بمعنيين: بمعني المقصود، و بمعني ما يعتمد عليه، و المراد الثاني، لأن الإنسان كثيرا ما يعجز عن أداء الحروف بمجرد معرفة مخارجها و صفاتها من المؤلفات، ما لم يسمعه من فم الشيخ، لكن لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء كثير من شيوخ الأداء. الشيخ الماهر الجامع بين الرواية و الدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج و الصفات أعز من الكبريت الأحمر!.
فوجب علينا أن لا نعتمد علي أداء شيوخنا كل الاعتماد، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن، و نقيس ما سمعنا من الشيوخ علي ما أودع في الكتب، فما وافقه فهو الحق، و ما خالفه فالحقّ ما في الكتب. كما صرح به في الرعاية، و هذه عبارتها:
القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد، فمنهم من يعلمه رواية و قياسا و تمييزا، فذلك الحاذق الفطن، و منهم من يعرفه سماعا و تقليدا، فذلك الوهن الضعيف، لا يلبث أن يشك و يدخله التحريف و التصحيف إذ لم يبن علي أصل، و لا نقل عن فهم، انتهي.
قوله: رواية، يعني: رواية عن شيخه.
و قوله: قياسا، يعني: استنباطا من قواعده.
و قوله: تمييزا، يعني: تمييز صحيح الأداء عن فاسده لعلمه بقواعده الكلية» «2». (1) جهد المقل 2 ظ.
(2) بيان جهد المقل 3 ظ، و قد لخص المرعشي ذلك و أثبته في رسالته في (كيفية أداء الضاد) انظر ورقة 3 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 63
و لم يكتف المرعشي بالقول بامتحان المتلقّي عن الشيوخ بعرضه علي كتب العلم، بل ذهب إلي حد القول بضرورة التدقيق فيما نجده في الكتب، فليس بعيدا أن يعثر المدقق علي قصور في عبارات المصنفين، قال في أول كتابه (بيان جهد المقل): «لما ختمت رسالتي المسماة بجهد المقل، شرحتها و أظهرت مواضعها المبهمة لينتفع بها أدني الطلبة، و سميته بيان جهد المقل، و أوصيتهم أن لا يعجلوا بتخطئتي بسبب مخالفة ما ذكرته في هذه الرسالة ظاهر ما يفهم من كلمات المؤلفين في هذا الفن، فإن كلماتهم قلّ ما خلت عن المسامحات، و لا يستبعدوا أن أعثر علي الخطأ في كلمات بعضهم، فأثبت المسألة في هذه الرسالة علي وجه الصواب. ثم إني وجدت هذا الفن من أصعب الفنون، و وجدت كثيرا من مسائله لم يكشف عن وجوهها «1» القناع، فأتعبت نفسي و بذلت جهدي في إيضاح المسألة و تتميم القاعدة بجميع (لعله بجمع) ما تفرق في الكتب المؤلفة بقدر طاقتي و منتهي حرفتي، بحول اللّه و قوته، إنه حسبي و المستعان في أموري» «2».
و نجد المرعشي يستخدم كلمة (المسامحات) للإشارة إلي قصور العبارة عند المصنفين في علم التجويد، فقد استخدمها في النص السابق. و استخدمها في أول كتابه (جهد المقل) حيث قال: «فعملت فيه رسالة محتوية علي عامة مسائله بعبارات سهلة، خالية من مسامحات المصنفين» «3».
و قد وضح المرعشي قصده من ذلك في كتابه (بيان جهد المقل) حيث قال: «قوله:
(خالية من مسامحات المصنفين). قال في الصحاح: المسامحة المساهلة. أقول هي من السهولة ضد العسرة، فكأن معني المساهلة اختيار العبارة السهلة الموجزة و إن خفي معناها اعتمادا علي فهم المخاطب» «4».
و القضية الأخيرة التي تضمنها قول المرادي الذي سقناه في أول هذا المبحث عن شمول منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات هي حديثة عن (حسن الصوت و جودة الفك و ذرابة اللسان و صحة الأسنان)، و هي تعني السلامة من عيوب النطق و أمراض الكلام، و هذا الموضوع و إن لم يكن لغويا محضا فإنه من مكملات الدراسة الصوتية اللغوية. و قد عالج (1) في الأصل (وجوههم).
(2) بيان جهد المقل 1 ظ.
(3) جهد المقل 1 ظ.
(4) بيان جهد المقل 2 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 64
بعض علماء التجويد هذا الموضوع بفصل مستقل ضمن كتب علم التجويد، كما فعل عبد الوهاب القرطبي في آخر كتابه (الموضح)، أو برسائل مفردة كما فعل ابن البناء برسالته (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء).
كان منهج علماء التجويد إذن شاملا، استغرق الكلام علي الموضوعات الأساسية في (علم الأصوات النطقي)، و هي:
1- إنتاج الأصوات اللغوية و تقسيمها، و يتضمن ذلك دراسة آلة النطق و مخارج الحروف و صفاتها.
2- دراسة ما ينشأ عنها من الأحكام، أي الظواهر الصوتية، عند تركيبها في الكلام المنطوق. و شمل أيضا دراسة موضوعات تكميلية هي:
أ- رسم منهج تعليمي للأصوات يتمثل في التلقي المباشر عن المعلم المتقن أولا، ثم التدريب المستمر علي نطق الأصوات ثانيا، و هو ما عبر عنه علماء التجويد، برياضة اللسان.
مع إخضاع ذلك المنهج التعليمي لإطار نقدي متعدد الاتجاهات، يتمثل في أن القاعدة المدونة في الكتب تحرس الأداء عن الانحراف في النطق من جانب، و أن الدراية تعمل علي تدقيق القاعدة المدونة و السمو بها دائما نحو الدقة في وصف جوهر العملية النطقية المراد التعبير عنها.
ب- معالجة عيوب النطق أو أمراض الكلام.

ثانيا- منهج علماء التجويد منهج صوتي خالص:

إن علماء التجويد كانوا دائما من المتخصصين في علم القراءات، و من المشتغلين بعلوم القرآن، كما أن الكثير منهم كانوا لغويين و نحاة، أو كانوا علي جانب كبير من الثقافة اللغوية:
النحوية و الصرفية. فهل استطاعوا أن يرسموا حدودا واضحة لعلم التجويد، متميزة عن العلوم الأخري التي كانوا يشتغلون بها، لا سيما أن بعض تلك العلوم له ارتباط وثيق بعلم التجويد من بعض الوجوه، خاصة علم القراءات، و علم الوقف و الابتداء، و علم رسم المصحف، و علم الصرف؟ إن الاجابة عن هذا السؤال سوف تحدد لنا أ كان منهج علماء التجويد منهجا صوتيا خالصا أو لا؟.
إن أول قضية بارزة تواجهنا في البحث عن إجابة للسؤال السابق هي أن علماء التجويد قد خصصوا كتبا مستقلة لبحوثهم الصوتية، هي التي تعرف بكتب علم التجويد، و قد ذكرنا في المبحث الثاني من هذا الفصل أشهر تلك الكتب منذ أقدمها و هو قصيدة أبي مزاحم الخاقاني،
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 65
حتي أحدثها و هو (خلاصة العجلة في بيان مراد الرسالة) للدركزلي الموصلي.
و استطاع علماء التجويد بذلك أن يجردوا المباحث الصوتية المبعثرة في كتب النحو و الصرف و القراءات و يجمعوها في كتب مستقلة، و هذا من أول شروط كون المنهج واضح المعالم محدد الأبعاد غير مختلط بما سواه من كتب العلوم الأخري.
و القضية الثانية البارزة في ذلك الصدد هي أن علماء التجويد قد ميزوا أبحاثهم الصوتية بتسمية جديدة، فلم يدعوها تحمل اسم علم النحو، أو علم الصرف، أو علم القراءات، و إن كانت ذات صلة بهذه العلوم، و لكنهم استخدموا لتلك المباحث تسمية جديدة مبتكرة هي (علم التجويد)، و قد استقرت هذه التسمية في وقت مبكر من تاريخ هذا العلم، و قد ذكرنا أن مطلع القرن الرابع الهجري قد شهد مصطلح (التجويد) في ميدان الأبحاث الصوتية المتصلة بقراءة القرآن «1»، و شهد ظهور مطلع القرن الخامس علي أقرب تقدير اختيار هذا المصطلح اسما لمجموع تلك الأبحاث، و لم يمض وقت طويل من ذلك القرن حتي استقرت هذه التسمية الجديدة.
و إذا كنا نجد أن أول مصنف في علم التجويد، و هو قصيدة أبي مزاحم (ت 325 ه) جاء خاليا من استخدام مصطلح (التجويد) و أن الكتاب الثاني و هو كتاب (التنبيه علي اللحن الجلي و اللحن الخفي) للسعيدي (ت في حدود 410 ه) استخدم ذلك المصطلح في مادة الكتاب دون عنوانه، فإن مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) استخدام المصطلح علي الصعيدين معا، فقد قال عن تسمية الكتاب: «و سميت ما ألّفت من ذلك بكتاب الرعاية لتجويد القراءة و تحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف و مخارجها و صفاتها و ألقابها» «2».
و يبدو هنا أن مكيا كان مترددا في التسمية بين (علم التجويد) و (علم مراتب الحروف و مخارجها و صفاتها)، كما يبدو ذلك من العنوان الطويل الذي اختاره لكتابه، و قد أظهر مكي تعلقا بالاسم الثاني في ثنايا كتابه الرعاية، فقال و هو يتحدث عن دور المخارج و الصفات في اختلاف وقع الأصوات في السمع: «و اعلم أنه لو لا اختلاف المخارج لم يفرق في السمع بين حرفين أو حروف علي صفة واحدة. و قد تقدم منه جملة فافهمه، فعليه مدار علم مخارج الحروف و صفاتها و قوتها و ضعفها و تقاربها و تباعدها و إدغام بعضها في (1) انظر: المبحث الأول من هذا الفصل.
(2) الرعاية ص 43.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 66
بعض» «1».
أما الداني (ت 444 ه)، و هو أحد رواد هذا العلم الأوائل، فإنه سمي كتابه (التحديد في الإتقان و التجويد) «2»، كما أنه صرح في مقدمة الكتاب بقوله: «أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل قريب المأخذ في وصف علم الإتقان و التجويد و كيفية الترتيل و التحقيق» «3». و لكنا نلاحظ أن كلمة (الإتقان) التي قرنها الداني بكلمة (التجويد) لم تعد تظهر في عناوين كتب هذا العلم اللاحقة مثل (الموضح في التجويد) لعبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه)، و كتاب (التجريد في التجويد) لابن البناء (ت 471 ه)، و إذا ما ظهرت في بعض العناوين مثل (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) لشريح بن محمد الرعيني (ت 539 ه) فإنها لا يقصد بها التسمية الاصطلاحية لهذا العلم و إنما يفهم منها المعني اللغوي.
و إذا كانت قد صارت لمباحث علماء التجويد الصوتية تسمية متميزة و هي (علم التجويد)، و صارت تلك المباحث تضمها كتب مستقلة هي كتب علم التجويد، فلننظر الآن في الموضوعات التي عالجها علماء التجويد في كتبهم، أ كانت صوتية خالصة أو الطت بها مباحث العلشي شي‌ء و م الأخري؟.
لا شك في أن تتبع تلك الكتب كلها و إثبات موضوعاتها و التمييز بين ما يدخل في علم التجويد منها و بين ما لا يدخل فيه أكبر من أن نتمكن من القيام به في هذا البحث، لا لصعوبة فيه و لكن لأنه يؤدي إلي ازدياد حجم البحث أكثر مما يسمح به المنهج الذي نسير عليه. و لهذا سوف نتناول هذا الموضوع من خلال نظرة عامة تركز علي علاقة كتب علم التجويد ببعض العلوم الأخري التي أشرنا قبل قليل إلي ارتباطها بمباحث هذا العلم من بعض النواحي.
و أول تلك العلوم التي ترتبط بعلم التجويد هو علم القراءات، فكلاهما يهتمان بنطق ألفاظ القرآن الكريم، و لكن كل منهما يعني بجانب معين من جوانب ذلك النطق، و قد ميز (1) الرعاية ص 191- 192.
(2) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 355.
(3) التحديد 1 ظ. و قد جاء عنوان الكتاب في النسخة الخطية التي تحتفظ بها مكتبة وهبي أفندي (40/ 1) (التحديد في صنعة الإتقان و التجويد) و قد ترددت كلمة (الصناعة) في بعض كتب التجويد، فاستخدم الداني في شرح قصيدة أبي مزاحم (136 و): (الأكابر من علماء هذه الصناعة) و استخدم في المنبهة (ص 16): (هذه الصناعة)، كما استخدم أحمد بن أبي عمر في الإيضاح (68 ظ). (أرباب الصناعة) و (71 و): (أهل الصناعة). و هذا استخدام يشبه إطلاق كلمة (الفن) علي علم التجويد.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 67
علماء التجويد بشكل واضح بين العلمين من حيث المنهج و من حيث الموضوع. أما المنهج فقد نصوا علي أن كتب القراءات تعتمد علي الرواية، و أن كتب التجويد تعتمد علي الدراية المبنية علي المشافهة و رياضة الألسن، و أما الموضوع فكتب القراءات تعني برواية وجوه القراءات في نطق كلمات القرآن، بينما كتب التجويد تعني بكيفية أداء الألفاظ بإخراج الحروف من مخارجها و إعطائها حقها من صفاتها، مما لا اختلاف في أكثره بين القراء. و سبق أن نقلنا في المبحث الأول من هذا الفصل عددا من النصوص التي وضح فيها علماء التجويد الفرق بين مباحث علم التجويد و علم القراءات، و نكتفي منها هنا بنقل نص واحد يلخص هذا الموضوع بشكل واضح، و هو قول مكي في كتاب (الرعاية) و هو يتحدث عن تجويد حرف الذال: «و قد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما تدغم فيه الذال و غيرها من الحروف مما اختلف القراء فيه، فأغني عن ذكر ذلك في هذا الكتاب. فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، و هذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، و هذا كتاب دراية» «1».
و كان علماء التجويد يستحضرون ذلك الفرق بين العلمين أثناء بحثهم موضوعات ذات طرفين، أحدهما يرتبط بعلم التجويد، و الآخر يرتبط بعلم القراءات مثل موضوع الإدغام، فالبحث في ظاهرة الإدغام و تفسيرها من الناحية الصوتية و الحديث عن أنواع الإدغام كل ذلك يدخل في مجال علم التجويد، أما اختلاف القراء في إدغام بعض الحروف فهذا يدخل في علم القراءات. و من أمثلة ذلك قول السمرقندي (ت 780 ه): «و اختلفوا في لام هل و بل عند ثمانية أحرف. و بيان ذلك في كتب القراءات». و قال في مناسبة أخري: «و تحقيق ذلك في كتب القراءات» «2». و قال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020 ه) في شرحه علي المقدمة الجزرية:
«و لم يمثل الناظم رحمه اللّه تعالي للإدغام الكبير نحو الرَّحِيمِ* مالِكِ [الفاتحة: 3- 4]، الْكِتابَ بِالْحَقِّ [البقرة: 176] لأن محله كتب القراءات» «3». و ذكر عبد الغني النابلسي (ت 1143 ه) أن الإدغام علي نوعين كبير و صغير، و قال عن الإدغام الكبير: «و ليس هذا محل بيانه، بل موضعه كتب القراءات». و ذكر أن الإدغام الصغير متفق عليه و مختلف فيه، ثم قال: «أما الإدغام المختلف فيه فله تفاصيل كثيرة مبسوطة في كتب القراءات» «4». (1) الرعاية ص 199- 200.
(2) انظر: روح المريد 123 و، 131 ظ.
(3) الجواهر المضية 54 ظ.
(4) كفاية المستفيد 15 ظ، 16 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 68
و هكذا ينص علماء التجويد في كل مناسبة يجري بهم سياق الكلام فيها إلي ذكر شي‌ء من ظواهر القراءات المختلف فيها بين القراء، سواء أ كان ذلك في المدود «1»، أم الراءات «2»، أم اللامات «3»، أم غيرها.
و كان علماء القراءات يدركون الحدود الفاصلة بين موضوعات العلمين، لذلك نجد شراح الشاطبية ينصون علي أن (باب مخارج الحروف و صفاتها) الذي ختم به الشاطبي قصيدته (حرز الأماني) ليس من موضوعات القراءات، قال شعلة الموصلي (ت 656 ه) عن ذلك الباب «هذا من الفوائد التي زادت علي ما في التيسير ... و لا بد من إيراده و إن لم يكن له تعلق بعلم القراءة، لئلا يلحن في القرآن، لأن اللحن لحنان ...» «4» و قال أبو شامة (ت 665 ه) عن الموضوع نفسه: «و لا تعلق له بعلم القراءات إلا من جهة التجويد، و هو علم مخارج الحروف» «5».
أما علاقة علم التجويد بعلم التصريف فتتجلي بشكل خاص بموضوعات معينة مثل الكلام عن حروف العلة و البدل و القلب و الزيادة، و قد صرح علماء التجويد أن استقصاء تلك المباحث ليس موضعه علم التجويد و إنما كتب التصريف و اللغة، و هذه نصوص توضح حقيقة ذلك.
قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه) في الموضح: «و قد يجعل بعضهم الثاء فاء، فيقول في ثلاثة: فلافة، و هو لثغ قبيح، فضلا أن يقال إنه لحن خفي. فأما ما ذكر أهل اللغة من أن بعض العرب يبدل الثاء فاء فيقولون في جدث: جدف، و في ثوم: فوم، فإن ذلك غير مطرد، بل هو موجود في أحرف يسيرة خاصة، و منقول نقلا يحفظ و لا يتجاوز» «6».
و قال أيضا: «و هذه المزية التي لهذه الحروف، أعني بالمزية اختصاصها بالإبدال و الزيادة لا تعلق لها باللفظ، فمن حقها ألا تذكرها هنا إلا أنّا أوردناها لتكون القسمة شاملة (1) انظر: ابن الجزري: التمهيد ص 55.
(2) السمرقندي: روح المريد 132 ظ.
(3) علي القاري: المنح الفكرية ص 23.
(4) كنز التهاني (باب مخارج الحروف) ص 1.
(5) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 1.
(6) الموضح 161 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 69
حاضرة» «1».
و قال: «فأما القلب فإنه يجب في حروف كثيرة و مواضع عدة، مثل انقلاب حروف العلة بعضها إلي بعض، لما توجبه أحكام التصريف، و تحول الحروف الصحاح بعضها إلي بعض للإدغام الذي يوجبه تقارب الحروف، و كتاء افتعل في انقلابها طاء في مثل (اضطرب) و (اضطروا) و دالا في مثل (ازدان) و (يزدري). و كانقلاب الهمزة إلي الواو و الياء و الألف، و غير ذلك من المواضع التي يبدل فيها بعض الحروف ببعض. و ليس استيعاب ذلك مما يليق بهذا الموضع، لأنه لا حاجة تدعو إليه فيه لأن الحفظ و التلقين يحصلان لقارئ القرآن اللفظ بالمقلوب و المبدل، كما يحصلان له اللفظ بالأصل» «2».
و قال أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه): «فأما حروف الزيادة و حروف الإبدال فليست مما نحن فيه بشي‌ء، غير أني أذكرها ليكون الباب أجمع» «3».
و قال الفخر الموصلي (ت 621 ه) بعد أن ذكر حروف الإبدال: «و البدل موقوف علي السماع» «4». و قال بعد أن ذكر حروف العلة و انقلاب بعضها إلي بعض: «و هذا يستقصي في كتب التصريف» «5».
أما علاقة علم التجويد بعلم الوقف و الابتداء فيبدو أنها ترجع إلي ما اتبعه الداني (ت 444 ه) في كتابه التحديد حيث ألحق بالكتاب (باب ذكر الوقف و أقسامه) و قال فيه: «اعلموا أن التجويد لا يتحصل لقراء القرآن إلا بمعرفة الوقف و و مواضع القطع علي الكلم» «6». و قد أدرك علماء التجويد الفرق بين العلمين مع ما بينهما من علاقة، قال المرعشي (ت 1150 ه) عن علم الوقف و الابتداء: «و هذا فن مستقل مغاير لفن التجويد، و لكن جرت عادة بعض العلماء بجعل قواعده الكلية جزءا من كتب التجويد» «7». و لهذا نجد كثيرا من علماء التجويد لم يتطرقوا إلي ذكره، و ربما تحدثوا عن موضوع كيفية الوقف علي أواخر الكلم، و هذا (1) الموضح 157 و.
(2) الموضح 178 ظ- 179 و.
(3) الإيضاح 74 ظ.
(4) الدر الموصوف 170 ظ.
(5) الدر الموصوف 171 ظ.
(6) التحديد 43 ظ.
(7) جهد المقل 45 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 70
موضوع تجويدي له تعلق بعلم الوقف و الابتداء.
و ربما كان لصنيع ابن الجزري (ت 833 ه) في (المقدمة فيما علي قارئ القرآن أن يعلمه) من إلحاقه لمباحث الوقف، و بعض مباحث الرسم في آخر المقدمة، تأثير في اتجاه المؤلفين المتأخرين إلي التعرض إلي هذه المباحث في كتب علم التجويد، بينما كان قصد ابن الجزري أن يجمع ابتداء هذه العلوم الثلاثة في مقدمته، كما صرح بذلك في أولها «1». و قد قال طاش كبري زاده (ت 968 ه) في شرحه علي المقدمة: «اعلم أن الناظم كما أشار إليه في صدر كتابه جعل هذه الأرجوزة مبنية علي ثلاثة أمور: التجويد، و الوقوف، و رسوم المصحف» «2».
من كل ما ذكرناه هنا نخلص إلي هذه النتيجة، و هي أن علماء التجويد كانوا مدركين للحدود التي تفصل علم التجويد عن العلوم الأخري التي تتصل به من بعض الجوانب، و أنهم كانوا حين يضطرون إلي ذكر بعض المباحث ترجع إلي هذا العلم أو ذاك حرصا منهم من أن تظل موضوعات علم التجويد متميزة عن مباحث العلوم الأخري، خالصة من شوائبها، مع الملاحظة أن بعض المؤلفين، لا سيما من المتأخرين رشي شي بما حشروا بعض المباحث غير الصوتية في كتب علم التجويد رغبة منهم في إفادة القارئ ببعض الأمور التي لها ارتباط بعلم التجويد من بعيد مثل مباحث الوقف، أو مباحث رسم المصحف.
و لعل من تمام الكلام عن منهج علماء التجويد في كتبهم أن أنقل هنا أمثلة توضح كيفية تبويب تلك الكتب، لا سيما أن معظمها مخطوط يصعب علي الكثير الاطلاع عليه، و أكتفي هنا بكتابين يمثلان عصرين متباعدين، الأول من القرن الخامس الهجري، و الثاني من القرن الثاني عشر الهجري.
أما الكتاب الأول من الكتابين اللذين نريد أن نتحدث عنهما فهو (التحديد في الإتقان و التجويد) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 ه)، و سوف أعتمد علي نسخة مكتبة (وهبي أفندي) المرقمة (40/ 1) و هي تقع في أربع و أربعين ورقة من القطع المتوسط. و هو يبدأ بمقدمة تستغرق صفحة و نصفا في بيان السبب الذي دفع المؤلف إلي تأليف الكتاب و ذكر بعض الأمور المتعلقة بخطته في تناول موضوعات الكتاب (1 ظ- 2 و). ثم تبدأ أبواب الكتاب (1) انظر: ابن الجزري: متن الجزرية ص 16 (اقرأ الأبيات 5- 8).
(2) شرح المقدمة الجزرية 34 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 71
علي هذا النحو:
1- باب: في ذكر البيان عن معني التجويد و حقيقة الترتيل و التحقيق و ما جاء من السنن و الآثار في الحث علي استعمال ذلك و الأخذ به (2 و- 5 ظ).
2- باب: في قراءة التحقيق و تجويد الألفاظ و رياضة الألسن بالحروف (5 ظ- 8 ظ).
3- باب: ذكر الأخبار الواردة عن أئمة القراءة في استعمال التحقيق (8 ظ- 9 و).
4- باب: ذكر الإفصاح عن مذاهب الأئمة في حد التحقيق و نهاية التجويد، و ما جاء عنهم من الكراهة في التجاوز عن ذلك (9 و- 12 ظ).
5- باب: ذكر البيان عن حقائق الألفاظ و حدود النطق بالحروف (12 ظ- 16 ظ).
قال الداني في أول هذا الباب: «اعلموا أن التجويد لا يتمكّن و التحقيق لا يتحصل إلا بمعرفة حقيقة النطق بالمحرك، و المسكن، و المختلس، و المرام، و المشمّ، و المهموز، و المسهّل، و المحقق، و المشدد، و المخفف، و الممدود، و المقصور، و المبيّن، و المدغم، و المخفي، و المفتوح، و الممال. و أنا أبين ذلك كله ...».
6- باب: ذكر مخارج الحروف المعجمة و تفصيلها (16 و- 17 ظ).
7- باب: ذكر أصناف هذه الحروف و صفاتها (17 ظ- 20 و).
قال الداني في أول هذا الباب: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر صنفا: المهموسة، و المجهورة، و الشديدة، و الرخوة، و المطبقة، و المنفتحة، و المستعلية، و المستفلة، و حروف المد و اللين، و حروف الصفير، و المتفشي، و المستطيل، و المتكرر، و المنحرف، و الهاوي، و حرفا الغنة» ثم وضح الداني هذه الصفات.
8- باب: ذكر أحوال النون الساكنة و التنوين (20 و- 22 و).
9- باب: ذكر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها و تعمّد بيانها و تخليصها لتنفصل بذلك من مشبهها علي مخارجها (23 ظ- 41 ظ).
و هذا الباب هو أطول أبواب الكتاب، قسمه الداني إلي فصول علي عدد حروف المعجم، مرتبا لها علي المخارج، و تحدث في كل فصل عن حرف من الحروف ذاكرا صفاته الصوتية، مبينا الأحكام التي تخصه عند تركيبه في الكلام المنطوق، موضحا ذلك بالأمثلة الكثيرة من كلمات القرآن الكريم.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 72
10- باب: ذكر أحوال الحركات في الوقف، و بيان الروم و الإشمام (41 ظ- 43 و).
11- باب: الوقف و بيان أقسامه (43 ظ- 44 ظ). و هو آخر أبواب الكتاب.
و أما الكتاب الثاني فهو (كفاية المستفيد في علم التجويد) لعبد الغني بن إسماعيل النابلسي (ت 1143 ه). و سوف نعتمد علي نسخة مكتبة المتحف ببغداد المرقمة (10895) في وصف أبواب الكتاب الذي يتألف من أربع و عشرين ورقة متوسطة الحجم. و الكتاب يبدأ بمقدمة تستغرق من الكتاب الأوراق (1 ظ- 3 و) قال في نهايتها: «و اعلم أن أحكام التجويد تنحصر في ثلاثة أصول، كل أصل تحته أربعة فصول. و وجه الانحصار في الثلاثة لأن الكلام علي الحروف الهجائية إما أن يكون من حيث إفرادها أو من حيث تركيبها، و الثاني هو الأصل الثالث. و الأول إما أن يكون من حيث كميتها، و هو الأصل الأول، أو من حيث كيفيتها، و هو الأصل الثاني». هذه هي الفكرة النظرية لمنهج النابلسي في تبويب الكتاب، و هي متماسكة في هيكلها الثلاثي العام، لكنها لا تخلو من بعض التحكم في محاولة تقسيم كل أصل من الأصول الثلاثة إلي فصول أربعة لا تزيد و لا تنقص.
و بعد المقدمة تبدأ أبواب الكتاب التي سماها المؤلف أصولا علي هذا النحو:
الأصل الأول: معرفة مخارج الحروف (3 و- 5 و).
الفصل الأول: في الجوف، و يتولد منه ثلاثة حروف.
الفصل الثاني: في الحلق، و فيه ثلاثة مخارج، يتولد منها ستة حروف.
الفصل الثالث: في اللسان، و له أربعة مواضع: أقصي و وسط و حافتان و طرف، و فيها عشرة مخارج لثمانية عشر حرفا.
الفصل الرابع: في الشفتين، و فيهما مخرجان لأربعة حروف.
الأصل الثاني: معرفة صفات الحروف (5 و- 12 ظ).
الفصل الأول: في الصفات التي لها أضداد تضادها و هي خمس صفات.
الفصل الثاني: في الصفات التي لا أضداد لها، و هي ثماني صفات.
الفصل الثالث: في انقسام الصفات المذكورة إلي صفات قوية و متوسطة و ضعيفة.
الفصل الرابع: في معرفة الحروف الواجبة التفخيم و الحروف الواجبة الترقيق أبدا، و الحروف التي علي التفصيل في ذلك.
الأصل الثالث: في معرفة أحكام تعتري الحروف في حالة تركبها، و هي ثمانية أشياء:
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 73
مد و قصر، و إدغام و إظهار، و إخفاء و إقلاب، و وقف و ابتداء، فانحصر كلامنا علي هذا الأصل في أربعة فصول أيضا (12 ظ- 24 و).
الفصل الأول: المد و القصر.
الفصل الثاني: الإدغام و الإظهار.
الفصل الثالث: الإخفاء و الإقلاب.
الفصل الرابع: الوقف و الابتداء (يتضمن كيفيات الوقف و أقسام الوقف).
هذان مثالان لتبويب الموضوعات في كتب علم التجويد، تقدّم عليهما مثال ثالث من قبل هو كتاب (الموضح) لعبد الوهاب القرطبي، و هناك عشرات الأمثلة الأخري، منها ما يخص المؤلفات العامة لكتب علم التجويد، و منها ما يتعلق بموضوعات خاصة علي نحو ما عرضنا في المبحث الثاني من هذا الفصل.
و لا نكاد نجد كتابين من تلك الكتب يتطابقان في التبويب، اللهم إلا إذا كانا شرحا لنص واحد، مثل شروح المقدمة الجزرية، و نجد في كثير من تلك الكتب أمثلة تعبر عن دقة في تبويب بعض الموضوعات، و ما اختلاف مناهج المؤلفين في تبويب كتبهم، مع كون الموضوعات واحدة في أغلب الأحيان، إلا تعبير عن أصالة التفكير و التحرر من صفة الجمود و التقليد.
و لنا في نهاية حديثنا عن منهج علماء التجويد و كيف كان ذلك المنهج شاملا أولا، و خالصا ثانيا، ملاحظة عامة عن أساليب هؤلاء العلماء في معالجة موضوعاتهم، و علاقتهم بغيرهم من سابقيهم، و هي ملاحظة ليست نهائية، لأنها تفتقر إلي الاستقراء الكامل لكتب علم التجويد، و مع ذلك فلدينا أمثلة كافية و متعددة عن كل عصر من العصور التي يمتد إليها ميدان هذا البحث.
و تتلخص تلك الملاحظة في القول بأن مؤلفات القرن الرابع الهجري التي تمثل مرحلة النشأة لهذا العلم و التي يمكن أن نمثل لها بقصيدة أبي مزاحم (ت 325 ه) و كتاب (التنبيه علي اللحن الجلي و الخفي) للسعيدي (ت في حدود 410 ه) كانت تفتقر إلي المنهج المتكامل أو الشامل، فهي كتب رائدة لم ينسج مؤلفوها علي مثال، و إنما ابتدعوها ابتداعا و صارت أمثلة للمؤلفين من بعد ينظرون فيها و يكملون نقصها، و يتمثلون بعباراتها.
و كانت مؤلفات القرن الخامس الهجري تمثل مرحلة النضج لهذا العلم، منهجا
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 74
و موضوعا، متمثلة بكتاب (الرعاية) لمكي (ت 437 ه) و (التحديد) للداني (ت 444 ه)، و (الموضح) للقرطبي (ت 462 ه). و ربما امتدت هذه المرحلة إلي القرن السادس أيضا.
و تمثل مؤلفات القرن السابع و الثامن الهجريين مرحلة جمع الآراء و الموازنة بينها مع خفوت نزعة الإبداع في كثير من الأحيان، و يمثل هذه المرحلة (منهاج التوفيق إلي معرفة التجويد و التحقيق) في كتاب جمال القراء لعلم الدين السخاوي (ت 643 ه)، و (المفيد في شرح عمدة المجيد) للحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه)، و (التمهيد في علم التجويد) لابن الجزري (ت 833 ه)، الذي ألفه سنة 769 ه.
و كانت أرجوزة ابن الجزري المسماة (المقدمة فيما علي قارئ القرآن أن يعلمه) بداية لمرحلة جديدة في وجهة التأليف في علم التجويد، فقد شغلت المقدمة معظم علماء التجويد علي مدي أربعة قرون تقريبا، فكانوا يعتنون بشرحها، و ربما كتب بعض العلماء حواشي علي تلك الشروح، و دخل علم التجويد بذلك مرحلة أقل ما يقال فيها أنه كثر فيها المكتوب مع قلة الجديد فيه بشكل عام.
و ظهرت في النصف الأول من القرن الثاني عشر حلقة علمية متميزة علي ما سبقها، و علي ما لحقها، تتمثل في عالمين: أولهما: عبد الغني النابلسي (ت 1143 ه) الذي كتب (كفاية المستفيد في علم التجويد) الذي فصّلنا القول في منهجه قبل قليل، و الثاني: تلميذ النابلسي: محمد المرعشي الملقب ساج‌قلي‌زاده (ت 1150 ه) الذي كتب (جهد المقل) و (بيان جهد المقل) و غيرهما. و قد تميز النابلسي بالمنهج الذي وضعه لكتابه، و تميز المرعشي بالمادة الصوتية التي قدمها في كتبه و التي تتسم بالتحليل العميق و الدقيق إلي حد كبير.
أما آخر كتب علم التجويد التي وقفنا عندها فهو كتاب (خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة) للدركزلي الموصلي الذي فرغ من تأليفه سنة 1266 ه، و هو من أكبر كتب علم التجويد حجما (217 ورقة)، و لكن كبر حجمه كان ناتجا عن تراكمات و استطرادات كثير منها لا يمت إلي علم التجويد بصلة، و إني ألاحظ فيه مع ذلك اتجاهات جديدة تتمثل في ما يأتي:
أولا: رجوع المؤلف إلي كتب التشريح لوصف أعضاء النطق، و ثانيا: قائمة المصادر الطويلة التي ذكر فيها أسماء (106) كتب، و ألحقها في آخر كتابه. و هذان الاتجاهان، و إن كان الثاني منهما شكليا جديران بالذكر.
*****
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 75

المبحث الخامس صلة علم التجويد بعلوم القرآن و علم اللغة

كان لعلم التجويد موضوعه المتميز المحدد، و هو دراسة مخارج الحروف و صفاتها و أحكامها التركيبية، مما نسميه الآن (علم الأصوات اللغوية)، و كان هذا الموضوع يحظي بعناية علماء القراءة، كما كان يحظي بعناية علماء العربية من النحاة و اللغويين، قبل أن يظهر علم التجويد بشكله المستقل، و جاءت مرحلة تركزت فيها الدراسة الصوتية في كتب علم التجويد و ضعفت عند النحاة، فكان كتاب (سر صناعة الإعراب) لابن جني العمل الوحيد للنحاة الذي أخذ شكلا مستقلا، و لكنه لم يكن صوتيا خالصا، كما أنه كان عملا منقطعا لم يظهر بعده عمل مستقل للنحويين يعالج هذا الموضوع، فظل يدرس في أواخر بعض كتب النحو أو الصرف كما نجد في (المفصل) للزمخشري، و شروحه و (الشافية) لابن الحاجب و شروحها، و (التسهيل) لابن مالك و شروحه.
و هناك ظاهرة تبدو في دراسة النحويين المتأخرين للأصوات العربية، و هي أنهم صاروا يعتمدون علي آراء علماء التجويد و مذاهبهم في تحليل الظواهر الصوتية و وصفها، و تعليلها، مثلما كان علماء التجويد يعتمدون علي دراسات النحويين الصوتية في بدء أمرهم. قال الداني في أول باب مخارج الحروف: «و أنا أذكر ذلك علي مذهب سيبويه خاصة، إذ هو الصحيح المعوّل عليه» «1» و صرنا نجد في كتب متأخري النحاة رأي النحوي إلي جانب رأي عالم التجويد، و هذه ثلاثة أمثلة توضح لنا ذلك التداخل الحاصل في الدراسة الصوتية بين علماء العربية و علماء التجويد:
قال أبو حيان في كتابه (ارتشاف الضرب): «المخرج الثاني: وسط الحلق، و هو العين و الحاء. و ظاهر كلام سيبويه أن الحاء بعد العين، و هو نص كلام مكي بن أبي طالب. و يظهر (1) التحديد 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 76
من كلام المهدوي أن العين بعد الحاء، و هو نص أبي الحسن شريح» «1».
و قال الحسن بن قاسم المرادي في كتابه (شرح التسهيل) و هو يتحدث عن إدغام النون الساكنة: «و الميم تدغم فيها بغنة، و اختلف فيها، فذهب المحققون إلي أن الغنة للميم المبدلة من النون و هو إدغام تام صحيح، و ذهب ابن كيسان و ابن المنادي و ابن مجاهد في أحد قوليه إلي أن الغنة للنون، و هو إدغام غير مستكمل، و التشديد غير بالغ. و قد ذهب إلي ذلك أبو محمد مكي بن أبي طالب، و زاد أن إدغام النون في النون إدغام غير مستكمل لبقاء الغنة، و الصحيح قول الجمهور. و قال ابن أبي الأحوص: إدغامها في مثلها و في الميم بغنة لا خلاف في ذلك ...» «2».
و قال السيوطي في كتابه (همع الهوامع): «و قال (أبو) محمد القيرواني صاحب الرعاية:
اختلاف مخرج اللام و الراء و النون كاختلاف المخرج الذي فوقه من وسط اللسان، و هو مخرج الشين و الجيم و الياء، و لم يجعل ثلاثة مخارج، بل جعل مخرجا واحدا، فكذلك هذه الحروف ينبغي أن تجعل كذلك، و قال ابن أبي الأحوص: ما ذهب إليه سيبويه من أنها ثلاثة مخارج هو الصواب ...» «3».
و ليس غرضنا من نقل هذه النصوص الثلاثة مناقشة مضمونها هنا، و إنما غرضنا توضيح امتزاج الدراسة الصوتية عند علماء العربية بالدراسة الصوتية عند علماء التجويد، فقد ورد في تلك النصوص أسماء عدد من كبار علماء التجويد و هم:
1- ابن مجاهد (ت 324 ه) و ابن المنادي (ت 336 ه) من الطبقة الأولي التي لم تصل إلينا منها كتب في علم التجويد.
2- المهدوي (أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ت بعد 430 ه) مؤلف كتاب (الهداية في القراءات السبع المشهورة) و قد شرحه أيضا. و في هذا الكتاب فصول عن مخارج الحروف و أصنافها «4».
3- مكي بن أبي طالب أبو محمد القيرواني (ت 437 ه) مؤلف كتاب (الرعاية (1) ارتشاف الضرب ص 2.
(2) شرح التسهيل 308 ظ.
(3) همع الهوامع 6/ 293.
(4) انظر: برتزل: علم القراءات (بحث في مجلة إسلاميكا) ص 24.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 77
لتجويد القراءة).
4- أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني (ت 539 ه) مؤلف كتاب (نهاية الإتقان في تجويد القرآن).
5- ابن أبي الأحوص أبو علي الحسين بن عبد العزيز، المعروف بابن الناظر (ت 679 ه) و هو مؤلف كتاب (الترشيد في علم التجويد).
فدراسة الأصوات العربية إذن كان يتقاسمها علماء العربية و علماء التجويد، و كان كل فريق يأخذ من الآخر، و الفرق بينهما أن علماء العربية لم يخصصوا للموضوع كتبا مستقلة، و كانت دراستهم الصوتية مرتبطة بقضايا صرفية. أما علماء التجويد فقد جعلوا دراستهم مستقلة في كتب خاصة، كما أنها كانت عندهم علي نحو أشمل. و لكن ذلك كله لا يغير من حقيقة جوهرية هي أن دراسة الأصوات العربية موضوع لغوي أساسا، سواء أقام بها النحاة أم قام بها علماء القرآن، و سواء ارتبطت بنص محدد مثل ألفاظ القرآن الكريم، أم كانت تعني بنص لغوي يشمل القرآن و نصوص لغة العرب من شعر و نثر، في عصر محدد أو غير محدد.
و من ثمّ إذا نظرنا إلي مادة علم التجويد أمكننا أن نقول: إن علم التجويد من علوم العربية، كما أننا إذا نظرنا إلي كون هذا العلم يرتبط بقراءة القرآن، و يستمد أمثلته من ألفاظ القرآن أمكننا أن نقول: إنه من علوم القرآن. فهذا العلم إذن لا يمكن أن نقطع ارتباطه بهذين الحقلين الواسعين من حقول المعرفة (علوم العربية) و (علوم القرآن). و ليس علم التجويد هو الوحيد الذي يتخذ هذه الصفة. فنجد (علم الوقف و الابتداء) تنطبق عليه هذه الظاهرة المزدوجة في ارتباطه بعلم النحو من جانب و بعلوم القرآن من جانب آخر، و ليس هذا الذي نقوله جديدا، فقد أدرك المشتغلون بتاريخ علوم العربية مقدار ارتباط هذه العلوم بالقرآن الكريم، و كذلك صار واضحا منذ وقت مبكر حاجة المشتغلين بعلوم القرآن، لا سيما المتعلقة بضبط نصه، إلي إتقان علوم العربية.
فهذا أبو عمرو الداني يقول في نهاية كتابه (التحديد في الإتقان و التجويد): «فهذا كله و سائر ما ذكرناه قبل لا تتمكن معرفته للقراء إلا بنصيب وافر من علم العربية، و ذلك من آكد ما يلزمهم تعلمه و التفقه فيه، إذ به يفهم الظاهر الجلي، و يدرك الغامض الخفي، و به يعلم الخطأ من الصواب و يميز السقيم من الصحيح» «1». (1) التحديد (44 و- 44 ظ).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 78
و قال أبو العلاء الهمذاني العطار في كتاب (التمهيد في التجويد): «ثم اعلم أن ما ذكرناه من الحذق بالأداء و ما لم نذكره من مذاهب القراء لا يوقف علي حقيقته و لا يوصل إلي كيفيته إلا بإتقان العربية و مقاييسها، و معرفة وجوه القراءات و رواياتها» «1».
و قد ذكر القسطلاني في (لطائف الإشارات) العلوم التي يحتاج إليها دارس القراءات، و جعل علم العربية ثاني تلك المهمات بعد (الأسانيد) «2». و قد قال: «و أما الجزء الثاني: و هو علم العربية، فاعلم أنه لما كان إنزال القرآن العزيز إنما وقع بلسان العرب، توقف الأمر في أدائه علي معرفة ما يجوز عندهم النطق به و ما لا يجوز، و هو قسمان: معرفة الإعراب المميز للخطأ و الصواب، و الثاني: معرفة كيفية نطقهم بكل حرف، ذاتا و صفة، و هو معرفة مخارج الحروف و صفاتها» «3».
و نتيجة لذلك الارتباط بين علم التجويد و علوم العربية، و خاصة النحو و الصرف، وجدت الشيخ محمدا المرعشي (ت 1150 ه)، و هو الوحيد الذي اطلعت علي رأي له في هذا الموضوع، يميل إلي اعتبار علم التجويد من علوم العربية من غير أن ينكر صلته بعلوم القرآن، قال في (جهد المقل) و هو يعلق علي قول علي القاري (موضوعه الكلمات القرآنية، يعني حروفها): «و فيه نظر، لأنه يبحث فيه عن أحوال الحروف أينما وقعت، فلعله من العلوم العربية، و داخل في التصريف، و لذلك جعل جزءا من بعض كتبه كالشافية. و لما أفرزه العلماء عن كتب التصريف لمعرفة أحوال حروف القرآن لا يبعد أن يصطلحوا علي أنها موضوعه» «4».
و قال المرعشي في (بيان جهد المقل) موضحا أشياء في قوله السابق: «قوله (فلعله من العلوم العربية) الباحثة عن أحوال اللفظ العربي سواء وقع في القرآن و في غيره، و ليس من العلوم الشرعية الباحثة عن أحواله الشرعية الخاصة، و قوله (و داخل في التصريف) لأنه علم يبحث فيه عن هيئات الكلمات التي ليست بإعراب، و مخارج الحروف و صفاتها المذكورة في هذا العلم من هيئات الكلمات، لأن الكلمات مركبة من حروف» «5».
فالمرعشي إذن يرجح أن يكون علم التجويد من العلوم العربية، باعتباره جزءا من علم (1) التمهيد 89 ظ.
(2) لطائف الإشارات 1/ 172.
(3) لطائف الإشارات 1/ 182.
(4) جهد المقل 2 و- 2 ظ.
(5) بيان جهد المقل 3 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 79
التصريف (أي الصرف). و يبدو أن المرعشي يتوسع هنا بمفهوم علم الصرف الذي يختص بأحوال الكلمة التي ليست بإعراب و لا بناء المتمثلة ببنية الكلمة ليشمل الأجزاء التي تتكون منها الكلمة و هي الحروف.
و إذا كنت من الموافقين للمرعشي علي عدّه التجويد من العلوم العربية، أي اللغوية، فإن واقع الدراسات اللغوية المعاصرة يأبي أن نلحقه بعلم الصرف، فالتجويد علم مستقل بذاته يعني بدراسة أصوات اللغة العربية مخارجها و صفاتها و أحوالها التركيبية، و ليس بضائر بعد ذلك أن نسميه علم التجويد أو علم الأصوات اللغوية.
و مع أننا ندرس في هذا البحث جهود علماء التجويد في قرون مضت و نقرر ما قالوه و نناقشه في ضوء معارفنا الصوتية المعاصرة، تظل أبصارنا تتطلع إلي الأمام ترمق المكان الذي ينبغي أن يحتله هذا العلم في المستقبل، و الدور الذي يمكن أن يقوم به في دراسة أصوات العربية و في تعلمها أيضا، و من ثم يجب أن نركز علي الجانب اللغوي في علم التجويد، لأن دراساتنا اللغوية و واقع اللغة العربية المنطوق بحاجة إلي معطيات هذا العلم النظرية و التطبيقية، مستفيدين إلي أقصي حد مما حققه علم الأصوات اللغوية في الوقت الحاضر، هذا من غير أن نقطع صلة علم التجويد بنص القرآن الكريم، فقد كانت لتلك الصلة أهميتها في الماضي و يمكن أن تنال ذات الأهمية في الحاضر و المستقبل.
و هناك قضية أخيرة تتصل بهذا المبحث، و هي بيان أثر ارتباط علم التجويد بنص القرآن الكريم علي دراسة الأصوات العربية لدي علماء التجويد، و هل كان ذلك الارتباط سببا لتقييد تلك الدراسة أو كان عاملا في إغنائها و ديمومتها؟
إن القرآن الكريم نص لغوي عربي منقطع النظير في سمو فصاحته و بلاغته، يحرص المسلمون علي ترتيل كلماته، أي نطقها مبيّنة مجوّدة، علي نحو ما كان يحرص صلّي اللّه عليه و سلّم و أصحابه يرتلونها، و كان ذلك النطق هو المثال الذي ظل المسلمون يتلقونه جيلا بعد جيل بالمشافهة و الرياضة، و كان ذلك النطق موضوع (علم التجويد) دراسة، و تحليلا، و تعليما، و من ثم انحصرت أمثلة علماء التجويد و شواهدهم التي يدرسونها في ألفاظ القرآن الكريم بشكل أساسي، بخلاف النحاة الذين استمدوا شواهدهم من القرآن أولا ثم من كلام العرب شعره و نثره ثانيا. لكن علماء التجويد لم يخسروا شيئا حين حصروا اهتمامهم بألفاظ القرآن الكريم، بل أفادهم ذلك من عدة نواح:
أولا: كان هدف علماء التجويد تعليميا بالدرجة الأولي، و يناسب ذلك الهدف حصر
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 80
الدراسة في ميدان محدد، و هو ما يتحقق في نص القرآن الكريم، فلم ينشغلوا بتتبع وجوه النطق اللهجية و إثقال المتعلمين بها، بل تركوا ذلك لجهود علماء العربية، و ركزوا جهودهم في ذلك الميدان المحدد، مما سهل عملية التلقي، و تحققت لعلماء التجويد درجة كبيرة في ضبط صورة النطق علي نحو لا يفوقه إلا استخدام وسائل التسجيل الصوتي الحديثة، التي يجب أن يستعان بها في خدمة ذلك الجهد المتواصل لعلماء التجويد في المحافظة علي صورة النطق العربي الأصيل متمثلا بنطق ألفاظ القرآن الكريم. و حرصا من علماء التجويد علي حصر ميدان جهودهم ميزوا موضوع القراءات عن موضوع التجويد، كما أشرنا إلي ذلك من قبل.
ثانيا: إن ارتباط علم التجويد بالقرآن الكريم قد جعل منه علما شعبيا، بالتعبير المعاصر، في المجتمع الإسلامي علي اختلاف البلدان و الأزمان، يحرص المسلمون علي اختلاف مستوياتهم الثقافية و المادية، و علي تباين ألسنتهم و أجناسهم، علي دراسته و تطبيق أحكامه، لأن تلاوة القرآن من أفضل أنواع الذكر عند المسلمين، و من شروطها أن تكون مرتلة. و قد انعكست تلك الحالة علي استمرار التأليف في هذا العلم من غير انقطاع، في مختلف بلاد المسلمين.
ثالثا: ارتباط علم التجويد بالقرآن الكريم قد أعطاه قوة معنوية تجعل المشتغلين به يقبلون علي البحث فيه دون كلل، و يصبرون علي متاعب البحث و التعليم حتي يتحقق لدي المتعلم المستوي النطقي المطلوب، و يحتسبون ذلك الجهد عند اللّه تعالي، و قد أثمرت تلك الجهود التي حظي بها علم التجويد في ترسيخ النطق العربي الفصيح علي مدي العصور التي أعقبت نزول القرآن الكريم، حتي عصرنا الحاضر، و لو لا ذلك الارتباط بين اللغة العربية و القرآن، و بالتحديد بين علم التجويد و القرآن لكان حال اللغة العربية اليوم علي غير ما هي عليه، و ثبات العربية الفصحي المستمر، خلاف كل اللغات الأخري، لم يتحقق إلا بفضل تلك العلاقة بين علم التجويد، ممثلا لجوهر النطق العربي الأصيل و بين نص القرآن الكريم. و إن الواقع اليوم ليشهد أنه حيثما أهمل علم التجويد انتكس نطق العربية الفصحي، و لو كان ذلك في قلب بلاد العرب، و حيثما نال هذا العلم العناية الكافية درسا و تطبيقا صفا ذلك النطق و سما، و لو كان ذلك في أطراف آسيا أو في قلب إفريقيا. إنها حقيقة كبيرة، و مهمة في حياتنا اللغوية المعاصرة و لكننا نغفل عنها في كثير من الأحيان.
*****
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 81

الفصل الثاني دراسة الأصوات عند علماء التجويد مفردة (علي مستوي التحليل)

اشارة

الصوت المنطوق هو مادة اللغة الإنسانية، و لكل لغة من لغات البشر نظام صوتي يتكون من عدد من الوحدات الصوتية، و لا توجد لغة تستخدم الأصوات اللغوية في السلسلة الكلامية بشكل مفرد و إنما تتداخل و تأتلف في مجموعات، يكون المعني هو الوسيلة الأساسية لمعرفة حدود تلك المجموعات الصوتية التي تسمي بالكلمات. و لكن علماء الأصوات اللغوية يلجئون إلي تحليل تلك السلسلة الكلامية إلي وحداتها الأساسية المفردة لمعرفة عدد الوحدات الصوتية التي يتكون منها نظام لغة معينة، و لتيسير دراسة تلك الوحدات، و بيان كيفية إنتاجها، و توضيح خصائصها و صفاتها الصوتية.
و يقوم علماء الأصوات اللغوية بوصف أعضاء النطق، و توضيح الدور الذي يقوم به كل عضو في إنتاج الصوت، ثم يصنفون الأصوات علي وفق اعتبارات متعددة من أجل توضيح الخصائص الصوتية لكل صوت حين ينطق منفردا، ثم يدرسون أثر انتظام الصوت اللغوي في السلسلة الكلامية المنطوقة علي صفاته النطقية و الظواهر الصوتية التي تنشأ عن ائتلاف الأصوات و تجاورها.
و كان علماء التجويد قد درسوا أصوات اللغة العربية علي أساس هذا المنهج الذي يقتضي مستويين من الدرس: مستوي التحليل، و مستوي التركيب، و نقلنا في أول المبحث الرابع من الفصل الأول قول الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) الذي يلخص وجهة نظر علماء التجويد في دراسة الأصوات، و هو: «إن تجويد القراءة يتوقف علي أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
و الثاني: معرفة صفاتها.
و الثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 82
و الرابع: رياضة اللسان بذلك، و كثرة التكرار «1».
و يمثل الأمر الأول و الثاني في هذا القول ما سميناه بمستوي التحليل في دراسة الأصوات اللغوية، و يمثل الأمر الثالث المستوي الثاني في تلك الدراسة و هو مستوي التركيب، و يتعلق الأمر الرابع بالناحية التعليمية للأصوات.
و سوف أدرس في هذا الفصل جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية علي مستوي التحليل الذي يعني بالنظر إلي الأصوات مفردة مستقلة عن السلسلة الكلامية، فيدرس صفاتها الصوتية، و يصنفها تبعا لتلك الصفات إلي مجموعات، كل مجموعة تشترك في صفة معينة تميزها عن المجموعات الأخري. و هذه الدراسة هي الأساس لفهم الظواهر الصوتية التي تنشأ من اتصال الأصوات في السلسلة الكلامية المنطوقة، مما سماه علماء التجويد بالأحكام الناشئة عن التركيب، التي سوف ندرسها في فصل لا حق إن شاء اللّه تعالي.
و نحن في هذا المنهج نسير في خطي علماء التجويد، و نرضي متطلبات الدرس الصوتي الحديث في الوقت نفسه، و كان عبد الوهاب القرطبي قد سار علي أكمل منهج في دراسة الأصوات العربية في كتابه (الموضح في التجويد) و ذلك حين قسم مباحث الكتاب الرئيسية إلي أبواب ثلاثة و هي:
الباب الأول: في الكلام علي بسيط الحروف (في مخارج الحروف و صفاتها).
الباب الثاني: في الكلام علي ما يلزم هذه الحروف عند الائتلاف (التركيب).
الباب الثالث: في الكلام علي الحركات و السكون «2».
و نحن نكتفي بتقسيم بحث الأصوات العربية إلي قسمين: الأول: في دراسة مخارج الحروف و صفاتها، حروفا و حركات. و الثاني: في دراسة الأحكام الناشئة عن التركيب، التي تتعلق بالحروف و الحركات أيضا.
و سوف نتناول في هذا الفصل المباحث المتعلقة بالحروف و الحركات من حيث بيان مخارجها و صفاتها، علي هذا النحو:
المبحث الأول: وصف أعضاء آلة النطق. (1) شرح الواضحة ص 30.
(2) انظر: الموضح 152 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 83
المبحث الثاني: إنتاج الأصوات اللغوية.
المبحث الثالث: تصنيف الأصوات اللغوية إلي جامدة و ذائبة.
المبحث الرابع: تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج.
المبحث الخامس: تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات.
المبحث السادس: الأصوات الذائبة (مخارجها و صفاتها).
*****
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 84

المبحث الأول وصف أعضاء آلة النطق‌

اشارة

أول واجب علي دارس الأصوات هو معرفة ما يسمي (أعضاء النطق) من حيث تكوينها، و من حيث كيفية استعمالها في تكوين الأصوات الكلامية، و لكن هذا لا يعني أنه في حاجة إلي الإلمام بكل التفصيلات التي يقدمها علم (وظائف الأعضاء) و علم (التشريح) عن أعضاء النطق، إذ إن الكثير من هذه المعلومات لا يقدم له نفعا، و لكن هناك قدرا ضروريا من المعرفة بهذه الأعضاء عليه أن يحصله، لأن هذه المعرفة هي الحجر الأساسي لوصف الأصوات و تصنيفها «1».
و من ثم نجد معظم الباحثين الذين درسوا الأصوات اللغوية يحرصون علي كتابة مقدمة في وصف أعضاء النطق، و كذلك فعل علماء التجويد من قبل فكانوا قد عرفوا كل تلك الأعضاء و أدركوا دورها في تكوين الأصوات، و لم يغب عن إدراكهم منها شي‌ء سوي ما لا يقع تحت النظر و الملاحظة الذاتية، و إن كانوا قد أحسوا بأثره الصوتي و ميزوه عن غيره. و وجود تباين في التفاصيل بين كلام علماء التجويد و كلام اللغويين المحدثين أمر متوقع لسببين:
الأول: تقدم مناهج البحث.
الثاني: ازدياد المعرفة العامة.
و يمكن أن يعمل هذان السببان عملهما في تفسير التباين في دراسة أية ظاهرة عند جيلين من العلماء يعيشان في عصرين مختلفين.
و قد جعلت عنوان هذا المبحث (وصف أعضاء آلة النطق) لأمر يتعلق بطبيعة استخدام علماء التجويد للمصطلحات المعبرة عن ذلك، فليس من خطة هذا البحث الخروج علي مصطلحاتهم من غير ما سبب واضح. فالمحدثون من علماء الأصوات منقسمون علي قسمين (1) انظر: محمود السعران: علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي ص 140- 141.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 85
في استخدام المصطلح المعبر عن موضوع هذا المبحث، فبعضهم يستخدم كلمة (جهاز) فيقول: (جهاز النطق) «1»، أو (الجهاز النطقي) «2»، أو (جهاز التصويت) «3»، و بعضهم يستخدم كلمة (أعضاء) فيقول (أعضاء النطق) «4»، أو (الأعضاء الصوتية) «5».
و قد وجدت أن بعض علماء التجويد يميل إلي استخدام عبارة (آلة النطق)، خاصة عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه) في كتابه (الموضح في التجويد)، حيث رددها خمس مرات، من ذلك قوله: «فأما وجوب إظهار النون عند حروف الحلق فلأن حروف الحلق تباعدت عن مخرج النون، و هي محتاجة إلي تمكن آلة النطق بها» «6».
و استخدم ابن البناء (ت 471 ه) (آلة المنطق) «7»، بينما استخدم طاش كبري زاده (ت 968 ه) في شرحه علي المقدمة الجزرية كلمة (آلات) و (الآلات) «8». و كان الأسترآباذي (ت 686 ه) و هو من علماء العربية، قد استخدم (آلة الحروف) و (آلة الصوت) «9».
و استخدم مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) كلمة (عضو) و جمعها (أعضاء) حيث قال:
«و لا يعتمد اللسان عند خروجها علي عضو من أعضاء الفم» «10». و استخدم علم الدين السخاوي (ت 643 ه) كلمة (العضو) مريدا بها أي جزء يشترك في تكوين الصوت، كما يفهم ذلك من قوله: «و معني الإدغام أن تصل حرفا ساكنا بحرف متحرك مماثل له، يرتفع العضو عنهما ارتفاعة واحدة، و إنما قلت: العضو، و لم أقل اللسان كما قال غيري لأن مثل (ثوب (1) كمال محمد بشر: علم اللغة العام (القسم الثاني): الأصوات ص 81.
(2) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 64، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 80.
(3) جان كانتينو: دروس في علم أصوات العربية (ترجمة صالح القرمادي): ص 17.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 16، و محمود السعران: علم اللغة ص 140.
(5) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 40.
(6) الموضح 178 و. و انظر: 169 ظ، 174 و، 183 و، 188 و. كذلك استخدم أبو شجاع محمد بن علي المعروف بابن الدهان (ت 592 ه) عبارة (آلة النطق) في كتابه (تقويم النظر في الأدلة و اختلاف الفقهاء 2 و) و ابن الدهان هذا لغوي نحوي و أصولي فقيه (انظر: كحالة: معجم المؤلفين 11/ 15).
(7) كتاب بيان العيوب 183 ظ.
(8) شرح المقدمة الجزرية 11 ظ.
(9) شرح الشافية 2/ 251 و 272.
(10) الرعاية ص 103.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 86
بكر) لا يقال فيهما ارتفع اللسان عنهما ارتفاعة واحدة» «1».
و من هنا رأيت أن استخدام (آلة النطق) أو (أعضاء آلة النطق) في بحث يكتب لبيان جهود علماء التجويد في الموضوع أولي من استخدام المصطلحات التي نجدها عند المحدثين لا سيما أن الرجوع إلي المعاجم يؤيد أصالة ما استخدموه دون ما استخدمه المحدثون «2».
و أعضاء آلة النطق التي وصفها المحدثون هي: الرئة، و القصبة الهوائية، و الحنجرة، و الحلق، و الخيشوم، و الفم، و اللسان، و سقف الفم، و الأسنان و الشفتان. و تتفاوت هذه الأعضاء في الدور الذي تقوم به في عملية التصويت، كما أن أكثرها له وظائف أخري لا تقل أهمية بالنسبة للجسم عن عملية النطق.
و ينبغي أن نذكر هنا أن علماء العربية منذ الخليل و سيبويه قد أوردوا في أثناء حديثهم عن مخارج الحروف معظم أسماء أعضاء آلة النطق «3». و لكن علماء التجويد قد تميزوا في دراسة هذا الموضوع عن علماء العربية بنواح هي:
1- وصف أعضاء النطق.
2- الاستعانة بعلم التشريح.
3- تخصيص فصل مستقل لوصف بعض أعضاء النطق.
4- الاستعانة بالرسم التوضيحي.
و هذا بيان لهذه الأمور الأربعة التي تميز بها علماء التجويد في كلامهم عن أعضاء النطق.

1- وصف أعضاء النطق:

لم يكتف علماء التجويد بذكر تلك الأعضاء في أثناء تحديد مخارج الحروف، و إنما قدموا وصفا لها و تحديدا لمدلولاتها، و قد حدد بعضهم أعضاء آلة النطق إجمالا، مثل قول مكي: «و رتّب- تبارك و تعالي اسمه- لها مخارج تخرج منها عند النطق بها، من آخر الصدر الأعلي، و ما يليه من الحلق، و الفم، و أطراف الشفتين، و إلي الخياشيم» «4». و قول (1) جمال القراء 175 ظ.
(2) انظر استخدام كلمة (جهاز) و (آلة) في: لسان العرب، و المعجم الوسيط، مادة (جهز) و (أول).
(3) انظر: الخليل: العين 1/ 51- 52 و 57- 58. و سيبويه: الكتاب 4/ 432- 436.
(4) الرعاية ص 40.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 87
عبد الوهاب القرطبي: «فحيث ما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، و سمّي ما يسامته و يحاذيه من الحلق و الفم و اللسان و الشفتين مخرجا» «1». و كان الأسترآباذي أكثر تحديدا في قوله:
«فلولا اختلاف أوضاع آلة الحروف- و أعني بآلتها مواضع تكونها في اللسان و الحلق و السن و النطع «2» و الشفة، و هي المسماة بالمخارج- لم تختلف الحروف» «3». و قد نقلت قول الأسترآباذي هنا مع أنه من علماء العربية لأنه عاش بعد مكي و عبد الوهاب القرطبي، و لأن قوله يكمل كلامهم، و لا يناقض ذلك منهج البحث، لأني أجد في أكثر الأحيان أن كلام علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية يتكامل مع كلام علماء العربية.
(أ) الرئة:
ذكر بعض علماء التجويد (الرئة) التي تقوم بدفع الهواء الذي يعتبر مادة الصوت الأساسية «4». و قد وصفها الدركزلي بأنها «لحم رخو متخلخل كالزبد إلي بياض اسفنجي ...
خلقت محيطة بالقلب كالفراش للترويح عليه بالهواء المستنشق من القصبة» «5».
(ب) القصبة:
تتشعب القصبة الهوائية من الأسفل إلي شعبتين كل شعبة ترتبط برئة، و تنتهي من الأعلي بالحنجرة. و قد سماها ابن البناء (قصبة الحلق) «6». و سماها الدركزلي (قصبة الرئة) «7».
(ج) الحنجرة:
و هي من أهم أعضاء آلة النطق، لأنها تضم الوترين الصوتيين اللذين لهما القدرة علي إنتاج النغمة الصوتية الي تسمي بالجهر، و كان علماء العربية و علماء التجويد قد أحسّوا بأثر الوترين في نطق الأصوات و إعطائها صفة الجهر، كما سنوضح لا حقا إن شاء اللّه، لكنهم لم يتمكنوا من وصفها بشكل محدد لأنها تقع في نقطة لا يدركها النظر.
و كان أبو علي الحسين بن سينا (ت 428 ه) قد خصص الفصل الثالث من رسالته (1) الموضح 150 و.
(2) النطع: الغار الأعلي في الفم، أي سقف الفم (انظر: لسان العرب 10/ 235 نطع).
(3) شرح الشافية 3/ 251.
(4) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183.
(5) خلاصة العجالة 132 ظ.
(6) بيان العيوب 175 ظ.
(7) خلاصة العجالة 133 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 88
(أسباب حدوث الحروف) لتشريح الحنجرة و اللسان «1»، و لكن يبدو أن تأثير كلام ابن سينا كان محدود الأثر في الدراسات الصوتية العربية القديمة. و مع ذلك فقد وجدت ابن البناء يذكر (الحنجرة) في كتابه (بيان العيوب) حيث قال: «و من العيوب الترعيد، و صفته تعليق الصوت بترديد الحنجرة ...» «2». و لعل ابن البناء يريد بقوله (ترديد الحنجرة) صفة الجهر، و هي النغمة الصوتية الناشئة عن اهتزاز الوترين الصوتيين في الحنجرة، التي تشكل جوهر أصوات المد، لا سيما الألف، التي يعرض لها العيب الصوتي المسمي بالترعيد، و هو اضطراب الصوت كأن الناطق يرتعد من برد أو مرض.
(د) الحلق:
و يقصد به الفراغ الواقع بين الحنجرة و أقصي اللسان. و يقسمه علماء العربية و التجويد إلي ثلاثة أقسام: أقصاه و وسطه و أدناه. و يفهم من قولهم أن أقصي الحلق مخرج للهمزة و الهاء أنهم يجعلون الحنجرة جزءا من الحلق «3».
(ه) اللهاة:
قال مكي (ت 437 ه): «اللهاة بين الفم و الحلق» «4». و قال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه): «و هي اللحمة المسترخية كالزّنمة في أقصي الحلق تكتنفها النغنغة، و هي لحمة في أصل الأذن من باطن، و الجمع نغانغ» «5». و قال السمرقندي (ت 780 ه): «و اللهاة اللحمة المسترخية بين الفم و الحلق تكتنفها النغنغة، و هي لحمة في أصل الأذن من داخل» «6».
و قول السمرقندي (بين الفم و الحلق) أدق من قول الهمذاني (في أقصي الحلق). و قد زاد السمرقندي علي ما ذكره الهمذاني بتقسيمه اللهاة إلي: الغلصمة و العكدة. حيث قال:
«و من اللهاة حرفان القاف و الكاف، فالقاف غلصمية، و الغلصمة أول اللهاة من جانب الحلق.
و الكاف عكدية، و العكدة آخر اللهاة من جانب الفم» «7». (1) انظر: أسباب حدوث الحروف ص 9.
(2) بيان العيوب 175 ظ.
(3) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 433. و الداني: التحديد 16 و.
(4) الرعاية ص 114. و الفم هو الفراغ الذي يسترخي فيه اللسان.
(5) التمهيد 144 ظ.
(6) روح المريد 125 و.
(7) المصدر نفسه 125 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 89
و تقسيم اللهاة عند السمرقندي علي ذلك النحو شي‌ء انفرد به، فالغلصمة نوع من اللسان واقع فوق الحنجرة بصورة خاصة لتحمي الحنجرة خلال عملية البلع، و قد سماها بعض المحدثين (لسان المزمار) «1». و ما ورد في معجم (لسان العرب) يؤيد هذا المعني «2». أما العكدة، بضم العين و سكون الكاف، أو بفتحات متواليات، فلم يستخدمها المحدثون، و هي في المعجم بمعني أصل اللسان «3». و قد استخدمها الخليل بهذا المعني في كتاب (العين) فقال: «و أما الجيم و القاف و الكاف فمن بين عكدة اللسان و بين اللهاة في أقصي الفم» «4». و إذا تجاوزنا إدراج الخليل للجيم مع القاف و الكاف أمكننا أن نقبل وصف الكاف بأنها (عكدية) باعتبار أن العكدة تدل علي أقصي اللسان، و ليس علي آخر اللهاة من جهة الفم. و كذلك وصف القاف بأنها (غلصمية) باعتبار أن (الغلصمة) تدل علي شي‌ء يقع في أصل اللسان، و هو لسان المزمار، و ليس علي أول اللهاة من جهة الحلق، كما ذهب السمرقندي إلي ذلك في النص السابق.
و يبدو أن الدركزلي قد أدرك دور اللهاة في عملية التصويت، إلي جانب كونها تشكل مخرج القاف الفصيحة، حيث قال: «اللهاة لحم مستدير رخو، يشكل الصوت و يعدل الهواء» «5»، فلعله يريد بذلك اشتراك اللهاة مع ما يحيط بها من الحنك اللين في فتح مجري الهواء إلي الخياشيم أو غلقه.
(و) الحنك (الغار) الأعلي، و اللثة:
يستخدم علماء التجويد مصطلح (الحنك الأعلي)، و قد سبقهم علماء العربية إلي ذلك الاستخدام «6». و قد وضحه علماء التجويد بأنه سقف الفم، قال مكي: «نطع الغار الأعلي، و هو سقفه» «7». و قال السمرقندي: «نطع الفم، و هو الغار الأعلي، أي سقف الفم» «8». (1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 145. و عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 49. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 84.
(2) انظر: ابن منظور: لسان العرب 15/ 337 مادة (غلصم).
(3) انظر: ثابت: خلق الإنسان ص 181، و ابن منظور: لسان العرب 4/ 292 مادة (عكد).
(4) العين 1/ 52.
(5) خلاصة العجالة 142 و.
(6) انظر: الداني: التحديد 17 و، و سيبويه: الكتاب 4/ 433.
(7) الرعاية ص 114.
(8) روح المريد 125 ظ و قال ثابت: (خلق الإنسان ص 161): «و في الفم الحنك، و هو سقف أعلي الفم».
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 90
و يذهب المحدثون من علماء الأصوات إلي أن الحنك الأعلي يشمل: «اللثة، و الجزء الصلب من سقف الفم، ثم الجزء اللين، بما في ذلك اللهاة «1». لكن بعض علماء التجويد نص علي أن اللثة ليست من الحنك، قال أبو الفتوح الوفائي: «اللثة ليست من الحنك الأعلي، بل أسفل منه حول الأسنان» «2». و اللثة عندهم، و هي بكسر اللام و تخفيف المثلثة «3»، «اللحم المركب فيه الأسنان» «4». أو هي «اللحم الذي فيه منبت الأسنان» «5».
(ز) اللسان:
نقل الدركزلي تعريفا للسان بأنه «اللحم المتخلخل بين بياض و حمرة حال الصحة».
و قال أيضا: «و هو مؤلف من لحم رخو أبيض و أوردة و شريانات صغار و أعصاب كثيرة» «6».
و لم أنقل هذا التوضيح لأجل تقديم تعريف علمي للسان بقدر ما أردت أن أعرض وجهة نظر بعض علماء التجويد في هذا الموضوع.
و يقسم المحدثون من علماء الأصوات اللسان إلي ثلاثة أقسام، هي: أقصاه، و وسطه، و طرفه، و هم يجعلون نهاية اللسان أو ذلقه داخلا في طرفه «7». أما علماء التجويد فإنهم يقسمون اللسان أربعة أقسام، بإضافة (حافة اللسان) إلي أقسامه الثلاثة السابقة، و هذا أمر سبقهم إليه علماء العربية من قبل «8».
قال الداني (ت 444 ه): «اعلم أن حروف اللسان ثمانية عشر حرفا، و لها عشرة مخارج، و ينقسم جميعها علي أربعة أقسام: أقصي اللسان، و وسطه، و طرفه، و حافته» «9».
و قال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020 ه): «و للسان حافتان من أصله إلي رأسه كحافتي (1) محمود السعران: علم اللغة ص 142، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 84.
(2) الجواهر المضية 21 ظ.
(3) الدركزلي: خلاصة العجالة 138 ظ، لكن علي القاري قال: (المنح الفكرية ص 11): «بضم فتخفيف مثلثة» و جاء في لسان العرب (مادة لثي 20/ 107): «و اللثة بالكسر و التخفيف».
(4) الرعاية ص 115.
(5) العطار: التمهيد 145 و، السمرقندي: روح المريد 125 ظ.
(6) خلاصة العجالة 134 ظ- 135 و.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 148، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 87.
(8) سيبويه: الكتاب 4/ 433.
(9) الإدغام الكبير 11 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 91
الوادي، و هما جانباه» «1». و قال ابن غانم المقدسي (ت 1004 ه): «إن بين طرف اللسان و حافته مشابهة من حيث إن كلا منهما نهاية مساحة جرم اللسان، فالطرف نهايته من جهة مقدم الفم، و الحافة نهايته من جهة يسار الفم أو يمينه» «2».
و نجد مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) يسوّي بين طرف اللسان و أسلة اللسان، و ذلق اللسان «3». و هو ما يفهم من قول الداني السابق. لكن بعض علماء التجويد يخصصون أسلة اللسان بمستدق طرفه «4». و هو ما نص عليه الخليل في كتاب العين، حيث قال عنها: «و هي مستدق طرف اللسان» «5». و هو اتجاه ذهب إليه بعض المحدثين و استخدم له كلمة (حد اللسان) «6». و كان العطار (ت 659 ه) قد قال من قبل: «ذلق اللسان و هو حدّه» «7».
و قد سمّي مكي المجال الذي يسترخي فيه اللسان في لحظة هدوئه (قاع الفم) «8». و سماه ابن البناء بالحنك الأسفل «9». و روي عن أبي زيد اللغوي أنه يسمّي (الفراش) «10».
و يبدو أن كلمة (الفم) حين تطلق يراد بها اللسان و ما يحاذيه من الحنك الأعلي، قال أبو شامة: «إن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا. و هي دائرة علي ثلاثة: الحلق و الفم و الشفة، و يقال: الحلق و اللسان و الشفتان، و المعني واحد» «11».
و كان الخليل قد وصف الجيم و الشين و الضاد بأنها شجرية، لأن مبدأها من شجر الفم، أي مفرج الفم «12». و نقل بعض علماء التجويد ذلك، و قد فسر مكي كلمة مفرج الفم بقوله: (1) الجواهر المضية 19 ظ.
(2) بغية المرتاد 8 و.
(3) الرعاية ص 111، 114، 115.
(4) العطار: التمهيد 145 و، و السمرقندي: روح المريد 125 ظ.
(5) العين 1/ 58.
(6) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 86.
(7) التمهيد 144 ظ.
(8) الرعاية ص 99.
(9) بيان العيوب 176 ظ. و انظر: ابن الطحان 129 و.
(10) انظر ثابت بن أبي ثابت: خلق الإنسان ص 161.
(11) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 3.
(12) العين 1/ 58.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 92
أي مفتحه «1». و إذا رجعنا إلي قول سيبويه بأن الجيم و الشين و الياء تخرج من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك الأعلي «2». أمكننا القول بأن (الشّجر) هو وسط اللسان.
(ح) الخياشيم:
استخدم عدد من المحدثين عبارة (الفراغ الأنفي) «3» و (التجويف الأنفي) «4»، بدل كلمة الخياشيم، و هم يقصدون بذلك التجويف الذي يندفع خلاله الهواء حتي يخرج من الأنف.
و كان سيبويه أول من استخدم كلمة الخياشيم، و وضّح أن الهواء يأخذ طريقه فيها عند نطق النون و الميم «5». و لكنه لم يبين المقصود منها. و تابع علماء التجويد سيبويه في استخدام كلمة الخياشيم «6». لكنهم قدموا لنا توضيحا مناسبا لها، فقال مكي: «و الخيشوم الذي تخرج منه هذه الغنة، هو المركب فوق غار الحنك الأعلي» «7». و جاء تعريف الداني للخيشوم أكثر وضوحا، و ذلك حيث قال: «و الخيشوم خرق الأنف المنجذب إلي داخل الفم» «8».
(ط) الشفتان:
يبدو أن بروز الشفتين للعيان جعل علماء الأصوات المحدثين يكتفون في حديثهم عنهما ببيان الوظيفة التي تقومان بها في إنتاج بعض الأصوات «9». و هو عين السبب الذي جعل علماء العربية و التجويد يسلكون الطريق نفسه، فاكتفوا ببيان دور الشفتين في إنتاج الأصوات اللغوية «10». إلا أن الدركزلي ذكر بعض خصائصهما الحركية، فقال: «... بالشفتين (1) الرعاية ص 114، و انظر: العطار: التمهيد 144 ظ.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 18.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(5) الكتاب 4/ 434، و انظر أيضا 4/ 452 و 456.
(6) انظر مثلا: الداني: التحديد 17 و، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ.
(7) الرعاية ص 214. و انظر: العطار: التمهيد 146 ظ، و السمرقندي: روح المريد 128 و.
(8) التحديد 22 و، و كذلك 19 و.
(9) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 18، و محمود السعران: علم اللغة ص 149، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(10) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 433 و 436، و الداني: التحديد 17 و، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 187 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 93
المشتملتين علي انطباق و انفتاح و حركة محكمة» «1».
(ي) الأسنان:
للأسنان دور بارز في إنتاج عدد من الأصوات، و اختلالها يؤثر علي إنتاج تلك الأصوات، و من ثم اهتم بها علماء العربية و علماء التجويد، و كذلك علماء الأصوات المحدثون. و كان سيبويه قد ذكر أقسامها دون أن يعددها، فذكر منها الأضراس و الضاحك و الناب و الرّباعية و الثنية «2». و يبدو لي أن الأسترآباذي (ت 686 ه) هو أول من أحصاها ممن درسوا الأصوات «3». فقال: «إن الأسنان اثنتان و ثلاثون سنا: ست عشرة في الفك الأعلي، و مثلها في الفك الأسفل.
فمنها الثنايا: و هي أربع من قدّام، ثنتان من فوق، و مثلهما من أسفل: ثم الرّباعيات، و هي أربع أيضا: رباعيتان من فوق يمنة و يسرة، و مثلهما من أسفل.
و خلفهما الأنياب الأربع: نابان من فوق، يمنة و يسرة، و مثلهما من أسفل. و خلف الأنياب الضواحك، و هي أربع: ضاحكتان من فوق يمنة و يسرة، و مثلهما من أسفل. و خلف الضواحك الأضراس، و هي ست عشرة، ثمان من فوق، أربع يمنة و أربع يسرة، و مثلها من أسفل.
و من الناس من ينبت له خلف الأضراس النواجذ، و هي أربع من كل جانب: ثنتان من فوق، و ثنتان من أسفل، فيصير ستا و ثلاثين سنا» «4».
و لم يتجاوز علماء التجويد الأوائل ما فعله سيبويه، حيث ذكروا أنواع الأسنان عند كلامهم علي مخارج بعض الحروف «5». و سلك المتأخرون منهم مسلك الأسترآباذي، فذكروا أنواع الأسنان و أعدادها «6». أما علماء الأصوات المحدثون فمنهم من أشار إليها إشارة (1) خلاصة العجالة 141 ظ.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) كان علماء اللغة الذين ألفوا في (خلق الإنسان) قد سبقوا دارسي الأصوات إلي ذلك. انظر: ثابت بن أبي ثابت: كتاب خلق الإنسان ص 165- 166.
(4) شرح الشافية 3/ 252. و انظر: الجاربردي: شرح الشافية ص 243.
(5) انظر مثلا: الداني: التحديد 16 ظ- 17 و.
(6) خالد الأزهري: الحواشي الأزهرية ص 9، و طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 9 و. و أبو الفتوح الوفائي: الجواهر المضية 20 ظ، و علي القاري: المنح الفكرية ص 11، و أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 7 ظ، و المرعشي: جهد المقل 4 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 94
عامة «1»، و منهم من فصّل فيها القول تفصيلا «2».
و كان بعض علماء التجويد قد تنبه إلي أثر الخلل الذي يصيب الأسنان علي سلامة النطق، فقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «و لا سبيل إلي ما سقناه ... إلا بالمواظبة علي القراءة و رياضة اللسان و الأخذ من أفواه أولي العلم و الإتقان، و إن انضاف إلي ذلك حسن الصوت و جودة الفك و ذرابة اللسان و صحة الأسنان كان الكمال» «3».
(ك) الجوف:
ذهب الخليل بن أحمد في كتاب (العين) إلي أن الواو و الياء و الألف تخرج من الجوف «4»، و لم يذكر سيبويه هذا المخرج، لكن علماء التجويد ذكروه و جعلوه خاصا بحروف المد: الألف، و الواو المضموم ما قبلها، و الياء المكسور ما قبلها «5». و ليس الجوف نقطة محددة، بل هو علي ما يبدو التجويف الممتد من فوق الحنجرة إلي الشفتين، المسامت للحلق و اللسان، عند ما يفتح الناطق فاه. قال ابن بلبان: «فأما الجوف، و هو الخلاء داخل الفم و الحلق، فهو مخرج لثلاثة أحرف» «6». و قال المرعشي: «جوف الحلق و الفم، و هو الخلاء الداخل فيهما» «7».

2- الاستعانة بعلم التشريح:

الناحية الثانية التي تميز بها علماء التجويد في كلامهم عن أعضاء آلة النطق هي الاستعانة بكتب الطب، خاصة كتب التشريح، و بالرغم من أن معظم علماء التجويد كانوا يعتمدون علي الملاحظة الذاتية في وصف تلك الأعضاء نجد من بين المتأخرين من يستعين بكتب الطب، فقد استعان الدركزلي في (خلاصة العجالة) بأكثر من كتاب من كتب الطب في وصف أعضاء النطق. (1) محمود السعران: علم اللغة ص 149. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(2) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 82.
(3) التمهيد 89 و.
(4) العين 1/ 57.
(5) العطار: التمهيد 145 و. و ابن الجزري: النشر 1/ 198.
(6) بغية المستفيد 54 ظ.
(7) جهد المقل 10 و. علي أن أبا الفتوح الوفائي اعتبر الجوف الخلاء الداخل في الفم فقط (انظر: الجواهر المضية 18 و).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 95
و هذه ظاهرة جديدة تستحق الذكر، و هي تبين منهجا صحيحا في دراسة هذا الموضوع، فإن كلمة علماء التشريح و وظائف الأعضاء تظل هي المستند العلمي الذي ينبغي أن يستعين به دارسو الأصوات اللغوية في وصف أعضاء آلة النطق، فيأخذون القدر النافع لدراستهم لأن كثيرا من تفصيلات الموضوع التشريحية لا تفيد دارس الأصوات فائدة مباشرة.
فكان الدركزلي الذي فرغ من تأليف (خلاصة العجالة) سنة 1266 ه، ينقل من بعض كتب داود بن عمر الأنطاكي، المولود بأنطاكية، و المتوفي بمكة سنة 1008 ه «1». و ذلك حين تكلم عن الرئة، و القصبة، و الحلق، و اللسان، و الفك الأعلي، و الأسنان. و اللثة، و الشفتين، و اللهاة، فكان يقول: قال داود صاحب التذكرة، أو: قال داود الحكيم «2».
و كتاب التذكرة هو: «تذكرة أولي الألباب و الجامع للعجب العجاب»، قال عنه حاجي خليفة بأنه تأليف عظيم في الطب «3». و يبدو أن الدركزلي كان ينقل من كتاب آخر من كتب داود الحكيم، و هو (النزهة المبهجة)، فقد ذكر هذا الكتاب في قائمة مصادره دون كتاب التذكرة، قال: «و النزهة المبهجة في الطب لداود، و مختصر المسيحي فيه» «4». و مختصر المسيحي مصدر آخر من المصادر الطبية التي نقل منها الدركزلي.
و أهمية هذه الظاهرة لا تنبع من قيمة المادة التي نقلها مؤلف (خلاصة العجالة) من الكتب الطبية الموجودة في عصره، و إنما تتركز في المنهج الذي سار عليه، و هو منهج لم يسبقه إليه سوي ابن سينا في رسالته (أسباب حدوث الحروف) مع العلم أن ابن سينا نفسه كان طبيبا و لغويا و من ثم جاء كلامه أكثر مساسا بحاجة دارس الأصوات، و سار المحدثون علي هذا المنهج، كما يبدو جليا فيما كتبه الدكتور عبد الرحمن أيوب في كتابه (أصوات اللغة) في الباب الذي سمّاه (الوسيلة التشريحية) «5».

3- تخصيص فصل مستقل لوصف بعض أعضاء النطق:

يحرص دارسو الأصوات من المحدثين علي كتابة فصل في صدر أبحاثهم الصوتية لوصف أعضاء آلة النطق، و لم يكن علماء العربية يفعلون ذلك، بل كانوا يكتفون بتسمية تلك (1) انظر مصادر ترجمته: كحالة: معجم المؤلفين 4/ 140.
(2) انظر: خلاصة العجالة 132 و، 136 ظ، 138 ظ.
(3) كشف الظنون 1/ 386.
(4) خلاصة العجالة 221 و.
(5) أصوات اللغة ص 39- 91.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 96
الأعضاء في أثناء كلامهم عن مخارج الحروف، و تبعهم في ذلك متقدمو علماء التجويد، و لكنهم تميزوا عنهم بوصف تلك الأعضاء عند ما يرد ذكرها في أثناء الحديث عن المخارج، علي نحو ما بيّنا ذلك قبل قليل.
و قد خصص محمد المرعشي (ت 1150 ه) الفصل الرابع من فصول مقدمة كتابه (جهد المقل) الخمسة لبيان الأسنان في الإنسان «1». و هو اتجاه جديد يقرب مما نجده عند المحدثين من تخصيص فصل مستقل لوصف أعضاء آلة النطق.

4- الاستعانة بالرسم التوضيحي:

الرسوم التوضيحية إحدي الوسائل التي يستعين بها المحدثون من علماء الأصوات، لتوضيح أعضاء آلة النطق أو لبيان الحالة التي تتخذها تلك الأعضاء عند نطق صوت معين.
و كان علماء التجويد قد استخدموا هذه الوسيلة في بيان مخارج الحروف و توزيعها علي أعضاء النطق، فوضّحوا تلك الأعضاء و بيّنوا توزيع مخارج الحروف عليها في آن واحد.
و أقدم ما اطلعت عليه من تلك الرسوم عند علماء التجويد هو الرسم الذي أورده ابن وثيق الأندلسي (ت 654 ه) في كتاب له في علم التجويد. فقد قال بعد أن ذكر حروف العربية: «و هذه صورة الحروف المتقدمة كما تري: صورة ما بين الرأس متصل بأول اللسان» «2». و أورد رسما تخطيطيا مبسطا يمثل الحلق و اللسان و الشفتين، و كتب علي أجزائه:
صورة الحلق و حروفه، هذا أول اللسان و حروفه، الحنك الأعلي، و الحنك الأسفل، الشفة العليا، الشفة السفلي، مقدم الرأس، العثنون، و هو الذقن، و قد وزّع ابن وثيق الحروف العربية علي أجزاء هذه الصورة.
و كان السكاكي (يوسف بن أبي بكر ت 626 ه) و هو من علماء العربية، و معاصر تقريبا لابن وثيق، قد أورد صورة لمخارج الحروف في كتابه (مفتاح العلوم) «3». و هو الوحيد من بين علماء العربية الذي استعان بالرسم التوضيحي.
و هناك نماذج أخري من الرسوم التوضيحية في بعض الرسائل المتأخرة في علم (1) جهد المقل 4 و.
(2) ابن وثيق: كتاب في تجويد القراءة 78 ظ.
(3) مفتاح العلوم ص 6.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 97
التجويد «1». لعل أكثرها تدقيقا الرسم الوارد في كتاب اسمه (أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن) لمحمد حسين الأصفهاني «2»، و هو متأخر ينقل عن خالد الأزهري (ت 905 ه) «3».
فقد جاء في آخر الكتاب، و هو نثر و ليس نظما كما يفهم من العنوان، صورة لمخارج الحروف «4»، و هي علي شكل مقطعين: الأول يمثل اللسان و ما يتصل به من الشفتين و الأسنان، و الثاني يمثل الحلق. و قد كتبت علي هذا الرسم كل أعضاء النطق، مع الحروف التي تتكون عندها.
و جاءت في هذا الرسم كلمتان لم تردا في كتب علم التجويد الأخري التي اطلعت عليها، و هما (الطنطنة أو الطلطلة) حيث كتبتا في الجزء الواقع بعد أقصي اللسان، و كأنهما تشيران إلي عضو معين. و حين رجعت إلي لسان العرب لابن منظور لأتتبع ما قاله عن الكلمتين، وجدت أن أقرب الألفاظ دلالة علي الموضع الذي كتبتا فيه هي كلمة (الطّلاطلة) التي قال عنها: «لحمة في الحلق، قال الأصمعي: الطّلاطلة: اللحمة السائلة علي طرف المسترط» «5».
إن كلام علماء التجويد في وصف أعضاء آلة النطق صحيح و تام بالنسبة لأكثر الأعضاء، و كانت (الحنجرة) هي العضو الوحيد الذي لم يتمكن علماء التجويد من وصفه وصفا كاملا، لأنها لا تقع تحت النظر، مع أنهم عرفوها و أدركوا تأثيرها في إنتاج الأصوات. و لم تكن معرفتهم بتلك الأعضاء نظرية، بل كانت مقترنة بإدراك تام لعملية إنتاج الأصوات و تمايزها.
علي نحو ما سنذكر في المبحث الآتي و المباحث التي تليه، إن شاء اللّه تعالي. (1) منها الرسائل المرقمة في مكتبة المتحف ببغداد 23348- 20165- 10845- 16579- 18721، و الثلاثة الأخيرة بالفارسية. و في مكتبة الأوقاف بالموصل مجموع رقمه (2/ 22 مدرسة الحجيات) يضم ورقة فيها رسم توضيحي رقمها (123 و) من المجموع.
(2) توجد في مكتبة المتحف ببغداد نسختان من الكتاب أرقامهما (1019 و 10834) لم يكتب عليهما اسم المؤلف. و في دار الكتب المصرية نسخة من الكتاب تحت رقم (21326 ب) جاء فيها أن مؤلفها هو محمد حسين الأصفهاني، و هو مجهول لنا.
(3) أرجوزة البيان ص 41.
(4) المصدر نفسه ص 66.
(5) لسان العرب 13/ 433 مادة (طلل). و قد ذكر جان كانتينو (دروس في علم أصوات العربية ص 18) أن الطلاطلة هي اللهاة.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 98
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف من كتاب في تجويد القراءة و مخارج الحروف لابن وثيق الأندلسي المتوفي سنة 654 ه. و قد كتبت مخطوطة الكتاب سنة 694 ه. و هي محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 99
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف جاءت في ورقة مفردة في آخر كتاب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري المتوفي سنة 870 ه. و هو مخطوط بمكتبة المتحف ببغداد رقم 20165.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 100
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف وردت في كتاب أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن لمحمد حسين الأصفهاني، الذي تحتفظ بمخطوطته مكتبة المتحف ببغداد رقم 1019.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 101

المبحث الثاني إنتاج الأصوات اللغوية

اشارة

أدرك علماء التجويد أن الهواء هو المادة لإنتاج الأصوات اللغوية، فقالوا: «و الصوت هو الحاصل من دفع الرئة الهواء المحتبس بالقوة الدافعة فيتموّج، فيصدم الهواء الساكن، فيحدث الصوت من قرع الهواء بالهواء المندفع من الرئة» «1».
و قد نص محمد المرعشي علي أن هواء الزفير المندفع من الرئتين هو الذي تتشكل منه الأصوات اللغوية في الأكثر، و ذلك حيث قال: «ثم إن الغالب تلفظ الكلم مع إخراج النّفس.
و أما تلفظها مع إدخاله فيعسر و يقبح به الصوت عند الجهر، فلا شك في كراهته، بخلاف ذلك عند الإخفاء. و لم أجد تصريحا في هذا الباب» «2».
و يبدو أن المرعشي هو أول من ذكر هذه القضية، كما صرح هو بذلك، و قد نص عليها علماء الأصوات المحدثون، فقد قال الدكتور أحمد مختار عمر: «و لا نعلم لغة تعتمد علي هواء الشهيق في إنتاج الصوت، و إن أمكن أن تنتج أصوات خلال عملية الشهيق أيضا، و لكن هذا إن حدث يكون استثناء فقط، و مثل هذه الأصوات تسمع من الأطفال، و نحن نستعملها في حالة النشيج أو الانتحاب» «3».
و هذه القضية قد تبدو من الأمور البديهية و لكن تقريرها مع ذلك ينمّ عن إدراك صحيح لعملية إنتاج الأصوات اللغوية، و ينبغي أن ينسب تقريرها إلي محمد المرعشي المتوفي سنة 1150 ه 1737 م، مع ملاحظة أن الدكتور أحمد مختار عمر نقل هذه القضية مترجمة عن (1) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183 و قال أحمد بن الجزري (الحواشي المفهمة 13 ظ): «مادة الصوت الهواء الخراج من داخل (الإنسان)». و انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 10.
(2) جهد المقل 11 و.
(3) دراسة الصوت اللغوي ص 91- 92.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 102
مصدرين من مصادر الدراسة الصوتية المكتوبة باللغة الإنكليزية «1». و هذا مثال، و إن كان في قضية صغيرة، يوضّح لنا ما يمكن أن تقدمه كتب علم التجويد في دراسة الأصوات.
إن معرفة دور الهواء المندفع من الرئة في إنتاج الصوت اللغوي لا يكفي وحده في تفسير تعدد الأصوات و تباينها، فلا بد أن تكون هناك عمليات معينة تحدث في بعض أعضاء آلة النطق، تعترض الهواء فتكيفه بكيفيات خاصة، تؤدي إلي تمايز صوت عن آخر. فما مدي إدراك علماء التجويد لتلك العمليات التي تحدث للهواء في أثناء مروره علي آلة النطق فتجعله أصواتا متباينة؟.
هناك عدد من النصوص وضّح فيها علماء التجويد العمليات النطقية التي تؤدي إلي إنتاج الأصوات اللغوية، و بعض هذه النصوص منقول عن علماء العربية المتقدمين و بعضها جديد، صاغه بعض علماء التجويد لتوضيح تلك العمليات، و لدينا أربعة نصوص أساسية في هذا الموضوع، و نصوص أخري في مناقشة بعض الجزئيات. و سوف نعرض أولا النصوص الأربعة، ثم نحاول تحليلها مستفيدين من النصوص الأخري.

النص الأول- قول المازني (أبي عثمان بكر بن محمد ت 248 ه):

لم نطلع علي هذا النص في كتاب للمازني، و إنما أورده مكي بن أبي طالب في كتابه (الرعاية لتجويد القراءة) علي هذا النحو: «فصل: قال المازني: إن الذي فصل بين الحروف التي ألّف منها الكلام سبعة أشياء: الجهر، و الهمس، و الشدة، و الإرخاء، و الإطباق، و المد، و اللين. قال: لأنك إذا جهرت، أو همست، أو أطبقت، أو شددت، أو مددت، أو لينت اختلفت أصوات الحروف التي من مخرج واحد، فعند ذلك يأتلف الكلام و يفهم المراد. قال:
و لو كانت المخارج واحدة و الصفات واحدة لكان الكلام بمنزلة أصوات البهائم التي لها مخرج واحد، و صفة واحدة لا تفهم» «2».

النص الثاني- قول مكي بن أبي طالب (ت 437 ه):

قال مكي في كتابه (الرعاية): «فالحروف تكون من مخرج واحد و تختلف صفاتها، (1) هما المرجعان 61 و 30 من قائمة مراجعه، كما أشار إلي ذلك في هامش (1) ص 92، و الأول هو كتاب (علم الأصوات) لمالمبرك، و هو مطبوع في نيويورك سنة 1963 م، و الثاني (مقدمة في علم الأصوات) لمالمبرك نفسه مع عالم آخر، و هو مطبوع في كمبريج سنة 1970 م.
(2) الرعاية ص 117، و انظر: المرادي: المفيد 102 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 103
فيختلف لذلك ما يقع في السمع من كل حرف، و هذا تقارب بين الحروف من جهة المخرج، و تباين من جهة الصفات. و تكون الحروف من مخرجين، و هي مختلفة الصفات فهذا غاية التباين، إذ قد اختلفت في المخارج و الصفات. و تكون من مخرجين متفقة الصفات فهذا أيضا تقارب بين الحروف من جهة الصفات، و تباين من جهة المخرج، فافهم هذا فعليه مدار الحروف كلها. و لا تجد أحرفا من مخرج واحد متفقة الصفات البتة، لأن ذلك يوجب اتفاقها في السمع، فلا تفيد فائدة، فتصير كأصوات البهائم التي لا اختلاف في مخارجها و لا في صفاتها، فلا بد أن تختلف الحروف إما في المخارج و إما في الصفات» «1».

النص الثالث- قول عبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت 462 ه):

قال في كتابه (الموضح في التجويد): «الألفاظ بأسرها إنما تتركب من حروف و حركات و سكون. و هذه الأشياء الثلاثة لكل منطوق به كالمادة، عنها يأتلف و منها ينشأ.
فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النّفس ممتدا مستطيلا فتمنعه عن اتصاله بغايته، فحيث ما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، و سمي ما يسامته و يحاذيه من الحلق و الفم و اللسان و الشفتين مخرجا.
و لذلك اختلف الصوت باختلاف المخارج و اختلاف صفاتها، أعني به الجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة و الانطباق و الانفتاح و غير ذلك. و هذا الاختلاف هو خاصية حكمة اللّه تعالي المودعة في هذا الشخص، إذ بها يحصل التفاهم، و لو لا ذلك لكان الصوت واحدا بمنزلة أصوات البهائم التي هي من مخرج واحد، و علي صفة واحدة، فلم يتميز الكلام و لا علم المراد، فبالاختلاف يعلم، و بالاتفاق يعدم» «2».
و هذا القول في الواقع صياغة للقولين السابقين بالإضافة إلي قول آخر لابن جني، فالمقطع الأول من هذا القول تلخيص لقول ابن جني في كتابه (سر صناعة الإعراب): «اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النّفس مستطيلا متصلا، حتي يعرض له في الحلق و الفم و الشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده و استطالته، فيسمي المقطع أينما عرض له حرفا، و تختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها، و إذا تفطنت لذلك وجدته علي ما ذكرته لك. أ لا تري أنك تبتدئ الصوت من أقصي حلقك ثم تبلغ به أي المقاطع شئت، فتجد له جرسا ما، فإن انتقلت (1) الرعاية ص 129- 130.
(2) الموضح 150 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 104
عنه راجعا عنه أو متجاوزا له ثم قطعت، أحسست عند ذلك صدي غير الصدي الأول، و ذلك نحو الكاف فإنك إذا قطعت بها سمعت هنا صدي ما، فإن رجعت إلي القاف سمعت غيره، و إن جزت إلي الجيم سمعت غير ذينك الأوّلين» «1».

النص الرابع- قول طاش كبري زاده (أحمد بن مصطفي بن خليل ت 968 ه):

اشارة

قال في كتابه (شرح المقدمة الجزرية): «فائدة مهمة: اعلم أن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمي نفسا، بفتح الفاء، و إذا خرج بالإرادة و عرض له تموّج بتصادم جسمين يسمي صوتا.
و إذا عرض للصوت كيفيات مخصوصة بسبب آلات مخصوصة يسمي حروفا، و إذا عرض للحروف كيفيات أخر عارضة بسبب الآلات تسمي تلك الكيفيات صفات.
ثم إن النّفس الخارج الذي هو وظيفة «2» حرف إن تكيف كله بكيفية الصوت حتي يحصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، و إن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا.
و أيضا إذا انحصر صوت الحرف في مخرجه انحصارا تاما فلا يجري يسمي شدة «3»، كما في (الحج)، فإنك لو وقفت علي قولك (الحج) وجدت صوتك راكدا محصورا، حتي لو رمت مدّ صوتك لم يمكنك.
و أما إذا جري الصوت جريا تاما و لا ينحصر أصلا يسمي رخوة كما في (الطش) فإنك إذا وقفت عليها وجدت صوت الشين جاريا تمده إن شئت.
و أما إذا لم يتم الانحصار و لا الجري يكون متوسطا بين الشدة و الرخاوة. كما في (الخل) فإنك إذا وقفت عليه وجدت الصوت لا يجري مثل جري (الطش)، و لا ينحصر مثل انحصار (الحج)، بل يخرج «4» علي اعتدال بينهما. و اللّه أعلم» «5». (1) سر صناعة الإعراب 1/ 6.
(2) في المنح الفكرية لعلي القاري ص 14 (صفة).
(3) في المنح الفكرية ص 14 (شديدا).
(4) في نسخ شرح المقدمة لطاش كبري زاده الموجودة في مكتبة المتحف ببغداد (يجري).
(5) شرح المقدمة الجزرية 11 ظ- 12 ظ. و قد راجعت في توثيق هذا النص خمس نسخ من شرح المقدمة لطاش كبري زاده هي: نسخة مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد رقم (621/ 3) و هي-
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 105
و قد نقل علي القاري (ت 1014 ه) في (المنح الفكرية علي متن الجزرية) هذا النص دون أن ينسبه إلي أحد «1». و نقل محمد المرعشي مقاطع منه في كتابه (جهد المقل) عن علي القاري «2».
و يبدو لي أن استخلاص عناصر مكونة لنظرية واضحة لإنتاج الأصوات اللغوية عند علماء التجويد من النصوص السابقة يتوقف علي مناقشة جملة أمور وردت في تلك النصوص، يمكن إجمالها علي النحو الآتي:
1- النّفس، و الصوت.
2- الحرف، و المقطع، و المخرج، و الصفة.
3- الجهر، و الهمس.
4- الشدة، و الرخاوة، و التوسط.
و هذه الأمور التي تضمنتها النقاط الأربع هي العناصر الأساسية لإنتاج الصوت اللغوي، و لا نريد أن نذكر هنا كل ما يتعلق بها، فلا نريد أن نحصي مخارج الحروف العربية و صفاتها، فإن لذلك مكانا آخر، و إنما نريد أن نبين هنا المقصود بالمخرج و الصفة، دون الدخول في التفصيلات، كذلك بالنسبة للجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة و التوسط، لا نريد هنا أكثر من توضيح وجهة نظر علماء التجويد في بيان مدلولاتها و علاقة ذلك بإنتاج الأصوات و تمايزها.
علي أننا سندرس نقطة خامسة تتعلق بتصور علماء التجويد للفرق بين المجهور و الشديد و المهموس و الرخو، و للعلاقة بينها.

1- النفس و الصوت:

النّفس- بفتح الفاء- هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بدفع الطبع، و الصوت: هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بقوة الإرادة، و يعرض له في مجراه تموج بسبب تضييق مجراه أو غلقه كليا ثم إطلاقه. هذا ما قرره طاش كبري زاده في قوله السابق (النص الرابع).
و قد عرّف محمد المرعشي الصوت من جهة أخري، فقد قال: «اعلم أن النّفس الذي هو المعتمدة في هذا البحث. ثم ثلاث نسخ في مكتبة المتحف ببغداد أرقامها: 8208- 17403- 29806. و نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل المرقمة (1 عبد اللّه مخلص).
(1) المنح الفكرية ص 14.
(2) جهد المقل 5 ظ، 11 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 106
الهواء الخارج من داخل الإنسان إن كان مسموعا فهو صوت، و إلا فلا» «1». و قال في مكان آخر: «حقيقة الصوت هي النّفس المسموع» «2». و قال أيضا: «إن النفس ركن الصوت» «3».
و هذا تصور لحقيقة الصوت لا مزيد عليه في الوضوح.
و تعريف طاش كبري للصوت يعتمد علي طبيعة مصدره و منشئه، فهو عنده النفس الخارج بالإرادة، لا بالطبع، و الطبع هنا يقصد به عملية التنفس المشتملة علي شهيق و زفير يقوم بها الإنسان بفطرته لا بإرادته و إن كان بإمكانه التحكم فيها إلي حد ما. و أما تعريف المرعشي فيعتمد علي أثر الصوت السمعي، فإن كان النفس مسموعا فهو صوت، و إلا فلا.
و هذا التعريف أوضح في تحديد طبيعة الصوت اللغوي، و هو الذي يقرره المحدثون من علماء الأصوات، قال الدكتور كمال محمد بشر: «الصوت اللغوي أثر سمعي يصدر طواعية و اختيارا عن تلك الأعضاء المسماة تجاوزا أعضاء النطق» «4».
و نلاحظ في النص الثالث معني للصوت لا يتفق تماما مع ما سلف هنا من تعريف للصوت، فقول ابن جني: «اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلا متصلا». و قول عبد الوهاب القرطبي، الذي هو في الواقع صياغة جديدة لقول ابن جني: «فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النفس ممتدا مستطيلا»- يشيران إلي أن الصوت شي‌ء آخر غير النفس: و هذا معني يتردد في كثير من مصادر الدراسة الصوتية العربية القديمة، حتي إنا لنجد الأسترآباذي يصرح بأن النفس هو مركب الصوت، حيث قال: «لأن النفس الخارج من الصدر- و هو مركب الصوت- يحتبس إذا اشتد اعتماد الناطق علي مخرج الحرف» «5».
و يبدو أن التمييز بين الصوت و النفس قديم، يرجع إلي ما قاله سيبويه في الكتاب عن المجهور و الشديد من الأصوات، فجعل النفس مرتبطا بتعريف المجهور، و الصوت مرتبطا بتعريف الشديد «6». و لا نريد أن نتتبع هذه القضية في هذا المكان، لأننا سنناقش تعريف المجهور و الشديد في مكان قريب إن شاء اللّه تعالي، و سوف نتعرض لقضية الصوت و النفس (1) جهد المقل 5 ظ.
(2) جهد المقل 12 ظ، و بيان جهد المقل (له) 16 ظ.
(3) بيان جهد المقل 15 و.
(4) الأصوات ص 81. و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 6 و 13.
(5) شرح الشافية 3/ 259.
(6) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 434.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 107
من خلال محاولة توضيح الفرق بين المجهور و الشديد عند علماء العربية و علماء التجويد، في النقطة الخامسة.

2- الحرف، و المقطع، و المخرج، و الصفة:

الحرف كما يقول علي القاري: «هو صوت معتمد علي مقطع محقق، و هو أن يكون اعتماده علي جزء معين من أجزاء الحلق و اللسان و الشفة، أو مقطع مقدر و هو هواء الفم، إذ الألف لا معتمد له في شي‌ء من أجزاء الفم بحيث أنه ينقطع في ذلك الجزء» «1».
و المقطع: هو المخرج، قال المرعشي: «و مراده من المقطع هو المخرج، لأن الصوت ينقطع في المخرج» «2».
و هذا التعريف للحرف و المقطع ينطبق علي قول عبد الوهاب القرطبي (النص الثالث):
«فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النّفس ممتدا مستطيلا، فتمنعه عن اتصاله بغايته، فحيثما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، و سمّي ما يسامته و يحاذيه من الحلق و الفم و اللسان و الشفتين مخرجا».
أما المخرج فقد قال الداني في تعريفه: «و معني المخرج أنه الموضع الذي ينشأ منه الحرف» «3». و قال أحمد بن الجزري: «و هو عبارة عن الحيز المولّد للحرف» «4». و قد جمع القسطلاني بين التعريفين بقوله: «المخارج جمع مخرج، اسم للموضع الذي ينشأ منه الحرف، و هو عبارة عن الحيز المولد له» «5». لكن علي القاري قال: «و الأظهر أنه موضع ظهوره و تمييزه عن غيره» «6». (1) المنح الفكرية ص 8. و انظر القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183. و يلاحظ هنا أن مصطلح (الحرف) صارت له دلالة صوتية، إلي جانب استخدامه للتعبير عن الرمز المكتوب. و قد قال المستشرق الألماني أ. شاده: «و لكن هذا التقصير هو خلل في الاصطلاح أكثر من كونه خللا في الإدراك» (انظر علم الأصوات عند سيبويه و عندنا. صحيفة الجامعة المصرية 1931 العدد الخامس ص 6).
(2) جهد المقل 5 ظ.
(3) التحديد 16 و. و انظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 و.
(4) الحواشي المفهمة 11 ظ.
(5) لطائف الإشارات 1/ 182.
(6) المنح الفكرية ص 8. و كان ابن يعيش قد عرّف الحرف بأنه (صوت مقروع في مخرج معلوم) و عرف المخرج بأنه (المقطع الذي ينتهي الصوت عنده) (شرح المفصل 10/ 124).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 108
و هذه التعريفات للمخرج لا تناقض بينها و هي متفقة في أن المخرج هو النقطة المعينة من آلة النطق التي ينشأ منها الحرف أو يظهر فيها و يتميز، نتيجة لتضييق مجري الهواء أو غلقه ثم إطلاقه، و هي تعريفات تتطابق مع وجهة نظر علماء الأصوات المحدثين، يقول برجستراسر: «و المخرج أو المخرج هو الموضع من الفم و نواحيه الذي يخرج أو يخرج منه الحرف» «1». و يقول ماريوباي: «و إن التمييز بين أصوات اللغة سواء منها الأنفي أو الفموي يعتمد علي استمرار الصوت و درجة إسماعه، و قوة إنتاجه، و فوق كل هذا علي المخرج.
و كلمة المخرج تشير إلي النقطة المحددة في الجهاز النطقي التي يتم عندها تعديل وضعه» «2».
و قد وضّح محمد المرعشي تعريف الحرف من أنه صوت معتمد علي مقطع محقق أو مقدر، و قال بأن المراد من المقطع هو المخرج لأن الصوت ينقطع في المخرج، ثم قال:
«سبب انقطاع الصوت في المخرج المحقق انضغاط الصوت فيه، فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت، بل يمتد بلين بلا تكلف إلي أن تقطعه بإرادتك ...» «3».
و كذلك وضّح معني اعتماد الصوت علي المخرج فقال: «و معني اعتماد الصوت علي المخرج تضييق المخرج و ضغط الصوت فيه، و معني قوة الاعتماد عليه شدة تضييقه، و قد يذكرون الاعتماد علي الحرف و مرادهم الاعتماد علي مخرجه، و الحروف كلها ما عدا الألف المدّية متشاركة في أصل الاعتماد علي المخرج و متفاوتة في قوة الاعتماد، فالحروف الشديدة أقوي اعتمادا من الحروف الرخوة، و كلما كان الاعتماد أقوي كان صوت الحرف أقوي ...» «4».
و علماء التجويد يتبعون في تعيين مخرج الحرف طريقه النحاة في ذوق الحروف، و ذلك أن يسكن الحرف و تدخل همزة الوصل عليه، ليتوصل إلي النطق به، فيستقر اللسان بذلك في موضعه فيتبين مخرجه «5». (1) التطور النحوي ص 5- 6.
(2) أسس علم اللغة ص 78.
(3) جهد المقل 5 ظ- 6 و.
(4) جهد المقل 6 ظ.
(5) انظر: الخليل: العين 1/ 47، و الأزهري: التهذيب 1/ 41، و ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 7. و انظر: الداني: التحديد 16 و، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 150 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 109
و قد أضاف علي القاري بعض العناصر إلي تلك الطريقة، و إن لم تتبدل من حيث الجوهر، و ذلك حيث قال: «و إذا أردت أن تعرف مخرج حرف صريحا بعد تلفظك به صحيحا، فسكّنه، أو شدّده، و هو الأظهر، و أدخل عليه همزة الوصل بأي حركة، و أصغ إليه السمع فحيث انقطع الصوت كان مخرجه المحقق، و حيث يمكن انقطاع الصوت في الجملة كان مخرجه المقدر، فتدبر» «1».
و قد وضح محمد المرعشي بعض عبارات علي القاري، و صحح بعضا، فقال: «قوله:
(فسكّنه أو شدّده و هو، أي التشديد، الأظهر) هذا يدل علي أن ضغط المخرج في السكون أقوي منه في الحركة، و في التشديد أقوي منه في السكون. و إنما اختير السكون أو التشديد في معرفة المخرج لأن المخرج موضع الانضغاط فما لم يكن الانضغاط قويا لا يظهر محله».
ثم قال: «قوله: (و أصغ إليه السمع) الظاهر أن يقال بدله: و ارجع إلي وجدانك فتأمل و تحرّ موضع انقطاع الصوت فحيث انقطع الصوت كان مخرجه المحقق، و ذلك لأن معرفة المخرج بالسمع عسير» «2».
أما الصفة فقد عرّفها طاش كبري زاده بقوله: «و صفة الحروف كيفية عارضة للحرف عند حصوله في المخرج، و تتميز بذلك الحروف المتحدة بعضها عن بعض» «3». و هذا التعريف للصفة ينسجم مع تصور طاش كبري لعملية إنتاج الأصوات التي أوردناها في النص الرابع، و هو ينسجم مع وجهة الدرس الصوتي الحديث أيضا، فالصوت ينتج عن عملية مركبة في الغالب من تدخل بعض أعضاء آلة النطق في تيار النّفس في نقطة معينة هي التي تسمي (المخرج)، و هذه هي العملية الأساسية في إنتاج الصوت، و هناك عمليات أخري مصاحبة تحدث في بعض أعضاء النطق كعملية اهتزاز الوترين الصوتيين التي تسمي الجهر «4». فهذه العمليات المصاحبة لما يحصل للصوت في المخرج هي التي تسمي بالصفات.
فصفات الحروف إذن هي كيفيات مصاحبة لتكون الحروف في المخرج، سواء كانت تبين كيفية مرور الهواء في نقطة المخرج أم توضح عملية نطقية ثانوية تشكل جزءا مهما في تكون الصوت و تميزه عن غيره. «و لم يريدوا بالصفة معني النعت كما أراد النحويون، مثل اسم (1) علي القاري: المنح الفكرية ص 8.
(2) جهد المقل 5 ظ.
(3) شرح المقدمة الجزرية 11 و.
(4) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 102- 107.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 110
الفاعل و اسم المفعول، أو ما يرجع إليهما من طريق المعني نحو مثل و شبه» «1».

3- الجهر و الهمس:

ظاهرة الجهر من الظواهر الصوتية التي لها شأن كبير في تمييز الأصوات اللغوية، و تقابلها ظاهرة الهمس. و قد حظيت هاتان الظاهرتان بعناية علماء العربية و علماء التجويد، في القديم، كما حظيت بعناية علماء الأصوات المحدثين. و كان لرأي سيبويه في تفسير هاتين الظاهرتين سلطان قاهر علي أجيال العلماء، كما كان لآرائه الصوتية الأخري تأثير مستمر و احترام كبير. و لم تنل الدراسات الصوتية الحديثة من تلك المكانة التي يحتلها سيبويه في مجال الدرس الصوتي العربي إلا في جوانب محدودة، لعل من أوضحها تعريف المجهور من الأصوات و المهموس.
و لكي تتضح وجهة علماء التجويد في فهم ظاهرتي الجهر و الهمس نحتاج إلي بيان رأي سيبويه في ذلك، لأنه ظل الأساس الذي تستند إليه جهودهم في هذا الموضوع الدقيق الذي كان خارج ميدان الملاحظة الذاتية المباشرة. و لكني أجد من المفيد ذكر تفسير المحدثين لظاهرتي الجهر و الهمس، ذلك التفسير الذي غدا حقيقة ثابتة لا تحتمل التبديل، و ذلك لكي تكون مناقشتنا للموضوع تستند إلي مقياس ثابت أكيد.
إن من الانجازات المهمة لعلم الأصوات الحديث إدراك دور الحنجرة في عملية التصويت، و ذلك بعد اطلاع علماء الأصوات علي تشريح الحنجرة، و تقدم وسائل دراسة الأصوات، و الحنجرة تكوّن الجزء الأعلي من القصبة الهوائية، و هي أشبه بصندوق غضروفي، أو بحجرة صغيرة ذات اتساع معين، و مكونة من عدد من الغضاريف. و في الحنجرة يمتد الوتران الصوتيان، و هما في الواقع ليسا و ترين، و إنما عبارة عن شفتين أو شريطين من العضلات يتصل بهما نسيج، و هما يقعان متقابلين علي قمة القصبة الهوائية، و يمتدان بالحنجرة نفسها أفقيا من الخلف إلي الأمام، حيث يلتقيان عند البروز الناتئ في منتصف الرقبة من أمام، و يسمي الفراغ الكائن بين الوترين بالمزمار، و تقوم (الغلصمة) التي قد تسمي بلسان المزمار، و الكائنة فوق الحنجرة، بحماية طريق التنفس أثناء عملية البلع من دخول الطعام إلي القصبة ثم إلي الرئتين «2». (1) طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 10 ظ- 11 و.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 17. و محمود السعران: علم اللغة ص 144- 145.
و كمال محمد بشر: الأصوات 84- 85. و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 80- 82.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 111
إن فتحة المزمار الكائنة بين الوترين الصوتيين يمكن أن تتسع و ذلك بتجافي الوترين عن بعضهما، و يمكن أن تضيق إلي حد كبير و ذلك بتضام الوترين نحو بعضهما، و يمكن أن تزول و ذلك بانطباق الوترين الصوتيين. و هذه هي الأوضاع المؤثرة في إنتاج الأصوات اللغوية التي يتخذها الوتران الصوتيان، فالصوت يختلف تبعا لاختلاف تلك الأوضاع علي النحو الآتي «1»:
(1) قد يتجافي الوتران الصوتيان أحدهما عن الآخر في أثناء مرور الهواء بهما من الرئتين، بحيث يسمحان له بالخروج دون أن يقابله اعتراض في طريقه، و يظل الوتران صامتين. فيحدث في هذه الحالة ما يسمي بالهمس، و الصوت اللغوي الذي ينطق عند ما يتخذ الوتران هذا الوضع يسمي مهموسا. فالصوت المهموس إذن هو الصوت الذي لا يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به. و الوضع الذي يتخذه الوتران الصوتيان في حالة الصوت المهموس هو نفس الوضع الذي يتخذانه في حالة التنفس العادي.
(2) قد يتضام (أو يقترب) الوتران الصوتيان أحدهما نحو الآخر بشكل يسمح للهواء المندفع خلالهما أن يفتحهما و يغلقهما بانتظام و بسرعة فائقة، فتحدث من ذلك التتابع لعملية الفتح و الغلق السريعة و المستمرة، بسبب ضغط التيار الهوائي الصاعد من الرئتين، ذبذبات أو اهتزازات منتظمة، تكوّن نغمة صوتية تسمي بالجهر، و يسمي الصوت الذي تصحبه هذه النغمة مجهورا. فالصوت المجهور إذن هو الصوت الذي يتذبذب «2» الوتران الصوتيان حال النطق به.
(3) قد ينطبق الوتران انطباقا تاما، فلا يسمحان للهواء بالمرور إلي الفراغ الحلقي مدة انطباقهما، و عند ما ينفرج الوتران، بعد انطباقهما مدة، يسمع صوت انفجاري (شديد) نتيجة لاندفاع الهواء الذي كان مضغوطا فيما دون الوترين الصوتيين، و هذا الصوت هو ما نسميه في العربية بالهمزة.
أما تعريف سيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان ت 180 ه) للمجهور و المهموس فهو قوله: «فالمجهور حرف أشبع الاعتماد في موضعه، و منع النفس أن يجري معه حتي ينقضي (1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 145- 147. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 109- 110، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 106- 108.
(2) استخدم الدكتور إبراهيم أنيس كلمة (تهتز الأوتار) في حالة الصوت المجهور، و (لا تهتز الأوتار) في حالة الصوت المهموس. (انظر الأصوات اللغوية ص 20) و استخدم الأستاذ صالح القرمادي في ترجمته لكتاب (دروس في علم أصوات العربية) لجان كانتينو (ص 25): (تنز الأوتار) في حالة الصوت المجهور: و (لا نزيز للأوتار) في حالة الصوت المهموس.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 112
الاعتماد عليه و يجري الصوت. فهذه حال المجهورة في الحلق و الفم، إلا أن النون و الميم قد يعتمد لهما في الفم و الخياشيم فتصير فيهما غنة. و الدليل علي ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما لرأيت ذلك قد أخل بهما.
و أما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتي جري النفس معه. و أنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فردّدت الحرف مع جري النفس. و لو أردت ذلك في المجهورة لم تقدر عليه.
فإذا أردت إجراء الحروف فأنت ترفع صوتك إن شئت بحروف اللين و المد. أو بما فيها منها، و إن شئت أخفيت» «1».
و كان سيبويه أول من قدّم هذا التعريف للمجهور و المهموس من علماء العربية «2». و ظل له تأثير كبير في موقف الذين درسوا الموضوع من بعده سواء أ كانوا من علماء العربية أم علماء التجويد، و لم يتمكنوا من الخروج عليه، أو الزيادة فيه إلا في جوانب ضيقة لم تصل إلي حد تقديم تعريف آخر لهما يحل محل تعريف سيبويه «3». و سوف نجعل من تلك الإضافات التي (1) الكتاب 4/ 434.
(2) من النصوص النادرة أن الزجاج نسب هذا التعريف إلي الخليل بن أحمد، فقال في كتابه (معاني القرآن و إعرابه 1/ 419): «... و هذا يحتاج صاحبه إلي أن يعرف الحروف المجهورة و المهموسة. و هي فيما زعم الخليل ضربان: فالمجهورة حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه، و منع النفس أن يجري معه، و المهموس حرف أضعف الاعتماد في موضعه و جري معه النفس». و نحن أمام هذا النص بين احتمالين:
الأول: أن أصل التعريف، أو التقسيم إلي مجهورة و مهموسة علي الأقل، هو للخليل، و أخذه سيبويه عنه.
و الثاني: أن الزجاج و هم في النسبة و أنه أراد أن يقول: فيما زعم سيبويه، فقال فيما زعم الخليل، لا سيما أننا لا نجد للمجهور و المهموس في كتاب العين أي أثر. و لكني وجدت الدكتور إبراهيم أنيس ينقل من شرح السيرافي علي كتاب سيبويه نصا منقولا عن أبي الحسن الأخفش، يتعلق بالمجهور و المهموس، و يرد فيه ذكر الخليل، و هو: قال الأخفش: «سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس و المجهور، فقال: المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك، و أما المجهور فلا يمكنك ذلك فيه، ثم كرر سيبويه التاء بلسانه و أخفي، فقال: أ لا تري كيف يمكن. و كرر الطاء (؟) و الدال و هما من مخرج التاء فلم يمكن. و أحسبه ذكر ذلك عن الخليل». (انظر: الأصوات اللغوية ص 121). و قول الأخفش (و أحسبه ذكر ذلك عن الخليل) يقوّي الاحتمال الأول. (و انظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 461).
(3) انظر مثلا: من علماء العربية: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 69. و ابن عصفور: المقرب 2/ 6،
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 113
قدمها علماء التجويد خاصة مدارا للمناقشة لنتلمس مقدار اقتراب علماء التجويد نحو الوضوح في تعريف الصوت المجهور و الصوت المهموس، و إدراكهم لجوهر هذه الظاهرة الصوتية.
و لكن أجد من الضروري الوقوف عند تعريف سيبويه و البحث في جوانبه قبل أن نخطو تلك الخطوة.
توقف بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين أمام تعريف سيبويه للصوت المجهور محاولين تفسيره بموجب الفهم المعاصر لظاهرة الجهر، و هم لا يخفون حيرتهم في بعض جوانبه، و لكنهم يقررون أن سيبويه حين قسم الأصوات إلي مجهورة و مهموسة كان يريد بالمجهور الصوت الذي يهتز معه الوتران الصوتيان، و يريد بالصوت المهموس الصوت الذي لا يهتز معه الوتران، علي الرغم من اعترافهم بأن سيبويه لم يعرف الوترين الصوتيين، و لكنه أدرك أثرهما، و علي الرغم من أنه عدّ كلا من الطاء و القاف و الهمزة أصواتا مجهورة، و هي ليست كذلك في نطقنا المعاصر، و لا يهمنا كثيرا الدخول في تفصيل تلك المحاولات «1».
و لكن عنصرا جديدا في تعريف الصوت المجهور لم يرد في تعريف سيبويه السابق، و لكنه نقل عنه في أماكن أخري، جدير بالوقوف عنده، لأنه يدل علي إدراك سيبويه لدور الوترين الصوتيين في إحداث الجهر، و يوضح أيضا تعريفه السابق للصوت المجهور و المهموس، ذلك العنصر هو ما سماه سيبويه بصوت الصدر و صوت الفم.
و قد نقل الدكتور إبراهيم أنيس النص الذي تضمن تلك الفكرة من شرح السيرافي علي كتاب سيبويه في كتابه (الأصوات اللغوية). و أعاد هنري فليش نشر القسم الثاني من النص الذي يبدأ (بقال سيبويه) في كتابه (العربية الفصحي). و قد جاء في النص أن السيرافي (الحسن بن عبد اللّه ت 368 ه) ذكر أن أبا الحسن الأخفش (سعيد بن مسعدة ت 215 ه علي خلاف) قال: «سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس و المجهور فقال: المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك. و أما المجهور فلا يمكنك ذلك فيه، ثم كرر سيبويه التاء بلسانه و أخفي، فقال:
أ لا تري كيف يمكن، و كرر الطاء (؟) و الدال، و هما من مخرج التاء، فلم يمكن. و أحسبه ذكر و ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 129. و من علماء التجويد: مكي: الرعاية ص 93، و الداني:
التحديد 17 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 و.
(1) انظر: أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية 1931، العدد الخامس ص 10- 14. و إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 120- 126. و تمام حسان: اللغة العربية معناها و مبناها ص 60- 62. و عبد الصبور شاهين: في التطور اللغوي ص 230- 237.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 114
ذلك عن الخليل.
قال سيبويه: و إنما فرّق بين المجهور و المهموس أنك لا تصل إلي تبيين المجهور إلا أن تدخله الصوت الذي يخرج من الصدر، فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر و يجري في الحلق، غير أن الميم و النون تخرج أصواتها من الصدر و يجري في الحلق «1» و الخيشوم (فيصير ما جري في الخيشوم) «2» غنة تخالط ما جري في الحلق. و الدليل علي ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما رأيت ذلك قد أخل بهما.
و أما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها، و ذلك مما يزجي الصوت، و لم يعتمد عليه فيها كاعتمادهم في المجهورة، فأخرج الصوت من الفم ضعيفا. و الدليل علي ذلك أنك إذا أخفيت همست بهذه الحروف، و لا تصل إلي ذلك في المجهور. فإذا قلت: شخص، فإن الذي أزجي هذه الحروف صوت الفم، و لكنك تتبع صوت الصدر هذه الحروف بعد ما يزجيها صوت الفم ليبلغ و يفهم بالصوت «3». فالصوت الذي من الصدر هاهنا نظير ذلك الصوت الذي ترفعه بعد ما يزجي صوت الصدر، أ لا تري أنك تقول: قام فإن شئت أخفيت، و إن شئت رفعت صوتك، فإذا رفعت صوتك فقد أحدثت صوتا آخر» «4».
و هذا النص يتضمن وسيلة جديدة، إلي جانب صوت الصدر، لتمييز المجهور من المهموس و ذلك عن طريق إخفاء الصوت مع المحافظة علي الهمس فيظل الصوت المهموس محافظا علي جرسه حين الإخفاء كما هو حين رفع الصوت، أما إخفاء الصوت مع المجهورات فغير ممكن لأنه يترتب عليه زوال صفة الجهر و اختلال جرس الصوت، لأن ذلك يفضي به إلي نطيره المهموس. و لعل هذا هو مراد سيبويه من قوله في التعريف الذي نقلناه آنفا: «و أما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتي جري النفس معه، و أنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فرددت الحرف مع جري النفس. و لو أردت ذلك في المجهورة لم تقدر عليه». (1) في الأصل المخطوط (و يجري في الصدر) و كذلك نقلها الدكتور إبراهيم أنيس، و قد صححها هنري فليش إلي (الحلق)، و هو ما يناسب السياق.
(2) ما بين القوسين، ساقط من كتاب (الأصوات اللغوية) لإبراهيم أنيس.
(3) إلي هنا ينتهي ما نقله الدكتور إبراهيم أنيس.
(4) السيرافي: شرح الكتاب 6/ 461- 463. و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 121- 122، و هنري فليش: العربية الفصحي ص 199- 200.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 115
أما (صوت الصدر) الوارد في النص، و هو ما جعله سيبويه جوهر الأصوات المجهورة و يقابله ما سماه (صوت الفم) الذي تتكون منه الأصوات المهموسة فلعل المقصود به هو تلك النغمة الصوتية الناتجة عن اهتزاز و ذبذبة الوترين الصوتيين حال النطق بالأصوات المجهورة، فأدرك سيبويه أثرها الصوتي و لم يدرك مصدرها، فنسبها إلي الصدر لأن صداها يتردد هناك، و هو ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم أنيس في تفسير (صوت الصدر) حيث قال: «و لعل هذا الصوت هو صدي الذبذبات التي تحدث في الوترين الصوتيين بالحنجرة، و هذا الصدي نحسّ به و لا شك في الصدر، كما نحس به حين نسد الأذنين بالأصابع، أو حين نضع الكف علي الجبهة. فهو الرنين الذي نشعر به مع المجهورات، و سببه تلك الذبذبات التي في الحنجرة» «1».
و هذا يعني أن للأصوات المجهورة مصدرين للتصويت، الأول صوت الحنجرة الناتج عن ذبذبة الوترين، و الثاني مخرج الصوت حيث يضيق مجري النفس أو ينغلق. أما الصوت المهموس فليس له إلا مصدر واحد للتصويت، و هو مخرج الصوت فقط. و هو ما سماه سيبويه بصوت الفم، أي الصوت الحاصل في مخرج الحرف دون أن يصاحبه صوت آخر منبعث من الصدر، أي الحنجرة.
و لدينا نصوص أخري تؤيد رواية أبي الحسن الأخفش عن سيبويه حول صوت الصدر و صوت الفم، التي نقلها السيرافي، و أول تلك النصوص ما ورد في الكتاب لسيبويه نفسه، حيث قال في (باب الساكن الذي يكون قبل آخر الحروف فيحرك لكراهيتهم التقاء الساكنين):
«و اعلم أن من الحروف حروفا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت و نبا اللسان عن موضعه، و هي حروف القلقلة ... و من المشربة حروف إذا وقفت عندها خرج معها نحو النفخة، و لم تضغط ضغط الأولي، و هي الزاي و الظاء و الذال و الضاد، لأن هذه الحروف إذا خرجت بصوت الصدر انسل آخره، و قد فتر، من بين الثنايا لأنه يجد منفذا، فتسمع نحو النفخة ... أما الحروف المهموسة فكلها تقف عندها مع نفخ، لأنهن يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر، و إنما تنسل معه ... و اعلم أن هذه الحروف التي يسمع معها الصوت و النفخة في الوقف، لا يكونان فيهن في الوصل إذا سكّن، لأنك لا تنتظر أن ينبو لسانك، و لا يفتر الصوت حتي تبتدئ صوتا، و كذلك المهموس، لأنك لا تدع الفم يطول (1) الأصوات اللغوية ص 123.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 116
حتي تبتدئ صوتا» «1».
و قد ورد في هذا النص مصطلح (صوت الصدر)، و (صوت الفم)، و هما مستعملان في المعني نفسه الذي استعملا فيه في رواية السيرافي، إلا أن هاهنا مصطلحا ثالثا هو (الحروف المشربة)، و قد ورد في سياق يقابل (الحروف المهموسة)، و هو أمر يجعلني أرجح أن مراد سيبويه من قوله: (الحروف المشربة) هو الحروف المجهورة، و لأمر ما لم يستخدم سيبويه كلمة (المجهورة) في هذا المكان من الكتاب، و هو متقدم كثيرا علي باب الإدغام الذي درس فيه الأصوات العربية، و استخدم هناك مصطلح (المجهور و المجهورة)، و يكون بذلك معني (المشربة) هو الحروف التي أشربت صوت الصدر، أي تخرج مع صوت الصدر، أخذا من قول سيبويه في ذات المكان عن الحروف المهموسة (يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر).
و نقل بعض علماء العربية و التجويد فكرة (صوت الصدر و صوت الفم) المميزة بين المجهور و المهموس عند سيبويه، و لكن دون نسبتها إليه، من ذلك ما قاله مؤلف تفسير (المباني لنظم المعاني) و هو أبو محمد حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام (كان حيا سنة 425) «2»: «و الحروف المهموسة عشرة ... سميت مهموسة لأن الاعتماد يضعف في موضعها فيجري النفس قبل انقضاء الاعتماد، و يخرج الصوت مهموسا، أي خفيا. و الحروف كلها سوي هذه العشرة مجهورة، و إنما سميت مجهورة لأن الاعتماد يسمع في موضع الحرف منها، فلا يجري النفس حتي ينقضي الاعتماد، و خرج صوت الصدر مجهورا» «3». و كذلك نقل عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه) في كتابه (الموضح في التجويد) نص كلام سيبويه في الكتاب حول الحروف المشربة، لكن دون أن ينسبه إليه «4».
و قد لخص الأسترآباذي (ت 686 ه) الفكرة في كتابه شرح شافية ابن الحاجب علي هذا النحو: «قيل: و المجهورة تخرج أصواتها من الصدر، و المهموسة تخرج أصواتها من مخارجها في الفم» «5». (1) الكتاب 4/ 174- 175.
(2) كان مؤلف هذا التفسير مجهولا، و قد كتبت بحثا رجحت فيه أن يكون المذكور هو المؤلف (انظر: مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد، العددان 164- 165 ص 243- 255).
(3) انظر مقدمة كتاب المباني، ضمن: مقدمتان في علوم القرآن ص 148.
(4) الموضح 157 ظ.
(5) شرح الشافية 3/ 258- 259.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 117
تلك هي فكرة سيبويه عن الصوت المجهور و الصوت المهموس. و قد رددها من بعده علماء العربية و علماء التجويد، و يمكن القول بأن سيبويه تمكن من تصنيف الأصوات إلي مجهورة و مهموسة استنادا إلي إدراكه للفرق بين طبيعة القسمين الناتج عن اهتزاز الوترين الصوتيين، التي سماها سيبويه صوت الصدر، أثناء نطق الأصوات المجهورة، و عدم اهتزازهما في أثناء نطق الأصوات المهموسة، و كان هذا التقسيم في جملته صحيحا.
و لم يكتف علماء التجويد بترديد أفكار سيبويه في المجهور و المهموس، بل نجد بعض الإضافات الصحيحة، كما نجد بعض المحاولات لتقديم تعريف أوضح من تعريف سيبويه.
و تتركز ملاحظات علماء التجويد حول المجهور و المهموس علي الأثر السمعي لا علي توضيح مصدر الجهر، فهم يقررون أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، و هذا ما يفهم من وصف مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) للصوت المجهور بأنه أقوي من المهموس و أن المهموس أضعف من المجهور، ثم هو يقول: «و إنما لقب هذا المعني بالجهر لأن الجهر: الصوت الشديد القوي، فلما كانت في خروجها كذلك لقبت به، لأن الصوت يجهر بها لقوتها» «1».
و ركز الداني (ت 444 ه) في توضيح المجهور و المهموس علي المعني اللغوي للكلمتين، فقال في كتاب (التحديد): «الهمس الإخفاء، و الجهر الإعلان» «2». و قال في كتاب (الإدغام الكبير): «الهمس إخفاء الصوت، و الجهر الإعلان» «3». و ذكر ذلك أيضا عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه) فقال: «إن المهموس ما خفي، و المجهور ما أعلن» «4». و قد صرح ابن الحاجب (ت 646 ه) بأن الهمس هو (الصوت الخفي) و الجهر هو (الصوت العالي) «5». و هذه النصوص كلها تشير إلي معني واحد هو أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، و إذا لم يكن ذلك معناها فبأي شي‌ء يمكن أن تفسر هذه الكلمات: القوة- الإعلان- العلو؟.
و كان ابن كيسان (محمد بن أحمد ت 299 ه علي خلاف) قد صرح بهذه الحقيقة، حيث قال: «و معني المهموس منها أنه حرف لأن مخرجه دون المجهور و جري معه النفس، (1) الرعاية ص 92.
(2) التحديد 17 ظ.
(3) الإدغام الكبير 9 ظ.
(4) الموضح 156 و.
(5) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 490.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 118
و كان دون المجهور في رفع الصوت» «1»، و ابن كيسان نحوي و مقرئ «2». و كان الداني قد أشار إليه في كتاب (التحديد في الإتقان و التجويد) مرتين «3». و ذهب الأسترآباذي هذا المذهب حيث صرح بأن «الجهر رفع الصوت بالحرف» «4».
و نقل أحمد بن أبي عمر (ت في حدود 500 ه) مؤلف كتاب (الإيضاح في القراءات) عن علي بن عيسي (لعله الرماني ت 384 ه أو الربعي ت 420 ه) «5»، أن المجهور يتميز (بشدة الوقع) لقوة الاعتماد فيه «6». و نقل عنه توضيحا لمعني قوة الاعتماد و ذلك حيث قال:
«و قال علي بن عيسي:
معني مجهور: حرف قوي الاعتماد في موضعه، فقوي الصوت لقوة الاعتماد.
و معني مهموس: حرف ضعف الاعتماد في موضعه فضعف الصوت لضعف الاعتماد.
و أنت إذا اعتبرت ذلك وجدته: تقول: أص، فتري الاعتماد للصاد ضعيفا، ثم تقول:
أز، فتري الاعتماد للزاي قويا، و الصوت بالزاي أقوي من الصوت بالصاد، و هما من مخرج واحد.
و كذلك تقول: أث، فتعتمد للثاء اعتماد ضعيفا، و تقول: أذ، فتعتمد للذال اعتمادا قويا، و الصوت بالذال أقوي من الصوت بالثاء، و هما من مخرج واحد» «7».
و قد أشار المحدثون من علماء الأصوات إلي هذه الخاصية للصوت المجهور و للصوت المهموس، و أن الأصوات المجهورة أشد بروزا و وضوحا في السمع من الأصوات المهموسة «8».
و كان طاش كبري زاده (ت 968 ه) قد حاول صياغة تعريف جديد للمجهور و المهموس يعتمد علي نظريته في إنتاج الأصوات، التي سبق أن ذكرناها (النص الرابع)، (1) ابن منظور: لسان العرب 1/ 7.
(2) انظر: ابن النديم: الفهرست ص 89.
(3) التحديد 17 و، 21 ظ.
(4) شرح الشافية 3/ 260.
(5) انظر: كحالة: معجم المؤلفين 7/ 162 و 163.
(6) الإيضاح 73 ظ.
(7) الإيضاح 73 ظ.
(8) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 125.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 119
و ذلك حيث يقول: «إن النّفس الخارج، الذي هو وظيفته حرف، إن تكيف كله بكيفية الصوت حتي يحصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، و إن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا» «1».
و هذا التعريف، و إن كانت بعض أجزائه تفتقر إلي الوضوح، لكنه يتقدم علي تعريف سيبويه خطوة نحو التعريف الكامل للمجهور و المهموس الذي نجده عند المحدثين. فهو يبين أن المجهور أقوي من المهموس لا بسبب قوة الاعتماد و إنما بسبب تكيف النّفس كله بكيفية الصوت، و لكن كيف يحصل ذلك؟ التعريف يقف عند هذا الحد، و إن كنا الآن ندرك أن ذلك يتم باهتزاز الوترين الصوتيين في أثناء مرور النّفس بهما. و الصوت المهموس لا يتكيف بهذه الكيفية.
و ناقش محمد المرعشي (ت 1150 ه) هذا التعريف ناقلا إياه عن علي القاري الذي أورده في (المنح الفكرية علي متن الجزرية) دون أن ينسبه لأحد «2». و ذلك حيث قال:
«و تحقيق الفرق هنا ما قال (علي القاري): إنّ نفس الحرف إن تكيف كله بكيفية الصوت حتي حصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، و إن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا، انتهي.
أقول [المرعشي : هذا الفرق يتحقق في القراءة جهرا، فالمراد من الصوت القوي الجهر، و قوله: بلا صوت يعني بلا صوت جهري يجري مع مبدأ الحرف. فإذا قلت: اذ بالمعجمة، و مددتها تجد نفسها كله متكيفا بصوت جهري. و إذا قلت: اص بالمهملة، و مددتها تجد مبدأ نفسها متكيفا بصوت جهري و آخره خاليا عن ذلك الجهر بل متكيفا بصوت خفي، و قس عليهما. فالصاد المهملة بعض صوتها مجهور و بعضه مهموس لكن الاصطلاح وقع في أنها مهموسة، و كذا سائر حروف الهمس.
و أما في القراءة إسرارا فلا يتحقق هذا الفرق، و هو نظر»! «3».
و نجد في تحليل المرعشي للتعريف السابق ما يزيل بعض الغموض الذي فيه، فتفسيره لكلمة (الصوت) بأن المراد منها (الصوت الجهري) أن النغمة المتولدة من ذبذبة الوترين (1) شرح المقدمة الجزرية 11 ظ.
(2) المنح الفكرية ص 14.
(3) جهد المقل 11 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 120
الصوتيين جعل تعريف المجهور و المهموس أقرب إلي الوضوح و الدقة، فالمجهور حينئذ الحرف (الصوت) الذي يصاحب نطقه اهتزاز الوترين الصوتيين، و ما يترتب علي ذلك من نغمة صوتية، هي التي ذكرت في التعريف بأنها (صوت قوي). و المهموس هو الذي لا يصاحب نطقه ذلك الصوت. و هنا نقترب من تعريف المحدثين للمجهور بأنه الصوت الذي يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به، و للمهموس بأنه الصوت الذي لا يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به.
و تبقي بعد ذلك قضيتان في كلام المرعشي السابق جديرتان بالمناقشة، الأولي: اعتقاده بأن الصاد تبدأ بصوت جهري ثم تنتهي بصوت خفي (أي مهموس) و هكذا بقية الحروف المهموسة. فهذا العبقري الذي ختم الدراسات التجويدية بآرائه و تحليلاته القيمة وقع في و هم ما كان له أن يقع فيه، فاعتقاده هنا غير صحيح، و يبدو أن الذي أوقعه في ذلك الوهم أسلوب التجربة الذاتية التي أجراها علي الصاد فحين ننطق بها علي هذا النحو (اص) فإننا نبدأ بالهمزة، و هي ليست مجهورة، و لكننا ننطق بعد الهمزة بكسرة و هي مجهورة، ثم ننطق بعد ذلك بالصاد. و لعل قول المرعشي أن الصاد تبدأ بصوت جهري جاء نتيجة لتأثره بذاك الجهر الناشئ من كسرة همزة الوصل.
الثانية: هي تمييزه بين القراءة بصوت مرتفع و القراءة المخافتة، و لاحظ أن التفريق بين المجهور و المهموس لا يتم إلا في القراءة بصوت مرتفع، أما في القراءة إسرارا فلا يتحقق هذا الفرق، لأن الوترين الصوتيين يكفان عن الاهتزاز حينئذ، فلا يتميز الصوت المجهور عن المهموس علي النحو الذي يحصل في القراءة المرتفعة.
و من الإضافات القيمة لعلماء التجويد في سبيل توضيح المجهور و المهموس ما ذكره محمد المرعشي في كتابه (جهد المقل) من «أن نفس الحرف المجهور قليل، و نفس الحرف المهموس كثير» «1». و أكد هذه الفكرة في (بيان جهد المقل) فقال: «لكن جري النّفس في المهموس الرخو أكثر من جريه في المجهور الرخو» «2». و قال في موضع آخر: «فالرخو المصحوب بنفس كثير هو الرخو المهموس كالسين و الصاد المهملتين» «3». (1) جهد المقل 12 ظ.
(2) بيان جهد المقل 15 و.
(3) المصدر نفسه 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 121
و المرعشي يشير بذلك إلي أن إنتاج الصوت المهموس يحتاج إلي كمية من هواء النفس أكثر مما يحتاج إليه إنتاج الصوت المجهور. و يلاحظ ذلك في نطق الذال و الثاء مثلا، فنقول:
إذ، و نمد الصوت، و نقول: اث و نمد الصوت، فنشعر بوضوح إلي الحاجة إلي نفس قوي في الثاء بينما نحتاج إلي أقل من ذلك في الذال، و هكذا في كل مجهور و مهموس.
و هذه ملاحظة يؤيدها علماء الأصوات المحدثون، فقد قال الدكتور محمود السعران:
«و مما هو جدير بالملاحظة أن الصوامت المهموسة يحتاج نطقها إلي قوة من إخراج النّفس (الزفير) أعظم من التي يتطلبها نطق الصوامت المجهورة. و يمكن أن نلمس هذا الفارق في قوة النّفس إذا بسطنا الكف أمام الفم و نحن ننطق صامتا مهموسا متلوا بنظيره المجهور مثل ث، ذ/ ت، د/ س، ز ... الخ» «1».
و يمكن أن نضيف إلي ذلك وسيلة ثانية تؤكد حاجة الصوت المهموس إلي نفس أقوي من حاجة الصوت المجهور، و هي أن يملأ الناطق رئتيه هواء ثم ينطق صوتا مهموسا مثل اس أو اث و يمد الصوت حتي ينفد الهواء، ثم يعيد مل‌ء رئتيه هواء و ينطق صوتا مجهورا مثل از أو اذ و يمد الصوت حتي ينفد الهواء، فسنجد أن مدة نطق الصوت المجهور قد تصل إلي ضعف مدة الصوت المهموس، إذا حاول نطقهما بطريقة واحدة، و هو أمر يؤكد فعلا ما قرره محمد المرعشي و أيدته الدراسة الصوتية الحديثة من أن المهموس يحتاج إلي نفس أكثر من المجهور.
و ربما تكون هذه الظاهرة مرتبطة بحقيقة لاحظها علماء التجويد و أيدتها أيضا الدراسات الحديثة، و هي أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، و ذلك راجع إلي النغمة التي تتولد من ذبذبة الوترين الصوتيين، و هو ما يفتقده الصوت المهموس و زيادة دفع الهواء من الرئتين لزيادة لزيادة وضوحه السمعي.
تلك هي جهود علماء التجويد في دراسة ظاهرتي الجهر و الهمس، و هي تمثل مرحلة بين ما قاله سيبويه و علماء العربية و ما توصل إليه المحدثون من دور الوترين الصوتيين في ذلك، و قد أدرك علماء التجويد كل خصائص الصوت المجهور و الصوت المهموس إلا أنهم لم يتوصلوا إلي معرفة الوترين الصوتيين و تحديد دورهما في ظاهرتي الجهر و الهمس، و ليس كثيرا ألا يتوصلوا إلي ما لم يتوصل إليه المحدثون إلا بالوسائل الآلية الدقيقة. فيكفيهم أنهم (1) علم اللغة ص 164.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 122
أدركوا بالملاحظة الذاتية جوانب كثيرة من خصائص الأصوات دلت علي عمق النظرة و المواظبة علي البحث من أجل اكتشاف أسرار الصوت الإنساني.

4- الشدة، و الرخاوة، و التوسط:

من الجوانب الأساسية في إنتاج الأصوات اللغوية تحديد درجة انفتاح مخرج الصوت أثناء مرور الهواء به، لأن ذلك من العوامل المؤثرة في تنوع الأصوات و اختلاف جروسها.
و علماء الأصوات، سواء منهم علماء العربية و علماء التجويد المتقدمون، أو علماء الأصوات المحدثون يقسمون الأصوات تبعا لهذا الاعتبار إلي ثلاثة أقسام:
1- الصوت الرخو «1»، و يسميه المحدثون الاحتكاكي.
2- الصوت الشديد، و يسميه المحدثون الانفجاري.
3- الصوت المتوسط.
و سوف أتبع في مناقشة هذا الموضوع المنهج الذي اتبعته في مناقشة موضوع الجهر و الهمس. فأعرض أولا رأي علماء الأصوات المحدثين، ثم أورد رأي سيبويه و علماء العربية من بعده، و أخيرا أذكر رأي علماء التجويد، مركزا علي الاتجاهات الجديدة لديهم في الموضوع، مبينا موقعها من الدرس الصوتي الحديث.
فالصوت الشديد (الانفجاري) لدي علماء الأصوات المحدثين هو الذي ينحبس مجري النفس المندفع من الرئتين لحظة من الزمن في مخرجه، و ذلك بالتقاء عضوين من أعضاء آلة النطق، ثم ينفصل العضوان فيندفع الهواء المحبوس فجأة محدثا صوتا، انفجاريا، مثل الباء و التاء و الدال و غيرها.
و الصوت الرخو (الاحتكاكي) هو الذي لا ينحبس الهواء في مخرجه حبسا تاما، و ذلك بأن يضيق مجري النّفس باقتراب عضوين من أعضاء آلة النطق نحو بعضهما في مخرج الحرف، دون أن يقفلا المجري، فيحدث النّفس في أثناء مروره بمخرج الصوت حفيفا مسموعا تختلف نسبته تبعا لنسبة ضيق المجري. و ذلك مثل صوت السين و الزاي و الحاء و غيرها.
أما الأصوات المتوسطة فهي التي يجد النّفس له فيها منفذا يتسرب منه إلي الخارج علي الرغم من التقاء العضوين في مخرج الصوت المنطوق، و ذلك مثل اللام و الميم و النون (1) قال أبو الفتوح الوفائي (الجواهر المضية 26 ظ): «و الرخوة بتثليث الراء و الكسر أشهر»، و ما جاء في لسان العرب لابن منظور (19/ 28 رخو) يؤيد هذا القول.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 123
و غيرها، و من هنا سميت هذه الأصوات بالمتوسطة أي التي ليست شديدة (انفجارية) و لا رخوة (احتكاكية) «1».
و قد عرّف سيبويه (الشديد) بأنه «الذي يمنع الصوت أن يجري فيه، و هو الهمزة، و القاف، و الكاف، و الجيم، و الطاء، و التاء، و الدال، و الباء، و ذلك أنك لو قلت (الحج) ثم مددت صوتك لم يجر فيه» «2».
ثم عدّد الحروف الرخوة، و قال: «و ذلك إذا قلت: الطس، و انقض، و أشباه ذلك أجريت فيه الصوت إن شئت» «3». و قال ابن جني: «و الرخو هو الذي يجري فيه الصوت» «4».
و لم يستخدم سيبويه مصطلح (المتوسطة) و لكنه قال بعد أن ذكر الحروف الشديدة و الرخوة: «و أما العين فبين الرخوة و الشديدة» ثم عدّد أصنافا من الحروف هي: الأنفية و المكرر، و اللينة، و الهاوي «5». ثم جاء ابن جني فنص أن كل ما عدا الشديدة و الرخوة فهو من التي بين الشديد و الرخو، و هي ثمانية و حصرها في (لم يروعنا) «6»، و لا نريد أن ندخل هنا في مناقشة عددها، لأنا سنعود إلي ذلك في مكان لاحق إن شاء اللّه، و لكننا نريد هنا أن نقف علي التصور العام في إنتاج هذه الأصوات.
و يبدو أن استعمال مصطلح (المتوسطة) تأخر كثيرا، و ظلت عبارة (بين الشديدة و الرخوة) هي المستعملة حتي القرن السابع و ربما إلي الثامن. فلا نجده في المفصل للزمخشري، و لا في شرحيه لابن يعيش (ت 643 ه) «7». و ابن الحاجب (ت 646 ه) «8».
و كذلك لا نجده في الشافية لابن الحاجب، و لا في شرحيها للاستراباذي (ت 686 ه) «9».
و للجاربردي (ت 746 ه) «10». (1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 23- 24، و جان كانتينو: دروس ص 24.
(2) الكتاب 4/ 434.
(3) الكتاب 4/ 435.
(4) سر صناعة الإعراب 1/ 70.
(5) الكتاب 4/ 435.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 69.
(7) شرح المفصل 10/ 129.
(8) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 486.
(9) شرح الشافية 3/ 260.
(10) شرح الشافية ص 247.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 124
و أقدم من وجدته يستخدم مصطلح (المتوسطة) هو أبو حيان الأندلسي (ت 745 ه) في كتابه (ارتشاف الضرب) «1». و كذلك استخدمها تلميذه الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) في كتابه (شرح التسهيل) «2». و لكنه لم يستخدمها في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد في علم التجويد) «3». و هذه قضية لا يمكن تقديم رأي قاطع فيها، فمن غير المستبعد أن توجد نصوص أخري لم نطلع عليها يمكن أن ترجع باستخدام مصطلح (المتوسطة) قرونا، لكن المتيسر من النصوص الآن يشير إلي ما ذكرته.
و لعلنا لا نجد عناء كبيرا في فهم كلام سيبويه عن الصوت الشديد و الرخو و المتوسط، و أنه يريد بمنع الصوت من الجريان في الشديد حصر الصوت في مخرجه، و قد استخدم سيبويه نفسه كلمة الحصر، فهو يقول: «لأن الدال ليس فيها إطباق، فإنما تغلب علي الطاء لأنها من موضعها، و لأنها حصرت الصوت من موضعها كما حصرته الدال» «4». فاستخدام سيبويه عبارة (حصر الصوت في الموضع أي المخرج) يدل بوضوح علي أنه يبني تقسيمه للحروف إلي شديدة و رخوة علي أساس واضح يعتمد علي حالة المخرج في أثناء مرور النفس خلاله، فإذا حصر النّفس فهو شديد، و إذا لم يحصره فهو رخو، و المتوسطة حالة بينهما، و يكون معني قوله (يمنع الصوت أن يجري فيه) في تعريف الشديد هو أنه يحصر الصوت فيمنعه من الجريان حتي ينقضي الاعتماد في المخرج فينطلق النّفس بالحرف.
و نجد أن بعض النحاة استخدم كلمة (الحصر) في تعريف الشديد، و ترك كلمة (المنع) الواردة في كتاب سيبويه، فيقول ابن الحاجب: (و معني الشدة أن ينحصر صوت الحرف في مخرجه فلا يجري، و الرخاوة بخلافها، و ما بينهما هو ألا يتم له الانحصار، و لا يتم له الجري» «5».
أما علماء التجويد فقد كان الأوائل منهم حول تعريف سيبويه يدورون، فلا يبتعدون عنه و لا يغيرون في ألفاظه إلا الشي‌ء القليل، فكأنهم يشرحونه.
قال مكي: «و معني الحرف الشديد أنه حرف اشتد لزومه لموضعه، و قوي فيه، حتي منع (1) ارتشاف الضرب ص 5.
(2) شرح التسهيل 305 و.
(3) المفيد 101 ظ.
(4) الكتاب 4/ 460.
(5) الإيضاح في شرح المفصل 4/ 486.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 125
الصوت أن يجري معه عند اللفظ به» «1».
و قال الداني: «و معني الشديد أنه حرف اشتد لزومه لموضعه حتي منع الصوت أن يجري معه» «2».
و قال عبد الوهاب القرطبي: «و معني الحرف الشديد أنه حرف لزم موضعه، فمنع الصوت أن يجري فيه» «3».
و نجد اتجاهات جديدة في تعريف الحرف الشديد و قسيميه عند علماء التجويد الذين عاشوا بعد الجيل الأول. و قبل أن نتابع تلك الاتجاهات أشير إلي نص يتضمن عنصرا جديدا، ورد في تفسير (المباني لنظم المعاني) لأبي محمد حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام (كان حيا سنة 425)، و هو: «و إنما سميت رخوة لأن الاعتماد يضعف في موضع الحرف، و لا يضغط ضغطا يمنع الصوت من أن يخرج، فيخرج الحرف رخوا لذلك» «4». الجديد في هذا النص عبارة (يضغط ضغطا) و كلمة الضغط تساوي الحصر، و استخدامها في هذا السياق استخدام سديد.
و كان أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه) حين عرّف الشديد و الرخو ركّز علي إمكانية مد الصوت مع الرخو و عدمها في الشديد، فقال: «و الشديد ما لزم مخرجه فلا يمكنك مد الصوت به لتمكّنه، أ لا تري أنك إذا قلت: الشج و الشط، ثم رمت مدّ الصوت بالجيم و الطاء، امتنع عليك ... و الرخو ما لم يلزم مخرجه لزوم الشديد فيمكن مد الصوت به، أ لا تري أنك إذا قلت: الهزّ و المسّ و الرشّ و نحو ذلك، امتد به صوتك جاريا مع الزاي و السين و الشين» «5».
و ملاحظة امتداد الصوت في الرخو و عدم امتداده مع الشديد ملاحظة صحيحة، وصف بعض المحدثين من علماء الأصوات علي أساسها الأصوات الشديدة بأنها (آنيّة) و الأصوات الرخوة بأنها (متمادّة) «6». (1) الرعاية ص 93.
(2) التحديد 17 ظ.
(3) الموضح 156 و.
(4) انظر: مقدمة كتاب المباني، ضمن: مقدمتان في علوم القرآن ص 148.
(5) التمهيد 145 ظ.
(6) انظر: محمود السعران: علم اللغة 166.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 126
و قد جمع طاش كبري زاده بين ملاحظة حصر الصوت في الشديد و مده في الرخو في تعريف المصطلحات الثلاثة، و هو جزء من قوله الذي نقلناه آنفا (النص الرابع)، و ننقله هنا لنضعه إلي جانب النصوص الأخري التي عالجت الموضوع، قال: «إذا انحصر صوت الحرف في مخرجه انحصارا تاما فلا يجري يسمي شدة، كما في (الحج) فإنك لو وقفت علي قولك (الحج) وجدت صوتك راكدا محصورا، حتي لو رمت مدّ صوتك لم يمكنك.
و أما إذا جري الصوت جريا تاما و لا ينحصر أصلا يسمّي رخوة، كما في (الطش)، فإنك إذا وقفت عليه وجدت صوت الشين جاريا تمده إن شئت.
و أما إذا لم يتم الانحصار و لا الجري يكون متوسطا، بين الشدة و الرخاوة، كما في (الخل) فإنك إذا وقفت عليه وجدت الصوت لا يجري مثل جري (الطش) و لا ينحصر مثل انحصار (الحج) بل يخرج علي اعتدال بينهما» «1».
و نختم الكلام عن وجهة علماء التجويد في هذا الموضوع برأي محمد المرعشي الذي كانت بين يديه جهود أجيال من علماء العربية و علماء التجويد، فناقش النصوص المتعلقة بتعريف المصطلحات الثلاثة التي تضمنتها المصادر التي اعتمد عليها «2». و لكنه كان في أثناء تلك المناقشات يصوغ رأيه بعبارة دقيقة موجزة، مثل قوله: «إذا علمت هذا فاعلم أن صوت الحرف و نفسه إما أن يحتبسا بالكلية فيحصل صوت شديد، و هو في الحروف الشديدة، أو لا يحتبسا أصلا بل يجريا جريانا كاملا و هو (في) الحروف الرخوة. أو يتوسطا بين كمال الاحتباس و كمال الجري، و هو في الحروف البينية» «3».
و يلاحظ هنا أن المرعشي استخدم كلمة (البينية) مكان (المتوسطة) و هو اتجاه ذهب إليه بعض علماء التجويد، قال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020 ه) عن الحروف المتوسطة:
«و تسمي هذه الحروف البينية» «4».
و قد تضمن النص السابق للمرعشي كلمة (يحتبس) و هي ليست قديمة في الاستخدام في هذا الموضع، فالسابقون غالبا ما كانوا يستخدمون (المنع) و (اللزوم) و (الحصر) و جاءت كلمة (1) شرح المقدمة الجزرية 11 ظ- 12 و، و انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 14، و أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 10 ظ.
(2) انظر: جهد المقل 11 ظ- 12 و.
(3) جهد المقل 12 ظ- 13 و.
(4) الجواهر المضية 30 و، و انظر: أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 10 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 127
(الحبس) عند المرعشي أوضح في الدلالة علي حقيقة الصوت الشديد من كل الكلمات الأخري، فهي تشير إلي القفل التام لمجري النّفس. و قد استخدم بعض علماء الأصوات من المحدثين كلمة (الحبس) و ما اشتق منها في وصف عملية تكون الأصوات الانفجارية (أي الشديدة) «1».
و لما كانت الحروف الشديدة تتميز بحبس النّفس ثم إطلاقه فجأة، نجد المرعشي يتبني فكرة تسمية الشديدة بمصطلح (آنية) و تسمية الرخوة بمصطلح (زمانية)، فينقل الفكرة عن السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816 ه) في شرحه لكتاب (المواقف في علم الكلام) لعضد الدين عبد الرحمن بن محمد الإيجي (ت 756 ه) «2». قال المرعشي: «قال في شرح المواقف: إن الحروف الشديدة آنية، لا توجد إلا في آن حبس النّفس، و ما عداها زمانية يجري فيه الصوت زمانا. انتهي.
أقول (المرعشي): و ما عداها متفاوتة في الجريان، إذ حروف الرخو أتم جريانا من الحروف البينية، و حروف المد أطول زمانا من سائر حروف الرخو» «3». و قد ردد المرعشي هذه الفكرة في مواضع أخري «4». و قد أخذ بعض المحدثين بتسمية الأصوات الشديدة (آنية) «5».
و أدرك علماء التجويد كما نص علماء العربية من قبل أن من الحروف المتوسطة ما يأخذ النّفس معه مجراه من الأنف، فيقول المرعشي: «و اعلم أن جريان الصوت في البينية دون جريانه في الرخوة لكن جريانه في ثلاثة منها ليس في المخرج، هي النون و الميم و اللام. و أما الأوليان فالجاري فيهما الغنة، و هي تجري في الخيشوم و اللسان لاصق فيهما لموضع الحرف، فإذا أمسكت أنفك لم يجر فيهما صوت البتة، كذا قاله علي القاري، و أما اللام فاللسان لاصق فيها لموضع الحرف، و إنما يجري الصوت من الطرفين المجاورين للمخرج» «6». و قوله: (فاللسان لاصق فيهما لموضع الحرف) الحقيقة أن هذا ينطبق علي (1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 23- 24، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 127.
(2) انظر شرح المواقف، ط 1، مطبعة السعادة، القاهرة 1325 ه 1907 م، ج 5، ص 72.
(3) جهد المقل 12 و.
(4) جهد المقل 17 ظ.
(5) جان كانتينو: دروس ص 35.
(6) بيان جهد المقل 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 128
النون، أما الميم فالشفتان هما موضع الميم. و أصل هذه الفكرة عند سيبويه «1». و عنه نقلها علماء التجويد و غيرهم «2».

5- الفرق بين الشديد و المجهور و بين الرخو و المهموس:

أصبح الفرق واضحا لدي دارسي الأصوات من المحدثين بين هذه المصطلحات الأربعة، فالمجهور و المهموس مصطلحان يستخدمان لوصف الصوت تبعا لحالة الوترين الصوتيين عند النطق، فإذا تذبذب الوتران حال النطق بالصوت وصف بأنه مجهور، و إذا ظلا ساكنين و النّفس يمر بينهما دون أن يتذبذبا حال النطق بالصوت وصف بأنه مهموس.
أما الشديد و الرخو فمصطلحان يعبران عن كيفية مرور الهواء في مخرج الصوت، فإذا حبس النفس في المخرج لحظة ثم أطلق وصف الصوت بأنه شديد، و إذا مر النفس في مخرج الصوت مع تضييق مجراه دون أن يحتبس في المخرج وصف الصوت بأنه رخو.
و من ثم فإن الصوت المجهور يمكن أن يكون شديدا مثل: د، ب، و يمكن أن يكون رخوا مثل: ذ، ز. و كذلك الصوت المهموس يمكن أن يكون شديدا مثل: ك، ت، و يمكن أن يكون رخوا مثل: ث، س. و لا تناقض في ذلك أبدا.
و كذلك كان موقف علماء العربية و علماء التجويد من هذا الموضوع، إلا أن بعض جوانبه ظلت غامضة لدي نفر قليل جدا منهم، فخلطوا بين المجهور و الشديد، و أساس ذلك الغموض ينبع من تعريف سيبويه للمجهور و الشديد، فالمجهور عند سيبويه: (حرف أشبع الاعتماد في موضعه، و منع النّفس أن يجري معه حتي ينقضي الاعتماد عليه و يجري الصوت» و الشديد عنده: (هو الذي يمنع الصوت أن يجري فيه) «3».
فالمجهور (منع النّفس أن يجري معه) و الشديد (يمنع الصوت أن يجري فيه). و قد فهم العلماء بعد سيبويه أن (النّفس) و (الصوت) لهما دلالة خاصة و متمايزة عنده، فكانوا حريصين علي الدقة في استخدام كلمة (النّفس) مع المجهور، و استخدام كلمة (الصوت) مع الشديد.
و جعلوا ذلك جوهر الفرق بينهما، فقال الأسترآباذي (ت 686 ه): «و الفرق بين الشديدة و المجهورة أن الشديدة لا يجري الصوت عند النطق بها، بل إنك تسمع به في آن ثم ينقطع، (1) الكتاب 4/ 435.
(2) انظر: الداني: التحديد 18 و. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 ظ.
(3) الكتاب 4/ 434.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 129
و المجهورة لا اعتبار فيها بعدم جري الصوت بل الاعتبار فيها بعدم جري النّفس عند التصويت بها» «1».
و قال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020 ه): «التحقيق أن بين المجهورة و الشديدة فرقا باعتبار عدم جري النّفس في المجهورة، و عدم جري الصوت في الشديد، كما نص عليه الرضي في شرح الشافية» «2».
و هذا الاتجاه في تحقيق الفرق بين المجهور و الشديد يسير موازيا و موافقا لتعريف سيبويه لكل منهما، دون أن يأخذ بالحسبان عدم الوضوح في تحديد ذلك الفرق، و من ثم برز إلي جانبه اتجاه آخر في توضيح الفرق بين المجهور و الشديد، و ضديهما المهموس و الرخو.
و يتمثل ذلك الاتجاه فيما نقله أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) في كتابه (الإيضاح في القراءات) و هو أن «الفرق بين المجهور و الشديد أن المجهور يقوي الاعتماد فيه بشدة الوقع، و الشديد يشتد الاعتماد فيه بلزوم موضعه لا بشدة الوقع» «3».
و أخذ ابن يعيش (ت 643 ه) هذه الفكرة و حاول أن يشرحها و يجعلها شاملة في بيان الفرق بين هذه المصطلحات الأربعة فقال: «و الفرق بين المجهورة و الشديدة أن المجهورة يقوي الاعتماد فيها، و الشديدة يشتد الاعتماد فيها بلزومها موضعها لا بشدة الوقع. و هو ما ذكرناه من الضغط، أ لا تري أن الذال و الظاء مجهورتان غير مضغوطتين، فنقول: اذ، اظ، فيجري معها صوت ما.
و الفرق بين المهموسة و الرخوة أن المهموسة هي التي تردد في اللسان بنفسها أو بحرف اللين الذي معها، و لا يمتنع النّفس. و الصوت الذي يخرج معها نفس، و ليس من الصدر. و أما الرخوة فهي التي يجري النّفس فيها من غير ترديد، و هو صوت من الصدر» «4».
و مع أننا نلاحظ اقتراب ابن يعيش من دائرة الوضوح في تصور الموضوع و تجاوزه لعقدة (الصوت و النّفس) إلي حد ما، يظل كلامه عن (الرخو) بحاجة إلي ما يوضحه، و لا أستبعد أن يكون هناك خلل أو تصحيف في العبارة، لا سيما في جزئها الأخير الذي يتحدث فيه عن (1) شرح الشافية 3/ 260.
(2) الجواهر المضية 29 ظ.
(3) الإيضاح 73 ظ.
(4) شرح المفصل 10/ 129.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 130
الرخوة، خاصة قوله: (... من غير ترديد، و هو صوت من الصدر).
و كان السكاكي (أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر ت 626 ه) الوحيد بين العلماء المتقدمين و المتأخرين من علماء العربية و علماء التجويد، الذي لم يستطع تجاوز الغموض في تعريف سيبويه المشهور للمجهور و الشديد، فأحس أن فيه تناقضا، فلم تسعفه خبرة طويلة في ممارسة دراسة الأصوات العربية، فخلط في المقدمة الموجزة التي كتبها في أول كتابه (مفتاح العلوم) عن الأصوات العربية، بين المجهور و الشديد، و المهموس و الرخو.
قال و هو يتحدث عن حروف العربية: «اعلم أنها عند المتقدمين تتنوع إلي مجهورة و مهموسة. و هي عندي كذلك، لكن علي ما أذكره و هو أن الجهر انحصار النّفس في مخرج الحرف، و الهمس جري ذلك فيه. و المجهور عندي الهمزة و الألف و القاف و الكاف و الجيم و الياء و الراء و النون و الطاء و الدال و التاء و الباء و الميم و الواو، و يجمعها قولك: قدك اترجم و نطايب. و المهموسة ما عداها.
ثم إذا لم يتم الانحصار و لا الجري كما في حروف قولك (لم يروعنا) سميت معتدلة و ما بين الشديدة و الرخوة.
و إذا تم الانحصار كما في حروف قولك (أجدك قطبت) سميت شديدة، و إذا تم الجري كما في الباقية من ذلك سميت رخوة» «1».
إن ما يمكن قوله هنا إن السكاكي أراد أن يعبد صياغة تصنيف الأصوات العربية من حيث الجهر و الهمس و من حيث الشدة و الرخاوة، و لكن خبرته في الموضوع لم تسعفه. و كان يدفعه إلي ذلك علي ما يبدو صعوبة اعترضته في فهم كلام سيبويه و علماء العربية الذين سبقوه في دراسة الموضوع، فاختلط عليه الأمر فجعل الكاف و التاء من المجهورة، و هو ما لم يقل به أحد من المتقدمين و لا المتأخرين، علي اعتبار أن الجهر عنده هو (انحصار النفس في مخرج الحرف).
و لم يمض إلا وقت قصير حتي تصدي لتصحيح الوهم الذي وقع السكاكي فيه عدد من علماء العربية الذين كانوا يدركون حقيقة دلالة المصطلحات الصوتية «2».
و نجد أن دلالة (النّفس) و (الصوت) أخذت تتحدد عند جيل من علماء التجويد (1) مفتاح العلوم ص 5.
(2) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257. و الجاربردي: شرح الشافية ص 246.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 131
المتأخرين علي نحو واضح، و من ثم أخذت تتحدد مفاهيم المجهور و الشديد، و المهموس و الرخو، علي نحو واضح أيضا. و نلمس ذلك عند طاش كبري زاده في قوله السابق (النص الرابع) الذي ميز فيه بوضوح بين النّفس و الصوت، فالنّفس هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بدفع الطبع، و الصوت هو ذات الهواء (النّفس) الخارج من داخل الإنسان بالإرادة و عرض له في مخارج الحروف تموج بسبب تضييق مجراه في المخارج، و قد درسنا هذا الموضوع من قبل في الفقرة الخاصة بالنّفس و الصوت، و الذي يعنينا هنا أن نبين أثر تحديد دلالة مصطلحي النّفس و الصوت علي الوضوح في تصور المصطلحات الأربعة التي عقدنا هذه الفقرة لدراسة العلاقة بينها.
و يتضح من كلام طاش كبري زاده أنه يستخدم مصطلح الصوت مع الأنواع الأربعة:
المجهور و المهموس و الشديد و الرخو. لكن الذي ميز بينها هو طريقة تكونها، و نكتفي هنا بما أوردناه من قبل عند تحليل فقرات النص المذكور.
و كان محمد المرعشي أكثر المتأخرين وضوحا في إدراك العلاقة بين النّفس و الصوت، و وضوحا في التعبير عن العلاقة بين الأنواع الأربعة المذكورة. فحقيقة الصوت عنده هي (النّفس المسموع)، و هذه مقولة كررها كثيرا «1». و هو يقول إلي جانب ذلك (إن النّفس ركن الصوت) «2». و هو معني قول علماء الصوت المحدثين: «إن تيار النّفس هو أساس كل صوت لغوي مهما كان نوعه» «3».
و قد عقد محمد المرعشي فصلا في كتابه (جهد المقل) لبيان علاقة النفس و الصوت بالحروف المجهورة و المهموسة، و الشديدة و الرخوة رأيت أن أنقل جزءا منه، لكونه يتضمن وجهة نظر متكاملة و واضحة، و لأن دارسي الأصوات العربية المعاصرين بحاجة إلي الاطلاع علي هذه النصوص النادرة المجهولة جدا لديهم، قال محمد المرعشي:
«اعلم ... أن صوت الحرف، و إن كان مجهورا، فهو لا يتحقق بدون النّفس، لأن حقيقة الصوت هي النّفس المسموع، كما سبق، فاحتباس الصوت يستلزم احتباس النّفس معه، و جريه جريه، و أن نفس الحرف و إن كان مهموسا فهو لا ينفك عن الصوت، لأن حقيقة (1) جهد المقل 5 ظ، 12 ظ، و بيان جهد المقل 16 ظ.
(2) بيان جهد المقل 15 و.
(3) أ: شاده: الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية، 1931 م العدد الخامس ص 9.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 132
الحرف هو الصوت المعتمد علي المخرج، كما سبق. و أن نفس الحرف المجهور قليل، و نفس الحرف المهموس كثير ...
إذا علمت هذا فاعلم أن صوت الحرف و نفسه:
إما أن يحتبسا بالكلية فيحصل صوت شديد، و هو في الحروف الشديدة. أو لا يحتبسا أصلا بل يجريا جريانا كاملا، و هو في الحروف الرخوة. أو يتوسطا بين كمال الاحتباس و كمال الجري، و هو في الحروف البينية.
فهذه ثلاثة أنواع:
ففي النوع الأول: إن جري بعد ذلك الاحتباس نفس كثير فالحرف شديد مهموس، و إن لم يجر فالحرف شديد مجهور.
و في النوع الثاني: إن كان صوت الحرف جاريا كله مع نفس قليل فالحرف رخو مجهور، و إن كان جاريا كله مع نفس كثير فالحرف رخو مهموس.
و النوع الثالث: مجهور كله ...» «1».
و يبدو لي أن الدرس الصوتي عند المرعشي خاصة في كتابيه (جهد المقل) و (بيان جهد المقل) جدير ببحث مستقل لأنه يتميز دائما بدقة تحليله للظواهر الصوتية و عمق نظرته في فهمها و وصفها. و نحن لا نملك في هذا البحث سوي أن نقتطف بعض النصوص و نضعها مواضعها من المباحث و الفصول إلي جانب نصوص أخري لا تقل أهمية عنها في كثير من الأحيان.

الخلاصة:

يتضح مما سبق أن علماء التجويد عرفوا حقيقة عملية النطق، و أدركوا العناصر الأساسية المكونة للأصوات اللغوية، و يمكن أن نلخص وجهة نظرهم في إنتاج الصوت اللغوي بالنقاط الآتية، مقتبسة من النصوص الأربعة و من المناقشة بعدها:
1- إن النّفس (الهواء المندفع من داخل الرئتين) هو ركن الصوت، و أنه لا يسمي صوتا حتي يكون مسموعا و ذلك إذا أخرج بالإرادة و قوة الدفع، و تعرض في أجزاء من آلة النطق إلي تموّج، نتيجة حبس كامل أو تضييق لمجراه، و أن الأصوات اللغوية تنتج من النّفس (1) جهد المقل 12 ظ- 13 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 133
الخارج من الرئتين لا الداخل إليها.
2- أدرك علماء التجويد دور الحنجرة في تكوين الصوت اللغوي، و عرفها بعضهم، و إن لم تصل تلك المعرفة إلي معرفة الوترين الصوتيين و طبيعة عملهما. و قد سموا النغمة الصوتية التي يصدرها الوتران مع بعض الأصوات بصوت الصدر، اقتداء بسيبويه، و سماها ابن البناء (ترديد الحنجرة) و سماها طاش كبري زاده و المرعشي (الصوت القوي)، أو (الصوت الجهري). و قد سموا الحرف الذي تصاحب إنتاجه تلك النغمة مجهورا، و الحرف الذي لا تصاحب إنتاجه تلك النغمة مهموسا.
3- ثم إن الذي ميز بين الأصوات بعد أن يجتاز النّفس الحنجرة هو اختلاف مواضع القطع، أي اختلاف المخارج، و قد بلغ علماء التجويد في تحديد تلك المخارج درجة كبيرة من الدقة، و سوف نوضح في مبحث لا حق تفصيل ذلك، إن شاء اللّه تعالي.
و أدرك علماء التجويد أثر حالة ممر الهواء عند المخرج و مقدار درجة انفتاحه في اختلاف الأصوات و تنوعها، و قرروا أنه إذا احتبس الصوت في مخرج الحرف بالكلية كان شديدا (انفجاريا) و إذا لم يحتبس الصوت كان رخوا (احتكاكيا)، و يكون متوسطا (أو بينيا) إذا كان بين صفة الشديد و الرخو.
5- سمّي علماء التجويد تلك الكيفيات المصاحبة لتكوّن الصوت في مخرجه من جهر و همس و شدة و رخاوة و توسط، صفات، اقتداء بتسمية علماء العربية من قبلهم، و قد ذهب علماء التجويد إلي أن اختلاف هذه الصفات هو أساس تمايز الحروف المتحدة المخرج، كما أن اختلاف المخرج هو أساس تمايز الحروف المتفقة الصفات، كما ورد ذلك واضحا في النص الأول و النص الثاني. و قد أخّرت الكلام علي صفة لها دور في التمييز بين بعض الأصوات، و هي صفة الإطباق، و ذلك لأن أثرها لا يشمل إلا عددا محدودا من الأصوات، و إنما قصدت في هذا المبحث توضيح الفكرة العامة لعلماء التجويد عن كيفية إنتاج الأصوات، دون أن ندخل في التفاصيل أو نستقصي الجزئيات، إذ سوف نتناول ذلك في مباحث لا حقة علي نحو مفصل، إن شاء اللّه تعالي.
6- أدرك علماء التجويد أن بعض الأصوات يعتمد له في الفم أو الشفتين و لكن الهواء يتخذ مجراه من الأنف (أو الخيشوم)، و هي الأصوات التي تسمي بالأنفية أو الخيشومية، و هي النون و الميم خاصة. و قد أفاض علماء التجويد في بحث هذا الموضوع من خلال بحث (الغنة) التي هي مرور النّفس من الخيشوم.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 134
و نختم هذا المبحث بإيراد نصين موجزين لتصور المحدثين لكيفية إنتاج الأصوات اللغوية، لندرك مدي ما حققه علماء التجويد بوسائلهم الذاتية المحدودة، قياسا بما حققه علماء الأصوات المحدثون بأجهزتهم الآلية الدقيقة، في ذلك الموضوع.
قال: أ. شاده: «إن الأصوات اللغوية هي ظواهر سمعية تحدث بأن تيار النّفس الخارج من الرئة يعرض له في الحنجرة أو في الفم أو بين الشفتين عارض يضيق طريقه أو يقطعه. فلا يحدث صوت إلا بعاملين، أحدهما النّفس، و ثانيهما العارض» «1».
و قال جان كانتينو: «فهناك إذن في عملية التصويت عنصران لازمان و كافيان لإحداث الأصوات أو لإحداث أي دويّ آخر، هما:
1- إخراج النّفس من الرئتين.
2- تفصيل النطق في الفم. و من المفروغ منه أن المدوي الفموي يمكن أن تتغير هيئته و حجمه حسب إرادة الناطق. و هناك عنصران آخران قد يضافان إلي العنصرين الأولين أو لا يضافان إليهما و هما:
1- نزيز الأوتار الصوتية (يعني ذبذبة الأوتار).
2- الغنة الخيشومية، التي تحدث إذا تنزّل غشاء الحنك و تنعدم إذا ارتفع» «2».
*****
(1) علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية- العدد الخامس ص 3.
(2) دروس في علم أصوات العربية ص 19- 20.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 135

المبحث الثالث تصنيف الأصوات اللغوية إلي جامدة و ذائبة (أو إلي صامتة و مصوتة)

يصنف علماء الأصوات المحدثون الأصوات اللغوية تصنيفات متعددة، تبعا للمعني الذي ينظرون إليها من خلاله، و ذلك لأجل تيسير دراستها و تحليلها ثم وصفها. و أول تصنيف يتصدر كتب علم الأصوات اللغوية الحديثة هو تصنيفها إلي (صامتة و مصموتة) «1». و هذا هو المصطلح الذي كنت قد آثرت استخدامه للتعبير عن هذين الصنفين حين كتبت بحثا عن هذا الموضوع قبل خمس سنوات «2». و هو الذي آثر استخدامه أيضا عدد من الدارسين «3». من بين عدد من المصطلحات التي حاول دارسو الأصوات العربية المحدثون أن يترجموا إليها المصطلحين الأوربيين المعبرين عن ذينك الصنفين «4».
و اليوم، و بعد أن درست عددا من كتب علم التجويد، أرجّح استخدام مصطلحين آخرين، و هما (الجامد) و (الذائب)، و تسمي أيضا (الجامدة و الجوامد)، و (الذائبة و الذوائب). و هذه مصطلحات جديدة لا نعلم أن أحدا من دارسي الأصوات العربية استخدمها أو أشار إليها، بينما كان علماء التجويد قد استخدموها قبل ما يقرب من ألف سنة، و هي أكثر المصطلحات تعبيرا عن المعني الذي يقوم عليه هذا التصنيف للأصوات اللغوية، علي نحو ما سنوضح في هذا المبحث. (1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 26، و محمود السعران: علم اللغة ص 160، و جان كانتينو: دروس ص 20، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 91. و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 113.
(2) هو (المصوتات عند علماء العربية) مجلة كلية الشريعة (جامعة بغداد) العدد الخامس 1979.
(3) انظر: المصوتات عند علماء العربية ص 395- 404.
(4) و هما: tnanosnoC (صامت) و LEWOV (مصوت).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 136
و هذه المصطلحات لعلماء التجويد خاصة لم يشركهم في استخدامها أحد من علماء العربية، و هي تعكس اتجاها يتسم بعمق النظرة في تحليل الأصوات و إدراك خصائصها الصوتية، و إن لم يكن غالبا، فقد كان الغالب عليهم و علي علماء العربية أيضا الاكتفاء بمصطلحي (الحروف و الحركات)، و هما لا ينطبقان علي ذلك التصنيف و لا يعبران عنه بدقة.
و تتلخص الفكرة التي يقوم عليها هذا التصنيف في قول المستشرق الفرنسي جان كانتينو، مع ملاحظة أن مترجم الكتاب يستخدم مصطلح (الحرف) و (الحركة). حيث يقول:
«و يمكن تحديد الحروف و الحركات تحديدا و جيزا هكذا:
1- خاصية الحرف هي أن يقوم حاجز في جهاز التصويت، ثم أن يجتاز النّفس ذلك الحاجز.
2- خاصية الحركة هي بالعكس، أن لا يقوم حاجز في جهاز التصويت، فيجري النفس حرا طليقا» «1».
و يضيف بعض الدارسين خاصية أخري تميز الحروف عن الحركات، و هي قوة الوضوح السمعي للحركات، قياسا بالحروف «2». و لعل ذلك بسبب كونها مجهورة، و لا يعترض طريق الهواء حال نطقها عائق.
و هاهنا ظاهرة نشير إليها دون أن نتقصي أمثلتها و هي أن معظم دارسي الأصوات العربية من المحدثين نسبوا إلي علماء العربية التقصير في دراسة الأصوات العربية وفقا لهذا التصنيف، و هم لم يطلعوا علي جملة أقوالهم، و لا عرفوا شيئا مما قاله علماء التجويد في ذلك «3».
و كنت قد كتبت بحث (المصوتات عند علماء العربية) لمناقشة هذه القضية، و أوردت فيه عددا من أقوال علماء العربية في مناقشة الموضوع، توضح الخطأ الكبير الذي وقع فيه أولئك النفر من المحدثين، في دعواهم تلك، و أكتفي هنا بذكر بعض تلك الأقوال بأوجز عبارة لننظر بعد ذلك في رأي علماء التجويد في الموضوع.
فمن ذلك قول الخليل بن أحمد (ت 170 ه): «في العربية تسعة و عشرون حرفا: منها خمسة و عشرون حرفا صحاحا لها أحياز و مدارج، و أربعة أحرف جوف، و هي: الواو و الياء (1) دروس ص 20.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 162، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 93.
(3) يمكن الاطلاع علي بعض تلك الدعاوي في بحث (المصوتات) ص 392- 394.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 137
و الألف اللينة (و الهمزة)، و سميت جوفا لأنها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان، و لا من مدارج الحلق، و لا من مدرج اللهاة، و إنما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف. و كان يقول كثيرا: الألف اللينة و الواو و الياء هوائية، أي أنها في الهواء» «1».
و قال سيبويه (ت 180 ه) في (باب الوقف في الواو و الياء و الألف): «و هذه الحروف غير مهموسات، و هي حروف لين و مد، و مخارجها متسعة لهواء الصوت، و ليس شي‌ء من الحروف أوسع مخارج منها، و لا أمدّ للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة و لا لسان و لا حلق كضم غيرها، فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتي ينقطع آخره في موضع الهمزة، و إذا تفطنت وجدت مسّ ذلك» «2».
و قال المبرد (ت 285 ه): «فمن حروف البدل حروف المد و اللين المصوتة، و هي الألف و الواو و الياء» «3». و قال عن هذه الحروف في مكان آخر: «و هي حروف بائنة من جميع الحروف ... فحروف المد حيّز واحد علي حدة» «4».
و كان ابن جني (ت 392 ه) قد وصف هذه الحروف بصفة (المصوتة) أيضا «5»، و مما قاله عن مخارجها: «و الحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف، ثم الياء، ثم الواو ...» «6».
و كان أبو علي الحسين بن سينا (ت 428 ه) قد صنف الحروف إلي صامتة و مصوتة «7».
و كذلك فعل أبو شجاع محمد بن علي بن الدهان (ت 592 ه) «8». و أبو عبد اللّه فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 ه) «9». (1) العين 1/ 57.
(2) الكتاب 4/ 176.
(3) المقتضب 1/ 61.
(4) المقتضب 1/ 210- 211.
(5) الخصائص 3/ 125.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 8.
(7) أسباب حدوث الحروف ص 42- 43، و انظر: ص 19.
(8) تقويم النظر في الأدلة و اختلاف الفقهاء 2 و.
(9) التفسير الكبير 1/ 29.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 138
و قد ورث علماء التجويد تلك الجهود في تصنيف الأصوات، و لكنهم لم يقفوا عند حد ترديد مقولات علماء العربية، بل نجد لديهم اتجاها جديدا في التعبير عن التصنيف السابق للأصوات، لم يأخذوه عن غيرهم كما يبدو، و كان هذا الاتجاه قد ظهر في القرن الخامس، و لكنه لم يستمر أبعد من القرن السادس للهجرة، و ارتبط بعدد محدود من علماء ذينك القرنين، و يتمثل ذلك الاتجاه بالتعبير عن صنفي الأصوات المذكورين باستخدام كلمة (جامد) و كلمة (ذائب).
و كان الدانيّ (أبو عمرو عثمان بن سعيد ت 444 ه) أول من استخدم مصطلح (الحرف الجامد) و (الحروف الجامدة)، من المصادر التي اطلعت عليها، لكنه لم يستخدم مصطلح (الذائبة)، و استعاض عنه بمصطلح حروف المد. و هو لم يستخدم مصطلح (الجامدة) في كتابه (التحديد في الإتقان و التجويد) إلا مرة واحدة، حيث قال: و هو يتحدث عن الواو و الياء إذا كانت قبلهما حركة من جنسهما: «فإن انفتح ما قبلهما زال عنهما معظم المد، و انبسط اللسان بهما، و صارا بمنزلة سائر الحروف الجامدة، و ألقي عليهما حركات الهمزات في مذهب من رأي ذلك، و أدغما في مثلهما بإجماع» «1».
و نجد الداني يستخدم مصطلح (الحرف الجامد) خمس مرات في كتابه (الإدغام الكبير) و يستخدم في مقابله (حرف مد و لين)، و سوف أنقل هنا النصوص الخمسة و ذلك لتوضيح استخدام هذا المصطلح الجديد، و لندرة مثل هذه النصوص أيضا.
1- قال الداني و هو يتحدث عن إدغام الهاء في مثلها عند أبي عمرو بن العلاء في مثل قوله تعالي فِيهِ هُديً [البقرة: 2] و إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ [البقرة: 37]: «فإن قال قائل: فقد جمع فيما قبل الهاء فيه ساكن من ذلك بين ساكنين. قيل له: الساكن الأول إذا كان حرف مد و لين فالمد فيه مقام حركة، فامتنع الجمع بين الساكنين لذلك بإجماع النحويين، فإن كان حرفا جامدا أخفي و لم يدغم، فلم يلتق ساكنان» «2».
2- «و كذلك جميع ما يدغمه من المثلين و المتقاربين مما قبل المدغم فيه ساكن جامد غير حرف مد و لين» «3». (1) التحديد 29 و- 29 ظ. و كنت قد نقلت هذا النص وحده في بحث (المصوتات) ص 425.
(2) الإدغام الكبير 10 و.
(3) الإدغام الكبير 12 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 139
3- «و أما النون فكان يدغمها في مثلها، و لا يراعي ما قبلها من حركة أو سكون، و في اللام و الراء إذا تحرك ما قبلهما لا غير ... فإن سكن ما قبل النون، حرف مد و لين كان ذلك الساكن أو حرفا جامدا، لم يدغمها فيهما» «1».
4- «و أما الراء فكان يدغمها في مثلها و في اللام لا غير ... و إن تحركت الراء بالفتح و سكن ما قبلها، حرفا جامدا كان ذلك الساكن أو حرف مد و لين، لم يدغمها» «2».
5- «و أما الميم فإنه كان يدغمها في مثلها ... و كان يخفيها عند الباء إذا تحرك ما قبلها لا غير ... فإن سكن ما قبل الميم لم يخفها و أظهر حركتها، اكتفاء بخفة الساكن عن خفة الإخفاء، و سواء كان الساكن حرف مد و لين أو كان حرفا جامدا» «3».
و هذه النصوص تبين بوضوح المقابلة التامة في الاستخدام بين (الحرف الجامد) و (حرف المد و اللين)، و سوف أناقش الدلالة الصوتية لهذه المصطلحات في نهاية المبحث، بعد أن أستوفي تتبع استخدام هذا المصطلح الجديد في النصوص الأخري، و قبل أن نترك الأندلس، بلد الداني، نشير إلي عالم آخر من تلك البلاد استخدم مصطلح (الجوامد) في مقابل (حروف المد و اللين)، و هو عبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت 462 ه) في كتابه (الموضح في التجويد) لكنه لم يستخدمه إلا مرتين، و في نص واحد هو في أصله نص الداني الذي أورده في كتاب (التحديد) «4».
و إذا و لينا وجوهنا قبل بلدان المشرق الإسلامي وجدنا عددا من العلماء يستخدمون مصطلح (الحروف الجامدة) لكننا نجد مصطلحا جديدا آخر يستخدم في مقابله بدلا من (حروف المد و اللين) و هو (الحروف الذائبة)، و كان استخدام هذا المصطلح خطوة كملت وجهة نظر علماء التجويد في تصنيف الحروف العربية وفق منظور صوتي خالص.
و كان الشيخ أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454 ه) «5» أقدم من استخدم ذينك المصطلحين من علماء المشرق، ممن وقفت علي أقوالهم، و لكني لم أطلع علي النصوص المتعلقة بذلك في واحد من كتبه، و إنما عثرت عليها في كتاب (الإيضاح في (1) الإدغام الكبير 19 و.
(2) الإدغام الكبير 19 ظ.
(3) الإدغام الكبير 24 و.
(4) الموضح 164 ظ.
(5) ترجمته: ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 361.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 140
القراءات) لأحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) في الأبواب التي خصصها لعلم التجويد، و لعل مؤلف الإيضاح نقلها من كتاب التجويد لأبي الفضل الرازي المفقود «1».
1- قال أبو الفضل الرازي: «و لا يخلص للقارئ التجويد و الترتيل إلا بمعرفة مخارج الحروف، و إعطائه إياها من المخارج حدها، و من الحركات حظها، و من السكون حقها، و فرّق بين مهموسها و مجهورها ... و جامدها و ذائبها» «2».
2- «و عن أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي، رحمه اللّه، أنه قال: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث في بعض الحروف من النقصان، لاستطالة حرف علي حرف في التجاور، و يستشعر بعضها من بعض في تداخل المخارج بالألفاظ البشعة و الطباع الجافية، و ذلك أن يحترز من المدات الطويلة الرعشة المطيطة التي نهي عنها، و الهمزات الملكزة، و تشريب الألفات النبرة في الوقف، و تنبير الذوائب حتي توازي الجوامد سيما المدود من ذلك و الممكن» «3». و كلمة (تنبير) هنا من النبر أي الهمز، و تنبير الذوائب يعني همزها، و هذا النص يوضح أن الهمز من الحروف الجوامد، لأن الحروف الذائبة، و هي حروف المد، إذا همزت لحقت بالجوامد.
و كان أحمد بن أبي عمر قد بيّن في كتابه «الإيضاح» دلالة مصطلح (الجامد) و (الذائب) بشكل واضح و محدد حيث قال: «و الحروف الذائبة ثلاثة: الياء المكسور ما قبله، و الواو المضموم ما قبله، و الألف و لا يجي‌ء إلا مفتوحا ما قبله، و هذه الحروف حروف المد و اللين، سميت بذلك لأنها تذوب و تلين و تمتد.
و ما عداها جامد لأنه لا يلين و لا يذوب و لا يمتد» «4».
و قد ورد مصطلح (الذوائب) في مواضع أخري من كتاب (الإيضاح) «5». كما استخدمه أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه) مرة واحدة في كتابه (التمهيد في التجويد) بنفس المعني السابق «6». و ذكره جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894 ه) في كتابه (الجامع المفيد (1) ذكره ابن الجزري في النشر 1/ 212.
(2) الإيضاح 67 ظ.
(3) الإيضاح 68 ظ.
(4) الإيضاح 74 ظ.
(5) انظر: الإيضاح 72 و، 73 ظ.
(6) التمهيد 158 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 141
في صناعة التجويد) حيث قال: «و حروف المد و اللين الثلاثة تسمي الذوائب» «1».
و لا أستبعد أن تكون هناك نصوص أخري استخدم فيها مصطلح (الجامدة) و (الذائبة)، و لكن ذهاب كثير من الكتب القديمة، و عدم اطلاعنا علي مخطوطات قسم منها حرم البحث من فرصة تتبع ذلك الاستخدام، و لكني أجد أن الأمر أصبح واضحا من خلال النصوص السابقة، و لم يبق إلا أن ننظر في هذا الاستخدام الجديد و الفريد لتلك المصطلحات للتعبير عن صنفي الأصوات، و أن نقرر هل كان هذا الاستخدام موفقا، بحيث يمكن أن يسعف دارسي الأصوات العربية اليوم و يقدم لهم مصطلحا تطمئن إليه نفوسهم، فيخرجون من تلك الحيرة المطبقة عليهم و الاضطراب و الفوضي إلي استخدام مصطلح موحد ذي دلالة واضحة؟.
و سوف أكتفي هنا بالموازنة بين أربعة مصطلحات (الصامت و المصوت) و (الجامد و الذائب)، لأن ما عدا هذه الأربعة لا ينسجم مع الدرس الصوتي الخالص.
أما (الصامت و المصوت) فإن استعمالهما قديم في الدلالة علي صنفي الأصوات، علي نحو ما ذكرنا من استخدامهما أو أحدهما عند المبرد و ابن جني و ابن سينا و ابن الدهان و الفخر الرازي، قبل قليل. و كذلك استخدمهما بعض علماء اللغة من المحدثين «2». و إذا كان مصطلح (مصوّت) يمكن أن نربط بين دلالته علي زيادة التصويت و التمطيط «3»، و استخدامه في الدلالة علي تلك الأصوات التي يتم إنتاجها من غير أن يقوم في ممر الهواء عائق، علي اعتبار أن هذه الأصوات هي أكثر الأصوات قابلية لمد الصوت بها، فإن من غير اليسير الربط بين دلالة كلمة (الصامت) علي السكوت «4»، و بين استخدامها في الدلالة علي تلك الأصوات التي يقوم في طريق النفس عند إنتاجها عائق كامل أو جزئي.
و قد تشكّك بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين في صلاحية ذلك الاستخدام لكلمة (الصامت)، فهو يري أن «فيها شيئا من الغرابة و التناقض، إذ كيف يسمي الصوت (1) الجامع المفيد 104 ظ، و انظر 98 ظ من نسخة برلين رقم 1307.
(2) عبد الصور شاهين (مترجم): العربية الفصحي لهنري فليش ص 19- 20 و 23 و 35. و قد استخدم محمود السعران الصامتة و الصائتة (علم اللغة ص 160) و كذلك فعل برجستراسر (التطور النحوي ص 12 و 33).
(3) انظر: ابن منظور: لسان العرب 2/ 361 (صوت).
(4) المصدر نفسه 2/ 359 (صمت).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 142
صامتا؟!» «1» و يري غيره أن استخدام كلمة (صامت) لا تخلو من مأخذ، إذ قد يلتبس هذا (الصمت) بمعني (الهمس) المستعمل في مقابل (الجهر) «2».
و يظهر أن المعني اللغوي لكلمة (الصامت) يقرب من معني كلمة (الأخرس) فالعرب تقول: هذه لبنة خرساء، يريدون اللبن الخاثر الذي لا يسمع له صوت إذا أريق «3». و الصامت من اللبن: الخاثر «4». و قالت العرب: ماله صامت و لا ناطق، يريدون بالصامت الذهب و الفضة، و بالناطق الحيوان من الإبل و الغنم «5». فالصامت إذن هو ضد الناطق، و هو معني الأخرس. و من هنا يظهر التناقض الذي أشار إليه بعض المحدثين من استخدام هذه الكلمة في الدلالة علي المعني المذكور.
و يؤيد هذا التفسير لكلمة (الصامت) الذي يبين قصور استخدامها في مقابل كلمة (المصوت) للدلالة علي قسمي الأصوات السابقي الذكر أن الفراء (أبا زكريا يحيي بن زياد ت 207 ه) استخدم كلمة (الأخرس) في مقابل (المصوت) للدلالة علي (الشديد) و (الرخو) من الأصوات «6». و يبدو أن هذا الاستخدام أوضح من حيث أصل الدلالة اللغوية و البعد عن اللبس، فالصوت الرخو له قابلية علي الامتداد و التصويت به فهو (مصوّت)، بعكس (الشديد) الذي لا يوجد إلا في لحظة النطق به فهو إذن أخرس أي غير قابل للتصويت أي للتمطيط و زيادة المد. و قد ذكر المرعشي: «أن الحروف الشديدة آنية، لا توجد إلا في آن حبس النفس، و ما عداها زمانية يجري فيه الصوت زمانا» «7». و قال: «فالحروف الرخوة ما عدا حروف المد يمكن تمديدها كحروف المد لكن بتكلف، بخلاف حروف المد فإن مدها بمقتضي السليقة (1) محمد الأنطاكي: الوجيز في فقه اللغة ص 146 هامش (1).
(2) عبد الصبور شاهين (مترجم): العربية الفصحي لهنري فليش ص 19.
(3) لسان العرب 7/ 363 (خرس).
(4) لسان العرب 2/ 359 (صمت).
(5) لسان العرب 2/ 360 (صمت).
(6) ذكر ذلك السيرافي في آخر شرحه لكتاب سيبويه (انظر: ما ذكره الكوفيون من الإدغام للسيرافي، تحقيق صبيح حمود الشاتي. مجلة المورد، بغداد 1403 ه 1983 م المجلد 12- العدد الثاني ص 132 و 135). و نقل ذلك عبد الوهاب القرطبي في كتابه (الموضح 152 و)، و نص قوله: «قسم الفراء الحروف إلي مصوت و إلي أخرس، و كأنه أراد بالمصوت الرخو من الحروف، و أراد بالأخرس الشديد». و انظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 606.
(7) جهد المقل 12 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 143
المستقيمة بلا تكلف» «1».
أما مصطلح (الجامد) و (الذائب) فإن أصل استخدامها اللغوي يتعلق بحالة الأشياء السائلة كالماء و غيره، لا بموضوع الأصوات. فيقال: جمد الماء جمدا و جمودا، فهو جامد:
إذا صلب (ضد ذاب). و يقال: ذاب الشحم و الثلج و نحوهما ذوبا و ذوبانا إذا سال عن جمود «2». و قد قالت العرب: (لك جامد المال و ذائبه) كما قالت (ما له صامت و لا ناطق) «3».
و هذا يرينا التقابل بين (جامد و ذائب)، بينما نجد أن مقابل (صامت) هو (ناطق) و ليس (مصوت).
و مهما يكن من أمر فإن استخدام (جامد و ذائب) في الدلالة علي قسمي الأصوات المذكورين أوضح و أكثر لصوقا بالمعني اللغوي من (صامت و مصوت)، فالخاصية الأساسية التي ميزت بين قسمي الأصوات هي أن منها ما يجري فيه النفس حرا طليقا فيمتد في مخرجه، فكأنه يذوب و يسيل فيه، و ذلك في حروف المد، و منها ما يتعثر النفس في مخرجه، فربما حبس حبسا تاما، و ربما حصل تضييق في مجراه، فلا يمكن تمديد هذا النوع من الأصوات أصلا أو يمكن ذلك و لكن بتكلف، فكأنه جمد في مخرجه فلا يذوب فيه و لا يسيل، و ذلك في كل حروف العربية ما عدا حروف المد.
و قد نقلنا من قبل تعليل أحمد بن أبي عمر لتسمية حروف المد بالحروف الذائبة، «لأنها تذوب، و تلين، و تمد. و ما عداها جامد لأنه لا يلين، و لا يذوب، و لا يمتد» فكلمة (تذوب) تعبر عن مرور الهواء حرا طليقا من غير عائق مؤثر تأثيرا بينا، و كلمة (تلين) تؤكد ذلك المعني، لأن اللين ضد الخشونة «4»، و لما كانت هذه الأصوات تذوب فهي إذن (تمتد). و ذلك كله لا يتحصل في الأصوات الجامدة.
و من ثم فإني أجد أن استخدام مصطلح (الصوت الجامد) و يقابله (الصوت الذائب) أكثر تعبيرا عن صنفي الأصوات عن صنفي الأصوات من جميع المصطلحات التي استخدمت قديما و حديثا. و لكن المشكلة الأساسية تتركز في أن هذه المصطلحات كانت مجهولة كليا لدي الدارسين المحدثين، و أن المصطلحات الأخري الأقرب إلي الدرس الصوتي مثل (صامت و مصوت) (1) جهد المقل 6 و- 6 ظ.
(2) لسان العرب 4/ 103 و 381 و المعجم الوسيط 1/ 133 و 317 مادة (جمد) و (ذوب).
(3) لسان العرب 4/ 103 (جمد).
(4) لسان العرب 17/ 280 (لين).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 144
أحسن حظا من حيث الاستخدام. و لكن ما دام البحث الصوتي العربي غير متوقف، فإن هناك فرصة للخروج من دائرة الاضطراب إلي حيز الاستقرار باستخدام مصطلحي (الجامد و الذائب)، لا سيما إذا أدرك الدارسون ما يتميز به هذان المصطلحان قياسا بالمصطلحات الأخري المستخدمة في مكانهما.
و إذا كنا قد تحققنا من دقة استخدام علماء التجويد لمصطلح (الجامد و الذائب) فينبغي أن نبين أنهم أدركوا بوضوح كيفية إنتاج (الأصوات الذائبة) و تميزها بحرية مرور الهواء أثناء النطق بها، يقول المرعشي و هو يستخدم مصطلح (حروف المد) في مقابل (الحروف الذائبة):
«فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت، بل تمتد بلين بلا تكلف إلي أن تقطعه بإرادتك، و لذا قبلت الزيادة في الامتداد علي مقدار يحصل به ذوات هذه الحروف» «1».
و قال علي القاري عن حروف المد الثلاثة: «ثم إنهن بالصوت المجرد أشبه منهن بالحروف، و يتميزن عن الصوت المجرد بتصعد الألف و تسفل الياء و اعتراض الواو» «2».
و الصوت المجرد يقصد به الصوت الذي ينتج حين يفتح الناطق فاه، و يدفع بالهواء إلي الخارج مع ذبذبة الوترين الصوتيين، و سماه ابن جني (الصوت الساذج) «3».
و قد أتي ابن الطحان (أبو الأصبغ عبد العزيز بن علي الإشبيلي ت بعد 560 ه) بتشبيه طريف يصور حالة أعضاء آلة النطق حين إنتاج الأصوات الذائبة فقال و هو يتحدث عن الواو و الياء الواقعتين بعد حركة من جنسهما: «إنما يصير الفم لصوتيهما كالأنبوب» «4».
و يتضح من هذه النصوص المحددة أن المسافة بين علماء التجويد و علماء الأصوات المحدثين قد تضيق جدا أو تنعدم في كثير من الموضوعات، فغاية ما قاله المحدثون عن المصوت (الذائب): «بأنه الصوت المجهور الذي يحدث أثناء النطق به أن يمر الهواء حرا طليقا خلال الحلق و الفم دون أن يقف في طريقه عائق أو حائل، و دون أن يضيق مجري الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا» «5». و هذا لا يبتعد كثيرا عما قاله علماء التجويد (1) جهد المقل 6 و.
(2) المنح الفكرية ص 9، و انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 189.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 9، و انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(4) مرشد القارئ 136 و.
(5) كمال محمد بشر: الأصوات ص 92، و انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 160.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 145
قبل مئات السنين.
و إذا كانت الأصوات العربية تنقسم إلي ذائبة، و هي حروف المد، و جامدة و هي ما عداها، فما موقع الحركات العربية: الفتحة و الكسرة و الضمة، من قسمة الأصوات العربية تلك، و هل هي من الجامدة أو الذائبة؟.
النصوص الواردة عن علماء التجويد تؤكد أن الحركات مأخوذة من حروف المد، قال الداني و هو يتحدث عن حروف المد: «و إن الحركات مأخوذة منها:
فالفتحة من الألف.
و الكسرة من الياء.
و الضمة من الواو» «1».
و هذه قضية قررها علماء العربية قديما «2»، و أخذها عنهم علماء التجويد و استدلوا عليها و صارت لديهم من الحقائق المقررة حتي قال عبد الوهاب القرطبي: «و هذا الأمر لا مزيد عليه من الوضوح» «3». و قال ابن الجزري: «و الجمهور علي أن الفتحة من الألف و الضمة من الواو و الكسرة من الياء» «4».
و مع أني لم أعثر علي نص صرح فيه علماء التجويد بأن الحركات من الأصوات الذائبة لكن ذلك هو معني النصوص السابقة، لأن كل واحدة من الحركات مأخوذة من أحد الأصوات الذائبة، و ما ينطبق علي الأصل ينطبق علي الفرع.
*****
(1) التحديد 18 ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 101 و 241 و 309 و 318. و المبرد: المقتضب 1/ 56، و ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 19، و الخصائص 2/ 315 و 327.
(3) الموضح 150 و.
(4) النشر 2/ 204، و انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 146

المبحث الرابع تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج‌

أولا- عدد حروف العربية عند علماء التجويد:

اشارة

يقسم علماء العربية و علماء التجويد الحروف العربية إلي أصول و فروع. و هذه القسمة ترجع إلي ما أورده سيبويه في الكتاب، حيث قال: «فأصل حروف العربية تسعة و عشرون حرفا: الهمزة و الألف و الهاء، و العين و الحاء ...
و تكون خمسة و ثلاثين حرفا بحروف هن فروع، و أصلها من التسعة و العشرين، و هي كثيرة يؤخذ بها و تستحسن في قراءة القرآن و الأشعار، و هي:
النون الخفيفة.
و الهمزة التي بين بين.
و الألف التي تمال إمالة شديدة.
و الشين التي كالجيم.
و الصاد التي كالزاي.
و ألف التفخيم، يعني بلغة أهل الحجاز في قولهم: الصلاة و الزكاة و الحياة.
و تكون اثنين و أربعين حرفا بحروف غير مستحسنة و لا كثيرة في لغة من ترتضي عربيته، و لا تستحسن في قراءة القرآن و لا في الشعر، و هي:
الكاف التي بين الجيم و الكاف، و الجيم التي كالكاف «1».
و الجيم التي كالشين. (1) قال أبو حيان (ارتشاف الضرب ص 4): «و عد سيبويه هذا حرفا واحدا، لأن النطق لا يختلف، و راعي ابن جني الأصل فعدّ ذلك حرفين، و تبعه ابن عصفور و ابن مالك». و علي هذا الأساس جعل ابن جني مجموع حروف العربية أصليها و فرعيها ثلاثة و أربعين (انظر سر صناعة الإعراب 1/ 51).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 147
و الضاد الضعيفة.
و الصاد التي كالسين.
و الطاء التي كالتاء.
و الظاء التي كالثاء.
و الباء التي كالفاء.
و هذه الحروف التي تممتها اثنين و أربعين جيّدها و رديئها أصلها التسعة و العشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة ...» «1».
و قد اقتفي معظم دارسي الأصوات العربية من المتقدمين خطي سيبويه في تقسيم الأصوات إلي أصلية و فرعية، و حاول كثيرون توضيح كلام سيبويه و إيراد الأمثلة عليه و شرحها، و ربما استدرك بعضهم علي سيبويه حرفا أو مثالا، و ليس من غرضنا استقصاء كل ذلك هنا، و سوف نكتفي بتوضيح موقف علماء التجويد من تلك القسمة، و بيان عدد حروف كل قسم، مؤكدين النواحي التي تمكن فيها علماء التجويد من أن يضيفوا شيئا جديدا إلي ما قرره سيبويه. و يمكن أن نتتبع ذلك بالنظر إلي الموضوع من طرفيه: أعني الحروف الأصلية و الحروف الفرعية.

1- الحروف العربية الأصلية:

ذكر سيبويه في النص السابق أن أصل حروف العربية تسعة و عشرون حرفا، و صار ما ذكره سيبويه أساسا استند عليه معظم علماء العربية، و لم يشذ منهم أحد إلا أبا العباس المبرد، قال ابن جني: «اعلم أن أصل حروف المعجم عند الكافة تسعة و عشرون حرفا، فأولها الألف و آخرها الياء، علي المشهور من ترتيب حروف المعجم، إلا أبا العباس فإنه كان يعدها ثمانية و عشرين حرفا، و يجعل أولها الباء، و يدع الألف من أولها، و يقول هي همزة، و لا تثبت علي صورة واحدة، و ليست لها صورة مستقرة، فلا اعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة. و هذا الذي ذهب إليه أبو العباس غير مرضي منه عندنا ...» «2». و قد أفاض ابن جني في الرد علي المبرد إخراجه الهمزة من جملة الحروف. (1) الكتاب 4/ 431- 432.
(2) سر صناعة الإعراب 1/ 46 و ما بعدها. و انظر: ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 126، و ابن عصفور:
الممتع في التصريف 2/ 663.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 148
و النص الوارد في كتاب (المقتضب) للمبرد لا يتضح منه بشكل قاطع أن المبرد لا يعد الهمزة من حروف العربية الأصلية، فهو يقول: «اعلم أن الحروف العربية خمسة و ثلاثون حرفا، منها ثمانية و عشرون لها صور»، لكنه يقول بعد ذلك مباشرة: «فمنها للحلق ثلاثة مخارج: فمن أقصي الحلق مخرج الهمزة، و هي أبعد الحروف، و يليها في البعد مخرج الهاء، و الألف هاوية هناك» «1». فغاية ما يمكن قوله هنا أن المبرد لاحظ أن صور الحروف العربية ثمانية و عشرون «2»، و هو يريد الرموز المكتوبة، و الهمزة من بين أصوات العربية لم يكن لها رمز محدد لأسباب لغوية تاريخية، أما إنها أحد أصوات العربية لديه فيكفي في تقرير ذلك كلامه عن مخارج حروف الحلق الذي نقلنا جزءا منه هنا.
و كان بعض المحدثين قد أخذ علي سيبويه أنه حين جعل الحروف العربية تسعة و عشرين ذكر الألف إلي جانب الهمزة، و هو يريد بها المدة التي في نحو (كان)، و لكنه لم يذكر الواو و الياء إلا مرة واحدة و هو يريد بهما الواو في (ثوب) و الياء في (بيت)، فلم يذكر واو المد في (تقول) و لا ياء المد في نحو (تبيع)، و كان ينبغي- حسب رأيه- أن يكون عدد الحروف العربية الأصلية واحدا و ثلاثين حرفا «3».
و كان علماء التجويد يسيرون باتجاه القول بأن حروف العربية الأصول واحد و ثلاثون حرفا منذ وقت مبكر، و يتمثل ذلك بحديثهم عن الطبيعة المزدوجة لكل من الواو و الياء حين يكونان حرفي مد (من الحروف الذائبة) مرة، و حين يكونان حرفي لين (من الجامدة) مرة أخري، علي نحو ما يوضح ذلك قول عبد الوهاب القرطبي: «الواو و الياء تكون تارة من حروف المد و اللين بأن تسكنا و يكون ما قبلهما منهما، و تارة يتحيّز مخرجهما إذا تغيرتا عن هذا الوضع بأن تسكنا و ينفتح ما قبلهما، و متي وجد ذلك زال عنهما معظم المد و بقي اللين و انبسط اللسان بهما، و صارتا بمنزلة الحروف الجوامد» «4». و سوف نتحدث عن تلك الصفة لكل من الواو و الياء في مبحث لاحق، إن شاء اللّه تعالي، و لكن الذي يعنينا هنا هو أن نقرر أن تلك النظرة المزدوجة إلي كل من الواو و الياء قد انتهت عند علماء التجويد إلي القول بأن (1) المقتضب 1/ 192.
(2) و لعل هذا هو قصد الفراء بقوله (معاني القرآن 1/ 368): «أب ت ث ثمانية و عشرون حرفا».
(3) انظر: كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة 1/ 81- 82، و تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 90.
(4) الموضح 164 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 149
الحروف العربية الأصلية واحد و ثلاثون حرفا و ذلك علي يد محمد المرعشي.
كان المرعشي قد بحث في الفصل الخامس، و هو آخر فصول مقدمة كتابه (جهد المقل) مسائل يتوقف عليها بيان المخارج، و جعل ذلك في مقالتين، الأولي في عدد الحروف الأصلية و الفرعية. و الثانية في عدد المخارج. و مما ذكره في المقالة الأولي عن عدد الحروف قوله:
«أما الحروف الأصلية فهي تسعة و عشرون، باتفاق البصريين، فهم يجعلون الألف المدية غير الهمزة، و يجعلون الواو و الياء حرفين سواء كانا مديين أو لا، و المبرد منهم جعل الألف و الهمزة حرفا واحدا، و لذا جعل الحروف الأصلية ثمانية و عشرين ...
أقول (المرعشي): و كذلك ينقسم كل من الواو و الياء إلي مدّية و غير مدية» «1».
و قال المرعشي في كتابه (بيان جهد المقل) موضحا عبارة وردت في النص السابق:
«قوله: (سواء كانا مديين أو لا)، أقول: و لو جعلوا الواو و الياء المديين غير الواو و الياء الخاليين من المد كما هو مقتضي قياس الألف المدية غير الهمزة، تصير الحروف الأصلية واحدا و ثلاثين» «2». و قوله هنا (الحروف) يعني بها الأصوات المنطوقة لا الرموز المكتوبة.

2- الحروف العربية الفرعية:

الحرف الفرعي هو الصوت الأصلي الذي تتغير صفة من صفاته الصوتية أو ينتقل مخرجه إلي مخرج صوت مجاور له. و ذلك التغير ناتج عن واحد من ثلاثة أسباب:
1- المجاورة، مثل الصاد التي كالزاي في نحو (مصدر)، و الشين التي كالجيم في نحو (أشدق) فقد لحق الجهر كلّا من الصاد و الشين المهموستين لمجاورة الدال المجهورة.
2- لغات القبائل، مثل همزة بين بين، و ألف الإمالة، و ألف التفخيم.
3- اللكنة الأعجمية، مثل الطاء التي كالتاء، و الباء التي كالفاء.
و قد أدرك علماء التجويد حقيقة الأصوات الفرعية، فقال مكي (ت 437 ه) أن مخرج الحرف الفرعي «متوسط بين مخرج الحرفين اللذين اشتركا فيه» «3». و قال أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه): «و إنما كانت فروعا لامتزاجها بغيرها، و كانت مستحسنة لما يستفاد (1) جهد المقل 4 ظ.
(2) بيان جهد المقل 6 ظ.
(3) الرعاية ص 88.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 150
بالامتزاج من تسهيل اللفظ و تحسينه في المسموع» «1». و قال المرادي (ت 749 ه): «المراد بالفروع حروف ترددت بين مخرجين، و تولدت من حرفين» «2». و قال المرعشي (ت 1150 ه): «و وجه تفرع هذه الحروف أنها متولدة من امتزاج الحرفين الأصليين» «3».
و أدرك علماء التجويد أن الحروف الفرعية لا تدرك إلا بالمشافهة، لأنها لا صورة لها في الكتابة، فنصوا علي ما نص عليه سيبويه في قوله السابق من أنها (لا تتبين إلا بالمشافهة)، فقال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه): «و لا يوقف علي حقيقة هذه الحروف المتفرعة إلا بالشفاه» «4».
و يظهر من كلام سيبويه أن أساس تقسيم الحروف الفرعية إلي مستحسنة و مستقبحة هو كثرة الاستخدام و قلّته، فما كثر استخدامه منها في لغة من ترتضي عربيته كان (مستحسنا)، و ما قل استخدامه كان (مستقبحا)، و سيبويه يستخدم كلمة (غير مستحسن) و لم يستخدم كلمة (مستقبح) التي استخدمها بعده عدد من علماء العربية و علماء التجويد، لكنه استخدم كلمة (ردي‌ء) «5».
و كان سيبويه قد عد من الحروف المستحسنة ستة، و من الحروف غير المستحسنة سبعة باعتبار الكاف التي بين الجيم و الكاف، و الجيم التي كالكاف حرفا واحدا، فتكون عدة الحروف العربية أصليها و فرعيها، جيدها و رديئها اثنين و أربعين حرفا. و لما كان الأساس الذي استند إليه سيبويه في بيان عدد الحروف العربية هو السماع من قراء القرآن و العرب فمن المتوقع إذن أن يروي غيره حروفا أخري، إما لأنه لم يسمعها أو أنه اعتبرها حرفا واحدا، و عدّها غيره أكثر من حرف. و من ثم زاد بعض علماء العربية و بعض علماء التجويد في عدد حروف العربية حتي بلغ بها عبد الوهاب القرطبي اثنين و خمسين حرفا «6». أي بزيادة عشرة أحرف علي ما ذكره سيبويه. (1) الإيضاح 72 و.
(2) المفيد 101 ظ.
(3) جهد المقل 5 و.
(4) التمهيد 143 ظ.
(5) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 4، و السيوطي: همع الهوامع 6/ 295. و أحمد بن أبي عمر:
الإيضاح 72 ظ. و العطار: التمهيد 143 و.
(6) الموضح 155 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 151
و الحروف الفرعية المستحسنة التي زادها عبد الوهاب القرطبي علي ما ذكره سيبويه هي:
اللام المفخمة التي هي فرع علي المرقّقة، و الراء المرققة التي هي فرع علي المغلّظة، و الواو التي ينحي بالضمة التي قبلها نحو الكسرة، و الياء التي ينحي بالكسرة التي قبلها نحو الضمة، و عد الهمزة المسهّلة بين بين ثلاثة أحرف، و كان سيبويه قد عدها حرفا واحدا، فتلك ستة أحرف «1».
و الحروف الفرعية غير المستحسنة التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي زيادة علي ما ذكره سيبويه هي: السين التي كالزاي، و الجيم التي كالزاي، و القاف التي بين القاف و الكاف و هي تأتي مثل لفظ الكاف التي بين الجيم و الكاف، و اعتبر عبد الوهاب القرطبي الكاف التي بين الجيم و الكاف، و الجيم التي كالكاف، حرفين، بينما عدهما سيبويه حرفا واحدا «2».
و اعتبارهما حرفين هو مذهب ابن جني و ابن عصفور و ابن مالك «3». فذلك أربعة أحرف.
و نقل أبو العلاء الهمذاني العطار أن الأخفش أضاف حرفا آخر هو الذال التي كالثاء «4».
و ذكر أبو حيان الأندلسي القاف التي كالكاف، كقولهم في القمح: الكمح «5».
و قد أورد علماء التجويد أمثلة تلك الحروف الفرعية و وضحوا صفاتها الصوتية، و كيفية حصولها، و نكتفي هنا بما ذكرناه عنها، و سوف نستوفي الكلام عنها مقرونا بالكلام علي الحروف العربية الأصول، حين نحدد مخارجها و نبين صفاتها و أحوالها، ليكون الحديث مترابطا متكاملا علي صعيد واحد.

ثانيا- بيان عدد مخارج الحروف العربية عند علماء التجويد:

اشارة

المخرج هو الموضع الذي ينشأ منه الحرف، و كلمة (المخرج) هي الغالبة في الاستخدام عند علماء التجويد، و سبق القول في موقفهم من تعريفها. و كان قدماء النحويين قد استخدموا إلي جانب كلمة (المخرج) عددا من الكلمات للتعبير عن مكان تكوّن الحرف من آلة النطق، فكان الخليل بن أحمد قد استخدم في مقدمة كتاب العين كلمة (حيّز، و جمعها أحياز) «6». (1) الموضح 153 ظ- 154 ظ.
(2) الموضح 155 ظ. و انظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 448 و 451.
(3) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 4، المرادي: شرح التسهيل 304 ظ.
(4) التمهيد 143 ظ.
(5) ارتشاف الضرب ص 4.
(6) العين 1/ 48 و 57.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 152
و كلمة (مدرجة، و مدرج، و مدارج) «1»، و استخدم أقل من ذلك كلمة (المخرج) «2».
أما سيبويه فإن كلمة (المخرج) هي المستخدمة لديه أكثر من غيرها «3». حيث ترد عنده كلمة (حيز) «4». و كلمة (موضع) «5» علي نحو أقل. و يغلب أن يكون استخدام هذه الكلمات بمعني واحد «6». و هو استخدام لم يجد المحدثون عنه محيدا و لم يجدوا له بديلا و لا مزيدا «7».
و كان أقدم بيان متقن لمخارج الحروف العربية هو الذي أورده سيبويه في كتابه، أما ما ورد في مقدمة كتاب العين للخليل بن أحمد فإنه كان موضع نقد من بعض جوانبه. و كان متقدمو علماء التجويد يعتمدون علي بيان سيبويه لمخارج الحروف. قال الداني و هو يتحدث عن مخارج الحروف: «و أنا أذكر ذلك علي مذهب سيبويه خاصة، إذ هو الصحيح المعول عليه» «8». و قال عبد الوهاب القرطبي: «أما تحقيق ذواتها و ذكر مخارجها و تبيين أجناسها و ذكر مراتبها في الاطراد فنذكره علي ما ذكره سيبويه- رضي اللّه عنه- و رتبه في نسخة أبي بكر مبرمان، و تلاه أصحابه و غيرهم من المتأخرين عليه، لأنه المعتمد» «9».
و لا يعني ذلك أن علماء التجويد، سواء منهم المتقدمون أم المتأخرون، قنعوا بما ذكره سيبويه، و رددوا كلماته دون أن يوضحوا غامضا أو يزيدوا شيئا، و ما كان تمسكهم بما أورده سيبويه إلا لشعورهم بدقته و إتقانه. كيف لا و المحدثون يشهدون لسيبويه بذلك، مثل قول المستشرق الألماني أ. شاده عن سيبويه: «بلغ في تعيين مواضع الحروف و مخارجها من الصحة و الدقة ما يعسر علينا الزيادة و الإصلاح، و إن كانت عباراته تحتاج في بعض الأمكنة إلي (1) العين 1/ 51 و 57، و انظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 50 و 51.
(2) العين 1/ 51 و 52.
(3) الكتاب 4/ 433.
(4) انظر: الكتاب 4/ 464 و 465 و 468.
(5) انظر: الكتاب 4/ 453 و 461 و 479.
(6) يفهم من قول سيبويه (الكتاب 4/ 101): (و الحروف المرتفعة حيز واحد) و قول المبرد (المقتضب 1/ 209): (ثم نذكر حروف الفم، و هي حيز علي حدة) أن كلمة (حيز) قد تستخدم بمعني أعم من كلمة (مخرج).
(7) قال الدكتور محمود السعران (علم اللغة ص 199): إن ما يسميه العرب (مخرج الحرف) سماه المحدثون في الغرب (موضع النطق).
(8) التحديد 16 و.
(9) الموضح 152 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 153
التفسير» «1». و يمكن أن ندرس ما تناوله علماء التجويد من قضايا تتعلق بمخارج الحروف في عدة نقاط، و ذلك قبل أن ندقق في المخارج مخرجا مخرجا، و نوازن بين ما قاله سيبويه و علماء العربية فيها و ما قاله علماء التجويد، و ما قاله المحدثون من بعدهم.

1- الاختلاف في عدد المخارج:

قال سيبويه: «و لحروف العربية ستة عشر مخرجا» «2». و هذا هو الذي جري عليه أكثر علماء العربية «3»، و كثير من علماء التجويد «4»، و لكن نجد إلي جانب ذلك من يذهب من علماء العربية المتقدمين إلي جعل المخارج أربعة عشر مخرجا، و من يذهب من علماء التجويد المتأخرين إلي جعلها سبعة عشر مخرجا.
قال الداني: «و زعم الفراء و قطرب و الجرمي و ابن كيسان أن مخارج الحروف أربعة عشر مخرجا، فجعلوا اللام و الراء و النون من مخرج، و هو طرف اللسان، و جعلهن سيبويه من ثلاثة مخارج» «5». و قد أضاف المرادي إلي هؤلاء (ابن دريد)، و قال عن ابن كيسان (بخلاف عنه) «6». و لكن ما ورد في كتاب الجمهرة لابن دريد لا يؤيد إضافة المرادي له إلي الأربعة الذين ذكرهم الداني. فابن دريد يقول: «إن هذه التسعة و العشرين حرفا لها ستة عشر مجري»، أي مخرجا. ثم قال عن الحروف الثلاثة موضع الخلاف: «ثم النون تحت حافة اللسان من الشق الأيمن، و اللام قريبة من ذلك، و الراء أدخل بطرف، إلا أن الراء أدخل بطرف اللسان في الفم». و هذا الكلام يفهم منه أن ابن دريد يذهب إلي أن لكل حرف من هذه الحروف الثلاثة (1) علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 15. و من العجيب المؤسف قول الدكتور تمام حسان (مناهج البحث في اللغة ص 85): «و لقد خلط النحاة العرب خلطا كبيرا في تحديد المخارج»، ثم هو بعد ذلك لا ينقل إلا من كتاب لابن الجزري و يخلط فيفهم نصوصه خلطا كبيرا!.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) انظر: الزبيدي: الواضح في علم العربية ص 281، و ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 52، و ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 123- 124، و ابن عصفور: المقرب 2/ 5، و الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 118، و الداني: التحديد 16 و، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 و، و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 ظ، و العطار: التمهيد 143 ظ.
(5) التحديد 17 و. و انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ.
(6) شرح التسهيل 303 ظ، و انظر: ارتشاف الضرب ص 2، و السيوطي: همع الهوامع 6/ 289 و 291.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 154
مخرجا مستقلا، و أن عدد مخارج الحروف العربية ستة عشر مخرجا «1».
و لا توجد في أيدي الدارسين اليوم المصادر الأصلية التي ورد فيها رأي الفراء (يحيي بن زياد ت 207 ه) و قطرب (محمد بن المستنير ت 206 ه) و الجرمي (صالح بن إسحاق ت 225 ه) و ابن كيسان (محمد بن المستنير ت 299 ه). لكن مكيا تحدث عن الموضوع في باب مستقل في كتابه (الرعاية) سماه (باب الاختلاف في المخارج)، و الجديد الذي تضمنه هذا الباب هو ما استدل به ابن كيسان في الموضوع، و أجد من المفيد أن أنقله بنصه، لأن فيه ما قد يفسر لنا عبارة المرادي التي قالها عن ابن كيسان، و هي قوله (بخلاف عنه).
قال مكي: «قال ابن كيسان محتجا (لقول) سيبويه: النون أدخل في اللسان من الراء، و في الراء تكرير ليس في النون، و ارتعاد طرف اللسان بالراء لتكريرها مخالف لمخرج النون، فهما مخرجان متقاربان. قال: و اللام مائلة إلي حافة اللسان عن موضع النون، تنحرف عن الضاحك و الناب و الرّباعية حتي تخالط الثنايا، فهذا مخرج ثالث.
قال ابن كيسان: فإن قال قائل: المخرج واحد، و لكن الزيادة التي في الراء و اللام كالزيادة التي في النون من الغنة الخارجة من الخياشيم، و اختلاف هذا المخرج كاختلاف المخرج الذي فوقه من وسط اللسان، و هو مخرج الشين و الجيم و الياء، و ينبغي أن يقال: هذه ثلاثة مخارج أيضا.
قيل له: ابتداء الشين و الجيم و الياء من مخرج واحد، و إنما اختلفت هي أنفسها باستطالة الشين و انبساط الجيم و مد الياء، كما أن الدال و الطاء و التاء من مخرج واحد، و هي مختلفات في أنفسها، للإطباق الذي في الطاء، و الجهر الذي في الدال، و الهمس الذي في التاء» «2».
إن المقطع الأول من كلام ابن كيسان يؤيد مذهب سيبويه و يحتج له في جعل مخارج هذه الحروف ثلاثة، لكل حرف مخرج، أما ما بعد المقطع الأول فإنه و إن كان مسوقا لتأكيد مذهب سيبويه فهو يصلح للاحتجاج لمذهب الفراء و قطرب و الجرمي في عد الحروف الثلاثة من مخرج واحد، فإذا كانت الشين تميزت بالاستطالة و الجيم بالانبساط و الياء بالمد و هي مع ذلك من مخرج واحد فإنه يمكن القول بأن الراء تميزت بالتكرير، و النون بالغنة، و اللام بالانحراف و هي مع ذلك من مخرج واحد، قياسا علي حكم الشين و الجيم و الياء. فابن كيسان (1) الجمهرة 1/ 8.
(2) الرعاية ص 217- 218.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 155
في أول كلامه مع سيبويه، و في آخره مع الفراء و أصحابه، و قد اختلف العلماء في تحديد موقف ابن كيسان، حتي قال المرادي: (بخلاف عنه).
أما اعتبار مخارج الحروف العربية سبعة عشر مخرجا فهو ما ذهب إليه جماعة من علماء التجويد، الذين أفردوا الألف و الواو و الياء المدية بمخرج مستقل سماه أكثرهم (الجوف) تأثرا بما ذهب إليه الخليل بن أحمد من اعتباره هذه الحروف الثلاثة هوائية تخرج من الجوف «1».
و قد لخص ابن الجزري ذلك بقوله في كتابه النشر: «أما مخارج الحروف فقد اختلفوا في عددها، فالصحيح المختار عندنا و عند من تقدّمنا من المحققين كالخليل بن أحمد، و مكي ابن أبي طالب، و أبي القاسم الهذلي، و أبي الحسن شريح و غيرهم سبعة عشر مخرجا، و هذا الذي يظهر من حيث الاختيار، و هو الذي أثبته أبو علي بن سينا في مؤلف أفرده في مخارج الحروف و صفاتها.
و قال كثير من النحاة و القراء هي ستة عشر «2»، فأسقطوا مخرج الحروف الجوفية التي هي حروف المد و اللين، و جعلوا مخرج الألف من أقصي الحلق، و الواو من مخرج المتحركة، و كذلك الياء.
و ذهب قطرب ... إلي أنها أربعة عشر ... و الصحيح عندنا الأول لظهور ذلك في الاختبار» «3».
و ليس متيقنا أن اين ذكرهم ابن الجزري قالوا جميعا بأن مخارج الحروف سبعة عشر، و يترجح لديّ أن ابن الجزري أراد أن هؤلاء العلماء يذهبون إلي أن لحروف المد مخرجا مستقلا، خاصة بالنسبة للخليل و مكي و ابن سينا. أما الهذلي و شريح فلم أطلع علي ما يوضح رأيهما بالتحديد. فالخليل بن أحمد لم يقل في مقدمة كتاب العين أن مخارج الحروف سبعة عشر، بل إن الذي يستنتج من كلامه أنه يجعل مخارج الحروف تسعة، لكنه ذكر أن الواو و الياء و الألف هوائية تخرج من الجوف «4». و كذلك يفهم من كلام ابن سينا الذي ميز بين الياء و الواو (الصامتتين و المصوتتين)، أنه يجعل للألف و الواو و الياء المصوتة مخرجا أو مخارج متميزة، (1) العين 1/ 58.
(2) قال القسطلاني (اللئالئ السنية 7 و): «و قال سيبويه و أتباعه كالشاطبي ستة عشر».
(3) النشر 1/ 198- 199.
(4) انظر: العين 1/ 57- 58. و انظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 48.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 156
فقد وصف مخارج هذه الأصوات بأنها مع إطلاق الهواء سلسا غير مزاحم، أو مع أدني تضييق «1». أما مكي بن أبي طالب فقد صرح «أن للحروف التي تألف منها الكلام ستة عشر مخرجا» «2». لكن ورد في بعض كلامه أنه يميل إلي اعتبار الألف من الجوف، فقال حين ذكر حروف الحلق الستة «و قد زاد قوم الألف» «3». و قال و هو يتحدث عن مخرج الألف: «لكن الألف حرف يهوي في الفم حتي ينقطع مخرجه في الحلق، فنسب في المخرج إلي الحلق لأنه آخر خروجه» «4». و ذكر حين تحدث عن صفات الحروف و ألقابها (الحروف الجوفية، و الحروف الهوائية) و هي حروف المد و اللين الثلاثة، نقل ذلك عن الخليل «5». فهناك إذن بعض ما يمكن أن يستدل به علي أن مكيا يجعل مخرج حروف المد مخرجا واحدا هو الجوف، علي الرغم من أنه صرح أن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا.
و كان سيبويه قد جعل المخرج السادس عشر من الخياشيم للنون الخفيفة «6»، و هي النون المخفاة التي تصير غنة في الخيشوم «7». لكن بعض علماء التجويد لم يعتبر هذا المخرج، و من ثم فإن من ذهب مذهب سيبويه في جعل مخارج الحروف ستة عشر جعلها خمسة عشر بإسقاط مخرج النون الخفية أو الغنة «8». و من ذهب مذهب ابن الجزري في جعل مخارج الحروف سبعة عشر جعلها ستة عشر مخرجا «9».
و حسبنا هنا أن نشير إلي هذه المذاهب العامة في تحديد مخارج الحروف العربية، و سوف نشير إلي موقف علماء الأصوات المحدثين من هذه القضية بعد أن نتحدث عن موقف علماء التجويد من مخارج الحروف تفصيلا، و قبل أن نعرض لذلك نقف عند مقولة بعض علماء العربية (لكل حرف مخرج) و نبين أثرها علي موقف علماء التجويد. (1) أسباب حدوث الحروف ص 19.
(2) الرعاية ص 118.
(3) الكشف 1/ 139.
(4) الرعاية ص 134.
(5) الرعاية ص 116.
(6) الكتاب 4/ 434.
(7) انظر: الداني التحديد 17 و. و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73 و.
(8) انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 128 ظ.
(9) انظر: السمنودي: تحفة الطالبين 7 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 157

2- هل لكل حرف مخرج؟:

حين قرر سيبويه أن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا فإن ذلك يعني أن من الحروف ما يشترك في مخرج واحد، لأن حروف العربية حسب رأيه تسعة و عشرون حرفا، فنجد الحرفين و الثلاثة يشتركان في المخرج الواحد، و قليل من تلك الحروف ما انفرد بمخرج مستقل، و يكون اختلاف الصفات هو الأساس في تمييز الحروف المشتركة في المخرج الواحد، و هو السبب في اختلاف جروسها في السمع، لكن بعض النحاة ذهب إلي أن ذلك تقريب، و التحقيق أن كل حرف له مخرج، فما مقدار هذا القول من الصحة، و ما موقف علماء التجويد من ذلك؟.
يبدو أن ابن الحاجب (عثمان بن عمر ت 646 ه) هو أقدم من ذهب ذلك المذهب، فقد قال في الشافية: «و مخارج الحروف ستة عشر تقريبا، و إلا فلكل مخرج» «1». و قال في (الإيضاح في شرح المفصل): «قسم النحويون مخارج الحروف إلي ستة عشر علي التقريب، و إلحاق ما اشتد تقاربه بمقاربه، و جعله معه من مخرج واحد، و التحقيق أن كل حرف له مخرج يخالف الآخر و إلا كان إياه، فجعلوا للهمزة و الألف و الهاء أقصي الحلق، و لا شك أن الهمزة أول، و الألف بعدها، و الهاء بعدها، و لكن لما اشتد التقارب اغتفروا ذكر التفرقة» «2».
و لم يكن لهذا الاتجاه الجديد في تحديد مخارج الحروف العربية إلا تأثير يسير علي موقف علماء التجويد في دراسة المخارج، سرعان ما اختفي ذلك التأثير، فلم يذهب ذلك المذهب إلا عدد قليل من علماء القراءة و علماء التجويد «3». و كذلك ذهب إليه بعض علماء العربية «4». و مع أن هذا الاتجاه ظل افتراضيا، و لم يعتمد في دراسة المخارج، حتي عند القائلين به، نجد بعض العلماء يتصدون له و يبينون عدم متانة الأساس الذي يقوم عليه.
و كان رضي الدين الأسترآباذي (ت 686 ه) قد وضح مذهب ابن الحاجب لكنه تشكك (1) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(2) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 480.
(3) مثل: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 3. و شعلة الموصلي: كنز التهاني (باب مخارج الحروف) ص 2. و زكريا الأنصاري: الدقائق المحكمة ص 7، و أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 9 و.
(4) مثل: الجاربردي شرح الشافية ص 241، و السيوطي: همع الهوامع 6/ 292.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 158
في دقة ما ذهب إليه، فقال في آخر تعليقه علي قول ابن الحاجب في الشافية (و إلا فلكل مخرج): «إن اختلافها قد يحصل مع اتحاد المخرج بسبب اختلاف وضع الآلة من شدة الاعتماد و سهولته و غير ذلك، فلا يلزم أن يكون لكل حرف مخرج» «1».
و انتقد علي القاري (ت 1014 ه) ذلك المذهب، و قرر أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور، فقال معلقا علي قول من قال: (التحقيق أن لكل حرف مخرجا مخالفا لمخرج الآخر، و إلا لكان إياه): «قلت: هذا التعليل بعيد من التحقيق فإن الجمهور من أرباب التدقيق جعلوا لحروف متعددة مخرجا واحدا بناء علي أنّ التمييز حاصل باعتبار اختلاف الصفات، و إن كان الاتحاد باعتبار الذوات» «2».
و حاول محمد المرعشي التقريب بين ما ذهب إليه ابن الحاجب من أن كل حرف له مخرج، و ما ذهب إليه الجمهور من أن مخارج الحروف ستة عشر أو سبعة عشر، فيشترك في بعض المخارج أكثر من حرف، و ذلك بتقسيم المخارج إلي مخارج كلية و مخارج جزئية، فقال و هو يتحدث عن عدد مخارج الحروف: «اعلم أن في عددها اختلافا بين العلماء، و المختار عند الجمهور أنها سبعة عشر، بعضها كلي منقسم إلي مخرجين جزئيين أو أزيد، و بعضها جزئي غير منقسم، فلكل حرف مخرج جزئي، كما قاله الرضي، و المخارج السبعة عشر متمايزة تمايزا بينا، بخلاف المخارج الجزئية المشتركة في مخرج كلي من هذه السبعة عشر» «3».
و محاولة المرعشي هذه قد تنطبق علي بعض المخارج مثل مخرج (ج ش ي) و مخرج (ب م و) للتباين الكبير في طريقة نطق كل مجموعة، و لكن من غير اليسير تطبيقها علي مخرج (ط د ت) و مخرج (ص س ز) و ذلك لأن أصوات كل مجموعة متقاربة جدا و لم يميز بينها إلا الاختلاف في صفة واحدة. و قد قال المرعشي عن (ط د ت): «الكل متشاركة في المخرج و الشدة، و يفترق الطاء عن الدال بالإطباق ... و يفترق الدال عن التاء بالهمس فقط، فلو لا الجهر لكانت تاء، و لو لا الهمس في التاء لكانت دالا» «4». (1) شرح الشافية 3/ 251.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) جهد المقل 5 و.
(4) جهد المقل 19 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 159

3- ترتيب الحروف التي تشترك في مخرج واحد:

و القضية الأخري التي شغل بها علماء التجويد كثيرا، هي قضية ترتيب الحروف التي تخرج من مخرج واحد، فقول سيبويه: (و من أوسط الحلق العين و الحاء) «1» هل يعني أن العين قبل الحاء أو أنه لم يقصد بينهما ترتيبا؟ و قد كان أبو الحسن علي بن محمد بن خروف (ت 606 ه علي خلاف) قد قال: «إن سيبويه لم يقصد ترتيبا فيما هو من مخرج واحد» «2».
و كان أبو حيان قد قال: «و ظاهر كلام سيبويه أن الحاء بعد العين، و هو نص كلام مكي ابن أبي طالب. و يظهر من كلام المهدوي أن العين بعد الحاء، و هو نص أبي الحسن شريح» «3». و نقل ابن الجزري كلام أبي حيان في كتابه النشر «4». و قد قال الدكتور إبراهيم أنيس أن هذا الخلاف وهمي، و أن التجارب الحديثة قد دلت علي أن لكل صوتين من أصوات الحلق حيزا معينا، يحلان فيه معا دون ترتيب لأحدهما علي الآخر، و أيد كلامه بقول ابن حروف السابق «5».
السؤال الآن: هل الخلاف في ترتيب الحروف التي تنتج من مخرج واحد خلاف وهمي، فيكون علماء التجويد قد أخطئوا في هذا الموضوع جملة و تفصيلا؟.
إن وسائل دراستنا محدودة لا تعدو الملاحظة الذاتية، مع الاستفادة من النتائج التي توصل إليها دارسو الأصوات من المحدثين. فإذا كانت (التجارب الحديثة) قد دلت علي خطأ موقف علماء التجويد، فنحن لا نملك بالملاحظة الذاتية فقط أن نثبت العكس في موضوع دقيق جدا، لأن علماء التجويد حين قالوا بأن العين قبل الحاء مثلا كانوا يدركون التقارب الشديد بينهما، و من ثم نشأت تلك الآراء الثلاثة: (قبل- مع- بعد). و لو لا ما عثرنا عليه من نصوص لبعض علماء التجويد حول الموضوع لاكتفينا بما دلت عليه التجارب الحديثة، لكن تلك النصوص لا تسمح للباحث المدقق أن يمر عليها دون أن يتساءل عن الأسس التي بنيت عليها، و عن مقدارها من الصحة.
كان محمد المرعشي قد قال و هو يتحدث عن الظاء و الذال و الثاء: «فاللسان يقرب إلي (1) الكتاب 4/ 433.
(2) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. و ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(3) ارتشاف الضرب ص 2.
(4) النشر 1/ 199.
(5) الأصوات اللغوية ص 114- 115.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 160
الخارج في الثاء أكثر مما يقرب في أختيها، و يقرب إليه في الذال أكثر مما يقرب في الظاء» «1».
و هذا النص يكشف لنا عن ظاهرة دقيقة تخص الأصوات التي تشترك في مخرج واحد، و هو يتعلق بأصوات يمكن مراقبة إنتاجها بالنظر من دون حاجة إلي أجهزة، فنحن نلاحظ ما لاحظه المرعشي، فيكفي المرء أن يردد (ظ- ذ- ث) ليكتشف ذلك التدرج في اندفاع طرف اللسان مع هذه الأصوات التي تخرج من مخرج واحد، و يمكن الاستعانة بمرآة في أثناء النطق بتلك الأصوات لكي يلاحظ الناطق حركة طرف اللسان في تقدمه مع الثاء و تراجعه مع الذال، ثم تراجعه أكثر من ذلك مع الظاء، و يشترط في أثناء إجراء هذه التجربة أن ينطق الأصوات الثلاثة بنفس واحد، غير فاصل بينها بصوت آخر من همزة الوصل أو غيرها، حتي يتمكن من ملاحظة حركة اللسان بوضوح دون مؤثرات خارجية، و سواء بدأ بالظاء و انتهي بالثاء أم بالعكس.
و يمكن أن نفسر تلك الظاهرة من خلال ظاهرتي الجهر و الهمس، و الإطباق و الانفتاح، فالثاء حرف مهموس يحتاج نطقه إلي ضغط النّفس في مخرجه علي نحو أكثر مما يحتاج في نطق الذال الذي يتذبذب الوتران الصوتيان في أثناء النطق به، فتحصل النغمة الصوتية التي تجعل الصوت المجهور أوضح من المهموس فلا يحتاج الناطق إلي ضغط الهواء في مخرجه بقدر ما يحتاج في المهموس، فيخرج نفس المجهور من مخرجه فاترا. و قد ذكرنا من قبل أن نفس الصوت المهموس كثير، و نفس المجهور قليل. و هذا يعني أن النّفس في الصوت المهموس يجذب طرف اللسان إلي الخارج لشدة الضغط معه أكثر مما يجذبه الصوت المجهور لضعف النّفس معه قياسا بنفس المهموس. فاللسان إذن يقرب إلي الخارج في الثاء أكثر مما يقرب في الذال.
أما الظاء فإنه صوت مطبق، و الإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلي الحنك الأعلي مطبقا له، في أثناء النطق بالصوت المطبق «2». ففي حالة النطق بالظاء يرتفع طرف اللسان و أقصاه نحو الحنك و يتقعر وسطه «3». و الذال هو الصوت المنفتح المقابل للظاء. و ليس بينهما من فرق سوي الإطباق. و يبدو أن اندفاع ظهر اللسان من جهة أقصاه مع الظاء جعل طرفه يتقاصر عن موضع الذال شيئا قليلا و من ثم لاحظ المرعشي أن طرف اللسان يقرب إلي الخارج مع الذال أكثر مما يقرب مع الظاء. (1) جهد المقل 9 ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 436، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 ظ.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 161
و نخرج من هذا الكلام بنتيجة خلاصتها أن الأصوات التي تخرج من مخرج واحد يمكن أن ترتب في داخل ذلك المخرج علي أساس أن الصوت المهموس يكون متقدما نسبيا علي الصوت المجهور، و أن الصوت المنفتح يكون متقدما علي الصوت المطبق. و ذلك التمايز بين أصوات المخرج الواحد يكون جزئيا و دقيقا بحيث لا يحمل الدارس علي جعل مخرج مستقل لكل صوت من تلك الأصوات المشتركة في مخرج واحد.
و يبدو أن تلك الظاهرة هي التي جعلت المرعشي يذهب إلي تقسيم المخارج إلي مخارج كلية و مخارج جزئية «1». و سار علي هذا المبدأ في كلامه علي مخارج الحروف العربية، فقال عن المخرج الأول: «أقصي الحلق يخرج منه همزة فهاء، أعني أنه ينقسم إلي مخرجين متقاربين يخرج من أولهما مما يلي الصدر الهمزة، و من ثانيهما الهاء. و هكذا الفاء الداخل علي الحروف فيما سيأتي يدل علي الترتيب في المخارج الجزئية الداخلة في مخرج كلي» «2».
فإذا صح ما ذهبنا إليه في تفسير كلام المرعشي أمكننا القول بأن اختلاف علماء التجويد في ترتيب الحروف التي هي من مخرج واحد مثل العين و الحاء، و الغين و الخاء، ليس وهميا، بل هو مبني علي ملاحظة دقيقة جدا لحالة تلك الأصوات في مخارجها. و الدليل علي ذلك ما لاحظناه في نطق (ظ ذ ث). و يمكن أن نجري القاعدة السابقة في ترتيب أصوات المخرج الواحد علي جميع أصوات المخارج الأخري، و أن نقول أن من ذهب إلي أن العين مقدم علي الحاء، و أن الغين مقدم علي الخاء فإن قوله هذا مبني علي أساس صوتي صحيح، و عسي أن تثبت التجارب في مختبرات الصوت صحة ما ذهب إليه بعض علماء التجويد في هذا الموضوع.
أما تقديم الهمزة علي الهاء، و هما تخرجان من أقصي الحلق (الحنجرة)، و هو أول المخارج، فلعله مبني علي أساس أن الهمزة حرف شديد (انفجاري) و هو بذلك آني غير ممتد، و أن الهاء حرف رخو (احتكاكي)، و هو بذلك يكون زمانيا ممتدا، فالهمزة تنتج بانطباق الوترين الصوتيين ثم انفراجهما بعد حصر النّفس خلفهما لحظة، بينما تنتج الهاء بتباعد الوترين، فيتسرب الهواء خلال فتحة المزمار، و لا بد حينئذ من تكلف إظهار الهاء بدفع النفس بقوة خلال الفتحة الكائنة بين الوترين، حتي يحدث الحفيف الذي يمكن أن تسمع به الهاء «3». (1) جهد المقل 5 و.
(2) جهد المقل 7 و.
(3) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 89، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 156.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 162
فلعل استمرار اندفاع تيار النفس خلال فتحة المزمار عند نطق الهاء و امتداده عبر تجويف الحلق جعل علماء العربية و علماء التجويد يحسون أن الهمزة أعمق من الهاء، و أن الهاء متراخية عنها، و إن كان الصوتان ينطقان من منطقة الوترين، و ذلك بتأثير طريقة نطق كل منهما.

4- أصول مخارج الحروف:

اتجه بعض علماء التجويد إلي تقسيم مخارج الحروف إلي مجموعات، و ذلك طبقا لتقسيم أعضاء آلة النطق إلي أقسام رئيسية، و كل قسم يضم عددا من المخارج، و يبدو أن هذا الاتجاه جاء من أجل تيسير فهم العلاقات الصوتية بين مجموعات الحروف. و يمكن للدارس أن يلمح مثل هذا المعني في كلام سيبويه عن المخارج، لكنه لم يعن بالنص علي ذلك في أول كلامه علي مخارج الحروف.
و تتراوح أقسام المخارج الكبري التي يذكرها علماء التجويد بين ثلاثة و ستة و يمكن أن تكون ثمانية و ذلك بضم بعض الآراء إلي بعض. فهي عند مكي ثلاثة، قال: «اعلم أن المخارج علي الاختصار ثلاثة: الحلق و الفم و الشفتان» «1». و يقصد بالفم المكان الذي يسترخي فيه اللسان و ما يتصل به أثناء حركته. و قد استخدم ابن الطحان كلمة (اللسان) مكان (الفم) حيث قال: «و هي الحلق و اللسان و الشفتان» «2».
و قسم أحمد بن أبي عمر المخارج إلي ستة أقسام حيث قال: «و مخارج حروف العربية ستة عشر، و هي علي ستة أقسام: حروف الحلق، و حروف أقصي اللسان، و حروف وسط اللسان، و حروف حافة اللسان، و حروف طرف اللسان، و حروف الشفتين» «3». و كان الداني قد سار علي هذا التقسيم في كتاب (الإدغام الكبير)، فتحدث أولا عن حروف الحلق «4». ثم تحدث عن حروف اللسان، و قد قال عنها: «و تنقسم جميعها علي أربعة أقسام: أقصي اللسان و وسطه و طرفه و حافته» «5». ثم تحدث عن حروف الشفتين «6». و قد اتبع الداني في كتاب (1) الكشف 1/ 139.
(2) مرشد القارئ 128 ظ.
(3) الإيضاح 72 ظ.
(4) الإدغام الكبير 9 و.
(5) الإدغام الكبير 11 ظ.
(6) الإدغام الكبير 23 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 163
(التحديد) ذات التقسيم و لكن دون أن ينص عليه «1».
و أضاف المرادي (الخياشيم) إلي أقسام المخارج حيث قال: «و هي علي اختلافها ترجع إلي أربعة أصول، و هي: الحلق، و اللسان، و الشفتان، و الخياشيم» «2»، و سلك ابن بلبان الحنبلي (محمد بن بدر الدين بن عبد القادر ت 1083 ه) نفس الطريق، لكنه أضاف إلي أقسام المخارج (الجوف) إلي جانب (الخياشيم) فذكر خمسة أقسام علي هذا النحو: «أصول هذه المخارج خمسة، و هي: الجوف، و الحلق، و اللسان، و الشفتان، و الخيشوم» «3». و إضافة (الجوف) تعكس ما ذهب إليه المتأخرون من علماء التجويد من تخصيص مخرج مستقل لحروف المد هو الجوف.
و تصير الأقسام الرئيسة للمخارج التي ذكرها علماء التجويد ثمانية أقسام، هي: الحلق، و أقصي اللسان، و وسط اللسان، و حافة اللسان، و طرف اللسان، و الشفتان، و الخياشيم، و الجوف.
و يقرب من ذلك ما كان الخليل بن أحمد قد أورده في مقدمة كتاب العين من ألقاب الحروف، فإن كل لقب منسوب إلي قسم من أعضاء آلة النطق، و هو يمثل مخرجا أو أكثر من مخارج الحروف العربية، و قد جعلها تسعة أقسام، هي: حلقية، و لهوية، و شجرية، و أسلية، و نطعية، و لثوية، و ذلقية، و شفوية، و هوائية (جوفية) «4». و كان بعض علماء التجويد قد أورد مصطلحات الخليل في ألقاب الحروف إلي جانب غيرها من مصطلحات الدراسة الصوتية الموروثة عن سيبويه و غيره من علماء العربية «5»

5- طريقة ترتيب المخارج:

و نلاحظ أن علماء العربية و علماء التجويد حين يذكرون مخارج الحروف يرتبونها ترتيبا تصاعديا يبدأ بأقصي نقطة في آلة النطق، و هي التي يسمونها (أقصي الحلق)، ثم يتدرج صاعدا حتي ينتهي بالشفتين. و قد عزف كثير من دارسي الأصوات العربية المحدثين عن هذا الترتيب، و اتبعوا الترتيب المعاكس له الذي يبدأ بالشفتين و ينتهي بأقصي الحلق (الحنجرة)، و هم (1) التحديد 16 و- 17 و.
(2) المفيد 101 و.
(3) بغية المستفيد 54 ظ.
(4) العين 1/ 58، و انظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 48.
(5) انظر: مكي: الرعاية ص 113، و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73 و. و العطار: التمهيد 143 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 164
يقلدون في ذلك علماء الأصوات الغربيين الذين اتبعوا الترتيب الذي يبدأ بالشفتين و ينتهي بأقصي الحلق (الحنجرة) «1».
و نحن لا نري مجرد اتباع علماء الأصوات الغربيين لترتيب معين لمخارج الحروف مسوّغا للعدول عن الترتيب الذي سارت عليه جماهير علماء العربية و علماء التجويد، إضافة إلي أن كلا الترتيبين يؤدي إلي نتيجة واحدة، فقضية ترتيب المخارج مثل أي قضية ذات طرفين، يمكن دائما أن تبدأ من أي من الطرفين لتصل إلي الطرف الثاني.
و لم تكن هذه القضية في ترتيب المخارج لتغيب عن علماء التجويد، فبينوا أن هناك طريقتين لترتيب المخارج، و أن جمهور علماء العربية و التجويد اختاروا البدء بالأقصي دون الأدني لأن مادة الصوت هي الهواء الخارج من داخل الإنسان، و أن أول نقطة يمكن أن ينتج فيها صوت لغوي اعتبروها أول المخارج، و هي أقصي الحلق (الحنجرة).
قال أبو بكر أحمد بن الجزري في كتابه (الحواشي المفهمة في شرح المقدّمة): «كل مقدار له نهايتان، أيها فرضت أوله كان مقابلها آخره. و لما كان وضع الإنسان علي الانتصاب لزم منه أن يكون رأسه أوله و رجلاه آخره، و إذا كان كذلك كان أول المخارج الشفتين و أولهما مما يلي البشرة، و ثانيهما اللسان و أوله مما يلي الأسنان و آخره مما يلي الحلق، و ثالثهما الحلق و أوله مما يلي اللسان و آخره مما يلي الصدر، و لو كان وضع الإنسان علي التنكيس لانعكس.
و لما كان مادة الصوت الهواء الخارج من داخل كان أوله آخر الحلق و آخره أول الشفتين. فرتب الناظم رحمه اللّه (يعني أباه محمد بن الجزري مؤلف المقدمة الجزرية) الحروف باعتبار الصوت وفاقا للجمهور» «2». و قد نقل هذا النص عدد من علماء التجويد «3».
و لا نعلم أن أحدا من علماء العربية أو علماء التجويد اتبع ترتيب المخارج الذي يبدأ بالشفتين و ينتهي بالحلق. و لكن جاء في كلام المرعشي حول الموضوع ما يفهم منه أن بعض العلماء سار عليه في ترتيب المخارج، و هذه عبارته «إن في ترتيب المخارج اعتبارين: (1) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 112 و 117. و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(2) الحواشي المفهمة 13 ظ- 14 و.
(3) انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 8 و. و القسطلاني: اللئالئ السنية 7 ظ، و لطائف الإشارات (له) 1/ 189. و طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 7 ظ. و أبو الفتوح الوفائي:
الجواهر المضية 17 ظ. و علي القاري: المنح الفكرية ص 10.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 165
أحدهما: و هو الذي أخذه الجمهور، و اختير في هذه الرسالة أن يكون أول المخارج أقصي الحلق و آخرها خارج الشفتين.
و الآخر: أن يكون أول المخارج خارج الشفتين و آخرها أقصي الحلق، و هو الذي اختاره بعض العلماء، هكذا قاله البعض» «1». و قال في مكان آخر: «فأول المخارج حينئذ مخرج الواو و آخرها مخرج الهمزة» «2».
و يذهب دارسو الأصوات العربية من المحدثين الذين يبدءون بترتيب المخارج من الشفتين إلي أن للأصوات العربية أحد عشر مخرجا «3». و يتركز الاختلاف بينهم و بين علماء العربية و التجويد في أنهم يعدون عددا من الأصوات من مخرج واحد بينما بعدها علماء العربية و التجويد من مخرجين أو أكثر، لا سيما حروف طرف اللسان، أو أنهم لا يعتبرون بعض المخارج أصلا، مثل مخرج النون الخفية، و هذه اتجاهات كانت معروفة لدي علماء التجويد قديما. كما بيّنا ذلك قبل قليل حين وضحنا تقسيمهم للمخارج إلي مجموعات رئيسية، و هو عمل لا يختلف عنه كثيرا ما فعله دارسو الأصوات العربية من المحدثين، لا سيما إذا علمنا أن بعض المحدثين يعتبر مخارج الحروف العربية الرئيسة تسعة مخارج «4».
و لا يهمنا تتبع ذلك الاختلاف هنا، لأنه لا يعدو أن يكون شكليا أو لفظيا، بقدر ما يهمنا بيان الاختلاف في تعيين مخارج بعض الحروف بين علماء التجويد و دارسي الأصوات العربية من المحدثين. و هو ما سنحرص علي الوقوف عنده في الفقرة الآتية من هذا المبحث، حين نفصل القول في مخارج الحروف العربية، مع محاولة بيان الأسباب التي أدت إلي ذلك الاختلاف، و هل ترجع إلي تطور الأصوات العربية، أو إلي خطأ أحد الفريقين أعني علماء التجويد و المحدثين، أو أنه اختلاف يرجع إلي التكلف في ذوق الحروف علي حد قول المرعشي: «إن الكلام علي المخارج علي حسب استقامة الطبع لا علي التكلف، فاختلاف العلماء في ترتيب المخارج اختلاف في حكم الطبع المستقيم» «5». (1) بيان جهد المقل 9 و.
(2) المصدر نفسه 12 و.
(3) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 199، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 112، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(4) جان كانتينو: دروس ص 22.
(5) بيان جهد المقل 12 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 166

ثالثا- بيان مخارج الحروف العربية عند علماء التجويد:

1- حروف الحلق:

قال سيبويه: «و لحروف العربية ستة عشر مخرجا. فللحلق منها ثلاثة:
فأقصاها: الهمزة و الهاء و الألف.
و من أوسط الحلق مخرج العين و الحاء.
و أدناها مخرجا من الفم: الغين و الخاء» «1».
ظل كلام سيبويه هو الأساس الذي استندت إليه دراسات علماء العربية و علماء التجويد في الأصوات، و لا يزال كلام سيبويه صحيحا منطبقا علي واقع الدرس الصوتي في كثير من جوانبه، و لم يكتف علماء التجويد بترديد كلام سيبويه في المخارج و تفسيره، بل إنهم حاولوا مناقشة بعض و جهات نظره مما يحتمل المناقشة، و من ذلك إخراج الألف من حروف الحلق فإن كثيرا من علماء التجويد اعتبروا حروف الحلق ستة، و أخرجوا الألف منها. و هذا اتجاه ينسب إلي أبي الحسن شريح بن محمد الرعيني الإشبيلي (ت 539 ه)، فقد قال: «إن الألف هوائية لا مخرج لها» «2». و لعله ذهب هذا المذهب في كتابه (نهاية الإتقان في تجويد القرآن)، الذي لم نطلع عليه، و قد قلده في ذلك كثير من علماء التجويد، حتي انتهي أصحاب هذا المذهب إلي القول بأن حروف المد الثلاثة: الألف و الواو و الياء المسبوقة بحركة تجانسها لها مخرج علي حدة سموه الجوف «3». و كان الخليل قد قال قديما: الألف و الواو و الياء هوائية «4».
لكن علماء التجويد ميزوا بين نوعين من الواو و الياء. و هما المدية و غير المدّيّة، فالمدية من الجوف و غير المدية من مخارجها التي ذكرها سيبويه.
و إخراج الألف من حروف الحلق تؤيده الدراسة الصوتية الحديثة «5»، باعتبار أن الألف من الأصوات الذائبة، بحسب تعبير بعض علماء التجويد، أو الصائتة (أو المصوتة) بحسب (1) الكتاب 4/ 433.
(2) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 2، و المرادي: شرح التسهيل 303 ظ.
(3) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(4) العين 1/ 58.
(5) انظر: حسن ظاظا: كلام العرب ص 16، و حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 302.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 167
تعبير بعض علماء الأصوات المحدثين، التي تتميز بأن الهواء يمر في أثناء النطق بها حرا طليقا خلال الحلق و الفم دون أن يقف في طريقه عائق أو حائل، و دون أن يضيق مجري الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا «1».
و نجد في كلام بعض علماء التجويد ما يفسر إدراج سيبويه للألف في حروف الحلق، فعبارة أقصي الحلق تعني عند علماء العربية و علماء التجويد الحنجرة، التي تتضمن الوترين الصوتيين، اللذين تشكل النغمة التي تنشأ عن تذبذبهما جوهر صوت الألف، فنص المرعشي علي أن أقصي الحلق هو مبدأ صوت الألف «2». لكن الغالب هو أن تنسب الحروف إلي موضع التضييق لمجري الهواء (المخرج)، لا إلي الأحداث الصوتية الثانوية التي تصاحب نطق الصوت مثل حالة الوترين الصوتيين «3».
و قد نص علماء التجويد علي أن «الهمزة أول الحروف خروجا و هي تخرج من أول مخارج الحلق من آخر الحلق مما يلي الصدر»، حسب عبارة مكي «4». و قال الداني «من أول الصدر و آخر الحلق» «5». و كل ذلك يشير إلي فتحة المزمار الكائنة بين الوترين الصوتيين، حيث ينطبق الوتران انطباقا تاما، حال النطق بالهمزة، فلا يسمحان للهواء بالمرور من الحنجرة، ثم ينفر جان فجأة فيندفع الهواء محدثا صوت الهمزة «6».

2- حروف أقصي اللسان:

قال سيبويه: «و من أقصي اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلي مخرج القاف. و من أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا و مما يليه من الحنك الأعلي مخرج الكاف» «7».
و اتبع علماء التجويد خطي سيبويه في تحديد مخرجي القاف و الكاف «8». مع بعض التوضيحات، مثل قول شريح بن محمد الرعيني (ت 539 ه): إن القاف تخرج من أول اللهاة (1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 92. و انظر أيضا ص 122- 123.
(2) جهد المقل 7 و.
(3) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 298.
(4) الرعاية ص 119.
(5) التحديد 16 و.
(6) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 91، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 142.
(7) الكتاب 4/ 433.
(8) مكي: الرعاية ص 145 و 147. و الداني: التحديد 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 168
مما يلي الحلق و مخرج الخاء «1». و كان السمرقندي (ت 780 ه) قد قسم اللهاة إلي قسمين:
الغلصمة و هي أول اللهاة من جانب الحلق، و العكدة و هي آخر اللهاة من جانب الفم و جعل القاف تخرج من الغلصمة و سماها غلصمية، و جعل الكاف تخرج من العكدة و سماها عكدية «2». و سبق أن ناقشنا وجهة نظر السمرقندي هذه عند الحديث عن (اللهاة) في المبحث الأول الخاص بوصف أعضاء آلة النطق. و هي تؤدي إلي النتيجة نفسها التي يؤدي إليها مذهب غيره من العلماء، و هو القول بأن القاف تسبق الكاف.
و ذهب بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين إلي ترتيب آخر في توزيع مخارج الحروف الأربعة (غ خ/ ق ك). يتلخص في تقديم مخرج القاف علي مخارج الحروف الثلاثة الأخري، فتكون (غ خ ك) من أقصي الحنك، و تكون القاف من اللهاة أعمق من الحروف الثلاثة «3». بينما ذهب بعضهم إلي اعتبار (غ خ ق) من اللهاة و ما يتصل بها من غشاء الحنك، مع إبقاء الكاف من أقصي الحنك «4». و جري بعض المحدثين علي منهاج علماء العربية في اعتبار الغين و الخاء من حروف أدني الحلق إلي الفم، و اعتبار القاف من حروف اللهاة أو أقصي اللسان، و الكاف أدني من ذلك إلي مقدم الفم «5».
و بالغ بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية في نسبة الغلط إلي علماء العربية و علماء التجويد في تحديد مخارج الحروف الأربعة (غ خ ق ك). فقد قال الدكتور تمام حسان في كلامه عن مخارج الحروف: «و المخارج التي نذكرها هنا تختلف إلي حد ما عن تلك التي توجد في علم التجويد و القراءات اختلافا اقتضاه منهج البحث الحديث، و سنشير عند كل نقطة من نقط الخلاف بين هذه المخارج و تلك إلي وجه النقص الذي نراه في وجهة نظر النحاة و القراء» «6». ثم ذكر المخارج من وجهة النظر الحديثة فجعلها عشرة. و هذا ليس شيئا جديدا كما وضحنا ذلك في فقرة سابقة من هذا المبحث «7»، و إنه اختلاف في الاصطلاح و ليس راجعا (1) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. و ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(2) روح المريد 125 و.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 113، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 272.
(4) جان كانتينو: دروس ص 23.
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 85 و 88.
(6) مناهج البحث في اللغة ص 84.
(7) انظر ص 164 من هذا البحث.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 169
إلي الغلط في تحديد المخارج.
ثم يستمر الدكتور تمام حسان في كلامه فيقول: «و لقد خلط النجاة العرب خلطا كبيرا في تحديد هذه المخارج، و حسبك أن تري ابن الجزري يفاضل بين الآراء المختلفة في تحديد عدد منها ... ثم يغلط في تحديد مخارج أصوات الخاء و الغين و الكاف، و الطاء و الدال و التاء، فيقول: إن صوتي الخاء و الغين من أدني الحلق إلي الفم، وراء مخرج القاف، مع أنهما من مؤخر اللسان مع الطبق أمام مخرج القاف. و هو يجعل الكاف خلف القاف، و العكس أصح، فصوت الكاف من نفس مخرج صوتي الخاء و الغين. ثم يقول: إن الأصوات الثلاثة الأخيرة نطعية، و يقصد أنها من نطع الغار، و نسميه في هذا الكتاب الغار، و الصحيح أنها أسنانية لثوية» «1».
إن الكلام الخاص بالأصوات الثلاثة (ط د ت) سوف يأتي في مكان لا حق من هذا المبحث إن شاء اللّه تعالي، و نقتصر هنا علي ما يتعلق بالأصوات الأخري (غ خ ك). و لكن لدينا ملاحظات تتعلق بكلام الدكتور تمام حسان السابق نذكرها قبل أن نناقش وجهة علماء الأصوات المحدثين في تحديد و ترتيب مخارج الحروف الأربعة.
الملاحظة الأولي هي أنه نسب الخلط و الغلط و التقصير في دراسة مخارج الحروف إلي علماء العربية و علماء التجويد قاطبة و هو لم يطلع علي ما يبدو إلا علي مصدر واحد، هو في الواقع ليس من المؤلفات الأساسية في الموضوع لدي الفريقين من علماء العربية و علماء التجويد، ذلك المصدر هو (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، و هو كتاب في القراءات، مع أنه تضمن فصلا عن مخارج الحروف و صفاتها. و هذه حالة لا تسمح بذلك التعميم الذي تورط فيه الدكتور تمام حسان، و تتناقض مع منهج البحث الحديث الذي يتشبث به.
و الملاحظة الثانية هي أنه نسب إلي ابن الجزري ما لم يقله، فابن الجزري لم يخرج علي الترتيب المشهور للحروف الأربعة (غ خ، ق ك) لدي علماء العربية و علماء التجويد. أما الدكتور تمام حسان فنفهم من عبارته، مع غموض دلالات (وراء- و أمام- و خلف) لديه، أنه ينسب إلي ابن الجزري هذا الترتيب (غ خ ك ق) لمخارج هذه الأصوات الأربعة. و هذه عبارة ابن الجزري ننقلها بنصها: (1) مناهج البحث في اللغة ص 85- 86.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 170
«المخرج الرابع: أدني الحلق إلي الفم، و هو للغين و الخاء، و نصّ شريح علي أن الغين قبل. و هو ظاهر كلام سيبويه أيضا، و نص مكي علي تقديم الخاء، و قال الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن خروف النحوي: إن سيبويه لم يقصد ترتيبا فيما هو من مخرج واحد. قلت:
و هذه الستة الأحرف المختصة بهذه الثلاثة المخارج هي الحروف الحلقية.
المخرج الخامس: أقصي اللسان مما يلي الحلق و ما فوقه من الحنك، و هو للقاف.
و قال شريح: إن مخرجها من اللهاة مما يلي الحلق و مخرج الخاء.
المخرج السادس: أقصي اللسان و من أسفل مخرج القاف من اللسان قليلا و ما يليه من الحنك، و هو للكاف. و هذان الحرفان يقال لكل منهما لهويّ، نسبة إلي اللهاة، و هي بين الفم و الحلق» «1».
و هذا النص من الوضوح بحيث لا يمكن إلا أن يفهم منه أن ابن الجزري يذهب في ترتيب الحروف الأربعة هذا المذهب (غ خ ق ك) فمن أين استخلص الدكتور تمام حسان ما نسبه إلي ابن الجزري من أنه يذهب في ترتيبها هذا المذهب: (غ خ ك ق)؟ اللهم إلا إذا فهم من قول ابن الجزري عن الكاف بأنها (من أسفل مخرج القاف) أنها أعمق بينما يراد بكلمة (أسفل) أن الكاف أمام القاف من جهة الفم.
إن من الأمور المؤسفة أن يتصور بعض الباحثين أن أبحاثهم لن تجد لها مكانا مناسبا إلا إذا نسبوا التقصير إلي جهود سابقيهم، بينهما المنهج القويم يقتضي منا أن نزن الأمور بميزان الحق، فلا نتورط بالإزراء بجهود القدماء، و لا نفرط في الإطراء بها، بل يجب أن نبين مواضع التقصير بالتحديد، كما يجب ألّا ننسي مواضع الإحسان و الإجادة.
أمامنا الآن ثلاثة اتجاهات في ترتيب مخارج الأصوات الأربعة، الأول: هو (غ خ- ق ك)، و هو يمثل مذهب علماء العربية و علماء التجويد، فالغين و الخاء من أدني الحلق من جهة الفم مع ما يلي ذلك من أعلي الجدار الخلفي للحلق أو من اللهاة. ثم القاف من أقصي اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلي بما في ذلك اللهاة، و من موضع أسفل من موضع القاف، إلي الأمام، مخرج الكاف. و كانوا يسمون الغين و الخاء حلقية، و القاف و الكاف لهوية.
و الاتجاه الثاني: ينحو هذا المنحي في ترتيبها: (ق/ غ خ ك). فتكون القاف لهوية، و تكون الأصوات الثلاثة الأخري من أقصي الحنك. (1) النشر 1/ 199- 200.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 171
و الاتجاه الثالث: ينحو هذا المنحي في ترتيبها: (ق غ خ/ ك).
و يبدو أن الفصل بين مخرج القاف، و مخرج الغين و الخاء أمر غير يسير، و ليس في أيدينا من الوسائل الآن ما يمكن أن نحدد من خلاله موقع القاف منهما. و كل ما تهدينا إليه الملاحظة الذاتية الآن هو أن نحافظ علي ترتيب علماء العربية و علماء التجويد لهذه الحروف الثلاثة، مع احتمال كبير في أن يكون للهاة دور في إنتاج الغين و الخاء إلي جانب الجزء الأعلي من الحلق، و هو ما يعبر عنه بأدني الحلق من الفم. و هذا ينطبق علي الاتجاه الأول كما أنه لا يبتعد عن الاتجاه الثالث إذا اعتبرنا أن (ق غ خ) تخرج من مخرج واحد.
أما الاتجاه الثاني الذي يجعل مخرج القاف من اللهاة، و مخرج الحروف الثلاثة الأخري من أقصي الحنك إلي الأمام من مخرج القاف فإن الملاحظة الذاتية تدلنا علي عدم دقته و ذلك لاستحالة الجمع بين الكاف و الغين و الخاء في مخرج واحد، و هي ملاحظة تنبني علي أساس مما ذكره سيبويه في الكتاب، و هو أمر غفل عنه الدارسون المحدثون الذين أخذوا بهذا الاتجاه، قال سيبويه، و هو يتحدث عن القاف و أنها من أقصي اللسان، و لم تنحدر انحدار الكاف إلي الفم، بل تصعدت إلي ما فوقها من الحنك الأعلي: «و الدليل علي ذلك أنك لو جافيت بين حنكيك فبالغت ثم قلت: قق قق، لم تر ذلك مخلا بالقاف، و لو فعلته بالكاف و ما بعدها من حروف اللسان أخل ذلك بهن» «1».
و عند تطبيق هذه التجربة المبنية علي الملاحظة الذاتية نجد أن الكاف تختفي فلا يمكن أن ننطق بها مع فتح الفم إلي أقصاه، و هو ما عبر عنه سيبويه بقوله: (جافيت بين حنكيك)، و يمكن في نفس الوقت نطق القاف و الغين و الخاء، و هذا يدل علي أن مخرج الغين و الخاء ليس قريبا من مخرج الكاف، و إلا اختل كما اختل مخرج الكاف.
و يبقي بعد ذلك أمر القاف و الغين و الخاء متداخلا إلي حد كبير، و لكن يترجح لديّ أن الغين و الخاء أعمق من القاف، و أن مخرجهما يحاذي التجويف الحلقي، بينما يحاذي مخرج القاف أقصي الحنك الأعلي، و لنا في موقف القراء من إخفاء النون قبل هذه الحروف الثلاثة دليل علي ما نحن بصدده، فأكثر القراء يظهرون النون قبل الغين و الخاء، و لم يخفها معهما إلا نفر قليل جدا من القراء «2». بينما لم يختلف في وجوب إخفاء النون قبل القاف. و هو أمر قد (1) الكتاب 4/ 480.
(2) انظر: الداني: التحديد 20 و. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 178 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 172
يدل علي أن القاف أقرب إلي الفم من الغين و الخاء. و قديما قال السيرافي «فصار الغين و الخاء حيزا مفردا بين حروف الحلق و حروف الفم ... و أنهما حيز لا يختلط بحروف الحلق و لا حروف الفم في الإدغام «1».

3- حروف وسط اللسان:

قال سيبويه: «و من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك الأعلي مخرج الجيم و الشين و الياء» «2». هذا هو الاتجاه الأساسي في وصف مخرج الأصوات الثلاثة لدي علماء التجويد «3». و لكن لهم ملاحظة و هي أنهم يصفون الياء بأنها (غير المديّة) «4». و قال ابن الطحان (الجيم و الشين و الياء الحية) «5». و هذا مصطلح استخدمه بعض العلماء في مقابل (الياء الميتة)، أي أن (الياء) التي تخرج من هذا المخرج هي الياء الجامدة. أما الذائبة (الميتة) فلها مخرج آخر. و سنناقش في المبحث الخاص بالأصوات الذائبة مصطلح (الحية و الميتة).
و تنسب بعض المصادر إلي المهدوي (أبي العباس أحمد بن عمار ت بعد 430 ه) أنه يذهب إلي أن الشين تلي الكاف، و أن الجيم و الياء يليان الشين «6». لكن علماء الأصوات من المحدثين يرون أن مخرج الياء يتقدم علي مخرجي الجيم و الشين «7». علي أن بعضهم يصرح بقوله: «و يجب أن نعلم أن بين الياء و بين الجيم و الشين قربا شديدا في المخرج، حتي إن بعض الدارسين سمي هذه الأصوات الثلاثة أصوات وسط الحنك» «8».
و يبدو أن ما نسبه المرعشي إلي مكي من أنه «قدم في الرعاية الشين علي الجيم» «9».
مبني علي الناحية الشكلية فقط، فالوارد في كتاب الرعاية يشير إلي أن مكيا يعد الحروف الثلاثة من مخرج واحد و لكنه حين أراد الحديث عن الخصائص الصوتية لكل حرف كان لا بد (1) شرح كتاب سيبويه 6/ 511- 512.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) الداني: التحديد 16 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ.
(4) ابن الجزري: النشر 1/ 200، و علي القاري: المنح الفكرية ص 11.
(5) مرشد القارئ 129 و.
(6) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. و ابن الجزري: النشر 1/ 200.
(7) انظر التفصيل: حسان النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 308.
(8) كمال محمد بشر: الأصوات 113.
(9) جهد المقل 7 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 173
من أن يقدم بعضها علي بعض، فبدأ بالشين، ثم الجيم، ثم الياء. و نجده مع ذلك يقول عن مخارجها: «الشين تخرج من المخرج الثالث من مخارج الفم بعد مخرج الكاف من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك» «1». ثم يقول: «الجيم تخرج من مخرج الشين» «2» و بعد ذلك يقول: «الياء تخرج من مخرج الشين و الجيم المذكورين، و هو المخرج الثالث من مخارج الفم» «3».

4- حروف حافة اللسان:

قال الداني: «و لحافة اللسان مخرجان و حرفان، و هما الضاد و اللام» «4».
أما الضاد فقد قال سيبويه: «و من بين أول حافة اللسان و ما يليها من الأضراس مخرج الضاد» «5». و قال علماء التجويد: «فالضاد من بين أول حافة اللسان و ما يليها من الأضراس، فبعض الناس يجري له في الشدق الأيمن، و بعضهم يجري له في الشدق الأيسر، و مخرجها من هذا كمخرجها من هذا» «6». و الإضافة التي وردت في قول علماء التجويد حول بيان مخرج الضاد أصلها وارد في كتاب سيبويه أيضا، و ذلك حين تحدث سيبويه عن الضاد الضعيفة «7».
و ذكر أبو شامة المقدسي (ت 665 ه) في شرح الشاطبية أن «منهم من يجعل مخرج الضاد قبل الجيم و الشين و الياء» «8». و كان الخليل بن أحمد قد قال: «الجيم و الشين و الضاد في حيز واحد». و سماها شجرية لأن مبدأها من شجر الفم، و هو مفرجه «9». و كان سيبويه قد ذكر (الضاد) قبل الجيم حين رتب الحروف (... ك ض ج ش ي ...) «10». لكنه أخّرها عن حروف وسط اللسان (ج ش ي) حين تحدث عن المخارج. و صحح ابن جني ترتيب سيبويه (1) الرعاية ص 149.
(2) الرعاية ص 150.
(3) الرعاية ص 153.
(4) التحديد 17 و. و الإدغام الكبير (له) 12 و. و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 ظ.
(5) الكتاب 4/ 433.
(6) الداني: التحديد 17 و. و انظر: مكي: الرعاية ص 158، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ، و ابن الجزري: النشر 1/ 200.
(7) الكتاب 4/ 432.
(8) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
(9) العين 1/ 58.
(10) الكتاب 4/ 431.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 174
للحروف فجعل الضاد بعد الياء لينسجم ذلك مع ترتيب المخارج «1». و كذلك فعل بعض علماء التجويد «2». و نص بعض علماء التجويد أن مخرج الضاد بعد مخرج الياء «3». فيكون ترتيب المخارج علي رأي جمهور علماء العربية و علماء التجويد هو (... ك ج ش ي ض ...).
و الوصف السابق لمخرج صوت الضاد إنما ينطبق علي الضاد العربية القديمة، التي استحالت في ألسنة الناطقين بالعربية اليوم إلي عدة أصوات لا ينطبق عليها جميعا الوصف المتقدم لمخرج الضاد، و سوف نناقش هذه القضية حين نستوفي الحديث عن صفات الحروف.
أما اللام فقد قال سيبويه: «و من حافة اللسان من أدناها إلي منتهي طرف اللسان، ما بينها و بين ما يليها من الحنك الأعلي، [مما فويق الضاحك و الناب و الرباعية و الثنية مخرج اللام «4».
و لم يجد علماء العربية و لا علماء التجويد مجالا لأي زيادة علي كلام سيبويه من أجل توضيح مخرج اللام، بل إن بعضهم حاول أن يختصر عبارة سيبويه، فقال: «و من أدني الحافة و هو أقربها إلي طرف اللسان و بين الحنك تخرج اللام» «5». و قال غيره: «اللام من طرف اللسان و أصول الثنايا» «6». و كذلك فعل المحدثون من علماء الأصوات، فقالوا: «يعتمد طرف اللسان علي أصول الثنايا العليا» «7».
و كان ابن الحاجب يري أنه يكفي في تحديد مخرج اللام ذكر الثنايا فقال: «و كان ينبغي أن يقال فوق الثنايا»، لكنه اعتذر عن ذلك بقوله: «علي أن الناطق باللام تنبسط جوانب طرفي لسانه مما فوق الضاحك إلي الضاحك الآخر، و إن كان المخرج في الحقيقة ليس إلا فوق (1) سر صناعة الإعراب 1/ 50.
(2) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 و.
(3) المرعشي: جهد المقل 7 ظ.
(4) الكتاب 4/ 433، و ما بين المعقوفين سقط من طبعة عبد السلام هارون، و أثبته من طبعة بولاق 2/ 405.
(5) ابن الطحان: مرشد القارئ 129 و.
(6) مكي: الكشف 1/ 139. و انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 185. و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 65. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 166. و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 270.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 175
الثنايا، و إنما ذلك يأتي لما فيها من شبه الشدة و دخول المخرج في ظهر اللسان، فينبسط الجانبان لذلك، فلذلك عدد الضاحك و الناب و الرباعية و الثنية» «1». و نقل أبو شامة المقدسي كلام ابن الحاجب «2».
و قال المرعشي في تحديد مخرج اللام: «ما بين حافتي اللسان معا، بعد مخرج الضاد، و ما يحاذيهما من اللثة العليا، و هي لثة الضاحكين و النابين و الرباعيتين و الثنيتين يخرج منه اللام، و رأس اللسان داخل في مخرجه» «3». و قال ملخصا ذلك بعبارة أوجز: «فمخرج اللام ما بين حافتي اللسان مع رأسه و بين ما يحاذي الجميع من اللثة العليا» «4». ثم تحدث عن طول مخرج اللام فقال: «و ليس في الحروف أوسع مخرجا منه لطوله كما تري لكنه مقوس و لمّا لم يكن طول مخرجه إلي سمت جريان الصوت بل معترضا علي سمت الجريان لم يوجب طول مخرجه طول صوته» «5».
و يتميز اللام بأن الصوت معه لا يخرج من الموضع الذي يلتقي فيه العضوان، بل يخرج من حافتي اللسان (أي جانبيه) و طرف اللسان لازم لموضعه، أثناء ذلك، و قد أدرك علماء العربية و علماء التجويد هذه الخاصية للام، فكان سيبويه قد قال عن اللام بأنه «ليس كالرخوة، لأن طرف اللسان لا يتجافي في موضعه. و ليس يخرج الصوت من موضع اللام و لكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك» «6». و قال عبد الوهاب القرطبي: «اللسان ينحرف فيه مع الصوت، و تتجافي ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما علي الصوت من تينك الناحيتين و مما فويقهما» «7». و لذلك سمي اللام الصوت المنحرف.

5- حروف طرف اللسان:

اشارة

قال الداني: «و طرف اللسان له خمسة مخارج، و أحد عشر حرفا». و هي: ر- ن- ط د ت- ص ز س- ظ ذ ث «8». و قد سمّي بعض المحدثين حروف طرف اللسان (المجموعة (1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 480- 481.
(2) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
(3) جهد المقل 8 و.
(4) بيان جهد المقل 10 ظ.
(5) المصدر نفسه 10 ظ.
(6) الكتاب 4/ 435.
(7) الموضح 157 و.
(8) الإدغام الكبير 11 ظ، و التحديد 16 ظ، و انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 129 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 176
الكبري من الأصوات المتقاربة المخارج) و قال عنها: «و وجه الشبه بين كل هذه الأصوات هو أن مخارجها تكاد تنحصر بين أول اللسان، بما فيه طرفه، و الثنايا العليا، بما فيها أصولها» «1».

(أ) الراء و النون:

حدد سيبويه مخرجهما بقوله: « [و من طرف اللسان بينه و بين ما فويق الثنايا مخرج النون.
و من مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا، لانحرافه إلي اللام، مخرج الراء» «2».
و الكلام عن مخرجي الراء و النون يقتضي بيان أمرين: الأول تحديد مخرجيهما، و الثاني تحديد أيهما قبل الآخر.
أما مخرج النون فإن علماء التجويد حافظوا علي عبارة سيبويه في بيانه، و لكنهم أضافوا إضافة قيمة تتعلق بإخراج النون، و هي الربط بين مخرجه في الفم باعتماد طرف اللسان علي ما فويق الثنايا العليا، و بين خروج النّفس في أثناء ذلك من الخيشوم. قال الداني: «و النون من طرف اللسان، بينه و بين ما فويق الثنايا العليا، و يتصل بالخياشيم». و قال أيضا: «فأما النون المتحركة فمخرجها من الفم مع صويت من الأنف» «3».
و قال المرعشي معلقا علي النون و الميم في (عن و لم): «فإن كلّا من النون و الميم الساكنتين هنا مركب من صوتين: صوت ذاته و [هو] صوت جار في داخل الفم ينقطع في مخرج النون و الميم، و قد عرفت مخرجيهما. و صوت صفته و هو صوت جار في الخيشوم» «4».
و لم يكن سيبويه غافلا عن صوت الخيشوم الذي يجري مع النون، الذي يسميه الغنة، لكنه أشار إليه في معرض حديثه عن صفات الحروف، و لم يذكره مقترنا ببيان مخرج الحرف.
فقال: «و منها حرف شديد يجري معه الصوت، لأن ذلك الصوت غنة من الأنف، فإنما تخرجه (1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 46.
(2) الكتاب 4/ 433. و ما بين المعقوفين سقط من طبعة عبد السلام هارون، و أثبته من طبعة بولاق 2/ 405.
(3) التحديد 16 ظ، 17 و. و انظر: الإدغام الكبير (له) 12 و. و أحمد ابن أبي عمر: الإيضاح 72 ظ.
(4) بيان جهد المقل 12 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 177
من أنفك و اللسان لازم لموضع الحرف، لأنك لو أمسكت بأنفك لم يجر معه الصوت. و هو النون، و كذلك الميم» «1».
و عبارة سيبويه (فويق الثنايا) استبدل بها بعض علماء التجويد كلمة (اللثة) «2». قال محمد المرعشي: «المخرج التاسع ما بين رأس اللسان و ما يحاذيه من اللثة، و هي لثة الثنيتين العليين يخرج منه النون المظهرة ...» «3». و لم يستخدم سيبويه كلمة (اللثة) و هو يبين مخارج الحروف.
أما مخرج الراء فلم يزد علماء التجويد علي ما ذكره سيبويه إلا اليسير، قال الداني:
«و الراء من طرف اللسان بينه و بين ما فويق الثنايا العليا غير أنه أدخل من النون في ظهر اللسان لانحرافه إلي اللام» «4» و قال محمد المرعشي: «ما بين رأس اللسان مع ظهره مما يلي رأسه، و ما يحاذيهما من اللثة، و هي لثة الثنيتين العليين أيضا يخرج منه الراء» «5».
و ما ورد في بيان مخرج الراء عند سيبويه و عند علماء التجويد يثير قضية ترتيب مخرجي هذين الحرفين و أيهما قبل الآخر. فبينما نجدهم يوضحون مخرج النون قبل مخرج الراء نجدهم يقولون في مخرج الراء: (من مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان)، و هو يشير إلي تقدم مخرج الراء. و كان سيبويه قد قدّم ذكر الراء في ترتيب حروف العربية علي النون علي هذا النحو (... ل ر ن ...) و حذا ابن جني حذوه «6». و كذلك فعل بعض علماء التجويد «7».
و كان هذا الموضوع مدار بحث عند علماء العربية و علماء التجويد، فقال أبو عمرو بن الحاجب: «أ لا تري أنك إذا نطقت بالنون و الراء ساكنتين وجدت طرف اللسان عند النطق بالراء فيما هو بعد مخرج النون، هذا هو الذي يجده المستقيم الطبع. و قد يمكن إخراج الراء مما هو أدخل من مخرج النون، و من مخرجها. و لكن بتكلف لا علي حسب إجراء ذلك علي الطبع المستقيم، و الكلام في المخارج إنما هو علي حسب استقامة الطبع لا علي (1) الكتاب 4/ 435.
(2) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 15 ظ. و أبو الفتوح الوفائي: الجواهر المضية 21 ظ.
(3) جهد المقل 8 و.
(4) التحديد 16 ظ. و انظر: مكي: الرعاية ص 169.
(5) جهد المقل 8 و.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 50.
(7) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 178
التكلف» «1». و يفهم من هذا أن ابن الحاجب يذهب هنا إلي أن النون أدخل في اللسان و أن مخرج الراء يليها باتجاه طرف اللسان. لكنه في الشافية يصرح بأن النون أقرب إلي رأس اللسان من الراء «2».
و ناقش محمد المرعشي هذه القضية و دقق فيها غاية التدقيق، و هو حين حدد مخرج النون قال: (ما بين رأس اللسان و ما يحاذيه من اللثة مخرج النون) و حين حدد مخرج الراء قال: (ما بين رأس اللسان مع ظهره مما يلي رأسه و ما يحاذيهما من اللثة مخرج الراء) «3».
و الفرق بين مخرج الحرفين أن الذي يعتمد علي اللثة مع النون هو رأس اللسان، و مع الراء رأس اللسان مع ظهره القريب من رأسه. ثم يضيف المرعشي: «أقول ظهر اللسان أدخل من رأسه، و ما يلابسه رأسه من اللثة بعد مخرج النون، فمن نظر إلي الأول يظهر له جعل مخرج الراء قبل مخرج النون، و من نظر إلي الثاني أخّر الراء عن النون، و اللّه أعلم» «4».
و حاول المرعشي توضيح الفقرة السابقة فقال: «قوله (فمن نظر إلي الأول) يعني أن مخرجي النون و الراء يشترك فيهما اللسان و اللثة. فمن نظر إلي اللسان ظهر له جعل مخرج الراء قبل مخرج النون، لأن مخرج الراء تضمّن ما هو مقدم علي مخرج النون. و من نظر إلي اللثة أخّر الراء لأن ما يلابسه رأس اللسان من اللثة بعد مخرج النون. و إنما قلنا في الأول (يظهر) و لم نقل: قدم الراء لعدم اطلاعنا علي الرواية من أهل الأداء بتقديم الراء علي النون» «5».
و لم أجد من سبق المرعشي إلي مثل هذا التفصيل في تحديد مخرجي الراء و النون، خاصة تعليقه أمر تقديم أحدهما علي الآخر باعتبار العضو الذي ينظر إليهما من خلاله، فمن نظر إلي اللسان قدم الراء، لأن الجزء الذي يعتمد عليه منه للراء أدخل من الجزء الذي يعتمد عليه منه للنون، و من نظر إلي العضو الآخر و هو اللثة قدّم النون و أخّر الراء، لأن موضع اعتماد اللسان علي اللثة مع النون أعمق منه مع الراء. (1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 481. و انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
و المرعشي: جهد المقل 8 و.
(2) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250 و 253.
(3) جهد المقل 8 و.
(4) جهد المقل 8 ظ.
(5) بيان جهد المقل 11 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 179
و في الوقت الذي لا نجد فيه النصوص التي تؤيد وجهة نظر المرعشي لا نملك أيضا من الأدلة ما يعارضها، بل إن التجربة الشخصية ربما أدت إلي تحسس ذلك الفارق الدقيق الذي ألمح إليه المرعشي في تحديد مخرجي النون و الراء، و لهذا نجده حين ناقش الخلاف في اعتبار اللام و الراء و النون من مخرج واحد، أو من ثلاثة مخارج يقول: «فالأقرب أن يجعل اللام وحده من مخرج، و يجعلا من مخرج آخر كلي» «1».
أما علماء الأصوات المحدثون فإنهم يجعلون مخرج الراء قبل مخرج النون، و إن اختلفت عبارتهم و تباينت مصطلحاتهم التي استخدموها في تحديد المخارج «2». و هو أمر يؤيد الشواهد التي تضمنها كلام علماء العربية و علماء التجويد في اعتبار مخرج الراء أدخل في اللسان من مخرج النون.

(ب) الطاء و الدال و التاء:

قال سيبويه: «و مما بين طرف اللسان و أصول الثنايا مخرج الطاء و الدال و التاء» «3». و قد حافظ علماء التجويد علي عبارة سيبويه «4»، مع بعض الإضافات التوضيحية، التي تتلخص في قول الداني: «فالطاء و التاء و الدال من مخرج واحد، و هو بين طرف اللسان و أصول الثنايا العليا، مصعدا إلي الحنك» «5» و ذهب ابن الحاجب إلي أن «قوله (و أصول الثنايا) ليس بحتم، بل قد يكون ذلك من أصول الثنايا و يكون مما بعد أصولها قليلا، مع سلامة الطبع من التكلف» «6».
و أتي محمد المرعشي ببعض التحقيقات الدقيقة في تحديد مخرج الأصوات الثلاثة، منها أنه قسّم مخرجها إلي ثلاثة مخارج جزئية، علي حسب النظرية القائلة إن أصوات المخرج الواحد تتمايز في موضعها تبعا للجهر و الهمس و الإطباق و الانفتاح، فقال: «فظهر أن أصليهما ينقسمان إلي ثلاثة مواضع: فما يلي اللثة منها يخرج منه الطاء، و من بعيده الدال، و من بعيده (1) جهد المقل 8 ظ.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 64. و جان كانتينو: دروس ص 23، و كمال محمد بشر:
الأصوات ص 112.
(3) الكتاب 4/ 433.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 172. و الداني: الإدغام الكبير 11 ظ. و المرادي: المفيد 101 و.
(5) التحديد 16 ظ. و انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ.
(6) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 481. و انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 5.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 180
التاء. فالمراد من أصليهما ليس أقصي نهايتهما من جانب اللثة لاستحالة الانقسام حينئذ بل المراد ما يلي اللثة من نصفيهما، و اللّه أعلم» «1».
و كان الخليل بن أحمد قد وصف الحروف الثلاثة بأنها نطعية، حيث قال: «و الطاء و التاء و الدال نطعية، لأن مبدأها من نطع الغار الأعلي» «2». و النّطع «ما ظهر من غار الفم الأعلي، و هي الجلدة الملتزقة بعظم الخليقاء، فيها آثار كالتحزيز، و هناك موقع اللسان في الحنك» «3».
و قد حمل علي القاري هذه التسمية علي المجاورة لا علي أن النطع موضع خروجها، فقال:
«و يقال لهذه الحروف الثلاثة نطعية، لخروجها من نطع الغار الأعلي، أي سقفه، و الغار داخل الحنك. و التحقيق أنها إنما سميت نطعية لمجاورة مخرجها نطع الغار الأعلي، و هو سقفه، لا لخروجها منه، فتأمل يظهر لك وجه الخلل» «4». علي أن الخليل قال (لأن مبدأها) و لم يقل (لخروجها). و ظاهر كلام العلماء يقتضي نفي أن يكون مبدؤها نطع الغار الأعلي، لأنها تتكون من نقطة تتحدد بالتقاء طرف اللسان بأصول الثنايا، و أصول الثنايا بعيدة من نطع الغار الأعلي.
أما عبارة المحدثين من علماء الأصوات عن مخارج هذه الحروف الثلاثة فتتراوح بين المحافظة علي عبارة سيبويه و هي «التقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا» «5»، و القول بأنها تخرج «عند نقطة التقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا و مقدم اللثة» «6». و قال بعضهم:
«بوضع طرف اللسان علي الثنايا العليا أو علي مغارزها» «7». و مؤدي ما ذهب إليه المحدثون لا يختلف عما أخذ به علماء العربية و علماء التجويد.

(ج) الصاد و الزاي و السين:

قال سيبويه: «و مما بين طرف اللسان و فويق الثنايا مخرج الزاي و السين و الصاد» «8». (1) جهد المقل 8 ظ.
(2) العين 1/ 58.
(3) ابن منظور: لسان العرب 10/ 235 (نطع).
(4) المنح الفكرية ص 12، و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 108، و تمام حسان: مناهج البحث ص 86.
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 48، و محمود السعران: علم اللغة ص 168.
(6) كمال محمد بشر: الأصوات ص 129. و انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(7) جان كانتينو: دروس ص 23.
(8) الكتاب 4/ 433.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 181
و لم يصف سيبويه الثنايا في هذا الموضع و لا في غيره، فلم يقل العليا و لا السفلي «1». و حاول العلماء الذين جاءوا بعد سيبويه أن يحددوا مراد سيبويه من قوله: «فويق الثنايا)، فكانت لدينا هذه المذاهب.
(1) فويق الثنايا فويق الثنايا السفلي، قال أبو القاسم الزجاجي (عبد الرحمن بن إسحاق ت 337): «و مما بين طرف اللسان و فويق الثنايا السفلي مخرج الزاي و السين و الصاد» «2». و ذهب هذا المذهب عدد من علماء التجويد «3».
(2) و ذهب بعض علماء التجويد إلي تخصيص الثنايا بقولهم (العليا) لكنهم لم يستخدموا حينئذ كلمة (فويق). قال الداني: «و الصاد و الزاي و السين من مخرج واحد، [و هي الفرجة التي «4» بين طرف اللسان و الثنايا العليا» «5» لكن الداني قال في كتاب (الإدغام الكبير):
«و الصاد و السين و الزاي من مخرج واحد، و هو طرف اللسان و أصول الثنايا السفلي» «6». و قوله (أصول الثنايا السفلي) غريب جدا، لأن الذين استخدموا كلمة (السفلي) يقولون (فويق الثنايا السفلي). و ذهب ابن الطحان مذهبا قريبا من مذهب الداني الأول فقال: «و من طرفه و ما يليه من الشق بين الثنيتين العليين تخرج الصاد و السين و الزاي» «7».
(3) ذهب بعض شراح الشاطبية مذهبا أقرب إلي المذهب السابق، لكنه أكثر تحديدا فقال: «و من طرف اللسان و من بين الثنايا لا أصولها و لا أطرافها ثلاثة أحرف، و هي الصاد و السين المهملتان و الزاي» «8».
و لم يتفق دارسو الأصوات العربية من المحدثين علي تحديد الموضع الذي يعتمد عليه طرف اللسان في أثناء النطق بهذه الأصوات، و تفاوتت عبارتهم عن ذلك علي هذا النحو: (1) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 6. و نستدرك من ذلك وصف سيبويه لمخرج الفاء فقد قال فيه: (أطراف الثنايا العلي) (الكتاب 4/ 433).
(2) الجمل ص 377.
(3) انظر مكي: الرعاية ص 183. و الكشف (له) 1/ 139. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من بعض نسخ كتاب (التحديد) حسبما أشير إلي ذلك في هامش النسخة المخطوطة التي نعتمد عليها.
(5) التحديد 16 ظ. و انظر المرعشي: جهد المقل 9 و.
(6) الإدغام الكبير 11 ظ 12 و.
(7) مرشد القارئ 129 و.
(8) انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 5. و الحسيني كاشف المعاني 182 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 182
1- يعتمد طرف اللسان علي اللثة «1».
2- يعتمد طرف اللسان خلف الأسنان العليا مع التقاء مقدمه باللثة العليا «2».
3- التقاء طرف اللسان بالثنايا السفلي أو العليا «3».
و لعل محمد المرعشي كان أكثر العلماء المشتغلين بهذا العلم دقة في التعبير عن مخرج هذه الحروف الثلاثة و توضيح علاقة طرف اللسان بالثنايا العليا و السفلي أثناء النطق بها. فقال في تحديد مخرجها: «ما بين رأس اللسان و بين صفحتي الثنيتين العليين، أعني صفحتيهما الداخلتين، يخرج منه الصاد فالسين فالزاي، و لا يتصل رأس اللسان بالصفحتين بل يسامتهما» «4».
و تحدث عن دور الثنايا السفلي في نطق الأصوات الثلاثة فقال: «و في بعض الرسائل أن هذه الثلاثة تخرج من بين رأس اللسان و بين فويق الثنيتين السفليين، و فيه إشكال، لأن المخرج ما ينقطع الصوت فيه، و لا يجري صوت هذه الثلاثة بين رأس اللسان و بين فويق الثنيتين السفليين حتي يتصور انقطاعه فيه، بل يجري بين رأس اللسان و بين صفحتي الثنيتين العليين و ينقطع فيه، كما يشهد به الامتحان الصادق. نعم رأس اللسان يسامت رأسي الثنيتين السفليين، لكن المسامتة لا يتحقق بها المخرج ما لم ينقطع الصوت بين المسامتين» «5».
و نلاحظ اختلافا في ترتيب هذه الحروف الثلاثة عند تحديد مخرجها، عكس الثلاثة التي سبقتها، و يمكن أن نجد عددا من العلماء ساروا علي الترتيب الذي يناسب ما سبق بيانه حول ترتيب الحروف التي من مخرج واحد، و هو (ص ز س) «6».

(د) الظاء و الذال و الثاء:

قال سيبويه: «و مما بين طرف اللسان و أطراف الثنايا مخرج الظاء و الذال (1) محمود السعران: علم اللغة ص 191.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 153. و انظر أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 77.
(4) جهد المقل 9 و.
(5) جهد المقل 9 و.
(6) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53. و الداني: التحديد 16 ظ. و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 ظ. و ابن عصفور: المقرب 2/ 5. و الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250 و 253. و المرعشي:
بيان جهد المقل 11 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 183
و الثاء» «1». و قد ذهب أكثر علماء التجويد في تخصيص الثنايا (بالعليا) «2». و قال بعضهم «أطراف الثنايا علياها و سفلاها» «3». و قال آخر: «من طرف اللسان و أطراف الأسنان» «4». و كل ذلك صحيح، فالمخرج بين طرف اللسان و بين أطراف الثنيتين العليين، و يستند طرف اللسان في الوقت نفسه علي أطراف الثنيتين السفليين.
و لم يبتعد دارسو الأصوات العربية من المحدثين عن عبارات المتقدمين في تحديد مخرج الحروف الثلاثة فقالوا:
1- «يوضع طرف اللسان بين أطراف الثنايا» «5».
2- «بين طرف اللسان و أطراف الثنايا العليا» «6».
3- «وضع طرف اللسان بين الأسنان العليا و السفلي» «7». أو «بين أطراف الثنايا العليا و السفلي» «8».
و ناقش علماء التجويد مقدار تقدم طرف اللسان بين أطراف الثنايا، فأجمعوا علي التحذير من المبالغة في خروج طرف اللسان، فقال ابن البناء: «و ليحذر أن يخرج طرف لسانه بالذال و الظاء و الثاء إخراج ظهور، بل بطرف و يمضي لسانه» «9». و قال أحمد بن أبي عمر:
«و احذر أن تخرج طرف لسانك بالذال و الظاء و الثاء» «10». و قال محمد المرعشي: «و في بعض الرسائل أن رأس اللسان يجاوز رأسي الثنيتين قليلا إلي جهة الخارج في هذه الحروف. أقول: (1) الكتاب 4/ 433.
(2) مكي: الرعاية ص 194، و الداني: التحديد 16 ظ، و الإدغام الكبير (له) 11 ظ. و عبد الوهاب القرطبي:
الموضح 152 ظ. و الفخر الموصلي: الدر الموصوف 169 ظ. و المرعشي: جهد المقل 9 و.
(3) ابن الطحان: مرشد القارئ 129 و. و قد نسبه أبو شامة في إبراز المعاني (باب مخارج الحروف ص 5) إلي مكي، لكني وجدت مكيا يذهب إلي غير ذلك في كتابيه: الرعاية و الكشف.
(4) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 ظ.
(5) محمود السعران: علم اللغة ص 190.
(6) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47، و انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(7) جان كانتينو: دروس ص 22.
(8) كمال محمد بشر: الأصوات ص 152.
(9) بيان العيوب 176 ظ- 177 و.
(10) الإيضاح 70 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 184
ذلك غير ظاهر في الظاء» «1». و إفراد المرعشي الظاء عن الذال و الثاء مبني علي أساس أن الظاء مطبق يتراجع اللسان في أثناء النطق به إلي الوراء قليلا. و هذه الظاهرة هي نفسها التي جعلت المرعشي يقدم الظاء في ترتيب هذه الحروف الثلاثة، علي نحو ما أشرنا إلي ذلك في أثناء الكلام علي مخارج حروف الحلق.
و كان الخليل بن أحمد قد وصف هذه الحروف الثلاثة بأنها لثوية، حيث قال: «و الظاء و الذال و الثاء لثوية، لأن مبدأها من اللثة» «2». و قد أنكر بعض الدارسين المحدثين هذه التسمية، لأن اللثة لا تقوم معها بأي دور «3» و كان المرعشي قد تشكك قبل ذلك في دقة وصف الأصوات الثلاثة بكونها (لثوية). فقال: «و في الرعاية أن هذه الثلاثة تسمي لثوية لخروجهن من اللثة. قيل: فيه مسامحة» «4» و معني المسامحة عند المرعشي هي: «اختيار العبارة السهلة الموجزة، و إن خفي معناها» «5».
و لا شك في أن مخارج حروف طرف اللسان متداخلة جدا لا سيما (ط د ت) و (ص ز س)، و قد حاول بعض علماء العربية و التجويد وضع حدود فاصلة بين مخارج هذه الأصوات.
فقال ابن الحاجب في الزاي و أختيها: «و هي تفارق مخرج الطاء و أختيها، لأنها بعد أصول الثنايا أو (بعدها) بعد أصولها. و تفارق الظاء و أختيها، لأنها قبل أطراف الثنايا. و قال غيره:
هي متجافية قليلا من مخرج الظاء بحيث لا يلصق اللسان بالثنايا عند إخراجها» «6».

6- حروف الشفتين:

اشارة

قال مكي: «و أما حروف الشفتين فأربعة: الفاء مفردة، ثم الباء و الميم و الواو أخوات» «7» و قال الداني: «و للشفة مخرجان و أربعة أحرف، و هي الفاء و الباء و الواو (1) جهد المقل 9 ظ، و انظر: بيان جهد المقل 11 ظ.
(2) العين 1/ 58.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 109.
(4) جهد المقل 9 و.
(5) بيان جهد المقل 2 و.
(6) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 5- 6، و ابن الحاجب: الإيضاح شرح المفصل 2/ 281- 282. و كلمة (بعدها) ساقطة من الإيضاح.
(7) الكشف 1/ 139.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 185
و الميم» «1».

(أ) الفاء:

قال سيبويه: «من باطن الشفة السفلي و أطراف الثنايا العلي مخرج الفاء» «2». و لم تتغير عبارة سيبويه في تحديد مخرج الفاء لا عند علماء العربية «3»، و لا عند علماء التجويد «4»، و لا عند المحدثين من دارسي الأصوات العربية «5».
و ضم الفاء إلي الباء و الميم و الواو و التعبير عنها باسم حروف الشفتين هو مذهب كثير من علماء التجويد، لكن الفاء في الواقع لا تشترك إلا الشفة السفلي في مخرجها. و قد لاحظ ذلك الحسيني (أبو الفضائل عباد بن أحمد بن إسماعيل، كان حيا سنة 704 ه) و اقترح أن تكون الفاء قسما بذاتها فقال عن الفاء: إنها «تحتمل أن تكون من حروف الفم و أن تكون من حروف الشفة، لأن مخرجها باشتراكهما. و الأولي أن تكون قسما برأسها» «6». و علي هذا الأساس وصف المحدثون الفاء بأنها صوت أسناني شفوي «7».

(ب) الباء و الميم و الواو:

قال سيبويه: «و مما بين الشفتين مخرج الباء، و الميم، و الواو» «8».
و قد ردد بعض علماء التجويد عبارة سيبويه من غير زيادة «9» و حاول بعضهم توضيح حالة الشفتين مع كل حرف من الحروف الثلاثة. فقال الداني: «غير أن الشفتين تنطبقان في (1) التحديد 17 و. و انظر: الإدغام الكبير (له) 23 و. و ابن الطحان: مرشد القارئ 129 و.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53. و ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 124 و 125.
(4) مكي: الرعاية ص 201، و الداني: التحديد 17 و. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 ظ. و قال المرعشي (بيان جهد المقل 11 ظ): «الملابس لباطن الشفة السفلي في الفاء ليس رأسي الثنيتين فقط».
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 46. و جان كانتينو: دروس ص 22. و محمود السعران: علم اللغة ص 189. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 151. و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(6) كاشف المعاني 182 و. و انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 6.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 199. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 151.
(8) الكتاب 4/ 433.
(9) الداني: الإدغام الكبير 23 و. و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72 و، و المرادي: المفيد 101 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 186
الباء و الميم، و لا تنطبقان في الواو بل تنفصلان» «1». و قال علي القاري: «إلا أن الواو بانفتاح، و الباء و الميم بانطباق» «2». و علق المرعشي علي قول علي القاري فقال: «المراد من انفتاحهما في الواو انفتاحهما قليلا، و إلا فهما ينضمان في الواو، و لكن لا يصل انضمامهما إلي حد الانطباق» «3».
و نص بعض علماء التجويد علي أن الواو المذكورة هنا يقصد بها غير المدية، بناء علي مذهبهم في إفراد حروف المد بمخرج مستقل هو الجوف، و تخصيصهم حروف اللين بمخارج محددة، من الشفتين في الواو، و من وسط اللسان في الياء «4».
و رتب محمد المرعشي الحروف الثلاثة علي هذا النسق (ب م و)، و علل ذلك بقوله:
«و لعل وجه الترتيب هنا أن لكل من الشفتين طرفين، طرف منه يلي داخل الفم، و الآخر يلي البشرة. فالمنطبق في الباء طرفاهما اللذان يليان داخل الفم، و المنضم في الواو طرفاهما اللذان يليان البشرة. و المنطبق في الميم وسطهما» «5».
و لاحظ بعض علماء التجويد أن انطباق الشفتين مع الباء أقوي من انطباقهما مع الميم «6». و علل المرعشي ذلك بقوله: «و الظاهر أن سببه عدم احتباس النّفس في الميم، بل جريانه في الخيشوم، بخلاف الباء، و عدم احتباس النّفس عند الاعتماد علي مخرج الحرف يوهن الاعتماد» «7».
و ذكر أبو حيان الأندلسي أن المهدوي (أبا العباس أحمد بن عمارت بعد 430 ه) فصل الواو من الباء و الميم، و جعل لها مخرجا علي حدة، هو السادس عشر عنده، و قال: الواو تهوي حتي تنقطع إلي مخرج الألف «8». (1) التحديد 17 و. و انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 129 و.
(2) المنح الفكرية ص 13.
(3) جهد المقل 9 ظ.
(4) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 201. و علي القاري: المنح الفكرية ص 13، و المرعشي: جهد المقل 9 و.
(5) جهد المقل 9 ظ.
(6) علي القاري: المنح الفكرية ص 13.
(7) بيان جهد المقل 11 ظ.
(8) ارتشاف الضرب ص 3. و انظر: المرادي: شرح التسهيل 304 و. و السيوطي: همع الهوامع 6/ 294.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 187
و لاحظ دارسو الأصوات من المحدثين أن أقصي اللسان يقترب من أقصي الحنك عند النطق بالواو، و من ثم ذهب بعضهم إلي القول بأن الوصف الأدق أن يقال: إن الواو من أقصي الحنك «1»، أو أنه شفوي- حنكي قصي «2». و من المحتمل أن يكون قول المهدوي السابق (الواو تهوي) تعبيرا عن إحساسه بارتفاع أقصي اللسان عند النطق بها.
و تحديد سيبويه و غيره لمخرج الواو بأنه من الشفتين ليس خطأ، لأن للشفتين دخلا كبيرا في نطق هذا الصوت «3». و لعل وضوح استدارة الشفتين مع الواو و كون اللسان لا يقترب من الحنك بصورة واضحة هو الذي جعل القدماء ينسبون مخرج الواو إلي الشفتين «4». و هو الذي جعل بعض المحدثين يتخذون نفس الموقف من الواو أيضا «5».

7- الخياشيم:

قال سيبويه: «و من الخياشيم مخرج النون الخفيفة» «6».
كانت عبارة سيبويه هذه مثار نقاش بين العلماء، يدور حول المقصود بالنون الخفيفة، و حول تخصيص مخرج مستقل لهذه النون.
أما المقصود بالنون الخفيفة فقد قال أبو سعيد السيرافي: «يجب أن تكون الخفية لأن التفسير يدل عليه» «7». و من هنا وجدنا بعض علماء العربية يقول: «النون الخفية، و يقال الخفيفة» «8». ثم وجدنا من يقول: «و من الخياشيم مخرج النون الخفية» «9».
و قد عدّ سيبويه هذه النون أحد الحروف الفرعية المستحسنة «10». و تتضح حقيقة هذه (1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 43. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 112.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 198.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 112.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 43، و حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 310- 311.
(5) جان كانتينو: دروس ص 22.
(6) الكتاب 4/ 434.
(7) شرح كتاب سيبويه 6/ 443، و انظر: القرطبي: الموضح 153 ظ.
(8) ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 51 و 53.
(9) ابن عصفور: المقرب 2/ 6.
(10) الكتاب 4/ 432.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 188
النون من خلال معرفة مخرج النون الأصلية، التي ذكرنا مخرجها عند الكلام علي مخارج حروف طرف اللسان، حيث يعتمد طرف اللسان علي ما فويق الثنايا فيسد طريق الهواء من الفم، و ينخفض الحنك اللين بما في ذلك اللهاة فيندفع الهواء من الخيشوم، فالنون يعتمد لها في الفم و يخرج الصوت (النّفس) من الأنف، و هذا الصوت الخارج من الخيشوم يسمي (غنة) «1». و من هنا قال بعض علماء العربية و علماء التجويد أن النون و الميم لهما مخرجان:
أحدهما في الفم و هو معتمد اللسان و الشفتين، و الآخر في الخيشوم و هو مجري الغنة «2».
و قد قال مكي في توضيح هذه النون: «إن النون الساكنة مخرجها من طرف اللسان بينه و بين ما فويق الثنايا، و معها غنة تخرج من الخياشيم، فإذا أخفيتها عند ما بعدها صار مخرجها من الخياشيم لا غير، فتذهب النون عند الإخفاء، و تبقي الغنة من الخياشيم ظاهرة ... و تبين أن النون الخفية هي الغنة، و النون المدغمة و المظهرة هي غير الغنة، و الغنة تابعة لها. فإذا قلت (عنك و منك) فمخرج هذه النون من الخياشيم لا غير، لأنها مخفاة عند الكاف، باقية غنتها ظاهرة. و إذا قلت: (منه و عنه) فمخرج هذه النون من طرف اللسان، و معها غنة تخرج من الخياشيم لأنها غير مخفاة و الغنة ظاهرة» «3».
و قال عبد الوهاب القرطبي في ذلك أيضا: «و إنما تكون هذه النون من الخيشوم مع خمسة عشر حرفا من حروف الفم: القاف و الكاف و الجيم و الشين و الضاد و الصاد و السين و الزاي و الطاء و الدال و التاء و الظاء و الذال و الثاء و الفاء. فهي متي سكنت و جاء بعدها حرف من هذه الحروف فمخرجها الخيشوم، لا علاج علي الفم في إخراجها» «4».
و إذ قد اتضح المقصود بالنون الخفيفة (الخفية) فهل هي متميزة عن النون الأصلية إلي الحد الذي يمكن معه إفرادها في مخرج مستقل علي نحو ما فعله سيبويه و تابعه جمهور علماء العربية و علماء التجويد عليه؟.
أما من الناحية الصوتية المحضة فإن هناك تباينا بين النون الأصلية و بين الخفية (الفرعية) (1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 435، و المبرد: المقتضب 1/ 194، و ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 144. و انظر: مكي: الرعاية ص 241، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 171 و.
(2) مكي: الكشف 1/ 146، و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73 و. و الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 271، و المرعشي: بيان جهد المقل 12 ظ.
(3) الرعاية ص 241- 242، و انظر: الكشف (له) 1/ 164 و 167.
(4) الموضح 153 ظ. و انظر: الداني: التحديد 17 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 189
فتلك لها مخرجان، معتمد اللسان في الفم، و مجري الصوت من الأنف، و هذه يزول معتمد اللسان معها ليلحق بمخرج الحرف الذي يليها، و لا يبقي معها إلا صوت الخياشيم، و هو الغنة، و هذا هو السر في تخصيص مخرج مستقل لها.
و أما من ناحية الوظيفة (الدلالة علي تغيير المعاني) فإن النون الخفية ما هي إلا النون الأصلية، عرض لها بسبب المجاورة للأصوات الأخري في التركيب ما أثّر علي بعض خصائصها الصوتية، و لكن دلالتها علي المعني لم تتغير، فإن الفعل (كان) لا تتغير دلالته عند ما يكون في سياق مثل (كنت أو كنتم) إلا بقدر ما يجلبه الإسناد من معني جديد، علي الرغم من أن النون هنا صارت خفية (مخفاة) و هي في أصل الفعل (كان) مظهرة. و من هذه الوجهة لا نجد ضرورة لإفراد النون الخفية بمخرج مستقل، كما أن كل الحروف الفرعية الأخري لم تفرد بمخارج مستقلة.
و كان ابن الطحان (عبد العزيز بن علي ت حوالي 560 ه) قد أهمل الإشارة إلي هذا المخرج، و عد المخارج خمسة عشر مخرجا «1». بينما سمي بعض علماء التجويد صوت هذا المخرج (الغنة) بدل (النون الخفية)، قال ابن الجزري في «النشر»: «المخرج السابع عشر:
الخيشوم، و هو للغنة» «2». و قال في المقدمة: (و غنة مخرجها الخيشوم) «3». و الغنة صفة لازمة للنون و الميم تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخفاتين أو مدغمتين «4». و من ثمّ قيل «كان ينبغي له أن يذكر عوضها مخرج النون المخفاة، فإن مخرجها من الخيشوم، و هي بخلاف الغنة» «5».
و كان البقري (محمد بن القاسم بن إسماعيل ت 1111 ه) قد تابع ابن الجزري فذكر في المخرج الأخير الخيشوم و قال: «تخرج منه الغنة»، و أضاف: «و بعضهم أنكر هذا المخرج الأخير و جعله صفة من الصفات، و الجمهور يعدونه من المخارج، و لا ينظرون إلي ذلك القائل» «6». و الحق أنه لا مكان لذكر الغنة هنا إلا إذا أريد بها النون المخفاة.
و قال بعض المحدثين معلّقا علي ذكر ابن جني لمخرج النون المخفاة: «و هذا مخرج (1) مرشد القارئ 128 ظ.
(2) النشر 1/ 201.
(3) متن الجزرية ص 11.
(4) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 47 ظ، و عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 43 و.
(5) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 16 ظ.
(6) غنية الطالبين ص 9.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 190
إضافي ذكره ابن جني (و غيره) لنوع من النون، و يمكن الاستغناء عن هذا المخرج و الاكتفاء بالمخرج رقم (9) في تقسيم ابن جني، فهذا بالمخرج الأخير يعد مخرج النوع الرئيسي للنون» «1».

8- حروف الجوف:

أفرد علماء التجويد المتأخرين مخرج الجوف، و جعلوه خاصا بحروف المد الثلاثة، الألف و الواو الساكنة المضموم ما قبلها و الياء الساكنة المكسورة ما قبلها «2». أما علماء التجويد المتقدمون فإنهم سلكوا مسلك سيبويه الذي جعل الألف من مخرج الهمزة، و الواو و الياء المديين من مخرجيهما غير مديين «3».
و قال علماء التجويد إن مخرج حروف المد، و هو الجوف، مخرج مقدّر لا محقّق، قال المرعشي: «و بالجملة إن حروف المد لمّا لم تنقطع أصواتها في موضع لم يكن لها مخرج محقق ... بل قدروا لها جوف الحلق و الفم مخرجا» «4».
و أصل فكرة تخصيص مخرج مستقل لحروف المد ترجع إلي ما ذكره الخليل بن أحمد من وصفه لهذه الحروف بأنها هوائية «5». لكن علماء التجويد أخرجوا الهمزة من الحروف الهوائية لأنهن أصوات لا يعتمدن علي مكان حتي يتصلن بالهواء بخلاف الهمزة «6». فحروف المد حروف ذائبة و الهمزة من الحروف الجامدة.
و مع أن علماء التجويد جمعوا حروف المد الثلاثة في مخرج مقدر واحد إلا أنهم كانوا مدركين للصفات الدقيقة التي يتميز بها كل صوت، فقالوا: إن الذي ميّز بين الثلاثة هو تصعد الألف و تسفل الياء و اعتراض الواو «7».
و يتميز هذا المخرج عن جميع المخارج السابقة بأنه خاص بالحروف التي سماها بعض (1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 117. و انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53.
(2) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 199. و علي القاري: المنح الفكرية ص 11، و المرعشي: جهد المقل 10 و.
(3) الداني: التحديد 16 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152 و. و المرادي: المفيد 101 و.
(4) جهد المقل 6 ظ.
(5) العين 1/ 58.
(6) ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(7) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 9.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 191
علماء التجويد بالذوائب، بينما بقية المخارج خاصة بالجوامد، و سوف نقف وقفة أطول عند هذا المخرج و كل ما يتعلق بمخارج الحروف الذوائب (حروف المد الثلاثة و الحركات الضمة و الفتحة و الكسرة) في مبحث لا حق إن شاء اللّه.
*** و غاية القول في مخارج الحروف عند علماء التجويد أن كلامهم عنها جاء مؤكدا لما قرره سيبويه من قبل، و تابعه عليه علماء العربية. و قد استطاع علماء التجويد تحقيق بعض النتائج الجديدة و توضيح بعض الحقائق السابقة في دراسة مخارج الحروف.
و قد عني بعض علماء التجويد بترتيب الحروف ترتيبا صوتيا بحسب تدرج المخارج، و قد ذكر محمد المرعشي الاتجاهات المعروفة لترتيب الحروف العربية فقال: «و للحروف العربية ثلاثة ترتيبات:
الأول: ترتيب أهل اللغة، و هو أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ينتهي إلي ي. و هذا هو الذي يعلم به الصبيان.
و الثاني: ترتيب أهل الأداء، و هو الترتيب بحسب المخارج، كما سيأتي.
و الثالث: ترتيب أهل الحساب، و هو الترتيب بحسب جعل الحروف إشارة إلي الأعداد، و هو ترتيب أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ» «1».
و قول المرعشي (ترتيب أهل الأداء) و هو الترتيب الصوتي بحسب المخارج لا يعني أن أهل الأداء، و هم علماء التجويد، هم أول من وضعه، فهذا الترتيب قديم يرجع إلي كتاب العين للخليل بن أحمد، الذي رتب معجمه علي أساس ترتيب الحروف تبعا لترتيبها الصوتي «2». و كذلك فعل سيبويه في باب الإدغام حيث أورد الحروف العربية مرتبة ترتيبا صوتيا مخرجيا «3».
و سار علماء التجويد علي ترتيب سيبويه للحروف. و ردد بعضهم مقالة ابن جني في ترتيب الحروف الوارد في كتاب العين حيث قال بعد أن ذكر ترتيب سيبويه: «فهذا هو ترتيب الحروف علي مذاقها و تصعدها، و هو الصحيح. فأما ترتيبها في كتاب العين ففيه خطل (1) بيان جهد المقل 6 ظ.
(2) العين 1/ 58. و انظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 41.
(3) الكتاب 4/ 431.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 192
و اضطراب، و مخالفة لما قدمناه آنفا، مما رتبه سيبويه، و تلاه أصحابه عليه، و هو الصواب الذي يشهد التأمل له بصحته» «1».
و قول ابن جني عن ترتيب كتاب العين (فيه خطل و اضطراب) لا يخلو من مبالغة، فالواقع أن ذلك الترتيب يوافق ترتيب سيبويه في الكثير، و يخالفه في القليل، و بعض تلك المخالفات مبني علي وجهات نظر معينة، لا أنه خطأ محض، و ليس من غرضنا الدخول في تفصيلات هذا الموضوع، لأن ذلك يخرج بنا عن غرضنا في تتبع آراء علماء التجويد خاصة.
و هناك قضية تتعلق بترتيب سيبويه للحروف فقد ورد ذكر الضاد قبل حروف وسط اللسان (ج ش ي) و يبدو لي أن الأمر لا يخلو من احتمال تصحيف النساخ لأن سيبويه حين ذكر المخارج أورد الضاد بعد الياء «2». كما أن الذين نقلوا ترتيبه للحروف من علماء العربية و علماء التجويد جعلوا ترتيب هذه الحروف علي هذا النسق (ج ش ي ض) «3».
و المخارج الأساسية عند علماء التجويد خمسة عشر مخرجا و هناك مخرج إضافي للنون الخفية، و هو يرتبط علي نحو وثيق بمخرج النون الأصلية و كل هذه المخارج خاص بالأصوات الجامدة. أما الأصوات الذائبة فقد أفرد لها بعض علماء التجويد و علماء العربية مخرجا مستقلا و هو الجوف.
و لا يزال هذا التوزيع لمخارج الحروف العربية هو الطريق الأمثل، فيما نري، الذي يناسب الدرس الصوتي العربي، و لا نجد ضرورة علمية تقتضي إعادة توزيع الحروف العربية بحيث ينخفض عدد المخارج إلي تسعة «4»، أو عشرة «5»، أو أحد عشر مخرجا «6». كما ذهب إلي ذلك بعض المحدثين مقلدين فيما يبدو و جهات نظر الدرس الصوتي الأوربي.
و لا يعدو ما نجده من اختلاف بين عبارة المحدثين و عبارة علماء التجويد في تحديد مخارج الحروف أن يكون اختلافا في الاصطلاح و طريقة التعبير أكثر من كونه اختلافا في (1) سر صناعة الإعراب 1/ 50- 51. و انظر: القرطبي: الموضح 153 و.
(2) انظر: الكتاب 4/ 431 و 433.
(3) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 50، و القرطبي: الموضح 152 و.
(4) جان كانتينو: دروس ص 22- 23.
(5) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 84- 85.
(6) محمود السعران: علم اللغة ص 199- 200، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 112- 113، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269- 273.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 193
حقيقة الموضوع، فإذا وصف المحدثون الهمزة بأنها صوت (حنجري) «1»، فإن ذلك لا يناقض قول علماء التجويد أن الهمزة من أقصي الحلق، و ذلك لأنهم يعبرون عن الحنجرة بأقصي الحلق. «و علي هذا فلا خلاف في وصف مخرج الهمزة» «2».
و من ذلك أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين ينسبون مخرج الصوت إلي نقطة معينة من الحنك الأعلي (سقف الفم)، بينا ينسبه علماء التجويد إلي جزء اللسان الذي يشترك في إنتاج الصوت، فإذا قال علماء التجويد إن مخرج الكاف من أقصي اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلي، و قال بعض الدارسين المحدثين إن الكاف (حنكي قصي) «3»، فإن ذلك لا يمثل اختلافا جوهريا بين علماء التجويد و دارسي الأصوات من المحدثين، و إنما هو اختلاف في المصطلح و طريقة التعبير. فهو إذن اختلاف لفظي ليس له تعلق باختلاف المعني أو الفكرة التي يراد التعبير عنها، لأن مخرج الصوت يشترك فيه غالبا عضوان، و تكون نسبته إلي أحدهما كنسبته إلي الآخر.
و من ذلك أيضا أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين يقسمون الحنك الأعلي أقساما و يطلقون علي كل قسم اسما معينا، بدلا من تقسيمه إلي مقدم الحنك و وسطه و أقصاه، فيسمون الجزء الصلب الذي يلي اللثة باسم (الغار). و يسمون الجزء الرخو الذي في مؤخرة سقف الفم باسم (الطبق) «4». فإذا وصف هؤلاء مخرج صوت الكاف مثلا قالوا بأنه (طبقي) «5». و هذا الوصف يطابق قول الفريق السابق من المحدثين من قوله إن الكاف (حنك قصي)، و كذلك هو يطابق قول علماء التجويد: إن الكاف من أقصي اللسان مع ما يليه من الحنك. و هذا مثال يوضح لنا حقيقة الاختلاف بين القدماء و المحدثين، و كذلك يكشف لنا عن أن المحدثين لم يتفقوا علي صيغة معينة للتعبير عن المخارج. و هو أمر لا يغض من قيمة جهود هؤلاء كما أنه لا يغض من قيمة جهود أولئك. فلكلّ الأساس الذي اعتمد عليه في وجهته.
و نحن لا نجد في ختام كلامنا عن مخارج الأصوات كلمة تعبر عن تقديرنا لجهود علماء (1) محمود السعران: علم اللغة ص 171.
(2) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 304.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 169 و 200. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 138.
(4) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 85، أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 84- 85.
(5) انظر المصدرين السابقين ص 95 و ص 271 علي التوالي السابق.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 194
التجويد في دراسة الموضوع مثل كلمة الدكتور كمال محمد بشر التي قالها في تقدير جهود ابن جني في دراسة مخارج الحروف، مع العلم أن ابن جني اعتمد علي سيبويه بشكل يكاد يكون تاما، بينما استطاع علماء التجويد أن يضيفوا شيئا إلي ما قاله سيبويه، يقول: «و الحق إن النتائج التي وصل إليها هذا العالم في هذا الوقت الذي كان يعيش فيه لتعدّ مفخرة له و لمفكري العرب في هذا الموضوع. و مما يؤكد براعتهم و نبوغهم في هذا العلم أنهم قد توصلوا إلي ما توصلوا إليه من حقائق مدهشة دون الاستعانة بأي أجهزة أو آلات تعينهم علي البحث و الدراسة كما نفعل نحن اليوم» «1».
***
(1) الأصوات ص 120.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 195

المبحث الخامس تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات‌

اشارة

إنّ تحديد مخارج الحروف وحده ليس كافيا في توضيح الخصائص الصوتية التي يتميز بها كل صوت بما يجعل جرسه متميزا في السمع عن غيره. فقد لاحظنا في المبحث السابق أن كثيرا من الحروف تشارك غيرها في المخرج، فنجد الحرفين و الثلاثة تخرج من مخرج واحد، و لو لا الكيفيات التي تصاحب إنتاج كل صوت لما تميزت تلك الحروف المشتركة في مخرج واحد، و هذه الكيفيات التي تصاحب حدوث الحرف في مخرجه هي التي سمّاها علماء العربية و علماء التجويد بصفات الحروف.
إن تحديد مخارج الأصوات جانب واحد من عملية مركبة لها جوانب أخري يتشكل منها الصوت اللغوي، و ذلك أن إنتاج أي صوت من الأصوات يعتمد علي ثلاثة أمور: «أولها:
الأعضاء التي تتدخل معترضة الهواء الخارج من الرئتين، و ثانيها: الطريقة التي تتدخل بها هذه الأعضاء، و ثالثها الجهر أو الهمس» «1». و الأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة هو الذي يعبر عنه علماء العربية و علماء التجويد باسم (مخارج الحروف)، و يعبرون عن الأمرين الآخرين باسم صفات الحروف. و قد تحدثنا في المبحث السابق عن وجهة نظر علماء التجويد من تحديد مخارج الحروف.
و قد بيّن بعض علماء التجويد المقصود بصفات الحروف، فقال: «و صفة الحروف كيفية عارضة للحرف عند حصوله في المخرج، و تتميز بذلك الحروف المتحدة بعضها عن بعض» «2». و كان علماء التجويد مدركين أن صفة الصوت ليست شيئا منفصلا عن الصوت بل هي شي‌ء أساسي لا ينفصل عن عملية تكونه في المخرج، فقد قال الداني: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر (1) عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة ص 94 و 123. و انظر: جان كانتينو: دروس ص 22.
(2) طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 11 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 196
صنفا ...» «1». فلو لا هذه الصفات إذن لم تتميز الحروف بعضها من بعض، لا سيما تلك التي تخرج من مخرج واحد.
و هناك قضيتان يلزم بيانهما في بداية الحديث عن صفات الحروف لدي علماء التجويد، الأولي: بيان عدد الصفات التي وضحها علماء التجويد، و الثانية: توضيح الأسس التي يتم بموجبها تصنيف تلك الصفات.

1- عدد الصفات التي وضحها علماء التجويد:

أما الصفات التي تحدث عنها علماء التجويد فقد كان لهم فيها اتجاهان أرساهما اثنان من كبار علماء التجويد من الرواد الأوائل الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع و النصف الأول من القرن الخامس، و هما مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) و أبو عمرو الداني (ت 444 ه).
أما مكي فإنه وصل بصفات الحروف و ألقابها إلي أربعة و أربعين لقبا، حيث قال: «لم أزل أتتبع ألقاب الحروف التسعة و العشرين و صفاتها و عللها حتي وجدت من ذلك أربعة و أربعين لقبا صفات لها، وصفت بذلك علي معان و علل ظاهرة نذكرها مع كل قسم إن شاء اللّه تعالي، في أربعة و أربعين بابا» «2».
و ليست جميع تلك الصفات و الألقاب تمثل كيفيات نطقية تصاحب تكوّن الأصوات في مخارجها. فمن تلك الألقاب ما يشير إلي مخرج الحرف، مثل الألقاب التي لقب الخليل بها الحروف و هي: الحلقية و اللهوية الشجرية و الأسلية و النطعية و اللثوية و الذلقية و الشفوية و الجوفية و الهوائية. و من تلك الألقاب أيضا ما يعبر عن معني صرفي يتعلق بالحرف، مثل:
الحروف الزوائد، و الحروف الأصلية و حروف الإبدال و حروف العلة، فهذه الألقاب لا تمثل صفة صوتية، إنما تشير إلي خاصة صرفية.
و لم يتابع مكيا في مذهبه السابق في عدد صفات الحروف إلا قليل من العلماء «3». بينما وجه بعضهم النقد إليه، فقال الفخر الموصلي (ت 621 ه) بعد أن نقل في كتاب (الدر المرصوف) خمسة و عشرين لقبا من الألقاب التي ذكرها مكي: «و قد أعرضنا عن ذكر بقية (1) التحديد 17 ظ. و انظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73 و- 73 ظ.
(2) الرعاية ص 91. و قد استغرق ذكر تلك الصفات من كتاب الرعاية الصفحات 92- 116.
(3) نقل ابن الجزري في كتاب التمهيد في علم التجويد (ص 22- 30) نص كلام مكي، لكنه في كتابه النشر (1/ 202- 205) و المقدمة (ص 11- 14) لم يتابع مكيا في بيان الصفات.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 197
الألقاب إذ ليس فيها كبير فائدة» «1». و قال أبو عبد اللّه محمد بن الحسن الفاسي (ت 656 ه) بعد أن أشار إلي صفات الحروف: «و قد بالغ في ذلك أبو محمد مكي رحمه اللّه في كتاب الرعاية» «2». و قال محمد المرعشي: «اعلم أني لا أذكر في هذه الرسالة من الصفات المذكورة في الرعاية إلا ما اشتدت إليها حاجة التالي» «3». فكان مجموع ما ذكره ثماني عشرة صفة «4».
و أما أبو عمرو الداني فإنه اقتصر من صفات الحروف علي ستة عشر صفة. و ذلك حيث قال: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر صنفا: المهموسة، و المجهورة، و الشديدة، و الرخوة، و المطبقة، و المنفتحة، و المستعلية، و المستفلة، و حروف المد و اللين، و حروف الصفير، و المتفشي، و المستطيل، و المتكرر، و المنحرف، و الهاوي، و حرفا الغنة» «5».
و التزم معظم علماء التجويد في بحث صفات الحروف بما قرره الداني، و لم يخرجوا علي ما ذكره إلا في قضايا جزئية. فنجد أبا العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه) يذهب إلي أن صفات الحروف ستة عشر صفة، و يسميها أجناس الحروف، فيذكر الصفات التي أوردها الداني، لكنه يضيف صفتين و يحذف صفتين، فأضاف: ما بين الشديد و الرخو، و حروف القلقلة، و حذف: المنفتحة و المستفلة «6». و إذا كان الداني قد أهمل ذكر ما بين الشديد و الرخو و حروف القلقلة في قوله السابق فإنه تحدث عنها في أثناء الباب الذي بيّن فيه صفات الحروف «7». و جعل أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) صفات الحروف ثماني عشرة صفة، فذكر الصفات التي ذكرها الداني و أضاف إليها صفتين هما: ما بين الشديدة و الرخوة، و الحروف الذائبة «8». و تابع ابن الطحان (ت حوالي 560 ه) الداني أيضا لكنه حذف (الهاوي) و أضاف (النفخ و القلقلة) «9». و ذكر ابن الجزري (ت 833 ه) في مقدمته سبع عشرة (1) الدر المرصوف 71 ظ.
(2) اللئالئ الفريدة 211 و.
(3) جهد المقل 11 و.
(4) بيان جهد المقل 14 و.
(5) التحديد 17 ظ.
(6) التمهيد 145 ظ.
(7) التحديد 18 و، 19 ظ.
(8) الإيضاح 73 و- 73 ظ. و انظر 67 ظ.
(9) مرشد القارئ 129 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 198
صفة «1».

2- أسس تصنيف الصفات:

اشارة

الصفات المذكورة تعبر عن معان تخص الأصوات، و ذلك بالنظر إليها من جوانب متعددة. قال أبو عمرو بن الحاجب (ت 646 ه): «و ليست هذه الأقسام باعتبار تقسيم واحد، إنما هي باعتبار تقسيمات متعددة. فالمجهورة و المهموسة تقسيم. و معني التقسيم المستقل أن تكون الأنواع منحصرة بالنفي و الإثبات في التحقيق لا في صورة إيرادها، فإذا علمت أن المجهورة هي الحروف التي [لا] «2» يجري النفس معها عند النطق بها، و المهموسة هي التي يجري النفس معها عند ذلك علمت انحصار التقسيم بالنفي و الإثبات.
و كذلك الشديدة و الرخوة، و ما بين الشديدة و الرخوة تقسيم، و المطبقة و المنفتحة تقسيم. و المستعلية و المنخفضة تقسيم.
و ما بعد ذلك لم يقصد فيه إلا ذكر القسيم مع قسيمه إذ «3» لم يسم قسيمه باسم باعتبار مخالفته. فإذا قصد وصفه بذلك ذكر منفيا عنه ذلك الوصف، كما تقول: ما عدا الراء من الحروف ليس بمكرر، و ليس لها لقب باعتبار نفي التكرار» «4».
و قد نظر علماء التجويد إلي صفات الحروف نظرة أشمل من ذلك. فلم يكتفوا بذكر الصفة و قسيمتها، بل حاولوا تقديم أسس شاملة لتصنيف الحروف، تنطوي تحتها التقسيمات الفرعية. و لعل أدق الاتجاهات في تقسيم الصفات هو الاتجاه الذي يصنفها إلي صفات مميّزة و صفات محسّنة، و كان الحسن بن قاسم المرادي (749 ه) أول من ذهب هذا المذهب، فيما اطلعت عليه من المصادر ثم تابعه في هذا الاتجاه أبو الفتوح الوفائي (ت 1020 ه).
قال المرادي في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد): «الفصل الخامس: في انقسام هذه الصفات إلي مميز و محسن، و ذي قوة و ذي ضعف: اعلم وفقك اللّه أن هذه الصفات (1) متن الجزرية ص 11- 14. و قد نص علي ذلك بعض شراح المقدمة مثل الوفائي (الجواهر المضية 26 و) و علي القاري (المنح الفكرية ص 14). و الواقع أن الصفات التي ذكرها ابن الجزري تبلغ ثماني عشرة صفة. و لكن الشراح أسقطوا المتوسطة (بين الشديدة و الرخوة) من الحساب فأصبحت سبع عشرة صفة.
(2) ساقطة من الأصل المطبوع، و هي لازمة لصحة المعني.
(3) في الأصل المطبوع (إذا).
(4) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 485.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 199
المذكورة [لها فائدتان، الأولي «1»: تمييز الحروف المشاركة، و لولاها لا تحدث أصواتها و لم تتميز ذواتها. قال المازني: الذي فصل بين الحروف التي ائتلف منها الكلام سبعة أشياء:
الجهر و الهمس، و الشدة و الإرخاء، و الإطباق، و المد، و اللين، قال: فإذا همست أو جهرت أو أطبقت أو شددت، أو مددت أو لينت اختلفت أصوات الحروف التي من مخرج واحد.
و لذلك قال الرماني و غيره: لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا، لأنه ليس بينهما فرق إلا الإطباق. و لصارت الظاء ذالا و لصارت الصاد سينا، و لخرجت الضاد من كلام العرب لأنه ليس من موضعها شي‌ء غيرها.
فهذه إحدي فائدتي الصفات، و هي تمييز الحروف المشتركة في المخرج و الفرق بين ذواتها.
و لها فائدة أخري و هي تحسين لفظ الحروف المختلفة المخارج فقد اتضح بهذا أن صفات الحروف قسمان: مميّز و محسّن» «2».
و نقل أبو الفتوح الوفائي كلام المرادي في تقسيم الصفات إلي مميزة و محسنة، و لكنه أضاف بعض الأفكار الجديدة حيث قال: «الصفات جمع صفة، و هي لفظ يدل علي معني في موصوفه، إما باعتبار محله أو باعتبار ذاته. فالأول الحلقية و اللثوية و شبه ذلك. و الثاني كالجهر و الهمس. و لهذه [الصفات «3» فائدتان:
الأولي: تمييز الحروف المشتركة في المخرج لأن المخرج للحرف كالميزان تعرف به كميته و الصفة له كالناقد يعرف بها كيفيته و لو لا ذلك لكان الكلام بمنزلة أصوات البهائم التي لها مخرج واحد و صفة واحدة فلا تفهم. و هذا معني قول المازني: إذا همست أو جهرت ...
و الأخري: تحسين لفظ الحروف المختلفة المخارج، فقد اتضح لك بهذا أن صفات الحروف قسمان مميز و محسن» «4». و يفهم من قولهم (محسنة) أن الصفة تعطي الصوت جرسا خاصا، دون أن يكون ذلك سببا للتمييز بينه و بين الأصوات الأخري.
و تكاد نظرية تقسيم صفات الحروف إلي مميزة و محسنة تكون أفضل ما أتي به دارسو (1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل و كملته من الجواهر المضية للوفائي 25 ظ.
(2) المفيد 102 و- 102 ظ.
(3) ليست في الأصل، و نقلتها من نص المرادي في المفيد 102 و.
(4) الجواهر المضية 25 ظ- 26 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 200
الأصوات العربية المتقدمون في مجال تصنيف صفات الحروف، لأن هذه النظرية تنبني علي إدراك عميق لخصائص الأصوات و صفاتها و العلاقة بينها.
و كان علماء التجويد مدركين لظاهرة التقابل بين الأصوات، و دور الصفات في التمييز بينها، خاصة الجهر و الهمس، و الشدة و الرخاوة، و الإطباق و الانفتاح. قال مكي بن أبي طالب: «و لو لا الهمس الذي في السين لكانت زاء، و كذلك لو لا الجهر الذي في الزاي لكانت سينا، إذ قد اشتركا في المخرج و الصفير و الرخاوة و الانفتاح و التسفل، و إنما اختلفا في الجهر و الهمس لا غير، فباختلاف هاتين الصفتين افترقا في السمع فاعرف ذلك. فيجب أن تعلم أيضا أن السين حرف مؤاخ للصاد، لاشتراكهما في المخرج و الصفير و الهمس و الرخاوة، و لو لا الإطباق و الاستعلاء اللذان في الصاد- ليسا في السين- لكانت الصاد سينا، و كذلك لو لا التسفل و الانفتاح اللذان في السين- ليسا في الصاد- لكانت السين صادا. فاعرف من أين اختلف السمع في هذه الحروف و المخرج واحد و الصفات متفقة» «1».
و علي هذا النحو ناقش مكي العلاقة بين عدد من المجموعات الصوتية، مثل (ط د ت) «2». و (ط ذ ث) «3». و قال: «و اعلم أنه لو لا اختلاف الصفات في الحروف لم يفرق في السمع بين أحرف من مخرج واحد، و لو لا اختلاف المخارج لم يفرق في السمع بين حرفين أو حروف علي صفة واحدة» «4».
و كذلك قال عبد الوهاب القرطبي: «و حال الصاد و السين و الزاي، كحال الطاء و الدال و التاء، و الظاء و الذال و الثاء، لأن الصاد امتازت عن السين بالإطباق، و لولاه لكانت الصاد سينا، و كذلك السين امتازت عن الزاي بالهمس، و لو لاه لكانت زاء» «5». ثم بيّن العلاقة بين (ط د ت)، و كذلك (ظ ذ ث) علي نحو ما وضحها في (ص ز س) «6».
و تظهر عناية علماء التجويد بظاهرة التمييز بين الأصوات عن طريق الصفات المتقابلة في مجال الأبنية، و ليس في نطاق الأصوات المفردة، فكثيرا ما نجدهم ينصون علي أن معني (1) الرعاية ص 185.
(2) الرعاية ص 175 و 178 و 190- 191.
(3) الرعاية ص 195 و 198.
(4) الرعاية 191- 192.
(5) الموضح 162 ظ.
(6) الموضح 163 و- 163 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 201
الكلمة يتغير إذا أزيلت صفة صوتية معينة عن أحد حروف الكلمة، قال مكي: «و إذا وقعت الظاء في كلمة تشبه كلمة أخري بالذال بمعني آخر وجب البيان للظاء لئلا ينتقل إلي معني آخر.
و ذلك نحو قوله تعالي: وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء: 20] أي ممنوعا، فهو بالظاء، فبيّنه لئلا يشتبه في اللفظ بقوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الإسراء: 57] فهذا بالذال من الحذر» «1». و كذلك عقد مكي مقابلة بين أَسَرُّوا و أَصَرُّوا «2» و يُسْحَبُونَ و يُصْحَبُونَ «3» و قَسَمْنا و قَصَمْنا «4» و وضح دور الصفات في التمييز بين هذه الألفاظ «5».
و كان الداني مدركا لتلك الظاهرة أيضا، و ذلك حيث قال: «و كذلك يلزم أن يتعمّل تلخيص الصاد من السين فيما يتفق لفظه و يختلف معناه، بما تقدم، و ذلك في نحو قوله:
وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: 11] و نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف: 32]. و وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [الأنبياء: 43] و يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ [غافر: 71- 72] ... و ما أشبهه» «6».
و مثل ذلك في قوله عن القاف: «أ لا تري أنه متي لم ينعم بيانه في قوله تعالي:
فَالْمُورِياتِ قَدْحاً [العاديات: 2] صار اللفظ بها كاللفظ بقوله تعالي: إِلي رَبِّكَ كَدْحاً [الانشقاق: 6] .. و كِتابٌ مَرْقُومٌ [المطففين: 9] و سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور: 44]، و شبهه، فتغير اللفظ، و انقلب المعني» «7». و تحدث عن نفس الفكرة في مواضع أخري من كتابه (التحديد) «8».
و كذلك كان عبد الوهاب القرطبي مدركا لتلك الظاهرة فتحدث عنها في أكثر من موضع في كتابه (الموضح في التجويد) «9». (1) الرعاية ص 195.
(2) (أسروا) في المائدة 52 (أصروا) في سورة نوح 7.
(3) (يسحبون) في غافر 71 (يصحبون) في الأنبياء 43.
(4) (قسمنا) في الزخرف 32 (قصمنا) في الأنبياء 11.
(5) الرعاية ص 188.
(6) التحديد 34 و- 34 ظ.
(7) التحديد 27 ظ.
(8) انظر: التحديد 33 ظ، 39 ظ.
(9) انظر: الموضح 160 ظ، 162 ظ، 163 و، 163 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 202
و ناقش الدركزلي الأسس التي بموجبها يتم تصنيف الصوت إلي حرف أصلي و حرف فرعي. فنقل عن الفخر الرازي: «لقائل أن يقول: إن نسبة اللام الرقيقة إلي الغليظة كنسبة الذال إلي الظاء، و كنسبة السين إلي الصاد، فإن الذال يذكر بطرف اللسان و الظاء يذكر بكل اللسان، و كذلك السين يذكر بطرف اللسان و الصاد يذكر بكل اللسان، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلي اللام الغليظة كنسبة الذال إلي الظاء، و كنسبة السين إلي الصاد. قال: ثم رأينا أن القوم قالوا: الذال حرف و الظاء حرف آخر، و كان الواجب أيضا أن يقولوا: اللام الرقيقة حرف و اللام الغليظة حرف آخر، و إنهم ما فعلوا ذلك، و لا بد من الفرق. انتهي.
قلت (الدركزلي): قد مر أنهم جعلوا الحروف إلي أصول و فروع، و عدوا من الفروع اللام المفخمة كلام الطلاق و الصلاة، بل صرحوا بلام الجلالة نفسها أنها منها. و فرقوا بين الأصل و الفرع بإزالته عن مخرجه الأصلي» «1». و لا شك في أن أساس اعتبار الذال حرفا و الظاء حرفا آخر، و عدم اعتبار اللام الرقيقة و اللام الغليظة حرفين هو قدرة الذال و الظاء علي التبادل في الموقع، مع تغيير المعني، علي نحو ما لاحظنا في الأمثلة السابقة مثل (محذورا و محظورا) فالفرق الصوتي بين الكلمتين الذي أدي إلي اختلاف المعني هو وجود الذال في الكلمة الأولي و وجود الظاء في الكلمة الثانية. أما اللام الرقيقة و اللام الغليظة فليس لهما هذه القدرة علي تبادل المواقع و تغيير المعني، فهما في الواقع تنوع صوتي لحرف واحد هو اللام. و مع ذلك نجد بعض الدارسين المحدثين يري إمكانية اعتبار اللام المفخمة حرفا مستقلا، لكن جمهور الدارسين يعتبرونها تنوعا للام الأصلية «2».
و كان بعض علماء التجويد قد عبروا عن فكرة تقسيم صفات الحروف إلي مميزة و محسنة عن طريق تقسيمها إلي ما له ضد و ما ليس له ضد «3». قال عبد الغني النابلسي (ت 1143 ه): «و صفات الحروف تنقسم إلي قسمين: صفات لها أضداد، و صفات لا أضداد لها تضادها ... الفصل الأول: الصفات التي لها أضداد تضادها و هي خمس صفات» «4» ثم ذكر:
الهمس و الجهر، و الشدة و الرخاوة، و الاستعلاء و الاستفال، و الانطباق و الانفتاح، و الانذلاق و الانصمات. ثم ذكر في الفصل الثاني: الصفات التي لا أضداد لها تضادها، و هي ثماني (1) خلاصة العجالة 178 و- 178 ظ.
(2) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 284- 287.
(3) انظر: المرادي: المفيد في شرح عمدة المجيد 101 ظ، و التوني: المفيد في علم التجويد 3 ظ.
(4) كفاية المستفيد 5 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 203
صفات: الصفير، و القلقلة، و اللين، و الانحراف، و التكرار، و التفشي، و الاستطالة، و الغنة «1».
و سلك بعض علماء التجويد طرقا أخري في تصنيف الصفات، و ذلك بتقسيمها إلي قسمين ذاتي و عارضي، فالصفات الذاتية مثل الجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة و الانحراف و التكرير و الصفير و التفشي و الغنة، و العارضية هي الأحكام التي تلحق الأصوات من جراء التركيب مثل الترقيق و التفخيم و الإدغام و الإظهار و المد و القصر و نحو ذلك «2».
و كان ابن الجزري قد قال في (المقدمة) في تعريف التجويد: «3»
و هو إعطاء الحروف حقّها من صفة لها و مستحقّها
و قد فسر شراح المقدمة قول ابن الجزري (حقها و مستحقها) تفسيرا يطابق تقسيم الصفات السابق إلي ذاتي و عارضي، فقال أحمد بن الجزري، و هو ابن الناظم: «و الفرق بين حق الحرف و مستحقه أن حق الحرف صفته اللازمة له من همس و جهر و تشديد و رخاوة، و غير ذلك من الصفات الماضية. و مستحقه: ما ينشأ عن هذه الصفات كترقيق المستفل و تفخيم المستعلي، و نحو ذلك» «4». و ردد شراح المقدمة الآخرون و غيرهم مقالة أحمد بن الجزري السابقة «5».
و قسم كثير من علماء التجويد صفات الحروف إلي صفات قوية و صفات ضعيفة و أخري متوسطة بينهما، و يقسمون الحروف بعد ذلك بقدر ما فيها من صفات القوة و الضعف إلي قوية و ضعيفة و متوسطة «6».
و سوف نسير في تتبع صفات الحروف علي نهج من ذهب من علماء التجويد إلي تقسيمها إلي صفات محسنة و صفات مميزة، لأن هذا الاتجاه يتميز علي غيره بإدراك أعمق لخصائص الأصوات، و يقدم أساسا أشمل للتقسيم يناسب مرحلة البحث التي نحن فيها الآن بخلاف تقسيمها إلي ذاتية و عارضية، فإن الحديث عن الصفات العارضية ينقلنا إلي مرحلة من (1) كفاية المستفيد 6 و- 8 و.
(2) السمرقندي: روح المريد 124 ظ، و انظر: المرادي: المفيد 101 ظ، و القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 196.
(3) متن الجزرية ص 15.
(4) الحواشي المفهمة 26 ظ.
(5) انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 23 و. و علي القاري: المنح الفكرية ص 18. و أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 5 و.
(6) انظر: مكي: الكشف 1/ 137، و المرادي: المفيد 102 ظ، و النابلسي: كفاية المستفيد 8 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 204
البحث لم نبلغها بعد، و هي الحديث عن أحكام الحروف التركيبية التي نرجو أن نستوفي الكلام عنها في الفصل اللاحق، إن شاء اللّه تعالي.
و بناء علي ذلك سوف ندرس أولا الصفات المميزة التي تنحصر في الصفات التي لها أضداد، و هي الجهر و الهمس، و الشدة و الرخاوة، و الإطباق و الانفتاح. ثم نعرض بعد ذلك للصفات المحسنة التي منها ما يخص صوتا واحدا، و منها ما يتعلق بمجموعة من الأصوات، و نختم المبحث ببيان كيفية وصف علماء التجويد للأصوات.

أولا- صفات الأصوات المميزة:

اشارة

و هي تنحصر في الجهر و الهمس، و الشدة و الرخاوة و التوسط بينهما، و الإطباق و الانفتاح، و الاستعلاء و الاستفال، و الذلاقة و الإصمات. و سوف نوضح هنا وجهة علماء التجويد في دراسة هذه المجموعة من الصفات، و المشكلات الصوتية التي تتصل بها.

1- الجهر و الهمس:

اشارة

الصوت المجهور هو الذي يهتزّ (أو يتذبذب) الوتران الصوتيان حال النّطق به، و الصوت المهموس بعكس المجهور هو الذي لا يهتز (أو لا يتذبذب) الوتران الصوتيان حال النطق به.
و قد أوضحنا ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل عند الحديث عن إنتاج الأصوات اللغوية، و بيّنا موقف علماء التجويد من تحديد المجهور و المهموس و انتهينا هناك إلي أن علماء التجويد و علماء العربية أدركوا ظاهرة الجهر و الهمس كما يتصورها المحدثون، و لم يبق إلا أن نقف عند الحروف التي وصفها علماء التجويد بأنها مجهورة و الحروف التي وصفوها بأنها مهموسة.
و كان لتحديد سيبويه للحروف المجهورة و المهموسة سلطان مستمر علي دارسي الأصوات العربية، كما كان له ذلك في الموضوعات الأخري، فسلك علماء التجويد طريق سيبويه في تحديد الحروف المجهورة و المهموسة. فإذا كان سيبويه قد قال إن الحروف المهموسة عشرة، و هي: الهاء و الحاء و الخاء و الكاف و الشين و السين و التاء و الصاد و الثاء و الفاء، و أن المجهورة تسعة عشر حرفا هي: الهمزة و الألف و العين و الغين و القاف و الجيم و الياء و الضاد و اللام و النون و الراء و الطاء و الدال و الزاي و الظاء و الذال و الباء و الميم و الواو «1». فإن علماء التجويد لم يخرجوا عن ذلك التحديد «2». (1) الكتاب 4/ 434.
(2) انظر: مكي: الرعاية ص 92- 93، و الداني: التحديد 17 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 205
و كانت قد برزت ظاهرة جديدة و هي محاولة جمع أنواع الحروف في بعض الكلمات سواء كان معناها واضحا أم لا. و هذه الظاهرة و إن كانت شكلية إلا أنها كان لها تأثير في ترديد تلك الأنواع من غير أن تكون هناك محاولة من أجل إعادة توزيع الحروف في نطاقها. و كانت بدايات هذه الظاهرة موجودة عند علماء العربية، فنجد ابن جني بعد أن ذكر الحروف المهموسة قال: «و يجمعها في اللفظ قولك: ستشحثك خصفه» «1». و بالغ بعض علماء التجويد في ذلك. فنجد مكي يقول: (الحروف المهموسة، و هي عشرة أحرف يجمعها هجاء قولك:
ستشحثك خصفه، أو هجاء قولك: سكت فحثه شخص، أو هجاء قولك: سكت شخصه فحث» «2». و لم يكتف بعضهم بحصر الحروف المهموسة و إنما جمع الحروف المجهورة ببضع كلمات أيضا، قال أبو العلاء الهمذاني العطار، و هو يتحدث عن الحروف المجهورة:
«و جمعها بعضهم في قوله: زاد ظبي غنج لي ضمورا إذا قطع» «3».
و كان علماء التجويد قد لاحظوا علي نحو واسع التقابل بين بعض الأصوات المجهورة و المهموسة، و أدركوا دور ظاهرة الجهر و عدمها في التمييز بين الأصوات: قال مكي: «لو لا الجهر الذي في العين لكانت حاء» «4». و قال: «لو لا ما بينهما من الجهر و الهمس لكانت الخاء غينا إذ المخرج واحد» «5». و قال: «كذلك الدال لو لا الجهر الذي فيه لكان تاء، إذ المخرج واحد» «6». و قال: «و لو لا الهمس الذي في السين لكانت زاء، كذلك لو لا الجهر الذي في الزاي لكانت سينا، إذ قد اشتركا في المخرج و الصفير و الرخاوة و الانفتاح و التسفل، و إنما اختلفا في الجهر و الهمس لا غير» «7».
و قال عبد الوهاب القرطبي: «السين امتازت عن الزاي بالهمس، و لو لاه لكانت زاء» «8».
و قال: «لو لا الجهر الذي في الدال لصارت تاء» «9». و قال: «و لو لا الجهر الذي في الذال صار (1) سر صناعة الإعراب 1/ 69.
(2) الرعاية ص 92.
(3) التمهيد 145 ظ، و انظر: السمرقندي: روح المريد 126 و. و كذلك الداني: التحديد 17 ظ.
(4) الرعاية ص 138.
(5) الرعاية ص 143.
(6) الرعاية ص 178.
(7) الرعاية ص 185.
(8) الموضح 162 ظ.
(9) الموضح 163 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 206
ثاء» «1». و هذه أمثلة قليلة يمكن أن يصادف المتتبع عشرات مثلها في كتب علم التجويد، و يكفي الدارس أن يعرف أن الفخر الموصلي تحدث في كتابه (الدر المرصوف في وصف مخارج الحروف) عن «علل اختلاف الحروف مع اتحاد المخرج» و قد استغرق ذلك ثلث الكتاب تقريبا و كان لظاهرتي الهمس و الجهر النصيب الأكبر في ذلك «2». و كذلك فعل محمد المرعشي حيث عقد مبحثا في كتابه (جهد المقل) (في بيان الفرق بين بعض الحروف المتشابهة) نحا فيه نحو الفخر الموصلي «3».
و كلام علماء العربية و علماء التجويد عن الحروف المجهورة و الحروف المهموسة يثير بعض القضايا التي تحتمل المناقشة، و يتلخص ذلك في أنهم وصفوا الهمزة و القاف و الطاء بأنها مجهورة، و هي ليست كذلك في النطق العربي اليوم، كما يقرر علماء الأصوات المحدثون، و كما يشهد الواقع بذلك «4».
و نحن أمام هذه القضية بين ثلاثة احتمالات:
1- احتمال أنهم أخطئوا في وصف هذه الأصوات، فعدوها مجهورة، و هي مهموسة.
2- احتمال أنهم حين وصفوا هذه الأصوات كانت مجهورة ثم تغيرت بعد ذلك حتي صارت مهموسة.
3- احتمال أنهم وصفوا نوعا مجهورا من تلك الأصوات كان سائدا في نطق بعض العرب، لا سيما الطاء و القاف.
و كان عدد من دارسي الأصوات اللغوية من المحدثين قد ناقشوا قضية الأصوات الثلاثة في إطار تلك الاحتمالات «5». و لسنا بصدد تقصي كل ما قالوه، و لكننا سوف نركز علي ملامح هذه القضية عند علماء التجويد و ما يعتبر إضافة جديدة في كلامهم، مما يساعد في تفسير وصف الأصوات الثلاثة بأنها مجهورة. (1) الموضح 163 و.
(2) الدر المرصوف 171 ظ- 173 ظ.
(3) جهد المقل 19 ظ.
(4) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 186 و 170.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63 و 85، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 130 و 141 و 146، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 294 و 295.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 207

(أ) مشكلة الهمزة:

أما الهمزة فقد ذهب سيبويه و غيره من علماء العربية، و علماء التجويد، إلي أنها صوت مجهور «1». و هي عند المحدثين ليست مجهورة، و قد اختلفوا، فبعضهم قال: إنها مهموسة، و تأتي جهة الهمس في هذا الصوت من أن إقفال الوترين الصوتيين معه لا يسمح بوجود الجهر في النطق «2». و قال آخرون الهمزة صوت لا هو بالمجهور و لا هو بالمهموس، لأن وضع الوترين حال النطق بها لا يسمح بالقول بوجود ما يسمي بالجهر أو الهمس «3».
و فسر بعض المحدثين عد الهمزة من الحروف المجهورة لدي علماء العربية و علماء التجويد علي أساس أنهم لم يوفقوا في نطق الهمزة مجردة، فكانوا ينطقونها متلوة بحركة، و الحركة مجهورة، فأثر جهر الحركة علي نطق الهمزة حتي عزوا جهرها للهمزة نفسها «4».
و حمل بعضهم ذلك علي أنهم وصفوا همزة مسهلة، و هي حينئذ أشبه بحروف اللين التي هي أصوات مجهورة «5».
و نحن إذا حاولنا اختبار موضع الهمزة علي حسب طريقة علماء العربية في إدخال همزة الوصل علي الحرف و النطق به ساكنا فإننا نجد حينئذ سلسلة صوتية تتكون من (همزة+ حركة+ همزة) (إء)، و هذه السلسلة الصوتية حين ننطق بها مستقلة ستبدأ عملية التصويت بها بفتح الوترين بعد ضغط الهواء خلفهما، ثم تذبذب الوترين لإنتاج صوت الحركة، سواء أ كانت فتحة أم كسرة أم ضمة، ثم يعقب ذلك تضام الوترين مرة أخري ثم انفراجهما بعد ذلك بهدوء. و من هنا نلاحظ طغيان ذبذبة الوترين الصوتيين علي الأحداث الصوتية الأخري في عملية الاختبار، و ربما كانت مثل هذه الحالة مصدر وصف الهمزة بأنها صوت مجهور. و لكن الهمزة المجردة غير المسهلة نفتقد معها ذبذبة الوترين التي هي مصدر الجهر، لأن الهمزة ما هي إلا انطباق (1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 434، و ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 129، و مكي: الرعاية ص 119، و الداني: التحديد 23 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 165 و.
(2) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 97، و جان كانتينو: دروس ص 123، و عبد الرحمن أيوب:
أصوات اللغة ص 183، و هنري فليش: العربية الفصحي ص 38.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 171، و إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 91، و كمال محمد بشر:
الأصوات ص 142.
(4) أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه و عندنا ع 5 ص 14.
(5) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 97.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 208
الوترين ثم انفراجهما.

(ب) مشكلة الطاء:

الطاء حرف مجهور أيضا عند علماء العربية و علماء التجويد «1». لكنه مهموس في النطق العربي اليوم «2». و هنا يترجح لدي بعض المحدثين أن صوت الطاء الذي وصفه القدماء بأنه صوت مجهور يشبه صوت الضاد الذي ينطقه أهل مصر اليوم، أي أنه الصوت المطبق للدال «3».
و مما يؤيد ذلك قول سيبويه و هو يتحدث عن حروف الإطباق الأربعة: «و لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا، و الصاد سينا، و الظاء ذالا، و لخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس شي‌ء من موضعها غيرها» «4». فهذا النص صريح في كون الطاء العربية هي النظير المطبق للدال، و أنه إذا أزيل الإطباق عنها صارت دالا. و هذا الوصف ينطبق علي الضاد التي ينطقها الناس في مصر. فهي النظير المطبق للدال، و هذا يعني أن تحولا حصل في نطق الطاء و الضاد معا، لأن الطاء اليوم إذا أزيل عنها الإطباق صارت تاء لأنها مهموسة، و ليس بينها و بين التاء من فرق سوي الإطباق. و كانت الضاد العربية إذا أزيل إطباقها تختل و لا تتحول إلي صوت آخر من الأصوات العربية، بينما هي اليوم- في نطق أهل مصر خاصة، لا في نطق أهل العراق- إذا أزيل عنها الإطباق صارت دالا. و يمكن أن نعبر عن التطور الذي حصل في صوتي الطاء و الضاد في الجدولين الآتيين:
النطق القديم النطق الحديث (1) سيبويه: الكتاب 4/ 434. و مكي: الرعاية ص 172. و الداني: التحديد 31 ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 62، و محمود السعران: علم اللغة ص 168، و كمال محمد بشر:
الأصوات ص 131.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63.
(4) الكتاب 4/ 436.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 209
فالضاد القديمة كانت من مخرج مستقل ليس له علاقة بمخرج (ط د ت)، و كانت رخوة كما سنشير في الفقرة الآتية من هذا المبحث، و لم يكن في العربية صوت منفتح مقابل لها، لأنها كما يقول سيبويه إذا أزيل عنها الإطباق خرجت من الكلام.
و مما يدل علي أن الطاء العربية القديمة المجهورة كانت صوتا يشبه صوت الضاد في نطق أهل مصر اليوم أن بعض العلماء المتأخرين مثل علي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004 ه)، و محمد المرعشي الملقب ساج‌قلي‌زاده (ت 1150 ه) وصفوا نطق أهل مصر للضاد في زمانهم أنه يشبه الطاء قال المقدسي: «لما رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلا عن الأوغاد يخرجون عن مقتضي العقل و النقل في نطق الضاد ... فليعلم أن أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالدال المفخمة و الطاء المهملة» «1». و قال أيضا: «أما هذا الحرف الذي يشبه الدال المفخمة و الطاء المهملة الذي ينطق به أكثر المصريين و لنسمّه بالضاد الطائية ...» «2». و قال المرعشي:
«فما اشتهر في زماننا هذا من قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فهو عجب لا يعرف له سبب ... و منهم من يخرج الضاد المعجمة طاء مهملة كالمصريين ... أقول: قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فيها مفاسد ...» «3».
و مما يدل أيضا علي أن صوت الطاء العربية القديمة المجهورة كانت دالا مطبقة مثل صوت الضاد في نطق أهل مصر اليوم، أن بعض المحدثين ذكر أن الطاء العربية القديمة (الدال المطبقة) لا تزال تسمع في بعض البلدان، مثل جنوبي الجزيرة العربية، حيث يقولون (مضر) يريدون (مطر) و (قضعت ورقة) يريدون (قطعت ورقة) «4». ينطقون بالطاء ضادا مثل التي تنطق في مصر اليوم.
و لكن متي تم ذلك التحول في نطق الطاء؟ هذا الموضوع يحيط به الغموض، فليس لدينا نصوص تؤكد لنا ذلك التحول أولا، و توضح لنا مراحله ثانيا. فكان سيبويه قد ذكر من بين (1) بغية المرتاد 1 ظ.
(2) بغية المرتاد 4 و.
(3) جهد المقل 20 ظ- 21 و.
(4) أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931 العدد الخامس ص 13، و إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63، و جان كانتينو: دروس ص 50- 51.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 210
الحروف غير المستحسنة (الطاء التي كالتاء) «1». و قد وضح بعض علماء التجويد قول سيبويه هذا بقوله: «و أما الطاء التي كالتاء فإنها تسمع من عجم أهل المشرق، لأن الطاء في أصل لغتهم معدومة، فإذا احتاجوا إلي النطق بشي‌ء من العربية فيه طاء تكلفوا ما ليس في لغتهم، فضعف نطقهم بها» «2».
و من غير المحتمل أن يكون قول سيبويه (الطاء التي كالتاء) كافيا في رد قول من يقول إن الطاء العربية القديمة كانت مجهورة و أنها كانت النظير المفخم للدال، لا سيما أن سيبويه أكد علي ذلك بشكل واضح في قوله السابق (لو لا الإطباق ...)، و من ثم يكون هذا الصوت (الطاء التي كالتاء) تحريفا لنطق الطاء الأصلية علي مرحلتين: الأولي: إذهاب الجهر، و الثانية: إذهاب الإطباق فتقرب الطاء حينئذ من التاء إن لم تكن تاء مثلها.
و يفهم من قول طاش كبري زاده (ت 968 ه): «إن مخرج الطاء و التاء لما اتحدا و انحصر الفرق بينهما في صفة الاستعلاء و الإطباق الحاصلتين في الطاء ...» «3» أن الطاء كانت في زمانه صوتا مهموسا، لأنه لم يشر إلي أن الجهر أحد الفروق بين الطاء و التاء.
و لم يكن من اليسير لدي العلماء المتأخرين التصريح بأن الطاء صوت مهموس، و بين أيديهم عشرات النصوص التي تؤكد أن الطاء صوت مجهور، و لم تكن وسائلهم تتجاوز الملاحظة الذاتية التي يتردد صاحبها في التصريح بنقض إجماع أجيال من العلماء علي أساس ملاحظته الذاتية. و لعل هذا يفسر لنا ما نجده من اضطراب في أحد النصوص الواردة في كتاب (بيان المشكلات علي المبتدئين من جهة التجويد) لملا حسين بن اسكندر الحنفي الرومي (ت 1084 ه)، فقد ورد في بعض مخطوطات الكتاب: «فإن قيل ما فائدة الصفات؟ أجيب:
فائدتها تمييز الحروف المتشاركة في المخرج، و لو لاها لا تحدث أصواتها، و لم تتميز ذواتها.
و لو لا الإطباق لصارت الطاء تاء، لأنهما ليس بينهما فرق إلا الإطباق، و كذا لصارت الظاء ذالا و الصاد سينا، و لخرجت الضاد المعجمة من كلام العرب لأنها ليس من موضعها شي‌ء غيرها» «4». الذي يعنينا بالتحديد قوله: «و لو لا الإطباق لصارت الطاء تاء». و هذا يعني أن (1) الكتاب 4/ 432.
(2) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 155 و.
(3) شرح المقدمة الجزرية 22 ظ.
(4) بيان المشكلات: المخطوطات المرقمة: 1557 و 18398 و 7105 في مكتبة المتحف ببغداد، و أوراقها غير مرقمة.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 211
الطاء لديه صوت مهموس، و ليس بينه و بين التاء من فرق سوي الإطباق.
لكننا نجد النص نفسه في نسخ أخري من مخطوطات الكتاب علي هذا النحو (و لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا) «1». بينما حذف هذا النص أصلا من مخطوطات أخري و حل محله (و لو لا الإطباق لصارت الظاء ذالا و الصاد سينا) «2».
و لا يمكن أن يكون جميع ذلك الاضطراب في النص من النّسّاخ، فما ورد في نسخ الكتاب يشير إلي أن المؤلف لاحظ أن الطاء لا تختلف عن التاء إلا بالإطباق، و من ثم قال (و لو لا الإطباق لصارت الطاء تاء). و ربما لاحظ هو أو غيره أن علماء التجويد ينصون علي أنه (لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا) فقام المؤلف أو بعض النساخ بتصحيح العبارة علي وفق الوارد في كتب علم التجويد حينا، و قام بحذفها حينا آخر. و قد وردت عبارة (لصارت الطاء دالا) في بعض النسخ مكتوبة في الهامش «3».
و نجد محمدا المرعشي يحذّر من أن يقلّ جهر الطاء فتتحول إلي تاء مطبقة، و في رأيه أن هذا الحرف ليس من حروف العربية، و هو في الواقع الطاء العربية المهموسة التي ننطقها اليوم، قال: «إن الطاء و التاء من مخرج واحد، و متحدتان في الصفات إلا الإطباق و الاستعلاء و الجهر، فإنها صفات الطاء و أضدادها و هي الانفتاح و الاستفالة و الهمس صفات التاء. و متي أعدمت تلك الصفات للطاء يصير تاء. و إذا لم تعدم إطباق الطاء و استعلاءها لكن أعدمت جهرها فأعطيت لها همسا كما يفعله بعض المبتدئين في مثل الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ، فلا يكون المغيّر إليه حرفا من حروف التسعة و العشرين، لكن لك أن تسمي المغير إليه طاء مهموسة، أو تاء مطبقة، أو تاء مفخمة» «4».
و لاحظ المرعشي أنه بينما يجب بحسب الوصف الوارد في الكتاب للطاء أن تتحول إلي الدال إذا أزيل إطباقها وجدها يغلب عليها لفظ التاء، و هو أمر يشير إلي أن الطاء في زمانه قد غلب عليها الهمس، يقول: «و احذر عن إعطاء الطاء همسا كما يفعله بعض الناس، حتي إذا أزلت إطباقه و تفخيمه علي ما لفظوا به يصير تاء. و حق الطاء أن يكون بحيث إذا أزلت إطباقه (1) المخطوطات المرقمة 24509 و 21819 في مكتبة المتحف ببغداد.
(2) المخطوطات المرقمة 24380 و 25234 و 12686 في مكتبة المتحف ببغداد.
(3) النسخة المرقمة 21819 في مكتبة المتحف ببغداد.
(4) بيان جهد المقل 4 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 212
و تفخيمه يصير دالا» «1».
يمكن أن نستخلص من هذا العرض أن وصف علماء العربية و علماء التجويد للطاء بأنه صوت مجهور وصف صحيح، و هذا الوصف يمثل الطاء العربية القديمة التي لم تحافظ علي خصائصها الصوتية، فلحقها الهمس و صارت تنطق اليوم تاء مطبقة، بينما صارت الطاء العربية القديمة المجهورة حرفا آخر في بعض البلدان، فصارت تمثل الضاد في نطق أهل مصر و من سار علي منوالهم، بعد أن اختفت الضاد العربية القديمة من الاستخدام. و قد لاحظ بعض علماء التجويد المتأخرين أن الهمس أخذ يغلب علي صوت الطاء. هذه خلاصة ما نرجحه الآن بالنسبة لصوت الطاء و هو ترجيح مبني علي النصوص السابقة، لكن علي الدارس ألّا يغيب عن نظره ذلك الإجماع علي نطق الطاء المهموسة اليوم من قبل ناطقي العربية في المستوي الفصيح و الدارج، و منهم قراء القرآن الكريم الذين يحرصون علي ضبط نطقهم و المحافظة علي صورته الموروثة. و لم يلاحظ أحد من العلماء المتقدمين تحول الطاء من الجهر إلي الهمس، كما لاحظ كثير منهم التحول الذي أصاب نطق الضاد. و هذه الحالة تضع قضية الطاء في إطار آخر، هو احتمال الخطأ في وصف صوت الطاء بالجهر، لكن النصوص السابقة لا سيما قول سيبويه (لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا) تقف في وجه هذا الاحتمال بقوة تجعل الدارس يحسّ بالحاجة إلي كثير من البحث قبل أن يعطي رأيا قاطعا في قضية الطاء.

(ج) مشكلة القاف:

القاف العربية الفصيحة التي ينطقها متكلمو العربية اليوم صوت مهموس «2». لكن علماء العربية و علماء التجويد و صفوا القاف بأنها صوت مجهور «3». و قد سارع بعض المحدثين إلي القول: «إن النحاة و القراء قد أخطئوا في اعتباره مجهورا» «4». لكن المحققين من بعض المحدثين حاولوا أن يجدوا تفسيرا للسبب الذي حمل المتقدمين علي وصف القاف بالجهر خارج احتمال وقوعهم في الغلط.
فذهب بعضهم إلي احتمال أن يكونوا قد وصفوا نطقا لهجيا للقاف يشبه إلي حد كبير (1) جهد المقل 63 ظ، و انظر أيضا 60 ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 85، و جان كانتينو: دروس ص 107، و محمود السعران: علم اللغة ص 170، و يوسف الخليفة أبو بكر: أصوات القرآن ص 82.
(3) سيبويه: الكتاب 4/ 434، و مكي: الرعاية ص 145، و الداني: التحديد 27 ظ.
(4) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 96.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 213
صوت الغين، و هو نطق للقاف شائع في السودان و بعض أنحاء العراق «1». و ذهب آخرون إلي احتمال أن علماء العربية و علماء التجويد وصفوا نطقا للقاف يشبه (الجيم القاهرية) اليوم، و هو صوت يمثل مجهور الكاف «2». و هو نطق شائع جدا في العربية الدارجة في العراق، عدا بعض المدن التي ينطق أهلها القاف مثلما ينطق في الفصحي صوتا لهويا شديدا (انفجاريا) مهموسا «3».
و يتلخص من ذلك أن في اللهجات العربية الحديثة نطقين للقاف، يتصف فيهما بالجهر، و هما:
1- نطقها غينا أو قريبة من صوت الغين.
2- نطقها جيما قاهرية (مجهور الكاف) «4».
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقاف اليوم، فما تصور علماء التجويد قديما للحالة التي كان عليها صوت القاف، و ما تفسير وصفهم للقاف بأنه صوت مجهور؟ هل أخطئوا أو وصفوا صوتا آخر مجهورا يمثل أحد صور القاف العربية القديمة، التي كانت غالبة علي النطق آنذاك، ثم غلبت القاف المهموسة بعد ذلك حتي صارت تمثل القاف الفصحي؟
إن الأمر لا يزال بحاجة إلي كثير من النصوص لكي يتمكن الدارس من ترجيح أحد الاحتمالين السابقين، و لكن ذلك لا يمنع من أن نذكر بعض الملاحظات التي يقدمها علماء التجويد و إن كانت ليست كافية من أجل تقديم رأي قاطع حول الموضوع.
إذا رجعنا إلي كلام سيبويه عن الحروف الفرعية لا نجد ذكرا للقاف لا في الحروف المستحسنة و لا في غيرها، لكن السيرافي (ت 368 ه) ذكر صوتا متفرعا عن القاف، ينطق بين القاف و الكاف، و قال عنه: «هو مثل الكاف التي كالجيم و الجيم التي كالكاف» «5». و قال (1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 85- 86. و قد قال الأستاذ يوسف الخليفة أبو بكر، و هو من أهل السودان: «و السودانيون يبدلونها في قراءتهم للقرآن غينا أو شيئا قريبا من الغين» (انظر: أصوات القرآن ص 82). و نطق القاف غينا موجود بين بعض أهل القري في العراق، مثل بعض القري القريبة من مدينة بيجي، في النطق الدارج.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 141. و عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة ص 129.
(3) مثل مدينة تكريت و الموصل. فالناس يقولون في مدينة تكريت مثلا قال، قلت.
(4) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 295.
(5) شرح الكتاب 6/ 451، و انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 214
عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «و نري اليوم من يتكلم بالقاف بين القاف و الكاف، فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم و الكاف» «1».
و كان سيبويه قد ذكر في الحروف الفرعية غير المستحسنة «الكاف التي بين الجيم و الكاف، و الجيم التي كالكاف» «2». و قد قال عبد الوهاب القرطبي عن هذين الصوتين: «و أما الكاف التي بين الجيم و الكاف، فذكر أبو بكر بن دريد أنها لغة في اليمن: يقولون في جمل:
كمل «3». و هي كثيرة. و قد يسمع من العوام من يقول: كمل و ركل في جمل و رجل، و هي عند أهل المعرفة معيبة مرذولة. و الجيم التي كالكاف مثل هذه، و هما جميعا شي‌ء واحد، إلا أن أصل إحداهما الجيم و أصل الأخري الكاف» «4».
و قول السيرافي إنّ نطق القاف التي بين القاف و الكاف هو مثل الكاف التي كالجيم، و الجيم التي كالكاف، و قول عبد الوهاب القرطبي عنها أنها مثل الكاف التي بين الجيم و الكاف- يؤكدان أن سيبويه أراد بقوله «الكاف التي بين الجيم و الكاف، و الجيم التي كالكاف» صوتا هو الكاف المجهورة التي تتمثل اليوم بالجيم التي ينطقها أهل القاهرة. و أنه لم يرد الصوت المتمثل بمهموس الجيم العربية الفصحي، التي تظهر في صوت الكشكشة الشائع في نطق بني تميم لكاف المخاطبة المؤنثة في حال الوقف. كما يذهب إلي ذلك بعض المحدثين «5».
يؤيد ذلك قول ابن دريد (ت 321 ه) و هو يتحدث عن الحروف التي تزيد علي التسعة و العشرين: «و مثل الحرف الذي بين القاف و الكاف و الجيم و الكاف، و هي لغة سائرة في اليمن مثل جمل، إذا اضطروا قالوا: كمل، بين الجيم و الكاف ...
فأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف بالكاف فتغلظ جدا فيقولون: الكوم يريدون: القوم، فتكون القاف بين الكاف و القاف ...» «6».
و مثل ذلك أيضا قول أحمد بن فارس (ت 395 ه): الحرف الذي بين القاف و الكاف (1) الموضح 155 ظ.
(2) الكتاب 4/ 432.
(3) انظر: ابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 5.
(4) الموضح 155 و. و انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257.
(5) عبد الصبور شاهين: في التطور اللغوي ص 218.
(6) جمهرة اللغة 1/ 5.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 215
و الجيم. و هي لغة سائرة في اليمن، مثل: جمل، إذا اضطروا قالوا كمل» «1». و يلاحظ القارئ هذا الفرق بين قول ابن دريد، و قول ابن فارس الذي أخذه عن ابن دريد، فإما أن نقول أن ابن دريد أراد أن يقول بين القاف و الكاف و بين الجيم و الكاف، و أن ابن فارس اختصر عبارة ابن دريد فحذف (الكاف) الثانية، و إما أن نقول أن هذه الكلمة زيدت علي النص الأصلي عند ابن دريد.
خلاصة ذلك أن علماء العربية و علماء التجويد لاحظوا وجود نطق للقاف في اللهجات العربية يشبه (الكاف المجهورة) التي تغلب علي نطقنا للقاف اليوم في العربية الدارجة، و التي يشار إليها علي أنها تمثل نطق أهل القاهرة اليوم للجيم. فهي في عاميتنا تمثل القاف، و في عامية أهل القاهرة تمثل الجيم، فهل كان سيبويه و علماء العربية و التجويد من بعده يصفون هذا الصوت المجهور الذي يمثل نطق القاف في بعض اللهجات العربية القديمة و الحديثة معا؟.
النصوص المتيسرة تنفي أن يكون سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور قد أراد بذلك (الكاف المجهورة)، لأنه كان قد حدد مخرج القاف من نقطة هي أعمق من النقطة التي تخرج منها الكاف «2». و من غير المحتمل أن يغيب عن سيبويه أن (الكاف المجهورة) تخرج من موضع الكاف العربية المهموسة نفسه، و لو أنه أراد بالقاف حين وصفها بالجهر (الكاف المجهورة) لجعلهما من مخرج واحد علي نحو ما فعل بعدد من الأصوات مثل: ع ح، غ خ، ط د ت، ص ز س، ظ ذ ث. فكونه فرق بين مخرج القاف و مخرج الكاف ينفي هذا الاحتمال.
و النصوص التي ذكرناها من قبل عن ابن دريد و السيرافي و عبد الوهاب القرطبي تشير إلي أن العلماء قد ميزوا منذ وقت مبكر بين القاف الفصيحة و القاف العامية التي هي (الكاف المجهورة). و مثل ذلك قول ابن الحاجب (ت 646 ه) في شرح المفصل: «و بقي حرف لم يتعرض له، و إن كان ظاهر الأمر أن العرب تتكلم به، و هي القاف التي كالكاف، كما يتكلم بها أكثر العرب اليوم، حتي توهم بعض المتأخرين أن القاف كذلك كانوا ينطقون بها، حتي توهم أنهم كذلك يقرءون بها. و الظاهر أنها في كلامهم، و أن القاف الخالصة أيضا في كلامهم و أن القرآن لم يقرأ إلا بالقاف الخالصة علي ما نقله الأثبات متواترا، و لو كانت تلك قرئ بها لنقلت كما نقل غيرها، و لما لم تنقل دل علي أنها لم يقرأ بها، أو قرأ بها من لم يعتد بنقل عنه» «3». (1) الصاحبي في فقه اللغة ص 36.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 284.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 216
و جري أبو حيان (ت 745 ه) علي تسمية القاف الفصيحة بالقاف الخالصة، و سمي القاف التي كالكاف (الكاف المجهورة) باسم القاف المعقودة، فقال في كتابه (ارتشاف الضرب): «و أما القاف المعقودة، فقال السيرافي: رأينا من يتكلم بالقاف بينها و بين الكاف، انتهي. و هي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي، حتي لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين و المنقولة عن وصفها الخالص علي ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن» «1».
و جمع القسطلاني (ت 923 ه) في كتابه (لطائف الإشارات) بين قول ابن الحاجب و قول أبي حيان السابقين، فقال و هو يتحدث عن الأصوات الفرعية المستقبحة: «و القاف كالكاف، فرع عن القاف الخالصة، و هي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتي لا يكاد عربي ينطق بها إلا معقودة، أي كالكاف، حتي توهم بعضهم أن العرب كانوا يقرءون بها، لكن الظاهر أن القرآن لم يقرأ إلا بالقاف الخالصة، علي ما نقله الأثبات متواترا. و لو قرئ بالمعقودة لنقل ذلك كما نقل غيره، و لما لم ينقل دلّ علي أنه لم يقرأ بها» «2».
و يبدو أن ابن الجزري (ت 833 ه) أراد بقوله (الكاف الصماء) الكاف المجهورة التي سماها أبو حيان (القاف المعقودة)، و ذلك حين قال: «و الكاف فليعن بما فيها من الشدة و الهمس لئلا يذهب بها إلي الكاف الصماء الثابتة في بعض لغات العجم فإن تلك الكاف غير جائزة في لغة العرب» «3». و حذر ابن الجزري حين تحدث عن القاف من النطق بها كالكاف الصماء فقال: «و ليتحفظ مما يأتي به بعض الأعراب و بعض المغاربة في إذهاب صفة الاستعلاء منها، حتي تصير كالكاف الصماء» «4».
و يفهم من النصوص السابقة أن القاف المعقودة (الكاف المجهورة) كانت تجري علي ألسنة كثير من العرب منذ أوائل القرن الرابع الهجري. و هي لا تزال طاغية علي ألسنة كثير من متكلمي العربية في اللغة الدارجة، و علي الرغم من ذلك فإن أقوال العلماء تؤكد علي أن هذا النطق للقاف لا يمثل القاف الفصحي التي يقرأ بها القرآن و يتكلم بها الفصحاء، فقول سيبويه (1) ارتشاف الضرب ص 4.
(2) لطائف الإشارات 1/ 185.
(3) النشر 1/ 221.
(4) النشر 1/ 221.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 217
بأن القاف مجهورة لا يمكن أن يحمل إذن علي (القاف المعقودة الكاف المجهورة) التي يسميها بعض المحدثين بالجيم القاهرية. و لا بد من البحث عن تفسير آخر لقوله.
و يبدو أننا لن نجد ذلك التفسير في نطق القاف غينا أو قريبا جدا من الغين، كما هو الغالب علي ألسنة بعض العرب اليوم، كما ذكرنا قبل قليل، لأن من غير المعقول أن يغيب عن نظر علماء العربية و علماء التجويد ذلك القرب الشديد حينئذ بين نطق القاف و نطق الغين، و لو أن سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور أراد صوتا يشبه الغين لما وصف القاف بأنها صوت شديد، فمن غير المعقول ألا يفطن سيبويه إلي رخاوة ذلك الصوت، و هو فعلا قد وصف الغين و أختها الخاء بأنها أصوات رخوة، فهذا المذهب في تفسير كلام سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور أبعد عن الواقع من المذهب السابق، لا سيما أن علماء العربية و علماء التجويد لم يشيروا إلي هذا الاتجاه في نطق القاف، و هو اليوم أقل شيوعا فيما يبدو من نطق القاف المعقودة (أي الكاف المجهورة).
و لم يبق أمامنا إلا أن ننعم النظر في صوت القاف العربية الفصحي المهموسة التي يقرأ بها القرّاء القرآن اليوم و ينطقها المثقفون حين يتحدثون بالعربية الفصحي، لنري هل لها أصل في الجهر، و هل غمض أمرها حتي و هم سيبويه و غيره في عدّها صوتا مجهورا؟.
إن من الأمور التي يقررها علماء الأصوات المحدثون أن الفراغ الحلقي الممتد من الحنجرة إلي ما يقارب أقصي اللسان و اللهاة يصعب إنتاج أصوات شديدة (انفجارية) فيه. أما الصوت الرخو (الاحتكاكي) فكثير الوقوع، و يمثل ذلك الصوتان العربيان الحاء و العين «1».
و يبدو أن الجزء الذي يخرج منه الغين و الخاء، و هو أدني الحلق من الفم، يشكل الحد الفاصل بين ما يمكن أن ينتج فيه صوت شديد و ما لا يمكن ذلك فيه. فالقاف تخرج من منطقة قريبة جدا من مخرج الغين و الخاء، و هي صوت شديد (انفجاري).
و الذي يهمنا من الملاحظة السابقة في الموضوع الذي نبحث فيه هنا هو أن الدارس إذا حاول أن ينطق بالصوت المجهور الذي يقابل القاف العربية الفصحي التي ننطقها اليوم مهموسة استعصي عليه ذلك إلي حد الاستحالة إذا هو حاول الاحتفاظ بهذا الصوت شديدا مع إعطائه صفة الجهر، و لهذا نجد دارسي الأصوات العربية المحدثين يشيرون إلي أن مجهور القاف هو صوت يشبه الغين، و إن كانت تلك الإشارة تفتقر إلي الوضوح في بعض جوانبها. يقول (1) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 94.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 218
الدكتور محمود السعران: «أما النظير المجهور للقاف، الذي يحدث في نفس الموضع و بنفس الكيفية، و لكن يتذبذب معه الوتران الصوتيان، فليس من جملة الأصوات العربية الفصحي الآن، إلا أنه يسمع في بعض العاميات» «1» و قد أشار السعران إلي أنه اقتبس هذه الفكرة من كتاب (الأصوات اللغوية) للدكتور إبراهيم أنيس.
و حين نرجع إلي كتاب (الأصوات اللغوية) للدكتور إبراهيم أنيس نجد فرقا جوهريا بين تصور الدكتور السعران لمجهور القاف و ما هو مذكور في كتاب (الأصوات اللغوية). فالمثال المقدم علي أساس أنه يمثل مجهور القاف لا يحدث بنفس الكيفية التي يحدث بها صوت القاف المهموس، و أن الفرق بينهما يتعدي ذبذبة الوترين الصوتيين، إلي صفة الشدة و الرخاوة. فالدكتور إبراهيم أنيس يقدم لنا نطق بعض القبائل العربية في السودان و بعض القبائل في جنوب العراق لصوت القاف علي أنه القاف المجهورة التي ذكرها سيبويه و يقول:
«نسمعها منهم نوعا من الغين» «2». و لكنه يلاحظ فرقا بين القاف الفصحي المهموسة و بين ذلك الصوت الذي يرجح أنه يمثل القاف العربية التي وصفها سيبويه بأنها صوت مجهور، يقول:
«لهذا نفترض هنا أن القاف الأصلية كانت تشبه ذلك الصوت المجهور الذي نسمعه الآن من بعض القبائل السودانية، ثم همس مع توالي الزمن و أصابته صفة الشدة فأدي هذا إلي ما نعهده في قراءتنا. إذ لا فرق بين نطق السودانيين للقاف و بين نطق المجيدين للقراءة من المصريين لها إلا في أنها مجهورة و أميل إلي الرخاوة عند السودانيين، مهموسة شديدة عند المصريين» «3».
و نحتاج إلي التأكيد علي عبارة واحدة من هذا النص و هي (و أميل إلي الرخاوة). بل إننا حين نتأمل نطق بعض القرويين للقاف صوتا مجهورا مثل الغين نلاحظ أنه رخو إلي درجة لا يختلف عن الغين في شي‌ء.
إذا صح أننا لا نستطيع أن ننطق صوتا مجهورا يقابل في خصائصه القاف العربية المهموسة التي ننطقها اليوم و لا يختلف عنه إلا بالجهر فإن ذلك يعني أن القاف العربية الفصحي التي ننطق بها اليوم صوت فذ كالضاد العربية القديمة التي قال عنها سيبويه إنها إذا أزيل عنها الإطباق خرجت من الكلام لأنه ليس من موضعها حرف غيرها. و كذلك هذه القاف إذا أزيل همسها و لحقها الجهر خرجت إلي صوت آخر يخالفه في عدة خصائص، و هو (1) علم اللغة ص 170 و انظر: عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 214.
(2) الأصوات اللغوية ص 85.
(3) الأصوات اللغوية ص 86.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 219
صوت الغين.
و لعل من الممكن هنا أن نقدم تفسيرا لإمكانية إنتاج القاف مهموسة و صعوبة إنتاجها مجهورة من نفس الموضع مع المحافظة علي شدتها، يتمثل في أن الموضع الذي يخرج منه القاف يضعف تحكم الناطق به، فهو ليس مثل طرف اللسان حين ننطق التاء المهموسة ثم الدال المجهورة، أو الطاء المهموسة ثم الضاد المجهورة حسب النطق المعاصر، و يبدو أن قوة تيار النّفس مع الصوت المهموس تساعد علي إحكام الضغط حين النطق بالقاف المهموسة، و أن الجهر يؤدي إلي ضعف تيار النّفس لأن اعتراض الوترين الصوتيين يضعف أثر الخفقة التي يحدثها ضغط الحجاب الحاجز علي الرئتين و من ثم يؤدي ضعف تيار النّفس مع ما فيه من أثر تردد و ذبذبة الوترين الصوتيين إلي صعوبة التحكم في مخرج القاف بحيث تظل شديدة و مجهورة في وقت واحد. علي أننا إذا تقدمنا شيئا يسيرا باتجاه طرف اللسان من مخرج القاف أمكننا أن ننطق بالكاف مهموسة، و أن ننطق بالكاف مجهورة، من غير أن يغير الجهر الذي يلحق الكاف شيئا من خصائصها الصوتية الأخري.
إن النتيجة السابقة تجعلنا أمام احتمال أخير حول وصف سيبويه للقاف بأنها صوت مجهور، فإذا كنا لا نستطيع أن نحمل قول سيبويه علي أنه وصف للكاف المجهورة التي سماها أبو حيان القاف المعقودة، و هي التي يسميها المحدثون بالجيم القاهرية كما أننا لا نستطيع أن نحمله علي أنه وصف لنطق السودانيين للقاف الذي هو أشبه بالغين- فإنه لم يبق أمامنا إلا أن نقول إن سيبويه و هم في نسبة الجهر إلي القاف. و هو أمر لا نستطيع أن نقطع به، و كل ما يمكن أن نقوله باطمئنان هو أن القاف في نطقنا الفصيح اليوم صوت مهموس و أن سيبويه و علماء العربية و علماء التجويد وصفوا القاف بأنها صوت مجهور، و أن وسائلنا الآن عاجزة عن تفسير هذا الوصف علي نحو أكيد.

2- الشدة و الرخاوة و التوسط بينهما:

اشارة

يعتمد هذا التصنيف علي كيفية مرور الهواء في مخرج الحرف، فإذا حبس النّفس في مخرج الحرف حبسا تاما ثم أطلق بعد ضغطه لحظة كان الصوت شديدا (انفجاريا)، و إذا حصل تضييق لمجري النّفس في مخرج الحرف دون أن يحتبس كان الصوت رخوا (احتكاكيا). و بعض الأصوات يحصل في أثناء النطق به اعتراض لمجري النّفس في مخرجه، و لكن من غير أن يحصل حبس تام، لأن النّفس يجد له منفذا يتسرب منه، و يسمي الصوت
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 220
حينئذ متوسطا. و سبق أن بيّنا ذلك عند الحديث عن إنتاج الأصوات اللغوية «1». و الذي نريد أن نقف عنده هنا هو كيفية تحديد الأصوات الشديدة و الرخوة و المتوسطة لدي علماء التجويد.
كان سيبويه قد حصر الحروف الشديدة في: الهمزة و القاف و الكاف و الجيم و الطاء و التاء و الدال و الباء. و الحروف الرخوة في: الهاء و الحاء و الغين و الخاء و الشين و الصاد و الضاد و الزاي و السين و الظاء و الثاء و الذال و الفاء. ثم قال: «و أما العين فبين الرخوة و الشديدة، تصل إلي الترديد فيها لشبهها بالحاء». ثم ذكر سيبويه الحرف المنحرف، و هو اللام، و حرفي الغنة و هما النون و الميم، و المكرر هو الراء، و اللينة و هي الواو و الياء، ثم الهاوي و هو الألف. و استغرق بذلك جميع حروف العربية و رتبها علي وفق كيفية مرور الهواء في مخارجها «2».
و سار علماء العربية علي نهج سيبويه في تصنيف الحروف العربية إلي شديدة و رخوة، و عدّوا كل ما عداها قسما ثالثا، سموه الحروف التي بين الشديدة و الرخوة، و هو ما سمي في وقت متأخر بالحروف البينية و المتوسطة، و إن كان سيبويه لم يصرح بالبينية إلا في صوت العين. و قال ابن جني: «و للحروف انقسام آخر إلي الشدة و الرخاوة و ما بينهما. فالشديدة ثمانية أحرف ... و يجمعها في اللفظ (أجدت طبقك) و (أجدك طبقت). و الحروف التي بين الشديدة و الرخوة ثمانية أيضا. و هي الألف و العين و الياء و اللام و النون و الراء و الميم و الواو، و يجمعها في اللفظ (لم يرو عنّا)، و إن شئت قلت: (لم يرو عنا) و إن شئت قلت: (لم يرعونا)، و ما سوي هذه الحروف و التي قبلها، هي الرخوة» «3».
و قد تابع علماء التجويد سيبويه و غيره من علماء العربية المتقدمين في تصنيف الحروف إلي شديدة و رخوة و متوسطة. و كانت لهم في هذا الميدان إضافات و تفسيرات ذات شأن، فعالجوا المشكلات التي تتعلق بهذا الموضوع. و هي تتلخص في حصر الحروف المتوسطة، و في وصف الضاد بأنها رخوة، و هي في نطق بعض العرب اليوم شديدة، و نضم إلي ذلك بحث وصف بعض المحدثين للجيم بأنه صوت مركب. (1) انظر ص 139 من هذا البحث.
(2) انظر: الكتاب 4/ 434- 435.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 69- 70.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 221

(أ) الحروف المتوسطة:

أما عدد الحروف التي بين الشديدة و الرخوة (أي المتوسطة) فإن بعض علماء التجويد تابع علماء العربية في عدها ثمانية يجمعها (لم يروعنا) «1». بينما أخرج بعضهم الواو و الياء و الألف من الحروف المتوسطة. قال أبو عمرو الداني: «و الشديد ثمانية أحرف ... و ما عدا هذه الشديدة علي نوعين: شديد يجري فيه الصوت، و رخو. أما الشديد الذي يجري فيه الصوت فخمسة أحرف يجمعها قولك (لم نرع): العين و النون و اللام و الراء و الميم، اشتد لزومها لموضعها، ثم تجافي بها اللسان عن موضعها، فجري فيها الصوت لتجافيها.
أما العين: فتجافي بها اللسان فجري فيها الصوت لشبهها بالحاء.
و أما الراء: فتجافي بها اللسان عن موضعها للتكرير الذي فيها، فجري الصوت.
و أما اللام: فتجافي ما فوق حافة اللسان بها عن موضعها لانحرافها، فجري فيه الصوت لا من موضع اللام، و لكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك.
و أما النون و الميم فتجافي اللسان بهما إلي موضع الغنة، و هو الألف، فجري فيها الصوت ...» «2».
و تابع المرعشي القائلين بأن الحروف المتوسطة خمسة «3». ثم ناقش مذهب القائلين بأنها ثمانية و قال: «و زاد في الرعاية الواو و الياء و الألف في البينية و أتي في جمعها بقوله: لم يروعنا. و صرح بأن حروف الرخو ثلاثة عشر، فظهر أن في هذه الحروف الثلاثة اختلافا في أنها من الحروف الرخو أو من الحروف البينية. و الظاهر أن المراد من الواو و الياء ما ليسا بمديين كما يشهد به وقوعهما في: لم يروعنا، لكن أقول: كيف يكون الألف المدية من البينية مع أن الظاهر أنها أكمل حروف الرخو رخاوة، إذ معني الرخاوة اللين و جريان الصوت؟!» «4».
و نقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن مكيا عد المتوسطة سبعة، و هذا شي‌ء يخالف ما نقلناه عن كتاب الرعاية، و لكنه مذهب يوافق ما يراه المرعشي من إخراج الألف منها، و اعتبار (1) مكي الرعاية ص 94. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 و.
(2) التحديد 18 و. و انظر: العطار: التمهيد 145 ظ، و أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(3) جهد المقل 12 و.
(4) بيان جهد المقل 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 222
الواو و الياء غير مديتين، قال أبو شامة: «قال مكي في بعض تصانيفه: الرخاوة فيما عدا الشديدة إلّا سبعة أحرف يجمعها قولك (نولي عمر)، فإنها بين الرخاوة و الشدة، فأدخل فيها الواو و الياء و لم يدخل الألف» «1». و لا نستطيع أن نحدد الآن المصدر الذي نقل عنه أبو شامة هذا النص.
فالحروف الشديدة إذن ثمانية، و الرخوة ثلاثة عشر، و المتوسطة ثمانية علي رأي بعض العلماء، و خمسة علي رأي آخرين، و الخلاف في الحروف الثلاثة: الألف و الواو و الياء.
و يبدو أن الذين يعدون الحروف المتوسطة خمسة هي (لم نرع)، و يعدون الرخوة ثلاثة عشر حرفا- يعتبرون الألف و الواو و الياء قسما رابعا لا يدخل في أي من الأقسام الثلاثة. و هو الظاهر من كلام الداني السابق.
و صرح المرعشي في كتابه (جهد المقل) أن الحروف الرخوة ستة عشر حرفا بضمنها الواو و الياء مديين أو لا و الألف «2». لكنه فصل في كتابه (بيان جهد المقل) و فرق بين الياء و الواو فإذا كانا غير مديين ألحقهما بالمتوسطة، و إذا كانا مديين ألحقهما مع الألف بالرخوة، بناء علي مذهبه في كون حروف العربية واحدا و ثلاثين حرفا، و علي هذا تكون الحروف المتوسطة لديه سبعة «3».
و يترجح لديّ مذهب الداني في عد المتوسطة خمسة هي (لم نرع)، علي اعتبار أن الحروف المتوسطة هي التي يقوم في طريقها عائق كالشديدة، لكن النّفس لا ينحصر في مخرجها انحصاره في الشديدة، إنما يجد له منفذا يجري فيه جريانه في الرخوة. و كذلك يترجح لديّ تفريق المرعشي بين حالتين للواو و الياء، و ذلك باعتبار هما حرفي مدّ مرة، و باعتبارهما ليسا حرفي مد أخري. و لكني لا أري أن يجعلا و هما حرفا مد من الحروف الرخوة، و إنما تعامل حروف المد الثلاثة (الألف و الواو و الياء) معاملة خاصة، لأنها تعد قسما قائما بذاته في مقابل جميع الحروف الجوامد. و تقسيم الحروف إلي شديدة و متوسطة و رخوة شي‌ء خاص بالحروف الجوامد. أما الحروف الذائبة (حروف المد الثلاثة) فهي أصوات بائنة من جميع الحروف، و ذلك بجريان النفس معها حرا طليقا من غير أن يعترضه تضييق لمجراه كالذي يحدث في الحروف الرخوة. (1) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(2) جهد المقل 12 و.
(3) بيان جهد المقل 16 و. و انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 170.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 223
يبقي بعد ذلك الواو و الياء إذا لم يكونا حرفي مد، و كانا من الحروف الجامدة، أ نعدّهما من الحروف الرخوة أم المتوسطة؟ إذا أخذنا بالمفهوم السابق للحروف المتوسطة، و هو قيام عائق في مجري النّفس لا يحول دون جريانه، فإن الواو و الياء من هذه الناحية من الحروف الرخوة، و إذا قلنا إن الحروف المتوسطة هي ما ليس بشديدة و لا رخوة و راعينا ما في الواو و الياء من اللين، أمكن عدّهما من الحروف المتوسطة. و أنا أميل إلي الرأي الأول لأنه يقوم علي أساس واضح في تحديد معني المتوسطة.
و إذ بلغنا هذا الشوط في مناقشة هذا التصنيف فلنا أن نسأل عن موقف الدرس الصوتي الحديث منه، هل يقره أو يرفضه أو يعدله؟ قال المستشرق الألماني برجستراسر: «أنهم أثبتوا صفة ثالثة بين الشدة و الرخوة، و هي التوسط. و الحروف المتوسطة كلها مجهورة عندهم و هي: ع ل ن ر م. فنقول: إنه و إن كانت هذه الحروف، إلا العين، متمادية بدون شك، فلهم مع ذلك حق في تمييزها عن الرخوة و المجهورة ...» «1».
و قال أ. شاده، و هو مستشرق ألماني أيضا، متحدثا عن بعض آراء سيبويه الصوتية:
«و أصاب سيبويه أيضا في أنه هناك حروف هي شديدة من جهة و رخوة من جهة أخري. و عد من هذا النوع المشترك: العين و اللام و النون و الميم و الراء» «2».
و قال المستشرق الفرنسي جان كانتينو، و هو يتحدث عن هذا التقسيم: «فلا يبقي مجال للشك في صحة هذا الترتيب إلا في ما يتعلق بحرف العين. و ما عدا ذلك فإن الترتيب مطابق لترتيب علماء الأصوات العصريين» «3».
و إذا نظرنا في موقف دارسي الأصوات اللغوية من العرب في هذا التقسيم وجدنا من ينتقد هذا التقسيم و يعترض عليه، و لا يري مجالا لقبوله إلا إذا حملناه علي معني معين، فقال بعد مناقشته للموضوع: «و مهما يكن من أمر، فالواجب تفسير المصطلح (أصوات متوسطة) بأن المقصود أنها أصوات متوسطة بين الصامتة بعامة (يعني الجامدة) و الحركات (يعني الذائبة)، لا بين الأصوات الشديدة و الاحتكاكية (أي الرخوة). و يبدو أن من سماها كذلك من العرب قد خانه التوفيق في التعبير» «4». (1) التطور النحوي ص 8.
(2) علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931 العدد الخامس ص 10.
(3) دروس ص 36.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 170.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 224
و نحن لا ننكر أن هناك شبها بين الحروف المتوسطة و بين الحركات (أي الحروف الذائبة) لا سيما (ل م ن)، و ذلك من حيث كيفية مرور الهواء في مخارجها، و علماء التجويد أنفسهم يصرحون بذلك الشبه، قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «و أيضا فإن المد الذي في الواو بمثابة الغنة التي في الميم» «1». و قال: «أما النون الخفيفة فإنها النون الساكنة التي مخرجها من الخيشوم، نحو النون في منك و عنك و من زيد. و هي صوت يجري في الخيشوم جريان حروف المد و اللين في مواضعها» «2». و قال ناصر الدين الطبلاوي (ت 966 ه): «إن النون الساكنة و التنوين حرفا غنة، و لا بد لهما من شبه مد، فشاركا الواو و الياء في المد في الجملة» «3».
و لكن لا يعني وجود شبه بين الحروف المتوسطة و بين الحروف الذائبة أننا يجب أن نلغي تقسيم علماء العربية و علماء التجويد المبني علي مفهوم واضح و هو أن هذه الأصوات لا تحقق في إنتاجها صفة الأصوات الشديدة بشكل كامل، و كذلك هي لا تتحقق فيها صفة الأصوات الرخوة بشكل كامل. فهي تبدأ بحبس للنّفس يشبه ما يحصل في الحروف الشديدة، و لكن النّفس يجد له منفذا من غير موضع ذلك الاحتباس فيجري جريانه في الحروف الرخوة، و هذه هي صفة هذه الأصوات بشكل عام.
و حين نمعن النظر في كلام هذا المعترض نجد أنه لا يعدو أن يكون جدلا لفظيا و إلا ما ذا يمكن أن يقول الدارس المدقق عن مثل قوله: «و هي في رأيهم متوسطة بين الشدة و الرخاوة (بين الانفجار و الاحتكاك). و هذا في نظرنا تقدير غير دقيق، إلا إذا قصد بها أنها ليست انفجارية، و لا احتكاكية، و إنما هي نوع مستقل. و كان الأولي بهؤلاء القوم أن يحكموا عليها بأنها متوسطة بين الأصوات الصامتة و الحركات (لا بين الانفجارية و الاحتكاكية) فهي كما رأيت تتسم بخواص الأصوات الصامتة و لكنها في الوقت نفسه تبدي شبها معينا بالحركات، و من ثم أطلقنا عليها نحن أشباه الحركات «4».
و نحن لا نعترض علي إطلاقه مصطلح (أشباه الحركات)، و هو مصطلح لا نستبعد أنه (1) الموضح 170 ظ.
(2) الموضح 153 ظ.
(3) مرشدة المشتغلين 3 ظ.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 169.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 225
اقتبسه من مصادر دراسته الأجنبية «1». و إن كنت أتعجب من قوله: «أما الراء فهو شبيه بالحركات، لما يوجد عند النطق به من نوع من حرية للهواء بسبب الاتصال و الانفصال المتكررين» «2». فإذا كانت الراء هي عبارة عن تتابع طرقات طرف اللسان علي اللثة تتابعا سريعا «3»، و هي طرقات تتضمن قفلا لمجري الهواء و إن كان سريعا جدا، تعتبر حرفا شبيها بالحركات، فإن اعتبار جميع الحروف الرخوة شبيهة بالحركات يعد أمرا مقبولا حينئذ و هو ما لا يقول به أحد.
إننا لا نجد في مذهب علماء العربية و علماء التجويد في تقسيم الحروف إلي: شديدة و رخوة و متوسطة ما يحمل علي القول بأن عملهم هذا غير دقيق، لا سيما أن علماء الأصوات المحدثين يقرون ذلك التقسيم و يعدونه صحيحا. و ما كان يمنع هذا المعترض من قبول هذا التقسيم علي اعتبار أن المتوسطة قسم ثالث يخالف الشديدة و يخالف الرخوة أو (هي من نوع مستقل) كما يقول هو. ثم له أن يقول بعد ذلك هي متوسطة بين الأصوات الصامتة و الحركات. فهذا التقسيم الثلاثي: شديدة و رخوة و متوسطة خاص بالأصوات الجامدة، و هو مبني علي كيفية مرور الهواء في المخرج، و إذا أراد الدارس أن يوازن بين مجموع الأصوات الجامدة و بين الأصوات الذائبة فلا شك أنه سيجد بعض الأصوات الجامدة تقترب من الأصوات الذائبة في كيفية مرور الهواء في مخارجها، و هنا يكون مقبولا أن نعبر عنها بأنها (أشباه الحركات) أو (أشباه الذوائب). و من غير المقبول أن نعمد إلي مصطلح (المتوسطة) الذي صارت له دلالة محددة في تراث العرب الصوتي و نجرده من تلك الدلالة لنستخدمه في الدلالة علي ما يسمي بأشباه الحركات.
و يلاحظ أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين يتوقفون عند عدّ العين صوتا متوسطا، و نجدهم متحيرين في فهم الأساس الذي اعتمد عليه سيبويه و من تابعه في عد العين كذلك، و من ثم مال بعضهم إلي إخراج العين من الحروف المتوسطة و عدّها صوتا رخوا (احتكاكيا) «4». و صرح آخرون بقبولهم عدّ العين حرفا (1) انظر للتأكد من ذلك: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي هامش (1) ص 101.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 168.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 187.
(4) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 102، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 156، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 302.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 226
متوسطا «1».
و كان محمد المرعشي قد توقف عند هذا الموضوع و قدّم تفسيرا لعد العين حرفا بينيا أي متوسطا. قال: «و يجب أن يتحرز عن حصر صوت العين بالكلية إذا شدد، نحو يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] و يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلي نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13] لئلا يصير من الحروف الشديدة. قال الرضي: ينسل صوت العين قليلا «2». أقول: و لذا عدّ من الحروف البينية» «3». و ما قاله المرعشي صحيح، حسب ما نلاحظ، فإن العين المشددة تكاد تكون صوتا (شديدا) كما في (يدعّ)، و مهما حاول الناطق إجراء النّفس مع العين و تمديد النطق بها، و هذا من خواص الحروف الرخوة، فإنه لن يصل إلي ذلك إلا بمشقة، و علي نحو محدود. بينما يمكن للناطق أن يمد صوته بالحاء ساكنة كانت أو مشددة، و ربما أثرت صفة الجهر علي العين، و ما يصاحب ذلك من اضطراب عمود الهواء بالنغمة المتولدة من اهتزاز الوترين الصوتيين، فاختلف حالها من ثمّ عن حال الحاء.
و حاول الدكتور حسام النعيمي أن يقيم الدليل علي صحة وصف العين بأنها متوسطة من خلال الموازنة بينها و بين الهمزة و الحاء أثناء الوقف، فقال: «و يمكن معرفة ذلك بنطقها في كلمة (ارجع) مثلا و مقارنتها بصوتي الهمزة و الحاء في كلمتي (أرجئ) و (أرجح)، إذ يمكن أن نحس بوقفة الهمزة الأخيرة في (أرجئ) أو شدتها أو انفجارها، كما عبروا، و لا يمكن إجراء الصوت بها، و نحس بسهولة جريان الصوت في حاء (أرجح) الاحتكاكية أو الرخوة. أما عين (ارجع) فيمكن أن يجري النفس بها و لكن ليس بسهولة جريه في الحاء، فهي بين الهمزة الشديدة و الحاء الرخوة، و لذا عبروا عنها أنها بين الشدة و الرخاوة» «4».
و كان الأستاذ أ. شاده قد قال: «و أما الراء و العين فهما من هذا النوع لأن العارض فيهما ليس بمتصل بل هو متفرق» «5». و لعلنا نجد هذه النصوص تفسيرا لقول سيبويه: «و أما العين (1) برجستراسر: التطور النحوي ص 8. و أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه و عندنا. صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 10.
(2) انظر: شرح الشافية 3/ 260.
(3) جهد المقل 58 ظ.
(4) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 317.
(5) علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931 العدد الخامس ص 10.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 227
فبين الرخوة و الشديدة، تصل إلي الترديد فيها لشبهها بالحاء» «1». و تصح بذلك نظرية علماء العربية و علماء التجويد في تقسيم الأصوات إلي: شديدة و رخوة و متوسطة تبعا لكيفية مرور الهواء في المخرج. مع ملاحظة أن المتوسطة تمثل قسما يضم عددا من الأنواع فالنون و الميم أنفية، و اللام جانبية (منحرفة)، و الراء مكررة، و معها العين التي يمكن أن نشتق لها وصفا من عبارة سيبويه السابقة فنقول: و العين مترددة. دون أن يكون من اليسير تقديم تفسير محدد لها، سوي أنها متوسطة بين الشديدة و الرخوة.

(ب) مشكلة الضاد العربية:

أما صوت الضاد فإنه من الأصوات الرخوة عند علماء العربية و علماء التجويد، و هو يخرج عندهم من أول حافة اللسان و ما يليها من الأضراس. و الضاد بهذه الصفات إلي جانب ما و صفوه به من كونه مجهورا مستطيلا مطبقا «2»، يعد صوتا غريبا عند بعض المحدثين لأنه لا يوجد إلا في العربية «3». كما أنه اختفي في النطق، و لم يعد يسمع من الناطقين بالعربية اليوم علي تلك الصفة التي حددها علماء العربية و علماء التجويد. بل صار علي ألسنة بعضهم دالا مفخمة، كما في مصر، و صار علي ألسنة آخرين صوتا لا يختلف عن الظاء في شي‌ء كما في العراق «4».
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لصوت الضاد، فكيف كان إدراك علماء التجويد لمشكلة الضاد، و هل أبدوا فيها رأيا أو سجلوا حولها ملاحظة تعين في تتبع تطور هذا الصوت حتي اختفي شكله القديم و آل إلي صور متعددة؟.
إن مشكلة الضاد قديمة في العربية، فقد ذكر سيبويه من الحروف غير المستحسنة (الضاد الضعيفة) «5». و يبدو أن المشكلة أقدم من ذلك فقد وردت أخبار تشير إلي الخلط بين الضاد (1) الكتاب 4/ 435.
(2) مكي: الرعاية ص 158. و الداني: التحديد 39 و.
(3) برجستراسر: التطور النحوي ص 10.
(4) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 48- 49، و جان كانتينو: دروس ص 87. و هنري فليش:
العربية الفصحي ص 37. و يوسف الخليفة أبو بكر: أصوات القرآن ص 69. و حسام النعيمي الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 306.
(5) الكتاب 4/ 432.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 228
و الظاء ترجع إلي عصر صدر الإسلام «1». و نقل ابن الجزري في كتابه التمهيد: «أن من العرب من يجعل الضاد ظاء مطلقا في جميع كلامهم» «2».
و يمكن للدارس أن يلاحظ اتجاهين في معالجة مشكلة الضاد، الأول يتمثل في العناية بالألفاظ التي تنطق بالضاد و الظاء، و الاشتغال بحصرها و تأليف الرسائل في ذلك، و هي مؤلفات تشبه المعاجم الصغيرة التي تعني بقسم من ألفاظ اللغة، و هذا الاتجاه هو الذي استأثر بجهود اللغويين و النحاة. و تركوا في ذلك مؤلفات كثيرة تهتم بالتمييز الكتابي بين الضاد و الظاء، و لا تتعرض للتمييز النطقي بينهما «3».
و الاتجاه الثاني في معالجة مشكلة الضاد يتمثل بدراسة الخصائص النطقية لصوت الضاد، و الانحرافات التي تلحقه علي ألسنة الناطقين، و توضيح الصورة الصحيحة لنطقه.
و كان لعلماء التجويد القسط الأكبر في هذا المجال، حتي إنهم ألفوا في ذلك المؤلفات المستقلة التي تهتم بنواحي النطق من غير أن تتعرض لحصر الألفاظ التي تكتب بالضاد أو الظاء، و هذه المؤلفات لم تحظ بعناية الباحثين كما حظيت المجموعة الأولي التي حقّق عدد من كتبها، و أحصيت مخطوطاتها «4».
و قد سجل علماء التجويد في كتبهم كثيرا من الظواهر المتعلقة بنطق الضاد عبر قرون كثيرة، فنجد مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) يؤكد في كتابه (الرعاية) علي قضيتين الأولي:
صعوبة نطق الضاد، و الثانية اختلاطها بالظاء. و ذلك حيث يقول: «و الضاد يشبه لفظها لفظ الظاء. لأنها من حروف الإطباق و من الحروف المستعلية، و من الحروف المجهورة. و لو لا اختلاف المخرجين و ما في الضاد من الاستطالة لكان لفظها واحدا، و لم يختلفا في السمع ...
و لا بد له (للقارئ) من التحفظ بلفظ الضاد حيث وقعت، فهو أمر يقصر فيه أكثر من رأيت من (1) ذكر أبو العلاء الهمذاني العطار (التمهيد 99 ظ) أن أعرابيا خلط بين الضاد و الظاء عند عمر بن الخطاب حين نطق (الظبي) بالضاد فاعترض عليه عمر، رضي اللّه عنه.
(2) التمهيد في علم التجويد ص 43.
(3) أحصي الدكتور حاتم الضامن في مقدمة تحقيقه لكتاب (الاعتماد في نظائر الظاء و الضاد- لابن مالك) الكتب المؤلفة في ذلك، حتي بلغت أكثر من أربعين كتابا. (انظر: الاعتماد ص 2- 8، منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي ج 3 مج 31).
(4) انظر أسماء بعض تلك الكتب في المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا البحث رقم (34) من قائمة مصادر علم التجويد.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 229
القراء و الأئمة، لصعوبة من لم يدرب فيها، فلا بد للقارئ المجوّد أن يلفظ بالضاد مفخّمة مستعلية منطبقة مستطيلة، فيظهر صوت خروج الريح عند ضغط حافة اللسان بما يليه من الأضراس عند اللفظ بها. و متي فرط في ذلك أتي بلفظ الظاء أو بلفظ الذال فيكون مبدلا و مغيّرا. و الضاد أصعب الحروف تكلفا في المخرج و أشدها صعوبة علي اللافظ، فمتي لم يتكلف القارئ إخراجها علي حقها أتي بغير لفظها، و أخل بقراءته، و من تكلف ذلك و تمادي عليه صار له التجويد بلفظها عادة و طبعا و سجية» «1».
و قال الداني (ت 444 ه): «و من آكد ما علي القراء أن يخلصوه من حرف الظاء بإخراجه من موضعه، و إيفائه حقه من الاستطالة، و لا سيما فيما يفترق معناه من الكلام، فينبغي أن ينعم بيانه ليتميز بذلك» «2».
و قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «و أكثر القراء اليوم علي إخراج الضاد من مخرج الظاء، و يجب أن تكون العناية بتحقيقها تامة» «3».
و قال ابن وثيق (ت 654 ه): «و قلّ من يحكمها في الناس» «4».
و قال الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه): «و الضاد حرف قوي صعب يعسر بيانه علي كثير من الناس ... و تصحيح نطق الضاد و تجويده لا بد للقارئ منه و لا غني له عنه.
و ذلك متوقف علي ثلاثة أمور: الأول: معرفة مخرجه، و الثاني: معرفة صفاته، و الثالث:
معرفة ما يشبه لفظه بلفظ غيره من الحروف». و وضح المرادي مخرج الضاد و صفاته ثم قال:
«و أما ما يشبه لفظه بلفظ الضاد من الحروف فحرفان، و هو الظاء و اللام، و ذلك لأن الظاء يشارك الضاد في أوصافه المذكورة غير الاستطالة، فلذلك اشتد شبهه به و عسر التمييز بينهما، و احتاج القارئ في ذلك إلي الرياضة التامة، و لكن مخرج الظاء متميز عن مخرج الضاد، لا اتصال بين مخرجيهما، و لو لا اختلاف المخرجين و ما في الضاد من الاستطالة لا تحدا في السمع».
«و اللام يشارك الضاد في المخرج لأن الضاد من أقصي الحافة و اللام من أدني الحافة.
و الضاد حرف مستطيل استطال في مخرجه و امتد صوته حتي اتصل بمخرج اللام، فكذلك شابه (1) الرعاية ص 158- 159، و انظر في المعني نفسه أيضا ص 194.
(2) التحديد 39 ظ.
(3) الموضح 163 و.
(4) كتاب في تجويد القراءة 79 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 230
لفظه لفظ اللام المفخمة، و ربما أخرجه بعض الناس لاما مفخمة، و اللام تشارك الضاد في مخرجه لا في أوصافه، إذ ليس فيها شي‌ء من صفات الضاد المذكورة، إلا أنها بين الرخوة و الشديدة، فتوافقه في شي‌ء من الرخاوة، فهي بعكس الظاء، لأن الظاء تشارك الضاد في أوصافه لا في مخرجه.
إذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الضاد أشد الحروف صعوبة علي اللافظ، فلذلك مال لفظها إلي صوت الظاء تارة و إلي صوت اللام المفخمة تارة لمناسبة هذين الحرفين للضاد» «1».
و قال ابن الجزري (ت 833 ه) في كتاب (النشر): «و الضاد انفرد بالاستطالة، و ليس في الحروف ما يعسر علي اللسان مثله. فإن ألسنة الناس فيه مختلفة. و قلّ من يحسنه، فمنهم من يخرجه ظاء، و منهم من يمزجه بالذال، و منهم من يجعله لاما مفخمة، و منهم من يشمه الزاي. و كل ذلك لا يجوز، و الحديث المشهور علي الألسنة (أنا أفصح من نطق بالضاد) لا أصل له و لا يصح» «2».
و قال ابن الجزري أيضا في كتابه (التمهيد في علم التجويد): «اعلم أن هذا الحرف ليس في الحروف حرف يعسر علي اللسان غيره، و الناس يتفاضلون في النطق به:
فمنهم من يجعله ظاء مطلقا ... و هم أكثر الشاميين و بعض أهل الشرق ...
و منهم من لا يوصلها إلي مخرجها بل يخرجها دونه ممزوجة بالطاء المهملة لا يقدرون علي غير ذلك، و هم أكثر المصريين و بعض أهل الغرب.
و منهم يخرجها لاما مفخمة و هم الزيالع «3»، و من ضاهاهم.
و اعلم أن هذا الحرف خاصة إذا لم يقدر الشخص علي إخراجه من مخرجه بطبعه لا يقدر عليه بكلفة و لا بتعليم «4».
يمكن أن نلخص الأفكار الرئيسية للنصوص السابقة في ما يأتي:
(1) الضاد صوت صعب الأداء، و من ثم أخذت ألسنة الناس تنحرف في نطقه إلي (1) المفيد 108 و، و انظر شرح الواضحة (له) ص 62.
(2) النشر 1/ 219- 220.
(3) زيلع: قرية أو جزيرة في جهة اليمين و أطراف بلاد الحبشة (انظر: ياقوت: معجم البلدان 2/ 966 ط الأوربية ليبزج 1867 م).
(4) التمهيد ص 42- 43.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 231
أصوات أخري، و يبدو أن ذلك ظهر في القرون المتقدمة، حتي وجدنا عبد الوهاب القرطبي يصرح، في القرن الخامس، أن أكثر القراء ينطقونها ظاء. ثم يأتي ابن وثيق بعد قرن من ذلك ليقول: «و قلّ من يحكمها في الناس». ثم يقول ابن الجزري في أواخر القرن الثامن: «ألسنة الناس فيه مختلفة، و قلّ من يحسنه».
(2) لم يتحول الضاد إلي صوت واحد، بل نجد أن الناس نطقوا الضاد علي أشكال مختلفة، و تتلخص في الأصوات الآتية:
أ- الظاء.
ب- اللام المفخمة.
ج- الطاء (الدال المفخمة في النطق المعاصر).
د- مزجها بالذال.
ه- إشمامها الزاي.
و بعد هذه المرحلة تتخذ المناقشات التي تدور حول قضية الضاد اتجاها جديدا، و ذلك حين بدأت تظهر مؤلفات مستقلة في الموضوع، أشرنا إلي بعضها من قبل. و بين أيدينا كتابان من هذه المؤلفات و هما:
1- بغية المرتاد لتصحيح الضاد- لعلي بن محمد المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004 ه).
2- كيفية أداء الضاد- لمحمد المرعشي الملقب ساج‌قلي‌زاده (ت 1150 ه).
و من المناسب هنا تلخيص منهج هذين الكتابين، و تقديم فكرة موجزة عن مادتهما و توضيح فكرة المؤلفين عن نطق الناس للضاد في زمانهما و مدي علاقة ذلك النطق بالضاد العربية القديمة التي وصفها سيبويه.
أما (بغية المرتاد) فإن المقدسي أوضح سبب تأليفه الكتاب و بيّن منهجه فيه و ذلك حين قال في المقدمة بعد الافتتاح: «لما رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلا عن الأوغاد يخرجون عن مقتضي العقل و النقل في النطق بالضاد ... ثم شاع الإنكار منهم علينا في كل ناد بين حاضرة و باد، فأردت مع طلب جمع «1» من الإخوان (1) في النسخة التي نعتمد عليها (مع جمع طلب) و ما أثبته من نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل المرقمة (3/ 19 مخطوطات جامع النبي شيت) ورقة 111 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 232
و إشارة من بعض الأعيان أن أزيل الغين عن عين «1» الرشاد ... و سميته بغية المرتاد لتصحيح الضاد.
و قبل الخوض في المرام لا بد من تقرير الكلام و تحرير المقام، فليعلم أنّ أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالدال المفخمة و الطاء المهملة، و ينكرون علي من ينطقون بها قريبة من الظاء المعجمة بحيث يتوهم بعضهم أنها هي، و ليس كما توهمه. فنقول:
الكلام في إثبات ما أنكروه منحصر في مقدمة فيما يجب أن نقدمه، و فصلين محيطين من الدلائل بنوعين، و خاتمة لتنبيهات و دفع تمويهات» «2».
أما المقدمة فهي في بيان مخرج الضاد و ما لها من الصفات.
و أما الفصل الأول فذكر فيه ما يدل بالمعقول علي أن اللفظ بالضاد كالظاء المعجمة هو المقبول، و هي أدلة متعددة لاحت له بالنظر في المعقول. فذكر اثني عشر دليلا، تعطي مثالا للبحث الصوتي الأصيل، و من ثم رأيت من المفيد نقل زبد تلك الأدلة مختصرة مع المحافظة علي عبارة المؤلف «3».
«الأول: إن علماء هذا الفن و غيرهم تعرضوا للفرق بينهما و بينوا الألفاظ التي تقرأ بالظاء و التي تقرأ بالضاد في مؤلفات مستقلة و غير مستقلة نظما و نثرا ... فيا ليت شعري لو لا التشابه بينهما لفظا و الالتباس حتي خفي الفرق بينهما علي كثير من الناس لم كان هذا الجمّ الغفير يتعبون القلم و يسودون القرطاس؟!.
الثاني: إن الضاد ليست في لغة الترك بل مخصوصة باللغة العربية ... دل عليه قول الأستاذ أبي حيان في كتاب له في اللغة التركية ... إذا علم ذلك فليس مفقودا في لغة الترك إلا الضاد الشبيه بالظاء المعجمة. أما هذا الحرف الذي يشبه الدال المفخمة و الطاء المهملة، الذي ينطق به أكثر المصريين و لنسمّه «4» بالضاد الطائية «5» فموجود في لغة الترك في أكثر ألفاظهم، كما يشهد به العارف في لغتهم بل السامع لكلامهم، و الموجود غير المفقود، و بذلك يتم (1) في النسخة التي نعتمد عليها (الغبن من غير) و ما أثبته من نسخة مكتبة الأوقاف في الموصل المرقمة 3/ 9 مخطوطات جامع النبي شيت) ورقة 111 ظ، و ذلك لأنه أوضح معني.
(2) بغية المرتاد 1 ظ- 2 ظ.
(3) بغية المرتاد 3 ظ- 6 ظ.
(4) في الأصل (و لنسميه).
(5) (الطائية) نسبة إلي حرف الطاء، لا إلي قبيلة طيّئ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 233
المقصود.
الثالث: أن الفقهاء ذكروا أحكام من يبدل الضاد ظاء ... و لم يتعرضوا لأحكام من يبدلها بحرف غير الظاء، كما تعرضوا لأحكام من يبدلها به، فلو لا التشابه بينهما لما كانوا يفعلون ذلك ...
الرابع: أن بعض العلماء وصفها بالتفشي، و لا تفشي فيه ...
الخامس: أنهم ذكروا أن من صفاتها النفخ. و يشاركها فيه الظاء و الذال و الزاي «1». و لا يتحقق ذلك إلا بالضاد الشبيهة بالظاء. أما الضاد الطائية فلا توجد فيها هذه الصفة كما يشهد به من أحاط بالمقدمة «2» معرفة ...
السادس: أنهم ذكروا من صفاتها الاستطالة، كما مر ذكرها و معناها (في المقدمة)، و هي المميزة لها عن الظاء، و لا يوجد في الضاد الطائية الاستطالة.
السابع: أنهم ذكروا من صفاتها الرخاوة، و هذا شديد، الدلالة عند من ليس عنده غباوة، فإنه لا رخاوة فيها إلا إذا أتت شبيهة بالظاء. أما الضاد الطائية فمشوبة بالدال و الطاء المهملة، و كل منهما حرف شديد فكذا ما هو بينهما، بل من عرف معني الشدة و الرخاوة و قدمناهما في المقدمة يجد هذا الحرف متصفا بالشدة قطعا، مع قطع النظر عن الدال و الطاء.
الثامن: أن هذا الحرف صعب علي اللسان، نص علي ذلك علماء هذا الشأن ... فإذا كانت الضاد العربية بهذه المرتبة من الصعوبة، و أنت تري أن لا صعوبة في الضاد الطائية بل هي في غاية (السهولة) «3» علي اللسان، يستوي في النطق العالم و الجاهل، و الفارس في هذا العلم و الراجل، فإنك تعلم بأن الضاد الطائية بعيدة عن الضاد العربية بمراحل.
التاسع: إن المخرج المنصوص عليه للضاد في الكتب المعروفة المتداولة ليس إلا للضاد الشبيهة بالظاء المعجمة لا للطائية، فإنهم قالوا في معرفة مخرج الحرف أن تسكّنه و تدخل عليه همزة، و تنظر أين ينتهي الصوت، فحيث انتهي فثم مخرجه، مثلا نقول (اب) فتجد الشفتين قد أطبقت إحداهما علي الأخري، و هو مخرج الباء، و أنت إذا نطقت بالضاد الطائية و فعلت ما تقدم ذكره لا تجد الصوت ينتهي إلا إلي طرف اللسان و أعلي الحنك، و هو (1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 174.
(2) يقصد مقدمة كتابه (بغية المرتاد) التي وضح فيها مخرج الضاد و صفاتها.
(3) في الأصل (الصعوبة). و في نسخة مكتبة الأوقاف في الموصل (السهولة) و هو الذي يناسب السياق.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 234
مخرج الدال و الطاء و التاء. و لم نر أن أحدا ذكر أن مخرج الضاد من هذا المحل، بل ما ذكرناه لها من المخرج مذكور في كتب لا تحصي في علم القراءات و علم النحو ...
فإن قيل: نحن نروي هذه الضاد الطائية بالمشافهة عن الشيوخ الراوين عن شيوخهم بالإسناد المتصل بأئمة القراء البالغ إلي النبي- صلّي اللّه عليه و سلّم- قلنا: لا عبرة بالرواية المخالفة للدراية، إذ شرط قبول القراءة أن توافق العربية، و قد بينا مخالفتها لما تواتر في كتب العربية و القراءات ...
العاشر: أن من أوصافها (الشجرية) لقّبها بها صاحب القدر الجليل إمام النحو الخليل «1». و لا يتأتي ذلك إلا إذا كانت شبيهة بالظاء، فإن الضاد الطائية تخرج من طرف اللسان لا من شجر الفم ...
الحادي عشر: قولهم في صفة الإطباق: و لو لا الإطباق لصارت دالا، و الصاد سينا، و الظاء ذالا، و لخرجت الضاد من الكلام، إذ لا يخرج من موضعها غيرها. و هذا نص كلام الأستاذ أبي حيان في شرح التسهيل، و مثله في شرح المفصل لابن يعيش «2». و هذا كما تري يخص الضاد الشبيهة بالظاء، أما الطائية فتخرج من مخارج الحروف النطعية، كما يشهد به الحس و القاعدة المعروفة في معرفة مخرج الحرف، فلو كانت الطائية عربية لو صفت بالنطعية، كما وصفت أخواتها، و لقالوا: لو لا الإطباق لصارت الضاد دالا، بدل قولهم لخرجت من الكلام، كما لا يخفي عن ذوي الأفهام.
الثاني عشر: أن أهل مكة التي هي منشأ النبي- صلّي اللّه عليه و سلّم- الذي هو سيد العرب، و ما والاها من بلاد الحجاز التي هي محل العرب و موطنهم إنما ينطقون بالضاد شبيهة بالظاء المعجمة، و لا يسمع من أحد منهم هذه الطائية، و هم نعم المقتدي لمن رام في هذا السبيل الاهتداء».
ثم «الفصل الثاني: فيما يدل بالتصريح علي أن التلفظ بالضاد شبيهة بالظاء هو الصحيح، و هو المنقول من كلام العلماء الفحول المتلقي كلامهم بالقبول» «3». و قد أورد المؤلف في هذا الفصل اثني عشر نصا، عن كبار علماء العربية و التجويد، و هذه النصوص (1) انظر: العين 1/ 58.
(2) شرح المفصل 10/ 129 و لم نتمكن من الاطلاع علي مخطوطة كتاب شرح التسهيل لأبي حيان، و أصل القول لسيبويه في الكتاب 4/ 436.
(3) بغية المرتاد 6 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 235
مهمة لأنها منقولة عن كتب بعضها مفقود و بعضها لا يزال مخطوطا، و لكني أعرضت عن تقصيها خشية الابتعاد عن أصل الموضوع.
«و أما الخاتمة ففيها تنبيهات رافعة لتمويهات. الأول: أنه ليس مرادي بكون الضاد شبيهة بالظاء و قريبة منها كونها ممزوجة بها غاية الامتزاج، بحيث يخفي الفرق بينهما علي المجيد لفن التجويد ...» «1». ثم ذكر في الثاني الرد علي قول من فسر (الشجر) بمجمع اللحيين عند العنفقة، و رجح التفسير المنقول عن الخليل للشجر بأنه مفرج الفم «2». ثم ذكر في الثالث: الرد علي قول من فسر صعوبة الضاد العربية بصعوبتها علي العجم و الترك و نحوهم ممن سوي العرب، أما علي أمثاله من العرب فلا صعوبة فيها.
و ختم هذه التنبيهات بقوله: «إن من ينطق بالضاد من مخرجها الخالص مع صفاتها المميزة لها حتي عن الظاء فهو في أعلي مراتب النطق بها و من الفصاحة. و دونه من ينطق بها من مخرجها مشوبة بالظاء لكن من مخرجها و بينهما نوع فرق. و دونه من ينطق بها ظاء خالصة، و من يشمّها الذال، و من يشمها الزاي، و من يجعلها لاما مفخمة، و كذا من ينطق بالضاد طائية، فهو من أسفل مراتب النطقية بالنسبة إلي من سبق ذكره ...» «3». و ختم المؤلف الكتاب بنبذة من أقوال الفقهاء في صلاة من يبدل حرف الضاد. و قد استغرق الكتاب عشر ورقات في نسخة مكتبة المتحف ببغداد «4».
يحتل هذا الكتاب مكانة خاصة في بحث مشكلة الضاد، فعمر هذا الكتاب اليوم أكثر من أربعمائة سنة، و يتميز أسلوبه بالبعد عن الجدل المنطقي و اعتماد أسلوب النقاش العلمي، مع تعمق في فهم الظواهر الصوتية المتعلقة بالضاد، و يلزم التوكيد علي بعض القضايا التي وردت في الكتاب مثل:
(1) سجّل المؤلف النطق الشائع في عصره لصوت الضاد، فأهل مصر ينطقون بها دالا مفخمة ممزوجة بالطاء، و سماها المؤلف الضاد الطائية، و أهل مكة و الحجاز ينطقون بالضاد شبيهة بالظاء. و يفهم من كلام المؤلف أنه لا يزال هناك من ينطق بالضاد العربية في زمانه. (1) بغية المرتاد 7 ظ- 8 و.
(2) انظر: العين 1/ 58.
(3) بغية المرتاد 9 و- 9 ظ.
(4) رقمها في المكتبة (11068/ 7).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 236
(2) حدد المؤلف مخرج و صفات الضاد الطائية التي ينطق بها أهل مصر (راجع الدليل 9 و 11). فقد أدرك أنها من مخرج الطاء و الدال و التاء، و أدرك أنها الصوت المطبق المقابل للدال، حيث قال: «و لقالوا: لو لا الإطباق لصارت الضاد دالا».
و لا يتضح من كلام المؤلف صفة الطاء في زمانه، فهو من جانب يسمي ضاد المصريين بالضاد الطائية. و هو من جانب آخر يقول: «لو لا الإطباق لصارت الضاد دالا» يعني ضاد المصريين. و هو أمر قد يشير إلي أن الطاء في زمانه فقدت صفة الجهر و صارت تمثل الصوت المطبق المقابل للتاء. و إلا فمن غير المعقول أن يتطابق صوت الطاء و الضاد في نطق أهل مصر في زمن المؤلف. و ذلك لأن الضاد الجديدة تمثل صوت الطاء العربية القديمة، التي تركت موقعها لتحل في محل الصوت المطبق للتاء الذي كان مفقودا في العربية. و يمكن الرجوع إلي حديثنا السابق عن موضوع وصف الطاء بالجهر، و النظر في الجدولين اللذين أثبتناهما هناك، و هما يمثلان النطق القديم و النطق الحديث لصوتي الطاء و الضاد، و ينطبقان علي الموضوع الذي نتحدث عنه هنا تماما.
و الواقع أن كلام المحدثين عن العلاقة الصوتية بين الضاد و الطاء لم يتجاوز ما قرره المقدسي في كتابه (بغية المرتاد) إلا ما يدخل في باب زيادة التوضيح و التفسير للقضايا الأساسية في الموضع «1».
أما كتاب محمد المرعشي (كيفية أداء الضاد) فإنه يأتي بعد تأليف كتاب المقدسي بمائة و خمسين سنة تقريبا، إذا أخذنا تاريخ وفاة المؤلفين بنظر الاعتبار. و هو أصغر حجما، إذ لا يتجاوز أربع ورقات «2». و جاءت مادته مؤكدة لاتجاهات كتاب (بغية المرتاد) للمقدسي، و ذلك بالنص علي أن نطق الضاد شبيهة بالطاء لا يمثل صوت الضاد العربية القديمة التي وصفها العلماء في كتبهم. و أن نطق الضاد شبيه بالظاء أقرب إلي النطق الصحيح من نطقها شبيهة بالطاء.
و تتكون الرسالة من مقدمة و مقصد و خاتمة. أما المقدمة فهي في توضيح صفات الضاد الصوتية و بيان علاقتها ببعض الأصوات: «و أما المقصد فهو أن ما شاع في أكثر الأقطار من (1) وازن بين كلام المؤلف و بين ما قاله الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه الأصوات اللغوية ص 63- 64 و الدكتور كمال محمد بشر في كتابه علم اللغة العام: قسم الأصوات ص 131 و 134.
(2) يتكون بالضبط من سبع صفحات حسب مخطوطة مكتبة المتحف ببغداد المرقمة (11068/ 6).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 237
تلفظ الضاد المعجمة كالطاء المهملة في السمع بسبب إعطائها شدة و إطباقا أقوي كإطباق الطاء و تفخيما بالغا كتفخيمها خطأ بوجوه» «1». ثم ذكر سبعة وجوه تتعلق بصفات الضاد القديمة، و ما يؤدي إليه نطقها طاء من الإخلال بتلك الصفات.
و قال المرعشي بعد ذلك: «إنّ جعل الضاد المعجمة طاء مهملة مطلقا أعني في المخرج و الصفات لحن جلي و خطأ محض و كذا جعلها ظاء مطلقا، لكن بعض الفقهاء قال بعدم فساد صلاة «2» من جعلها ظاء معجمة مطلقا لتعسر التمييز بينهما، فهو أهون الخطأين» «3».
أما الخاتمة ففي دفع ما عسي أن يورد علي المقصد، ناقش فيها العلاقة بين الضاد و الظاء و الطاء من حيث الجهر و الإطباق و الاستعلاء، و قال: «و بالجملة إن الضاد أشبه بالظاء المعجمة». و بحث في الخاتمة موضوعات أخري مثل إجابته علي هذا السؤال «فإن قلت:
فكيف شاع التقصير في أكثر الأقطار؟ قلت: أ لم تسمع ما قاله صاحب الرعاية: التحفظ بلفظ الضاد المعجمة أمر يقصر فيه أكثر من رأيت ... و ذلك في تاريخ أربعمائة و عشرين، و زماننا هذا أحق بالتقصير، فلعل غلط المصريين قد شاع ...» «4».
و لم يكتف المرعشي بما أورده في رسالته عن موضوع الضاد، فعاد إلي مناقشته مرة أخري في كتابه (جهد المقل) و لا نعلم مقدار ما أضافه إلي الموضوع في كتابه (بيان جهد المقل) لأن نسخته المخطوطة المحفوظة في مكتبة المتحف ببغداد ناقصة، و لم نحصل علي غيرها.
و قد ناقش المرعشي موضوع الضاد في المقالة الثانية من المقالتين اللتين ختم بهما بحث الصفات في كتابه (جهد المقل)، فقد بحث في تلك المقالة بيان الفرق بين بعض الحروف المتشابهة مثل (ط د ت) و (ص س ز) ثم (ض ظ ذ)، و ختم هذه المقالة بفصلين و خاتمة، بحث في الفصل الأول العلاقة بين الضاد و الطاء، و في الفصل الثاني وضح حقيقة الضاد الضعيفة. و بحث في الخاتمة درجات الإطباق و التفخيم في (ض ط ظ).
قال المرعشي في الفصل الأول: «ليس بين الضاد المعجمة و الطاء المهملة تشابه في (1) كيفية أداء الضاد 2 و.
(2) (صلاة) ساقطة من الأصل، و هي ضرورية لإقامة النص.
(3) كيفية أداء الضاد 2 ظ.
(4) المصدر نفسه 3 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 238
السمع ... فما اشتهر في زماننا هذا من قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فهو عجب لا يعرف له سبب» «1». و قال: «قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فيها مفاسد:
الأول: أنه يلزم إعطاء الشدة للضاد، مع أنه رخو.
و الثاني: أن الاستطالة امتداد الصوت فتفوت حينئذ.
و الثالث: أن في الضاد تفشيا قليلا فيفوت حينئذ أيضا» «2».
و قال المرعشي في آخر الخاتمة موضحا تصوره لصفات الضاد العربية الأصلية: «فإن لفظت بالضاد بأن جعلت مخرجها حافة اللسان مع ما يليها من الأضراس، بدون إكمال حصر الصوت، و أعطيت لها الإطباق و التفخيم الوسطين، و الرخاوة و الجهر و الاستطالة و التفشي القليل، فهذا هو الحق المؤيد بكلمات الأئمة في كتبهم، و يشبه صوتها حينئذ صوت الظاء المعجمة بالضرورة، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال. و لإشكال أمر الضاد أطنبت في الكلام، و قد أفردت لها رسالة» «3».
أما الضاد الضعيفة فهي نوع من أنواع الضاد التي لم تستوف صفات الضاد العربية كاملة.
و كان سيبويه أول من تحدث عن هذه الضاد، و ذلك حيث قال: «و هذه الحروف التي تممتها اثنين و أربعين جيدها و رديئها أصلها التسعة و العشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة. إلا أن (الضاد الضعيفة) تتكلف من الجانب الأيمن، و إن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر و هو أخف، لأنها من حافة اللسان مطبقة، لأنك جمعت في الضاد تكلف الإطباق مع إزالته عن موضعه. و إنما جاز هذا فيها لأنك تحولها من اليسار إلي الموضع الذي في اليمين. و هي أخف لأنها من حافة اللسان، و أنها تخالط مخرج غيرها بعد خروجها، فتستطيل حيث تخالط حروف اللسان، فسهل تحويلها إلي الأيسر لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلي مثل ما كانت في الأيمن، ثم تنسل من الأيسر حتي تتصل بحروف اللسان، كما كانت كذلك في الأيمن» «4».
و تحدث السيرافي عن الضاد الضعيفة، حيث يقول: «و أما الضاد الضعيفة فإنها في لغة قوم ليس في لغتهم ضاد، فإذا احتاجوا إلي التكلم بها في العربية اعتاصت عليهم فربما (1) جهد المقل 20 ظ.
(2) جهد المقل 21 و.
(3) جهد المقل 21 ظ. و هو يشير هنا إلي رسالته (كيفية أداء الضاد).
(4) الكتاب 4/ 432.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 239
أخرجوها ظاء «1»، لإخراجهم إياها من طرف اللسان و أطراف الثنايا، و ربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم يتأت لهم، فخرجت بين الضاد و الظاء. و في كتاب أبي بكر مبرمان:
الضاد الضعيفة: يقولون في (اثرد له): (اضرد له)، يقربون الثاء من الضاد» «2».
و ناقش أبو حيان الأندلسي قضية الضاد الضعيفة في كتابه (ارتشاف الضرب). فقال و هو يتحدث عن الحروف الفرعية المستقبحة: «و ضاد ضعيفة، قال الفارسي: إذا قلت: ضربه، و لم تشبع مخرجها و لا اعتمدت عليه و لكن تخفف و تختلس فيضعف إطباقها.
و قال ابن خروف: هي المحرفة من مخرجها يمينا و شمالا، كما ذكر سيبويه.
و قال مبرمان: يقربون الثاء من الضاد، و ذلك في لغة قوم ليس في أصل حروفهم الضاد، فإذا تكلفوها ضعف نطقهم بها، و كذا قال ابن عصفور «3»، و مثّل بقوله في اثرد ذلك: اضرد ذلك.
و في تفسير الضاد الضعيفة بهذا، و في تمثيله نظر، و الذي يظهر أن الضاد الضعيفة هي التي تقرب من الثاء عكس ما قال مبرمان و ابن عصفور. فنقول في اضرب زيدا: اثرب زيدا بين الضاد و الثاء» «4».
فالضاد الضعيفة إذن هي الضاد التي لم تستوف صفات الضاد العربية التي وصفها سيبويه، و يبدو أن هذا المصطلح (الضاد الضعيفة) لم يعد يطلق علي صوت محدد، فإذا كان سيبويه قد أطلقه علي صوت محدد فإننا نجد العلماء بعده يستخدمونه للإشارة إلي أكثر من صوت، و ذلك علي حسب ما تؤول إليه الضاد، سواء كان ذلك الصوت ظاء، أو بين الضاد و الظاء، أو بين الضاد و الثاء.
و خلاصة القول في موضوع الضاد هي أن الضاد العربية القديمة التي وصفها سيبويه بأنها من أول حافة اللسان و ما يليها من الأضراس، رخوة مجهورة مطبقة، لم تعد تنطق منذ أمد بعيد، و أنها آلت منذ قرون إلي عدة أشكال، كل شكل يستخدم في جهة من جهات البلدان التي (1) في شرح المفصل (10/ 127) لابن يعيش (طاء) بالمهملة، و هو تصحيف.
(2) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 155 ظ، و الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 256 و هذا النص موجود في شرح سيبويه للسيرافي 6/ 449 لكنه كثير التصحيف فأثبته من المصادر الأخري.
(3) انظر: ابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 666.
(4) ارتشاف الضرب ص 4.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 240
تتكلم العربية. و إن أشهر تلك الأشكال نطق الضاد ظاء كما في العراق، و نطقها دالا مفخمة كما في مصر «1»، و إن هذه الدال المفخمة تمثل الطاء العربية القديمة المجهورة، التي صارت منذ أمد مهموسة (تاء مطبقة). فخرجت من اللغة العربية إذن الضاد القديمة، و دخلت الطاء الحديثة. و انتقلت الطاء القديمة لتمثل نطق الضاد في بعض البلاد العربية. و قد كان علماء التجويد مدركين بشكل عام لهذا التطور الذي تشير إليه النصوص المدونة في الكتب و يشهد له واقع الاستخدام اللغوي اليوم. و يمكن أن يثار هاهنا سؤال عن أسباب هذا التحول الفريد في أصوات اللغة العربية، و لكننا لا نملك وسائل الإجابة عن هذا السؤال الآن.

(ج) قضية الجيم:

وصف علماء العربية و علماء التجويد الجيم بأنه صوت شديد مجهور، يخرج من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك الأعلي «2». و نحن نعتقد أن هذا الوصف صحيح في جملته، و لا يزال ينطبق علي الجيم التي ينطقها مجيد و قراءة القرآن الكريم و من يتابعهم في نطقها.
و كان ابن الجزري (ت 833 ه) قد بيّن الصور السائدة لنطق الجيم في زمانه، التي كانت تسمع من متكلمي العربية، و حدد الجيم الفصيحة التي ينبغي أن يلتزم القارئ بها في نطقه، و ذلك حيث قال: «و الجيم يجب أن يتحفّظ بإخراجها من مخرجها، فربما خرجت من دون مخرجها، فينتشر بها اللسان، فتصير ممزوجة بالشين، كما يفعله كثير من أهل الشام و مصر.
و ربما نبا بها اللسان فأخرجها ممزوجة بالكاف كما يفعله بعض الناس، و هو موجود كثيرا في بوادي اليمن» «3».
و ابن الجزري يريد بقوله (ممزوجة بالشين) الشين المجهورة، و هي التي تنطق في بلاد الشام في زماننا كما كانت تنطق في زمن ابن الجزري، و كذلك يريد بقوله (ممزوجة بالكاف) الكاف المجهورة التي تنطق في مصر و تعرف بالجيم القاهرية. و لا يزال هذا الوصف لنطق الجيم ينطبق علي نطقها في عصرنا «4».
و لم نكن نريد أن نخص الجيم بكلمة مستقلة لو لا أن بعض دارسي الأصوات العربية (1) انظر: جان كانتينو: دروس ص 87.
(2) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 433، و الداني: التحديد 28 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 160 ظ.
(3) النشر 1/ 217.
(4) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 165، و جان كانتينو: دروس ص 89.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 241
المحدثين أثار قضية (الصوت المركب) الذي يجمع بين الشدة و الرخاوة في نطقه، و جعل الجيم العربية الفصيحة مثالا له. فقد لوحظ أن انفصال وسط اللسان عن الحنك الأعلي في أثناء النطق بهذا الصوت لا يحدث فجأة كما في نطق الأصوات الشديدة، بل يتم الانفصال ببطء، فيعطي الفرصة للنّفس بعد الانفجار ليحتك بالعضوين المتباعدين احتكاكا شبيها بما يحدث أثناء النطق بالجيم الشامية، و من ثم سمي مركبا «1».
و عدل بعض المحدثين عن استخدام مصطلح الصوت المركب، و سمي الجيم صوتا قليل الشدة، و ذلك حيث يقول: «فإذا انفصل العضوان انفصالا بطيئا سمع صوت يكاد يكون انفجاريا، هو الجيم العربية الفصيحة. فانفصال العضوين هنا أبطأ قليلا منه في حالة الأصوات الشديدة الأخري، و لهذا يمكن أن تسمي الجيم العربية الفصيحة صوتا قليل الشدة» «2».
و ذهب بعض المحدثين إلي أن إنتاج صوت كامل الشدة (الانفجار) بين وسط اللسان و ما يقابله من سقف الحنك أمر صعب، إذ لا بد أن يلحق ذلك الصوت أثارة من رخاوة، و المتوقع أن تكون تلك اللاحقة الصوتية بعد حدوث الانفجار كما يشهد الحس لذلك، و هو ما ذهب إليه جمع من المحدثين «3». لكن ذهب بعضهم إلي عكس ذلك، و هو أمر لا نجد له من واقع النطق أو أقوال العلماء ما يؤيده. و إن كان موقفه يفسر لنا عدّ المتقدمين للجيم العربية الفصيحة صوتا شديدا (انفجاريا)، يقول: «و أنت إذا حاولت أن تنتج صوتا انفجاريا من منطقة الغار (أي الحنك الصلب أو وسط الحنك) سواء كان مهموسا أو مجهورا، ستسمع صويتا آخر يسبقه مما يجعلك تسمع الصوت مركبا. و التركيب هنا ليس مقصودا، و إنما ينتج بصورة آلية حين يحاول المرء قفل المجري بإحكام في هذه المنطقة ثم تفجيره ... فالقدماء حين نظروا إلي قفل المجري عدوا الصوت انفجاريا. و المحدثون حين نظروا إلي الصويت الذي يسبق النطق عدوا الصوت مركبا».
«و هذا التفسير يؤدي بنا إلي أن نلغي ما يسمي بالصوت المركب في اللغة العربية، و يجعلنا ننظر إلي الجيم الفصحي القديمة و الحديثة علي أنها المقابل الانفجاري المجهور (1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 182، و تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 103- 104، و كمال محمد بشر: الأصوات 160- 161.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 79.
(3) محمود السعران: علم اللغة 182، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 160، و عبد الصبور شاهين:
التطور اللغوي ص 216.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 242
للشين ... فعندنا إذن ثلاثة أنواع من الأصوات يمكن أن تسمي:
(أ) الشين الاحتكاكية المهموسة.
(ب) الشين الانفجارية المهموسة.
(ج) الشين الانفجارية المجهورة.
و أولاها هي الشين العادية. و ثانيتها هي التي تظهر في الكشكشة، و ثالثتها هي الجيم الفصحي» «1».
و لدينا ثلاث ملاحظات علي هذا النص هي:
الأولي: يبدو أن الذي يناسب التحديد الذي قدمه علماء الأصوات المحدثون للجيم حين قالوا أنها صوت مركب هو أن تستبدل كلمة (يسبقه) و (يسبق) الواردة في النص بكلمة (يتبعه) و (يتبع). ففي حدود الكلام عن الجيم العربية الفصيحة نجد أن الصويت الاحتكاكي الذي يحدث في أثناء نطق الجيم يتبع الانفجار و ليس يسبقه.
الثانية: ما ورد في النص من قوله: (فعندنا ثلاثة أنواع من الأصوات) كان ينبغي أن يقال (أربعة أنواع) و يضاف إلي الثلاثة (الشين الاحتكاكية المجهورة) و هي الجيم الشامية.
الثالثة: أجد أن التعبير الأكثر وضوحا عن الأصوات الثلاثة المذكورة في النص، و الصوت الرابع المشار إليه في الملاحظة السابقة هو:
1- الشين الاحتكاكية المهموسة (الشين العربية).
2- الشين الاحتكاكية المجهورة (الجيم الشامية).
3- الجيم الانفجارية المجهورة (الجيم العربية الفصيحة).
4- الجيم الانفجارية المهموسة (صوت الكشكشة) «2» الذي لا يزال يستخدم في العربية الدارجة في العراق بدل كاف التأنيث، و بدل الكاف في بعض الكلمات، مثل (كان) في نطق بعض النواحي القروية، و يستخدم للتعبير عنه رمز الجيم المنقوطة من أسفل ثلاثا: (ج). (1) أحمد مختار عمر: داسة الصوت اللغوي ص 291- 292.
(2) هناك جدل بين علماء الأصوات في تفسير صوت الكشكشة، فذهب بعضهم إلي أنه إلحاق شين خالصة بكاف المؤنثة (كش). و ذهب بعضهم إلي أنه إبدال مهموس الجيم الفصيحة (ج) بصوت الكاف (انظر التفصيل: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 147- 151).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 243
و صرح أحد علماء الأصوات الأوربيين المعاصرين بقوله: (و لعل من المهم هنا أن نشير إلي أن عددا من علماء الأصوات يرفضون الاعتراف بالطبيعة المركبة للأصوات المرموز إليها في الإنكليزية ب HC أو j و يفضلون أن ينظروا إليها باعتبارها المقابل الانفجاري للغاري الاحتكاكي المرموز إليه في الإنكليزية ب SH و S في erusaeM» «1». و الرموز اللاتينية في هذا النص تمثل الأصوات الأربعة المذكورة في الفقرة السابقة علي هذا النحو hC رقم 4، J رقم 3، hS رقم 1، S رقم 2.
و إذا كان الأمر كذلك فلا يعد إهمال علماء العربية و علماء التجويد الإشارة إلي الطبيعة المركبة لصوت الجيم أمرا خطيرا و لا نقصا كبيرا، ما دام عدد كبير من علماء الأصوات المحدثين يرفضون الاعتراف بالطبيعة المركبة لذلك الصوت، و ما دام بعضهم يميل إلي إلغاء ما يسمي بالصوت المركب.
و من ثم فلا داعي إذن لكدّ الذهن في اختراع التفسيرات لوصف علماء العربية و علماء التجويد للجيم بأنه صوت شديد، كما فعل بعض المحدثين حتي ذهب إلي حد ترجيح أن يكونوا وصفوا صوتا آخر هو الجيم القاهرية التي تخرج من أقصي الحنك، و هي النظير المجهور لصوت الكاف العربية، و استراح إلي هذا التفسير باعتبار أن الجيم القاهرية صوت شديد «2».
و إذا كان هذا الباحث، حين رجح أن يكون علماء العربية وصفوا الجيم القاهرية إذ قالوا أن الجيم صوت شديد، قد حلّ عقدة الصوت المركب التي يذهب إليها في وصف الجيم العربية الفصيحة، و هو أمر كما لاحظنا موضع جدل بين علماء الأصوات و يمكن التغاضي عنه- فإنه وقع في مشكلة أكبر من جراء ذلك الترجيح، لأن علماء العربية يقررون أن مخرج الجيم من وسط اللسان مع ما يليه من وسط الحنك، لكن الجيم القاهرية، التي يذهب إلي أنهم وصفوها حين تحدثوا عن صوت الجيم، تخرج من أقصي اللسان، من موضع الكاف. و لم يكن علماء العربية و علماء التجويد ليقولوا: أن الجيم تخرج من وسط اللسان و هم يريدون الجيم القاهرية التي تخرج من أقصي اللسان، فهذا الغلط لا يقع فيه المبتدءون بدراسة علم الأصوات، فكيف بعمالقة هذا العلم من علماء العربية و علماء التجويد من أمثال سيبويه (1) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 85.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 162.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 244
و عبد الوهاب القرطبي و محمد المرعشي، و عشرات غيرهم.
و بعد أربع صفحات من النقاش حول الصوت المركب أجهد خلالها هذا الباحث المعاصر نفسه في جمع الأدلة لتدعيم نظريته في أن الجيم القاهرية هي التي وصفها علماء العربية و علماء التجويد في أبحاثهم، عاد في آخر الصفحة الخامسة ليعالج المشكلة التي وقع فيها من جراء نظريته المذكورة، و ذلك من طريق سهل لكنه غير علمي، فقال إن هؤلاء العلماء اختلط عليهم الأمر، ثم يختم كلامه بأربعة أسطر يعود فيها إلي النهج الصحيح، فيهدم كل ما أتي به لترجيح نظريته، اسمع إليه و هو يقول، و نحن مضطرون لا يراد نص كلامه حتي لا يتصوّر أننا نؤول كلامه لنصرفه إلي غير جهته: «و بالرغم من أن وصف علماء العربية للجيم ينطبق أكثر ما ينطبق علي الجيم القصية الانفجارية (الجيم القاهرية) نلاحظ أنهم نسبوها إلي منطقة أخري، هي تلك التي تخرج منها الشين و الياء، و هي (وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك الأعلي). و هذه المنطقة هي في الحقيقة منطقة الجيم القرشية لا الجيم القاهرية.
و يكون معني هذا أن هؤلاء العلماء اختلط عليهم الأمر فنسبوا خواص الصوتين (الجيم القاهرية و الجيم القرشية) إلي صوت واحد، هو ما تكلموا عنه و وصفوه بهذه الطريقة غير الدقيقة».
«علي أنه إذا كان المقصود هو الجيم القرشية حقيقة فيكون نسبتهم لها إلي هذه المنطقة سليما و مقبولا، إذ الجيم القرشية و الشين لثويتان- حنكيتان، أو هما من وسط الحنك فعلا، كما يري بعض الدارسين، و من ثم ضموا الياء إليهما، و هي من وسط الحنك بدون شك» «1».
و لا يعنينا هنا البحث في الأصل القديم للجيم العربية هل هو الجيم القاهرية أو الجيم القرشية (الفصيحة) أو الجيم الشامية «2». لأننا علي يقين كامل من أن الجيم التي كان يستخدمها جمهور العرب وقت نزول القرآن هي الجيم التي ينطقها قراء القرآن و كثير من الناطقين بالعربية اليوم، و هي التي تحدث عنها علماء العربية و علماء التجويد، و وصفوها بأنها صوت شديد انفجاري يخرج من وسط اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلي «3». (1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 165- 166.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية 80- 84، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 162- 165.
(3) يمكن الاطلاع علي مزيد من تفصيلات هذا الموضوع في بحث (قضية الجيم في اللغة العربية) مجلة الأقلام العراقية، العدد الرابع، السنة الثالثة عشرة 1978، ص 182- 187. و هو لكاتب هذا البحث.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 245

3- الإطباق و الانفتاح، و الاستعلاء و الاستفال، و الترقيق و التفخيم:

الإطباق و الانفتاح صفتان متقابلتان، مثل الجهر و الهمس، تميزان بين عدد من الأصوات المتحدة المخرج، و يرجع أساس هذا التقسيم إلي ما ذكره سيبويه في الكتاب، و ذلك حيث قال: و هو يتحدث عن صفات الحروف: «و منها المطبقة و المنفتحة. فأما المطبقة فالصاد و الضاد و الطاء و الظاء. و المنفتحة كل ما سوي ذلك من الحروف، لأنك لا تطبق لشي‌ء منهن لسانك، ترفعه إلي الحنك الأعلي.
و هذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسانك من مواضعهن إلي ما حاذي الحنك الأعلي من اللسان ترفعه إلي الحنك، فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان و الحنك إلي موضع الحروف. و أمّا الدال و الزاي و نحوهما فإنما ينحصر الصوت إذا وضعت لسانك في مواضعهن.
فهذه الأربعة لها موضعان من اللسان. و قد بيّن بحصر الصوت. و لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا، و الصاد سينا، و الظاء ذالا، و لخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس شي‌ء من موضعها غيرها» «1».
و قول سيبويه (و لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا) مبني علي أن الطاء كانت مجهورة في عصره. أما اليوم فإن الذي يطابق النطق السائد للطاء هو القول: (و لو لا الإطباق لصارت الطاء تاء). و كذا الأمر بالنسبة للضاد، فإن سيبويه يتحدث هنا عن الضاد العربية القديمة أما الضاد التي تنطق في زماننا فهي إما النظير المطبق للدال، كما في نطق المصريين، و إما النظير المطبق للذال، أي إنها تماثل الظاء تماما، كما في العراق. و قد فرغنا من الكلام عن هذه القضية من قبل عند الكلام عن الجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة.
و قد زعم جان كانتينو أن تحديد سيبويه للإطباق و الانفتاح الذي تضمنه النص السابق (بعيد عن الوضوح) «2». و هذا رأي مبالغ فيه جدا، فلو أنّا وازنا بين كلام سيبويه عن المطبق و المنفتح و بين قول المحدثين في وصف ما يحدث للسان في أثناء النطق بالصوت المطبق:
«يرتفع طرف اللسان و أقصاه نحو الحنك و يتقعر وسطه «3» لوجدنا أن كلام سيبويه أقرب إلي (1) الكتاب 4/ 436.
(2) دروس ص 36. و انظر: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 318.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47، و محمود السعران: علم اللغة ص 168.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 246
الوضوح. و لا أحسب أن المستشرق الألماني أ. شاده لم يكن جادا حين قال عن كلام سيبويه السابق: «هذا التعريف من الوضوح بحيث يستغني عن التفسير. و ما أصوب قول سيبويه: (إن هذه الأربعة لها موضعان من اللسان)، فإن الناطق بالصاد مثلا لا يكتفي بوضع طرف لسانه علي لثته كما يفعل في السين، و لكن في نفس الوقت يقرّب الجزء الأخير من لسانه إلي ما يحاذيه من الحنك، و إن كان لا يمسه» «1».
و تابع علماء التجويد سيبويه في تعريف الصوت المطبق و الصوت المنفتح، فقال مكي (ت 437 ه): «و إنما سميت بحروف الإطباق لأن طائفة من اللسان تنطبق مع الريح إلي الحنك عند النطق بهذه الحروف، و تنحصر الريح بين اللسان و الحنك الأعلي عند النطق بها مع استعلائها في الفم» «2». و قال: «و إنما سميت بالمنفتحة لأن اللسان لا ينطبق مع الريح إلي الحنك عند النطق بها، و لا تنحصر الريح بين اللسان و الحنك بل ينفتح ما بين اللسان و الحنك» «3».
و قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «و الإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلي الحنك الأعلي مطبقا له، فينحصر الصوت فيما بين اللسان و الحنك إلي مواضعهن ... و الانفتاح لا تطبق ظهر لسانك برفعه إلي الحنك فلا ينحصر الصوت» «4».
و يلاحظ هنا أن سيبويه و علماء التجويد الذين اقتبسنا عنهم النصوص السابقة لم يذكروا بشكل صريح ما ذكره المحدثون من تقعر اللسان عند النطق بهذه الحروف و ذلك باتصال طرف اللسان بمواضعهن مع تصعد أقصي اللسان نحو الحنك، و إنما اكتفوا بالإشارة إلي انطباق ظهر اللسان علي الحنك الأعلي. إلا أن هناك عالمين نصا علي هذه الظاهرة، أحدهما من علماء العربية و الآخر من علماء التجويد. فقد قال الأسترآباذي: «فيصير الحنك كالطبق علي اللسان» «5». و قال المرعشي: إن اللسان يكون (مقوسا) عند النطق بالصوت المطبق «6». و هذا (1) علم الأصوات عند سيبويه و عندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 14.
(2) الرعاية ص 98.
(3) الرعاية ص 98- 99.
(4) الموضح 156 ظ. و انظر: الداني: التحديد 18 و.
(5) شرح الشافية 3/ 262.
(6) بيان جهد المقل 18 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 247
يدل علي إدراكهما حالة التقعر التي يكون عليها اللسان عند النطق بتلك الأصوات الأربعة.
و كان علماء التجويد علي معرفة تامة بدور ظاهرة الإطباق في التمييز بين الأصوات، فرددوا ما قاله سيبويه: «و لو لا الإطباق لصارت الطاء دالا، و الصاد سينا، و الظاء ذالا، و لخرجت الضاد من الكلام» «1». و حاولوا توضيح هذه الظاهرة، مثل قول مكي: «و يجب أن تعلم أن الظاء تشبه في لفظها أيضا الذال. فإذا أزلت لفظ الإطباق من الظاء صارت ذالا، كذلك لو زدت لفظ الإطباق في الذال لصارت ظاء. و إنما كان ذلك كذلك لأن الظاء و الذال من مخرج واحد، و هما مجهوران، و لو لا الإطباق و الاستعلاء اللذان في الظاء لكانت ذالا» «2».
و يلاحظ الدارس أن علماء العربية و علماء التجويد يتحدثون عن صفات صوتية أخري لها صلة وثيقة بظاهرتي الإطباق و الانفتاح، و هي ما عبروا عنه بالاستعلاء و التسفل، و التفخيم و الترقيق. و هذه مصطلحات كانت تستخدم لديهم علي نحو واضح و محدد، كما أنهم أدركوا العلاقة الصوتية بينها.
أما الاستعلاء و التسفل فإن كلام سيبويه عنهما كان مستند الدراسات الصوتية العربية أيضا «3»، لكن كلامه جاء في موضع من كتابه غير باب الإدغام، حتي ظن بعض المحدثين أن سيبويه لم يتحدث عنهما «4». قال سيبويه في (باب ما يمتنع من الإمالة من الألفات التي أملتها فيما مضي): «فالحروف التي تمنعها الإمالة هذه السبعة: الصاد و الضاد و الطاء و الظاء و الغين و القاف و الخاء ... و إنما منعت هذه الحروف الإمالة لأنها حروف مستعلية إلي الحنك الأعلي» «5». ثم قال بعد ذلك: «فكان الانحدار أخفّ عليهم من الاستعلاء من أن يصعدوا من حال التسفل» «6». و استخدام سيبويه في مواضع أخري كلمة (التصعد) مكان كلمة (1) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156 ظ.
(2) الرعاية ص 195. و انظر أيضا ص 175 و 185 و 190.
(3) ذكر الأزهري (تهذيب اللغة 1/ 51) أن الخليل قال: إن الحروف المصمتة تسعة عشر حرفا صحيحا «منها خمسة أحرف مخارجها من الحلق. و هي: ع ح ه خ غ. و منها أربعة عشر حرفا مخارجها من الفم مدرجها علي ظهر اللسان من أصله إلي طرفه، منها خمس شواخص و هي: ط ض ص ظ ق، و تسمي المستعلية، و منها تسعة مختفضة، و هي: ك ج ش ز س د ت ذ ث».
(4) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 319.
(5) الكتاب 4/ 128- 129.
(6) الكتاب 4/ 130.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 248
(الاستعلاء) «1».
و لم يقدم سيبويه تعريفا محددا للاستعلاء و التسفل، لكن علماء العربية الذي جاءوا من بعده استخلصوا من كلامه تعريفا لهما، فقال المبرد (ت 285 ه): «و الحروف المستعلية:
الصاد و الضاد و الطاء و الظاء و الخاء و الغين و القاف. و إنما قيل مستعلية لأنها حروف استعلت إلي الحنك الأعلي، و هي الحروف التي تمنع الإمالة» «2». و قال ابن جني (ت 392 ه):
«و للحروف انقسام آخر إلي الاستعلاء و الانخفاض، فالمستعلية سبعة و هي: ... و ما عدا هذه الحروف فمنخفض. و معني الاستعلاء أن تتصعد في الحنك الأعلي، فأربعة منها فيها مع استعلائها إطباق، و قد ذكرناها. و أما الخاء و الغين و القاف فلا إطباق فيها مع استعلائها» «3».
و استفاد علماء التجويد من كلام علماء العربية عن الحروف المستعلية و المستفلة، و كان بعضهم يستخدم عبارة سيبويه (التسفل) «4»، و بعضهم يستخدم عبارة ابن جني (الانخفاض) «5».
و يكاد موقفهم يتلخص في قول الداني: «و المستعلية سبعة أحرف يجمعها قولك (ضغط خص قظ): الخاء و الغين و القاف و الصاد و الضاد و الطاء و الظاء. سميت مستعلية لأن اللسان يعلو بها إلي جهة الحنك، و لذلك تمنع الإمالة، إلا أنها علي ضربين: منها ما يعلو اللسان به و ينطبق، و هي حروف الإطباق الأربعة، و منها ما يعلو و لا ينطبق و هي ثلاثة: الغين و الخاء و القاف. و المستفلة ما عدا هذه المستعلية، سميت مستفلة لأن اللسان لا يعلو بها إلي جهة الحنك» «6».
و استطاع محمد المرعشي أن يدرك أن الذي يعلو من اللسان إلي جهة الحنك أثناء نطق الأصوات المستعلية هو أقصي اللسان، و ذلك حيث قال: «فالاستعلاء أن يستعلي أقصي اللسان عند النطق بالحرف إلي جهة الحنك الأعلي» «7»، و من ثم علل إخراج الكاف و الجيم و الشين و الياء من الحروف المستعلية، فقال: «إن المعتبر في الاستعلاء في اصطلاحهم (1) الكتاب 4/ 479 و 480.
(2) المقتضب 1/ 225.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 71.
(4) مكي: الرعاية ص 99. و الداني: التحديد 18 ظ.
(5) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 157 و. و انظر: المرعشي: جهد المقل 14 ظ.
(6) التحديد 18 ظ.
(7) جهد المقل 14 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 249
استعلاء أقصي اللسان، سواء استعلي معه بقية اللسان أو لا، و حروف وسط اللسان و هي الجيم و الشين و الياء لا يستعلي بها إلّا وسط اللسان، و الكاف لا يستعلي بها إلا ما بين أقصي اللسان و وسطه، فلم تعد هذه الأربعة من المستعلية، و إن وجد فيها استعلاء اللسان، لأن استعلاءه في هذه الأربعة ليس مثل استعلائه بالحرف المستعلي» «1».
و أضاف بعض العلماء إلي الحروف المستعلية العين و الحاء، كما ورد في قول أحمد بن أبي عمر: «و منهم من ألحق العين و الحاء بالمستعلية من القراء دون النحاة» «2». و ذكر ذلك أيضا أبو شامة في قوله: «و بعضهم ألحق العين و الحاء المهملتين بالحروف المستعلية» «3».
و لكن تعريف الحروف المستعلية لا ينطبق علي العين و الحاء إذ ليس للسان دور في إنتاجها.
و يبدو أن أصل هذا القول يرتبط بمذهب الكسائي في الوقوف علي هاء التأنيث و ما ضارعها في اللفظ بالإمالة، و كان لا يميل إذا وقع قبل الهاء أحد الحروف المانعة للإمالة. قال أبو علي الأهوازي (ت 446 ه): «و الحروف الموانع تسعة: الحاء و الخاء و العين و الغين و الصاد و الضاد و الطاء و الظاء و القاف» «4». و لما كانت جميع حروف الاستعلاء من المانعة للإمالة فربما ألحق بها بعضهم الحاء و العين لمشاركتها حروف الاستعلاء في أنها تمنع الإمالة، و لكن ذلك وحده ليس كافيا لعدّهما من الحروف المستعلية، لأن أقصي اللسان لا يستعلي معهما نحو الحنك، و لعل مشاركة العين و الحاء الحروف المستعلية في منع الإمالة يرجع إلي أن حروف الحلق يناسبها من الحركات الفتحة فلا يسوغ أن ينحي بحركتها إذا كانت فتحة نحو الكسرة، و من ثم منعت الإمالة.
و هناك فرق بين صفة الإطباق و صفة الاستعلاء هو أن الأولي من الصفات المميزة، و أن الثانية من الصفات المحسنة، فعلي الرغم من التشابه و العلاقة بينهما إلي جانب تخصيص مصطلح للصفات المقابلة لهما فإن صفة الإطباق تميز بين الطاء و الظاء و الصاد و بين مشاركاتها في المخرج التاء و الذال و السين، و كذلك الأمر بالنسبة للضاد التي تنطق في مصر اليوم ميزت صفة الإطباق بينها و بين الدال. بينما لا تقوم صفة الاستعلاء بأي دور تمييزي، إنما هي تشير إلي حالة اللسان في أثناء النطق بهذه الأصوات. (1) جهد المقل 14 ظ.
(2) الإيضاح 74 ظ.
(3) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(4) الوجيز 24 ظ. و قد أضاف الداني إليهن الألف (التيسير ص 54).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 250
و هناك مع ذلك تداخل بين حروف الإطباق و حروف الاستعلاء، و هناك صفة مشتركة تجمع بينهما، ترتبت علي الوضع الذي يتخذه اللسان في أثناء النطق بهذه المجموعة من الأصوات و هي صفة التفخيم. قال محمد المرعشي: «و التفخيم في الاصطلاح عبارة عن سمن يدخل علي جسم الحرف فيمتلئ الفم بصداه. و التفخيم و التسمين و التجسيم و التغليظ بمعني واحد. و الترقيق عبارة عن نحول يدخل علي جسم الحرف فلا يمتلئ الفم بصداه. و حروف الاستعلاء كلها مفخمة، و لا يجوز تفخيم شي‌ء من حروف الاستفالة إلا الراء و اللام في بعض أحوالهما. و سيجي‌ء بيان ذلك، و إلا الألف المدية فإنها تابعة لما قبلها ... ثم اعلم أن التفخيم لازم للاستعلاء، فما كان استعلاؤه أبلغ كان تفخيمه أبلغ، فحروف الإطباق أبلغ في التفخيم من باقي حروف الاستعلاء .. و بالجملة إن قدر التفخيم علي قدر الاستعلاء و الإطباق» «1». و يذهب كثير من علماء التجويد إلي اعتبار الترقيق و التفخيم من الأحكام التي تخص الأصوات في حالة التركيب، و لذلك سوف أكتفي هنا بتوضيح العلاقة بين الإطباق و الاستعلاء و التفخيم، و أعود في الفصل القادم إلي تفصيل أحوال الأصوات المفخمة إن شاء اللّه تعالي.
و كان بعض علماء التجويد قد أدركوا التداخل و العلاقة الوثيقة التي تربط الإطباق و الاستعلاء و التفخيم، حتي قال عبد الوهاب القرطبي: «إن التفخيم و الإطباق و الاستعلاء من واد واحد» «2». و كرر مرارا (أن التفخيم نظير الإطباق) «3» و (أن الاستعلاء نظير الإطباق) «4».
و قال عبد الوهاب القرطبي أيضا: «فصار التفخيم في كونه انحصار الصوت بين اللسان و الحنك نظير الاستعلاء و الإطباق، و لهذا أثر الاستعلاء في الإمالة و الترقيق فمنعها لأنه ضد.
و الفرق بين الاستعلاء و الإطباق و بين الترقيق و التفخيم أن الاستعلاء يلزم حروفه فلا يزول عنها و كذلك الإطباق، بخلاف الترقيق و التفخيم فإنهما يتعاقبان علي الراء و اللام كالإمالة و التفخيم في الألف» «5». و يعني عبد الوهاب القرطبي بحروف الترقيق و التفخيم هنا اللام و الراء، أما حروف الاستعلاء فإنها ملازمة للتفخيم. (1) جهد المقل 15 ظ 16 و.
(2) الموضح 180 و.
(3) الموضح 180 ظ، 181 و.
(4) الموضح 182 و.
(5) الموضح 162 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 251
أما المحدثون من دارسي الأصوات العربية فلم يجاوزوا في كلامهم عن الإطباق و الاستعلاء و التفخيم ما قاله علماء التجويد، لا بل إن بعضهم قصر عن بلوغ ما وصل إليه علماء التجويد في وصف تلك الصفات. و كان (جان كانتينو) أكثرهم عناية بالموضوع و لم يكن تأكيده علي الاتصال بين هذه الصفات جديدا، كما أنه لم يأت في أثناء تحليله لهذه الظواهر الصوتية بشي‌ء متميز يستحق أن نطيل الوقوف عنده. و غاية ما يمكن أن نلاحظ في كلامه من عناصر الجدة هو ميله إلي التعبير عن مجموع هذه الصفات بمصطلح واحد هو (التفخيم) «1». و هذا أمر يشاركه فيه بعض الدارسين المحدثين «2».
و ذهب الدكتور إبراهيم أنيس إلي أن الراء و اللام المغلظتين تعتبران من الناحية الصوتية مثل حروف الإطباق، فقال عن اللام: «أما الفرق بين اللام المرققة و المغلظة (يقصد المفخمة) فهو في وضع اللسان مع كل منهما، لأن اللسان مع المغلظة يتخذ شكلا مقعرا، كما هو الحال مع أصوات الإطباق، فالفرق بين اللام المرققة و المغلظة هو نفس الفرق الصوتي بين الدال و الضاد، أو التاء و الطاء، و لكن الرسم العربي لم يرمز إلي اللام المغلظة برمز خاص تختلف باختلافه الكلمة، و لهذا نعد نوعي اللام صوتا واحدا أو فونيما واحدا، و لكن التاء صوت مستقل عن الطاء تختلف الكلمة في معناها مع كل منهما، و لذا يعد كل منهما فونيما مستقلا» «3».
و قال أيضا عن الراء: «و الفرق بين الراء المرققة و المفخمة يشبه الفرق بين اللام المرققة و المغلظة، أي أن الراء المفخمة تعد من الناحية الصوتية أحد أصوات الإطباق، و لكن الرسم العربي لم يرمز لها برمز خاص يتغير بتغيره معني الكلمة. و لهذا نعد كلا النوعين صوتا واحدا أو فونيما واحدا» «4».
و لم يكن الفرق بين هذه الأصوات غائبا عن نظر علماء التجويد فنجد عبد الوهاب القرطبي يعبر عن ذلك بأدق عبارة حيث قال و هو يتحدث عن الراء: «فإن كانت مكسورة رقت، و كان العمل فيها برأس اللسان، و معتمدها أدخل إلي جهة الحلق في الحنك الأعلي يسيرا، و أخذ اللسان من الحنك أقل مما يأخذ مع المفخمة، فينخفض اللسان حينئذ، فلا (1) انظر: دروس ص 36- 37.
(2) مثل الدكتور كمال محمد بشر. انظر: الأصوات ص 129 و 153.
(3) الأصوات اللغوية ص 65- 66.
(4) الأصوات اللغوية ص 67.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 252
ينحصر الصوت بينه و بين الحنك فتجي‌ء الرقة ... فإن كانت مضمومة أو مفتوحة فخمت، و كان ما يأخذه طرف اللسان منها أكثر مما يأخذه مع الترقيق، و كان معتمد اللسان أخرج في الحنك الأعلي يسيرا، فينبسط حينئذ اللسان و ينحصر الصوت بينه و بين الحنك، فيحدث التفخيم» «1». و كذلك قال عن اللام: «أما إسمانها (أي تفخيمها) فبأن يكون العمل فيها بوسط اللسان، و أدخل قليلا من مخرجها» «2».
و نقل الدركزلي عن الفخر الرازي أنه قال: «إن نسبة اللام الرقيقة إلي الغليظة كنسبة الذال إلي الظاء، و كنسبة السين إلي الصاد» «3».

4- الذلاقة و الإصمات:

يرجع أصل هذين المصطلحين إلي ما ذكره الخليل بن أحمد في مقدمة كتاب العين، ثم اعتني بهما علماء العربية من اللغويين و النحاة، و كانت عناية علماء التجويد بهما قليلة، و قد أثير حول هذين المصطلحين بعض الجدل في القديم و الحديث، و لعل منشأ ذلك الجدل يعود إلي ما جاء في كتاب العين من مادة لا تخلو من بعض الغموض. و لا بد لمن يريد أن يستوفي الكلام عن هذا الموضوع من أن يبدأ بكتاب العين، ثم ينظر في المصادر الأخري.
قال الخليل: «اعلم أن الحروف الذلقية و الشفوية ستة، و هي: ر ل ن، ف ب م، و إنما سمّيت هذه الحروف ذلقا لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان و الشفتين، و هما مدرجة هذه الأحرف الستة. منها ثلاثة ذلقية: ر ل ن، تخرج من ذلق اللسان من طرف غار الفم، و ثلاثة شفوية: ف ب م، مخرجها من بين الشفتين خاصة، لا تعمل الشفتان في شي‌ء من الحروف الصحاح إلا في هذه الأحرف الثلاثة فقط، و لا ينطق اللسان إلا بالراء و اللام و النون ... فلما ذلقت الحروف السنة، و مذل بهن اللسان و سهلت عليه في المنطق كثرت في أبنية الكلام، فليس شي‌ء من بناء الخماسي التام يعري منها أو من بعضها».
«قال الخليل: فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معرّاة من حروف الذلق أو الشفوية و لا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب، لأنك لست واجدا من يسمع من كلام (1) الموضح 161 و.
(2) الموضح 164 و.
(3) خلاصة العجالة 178 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 253
العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا و فيها من حروف الذلق و الشفوية واحد أو اثنان أو أكثر» «1».
و يبدو أن الخليل لم يستخدم مصطلح (المصمتة) في مقدمة كتاب العين، لكنه ذكر مصطلح (الحروف الصّتم) علي نحو لا تتضح معه دلالته علي معني محدد «2». و قد ورد في مصادر أخري أن الصتم يقصد بها المصمتة «3».
إن الدارس حين ينظر في كلام الخليل السابق يجد أن مصطلح الذلاقة لا يشمل إلا ثلاثة أحرف هي (ر ل ن) و إن الحروف الثلاثة الأخري (ف ب م) أطلق عليها مصطلح الشفوية.
و لعل الذي جعل الخليل يتحدث عن الحروف الستة المذكورة في مكان واحد هو اشتراكها في أن الكلمات الرباعية و الخماسية لا تخلو من بعضها، و يؤكد ذلك أنه حين وصف الحروف منسوبة إلي مخارجها قال: «و الراء و اللام و النون ذلقية، لأن مبدأها من ذلق اللسان، و هو تحديد طرفي ذلق اللسان. و الفاء و الباء و الميم شفوية، و قال مرة: شفهية، لأن مبدأها من الشفة» «4».
و هناك رواية نقلها الأزهري في (تهذيب اللغة) عن الخليل بن أحمد لم تذكر في كتاب العين تضع القضية في إطار آخر، بحيث يكون لمصطلح الذلاقة دلالة أوسع تشمل الحروف الستة، و هي: «قال: و الحروف علي نحوين: منها مذلق و منها مصمت. فأما المذلقة فإنها ستة أحرف في حيّزين، أحدهما حيز الفاء، فيه ثلاثة أحرف كما تري: ف ب م، مخارجها من مدرجة واحدة لصوت بين الشفتين لا عمل للسان في شي‌ء منها. و الحيز الآخر حيز اللام، فيه ثلاثة أحرف كما تري: ل ر ن، مخارجها من مدرجة واحدة بين أسلة اللسان و مقدم الغار الأعلي. فهاتان المدرجتان هما موضعا الذلاقة، و حروفهما أخف الحروف في المنطق، و أكثرها في الكلام و أحسنها في البناء، و لا يحسن بناء الرباعي المنبسط و الخماسي التام إلا بمخالطة بعضها ...».
«و قال: أما المصمتة- و هي الصتم أيضا- فإنها تسعة عشر حرفا صحيحا ... و إنما سميت مصمتة لأنها أصمتت فلم تدخل في الأبنية كلها، و إذا عريت من حروف الذلاقة قلّت (1) العين 1/ 51- 52.
(2) العين 1/ 54 و 55.
(3) الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(4) العين 1/ 58.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 254
في البناء، فلست واجدا في جميع كلام العرب خماسيا بناؤه بالحروف المصمتة خاصة و لا كلاما رباعيا كذلك ...» «1». و يؤيد رواية الأزهري هذه ما جاء في كلام الخليل السابق: «فلما ذلقت الحروف الستة ...».
و يبدو أن هذه الرواية هي التي حددت موقف علماء العربية من مصطلح الذلاقة، فاستقر لديهم علي الحروف الستة (ل ر ن، ف ب م) و نجد ابن دريد يضيف حروف العلة الثلاثة إلي المصمتة، فتصير اثنين و عشرين، بينما هي عند الخليل تسعة عشر بإخراج المعتلة من هذا التقسيم، و يقصد ابن دريد بالمعتلة الواو و الياء و الهمزة «2». أما الألف فلم يعدّه من أي من القسمين، و قال: «أما الحرف التاسع و العشرون فجرس بلا صرف، يريد أنه ساكن لا يتصرف في الإعراب، و هو الألف الساكنة» «3». و أصل هذه العبارة الأخيرة وارد في كلام الخليل الذي نقله الأزهري مما لم يرد في كتاب العين، و هو: «و روي غير ابن المظفر عن الخليل بن أحمد أنه قال: الحروف التي بني منها كلام العرب ثمانية و عشرون حرفا، لكل حرف منها صرف و جرس. أما الجرس فهو فهم الصوت في سكون الحرف. و أما الصرف فهو حركة الحرف ... فأما الألف اللينة فلا صرف لها، إنما هي جرس مدة بعد فتحة ...» «4».
و نقل ابن دريد عن الأخفش تفسيرا للمذلق و المصمت، هو تلخيص لفكرة الخليل عنهما، قال ابن دريد: «و سمعت الأشنانداني يقول: سمعت الأخفش يقول: سميت الحروف (مذلقة) لأن عملها في طرف اللسان، و طرف كل شي‌ء ذلقة، و هي أخف الحروف و أحسنها امتزاجا بغيرها. و سميت الأخر (مصمتة) لأنها أصمتت أن تختص بالبناء إذا كثرت حروفه لاعتياصها علي اللسان» «5».
و لخص ابن جني في (سر صناعة الإعراب) قضية المصمت و المذلق من الحروف بقوله: «و منها حروف الذلاقة، و هي ستة: اللام و الراء و النون و الفاء و الباء و الميم، لأنه يعتمد عليها بذلق اللسان و هو صدره و طرفه. و منها الحروف المصمتة و هي باقي الحروف» ثم أفاض (1) تهذيب اللغة 1/ 50- 51.
(2) جمهرة اللغة 1/ 6 و 7.
(3) جمهرة اللغة 1/ 7.
(4) تهذيب اللغة 1/ 50- 51.
(5) جمهرة اللغة 1/ 7.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 255
ابن جني في الكلام علي دور حروف الذلاقة في بنية الكلمة العربية «1».
و لم يتجاوز علماء التجويد في كلامهم عن الحروف المذلقة و المصمتة ما قاله علماء العربية في الموضوع. و قد أهمل كثير منهم ذكر هاتين الصفتين في أثناء حديثهم عن صفات الحروف «2». و كان مكي بن أبي طالب أكثر علماء التجويد عناية بهذا الموضوع، فقد ذكر الحروف المصمتة و الحروف المذلقة و وضح المقصود منها «3». كما أفرد (الحروف الصم أو الصتم)، و هي عنده غير المصمتة، فقد فسرها بأنها الحروف التي ليست من الحلق «4».
و ذكر عبد الوهاب القرطبي حروف الذلاقة علي نحو موجز «5». و ذكرها أيضا ابن الجزري في (التمهيد في علم التجويد) «6»، و في (المقدمة فيما علي قارئ القرآن أن يعمله) المشهورة بالمقدمة الجزرية «7». و من ثم اعتني شراح المقدمة بالكلام عن الحروف المذلقة و الحروف المصمتة «8». و أهمل المرعشي في (جهد المقل) الكلام عنها، و قال في (بيان جهد المقل):
«و مجموع ما ذكرته ثماني عشرة صفة، و تركت مما ذكره ابن الجزري في نظمه الذلاقة»، ثم وضح هنا حروف الذلاقة و الإصمات «9».
و لا يتضح بشكل محدد الأساس الذي يستند إليه تصنيف الحروف إلي مذلقة و مصمتة.
فالمذلقة سميت مذلقة لأن مبدأها من ذلق اللسان و هو طرفه، كما جاء في كلام الخليل في كتاب العين و هي علي هذا المعني ثلاثة (ل ر ن) «10». لكن المذلقة في ما رواه الأزهري عن الخليل ستة هي الثلاثة المذكورة إلي جانب حروف الشفة (ف ب م) و سميت مذلقة لأنها (1) سر صناعة الإعراب 1/ 74- 75. و انظر أيضا: ابن السراج: كتاب الاشتقاق ص 49، و ابن عصفور:
الممتع في التصريف 2/ 676.
(2) انظر: الداني: التحديد 17 ظ، و أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73 و، و ابن الطحان: مرشد القارئ 129 ظ، و العطار: التمهيد 145 و.
(3) الرعاية ص 110- 111.
(4) الرعاية ص 111- 112.
(5) الموضح 158 و.
(6) التمهيد ص 29.
(7) متن الجزرية ص 12.
(8) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 15.
(9) بيان جهد المقل 14 و.
(10) العين 1/ 58.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 256
(أخف الحروف في المنطق) «1».
و لا يتبين أيضا وجه التقابل بين المذلقة و المصمتة، فسواء سميت المذلقة بهذا الاسم لأنها تخرج من ذلق اللسان أم لأنها أخف الحروف في النطق فإنها لا تقابل المصمتة التي سميت بذلك لأنها أصمتت أن تختص بالبناء إذا كثرت حروفه. قال مكي: «فمعني المصمتة:
الممنوعة من أن تنفرد في كلمة طويلة» «2». و يلاحظ إلي جانب ذلك أن إطلاق كلمة (المذلقة) علي الحروف الستة و حملها علي معني أنها تخرج من طرف اللسان، كما جاء في قول ابن جني- مذهب غير سديد، لأن حروف الشفة (ف ب م) لا صلة لطرف اللسان بمخرجها.
و كان بعض علماء العربية مدركا لهذا التعارض في تسمية هذه الحروف بالمذلقة و المصمتة، فنجد ابن الحاجب يقول و هو يشرح قول الزمخشري في المفصل (و حروف الذلاقة و المصمتة): «و حروف الذلاقة ما في قولك (مر بنفل) و الذلاقة الاعتماد بها علي ذلق اللسان و هو طرفه. و هذا التفصيل باعتبارها غير مستقيم من جهته في نفسه و من جهة أمر مضاده من المصمتة.
أما من جهته فلأنها لا تعتمد علي طرف اللسان إلا ببعضها، فالميم و الباء و الفاء منها لا مدخل لها في طرف اللسان، فكيف يصح تسميتها بذلك مع خروج نصفها عن ذلك المعني.
و أما من جهة القسم الآخر المضاد لها فلأنه إنا سمي مصمتا لأنه كالمسكوت عنه فلا ينبغي أن يكون ضد ذلك المنطوق بطرف اللسان.
و إنما الأولي أن يقال سميت حروف ذلاقة أي سهولة، من قولهم: لسان ذلق من الذلق الذي هو مجري الحبل في البكرة لسهولة جريه فيه. فلما كانت كذلك التزموا أن لا يخلوا رباعيا أو خماسيا عنها، فكأن هذا الحكم هو المعتبر في تسميتها إلا أنهم استغنوا بسببه، و هو الذلاقة، فأضافوها إليه. و المصمتة علي هذا المعني يكون ضدها. و هي الحروف التي لا يتركب منها علي انفرادها رباعي أو خماسي لكونها ليست مثلها في الخفة، فكأنه قد صمت عنها، و لعله لم يقصد في تعبيره إلا إلي ذلك. و إنما وقع الوهم من أخذ الذلاقة من الطرف و جعلها من طرف اللسان» «3». و جري أيضا جدل بين المحدثين حول هذين (1) تهذيب اللغة 1/ 50.
(2) الرعاية ص 110.
(3) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 488.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 257
المصطلحين «1».
و لو لا أن هذين المصطلحين، أعني المذلقة و المصمتة، قد تردد ذكرهما في كتب علم التجويد، و أفاض في الحديث عنهما علماء العربية، لما وقفنا عندهما هذه الوقفة الطويلة، لأنهما ليست لهما دلالة صوتية محددة، و هما ألصق بالدراسة الصرفية من بعض الجوانب علي أساس ما لاحظه الخليل من قبل، و عبر عنه عبد الوهاب القرطبي بقوله: «و في حروف الذلاقة سر ينتفع به في اللغة، و هو أنك متي رأيت اسما رباعيا أو خماسيا غير ذي زوائد فلا بد فيه من حرف من هذه الستة أو حرفين و ربما كان ثلاثة ...» «2».

ثانيا- صفات الأصوات المحسنة:

اشارة

إن أشهر صفات الأصوات التي تحدث عنها علماء التجويد، من الداخلة في ما يعرف بالصفات المحسنة هي: القلقلة، و الصفير، و الغنة، و الانحراف، و التكرير، و الاستطالة و التفشي. و بعض هذه الصفات يشترك فيه عدد من الأصوات مثل الثلاثة الأولي، و بعضها يخص صوتا بعينه مثل الصفات الأربع الأخيرة، فالانحراف للام، و التكرير للراء، و الاستطالة للضاد، و التفشي للشين.

1- القلقلة:

يقرر علماء الأصوات أنّ الشديد (الانفجاري) يتكوّن من:
1- حبس.
2- إطلاق.
3- صوت يتبع الإطلاق.
فالحبس يتم باتصال عضوين ينتج عنه وقف المجري الهوائي وقفا كاملا. و الإطلاق يتم بانفصال العضوين انفصالا سريعا يحدث عنه انفجار الهواء، و يلاحظ أن اندفاع الهواء يستمر بالضرورة زمنا محسوسا بعد انفراج العضوين، و لذلك فالصوت الشديد (الانفجاري) لا يتأتي نطقه النطق الكامل من غير أن يتبع بصوت آخر مستقل عنه، هو هذا الهواء المندفع. و هذا الصوت المستقل الذي يلي الصوت الشديد ضرورة إما أن يكون مهموسا و إما أن يكون (1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 110. و حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 323.
(2) الموضح 158 و، و انظر: مكي: الرعاية ص 115.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 258
مجهورا. فإذا نطقنا صوتا شديدا مهموسا مثل الكاف وحده فإنه يتبعه عادة صوت مهموس قصير، و إذا نطقنا صوتا شديدا مجهورا كالباء وحده فإنه يتبعه عادة صوت مجهور قصير أشبه ما يكون بالفتحة المختلسة «1».
و كان سيبويه قد لاحظ هذه الخاصية في الأصوات عند الوقف عليها، و ذلك حيث قال:
«و اعلم أن من الحروف حروفا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت و نبا اللسان عن موضعه، و هي حروف القلقلة، و ستبين أيضا في الإدغام إن شاء اللّه «2». و ذلك القاف و الجيم و الطاء و الدال و الباء. و الدليل علي ذلك أنك تقول: الحذق، فلا تستطيع أن تقف إلا مع الصويت، لشدة ضغط الحرف، و بعض العرب أشد صوتا، كأنهم الذين يرومون الحركة» «3».
و كذلك تحدث سيبويه عن الوقف علي الحروف المهموسة فقال: «و أما الحروف المهموسة فكلها تقف عندها مع نفخ، لأنهن يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر، و إنما تنسل معه، و بعض العرب أشد نفخا، كأنهم الذين يرومون الحركة فلا بد من النفخ، لأن النفس تسمعه كالنفخ» «4».
و قرر سيبويه أن ذلك الصوت و تلك النفخة لا تسمع من الحروف عند الوصل، و ذلك حيث قال: «و اعلم أن هذه الحروف التي يسمع معها الصوت و النفخة في الوقف لا يكونان فيهن في الوصل إذا سكنّ، لأنك لا تنتظر أن ينبو لسانك، و لا يفتر الصوت حتي تبتدئ صوتا. و كذلك المهموس، لأنك لا تدع صوت الفم يطول حتي تبتدئ صوتا» «5». و قال في مكان آخر: «و لا يكون شي‌ء من هذه الأشياء في الوصل، نحو أذهب زيدا» «6».
و كان كلام سيبويه هذا عن حروف القلقلة قد حدد معالم الموضوع عند علماء العربية و كذلك عند علماء التجويد، و كان ما أضيف علي كلام سيبويه يعد شيئا يسيرا لا يغير جوهر الموضوع. من ذلك أن المبرد عدّ الكاف من حروف القلقلة، حيث قال: و اعلم أن من (1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 166 و 171- 172.
(2) لم يتحدث سيبويه عن حروف القلقلة في باب الإدغام.
(3) الكتاب 4/ 174.
(4) الكتاب 4/ 175.
(5) الكتاب 4/ 175.
(6) الكتاب 4/ 176، و انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 73.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 259
الحروف حروفا محصورة في مواضعها فتسمع عند الوقف علي الحرف منها نبرة تتبعه و هي حروف القلقلة. و إذا تفقدت ذلك وجدته. فمنها القاف و الكاف. إلا أنها دون القاف، لأن حصر القاف أشد، و إنما تظهر هذه النبرة في الوقف، فإن وصلت لم يكن، لأنك أخرجت اللسان عنها إلي صوت آخر، فحلت بينه و بين الاستقرار، و هذه المقلقلة بعضها أشد حصرا من بعض، كما ذكرت لك في القاف و الكاف» «1». و مذهب المبرد في عد الكاف من حروف القلقلة مبني علي أساس ما يتبع الكاف من صوت مهموس بعد انفصال العضوين عند النطق به، و لكن ذلك الصوت دون الصوت الذي يسمع من حروف القلقلة المجهورة.
و قد دارت مناقشات علماء التجويد لموضوع القلقلة حول عدد من النقاط هي: عدد حروفها، و موضعها، و حقيقة الصوت الذي يسمع عند الوقف علي حروفها، و تخصيص بعضهم مصطلحا مقابلا لمصطلح القلقلة، يطلق علي ما عدا حروفها.
أما عدد حروف القلقلة فإن مذهب جمهور علماء التجويد أنها خمسة، تجمع في (قد طبج)، أو (طبق جد)، أو (جد قطب)، أو (قطب جد) «2». و أشار بعضهم إلي مذهب المبرد في عد الكاف من حروف القلقلة «3». لكن المرعشي علق علي ذلك بقوله: «أقول فكأنه لم يشترط قوة الصوت الزائد، و إن شرط انحصار صوت الحرف قبله لكن يلزمه حينئذ أن يعد منها التاء المثناة الفوقية أيضا» «4». و هذا قول صحيح.
و يشترط علماء التجويد لحصول القلقلة في الحرف اجتماع الشّدة و الجهر فيه «فالشدة تحصر صوت الحرف لشدة ضغطه في المخرج، و الجهر يمنع جري النفس عند انفتاح المخرج، فيلتصق المخرج التصاقا محكما فيقوي الصوت الحادث عند انفتاح المخرج دفعة» «5». و وضح ذلك أبو عمرو بن الحاجب، و نقل كلامه أبو شامة المقدسي، و هو قوله:
«و إنما حصل لها ذلك لاتفاق كونها شديدة مجهورة، فالجهر يمنع النفس أن يجري معها، و الشدة تمنع أن يجري صوتها، فلما اجتمع لها هذان الوصفان، و هو امتناع (جري) النفس (1) المقتضب 1/ 196.
(2) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 12، و انظر: مكي: الرعاية ص 100، و الداني:
التحديد 19 ظ، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 157 ظ، و السمرقندي: روح المريد 126 ظ.
(3) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 157 ظ، و ابن الجزري: النشر 1/ 203.
(4) جهد المقل 13 ظ، و ذكر ابن الجزري (النشر 1/ 203) إن سيبويه ذكر معها التاء، و هو أمر غير مؤكد.
(5) المرعشي: جهد المقل 13 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 260
معها، (و امتناع) جري صوتها فاحتاجت إلي التكلف في بيانها، فلذلك يحصل ما يحصل من الضغط للمتكلم عند النطق بها ساكنة، حتي تكاد تخرج إلي شبه تحركها لقصد بيانها، إذ لو لا ذلك لم تتبين» «1».
و بعد الطاء و القاف من الأصوات المهموسة في نطق العربية الفصحي المعاصر، و من ثم تخلف فيهما أحد شرطي القلقلة، و هو الجهر، و لكن نلاحظ أن قراء القرآن و ناطقي العربية يحرصون علي إتباع هذين الصوتين عند الوقف بصويت القلقلة، و هو أمر يسوغه كون الصوتين شديدين (انفجاريين)، فيتبعهما عند الوقف صوت، مثل صوت الكاف، لكنه معهما أشد، لفخامة الطاء بالإطباق، و شدة انفصال العضوين في نطق القاف، مع كونه صوتا مستعليا.
و تنطبق شروط القلقلة علي الهمزة كما وصفها علماء العربية و علماء التجويد من أنها صوت شديد مجهور، و هي في الواقع ليست مجهورة، و قد نص علماء التجويد علي إخراج الهمزة من حروف القلقلة «2». و علل محمد المرعشي إخراجها بقوله: «ثم اعلم أن الهمزة و إن اجتمع فيها الشدة و الجهر، لكن الجمهور أخرجوها من حروف القلقلة، كما في بعض الرسائل، و لعل سبب ذلك ما في الرعاية أن الهمزة كالتهوع و كالسعلة. فجرت عادة العلماء بإخراجها بلطافة و رفق و عدم تكلف في ضغط مخرجها، لئلا يظهر صوت يشبه التهوع و السعلة، أقول: فيخفي حينئذ شدتها و يعدم قلقلتها» «3». و هذا التعليل- عندي- أرجح مما علل به ابن الجزري حين قال: «و إنما لم يذكرها الجمهور لما يدخلها من التخفيف حالة السكون ففارقت أخواتها، و لما يعتريها من الإعلال» «4».
و جاء في بعض المصادر أن من العلماء من يعد اللام من حروف القلقلة «5»، و قد ذكر ذلك المرعشي، و ذكر أن بعضهم أضاف إليها الفاء، لكن ذلك كله لحن، حسب رأيه، و ذلك حيث قال: «و هي لازمة لحروف قطب جد، و إحداثها في غيرها لحن، كما حذر في بعض الرسائل عن قلقلة الفاء و اللام في (أفواجا) و (جعلنا)، و إنما يقلقلهما حرصا علي إظهار هما (1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 448. و انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13. و الكلمات الموضوعة بين معقوفين ساقطة من (الإيضاح) و أثبتها من (إبراز المعاني).
(2) ابن الجزري: النشر 1/ 203.
(3) جهد المقل 14 و.
(4) النشر 1/ 203. و انظر: أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 12 و.
(5) انظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 261
و حذرا عن إدغامهما فيما بعد هما» «1».
أما صوت القلقلة الذي يسمع عند الوقف علي حروف (قطب جد) فقد استخدم بعض علماء التجويد كلمة (صويت) للتعبير عنه «2». و هي الكلمة التي استخدمها سيبويه من قبل.
و وصف مكي ذلك الصوت بأنه (صوت زائد) و أنه (يشبه النبرة) «3». و نقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن ذلك الصوت كالحركة «4». و هذه نظرة أكدها المرعشي كثيرا. فقال في كتابه (جهد المقل): «ثم اعلم أن إظهار القلقلة في الحرف الساكن يشبه تحريكه» «5». و وضح ذلك في (بيان جهد المقل) حيث قال: «قوله: (يشبه تحريكه) أقول: الظاهر من الامتحان أنه يشبه تحريكه بحركة ما قبله. ثم الظاهر من الامتحان أيضا أن إظهار القلقلة يشبه التشديد» «6». و هذا أمر أكدته الدراسات الصوتية الحديثة، فقال الدكتور محمود السعران: «من هذا نري أن الصوت الإضافي في حالة (حروف القلقلة) يشبه الحركة» «7».
و مثل ما أدرك محمد المرعشي أن صوت القلقلة يشبه الحركة كذلك أدرك أن ذلك الصوت مجهور، و أن الفرق بينه و بين الصوت الذي يتبع الكاف هو الجهر و الهمس، و هذا مبني علي أساس أن جميع حروف القلقلة مجهورة بحسب الوصف القديم لها. يقول:
«و يشترط عند الجمهور في إطلاق اسم القلقلة علي ذلك الصوت الزائد كونه جهريا بسبب أنه حصل بفك للمخرج دفعة بعد لصقه لصقا محكما، و لذا خصوا القلقلة بحروف اجتمع فيها الشدة و الجهر ... و هي خمسة يجمعها (قطبجد)، فلم يعد الكاف و التاء من حروف القلقلة مع أن فيهما صوتا زائدا حدث عند انفتاح مخرجيهما، لأن ذلك الصوت فيهما يلابس جري نفس، فهو صوت همس ضعيف، و لذا عدّا شديدين مهموسين، فلو لم يلابس ذلك الصوت فيهما يجري نفس لكان قلقلة، و لكان التاء دالا» «8». (1) جهد المقل 14 و.
(2) الداني: التحديد 19 ظ.
(3) الرعاية ص 100.
(4) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13.
(5) جهد المقل 14 و.
(6) بيان جهد المقل 17 ظ.
(7) علم اللغة ص 176.
(8) جهد المقل 13 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 262
أما موضع القلقلة فإن لعلماء التجويد مذهبين في ذلك، فبعضهم يري أنها (لا تكون إلا عند الوقف) «1». و هو الذي يفهم من كلام علماء العربية، لأن أخذك في صوت آخر عند الوصل يشغلك عن إتباع الحرف الأول صوتا «2». و ذهب أكثرهم إلي أنه لا يشترط لحصول القلقلة سوي سكون الحروف المذكورة (سواء وقعت وسطا أو متطرفة) «3». إلا أن ذلك الصوت في الوقف عليهن أبين منه في الوصل بهن «4».
و ذكر ابن الجزري في كتابه (النشر) ذينك المذهبين، و هو يرجح المذهب الثاني الذي يذهب أصحابه إلي وجوب قلقلة الحروف الخمسة إذا كانت ساكنة في الوصل و الوقف، و استدل بكلام أبي الحسن شريح (ت 539 ه)، و ذلك حيث قال: «و ذهب متأخرو أئمتنا إلي تخصيص القلقلة بالوقف تمسكا بظاهر ما رأوه من عبارة المتقدمين أن القلقلة تظهر في هذه الحروف بالوقف، فظنوا أن المراد بالوقف ضد الوصل، و ليس المراد سوي السكون، فإن المتقدمين يطلقون الوقف علي السكون و قوّي الشبهة في ذلك كون القلقلة في الوقف العرفي أبين، و حسبانهم أن القلقلة حركة، و ليس كذلك، فقد قال الخليل: القلقلة شدة الصياح، و القلقلة شدة الصوت.
و قال الأستاذ أبو الحسن شريح ابن الإمام أبي عبد اللّه محمد بن شريح، رحمه اللّه، في كتابه (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) لما ذكر أحرف القلقلة الخمسة: فقال: و هي متوسطة كباء الْأَبْوابَ [يوسف: 23]، و جيم النَّجْدَيْنِ [البلد: 10]، و دال مَدَدْناها [الحجر: 19]، و قاف خَلَقْنا [الأعراف: 181]، و طاء أَطْواراً [نوح: 14]. و متطرفة كباء لَمْ يَتُبْ [الحجرات: 11]، و جيم لم يخرج «5»، و دال قَدْ، و قاف مَنْ يُشاقِقِ [النساء: 115] و طاء لا تُشْطِطْ [ص: 22]. فالقلقلة هنا أبين في الوقف في المتطرفة من التوسط، انتهي» «6». (1) ابن الطحان: مرشد القارئ 130 ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 175. و المبرد: المقتضب 1/ 196، و السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 446، و ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 73.
(3) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74 ظ.
(4) مكي: الرعاية ص 100.
(5) (لم يخرج) لم ترد في القرآن، و يصح التمثيل بقوله تعالي: وَ مَنْ يَخْرُجْ [النساء: 100].
(6) النشر 1/ 203- 204.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 263
و يبدو أن تسمية هذه الظاهرة بالقلقلة ترتبط بالمعني اللغوي ارتباطا وثيقا. إذ يقال:
قلقل الشي‌ء قلقلة إذا حرّكه «1»، فحمل بعض علماء التجويد هذه التسمية علي ذلك المعني، مع احتمال أن يكون أصل التسمية من دلالة الكلمة علي شدة الصوت، فقال: «سميت بذلك إما لأن صوتها صوت أشد الحروف، أخذا من القلقلة التي هي صوت الأشياء اليابسة. و إما لأن صوتها لا يكاد يتبين به سكونها ما لم يخرج إلي شبه التحريك لشدة أمرها، من قولهم قلقله إذا حركه» «2».
و حاول بعض علماء التجويد المتأخرين وضع مصطلح يقابل مصطلح (القلقلة)، فاستخدم السمرقندي (ت 780 ه) مصطلح الساكنة، فقال: «و ما سوي القلقلة فهي ساكنة» «3». و قال الحسن بن شجاع التوني: «و ضد القلقلة السكون» «4». و علل الدركزلي تسميتها بالساكنة بقوله: «أي أنها ذات سكون و عدم اضطراب في مخارجها مطلقا» «5». لكن جمهور علماء التجويد يعدون صفة القلقلة من الصفات التي لا ضد لها.
و ذكر محمد بن القاسم البقري أن شيخه، و لم يسمه، كان له مذهب خاص في تفسير القلقلة فقال: «و كان شيخنا يتوقف فيها، و يميل أن القلقلة منع الشخص نفسه من تحريك الحرف، و خالفه جماعة من معاصريه، و قالوا: إن القلقلة نبرة لطيفة يأتي بها القارئ في الحرف المقلقل. و شيخنا لا يمنعه، إلا أنه يتوقف فيه، لما قاله الشمس ابن الجزري في نشره: و قال الخليل: القلقلة: شدة الصياح إلي آخر ما قاله، و ذلك لا يفهم أن القلقلة تحريك الحرف» «6».
و ورد في بعض كتب علم التجويد المعاصرة تقسيم للقلقلة لم أجد له أي إشارة في كتب علم التجويد القديمة فإذا كان حرف القلقلة في آخر الكلمة و وقف عليها كانت القلقلة شديدة جدا، و سميت قلقلة كبري. و إذا كان الحرف ساكنا في وسط الكلمة. كانت أخف، و سميت (1) ابن منظور: لسان العرب 14/ 85 (قلقل).
(2) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 12، و الحسيني كاشف المعاني 184 و، و قد نقلا ذلك عن ابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 488.
(3) روح المريد 126 ظ.
(4) المفيد في علم التجويد 5 و، و انظر: 3 ظ.
(5) خلاصة العجالة 157 ظ.
(6) غنية الطالبين ص 14.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 264
قلقلة صغري «1».

2- الغنة:

عرّف علماء التجويد الغنة بأنها (صوت يخرج من الخيشوم) «2». و قال بعضهم: الصوت الذي يخرج من الأنف «3». و قد ورد معني هذا التعريف في كلام علماء العربية المتقدمين، عند سيبويه و غيره «4».
و أدرك علماء التجويد طبيعة ذلك الصوت أعني الغنة، فقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «و هي صوت يجري في الخيشوم جريان حروف المد و اللين في موضعها» «5». و هذه حقيقة يؤيدها الدرس الصوتي الحديث، فكما أن حروف المد تتميز بجريان النّفس حرا طليقا في مجراه خلال الحلق و الفم كذلك الغنة يجري فيها النّفس خلال تجويف الأنف (الخيشوم) من غير عائق. و لو أوقف الناطق ذبذبة الوترين الصوتيين في أثناء نطق حروف المد و الغنة لبطلت أصواتها و صارت نفسا، فليس لهذه الأصوات مقابل مهموس «6». و من ثم قرر المرعشي (ت 1150 ه) أن مخرج بعض الأصوات «لا ينضغط فيه الصوت أصلا، و هو مخرج الألف المدية و مخرج النون الخفية» «7»، و النون الخفية هي الغنة.
و حرفا الغنة النون و الميم «8». و قد سمّي أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 659 ه) كل واحد منهما بالحرف (الأغن) فقال: «و الأغن النون و الميم، سميا بذلك لأن فيهما غنة، و هو صوت يخرج من الخياشيم ... و إنما سمي هذا الصوت غنة لجريه مع النون و الميم بعد لزوم اللسان موضعهما، يدلك علي ذلك أنك لو أمسكت بأنفك عند النطق بهما لا نحصر الصوت فيهما كالطنين، لأن الخيشوم مركب فوق الغار الأعلي، و إليه سموّ هذا (1) انظر: فرج توفيق الوليد: قواعد التلاوة و علم التجويد ص 40، و جان كانتينو: دروس ص 38.
(2) مكي: الكشف 1/ 164، العطار: التمهيد 146 ظ، الفاسي: اللئالئ الفريدة 213 ظ، المرعشي: جهد المقل 18 ظ.
(3) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74 ظ.
(4) سيبويه: الكتاب 4/ 435، و المبرد: المقتضب 1/ 194، و ابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 7، و السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 517.
(5) الموضح 153 ظ.
(6) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 95 و 101.
(7) بيان جهد المقل 9 و.
(8) سيبويه: الكتاب 4/ 435، و مكي: الرعاية ص 106، و الداني: التحديد 19 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 265
الصوت» «1». و ذكر مكي (ت 437 ه) أن الميم تسمي (الحرف الراجع)، لأنها ترجع إلي الخياشيم لما فيها من الغنة، و قال: يجب أن يشاركها في هذا اللقب النون الساكنة «2».
و اشتراط بعض علماء العربية و بعض علماء التجويد لوجود الغنة في النون و الميم شروطا، منها أن تكون ساكنة مع عدم إظهارها، قال أبو عبد اللّه الفاسي (ت 656 ه) و هو يشرح قول الشاطبي:
و غنة تنوين و نون و ميم ان سكنّ و لا إظهار في الأنف يجتلي
«الغنة صوت يخرج من الخياشيم، لا عمل للسان فيه ... و محلها التنوين و النون و الميم بشرط سكونهن و عدم إظهارهن، فإن تحركت صار العمل فيه للسان، و كذلك إن ظهر التنوين أو النون عند حروف الحلق» «3». و مع وضع هذين الشرطين لوجود الغنة في الميم و النون قال الفاسي بعد ذلك: «و إذا نطق بهذه الحروف خالية من الشرطين المذكورين لم يكن بد فيها من صوت يخرج من الخياشيم أيضا، مخالط لما يخرج من اللسان لأن طبعها يقتضي ذلك دون غيرها من الحروف» «4».
و قال السمرقندي (ت 780 ه) «و حروف الغنة الميم و النون و التنوين، إن سكنّ ...
فإذا تحركت صار العمل فيها للسان و الشفتين دون الأنف، لهذا لا يقدر علي إخراجها المزكوم، و كذلك إن أظهرت التنوين و النون عند حروف الحلق» «5».
و قال ابن يعيش (ت 643 ه) في شرح المفصل: «فإذا لم يكن بعدها حرف البتة كانت من الفم، و بطلت الغنة، كقولك: من و عن و نحوهما مما يوقف عليه» «6».
و هذا المذهب الذي يضع شروطا لوجود الغنة في النون و الميم ناتج عن و هم في تصور حقيقة الغنة، أو أنه مبني علي فهم معين لها، كأن يراد بها إطالة الصوت الخارج من الأنف أكثر مما تحصل به ذات الميم و النون، كما فسرها بعض المحدثين بقوله: «و ليست الغنة إلا (1) التمهيد 146 ظ.
(2) الرعاية ص 112، و ذكر عبد الوهاب القرطبي (الموضح 158 ظ) أن النون و الميم تسمي المستعينة، لأنهما يستعان عليهما بصوت الخياشيم.
(3) اللئالئ الفريدة 213 ظ. و انظر: مكي: الرعاية ص 214.
(4) اللئالئ الفريدة 213 ظ.
(5) روح المريد 128 و.
(6) شرح المفصل 10/ 127.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 266
إطالة لصوت النون، مع تردد موسيقي محبب فيها» «1». لكن الذي عليه جمهور العلماء هو أن الغنة يقصد بها مجرد خروج النفس المجهور من الأنف قليلا كان ذلك النفس أم كثيرا، طويلا أم قصيرا.
و كان علماء التجويد قد أكدوا علي الترابط بين الغنة و النون و الميم. فقال عبد الوهاب القرطبي: «و النون لها غنة في نفسها سواء كانت من الفم أو من الأنف، لأن الغنة صوت من الخيشوم يتبع الحرف، و إن كان خروجه من الفم» «2». و قال و هو يتحدث عن النون أيضا:
«و لأجل جريان الغنة فيها و في الميم إذا طرأت علي الخيشوم آفة تمنع الجريان رأيت النون أقرب إلي التاء، و الميم أمسّ بالباء» «3».
و كان الجعبري (ت 732 ه) قد قال في ذلك كلمة جامعة هي: «و الغنة صفة النون، و لو تنوينا، و الميم، تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخففتين أو مدغمتين، لا تختص بمخرج بل كل راجع إلي مخرجه. قال: و هذا معني قول الداني: و أما الميم و النون فيتجافي بهما اللسان إلي موضع الغنة من غير قيد، و برهانه سدّ الأنف. و هي في الساكن أكمل من المتحرك، و في المخفي أزيد من المظهر، و في المدغم أوفي من المخفي» «4».
و لعل كلمة (مخففتين) مصحّفة عن (مخفاتين)، يدل علي ذلك ما ورد في آخر النص من قوله (و في المخفي أزيد من المظهر) و كذلك يدل عليه أن من نقلوا النص عن الجعبري ذكروا (مخافتين).
و قد نقل كثير من علماء التجويد كلمة الجعبري السابقة، مع بعض الزيادات مثل كلمة (لازمة) و تغيير كلمة (مخففتين) إلي (مخافتين)، فقال أحمد بن الجزري: «اعلم أن الغنة صفة لازمة للنون و الميم تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخافتين أو مدغمتين، و هي في الساكن أكمل من المتحرك ...» «5». و قال المرعشي: «قول الجعبري (المدغمتين) الأولي أن يقال (1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 71.
(2) الموضح 171 و.
(3) الموضح 164 ظ.
(4) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 195.
(5) الحواشي المفهمة 47 ظ، و انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 43 و، و أحمد فائز الرومي:
شرح الدر اليتيم ص 13، و المرعشي: جهد المقل 18 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 267
بدله: أو مشددتين، ليشمل المشددتين بلا إدغام نحو: إنّ و ثمّ» «1». و لخص السمنودي (ت 1084 ه) الأمر بقوله: «و هي صفة لازمة للنون و التنوين و الميم مطلقا» «2».
و كان مكي قد قال: «الغنة حرف شديد مجهور، لا عمل للسان فيها» «3». و هذا يناقض ما قرره جميع علماء العربية و علماء التجويد من اعتبار (النون) حرفا متوسطا، و الغنة تابعة للنون. و من ثم تصدي الجعبري لقول مكي السابق و أنكره، و ذلك حيث قال: «جعله الغنة حرفا غير سديد بالمهملة، و إن أراد أنها ذات محل مغاير فلا يلزم منه حرفيتها. قال: و إلي هذا أشرنا في العقود «4» بقولنا:
و الغنة أبطل قول مكيّ بها في أنها حرف و أمّ بياني
في أنها لا تستقلّ بنفسها و تحلّ حرفا ربّه استعلان»
«5».
و كان بعض علماء التجويد قد أطلق علي (النون الخفية) كلمة (الغنة)، علي نحو ما ذكرنا عند الكلام عن مخرج النون الخفية، و هما و إن كانتا من الناحية الصوتية شيئا واحدا، بينهما فرق، قال المرعشي: «إن قلت: ما الفرق بين النون المخفاة و بين الغنة قلت: هما متحدتان ذاتا، لأن كلّا منهما صوت يخرج من الخيشوم، لكن ذلك الصوت صفة في الأصل للنون و الميم الساكنتين، كما في عن و لم، و يسمي حينئذ غنة، و قد تخفي النون الساكنة، و معناه أن يعدم ذاتها و تبقي صفتها التي هي الغنة كما في عنك، و سميت النون نونا مخفاة.
و بالجملة إن الغنة تطلق علي الصوت الخارج من الخيشوم سواء قام بالحرفين المذكورين أو قام بنفسه، و في اصطلاح أهل الأداء تختص بما قام بالحرفين المذكورين» «6».
و قد استخدم علماء الأصوات المحدثون لوصف النون و الميم كلمة (الأنفية) «7»، بينما استخدم بعضهم كلمة (الغنّاء) و (أغنّ) «8». و هي كلمة سبق إلي استخدامها بعض علماء (1) جهد المقل 18 ظ- 19 و.
(2) تحفة الطالبين 4 و.
(3) الرعاية ص 214.
(4) يريد كتابه (عقود الجمان في تجويد القرآن) (انظر رقم 25 من مصادر علم التجويد في الفصل الأول).
(5) القسطلاني: اللئالئ السنية 9 ظ. و انظر: لطائف الإشارات (له) 1/ 195.
(6) المرعشي: جهد المقل 10 و، و انظر: 18 ظ.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 167، و ماريوباي: أسس علم اللغة ص 86.
(8) محمود السعران: علم اللغة ص 184.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 268
التجويد «1».
و ليس ثمة ما هو جديد في كلام المحدثين عن الغنة و حرفيها (النون و الميم) سوي إشارتهم إلي انخفاض الحنك اللين و اللهاة في أثناء نطق الأصوات الأنفية حيث يقولون:
«و تتكون الأصوات الأنفية بأن يحبس الهواء حبسا تاما في موضع من الفم و لكن يخفض الحنك اللين فيتمكن الهواء من النفاذ عن طريق الأنف» «2». بينما كان علماء التجويد يقولون إن غنة النون و الميم تجري في الخيشوم (الأنف) دون أن يشيروا إلي حركة أعضاء آلة النطق المصاحبة لذلك.

3- الصفير:

لم يذكر سيبويه هذه الصفة «3»، و كذلك فعل ابن جني في (سر صناعة الأعراب)، و أقدم من ذكرها، مما اطلعت عليه من المصادر، هو المبرد، فقد قال في (المقتضب): «و من طرف اللسان و ملتقي حروف الثنايا حروف الصفير، و هي حروف تنسل انسلالا، و هي السين و الصاد و الزاي» «4».
و كانت لعلماء التجويد عناية خاصة بهذه الصفة، و حاولوا أن يوضحوا المقصود بكلمة الصفير، فقال مكي (ت 437 ه): «و حقيقة الصفير أنه اللفظ الذي يخرج بقوة مع الريح من طرف اللسان مما بين الثنايا تسمع له حسا ظاهرا في السماء» «5». و قال ابن الطحان (ت حوالي 560 ه): «و الصفير حدة الصوت، كالصوت الخارج عن ضغط ثقب» «6». و قال المرادي (ت 749 ه): «و هو صويت يصحب هذه الأحرف يشبه صفير الطائر» «7».
و ربط علماء التجويد بين تسمية هذه الأصوات الثلاثة بحروف الصفير و بين ظاهرة الصفير في أصوات الطبيعة، فقال مكي: «و إنما سميت بحروف الصفير لصوت يخرج معها عند النطق بها يشبه الصفير» «8». و قال الداني (ت 444 ه): «سميت بذلك لأنك تسمع فيها (1) الداني: التحديد 35 ظ، 40 ظ. و العطار: التمهيد 146 ظ.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 184. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 167.
(3) ذكر سيبويه هذه الصفة عرضا، انظر: الكتاب 4/ 464.
(4) المقتضب 1/ 193 و انظر أيضا: 1/ 225 و 226.
(5) الرعاية ص 186.
(6) مرشد القارئ 130 ظ.
(7) شرح الواضحة ص 36.
(8) الرعاية ص 100.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 269
شبيها بالصفير عند إخراجها من مواضعها» «1». و قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه):
«و سميت بذلك لشبه أجراسها بالصفير» «2».
و الصفير صفة ذاتية في هذه الأصوات لا تنفك عنها، كما أن الغنة صفة ذاتية في النون و الميم، و هي تخرج من مخرج واحد، و إنما فرّق بينها صفات مميزة هي الهمس في السين و الجهر في الزاي و الإطباق في الصاد «3».
و الكلام عن صفة الصفير مع أنها لم تكن ذات أثر في التمييز بين الأصوات، يدل علي إدراك للخصائص الدقيقة للأصوات، و هي صفة لاحظها علماء الأصوات المحدثون، فقالوا:
«و يوصف الصوتان س- ز غالبا بأنهما صفيريان، لما يصحبهما من صفير أو أزيز، و هما في الحقيقة صوتان من النوع الاحتكاكي» «4». و قالوا: «و سميت صفيرية لقوة الاحتكاك معها.
و السبب في قوة الاحتكاك هو أن نفس المقدار من الهواء مع الثاء يجب أن يمر مع السين خلال منفذ أضيق» «5».

4- التكرير:

التكرير، و يقال له التكرار أيضا «6»، «هو ارتعاد طرف اللسان بالراء» «7»، أو هو «تضعيف يوجد في جسم الراء لارتعاد طرف اللسان بها» «8». و كان سيبويه قد قرر هذه الصفة للراء، فقال و هو يتحدث عن صفات الحروف: «و منها المكرر، و هو حرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره و انحرافه إلي اللام، فتجافي للصوت كالرخوة، و لو لم يكرر لم يجر الصوت فيه، و هو الراء» «9». و قال أيضا: «و الراء إذا تكلمت بها خرجت كأنها مضاعفة، و الوقف يزيدها إيضاحا» «10». (1) التحديد 19 و.
(2) الموضح 158 ظ.
(3) انظر: مكي: الرعاية ص 185.
(4) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 85.
(5) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 98.
(6) انظر: المبرد المقتضب 1/ 212، و البقري: غنية الطالبين ص 16.
(7) مكي: الرعاية ص 170.
(8) ابن الطحان: مرشد القارئ 130 ظ.
(9) الكتاب 4/ 435.
(10) الكتاب 4/ 136.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 270
و اختلف علماء التجويد في صفة التكرير أ هي لازمة للراء أم لا؟ فكان مكي قد أكد إخفاء تكريرها كثيرا، فقال: «فواجب علي القارئ أن يخفي تكريره و لا يظهره، و متي ما أظهره فقد جعل من الحرف المشدد حروفا، و من المخفف حرفين» «1». و قال الفخر الموصلي (ت 621 ه): «فيجب علي القارئ إخفاء التكرير و إلا كان لاحنا» «2». و قال الجعبري (ت 732 ه): «و تكريره لحن، فيجب التحفظ عنه ... قال: و طريق السلامة منه أن يلصق اللافظ به ظهر لسانه بأعلي حنكه لصقا محكما مرة واحدة، و متي ارتعد حدث من كل مرة راء» «3».
و ذهب بعض علماء التجويد إلي أن التكرير صفة ذاتية للراء و هو موافق لظاهر كلام سيبويه «4». قال أبو الحسن شريح بن محمد الرعيني (ت 539 ه): «و اعلم أن الراء متكررة في جميع أحوالها، و أبين ما يكون ذلك عند الوقف عليها. و قد ذهب قوم من أهل الأداء إلي أنه لا تكرير فيها مع تشديدها، و ذلك لم يؤخذ علينا، غير أنّا لا نقول بالإسراف فيه، و أما ذهاب التكرار جملة فلم نعلم أحدا من المحققين بالعربية ذكر أن تكريرها يسقط بحال» «5».
و ذهب ابن الجزري إلي أنه ليس المقصود بتكرير الراء ترعيد اللسان بها المرة بعد المرة، و لا بإخفائها إعدام تكريرها، بل المقصود بذلك الاعتدال بين الأمرين، فقال: «و قد توهم بعض الناس أن حقيقة التكرير ترعيد اللسان بها المرة بعد المرة، فأظهر ذلك حال تشديدها، كما ذهب إليه بعض الأندلسيين، و الصواب التحفظ من ذلك بإخفاء تكريرها، كما هو مذهب المحققين، و قد يبالغ قوم في إخفاء تكريرها مشددة فيأتي بها محصرمة شبيهة بالطاء، و ذلك خطأ لا يجوز، فيجب أن يلفظ بها مشددة تشديدا ينبو به اللسان نبوة واحدة و ارتفاعا واحدا من غير مبالغة في الحصر و العسر نحو: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1]، و وَ خَرَّ مُوسي [الأعراف: 143] ...» «6».
و قال المرعشي (ت 1150 ه): «ليس معني إخفاء تكريره إعدام تكريره بالكلية بإعدام ارتعاد رأس اللسان بالكلية، لأن ذلك لا يمكن إلا بالمبالغة في لصق اللسان باللثة بحيث (1) الرعاية ص 170 و انظر أيضا ص 230.
(2) الدر المرصوف 171 و.
(3) انظر: المرادي: شرح الواضحة ص 44، و المفيد (له) 113 و. و القسطلاني: اللئالئ السنية 12 و.
(4) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5، و ابن الجزري: النشر 1/ 204.
(5) انظر: المرادي: شرح الواضحة ص 43، و المفيد (له) 102 و.
(6) النشر 1/ 218- 219.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 271
ينحصر الصوت بينهما بالكلية كما في الطاء المهملة، و ذلك خطأ لا يجوز كما صرح ابن الجزري في النشر، لأن ذلك يؤدي إلي أن يكون الراء من الحروف الشديدة مع أنه من الحروف البينية» «1».
و قد وصف علماء الأصوات المحدثون صوت الراء في العربية بأنه مكرر، من غير أن يشيروا إلي قضية إخفاء التكرير «2». و قدر بعضهم أن طرف اللسان يطرق حافة الحنك طرقا لينا يسيرا مرتين أو ثلاثا في أثناء نطق الراء «3». و هو ما يفهم من قول بعض علماء التجويد: «إن الراء فيها صفة التكرار، لأنها تكرر، إذا قلت: مر و در، يتحرك طرف اللسان بها فتصير راءين و أكثر» «4». و قد نقل المرعشي قول السيد الشريف في شرح المواقف: «الغالب علي الظن أن الراء التي في آخر (الدار) مثلا راءات متوالية، كل واحد آني الوجود، إلا أن الحس لا يشعر بامتياز آناتها فظنها حرفا واحدا زمانيا» «5».
و كان سيبويه قد ذكر أن الراء المفتوحة بمنزلة حرفين مفتوحين، و أن الراء المكسورة كأنها حرفان مكسوران، لما فيها من التكرار «6». و نقل علماء التجويد هذه الفكرة عن سيبويه، و قالوا بأن «الحركة عليها مقام حركتين» «7». و نصوا علي أن الفتحة عليها مقام فتحتين، و أن الكسرة عليها مقام كسرتين «8».
و من غير اليسير تأكيد هذه الفكرة أو نفيها بالوسائل المتيسرة لهذا البحث. و لكن يمكن أن نتساءل و نقول: هل تتداخل الحركة التي تنطق بعد صوت الراء بين طرقات طرف اللسان علي اللثة في أثناء نطق صوت الراء، أم أن الفم لا ينفتح بالحركة إلا بعد تمام صوت الراء؟
أرجح- الآن- الاحتمال الثاني، من خلال التجربة الذاتية، و لكن من غير أن أنفي احتمال التأثر المتبادل بين صوت الراء و حركته. (1) جهد المقل 16 ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 67، و محمود السعران: علم اللغة ص 187، و كمال محمد بشر:
الأصوات ص 166.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 67.
(4) الفاسي: اللئالئ الفريدة 215 و، و السمرقندي: روح المريد 127 ظ.
(5) جهد المقل 6 ظ. و انظر: شرح المواقف 5/ 272.
(6) الكتاب 4/ 136.
(7) مكي: الكشف 1/ 171، و الداني: التحديد 36 و.
(8) مكي: الكشف 1/ 215.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 272

5- التفشي:

استخدم سيبويه كلمة (التفشي) في وصف الشين «1»، و كذلك فعل المبرد لكنه وصف الضاد أيضا بالتفشي «2».
و ذكر علماء التجويد هذه الصفة و حاولوا تقديم تعريف لها، فقال مكي: «و معني التفشي هو كثرة انتشار خروج الريح بين اللسان و الحنك، و انبساطه في الخروج عند النطق بها» «3». و قد وصف بعض علماء التجويد الضاد و الفاء و الثاء بالتفشي إضافة إلي الشين «4».
و قال المرعشي: «و بالجملة إن الحروف المذكورة مشتركة في كثرة انتشار خروج الريح، لكن ذلك الانتشار في الشين أكثر، و لذا اتفق في تفشيه، و في البواقي قليل بالنسبة إليه، و لذا لم يصفها أكثر العلماء بالتفشي» «5».
و نقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن ابن مريم الشيرازي «6» قال: «و منها حروف التفشي، و هي أربعة مجموعة في قولك (مشفر) و هي حروف فيها غنة و تفش و تأفف و تكرار، و إنما قيل لها حروف التفشي و إن كان التفشي في الشين خاصة لأن الباقية مقاربة له، لأن الشين بما فيه من التفشي ينتشر الصوت فيه و يتفشي حتي يصل إلي مخارج الباقية» «7». و إطلاق التفشي علي الميم و الراء فيه توسع لا يحتمله التصنيف الدقيق للأصوات.
و أهمل أكثر دارسي الأصوات العربية من المحدثين ذكر هذه الصفة «8». و هي و إن كانت من الصفات المحسنة التي لا شأن لها في تمييز الأصوات أكثر من توضيح خاصة صوتية معينة في الصوت الذي يوصف بها لها أهميتها في تتبع سلوك ذلك الصوت في التركيب، و في تفسير الظواهر الصوتية التي تخصه، و بين أيدينا مثال يوضح أهمية معرفة الصفات المحسنة في تفسير (1) الكتاب 4/ 448.
(2) المقتضب 1/ 211 و 214.
(3) الرعاية ص 109، و انظر أيضا ص 149 و 201. و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 158 ظ.
(4) مكي: الرعاية ص 110 و 201. و الداني: التحديد 19 و. و المرعشي: جهد المقل 17 و.
(5) جهد المقل 17 و.
(6) لعله نصر بن علي بن محمد الذي قال عنه ابن الجزري: (يعرف بابن أبي مريم) و هو صاحب كتاب (الموضح في القراءات الثمان) الذي فرغ منه سنة 562 ه (انظر: غاية النهاية 2/ 337).
(7) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 11.
(8) ذكرها جان كانتينو: دروس ص 38.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 273
بعض الظواهر الصوتية، و هو أن الدكتور إبراهيم أنيس ذكر أن الأمثلة القرآنية في الإدغام قد خلت من ذكر الزاي و الشين مدغمتين في غيرهما من الأصوات و قال: «و ليس لهذا ما يبرره من الناحية الصوتية سوي مجرد المصادفة» «1».
و نجد في ما قاله علماء العربية و علماء التجويد تفسيرا صوتيا لتلك الظاهرة، بعيدا عن تكأة المصادفة، فقد قرروا أن «كل حرف فيه زيادة صوت لا يدغم فيما هو أنقص صوتا منه» «2». و قال الداني: «و جملة الحروف التي تمتنع من الإدغام لزيادة صوتها ثمانية أحرف، و قد جمعتها في قولك: فزم ضرس شص: الشين و الضاد و الراء و الصاد و السين و الزاي و الميم و الفاء. أما الشين فمن أجل تفشيها، و أما الضاد فلاستطالتها، و أما الراء فلتكريرها، و أما الصاد و السين و الزاء فلصفيرهن، و أما الميم فلغنتها، و أما الفاء فلتفشيها» «3».

6- الاستطالة:

وصف سيبويه الضاد بهذه الصفة «4»، و كذلك وصف الشين بالاستطالة في بعض المواضع، فقال: «الضاد استطالت لرخاوتها حتي اتصلت بمخرج اللام، و الشين كذلك حتي اتصلت بمخرج الطاء» «5». و قال بعض علماء التجويد أن الاستطالة هي «امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلي آخرها» «6».
و قد صرح بعض علماء التجويد أن الاستطالة لا يوصف بها إلا الضاد فقالوا:
«و المستطيل حرف واحد، و هو الضاد» «7». و لكن بعض المتأخرين من علماء التجويد قال: إن الاستطالة لا تختص بالضاد، بل الشين مستطيلة أيضا للتفشي «8».
و لاحظ علماء التجويد أن هناك صلة بين مصطلح المستطيل و مصطلح الممدود، و حاولوا التفريق بينهما، فقال الجعبري: «و الفرق بين المستطيل و الممدود أن المستطيل جري (1) الأصوات اللغوية ص 190.
(2) ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 133.
(3) الإدغام الكبير 6 ظ.
(4) الكتاب 4/ 432 و 446 و 470.
(5) الكتاب 4/ 457 و 466.
(6) المرعشي: جهد المقل 17 و.
(7) الداني: التحديد 19 و، و انظر: مكي: الرعاية ص 109.
(8) المرعشي: جهد المقل 17 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 274
في مخرجه، و الممدود جري في نفسه» «1». و قال المرعشي معلقا علي ذلك: «توضيح هذا الفرق للمستطيل مخرجا له طول في جهة جريان الصوت، فجري في مخرجه بقدر طوله و لم يتجاوزه، لما عرفت أن الحرف لا يتجاوز مخرجه المحقق، و ليس للممدود مخرج، فلم يجر إلا في ذاته لا في مخرج، إذ المخرج المقدر ليس بمخرج حقيقة، فلا ينقطع إلا بانقطاع الهواء، و لأجل هذا الفرق اختلفت تسمياتها، و لو انعكست لصحّ لكنهم اختاروا ذلك» «2».
و لاحظ المرعشي وجود علاقة بين صفة الاستطالة و صفة التفشي، و يتضح من كلامه أن الصوت المتفشي و الصوت المستطيل يحتاجان إلي زمن لنطقهما أكثر من بقية الحروف الجامدة الرخوة، و لكن لا يبلغان زمن الصوت الممدود، يقول: «إن التفشي يوجب استطالة الصوت، فكل متفش مستطيل. و قد عرفت حروف التفشي في بابه، و بالجملة إن الحروف علي أربعة مراتب:
آنيّ لا يمتد أصلا و هي الحروف الشديدة.
و زمانيّ يمتد قدر ألف و هي حروف المد.
و زمانيّ يقرب من قدر ألف و هي الضاد المعجمة و حروف التفشي.
و زمانيّ يقرب من الآنيّ، و هي بواقي الحروف» «3».
و لما كانت الضاد القديمة الموصوفة بالاستطالة غير متحققة في النطق اليوم، و هي الأصل في هذه الصفة، فإن تصور تلك الصفة في الضاد لا يصل إلي الوضوح التام، و يمكن أن نستنتج أن المقصود بالاستطالة هو اتساع مخرج الحرف، أي أن ما يأخذه الحرف المستطيل من العضوين اللذين يشتركان في مخرجه أكبر مما يأخذه الحرف غير المستطيل من ذينك العضوين.

7- الانحراف:

وصف سيبويه اللام بأنه حرف منحرف، فقال و هو يتحدث عن صفات الحروف:
«و منها المنحرف، و هو حرف شديد جري فيه الصوت لانحراف اللسان مع الصوت، و لم يعترض علي الصوت كاعتراض الحروف الشديدة، و هو اللام ... و ليس يخرج الصوت من (1) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 17.
(2) جهد المقل 17 ظ.
(3) جهد المقل 17 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 275
موضع اللام، و لكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك» «1».
و كذلك وصف علماء التجويد اللام بأنه منحرف، فقال عبد الوهاب القرطبي: «و من الحروف المنحرف، و هو اللام، لأن اللسان ينحرف فيه مع الصوت، و تتجافي ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما علي الصوت من تينك الناحيتين و مما فويقهما» «2».
و وصف بعض علماء التجويد الراء بأنه صوت منحرف أيضا، كما فعل مكي حين قال:
«حرفا الانحراف، و هما اللام و الراء، و إنما سمّيا بذلك لأنهما انحرفا عن مخرجهما حتي اتصلا بمخرج غيرهما، و عن صفتهما إلي صفة غيرهما»، و نلمح من كلامه أنه يحمل صفة الانحراف علي معني خاص، فهو يقول عن اللام: «فسمي منحرفا لانحرافه عن حكم الشديدة و عن حكم الرخوة فهو بين صفتين» و يقول عن الراء: «و قيل إنما سميت الراء منحرفة لأنها في الأصل من الحروف الشديدة، لكنها انحرفت عن الشدة إلي الرخاوة، حتي جري معها الصوت ...» «3». و نسب الداني إلي الكوفيين القول بأن الراء منحرف «لأنه ينحرف عن مخرج النون إلي مخرج اللام ...» «4».
و وصف الراء بالانحراف غير سديد، كما يبدو لي، و ذلك لأن الانحراف وصف لطبيعة مرور الهواء في مخرج اللام، و هو لا ينطبق علي الراء الذي يوصف بأنه مكرر لأن مرور الهواء في مخرجه له صفة خاصة، و قد قال المرادي: «و أكثر البصريين لا يصف بالانحراف إلا اللام وحدها. و ذهب الكوفيون و مكي إلي أن الراء منحرف. قال بعض النحويين: و هو مذهب سيبويه. قلت: و هو ظاهر كلامه قال «5»: و منها المكرر و هو حرف شديد جري فيه الصوت لتكريره و انحرافه إلي اللام» «6».
و لا يكفي قول سيبويه أن الراء انحرف إلي اللام ليعد صوتا منحرفا، فالمنحرف صار مصطلحا له دلالة معينة، لا مجرد كلمة تدل علي معني لغوي ينطبق علي أي نوع من أنواع الانحراف. فالأصوات المنحرفة تتكون «بوضع عقبة في وسط المجري الهوائي مع ترك منفذ (1) الكتاب 4/ 435، و انظر: المبرد: المقتضب 1/ 193 و 213.
(2) الموضح 157 و.
(3) انظر في ذلك كله: الرعاية ص 107- 108.
(4) التحديد 19 و.
(5) الكتاب 4/ 435.
(6) المفيد 112 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 276
للهواء عن طريق أحد جانبي العقبة، أو عن جانبيها، و من هنا كانت تسميتها بالمنحرف (أو الجانبية) ...» «1». و هذا الوصف لا ينطبق علي الراء، و لذلك لم يصف المحدثون الراء بالانحراف.

8- صفات أخري:

اشارة

هناك صفات أخري للأصوات يذكرها بعض علماء التجويد، و لم تشتهر شهرة الصفات التي تحدثنا عنها، و كان مكي بن أبي طالب أكثر علماء التجويد حرصا علي تقصي كل ما له صلة بالحروف العربية و إدراجه في قائمة صفات الحروف، حتي بلغ ما أحصاه أربعة و أربعين لقبا و صفة، و لم يبلغ أحد من علماء التجويد في إحصاء الصفات ما بلغه مكي، و لا أجد هنا ضرورة للحديث عن جميع تلك الصفات، و أكتفي بالإشارة إليه فقط، و التوقف عند أكثرها لصوقا بالدرس الصوتي.
إن مجموعة من تلك الصفات تتعلق بحروف المد و اللين، مثل الهاوي، و الهوائية، و الإمالة، و المد، و اللين، و سوف نتحدث عنها في مبحث الأصوات الذائبة. و مجموعة أخري من تلك الصفات تتعلق بالدراسة الصرفية مثل: الحروف الأصلية، و الزائدة، و حروف العلة، و حروف الإبدال، و مجموعة ثالثة تمثل ألقاب الحروف التي لقب الخليل بن أحمد بها الحروف، تبعا لمخارجها، و هي عشرة: الحلقية و اللهوية ... الخ «2».
و ذكر السمرقندي عددا من الصفات الجديدة للحروف مثل (النبر و البحة و النفث) «3».
و قد ذكر الحسن بن شجاع التوني أن الحروف النافثة الفاء و الثاء، و النابرة الهمزة، و فسر النبر بالحدة «4» و لعل السمرقندي يريد بالبحة صوت الحاء الذي قال عنه الخليل: «و لو لا بحة في الحاء لأشبهت العين» «5».
و هناك بعض الصفات التي اختلف العلماء في الأصوات التي توصف بها، فذكر مكي (1) محمود السعران: علم اللغة ص 185. و يلاحظ هنا أن بعض المؤلفين المحدثين يستخدمون كلمة (الجانبي) بدل (المنحرف) و بعضهم حافظ علي المصطلح القديم.
(2) انظر: الرعاية ص 92- 116.
(3) روح المريد 124 ظ. و كان ابن جني قد قال: (سر صناعة الإعراب 1/ 189): «الثاء حرف مهموس، و هو أحد حروف النفث».
(4) المفيد في علم التجويد 5 ظ.
(5) العين 1/ 57.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 277
(الحرف المهتوف) و فسره بالهمزة، و قال: «سميت بذلك لخروجها من الصدر، كالتهوع، فتحتاج إلي ظهور صوت قوي شديد، و الهتف الصوت الشديد». ثم قال: إن بعض العلماء ذكر موضع المهتوف: المهتوت بتاءين «1». و يبدو أن أصل التسمية يرجع إلي ما قاله الخليل عن الهمزة: «و أما الهمزة فمخرجها من أقصي الحلق مهتوتة مضغوطة، فإذا رفّه عنها لانت ...» «2».
و كان ابن جني قد قال: «و من الحروف المهتوت، و هو الهاء، و ذلك لما فيها من الضعف و الخفاء» «3». و تابع بعض علماء التجويد ابن جني في أن المهتوت هو الهاء «4». و تردد بعضهم بين قول مكي و قول ابن جني، فقال عبد الوهاب القرطبي: «و من الحروف المهتوتة و هو الهاء، و ذلك لما فيها من الضعف و الخفاء. و قال بعضهم المهتوت الهمزة» «5».
و ذكر الزمخشري في المفصل أن المهتوت هو التاء، و تابعه علي ذلك شراح المفصل «6». و رجح الجاربردي أن المهتوت هو الهاء، و قال: «إن ما ذكر في المفصل من أن المهتوت التاء كأنه غلط من الناسخ» «7».
و من الصفات المختلف في أصواتها (الجرسي)، قال مكي: «الحرف الجرسي و هو الهمزة، سميت بذلك لأن الصوت يعلو بها عند النطق بها ... و الجرس في اللغة الصوت.
فكأنه الحرف الصوتي، أي: المصوت به عند النطق به. و كل الحروف يصوّت بها عند النطق بها، لكن الهمزة لها مزية زائدة في ذلك» «8». و كان عبد الوهاب القرطبي قد ذكر هذه الصفة علي هذا النحو (الجرس) بالسين في آخر الكلمة. و قال: «و أما الجرس فالألف الساكنة لا (1) الرعاية ص 112. و في لسان العرب (11/ 259 هتف): الهتف: الصوت الجافي العالي، و قيل:
الصوت الشديد. و فيه أيضا (2/ 408 هتت): الهت شبه العصر للصوت.
(2) العين 1/ 52.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 74. و قد نسب ابن منظور ذلك إلي سيبويه (لسان العرب 2/ 408 هتت) و لم أتمكن من التحقق من هذه النسبة.
(4) العطار: التمهيد 147 و.
(5) الموضح 158 و.
(6) ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 128. و ابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 490. انظر:
الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 264. و ابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 676.
(7) شرح الشافية ص 250.
(8) الرعاية ص 108.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 278
يكون إلا كذلك» «1». و لعل قوله هذا يعتمد علي رواية عن الخليل جاء فيها «فأما الألف اللينة فلا صرف لها، إنما هي جرس مدة بعد فتحة» «2».
و ذكر مكي الحروف (المشربة)، و يقال لها (المخالطة) بكسر اللام و فتحها. و فسرها بأنها الحروف الستة التي اتسعت العرب فيها فزادتها علي التسعة و العشرين، نحو الصاد التي بين الصاد و الزاي، و شبه ذلك. سميت بذلك لأنها تخالط غيرها «3». لكن مصطلح (المشربة) عند سيبويه لا يمت إلي هذا التفسير بصلة، فهو لديه أقرب إلي أن يكون مرادفا لمصطلح المجهورة «4».
و هناك صفات أخري ذات ارتباط وثيق بحقائق الأصوات و طبيعتها، تحدث عنها علماء التجويد و هي من أكثر الصفات دقة، و لا يستطيع الدارس تقديم رأي قاطع في ما قاله علماء التجويد عنها من غير الاستعانة بالأجهزة الحديثة لدراسة الأصوات، و لما كانت هذه الأجهزة غير متيسرة فإننا نكتفي بعرض وجهة نظر علماء التجويد في تلك الصفات، و هي: الخفاء و الظهور، و القوة و الضعف.

(أ) الخفاء و الظهور:

وصف سيبويه بعض الحروف بأنها خفية، و كان صوت الهاء أول تلك الحروف، فقد قال سيبويه في مواضع كثيرة: أن الهاء خفية «5». و كذلك وصف الحروف الثلاثة الياء و الواو و الألف بأنها خفية «6». و كذلك وصف النون بأنها خفية «7». و لم يوضح سيبويه معني قوله (خفية).
و قد ذكر مكي (الخفية) في صفات الحروف فقال: «الحروف الخفية، و هي أربعة:
الهاء، و حروف المد و اللين المتقدمة الذكر. و إنما سميت بالخفية لأنها تخفي في هذا اللفظ إذا اندرجت بعد حرف قبلها ... و الألف أخفي هذه الحروف لأنها لا علاج علي اللسان فيها (1) الموضح 158 ظ.
(2) تهذيب اللغة 1/ 51.
(3) الرعاية ص 105- 106.
(4) انظر: الكتاب 4/ 174.
(5) الكتاب 2/ 421، 3/ 532، 4/ 123 و 195 و 200.
(6) الكتاب 2/ 262 و 421، 4/ 165 و 195.
(7) الكتاب 4/ 161.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 279
عند النطق بها ... و قد ذكر بعض العلماء أن في الهمزة خفاء يسيرا «1»، و كذلك النون الساكنة فيها خفاء» «2».
و قال عبد الوهاب القرطبي: «و أما الخفية فالهاء و الألف و الياء و الواو. و ذلك لاتساع مخرجهن، و أوسعهن مخرجا الألف، لأنه لا علاج علي اللسان فيها كالنّفس، ثم الهاء، ثم الياء، ثم الواو. و مما يشرك هذه الحروف في الخفاء النون، إذا سكنت في غير إظهار و لا إدغام و لا قلب» «3».
و تحدث المرعشي عن هذه الصفة و سماها (الخفاء)، و قال: «و هي في اللغة الاستتار، و في العرف خفاء صوت الحرف، و حروفها أربعة حروف المد و الهاء» «4». و قد جعل لهذه الصفة مقابلا و هو الظهور فقال: «و ضد الخفاء الظهور، و لم يقع الاصطلاح به» «5». و يفهم من كلام المرعشي أنه يريد بالخفاء و الظهور مقدار الأثر الذي يتركه الصوت في السمع. فقد قال:
«و أما خفاء الهاء فلاجتماع جميع صفات الضعف فيها مع اتساع مخرجها. قال في الرعاية:
الخفاء من علامات ضعف الحرف، و لما كان الهاء حرفا خفيا وجب أن يتحفظ ببيانها حيث وقعت «6». أقول: معني بيانها تقوية صوتها بتقوية ضغط مخرجها، فلو لم يتحفظ علي تقوية ضغط مخرجها لمال الطبع إلي توسيع مخرجها لعسر تضييقه لبعده عن الفم، فيكاد أن ينعدم في التلفظ» «7».
و إذا كنا نلاحظ بالحس المجرد أن الهاء من أخفي الحروف في السمع، و ينطبق عليها وصف سيبويه بأنها خفية، فإن من غير المقبول أن نصف حروف المد بأنها خفية و نفسر ذلك علي أنها أقل وضوحا في السمع من غيرها، و ذلك لأن علماء الأصوات المحدثين يقولون: إن مما تتميز به الأصوات الصائتة (الذائبة حروف المد) علي الأصوات الصامتة (الجامدة) قوة (1) قال سيبويه (الكتاب 4/ 177): «فلما كانت الهمزة أبعد الحروف و أخفاها في الوقف حركوا ما قبلها، ليكون أبين لها».
(2) الرعاية ص 102- 103.
(3) الموضح 158 ظ.
(4) جهد المقل 18 و.
(5) جهد المقل 18 ظ، و انظر 19 و.
(6) انظر: مكي: الرعاية ص 130.
(7) جهد المقل 18 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 280
وضوحها في السمع «1».
فتفسير الخفاء بقلة الوضوح في السمع ينطبق علي صوت الهاء، دون حروف المد، و من ثم وجب البحث عن تفسير آخر لا يترتب عليه مثل هذا التناقض. و ربما أمكن الوصول إلي ذلك التفسير من خلال ملاحظة صفة مشتركة تجمع بين الأصوات الخفية الأربعة، فحروف المد من أكثر الحروف اتساعا في المخرج، و هي أصوات مجهورة، و يقرر علماء الأصوات أن الهاء في إنتاجها و صفاتها لا تختلف عن حروف المد (الحركات) إلا في الجهر «2». حتي ذهب بعضهم إلي إمكانية وصفها بأنها (صائت مهموس) «3». فالحروف الخفية الأربعة تشترك في كون مخارجها متسعة. و لكن كيف يمكن أن يؤثر اتساع المخرج علي هذه الأصوات حتي يمكن أن توصف بأنها خفية؟ إن تفسير الخفاء باتساع المخارج غير كاف، فقول المرعشي في تفسير خفاء حروف المد: «و أما خفاء حروف المد فلسعة مخرجها» «4» لا يزال بحاجة إلي بحث ينبني علي التعرف علي الخصائص الفيزياوية و السمعية لهذه الأصوات «5». و هذا أمر لا نملك وسائل القيام به الآن.

(ب) القوة و الضعف:

لا نجد في كلام متقدمي علماء العربية شيئا واضحا و مفصلا عن موضوع قوة الصوت و ضعفه «6»، و يبدو أن علماء التجويد هم أول من بحث هذا الموضوع علي نحو مفصل، و ربما كان مكي بن أبي طالب هو واضع نظرية قوة الحروف و ضعفها لدي علماء التجويد، فهو أقدم من تكلم عن هذا الموضوع و أفاض في الحديث عنه و عرض تفصيلاته في أكثر من كتاب من كتبه، و يكاد كلام الذين جاءوا من بعده يكون اقتباسا منه. (1) محمود السعران: علم اللغة ص 163. و كمال محمد بشر: الأصوات ص 92.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 89.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 195.
(4) جهد المقل 18 و.
(5) ينفي الدكتور عبد الصبور شاهين (القراءات القرآنية ص 40) أن يقصد بالخفاء الهمس، و يفسره بضعف هذه الأصوات. و هو يعني ضعفها في السلوك اللغوي (أي الصرفي) (انظر: القراءات القرآنية ص 43).
(6) وردت إشارة إلي الأقوي و الأضعف من الحروف عند ابن جني (الخصائص 1/ 54- 55، و انظر مناقشة الدكتور حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 288) و هي إشارة تفتقر إلي الوضوح و التحديد اللذين نجدهما في كلام علماء التجويد.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 281
تحدث مكي عن هذا الموضوع في كتابه (الرعاية) في أكثر من موضع في أثناء كلامه عن صفات الحروف، فقال و هو يتحدث عن الحروف الشديدة: «و الشدة من علامات قوة الحرف، فإن كان مع الشدة جهر و إطباق و استعلاء فذلك غاية القوة في الحرف، لأن كل واحدة من هذه الصفات تدل علي القوة في الحرف، فإذا اجتمع اثنتان من هذه الصفات في الحرف أو أكثر فهي غاية القوة كالطاء. فعلي قدر ما في الحرف من الصفات القوية كذلك قوته، و علي قدر ما فيه من الصفات الضعيفة كذلك ضعفه».
«فافهم هذا لتعطي كل حرف في قراءتك حقه من القوة، و لتتحفظ ببيان الضعيف في قراءتك، فالجهر و الشدة و الصفير و الإطباق و الاستعلاء من علامات قوة الحرف، و الهمس و الرخاوة و الخفاء من علامات ضعف الحرف، فاعرف هذه المقدمة» «1».
و عاد مكي إلي الموضوع مرة أخري في كتاب (الرعاية) حين تحدث عن صفة الرخاوة، و قدم بعض التطبيقات و الموازنات في مجال قوة الحروف و ضعفها، فقال: «و هذه الصفة من علامات الضعف، كالهمس و الخفاء، فاعرف الصفات الضعيفة و الصفات القوية تقو بذلك علي تجويد لفظك في كتاب اللّه جل جلاله، فإذا كان أحد هذه الصفات الضعيفة في حرف كان فيه ضعف، و إذا اجتمعت فيه كان ذلك أضعف له، كالهاء التي هي مهموسة رخوة منفتحة خفية ... كذلك الصفات القوية إذا كان أحدها في حرف قوي بذلك، فإذا اجتمعت في حرف كان ذلك أقوي له، كالطاء الذي اجتمع فيه الجهر «2» و الشدة و الإطباق و الاستعلاء، و نحو الصاد الذي اجتمع فيه الصفير و الإطباق و الاستعلاء، فهو دون الطاء في القوة، إذ عدمت الجهر و الشدة، و الضاد أقوي من الصاد، لأن الضاد حرف مجهور، مع أنه مطبق مستعل مستطيل، فالجهر الذي فيه أقوي من الصفير الذي في الصاد فاعرف هذا». و عالج مكي الموضوع في مواضع أخر من كتاب (الرعاية) «3».
و عقد مكي في كتابه (الكشف عن وجوه القراءات) بابا مستقلا للموضوع سماه (باب في معرفة الحروف القوية و الضعيفة)، لخص فيه عناصر الفكرة، و بلغ ما ذكره في هذا الباب من الصفات القوية عشرة، حيث قال: «و اعلم أن القوة في الحرف تكون بالجهر و بالشدة و بالإطباق و التفخيم و بالتكرير و بالاستعلاء و بالصفير و بالاستطالة و بالغنة (1) الرعاية ص 93- 94.
(2) هذا الوصف ينطبق علي الطاء العربية القديمة، أما الطاء التي تنطق اليوم فمهموسة.
(3) انظر: الرعاية ص 106 و 107 و 172 و 175 و 178 و 183 و 198.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 282
و بالتفشي» «1». و قد طبق مكي نظريته عن قوة الحروف و ضعفها في الفصول التي تحدث فيها عن الإدغام في كتابه (الكشف) «2».
و تحدث عن موضوع تقسيم صفات الحروف إلي قوية و ضعيفة يعض شراح الشاطبية، و إن لم يشر إليه الشاطبي «3». و كذلك فعل بعض شراح المقدمة الجزرية و إن لم يشر إليه ابن الجزري «4». كذلك تحدث عن الموضوع المرادي «5»، و القسطلاني «6»، و النابلسي «7»، و المرعشي «8».
و لم يغير هؤلاء الذين جاءوا بعد مكي شيئا من فكرة الموضوع، و غاية ما أضافوه تقسيم الصفات إلي قوية و ضعيفة و متوسطة، حيث قالوا: إن المتوسط بين الشدة و الرخاوة صفة متوسطة بين القوة و الضعف «9». و كذلك قسم المرادي الحروف إلي قوي مطلقا و هو ما اجتمعت فيه صفات القوة، و قوي من وجه، و ضعيف من وجه، و هو ما اجتمعت فيه صفة قوة و صفة ضعف «10». و زاد النابلسي تلك التقسيمات إلي خمسة، حيث قال: «فانقسمت هذه الحروف باعتبار القوة و الضعف إلي خمسة أقسام:
القسم الأول: قوي محض، و هي الطاء المهملة.
و القسم الثاني: إلي ضعف محض، و هو الفاء.
و القسم الثالث: قوته أغلب، و هي الهمزة و الجيم و الدال المهملة و الصاد و الضاد المعجمة و الغين المعجمة و القاف.
و القسم الرابع: ضعفه أغلب، و هي الألف و التاء المثناة الفوقية و الثاء المثلثة و الحاء (1) الكشف 1/ 137.
(2) الكشف 1/ 141- 160.
(3) الفاسي: اللئالئ الفريدة 215 ظ، و أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13.
(4) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 21 ظ، و عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 12 و.
(5) المفيد 102 ظ.
(6) لطائف الإشارات 1/ 204.
(7) كفاية المستفيد 8 ظ- 11 و.
(8) جهد المقل 19 و- 19 ظ.
(9) عبد الغني النابلسي: كفاية المستفيد 8 ظ.
(10) المرادي: المفيد 102.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 283
المهملة و الخاء المعجمة و الذال المعجمة و الشين و السين و الكاف و اللام و الميم و النون و الهاء و الواو و الياء [المثناة] «1» التحتية.
و القسم الخامس: قوته و ضعفه سواء، و هو الباء الموحدة و الراء و الزاي و العين المهملة» «2».
و كان عبد الغني النابلسي قد أورد الحروف واحدا بعد الآخر و بيّن ما في كل حرف من صفات القوة و الضعف «3». و هو ما لم يفعله غيره من المؤلفين الذين كانوا يكتفون بتقديم أمثلة محدودة، علي نحو ما قال الفاسي: «و ما ذكرته في هذه الحروف الأربعة مغن عن الإطالة بذكر جميع الحروف» «4».
و زاد النابلسي علي ما ذكره مكي من صفات القوة صفتين هما الانصمات و الانحراف، كما زاد علي صفات الضعف عددا آخر، و لم يذكر الخفاء، و ذلك حيث قال: «اعلم أن الصفات التي ذكرناها، و هي تسع عشرة صفة، صفات القوة منها اثنتا عشرة صفة هي: الجهر و الشدة و الاستعلاء و الانطباق و الانصمات و الصفير و القلقلة و الانحراف و التكرار و التفشي و الاستطالة و الغنة. و صفات الضعف منها ست و هي: الهمس و الرخاوة و الاستفال و الانفتاح و الانذلاق و اللين. و صفة واحدة متوسطة بين القوة و الضعف و هي البينية» «5». و يعني بالبينية المتوسطة بين الشدة و الرخاوة. و ذكره لصفة الانصمات في صفات القوة لا يتضح له وجه، لأن الأصوات المصمتة في تفسير أكثر العلماء هي الممنوعة من أن تنفرد بكلمة طويلة (رباعية أو خماسية)، فهذه صفة لا تعلق لها بجرس الأصوات.
و لم يحدد علماء التجويد المراد بقوة الحرف و ضعفه، و لكني أرجح أن يكون ذلك متعلقا بقوة وقع الصوت و وضوحه في السمع، علي نحو ما فسرنا به صفة الخفاء و الظهور.
و هو أمر يفهم من قول المرعشي و هو يقسم فيه الصفات القوية إلي درجات بحسب القوة:
«فظهر أن صفات القوة متفاوتة في القوة لأن وجه كونها صفات القوة إيجاب قوة صوت الحرف، و هو مما يقبل الشدة و الضعف. و الذي نفهمه أن القلقلة أقوي الصفات، و الشدة (1) زيادة مني ليست في الأصل.
(2) كفاية المستفيد 11 و.
(3) كفاية المستفيد 8 ظ- 11 و.
(4) اللئالئ الفريدة 215 ظ.
(5) كفاية المستفيد 8 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 284
أقوي من الجهر، و كل واحد من هذه الثلاثة أقوي من التفشي و الصفير، و إن الإطباق أقوي من الاستعلاء الخالي عنه، و اللّه أعلم بما ذكرنا و بالبواقي» «1».
و ليس متيسرا الآن إعطاء تقويم شامل لفكرة تقسيم الصفات إلي قوية و ضعيفة، و إن كنت أعتقد أن تفاوت الصفات في القوة و الضعف أمر وارد و محسوس، و لكن تقديم تفصيلات عن درجات القوة و الضعف و التأكد من نسبة الصفات إلي أي من الصنفين، يحتاج إلي أجهزة مختبر الصوت و هو ما لم يتيسر لنا استخدامه في تقويم نتائج الدراسات الصوتية عند علماء التجويد.

ثالثا- وصف الأصوات:

اشارة

إن تحديد مخرج الصوت ليس كافيا وحده في توضيح حقيقته، كذلك بيان صفاته، فلا بد من خطوة أخري لتجميع العناصر التي تكوّن الصوت و ضم بعضها إلي بعض، حتي تتضح ملامحه المكونة له التي تميزه عن غيره، و هذه مراحل تبدأ بالمخارج و تنتهي بالصفات، و تصنيفها أثناء ذلك إلي مجموعات لا يسمح بتقديم وصف شامل لكل صوت بمفرده.
الباء مثلا صوت تكرر ذكره في عدة مباحث سابقة عند الحديث عن:
1- المخارج، و وصف بأنه شفوي.
2- الجهر و الهمس، و وصف بأنه مجهور.
3- الشدة و الرخاوة، و وصف بأنه شديد.
و لا يكفي لتوضيح خصائص (الباء) بأن نقول إنه صوت (شفوي)، لأن هذا الوصف لا يوضح إلا النقطة التي يتكون فيها الصوت، و هناك جوانب أخري تشارك في إعطاء الصوت جرسه المتميز، مثل حالة الوترين الصوتيين، و كيفية مرور الهواء في النقطة التي يتكون فيها الصوت، و التي تعرف بالمخرج. فلا بد من توضيح هذه العناصر الثلاثة الأساسية عند الحديث عن خصائص و صفات أي صوت. فيجب أن نقول عند وصف الباء بأنه (صوت شفوي مجهور شديد). و هناك عوامل أخري تسهم في تكوّن بعض الأصوات غير العناصر الثلاثة السابقة علي نحو ما يتضح من كلامنا السابق عن صفات الأصوات.
و قد حظي هذا الموضوع بعناية كبيرة من علماء التجويد، و كذلك من علماء الأصوات (1) جهد المقل 19 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 285
المحدثين. أما علماء العربية من اللغويين و النحاة فلم يعنوا كثيرا بهذا الجانب من الدرس الصوتي، و إن كانت دراستهم في الجوانب الأخري وافية، فابن جني مثلا لم يزد في وصفه للأصوات عند الحديث عنها مبوبة علي ذكر صفتي الجهر و الهمس، فيقول: «الباء حرف مجهور» «1». و هكذا، إلا أنه حين وصف الثاء قال: «الثاء حرف مهموس، و هو أحد حروف النفث» «2». و قال حين وصف الراء: «الراء حرف مجهور مكرر» «3»، و وصف الطاء بأنه «حرف مجهور مستعل» «4». و هو نفس وصفه للغين «5». و لم يعن ابن جني بتحديد المخرج أو تبيين صفتي الشدة و الرخاوة أو الصفات الأخري.
و نلاحظ عناية علماء التجويد بوصف الأصوات منذ القرن الخامس، عصر المؤلفات الكبري في هذا العلم، فنجد ذلك في كتاب (الرعاية) لمكي (ت 437 ه) و كتاب (التحديد) للدانيّ (ت 444 ه)، و كتاب (الموضح) لعبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه). و يأتي وصف الأصوات في هذه الكتب دقيقا لكنه موجز أحيانا و غير واف في أحيان أخري، بينما نلاحظ طغيان التعقيد و المبالغة في وصف الأصوات لدي جماعة من علماء التجويد المتأخرين مثل القسطلاني (ت 923 ه) في كتابيه (اللئالئ السنية في شرح المقدمة الجزرية) و (لطائف الإشارات لفنون القراءات)، و مثل أبي الفتوح الوفائي (ت 1020 ه) في كتابه (الجواهر المضيّة علي المقدمة الجزرية). و بين المؤلفات القديمة و المؤلفات المتأخرة هناك مرحلة متوسطة تتمثل بكتاب (روح المريد في شرح العقد الفريد) للسمرقندي (ت 780 ه) و كتاب (التمهيد في علم التجويد) لابن الجزري (ت 833 ه).
و يمكن للباحث أن يتتبع تطور وصف الأصوات لدي علماء التجويد من خلال المراحل الثلاث السابقة. و هي مرحلة مؤلفات القرن الخامس، و مرحلة المؤلفات المتأخرة، و المرحلة الوسطي بين تينك المرحلتين.
و في المرحلة الأولي نجد عبارة مكي في وصف الأصوات يغلب عليها الطول، بينما تتقارب عبارة الداني و القرطبي، مع إيجاز يغلب علي عبارة الداني في بعض الأحيان. و قد جاء (1) سر صناعة الإعراب 1/ 135.
(2) المصدر نفسه 1/ 189.
(3) المصدر نفسه 1/ 205.
(4) المصدر نفسه 1/ 223.
(5) المصدر نفسه 1/ 247.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 286
وصف الأصوات في كتب هؤلاء العلماء الثلاثة في أول حديثهم عن كل حرف في الفصول التي عقدوها لبيان الظواهر الصوتية المتصلة بكل حرف من حروف العربية، و يحرص مكي علي توضيح مخرج الحرف أولا، بينما يكتفي كلّ من الداني و القرطبي بما ذكراه عن مخارج الحروف في الباب الذي وضعاه في أول كتابيهما.
قال مكي في وصف الطاء: «الطاء تخرج من المخرج الثامن من مخارج الفم، تخرج من طرف اللسان و أصول الثنايا، و الطاء من أقوي الحروف، لأنه حرف مجهور شديد مطبق مستعل» «1».
و قال الداني: «ذكر الطاء، و هو حرف مجهور مستعل مطبق» «2».
و قال عبد الوهاب القرطبي: «الطاء من الحروف المستعلية المجهورة و المطبقة الشديدة» «3».
و عند الموازنة بين النصوص الثلاثة نجد أن مكيا بيّن مخرج الصوت في أول كلامه، ثم ذكر أربع صفات لصوت الطاء (مجهور شديد مطبق مستعل) و وصف الطاء بالجهر مبني علي النطق القديم لهذا الصوت. و نجد أن الداني و القرطبي لم يشيرا إلي المخرج و اكتفيا بذكر صفات الصوت، مع ملاحظة أن الداني أغفل الإشارة إلي كون الصوت (شديدا).
و نلاحظ من النصوص السابقة أنها تضمنت العناصر الأساسية لوصف الصوت و هي:
المخرج، و بيان حالة الجهر و الهمس، و توضيح كيفية مرور الهواء في المخرج، مع توضيح ما يتميز به صوت الطاء من صفة (الإطباق).
و في المرحلة المتوسطة لوصف الأصوات نلاحظ إضافة بعض الصفات الجديدة، مع إغفال الإشارة إلي مخرج الصوت، فيقول السمرقندي في وصف الطاء: «للطاء خمس صفات: القلقلة و الإطباق و الاستعلاء و الجهر و الشدة» «4». و قال ابن الجزري في وصف الطاء أيضا: «حرف مجهور شديد مطبق مستعل مقلقل» «5»، الصفة الجديدة هنا هي (القلقلة).
و يأخذ وصف الأصوات شكله الكامل البالغ حد الإفراط في المؤلفات المتأخرة علي (1) الرعاية ص 172.
(2) التحديد 31 ظ.
(3) الموضح 163 و.
(4) روح المريد 127 ظ.
(5) التمهيد ص 44.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 287
نحو ما يتضح من قول القسطلاني في وصف الطاء: «و الطاء مجهور، مستعل بالعين، منطبق، شديد، مفخم، مقلقل، مبدل، مصمت، نطعي» «1». و مثل ذلك قول الوفائي: «و الطاء المهملة نطعية مجهورة شديدة مستعلية مطبقة مصمتة مقلقلة» «2».
و إنما قلت: إن هذا الوصف الكامل قد بلغ حد الإفراط لأنه جاء بصفات لا يقتضي توضيح الخصائص الصوتية للطاء ذكرها، فالصفات الثلاث التي ذكرها القسطلاني (مستعل، منطبق، مفخم) يمكن اختصارها بصفة واحدة، و هي (منطبق أو مطبق) التي من لوازمها الاستعلاء و التفخيم. و كذلك (مبدل و مصمت) لا تدلان علي خاصة صوتية للطاء، و إنما تشيران إلي ظواهر صرفية لا يلزم في الدرس الصوتي ذكرها. أما العنصر الجديد في هذا الوصف فهو تحديد مخرج الصوت، فإن كلمة (نطعي) تشير إلي المخرج، و هو نطع الغار الأعلي. و هذه الكلمة من مصطلحات الخليل التي استخدمها لتحديد مخارج الحروف، و قد استعان بها علماء التجويد في وصف الأصوات، و هي: حلقية و لهوية و شجرية و نطعية و أسلية و لثوية و شفوية و هوائية «3».
و لا توجد طريقة محددة لوصف الأصوات، فعلماء التجويد وصفوا الأصوات من غير أن ينصوا علي أساس محدد لعملهم، و كذلك أغفل المحدثون تحديد طريقة معينة لوصف الأصوات، و لا يخرج الناظر في وصفهم للأصوات بتصور واضح، و يتضح ذلك بالنظر في وصف الطاء لدي أربعة من كبار دارسي الأصوات العربية من المحدثين، و هو قولهم:
1- الطاء الآن صوت شديد مهموس «4».
2- الطاء صوت صامت مهموس سني مطبق انفجاري «5».
3- أما صوت الطاء فأسناني- لثوي شديد مهموس مفخم «6».
4- فالطاء إذن صوت أسناني- لثوي انفجاري مهموس مفخم (أو مطبق) «7». (1) لطائف الإشارات 1/ 205. و انظر: اللئالئ السنية (له) 13 ظ.
(2) الجواهر المضية 35 ظ.
(3) انظر: العين 1/ 58.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 62.
(5) محمود السعران: علم اللغة ص 168.
(6) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 94.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 130.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 288
و يلاحظ علي هذه النصوص الأربعة ثلاث ملاحظات:
الأولي: اختلاف المصطلحات المستخدمة للتعبير عن بعض الصفات، و يرجع جانب من ذلك الاختلاف إلي وجود أكثر من مصطلح للتعبير عن الصفة الواحدة مثل (شديد و انفجاري) و مثل (مفخم و مطبق) و إن كان علماء التجويد يفرقون بين المفخم و المطبق.
و يرجع جانب آخر منه إلي عدم الاتفاق في تحديد بعض العناصر الصوتية مثل ما نجده في النصوص السابقة من الاختلاف في تحديد المخرج بن (سني) و (أسناني لثوي).
و الملاحظة الثانية: وجود اختلاف يسير في عدد الصفات، فالنص الأول خلا من تحديد المخرج و من ذكر صفة الإطباق، و هو ما ورد في موضع آخر، و النص الثاني تضمن صفة (صامت) و هي تعني أن الصوت ليس مصوتا، أي أنه جامد لا ذائب بتعبير بعض علماء التجويد.
و الملاحظة الثانية: و هي المهمة هنا، و هي المهمة هنا، أن النصوص الأربعة لم تتفق علي طريقة واحدة في ترتيب الصفات، و هو ما يدل علي أن الأمر خاضع لاجتهاد الدارسين، و لا توجد خطة موحدة لوصف الأصوات، فبينما نجد النصين الأخيرين متفقين في ترتيب الصفات نجد النصين الأولين في غاية الاختلاف.
و إذا كنا لا نجد خطة واضحة محددة لترتيب الصفات عند القدماء و لا عند المحدثين فإننا نلاحظ وجود اتجاهين في تحديد عدد الصفات التي يمكن أن يوصف بها الصوت.
الاتجاه الأول: يقتصر علي ذكر الصفات المميزة للصوت مع تحديد مخرجه. و هو الغالب علي وجهة المحدثين، و علي مؤلفات المرحلة الأولي و الثانية من كتب علم التجويد، و الاتجاه الثاني: يستقصي ذكر الصفات المميزة و المحسنة و المبالغة في ابتداع صفات أخري قد لا تكون ذات دلالة صوتية محضة، و هو الغالب علي مؤلفات علماء التجويد المتأخرة.
و لما كان غرض الدراسة العلمية تقديم الحقائق بأوجز عبارة واضحة وجدت أن المنهج المناسب لوصف الأصوات هو الاتجاه الأول الذي سار عليه علماء التجويد الأوائل، و التزم به دارسو الأصوات العربية المحدثون و يتلخص ذلك المنهج في الأمور الآتية:
1- تحديد مخرج الصوت. مهما كانت الطريقة في الوصول إلي ذلك، فالملاحظ أن علماء العربية و علماء التجويد ينسبون أصوات الفم إلي أجزاء اللسان التي تشترك في إنتاج تلك الأصوات، فيقولون: إن مخرج الكاف من أقصي اللسان، و إن الياء من وسط اللسان، و أن الدال من طرف اللسان، و يقولون: حروف أقصي اللسان، و حروف وسط اللسان، و حروف
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 289
طرف اللسان. أما المحدثون فإنهم ينسبون أصوات الفم إلي الجزء الثابت من الحنك الذي يشترك مع أجزاء اللسان في إنتاج الأصوات، فيقولون: الكاف (حنكي قصي)، و الياء (حنكي وسيط) و الدال (أسناني لثوي). و لا فرق في ذلك لأن الصوت إذا كان يشترك عضوان في إنتاجه فيمكن أن ينسب إلي أي منهما، أو إلي كليهما.
أما أصوات الحلق و أصوات الشفتين فإن عبارة القدماء و المحدثين في تحديد مخرجها تكاد تكون متفقة، و الاختلاف الموجود بينهم هو اختلاف عبارة أكثر منه اختلافا في تحديد ذات المخرج، علي أن بعض علماء التجويد المتأخرين استخدموا مصطلحات الخليل في تحديد المخارج، و هي في جوهرها أقرب إلي مذهب المحدثين.
2- تحديد الصفات المميزة للصوت، و يجب أن ينص علي كونه مجهورا أو مهموسا، شديدا أو رخوا، إلا الأصوات المتوسطة فيكفي فيها، بعد النص علي الجهر، أن يقال إن الراء مكرر، و اللام منحرف (جانبي)، و النون أغن، و الميم أغن كذلك، و توصف العين بأنها رخوة إلي أن تتضح حقيقة توسطها.
أما الإطباق و الانفتاح، و الاستعلاء و الاستفال فلا أجد ضرورة لوصف جميع الأصوات بهذه الصفات، فيكفي أن نحدد الصوت المطبق و ننص عليه و ندع الصوت المنفتح دون نص، و إذا قلنا إن الصوت مطبق فإن ذلك يغني عن إيراد صفة الاستعلاء، و إذا قلنا في الغين و الخاء و القاف إنها مستعلية لا يلزم بعد ذلك أن نصف الأصوات الأخري بأنها مستفلة، و ذلك لأن صفتي الإطباق و الاستعلاء لا تشمل إلا عددا محدودا من الأصوات، فيكفي النص عليها عن النص علي الصفات المضادة لها في غيرها من الأصوات.
أما الصفات المحسنة فلا بأس من ذكرها مقترنة بأصواتها، فنصف الشين بالتفشي، و الباء بالقلقلة، و الزاي بالصفير مثلا.
3- إهمال الإشارة إلي الصفات التي يذكرها بعض متأخري علماء التجويد و هي ليست ذات دلالة صوتية، مثل (مبدل و زائد و مصمت و معتل) «1».
4- أقترح أن يكون ترتيب الصفات علي هذا النحو:
أ- ذكر المخرج.
ب- تحديد كيفية مرور الهواء في المخرج (شديد، رخو). (1) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 204- 206.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 290
ج- بيان حالة الوترين الصوتيين (مجهور، مهموس).
د- ذكر صفة الإطباق أو الاستعلاء.
ه- ذكر الصفة المحسنة.
و أجد أن البدء بذكر المخرج أولي من البدء بذكر حالة الوترين، لأن العنصر الأساسي للصوت يتكون في المخرج ثم تتجمع حوله العناصر الأخري التي يمكن أن نسميها بالعناصر الثانوية للصوت. فصوت (الباء) مثلا العنصر الأساسي فيه هو حركة الشفتين (المخرج) فهو شفوي. ثم ينضم إلي ذلك كيفية مرور الهواء، و هو من هذه الناحية يوصف بأنه شديد (انفجاري)، و تبين بعد ذلك حالة الوترين الصوتيين، و هو من هذه الناحية يوصف بأنه مجهور.
فالباء إذن صوت شفوي شديد مجهور.
و يحتاج ذكر وصف علماء التجويد للأصوات و تتبع ذلك عبر المراحل الثلاث إلي مكان لا يتسع له البحث، و بدلا عن ذلك سوف أكتفي بإيراد بعض الأمثلة التي توضح موقف علماء التجويد من وصف الأصوات عبر تلك المراحل، مقرونا ذلك بنص يمثل وجهة دارسي الأصوات العربية من المحدثين. و سوف أورد وصف الباء و الصاد و النون و الكاف و الهاء، و لا أذكر إلا نصا واحدا من كل مرحلة، إلي جانب النص المنقول عن المحدثين.

1- الباء:

أ- الباء حرف مجهور شديد في نفسه متقلقل «1».
ب- الباء مجهورة شديدة منفتحة مستفلة مقلقلة «2».
ج- الباء مجهور منفتح مستفل بالفاء متقلقل شديد، مذلق، شفهي «3».
د- الباء صوت شفوي انفجاري مجهور «4».

2- الصاد:

أ- حرف صفير مهموس مطبق مستعل «5». (1) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 160 و.
(2) ابن الجزري: التمهيد ص 34.
(3) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 206.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 128.
(5) الداني: التحديد 34 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 291
ب- و هي مهموسة رخوة مطبقة مستعلية صفيرية «1».
ج- مهموس منطبق مستعل بالعين رخو صفيري مصمت مفخم أسلي «2».
د- صوت لثوي احتكاكي مهموس مفخم (مطبق) «3».

3- النون:

أ- حرف أغن مجهور «4».
ب- و هي مجهورة بين الشدة و الرخاوة منفتحة مستفلة فيها غنة «5».
ج- مجهور منفتح مستفل بالفاء، بين الشدة و الرخاوة، مذلق، مرقق، أغن «6».
د- صوت أسناني لثوي أنفي مجهور «7».

4- الكاف:

أ- تخرج من المخرج الثاني من مخارج الفم بعد القاف مما يلي الفم، و هي مهموسة شديدة «8».
ب- و هي مهموسة شديدة منفتحة مستفلة «9».
ج- مهموس منفتح شديد مستفل بالفاء مصمت لهوي «10».
د- صوت حنكي قصي انفجاري مهموس «11». (1) ابن الجزري: التمهيد ص 42.
(2) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 206.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 154.
(4) الداني: التحديد 35 ظ.
(5) ابن الجزري: التمهيد ص 49.
(6) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 205.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 168.
(8) مكي: الرعاية ص 147.
(9) ابن الجزري: التمهيد ص 46.
(10) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 205.
(11) كمال محمد بشر: الأصوات ص 138.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 292

5- الهاء:

أ- و هي حرف خفيّ مهموس «1».
ب- و هي و مهموسة رخوة منفتحة مستفلة خفية «2».
ج- حلقية مهموسة رخوة مستفلة منفتحة مصمتة خفية «3».
د- صوت حنجري احتكاكي مهموس «4».
***
(1) الداني: التحديد 25 ظ.
(2) ابن الجزري: التمهيد ص 49.
(3) الوفائي: الجواهر المضية 35 و.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 156. و لا يلتفت هنا إلي قول من قال من المحدثين إلي أن الهاء مجهورة (انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 103) فلعله لاحظ نطق صوت الهاء و هي بمجاورة أصوات مجهورة، فأثر جهرها علي همس الهاء فبدت و كأنها مجهورة.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 293

المبحث السادس الأصوات الذائبة

اشارة

تصنف الأصوات إلي صنفين رئيسيين سماهما بعض علماء التجويد باسم: الأصوات الجامدة و الأصوات الذائبة، و قد وضحت أسس هذا التصنيف في المبحث الثالث من هذا الفصل، كما استوفيت ذكر خصائص الأصوات الجامدة في المبحثين الرابع و الخامس منه، و بقي أن أوضح موقف علماء التجويد من دراسة الأصوات الذائبة، و مدي عنايتهم بها، و إدراكهم لخصائصها، و توضيحهم لمخارجها و صفاتها و العلاقة في ما بينها.

أولا- عدد الأصوات العربية الذائبة و العلاقة بينها:

قال أحمد بن أبي عمر: «و الحروف الذائبة ثلاثة: الياء المكسور ما قبله، و الواو المضموم ما قبله، و الألف و لا يجي‌ء إلا مفتوحا ما قبله، و هذه الحروف حروف المد و اللين، سميت بذلك لأنها تذوب و تلين و تمتد. و ما عداها جامد، لأنه لا يلين و لا يذوب و لا يمتد» «1».
و قد استخدم علماء التجويد مصطلحات أخري للتعبير عن هذه المجموعة من الأصوات، كل مصطلح يوضح خاصة من خصائص الأصوات الذائبة. و من تلك المصطلحات (المصوتة)، قال عبد الوهاب القرطبي: «و إنما سميت مصوّتة لأن النطق بهن يصوّت أكثر من تصويته بغيرهن، لاتساع مخارجهن و امتداد الصوت بهن» «2».
و من تلك المصطلحات (الممدودة)، قال الداني: «سميت ممدودة لأن الصوت يمتد بها بعد إخراجها من موضعها ...» «3». و مثل هذا المصطلح قولهم (حروف المد و اللين) لأن مد الصوت لا يكون في شي‌ء من الأصوات إلا فيهن، و لأنهن يخرجن من اللفظ في لين من (1) الإيضاح 74 ظ.
(2) الموضح 159 و.
(3) التحديد 18 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 294
غير كلفة علي اللسان «1».
و كذلك استخدم بعض علماء التجويد مصطلح (الجوفية) و مصطلح (الهوائية) و هما من مصطلحات الخليل بن أحمد و يشيران إلي أهم خصائص الأصوات الذائبة و هو خروج النفس معها حرا طليقا من غير أن تعترضه عوائق من شأنها أن تعيقه أو تمنعه عن انسيابه خلال الحلق و الفم «2».
و مهما يكن المصطلح المستخدم في التعبير عن هذا الصنف من الأصوات فإن علماء العربية و علماء التجويد يقررون أنها ثلاثة أصوات: الألف و الياء و الواو المسبوقين بحركة من جنسهما. و كان جمهور العلماء يربطون بين هذه الأصوات الثلاثة و بين الحركات الثلاث و يقولون «إن الفتحة من الألف، و الضمة من الواو، و الكسرة من الياء» «3».
و أصل هذه الفكرة في الربط بين حروف المد و بين الحركات ترجع إلي سيبويه الذي قال: «و إنما الحركات من الألف و الياء و الواو» «4». و قال في مكان آخر: «فالفتحة من الألف، و الكسرة من الياء، و الضمة من الواو» «5». و تردد هذا المعني في أماكن أخري من كتاب سيبويه «6».
و كذلك كان مذهب المبرد الذي يقرر أن الحركات أبعاض حروف المد «7»، و أن «الفتحة من الألف، و الضمة من الواو، و الكسرة من الياء» «8».
و أفاض ابن جني في شرح تلك الخلاصات المركزة الواردة في كلام سيبويه و المبرد في تحديد العلاقة بين حروف المد و الحركات. فقال في كتابه (سر صناعة الإعراب): «اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد و اللين، و هي الألف و الياء و الواو، فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، و هي الفتحة و الكسرة و الضمة، فالفتحة بعض الألف، (1) مكي: الرعاية ص 101.
(2) انظر: مكي الرعاية ص 102 و 116.
(3) الداني: التحديد 18 ظ، و أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5، و ابن الجزري: النشر 1/ 204.
(4) الكتاب 4/ 101.
(5) الكتاب 4/ 242.
(6) الكتاب 2/ 265 و 3/ 544 و 4/ 171 و 309 و 313 و 314 و 318 و 335 و 339.
(7) المقتضب 1/ 211.
(8) المقتضب 1/ 56.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 295
الكسرة بعض الياء، الضمة بعض الواو. و قد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، و الكسرة الياء الصغيرة، و الضمة الواو الصغيرة، و قد كانوا في ذلك علي طريق مستقيمة ... و يدلك علي أن الحركات أبعاض لهذه الحروف أنك متي أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه ... فلو لا أن الحركات أبعاض لهذه الحروف و أوائل لها لما تنشأت عنها، و لا كانت تابعة لها ... فقد ثبت بما وصفناه من حال هذه الأحرف أنها توابع للحركات و متنشّئة عنها، و أن الحركات أوائل لها و أجزاء منها، و أن الألف فتحة مشبعة، و الياء كسرة مشبعة، و الواو ضمة مشبعة» «1».
و كان علماء العربية مدركين لحقيقة كل من الحرف و الحركة فهم يقررون «أن الحركات و الحروف أصوات، و إنما رأي النحويون صوتا أعظم من صوت فسموا العظيم حرفا، و الضعيف حركة، و إن كانا في الحقيقة شيئا واحدا» «2».
و قد ورث علماء التجويد هذه الأفكار التي توضح العلاقة بين حروف المد و الحركات، التي تشير إلي أن الأصوات الذائبة في العربية ثلاثة من حيث النوع، و هي الضمة و الواو، و الكسرة و الياء، و الفتحة و الألف. و ست من حيث الكمية: طويلة و هي الألف، و الواو، و الياء، و قصيرة و هي الفتحة و الضمة، و الكسرة. و استوعب علماء التجويد هذه النظرية، و فهموها و أضافوا إليها إضافات قيمة ذات معني.
فنجد عبد الوهاب القرطبي يعرض لفكرة ارتباط الحركات بحروف المد و يحاول أن يضيف أدلة جديدة لتأكيدها، فقال: «أما الحركات فهي أبعاض حروف المد و اللين التي هي الألف، و لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، و الواو و الياء إذا كان ما قبلهما منهما. و إذا كانت هذه الحروف ثلاثة، وجب أن تكون الحركات التي هي أبعاض لها ثلاثا، و هي الضمة و الكسرة و الفتحة، فالضمة بعض الواو، و الكسرة بعض الياء، و الفتحة بعض الألف».
«و هذا الأمر لا مزيد عليه في الوضوح، فإن الضمة إذا أشبعت صارت واوا، و الكسرة إذا مكّنت عادت ياء، و الفتحة إذا أمعن فيها تحولت ألفا، لأن حروف المد قد تقصر في بعض الأحوال، و تطول في بعضها، و ذلك أنك تقول: يسير و يرود و يخاف، فتجد الصوت يمتد بهذه الحروف امتدادا إلي حد ما، فإذا جاء بعد حرف من هذه الحروف همزة أو حرف ساكن (1) سر صناعة الإعراب 1/ 19- 27، و انظر: الخصائص (له): 2/ 315 و 3/ 121.
(2) السيوطي: الأشباه و النظائر 1/ 177.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 296
امتد الصوت به مقدارا أكثر من المد الأول، كقولك: يجي‌ء، و يسوء، و يشاء، و دابّة، و يطيب بكر، و تمودّ الثوب، و في الكتاب العزيز تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: 64] تمد الواو لأجل التشديد».
«فإذا تفاوت مقدار هذه الحروف في المد و الزيادة، و خالفت في ذلك غيرها من الحروف جاز أن تخالفها أيضا في النقصان بأن يقال إن الحركات أبعاضها، و إن لم يوجد ذلك في غيرها، و جاز أن تسمي الضمة الواو الصغيرة، و الكسرة الياء الصغيرة، و الفتحة الألف الصغيرة، علي ما ذهب إليه بعضهم».
«و أوضح من هذا أن الحركة يقدّر تجزّؤها في الإشمام و الروم و الإشارة إلي الضم و الكسر ... و إذا كان التجزؤ يقدّر في الحركة فتقديره في الحرف أولي» «1».
و ناقش مكي بن أبي طالب قضية تدور حول الاختلاف في حروف المد و اللين و الحركات الثلاث أيهما مأخوذ من الآخر، و عقد لذلك بابا استغرق عدة صفحات، ناقش فيه مذاهب العلماء في هذا الموضوع، و ذكر أن أكثر النحويين يذهبون إلي أن الحركات الثلاث مأخوذة من حروف المد. و ذهب قوم إلي أن حروف المد مأخوذة من الحركات الثلاث، بينما قال بعض أهل النظر: ليست هذه الحروف مأخوذة من الحركات الثلاث، و لا الحركات مأخوذة من الحروف. و قال مكي عندئذ: «و هو قول صحيح إن شاء اللّه تعالي» «2».
و نقل مكي في أثناء ذلك أدلة كل فريق من العلماء، و هي تكشف عن إدراك كامل للعلاقة بين هذه الأصوات و لخصائصها، و لكن فكرة تحديد الأصل و الفرع ليست ضرورية هنا، فيكفي أن ندرك ذلك الترابط و تلك العلاقة التي تجمع بين الأصوات الذائبة، من غير الإصرار علي تعيين أيها أخذ من الآخر، و ذلك لأن الواقع يوضح أن كل صوت من الأصوات الذائبة قصيرا كان أم طويلا يمثل إمكانية من إمكانيات الجهاز النطقي عند الإنسان، و أنه يمكن أن نقول أن بعض هذه الأصوات ينتج بطريقة تماثل إنتاج صوت آخر، و إن الاختلافات بين الاثنين هو الكمية مثلا، فلو قصّرنا الصوت الطويل لأدّي إلي القصير، و لو طوّلنا القصير لأدّي إلي الصوت الطويل.
و كان بعض علماء التجويد قد أدركوا علي نحو دقيق أن الاختلاف بين كل من الفتحة (1) الموضح 150 و- 150 ظ
(2) انظر: الرعاية ص 81- 84.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 297
و الألف، و الضمة و الواو الممدودة، و الكسرة و الياء الممدودة، هو اختلاف في الكمية، أي في مقدار الزمن الذي يستغرقه إنتاج كل من النوعين، و أنه متي قصّر حرف المد صار حركة، و متي طوّلت الحركة صارت حرف مد. و كان عبد الوهاب القرطبي أكثر علماء التجويد عناية ببيان هذه العلاقة بين الأصوات الذائبة، و قد تضمن كتابه (الموضح في التجويد) عدة نصوص توضح ذلك، أكتفي بإيراد أهمها.
قال عبد الوهاب القرطبي، و هو يتحدث عن كيفية نطق الألف إذا لم يكن بعدها همزة أو حرف ساكن مدغم أو غير مدغم: «فينبغي أن يقيمها القارئ و يقطعها و يسلك في اللفظ بها التمطيط الأوسط، فلا يهمل توفية التمكين حقه فتصغر و تصير فتحة، و لا يبالغ في ذلك و يستقصي فتحول مدة، بل يوفر عليها من المد ما هو طبعها و صيغتها» «1».
و قال و هو يتحدث عن الواو و الياء إذا كانا حرفي مد و لم يكن بعد هما همزة و لا حرف ساكن: «فينبغي أن يلزم فيهما اجتناب الإفراط في الإشباع، و التحرز من إهماله بحيث يلتحقان بالحركة، مثل ما لزم في الألف، و قد مضي ذكره، و ذلك بأن يمكّنا بمقدار ما فيهما من المد الذي هو طبعهما و خاصتهما، كقولك: ميعاد، و ميقات، و ميراث، و الميثاق، و توعدون، و يوقنون، و يوصل، و ما أشبه ذلك» «2».
و عاد عبد الوهاب القرطبي إلي تأكيد الفكرة مرة أخري فقال: «فقد حصل للطالب بما ذكرناه في هذا الفصل، و بما قدمناه آنفا من القول علي الواو و الياء و الألف في الباب الذي قبله أحكام هذه الحروف في المد و تفاوتها في مقداره، و تحقق عنده أنها تارة تكون ممدودة، و ذلك في الأحوال التي شرحناها، و تارة تكون مشبعة و يكون امتداد الصوت بها دون امتداده في هذه الأحوال، فتمد المقدار الذي هو طبعها، كنحو الواو في (موسي)، و الياء في (عيسي)، و الألف في (طارد)، و أن إهمال الإشباع يخرجها عن كونها حرفا، و يلحقها بالحركة، و الإفراط في التمكين يلحقها بالممدود، و كلاهما مكروه» «3».
و يتضح من كلام عبد الوهاب القرطبي هنا أنه مدرك لطبيعة الاختلاف بين حرف المد و الحركة و أنه ليس اختلافا كتابيا يتمثل في تخصيص رمز لحرف المد و علامة للحركة، و إنما (1) الموضح 159 ظ.
(2) الموضح 164 ظ.
(3) الموضح 167 و- 167 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 298
هو اختلاف صوتي يتمثل في تباين الزمن الذي يستغرقه النطق بكل منهما، فإذا جعل الناطق آلة النطق في وضع يمكنه من إنتاج فتحة، فإنه يستطيع أن ينتج الألف بمجرد أن يطيل زمن مرور النفس أكثر مما يحتاجه إنتاج الفتحة، و إنه إذا أطال الصوت أكثر من ذلك خرج الألف إلي حالة المد التي تلزمه إذا وقع بعده همزة أو ساكن.
و مضي عبد الوهاب القرطبي في توضيح العلاقة بين الحركات و حروف المد و جعل لذلك طرفين: السكون و حرف المد، فالناطق يمكن أن يبدأ من السكون حتي ينتهي إلي حرف المد، و يستطيع أن يبدأ بحرف المد حتي ينتهي إلي السكون، و يمكن أن نلخص فكرته علي هذا النحو: (سكون- حركة مختلسة- حركة- حرف مد) و يمكن أن نعكس الترتيب، كل ذلك ممكن.
تأمل قوله في هذا المعني: «الذي ينبغي أن يعتمده القارئ من ذلك أن يحفظ مقادير الحركات و السكنات، فلا يشبع الفتحة بحيث تصير ألفا، و لا الضمة بحيث تخرج واوا، و لا الكسرة بحيث تتحول ياء، فيكون واضعا للحرف موضع الحركة، و لا يوهنها و يختلسها و يبالغ فيضعف الصوت عن تأديتها و يتلاشي النطق بها و تتحول سكونا» «1».
و استطاع علماء التجويد أن يضبطوا النسبة بين الحركة و حرف المد، بما يوضح أن الفرق بين الحركة و حرف المد الذي هي منه هو فرق في الكمية، و أن ذلك الفرق يمكن أن يقاس، و ابتكروا طريقة لقياسه، و هي اعتبار الحركة أساسا للقياس، فقالوا: إن الألف مثلا يساوي فتحتين، و عكس بعض العلماء المقياس فقالوا: الفتحة تساوي نصف الألف. و هذه الطريقة و إن لم تحدد كمية الحركة و حرف المد بالقياس إلي الزمن المتمثل بالثانية و أجزائها تعتبر خطوة متقدمة جدا في مجال قياس الأصوات و إدراك حقائق الأصوات الذائبة و العلاقة بين أنواعها.
و لم يكن معروفا للباحثين المحدثين حول هذا الموضوع إلا نص واحد، و كانت شهرته علي نطاق ضيق لا يتعدي بعض المستشرقين، و كانت معرفتهم به خارج السياق الوارد فيه مما أدي إلي قصور في تحديد الحقبة التي يرجع إليها. و كان (برافمان) هو أول من أشار إليه من المستشرقين في كتاب صغير ألفه عن الأصوات العربية سماه (مواد و بحوث في النظريات الصوتية عند العرب) المنشور في (غوتنغن) سنة 1934، حسبما ذكر جان كانتينو الذي اقتبس (1) الموضح 183 و. و انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 135 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 299
منه ذلك النص.
قال جان كانتينو: «جاء في نص هام للقارئ ذكره برافمان في (مواد ... ص 13) ما يلي: (الألف (أي الفتحة الطويلة) متكون من فتحتين، و الواو من ضمتين، و الياء من كسرتين) و في هذا النص دليل أساسي علي أن الناطقين بالعربية يشعرون بأن الحركة الطويلة تضاهي حركتين قصيرتين» «1».
و حاول هنري فليش أن يقلل من أهمية هذا النص، فقال معلقا علي كلام كانتينو السابق:
«و قد استشهد كانتينو علي أن العرب قد تصوروا أن المصوت الطويل معادل لمصوتين قصيرين، فهو يري أن هذا النص مهم و حاسم في هذه المسألة!! بيد أنه يجب أن ننظر إلي تاريخ القاري (الهروي) المتوفي عام 1014 ه 1605 م. و كل ما يمكن أن نختم به هذا التعليق هو: أنه في العصر الأخير توصل المؤلفون في علم التجويد، و القاري الهروي من بينهم علي الأقل (إذ لم يذكر برافمان سواه مثلا علي مؤلفي هذا العلم) إلي استنتاج فكرة المد أو الكمية» «2».
و لنا علي كلام هنري فليش ملاحظتان: الأولي أن تاريخ هذا النص يرجع إلي عصر أقدم من عصر علي القاري، و الثانية هي أن هذا النص لم يكن الوحيد لدي علماء التجويد من النصوص التي عالجت تحديد العلاقة بين حروف المد و الحركات.
أما الملاحظة الأولي فتتبين من الرجوع إلي النص المذكور في مصدره الأصلي، و هو كتاب (المنح الفكرية علي متن الجزرية) لعلي القاري، و ذلك حيث قال: «اعلم أن الألف مركب من فتحتين، و الواو مركب من ضمتين، و الياء مركب من كسرتين. فإذا أشبعت الفتحة يتولد منها ألف، و إذا أشبعت الضمة يتولد منها الواو، و إذا أشبعت الكسرة يتولد منها الياء، كذا ذكره الشارح اليمني» «3».
فالنص إذن نقله علي القاري عن أحد شراح المقدمة الجزرية، و قد سماه (الشارح اليمني)، و لا بد أن يكون الشارح اليمني قد عاش بين عصر ابن الجزري (ت 833 ه) و عصر (1) دروس ص 151.
(2) التفكير الصوتي عند العرب في ضوء سر صناعة الإعراب، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج 23، ص 87، هامش (1).
(3) المنح الفكرية ص 50، و انظر: الدركزلي: خلاصة العجالة 181 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 300
علي القاري (ت 1104 ه)، فالنص إذن يرجع إلي وقت أقدم مما تصوره هنري فليش، و ليس واضحا من هو هذا الشارح اليمني، و من بين شراح المقدمة عالم يمني اسمه محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي الشهير ببحرق، المتوفي سنة (930 ه) «1»، و لعل علي القاري قصده بقوله (الشارح اليمني)، و كان علي القاري مطلعا علي شرح (بحرق) للمقدمة الجزرية، و نقل عنه في أكثر من موضع «2». و لا نستطيع أن نجزم بأن الشارح اليمني هو بحرق إلا بعد الاطلاع علي شرحه، و هذا غير متيسر لنا الآن «3». و لكن بغض النظر عن تعيين اسم الشارح اليمني فالنص المذكور يرجع إلي عصر أقدم من عصر علي القاري. و لا يغض من قيمة هذا النص كونه يرجع إلي عصر متأخر.
و الملاحظة الثانية تدل عليها عدة نصوص تعالج موضوع العلاقة بين الحركات و حروف المد و هي جميعها ترجع إلي زمن أقدم من عصر علي القاري. و أول تلك النصوص ما ورد في قصيدة (الدر النضيد في معرفة التجويد) لمحمد بن قيصر بن عبد اللّه المارديني النحوي المتوفي سنة 721 ه، فقد قال في (الدر النضيد) و هي قصيدة لامية في (271) بيتا، في علم التجويد:
و مقداره ثلث من الأمّ و الأصحّ نصف معا و الحرف رأسين أرسلا
«4» و قد جاء في مخطوطة هذه القصيدة تعليقات موجزة كتبت بين أبياتها تكوّن شرحا موجزا لها، و لا نستطيع تحديد كاتب هذه التعليقات الآن، و الذي يهمنا منها هو ما كتب عن البيت السابق و نصه: «قال: (و مقداره): مقدار الحركة (ثلث من الأمّ و الأصح نصف): مقدار الفتحة ثلث ألف، و الضمة ثلث واو، و الكسرة ثلث ياء. و الأصح عند الشيخ أنه نصف. (معا) يعني مع القول بالثلث. (و الحرف رأسين أرسلا): يعني أرسل الحرف رأسين مع الحركات الثلاث» «5».
و يفهم من قول المارديني و من التعليق عليه أن هناك علماء سبقوا المارديني في بحث (1) انظر مصادر علم التجويد في الفصل الأول من هذا البحث رقم (33- ز).
(2) المنح الفكرية ص 12 و 40.
(3) و ذلك لأن شرح بحرق المسمي (ترجمة المستفيد) توجد منه نسخة في مكتبة رضا بالهند رقمها (335) و لم نتمكن من الحصول عليها.
(4) الدر النضيد 63 و.
(5) المصدر نفسه.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 301
هذا الموضوع، فمنهم من قال إن الحركة ثلث حرف المد، و منهم من ذهب إلي أنها نصف حرف المد، و قد رجح المارديني هذا المذهب و لا أستبعد اكتشاف نصوص جديدة ترجع إلي زمن أقدم من عصر المارديني تثبت أن علماء العربية و علماء التجويد كانوا مدركين لطبيعة العلاقة بين الحركات و حروف المد.
و أشار القسطلاني (ت 923 ه) إلي هذا الموضوع أيضا فقال: «و وزن الحركة في التحقيق نصف الحرف المتولد عنها و لذلك سموا الفتحة الألف الصغري، و الكسرة الياء الصغري، و الضمة الواو الصغري» «1».
و لم يكتف علماء التجويد بتحديد كمية الحركات و حروف المد، بل حاولوا بيان مقدار الحركات القصيرة جدا التي تلحقها ظاهرة الاختلاس و الروم، فقال أحمد بن الجزري:
«و الاختلاس و الروم يشتركان في التبعيض، و بينهما عموم و خصوص، فالرّوم أخص من كونه لا يكون في الفتح و النصب، و يكون في الوقف دون الوصل، و الثابت من الحركة أقل من المحذوف، و الاختلاس أعم من كونه يتناول الحركات الثلاث و لا يختص بالآخر، و الثابت من الحركة أكثر من المحذوف، و ذلك أن تأتي بثلثيها، كأن الذي تحذفه أقل مما تأتي به.
و هذا (لا تحكمه) «2» إلا المشافهة» «3». و حدد بعض علماء التجويد الباقي من الحركة مع الروم بثلثها «4».
و لا يزال ضبط الزمن الذي يستغرقه نطق الأصوات الذائبة (حروف المد و الحركات) و كذلك الأصوات الجامدة، بواسطة تقديره بأجزاء الثانية- أمرا غير متحقق، و هو يحتاج إلي استخدام آلات القياس الحديثة «5». و ما توصل إليه علماء التجويد من تقدير كميات الحركات و حروف المد عن طريق نسبة الصوت إلي نظيره، فالفتحة نصف الألف، و الألف ضعف الفتحة، أي فتحتان، و الروم النطق بثلث الحركة، و الاختلاس النطق بثلثيها، يعد إنجازا عظيما في الدرس الصوتي العربي، و لم يبق إلا أن يخطو دارسو الأصوات العربية المحدثون الخطوة الأخيرة نحو قياس زمن تلك الأصوات بالثانية و أجزائها. (1) لطائف الإشارات 1/ 178.
(2) زيادة ليست في الأصل، يقتضيها السياق.
(3) الحواشي المفهمة 77 ظ.
(4) عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 75 ظ، و البقري: غنية الطالبين ص 82.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 155- 160.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 302
و ينبغي أن يؤخذ بالحسبان عند محاولة قياس زمن نطق الأصوات أن هناك عدة أشكال من النطق، مثل النطق المتأني الذي يأخذ وقتا أطول من النطق السريع. و هناك نطق وسط بين البطي‌ء و السريع، و قد لاحظ هذه الظاهرة عبد الوهاب القرطبي حيث قال: «و لا يدخل علي ما أصّلناه إشباع من أشبع الحركات و السكنات من أئمة القراءة زيادة علي غيره في الإشباع، لأن من أشبع الحركات منهم أشبع الحروف التي أخذت منها أيضا، فتصير نسبة الحركة المشبعة عنده إلي الحروف المشبعة كنسبة الحركات إلي الحروف بغير إشباع عند غيره» «1».
و كان قد جاء في بعض النصوص التي نقلناها في هذا المبحث أن متقدمي النحويين كانوا يسمون الفتحة الألف الصغيرة و الضمة الواو الصغيرة و الكسرة الياء الصغيرة «2». و هناك رواية نقلها بعض علماء التجويد لها صلة بالنص السابق، فقد روي أبو العلاء الهمذاني العطار بإسناد كامل ينتهي إلي عبد اللّه ابن الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي «3»- رضي اللّه عنه- رواية جاء فيها: عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال: كانوا يؤمرون، أو كنّا نؤمر أن نتعلم القرآن، ثم السّنّة، ثم الفرائض، ثم العربية: الحروف الثلاثة. قلنا: و ما الحروف الثلاثة؟ قال: الجرّ و الرفع و النصب» «4». فهذه الرواية تشير إلي أنهم كانوا يسمون الحركات حروفا، و هي من النصوص النادرة التي تتعلق بنشأة النحو العربي فهي ترجع إلي زمن أقدم من العصر الذي ظهر فيه نشاط أبي الأسود الدؤلي النحوي «5».

ثانيا: الواو و الياء بين الأصوات الجامدة و الأصوات الذائبة:

يشترط علماء العربية و علماء التجويد أن يكون قبل الواو و الياء حركة من جنسهما و أن يكونا ساكنين لكي يعدا من حروف المد، مثل الألف. و إذا تخلف هذا الشرط عنهما بأن تحركتا أو لم تكن حركة ما قبلهما من جنسهما لم يكونا حرفي مد و لحقا بالحروف الجامدة (أو الصحاح). و هذا التفريق بين حالتي الواو و الياء ينبني علي أسس صوتية و صرفية معا.
و نجد أصول هذا التفريق عند سيبويه، فهو يقول عن الياء «لما تحركت خرجت من أن (1) الموضح 183 ظ.
(2) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 19، و عبد الوهاب القرطبي الموضح 150 ظ.
(3) انظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 185.
(4) التمهيد 103 و- 103 ظ.
(5) هناك نصوص أخري تتعلق بنشأة النحو العربي أوردها أبو العلاء الهمذاني العطار في كتابه (التمهيد في التجويد) في المكان المشار إليه نفسه.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 303
تكون حرف لين، و صارت مثل غير المعتل» «1». و قال في مكان آخر: «إذا تحركت لم تكن حرف لين، فبعد شبهها من الألف» «2». و يقول ابن جني: «إن الياء و الواو لما تحركتا قويتا بالحركة، فلحقتا بالحروف الصحاح» «3».
و يخصص كثير من علماء التجويد مصطلح (حروف المد و اللين) للواو و الياء إذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما، و مصطلح (حروف اللين) بالواو و الياء إذا كانا غير ذلك، قال مكي: «حروف المد و اللين، و هي ثلاثة أحرف الألف و الواو الساكنة التي قبلها ضمة، و الياء الساكنة التي قبلها كسرة» «4». و قال: «حرفا اللين: و هما الواو الساكنة التي قبلها فتحة، و الياء الساكنة التي قبلها فتحة» «5».
و قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه): «الواو و الياء: تكون تارة من حروف المد و اللين بأن تسكنا و يكون ما قبلهما منهما، و تارة يتحيز مخرجهما إذا تغيرتا عن هذا الموضع، بأن تسكنا و ينفتح ما قبلهما، و متي وجد ذلك زال عنهما معظم المد، و بقي اللين و انبسط اللسان بهما، و صارتا بمنزلة الحروف الجوامد، فألقي عليهما حركات الهمزات، كما تلقي علي غيرهما من الحروف الجوامد» «6».
و قول القرطبي (و تارة يتحيّز مخرجهما) يعبر عن موقف معين من مخارج حروف المد، و هو أنها تخرج من هواء الحلق و الفم و ليس لها مخرج معين، بينما الواو و الياء إذا انفتح ما قبلهما يتحيز مخرجهما أي يتحدد في نقطة معينة من أعضاء آلة النطق. و قد وضح القرطبي ذلك بقوله: «إن الواو و الياء حرفا مد، و الصوت يمتد بهما، و بالتشديد تخرجان عن المد و اللين و يتحيز مخرجهما فيكون الواو من الشفتين و الياء من الشجر، و بالتحيز يبطل المد و يلتحقان بغير هما من الحروف الصحاح» «7».
و قال السمرقندي (ت 780 ه): «و في الواو لين و مد إذا سكنت و انضم ما قبلها، و فيها (1) الكتاب 4/ 193.
(2) الكتاب 4/ 197.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 22.
(4) بالرعاية ص 101.
(5) بالرعاية ص 101.
(6) الموضح 164 ظ، و انظر: الداني: التحديد 29 و.
(7) الموضح 170 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 304
لين إذا سكنت و انفتح ما قبلها، و فيها ثقل إذا تحركت. و كذا حكم الياء أن فيها مدا و لينا إذا سكنت و انكسر ما قبلها، و فيها لين إذا سكنت و انفتح ما قبلها، و فيها ثقل إذا تحركت.
و حروف المد و اللين ثلاثة: الواو و الياء و الألف» «1».
و يلاحظ أن هناك اتجاها لدي بعض المتأخرين في استخدام مصطلح (العلة) للدلالة علي بعض حالات الواو و الياء، فيقول الطبلاوي: «الواو و الياء إن تحركا بأي حركة ك (وفاقا و يعلم) أو سكنا فحرفا علة، و إن سكنا فإن لم تجانسهما حركة ما قبلهما كالخوف و البيت فحرفا لين. و إن جانستهما فحرفا مد و لين» «2». لكن من المتأخرين من يعتبر مصطلح (علة) ذا دلالة عامة، و يكتفي بكلمة (المد) للحروف الثلاثة، و كلمة (اللين) للواو و الياء، يقول علي القاري (ت 1014 ه): «و التحقيق أن هذه الحروف تسمي حروف العلة بالمعني الأعم، سواء تكون متحركة أو ساكنة، حركة ما قبلها من جنسها أو لا، ثم حروف المد، ثم اللين بالوجه الأخص، و هو مختص بالواو و الياء دون الألف» «3».
و يقول المرعشي (ت 1150 ه): «و ترك المد بالكلية في (قالوا) مثلا إما بحذف الواو و الاقتصار علي اللام المضمومة، أو بإبقاء الواو ساكنا و ترك مده بالكلية، فيكون حرف لين لا حرف مد، و حاصل ذلك إعدام حرف، إذ ما لم يمتد الواو لا يصير حرف مد» «4».
و نقل الدركزلي (ت 1327 ه) نصا يلخص ذلك التداخل في استخدام المصطلحات المذكورة، و يظهر منه أن الاتجاه الغالب لدي المتأخرين هو تخصيص مصطلح (المد) بالحروف الثلاثة إذا كانت ساكنة و حركة ما قبله من جنسها. و تخصيص مصطلح (اللين) بالواو و الياء في أحوالهما الأخري، و ذلك حيث يقول: «و يصدق اللين علي حرف المد، بخلاف العكس، لأنه يلزم من وجود الأخص وجود الأعم، و لا ينعكس، و إن اعتبر قبول اللين المدّ تساويا في صدق الاسم عليهما. و علي هذا فكل من حروف المد و حرفي اللين يصدق عليهما حروف لين علي الأول، و حروف مد علي الثاني، و حروف مد و لين عليهما».
«قلت (الدركزلي): لكن الاصطلاح أن حرف المد ما قبله حركة مجانسة كما تقدم، و حرف اللين هو ما قبله حركة غير مجانسة، فعلي الاصطلاح بينهما مباينة، و كل من وقع في (1) روح المريد 128 ظ.
(2) مرشدة المشتغلين 9 ظ.
(3) المنح الفكرية ص 9.
(4) بيان جهد المقل 5 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 305
عبارته حروف مد و لين إنما هو نظر للمعني الآخر، و اللّه أعلم» «1».
و قد أدرك علماء التجويد أن التفريق بين حالتي الواو و الياء و تخصيص مصطلح معين لكل حالة يقوم علي أسس صوتية و صرفية معا، لا مجرد كونه اختلافا شكليا متمثلا في اختلاف الحركات التي تسبق أو تلحق كلّا منهما.
أما من الناحية الصوتية فقد أدرك علماء التجويد أن مخرج الواو و الياء إذا كانا حرف لين يختلف عنه إذا كانا حرفي مد، أما الألف فلا يكون إلا حرف مد. و من ثم فإنهم اعتبروا مخرجيهما إذا كانا حرفي لين الواو من الشفة و الياء من شجر الفم. و إذا كانا حرفي مد كان مخرجهما من الجوف، يقول علي القاري: «و حيث لزمت الألف هذه الطريقة المعتادة من كونها ساكنة و حركة ما قبلها من جنسها و هي الفتحة لم يختلف حالها من أنها دائما تكون هوائية، بخلاف أختيها فإنهما إذا فارقاها في صفة المشابهة صار لهما حيز محقق، و من ثمة كان لهما مخرجان: مخرج حال كونهما مديتين و مخرج حال كونهما متحركتين» «2».
و قال المرعشي: «و جعل مخرج حروف المدّ جوف الحلق و الفم هو مسلك الجمهور، لأن سيبويه جعل الألف من مخرج الهمزة، و الواو و الياء المديين من مخرجيهما غير مديين» «3».
و أدرك علماء العربية و علماء التجويد أن سلوك الواو و الياء إذا كانا حرفي لين يختلف عنه إذا كانا حرفي مد. قال سيبويه: «و إذا كانت الواو قبلها ضمة و الياء قبلها كسرة فإن واحدة منهما لا تدغم إذا كان مثلها بعدها. و ذلك قولك: ظلموا واقدا، و اظلمي ياسرا ... و إذا قلت و أنت تأمر: اخشي ياسرا، و اخشوا واقدا، أدغمت، لأنهما ليسا بحرفي المد كالألف، و إنما هما بمنزلة قولك: أحمد دّاود، و اذهب بّنا» «4».
و قال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569 ه): «فإن التقت ياءان أو واوان لم يخل التقاؤهما من أمرين: أحدهما أن تلتقيا و أولاهما ساكنة، و الثانية أن تلتقيا متحركتين. فإن التقت ياءان أولاهما ساكنة وجب إشباع الكسرة التي قبل الأولي، و ذلك نحو قوله: (1) خلاصة العجالة 160 ظ.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) جهد المقل 10 و.
(4) الكتاب 4/ 442.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 306
فِي يَتامَي [النساء: 127] و فِي يُوسُفَ [يوسف: 7] و هُوَ الَّذِي يُصَلِّي [الأحزاب: 43] و نظائرها ... و إنما لم يجز إدغام ذلك لأن الياء و الواو هاهنا تشبهان الألف في السكون و مجانسة الحركة المتقدمة، فصار ذلك بمنزلة قولك: زورا ياسرا، و أكرما واقدا. و قد عرفت أن إدغام الألف غير ممكن. فإن انفتح ما قبل الواو الأولي، نحو قوله: عَصَوْا وَ كانُوا [البقرة: 61] و عَفَوْا وَ قالُوا [الأعراف: 95] و آوَوْا وَ نَصَرُوا [الأنفال: 72] و ما أشبه ذلك لزم الإدغام» «1».
و كان من علماء العربية المتقدمين من أدرك أن رمزي الواو و الياء يمثلان زوجين من الأصوات في الكتابة العربية. فقد قال ابن درستويه (عبد اللّه بن جعفر ت 346 ه) و هو يتحدث عن رموز حروف العربية: «و الذي لا صورة له مدتان و همزة، فإن مدتي الحرف المضموم و الحرف المكسور لم توضع لهما صورة في المعجم، كما وضعت لمدة الحرف المفتوح الألف، و لكن كتبتا بصورة الواو و الياء ...» «2».
و ما لاحظه علماء التجويد من كون الواو و الياء لهما طبيعة مزوجة، فمرة يكونان حرفي مد (أي من الأصوات الذائبة) و مرة يكونان من الحروف الصحاح (أي الجامدة)- أمر أكدته الدراسات الصوتية الحديثة. يقول الدكتور إبراهيم أنيس: «هناك صوتان بين الأصوات اللغوية يستحقان دائما أن يعالجا علاجا خاصا، لأن موضع اللسان معهما قريب الشبه بموضعه من أصوات اللين (يقصد الذائبة) و مع هذا فقد دلت التجارب الدقيقة علي أننا نسمع لهما نوعا ضعيفا من الحفيف، و هذان الصوتان هما ما اصطلح علماء العربية علي تسميتها بالياء و الواو في مثل بيت و يوم» «3».
و قال الدكتور كمال محمد بشر: «و الحقيقة أن هذه الأصوات من حيث النطق الصرف تقترب من الحركات في صفاتها، و لكنها في التركيب الصوتي للغة تسلك مسلك الأصوات الصامتة، و من هناك كانت تسميتها بأنصاف حركات» «4».
ثم تحدث عن وجهة المحدثين في التفريق بين حالتي الواو و الياء و اختلافهم في ذلك (1) التمهيد 150 و.
(2) كتاب الكتّاب ص 64. و انظر: حمزة الأصفهاني: التنبيه علي حدوث التصحيف ص 33.
(3) الأصوات اللغوية ص 42.
(4) الأصوات ص 171. و يسميها البعض أشباه الحركات. انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42. و محمود السعران: علم اللغة ص 197.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 307
فقال: «فالمعروف أن للواو و الياء حالتين في العربية، فهما إما حركتان خالصتان، و إما صوتان صامتان أو بعبارة أدق نصفا حركتين. و قد حاول كثير من العلماء التفريق بين هاتين الحالتين علي أساس صوتي محض، فهما عندهم من النوع الأول إذا خرجتا من الفم دون أن يقف في طريق الهواء حال النطق بهما أي عائق أو مانع، و لكنهما من النوع الثاني إذا ضاق مجري الهواء بحيث يبقي مسار ضيق يسمح بمروره و لكن مع شي‌ء من الصعوبة بحيث يحدث هذا الهواء احتكاكا مسموعا».
«و قد رأينا نحن أن هذا التفريق غير واضح، بل يتضمن شيئا من التكلف و الصنعة و لذا آثرنا أن يكون التفريق بين الحالتين علي أساس الوظيفة اللغوية، فقررنا أنهما من الصوامت أو أنصاف حركات فيما لو وقعا في مواقع الأصوات الصامتة، و لخصنا هذه المواقع في خاصة تشترك فيها جميعا، تلك هي وقوعها متلوة بحركة أو ساكنة بعد فتح. كما في نحو: بيت و يوم. و هما في هاتين الحالتين يقعان في مواقع الأصوات الصامتة الصرفة، و من ثم أخذا حكمها ...» «1».
و يتحدث علماء الأصوات المحدثون عن الحركة المركبة أو المزدوجة، و تعرّف بأنها تتابع مباشر لصوتي علة يوجدان في مقطع واحد فقط «2». فقال بعضهم: «و مثال ذلك في العربية (أو) و (أي) فعند النطق بالكلمة الأولي يتخذ اللسان وضعه في منطقة الحركات للنطق بالفتحة التي تلي الهمزة، ثم لا يلبث أن يتحرك منه لاتخاذ موضع جديد هو موضع الكسرة» «3».
و أنكر بعض الدارسين المحدثين وجود حركات مركبة في اللغة العربية، و فسر مثل (أو) و (أي) علي أنه همزة ثم فتحة ثم واو أو ياء ساكنة، فيكون مثل (من) و ما أشبه ذلك. فيقول:
«و قد و هم بعض الدارسين فظن أن الواو و الياء في (حوض و بيت) جزءان من حركة مركبة.
و هو و هم خاطئ و لا شك. إذ الحركة المركبة وحدة واحدة. و الموجود في حوض و بيت ليس وحدة واحدة، و إنما هناك وحدتان مستقلتان هما الفتحة+ الواو في (حوض). و الفتحة+ (1) الأصوات ص 173. و انظر أيضا ص 105- 108، و كذلك: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 283.
(2) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 80.
(3) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 172. و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42، و جان كانتينو: دروس ص 137.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 308
الياء في (بيت)» «1».
و لما كان موضوع وجود الحركة المركبة في اللغة العربية هو موضع جدل بين الدارسين المحدثين و أن علماء العربية و علماء التجويد اكتفوا بتقسيم الواو و الياء إلي حروف مد (أصوات ذائبة) في مثل (نوحيها)، و إلي حروف صحاح (جامدة) في مثل (بيت) و (حوض) فإن صرف النظر عن فكرة الحركة المركبة هنا له ما يسوغه. و يكفي أن علماء العربية و علماء التجويد قد ميزوا بشكل واضح و كامل تلك الطبيعة الثنائية للواو و الياء سواء من الناحية الصوتية أم من ناحية الوظيفة في بنية الكلمة.
و كان السمرقندي (ت 780 ه) قد انفرد بمذهب خاص به في تعيين (حروف اللين)، فقد قال: «و حروف اللين خمسة أحرف: الألف و الواو و الياء و الهاء و النون الساكنة، سميت بذلك لأنها لانت في المخرج» «2». و يبدو أن السمرقندي هنا يستخدم كلمة (اللين) بمعناها اللغوي، لا المعني الاصطلاحي الذي استقر لها عند علماء العربية و علماء التجويد. و إطلاق كلمة (اللين) علي النون و الهاء أمر مقبول من ناحية دلالة الكلمة اللغوية لأن هذين الصوتين قريبا الشبه بالأصوات الذائبة من حيث قلة الاحتكاك في مخرجيهما و حرية مرور الهواء في أثناء النطق بهما، سوي أن الهاء مهموسة و الن أنفية.

ثالثا- مخارج الأصوات الذائبة:

هناك خمسة أصوات تتداني في المخارج شي شي و تتقارب في الصفات، و هي الواو و الياء الجامدتان في مثل (بيت و حوض). و الألف و الياء و الواو الذائبة في مثل (نوحيها).
أما الياء و الواو الجامدتان فلا خلاف بين العلماء في تحديد مخرجيهما، و قد مضي الحديث عن ذلك في المبحث الخاص بمخارج الأصوات الجامدة «3»، حيث اتفق علماء التجويد و علماء العربية علي أن مخرج الياء الجامدة من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك الأعلي، و أن مخرج الواو من بين الشفتين.
أما الأصوات الذائبة الثلاثة (حروف المد) فللعلماء في تحديد مخارجها مذهبان، الأول مذهب سيبويه و من تابعه، و يتلخص في أن مخرج الألف من الحلق من مخرج الهمزة (1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 180، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 303- 305.
(2) روح المريد 126 ظ.
(3) انظر ص 199 و 215 من هذا البحث.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 309
و الهاء «1». و لم يفرق سيبويه في حديثه عن مخرج الياء و الواو بين الجامدة و الذائبة، و من ثم يحمل كلامه علي أنه يجعل مخرج الياء و الواو المديين من مخرجيهما غير مديين «2». و كان سيبويه مدركا لما تتميز به هذه الأصوات من اتساع مخارجها أكثر من غيرها من الأصوات «3».
و لا نلمس في حديث علماء العربية عن مخارج هذه الأصوات أنهم يفرقون بين كونها جامدة أو ذائبة.
أما المذهب الثاني في تحديد مخارج حروف المد فهو مذهب جمهور علماء التجويد الذين يفرقون بين مخرجي الواو و الياء عند ما يكونان حرفين جامدين، و بين مخرجيهما عند ما يكونان حرفي مد (أي صوتين ذائبين)، حتي لقد صرح علي القاري أن للواو و الياء مخرجين:
مخرج حال كونهما مدتين، و مخرج حال كونهما متحركتين «4». و الكلام هنا عن مخرجهما عند ما يكونان مدتين.
جعل كثير من علماء التجويد مخرج حروف المد من جوف الحلق و الفم، و هو الخلاء الداخل فيهما «5». و هم يعدون هذا المخرج مقدّرا، لا يمكن تحديده في نقطة معينة. قال المرعشي: «فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت ... و بالجملة إن حروف المد لمّا لم تنقطع أصواتها في موضع لم يكن لها مخرج محقق، فإن المخرج المحقق هو الذي انقطع الصوت فيه، بل قدروا لها جوف الحلق و الفم مخرجا، لأنه يمكن لك قطع أصواتها حين تم مرورها علي هواء الحلق و الفم» «6».
و علماء التجويد بموقفهم هذا من مخارج حروف المد يجمعون بين مذهب سيبويه الذي لم يفرق بين مخرجي الواو و الياء المديين و غير المديين، و جعل الواو من الشفتين و الياء من وسط اللسان، و بين مذهب الخليل الذي جعل مخرج الواو و الياء و الألف من الجوف و اعتبر (1) الكتاب 4/ 433.
(2) المرعشي: جهد المقل 10 و.
(3) الكتاب 4/ 176. و انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 8- 9، و الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(4) المنح الفكرية ص 9.
(5) علي القاري: المنح الفكرية ص 9، و المرعشي: جهد المقل 10 و.
(6) جهد المقل 6 و- 6 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 310
هذه الأصوات هوائية و ميزها عن الحروف الصحاح «1». فعلماء التجويد جعلوا المخرج الذي عينه سيبويه للواو و الياء خاصا بغير المديتين (أي الجامدتين) و جعلوا المخرج الذي عينه الخليل للواو و الياء خاصا بالمديتين (أي الذائبتين).
و إذا كانت حروف المد تخرج من مخرج واحد هو الجوف، فما الذي جعل أصواتها تتمايز في السمع؟ لاحظ علماء التجويد أن حروف المد بالرغم من أن مخرجها الجوف فإن أوضاع اللسان و الشفتين تختلف مع كل صوت عنها مع الأصوات الأخري. قال علي القاري عن حروف المد: «ثم إنهن بالصوت المجرد أشبه منهن بالحروف، و يتميزن عن الصوت المجرد بتصعّد الألف و تسفّل الياء و اعتراض الواو» «2».
قال المرعشي: «أما الواو المدية فضم شفتيك فيها اعتراض علي الصوت و كذا رفع وسط لسانك إلي جهة الحنك في الياء المدية لكن ذانك الاعتراضان قليلان لا يمنعان جريان الصوت بالكلية» «3».
و إذا كان كثير من علماء التجويد يذهبون إلي أن مخرج الواو و الياء المديتين (الذائبتين) من الجوف و أن الواو الجامدة من الشفتين، و الياء الجامدة من وسط اللسان، فإن بعضهم قد لاحظ وجود قرب شديد بين مخرج كل من الصوتين حين يكون جامدا، فيقول المرعشي و هو يتحدث عن حالة الشفتين في أثناء النطق بالواو: «و انضمامهما في الواو المدية أقل من انضمامهما في الواو غير المدية» «4». و معني ذلك أن ممر النفس في مخرج الواو غير المدية يكون أضيق منه في مخرج المدية.
و تلك الظاهرة تحدث عنها بعض علماء الأصوات المحدثين حيث قال: «إن الفراغ بين مقدم اللسان و بين الحنك الأعلي في نطق الياء يكون أضيق منه حال النطق بالكسرة الطويلة (الياء الأخري). و يترتب علي ذلك أننا نسمع نوعا من الحفيف الخفيف في نطق هذه الياء.
و كذلك الحال مع الواو حيث يكون الفراغ بين أقصي اللسان و أقصي الحنك حال النطق بها أضيق منه حال النطق بالضمة الطويلة (و هي الواو الأخري) و من ثم نسمع حفيفا بسيطا مع النطق بهذه الواو ... لهذه الأسباب عدّت الياء و الواو من الأصوات الصامتة، بالرغم مما لهما (1) العين 1/ 57- 58.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) بيان جهد المقل 7 ظ.
(4) جهد المقل 9 ظ. و في الأصل (الواو الغير المدية).
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 311
من شبه صوتي بالحركات» «1».
و لعل السمرقندي أراد ذلك بقوله: «و قيل إن الألف و الواو و الياء إذا سكنتا و تحرك ما قبلهما بجنسهما جوفية، أو هوائية، أو هاوية، لأنها لا تقع في الأحياز التي ذكرناها، فتنسب إليها، لكنها تخرج من الجوف فتذهب في هواء الفم.
و الأصح أن الألف من هواء الحلق.
و الياء الساكنة المكسور ما قبلها من هواء وسط الفم.
و الواو الساكنة المضموم ما قبلها من هواء الشفة.
و الياء المتحركة و الساكنة المفتوح ما قبلها شجرية.
و الواو المتحركة و الساكنة المفتوح ما قبلها شفوية» «2».
و قول السمرقندي (من هواء الشفة) يساوي قوله (شفوية) و لكن لعله يريد أن ممر الهواء في الحالة الأولي أوسع منه في الحالة الثانية، و كذلك قوله (من هواء وسط الفم) و قوله (شجرية) علي ما أرجح.
و كان علماء التجويد قد وضحوا العلاقة بين حروف المد الثلاثة، و بين الحركات الثلاث، و قالوا: إن الفتحة بعض الألف، و الكسرة بعض الياء، و الضمة بعض الواو، و لذلك نجدهم يشيرون إلي أن مخارج الحركات هي مخارج حروف المد نفسها، فيقول عبد الوهاب القرطبي و هو يتحدث عن موضوع الإشمام: (الضم من الشفتين) و (الكسر ليس من الشفة، و إنما هو من مخرج الياء، و مخرج الياء من شجر الفم). و (كذلك الفتح من الألف، و لا آلة للألف يدركها النظر، لأن مخرجها من الحلق» «3».
و قال أبو العلاء الهمذاني العطار: «فإن سكنتا و انفتح ما قبلهما و لقيهما ساكن وجب تبيين حركة الياء بالكسر من وسط اللسان، و تبيين حركة الواو بالضم من الشفتين و ذلك نحو قوله: طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] ... و وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [البقرة: 237] ...» «4».
و نقل الدركزلي هذا النص: «الضمة حركة تضمّ لها الشفتان، و الفتح حركة ينفتح لها (1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 106. و انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42.
(2) روح المريد 125 ظ- 126 و.
(3) الموضح 187 ظ.
(4) التمهيد 149 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 312
الفم، و الكسر حركة ينكسر لها المخرج و يهوي إلي أسفل» «1».
و كان علماء العربية قد تحدثوا عن مخارج الحركات فقال الفراء: «فإنما يستثقل الضم و الكسر، لأن لمخرجيهما مئونة علي اللسان و الشفتين، تنضم الرفعة بهما فيثقل الضمة، و يمال أحد الشدقين إلي الكسرة فتري ذلك ثقيلا. و الفتحة تخرج من خرق الفم بلا كلفة» «2».
و قال المبرد: «الفتحة من مخرج الألف» «3».
هناك ظاهرة تتضح في كلام علماء التجويد عن مخارج حروف المد، و هي أنهم حين يحددون مخرج الواو و الياء يشيرون إلي أن الصوت يهوي حتي ينقطع في الحلق عند مخرج الألف أو الهمزة. يقول الداني عن الياء: «و هو حرف مد مجهور، يخرج من وسط اللسان بينه و بين وسط الحنك، ثم يهوي إلي الحلق، فينقطع آخره عند مخرج الألف» «4». و يقول عن الواو: «و هو حرف مد مجهور، و يخرج من الشفة، ثم يهوي في الفم، فينقطع آخره عند مخرج الألف» «5».
و كان سيبويه قد وصف الألف بأنه الحرف (الهاوي) فقال: «و منها الهاوي و هو حرف اتسع لهواء الصوت مخرجه أشد من اتساع مخرج الياء و الواو، لأنك قد تضم شفتيك في الواو، و ترفع في الياء لسانك قبل الحنك، و هي الألف» «6».
و فسر بعض علماء التجويد مصطلح (الهاوي) نحوا من تفسير سيبويه لكن بعضهم أعطي معني جديدا للهاوي غير اتساع المخرج لهواء الصوت، فقال عبد الوهاب القرطبي: «و أما الجرس فالألف الساكنة، لا يكون إلا كذلك، و يقال لها أيضا الهاوي، لأن الفم ينفتح لها فتخرج بالنفس مستطيلة، و تهوي في الفم إلي ما بين الهمزة و الهاء من الحلق» «7». و قال أحمد ابن أبي عمر: «و الهاوي هو الألف وحدها، سميت بذلك لأنها تهوي إلي ناحية الحلق كأنها (1) خلاصة العجالة 189 ظ، و انظر أيضا 100 ظ.
(2) معاني القرآن 2/ 13.
(3) المقتضب 1/ 155، و انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 172 هامش (1) حيث ينقل المحقق نصا من شرح السيرافي للكتاب يتضمن تحديدا لمخارج الحركات.
(4) التحديد 29 و.
(5) التحديد 41 و.
(6) الكتاب 4/ 435.
(7) الموضح 158 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 313
تخرج من جب» «1».
و اعتبر أبو العلاء الهمذاني العطار مصطلح (الهاوي) يشمل حروف المد الثلاثة، فقال:
«و الهاوي الألف و الياء و الواو إذا سكنت بعد حركتيهما، سميت بذلك لأنها تهوي في حرف الفم إلي ما بين الهمزة و الهاء» «2». و سمي بعض علماء التجويد الواو (الحرف المتصل) لأنها تهوي في الفم حتي تتصل بمخرج الألف «3».
و هذه القضية تحتاج إلي توضيح و بيان، و قبل أن نحاول ذلك نشير إلي أن أصل هذه القضية يرجع إلي كلام علماء العربية الأوائل الخليل و سيبويه و المبرد الذي نصوا في كلامهم علي هذه الظاهرة. فقال الخليل و هو يتحدث عن الحروف المعتلة: «فالألف اللينة هي أضعف الحروف المعتلة، و الهمزة أقواها متنا، و مخرجها من أقصي الحلق من عند العين. قال: و الياء و الواو و الألف منوطات بها، و مدارج أصواتها مختلفة، فمدرجة الألف شاخصة نحو الغار الأعلي. و مدرجة الياء مختفضة نحو الأضراس، و مدرجة الواو مستمرة بين الشفتين، و أصلهن من عند الهمزة» «4». و نقل علم الدين السخاوي أن الخليل قال: «منتهي الصوت بحرف المد و اللين عند ابتداء الهمزة» «5». و نقل ابن منظور أن الخليل قال: «المدات الثلاث منوطات بالهمزة» «6». و معني (منوطات) أي: معلقات بالهمزة أو موصولات بها.
و قال سيبويه في (باب الوقف في الواو و الياء و الألف): «و هذه الحروف غير مهموسات، و هي حروف لين و مد، و مخارجها متسعة لهواء الصوت، و ليس شي‌ء من الحروف أوسع مخارج منها، و لا أمد للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة و لا لسان و لا حلق كضم غيرها، فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتي ينقطع آخره في موضع الهمزة، و إذا تفطنت وجدت مسّ ذلك. و ذلك قولك: ظلموا و رموا، و عمي، و حبلي. و زعم الخليل أنهم لذلك قالوا: ظلموا و رموا، فكتبوا بعد الواو ألفا» «7». (1) الإيضاح 74 ظ.
(2) التمهيد 147 و.
(3) مكي: الرعاية ص 113، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 158 و.
(4) نقلا عن الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(5) جمال القراء 188 و.
(6) لسان العرب 9/ 299 (نوط). و قد عثرت علي قول الخليل هذا في الجزء السابع من كتاب العين الذي طبع حديثا في الصفحة 456.
(7) الكتاب 4/ 176.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 314
و قال المبرد، و هو يشير إلي الظاهرة التي نتحدث عنها بكل وضوح: «و الواو تخرج من الشفة، ثم تهوي في الفم حتي تنقطع عند مخرج الألف، و الياء تخرج من وسط اللسان، من مخرج الشين و الجيم، حتي تنقطع عند مخرج الألف» «1».
و يتضح من النصوص السابقة أن علماء العربية و علماء التجويد يربطون بين مخارج حروف المد و بين مخرج الهمزة، أو (ما بين الهمزة و الهاء) حسب تعبير بعض علماء التجويد.
فما تلك العلاقة و ما وجه ذلك الارتباط؟ إننا يمكن أن ندرك الآن بسهولة أنهم يريدون بمخرج الهمزة الوترين الصوتيين، لأن الهمزة تنتج بأن ينطبق الوتران بحيث يحبسان النفس لحظة ثم ينفرجان، فيندفع النفس محدثا صوت الهمزة. و إذا ذهبنا نبحث عن العلاقة بين حروف المد و بين الوترين الصوتيين وجدنا أن هذه الحروف جميعها مجهورة، و الجهر صفة صوتية مصدرها الوتران، و من هنا ربطوا بين مخارج حروف المد و مخرج الهمزة.
و كان علماء التجويد قد أدركوا أن حروف المد أصوات مجهورة، قال الداني عن الألف: «حرف هاو مجهور» «2». و قال عن الياء: «حرف مد مجهور» «3». و قال عن الواو:
«الواو حرف مد مجهور» «4». و إذا أنعمنا النظر في طبيعة هذه الأصوات نجد أن صفة الجهر تشكل العنصر الواضح فيها الذي يمنحها قوة الإسماع، بحيث إن الناطق لو أوقف نزيز الوترين أثناء النطق بها لاستحالت نفسا، و لا يبقي لها في السمع أثر بيّن. و من هنا قال الخليل: إن حروف المد منوطة بمخرج الهمزة. و قال سيبويه: فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتي ينقطع آخره في موضع الهمزة. و قال علماء التجويد إنها تهوي إلي ما بين الهمزة و الهاء من الحلق.
و قد فسر بعض علماء التجويد مذهب سيبويه في جعل مخرج الألف من الحلق مع الهمزة و الهاء علي اعتبار أن مبدأ صوت الألف من هناك، فقال الجعبري: «و معني جعل سيبويه الألف من مخرج الهمزة أن مبتدأه مبدأ الحلق، ثم يمتد و يمر علي الكل، و من ثم نسب إلي كل مخرج» «5». و يقول مكي عن الألف: «و إنما تخرج من هواء الفم، حتي ينقطع النفس، (1) المقتضب 1/ 221.
(2) التحديد 24 و.
(3) التحديد 29 و.
(4) التحديد 41 و.
(5) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 190.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 315
و الصوت في آخر الحلق، و لذلك نسبت في المخرج إلي الحلق» «1».
إن ما ذهب إليه علماء العربية و علماء التجويد من انقطاع أصوات حروف المد عند مخرج الهمزة معناه أن مصدر التصويت بهذه الأصوات في ذلك الموضع، حين يتذبذب الوتران الصوتيان فتحصل نغمة الجهر التي تشكل جوهر أصوات المد، ثم تتباين حروف المد بعد ذلك تبعا لوضع اللسان و الشفتين أثناء نطق كل صوت من تلك الأصوات «2».
و الخلاصة هي أن علماء التجويد استطاعوا أن يوضحوا مخارج الأصوات الذائبة، و هي حروف المد الثلاثة، و الحركات الثلاث: الضمة و الفتحة و الكسرة. و كان تفريقهم بين مخرجي الواو و الياء الجامدتين و بين مخرجي الذائبتين شيئا صحيحا أقرته الدراسات الصوتية الحديثة. و كذلك ربطهم بين مخارج الحركات و بين مخارج حروف المد شي‌ء صحيح، لأنه ليس بين الحركات و بين حروف المد من فرق إلا في الكمية، فهي تنتج بطريقة واحدة إلا أن زمان نطق حروف المد هو ضعف زمان نطق الحركات.
و استطاع دارسو الأصوات من المحدثين ضبط مخارج الأصوات الذائبة، و ذلك بالنظر إلي وضع اللسان و الشفتين في أثناء النطق بها، و استنبطوا مقاييس تقاس عليها أصوات اللغات المختلفة، و تعرف تلك المقاييس بالحركات المعيارية «3»، و أكتفي هنا بالقول إن ما حققه علماء التجويد في مجال تحديد مخارج الأصوات الذائبة يعد إنجازا متميزا، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار قضيتين:
الأولي: هي أن وسائلهم لم تتجاوز الملاحظة الذاتية، في الوقت الذي توفرت فيه لدارسي الأصوات من المحدثين الأجهزة الدقيقة التي يضمها مختبر الصوت.
الثانية: صعوبة الموضوع، لأن الأصوات الذائبة لا ينقطع الصوت في مخارجها علي نحو محدد و بشكل قوي يسهل رصده. و قديما قال ابن سينا عن مخارج حروف المد: «أمر هذه الثلاثة عليّ مشكل» «4». و حديثا قال برجستراسر: «للحروف الصائتة مخارج مثل مخارج الحروف الصامتة، غير أن تحديدها و تمييزها مشكل» «5». (1) الرعاية ص 103.
(2) ينظر بحث: المصوتات عند علماء العربية، مجلة كلية الشريعة، العدد الخامس 1979، ص 442.
(3) انظر التفاصيل: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 209، و كمال محمد بشر: الأصوات ص 179.
(4) أسباب حدوث الحروف ص 43، و انظر ص 19.
(5) التطور النحوي ص 40.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 316

رابعا- أنواع أخري من الأصوات الذائبة:

في اللغة العربية ثلاث حركات هي: الفتحة و الضمة و الكسرة، و تقابلها حروف المد الثلاثة: الألف و الواو و الياء المديتان. فهذه طويلة و تلك قصيرة. و هي تشكل مجموعة الأصوات الذائبة الأساسية في العربية التي تقابل مجموعة الأصوات الجامدة.
إن آلة النطق لها إمكانيات كثيرة لإنتاج الأصوات الذائبة، و ما تحدثنا عنه في هذا المبحث يمثل الأصوات الذائبة الرئيسية في اللغة العربية، و هناك أنواع أخري من تلك الأصوات أقل شيوعا في العربية إما لأنها خاصة بلغة من لغات العرب، أو لمجيئها في رواية من روايات القراءة، و قد عني علماء التجويد بدراسة هذا النوع من الأصوات، مع علمهم بأنه يتصل في كثير من جوانبه باللهجات العربية و القراءات القرآنية، و نحاول هنا تلخيص ما قالوه عنها.
ذكر علماء التجويد حالة واحدة تغير فيها جرس الكسرة و امتزج بجرس الضمة، و هو ما يطلق عليه إشمام الكسرة الضم. و حالة أخري تقابلها و هي إشمام الضمة الكسر، و هذا شي‌ء مروي عن بعض القراء في مثل (قيل، و غيض، و سيق) «1». و في مثل (البيوت، و الشيوخ، و العيون)، و لا يضبط نطق هذا الحركات المشمة بغير المشافهة «2». و إشمام المتحرك إلي غير حركته كإمالة الممال إلي غير حركته «3».
و قال الداني: «فأما الإشمام في قوله: (قيل، و سي‌ء) و نظائرهما علي مذهب من أشم أوله الضم، دلالة علي الأصل، فحقه أن ينحي بكسرة فاء الفعل المنقولة من عينه نحو الضمة، كما ينحي بالفتحة في قوله مِنَ النَّارِ و مِنْ نَهارٍ و شبههما إذا أريدت الإمالة المحضة نحو الكسرة، فكذلك ينحي بالكسرة إذا أريد الإشمام نحو الضمة، لأن ذلك كالممال سواء، و هذا الذي لا يجوز غيره عند العلماء من القراء و النحويين» «4».
و لا تسعف مصادر الدراسة الصوتية العربية القديمة و لا الحديثة التي اطلعت عليها في توضيح كيفية نطق الكسرة المشمة ضما، و لا الضمة المشمة كسرا، و لا يزال الأمر بحاجة إلي (1) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 141. و الداني: التيسير ص 72.
(2) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 178.
(3) مكي: الكشف 1/ 123.
(4) التحديد 13 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 317
دراسة و تحليل، لا سيما لأمثلة النطق في القراءات التي روي فيها هذا النوع من الحركات، عسي أن تضبط و يدوّن وصفها علي نحو دقيق.
و كان علماء التجويد و علماء القراءات أكثر وضوحا حين تحدثوا عن صور نطقية للفتحة الطويلة (الألف) و وضعوا مقاييس دقيقة لوصفها. و قد أطلقوا علي تلك الصور النطقية مصطلح (الإمالة)، و الإمالة ظاهرة ترتبط ببعض اللهجات العربية، و بعض القراءات القرآنية، و لم تكن ظاهرة صوتية عامة في لغة جميع العرب و لا شائعة في جميع القراءات القرآنية. و من ثم فإن علماء التجويد كانت عنايتهم بدراسة (الإمالة) محدودة، لم تتعد توضيح طبيعة الإمالة و درجاتها دون الخوض في أسبابها و تفصيلاتها، و تركوا ذلك لعلماء العربية و علماء القراءات الذين ألّف بعضهم كتبا مستقلة خاصة بهذا الموضوع «1». و نحن هنا لن نتجاوز الملاحظات التي كتبها علماء التجويد في كتبهم، و ما يعين علي توضيحها.
و للداني في كتابه (التحديد في الإتقان و التجويد) قول لخص فيه وجهة نظر علماء التجويد في أنواع الألف و ما هو مستخدم منها و ما هو متروك. و هو: «و أما المفتوح فحقه أن يؤتي به بين منزلتين، بين التفخيم الشديد الذي يستعمله أهل الحجاز في نحو الصلاة و الزكاة، فينحون بالألف نحو الواو من شدة التفخيم، و هذه اللغة لا تستعمل في القرآن لأنه لا إمام لها، و بين الإمالة المحضة التي يستعملها القراء، و هي التي دون الكسر الصحيح.
و أما الممال فعلي ضربين: مشبع و غير مشبع.
فالمشبع حقه أن يؤتي به بين الكسر الشديد الذي يوجب القلب لشدته، و ليس له إمام، و بين الفتح الوسط الذي ذكرناه و وصفنا حقيقته.
و غير المشبع حقه أن يؤتي به بين الفتح الوسط و بين الإمالة التي دون الكسر، و يسمّي القراء هذا الضرب بين اللفظين، و هما المذكوران» «2».
و ذكر الداني هذه التقسيمات في كتابه (الموضح لمذاهب القراء و اختلافهم في الفتح (1) من ذلك كتاب (الاستكمال في التفخيم و الإمالة) لعبد المنعم بن غلبون (ت 389 ه) و كتاب (الموضح لمذاهب القراء و اختلافهم في الفتح و الإمالة) لأبي عمرو الداني (ت 444 ه) و كتاب (قرة العين في الفتح و الإمالة و بين اللفظين) لابن القاصح (ت 801 ه). و لا تزال هذه الكتب الثلاثة مخطوطة فيما نعلم. و كتب الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي سنة 1952 رسالته للماجستير عن (الإمالة في القراءات و اللهجات العربية)، و هي مطبوعة.
(2) التحديد 15 ظ- 16 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 318
و الإمالة) و قسم الفتح إلي شديد و متوسط، و قسم الإمالة إلي متوسطة و شديدة، و هذا لا يختلف عما ذكره في النص السابق. و لكن تعريفه للفتح الشديد هنا فيه إضافة جيدة، و ذلك حيث قال: «فالفتح الشديد هو نهاية فتح القارئ «1» لفيه بلفظ الحرف الذي يأتي بعده ألف» «2».
و تحدث ابن الطحان في كتابه (مرشد القارئ) عن مصطلحي الفتح و الإمالة و بيّن خلال ذلك أنواع الألف، و جعل الفتح نوعا واحدا، و ذلك حيث قال: «الفتح عبارة عن النطق بالألف مركبة علي فتحة خالصة غير ممالة إلي مذاق الكسر، و تحديده أن يؤتي به علي مقدار انفتاح الفم مثاله (كان) يركب صوت الألف علي فتحة الكاف، و هي فتحة خالصة لا حظّ للكسر فيها، معترضة علي مخرج الكاف اعتراضا، و تحقيقه أن ينفتح له الفم في النطق بكان و نظيره، كانفتاح الفم في قال و نظيره.
و الفغر عبارة قديمة بمعني الفتح، يقع في كتب المتقدمين من علمائنا رضي اللّه عنهم «3».
و الإمالة: عبارة عن ضد الفتح، و هي نوعان: إمالة صغري، و إمالة كبري.
فالإمالة الصغري حدّها أن ينطق بالألف مركبة علي فتحة تصرف إلي الكسر قليلا، و العبارة المشهورة في هذا بين اللفظين، و معني بين اللفظين بين الفتح الذي حددنا و بين الإمالة الكبري.
و الإمالة الكبري حدها أن ينطق بالألف مركبة علي فتحة تصرف إلي الكسرة كثيرا، و نهاية ذلك أن لا يبالغ فيه حتي تنقلب الألف ياء. و البطح و الإضجاع عبارتان قديمتان بمعني الإمالة الكبري تقعان في كتب المتقدمين «4» من علمائنا رضي اللّه عنهم» «5».
و يمكن من خلال حديث الداني و ابن الطحان عن أنواع الإمالة أن نستخلص أنواع الألف التي تندرج بين حالتين لأعضاء آلة النطق: الحالة الأولي (نهاية فتح القارئ لفيه) حسب تعبير (1) قال علم الدين السخاوي: (جمال القراء 180 و): (لو أبدل لفظ القارئ بالمتكلم لكان أسدّ).
(2) الموضح 24 و. و انظر: عبد الفتاح شلبي: الإمالة في القراءات و اللهجات العربية ص 22.
(3) روي العطار (التمهيد 70 و) عن جبلة بن سحيم أنه قال: «قرأت علي عبد اللّه بن عمر: للفقراء و المساكين، قال فأخذها عليّ بالمد، ثم قال: «قرأتها علي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و سلّم- كما قرأتها، فأخذها عليّ كما أخذتها عليك، و فغرفاه».
(4) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 139 و 688.
(5) مرشد القارئ 134 ظ- 135 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 319
الداني، و الحالة الثانية (و نهاية ذلك أن لا يبالغ فيه حتي تنقلب الألف ياء) حسب تعبير ابن الطحان، أي بين فتح الفم أقصي ما يمكن، و بين تضييقه إلي أدني ما يمكن بحيث لا يصل إلي الحد الذي تصير فيه الألف ياء. و يمكن أن نرتب الأصوات التي تندرج بين تلك الحالتين فيما يأتي:
1- ألف التفخيم، و هي التي ذكرها سيبويه في الحروف الفرعية المستحسنة، و قال عنها في الكتاب: «و ألف التفخيم، يعني بلغة أهل الحجاز في قولهم: الصلاة و الزكاة و الحياة» «1».
و هي التي أطلق عليها الداني مصطلح الفتح الشديد، و قال عنها: «و القراء يعدلون عنه و لا يستعملونه، و أكثر ما يوجد في ألفاظ أهل خراسان و من قرب منهم، لأن طباعهم في العجمة جرت عليه، و استعملوه كذلك في اللغة العربية، و هو في القراءة مكروه معيب» «2».
و هاهنا تناقض بين قول سيبويه في هذه الألف و قول الداني هنا و قبل قليل من أن هذه اللغة لا تستعمل في القرآن لأنه لا إمام لها. و يمكن أن يحمل ذلك التناقض علي اختلاف الصوت الذي يتحدث عنه كل من الداني و سيبويه. بدليل قول مكي عن الألف المفخمة:
«و هي ألف يخالط لفظها تفخيم، يقربها من لفظ الواو، كما كانت الألف الممالة ألفا يخالط لفظها ترقيق يقربها من الياء، فهي نقيضة الألف الممالة. و بذلك قرأ ورش عن نافع في (الصلاة و مصلي و الطلاق و بظلّام) و شبهه، و ذلك فاش في لغة أهل الحجاز» «3». فقول مكي يؤيد ما قاله سيبويه عن ألف التفخيم و يري أنها الألف التي قرأ بها ورش في الأمثلة السابقة بينما يظل كلام الداني يشير إلي ألف شديدة الميل نحو الواو. و قد قال ابن الجزري عن الفتح الشديد الذي هو ألف التفخيم: «و لا يجوز في القرآن، بل هو معدوم في لغة العرب» «4». و لم يتحدث ابن الطحان عن ألف التفخيم الخارجة عن استعمال كلام العرب و اكتفي بذكر الألف المعتادة المركبة علي فتحة خالصة غير ممالة إلي مذاق الكسر كما يقول، و مثّل لها بألف (كان) و ألف (قال).
2- الألف العربية التي سماها الداني بالفتح المتوسط الذي يقع بين الفتح الشديد و بين الإمالة المتوسطة. و هي التي ذكرها ابن الطحان. و قد سماها عبد الوهاب القرطبي بالألف (1) الكتاب 4/ 432.
(2) الموضح 24 و.
(3) الرعاية ص 86.
(4) النشر 2/ 30.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 320
المفتوحة الأصلية «1». و سماها ابن خروف ألف الطبيعة المعتادة «2». و هي التي تغلب علي النطق العربي الفصيح اليوم.
3- ألف الإمالة المتوسطة، و هي التي تقع بين الفتح المتوسط و بين الإمالة الشديدة التي تقرب فيها الألف من الياء المدية الخالصة.
4- ألف الإمالة الشديدة أو الكبري و هي التي تقرب فيها الألف من لفظ الياء المدية الخالصة.
و قد قال الجعبري عن الإمالة: «و هي تنقسم إلي إمالة كبري و يقال لها إمالة محضة، و هي الإمالة التي لو زيدت لصارت الألف ياء محضة، و الفتحة كسرة محضة. و إلي إمالة صغري، و يقال لها بين بين، أي بين الفتح الخالص و بين الإمالة الكبري، و هي الإمالة التي لو نقصت لصارت الألف ألفا محضة، و الفتحة فتحة محضة» «3».
و ما ذكره علماء التجويد من أنواع الألف شي‌ء يؤيده الدرس الصوتي الحديث، فالناطق إذا فتح فاه إلي أقصي حد و أرسب لسانه في الحنك الأسفل فإن الصوت الذي ينتج عن هذه الحالة هو ما سماه علماء التجويد بألف التفخيم، و كلما ضيق الناطق درجة الانفتاح تغير الصوت حتي إذا بلغ أقصي درجات التضييق التي ينتقل الصوت بعدها من نوع الأصوات الذائبة إلي الأصوات الجامدة كان الصوت الناتج هو ياء المد، و بين ألف التفخيم و ياء المد أنواع من الأصوات هي التي سماها علماء التجويد بالألف الخالصة المعتادة و بالإمالة المتوسطة و بالإمالة الشديدة، و سواء اعتبرنا تلك الأصوات فروعا للألف أو عددناها أصواتا مستقلة فإنها تندرج في المقياس الذي اهتدي إليه علماء الأصوات المحدثون و سموه بالحركات المعيارية «4».
و كان علماء التجويد قد أدركوا أن الإمالة تقريب بين الأصوات مثل الإدغام «5»، قال الداني: «و هي تخفيف كالإدغام سواء» «6». و كذلك أدركوا أنها لغة لبعض العرب و رواية (1) الموضح 154 ظ.
(2) انظر: السيوطي: همع الهوامع 6/ 295.
(3) انظر: المرعشي: جهد المقل 41 و.
(4) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 179.
(5) ابن الباذش: الاقناع 1/ 268.
(6) التحديد 39 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 321
لبعض القراء دون سائرهم. فالفتح لغة أهل الحجاز، و الإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم و أسد و قيس «1». و من ثم قال مكي: «اعلم أن أصل الكلام كله الفتح، و الإمالة تدخل في بعضه، في بعض اللغات لعلة، و الدليل علي ذلك أن جميع الكلام الفتح فيه سائر جائز، و ليست الإمالة بداخلة إلا في بعضه في بعض اللغات لعلة، فالأصل ما عمّ، و هو الفتح» «2».
و الإمالة من هذا الجانب تختلف عن الإدغام، فالإدغام ظاهرة صوتية أكثر عموما، و هي ألصق بالتركيب منها باللهجات و الروايات.
و يعرّف علماء التجويد الإمالة بقولهم: الإمالة أن ينحي بالفتحة نحو الكسرة و بالألف التي بعدها نحو الياء «3». و ذلك بناء علي مذهبهم في وجود حركات تسبق حروف المد مجانسة لها، فالألف قبلها فتحة و الياء قبلها كسرة و الواو قبلها ضمة. و من ثم فإن اعتراض بعض المحدثين علي ذكر الفتحة قبل الألف في تعريف الإمالة يندرج في أصل اعتراضهم علي وجود حركات قبل حروف المد «4». و هذا أمر سنتحدث عنه في الفقرة الآتية.

خامسا- السكون الحي و السكون الميت:

توصف حروف المد الثلاثة: الألف و الواو و الياء، بأنها أصوات ساكنة، و أنها مسبوقة بحركات من جنسها، فالألف قبلها فتحة، و الواو قبلها ضمة، و الياء قبلها كسرة، و هي تجتمع في هذه الكلمة (نوحيها). و هذا هو موقف علماء العربية و علماء التجويد من هذه الأصوات علي السواء «5».
و السكون عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحروف، أو سلب الحركة و عدمها من النطق «6». و لكن نجد لدي بعض علماء التجويد اتجاها متميزا في معالجة السكون، و ذلك بتقسيمه إلي حي و ميت. و كان ابن الطحان (ت حوالي 560 ه) أقدم من (1) الداني: الموضح 23 ظ، و علم الدين السخاوي: جمال القراء 179 ظ.
(2) الكشف 1/ 168.
(3) انظر: مكي: الرعاية ص 105، و القرطبي: الموضح 154 و. و ابن الباذش: الإقناع 1/ 268.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 39.
(5) سيبويه: الكتاب 2/ 220 و 221 و 4/ 442 و 447. و المبرد: 1/ 210- 211. و الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51، و ابن جني سر صناعة الإعراب 1/ 31، و مكي: الرعاية ص 101.
(6) انظر: ابن يعيش: شرح المفصل 9/ 67، و السيوطي: الأشباه و النظائر 1/ 176، و الدركزلي:
خلاصة العجالة 189 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 322
تحدث عن هذا الاتجاه، مما اطلعت عليه من مصادر علم التجويد. و لم يتابعه في ذلك إلا القسطلاني (ت 923 ه) الذي تحدث عن الموضوع حديثا موجزا.
قال ابن الطحان: «و أما حد السكون فالسكون نوعان حي و ميت. فالحي هو الذي يتهيأ له العضو و يأخذه فيسمع قرعه به، مثل: حكم و غير، فأنت تجد الكاف و الياء ظاهرتي الجسم و القرع، لإعمال العضو فيهما كما يعمل في المحرك مثل حكم و (ميل) «1». و المتحرك حي، فكذلك السكون الذي يوجد فيه أخذ العضو إياه حي أيضا.
و السكون الميت لا يكون إلا في حروف المد و اللين الثلاثة، في الألف الثابتة السكون، و في الواو بعد الضم، و في الياء بعد الكسرة. فأما الألف فشهرتها بعدم حكمها من أن ينقطع لها في الفم جزء تتحيز إليه ظاهرة. و أما الواو و الياء فإنهما ما وقعتا بعد حركتهما فإن سكونهما ميّت، و ذلك أنه غير جار علي عضو و لا حاصل في حيّز، إنما يصير الفم لصوتيهما كالأنبوب.
و هما إذا انفتح ما قبلهما كسائر الحروف، و سكونهما حي (لسكونهما) «2».
إلا أن السكون الحي يتفاضل بمقتضي طبع الحرف من القوة و تمكنه منها كما أنه في الوقف أندي منه في الوصل، كما أنه في الوقف (أتم) «3» حياة منه في الوصل.
فحد السكون الحي هو أن تكمل ضديته لنقيضه، و هو الحركة، فواجب علي القارئ أن يعتمد عليه اعتمادا يظهر صيغته، و يبرز حليته. فإن وصله بغيره بيّنه بما يحقق له من صفاته القائمة بذاته من غير قطع مسرف و لا فصل متعسف سوي ما تحكم به طبيعته من احتباس العضو لإظهار قرعه. فإن وقف عليه بيّنه أيضا بما يجب له من صفاته القائمة بذاته المعينة علي حياته، الشاهدة للقارئ بالإحسان و الإجادة و الإتقان في تفريقه بين المهموس و المجهور، و بين المهموس الرخو و بين المهموس الشديد، و بين المجهور الرخو و بين المجهور الشديد و بين الشديد (الأصلي) «4» و بين الشديد الفرعي، و بين صوتي النون مشددة و مخففة مع التعيين و إظهار للطنين و في الياء و الواو الحيتين توقيف من الأداء، كذلك السكون الميت حده مقيد بالأداء من شرع القراء» «5». (1) يمكن أن تقرأ (سيل).
(2) كذا في الأصل.
(3) غير واضحة في الأصل. و يمكن أن تقرأ (أنمي).
(4) غير واضحة في الأصل، و اخترت قراءة (الأصلي) علي أساس قوله (الفرعي) بعده.
(5) مرشد القارئ 136 و- 136 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 323
و قد نقلت هذا النص علي طوله، مع ما فيه من غموض في إمكانية قراءة بعض الكلمات، لأنه نص عزيز يعرض فكرة جديدة متميزة، إذ يتضح من هذا النص أن وجه التقابل بين السكون الحي و السكون الميت ليس قائما علي أساس قابلية السكون الحي للحركة و عدم قابلية السكون الميت لها، كما هو المتبادر إلي الذهن، و إنما هو قائم علي أساس طبيعة مخرج الصوت في أثناء مرور النفس به. فجميع الأصوات الجامدة سكونها حي، لعمل أعضاء آلة النطق في مخارجها، إما بسد مجري النفس بالكلية ثم إطلاقه، و ذلك في الأصوات الشديدة، و إما بتضييق مجري النفس عند مخرج الصوت، و ذلك في الأصوات الرخوة. أما حروف المد فسكونها ميّت لأن أعضاء آلة النطق لا تعترض مجري النفس عند إنتاجها بسد و لا تضييق، و إنما تكون (كالأنبوب)، كما يقول ابن الطحان.
و لخص القسطلاني فكرة تقسيم السكون إلي حي و ميّت، من غير أن يخرج علي أصل الفكرة، و من غير أن يضيف إليها شيئا جديدا، و ذلك حيث قال: «و أما السكون فنوعان: حي و ميت. فالثاني الألف و أختاها، لأنهن لا حيّز و لا مقطع لهن محقق، فإن انفتح ما قبل الواو و الياء فسكونهما حي، لأخذ اللسان الياء، و الشفتين الواو، كسائر الحروف، فكما تجد الجيم التي هي أخت الياء في مخرجها قد أخذها اللسان، في قولك: رميت «1»، كذلك تجد الواو قد أخذتها الشفتان في قولك: عفوت» «2».
و إنه لأمر عجب ألّا نجد نصوصا أخري تتعلق بفكرة تقسيم السكون إلي حي و ميت، و إني أتوقع ألا يكون ابن الطحان هو أول من شرح هذه الفكرة، كما أن القسطلاني ليس الوحيد الذي تحدث عنها بعد ابن الطحان، و أعجب من ذلك أن سيبويه تحدث عن قضية أعتقد أنها هي أصل تلك الفكرة لدي علماء التجويد، و لكن أحدا لم يشر إليها و لا تحدث عنها بعد سيبويه من القدماء و لا المحدثين، بقدر ما اطلعت عليه من المصادر.
يذهب سيبويه إلي تقسيم الألف و الواو و الياء إلي حية و ميتة. و هو يريد بالحية (المتحركة)، و بالميتة (الساكنة)، و من ثم كانت الألف ميتة لأنها لا يفارقها السكون، قال:
«و إنما جسروا علي حذف الألف لأنها ميتة لا يدخلها جر و لا رفع و لا نصب» «3». و قال سيبويه (1) لا تخلو هذه العبارة من الاضطراب: و لعل تصحيفا أخل بها، أو سقط منها شي‌ء، و مع ذلك فالمعني واضح، لا يخفي أنه يريد: أخذ اللسان الياء في قولك: رميت.
(2) لطائف الإشارات 1/ 187.
(3) الكتاب 3/ 356 و 423.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 324
عن الواو في جدول: «و ذلك لأن هذه الواو حية» «1»، و قال عن حروف المد: «و إنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء و الواو و الألف و ما بعدها بمنزلة زيادة واحدة لسكونها و ضعفها، فجعلت و ما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية» «2».
و قال سيبويه أيضا: «و سألته «3» عن واو عجوز و ألف رسالة و ياء صحيفة، لأي شي‌ء همزن في الجمع، و لم يكنّ بمنزلة معاون و معايش إذا قلت: صحائف و رسائل و عجائز؟
فقال: لأني إذا جمعت معاون و نحوها، فإنما أجمع ما أصله الحركة فهو بمنزلة ما حركت كجدول. و هذه الحروف لما لم يكن أصلها التحريك و كانت ميتة لا تدخلها الحركة علي حال، و قد وقعت بعد ألف، لم تكن أقوي حالا مما أصله متحرك ... فهذه الأحرف الميتة التي ليس أصلها الحركة أجدر أن تغيّر إذا همزت ما أصله الحركة» «4».
و يتضح من هذه النصوص أن سيبويه يستخدم مصطلح (الحروف الحية) للدلالة علي الواو و الياء إذا تحركتا، و مصطلح (الحروف الميتة) علي الألف و الياء و الواو الساكنة. و يفهم من النص الأخير أن الخليل بن أحمد استخدم مصطلح (الحروف الميتة)، و لا أستبعد أن يكون سيبويه أخذ الفكرة عن الخليل.
و يبدو لي أن فكرة ابن الطحان في تقسيم السكون إلي حيّ و ميت تعتمد علي فكرة سيبويه في تقسيم الحروف الثلاثة إلي حية و ميتة، و إن كان هناك اختلاف يسير بينهما يتمثل في أن سيبويه يستخدم مصطلح (الحية) للدلالة علي الواو و الياء إذا تحركتا، بينما يستخدم ابن الطحان مصطلح (الحي) للدلالة علي سكون الواو و الياء إذا انفتح ما قبلهما و كذلك علي سائر الحروف الجامدة الأخري إذا كانت ساكنة. و لا يزال هذا الموضوع بحاجة إلي نصوص أخري، يمكن من خلالها تتبع تطور فكرة الحي و الميت في الحروف من لدن سيبويه إلي ابن الطحان.
و كان بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين قد أخذوا علي علماء العربية قولهم إن حروف المد ساكنة و أنها مسبوقة بحركات تجانسها، علي أساس أن حروف المد هي من (1) الكتاب 3/ 469، و انظر 3/ 355.
(2) الكتاب 2/ 262.
(3) يريد أستاذه الخليل بن أحمد. قال السيرافي (أخبار النحويين البصريين ص 40): «و كل ما قاله سيبويه:
و سألته، أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل».
(4) الكتاب 4/ 356.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 325
الناحية الصوتية حركات طويلة فلا يمكن أن توصف بأنها ساكنة و لا أن تكون مسبوقة بحركات من جنسها. و فسروا ذلك بقولهم: إن علماء العربية انخدعوا بطريقة الكتابة العربية التي تضع حركة قبل حروف المد و سكونا فوقها لاعتبارات كتابية لا صوتية محضة «1».
و إذا نظرنا إلي هذه القضية من وجهة نظر الكتابة وجدنا ما يسوغ رسم علامات الحركات قبل حروف المد مع وضع علامة السكون عليها في مثل (باع- نبيع- نقول) و ذلك لأن رموز الألف و الياء و الواو تمثل في الكتابة ستة أصوات، فرمز الألف يمثل الهمزة في مثل (أخذ) و حرف المد في مثل (قال)، و رمز الواو يمثل حرف المد في مثل (نقول) و الواو الجامدة في مثل (حوض)، و رمز الياء يمثل حرف المد في مثل (نبيع) و الياء الجامدة في مثل (بيت)، فرسم تلك العلامات أعني الحركات قبل حروف المد و السكون فوقها بمثابة علامات تمييزية لتحديد دلالة تلك الرموز.
و من علماء التجويد من فرق بين سكون حروف المد و بين سكون غيرها من الحروف، و سمّي سكون حروف المد سكونا ميتا، و سمّي سكون غيرها من الحروف سكونا حيا. و يفهم من كلام ابن الطحان السابق أنه يقصد بوصف حروف المد بأنها ساكنة أكثر من كون السكون سلب الحركة، فهو يريد بالسكون الميت اتساع مخارجها للصوت حتي يصير الفم لأصواتها كالأنبوب.
و يري بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية أن ذكر الحركات فوق الحرف السابق لحروف المد يمكن أن يجد مسوغا في أن هذه الحركات يمثلن أوائل حروف المد التالية لها و يؤذنّ بتمامها «2».
و لا يزال موضوع وجود حركات قبل حروف المد بحاجة إلي تحقق، و إن من التسرع القول بأن علماء العربية أخطئوا حين قالوا إن حروف المد مسبوقة بحركات تجانسها، فهناك ظواهر لغوية و صوتية تؤيد و جهة نظر علماء العربية، فالفعل (أدعو) مثلا ينتهي بحرف مد (ضمة طويلة)، و في نظر الدارسين المحدثين أننا لا نحتاج إلي أي علامة كتابية توضع علي العين أو الواو، بينما يجب في مذهب علماء العربية أن توضع ضمة علي العين و سكون علي (1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 39، و كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة 1/ 201- 202. و رمضان عبد التواب: فصول في فقه العربية ص 354.
(2) هنري فليش: التفكير الصوتي عند العرب، مجلة مجمع اللغة العربية القاهرة 1968، ج 23، ص 79.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 326
الواو (أدعو)، و إذا جاء هذا الفعل في مثل هذا السياق (لن أدعو) فسوف نحتاج حينئذ إلي أن نضع ضمة فوق العين و فتحة فوق الواو، و لا نستطيع أن نستغني عن الضمة قبل الواو حينئذ و الفتحة بعد الواو. و كذلك الحال في الفعل (نرمي- لن نرمي). فلزوم الحركة قبل رمز الواو و الياء في الحالة الثانية للفعل يسوغ القول بوجود حركة قبل حرف المد تمثل الجزء الأول منه، بينما يمثل رمز الواو أو الياء الجزء الثاني من حرف المد باعتباره حركة طويلة مؤلفة من حركتين.
*** و إذا أردنا أن نلخص جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات الذائبة (حروف المد و الحركات) فإنه يمكننا القول:
1- إنهم ميّزوا بكل وضوح بين الأصوات الجامدة و الأصوات الذائبة، و أدركوا ما تتميز به الأصوات الذائبة من اتساع مخارجها قياسا بالأصوات الأخري.
2- حددوا الأصوات الذائبة في العربية، و هي حروف المد الثلاثة: الألف و الواو و الياء الساكنتان المسبوقتان بحركة من جنسهما، و أدركوا العلاقة بين حروف المد و الحركات و قال الجمهور منهم إن الفتحة من الألف، و الضمة من الواو، و الكسرة من الياء و توصل بعضهم إلي تحديد نسبة الحركات من حروف المد، و قالوا: إن الألف مركب من فتحتين، و الواو مركب من ضمتين، و الياء مركب من كسرتين.
3- و عرفوا أنواعا أخري من الحركات الفرعية و حروف المد هي من مظاهر النطق اللهجي أو أنها ترتبط ببعض القراءات.
4- ميز علماء التجويد بين الواو و الياء الجامدتين و بينهما حين يكونان صوتين ذائبين (حرفي مد).
5- حدد علماء التجويد مخارج الأصوات الذائبة (حروف المد و الحركات)، و قد ميزوا بين مخرجي الواو و الياء الجامدتين و بين مخارج الأصوات الذائبة الأخري، و ربطوا بين مخارج حروف المد و بين مخارج الحركات، و توصلوا في ذلك إلي نتائج تستحق تقدير الدارسين.
6- إن مقولة علماء العربية و علماء التجويد (حروف المد أصوات ساكنة، و مسبوقة بحركات من جنسها) لا تزال بحاجة إلي بحث، و لا يمكن الجزم بتخطئتهم فيها، و هي تجد الآن ما يسوغ القول بها من عدة نواح صرفية و صوتية و كتابية.
***
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 327

الفصل الثالث دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد متصلة (علي مستوي التركيب)

اشارة

إن النظام الصوتي للغة العربية كما وصفناه في الفصل السابق مبني علي أساس نظري تجريدي لا يلحظ الأصوات في جميع سياقاتها النطقية، فنحن حين نصف صوتا معينا بأنه مجهور فإن ذلك مبني علي ملاحظة أحوال ذلك الصوت الغالبة، و إلا فمن المحتمل أن يأتي في بعض المواقع في السلسلة الكلامية المنطوقة مهموسا، و كذلك حين نصف صوتا بأنه مرقق فإن ذلك لا يعني أنه لا يلحقه التفخيم مطلقا، و مثل ذلك جملة الصفات و الخصائص الصوتية التي وصفنا بها الأصوات العربية، فإنها معرضة في الكلام المنطوق للتغير بدرجات متفاوتة بتأثير من الأصوات المجاورة.
و يقرر علماء الأصوات المحدثون أن الأصوات اللغوية يتأثر بعضها ببعض في المتصل من الكلام، فحين ينطق المرء نطقا طبيعيا لا تكلف فيه نلحظ أن أصوات الكلمة الواحدة قد يؤثر بعضها في بعض، كما نلحظ أن اتصال الكلمات في النطق المتواصل قد يخضع أيضا لهذا التأثر. علي أن نسبة التأثر تختلف من صوت إلي آخر. فمن الأصوات ما هو سريع التأثر يندمج في غيره أكثر مما قد يطرأ علي ما سواه من الأصوات. و مجاورة الأصوات بعضها لبعض، في الكلام المتصل، هي السر فيما قد يصيب بعض الأصوات من تأثر «1».
و يلاحظ أن علماء الأصوات المحدثين الذي درسوا أصوات اللغة العربية قد وجهوا معظم عنايتهم إلي دراسة الخصائص النطقية للأصوات العربية، أي ما يتعلق ببيان مخارجها و صفاتها التي تمتاز بها حينما ينظر إليها مجردة عن الكلام المنطوق. أما الظواهر الصوتية (1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 179.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 328
الناشئة عن التركيب فلم يعتن بها إلا عدد قليل من الدارسين، من غير أن يستغرقوا بحث كل ما يتصل بها «1».
و كان هذا الموضوع قد حظي بعناية علماء العربية المتقدمين، و علماء القراءات، و علماء التجويد. و الذي يعنينا هنا بدرجة أكبر هو معرفة موقف علماء التجويد من إدراك الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، و كيف وصفوا تلك الظواهر و صنفوها، و بيان مدي إدراكهم لقضية التأثر و التأثير بين الأصوات حين تكون في كلام متصل و العوامل التي تؤدي إلي ذلك.
و من ثم فإن هذا الفصل سوف يتضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: فكرة التأثر و التأثير بين الأصوات المتجاورة عند علماء التجويد.
المبحث الثاني: الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة.
المبحث الثالث: الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة.
***
(1) مثل إبراهيم أنيس في (الأصوات اللغوية) ص 179- 207 و أحمد مختار في (دراسة الصوت اللغوي) ص 324- 338. و من المستشرقين برجستراسر في (التطور النحوي) ص 18 و ما بعدها. و جان كانتينو في (دروس في علم أصوات العربية). حيث بحث تطور الأصوات العربية في مواضع متعددة من كتابه.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 329

المبحث الأول فكرة التأثر و التأثير بين الأصوات في الكلام المتصل‌

كان واضحا لدي علماء التجويد أن الأصوات إذا تجاورت في الكلمة المفردة أو في الكلام المتصل تعرضت صفاتها للتغير الجزئي أو الكلي إذا نطق بها متصلة، و ذلك بحسب طبيعة الصوت و ما يجاوره. و قد قال عبد الدائم الأزهري (ت 870 ه) كلمة تعبر بوضوح و علي نحو شامل عن ذلك، و هي قوله: (المجاورة لها تأثير). و ذلك حيث قال: «احذر من تفخيم باء (برق) لمجاورتها الراء المفخمة، فإن اللسان يسبق إلي تفخيمها، و كذا (باطل) لمجاورتها الألف المدية، فيسرع اللسان إلي تفخيمها و تفخيم الألف المدية و الطاء، بسبب المجاورة، إذ المجاورة لها تأثير» «1».
و قال الداني (ت 444 ه) في ذلك أيضا عبارة جامعة رددها علماء التجويد من بعده، و هي قوله: «و الحروف المهموسة إذا لقيت الحروف المجهورة، و الحروف المجهورة إذا لقيت الحروف المهموسة فيلزم تعمّل تلخيصها و بيانها، لئلا ينقلب المهموس إلي لفظ المجهور، و المجهور إلي لفظ المهموس، فتختل بذلك ألفاظ التلاوة، و تتغير معانيها» «2».
و قد نقل قول الداني هذا عبد الوهاب القرطبي في كتابه (الموضح في التجويد) «3» و كذلك المرادي في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد) «4».
و يذهب الداني إلي أنّ تأثر الأصوات بالمجاورة لا يقف عند حد الأصوات الجامدة و إنما يتجاوزه إلي الذوائب، و ذلك حيث قال: «و الترقيق في الحرف دون الحركة إذا كان صيغته، و الإمالة في الحركة دون الحرف إذا كانت لعلة أوجبتها، و هي تخفيف كالإدغام (1) الطرازات المعلمة 27 و.
(2) التحديد 131 طبعة دار عمار/ الأردن.
(3) الموضح 182 ظ.
(4) المفيد 115 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 330
سواء» «1».
و كانت هذه القضية واضحة لدي عبد الوهاب القرطبي (ت 462 ه)، حتي إنه رتب كتابه (الموضح في التجويد) علي أساس منها، فخصص الباب الأول للحديث عن الحروف العربية في حالة الإفراد، و خصص الباب الثاني ما يلحق الحروف العربية من أحكام عند النطق بها في التركيب، و قال في أول هذا الباب: «الباب الثاني فيما يعرض في هذه الحروف من الأحكام عند ائتلافها و تركبها ألفاظا، اعلم أن التأليف منه متعذر ممتنع، و منه ممكن و لكنه منبوذ مستكره، و منه ممكن و هو مستحسن مستعمل ... و هذا الضرب يعرض فيه عند الائتلاف و التجاور من الأحكام زيادة علي وضع بسيط الحروف: كالمد، و التشديد، و التليين، و الإظهار، و الإخفاء، و القلب، و ما يدخل من شوائب الحروف بعضها علي بعض بسبب المناسبة بينها و المباينة و المقاربة و المباعدة. و نحن نبين ذلك بما يحضرنا من الاستقصاء، إن شاء اللّه» «2».
و الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي منها ما يختص بالأصوات الذائبة، و هي: المد و التليين، و منها ما يختص بالأصوات الجامدة، مثل التشديد و الإظهار و الإخفاء و القلب. و هذا اتجاه أكده القرطبي في مكان آخر حيث قال عن مذهب ورش في تغليظ اللام إذا تحركت بالفتح خاصة، و كان قبلها حرف إطباق: «و أما مذهب ورش فوجهه طلب المناسبة بين الحروف، كما في إمالة الألف و ترقيق الراء و القلب و التشديد» «3».
و كان أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) قد نقل عن أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454 ه) أنه قال: «ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث بعض الحروف في بعض من النقصان، لاستطالة حرف علي حرف ...» «4».
و قال ابن وثيق (ت 654 ه) «فإذا وقع في تلاوتك مطبق بين منفتحين، أو منفتح بين مطبقين، أو مستعل بين منسفلين، أو منسفل بين مستعليين، أو شديد بين رخوين، أو رخو بين شديدين، أو مهموس بين مجهورين، أو مجهور بين مهموسين، أو حرف فيه غنة بين حرفين ليس فيهما غنة مشددين أو مخففين ساكنين، أو حرف ليس فيه غنة بين حرفين بغنتين (1) التحديد 39 و.
(2) الموضح 165 ظ- 166 و.
(3) الموضح 164 ظ.
(4) الإيضاح 68 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 331
- فيجب عليك أن تكون عارفا بتخليص كل حرف منها، و إعطاء كل حرف حقه، و بمعرفة هذه الأوصاف و إعطاء كل حرف حقه من صفاته أجمع يكون الإنسان قارئا ماهرا» «1».
و كان الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه) قد جعل معرفة الأحكام الناشئة عن التركيب أحد أركان علم التجويد الأربعة في قوله الذي نقلناه من قبل و هو: «إن تجويد القراءة يتوقف علي أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
و الثاني: معرفة صفاتها.
و الثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
و الرابع: رياضة اللسان بذلك و كثرة التكرار» «2».
و هذه النصوص تبين أن علماء التجويد كانوا مدركين أن الدرس الصوتي لا يتوقف عند معرفة مخارج الحروف و صفاتها، بل لا بد من دراسة ما يحدثه التركيب من آثار علي صفات الأصوات، و قد جعل ابن الجزري معرفة أحكام الحروف الناشئة عن التركيب شرطا لإتقان التجويد فقال: «فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف علي حدته موفّ حقه فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، و ذلك ظاهر، فكم ممن يحسن الحروف مفردة و لا يحسنها مركبة بحسب ما يجاورها من مجانس و مقارب، و قوي و ضعيف، و مفخم و مرقق، فيجذب القوي الضعيف، و يغلب المفخم المرقق، فيصعب علي اللسان النطق بذلك علي حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب، فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان و التدريب» «3».
و لم يقف علماء التجويد عند حد الإشارة إلي الأحكام الصوتية الناشئة عن التركيب أو الاكتفاء بتوضيحها، و إنما حاولوا تفسير تلك الأحكام تفسيرا عاما يمكن أن نرجع إليه جميع الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، و تكاد تفسيرات علماء التجويد للظواهر الصوتية التركيبية تنحصر في إرادة الناطق السهولة و الاقتصاد في الجهد بالعدول عن الأثقل إلي الأخف. (1) كتاب في تجويد القراءة و مخارج الحروف 78 و.
(2) الواضحة ص 30.
(3) النشر 1/ 214- 215.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 332
و كان بعض علماء العربية قد أشاروا إلي ذلك في أثناء حديثهم عن ظاهرة الإدغام خاصة، التي هي أكثر الظواهر الصوتية التركيبية دورانا في كلام العرب. فقال سيبويه، و هو يتحدث عن قلب الواو ياء في مثل الميزان و الميعاد: «فكان العمل من وجه واحد أخف عليهم، كما أن رفع اللسان من موضع واحد أخف عليهم في الإدغام، و كما أنهم إذا أدنوا الحرف من الحرف كان أخف عليهم، نحو قولهم: ازدان، و اصطبر» «1». و قال الفراء، و هو يتحدث عن إدغام لام هل و بل: «و كذلك فافعل بجميع الإدغام، فما ثقل علي اللسان إظهاره فأدغم، و ما سهل لك فيه الإظهار فأظهر و لا تدغم» «2».
و كان حديث علماء التجويد عن ذلك أكثر تفصيلا و وضوحا، فقال مكي (ت 437 ه):
«و القوي من الحروف إذا تقدمه الضعيف مجاورا له جذبه إلي نفسه، إذا كان من مخرجه، ليعمل اللسان عملا واحدا في القوة من جهة واحدة» «3». و قال: و اعلم أن أصل الإدغام إنما هو في الحرفين المثلين. و علة ذلك إرادة التخفيف، لأن اللسان إذا لفظ بالحرف من مخرجه ثم عاد مرة أخري إلي المخرج بعينه، ليلفظ بحرف آخر مثله صعب ذلك، و شبهه النحويون بمشي المقيد، لأنه يرفع رجلا ثم يعيدها إلي موضعها أو قريب منه. و شبّهه بعضهم بإعادة الحديث مرتين، و ذلك ثقيل علي السامع» «4».
و قال مكي أيضا بعد أن ذكر مذهب ورش في تفخيم اللام: «فيعمل اللسان في التفخيم عملا واحدا. و هذا هو معظم مذاهب العرب في مثل هذا يقرّبون الحرف من الحرف، ليعمل اللسان عملا واحدا. و يقرّبون الحركة من الحركة ليعمل اللسان عملا واحدا، و علي هذا أتت الإمالات في عللها، و علي هذا أبدلوا من السين صادا إذا أتي بعدها طاء أو قاف أو غين أو خاء، ليعمل اللسان في الإطباق عملا واحدا، فذلك أخف عليهم من أن يتسفل اللسان بالحرف، ثم يتصعد إلي ما بعده» «5».
و قال الداني: «اعلم أرشدك اللّه أن الإدغام تخفيف و تقريب ... و إنما أدغمت العرب و القراء طلبا للتخفيف و كراهة للاستثقال بأن يزيلوا ألسنتهم عن موضع ثم يعيدوها إليه، إذ في (1) الكتاب 4/ 335 و انظر أيضا 4/ 365. و انظر: ابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 476.
(2) معاني القرآن 2/ 354.
(3) الرعاية ص 180 و انظر أيضا ص 150 و 163 و 190 و 193.
(4) الكشف 1/ 134.
(5) الكشف 1/ 219.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 333
ذلك من التكلف ما لا خفاء فيه، أ لا تري أن الخليل رحمه اللّه شبّه ذلك بمشي المقيد، و بإعادة الحديث مرتين، فخففوا بالإدغام من أجل ذلك مع توفر المعني به» «1».
و صرح عبد الوهاب القرطبي في أكثر من مكان بأن الغرض من الإدغام أو تقريب الحروف بعضها من بعض هو طلب السهولة علي اللافظ، «لأن اللسان يفرّ إلي الأخف و يطلبه» «2». فمن ذلك قوله: «إذا كانت الجيم مع بعض الحروف المقاربة لها، و لا سيما إذا كانت ساكنة صعب إخراجها لشدة الجيم و مال الطبع بالنطق إلي الأسهل» «3».
و قال أيضا و هو يتحدث عن المشدد (أي المدغم): «و العلة في ذلك أن اعتماد آلة النطق علي موضع و ارتفاعها عنه و عودها إليه ثم ارتفاعها عنه مستثقل يشبه مشي المقيّد، فجعل اللسان أو غيره من المخارج ينبو عنهما نبوة واحدة، طلبا للخفة، و لما في ذلك من السهولة علي اللافظ» «4».
و يقرر دارسو الأصوات المحدثون أن نظرية السهولة هي من أكبر العوامل التي تؤدي إلي تطور اللغات «5»، و بذلك يكون علماء التجويد علي حق حين فسروا الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب بميل اللافظ إلي الأسهل و الأخف في النطق، لأن هذه الظواهر هي في الواقع ضرب من ضروب التطور الصوتي.
***
(1) الإدغام الكبير 5 و- 5 ظ، و انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 125.
(2) الموضح 184 و.
(3) الموضح 155 و.
(4) الموضح 169 ظ.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 235- 238، و أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 319- 321 و 338- 339.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 334

المبحث الثاني الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة

أولا- تقسيمات علماء التجويد لظواهر التأثر بين الأصوات الجامدة:

اشارة

تتعدد صور التأثر بين الأصوات الجامدة في اللغة العربية، و هناك مصطلح يستخدم للتعبير عن مجموع تلك الصور، و هو مصطلح (الإدغام)، و إن كان بعض العلماء لا يستخدمه إلا في الحالات التي يفني فيها الصوت في الصوت المجاور له، و لا يبقي له أثر، و يستخدم مصطلحات أخري للتعبير عن صور التأثر الأخري التي لا تبلغ درجة الفناء التام، مثل مصطلح (الإخفاء) أو (التقريب).
و كان علماء التجويد قد درسوا ظاهرة الإدغام علي نحو مفصل، و ميزوا بين عدة أنواع من ظواهر تأثر الأصوات بما يجاورها في الكلام المتصل، و من ثم قسموا الإدغام إلي عدة أقسام:

1- المقبل و المدبر و المتبادل:

قال عبد الوهاب القرطبي: «ثم الإدغام في المتقاربين: تارة يكون بقلب الأول إلي الثاني، و هو الأكثر الأشيع، كقولك: النّعيم و السّلام، و هو الأصل.
و تارة يكون بقلب الثاني إلي الأول، نحو (مذّكر) في لغة من أبدل تاء (افتعل) ذالا معجمة و أدغمها في الذال الأصلية.
و تارة يكون بأن يبدل بحرف مناسب لهما ثم يدغم، و ذلك نحو (مدّكر) بدال غير معجمة.
و منه ما يقلب الأول من جنس الثاني، و يترك من الحرف الأول شائبة ما، و ذلك مثل (أحطت) في إبقاء شائبة من إطباق مع التاء عند الإدغام، و مثل مَنْ يَهْدِ اللَّهُ [الأعراف:
178]. و مِنْ وَرائِهِمْ [الجاثية: 10] في إبقاء الغنة مع إدغام النون في الياء و الواو» «1». و لم (1) الموضح 169 ظ، و ينظر: الفراء: معاني القرآن 1/ 215- 216، ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 132.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 335
يستخدم عبد الوهاب القرطبي لهذه الأنواع أسماء خاصة بها.
و قد استخدم بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين مصطلحات خاصة لأنواع الإدغام، فنجد المستشرق الألماني برجستراسر قد استخدم المصطلحات الثلاثة (مقبل، و مدبر، و متبادل) و هو يريد بالمقبل أن يؤثر الحرف الأول في الحرف الثاني مثل (مذّكر) فإن الأصل (مذتكر) فقلبت تاء الافتعال إلي جنس الحرف السابق له و هو الذال، و أدغم فيه. و يريد بالمدبر أن يؤثر الحرف الثاني في الحرف الأول نحو (عبدت) حيث تصير الكلمة في النطق (عبتّ) حيث قلب الحرف الأول و هو الدال إلي جنس الحرف الثاني و هو التاء و أدغم فيه. و أما المتبادل فهو أن يقلب الحرفان الأول و الثاني إلي حرف ثالث مخالف لهما، و ذلك في مثل (مدّكر) بالدال حيث قلبت الذال و التاء في (مذتكر) كلاهما إلي صوت الدال، فالتقي دالان الأول ساكن و الثاني متحرك فأدغم الأول في الثاني «1».
و استخدم بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية مصطلح التأثر (الرجعي) و التأثر (التقدمي) في مقابل (المدبر و المقبل)، و لم يضع مصطلحا للمتبادل «2». و هناك اتجاه لدي المحدثين نحو استخدام كلمة (المماثلة) للتعبير عن ميل الأصوات إلي التماثل في الكلام المتصل، و هذه الكلمة أقرب إلي أن تكون مرادفة لكلمة (الإدغام). و قد استخدم بعضهم مصطلح (مماثلة تقدمية) و (مماثلة رجعية) «3».
و لا يخلّ بتقسيم عبد الوهاب القرطبي للإدغام أنه لم يضع مصطلحا لكل نوع من أنواعه، لا سيما أن نوعا واحدا هو الشائع الغالب في العربية، و هو الذي يتأثر فيه الأول و الثاني.

2- الإدغام الناقص و الإدغام التام:

لا يصل التأثر بين الأصوات أحيانا إلي حد أن يفني الصوت في الصوت الآخر، بل يبقي للصوت الأول أثر، و من هنا قسم علماء التجويد الإدغام إلي ناقص و هو ما يبقي معه للصوت المدغم بقية، و كامل و هو ما يتحول فيه الصوت المدغم إلي جنس الصوت المدغم فيه «4».
و يبدو أن محمدا المرعشي هو خير من وضح هذا التقسيم للإدغام، و ذلك حيث قال: (1) انظر: التطور النحوي ص 18- 19.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 181.
(3) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 325.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 231، و النابلسي: كفاية المستفيد 17 ظ- 18 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 336
«ثم إن الإدغام ينقسم إلي تام و ناقص، لأن الحرف الأول إن أدرج في الثاني ذاتا و صفة بأن كانا مثلين أو متقاربين لكن انقلب ذات الأول إلي ذات الثاني و صفته إلي صفته فالإدغام حينئذ تام، مثل إدغام (مدّ)، و إدغام الذال في الظاء نحو إِذْ ظَلَمُوا [النساء: 64].
و إن أدرج الحرف الأول في الثاني ذاتا لا صفة بأن كانا متقاربين فانقلب ذات الحرف الأول إلي ذات الثاني و لم تنقلب صفته إلي صفته بل بقي في التلفظ، فالإدغام حينئذ ناقص، و الصفة باقية من الحرف الأول:
إما غنة، و هي في إدغام النون الساكنة و التنوين في الواو و الياء.
و إما إطباق، و هو في إدغام الطاء المهملة في التاء المثناة الفوقية نحو أَحَطْتُ [النمل: 22].
و إما استعلاء، و هو في إدغام القاف في الكاف في أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ [المرسلات:
20] ...» «1».
و هذا تقسيم صحيح للإدغام، و قد عبر عنه بعض المحدثين باستخدام مصطلح (التشابه الكلي) إذا تطابق الحرفان تماما، و (التشابه الجزئي) إذا لم يتطابق الحرفان تماما «2». و. استخدم بعضهم مصطلح (المماثلة الكلية) و (المماثلة الجزئية) «3». و لا يعدو هذا الاختلاف في استخدام المصطلحات أن يكون لفظيا، إلا أن مصطلح (المماثلة الجزئية) ينطبق علي (الإدغام الناقص) و ينطبق علي صور أخري يكون التأثر فيها علي نحو أقل من مثل ما سماه بعض علماء التجويد بدخول شوائب الحروف بعضها علي بعض «4». علي ما سنذكر ذلك مفصلا بعد قليل.

3- إدغام المتماثلين و المتجانسين و المتقاربين:

قسم علماء التجويد الإدغام بالنظر إلي مقدار التشابه بين الأصوات التي يحصل فيها الإدغام، و انتهي ذلك بهم إلي هذه الأقسام الثلاثة.
يقول أبو بكر أحمد بن الجزري: «اعلم أن الحرفين إذا التقيا إما أن يكونا مثلين أو جنسين أو متقاربين، فالمثلان ما اتفقا مخرجا و صفة، كالباء و التاء و التاء و التاء، و الجيم (1) جهد المقل 25 و. و انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 29.
(2) برجستراسر: التطور النحوي ص 18.
(3) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 325.
(4) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 179 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 337
و الجيم، و اللام و اللام.
و المتجانسان ما اتفقا مخرجا و اختلفا صفة كالدال و الطاء، و الثاء و الذال، و كاللام و الراء عند الفراء و من تابعه.
و المتقاربان ما تقاربا في المخرج أو الصفة، كالدال و السين، و الثاء و التاء، و الضاد و الشين» «1»، و يستخدم بعض المتأخرين مصطلح (المتماثلين) بدل (المثلين) «2».
و يجد الدارس أن أصول هذا الاتجاه قديمة ترجع إلي كتابات علماء العربية و علماء التجويد المتقدمين، فهذا سيبويه يستخدم مصطلح المثلين و المتقاربين «3». و كذلك استخدمهما مكي «4». و الداني «5»، و لكن الذي ميّز استخدام المتأخرين أنهم استخدموا مصطلح (المتجانسين) و جعلوا له و لمصطلح (المتقاربين) دلالة محددة، بينما نلمح عند المتقدمين أن مصطلح (المتقاربين) يؤدي دور المصطلحين معا.
و كان أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500 ه) قد استخدم المصطلحات الثلاثة حيث قال:
«و اعلم أن الإدغام هو أن تصل حرفا بحرف من المتماثل أو المتجانس أو المتقارب، فترفع لسانك بلفظ الثاني منهما بنبرة واحدة مشددة من غير إبقاء أثر من الأول منهما، إلا إذا كان الأول مطبقا أو أغن فإن فيها اختلافا» «6». و لكنه حين تحدث عن أنواع الإدغام لم يذكر إلا اثنين، و ذلك حيث قال: «و الإدغام علي وجهين: إدغام المتماثلين و إدغام المتقاربين، و لا يجوز إدغام المتباعدين، و كلما كان أقرب فإدغامه أقوي، و لا يكون إدغام المتقاربين إلا بقلب أحدهما إلي الآخر، حتي يصح الإدغام» «7».
و لابن وثيق (ت 654 ه) اتجاه آخر في استخدام المصطلحات، و إن كان لا يبتعد كثيرا عما ذكرناه، و ذلك حيث يقول: «و يدخل الإدغام عليها (أي علي حروف العربية) بثلاثة (1) الحواشي المفهمة 40 ظ، و انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 34 و. و النابلسي: كفاية المستفيد 15 ظ، و المرعشي: جهد المقل 24 ظ.
(2) الطبلاوي: مرشدة المشتغلين 2 و.
(3) الكتاب 4/ 473.
(4) انظر مثلا: الكشف 1/ 135.
(5) انظر مثلا: الإدغام الكبير 6 و.
(6) الإيضاح 106 ظ.
(7) الإيضاح 114 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 338
أوجه: بالمثلية و التقارب و الشبه. فالمثلية: كُنْتُمْ مِنْ [البقرة: 198] و شبهه، و التقارب:
نَخْلُقْكُمْ «1» و شبهه، و الشبه: قَدْ سَمِعَ [المجادلة: 1] و شبهه، لأن الحروف، في أنفسها علي قسمين: قسم منها لا يتشابه و لا يتناسب مثل الباء و الجيم و الحاء و الخاء و الكاف و الهاء و الياء و ما أشبهها. و قسم منها يتناسب و يتشابه فأدغم بالتناسب و التشابه، مثل: التاء و الثاء و الزاي و الراء و الدال و السين و ما أشبه هذا، فإذا سئلت: بما ذا أدغمت قَدْ سَمِعَ؟ فقل:
بالتناسب و الشبه» «2». فابن وثيق هاهنا يستخدم مصطلح (الشبه) في مقابل (المتقارب) عند غيره، و يستخدم مصطلح (التقارب) في مقابل (المتجانس) عند غيره تقريبا، لأنه مثّل له بالقاف و الكاف، و هما و إن وصفا بأنهما لهويان إلا أنهما ليسا من مخرج واحد.
و تقسيم الأصوات العربية إلي متماثلة و متجانسة و متقاربة، و تقسيم الإدغام علي وفق ذلك أمر يدل علي إدراك لخصائص الأصوات، فهي فعلا إذا التقت إما أن تكون متفقة في المخرج و الصفات فهي حينئذ متماثلة، و إما أن تكون متفقة في المخرج مختلفة في الصفات فهي حينئذ متجانسة، و إما أن تتقارب في المخرج أو الصفات و لكن دون أن تكون متفقة، فهي حينئذ متقاربة. و هي بعد ذلك قد تتباعد في كل شي‌ء فتوصف حينئذ بأنها متباعدة. و لا شك في أن الإدغام يتوقف علي مقدار القرب و البعد بين الأصوات، فكلما تدانت حسن الإدغام، و هكذا.

4- الإدغام الكبير و الإدغام الصغير:

الإدغام هو وصلك حرفا ساكنا بحرف آخر مثله متحرك، من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف، فيصيران بتداخلهما كحرف واحد يرتفع العضو عنهما ارتفاعة واحدة «3». فلا بد أن يكون الحرف الأول ساكنا، لأنه إذا كان متحركا فصلت الحركة بين الحرفين، و حالت دون حصول التأثر بينهما. و هذا هو المتبادر إلي الذهن عند ذكر كلمة الإدغام، و يوصف أحيانا بالإدغام الصغير «4». (1) في الأصل (يخلقكم) و هو في الزمر آية 6، و القاف هنا مضموم، و الذي يناسب التمثيل (نخلقكم) في سورة المرسلات آية 20 حيث القاف مجزوم.
(2) كتاب في تجويد القراءة 76 ظ.
(3) انظر: الزجاجي: الجمل ص 378. و الداني: الإدغام الكبير 5 و. و ابن الباذش: الإقناع 1/ 164.
و علم الدين السخاوي: جمال القراء 175 ظ، و ابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 631.
(4) ابن الباذش: الإقناع 1/ 195 و 238. و ابن الجزري: النشر 1/ 275 و النابلسي: كفاية المستفيد 15 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 339
و كان مذهب أبي عمرو بن العلاء خاصة أنه إذا التقي الحرفان و هما من كلمتين و كانا متحركين أسكن الأول و أدغمه في الثاني، سواء كانا مثلين أم متقاربين. و هو في المثلين لا يحتاج إلي أكثر من إسكان الأول، أما في المتقاربين فلا بد من قلب الأول إلي جنس الثاني، قال الداني: «و حقيقة إدغام الحرف المتحرك في مثله أن يسكن ثم يدغم، و حقيقة إدغام المتقارب أن ينقلب إلي لفظ الثاني ثم يدغم» «1». فالمثلان نحو قوله تعالي: شَهْرُ رَمَضانَ [البقرة: 185] و لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: 20] و المتقاربان نحو فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: 2] و الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ [النساء: 57] «2».
و يسمّي مذهب أبي عمرو هذا في الإدغام باسم الإدغام الكبير، و اختلف في سبب تسميته كبيرا، فقال ابن الباذش (ت 540 ه): «سموه كبيرا لأنه أكثر من الصغير، و لما فيه من تصيير المتحرك ساكنا، و ليس ذلك في الإدغام الصغير و لما فيه من الصعوبة» «3». و قال أحمد ابن أبي عمر: «و إنما سمي المتحرك كبيرا و الساكن صغيرا لأن المتحرك حيّ لحركته، و الساكن كالميت لسكونه، فللزيادة التي في المتحرك، و هي الحركة، سمي كبيرا، و للنقصان الذي في الساكن و هو عدم الحركة سمي صغيرا» «4».
و الإدغام منه ما انفرد به بعض القراء، مثل الإدغام الكبير، و منه ما اتفق عليه القراء، مثل إدغام لام التعريف و معظم أحكام النون الساكنة و التنوين، و إدغام المتجانسين، و منه ما اختلفوا فيه و هو بقية أحكام الإدغام الصغير المذكورة في كتب القراءات مثل دال (قد) و ذال (إذ) و لام (هل و بل) «5». و لم يعتن علماء التجويد في كتبهم إلا بالإدغام المتفق عليه، و تركوا تفصيلات ما اختلفت فيه القراء من أنواع الإدغام الأخري لكتب القراءات «6».
و كان ابن جني قد استخدم مصطلح الإدغام الأصغر و يريد به (تقريب الحرف من الحرف (1) الإدغام الكبير 6 و.
(2) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 116، و الداني: التيسير ص 20، و ابن الجزري: النشر 1/ 274.
(3) الإقناع 1/ 195. و انظر: ابن الجزري: النشر 2/ 274.
(4) الإيضاح 110 و.
(5) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 113- 125، و ابن الباذش: الإقناع 1/ 238 و ما بعدها، و ابن الجزري: النشر 2/ 212.
(6) انظر ص 71 من هذا البحث.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 340
و إدناءه منه من غير إدغام يكون هناك) و قد مثل له بالإمالة و بتقريب السين من الصاد في نحو (سقت) و بتقريب الصاد من الزاي في نحو (مصدر) و نحو ذلك مما لا إدغام فيه. و استخدم ابن جني مصطلح الإدغام الأكبر و هو يريد به ما سماه علماء التجويد بالإدغام الصغير الذي يقلب فيه الحرف الأول إلي مثل الحرف الذي يليه و يدغم فيه «1». و هذا الاستخدام للمصطلحات خاص بابن جني و لم نجد له صدي عند علماء العربية و لا علماء التجويد.

5- الأقوي و الأضعف:

يقسم علماء التجويد الأصوات إلي قوية و ضعيفة، بحسب ما فيها من صفات القوة و الضعف. و سبق أن بيّنا الصفات القوية و الصفات الضعيفة لدي علماء التجويد و علاقة ذلك بقوة الحروف و ضعفها «2». و قد طبق بعض علماء التجويد فكرة القوة و الضعف في الحروف علي ظاهرة الإدغام، فقالوا إن الإدغام إنما يحسن في المواضع التي ينقل فيها الأضعف إلي الأقوي.
و مثلما كان مكي رائد نظرية القوة و الضعف في الأصوات كذلك كان رائدا في تطبيق هذه النظرية علي موضوع الإدغام، فقد بحث هذا في كتابيه (الرعاية) و (الكشف). فمما قاله في الأول: «و القوي من الحروف إذا تقدمه الضعيف مجاورا له جذبه إلي نفسه إذا كان من مخرجه ليعمل اللسان عملا واحدا في القوة من جهة واحدة» «3». و قال أيضا: «و إنما ينقل أبدا الأضعف إلي الأقوي، إذا تقاربت المخارج، ليقوي الكلام، فهذا هو الأكثر في الأصل، و ربما خالف اليسير ذلك لعلة توجبه، و إذا نقل الأقوي إلي الأضعف ضعف الكلام» «4».
و مما قاله مكي في (الكشف): «و ليس من أصول كلام العرب أن يردوا الأقوي إلي الأضعف، و إنما أصولهم في الحروف إذا أبدلوا أن يردوا الأضعف إلي الأقوي» «5». و هناك نص تضمن عرضا مفصلا لموضوع الإدغام من ناحية قوة الحروف و ضعفها مقرونا بالأمثلة، ورد في كتاب (الكشف)، أجد من تمام الموضوع إيراده بنصه، لا سيما أن أحدا من علماء (1) الخصائص 2/ 139- 145، و انظر: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية و الصوتية عند ابن جني ص 339.
(2) انظر ص 328 من هذا البحث.
(3) الرعاية ص 180.
(4) الرعاية ص 181.
(5) الكشف 1/ 34.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 341
التجويد لم يتطرق إلي هذا الموضوع بهذا الشكل من الشمول.
قال مكي: «و اعلم أن الإدغام إنما يحسن في غير المثلين و يقوي إذا سكن الأول، و هو علي ضربين:
أحدهما: إذا كان الحرفان متقاربين في المخرج، و الحرف الأول أضعف من الثاني، فيصير بالإدغام إلي زيادة قوة، لأنك تبدل من الأول حرفا من جنس الثاني، فإذا فعلت ذلك نقل لفظ الضعيف إلي لفظ القوة، فذلك حسن جيد.
و الضرب الثاني: أن يكون الحرفان المتقاربان في القوة سواء كالمثلين، فيحسن الإدغام، إذ لا ينتقص الأول من قوته قبل الإدغام.
و ضرب ثالث من إدغام المتقاربين ضعيف قليل، و هو أن يكون الحرف الأول أقوي من الثاني، فيصير بالإدغام أضعف من حاله قبل الإدغام.
فالذي يزداد قوة مع الإدغام هو كإدغام التاء في الطاء نحو وَ قالَتْ طائِفَةٌ [آل عمران:
72] و وَدَّتْ طائِفَةٌ [آل عمران: 69] لأن التاء حرف ضعيف للهمس الذي فيه، و الطاء حرف قوي للإطباق و الجهر و الاستعلاء و الشدة اللواتي فيها، فهو أقوي من التاء كثيرا، فإذا أدغمت التاء نقلتها من ضعف إلي قوة مكررة، فهذا لا تكاد العرب تظهره، و كذلك أجمع القراء علي الإدغام في هذا.
فإن نقصت قوة الحرف الثاني، و هو مع نقص قوته أقوي من الأول حسن الإدغام و الإظهار نحو لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ [الحج: 40] و حَمَلَتْ ظُهُورُهُما [الأنعام: 146] لأن الصاد نقصت عن قوة الطاء لعدم الجهر، و كون الهمس فيها، و الظاء نقصت عن قوة الطاء لعدم الشدة، و كون الرخاوة فيها.
و الذي تتساوي قوة الحرفين فيه إدغام الذال في التاء «1». و ذلك أن الذال فيها ضعف و قوة، فالضعف من جهة أنها رخوة، و القوة من جهة أنها مجهورة. كذلك التاء فيها ضعف و قوة، فالضعف من جهة أنها مهموسة، و القوة من جهة أنها شديدة، فقد تقاربتا في القوة، و الضعف من صفاتها، فجواز الإدغام حسن، و الأول حسن في الإدغام، لأنك تزيد الحرف الأول قوة بالإدغام.
و الذي يقبح الإدغام فيه لقوة الأول و ضعف الثاني نحو إدغام الراء في (1) مثل أَخَذْتُمْ في آل عمران 81، و عُذْتُ في غافر 27.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 342
اللام «1»، و هو قبيح لقوة الراء بالجهر و التكرير اللذين فيه، و ضعف اللام لعدم التكرير فيه، و ضعف الجهر فيه، فإذا أدغمت نقلت الأقوي إلي الأضعف، و ذلك مكروه ضعيف، فقس عليه هذا فإنه الأصل الذي يعتمد عليه» «2».
و كان الداني قد أشار إلي ذلك المعني حيث قال: «... فلا يدغم الأفضل في الأنقص لذلك، و يدغم الأنقص في الأفضل لأنه يخرج بذلك إلي الحرف الأقوي، و إخراج الأضعف إلي الأقوي جائز لأنه يقوي فيه» «3».

ثانيا- شوائب «4» الحروف:

اشارة

هذا مصطلح استخدمه عبد الوهاب القرطبي ليدل به علي معني خاص يتعلق بصفات الحروف التي يمكن أن تؤثر في الأصوات المجاورة. فالصوت المجهور يمكن أن يؤثر علي الصوت المهموس، و الصوت المطبق يمكن أن يؤثر علي الصوت المنفتح، و الصوت الأنفي (الأغن) يمكن أن يؤثر علي الفموي. و قد خصص مبحثا طويلا لدراسة الظواهر المتعلقة بهذا الموضوع «5».
و قد وضح القرطبي في مطلع كلامه السبب الذي من أجله دخلت شوائب الحروف بعضها علي بعض فقال: «فأحسن التخلص من دخول شوائب الحروف بعضها علي بعض، فيكون التنبيه عليه بعد ذكر السبب الموجب له، فنقول: السبب في ذلك أن يجتمع حرفان امتاز أحدهما عن الآخر بمزية ما، إما بتفخيم، أو إطباق، أو تفشّ أو غير ذلك، مع إمكان تلك المزية فيه لأن الحرف بسبب اتحاده بما جاوره يجذبه إلي حيّزه و يسلبه المزية الخاصة به، أو يدخل معه فيها، أو يحدث بينهما حرف يشبههما. و الذي ينبغي أن يعتمده القارئ في ذلك حسن التخلص منه بإفراد كل منهما بمزيته و التعمل لإيراده بخاصيته» «6».
و لم يكن عبد الوهاب القرطبي الوحيد بين علماء التجويد الذي عالج موضوع الشوائب، (1) مثل يَغْفِرْ لَكُمْ في نوح 4.
(2) الكشف 1/ 135- 136.
(3) الإدغام الكبير 6 ظ.
(4) الشوب- في اللغة- الخلط، و الشائبة واحدة الشوائب، و هي الأقذار و الأدناس (لسان العرب 1/ 492- 494 شوب) و الشائبة أيضا: الشي‌ء الغريب يختلط بغيره (المعجم الوسيط 1/ 501 شوب).
(5) الموضح 179 ظ- 182 ظ.
(6) الموضح 179 ظ.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 343
فهناك عدد من العلماء لا سيما من المتقدمين يشاركونه في ذلك، إلا أنه يمكن القول، بقدر ما يتيسر من معلومات، أن عبد الوهاب القرطبي انفرد باستخدام مصطلح شوائب الحروف.
و تكاد معظم الحالات التي رصدها علماء التجويد في موضوع الشوائب تندرج في الظواهر الصوتية التي لا يقرها الاستخدام اللغوي، حتي علي مستوي اللهجات، و إنما اعتني بها علماء التجويد حرصا منهم علي تقديم صورة الصحيح، و توضيح ما يمكن أن يشوب ذلك النطق من شوائب الانحراف، بسبب تجاور الحروف في الكلام المتصل و ميلها إلي التماثل و الاقتصاد بالمجهود، و مع ذلك فإن عناية علماء التجويد بمثل هذا النوع من الظواهر الصوتية يدل علي عمق النظرة في فهم تلك الظواهر التي لو سمح لها بالظهور لأدت إلي تطور النطق العربي دون ضوابط واضحة و لا حدود مرسومة، و لتغير نطق القرآن الكريم، و هو ما جاهد علماء التجويد قرونا من أجل الحيلولة دون وقوعه، و تكلل جهدهم بالنجاح الذي نلمس مظاهره في النطق العربي الفصيح اليوم.
و بإمكان الدارس أن يقدم عشرات الأمثلة التي توضح عناية علماء التجويد بما يمكن أن ينتج عن تجاور الأصوات في الكلام، سواء من الظواهر الصوتية المعترف بها في مستوي اللغة الفصيح أم من الظواهر التي تعد من باب اللحن الذي هو في حقيقته تغير صوتي يخضع لقوانين صوتية معينة، و سوف أكتفي هنا بإيراد عدد من الأمثلة مبوبة حسب نوع الشائبة الصوتية، أي الصفة التي أثرت في الصوت المجاور، مثل الجهر و الهمس، و الإطباق و الانفتاح، و الأنفية.

أ- الجهر و الهمس:

نقلنا في صدر المبحث الأول من هذا الفصل مقولة الداني في تأثير الأصوات المجهورة في المهموسة و المهموسة في المجهورة إذا تجاورت «1». و هو أمر لا شك فيه، و تؤيده الدراسات الصوتية الحديثة «2». و هذه أمثلة لتأثر الأصوات المهموسة بمجاورة الأصوات المجهورة، مما لاحظه علماء التجويد:
1- س ج- ز ج، قال مكي: «و إذا سكنت السين و أتت بعدها جيم، وجب بيان السين، لئلا يذهب اللفظ بها إلي الزاي، لأن الزاي بالجيم أشبه من السين بالجيم، لأن السين مهموسة و الجيم مجهورة، و الزاي مجهورة فهي بالجيم أشبه، و هي من مخرج السين، فاللفظ (1) انظر ص 388 من هذا البحث.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 183.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 344
يبادر إلي الزاي في موضع السين، لاتفاقها مع الجيم في الجهر، و لأنها من مخرج السين.
و ذلك نحو قوله تعالي: وَ اسْجُدْ [العلق: 19] و الْمَسْجِدِ [البقرة: 144] و وَ اسْجُدِي [آل عمران: 43] و يُسْجَرُونَ [غافر: 72] و الْمَسْجُورِ [الطور: 6] و شبهه. لا بد من التحفظ بإظهار لفظ السين لئلا تصير زاء» «1».
2- ص د- (ز) د. قال عبد الوهاب القرطبي: «و كذلك إذا سكنت أيضا (أي الصاد) قبل دال في مثل قوله: وَ مَنْ أَصْدَقُ [النساء: 87] و وَ تَصْدِيَةً [الأنفال: 35] و فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]. أخلص إطباقها، و إلّا صارت زاء لأن الزاي أخت الصاد في الصفير و أخت الدال في الجهر، فالدال تجذب الصاد إليها، و هو قبيح عند الجماعة، ما خلا حمزة و الكسائي، فإنهما يلفظان الصاد مشوبة زاء» «2».
و هذا الصوت الذي يحذر منه ليس في الحقيقة زاء خالصة، إنما هو مجهور الصاد، و هو أحد الحروف الفرعية المستحسنة، الذي يوصف بأنه الصاد التي كالزاي، أي الصاد التي لحقها الجهر. و مثله الشين التي كالجيم في مثل (أشدق) حيث تصير الشين مجهورة «3».
و هناك أمثلة أخري نكتفي بالإشارة إليها من غير نقل ما قاله علماء التجويد عنها، و ذلك مثل تحذيرهم من جهر الحاء في نحو قوله تعالي فَاصْفَحْ عَنْهُمْ [الزخرف: 89] «4». و جهر التاء التي قبل الدال في نحو قوله: أَعْتَدْنا [النساء: 18] «5».
و من أمثلة تأثر الأصوات المجهورة بمجاورة المهموسة:
1- ع ث- ح ث: قال الداني: «و كذا إن التقي (العين) بالثاء و الفاء و التاء و الشين و الصاد و سائر حروف الهمس لخص و بيّن، و إلّا ربما انقلب حاء، لما بين الحاء و بينهن من المشاركة في الهمس. نحو قوله تعالي يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56]، وَ لا بَعْثُكُمْ [لقمان:
28]، وَ لا تَعْثَوْا [البقرة: 60]، و أَعْثَرْنا [الكهف: 21]، و فَاعْفُوا [البقرة:
109]، وَ لْيَعْفُوا [النور: 22]، و يَعْفُونَ [البقرة: 237]، و فَاعْتَرَفُوا [الملك:
11]، و فَاعْتِلُوهُ [الدخان: 47]، و يَعْتَدُونَ [البقرة: 61]، و وَ لا تَعْتَدُوا (1) الرعاية ص 188، و انظر: الداني: التحديد 35 و، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 181 ظ.
(2) الموضح 180. و انظر: السعيدي: التنبيه 50 ظ، و مكي: الرعاية ص 192، و الداني: التحديد 34 ظ.
(3) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 432، و القرطبي: الموضح 154 و.
(4) مكي: الرعاية ص 140، و عبد الوهاب القرطبي: الموضح 176 و.
(5) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 182 و.
الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ص: 345
[البقرة: 190]، و يا مَعْشَرَ [الأنعام: 128]، و وَ مَنْ يَعْشُ [الزخرف: 36]، و مِعْشارَ [سبأ: 45]، و وَ مَنْ يَعْصِ [النساء: 14]، و إِعْصارٌ [البقرة: 266]، و الْمُعْصِراتِ [النبأ: 14]، و يَعْصِرُونَ [يوسف: 49]، و أُمَتِّعْكُنَّ [الأحزاب: 28]، و يُمَتِّعْكُمْ [هود: 3]، و شبهه» «1».
2- غ ش- خ ش: قال عبد الوهاب القرطبي: «و كذلك الغ