دلائل الاعجاز في علم المعاني

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: جرجاني عبدالقاهر بن عبدالرحمن - 471؟ق

عنوان واسم المؤلف: دلائل الاعجاز في علم المعاني تاليف عبدالقاهر الجرجاني شكله و شرح غاوضه و خرج شواهد و قدم له و وضع فهارسه ياسين الايوبي

تفاصيل المنشور: بيروت دار الكتب العلمية ، م 2000 = .ق 1421 = .1379.

خصائص المظهر: ص 610

حالة الاستماع: القائمة السابقة

موضوع : قرآن -- مسائل ادبي

موضوع : قرآن -- اعجاز

المعرف المضاف: ايوبي ياسين

ترتيب الكونجرس: BP82/ج 4د8 1379

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-9383

ص: 1

اشارة

دلائل الاعجاز في علم المعاني تاليف عبدالقاهر الجرجاني

المتوفی سنة 471 ه

تحقیق

الدکتور عبد الحمید هنداوی

مدرس البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة

منشورات

محمد ولی بیضوی

لنشر كتب السنة والجماعة

دار الكتب العلمية

بیروت- لبنان

ص: 2

مقدمة المحقق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه الكريم المنان، الرحيم الرحمن، ذي الطول و الإحسان، الذي علّم القرآن، و خلق الإنسان، فعلمه البيان.

و أصلي و أسلم على النبي العدنان حامل لواء الفصاحة و البيان، و صاحب المقام المحمود بأشرف مكان، المرسل بالهداية و الرحمة إلى الإنس و الجان.

و بعد؛ فقد كان من توفيق اللّه و فضله أن قمت بكتابة بعض التعليقات و الحواشي على كتاب أسرار البلاغة لأوحد زمانه في علوم البلاغة العالم الجليل الأديب النحوي الفقيه المتكلم أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني ت 471 أو 474 ه، و هو من هو في رسوخ قدمه و علو مكانته و تقدمه في هذا العلم الذي تناثرت كتابات الناس فيه قبله و كثرت؛ و لكنها على كثرتها كأن لم تكن شيئا بجانب ما صنف، فصار ينسب إليه وحده تأسيس هذا العلم و إقامة فسطاطه لما كانت له اليد الطولى في ضبطه و نصب فسطاطه.

و كان من توفيق اللّه و منّه و فضله أن أتم عليّ نعمته بتيسير التعليق على هذا الكتاب الآخر الفذ الذي لم يصنّف مثله في علوم البلاغة و هو كتابنا هذا الموسوم بدلائل الإعجاز، و هو كتاب بديع في بابه، تفرد فيه صاحبه بتأسيس نظرية النظم التي هي عمود الدراسات البلاغية، و التي لو لا ما رسمه لها و اختطته فيها من علامات هادية للسبيل لضلت خطى الناس من بعده في هذا العلم الضلال المبين.

و لكن يأبى اللّه الكمال إلا لكتابه فلقد كان يفترض أن يكون هذا الكتاب هو المقدّم لدى دارس البلاغة في العصور التالية لزمان مصنفه، فحال دون ذلك ما جاء عليه الكتاب من عدم ترتيب صاحبه له الترتيب اللائق له، و الاعتناء بتقسيم مباحثه، و تبويب أبوابه.

و عذر المصنف في ذلك أنه كان منشغلا بالرد على متكلمي زمانه السابقين له

ص: 3

ممن تكلموا في أمر الفصاحة و البلاغة بغير علم كالقاضي عبد الجبار و غيره من أئمة المعتزلة، فكان ذلك هو شغله الشاغل، الذي صرف إليه جلّ همه و عزمه.

و لو أن المصنف- رحمه اللّه- قصد إلى أن يكون كتابه كتابا تعليميا لكان على غير هذا الوضع، و لكن هذا شي ء لم يقصد إليه.

و هذا ما دعا المتأخرين بعد زمان عبد القاهر الذين أفادوا من كتابي عبد القاهر هذين كل الإفادة، أن يتداركوا هذا الأمر و أن ينظموا ما تناثر من درره في هذين الكتابين في نظام واحد في هذا التقسيم الثلاثي الصارم لعلوم البلاغة الذي أتى به أبو يعقوب يوسف السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) الذي بلغ به الغاية من دقة التقسيم و التبويب و الترتيب على ما يؤخذ عليه من المبالغة في هذا التقسيم و الترتيب و اعتماده فيه حدود المنطق و قواعده.

غير أنه لم يخل من عيب قاتل كذلك و هو جفاف مادته و عبارته، و شدّة إيجازه و اقتضابه، و قلّة شواهده، و عدم اعتنائه بتحليل شواهده تحليلا بلاغيا أدبيا يضارع ما كان عليه أسلوب عبد القاهر من سلاسة ورقة و بهاء و رونق و هيهات هيهات فدونه و عبارة عبد القاهر و أسلوبه كما بين المشرق و المغرب.

و رغم ما قصد إليه أبو يعقوب السكاكي من الغاية التعليمية بجمع القواعد و ترتيب المباحث و التقسيم إلى فصول و أبواب و فنون، رغم ذلك كلّه فقد أخفق في غايته في تذليل علوم البلاغة للدارس بل سلك بها مسلكا مضادا لغاية البلاغة و مقصدها؛ فإذا كانت غاية البلاغة تنمية الذوق الأدبي و الارتقاء به؛ فإن طريقة السكاكي و من سلكوا دربه من بعده قد أورثت الذوق العربي في ذلك الوقت عقما لازمه إلى عصرنا هذا حتى استيقظ الناس من سباتهم تلك القرون و أدركوا أنهم قد ضلوا السبيل إلى الفصاحة و البلاغة و البيان، و قامت صحوة بلاغية عرفت لعبد القاهر حقه فراحت تلتمس خطاه، و تلتقط درره، و تستلهم روحه و أفكاره في بعث بلاغي جديد لحمته و سداه قضية النظم التي ما فتئ عبد القاهر يدندن عليها في كتابه هذا،. و لعلّ هذا يبين لنا سرّ الاهتمام بهذين الكتابين الجليلين للإمام عبد القاهر الجرجاني و كثرة تداولهما، و الإقبال على نسخهما من طلاب البلاغة في عصرنا هذا.

و هذا مما حفزني على الإقبال على الاعتناء بتخريج شواهد هذا الكتاب تخريجا مفصلا لا تجده في نشرة من نشراته السابقة، مع الاعتناء بشرح غريبه، و بيان

ص: 4

مراد مؤلفه من كلماته و ألفاظه ما أمكن، مع ما تجود به القريحة من كلمة أو تعليق عفو الخاطر بعد ذلك، غير أننا قد حجبنا أكثر تعليقاتنا لنشرها في دراسة مستقلة لئلا يطول حجم الكتاب و تثقل تكلفته على مبتغيه من قرّائه و طلابه.

و نشير هنا إلى أننا أفدنا كثيرا من تعليقات الفاضلين الشيخ رشيد رضا و الشيخ محمود شاكر و نبهنا على ذلك مرارا (1).

و اللّه نسأل أن يوفق القائمين على صفه و ضبطه و مراجعته بدار الكتب العلمية للعناية به و إخراجه في ثوبه اللائق به، و أن يجزي كل من أعان في إخراجه خير الجزاء.

و كتبه د. عبد الحميد هنداوي المدرس بكلية دار العلوم غفر اللّه له و لوالديه و للمسلمين الجيزة في منتصف رمضان المعظم 1421 ه

ص: 5


1- أشرنا لما أثبتناه من تعليقات الشيخ رشيد بلفظ (رشيد) عقب التعليق، و لما أثبتناه من تعليقات أبي فهر بلفظ (شاكر).

ص: 6

[المدخل في دلائل الإعجاز- و هو مقدمة الكتاب لمؤلفه

بسم اللّه الرحمن الرحيم توكّلت على اللّه وحده قال الشّيخ الإمام، مجد الإسلام، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه اللّه تعالى.

الحمد للّه ربّ العالمين حمد الشاكرين، و صلواته على محمد سيّد المرسلين، و على آله أجمعين.

هذا كلام وجيز يطّلع به الناظر على أصول النحو جملة، و كلّ ما به يكون النّظم دفعة (1)، و ينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد، و يرى بها مشئما (2) قد ضمّ إلى معرق (3)، و مغرّبا قد أخذ بيد مشرّق، و قد وصلت بأخرة (4) إلى كلام من أصغى إليه و تدبّره تدبّر ذي دين و فتوّة (5)، دعاه إلى النّظر في الكتاب الذي وضعناه (6)، و بعثه على طلب ما دوّنّاه، و اللّه تعالى الموفّق للصواب، و الملهم لما يؤدّي إلى الرّشاد، بمنّه و فضله. قال رضي اللّه تعالى عنه:

معلوم أن ليس النّظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، و جعل بعضها بسبب (7) من بعض.

ص: 7


1- الدفعة من المطر و غيره بالضم مثل الدّفقة، و الدّفعة، بالفتح: المرة الواحدة. اه الصحاح مادة/ دفع/ (1/ 406).
2- أشأم الرجل و القوم: أتوا الشام أو ذهبوا إليها. اه اللسان مادة/ شأم/ (12/ 316).
3- مصدر أعرق الرجل فهو معرق إذا أخذ في بلد العراق أي أتاها. اه اللسان مادة/ عرق/ (10/ 348).
4- يقال: جاء فلان بأخرة بفتح الخاء، و ما عرفته إلّا بأخرة، أي أخيرا. اه الصحاح مادة/ أخر/ (1/ 12).
5- الفتى: الشاب و جمعه فتاء و الاسم منه فتوّة انقلبت الياء فيه واوا. اه اللسان مادة/ فتا/ (15/ 146).
6- الهاء في قوله وضعناه عائدة على كتاب «دلائل الإعجاز».
7- هو كلّ شي ء يتوصّل به إلى غيره، و الجمع أسباب. اه اللسان. مادة/ سبب/ (1/ 258).

و الكلم ثلاث: اسم، و فعل، و حرف. و للتعليق فيما بينها طرق معلومة، و هو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلّق اسم باسم، و تعلّق اسم بفعل، و تعلّق حرف بهما.

فالاسم يتعلّق بالاسم بأن يكون خبرا عنه، أو حالا منه، أو تابعا له صفة أو تأكيدا، أو عطف بيان، أو بدلا، أو عطفا بحرف، أو بأن يكون الأوّل مضافا إلى الثّاني، أو بأن يكون الأوّل يعمل في الثّاني عمل الفعل، و يكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول. و ذلك في اسم الفاعل كقولنا: «زيد ضارب أبوه عمرا» (1).

و كقوله تعالى: أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء: 75]، و قوله تعالى:

وَ هُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2- 3]، و اسم المفعول كقولنا: «زيد مضروب غلمانه»، و كقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 105] و الصفة المشبّهة كقولنا: «زيد حسن وجهه، و كريم أصله، و شديد ساعده»، و المصدر كقولنا: «عجبت من ضرب زيد عمرا»، و كقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14- 15]، أو بأن يكون تمييزا قد جلاه، و منتصبا عن تمام الاسم- و معنى «تمام الاسم»، أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة، و ذلك بأن يكون فيه نون تثنية، كقولنا: «قفيزان (2) برّا»، أو نون جمع كقولنا: «عشرون درهما»، أو تنوين كقولنا: «راقود (3) خلّا»، و «ما في السّماء قدر راحة سحابا»، أو تقدير تنوين كقولنا: «خمسة عشر رجلا»، أو يكون قد أضيف إلى شي ء، فلا يمكن إضافته مرّة أخرى، كقولنا: «لي ملؤه عسلا»، و كقوله تعالى: مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: 91].

و أمّا تعلّق الاسم بالفعل، فبأن يكون فاعلا له، أو مفعولا، فيكون مصدرا قد انتصب به كقولك: «ضربت ضربا»، و يقال له المفعول المطلق. أو مفعولا به كقولك: «ضربت زيدا»، أو ظرفا مفعولا فيه، زمانا أو مكانا، كقولك: «خرجت يوم الجمعة، و وقفت أمامك»، أو مفعولا معه كقولنا: «جاء البرد و الطّيالسة» و «لو تركت الناقة و فصيلها لرضعها»، أو مفعولا له (4) كقولنا: «جئتك إكراما لك، و فعلت ذلك ».

ص: 8


1- فاعل لاسم الفاعل (ضارب) و عمرا: مفعول به (له).
2- القفيز: مكيال من المكاييل: معروف و هو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، و هو من الأرض قدر مائة و أربع و أربعين ذراعا. اه اللسان مادة «قفز» (5/ 395).
3- الراقود: دنّ طويل الأسفل كهيئة الإردبّة يسيّع داخله بالقار و الجمع الرواقيد و هو معرّب. اه اللسان مادة/ رقد/ (3/ 183).
4- هو المفعول لأجله نحو «إكراما».

إرادة الخير بك»، و كقوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النساء:

114]، أو بأن يكون منزّلا من الفعل منزلة المفعول، و ذلك في خبر كان و أخواتها، و الحال و التمييز المنتصب عن تمام الكلام، مثل: «طاب زيد نفسا، و حسن وجها، و كرم أصلا»، و مثله الاسم المنتصب على الاستثناء، كقولك: «جاءني القوم إلّا زيدا»، لأنّه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام.

و أما تعلّق الحرف بهما، فعلى ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يتوسّط بين الفعل و الاسم، فيكون ذلك في حروف الجرّ التي من شأنها أن تعدّي الأفعال إلى ما لا تتعدّى إليه بأنفسها من الأسماء، مثل أنّك تقول:

«مررت»، فلا يصل (1) إلى نحو «زيد، و عمرو»، فإذا قلت: «مررت بزيد، أو على زيد»، و جدته قد وصل «بالباء» أو «على». و كذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى «مع» في قولنا: «لو تركت الناقة و فصيلها لرضعها»، بمنزلة حرف الجر في التوسّط بين الفعل و الاسم و إيصاله إليه، إلّا أنّ الفرق أنّها لا تعمل بنفسها شيئا، لكنها تعين الفعل على عمله النّصب. و كذلك حكم «إلّا» في الاستثناء، فإنها عندهم بمنزلة هذه «الواو» الكائنة بمعنى «مع» في التوسط، و عمل النّصب في المستثنى للفعل، و لكن بوساطتها و عون منها.

و الضّرب الثاني من تعلّق الحرف بما يتعلّق به: «العطف»، و هو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول، كقولنا: «جاءني زيد و عمرو» و «رأيت زيدا و عمرا»، و «مررت بزيد و عمرو».

و الضّرب الثالث: تعلّق بمجموع الجملة، كتعلّق حرف النّفي و الاستفهام و الشّرط و الجزاء بما يدخل عليه، و ذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناوله، و بعد أن يسند إلى شي ء.

معنى ذلك: أنك إذا قلت: «ما خرج زيد»، و «ما زيد خارج»، لم يكن النفي الواقع بها متناولا الخروج على الإطلاق، بل الخروج (2) واقعا من «زيد» و مسندا إليه.

و لا يغرّنّك قولنا في نحو «لا رجل في الدار»: إنها لنفي الجنس، فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس. و لو كان يتصوّر تعلّق النفي بالاسم

ص: 9


1- أي: فلا يتعدى بنفسه.
2- بل كان الخروج.

المفرد، لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها: «لا إله لنا، أو في الوجود، إلّا اللّه»، فضلا من القول، و تقديرا لما لا يحتاج إليه. و كذلك الحكم أبدا.

و إذا قلت: «هل خرج زيد» لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقا، و لكن عنه واقعا من «زيد». و إذا قلت: «إن يأتني زيد أكرمه»، لم تكن جعلت الإتيان شرطا، بل الإتيان من «زيد»، و كذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان، بل الإكرام واقعا منك. كيف؟ و ذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال، و هو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت، و إكرام من غير مكرم، ثم يكون هذا شرطا و ذلك جزاء.

و مختصر كلّ الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد، و أنه لا بدّ من مسند و مسند إليه، و كذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة، كإنّ و أخواتها، أ لا ترى أنك إذا قلت: «كأنّ»، يقتضي مشبّها و مشبّها به؟ كقولك: «كأنّ زيدا الأسد». و كذلك إذا قلت «لو» و «لو لا»، وجدتهما يقتضيان جملتين، تكون الثّانية جوابا للأولى.

و جملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف و فعل أصلا، و لا من حرف و اسم، إلا في النداء نحو: «يا عبد اللّه»، و ذلك إذا حقّق الأمر كان كلاما بتقدير الفعل المضمر الذي هو «أعني» و «أريد» و «أدعو»، و «يا» دليل عليه، و على قيام معناه في النفس.

فهذه هي الطرق و الوجوه في تعلّق الكلم بعضها ببعض، و هي، كما تراها، معاني النحو و أحكامه.

و كذلك السبيل في كلّ شي ء كان له مدخل في صحّة تعلّق الكلم بعضها ببعض، لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو و معنى من معانيه، ثم إنّا نرى هذه كلّها موجودة في كلام العرب، و نرى العلم بها مشتركا بينهم.

و إذا كان ذلك كذلك، فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور و هذه الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم، موجودة على حقائقها و على الصحة و كما ينبغي في منثور كلام العرب و منظومه، و رأيناهم قد استعملوها و تصرّفوا فيها و كملوا بمعرفتها، و كانت حقائق لا تتبدّل و لا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم- بكونه خبرا لمبتدإ، أو صفة لموصوف، أو حالا لذي حال، أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام- حقيقة (1) هي خلاف حقيقته في كلام آخر، فما هذا الذي تجدّد بالقرآن من ).

ص: 10


1- اسم يكون مرفوع و التقدير (لا يكون حقيقة للاسم).

عظيم المزيّة، و باهر الفضل، و العجيب من الرّصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، و حتى قهر من البلغاء و الفصحاء القوى (1) و القدر (2)، و قيّد الخواطر و الفكر، حتى خرست الشّقاشق (3)، و عدم نطق الناطق، و حتى لم يجر لسان، و لم يبن بيان، و لم يساعد إمكان، و لم ينقدح لأحد منهم زند، و لم يمض له حدّ، و حتى أسال الوادي عليهم عجزا، و أخذ منافذ القول عليهم أخذا؟ أ يلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، و نردّه عن ضلاله، و أن نطبّ لدائه، و نزيل الفساد عن رائه (4)؟ فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكل ذي دين و عقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه (5)، و يستقصي التأمّل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان، و الكشف عن الحجة و البرهان، تبع الحقّ و أخذ به، و إن رأى له طريقا غيره أومأ لنا إليه، و دلّنا عليه، و هيهات ذلك! و هذه أبيات في مثل ذلك:

إنّي أقول مقالا لست أخفيه و لست أرهب خصما، إن بدا، فيه

ما من سبيل إلى إثبات معجزة في النّظم، إلّا بما أصبحت أبديه (6)

فما لنظم كلام أنت ناظمه معنى سوى حكم إعراب تزجّيه (7)

اسم يرى و هو أصل للكلام، فما يتمّ من دونه قصد لمنشيه

و آخر هو يعطيك الزّيادة في ما أنت تثبته أو أنت تنفيه

تفسير ذلك: أنّ الأصل مبتدأ تلقى له خبرا من بعد تثنيه

و فاعل مسند، فعل تقدّمه، إليه، يكسبه (8) وصفا و يعطيه

هذان أصلان، لا تأتيك فائدة من منطق لم يكونا من مبانيه

و ما يزيدك من بعد التّمام، فما سلّطت فعلا عليه في تعدّيه

ص: 11


1- و هي جمع «القوّة». اه اللسان مادة/ قوا/ (15/ 207).
2- مفردها القدر و هو القوّة. اه اللسان مادة/ قدر/ (5/ 76).
3- مفردها الشّقشقة: و هي لهاة البعير و لا تكون إلا للعربي منها. و قيل: هو شي ء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج و الجمع الشقاشق و يقال للفصيح هدرت شقشقته. و منه سمّي الخطباء شقاشق. اه اللسان مادة/ شقق/ (10/ 185).
4- أي: رأيه.
5- الهاء في قوله: وضعناه عائدة على هذا الكتاب «دلائل الإعجاز».
6- يريد بذلك نظم القرآن و أسلوبه و في هذا البيت تصريح بأنه الواضع للفن. اه (عن الشيخ رشيد رضا).
7- زجّى الشي ء تزجية دفعه برفق. اه مختار الصحاح مادة «زجا» (269).
8- يكسبه: من الثلاثي، و منه الحديث «تكسب المعدوم» اه الشيخ رشيد رضا.

هذي قوانين تكفي من تشعّبها، ما يشبه البحر فيضا من نواجيه

فلست تأتي إلى باب لتعلمه، إلّا انصرفت بعجز عن تقصّيه (1)

هذا كذاك، و إن كان الذين ترى يرون أنّ المدى دان لباغيه (2)

ثمّ الذي هو قصدي أن يقال لهم، بما يجيب الفتى خصما يماريه

نقول: من أين أن لا نظم يشبهه و ليس من منطق في ذاك يحكيه

و قد علمنا بأنّ النظم ليس سوى حكم من النحو نمضي في توخّيه (3)

لو نقّب الأرض باغ غير ذاك له معنى، و صعّد (4) يعلو في ترقّيه

ما عاد إلّا بخسر في تطلّبه و لا رأى غير غيّ في تبغّيه (5)

و نحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في أحكامه و نروّي في معانيه

كانت حقائق تلقى العلم مشتركا بها، و كلّا تراه نافذا فيه

فليس معرفة من دون معرفة في كل ما أنت من باب تسمّيه

ترى تصرّفهم في الكلّ مطّردا يجرونه باقتدار في مجاريه

فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا حتى غدا العجز يهمي (6) سيل واديه

قولوا، و إلّا فأصغوا للبيان تروا كالصّبح منبلجا (7) في عين رائيه

الحمد لله وحده، و صلواته على رسوله محمد و آله. ).

ص: 12


1- أي: التتبع.
2- الباغي الطالب، و الجمع بغاة و بغيان، و بغيتك الشي ء طلبته لك. اه اللسان مادة/ بغا/ (14/ 67).
3- توخيت الشي ء أتوخاه توخّيا إذا قصدت إليه و تعمدت فعله و تحريت فيه. اه اللسان مادة/ وخي/ (15/ 383).
4- صعّد: بالتشديد ارتقى. اه اللسان مادة «صعد» (3/ 251).
5- أي تطلبه كما مرّ.
6- همى الماء و الدمع يهمي هميا و هميانا إذا سال. اه الصحاح (2/ 648) مادة «همي».
7- البلوج الإشراق تقول بلج الصبح يبلج بالضم أي أضاء، و انبلج و تبلّج مثله. اه الصحاح مادة/ بلج/ (1/ 108).

فاتحة المؤلف فى بيان مكانة العلم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حسبي ربّي الحمد للّه ربّ العالمين حمد الشاكرين، نحمده على عظيم نعمائه، و جميل بلائه، و نستكفيه نوائب الزمان، و نوازل الحدثان (1)، و نرغب إليه في التوفيق و العصمة، و نبرأ إليه من الحول و القوّة و نسأله يقينا يملأ الصّدر، و يعمر القلب، و يستولي على النفس، حتّى يكفّها إذا نزغت (2)، و يردّها إذا تطلّعت، و ثقة بأنه عزّ و جلّ الوزر (3)، و الكالئ و الراعي و الحافظ، و أنّ الخير و الشّرّ بيده، و أن النّعم كلّها من عنده، و أن لا سلطان لأحد مع سلطانه، نوجّه رغباتنا إليه، و نخلص نيّاتنا في التوكّل عليه، و أن يجعلنا ممن همه الصدق، و بغيته الحقّ، و غرضه الصواب، و ما تصحّحه العقول و تقبله الألباب، و نعوذ به من أن ندّعي العلم بشي ء لا نعلمه، و أن نسدّي (4) قولا لا نلحمه، و أن نكون ممّن يغرّه الكاذب من الثناء، و ينخدع للمتجوّز في الإطراء، و أن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل، و يموّه على السامع، و لا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلّط فيه، و لم يسدّد في معانيه، و نستأنف الرغبة إليه عزّ و جلّ في الصلاة على خير خلقه، و المصطفى من بريّته، محمد سيد المرسلين، و على أصحابه الخلفاء الراشدين، و على آله الأخيار من بعدهم أجمعين.

و بعد فإنّا إذا تصفّحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشّرف، و نتبيّن مواقعها من العظم؛ و نعلم أيّ أحقّ منها بالتّقديم، و أسبق في استيجاب التعظيم، وجدنا العلم أولاها بذلك، و أوّلها هنالك؛ إذ لا شرف إلّا و هو السبيل إليه، و لا خير إلّا و هو الدّليل عليه، و لا منقبة (5) إلّا و هو ذروتها و سنامها، و لا مفخرة إلّا و به صحّتها و تمامها. و لا

ص: 13


1- حدثان الدهر و حوادثه نوبه و ما يحدث منه. اه اللسان مادة/ حدث/ (2/ 132) و الحدثان: الليل و النهار.
2- نزغ الشيطان بينهم ينزغ نزغا أي أفسد و أغرى. اه الصحاح مادة/ نزغ/ (2/ 556).
3- الوزر بفتحتين الملجأ. اه مختار الصحاح مادة/ وزر/ (718).
4- و هي خلاف لحمة الثوب و هو ما يمد طولا في النسج. اه اللسان مادة/ سدى/ (14/ 375).
5- المنقبة الفعل الكريم و هي ضد المثلبة. اه اللسان مادة/ نقب/ (1/ 768) بتصرف.

حسنة إلّا و هو مفتاحها؛ و لا محمدة إلّا و منه يتّقد مصباحها، هو (1) الوفيّ إذا خان كلّ صاحب، و الثقة إذا لم يوثق بناصح، لو لاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلّا بتخطيط صورته، و هيئة جسمه و بنيته، لا، و لا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا، و لا وجد بشي ء من المحاسن خليقا. ذاك لأنّا و إن كنّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلّا بالفعل، و كان لا يكون فعل إلّا بالقدرة، فإنّا لم نر فعلا زان فاعله و أوجب الفضل له، حتى يكون عن العلم صدره (2)، و حتى يتبيّن ميسمه (3) عليه و أثره. و لم نر قدرة قطّ كسبت صاحبها مجدا و أفادته حمدا، دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب، و قائدها حيث يؤمّ و يذهب، و يكون المصرّف لعنانها (4)؛ و المقلّب لها في ميدانها.

فهي إذن مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه، و عيال في استحقاق هذا الاسم عليه، و إذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره؛ و تقتفي أثره و رسمه، آلت و لا شي ء أحشد للذمّ على صاحبها منها، و لا «شين أشين (5)» من أعماله لها.

فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه، و لا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه.

فأما المفاضلة بين بعضه و بعض، و تقديم فنّ منه على فنّ، فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة، و أهواء متعادية، ترى كلّا منهم لحبّه نفسه، و إيثاره أن يدفع النقص عنها، يقدّم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن، و يحاول الزّراية (6) على الذي لم يحظ به، و الطّعن على أهله و الغضّ منهم، ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك، فمن مغمور قد استهلكه هواه، و بعد في الجور مداه، و من مترجّح فيه بين الإنصاف و الظلم، يجور تارة و يعدل أخرى في الحكم، فأمّا من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلّا بالعدل، و حتى يصدر في كل أمره عن العقل، فكالشي ء الممتنع وجوده. و لم يكن ذلك كذلك، إلا لشرف العلم و جليل محلّه، و أنّ محبته مركوزة في الطباع، و مركّبة في النفوس، و أن الغيرة عليه لازمة للجبلّة، و موضوعة في ).

ص: 14


1- أي: العلم.
2- و هو نقيض الورد. و هو الطريق إلى الماء للارتواء. اه اللسان مادة/ صدر/ (4/ 448).
3- هو اسم الآلة التي يوسم بها الدواب و الجمع مواسم و مياسم. اه اللسان مادة/ وسم/ (12/ 636).
4- بكسر العين و هو السير الذي تمسك به الداية و الجمع أعنّة. اه اللسان مادة/ عنن/ (13/ 291).
5- هو العيب. اه اللسان مادة/ شين/ (13/ 244).
6- زريت عليه و زرى عليه بالفتح زريا و زراية: عابه و عاتبه. اه الصحاح مادة/ زري/ (14/ 356).

الفطرة، و أنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه، و لا ضعة أوضع من الخلوّ عنه، فلم يعاد إذن إلّا من فرط المحبة، و لم يسمح به إلا لشدة الضّنّ.

ثم إنّك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، و أبسق (1) فرعا، و أحلى جنى، و أعذب وردا، و أكرم نتاجا، و أنور سراجا، من علم البيان، الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، و يصوغ الحلي، و يلفظ الدّرّ، و ينفث السّحر، و يقري الشّهد (2)، و يريك بدائع من الزّهر، و يجنيك الحلو اليانع من الثّمر، و الذي لو لا تحفّيه بالعلوم، و عنايته بها، و تصويره إيّاها، لبقيت كامنة مستورة، و لما استبنت لها يد الدهر (3) صورة، و لاستمرّ السّرار (4) بأهلّتها، و استولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، و محاسن لا يحصرها الاستقصاء.

إلّا أنّك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لقي من الضّيم ما لقيه، و مني من الحيف بما مني به، و دخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة و ظنون رديّة، و ركبهم فيه جهل عظيم و خطأ فاحش، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر ممّا يرى للإشارة بالرأس و العين، و ما يجده للخطّ و العقد (5)، يقول: إنّما هو خبر و استخبار، و أمر و نهي، و لكل من ذلك لفظ قد وضع له، و جعل دليلا عليه، فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، و عرف المغزى من كلّ لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، و على تأدية أجراسها و حروفها، فهو بين في تلك اللغة، كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة و البلاغة و البراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، و أن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لكنة (6)، و لا تقف به حبسة (7)، ).

ص: 15


1- بسق النخل بسوقا أي طال. اه الصحاح مادة/ بسق/ (1/ 93).
2- و هو العسل ما دام لم يعصر من شمعه واحدته شهدة. اه اللسان مادة/ شهد/ (3/ 243).
3- و هي الأبد و قولهم: لا أفعله يد الدهر أي: أبدا.
4- بفتح السين و كسرها آخر ليلة في الشهر و تقول: استسر القمر أي خفي ليلة السرار. اه اللسان مادة/ سرر/ بتصرف (4/ 357).
5- قال في اللسان: قال الحربي: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى و يقول: يكون كذا و كذا و هو ضرب من الكهانة. اه اللسان مادة/ خطط/ (7/ 288). و العقد: التفاهم بعقد الأصابع.
6- اللكنة: هي عجمة في اللسان و عيّ. اه. اللسان مادة/ لكن/ (13/ 390).
7- و هي تعذر الكلام عند إرادته. اه اللسان. مادة/ حبس/ (6/ 46).

و أن يستعمل اللفظ الغريب، و الكلمة الوحشيّة، فإن استظهر للأمر و بالغ في النظر، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجي ء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغويّ، و على خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.

و جملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلّا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن هاهنا دقائق و أسرارا طريق العلم بها الرّويّة و الفكر، و لطائف مستقاها العقل، و خصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، و دلّوا عليها، و كشف لهم عنها، و رفعت الحجب بينهم و بينها، و أنّها السبب في أن عرضت المزيّة في الكلام، و وجب أن يفضل بعضه بعضا، و أن يبعد الشأو في ذلك، و تمتدّ الغاية، و يعلو المرتقى، و يعزّ المطلب، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، و إلى أن يخرج من طوق البشر.

و لما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق، و هذه الخواصّ و اللطائف، لم تتعرّض لها و لم تطلبها، ثمّ عنّ لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها و بين العلم بها و سدّا دون أن تصل إليها و هو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها، و عليه المعوّل فيها، و في علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها، و يبيّن فاضلها من مفضولها، فجعلت تظهر الزّهد في كل واحد من النوعين، و تطرح كلّا من الصنفين، و ترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما، و الإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلّمهما.

أما الشّعر فخيّل إليها أنه ليس فيه كثير طائل، و أن ليس إلّا ملحة (1) أو فكاهة، أو بكاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل، أو إسراف قول في مدح أو هجاء، و أنه ليس بشي ء تمسّ الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا.

و أما النّحو، فظنّته ضربا من التكلّف، و بابا من التعسّف، و شيئا لا يستند إلى أصل، و لا يعتمد فيه على عقل، و أنّ ما زاد منه على معرفة الرّفع و النّصب و ما يتّصل بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضل لا يجدي نفعا، و لا تحصل منه على فائدة، و ضربوا له المثل بالملح كما عرفت (2)، إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين، و آراء لو علموا مغبّتها و ما تقود إليه؛ لتعوّذوا باللّه منها، و لأنفوا لأنفسهم من الرّضا بها، ذاك

ص: 16


1- و هي الكلمة الطيبة و هي المليحة. اه اللسان. مادة/ ملح/ (2/ 602).
2- و هو قولهم: «النحو في الكلام كالملح في الطعام». إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم و لا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلّا بمراعاة أحكام النحو من الإعراب و الترتيب الخاص.

لأنه بإيثارهم الجهل بذلك على العلم، في معنى الصادّ عن سبيل اللّه، و المبتغي إطفاء نور اللّه تعالى.

و ذاك أنّا إذا كنّا نعلم- أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن و ظهرت، و بانت و بهرت، هي أن كان على حدّ من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، و منتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، و كان محالا أن يعرف كونه كذلك، إلّا من عرف الشّعر الذي هو ديوان العرب، و عنوان الأدب، و الذي لا يشكّ أنّه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة و البيان، و تنازعوا فيهما قصب الرّهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، و زاد بعض الشعر على بعض- كان الصّادّ (1) عن ذلك صادّا عن أن تعرف حجة اللّه تعالى، و كان مثله مثل من يتصدّى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب اللّه تعالى و يقوموا به و يتلوه و يقرءوه، و يصنع في الجملة صنيعا يؤدّي إلى أن يقلّ حفّاظه و القائمون به و المقرءون له. ذاك لأنّا لم نتعبّد بتلاوته و حفظه، و القيام بأداء لفظه على النّحو الذي أنزل عليه، و حراسته من أن يغيّر و يبدّل، إلّا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تعرف في كل زمان، و يتوصّل إليها في كل أوان، و يكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السّلف، و يأثرها الثاني عن الأوّل، فمن حال بيننا و بين ما له كان حفظنا إيّاه، و اجتهادنا في أن نؤدّيه و نرعاه، كان كمن رام أن ينسيناه جملة و يذهبه من قلوبنا دفعة، فسواء من منعك الشي ء الذي تنتزع منه الشاهد و الدليل، و من منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، و الاطّلاع على تلك الشهادة، و لا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفى به من دائك، و تستبقي به حشاشة نفسك، و بين من أعدمك العلم بأنّ فيه شفاء، و أنّ لك فيه استبقاء.

فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتّبت، فإنّ لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، و هو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله و تركهم أن يعارضوه، مع تكرار التّحدّي عليهم، و طول التقريع لهم بالعجز عنه (2). و لأن الأمر كذلك، ما (3) قامت به الحجّة على العجم قيامها على العرب، و استوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن.

قيل له: خبرنا عما اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم بأن كانت

ص: 17


1- قوله: كان الصاد. جواب إذا في قوله: «و ذاك أنّا إذا كنا نعلم» في بداية الفقرة.
2- مثال ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء الآية (17): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
3- ما هنا مصدرية.

معجزته باقية على وجه الدهر، أ تعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به، و طلب الوصول إليه، و الحجة فيه و به ظاهرة لمن أرادها، و العلم بها ممكنا لمن التمسه؟ فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلّا أنّ الوصف الذي له كان معجزا قائم فيه أبدا، و أنّ الطريق إلى العلم به موجود، و الوصول إليه ممكن، فانظر أيّ رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجّة اللّه تعالى، و آثرت فيه الجهل على العلم، و عدم الاستبانة على وجودها، و كان التقليد فيها أحبّ إليك، و التعويل على علم غيرك آثر لديك، و نحّ الهوى عنك، و راجع عقلك، و اصدق نفسك، يبن لك فحش الغلط فيما رأيت، و قبح الخطأ في الذي توهّمت. و هل رأيت رأيا أعجز، و اختيارا أقبح، ممّن كره أن تعرف حجة اللّه تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور و أبهر، و أقوى و أقهر، و آثر أن لا يقوى سلطانها على الشّرك كلّ القوة، و لا تعلو على الكفر كل العلوّ؟ و اللّه المستعان.

فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر و حفظه، و ذمّ الاشتغال بعلمه و تتبّعه

لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور:

أحدها: أن يكون رفضه و ذمّه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل أو سخف، و هجاء و سبّ و كذب و باطل على الجملة.

و الثاني: أن يذمّه لأنه موزون مقفّى، و يرى هذا بمجرّده عيبا يقتضي الزّهد فيه و التّنزّه عنه (1).

و الثالث: أن يتعلّق بأحوال الشعراء و أنها غير جميلة في الأكثر، و يقول: قد ذمّوا في التنزيل.

و أيّ كان من هذه رأيا له، فهو في ذلك على خطأ ظاهر و غلط فاحش، و على خلاف ما يوجبه القياس و النّظر، و بالضّد مما جاء به الأثر، و صحّ به الخبر.

أمّا من زعم أنّ ذمّه له من أجل ما يجد فيه من هزل و سخف و كذب و باطل،

ص: 18


1- و هو قوله تعالى: وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:224- 225].

فينبغي أن يذمّ الكلام كلّه، و أن يفضّل الخرس على النّطق، و العيّ على البيان. فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه، و الذي زعم أنه ذمّ الشعر من أجله و عاداه بسببه فيه أكثر، لأن الشعراء في كل عصر و زمان معدودون، و العامّة و من لا يقول الشعر من الخاصّة عديد الرمل. و نحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم، ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل و السخف نثرا في عصر واحد، لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظما في الأزمان الكثيرة، و لغمره حتى لا يظهر فيه.

ثم إنّك لو لم ترو من هذا الضرب شيئا قطّ، و لم تحفظ إلا الجدّ المحض، و إلا ما لا معاب عليك في روايته، و في المحاضرة به، و في نسخه و تدوينه، لكان في ذلك غنى و مندوحة (1)، و لوجدت طلبتك و نلت مرادك، و حصل لك ما نحن ندعوك إليه من علم الفصاحة، فاختر لنفسك، و دع ما تكره إلى ما تحبّ.

هذا، و راوي الشعر حاك، و ليس على الحاكي عيب، و لا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلا، أو يسوء مسلما، و قد حكى اللّه تعالى كلام الكفار.

فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر، و من أجله أريد، و له دوّن، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، و أنك مسي ء في هذه العداوة، و هو العصبية منك على الشعر. و قد استشهد العلماء لغريب القرآن و إعرابه بالأبيات فيها الفحش، و فيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك؛ إذ كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش و لم يريدوه، و لم يرووا الشعر من أجله.

قالوا: و كان الحسن البصريّ رحمه اللّه يتمثّل في مواعظه بالأبيات من الشعر، و كان من أوجعها عنده: [من الكامل

اليوم عندك دلّها و حديثها و غدا لغيرك كفّها و المعصم (2)

و في الحديث عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، ذكره المرزبانيّ (3) في كتابه ).

ص: 19


1- و هي الكثرة و السعة. اه القاموس مادة/ الندح/.
2- أبيات تمثل بها عند ذمّه لبعض النساء و منها: لا تأمنن أنثى حياتك و اعلمن أن النساء و مالهنّ مقسّم اليوم عندك دلّها و حديثها و غدا لغيرك كفّها و المعصم كالخان تسكنه و تصبح غاديا و يحلّ بعدك فيه من لا تعلم انظر شرح الحماسة للتبريزي 3/ 119، و أمالي الشريف 1/ 160. و الدّلّ قريب المعنى من الهدي، و هما من السكينة و الوقار في الهيئة، و الدّلّ: حسن الحديث و حسن المزاح، و دلّ المرأة تدلّلها على زوجها. و الخان: الحانوت، و قيل الخان: الذي للتّجار. اللسان (دلل)، (خون).
3- هو محمد بن عمران بن موسى المرزباني البغدادي ولد سنة 296 ه، و توفي سنة 384 ه. كان راوية للآداب و هو صاحب «معجم الشعراء». اه شذرات الذهب (3/ 111).

بإسناد، عن عبد الملك بن عمير أنه قال: أتي عمر رضوان اللّه عليه بحلل من اليمن، فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، و محمد بن أبي بكر الصدّيق، و محمد بن طلحة ابن عبيد اللّه، و محمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي اللّه عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمّدون بالباب يطلبون الكسوة. فقال: ائذن لهم يا غلام.

فدعا بحلل، فأخذ زيد أجودها حلّة و قال: هذه لمحمد بن حاطب، و كانت أمّه عنده، و هو من بني لؤيّ، فقال عمر رضي اللّه عنه: أيهات أيهات (1)! و تمثّل بشعر عمارة بن الوليد: [من الطويل

أسرّك لمّا صرّع القوم نشوة خروجي منها سالما غير غارم

بريئا، كأنّي قبل لم أك منهم و ليس الخداع مرتضى في التّنادم (2)

ردّها. ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل. و قال: أدخل يدك فخذ حلّة و أنت لا تراها، فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها (3).

و عمارة، هذا: هو «عمارة بن الوليد بن المغيرة»، خطب امرأة من قومه (4) فقالت لا أتزوجك أو تترك الشراب. فأبى، ثم اشتدّ وجده بها فحلف لها أن لا يشرب، ثم مرّ بخمار عنده شرب يشربون، فدعوه فدخل عليهم و قد أنفدوا ما عندهم، فنحر لهم ناقته و سقاهم ببرديه، و مكثوا أياما، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: أ لم تحلف أن لا تشرب؟ فقال:

و لسنا بشرب أمّ عمرو إذا انتشوا ثياب النّدامى عندهم كالغنائم

و لكنّنا يا أمّ عمرو نديمنا بمنزلة الرّيّان ليس بعائم (5) ).

ص: 20


1- و هي لغة في هيهات بمعنى بعد و هي اسم فعل ماض.
2- الأبيات في الأغاني 18/ 131. و الصّرع: الطرح بالأرض، و الصّرع: علة معروفة، يقال: رجل صريع و مصروع، و الجمع: صرعى، و مصارع القوم: حيث قتلوا. اللسان مادة: (صرع). و غارم: من الغرم: الدّين، و رجل غارم: عليه دين. اللسان مادة: (غرم).
3- ذكره أبو الفرج في الأغاني (18/ 62)، و المرزباني في كتابه «معجم الشعراء» (76).
4- انظر الأغاني (18/ 123).
5- البيتان في الأغاني (18/ 128)، و معجم الشعراء للمرزباني (247). و الشّرب و الشّروب: القوم يشربون و يجتمعون على الشراب و مفردها شارب و شروب، و الشّريب: المولع بالشراب. و الانتشاء: أول السّكر و مقدماته، و قيل: هو السكر نفسه، و رجل نشوان: بيّن النشوة، و انتشى كله: سكر فهو نشوان. اللسان (نشا). و النديم تجمع على ندامى. و نادمه منادمة و نداما: جالسه على الشراب و الندم. القاموس المحيط (ندم).

أسرّك، البيتين؟ فإذن ربّ هزل صار أداة في جدّ، و كلام جرى في باطل ثمّ استعين به على حقّ، كما أنه ربّ شي ء خسيس، توصّل به إلى شريف، بأن ضرب مثلا فيه، و جعل مثالا له، كما قال أبو تمام: [من الكامل

و اللّه قد ضرب الأقلّ لنوره مثلا من المشكاة و النّبراس (1)

و على العكس، فربّ كلمة حق أريد بها باطل (2)، فاستحقّ عليها الذمّ، كما عرفت من خبر الخارجي مع علي رضوان اللّه عليه. و ربّ قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبّب به إلى قبيح، كالذي حكى الجاحظ قال: «رجع طاوس (3) يوما عن مجلس محمد بن يوسف (4)، و هو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أنّ قول:

«سبحان اللّه» يكون معصية للّه تعالى حتى كان اليوم، سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما، فقال رجل من أهل المجلس: «سبحان اللّه»، كالمستعظم لذلك الكلام، «ليغضب ابن يوسف» (5).

فبهذا و نحوه فاعتبر، و اجعله حكما بينك و بين الشّعر.

و بعد، فكيف وضع من الشّعر عندك، و كسبه المقت منك، أنك وجدت فيه الباطل و الكذب و بعض ما لا يحسن، و لم يرفعه في نفسك، و لم يوجب له المحبة من قلبك، أن كان فيه الحقّ و الصّدق و الحكمة و فصل الخطاب، و أن كان مجنى ثمر العقول و الألباب، و مجتمع فرق الآداب، و الذي قيّد على الناس المعاني الشريفة، و أفادهم الفوائد الجليلة، و ترسّل بين الماضي و الغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، و يؤدّي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتّى ترى به آثار الماضين، مخلّدة في الباقين، و عقول الأوّلين، مردودة في الآخرين، و ترى لكل من رام الأدب، و ابتغى الشّرف، و طلب محاسن القول و الفعل، منارا مرفوعا و علما منصوبا و هاديا مرشدا، و معلّما مسدّدا، و تجد فيه للنّائي عن طلب المآثر، و الزاهد في اكتساب».

ص: 21


1- البيت لأبي تمام في ديوانه، و التبيان ص (368) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي. و النبراس: المصباح و السراج مشتق من النبرس: القطن. اللسان (نبرس). كذلك ذكر الجوهري في الصحاح أن النبراس هو المصباح.
2- قالها الإمام علي في جواب رجل من الخوارج دعا إلى التحكيم. انظر تاريخ الطبري (5/ 72).
3- و هو التابعي المشهور، المتوفى سنة 106 ه، بمكة في عهد هشام بن عبد الملك. اه سير أعلام النبلاء (5/ 38).
4- و هو أخو الحجاج توفي سنة 91 ه. الأعلام: (7/ 147).
5- الخبر في البيان و التبيين، (1/ 395)، أورده في باب: «ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام».

المحامد، داعيا و محرّضا، و باعثا و محضّضا، و مذكّرا و معرّفا، و واعظا و مثقّفا. فلو كنت ممّن ينصف كان في بعض ذلك ما يغيّر هذا الرأي منك، و ما يحدوك على رواية الشعر و طلبه، و يمنعك أن تعيبه أو تعيب به، و لكنك أبيت إلّا ظنّا سبق إليك، و إلا بادي رأي عنّ لك (1)، فأقفلت عليك قلبك، و سددت عما سواه سمعك، فعيّ النّاصح بك، و عسر على الصديق الخليط تنبيهك.

نعم، و كيف رويت: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا، فيريه، خير له من أن يمتلئ شعرا» (2)، و لهجت به، و تركت قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إنّ من الشّعر لحكمة و إنّ من البيان لسحرا» (3) و كيف نسيت أمره صلى اللّه عليه و سلم بقول الشعر، و وعده. عليه الجنة، و قوله لحسان: «قل و روح القدس معك» (4)، و سماعه له، و استنشاده إيّاه، و علمه صلى اللّه عليه و سلم به، و استحسانه له، و ارتياحه عند سماعه؟.

أمّا أمره به، فمن المعلوم ضرورة، و كذلك سماعه إيّاه، فقد كان حسّان و عبد اللّه بن رواحة و كعب بن زهير يمدحونه، و يسمع منهم، و يصغي إليهم، و يأمرهم بالردّ على المشركين، فيقولون في ذلك و يعرضون عليه. و كان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك، كالذي روي من أنه صلى اللّه عليه و سلم قال لكعب: «ما نسي ربّك، و ما كان ربّك نسيّا، شعرا قلته»، قال: و ما هو يا رسول اللّه؟ قال: أنشده يا أبا بكر. فأنشده أبو بكر رضوان اللّه عليه: [من الكامل

زعمت سخينة أن ستغلب ربّها و ليغلبنّ مغالب الغلّاب (5)

و أمّا استنشاده إيّاه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده، حين استسقى فسقي، قول أبي طالب: [من الطويل ).

ص: 22


1- أي ظهر أمامك. ا. ه القاموس مادة/ عنّ/ 1570.
2- أخرجه البخاري في الأدب (92)، و مسلم في الشعر (97)، و أبو داود في الأدب (87).
3- أخرجه البخاري في الأدب (69)، و ابن ماجة في الأدب (41)، و أحمد بن حنبل في المسند (3/ 456).
4- أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (4/ 297)، و البخاري في الصلاة (68)، بلفظ (اللهم أيده بروح القدس).
5- البيت في ديوان كعب بن مالك: (178- 182)، و الأغاني (16/ 246)، و انظر طبقات فحول الشعراء رقم (305). و السّخينة: لقب قريش لأنها كانت تعاب بأكل السخينة، و هي الدقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى و هو الحساء. انظر اللسان (سخن).

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى، عصمة للأرامل

يطيف به الهلّاك من آل هاشم، فهم عنده في نعمة و فواضل (1)

الأبيات. و عن الشعبي رضي اللّه عنه، عن مسروق، عن عبد اللّه قال: لما نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين فقال صلى اللّه عليه و سلم لأبي بكر رضي اللّه عنه: لو أنّ أبا طالب حيّ لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل» (2). قال: و ذلك لقول أبي طالب:

كذبتم، و بيت اللّه، إن جدّ ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأنامل

و ينهض قوم في الدّروع إليهم نهوض الرّوايا في طريق حلاحل (3)

و من المحفوظ في ذلك حديث محمّد بن مسلمة الأنصاري، جمعه و ابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشّكر و المعروف، قال فقال محمد: كنا يوما عند النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لحسان بن ثابت: أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية، فإنّ اللّه تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها و روايته، فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة: [من السريع] ).

ص: 23


1- البيتان من قصيدة لأبي طالب و الذي يخبر قومه فيها أن لن يترك محمدا أبدا حتى يهلك دونه. انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 256- 262)، و انظر طبقات فحول الشعراء رقم (366) و التعليق عليه و ثمال اليتامى: غياثهم. و ثملهم ثملا: أطعمهم و سقاهم و قام بأمرهم فهو غياث لهم و عماد. عصمة للأرامل: العصمة: الحفظ، و عصمه الطعام: منعه من الجوع، و المقصود أنه يمنعهن و يحفظهنّ. و الهلّاك: جمع هالك و المقصود الفقير. قال الشاعر: ترى الأرامل و الهلّاك تتبعه يستنّ منه عليهم وابل رزم يعني الفقراء. انظر اللسان (عصم) (هلك).
2- أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 10313)، و البزار في مسنده (1/ 297).
3- البيتان على غير هذا الترتيب في القصيدة كما جاءت في سيرة ابن هشام و على غير الرواية أيضا. فرواية الأوّل: و إنّا لعمر اللّه إن جدّ ما أرى لتلتبس أسيافنا بالأماثل و الأماثل: جمع أمثل و هو الأفضل، أي أن السيوف تضرب أعناق أشرافهم فتصرعهم. و رواية الثاني: و ينهض قوم في الحديد إليكم نهوض الرّوايا تحت ذات الصلاصل الرّوايا: جمع راوية و هو البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، و الرجل المستقي أيضا راوية. و «ذات الصلاصل» هي القرب فيها بقايا الماء، واحدها: صلصلة بضم الصادين و هي بقية الماء في الإداوة و القربة. يريد أن قومه ينهضون مثقلين بالحديد تسمع لهم قعقعة كصلصلة الماء في المزادات. انظر اللسان (روي).

علقم ما أنت إلى عامر

النّاقض الأوتار و الواتر (1)

فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «يا حسّان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا». فقال: يا رسول اللّه، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «يا حسّان، أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى، و إنّ قيصر سأل أبا سفيان ابن حرب عنّي فتناول منّي»- و في خبر آخر: «فشعّث منّي» (2)- و إنه سأل هذا عنّي فأحسن القول. فشكره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ذلك. و روي من وجه آخر أنّ حسان قال:

يا رسول اللّه، من نالتك يده وجب علينا شكره.

و من المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان اللّه عليها أنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كثيرا ما يقول: أبياتك. فأقول: [من الكامل

ارفع ضعيفك، لا يحربك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمى

يجزيك، أو يثني عليك، و إنّ من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى (3)

قالت فيقول عليه السلام: يقول اللّه تبارك و تعالى لعبد من عبيده: صنع إليك عبدي معروفا فهل شكرته عليه؟ فيقول: يا ربّ، علمت أنه منك فشكرتك عليه.

قال فيقول اللّه عزّ و جلّ: «لم تشكرني، إذ لم تشكر من أجريته على يده» (4).

و أمّا علمه عليه السلام بالشعر، فكما روي أن سودة أنشدت (5):

عديّ و تيم تبتغي من تحالف فظنّت عائشة و حفصة رضي اللّه عنهما أنّها عرّضت بهما، و جرى بينهنّ كلام في هذا المعنى، فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، فدخل عليهن و قال: «يا ويلكنّ، ليس في عديّكنّ (6) و لا تيمكنّ (7) قيل هذا، و إنّما قيل هذا في عديّ تميم و تيم تميم».

و تمام هذا الشعر و هو لقيس بن معدان الكليبيّ، من بني يربوع: [من الطويل

ص: 24


1- البيت للأعشى في ديوانه ص (105).
2- أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (73).
3- البيتان للسموءل (غريض اليهودي). الأغاني (3/ 109، 111، 126).
4- أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 163).
5- روى هذا الخبر القالي في أماليه (1/ 241، 242).
6- أي عدي قريش و منهم عمر بن الخطاب.
7- أي تيم قريش و منهم أبو بكر.

فحالف، و لا و اللّه تهبط تلعة

من الأرض إلّا أنت للذّلّ عارف

ألا من رأى العبدين، أو ذكرا له؟

عديّ و تيم تبتغي من تحالف (1)

و روى الزّبير بن بكّار (2) قال: مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و معه أبو بكر رضي اللّه عنه برجل يقول في بعض أزقّة مكة: [من الكامل

يا أيّها الرجل المحوّل رحله هلّا نزلت بآل عبد الدّار

فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا بكر، أ هكذا قال الشاعر؟ قال: لا، يا رسول اللّه، و لكنه قال:

يا أيّها الرّجل المحوّل رحله هلّا سألت عن آل عبد مناف (3)

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: هكذا كنّا نسمعها.

و أمّا ارتياحه صلى اللّه عليه و سلم للشعر و استحسانه له، فقد جاء فيه الخبر من وجوه. من ذلك حديث النّابغة الجعدي قال: أنشدت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قولي: [من الطويل

بلغنا السّماء، مجدنا و جدودنا و إنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا (4)

فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنّة، يا رسول اللّه. قال:

أجل إن شاء اللّه. ثم قال: أنشدني، فأنشدته من قولي:

و لا خير في حلم، إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا

و لا خير في جهل، إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا (5) ).

ص: 25


1- البيتان لقيس بن معدان الكليبي. و التلعة: أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل ثم يندفع إلى أخرى أسفل منها و الجمع: تلاع. انظر اللسان (تلع). و قوله: «عارف» من قولهم «عرف للأمر، و اعترف» صبر له و ذلّ و انقاد.
2- هو أبو عبد الله القرشي الأسدي المكي. عالم بالأنساب و أخبار العرب ولي قضاء مكة، توفي سنة 256 ه. اه سير أعلام النبلاء (12/ 311).
3- البيت لمطرود بن كعب الخزاعي و هو مطلع قصيدة. في رثاء عبد المطلب و بني عبد مناف. ا. ه السيرة النبوية (1/ 163).
4- البيت للنابغة الجعدي في ديوانه، الأغاني (5/ 12)، و مظهرا: يعني مصعدا، و الظهر من الأرض، ما غلظ و ارتفع، و في الحديث عن عائشة: كان يصلي العصر في حجرتي قبل أن تظهر، تعني الشمس أي: تعلو و ترتفع. انظر اللسان (ظهر).
5- في ديوانه، و انظر الأغاني (5/ 13)، و بادرة السيف: شباته، و البادرة: الحدّة، و هو ما يبدر من حدة الرجل عند غضبه من قول أو فعل، و الجمع: بوادر. انظر اللسان (بدر).

فقال صلى اللّه عليه و سلم: أجدت، لا يفضض اللّه فاك. قال الراوي: فنظرت إليه، فكأنّ فاه البرد المنهلّ، ما سقطت له سنّ و لا انفلّت، ترفّ غروبه (1).

و من ذلك حديث كعب بن زهير. روي أن كعبا و أخاه بجيرا خرجا إلى رسول صلى اللّه عليه و سلم حتى بلغا أبرق العزّاف (2)، فقال كعب لبجير: الق هذا الرجل و أنا مقيم هاهنا، فانظر ما يقول. و قدم بجير على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فعرض عليه الإسلام فأسلم، و بلغ ذلك كعبا، فقال فى ذلك شعرا، فأهدر النبي صلى اللّه عليه و سلم دمه فكتب إليه بجبر يأمره أن يسلم و يقبل إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم و يقول إنّ من شهد أن لا اللّه و أن محمدا رسول اللّه، قبل منه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و أسقط ما كان قبل ذلك قال: فقدم كعب و أنشد النبي صلى اللّه عليه و سلم قصيدته المعروفة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم إثرها، لم يفد، مغلول

و ما سعاد غداة البين إذ رحلت إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنّه منهل بالرّاح معلول

سحّ السّقاة عليها ماء محنية من ماء أبطح أضحى و هو مشمول

و يلمها خلّة لو أنّها صدقت موعودها، أو لو أنّ النّصح مقبول (3) ).

ص: 26


1- انفلّت: أي انكسرت. رفّ: برق و تلألأ. غروب: حدة الأسنان ترف غروبه: تتلألأ أسنانه. اه الصحاح: مادة/ فلّ/ (2/ 260)، مادة/ غرب/ (2/ 191)، مادة/ رفف/ (1/ 496).
2- و هو ماء لبني أسد بين البصرة و المدينة 1/ 68، 4/ 108 (معجم البلدان). و الخبر موجود في السيرة النبوية.
3- الأبيات من ديوان كعب بن زهير، و انظر طبقات فحول الشعراء رقم (117، 118)، و في الأغاني (17/ 85- 94). و جاء البيت الأول في الأغاني بقافية مخالفة و هي «مكبول» المقصود: المكبّل بالقيد. و التبل: أن يسقم الهوى الإنسان، و قيل: تبله تبلا: ذهب بعقله. انظر اللسان (تبل). متيّم: التّيم: أن يستعبده الهوى، و رجل متيّم. و قيل التّيم: ذهاب العقل و فساده. اللسان (تيم). البين: الفراق. اللسان (بين). أغنّ: ظبي صغير في صوته حسن. مكحول: بعينيه كحل. تجلو: تصقل و تكشف. العوارض: جمع عارضة: الأسنان. ظلم: ماء الأسنان و بريقها و رقتها، المنهل: الشرب الأوّل. الرّاح: الخمر، اسم لها. اللسان (روح). و جاء البيت الرابع منها من رواية مشهورة بلفظ: شجت بذى شيم من ماء محنية صاف بأبطح أضحى و هو مشمول و سحّ: صبّ الماء صبّا متتابعا. المحنية من الوادي: منعرجه حيث ينعطف عن السّند. اللسان: مادة (حنا). أبطح: من البطح: البسط، و الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى، و الأبطح قد يعني: أبطح مكة، و الخلة: كل نبت حلو، و قيل: الأرض التي لا حمض بها، و قيل: خبز الإبل. انظر اللسان (بطح)، (خلل)، و انظر الإسعاد (شرح بانت سعاد).

حتى أتى على آخرها، فلما بلغ مديح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

إنّ الرّسول لسيف يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول

في فتية من قريش قال قائل ببطن مكّة، لمّا أسلموا: زولوا

زالوا، فما زال أنكاس و لا كشف عند اللقاء، و لا ميل معازيل

لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم و ما بهم عن حياض الموت تهليل

شمّ العرانين أبطال، لبوسهم من نسج داود في الهيجا، سرابيل (1)

أشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى الحلق أن اسمعوا. قال: و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم، يتحلّقون حلقة دون حلقة، فيلتفت إلى هؤلاء و إلى هؤلاء.

و الأخبار فيما يشبه هذا كثيرة، و الأثر به مستفيض.

و إن زعم أنه ذمّ الشعر من حيث هو موزون مقفّى، حتى كأنّ الوزن عيب، و حتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر، اتّضع في نفسه، و تغيرت حاله، فقد أبعد، و قال قولا لا يعرف له معنى، و خالف العلماء في قولهم: «إنّما الشّعر كلام فحسنه حسن، و قبيحه قبيح» (2)، و قد روي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرفوعا أيضا.

فإن زعم أنه إنّما كره الوزن، لأنه سبب، لأن يتغنّى في الشعر و يتلهّى به، فإنّا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك، و إنما دعوناه إلى اللّفظ الجزل، و القول الفصل، و المنطق الحسن، و الكلام البيّن، و إلى حسن التمثيل و الاستعارة، و إلى التلويح و الإشارة، و إلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرّفه، و إلى الضّئيل فتفخّمه، و إلى النّازل فترفعه، و إلى الخامل فتنوّه به، و إلى العاطل (3) فتحلّيه، و إلى المشكل فتجلّيه، فلا متعلّق له علينا بما ذكر، و لا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن ما شاء، ).

ص: 27


1- انظر السابق، و مهنّد: أي مطبوع في الهند، و مسلول: أي مخرج من غمده. زولوا: تحوّلوا و انتقلوا عن مكة إلى المدينة. أنكاس: جمع نكس و هو الرجل الضعيف المهين. كشف: جمع أكشف و هو الشجاع الذي لا ينهزم في الحرب. ميل: جمع أميل، الذي لا سيف له، و الذي لا يحسن الركوب. معازيل: الذين لا سلاح معهم، و المفرد معزال. شمّ: جمع أشم، الذي في قصبة أنفه علو مع استواء أعلاه علامة السيادة و الكرم. عرانين: جمع عرنين و هو الأنف تحت مجتمع الحاجبين، و قيل: ما صلب من عظمه. اللبوس: ما يلبس من السلاح. نسج داود: الدروع. الهيجا: الحرب. انظر الإسعاد (شرح بانت سعاد) (113، 114).
2- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 68) بنحوه.
3- عطلت المرأة: تعطل عطلا و عطولا و تعطلت إذا لم يكن عليها حلي، و لم تلبس الزينة. اه اللسان/ عطل/ (11/ 453).

و ليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، و لا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه.

و هذا هو الجواب لمتعلق إن تعلّق بقوله تعالى: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69]، و أراد أن يجعله حجّة في المنع من الشعر، و من حفظه و روايته.

و ذاك أنّا نعلم أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولا فصلا، و كلاما جزلا، و منطقا حسنا، و بيانا بيّنا، كيف؟ و ذلك يقتضي أن يكون اللّه تعالى قد منعه البيان و البلاغة، و حماه الفصاحة و البراعة، و جعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة و شرف اللفظ. و هذا جهل عظيم، و خلاف لما عرفه البلغاء و أجمعوا عليه من أنّه صلى اللّه عليه و سلم كان أفصح العرب، و إذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني، و كنا قد أعلمناه أنّا ندعوه إلى الشعر من أجلها، و نجدوه بطلبه على طلبها، كان الاعتراض بالآية محالا و التعلّق بها خطلا من الرأي و انحلالا.

فإن قال: إذا قال اللّه تعالى: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69]، فقد كره للنبي صلى اللّه عليه و سلم الشعر و نزّهه عنه بلا شبهة، و هذه الكراهة و إن كانت لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام، و من حيث أنه بليغ بيّن و فصيح حسن و نحو ذلك، فإنها تتوجّه إلى أمر لا بدّ لك من التلبّس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر، و ذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميّز كونه كلاما عن كونه شعرا، حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام، و لم تلتبس به من حيث هو شعر، هذا محال، و إذا كان لا بدّ من ملابسة موضع الكراهة، فقد لزم العيب برواية الشّعر و إعمال اللّسان فيه.

قيل له: هذا منك كلام لا يتحصّل. و ذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حطّ ذلك من قدره، و أزرى به، و جلب على المفرغ له في ذلك القالب إثما، و كسبه ذمّا، لكان من حقّ العيب فيه أن يكون على واضع الشّعر، أو من يريده لمكان الوزن خصوصا، دون من يريده لأمر خارج منه، و يطلبه لشي ء سواه.

فأمّا قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره، فإني إذا لم أقصده من أجل ذلك المكروه، و لم أرده له، و أردته لأعرف به مكان بلاغة، و أجعله مثالا في براعة، أو أحتجّ به في تفسير كتاب و سنّة، و أنظر إلى نظمه و نظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز، و أقف على الجهة التي منها كان، و أتبيّن الفصل و الفرقان، فحقّ (1) هذا التلبّس أن لا يعتدّ عليّ ذنبا، و أن لا أؤاخذ به، إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه و قصد (2) إليه، و قد تتبع العلماء الشّعوذة و السحر، و عنوا بالتوقّف على حيل المموّهين، ليعرفوا فرق ما بين

ص: 28


1- سياق العبارة كما يلي: فإني إذا لم أقض ... و الجواب فحق هذا التلبس.
2- اسم معطوف على عمد.

المعجزة و الحيلة، فكان ذلك منهم من أعظم البرّ؛ إذ كان الغرض كريما و القصد شريفا.

هذا، و إذا نحن رجعنا إلى ما قدّمنا من الأخبار، و ما صحّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظنّ هذا السائل، و رأينا السبيل في منع النبي صلى اللّه عليه و سلم الوزن، و أن ينطلق لسانه بالكلام الموزون، غير ما ذهبوا إليه، و ذاك أنّه لو كان منع تنزيه و كراهة، لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونا، و أن ينزّه سمعه عنه كما نزّه لسانه، و لكان صلى اللّه عليه و سلم لا يأمر به و لا يحثّ عليه، و كان الشاعر لا يعان على وزن الكلام و صياغته شعرا، و لا يؤيّد فيه بروح القدس.

و إذا كان هذا كذلك، فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه و كراهة، بل سبيل الوزن في منعه عليه السلام إياه سبيل الخطّ، حين جعل عليه السلام لا يقرأ و لا يكتب، في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخطّ، بل لأن تكون الحجة أبهر و أقهر، و الدلالة أقوى و أظهر، و لتكون أكعم (1) للجاحد، و أقمع للمعاند، و أردّ لطالب الشبهة، و أمنع من ارتفاع الريبة.

و أما التعلّق بأحوال الشعراء بأنه قد ذمّوا في كتاب اللّه تعالى، فما أرى عاقلا يرضى به أن يجعله حجّة في ذمّ الشعر و تهجينه، و المنع من حفظه و روايته، و العلم بما فيه من بلاغة، و ما يختصّ به من أدب و حكمة، ذاك لأنه يلزم على قود (2) هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس و أشعار أهل الجاهليّة في تفسير القرآن، و في غريبه و غريب الحديث، و كذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدّم ذكره من أمر النبي صلى اللّه عليه و سلم بالشّعر، و إصغائه إليه، و استحسانه له.

هذا و لو كان يسوغ ذمّ القول من أجل قائله، و أنه يحمل ذنب الشاعر على الشعر، لكان ينبغي أن يخصّ و لا يعمّ، و أن يستثنى، فقد قال اللّه عزّ و جلّ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الشعراء: 227]. و لو لا أن القول يجرّ بعضه بعضا، و أنّ الشي ء يذكر لدخوله في القسمة، لكان حقّ هذا و نحوه أن لا يتشاغل به، و أن لا يعاد و يبدأ في ذكره.

و أمّا زهدهم في النحو و احتقارهم له، و إصغارهم أمره، و تهاونهم به، فصنيعهم

ص: 29


1- أكعم اسم تفضيل من «كعم». كعم البعير: قيل شدّ فاه في هياجه لئلا يعض أو يأكل. اه اللسان/ كعم/ (12/ 522).
2- أي: على سياقه.

في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدّم، و أشبه بأن يكون صدّا عن كتاب اللّه، و عن معرفة معانية، ذاك لأنهم لا يجدون بدّا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه؛ إذ كان قد علم أنّ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، و أنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، و أنه المعيار الذي لا يتبيّن نقصان كلام و رجحانه حتى يعرض عليه، و المقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، لا ينكر ذلك إلّا من ينكر حسّه، و إلا من غالط في الحقائق نفسه، و إذا كان الأمر كذلك، فليت شعري ما عذر من تهاون به و زهد فيه، و لم ير أن يستقيه من مصبّه، و يأخذه من معدنه، و رضي لنفسه بالنقص و الكمال لها معرض، و آثر الغبينة و هو يجد إلى الرّبح سبيلا.

فإن قالوا: إنّا لم نأب صحّة هذا العلم، و لم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب اللّه تعالى، و إنما أنكرنا أشياء كثّر تموه بها، و فضول قول تكلّفتموها، و مسائل عويصة تجشّمتم الفكر فيها، ثم لم تحصلوا على شي ء أكثر من أن تغربوا على السامعين، و تعايوا بها الحاضرين.

قيل لهم: خبرونا عمّا زعمتم أنه فضول قول، و عويص لا يعود بطائل، ما هو؟

فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة، و لضرب من تمكين المقاييس في النفوس، كقولهم: كيف تبني من كذا كذا؟ و كقولهم: ما وزن كذا؟- و تتبّعهم في ذلك الألفاظ الوحشيّة،، كقولهم: ما وزن «عزويت» (1)؟ و ما وزن «أرونان» (2)؟ و كقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلا بكذا، كيف يكون الحكم؟- و أشباه ذلك، و قالوا: أ تشكّون أنّ ذلك لا يجدي إلّا كدّ الفكر و إضاعة الوقت؟.

قلنا لهم: أمّا هذا الجنس، فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه و لم تعنوا به، و ليس يهمّنا أمره، فقولوا: فيه ما شئتم، وضعوه حيث أردتم، فإن تركوا ذلك و تجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة، على وجه الحكمة في الأوضاع، و تقرير المقاييس التي اطّردت عليها، و ذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه، كالقول 7)

ص: 30


1- عزويت، على وزن فعليت. قال ابن سيده: و إنما حكمنا عليه بأنه فعليت لوجود نظيره و هو عفريت و نفريت. اه اللسان/ عزا/ (15/ 54).
2- تقول: يوم أرونان: شديد في كل شي ء. وزنه أفوعال و هو من الرنين فيما ذهب إليه ابن الأعرابي، و هو عند سيبويه أفعلان من قولك: كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي غمّته و شدته. اللسان/ رنن/ (13/ 187)

في المعتلّ، و فيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو و الياء و الألف من التغيير بالإبدال و الحذف و الإسكان، أو ككلامنا مثلا على التثنية و جمع السلامة، لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد، و لم تبع النصب فيهما الجرّ؟ و في «النون» أنّه عوض عن الحركة و التنوين في حال، و عن الحركة وحدها في حال.

و الكلام على ما ينصرف و ما لا ينصرف، و لم كان منع الصرف؟ و بيان العلّة فيه، و القول على الأسباب التّسعة و أنها كلّها ثوان لأصول، و أنه إذا حصل منها اثنان في اسم، أو تكرّر سبب، صار بذلك ثانيا من جهتين، و إذا صار كذلك أشبه الفعل، لأن الفعل ثان للاسم، و الاسم المقدّم و الأوّل، و كلّ ما جرى هذا المجرى؟.

قلنا: إنّا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضا، نعذركم فيه و نسامحكم على علم منّا بأن قد أسأتم الاختيار، و منعتم أنفسكم ما فيه الحظّ لكم، و منعتموها الاطّلاع على مدارج الحكمة، و على العلوم الجمّة. فدعوا ذلك، و انظروا في الذي اعترفتم بصحّته و بالحاجة إليه، هل حصلتموه على وجهه؟ و هل أحطتم بحقائقه؟

و هل وفّيتم كل باب منه حقّه، و أحكمتموه إحكاما يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير، و تعاطيتم على التأويل، و وازنتم بين بعض الأقوال و بعض، و أردتم أن تعرفوا الصّحيح من السقيم، و عدتم في ذلك و بدأتم، و زدتم و نقصتم؟.

و هل رأيتم؛ إذ قد عرفتم صورة المبتدأ و الخبر، و أن إعرابهما الرفع، أن تتجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره، فتعلموا أنه يكون مفردا و جملة، و أن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميرا له، و إلى ما لا يحتمل الضمير، و أنّ الجملة على أربعة أضرب، و أنه لا بدّ لكل جملة وقعت خبرا لمبتدإ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ، و أن هذا الذّكر ربما حذف لفظا و أريد معنى، و أنّ ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه، إلى سائر ما يتّصل بباب الابتداء من المسائل اللطيفة و الفوائد الجليلة التي لا بدّ منها؟.

و إذا نظرتم في الصّفة مثلا، فعرفتم أنها تتبع الموصوف، و أنّ مثالها قولك:

«جاءني رجل ظريف» و «مررت بزيد الظريف»، هل ظننتم أنّ وراء ذلك علما، و أنّ هاهنا صفة تخصّص، و صفة توضّح و تبيّن، و أن فائدة التّخصيص غير فائدة التوضيح، كما أنّ فائدة الشّياع (1) غير فائدة الإبهام، و أن من الصفة صفة لا يكون فيها ).

ص: 31


1- شاع الشيب شيعا و شياعا و شيعانا و شيوعا، أي ظهر و تفرق. و شاع الخبر: انتشر و ذاع و ظهر. اه اللسان/ شيع/ (8/ 191).

تخصيص و لا توضيح، و لكن يؤتى بها مؤكّدة كقولهم: «أمس الدّابر» و كقوله تعالى:

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13]، و صفة يراد بها المدح و الثناء، كالصفات الجارية على اسم اللّه تعالى جدّه؟

و هل عرفتم الفرق بين الصفة و الخبر، و بين كل واحد منهما و بين الحال؟ و هل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافّتها لثبوت المعنى للشي ء، ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟.

و هكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلّها واحدا واحدا، و يسألوا عنها بابا بابا، ثم يقال لهم: ليس إلّا أحد أمرين:

إمّا أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل، فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب اللّه تعالى، و في خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و في معرفة الكلام جملة، إلى شي ء من ذلك، و تزعموا أنّكم إذا عرفتم مثلا أنّ الفاعل رفع، لم يبق عليكم في باب الفاعل شي ء تحتاجون إلى معرفته. و إذا نظرتم إلى قولنا: «زيد منطلق»، لم تحتاجوا من بعده إلى شي ء تعلمونه في الابتداء و الخبر، و حتّى تزعموا مثلا أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في الصَّابِئُونَ من سورة المائدة: [69]، إلى ما قاله العلماء فيه، و إلى استشهادهم فيه بقول الشاعر: [من الوافر]

و إلّا فاعلموا أنّا و أنتم بغاة ما بقينا في شقاق (1)

و حتى كأنّ المشكل على الجميع غير مشكل عندكم، و حتّى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلّها، فتخرجوا إلى فنّ من التجاهل لا يبقى معه كلام.

و إمّا أن تعلموا أنك قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم، و ظننتم ما ظننتم فيه، فترجعوا إلى الحق و تسلّموا الفضل لأهله، و تدعوا الذي يزري بكم، و يفتح باب العيب عليكم، و يطيل لسان القادح فيكم، و باللّه التوفيق.

هذا، و لو أن هؤلاء القوم؛ إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة، و إذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه، اقتصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفسهم بالفتوى فيه، و التصرّف فيما لم يتعلّموا منه، و لم يخوضوا في التفسير، و لم يتعاطوا التأويل، لكان ..

ص: 32


1- البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه، و الإنصاف (1/ 190)، و سيبويه (1/ 290)، و معاني القرآن للفراء (1/ 311)، و الخزانة (4/ 315)، و شرح التصريح (1/ 228)، و المقاصد النحوية (2/ 271)، و شرح المفصل (8/ 69)، و بلا نسبة في أسرار العربية (ص 154) ..

البلاء واحدا، و لكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا، و إذ لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد، و لكنهم لم يفعلوا، فجلبوا من الدّاء ما أعيى الطبيب، و حيّر اللبيب، و انتهى التخليط بما أتوه فيه، إلى حدّ يئس من تلافيه، فلم يبق للعارف الذي يكره الشّغب إلا التعجب و السكوت. و ما الآفة العظمى إلا واحدة، و هي أن يجي ء من الإنسان و يجري لفظه (1)، و يمشي له أن يكثّر في غير تحصيل، و أن يحسّن البناء على غير أساس، و أن يقول الشي ء لم يقتله علما، و نسأل اللّه الهداية و نرغب إليه في العصمة.

ثمّ إنّا و إن كنّا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها، و تحويل الأشياء عن حالاتها،، و نقل النفوس عن طباعها، و قلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، و دهر ليس للفضل و أهله لديه إلا الشر صرفا و الغيظ بحتا، و إلا ما يدهش عقولهم و يسلبهم معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأيا عند الجميع، من كانت له همة في أن يستفيد علما، أو يزداد فهما، أو يكتسب فضلا، أو يجعل له ذلك بحال شغلا، فإنّ الإلف من طباع الكريم. و إذا كان من حق الصديق عليك، و لا سيّما إذا تقادمت صحبته و صحّت صداقته، أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام، و تضجرك النوائب، و تحرجك محن الزمان، فتتناساه جملة، و تطويه طيّا، فالعلم- الذي هو صديق لا يحول عن العهد، و لا يدغل (2) في الودّ، و صاحب لا يصحّ عليه النّكث و الغدر، و لا تظنّ به الخيانة و المكر- أولى منك بذلك و أجدر، و حقّه عليك أكبر.

ثم إن التّوق إلى أن تقرّ الأمور قرارها، و توضع الأشياء مواضعها، و النّزاع (3) إلى بيان ما يشكل، و حلّ ما ينعقد، و الكشف عمّا يخفى، و تلخيص الصّفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، و استظهارا على الشبهة، و استبانة للدليل، و تبيّنا (4) للسبيل، شي ء في سوس (5) العقل، و في طباع النفس إذا كانت نفسا.

و لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى «الفصاحة»، و «البلاغة»، و «البيان» و «البراعة»، و في بيان المغزى من هذه العبارات، و تفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز و الإيماء و الإشارة في خفاء، و بعضه كالتنبيه على ).

ص: 33


1- أي يكثر من الكلام دون فائدة.
2- و هو بالتحريك: الفساد. اللسان/ دغل/ (11/ 344).
3- نزع يده أخرجها و نزع إلى أهله نزاعة و نزاعا بالكسر، و نزوعا بالضم، أي اشتاق. القاموس/ نزع/ (989).
4- «و تبيينا».
5- هو الأصل و الطبع و الخلق و السجية. ا. ه اللسان/ سوس/ (6/ 108).

مكان الخبي ء ليطلب، و موضع الدّفين ليبحث عنه فيخرج، و كما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، و توضع لك القاعدة لتبني عليها. و وجدت المعوّل على أن هاهنا نظما و ترتيبا، و تأليفا و تركيبا، و صياغة و تصويرا، و نسجا و تحبيرا، و أنّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها، و أنه كما يفضل هناك النظم النظم، و التأليف التأليف، و النسج النسج، و الصياغة الصياغة، ثم يعظم الفضل، و تكثر المزيّة، حتى يفوق الشي ء نظيره و المجانس له درجات كثيرة، و حتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا، و يتقدّم منه الشي ء الشي ء، ثم يزداد فصله ذلك و يترقى منزلة فوق منزلة، و يعلو مرقبا بعد مرقب، و يستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، و تحسر الظنون (1)، و تسقط القوى، و تستوي الأقدام في العجز.

و هذه جملة قد يرى في أوّل الأمر و بادئ الظنّ، أنها تكفي و تغني، حتى إذا نظرنا فيها، وعدنا و بدأنا، وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه، و صادفنا الحال على غير ما توهّمناه، و علمنا أنّهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى، و أن لم يغرقوا في النّزع (2)، لقد أبعدوا على ذاك في المرمى.

و ذاك أنّه يقال لنا: ما زدتم على أن سقتم قياسا، فقلتم: نظم و نظم، و ترتيب و ترتيب، و نسج و نسج، ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزيّة في هذه المعاني هاهنا، حسب ظهورها هناك، و أن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثمّ، و هذا صحيح كما قلتم، و لكن بقي أن تعلمونا مكان المزيّة في الكلام، و تصفوها لنا، و تذكروها ذكرا كما ينصّ الشي ء و يعيّن، و يكشف عن وجهه و يبيّن، و لا يكفي أن تقولوا: إنّه خصوصية في كيفية النظم، و طريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، حتى تصفوا تلك الخصوصية و تبيّنوها، و تذكروا لها أمثلة، و تقولوا: «مثل كيت و كيت»، كما يذكر لك من تستوصفه عمل الدّيباج المنقّش ما تعلم به وجه دقّة الصنعة، أو يعمله بين يديك، حتى ترى عيانا- كيف تذهب تلك الخيوط و تجي ء؟ و ما ذا يذهب منها طولا و ما ذا يذهب منها عرضا؟ و بم يبدأ و بم يثنّي و بم يثلّث؟- و تبصر (3) من الحساب الدقيق و من عجيب تصرّف اليد، ما تعلم معه مكان الحذق و موضع الأستاذية. ).

ص: 34


1- حسر الشي ء حسورا: انكشف و حسر البصر يحسره حسورا انحلّ و انقطع من طول المدى. القاموس/ حسر/ (479).
2- كناية عن بلوغ الهدف.
3- الكلام قبلها اعتراض. و تبصر معطوفة على (حتى ترى عيانا و تبصر).

و لو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة: «إنها خصوصية في نظم الكلم و ضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة»، أو ما أشبه ذلك من القول المجمل، كافيا في معرفتها، و مغنيا في العلم بها، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلّها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التّصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص، و ضمّ لطاقات الإبريسم (1) بعضها إلى بعض على طرق شتّى. و ذلك ما لا يقوله عاقل.

و جملة الأمر أنك لن تعلم في شي ء من الصّناعات علما تمرّ فيه و تحلي، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب، و يفصل بين الإساءة و الإحسان، بل حتّى تفاضل بين الإحسان و الإحسان، و تعرف طبقات المحسنين.

و إذا كان هذا هكذا، علمت أنه لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما، و أن تصفها وصفا مجملا، و تقول فيها قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شي ء، حتى تفصّل القول و تحصّل، و تضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم و تعدّها واحدة واحدة، و تسمّيها شيئا شيئا، و تكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، و كلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع، و كل آجرّة من الآجرّ الذي في البناء البديع.

و إذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا النظر، و طلبتها هذا الطّلب، احنجت إلى صبر على التأمّل، و مواظبة على التدبّر، و إلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتّمام، و أن تربع (2) إلّا بعد بلوغ الغاية، و متى جشمت (3) ذلك، و أبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت (4) إلى غرض كريم، و تعرّضت لأمر جسيم، و آثرت التي هي أتمّ لدينك و فضلك، و أنبل عند ذوي العقول الراجحة لك، و ذلك أن تعرف حجّة اللّه تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها و أنوه (5) لها، و أخلق بأن يزداد نورها سطوعا، و كوكبها طلوعا، و أن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشكّ، و أبعد من الرّيب؛ و أصحّ لليقين، و أحرى بأن يبلّغك قاصية التبيين. ).

ص: 35


1- و هو الحرير. القاموس/ برسم/ (1395).
2- أي وقف و انتظر. اه القاموس/ ربع/ (927).
3- جشم الأمر جشما و جشامة تكلفه على مشقة. اه القاموس/ جشم/ (1406).
4- الأمّ بالفتح القصد. اه مختار الصحاح/ أمم/ (26).
5- ناه الشي ء ينوه ارتفع فهو نائه. اه الصحاح/ نوه/ (623).

و اعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته، و ينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، و تصويره في نفسك، و تقريره عندك.

إلّا أن هاهنا نكتة، إن أنت تأملتها تأمّل المتثبّت، و نظرت فيها نظر المتأنّي، رجوت أن يحسن ظنّك، و أن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، و هي أنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لو لا أنهم حين سمعوا القرآن، و حين تحدّوا إلى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قطّ مثله، و أنهم رازوا (1) أنفسهم فأحسّوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه لكان محلا أن يدعوا معارضته و قد تحدّوا إليه، و قرّعوا فيه، و طولبوا به، و أن يتعرّضوا لشبا الأسنّة (2) و يقتحموا موارد الموت.

فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبّرونا عنهم، عمّا ذا عجزوا؟ أ عن معان من دقة معانية و حسنها و صحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم: عن الألفاظ، فما ذا أعجزهم من اللّفظ، أم ما بهرهم منه؟.

فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، و خصائص صادفوها في سياق لفظه، و بدائع راعتهم من مبادئ آية (3) و مقاطعها، و مجاري ألفاظها و مواقعها، و في مضرب كل مثل، و مساق كل خبر، و صورة كل عظة و تنبيه، و إعلام و تذكير، و ترغيب و ترهيب، و مع كل حجّة و برهان، و صفة و تبيان.

و بهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، و عشرا عشرا، و آية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، و لفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى و أخلق، بل وجدوا اتساقا بهر العقول، و أعجز الجمهور، و نظاما و التئاما، و إتقانا و إحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم، و لو حكّ بيافوخه السماء، موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدّعي و تقول، و خذيت القروم (4) فلم تملك أن تصول.

نعم، فإذا كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل، فبنا أن ننظر: أيّ أشبه بالفتى في عقله و دينه، و أزيد له في علمه و يقينه، أ أن يقلّد في ذلك، و يحفظ متن الدليل و ظاهر لفظه، و لا يبحث عن تفسير المزايا و الخصائص ما هي؟ و من أين ).

ص: 36


1- راز الشي ء اختبره و امتحنه و جرّبه. انظر القاموس (659) مادة/ روز/.
2- أي حدّها و طرفها الذي يصيب و يقتل. و الشبا: حدّ كل شي ء. انظر القاموس. مادة/ شبا/ (1674).
3- الآي: مفردها الآية.
4- و هو الفحل أو ما لم يمسه حبل أي ترك عن الركوب و العمل. القاموس/ قرم/ (1481).

كثرت الكثرة العظيمة، و اتّسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق و طاقة البشر؟ و كيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة، و كلم معدودة معلومة، بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض، لطائف (1) لا يحصرها العدد، و لا ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كلّه، و يستقصي النظر في جميعه، و يتتبعه شيئا فشيئا، و يستقصيه بابا فبابا، حتى يعرف كلّا منه بشاهده و دليله، و يعلمه بتفسيره و تأويله، و يوثق بتصويره و تمثيله، و لا يكون كمن قيل فيه: [من الطويل

يقولون أقوالا و لا يعلمونا و لو قيل: هاتوا حقّقوا، لم يحققوا (2)

قد قطعت عذر المتهاون، و دللت على ما أضاع من حظّه، و هدايته لرشده، و صحّ أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور، و الوقوف عليها، و الإحاطة بها، و أنّ الجهة (3) التي منها يقف، و السبب الذي به يعرف، استقراء كلام العرب و تتبّع أشعارهم و النظر فيها. و إذ قد ثبت ذلك، فينبغي لنا أن نبتدئ في بيان ما أردنا بيانه، و نأخذ في شرحه و الكشف عنه.

و جملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه، و لفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة و علّة معقولة و أن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، و على صحة ما ادعيناه من ذلك دليل.

و هو باب من العلم إذا أنت فتحته اطّلعت منه على فوائد جليلة، و معان شريفة، و رأيت له أثرا في الدين عظيما و فائدة جسيمة، و وجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل و إصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلّق بالتأويل، و إنّه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، و تدافع عن مغزاك، و يربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهدي إليه، و تدلّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدلّ عليه (4) و أن تكون عالما (5) في ظاهر مقلّد، و مستبينا في صورة شاكّ و أن يسألك السائل عن حجّة يلقى بها الخصم في آية من كتاب اللّه تعالى أو غير ذلك، فلا ينصرف عنك بمقنع و أن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه، و تقول: «قد نظرت فرأيت فضلا و مزيّة، ».

ص: 37


1- فاعل: «تظهر».
2- البيت لأنس بن زنيم في ديوانه و نسبه البعض إلى أبي الأسود الدؤلي، و في لسان العرب (سرق) من أبيات قالها لحارثة بن بدر الغداني عند ولايته إمارة سرّق (موضع بالأهواز)، انظر الحيوان (3/ 116)، و أمالي الشريف (1/ 383- 385).
3- معطوفة على قوله: «و صحّ أن لا غنى ...».
4- أدلّ بعمله و بشجاعته مثلا، يدلّ إدلالا، فخر به و تبجّح، و تباهى. ا. ه اللسان/ دلل/ (11/ 248). و العرفان: المعرفة.
5- قوله: «و أن تكون عالما» معطوف على «و إنه ليؤمنك».

و صادفت لذلك أريحيّة، فانظر لتعرف كما عرفت، و راجع نفسك، و اسبر و ذق، لتجد مثل الذي وجدت»، فإن عرف فذاك، و إلا فبينكما التّناكر، تنسبه إلى سوء التأمّل، و ينسبك إلى فساد في التخيّل.

و إنه على الجملة بحث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه و لبّه، و يأخذ لك منه أناسي العيون و حبّات القلوب، و ما لا يدفع الفضل فيه دافع، و لا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر.

و ليس يتأتّى لي أن أعلمك من أوّل الأمر في ذلك آخره، و أن أسمّي لك الفصول التي في نيتي أن أحرّرها بمشيئة اللّه عزّ و جلّ، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك. فاعمل على أنّ هاهنا فصولا يجي ء بعضها في إثر بعض و هذا أوّلها.

فصل في تحقيق القول على «البلاغة» و «الفصاحة»، و «البيان» و «البراعة»،

و كلّ ما شاكل ذلك، ممّا يعبّر به عن فضل بعض القائلين على بعض، من حيث نطقوا و تكلّموا، و أخبروا السامعين عن الأغراض و المقاصد، و راموا أن يعلموهم ما في نفوسهم؛ و يكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم.

و من المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات و سائر ما يجري مجراها، مما يفرد فيه اللّفظ بالنعت و الصّفة، و ينسب فيه الفضل و المزيّة إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحسن الدّلالة و تمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرّجها في صورة هي أبهى و أزين و آنق و أعجب و أحقّ بأن تستولي على هوى النفس، و تنال الحظّ الأوفر من ميل القلوب، و أولى بأن تطلق لسان الحامد، و تطيل رغم الحاسد و لا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصحّ لتأديته، و تختار له اللفظ الذي هو أخصّ به، و أكشف عنه و أتمّ له، و أحرى بأن يكسبه نبلا، و يظهر فيه مزيّة.

و إذا كان هذا كذلك، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف،- و قبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا و أمرا و نهيا و استخبارا و تعجبا، و تؤدّي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة، و بناء لفظة على لفظة- هل (1) يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في

ص: 38


1- سياق الكلام كما يلي: ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل ... هل يتصور.

الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمّي به و حتى يتصوّر في الاسمين يوضعان لشي ء واحد، أن يكون هذا أحسن نبأ و أبين كشفا عن صورته من الآخر، فيكون «الليث» مثلا أدلّ على السبع المعلوم من «الأسد» و حتى أنّا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية و الفارسية، ساغ لنا أن نجعل لفظة «رجل» أدلّ على الآدميّ الذّكر من نظيره في الفارسية؟.

و هل يقع في وهم و إن جهد، أن تتفاضل الكلمتان المفردتان، من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف و النظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة، و تلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخفّ و امتزاجها أحسن، و مما يكدّ اللسان أبعد؟.

و هل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا و هو يعتبر مكانها من النظم، و حسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها، و فضل مؤانستها لأخواتها؟.

و هل قالوا: لفظة متمكنة، و مقبولة، و في خلافه: قلقة، و نابية، و مستكرهة، إلا و غرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه و تلك من جهة معناهما، و بالقلق و النّبوّ عن سوء التلاؤم، و أن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، و أنّ السابقة لم تصلح أن تكون لفقا (1) للتالية في مؤدّاها؟.

و هل تشكّ إذا فكرت في قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44]، فتجلّى لك منها الإعجاز، و بهرك الذي ترى و تسمع، أنك لم تجد (2) ما وجدت من المزيّة الظاهرة، و الفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، و أن لم يعرض لها الحسن و الشّرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، و الثالثة بالرابعة، و هكذا، إلى أن تستقر بها إلى آخرها، و أنّ الفضل تناتج ما بينها، و حصل من مجموعها؟.

إن شككت، فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها و أفردت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه و هي في مكانها من الآية؟ قل: «ابلعي»، ».

ص: 39


1- لفقت الثوب ألفقه لفقا و هو أن تضم الشّقّة إلى الأخرى فتخيطهما. و لفق الشقتين: ضم إحداهما إلى الأخرى. اللسان/ لفق/ (10/ 331).
2- أنك لم تجد: مفعول «تشك».

و اعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها و ما بعدها، و كذلك فاعتبر سائر ما يليها.

و كيف بالشك في ذلك، و معلوم أنّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء «بيا» دون «أيّ»، نحو «يا أيتها الأرض»، ثم إضافة «الماء» إلى «الكاف»، دون أن يقال: «ابلعي الماء»، ثم أن أتبع نداء الأرض و أمرها بما هو من شأنها، نداء السماء و أمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل:، «و غيض الماء»، فجاء الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنّه لم يغض إلّا بأمر آمر و قدرة قادر، ثم تأكيد ذلك و تقريره بقوله تعالى: وَ قُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، و هو: اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار «السفينة» قبل الذّكر، كما هو شرط الفخامة و الدّلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة «بقيل» في الفاتحة؟ أ فترى لشي ء من هذه الخصائص- التي تملؤك بالإعجاز روعة، و تحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها- تعلّقا (1) باللفظ من حيث هو صوت مسموع و حروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب؟.

فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا، أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة، و لا من حيث هي كلم مفردة، و أن الفضيلة و خلافها، في ملائمة معنى اللّفظة لمعنى التي تليها، و ما أشبه ذلك، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ.

و مما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك و تؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك و توحشك في موضع آخر، كلفظ «الأخدع» في بيت الحماسة:

[من الطويل ]

تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني و جعت من الإصغاء ليتا و أخدعا (2)

و بيت البحتري: [من الطويل ]).

ص: 40


1- سياق الكلام: أ فترى لشي ء من هذه ... تعلقا باللفظ.
2- البيت للصمّة بن عبد اللّه القشيري في لسان العرب (وجع)، و بلا نسبة في أساس البلاغة (لفت)، و في شرح حماسة أبي تمام (3/ 114)، و اللّيت بالكسر: صفحة العنق، و قيل: اللّيتان صفحتا العنق، و قيل: أدنى صفحتي العنق من الرأس، عليهما ينحدر القرطان. و الأخدع: شعبة من الوريد، و في الحديث: أنه احتجم على الأخدعين و الكاهل، و الأخدعان: عرقان في جانبي العنق خفيا و بطنا و الجمع أخادع. اللسان (ليت)، (خدع).

و إنّي و إن بلّغتني شرف الغنى و اعتقت من رقّ المطامع أخدعي (1)

فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام: [من المنسرح

يا دهر قوّم من أخدعيك، فقد أضججت هذا الأنام من خرقك (2)

فتجد لها من الثّقل على النفس، و من التنغيص و التكدير، أضعاف ما وجدت هناك من الرّوح و الخفّة، و من الإيناس و البهجة.

و من أعجب ذلك لفظة «الشّي ء»، فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع، و ضعيفة مستكرهة في موضع. و إن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ: [من الطويل

و من مالئ عينيه من شي ء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى (3)

و قول أبي حيّة: [من الطويل

إذا ما تقاضى المرء يوم و ليلة تقاضاها شي ء لا يملّ التّقاضيا (4)

فإنك تعرف حسنها و مكانها من القبول، ثم انظر إليها في بيت المتنبي: [من الطويل

لو الفلك الدّوّار أبغضت سعيه لعوّقه شيئ عن الدّوران (5)

فإنك تراها تقلّ و تضؤل، بحسب نبلها و حسنها فيما تقدّم و هذا باب واسع، فإنك تجد متى شئت الرّجلين قد استعملا كلما بأعيانها، ثم ترى هذا قد فرع السّماك (6)، و ترى ذاك قد لصق بالحضيض، فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، و إذا استحقت المزيّة و الشرف استحقّت ذلك في ذاتها و على انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، و لكانت إمّا أن تحسن أبدا، أو لا تحسن أبدا. ).

ص: 41


1- البيت للبحتري في ديوانه فانظره، و الأخدع: عرق في العنق.
2- البيت في ديوانه، و الخرق: نقيض الرّفق، و الخرق مصدره. اللسان (خرق).
3- البيت في ديوانه، و الكتاب (1/ 165)، و المقاصد النحوية (3/ 531).
4- في ديوانه المجموع، و هو بلا نسبة في لسان العرب (قضى)، و تاج العروس (قضى).
5- في ديوانه و هو من القصيدة التي قالها في مدح كافور سنة 348 ه.
6- فرع كلّ شي ء: أعلاه. و السماء كان نجمان نيّران أحدهما الرامح و الآخر الأعزل. ا. ه القاموس (1218).

و لم تر قولا يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبّر، و كيف يورد و يصدر، كهذا القول. بل إن أردت الحقّ، فإنه من جنس الشي ء يجري به الرجل لسانه و يطلقه، فإذا فتّش نفسه، وجدها تعلم بطلانه، و تنطوي على خلافه، ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد، و لا يكون له صورة في فؤاد.

فصل و مما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل، الفرق بين قولنا: «حروف منظومة»، و «كلم منظومة».

و ذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق، و ليس نظمها بمقتضى عن معنى (1)، و لا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرّى في نظمه لها ما تحرّاه. فلو أنّ واضع اللغة كان قد قال: «ربض» مكان «ضرب»، لما كان في ذلك ما يؤدّي إلى فساد.

و أمّا «نظم الكلم» فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني، و ترتّبها على حسب ترتّب المعاني في النفس. فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، و ليس هو «النّظم» الذي معناه ضمّ الشي ء إلى الشي ء كيف جاء و اتّفق. و لذلك كان عندهم نظيرا للنّسج و التأليف و الصّياغة و البناء و الوشي و التّحبير و ما أشبه ذلك، ممّا يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كلّ حيث وضع، علّة تقتضي كونه هناك، و حتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح.

و الفائدة في معرفة هذا الفرق: أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم، أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها و تلاقت معانيها، على الوجه الذي اقتضاه العقل. و كيف يتصوّر أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، و أنّه نظير الصياغة و التّحبير (2) و التّفويف (3) و النقش، و كل ما يقصد به التصوير، و بعد أن كنّا لا نشك

ص: 42


1- أي ليس واجبا لمعنى.
2- هو مأخوذ من التحبير و حسن الخط و المنطق و تحبير الخط و الشعر بتحسينه. اه اللسان/ حبر/ (4/ 157).
3- الفوف: ضرب من برود اليمن. و قال ابن الأعرابي: الفوف ثياب رقاق من ثياب اليمن موشاة و هو الفوف بضم الفاء و برد مفوف برد رقيق. اه اللسان/ فوف/ (9/ 274).

في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانبا؟ و أيّ مساغ للشكّ في أنّ الألفاظ لا تستحقّ من حيث هي ألفاظ، أن تنظم على وجه دون وجه؟.

و لو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ، التي هي لغات، دلالتها لما كان منها أحقّ بالتقديم من شي ء، و لا تصوّر أن يجب فيها ترتيب و نظم.

و لو حفّظت صبيّا شطر «كتاب العين» أو «الجمهرة»، من غير أن تفسّر له شيئا منه، و أخذته بأن يضبط صور الألفاظ و هيآتها، و يؤدّيها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور، لرأيته و لا يخطر له ببال أنّ من شأنه أن يؤخّر لفظا و يقدّم آخر، بل كان حاله حال من يرمي الحصى و يعدّ الجوز، اللهم إلّا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب.

و دليل آخر، و هو أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه، دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها، لكان ينبغي أن لا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسّان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا، و لا يعرف أحدهما في ذلك شيئا يجهله الآخر.

و أوضح من هذا كلّه، و هو أن هذا «النظم» الذي يتواصفه البلغاء، و تتفاضل مراتب البلاغة من أجله، صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة. و إذا كانت ممّا يستعان عليها بالفكرة، و يستخرج بالرّويّة، فينبغي أن ينظر في الفكر، بما ذا تلبّس؟

أ بالمعاني أم بالألفاظ؟ فأيّ شي ء وجدته الذي تلبّس به فكرك من بين المعاني و الألفاظ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك، و تقع فيه صياغتك و نظمك و تصويرك.

فمحال أن تتفكر في شي ء و أنت لا تصنع فيه شيئا، و إنما تصنع في غيره. لو جاز ذلك، لجاز أن يفكّر البنّاء في الغزل، ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجرّ، و هو من الإحالة المفرطة.

فإن قيل: «النظم» موجود في الألفاظ على كل حال، و لا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني، ما لم تنظم الألفاظ و لم ترتّبها على الوجه الخاصّ.

قيل: إن هذا هو الذي يعيد هذه الشّبهة جذعة (1) أبدا، و الذي يحلّها: أن تنظر أ تتصوّر أن تكون معتبرا مفكّرا في حال اللفظ مع اللفظ حتّى تضعه بجنبه أو قبله، و أن تقول: «هذه اللفظة إنّما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا» أم لا يعقل ).

ص: 43


1- الجذع محركة: قبل الثني و الجذع الشاب الحدث. القاموس/ جذع/ (915).

إلّا أن تقول: «صلحت هاهنا، لأن معناها كذا، و لدلالتها على كذا، و لأنّ معنى الكلام و الغرض فيه يوجب كذا، و لأنّ معنى ما قبلها يقتضي معناها؟».

فإن تصوّرت الأوّل، فقل ما شئت، و اعلم أنّ كل ما ذكرناه باطل و إن لم تتصور إلّا الثاني، فلا تخدعنّ نفسك بالأضاليل، و دع النظر إلى ظواهر الأمور، و اعلم أن ما ترى أنه لا بدّ منه من ترتّب الألفاظ و تواليها على النظم الخاص، ليس هو الذي طلبته بالفكر، و لكنه شي ء يقع بسبب الأوّل ضرورة، من حيث إنّ الألفاظ؛ إذ كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أوّلا في النفس، وجب للّفظ الدالّ عليه أن يكون مثله أوّلا في النطق.

فأمّا أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم و الترتيب، و أن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجي ء بالألفاظ على نسقها، فباطل من الظنّ، و وهم يتخيّل إلى من لا يوفي النظر حقّه. و كيف تكون مفكرا في نظم الألفاظ، و أنت لا تعقل لها أوصافا و أحوالا إذا عرفتها عرفت أن حقّها أن تنظم على وجه كذا؟.

و مما يلبّس على الناظر في هذا الموضع و يغلّطه، أنه يستبعد أن يقال:

«هذا كلام قد نظمت معانيه»، فالعرف كأنّه لم يجز بذلك، إلّا أنهم و إن كانوا لم يستعملوا «النظم» في المعاني، قد استعملوا فيها ما هو بمعناه و نظير له، و ذلك قولهم: «إنه يرتب المعاني في نفسه، و ينزّلها، و يبني بعضها على بعض»، كما يقولون: «يرتّب الفروع على الأصول، و يتبع المعنى المعنى، و يلحق النظير بالنظير».

و إذا كنت تعلم أنهم قد استعاروا النسج و الوشي و النّقش و الصّياغة لنفس ما استعاروا له «النظم»، و كان لا يشكّ في أن ذلك كلّه تشبيه و تمثيل يرجع إلى أمور و أوصاف تتعلّق بالمعاني دون الألفاظ، فمن حقّك أن تعلم أن سبيل «النظم» ذلك السبيل.

و اعلم أنّ من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل حدّا، و تجعل النّكت (1) التي ).

ص: 44


1- مفردها نكتة و هي الدقيقة التي تستخرج بدقة الفكر. و قال البيضاوي: هي طائفة من الكلام منمقة مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب/ الكليات لأبي البقاء الكفوي/ (4/ 362).

ذكرتها فيه على ذكر (1) منك أبدا، فإنها عمد (2) و أصول في هذا الباب، إذا أنت مكّنتها في نفسك، وجدت الشّبه تنزاح عنك، و الشكوك تنتفي عن قلبك، و لا سيّما ما ذكرت من أنه لا يتصوّر أن تعرف للّفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، و لا أن تتوخّى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا و نظما، و أنك تتوخّى الترتيب في المعاني و تعمل الفكر هناك، فإذا تمّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ و قفوت بها آثارها، و أنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتّب لك بحكم أنّها خدم للمعاني، و تابعة لها، و لا حقة بها، و أن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالّة عليها في النطق.

فصل منه في أن النظم متوقف على التركيب النحوي

و اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم و لا ترتيب، حتى يعلّق بعضها ببعض، و يبنى بعضها على بعض، و تجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل و لا يخفى على أحد من الناس.

و إذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التّعليق فيها و البناء، و جعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه و ما محصوله؟ و إذا نظرنا في ذلك، علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجي ء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك (3) أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجي ء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف (4)، و على هذا القياس.

و إذا كان لا يكون في الكلم نظم و لا ترتيب إلّا بأن يصنع بها هذا الصنيع و نحوه، و كان ذلك كلّه مما لا يرجع منه إلى اللفظ شي ء، و ممّا لا يتصوّر أن يكون

ص: 45


1- هو الحفظ للشي ء و تذكره. و الذكر: الشي ء يجري على لسانك (التذكر). اللسان/ ذكر/ (4/ 308).
2- جمع عمود. اللسان/ عمد/ (3/ 304).
3- المقصود للنفي و الاستفهام و التمني.
4- أي: أدوات الشرط.

فيه و من صفته، بان بذلك أنّ الأمر على ما قلناه، من أن اللّفظ تبع للمعنى في النظم، و أنّ الكلم تترتّب في النطق بسبب ترتّب معانيها في النفس، و أنها لو خلت من معانيها حتى تتجرّد أصواتا و أصداء حروف، لما وقع في ضمير و لا هجس في خاطر، أن يجب فيها ترتيب و نظم، و أن يجعل لها أمكنة و منازل، و أن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك. و اللّه الموفّق للصواب

فصل: منه في شبهة الذين حصروا الفصاحة في صفة اللفظ

و هذه شبهة أخرى ضعيفة، عسى أن يتعلّق بها متعلّق ممن يقدم على القول من غير رويّة: و هي أن يدّعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظيّ، و تعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان، كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر: [من السريع

و قبر حرب بمكان قفر و ليس قرب قبر حرب قبر (1)

و قول ابن يسير (2): [من الخفيف

لا أذيل الآمال بعدك إنّي بعدها بالآمال جدّ بخيل

كم لها موقفا بباب صديق رجعت من نداه بالتعطيل

لم يضرها و الحمد للّه، شي ء و انثنت نحو عزف نفس ذهول (3)

قال الجاحظ: «فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت، فإنّك ستجد بعض ألفاظه يتبّرأ من بعض» و يزعم أن الكلام في ذلك على طبقات، فمنه المتناهي في الثّقل المفرط فيه، كالذي مضى، و منه ما هو أخفّ منه كقول أبي تمام: [من الطويل

كريم متى أمدحه أمدحه و الورى جميعا، و مهما لمته لمته «وحدي» (4)

ص: 46


1- لا يعرف قائله، و قيل: إنه من أشعار الجن، و هو من الأبيات الدائرة في كتب البلاغة انظر البيان و التبيين (1/ 65)، و معاهد التنصيص: (1/ 34) ..
2- هو محمد بن يسير الرياشي. شاعر مقلّ. البيان و التبيين (1/ 65).
3- في البيان و التبيين (1/ 65- 66)، «عزف» مصدر «و رجل عزوف عن اللهو إذا لم يشتهه»، و عزفت نفسي عن الشي ء: تركته بعد إعجابها. الذهول: من الذّهل و هو تركك الشي ء تناساه على عمد. اللسان (عزف) (ذهل).
4- البيت في ديوانه و أورده الفخر الرازي في نهاية الإيجاز (ص 123)، و عزاه لأبي تمام و جاء البيت برواية: كريم متى ......... جميعا و مهما لمته لمته وحدي. و في الإيضاح (ص 6)، و التبيان للطيبي (2/ 496)، بتحقيقنا.

أي لا أمدحه بشي ء إلّا صدّقني الناس فيه.

و منه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان، إلّا أنّه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه و يشهّر أمره في ذلك و يحفظ عليه.

و يزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه (1)، كان الفصيح المشاد (2) به و المشار إليه، و أنّ الصّفاء أيضا يكون على مراتب يعلو بعضها بعضا، و أنّ له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز.

و الذي يبطل هذه الشبهة، إن ذهب إليها ذاهب، أنّا إن قصرنا صفة «الفصاحة» على كون اللفظ كذلك، و جعلناه المراد بها، لزمنا أن نخرج «الفصاحة» من حيّز «البلاغة»، و من أن تكون نظيرة لها، و إذا فعلنا ذلك، لم نخل من أحد أمرين: إمّا أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين و لا نعرّج على غيره، و إمّا أن نجعله أحد ما نفاضل به، و وجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام.

فإن أخذنا بالأوّل، لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به و فيه، و في ذلك ما لا يخفى من الشّناعة، لأنه يؤدّي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة- من وضوح الدّلالة، و صواب الإشارة، و تصحيح الأقسام، و حسن الترتيب و النظام، و الإبداع في طريقة التشبيه و التمثيل، و الإجمال ثم التفصيل، و وضع الفصل و الوصل موضعهما، و توفية الحذف و التأكيد و التقديم و التأخير شروطهما- مدخل فيما له كان القرآن معجزا، حتّى يدّعى أنه لم يكن معجزا من حيث هو بليغ، و لا من حيث هو قول فصل، و كلام شريف النظم بديع التأليف، و ذلك أنه لا تعلّق لشي ء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف.

و إن أخذنا بالثاني، و هو أن يكون تلاؤم الحروف وجها من وجوه الفضيلة، و داخلا في عداد ما يفاضل به بين كلام و كلام على الجملة، لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا، لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى «الفصاحة» فنخرجها من حيّز «البلاغة و البيان»، و أن تكون نظيرة لهما، و في عداد ما هو شبههما من البراعة و الجزالة و أشباه ذلك، مما ينبئ عن شرف النظم، و عن المزايا التي شرحت لك أمرها، و أعلمتك جنسها، أو نجعلها اسما مشتركا يقع تارة لما تقع له تلك، و أخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ ممّا يثقل على اللسان. و ليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده. ).

ص: 47


1- الخلط. اه القاموس/ شوب/ (132).
2- يقال: أشاد فلان بذكر فلان في الخير و الشر إذا نهره و رفعه. اللسان/ شود/ (3/ 243).

و إن تعسّف متعسّف في تلاؤم الحروف، فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز، و أخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزا، كان الوجه أن يقال له: إنّه يلزمك، على قياس قولك، أن تجوّز أن يكون هاهنا نظم للألفاظ و ترتيب، لا على نسق المعاني، و لا على وجه يقصد به الفائدة، ثم يكون مع ذلك معجزا. و كفى به فسادا.

فإن قال قائل: إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون اللفظ مع ذلك دالّا، و ذاك أنه إنّما تصعب مراعاة التعادل بين الحروف، إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني، كما أنه إنّما تصعب مراعاة السجع و الوزن، و يصعب كذلك التجنيس و الترصيع، إذا روعي معه المعنى.

قيل له: فأنت الآن، إن عقلت ما تقول، قد خرجت من مسألتك، و تركت أن يستحقّ اللّفظ المزيّة من حيث هو لفظ، و جئت تطلب لصعوبة النظم فيما بين المعاني طريقا، و تضع له علّة غير ما يعرفه الناس، و تدّعي أنّ ترتيب المعاني سهل، و أن تفاضل الناس في ذلك إلى حدّ، و أن الفضيلة تزداد و تقوى إذا توخّي في حروف الألفاظ التعادل و التلاؤم. و هذا منك و هم.

و ذلك أنا لا نعلم لتعادل الحروف معنى سوى أن تسلم من نحو ما تجده في بيت أبي تمام:

كريم متى أمدحه و الورى (1) و بيت ابن يسير:

و انثنت نحو عزف نفس ذهول (2) و ليس اللفظ السليم من ذلك بمعوز، و لا بعزيز الوجود، و لا بالشي ء لا يستطيعه إلا الشاعر المفلق و الخطيب البليغ، فيستقيم قياسه على السجع و التجنيس و نحو ذلك، مما إذا رامه المتكلم صعب عليه تصحيح المعاني و تأدية الأغراض.

فقولنا: «أطال اللّه بقاءك، و أدام عزّك، و أتمّ نعمته عليك، و زاد في إحسانه عندك»، لفظ سليم مما يكدّ اللسان، و ليس في حروفه استكراه، و هكذا حال كلام الناس في كتبهم و محاوراتهم، لا تكاد تجد فيه هذا الاستكراه، لأنه إنما هو شي ء يعرض للشاعر إذا تكلف و تعمّل، فأمّا المرسل نفسه على سجيّتها، فلا يعرض له ذلك.

هذا، و المتعلّل بمثل ما ذكرت- من أنه إنما يكون تلاؤم الحروف معجزا بعد

ص: 48


1- سبق تخريجه.
2- سبق تخريجه.

أن يكون اللفظ دالّا، لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني، إذا تأملت- يذهب (1) إلى شي ء ظريف، و هو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، و ذلك محال، لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك، و هو أنه يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ، فصعوبة ما صعب من السّجع، هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ، و ذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجّعة و بين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها، فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب، أو دخلت في ضرب من المجاز، أو أخذت في نوع من الاتّساع، و بعد أن تلطّفت على الجملة ضربا من التلطّف.

و كيف يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، و أنت إن أردت الحقّ لا تطلب اللفظ بحال، و إنما تطلب المعنى، و إذا ظفرت بالمعنى، فاللفظ معك و إزاء ناظرك؟ و إنما كان يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى، أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصّلته، احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة. و ذلك محال.

هذا، و إذا توهّم متوهّم أنّا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ، و أن من شأن الطلب أن يكون هناك، فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه، هو ترتيب الألفاظ في النّطق لا محالة. و إذا كان كذلك، فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر، هل يتصوّر أن نرتّب معاني أسماء و أفعال و حروف في النفس، ثم يخفى علينا مواقعها في النطق، حتى نحتاج في ذلك إلى فكر و روية؟ و ذلك ما لا يشكّ فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه.

و إذا بطل أن يكون ترتيب اللفظ مطلوبا بحال، و لم يكن المطلوب أبدا إلّا ترتيب المعاني، و كان معوّل هذا المخالف على ذلك، فقد اضمحلّ كلامه، و بان أنه ليس لمن حام في حديث المزية و الإعجاز حول «اللفظ»، و رام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة، إلا التّسكّع في الحيرة، و الخروج عن فاسد من القول إلى مثله. و اللّه الموفق للصواب.

فإن قيل: إذا كان اللفظ بمعزل عن المزيّة التي تنازعنا فيها، و كانت مقصورة على المعنى، فكيف كانت «الفصاحة» من صفات اللّفظ البتة؟ كيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال: «معنى فصيح، و كلام فصيح المعنى»؟.

قيل: إنّما اختصّت الفصاحة باللّفظ و كانت من صفته، من حيث كانت عبارة عن كون اللّفظ على وصف إذا كان عليه، دلّ على المزيّة التي نحن في حديثها، و إذا (1) سياق الجملة كما يلي: و المتعلل بما ذكرت ... يذهب ...

ص: 49

كانت لكون اللّفظ دالّا، استحال أن يوصف بها المعنى، كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه «دالّ» مثلا، فاعرفه.

فإن قيل: فما ذا دعا القدماء إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى و اللفظ فقالوا:

«معنى لطيف، و لفظ شريف»، و فخّموا شأن اللّفظ و عظّموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم، و حتى قال أهل النّظر: «إنّ المعاني لا تتزايد، و إنما تتزايد الألفاظ»، فأطلقوا كما ترى كلاما يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق (1) اللفظ؟.

قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبيّن بالألفاظ، و كان لا سبيل للمرتّب لها و الجامع شملها، إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلّا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف «الترتيب»، ثم أتبعوا ذلك من الوصف و النّعت ما أبان الغرض و كشف عن المراد، كقولهم: «لفظ متمكّن»، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشي ء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه.

«و لفظ قلق ناب»، يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطّمأنينة فيه إلى سائر ما يجي ء في صفة اللفظ، مما يعلم أنه مستعار له من معناه، و أنهم نحلوه إيّاه، بسبب مضمونه و مؤدّاه.

هذا، و من تعلّق بهذا و شبهه و اعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنس بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا و ثمّ. و من كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوت عنه، و تركه و ما يختاره لنفسه من سوء النظر و قلّة التدبّر.

قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزيّة، و أنها من حيز المعاني دون الألفاظ، و أنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، و تستعين بفكرك، و تعمل رويّتك، و تراجع عقلك، و تستنجد في الجملة فهمك، و بلغ القول في ذلك أقصاه، و انتهى إلى مداه، و ينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزيّة، و بيان الجهات التي منها تعرض. و إنه لمرام صعب و مطلب عسير، و لو لا أنه على ذلك، لما ).

ص: 50


1- الوسط: تقول سقط عن حقّ رأسه أي وسطه. اه القاموس/ حقق/ (1129).

وجدت الناس بين منكر له من أصله، و متحيّل (1) له على غير وجهه، و معتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة، و لا يملك فيه إلّا الإشارة، و أنّ طريق التعليم إليه مسدود، و باب التفهيم دونه مغلق، و أنّ معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير، و أن تدين للتبيين و التصوير، و أن ترى سافرة لا نقاب عليها، و بادية (2) لا حجاب دونها، و أن ليس للواصف لها إلا أن يلوّح و يشير، أو يضرب مثلا ينبئ عن حسن قد عرفه على الجملة، و فضيلة قد أحسّها، من غير أن يتبع ذلك بيانا، و يقيم عليه برهانا، و يذكر له علّة، و يورد فيه حجّة. و أنا أنزّل لك القول في ذلك و أدرّجه شيئا فشيئا، و أستعين اللّه تعالى عليه، و أسأله التوفيق.

فصل في اللفظ يطلق و المراد به غير ظاهره.

اشارة

اعلم أن لهذا الضرب اتّساعا و تفنّنا لا إلى غاية، إلّا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعمّ على شيئين: «الكناية» و «المجاز».

و المراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، و لكن يجي ء إلى معنى هو تاليه و ردفه في الوجود، فيومئ به إليه، و يجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: «هو طويل النجاد»، يريدون طويل القامة، «و كثير رماد القدر»، يعنون كثير القرى، و في المرأة: «نؤوم الضّحى»، و المراد أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله، كما ترى، معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، و لكنهم توصّلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، و أن يكون إذا كان. أ فلا ترى أن القامة إذ طالت طال النّجاد؟

و إذا كثر القرى كثر رماد القدر؟ و إذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى؟

و أما «المجاز»، فقد عوّل الناس في حدّه على حديث النّقل، و أنّ كل لفظ نقل عن موضوعه فهو «مجاز»، الكلام في ذلك يطول، و قد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع آخر، و أنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه و أظهر. و الاسم و الشهرة فيه لشيئين: «الاستعارة» و «التمثيل». و إنّما يكون «التمثيل» مجازا إذا جاء على حدّ «الاستعارة».

فالاستعارة: أن تريد تشبيه الشي ء بالشي ء، فتدع أن تفصح بالتشبيه و تظهره،

ص: 51

و تجي ء إلى اسم المشبّه به فتعيره المشبّه و تجريه عليه. تريد أن تقول: رأيت رجلا هو كالأسد في شجاعته و قوة بطشه سواء»، فتدع ذلك و تقول: «رأيت أسدا».

و ضرب آخر من «الاستعارة»، و هو ما كان نحو قوله: [من الكامل إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (1) هذا الضرب، و إن كان الناس يضمّونه إلى الأوّل حيث يذكرون الاستعارة، فليسا سواء. و ذاك أنّك في الأوّل تجعل الشي ء الشي ء ليس به، و في الثاني للشي ء الشي ء ليس له.

تفسير هذا: أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، فقد ادّعيت في إنسان أنه أسد، و جعلته إياه، و لا يكون الإنسان أسدا. و إذا قلت: «إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها»، فقد ادعيت أنّ للشّمال يدا، و معلوم أنه لا يكون للريح.

و هاهنا أصل ضبطه و هو أنّ جعل المشبّه المشبّه به على ضربين:

أحدهما: أن تنزله منزلة الشي ء تذكره بأمر قد ثبت له، فأنت لا تحتاج إلى أن تعمل في إثباته و تزجيته، و ذلك حيث تسقط ذكر المشبه من البين، و لا تذكره بوجه من الوجوه، كقولك «رأيت أسدا».

و الثاني: أن تجعل ذلك كالأمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته و تزجيته، و ذلك حيث تجري اسم المشبّه به خبرا على المشبّه، فتقول: «زيد أسد، و زيد هو الأسد»، أو تجي ء به على وجه يرجع إلى هذا كقولك: «إن لقيته لقيت به أسدا، و إن لقيته ليلقينّك منه الأسد»، فأنت في هذا كله تعمل في إثبات كونه «أسدا» أو «الأسد»، و تضع كلامك له. و أمّا في الأوّل فتخرجه مخرج ما لا يحتاج فيه إلى إثبات و تقرير. و القياس يقتضي أن يقال في هذا الضرب أعني: ما أنت تعمل في إثباته و تزجيته: أنه تشبيه على حدّ المبالغة، و يقتصر على هذا القدر، و لا يسمى «استعارة».

و أمّا «التمثيل» الذي يكون مجازا لمجيئك به على حدّ الاستعارة، فمثاله قولك للرجل يتردّد في الشي ء بين فعله و تركه: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى» (2).

فالأصل في هذا: أراك في تردّدك كمن يقدّم رجلا و يؤخّر أخرى، ثم اختصر الكلام، ).

ص: 52


1- البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه من معلقته، و صدره: «و غداة ريح قد وزعت و قرة» و انظر (شرح القصائد العشر للتبريزي).
2- قول قاله يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد عند ما تلكأ في البيعة له في رسالة أرسلها إليه و الخبر مفصل في البيان و التبيين (1/ 301).

و جعل كأنه يقدم الرجل و يؤخّرها على الحقيقة، كما كان الأصل في قولك: «رأيت أسدا»، رأيت رجلا كالأسد، ثم جعل كأنّه الأسد على الحقيقة.

و كذلك تقول للرجل يعمل في غير معمل: «أراك تنفخ في غير فحم، و تخطّ على الماء»، فتجعله في ظاهر الأمر كأنّه ينفخ و يخط، و المعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك. و تقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشي ء قد كان يأباه و يمتنع منه: «ما زال يفتل في الذّروة و الغاب حتى بلغ منه ما أراد»، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة و غارب، و المعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجي ء إلى البعير الصّعب فيحكّه و يفتل الشّعر في ذروته و غاربه، حتى يسكن و يستأنس، و هو في المعنى نظير قولهم: «فلان يقرّد فلانا»، يعنى به أنه يتلطّف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذّه ذلك، فيسكن و يثبت في مكان حتى يتمكن من أخذه. و هكذا كلّ كلام رأيتهم قد نحو فيه نحو التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، و أخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلا.

[فصل: في ترجيح الكناية و الاستعارة و التمثيل على الحقيقة]

قد أجمع الجميع على أن «الكناية» أبلغ من الإفصاح، و التعريض أوقع من التصريح، و أنّ للاستعارة مزية و فضلا، و أنّ المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة، إلّا أن ذلك، و إن كان معلوما على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته، و حتى يغلغل الفكر إلى زواياه، و حتى لا يبقى عليه موضع شبهة و مكان مسألة. فنحن و إن كنا نعلم أنك إذا قلت: «هو طويل النجاد، و هو جمّ الرماد»، كان أبهى لمعناك، و أنبل من أن تدع الكناية و تصرح بالذي تريد. و كذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان لكلامك مزيّة لا تكون إذا قلت: رأيت رجلا هو و الأسد سواء، في معنى الشجاعة و في قوة القلب و شدة البطش و أشباه ذلك. و إذا قلت:

«بلغني أنك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، كان أوقع من صريحه (1) الذي هو قولك:

بلغني أنك تتردد في أمرك، و أنك في ذلك كمن يقول: أخرج و لا أخرج، فتقدّم رجلا و تؤخّر أخرى. و نقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون، إذا عرفنا السبب في ذلك و العلّة، و لم كان كذلك، و هيأنا له عبارة تفهم عنّا من نريد إفهامه. و هذا هو قول في ذلك:

ص: 53


1- كان أوقع من صريحه: جملة لجواب الشرط و هو قوله «و إن كنا نعلم».

اعلم أنّ سبيلك أوّلا أن تعلم أن ليست المزيّة- التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، و المبالغة التي تدّعي لها- في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره، و لكنها في طريق إثباته لها و تقريره إياها.

تفسير هذا: أن ليس المعنى إذا قلنا: «إن الكناية أبلغ من التصريح»، أنّك لمّا كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى أنك زدت في إثباته، فجعلته أبلغ و آكد و أشدّ. فليست المزيّة في قولهم: «جمّ الرماد»، أنه دلّ على قرى أكثر، بل أنّك أثبتّ له القرى الكثير من وجه هو أبلغ، و أوجبته إيجابا هو أشدّ، و ادّعيته دعوى أنت بها أنطق، و بصحّتها أوثق.

و كذلك ليست المزية التي تراها لقولك: «رأيت أسدا»، على قولك: رأيت رجلا لا يتميّز عن الأسد في شجاعته و جرأته أنك قد أفدت بالأوّل زيادة في مساواته الأسد، بل أن أفدت (1) تأكيدا و تشديدا و قوة في إثباتك له هذه المساواة، و في تقريرك لها. فليس تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى و حقيقته، بل في إيجابه و الحكم به.

و هكذا قياس «التّمثيل»، ترى المزيّة أبدا في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه. فإذا سمعتهم يقولون: إنّ من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلا و فضلا، توجب لها شرفا، و أن تفخّمها في نفوس السامعين، و ترفع أقدارها عند المخاطبين، فإنهم لا يريدون الشجاعة و القرى و أشباه ذلك من معاني الكلم المفردة، و إنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له و يخبر بها عنه.

هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبدا، و أن يعلم أن ليس لنا- إذا نحن تكلمنا في البلاغة و الفصاحة- مع معاني الكلم (2) المفردة شغل، و لا هي منا بسبيل، و إنّما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف و التركيب. و إذ قد عرفت مكان هذه المزيّة و المبالغة التي لا تزال تسمع بها، و أنها في الإثبات دون المثبت، فإنّ لها في كل واحد من هذه الأجناس سببا و علة.

أما «الكناية»، فإنّ السبب في أن كان للإثبات بها مزيّة لا تكون للتصريح، أنّ كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه، أنّ إثبات الصفة بإثبات دليلها، و إيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد و أبلغ في الدّعوى من أن تجي ء إليها فتثبتها هكذا ساذجا ».

ص: 54


1- المعنى: «أن تعلم أن ليست المزية ... في أنفس المعاني».
2- المعنى: «أن ليس لنا ... مع معاني الكلم».

غفلا. و ذلك أنك لا تدّعي شاهد الصفة و دليلها إلّا و الأمر ظاهر معروف، و بحيث لا يشكّ فيه، و لا يظنّ بالمخبر التجوّز و الغلط.

و أمّا «الاستعارة»، فسبب ما ترى لها من المزيّة و الفخامة، أنك إذا قلت:

«رأيت أسدا»، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة، حتى جعلتها كالشي ء الذي يجب له الثّبوت و الحصول، و كالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. و ذلك أنه إذا كان أسدا، فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة، و كالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها. و إذا صرّحت بالتشبيه فقلت: «رأيت رجلا كالأسد»، و كنت قد أثبتها إثبات الشي ء يترجّح بين أن يكون و بين أن لا يكون، و لم يكن من حديث الوجوب في شي ء.

و حكم «التمثيل»، حكم «الاستعارة» سواء، فإنك إذا قلت: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحيّر و التردد، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر. فتقول: قد جعلت تتردّد في أمرك، فأنت كمن يقول: أخرج و لا أخرج، فيقدّم رجلا و يؤخّر أخرى.

[فصل: في تفاوت الكناية و الاستعارة و التمثيل

اعلم أنّ من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، و أن تتفاوت التفاوت الشديد. أ فلا ترى أنك تجد في الاستعارة العاميّ المبتذل، كقولنا: «رأيت أسدا، و وردت بحرا، و لقيت بدرا». و الخاصّيّ النادر الذي لا تجده إلّا في كلام الفحول، و لا يقوى عليه إلّا أفراد الرجال، كقوله: [من الطويل و سالت بأعناق المطيّ الأباطح (1) أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة، و كانت سرعة في لين و سلاسة، حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.

و مثل هذه الاستعارة في الحسن و اللّطف و علوّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر: [من البسيط]

ص: 55


1- البيت لكثير عزة في ديوانه و صدره: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا و في زهر الآداب (ص 349)، و بلا نسبة في اللسان (طرف)، و في الإيضاح (264)، و عروس الأفراح كلاهما بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، و أساس البلاغة (سيل)، و تاج العروس (طرف) و معجم البلدان (منى). و الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. اللسان (بطح).

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا أنصاره، بوجوه كالدّنانير (1)

أراد أنّه مطاع في الحيّ، و أنهم يسرعون إلى نصرته، و أنه لا يدعوهم لحرب أو نازل خطب، إلا أتوه و كثروا عليه، و ازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجي ء من هاهنا و هاهنا، و تنصبّ من هذا المسيل و ذلك، حتى يغصّ به الوادي و يطفح منها.

و من بديع الاستعارة و نادرها، إلا أنّ جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له، و أنّه مؤدّب، و أنه إذا نزل عنه و ألقى عنانه في قربوس سرجه، وقف مكانه إلى أن يعود إليه: [من الكامل

عوّدته فيما أزور حبائبي إهماله، و كذاك كلّ مخاطر

و إذا اختبى قربوسه بعنانه علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر (2)

فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه، و في أن استدرك أنّ هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج، كالهيئة في موضع الثّوب من ركبة المحتبي.

و ليست الغرابة في قوله: [من الطويل و سالت بأعناق المطيّ الأباطح (3) على هذه الجملة (4)، و ذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطيّ في سرعة سيرها و سهولته كالماء يجري في الأبطح، فإنّ هذا شبه معروف ظاهر، و لكن الدّقة و اللطف في خصوصيّة أفادها، بأن جعل «سال» فعلا للأباطح، ثم عدّاه بالباء، بأن أدخل الأعناق في البين،: فقال «بأعناق المطيّ»، و لم يقل: «بالمطيّ»، و لو قال: «سالت المطيّ في الأباطح»، لم يكن شيئا.

و كذلك الغرابة في البيت الآخر، ليس في مطلق معنى «سال»، و لكن في تعديته

ص: 56


1- هو لابن المعتز في الإيضاح (265)، و ينسب أيضا إلى محرز بن المكعبر، ولد حاجة بن عبد قيس التيمي، و هو بلا نسبة في أساس البلاغة (سهل)، و قيل: لسبيع بن الخطيم التيمي، و انظر المؤتلف و المختلف للآمدي (112).
2- البيتان ليزيد بن مسلمة، و الثاني منهما في عروس الأفراح، و الإيضاح (264)، و القربوس: حنو السّرج، و جمعه: قرابيس، و الشكيم و الشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. اه القاموس/ شكم/ (1455).
3- سبق تخريجه.
4- يعني على هذا الوجه و المعنى.

بعلى و الباء، و بأن جعله فعلا لقوله «شعاب الحيّ»، و لو لا هذه الأمور كلّها لم يكن هذا الحسن. و هذا موضع يدقّ الكلام فيه.

و هذه أشياء من هذا الفنّ: [من البسيط]

اليوم يومان مذ غيّبت عن بصري، نفسي فداؤك، ما ذنبي فأعتذر

أمسي و أصبح لا ألقاك، وا حزنا، لقد تأنّق في مكروهي القدر

سوار بن المضرّب، و هو لطيف جدّا: [من الوافر]

بعرض تنوفة للرّيح فيها نسيم لا يروع التّرب وان (1)

بعض الأعراب: [من الكامل

و لربّ خصم جاهدين ذوي شذا تفذي صدورهم بهتر هاتر (2)

لدّ ظأرتهم على ما ساءهم و خسأت باطلهم بحقّ ظاهر (3)

المقصود لفظ: «خسأت».

ابن المعتز: [من الرجز]

حتّى إذا ما عرف الصّيد الضّار و أذن الصّبح لنا في الإبصار (4)

المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئا لمّا كان تعذّر الإبصار منعا من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا من الصّبح.

و له: [من المجزوء الموافر]

بخيل قد بليت به يكدّ الوعد بالحجج (5)

ص: 57


1- البيت من قصيدة له في الأصمعيات رقم (91)، و جاء برواية لفظها: بكل تنوفة للريح فيها حفيف لا يروع الترب وان في الإيضاح (264)، و في لسان العرب لجحدر اليماني (ونى)، و تاج العروس (ونى).
2- البيت لثعلبة بن صعير المازني في لسان العرب (خصم) برواية: و لرب خصم قد شهدت ألدّة تغلي ......... هاتر و هو في تاج العروس (خصم). و قول هتر: كذب، و الهتر: بالكسر: السقط من الكلام و الخطأ فيه. و يقال: هتر هاتر و هو توكيد له.
3- انظر السابق في المفضليات رقم (24)، و لدّه: خصمه فهو لادّ و لدود، و الخصم الشحيح و الجمع لدّ و لداد. انظر القاموس المحيط (لدد). و ظأرتهم: عطفتهم على الصلح، الجوهري: في المثل: الطعن يظئره: أي يعطفه على الصلح و الظئار: أن تعطف الناقة على ولدها. اللسان (ظأر).
4- في الإيضاح. و انصار أي انضم و انجمع يصف بازي الصيد. و جاءت كلمة «انصار» في نسخة «الضار» يعني «الضاري» و هو الكلب.
5- البيت لابن المعتز في ديوانه و روايته: بخيل قد سقيت به يكدّ الوعد باللّجج و اللجج: التمادي في العناد.

و له: [من الطويل

يناجيني الإخلاف من تحت مطله فتختصم الآمال و اليأس في صدري (1)

و ممّا هو في غاية الحسن، و هو من الفنّ الأول، قول الشاعر أنشده الجاحظ:

[من الطويل

لقد كنت في قوم عليك أشحّة بنفسك، إلّا أنّ ما طاح طائح

يودّون لو خاطوا عليك جلودهم، و لا تدفع الموت النّفوس الشّحائح (2)

قال: و إليه ذهب بشار في قوله: [من الرجز]

و صاحب كالدّمّل الممدّ حملته في رقعة من جلدي (3)

و من سرّ هذا الباب، أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي. مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» في قول أبي تمام: [من البسيط]

لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته بالقول ما لم يكن جسرا له العمل (4)

و قوله: [من البسيط]

بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها تنال إلّا على جسر من التّعب (5)

فترى لها في الثاني حسنا لا تراه في الأول، ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرّقيّ:

[من البسيط] ).

ص: 58


1- البيت في ديوانه برواية: تجاذبني الأطراف بالوصل و القلى فتختصم الآمال و اليأس في الصدر و القلى: البغض.
2- البيت الثاني منهما للنطاح و هو في تاج العروس برواية: «بودّي» بدلا من «يودّون»، انظر التاج (ودد). و البيتان في البيان و التبيين (1/ 50)، و قال: «ذهب إلى قول الأغر الشاعر» و أنشد البيتين. و طاح: هلك و سقط، و الطائح: الهالك المشرف على الهلاك. اللسان (طوح).
3- في ديوانه، و في البيان (1/ 50). و الدّمّل: واحد دماميل القروح، و الممدّ: الجرح فيه مدّة، و أمدّ الجرح يمدّ إمدادا: صارت فيه مدة. اللسان (دمل)، (مدد).
4- في ديوانه، و روايته: «أن يجتاب غمرته» و يروى «و يجتاز غمرته» و جاب الشي ء جوبا و اجتابه: خرقه، و رجل جوّاب: معتاد لذلك إذا كان قطاعا للبلاد سيارا فيها. اللسان (جوب). و اللّجة من لجّ يلجّ، و لجّة البحر: حيث لا يدرك قعره. ولج الوادي: جانبه، ولج البحر: عرضه، قيل: ولج البحر: الماء الكثير الذي لا يرى طرفاه، و اللّجّ: السيف تشبيها بلجّ البحر.
5- في ديوانه برواية: بالراحة الكبرى» و الراحة و الرّويحة بمعنى واحد. قيل: قعدنا في الظل نلتمس الراحة، و الراحة: الكف و جمعها «راح»، انظر اللسان (روح).

قولي نعم، و نعم إن قلت واجبة قالت: عسى و عسى جسر إلى نعم

فترى لها لطفا و خلابة (1) و حسنا ليس الفضل فيه بقليل.

و مما هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى الشاعر قد جمع بين عدّة استعارات، قصدا إلى أن يلحق الشكل بالشكل، و أن يتمّ المعنى و الشّبه فيما يريد، مثاله قوله امرئ القيس: [من الطويل

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل (2)

لما جعل للّيل صلبا قد تمطّى به، ثنّى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصّلب، و ثلّث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له جملة أركان الشّخص، و راعى ما يراه الناظر من سواده، إذا نظر قدّامه، و إذا نظر إلى خلفه، و إذا رفع البصر و مدّه في عرض الجوّ.

و اعلم أن هاهنا أسرارا و دقائق، لا يمكن بيانها إلّا بعد أن تقدّم جملة من القول في «النظم» و في تفسيره و المراد منه، و أيّ شي ء هو؟ و ما محصوله و محصول الفضيلة فيه؟ فينبغي لنا أن نأخذ في ذكره، و بيان أمره، و بيان المزيّة التي تدّعى له من أين تأتيه؟ و كيف تعرض فيه؟ و ما أسباب ذلك و علله؟ و ما الموجب له؟

و قد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن «النظم» و تفخيم قدره، و التنويه بذكره، و إجماعهم أن لا فضل مع عدمه، و لا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، و لو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، و بتّهم (3) الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، و لا قوام إلّا به، و أنه القطب الذي عليه المدار، و العمود الذي به الاستقلال. و ما كان بهذا المحلّ من الشّرف، و في هذه المنزلة من الفضل، و موضوعا هذا الموضع من المزيّة، و بالغا هذا المبلغ من الفضيلة، كان حري بأن توقظ له الهمم، و توكّل به النفوس، و تحرّك له الأفكار، و تستخدم فيه الخواطر، و كان (4) العاقل جديرا أن لا يرضى من نفسه بأن ».

ص: 59


1- أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول و أخلبه. ا. ه اللسان/ خلب/ (1/ 364) و الخلابة استخدمها المؤلف على المجاز.
2- انظر معلقته المشهورة في ديوانه (ص 117)، و جاء بلفظ «بجوزه» بدلا من «بصلبه» و البيت في الإيضاح بتحقيق د. هنداوي (ص 265)، و التبيان للطيبي بتحقيقنا كذلك (ص 320). يقال: ناء بحمله ينوء نوءا: نهض بجهد و مشقة و منها قوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. و الكلكل: الصدر. و البيت في وصف «ليل المهموم».
3- معطوفة على «إطباق العلماء»، و البتّ: القطع.
4- معطوف على: «كان حري».

يجد فيه سبيلا إلى مزيّة علم، و فضل استبانة، و تلخيص حجّة (1)، و تحرير دليل، ثمّ يعرض عن ذلك صفحا، و يطوي دونه كشحا (2)، و أن يربأ بنفسه (3)، و تدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلّد الذي لا يبتّ حكما، و لا يقتل الشي ء علما، و لا يجد ما يبرئ من الشبهة، و يشفى غليل الشاكّ، و هو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، و يباين من هو بهذه الصفة، فإنّ ذلك دليل ضعف الرأي و قصر الهمّة ممن يختاره و يعمل عليه.

اعلم أن ليس «النّظم» إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو»، و تعمل على قوانينه و أصوله، و تعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، و تحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشي ء منها.

و ذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب و فروقه، فينظر في «الخبر» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق»، و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد»، و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق»، و «زيد هو منطلق».

و في «الشرط و الجزاء» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج».

و في «الحال» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «جاءني زيد مسرعا»، و جاءني يسرع»، و «جاءني و هو مسرع أو و هو يسرع» و «جاءني قد أسرع» و «جاءني و قد أسرع».

فيعرف لكلّ من ذلك موضعه، و يجي ء به حيث ينبغي له.

و ينظر في «الحروف» التي تشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجي ء ب «ما» في نفس الحال، ب «لا» إذا أراد نفي الاستقبال، و ب «إن» فيما يترجح بين أن يكون و أن لا يكون، و ب «إذا» فيما علم أنه كائن.

و ينظر في «الجمل» التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ).

ص: 60


1- أي: شرحها و بيانها.
2- و هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف و طوى كشحه على الأمر: أضمره و ستره. القاموس/ كشح/ (305).
3- قوله: و أن يربأ بنفسه. جملة معطوفة على: (أن لا يرضى من نفسه).

ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع «الواو» من موضع «الفاء»، و موضع «الفاء» من موضع «ثم»، و موضع «أو» من موضع «أم»، و موضع «لكن» من موضع «بل».

و يتصرّف في التعريف، و التنكير، و التقديم، و التأخير، في الكلام كله، و في الحذف، و التكرار، و الإضمار، و الإظهار، فيصيب بكلّ من ذلك مكانه، و يستعلمه على الصّحة و على ما ينبغي له.

هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، و خطؤه إن كان خطأ إلى «النظم»، و يدخل تحت هذا الاسم، إلّا و هو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، و وضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، و استعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحّة نظم أو فساده، أو وصف بمزيّة و فضل فيه، إلا و أنت تجد مرجع تلك الصحة و ذلك الفساد و تلك المزية و ذلك الفضل، إلى معاني النحو و أحكامه، و وجدته يدخل في أصل من أصوله، و يتّصل بباب من أبوابه.

هذه جملة لا تزداد فيها نظرا، إلا ازددت لها تصوّرا، و ازدادت عندك صحة، و ازددت بها ثقة. و ليس من أحد تحرّكه لأن يقول في أمر «النظم» شيئا، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، و وافق فيها درى ذلك أو لم يدر. و يكفيك أنّهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد «النظم»، فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق: [من الطويل

و ما مثله في النّاس إلّا مملّكا أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (1)

و قول المتنبي: [من الكامل ]

و لذا اسم أغطية العيون جفونها من أنّها عمل السّيوف عوامل (2)

و قوله: [من الكامل ]

الطّيب أنت إذا أصابك طيبه، و الماء أنت إذا اغتسلت الغاسل (3)

ص: 61


1- البيت في ديوانه يمدح فيه هشام بن عبد الملك بن مروان أحد ملوك بني أمية، و خاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. انظر اللسان (ملك)، و معاهد التنصيص (1/ 43)، و هو بلا نسبة في الخصائص (1/ 146، 329)، (2/ 393).
2- في ديوانه فانظره، ضمير أنها للعيون، أي: أنها تعمل عمل السيوف، و لذا سميت أغطية العيون جفونا، و الجفون: أغماد السيوف، أي: لأنها تعمل عمل السيوف.
3- في ديوانه، و المعنى: إذا أصابك الطيب يتنشق طيبك لأنك أنت طيبة، و إذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له.

و قوله: [من الطويل ]

و فاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه بأن تسعدا، و الدّمع أشفاه ساجمه (1)

و قول أبو تمام: [من الكامل ]

ثانيه كبد السّماء، و لم يكن كاثنين ثان إذ هما في الغار (2)

و قوله: [من البسيط]

يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا من راحتيك درى ما الصّاب و العسل (3)

و في نظائر ذلك (4) مما وصفوه بفساد النظم، و عابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد و الخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، و صنع في تقديم أو تأخير، أو حذف و إضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، و ما لا يسوغ و لا يصحّ على أصول هذا العلم. و إذا ثبت أن سبب فساد النظم و اختلاله، أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أنّ سبب صحّته أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أنّ مستنبط صحّته و فساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيّته و الفضيلة التي تعرض فيه، و إذا ثبت جميع ذلك، ثبت أن ليس هو شيئا غير توخّي معاني هذا العلم و أحكامه فيما بين الكلم، و اللّه الموفق للصواب.

و إذ قد عرفت ذلك، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، و تشاهدوا له بالفضل، ثمّ جعلوه كذلك من أجل «النظم» خصوصا، دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، و تأمّله، فإذا رأيتك قد ارتحت و اهتززت و استحسنت، فانظر إلى حركات الأريحيّة ممّ كانت؟ و عند ما ذا ظهرت؟ فإنك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري: [من المتقارب ».

ص: 62


1- البيت في ديوانه فانظره، و التبيان (2/ 254). و شجاه شجوا: أحزنه و أشجاه تفضيل من شجى، و الطاسم: الدارس، و الساجم: السائل سجم الدمع سجوما و سجاما: سال و انسجم، و سجمت العين دمعها و عين سجوم و أسجمت السماء: صبت. و المعنى: الشاعر يخاطب صاحبيه الذين عاهداه على مساعدته بالبكاء عند ربع الأحبة، و يبرر شدة حزنه بقلة مساعدتهما له بالبكاء، و يعذر دمعه لأن صاحبيه خاليان و لا يعرفان ما فيه من حزن.
2- البيت في ديوانه (ص 145)، و نهاية الإعجاز (ص 279)، و الموازنة (ص 29)، و الإيضاح (ص 160).
3- البيت في ديوانه (ص 215)، و الصاب: عصير نبات مرّ، و قيل: شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللّبن.
4- الجملة مرتبطة ببداية الكلام، و هو قوله: «فليس من أحد يخالف».

بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثا ت عزما و شيكا و رأيا صليبا

تنقّل في خلقي سؤدد سماحا مرجّا و بأسا مهيبا

فكالسّيف إن جئته صارخا، و كالبحر إن جئته مستثيبا (1)

فإذا رأيتها قد راقتك و كثرت عندك، و وجدت لها اهتزازا في نفسك، فعد فانظر في السبب و استقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدّم و أخّر، و عرّف و نكّر، و حذف و أمر، و أعاد و كرّر، و توخّى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها «علم النحو»، فأصاب في ذلك كله، ثم لطّف موضع صوابه، و أتى مأتى يوجب الفضيلة.

أ فلا ترى أن أول شي ء يروقك منها قوله: «هو المرء أبدت له الحادثات»، ثم قوله: «تنقّل في خلقي سؤدد» بتنكير «السؤدد» و إضافة «الخلقين» إليه، ثم قوله:

«فكالسيف» و عطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محالة: فهو كالسيف ثم تكريره «الكاف» في قوله: «و كالبحر»، ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، و ذلك قوله «صارخا» هناك «و مستثيبا» هاهنا؟ لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك.

و إن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظره إلى قول إبراهيم بن العباس:

فلو إذ نبا دهر، و أنكر صاحب، و سلّط أعداء، و غاب نصير

تكون عن الأهواز داري بنجوة، و لكن مقادير جرت و أمور

و إنّي لأرجو بعد هذا محمّدا لأفضل ما يرجى أخ و وزير (2)

فإنك ترى ما ترى من الرّونق و الطّلاوة، و من الحسن و الحلاوة، ثم تتفقّد السبب في ذلك، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو «إذ نبا» على ..

ص: 63


1- الأبيات في ديوانه، في مدح الفتح بن خاقان، و الضرائب جمع ضريبة و هي الطبيعة و السّجية و هذه ضريبته التي ضرب عليها و هي الخليقة. يقال: خلق الناس على ضرائب شتى. و إنه لكريم الضرائب. و الضريب: الشكل في القدّ و الخلق، يقال: فلان ضريب فلان أي: نظيره و ضريب الشكل مثله و شكله. و المستثيب: طالب الثواب.
2- في ديوانه قالها لمّا عزل عن الأهواز في أيّام محمد بن عبد الملك الزّيات. الأغاني (10/ 61، 62). و النجوة: ما ارتفع من الأرض فلم يعله السّيل، و الأهواز سبع كور بين البصرة و فارس، لكل كورة منها اسم و يجمعهن الأهواز ..

عامله الذي هو «تكون»، و أن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال: «و أنكر صاحب» و لم يقل: و أنكرت صاحبا، لا ترى في البيتين الأوّلين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في «النظم»، و كله من معاني النحو كما ترى. و هكذا السبيل أبدا في كل حسن و مزية رأيتهما قد نسبا إلى «النظم»، و فضل، و شرف أحيل فيهما عليه.

فصل «في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني و الأغراض التي تؤمّ».

و إذ قد عرفت أنّ مدار أمر «النظم» على معاني النحو، و على الوجوه و الفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أنّ الفروق و الوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، و نهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها، و من حيث هي على الإطلاق، و لكن تعرض بسبب المعاني و الأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، و استعمال بعضها مع بعض.

تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في «سؤدد» (1) من قوله «تنقّل في خلقي سؤدد»، و في «دهر» من قوله: «فلو إذ نبا دهر»، فإنه يجب أن يروقك أبدا و في كل شي ء، و لا إذا استحسنت لفظ ما لم يسمّ فاعله في قوله «و أنكر صاحب»، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا، بل ليس من فضل و مزيّة إلا بحسب الموضع، و بحسب المعنى الذي تريد و الغرض الذي تؤمّ. و إنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور و النقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ التي عمل منها الصّورة و النقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخيّر و التدبّر في أنفس الأصباغ و في مواقعها و مقاديرها و كيفية مزجه لها و ترتيبه إياها، إلى ما لم يتهدّ إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، و صورته أغرب، كذلك حال الشاعر و الشاعر في توخّيهما معاني النّحو و وجوهه التي علمت أنها محصول «النّظم».

و اعلم أنّ من الكلام ما أنت ترى المزيّة في نظمه و الحسن، كالأجزاء من الصّبغ تتلاحق و ينضمّ بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن

ص: 64


1- كلمة وردت سابقا في أبيات البحتري «و دهر» و ردت في أبيات الصولي.

صاحبه، و لا تقضي له بالحذق و الأستاذية و سعة الذّرع و شدة المنّة (1)، حتى تستوفي القطعة و تأتي على عدة أبيات. و ذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري، و منه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، و يأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، و موضعه من الحذق، و تشهد له بفضل المنّة و طول الباع، و حتى تعلم، إن لم تعلم القائل، أنّه من قيل شاعر فحل، و أنه خرج من تحت يد صناع، و ذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شي ء فقلت: هذا، هذا! و ما كان كذلك فهو الشّعر الشاعر، و الكلام الفاخر، و النّمط العالي الشريف، و الذي لا تجده إلّا في شعر الفحول البزّل (2)، ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما.

ثم إنّك تحتاج إلى أن تستقري عدّة قصائد، بل أن تفلي (3) ديوانا من الشعر، حتى تجمع منه عدّة أبيات. و ذلك ما كان مثل قول الأوّل، و تمثّل به أبو بكر الصّدّيق رضوان اللّه عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم: [من الوافر]

تمنّانا ليلقانا بقوم تخال بياض لأمهم السّرابا

فقد لاقيتنا فرأيت حربا عوانا تمنع الشّيخ الشرابا (4)

انظر إلى موضع «الفاء» في قوله:

فقد لاقيتنا فرأيت حربا و مثل قول العباس بن الأحنف: [من البسيط]

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا، ثمّ القفول، فقد جئنا خراسانا (5)

ص: 65


1- بالضم: القوة. القاموس/ منن/ (1594).
2- تقول جمل و ناقة بازل و بزول جمل بزّل أي في تاسع سنة و الرجل الكامل في تجربته. القاموس/ بزل/ (1248).
3- تقول فلاه بالسيف يفليه و فلي الشعر تدبره و استخرج معانيه. فلى رأسه بحث عن القمل. القاموس/ فلي/ (1407).
4- من شعر الصحابي الجليل زياد بن حنظلة التميمي و هما من قصيدة وردت في خبر ذكره الطبري في تاريخه (3/ 222- 225). اللأم: جمع لأمة: الدرع. القاموس/ لأم/ (1492).
5- في ديوانه من أبيات قالها للرشيد، و هو ذاهب إلى أرمينية و منها: ما أقدر اللّه أن يدني على شحط سكان دجلة من سكان جيحانا متى الذي كنت أرجوه و آمله أمّا الذي كنت أخشاه فقد كانا عين الزمان أصابتنا فلا نظرت و عذّبت بصنوف الهجر ألوانا انظر الأغاني (8/ 388)، و جيحان: نهر بالمصيصة بالثغر الشامي، و مخرجه من بلاد الروم و يمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفربيّا بإزاء المصيصة.

انظر إلى موضع «الفاء» و «ثم» قبلها.

و مثل قول ابن الدّمينة: [من الطويل ]

أبيني أ في يمنى يديك جعلتني فأفرح، أم صيّرتني في شمالك

أبيت كأنّي بين شقّين من عصا حذار الرّدى، أو خيفة من زيالك

تعاللت كي أشجى، و ما بك علّة، تريدين قتلي قد ظفرت بذلك (1)

انظر إلى الفصل و الاستئناف في قوله: «تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك».

و مثل قول أبي حفص الشّطرنجيّ، و قال على لسان عليّة أخت الرّشيد، و قد كان الرشيد عتب عليها: [من البسيط]

لو كان يمنع حسن الفعل صاحبه من أن يكون له ذنب إلى أحد

كانت عليّة أبرى النّاس كلّهم من أن تكافا بسوء آخر الأبد

ما أعجب الشّي ء ترجوه فتحرمه! قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي (2) انظر إلى قوله: «قد كنت أحسب» و إلى مكان هذا الاستئناف.

و مثل قول أبي دؤاد: [من الخفيف

و لقد أغتدي يدافع ركني أحوذي ذو ميعة إضريج (3)

سلهب شرجب، كأنّ رماحا حملته، و في السّراة دموج (4) ).

ص: 66


1- الأبيات لابن الدمينة في ديوانه، و الأغاني (17/ 96). و زيالك: فراقك.
2- أبو حفص الشطرنجي، شاعر علية بنت المهدي بن المنصور أخت هارون الرشيد الأديبة الشاعرة و الشعر في الأغاني (22/ 52). و سقط من الأبيات بيت قام عليه معنى البيت الرابع و هو: ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة؟ و إن سقمت فطال السّقم لم أعد
3- البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه (ص 299)، و لسان العرب (ضرج)، و تاج العروس (ضرج)، و تهذيب اللغة (10/ 553)، و كتاب العين (6/ 42)، و الأغاني (16/ 406)، و بلا نسبة في لسان العرب (جول)، و كتاب العين. و الأحوذيّ: السريع في كل ما أخذ و قيل: الخفيف في الشي ء بحذقه، و قيل: المشمر في الأمور القاهر لها. و كل المعاني تدور في فلك السرعة و الإقدام و الحذق في كل شي ء. اللسان (حوذ). و الإضريج: الجيد من الخيل، و قيل: الواسع اللّبان و قيل: الفرس الجواد الشديد العدو.
4- البيت لأبي دؤاد في ديوانه، و هو بلا نسبة في لسان العرب (سرا)، و أساس البلاغة (ص 135 دمج)، و تاج العروس (سرو)، و الأغاني (16/ 406)، و جاءت الرواية بلفظ: «شوقب» بدلا من «سلهب». و السلهب من الخيل: الطويل على وجه الأرض و فرس مسلهبّ: ماض. و سلهب: الطويل العظام، و السّراة: الظهر و الجمع: سروات. و الدّموج: دخول الشي ء في الشي ء. و يقال: تدامج القوم على فلان إذا تعاونوا و اتحدوا و تضافروا عليه، و يقال صلح دماج: محكم، و الشرجب: الطويل و هو نعت للفرس الجواد و قيل: الفرس الكريم. اللسان (شرجب).

انظر إلى التنكير في قوله «كأن رماحا».

و مثل قول ابن البواب: [من مجزوء الوافر]

أتيتك عائذا بك من ك لمّا ضاقت الحيل

و صيّرني هواك وبي لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيته جلل

و إن قتل الهوى رجلا، فإني ذلك الرّجل (1)

انظر إلى الإشارة و التعريف في قوله: «فإني ذلك الرجل».

و مثل قول عبد الصمد: [من السريع

مكتئب ذو كبد حرّى تبكي عليه مقلة عبرى

يرفع يمناه إلى ربّه يدعو، و فوق الكبد اليسرى (2)

انظر إلى لفظة: «يدعو» و إلى موقعها.

و مثل قول جرير: [من الكامل ]

لمن الدّيار ببرقة الرّوحان إذ لا نبيع زماننا بزمان

صدع الغواني؛ إذ رمين، فؤاده صدع الزّجاجة، ما لذاك تدان (3)

انظر إلى قوله: «ما لذاك تدان»، و تأمّل حال هذا الاستئناف.

ليس من بصير عارف بجوهر الكلام، حسّاس متفهّم لسرّ هذا الشأن، ينشد أو يقرأ هذه الأبيات، إلّا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه، يعجب و يعجّب و يكبر شأن المزيّة فيه و الفضل. ن

ص: 67


1- الأبيات في الأغاني (6/ 178)، منسوبة إلى سليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي.
2- هو «عبد الصمد بن المعذل» و الشعر في ديوانه المجموع، و هي في الزهرة (1/ 24)، أربعة أبيات هذان ثم بعدهما: يبقى إذا كلّمته باهتا و نفسه ممّا به سكرى تحسبه مستمعا ناصتا و قلبه في أمة أخرى
3- البيتان لجرير في ديوانه و هما على غير هذا الترتيب، و جاء الثاني برواية لفظها: صدع الظعائن يوم بنّ فؤاده صدع الزجاجة، ما لذاك تدان

فصل «في النظم يتّحد في الوضع، و يدقّ فيه الصّنع»

و اعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النظر، و يغمض المسلك، في توخّي المعاني التي عرفت: أن تتّحد أجزاء الكلام و يدخل بعضها في بعض، و يشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل، و أن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، و أن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم.

و في حال ما يبصر مكان ثالث و رابع يضعهما بعد الأوّلين. و ليس لما شأنه أن يجي ء على هذا الوصف حدّ يحصره، و قانون يحيط به، فإنه يجي ء على وجوه شتّى، و أنحاء مختلفة.

فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط و الجزاء معا، كقول البحتري: [من الطويل ]

إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى، أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر (1)

و قوله: [من الطويل ]

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها، تذكّرت القربى ففاضت دموعها (2)

فهذا نوع.

و نوع منه آخر، قول سليمان بن داود القضاعيّ: [من الوافر]

فبينا المرء في علياء أهوى، و منحطّ أتيح له اعتلاء

و بينا نعمة إذ حال بؤس، و بؤس إذ تعقّبه ثراء

و نوع ثالث و هو ما كان كقول كثير: [من الطويل ]

و إنّي و تهيامي بعزّة بعد ما تخلّيت ممّا بيننا و تخلّت

لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت (3)

و كقول البحتري: [من الطويل ]

ص: 68


1- البيت في التبيان للطيبي (2/ 400) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي و يروى (أصاخ) بدل (أصاخت).
2- البيت في ديوانه، و في الإيضاح (ص 310).
3- البيتان لكثير عزة في ديوانه، و الأول منهما في خزانة الأدب (5/ 214)، و الخصائص (1/ 340)، و سر صناعة الإعراب (ص 139)، و شرح شواهد المغني (ص 812)، و لسان العرب (هيم)، و مغني اللبيب (389)، و المقاصد النحوية (2/ 409) ..

لعمرك إنّا و الزّمان كما جنت على الأضعف الموهون عادية الأقوى (1)

و منه «التقسيم»، و خصوصا إذا قسّمت ثم جمعت، كقول حسان: [من البسيط]

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة، إنّ الخلائق، فاعلم، شرّها البدع (2)

و من ذلك، و هو شي ء في غاية الحسن، قول القائل: [من البسيط]

لو أنّ ما أنتم فيه يدوم لكم ظننت ما أنا فيه دائما أبدا

لكن رأيت اللّيالي غير تاركة ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا

فقد سكنت إلى أنّي و أنّكم سنستجدّ خلاف الحالتين غدا (3)

قوله: «سنستجد خلاف الحالتين غدا»، جمع فيما قسّم لطيف، و قد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه، و لطف ما توصّل به إليه من قوله: «فقد سكنت إلى أنّي و أنّكم».

و إذ قد عرفت هذا النّمط من الكلام، و هو ما تتّحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم أنه النّمط العالي و الباب الأعظم، و الذي لا ترى سلطان المزيّة يعظم في شي ء كعظمه فيه.

و مما ندر- منه و لطف مأخذه، و دقّ نظر واضعه، و جلّى لك معن شأو قد تحسر دونه العتاق (4)، و غاية يعيا من قبلها المذاكي (5) القرّح (6)- الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين، كبيت امرئ القيس: [من الكامل ]

كأنّ قلوب الطّير رطبا و يابسا لدى و كرها العنّاب و الحشف البالي (7)

ص: 69


1- الموهون: الذي أصابه و جمع و إن كانت أنثى يقال لها واهنة، يقال: أوهنه اللّه فهو موهون كما يقال أحمّه اللّه فهو محموم.
2- البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه (ص 238)، و الطراز (3/ 144)، و المصباح (ص 249)، و الإيضاح (ص 316).
3- الأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي و نسبها البعض إلى ابن الرومي.
4- عتاق الطير: الجوارح منها، الأرحبيات العتاق: النجائب منها. اللسان/ عتق/ (10/ 235).
5- هي الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. اه اللسان مادة/ ذكا/ (14/ 288).
6- جمع قارح و هي الناقة أول ما تحمل. اه اللسان/ قرح/ (2/ 559).
7- البيت في ديوانه من قصيدة مطلعها: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي و هل يعمن من كان في العصر الخالي و في الأغاني (3/ 192)، و شرح التصريح (1/ 382)، و شرح شواهد المغني (1/ 342، 2/ 595، 819)، و الصاحبي في فقه اللغة (ص 244)، و لسان العرب (أدب)، و المقاصد النحوية (3/ 216)، و المنصف (2/ 117)، و تاج العروس (بال)، و بلا نسبة في الأشباه و النظائر (7/ 64)، و أوضح المسالك (2/ 329)، و مغني اللبيب (1/ 218، 2/ 392، 439). و العنّاب: ثمر يطلق على شجر العنّاب و هو أحمر حلو لذيذ الطعم على شكل ثمرة النبق. و الحشف من التمر: أردؤه، و هو الذي يجف قبل نضجه فلا يكون له نوى و لا لحاء و لا حلاوة و لا لحم.

و بيت الفرزدق: [من الكامل ]

و الشّيب ينهض في الشّباب كأنّه ليل يصيح بجانبيه نهار (1)

و بيت بشّار: [من الطويل ]

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا و أسيافنا، ليل تهاوى كواكبه (2)

و مما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله، قول زياد الأعجم: [من الطويل ]

و إنّا و ما تلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق (3)

و إنما كان أعجب، لأن عمله أدقّ، و طريقه أغمض، و وجه المشابكة فيه أغرب.

و اعلم أنّ من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر و رويّة حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضمّ بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك، لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرّق، و كمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجي ء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. و ذلك إذا كان معناك، معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله، كقول الجاحظ: ».

ص: 70


1- البيت للفرزدق في ديوانه من قصيدة مطلعها: أ عرفت بين رويتين و حنبل دمنا تلوح كأنها الأسطار و رويتين و حنبل: موضعان. الأسطار: أراد الأثر الخفي محته الأمطار، يقال: صاح العنقود يصيح إذا استتم خروجه من أكمته و طال و هو في ذلك غضّ، و تصيّح البقل و الشّعر أي: تشقق، و قول رؤية: كالكرم إذ نادى من الكافور: أراد: صاح.
2- البيت لبشار بن برد في ديوانه (1/ 318)، و المصباح (106) و يروى «رءوسهم» بدل «رءوسنا». الأغاني (3/ 192)، و النقع: الغبار، و تهاوى: تتهاوى أي: تتساقط.
3- البيت في الأغاني (15/ 392)، قاله حينما همّ الفرزدق أن يهجو عبد القيس فأسمعه زياد بيتين و كان هذا البيت أحدهما قال: أي زياد: و ما ترك الهاجون لي إن هجوته مصحّا أراه في أديم الفرزدق فإنّا و ما تهدي لنا إن هجوتنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فقال له الفرزدق: حسبك و ما عاوده بشي ء. و البيت في الإيضاح (231). و يروى البيت «و إنّا» بدل «فإنا».

«جنّبك اللّه الشبهة، و عصمك من الحيرة، و جعل بينك و بين المعرفة نسبا، و بين الصّدق سببا، و حبّب إليك التثبّت، و زيّن في عينك الإنصاف، و أذاقك حلاوة التّقوى، و أشعر قلبك عزّ الحق، و أودع صدرك برد اليقين، و طرد عنك ذلّ اليأس، و عرّفك ما في الباطل من الذّلة، و ما في الجهل من القلّة» (1).

و كقول بعضهم: «للّه درّ خطيب قام عندك، يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، و أحسن بيانه، و أمضى جنانه، و أبلّ ريقه، و أسهل طريقه».

و مثل قول النابغة في الثناء المسجوع: «أ يفاخرك الملك اللّخمي، فو الله لقفاك خير من وجهه، و لشمالك خير من يمينه، و لأخمصك خير من رأسه، و لخطؤك خير من صوابه، و لعيّك خير من كلامه، و لخدمك خير من قومه».

و كقول بعض البلغاء في وصف اللسان: «اللّسان أداة يظهر بها حسن البيان، و ظاهر يخبر عن الضمير، و شاهد ينبئك عن غائب، و حاكم يفصل به الخطاب، و واعظ ينهى عن القبيح، و مزيّن يدعو إلى الحسن، و زارع يحرث المودّة، و حاصد يحصد الضّغينة، و مُلهٍ يونق الأسماع».

فما كان من هذا و شبهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلّا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه و تأليفه، و ذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، و حتى تجد إلى التخيّر سبيلا، و حتى تكون قد استدركت صوابا.

فإن قلت: أ فليس هو كلاما قد اطّرد على الصواب، و سلم من العيب؟ أ فما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟

قيل: أمّا و الصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، و التحرّز من اللحن و زيغ الإعراب، فنعتدّ بمثل هذا الصواب. و إنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، و دقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتّى يشرف موضعه و يصعب الوصول إليه، و كذلك لا يكون ترك خطاء تركا حتى يحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، و فضل رويّة، و قوّة ذهن، و شدة تيقّظ. و هذا باب ينبغي أن تراعيه و أن تعنى به، حتى إذا وازنت بين كلام و كلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كلّ شكل شكله، و قابلته بما هو نظير له، و ميّزت ما الصنعة منه في لفظه، ممّا هي منه في نظمه.

و اعلم أن هذا- أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، و بين أن تكون في النّظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه،

ص: 71


1- انظر الحيوان للجاحظ (1/ 3). في المقدمة.

فينحل اللّفظ ما ليس له، و لا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه و نظمه، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم.

مثال ذلك: أن تنظر إلى قول ابن المعتز: [من الطويل ]

و إنّي على إشفاق عيني من العدى لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق (1)

فترى أنّ هذه الطّلاوة و هذا الظرف، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» و ليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت «و إنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح»، ثم قوله: «منّي» ثم لأن قال «نظرة» و لم يقل «النّظر» مثلا، ثم لمكان «ثم» في قوله:

«ثم أطرق»، و للطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، و هي اعتراضه بين اسم «إن» و خبرها بقوله: «على إشفاق عيني من العدى».

و إن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك، فانظر إلى قوله، و قد تقدم إنشاده قبل: [من البسيط]

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا أنصاره بوجوه كالدّنانير (2)

فإنك ترى هذه الاستعارة، على لطفها و غرابتها، إنما تمّ لها الحسن و انتهى إلى حيث انتهى، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم و التأخير، و تجدها قد ملحت و لطفت بمعاونة ذلك و مؤازرته لها. و إن شككت فاعمد إلى الجارّين و الظرف، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه، فقل: «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره»، ثم انظر كيف يكون الحال، و كيف يذهب الحسن و الحلاوة؟

و كيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ و كيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟.

و جملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم، و آخر حسنه للنظم دون اللفظ، و ثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين، و وجبت له المزيّة بكلا الأمرين. و الإشكال في هذه الثالث، و هو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، و تراك قد حفت فيه (3) على النّظم، فتركته و طمحت ببصرك إلى اللفظ، و قدّرت في حسن كان به و باللّفظ، أنه للّفظ خاصة. و هذا هو الذي أردت حين قلت لك: «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم و الوقوف على حقيقته». ).

ص: 72


1- انظر ديوان ابن المعتز (1/ 307).
2- تقدم تخريجه.
3- الحيف: الميل في الحكم و الجور و الظلم. اه اللسان مادة/ حيف/ (9/ 60).

و من دقيق ذلك و خفيّه، أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، و لم ينسبوا الشرف إلا إليها، و لم يروا للمزيّة موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم. و ليس الأمر على ذلك، و لا هذا الشرف العظيم، و لا هذه المزيّة الجليلة، و هذه الرّوعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرّد الاستعارة، و لكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشي ء، و هو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، و يؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبيّنا أن ذلك الإسناد و تلك النسبة إلى ذلك الأوّل، إنّما كانا من أجل هذا الثاني، و لما بينه و بينه من الاتصال و الملابسة، كقولهم: «طاب زيد نفسا»، و «قرّ عمرو عينا»، و «تصبّب عرقا»، و «كرم أصلا»، و «حسن وجها»، و أشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشي ء إلى ما ذلك الشي ء من سببه.

و ذلك أنّا نعلم أنّ «اشتعل» للشيب في المعنى، و إن كان هو للرأس في اللّفظ، كما أن «طاب» للنفس، و «قرّ» للعين، و «تصبّب» للعرق، و إن أسند إلى ما أسند إليه. يبيّن أنّ الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، و توخّي به هذا لمذهب أن تدع هذا الطريق فيه، و تأخذ اللّفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول: «اشتعل شيب الرأس»، أو «الشيب في الرأس»، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن و تلك الفخامة؟ و هل ترى الرّوعة التي كنت تراها؟

فإن قلت: فما السبب في أن كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه، كان له الفضل؟ و لم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟

فإنّ السبب أنه يفيد، مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى، الشمول، و أنه قد شاع فيه، و أخذه من نواحيه، و أنه قد استغرقه و عمّ جملته، حتى لم يبق من السواد شي ء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتدّ به. و هذا ما لا يكون إذا قيل:

«اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس»، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. و وزان هذا أنك تقول: «اشتعل البيت نارا» فيكون المعنى: أن النار قد وقعت فيه وقوع الشّمول، و أنها قد استولت عليه و أخذت في طرفيه و وسطه. و تقول: «اشتعلت النار في البيت»، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، و إصابتها جانبا منه. فأما الشمول، و أن تكون قد استولت على البيت و ابتزّته، فلا يعقل من اللفظ البتة.

و نظير هذا في التنزيل قوله عز و جل: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12]،

ص: 73

«التفجير» للعيون في المعنى، و أوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. و قد حصل بذلك من معنى الشّمول هاهنا، مثل الذي حصل هناك. و ذلك أنه قد أفاد أنّ الأرض قد كانت صارت عيونا كلّها، و أن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. و لو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: «و فجّرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض»، لم يفد ذلك و لم يدلّ عليه، و لكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرّقة في الأرض، و تبجّس من أماكن منها.

و اعلم أنّ في الآية الأولى شيئا آخر من جنس «النظم»، و هو تعريف «الرأس» بالألف و اللام، و إفادة معنى الإضافة من غير إضافة، و هو أحد ما أوجب المزيّة. و لو قيل: «و اشتعل رأسي»، فصرّح بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه.

و أنا أكتب لك شيئا مما سبيل «الاستعارة» فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، و لتأنس به.

فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب: [من الرجز]

اللّيل داج كنفا جلبابه و البين محجور على غرابه

ليس كلّ ما ترى من الملاحة لأن جعل للّيل جلبابا، و حجر على الغراب، و لكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل «الليل» مبتدأ، و جعل «داج» خبرا له و فعلا لما بعده و هو «الكنفان»، و أضاف «الجلباب» إلى ضمير «الليل»، و لأن جعل كذلك «البين» مبتدأ، و أجرى محجورا خبرا عنه، و أن أخرج اللفظ على «مفعول». يبيّن ذلك أنك لو قلت: «و غراب البيت محجور عليه، أو: قد حجر لي غراب البيت»، لم تجد له هذه الملاحة. و كذلك لو قلت: «قد دجا كنفا جلباب الليل»، لم يكن شيئا.

و من النادر فيه قول المتنبي: [من الخفيف

غصب الدّهر و الملوك عليها فبناها في وجنة الدّهر خالا (1) ».

ص: 74


1- البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (ص 168) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة و يذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لمّا بلغه أن الروم أحاطت به و ذلك في جمادى الأولى سنة أربع و أربعين و ثلاث مائة (955 م) و القصيدة مطلعها: ذي المعالي فليعلون من تعالى هكذا هكذا و إلا فلا لا و ذي اسم إشارة، و هو خبر مقدم على اسمه المعالي. و في البيت الآخر: غصب بمعنى قهر، شبهه بالخال الذي يزين الوجه. و يروى البيت ب «الأرض» بدل «الدهر».

قد ترى في أوّل الأمر أنّ حسنه أجمع في أن جعل للدهر «و جنة»، و جعل البنيّة «خالا» في الوجنة، و ليس الأمر على ذلك، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى، و أن أتى «بالخال» منصوبا على الحال من قوله «فبناها». أ فلا ترى أنك لو قلت: «و هي خال في وجنة الدهر»، لوجدت الصورة غير ما ترى؟ و شبيه بذلك أنّ ابن المعتز قال: [من المجتث

يا مسكة العطّار و خال وجه النهار (1)

و كانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة، لا في استعارة لفظة «الخال»؛ إذ معلوم أنه لو قال: «يا خالا في وجه النهار» أو «يا من هو خال في وجه النهار»، لم يكن شيئا.

و من شأن هذا الضّرب أن يدخله الاستكراه، قال الصاحب (2): «إياك و الإضافات المداخلة، فإن ذلك لا يحسن»، و ذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل: [من الخفيف ]

يا عليّ بن حمزة بن عماره أنت و اللّه ثلجة في خياره (3)

و لا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر، و لكنه إذا سلم من الاستكراه لطف و ملح.

و مما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا: [من الطويل ]

و ظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر عتاق دنانير الوجوه ملاح (4)

و مما جاء منه حسنا جميلا قول الخالديّ في صفة غلام له: [من المنسرح ]ه.

ص: 75


1- البيت في ديوانه (ص 253) فانظره، و يليه: و لعبة أحكتها عناية النجّار من آبنوس تسمى باليمن بين الجواري.
2- هو الصاحب بن عباد وزير البويهيين.
3- البيت لم أعثر على قائله، و هو في الإيضاح (ص 9)، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، و لعلي بن حمزة المهجو في هذا البيت ترجمته في الجزء الخامس من معجم الأدباء لياقوت، و في قوله: «ثلجة في خياره» قلب و الأصل خيارة في ثلجة.
4- البيت في ديوانه (145) (طبعة دار صادر) و هو ثاني بيتين في الديوان و البيت الذي قبله: لبسنا إلى الخمار و النجم غائر غلالة ليل طرّزت بصباح و البيت في الإيضاح (ص 10)، و الراح: الخمر، الجآذر: جمع جؤذر و هو ولد البقرة الوحشية، و عتاق: جمع عتيق أي كريم، و إضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه، و الشاهد في قوله: عتاق دنانير الوجوه.

و يعرف الشّعر مثل معرفتي و هو على أن يزيد مجتهد

و صيرفيّ القريض، وزّان دينا ر المعاني الدّقاق، منتقد (1)

و منه قول أبي تمام: [من الكامل ]

خذها ابنة الفكر المهذّب في الدّجى و اللّيل أسود رقعة الجلباب (2)

و مما أكثر الحسن فيه بسبب النظم، قول المتنبي: [من الطويل ]

و قيّدت نفسي في ذراك محبّة و من وجد الإحسان قيدا تقيّدا (3)

الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة، فإنك ترى العامّي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه و برّه له، حتى يألفه و يختار المقام عنده: «قد قيّدني بكثرة إحسانه إليّ، و جميل فعله معي، حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده»، و إنما كان ما ترى من الحسن، بالمسلك الذي سلك في النّظم و التأليف.

فصل «القول في التقديم و التأخير»

هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لك عن بديعة، و يفضي بك إلى لطيفة، و لا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه، و يلطف

ص: 76


1- الخالدي: هو أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من شعراء اليتيمة، و كان في حاشية سيف الدولة الأدبية، و قيم دار كتبه مع أخيه أبي بكر محمد. و البيتان في الإيضاح (ص 10)، و الشاهد في قوله: «و زان دينار المعاني».
2- البيت في ديوانه (ص 29) من قصيدة قالها في مدح مالك بن طوق التغلبي و قبله: يا مالك استودعتني لك منة تبقى ذخائرها على الأحقاب يا خاطبا مدحي إليه بجوده و لقد خطبت قليلة الخطاب و البيت في المصباح (211). قوله في الدجى: تتميم، و يسميه البعض حشوا، و هم يعيبونه، و لكن من الدارسين من يرى غير ذلك.
3- البيت في ديوانه، و هو البيت قبل الأخير من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة يمدحه و يهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين و أربعين و ثلاث مائة أنشده إياها في ميدانه بحلب و هما على فرسيهما، و قبله: تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله و أنعلت أفراسي بنعماك عسجدا

لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك و لطف عندك، أن قدّم فيه شي ء، و حوّل اللّفظ عن مكان إلى مكان.

و اعلم أن تقديم الشي ء على وجهين:

تقديم يقال إنه على نيّة التأخير، و ذلك في كل شي ء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه، و في جنسه الذي كان فيه، كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ، و المفعول إذا قدّمته على الفاعل كقولك: «منطلق زيد» و «ضرب عمرا زيد»، معلوم أنّ «منطلق» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عمّا كانا عليه، من كون هذا خبر مبتدأ و مرفوعا بذلك، و كون ذلك مفعولا و منصوبا من أجله (1)، كما يكون إذا أخّرت.

و تقديم لا على نية التأخير، و لكن على أن تنقل الشي ء عن حكم إلى حكم، و تجعل له بابا غير بابه، و إعرابا غير إعرابه، و ذلك أن تجي ء إلى اسمين يحتمل كلّ واحد منهما أن يكون مبتدأ و يكون الآخر خبرا له، فتقدّم تارة هذا على ذاك، و أخرى ذاك على هذا. و مثاله ما تصنعه بزيد و المنطلق، حيث تقول مرة: «زيد المنطلق»، و أخرى، «المنطلق زيد»، فأنت في هذا لم تقدم «المنطلق» على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير، فيكون خبر مبتدأ كما كان، بل على أن تنقله عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ، و كذلك لم تؤخر «زيدا» على أن يكون مبتدأ كما كان، بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا.

و أظهر من هذا قولنا: «ضربت زيدا» و «زيد ضربته»، لم تقدم «زيدا» على أن يكون مفعولا منصوبا بالفعل كما كان، و لكن على أن ترفعه بالابتداء، و تشغل الفعل بضميره، و تجعله في موضع الخبر له؛ و إذ قد عرفت هذا التقسيم، فإني أتبعه بجملة من الشّرح.

و اعلم أنّا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل، غير العناية و الاهتمام. قال صاحب الكتاب (2)، و هو يذكر الفاعل و المفعول: «كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم، و هم ببيانه أعنى، و إن كانا جميعا يهمّانهم و يعنيانهم»، و لم يذكر في ذلك مثالا.

و قال النحويون: إن معنى ذلك أن قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع ».

ص: 77


1- أي من أجل الفاعل.
2- المقصود به (سيبويه) و كتابه «الكتاب».

بإنسان بعينه، و لا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجيّ يخرج فيعيث و يفسد، و يكثر به الأذى، أنّهم يريدون قتله، و لا يبالون من كان القتل منه، و لا يعنيهم منه شي ء. فإذا قتل، و أراد مريد الإخبار بذلك، فإنه يقدّم ذكر الخارجيّ فيقول: «قتل الخارجيّ زيد»، و لا يقول: «قتل زيد الخارجيّ»، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له «زيد» جدوى و فائدة، فيعنيهم ذكره و يهمّهم و يتّصل بمسرّتهم، و يعلم من حالهم أن الذي هم متوقّعون له و متطلّعون إليه متى يكون، وقوع القتل بالخارجي المفسد، و أنّهم قد كفوا شرّه و تخلّصوا منه.

ثم قالوا: فإن كان رجل ليس له بأس و لا يقدّر فيه أنّه يقتل، فقتل رجلا، و أراد المخبر أن يخبر بذلك، فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول: «قتل زيد رجلا»، ذاك لأن الذي يعنيه و يعني الناس من شأن هذا القتل، طرافته و موضع النّدرة فيه، و بعده كان من الظنّ. و معلوم أنه لم يكن نادرا و بعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع به، و لكن من حيث كان واقعا من الذي وقع منه.

فهذا جيد بالغ، إلا أنّ الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شي ء قدّم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، و يفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير.

و قد وقع في ظنون النّاس أنّه يكفي أن يقال: «إنه قدم للعناية، و لأن ذكره أهم»، من غير أن يذكر، من أين كانت تلك العناية؟ و بم كان أهمّ؟، و لتخيّلهم ذلك، قد صغر أمر «التقديم و التأخير» في نفوسهم، و هوّنوا الخطب فيه، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبّعه و النظر فيه ضربا من التكلّف. و لم تر ظنّا أزرى على صاحبه من هذا و شبهه.

و كذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في «الحذف و التكرار»، و «الإظهار و الإضمار»، «الفصل و الوصل»، و لا في نوع من أنواع الفروق و الوجوه إلا نظرك فيما غيره أهمّ لك، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك.

لا جرم أنّ ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، و منعهم أن يعرفوا مقاديرها، و صدّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، و الشّقّ الذي يحويها. و المداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم، و يبلغ الشيطان مراده منهم في الصّد عن طلبه و إحراز فضيلته- كثيرة، و هذه من أعجبها، إن وجدت متعجّبا.

و ليت شعري، إن كانت هذه أمورا هيّنة، و كان المدى فيها قريبا، و الجدا (1) ).

ص: 78


1- الجدا: القطيعة. اه القاموس مادة/ جدا/ (1638).

يسيرا، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ و بم عظم التفاوت، و اشتد التباين، و ترقّى الأمر إلى الإعجاز، و إلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزيّة عليها، و نجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في ترك النظر في هذه التي معنا، و الإعراض عنها، و قلة المبالاة بها؟ أو ليس هذا التهاون، إن نظر العاقل، خيانة منه لعقله و دينه، و دخولا فيما يزرى بذي الخطر، و يغضّ من قدر ذوي القدر؟

و هل يكون أضعف رأيا، و أبعد من حسن التدبّر، منك إذ همّك أن تعرف الوجوه في:

«أ أنذرتهم»، و الإمالة في «رأى القمر» و تعرف «الصّراط» و «الزّراط»، و أشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ و جرس الصوت، و لا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة، و لا يدفعك عن بيان، و لا يدخل عليك شكّا، و لا يغلق دونك باب معرفة، و لا يفضي بك إلى تحريف و تبديل، و إلى الخطأ في تأويل، و إلى ما يعظم فيه المعاب عليك، و يطيل لسان القادح فيك، و لا يعنيك (1) و لا يهمّك أن تعرف ما إذا جهلته عرّضت نفسك لكل ذلك، و حصلت فيما هنالك، و كان أكثر كلامك في التفسير، و حيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني الشي ء على أصله، و لا يأخذه من مأخذه، و من ربّما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره، و تشنع آثاره. و نسأل اللّه العصمة من الزّلل، و التوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول و العمل.

و اعلم أنّ من الخطأ أن يقسّم الأمر في تقديم الشي ء و تأخيره قسمين: فيجعل مفيدا في بعض الكلام، و غير مفيد في بعض، و أن يعلّل تارة بالعناية، و أخرى بأنه توسعة على الشاعر و الكاتب، حتى تطّرد لهذا قوافيه و لذاك سجعه. ذاك لأنّ من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة و لا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام، أنه قد اختصّ بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شي ء و كلّ حال. و من سبيل من يجعل التقديم و ترك التقديم سواء، أن يدّعي أنه كذلك في عموم الأحوال، فأمّا أن يجعله شريجين، فيزعم أنه للفائدة في بعضها، و للتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.

و هذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التّفرقة بين تقديم ما قدّم فيها و ترك تقديمه.

و من أبين شي ء في ذلك «الاستفهام بالهمزة»، فإن موضع الكلام على أنك إذا ).

ص: 79


1- قوله (و لا يعنيك) معطوف على قوله: (إذا همك).

قلت: «أفعلت؟»، فبدأت بالفعل، كان الشكّ في الفعل نفسه، و كان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده.

و إذا قلت: «أ أنت فعلت؟»، فبدأت بالاسم، كان الشكّ في الفاعل من هو، و كان التردّد فيه. و مثال ذلك أنك تقول: «أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟»، «أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟»، و «أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟»، تبدأ في هذه و نحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه و الشكّ فيه، لأنك في جميع ذلك متردّد في وجود الفعل و انتفائه، مجوّز أن يكون قد كان، و أن يكون لم يكن.

و تقول: «أ أنت بنيت هذه الدار؟»، «أ أنت قلت هذا الشعر؟»، «أ أنت كتبت هذا الكتاب؟»، فتبدأ في ذلك كله بالاسم، ذاك لأنّك لم تشكّ في الفعل أنه كان.

كيف؟ و قد أشرت إلى الدار مبنية، و الشعر مقولا، و الكتاب مكتوبا، و إنما شككت في الفاعل من هو؟.

فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، و لا يشكّ فيه شاك، و لا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر.

فلو قلت: «أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟»، «أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟»، «أ أنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟»، خرجت من كلام الناس. و كذلك لو قلت: «أبنيت هذه الدار؟»، «أقلت هذا الشعر؟»، «أ كتبت هذا الكتاب؟»، قلت ما ليس بقول. ذاك لفساد أن تقول في الشي ء المشاهد الذي هو نصب عينيك أ موجود أم لا؟

و ممّا يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنّك تقول:

«أقلت شعرا قطّ؟»، «أ رأيت اليوم إنسانا؟»، فيكون كلاما مستقيما. و لو قلت:

«أ أنت قلت شعرا قط؟»، «أ أنت رأيت إنسانا»، أحلت، و ذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصوّر إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول: «من قال هذا الشعر؟»، و «من بنى هذه الدار؟» و «من أتاك اليوم؟»، و «من أذن لك في الذي فعلت؟»، و ما أشبه ذلك ممّا يمكن أن ينصّ فيه على معيّن. فأمّا قيل شعر على الجملة، و رؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله.

و لو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا، من أن يكون السؤال عن الفاعل من

ص: 80

هو؟ و كان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أ كان أم لم يكن؟ لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.

و اعلم أن هذا الذي ذكرت لك في «الهمزة و هي للاستفهام» قائم فيها إذا هي كانت للتقرير. فإذا قلت: «أ أنت فعلت ذاك؟»، كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل.

يبيّن ذلك قوله تعالى، حكاية عن قول نمرود: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [سورة الأنبياء: 62]، لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام و هم يريدون أن يقرّ لهم بأنّ كسر الأصنام قد كان، و لكن أن يقرّ بأنه منه كان، و كيف؟

و قد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: «أ أنت فعلت هذا؟»، و قال هو عليه السلام في الجواب: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63]، و لو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: «فعلت، أو: لم أفعل».

فإن قلت: أو ليس إذ قال «أفعلت؟»، فهو يريد أيضا أن يقرّره بأنّ الفعل كان منه، لا بأنّه كان على الجملة، فأيّ فرق بين الحالين؟.

فإنه إذا قال (1): «أفعلت؟» فهو يقرّره بالفعل من غير أن يردّده بينه و بين غيره، و كان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة و إذا قال:

«أ أنت فعلت؟»، كان قد ردّد الفعل بينه و بين غيره، و لم يكن منه في نفس الفعل تردّد، و لم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أ كان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك و الفعل ظاهر موجود مشار إليه، كما رأيت في الآية.

و اعلم أن «الهمزة» فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان، و إنكار له لم كان، و توبيخ لفاعله عليه.

و لها مذهب آخر، و هو أن يكون الإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله.

و مثاله قوله تعالى: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء: 40]، و قوله عز و جل: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 153- 154]، فهذا ردّ على المشركين و تكذيب لهم في قولهم ما يؤدّي إلى هذا الجهل العظيم. و إذا قدّم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل. و مثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا: «أ أنت قلت هذا الشعر؟ كذبت، لست ممّن يحسن مثله»، أنكرت أن يكون القائل و لم تنكر الشعر. ).

ص: 81


1- قوله (فإنه إذا قال) جواب لقوله: (فإن قلت).

و قد يكون أن يراد إنكار الفعل من أصله، ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل. مثال ذلك قوله تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59]، «الإذن» راجع إلى قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا [يونس: 59]، و معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من اللّه تعالى إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير اللّه، فأضافوه إلى اللّه، إلّا أنّ اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك، لأن يجعلوا في صورة في غلط فأضاف إلى اللّه تعالى إذنا كان من غير اللّه، فإذا حقّق عليه ارتدع.

و مثال ذلك قولك للرجل يدّعي أن قولا كان ممّن تعلم أنه لا يقوله: «أ هو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط؟»، تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل، لينصرف الإنكار إلى الفاعل، فيكون أشدّ لنفي ذلك و إبطاله.

و نظير هذا قوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام: 143]، أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء، ثم أريد معرفة عين المحرّم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، و نفي أن يكون قد حرّم شي ء مما ذكروا أنه محرّم. و ذلك أنّ الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنّه قد كان، ثم يقال لهم: «أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم، فيم هو؟ أ في هذا أم ذاك أم في الثالث؟»، ليتبيّن بطلان قولهم، و يظهر مكان الفرية منهم على اللّه تعالى.

و مثل ذلك قولك للرجل يدّعي أمرا و أنت تنكره: «متى كان هذا؟ أ في ليل أم نهار؟»، تضع الكلام وضع من سلّم أن ذلك قد كان، ثم تطالبه ببيان وقته، لكي يتبيّن كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتا و يفتضح. و مثله قولك: «من أمرك بهذا منّا؟

و أيّنا أذن لك فيه؟»، و أنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من واحد منكم، إلا أنّك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيّق عليه، و ليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول:

«فلان»، و أن يحيل على واحد.

و إذ قد بيّنّا الفرق بين تقديم الفعل و تقديم الاسم، و الفعل ماض، فينبغي أن ننظر فيه و الفعل مضارع.

و القول في ذلك أنك إذا قلت: «أ تفعل؟» و «أ أنت تفعل؟» لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال. فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي، فإذا قلت: «أ تفعل؟» كان المعنى على أنك أردت أن تقرّره بفعل هو يفعله، و كنت

ص: 82

كمن يوهم أنّه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن، و إذا قلت: «أ أنت تفعل؟»، كان المعنى على أنك تريد أن تقرّره بأنه الفاعل، و كان أمر الفعل في وجوده ظاهرا، و بحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، و إن أردت ب «تفعل» المستقبل، كان المعنى إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه، و تزعم أنه لا يكون، أو أنه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول: [من الطويل ]

أ يقتلني و المشرفيّ مضاجعي و مسنونة زرق كأنياب أغوال (1)؟

فهذا تكذيب منه لإنسان تهدّده بالقتل، و إنكار أن يقدر على ذلك و يستطيعه.

و مثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهّله في طمعه فتقول: «أ يرضى عنك فلان و أنت مقيم على ما يكره؟ أ تجد عنده ما تحبّ و قد فعلت و صنعت؟»، و على ذلك قوله تعالى: أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28].

و مثال الثاني، قولك لرجل يركب الخطر: «أ تخرج في هذا الوقت؟ أ تذهب في غير الطريق؟ أ تغرّر بنفسك؟»، و قولك للرجل يضيع الحقّ: «أ تنسى قديم إحسان فلان؟ أ تترك صحبته و تتغير عن حالك معه لأن تغيّر الزمان؟» كما قال: [من الطويل ]

أ أترك أن قلّت دراهم خالد زيارته؟ إنّي إذا للئيم (2)

و جملة الأمر أنّك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم فقلت: «أ أنت تفعل؟» أو قلت: «أ هو يفعل؟»، كنت و جهت الإنكار إلى نفس المذكور، و أبيت أن تكون بموضع أن يجي ء منه الفعل و ممّن يجي ء منه، و أن يكون بتلك المثابة.

تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أ أنت تمنعني؟»، «أ أنت تأخذ على يدي؟»م

ص: 83


1- البيت لامرئ القيس في ديوانه (125)، و هو من قصيدة قرينة معلقته في الجودة، و قبله: يغطّ غطيط البكر شد خناقه ليقتلني و المرء ليس بقتال و البيت في مفتاح العلوم (461) تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. و أورده القزويني في الإيضاح (169، 208)، و الطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 110) تحقيق د. هنداوي، و المشرفي: السيد المنسوب إلى مشارف الشام، و هو قرى للعرب تدنو من بلاد الروم. و مسنونة زرق: مشاقص محدودة بالسن، أو هي نصال الرماح، قال أبو عبيد البكري، و مسنونة يعني سهاما محددة الأزجة. و زرق: صافية مجلوة. أغوال: همرجة (التباس و اختلاف) من همرجة الجن، و إنما أراد التهويل قال المبرد: لم يخبر صادق أنه رأى الغول.
2- البيت في الإيضاح (141)، و الأغاني لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير (24/ 212)، و بعده: فليت بثوبيه لنا كان خالد و كان لبكر بالثراء تميم فيصبح فينا سابق متمهل و يصبح في بكر أغم بهيم

صرت كأنك قلت: إن غيرك الذي يستطيع منعي و الأخذ على يدي، و لست بذاك، و لقد وضعت نفسك في غير موضعك، هذا، إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، و لأنّه ليس في وسعه.

و قد يكون أن تجعله لا يجي ء منه، لأنه لا يختاره و لا يرتضيه، و أنّ نفسه نفس تأبى مثله و تكرهه. و مثاله أن تقول: «أ هو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك»، «أ هو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك».

و قد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره و قصر همته، و أن نفسه نفس لا تسمو. و ذلك قولك: «أ هو يسمح بمثل هذا؟ أ هو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همّة من ذلك، و أقل رغبة في الخير مما تظنّ».

و جملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل «إنه يفعل» أو قال هو «إني أفعل»، و أردت ما تريده إذا قلت: «ليس هو بالذي يفعل، و ليس مثله يفعل»، و لا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت: «أ تفعل؟». أ لا ترى أن من المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه: «أ تخرج في هذا الوقت؟ أ تغرّر بنفسك؟ أ تمضي في غير الطريق؟»، أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك، و بموضع من يجي ء منه ذاك، لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه، و أنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام. و كذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل و علا: أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28]، أنّا لسنا بمثابة من يجي ء منه هذا الإلزام، و أن غيرنا من يفعله، جلّ اللّه تعالى.

و قد يتوهّم المتوهّم في الشي ء من ذلك أنّه يحتمل، فإذا نظر لم يحتمل، فمن ذلك قوله:

أ يقتلني و المشرفيّ مضاجعي و قد يظنّ الظانّ أنه يجوز أن يكون في معنى أنّه ليس بالذي يجي ء منه أن يقتل مثلي، و يتعلّق بأنه قال قبل: [من الطويل ]

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ليقتلني و المرء ليس بقتّال

و لكنه إذا نظر علم أنّه لا يجوز، و ذاك لأنه قال: «و المشرفيّ مضاجعي» فذكر ما يكون منعا من الفعل، و محال أن يقول: «هو ممن لا يجي ء منه الفعل»، ثم يقول:

«إنّي أمنعه»، لأن المنع يتصوّر فيمن يجي ء منه الفعل، و مع من يصحّ منه، لا من هو منه محال، و من هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه.

ص: 84

و اعلم أنا و إن كنا نفسّر «الاستفهام» في مثل هذا بالإنكار، فإن الذي هو محض المعنى: أنه ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل و يرتدع و يعيا بالجواب، إمّا لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: «فافعل»، فيفضحه ذلك، و إمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبّه و عرف الخطأ، و إمّا لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه، و قيل له: «فأرناه في موضع و في حال، و أقيم شاهدا على أنه كان في وقت».

و لو كان يكون للإنكار، و كان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي أن لا يجي ء فيما لا يقول عاقل إنه يكون، حتى ينكر عليه، كقولهم: «أ تصعد إلى السماء؟»، «أ تستطيع أن تنقل الجبال؟»، «أ إلى ردّ ما مضى سبيل؟».

و إذ قد عرفت ذلك، فإنه لا يقرّر بالمحال، و بما لا يقول أحد إنه يكون، إلا على سبيل التمثيل، و على أن يقال له: «إنك في دعواك ما ادّعيت بمنزلة من يدّعي هذا المحال، و إنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع».

و إذ قد عرفت هذا، فممّا هو من هذا الضرب قوله تعالى: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40]، ليس إسماع الصّم مما يدّعيه أحد فيكون ذلك للإنكار، و إنّما المعنى فيه التمثيل و التشبيه، و أن ينزّل الذي يظنّ بهم أنهم يسمعون، أو أنه يستطيع إسماعهم، منزلة من يرى أنه يسمع الصم و يهدى العمي ثم المعنى في تقديم الاسم و أن لم يقل: «أ تسمع الصمّ»، هو أن يقال للنبي صلى اللّه عليه و سلّم:

«أ أنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصمّ؟»، و أن يجعل في ظنّه أنه يستطيع إسماعهم، بمثابة من يظنّ أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصّمّ.

و من لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة: [من الكامل ]

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري، أ طنين أجنحة الذّباب يضير (1)؟

جعله كأنه قد ظنّ أنّ طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير، حتى ظنّ أن وعيده يضير. د

ص: 85


1- البيت في الكامل (2/ 60) للمبرد تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، و عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة قال لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- رضي اللّه عنه- و كان دعاه إلى نصرة أبيه محمد بن جعفر حين ظهرت المبيضة فلم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد اللّه: أ عليّ إنك جاهل مغرور لا ظلمة لك لا و لا لك نور أ كتبت توعدني أن استبطأتني إني بحربك ما حييت حديد

و اعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل، أعني أنّ تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة و المنع من أن يكون، بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل، فإذا قلت: «أ زيدا تضرب؟»، كنت قد أنكرت أن يكون «زيد» بمثابة أن يضرب، أو بموضع أن يجترأ عليه و يستجاز ذلك فيه، و من أجل ذلك قدّم «غير» في قوله تعالى: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14]، و قوله عز و جل: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الأنعام: 40]، و كان له من الحسن و المزيّة و الفخامة، ما تعلم أنه لا يكون لو أخّر فقيل: «قل أ أتّخذ غير اللّه وليّا» و «أ تدعون غير اللّه؟» و ذلك لأنّه قد حصل بالتقديم معنى قولك: «أ يكون غير اللّه بمثابة أن يتّخذ وليّا؟ و أ يرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ و أ يكون جهل أجهل و عمى أعمى من ذلك؟»، و لا يكون شي ء من ذلك إذا قيل: «أأتخذ غير اللّه وليا»، و ذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط، و لا يزيد على ذلك، فاعرفه.

و كذلك الحكم في قوله تعالى: فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر:

24]، و ذلك لأنهم بنوا كفرهم على أنّ من كان مثلهم بشرا، لم يكن بمثابة أن يتّبع و يطاع، و ينتهى إلى ما يأمر، و يصدّق أنه مبعوث من اللّه تعالى، و أنهم مأمورون بطاعته، كما جاء في الأخرى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا [إبراهيم: 10]، و كقوله عز و جل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24].

فهذا هو القول في الضرب الأول، و هو أن يكون «يفعل» بعد الهمزة لفعل لم يكن.

و أما الضرب الثاني، و هو أن يكون «يفعل» لفعل موجود، فإن تقديم الاسم يقتضي شبيها بما اقتضاه في «الماضي»، من الأخذ بأن يقرّ أنه الفاعل، أو الإنكار أن يكون الفاعل.

فمثال الأول قولك للرجل يبغي و يظلم: «أ أنت تجي ء إلى الضعيف فتغصب ماله؟»، «أ أنت تزعم أن الأمر كيت و كيت؟» و على ذلك قوله تعالى: أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99].

و مثال الثاني: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32].

ص: 86

فصل و إذ قد عرفت هذه المسائل في «الاستفهام»، فهذه مسائل في «النفي».

اشارة

إذا قلت: «ما فعلت»، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول، و إذا قلت:

«ما أنا فعلت»، كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنّه مفعول.

تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «ما قلت هذا»، كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك، و كنت نوظرت في شي ء لم يثبت أنه مقول؟

و إذا قلت: «ما أنا قلت هذا»، كنت نفيت أن تكون القائل له، و كانت المناظرة في شي ء ثبت أنه مقول. و كذلك إذا قلت: «ما ضربت زيدا»، كنت نفيت عنك ضربه، و لم يجب أن يكون قد ضرب، بل يجوز أن يكون ضربه غيرك، و أن لا يكون قد ضرب أصلا. و إذا قلت: «ما أنا ضربت زيدا»، لم تقله إلا و زيد مضروب، و كان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.

و من أجل ذلك صلح في الوجه الأوّل أن يكون المنفيّ عامّا كقولك: «ما قلت شعرا قطّ»، و «ما أكلت اليوم شيئا»، و «ما رأيت أحدا من الناس»، و لم يصلح من الوجه الثاني، فكان خلفا أن تقول: «ما أنا قلت شعرا قط»، و «ما أنا أكلت اليوم شيئا»، و «ما أنا رأيت أحدا من الناس»، و ذلك أنه يقتضي المحال، و هو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كلّ شعر في الدنيا، و أكل كلّ شي ء يؤكل، و رأى كل أحد من الناس، فنفيت أن تكونه.

و مما هو مثال بيّن في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله: [من المتقارب

و ما أنا أسقمت جسمي به و لا أنا أضرمت في القلب نارا (1)

المعنى، كما لا يخفى، على أن السّقم ثابت موجود، و ليس القصد بالنّفي إليه، و لكن إلى أن يكون هو الجالب له، و يكون قد جرّه إلى نفسه.

ص: 87


1- البيت للمتنبي في ديوانه (118)، و هو من قصيدة قالها ردّا على تنكر سيف الدولة له بسبب تأخره عن مدحه، و مطلعها: أرى ذلك القرب صار ازورارا و صار طويل السلام اختصارا و المعنى: أنه يعتذر بما عرض له من الهم الذي أسقم جسمه و جعل في قلبه نارا لحرارته، فهو الذي كان السبب في انقطاع الشعر و النوم جميعا، يقول: أنا لا أقدر أن أفعل شيئا من هذا. التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري.

و مثله في الوضوح قوله: [من الطويل ]و ما أنا وحدي قلت ذا الشّعر كلّه (1) «الشعر» مقول على القطع، و النفي لأن يكون هو وحده القائل له.

و هاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، و يصير العلم به كالضرورة.

أحدهما: أنه يصحّ لك أن تقول: «ما قلت هذا، و لا قاله أحد من الناس»، و «ما ضربت زيدا، و لا ضربه أحد سواي»، و لا يصحّ ذلك في الوجه الآخر. فلو قلت:

«ما أنا قلت هذا، و لا قاله أحد من الناس»، و «ما أنا ضربت زيدا، و لا ضربه أحد سواي»، كان خلفا (2) من القول، و كان في التناقض بمنزلة أن تقول: «لست الضّارب زيدا أمس»، فتثبت أنه قد ضرب، ثم تقول من بعده: «و ما ضربه أحد من الناس»، و «لست القائل ذلك»، فتثبت أنه قد قيل، ثم تجي ء فتقول و «ما قاله أحد من الناس».

و الثاني: من الأمرين أنك تقول: «ما ضربت إلا زيدا»، فيكون كلاما مستقيما، و لو قلت: «ما أنا ضربت إلا زيدا»، كان لغوا من القول، و ذلك لأن نقض النّفي ب «إلّا» يقتضي أن تكون ضربت زيدا، و تقديمك ضميرك و إيلاؤه حرف النفي، يقتضي نفي أن تكون ضربته، فهما يتدافعان (3). فاعرفه.

و يجي ء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول و تأخيره.

فإذا قلت: «ما ضربت زيدا»، فقدمت الفعل، كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، و لم تعرض في أمر غيره لنفي، و لا إثبات، و تركته مبهما محتملا. ).

ص: 88


1- البيت للمتنبي في ديوانه (237) من قصيدة يمدح فيها عليّا بن أحمد بن عامر الأنطاكي، و تمامه: و لكن لشعري فيك من نفسه شعر و المعنى: يقول: أنا ما انفردت بعمل هذا الشعر و لكن شعري أعانني على مدحك لأنه أراد مدحك كما أردته.
2- الخلف: بفتح الخاء و سكون اللام الردي ء من القول و بالضم الاسم من الإخلاف و هو أن تعد عدة و لا تنجزها، القاموس/ خلف/ (1042).
3- يتدافعان: تقول تدافعوا: أي دفع بعضهم بعضا، القاموس/ دفع/ (924).

و إذا قلت: «ما زيدا ضربت»، فقدمت المفعول، كان المعنى على أنّ ضربا وقع منك على إنسان، و ظنّ أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه.

فلك أن تقول في الوجه الأول: «ما ضربت زيدا و لا أحدا من الناس»، و ليس لك ذلك في الوجه الثاني. فلو قلت: «ما زيدا ضربت و لا أحدا من الناس»، كان فاسدا على ما مضى في الفاعل.

و مما ينبغي أن تعلمه، أنه يصحّ لك أن تقول: «ما ضربت زيدا، و لكني أكرمته»، فتعقب الفعل المنفيّ بإثبات فعل هو ضدّه، و لا يصحّ أن تقول: «ما زيدا ضربت، و لكني أكرمته»، و ذاك أنّك لو ترد أن تقول: لم يكن الفعل هذا و لكن ذاك، و لكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا، و لكن ذاك. فالواجب إذن أن تقول: «ما زيدا ضربت و لكن عمرا».

و حكم الجارّ مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب، فإذا قلت: «ما أمرتك بهذا»، كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك، و لم يجب أن تكون قد أمرته بشي ء آخر، و إذا قلت: «ما بهذا أمرتك»، كنت قد أمرته بشي ء غيره.

[فصل: الاستفهام له التقديم و الصدارة و تقديم ما يقارنه من اسم و فعل

- و اعلم أنّ الذي بان لك في «الاستفهام» و «النفي» من المعنى في التقديم، قائم مثله في «الخبر المثبت».

فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدّث عنه بفعل فقدّمت ذكره، ثم بنيت الفعل عليه فقلت: «زيد قد فعل» و «أنا فعلت»، و «أنت فعلت»،: اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل، إلا أنّ المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين:

أحدهما: جليّ لا يشكل: و هو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنصّ فيه على واحد فتجعله له، و تزعم أنه فاعله دون واحد آخر، أو دون كل أحد. و مثال ذلك أن تقول: «أنا كتبت في معنى فلان (1)، و أنا شفعت في بابه»، تريد أن تدّعي الانفراد بذلك و الاستبداد به، و تزيل الاشتباه فيه، و تردّ على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. و من البيّن في ذلك قولهم في المثل: «أ تعلّمني بضبّ أنا حرشته» (2).

ص: 89


1- باب فلان: الباب و البابة: الغاية. القاموس/ بوب/ (77).
2- ذكره الميداني في مجمع الأمثال (1/ 173). بلفظ «تعلمني بضب أنا حرشته». و حرش الضب: (صيده) يضرب لمن يخبرك بشي ء أنت به منه أعلم. ورد أيضا في اللسان/ حرش/ (6/ 280).

و القسم الثاني: أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، و لكن على أنك أردت أن تحقّق على السامع أنه قد فعل، و تمنعه من الشك، فأنت لذلك تبدأ بذكره، و توقعه أوّلا- و من قبل أن تذكر الفعل (1)- في نفسه، لكي تباعده بذلك عن الشّبهة، و تمنعه من الإنكار، أو من أن يظنّ بك الغلط أو التزيّد. و مثاله قولك:

«هو يعطي الجزيل»، و «هو يحبّ الثناء»، لا تريد أن تزعم أنه ليس هنا من يعطي الجزيل و يحبّ الثناء غيره، و لا أن تعرّض بإنسان و تحطّه عنه، و تجعله لا يعطي كما يعطى، و لا يرغب كما يرغب، و لكنك تريد أن تحقّق على السامع أن إعطاء الجزيل و حبّ الثناء دأبه، و أن تمكّن ذلك في نفسه.

و مثاله في الشعر: [من الطويل ]

هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة و أجرد سبّاح يبذّ المغالبا (2)

لم يرد أن يدّعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، و ينصّ عليهم فيها، حتى كأنه يعرّض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا أصحابها. هذا محال. و إنما أراد أن يصفهم بأنّهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل، و أنّهم يقتعدون الجياد منها، و أن ذلك دأبهم، من غير أن يعرّض لنفيه عن غيرهم، إلّا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم، و يعلم بديّا (3) قصده إليهم بما في نفسه من الصفة، ليمنعه بذلك من الشكّ، و من توهّم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه.

و على ذلك قول الآخر: [من الطويل ]

هم يضربون الكبش يبرق بيضه، على وجهه من الدّماء سبائب (4)

ص: 90


1- قوله: (و من قبل أن تذكر الفعل) جملة اعتراضية و سياق الكلام و توقعه أولا .... في نفسه.
2- البيت للمعذل بن عبد الله الليثي الشاعر الإسلامي. الحماسة بشرح المرزوقي (4/ 1763). اللبد: الصوف. القاموس مادة/ لبد/ (404). الطمرة: الطمر بتشديد الراء الفرس الجواد المستفز للعدو، اللسان مادة/ طمر/ (4/ 503). الأجرد: فرس أجرد أي قصير الشعر، القاموس/ جرد/ (347). السوابح: هي الخيل لسبحها بيديها في سيرها. القاموس/ سبح/ (284). البذّ: أي الغلبة. القاموس/ بذّ/ (422).
3- بديا: بداوة الشي ء أول ما يبدأ منه. القاموس/ بدا/ (1629).
4- البيت للأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن تغلب بن وائل، و هو في المفضليات رقم (41 ص 207)، و الإيضاح (64). الكبش: رئيس القوم و حاميهم. البيض: جمع بيضة، و هي قلنسوة الحديد. السبائب: الطرائق الواحدة سبيبة و إنما خصّ الوجه لأنه أشجع للمضروب، إنما يضرب في رأسه مقبلا، فالدم في وجهه.

لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد، و يجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم، و لكن أراد الذي ذكرت لك، من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث، ليحقق الأمر و يؤكّده.

و من البين فيه قول عروة بن أذينة: [من الهزج ]

سليمى أزمعت بينا فأين تقولها أينا (1)

و ذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة، و يجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال، و لكنه أراد أن يحقق الأمر و يؤكده، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلّم ابتداء و من أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعد له من الشك.

و مثله في الوضوح قوله: [من الطويل ]

هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما (2)

لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما، و لكن نبّه لهما قبل الحديث عنهما.

و أبين من الجميع قوله تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3]، و قوله عز و جل: وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61].

و هذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء، و بني الفعل الناصب كان له عليه (3)، و عدّي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في «ضربت عبد اللّه»: «عبد اللّه ضربته»، فقال: و «إنما» قلت: «عبد اللّه»، فنبّهته له، ثم بنيت عليه الفعل، و رفعته بالابتداء.

فإن قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل، آكد لإثبات ذلك الفعل له، و أن يكون قوله: «هما يلبسان المجد»، أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال: «يلبسان المجد»؟

ص: 91


1- البيت في ديوانه (397- 400). و تقولها: بمعنى تظنها.
2- الشعر لعمرة الخثعمية، ترثي ابنها، و قال أبو رياش: هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية. شرح الحماسة للتبريزي (3/ 60- 64).
3- أي: و مبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.

فإنّ ذلك (1) من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرّى من العوامل إلّا لحديث قد نوي إسناده إليه. و إذا كان كذلك، فإذا قلت: «عبد اللّه»، فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلا: «قام» أو قلت: «خرج»، أو قلت: «قدم» فقد علم ما جئت به و قد وطّأت له و قدّمت الإعلام فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، و قبله قبول المهيّئ له المطمئنّ إليه، و ذلك لا محالة أشدّ لثبوته، و أنفى للشبهة، و أمنع للشك، و أدخل في التحقيق.

و جملة الأمر أنّه ليس إعلامك الشي ء بغتة غفلا، مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه و التقدمة له، لأنّ ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد و الإحكام. و من هاهنا قالوا: إنّ الشي ء إذا أضمر ثم فسّر، كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار.

و يدلّ على صحة ما قالوه أنّا نعلم ضرورة في قوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، فخامة و شرفا و روعة، لا نجد منها شيئا في قولنا: «فإن الأبصار لا تعمى»، و كذلك السبيل أبدا في كل كلام كان فيه ضمير قصّة. فقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين، ما لو قيل: «إن الكافرين لا يفلحون»، لم يستفد ذلك. و لم يكن ذلك كذلك إلّا لأنك تعلمه إيّاه من بعد تقدمة و تنبيه، أنت به في حكم من بدأ و أعاد و وطّد، ثم بنى و لوّح ثم صرّح. و لا يخفى مكان المزيّة فيما طريقه هذا الطريق.

و يشهد لما قلنا من أنّ تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر و تحقيقه له، أنّا إذا تأمّلنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجي ء فيما سبق فيه إنكار من منكر، نحو أن يقول الرجل: «ليس لي علم بالذي تقول»، فتقول له: «أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، و لكنّك تميل إلى خصمي»، و كقول الناس: «هو يعلم ذاك و إن أنكر، و هو يعلم الكذب فيما قال و إن حلف عليه»، و كقوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75]، فهذا من أبين شي ء. و ذاك أن الكاذب، لا سيما في الدين، لا يعترف بأنه كاذب، و إذا لم يعترف بأنه كاذب، كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنّه كاذب.

أو يجي ء (2) فيما اعترض فيه شكّ، نحو أن يقول الرجل: «كأنك لا تعلم ما صنع فلان و لم يبلغك»، فيقول: «أنا أعلم، و لكنّي أداريه». ).

ص: 92


1- قوله: (فإن ذلك) جواب لقوله: (فمن أين وجب).
2- قوله: (أو يجي ء) جملة معطوفة على قوله: (يجي ء فيما سبق).

أو في تكذيب مدّع كقوله عز و جل: وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61]، و ذلك أن قولهم: «آمنا»، دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب.

أو فيما القياس في مثله أن لا يكون، كقوله تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3]، و ذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة.

و كذلك في كل شي ء كان خبرا على خلاف العادة، و عمّا يستغرب من الأمر نحو أن تقول: «أ لا تعجب من فلان؟ يدّعي العظيم، و هو يعيا باليسير، و يزعم أنه شجاع، و هو يفزع من أدنى شي ء».

و مما يحسن ذلك فيه و يكثر، الوعد و الضّمان، كقول الرجل: «أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر»، و ذلك أنّ من شأن من تعده و تضمن له، أن يعترضه الشكّ في تمام الوعد و في الوفاء به، فهو من أحوج شي ء إلى التأكيد.

و كذلك يكثر في المدح، كقولك: «أنت تعطي الجزيل، أنت تقري في المحل، أنت تجود حين لا يجود أحد»، و كما قال: [من الكامل ]

و لأنت تفري ما خلقت و بع ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (1)

و كقول الآخر: [من الرمل نحن في المشتاة ندعو الجفلى (2) و ذلك أنّ من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشكّ فيما يمدح به، و يباعدهم من الشبهة، و كذلك المفتخر.

ص: 93


1- البيت لزهير بن أبي سلمى، و هو في ديوانه (31) من قصيدة قالها في مدح هرم بن سنان، و هو في مفتاح العلوم (123). فرى الشي ء يفريه: قطعه، و فرى المزادة صنعها، و الخلق التقدير و الذي يصنع شيئا من الجلد و نحوه على مثال سابق كالمزادة و النعل بقدر ثم يقطع و يفصل.
2- البيت لطرفة بن العبد، و هو في ديوانه (55) من قصيدة طويلة قالها مخاطبا نفسه، ثم راح يصف ملاهيه و جوانب من مفاخره الجماعية. و مطلعها: أ صحوت اليوم أم شاقتك هر و من الحب جنون مستعر لا يكن حبك داء قاتلا ليس هذا منك ماوي بحر المشتاة: وقت الشتاء البارد. الجفلى: الدعوة العامة إلى الطعام دونما تخصيص. الانتقار: دعوة النقرى، و هي دعوة خاصة بخلاف الجفلى فهي عامة.

و يزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا يشكّ فيه و لا ينكر بحال، لم يكد يجي ء على هذا الوجه، و لكن يؤتى به غير مبنيّ على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت: «قد خرج»، و لم تحتج إلى أن تقول: «هو قد خرج»، و ذاك لأنه ليس بشي ء يشكّ فيه السامع، فتحتاج أن تحقّقه، و إلى أن تقدّم فيه ذكر المحدّث عنه. و كذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نيّة الركوب و المضيّ إلى موضع، و لم يكن شكّ و تردّد أنه يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه أن تقول: «قد ركب»، و لا تقول: «هو قد ركب». فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام، و وضعته بعد و او الحال، حسن حينئذ، و ذلك قولك: «جئته و هو قد ركب»، و ذاك أن الحكم يتغيّر إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع، و يصير الأمر بمعرض الشّك، و ذاك أنه إنما يقول هذا من ظنّ أنّه يصادفه في منزله، و أنّه يصل إليه من قبل أن يركب.

فإن قلت (1): فإنك قد تقول: «جئته و قد ركب» بهذا المعنى، و مع هذا الشكّ.

فإن الشكّ لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول، أ فلا ترى أنك إذا استبطأت إنسانا فقلت: «أتانا و الشمس قد طلعت»، كان ذلك أبلغ في استبطائك له من أن تقول: «أتانا و قد طلعت الشمس»؟ و عكس هذا أنك إذا قلت: «أتى و الشمس لم تطلع»، و كان أقوى في وصفك له بالعجلة و المجي ء قبل الوقت الذي ظنّ أنه يجي ء فيه، من أن تقول: «أتى و لم تطلع الشمس بعد».

هذا، و هو كلام لا يكاد يجي ء إلّا نابيا، و إنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم و تبني الفعل عليه كقوله: [من الكامل ]قد أغتدي و الطّير لم تكلّم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال، مضارعا، لم يصلح إلا مبنيّا على اسم كقولك: «رأيته و هو يكتب»، و «دخلت عليه و هو يملي الحديث»، و كقوله: [من الطويل ]

تمزّزتها و الدّيك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا

ليس يصلح شي ء من ذلك إلا على ما تراه، لو قلت: «رأيته و يكتب» و «دخلت عليه و يملي الحديث»، و «تمززتها و يدعو الديك صباحه»، لم يكن شيئا.

و ممّا هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى ).

ص: 94


1- قوله: (فإن قلت) جوابه: (فإن الشك).

الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196]، و قوله تعالى: وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا [الفرقان: 5]، و قوله تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جي ء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على الاسم فقيل: «إن وليّي اللّه الذي نزل الكتاب و يتولّى الصالحين»، و «اكتتبها فتملى عليه»، و «حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فيوزعون»، لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، و المعنى قد زال عن صورته و الحال التي ينبغي أن يكون عليها.

و اعلم أنّ هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفيّ ما اقتضاه في المثبت، فإذا قلت: «أنت لا تحسن هذا»، كان أشدّ لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول: «لا تحسن هذا، و يكون الكلام في الأول مع من هو أشدّ إعجابا بنفسه، و أعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنّك لو أتيت ب «أنت» فيما بعد «تحسن» فقلت: «لا تحسن أنت»، لم يكن له تلك القوة.

و كذلك قوله تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59]، يفيد من التأكيد في نفي الاشتراك عنهم، ما لو قيل: «و الذين لا يشركون بربهم، أو:

بربهم لا يشركون» لم يفد ذلك. و كذا قوله تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7]، و قوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ [القصص: 66]، و إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55].

و مما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم: «مثل»، و «غير»، في نحو قوله: [من السريع

مثلك يثني الحزن عن صوبه و يستردّ الدّمع عن غربه (1)

و قول الناس: «مثلك رعى الحقّ و الحرمة»، و كقول الذي قال له الحجاج:

ص: 95


1- البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 327) من قصيدة قالها في رثاء عمة عضد الدولة ببغداد، و رواية الديوان: «يثني الحزن» و هي الأصح، إذ قوله: «يثني المزن» لا يناسب مقام الرثاء. و البيت في شرح التبيان للعكبري: (1/ 153)، و الإيضاح (70)، و الإشارات و التنبيهات (50)، و نهاية الإيجاز (311). و الغروب: مجاري الدمع، للعين غربان مقدمها و مؤخرها. قال الأصمعي: يقال بعينه غرب إذا كان يسيل و لا ينقطع دموعها و الغروب الدمع. و الصوب: القصد و الإصابة و الصوت. المعنى: يريد أنك تقدر على دفع الحزن عن قصده و تغلبه بالصبر و ترد الدمع إلى قراره و مجراه بأن تصرفه عن المجرى، و كيف لا تفعل هذا و أنت لا شبه لك.

«لأحملنك على الأدهم» (1)، يريد القيد، فقال على سبيل المغالطة: «و مثل الأمير يحمل على الأدهم و الأشهب» (2)، و ما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه ب «مثل» إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه، و لكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال و الصفة، كان من مقتضى القياس و موجب العرف و العادة أن يفعل ما ذكر، أو أن لا يفعل. و من أجل أن كان المعنى كذلك قال: [من السريع

و لم أقل مثلك، أعني به سواك، يا فردا بلا مشبه (3)

و كذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك فقيل: «غيري يفعل ذاك»، على معنى أني لا أفعله، لا أن يومئ ب «غير» إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل، كما قال: [من البسيط] غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع (4) و ذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد كان هناك فيستنقصه و يصفه بأنه مضعوف يغرّ و يخدع، بل لم يرد إلا أن يقول: إني لست ممن ينخدع و يغترّ. و كذلك لم يرد أبو تمام بقوله: [من الوافر]

و غيري يأكل المعروف سحتا و تشحب عنده بيض الأيادي (5)

ص: 96


1- و هو الأسود من الخيل، اللسان/ دهم/ (12/ 209).
2- البياض الذي غلب عليه السواد، و هو من الخيل، اللسان/ شهب/ (1/ 508).
3- البيت للمتنبي، و هو آخر بيت من القصيدة سالفة الذكر، و المعنى: يريد لم أقل مثلك و هو قولي مثلك يثني الحزن أعني به سواك، و كيف أقول هذا و أنت الذي لا مثل له في زمانه، و إنما أردت نفسك لا غيرك. و البيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 153)، و الإيضاح (69).
4- البيت للمتنبي في ديوانه (62)، و هو مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني، و تمامه: إن قاتلوا جنوا أو حدثوا شجعوا و البيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 416)، و الإيضاح (70)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 86)، و نهاية الإيجاز. و الشطر الثاني تعليل للحكم الذي في الشطر الأول. و المعنى: لا أعتقد في هؤلاء الناس الخير و لكن غيري ممن يجهل أمرهم يغتر بقولهم فينخدع به لأنهم إذا قاتلوا جبنوا. و انهزموا، و إذا حدثوا أظهروا الشجاعة، أي: أن شجاعتهم بالقول لا بالفعل، و إذا كانوا كذلك فالجاهل يغتر بهم.
5- البيت في ديوانه (81) من قصيدة في مدح أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد و يعتذر إليه، و قبله: و كان الشكر للكرماء خصلا و ميدانا كميدان الجياد عليه عقدت عقديّ و لاحت مواسمه على شيمي و عادي و هو في الإيضاح (71)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 86)، و الإشارات و التنبيهات (51)، و المعروف: الإحسان، السحت: الحرام، يشحب: من الشحوب و هو تغير اللون. و الأيادي: النعم.

أن يعرّض مثلا بشاعر سواه، فيزعم أنّ الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاه، كان من ذلك الشاعر لا منه. هذا محال، بل ليس إلّا أنّه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النّعمة و يلؤم.

و استعمال «مثل» و «غير» على هذا السبيل شي ء مركوز في الطباع، و هو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفّحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما هذا النّحو الذي ذكرت لك، و ترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدّما. أ فلا ترى أنك لو قلت: «يثني الحزن عن صوبه مثلك»، و «رعى الحق و الحرمة مثلك»، و «يحمل على الأدهم و الأشهب مثل الأمير»، و «ينخدع غيري بأكثر هذا الناس»، و «يأكل غيري المعروف سحتا»، رأيت كلاما مقلوبا عن جهته، و مغيّرا عن صورته، و رأيت اللّفظ قد نبا عن معناه، و رأيت الطبع يأبى أن يرضاه.

و اعلم أنّ معك دستورا لك فيه، إن تأمّلت، غنى عن كل سواه، و هو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام و ترتيب أجزائه في «الاستفهام» معنى لا يكون له ذلك المعنى في «الخبر». و ذاك أن «الاستفهام»، استخبار، و الاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان كذلك، كان محالا أن يفترق الحال بين تقديم الاسم و تأخيره في «الاستفهام»، فيكون المعنى إذا قلت: «أزيد قام؟» غيره إذا قلت: «أقام زيد؟»، ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر، و يكون قولك: «زيد قام» و «قام زيد» سواء، ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعلمه أمرا لا سبيل فيه إلى جواب، و أن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه.

و جملة الأمر، أن المعنى في إدخالك «حرف الاستفهام» على الجملة من الكلام، هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة و مؤدّاها على إثبات أو نفي.

فإذا قلت: «أزيد منطلق؟»، فأنت تطلب أن يقول لك: «نعم، هو منطلق» أو يقول:

«لا، ما هو منطلق». و إذا كان ذلك كذلك، كان محالا أن تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخبارا عن المعنى على وجه، لا تكون هي- إذا نزعت منها الهمزة (1)- إخبارا به على ذلك الوجه، فاعرفه.

ص: 97


1- اعتراض بين لا تكون هي ... إخبارا به.

فصل «هذا كلام في النّكرة إذا قدّمت على الفعل، أو قدّم الفعل عليها»

إذا قلت: «أ جاءك رجل؟»، فأنت تريد أن تسأله هل كان مجي ء من واحد من الرجال إليه، فإن قدمت الاسم فقلت: «أرجل جاءك؟»، فأنت تسأله عن جنس من جاءه، أرجل هو أم امرأة؟ و يكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت، و لكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي، فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت: «أزيد جاءك أم عمرو؟».

و لا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى، لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، و السؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه، و لا ثالث.

و إذا كان كذلك، كان محالا أن تقدّم الاسم النكرة و أنت لا تريد السؤال عن الجنس، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلّق، من حيث لا يبقى بعد الجنس إلّا العين.

و النّكرة لا تدلّ على عين شي ء فيسأل بها عنه.

فإن قلت: «أرجل طويل جاءك أم قصير؟»، كان السؤال عن أن الجائي كان، من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت: «أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه»، كان السؤال عن المعطي، أ كان ممّن عرفه قبل، أم كان إنسانا لم تتقدّم منه معرفة [له .

و إذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في «الاستفهام»، فابن «الخبر» عليه.

فإذا قلت: «رجل جاءني»: لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، و يكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك، كان الواجب أن تقول: «جاءني رجل»، فتقدّم الفعل.

و كذلك إن قلت: «رجل طويل جاءني»، لم يستقم حتّى يكون السامع قد ظنّ أنه قد أتاك قصير، أو نزّلته منزلة من ظنّ ذلك.

و قولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب» (1)، إنما قدّم فيه «شرّ»، لأن المراد أن يعلم أن الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشّرّ لا جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول: «رجل

ص: 98


1- ورد في مجمع الأمثال للميداني (1/ 326)، و هو يضرب عند ظهور علامات الشر.

جاءني»، تريد أن رجل لا امرأة، و قول العلماء إنه إنما يصلح (1)، لأنه بمعنى «ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ».

بيان لذلك: أ لا ترى أنك لا تقول: «ما أتاني إلّا رجل»، إلا حيث يتوهّم السامع أنه قد أتتك امرأة، و ذاك لأنّ الخبر ينقض النّفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شي ء، و ينفى عمّا عداه. فإذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»، كان المعنى أنك قد قصرت المجي ء على زيد، و نفيته عن كل من عداه. و إنّما يتصوّر قصر الفعل على معلوم، و متى لم يرد بالنكرة الجنس، لم يقف منها السامع على معلوم، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه، و أخبره أنه كان منه دون غيره.

و اعلم أنّا لم نرد بما قلناه، من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب»، لأنه أريد به الجنس، أنّ معنى «شرّ» و «الشرّ» سواء، و إنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبيّن أنّ الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير، كما أنا إذا قلنا في قولهم: «أرجل أتاك أم امرأة؟»، أن السؤال عن الجنس، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال: «الرّجل أم المرأة أتاك»، و لكنّا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي أ هو من جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس، إلا أنّ القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا، و إنما وقع إلى كونه من جنس الرجال.

و عكس هذا أنك إذا قلت: «أرجل أتاك أم رجلان؟»، كان القصد منك إلى كونه واحدا، دون كونه رجلا، فاعرف ذلك أصلا، و هو أنّه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر، فيصير ذلك الآخر- بأن لم يدخل في القصد- كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ.

و إذا اعتبرت ما قدّمته من قول صاحب الكتاب: «إنّما قلت: «عبد اللّه» فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل» (2)، وجدته يطابق هذا. و ذاك أنّ التنبيه لا يكون إلّا على معلوم، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم، فإذا بدأت بالنكرة فقلت:

«رجل»، و أنت لا تقصد بها الجنس، و أن تعلم السامع أنّ الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة، كان محالا أن تقول: «إني قدّمته لأنبّه المخاطب له»، لأنه يخرج بك إلى أن تقول: إنّي أردت أن أنبه السّامع لشي ء لا يعلمه في جملة و لا تفصيل. و ذلك ما لا يشكّ في استحالته، فاعرفه. ).

ص: 99


1- أي الابتداء بالنكرة.
2- القول لسيبويه في كتابه (1/ 41).

القول في الحذف

اشارة

هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسّحر، فإنك ترى به ترك الذّكر، أفصح من الذكر، و الصّمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، و تجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، و أتمّ ما تكون بيانا إذا لم تبن.

و هذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، و تدفعها حتى تنظر، و أنا أكتب لك بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف، ثم أنبهك على صحّة ما أشرت إليه، و أقيم الحجّة من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب: [من البسيط]

اعتاد قلبك من ليلى عوائده و هاج أهواءك المكنونة الطلل

ربع قواء أذاع المعصرات به و كلّ حيران سار ماؤه خضل (1)

قال: أراد، «ذاك ربع قواء أو هو ربع». قال: و مثله قول الآخر: [من البسيط]

هل تعرف اليوم رسم الدّار و الطّللا كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا

دار لمروة إذ أهلي و أهلهم بالكانسيّة نرعى اللّهو و الغزلا (2)

كأنه قال: تلك دار. قال شيخنا (3) رحمه اللّه: و لم يحمل البيت الأول على أن «الرّبع» بدل من «الطّلل»، لأن الرّبع أكثر من الطّلل، و الشي ء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه، فأما الشي ء من أقلّ منه ففاسد لا يتصوّر. و هذه طريقة مستمرّة لهم إذا ذكروا الديار و المنازل.

و كما يضمرون المبتدأ فيرفعون، فقد يضمرون الفعل فينصبون، كبيت الكتاب أيضا: [من البسيط]

ص: 100


1- هو سيبويه، و نسبهما البغدادي في شرح المغني لعمر بن أبي ربيعة، و ليسا في ديوانه، و القواء: المكان القفر. أذاع المعصرات به: و هي الرياح العاصفات ذوات الغبار. و الرهج، و أذاع به، ذهبت به و طمست معالمه، و حيران: صفة لمحذوف، و هو السحاب المتردد، و سار: يسير ليلا، و ماؤه خضل: يحمل ماء غزيرا.
2- البيتان في الكتاب لسيبويه: (1/ 282)، و ينسبان لعمر بن أبي ربيعة، و هما في ملحقات ديوانه (497)، و البيت الثاني في اللسان (كنس) بدون نسبة. الخلل: جمع خلة بالكسر، و هي بطانة يغشى بها تنقش بالذهب، و الصيقل: شحاذ السيوف و جلاؤها. مروة: اسم صاحبته، الكانسية: موضع. نرعى اللّهو و الغزل: نلتزمهما و نحافظ عليهما و شبه رسوم الدار في اختلافها أو حسنها في عينه بخلل جفون السيوف التي صنعها الصيقل.
3- شيخنا: المقصود به أبو الحسن الفارسي.

ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا و لا يرى مثلها عجم و لا عرب (1)

أنشده بنصب «ديار»، على إضمار فعل، كأنه قال: اذكر ديار ميّة.

و من المواضع التي يطّرد فيها حذف المبتدأ، «القطع و الاستئناف»، و يبدءون بذكر الرجل، و يقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول، و يستأنفون كلاما آخر.

و إذا فعلوا ذلك، أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله: [من مجزوء الكامل

و علمت أني يوم ذا ك منازل كعبا و نهدا

قوم إذا لبسوا الحدي د تنمّروا حلقا و قدّا (2)

و قوله: [من الوافر]

هم حلّوا من الشّرف المعلّى و من حسب العشيرة حيث شاءوا

بناة مكارم و أساة كلم دماؤهم من الكلب الشّفاء (3)

و قوله: [من الطويل ]

رآني على ما بي عميلة فاشتكى إلى ماله حالي أسرّ كما جهر

غلام رماه اللّه بالخير مقبلا له سيمياء لا تشقّ على البصر (4)

و قوله: [من الطويل ]ه.

ص: 101


1- البيت لذي الرمة في ديوانه (11)، و الكتاب لسيبويه (1/ 280)، و الكامل للمبرد (2/ 347)، و خزانة الأدب (2/ 365، 239، 340)، و الدرر (3/ 7)، و شرح أبيات سيبويه، و لسان العرب (عجم)، و نوادر أبي زيد (32)، و همع الهوامع (1/ 168). ميّة و ميّ: اسم على مؤنث، و هي المرأة التي تغزل بها ذو الرمة كثيرا. تساعفنا: تواتينا في مصافاة معاونة. العجم: خلاف العرب.
2- البيتان لعمرو بن معد يكرب في ديوانه المجموع. الحديد: يعني الدروع، تنمّروا: كأنهم كالنمور في الحرب. القدّ: السير الذي يقدّ من الجلد، و القدّ: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ، و الجمع: أقدّ، و القدّ: الجلد أيضا تخصف به النعال.
3- البيتان لأبي البرج القاسم بن جبل الذبياني، شاعر إسلامي، في مدح زفر بن أبي هاشم بن مسعود و هما في الإيضاح (41)، و مفتاح العلوم (271)، و شرح الحماسة (1658)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 55)، و الإشارات و التنبيهات (37).
4- البيتان لابن عنقاء الفزاري، يمدح عميلة حين قاسمه ماله، و البيت الثاني في لسان العرب (سوم). السّيمياء: تأنيث سيما غير مجرى. الجوهري: السيمى مقصور من الواو، قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ و قد يجي ء السّيما و السيميا ممدودين، و جيده الشّعرى، و في وجهه: القمر له سيمياء لا تشقّ على البصر أي: يفرح به من ينظر إليه.

إذا ذكر ابنا العنبريّة لم تضق ذراعي، و ألقى باسته من أفاخر

هلالان، حمّالان في كلّ شتوة من الثقل ما لا تستطيع الأباعر (1)

«حمّالان»، خبر ثان، و ليس بصفة، كما يكون لو قلت مثلا: «رجلان حمّالان».

و ممّا اعتيد فيه أن يجي ء خبرا قد بني على مبتدأ محذوف، قولهم بعد أن يذكروا الرجل: «فتى من صفته كذا»، و «أغرّ من صفته كيت و كيت».

كقوله: [من الطويل ]

ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى و لا عرف إلا قد تولّى و أدبرا

فتى حنظليّ ما تزال ركابه تجرد بمعروف و تنكر منكرا (2)

و قوله: [من الطويل ]

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي أيادي لم تمنن، و إن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه، و لا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت (3)

و من ذلك قول جميل: [من البسيط]

و هل بثينة، يا للناس، قاضيتي ديني؟ و فاعلة خيرا فأجزيها؟

ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما قلبي عشيّة ترميني و أرميها

هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة، ريّا العظام، بلا عيب يرى فيها

من الأوانس مكسال، مبتّلة خود، غذاها بلين العيش غاذيها (4) ).

ص: 102


1- البيتان لموسى بن جابر الحنفي، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 191)، و «ألقى باسته من أفاخر» سقط على عجيزته من العجز، و ما يجد من الذلة و القلة، و هلالان كالهلال في الشهرة و الارتفاع. الشتوة: زمن الجدب في الشتاء.
2- البيتان لأبي حزابة الوليد بن حنيفة في رثاء عبد اللّه بن ناشرة، أحد بني عامر بن زيد بن مناة بن تميم.
3- البيتان أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (303)، و هما لعبد اللّه بن الزبير الأسدي في مدح عثمان بن عفان، و ينسبان لأبي الأسود الدؤلي في مدح عمرو بن سعيد بن العاص، و هما في ديوان إبراهيم بن العباس الصولي في الطرائف الأدبية (130)، و الإيضاح (38، 345)، و التبيان للطيبي (1/ 147)، و مفتاح العلوم (266)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)، و الإشارات و التنبيهات (34، 303). و أيادي بدل اشتمال من عمرو، و التقدير: أيادي له، و قوله: «إذا النعل زلت» كناية عن نزول الشر، و الشاهد في قوله «فتى» لأن التقدير: هو فتى، و الحذف فيه للاختصار.
4- الأبيات لجميل بثينة وردت في الديوان ما عدا البيت الأول. ديوان جميل (218).

و قوله أيضا: [من الكامل ]

إنّي عشيّة رحت و هي حزينة تشكو إليّ صبابة لصبور

و تقول: بت عندي، فديتك، ليلة أشكو إليك، فإنّ ذاك يسير

غرّاء مبسام، كأنّ حديثها درّ تحدّر نظمه منثور

محطوطة المتنين، مضمرة الحشا، ريّا الرّوادف، خلقها ممكور (1)

و قول الأقيشر (2) في ابن عمّ له موسر، سأله فمنعه و قال: كم أعطيك ما لي و أنت تنفقه فيما لا يغنيك؟ و اللّه لا أعطيتك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم و هو فيهم، فشكاه إلى القوم و ذمّه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول: [من الطويل ]

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه، و ليس إلى داعي النّدى بسريع

حريص على الدّنيا، مضيع لدينه، و ليس لما في بيته بمضيع (3)

فتأمّل الآن هذه الأبيات كلّها، و استقرها واحدا واحدا، و انظر إلى موقعها في نفسك، و إلى ما تجده من اللّطف و الظّرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النّفس عمّا تجد، و ألطفت النظر فيما تحسّ به. ثم تكلّف أن تردّ ما حذف الشاعر، و أن تخرجه إلى لفظك، و توقعه في سمعك، فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، و أن ربّ حذف هو قلادة الجيد، و قاعدة التّجويد، و إن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة، و أدلّ دلالة، فانظر إلى قول عبد اللّه بن الزّبير يذكر غريما له قد ألحّ عليه: [من الطويل ]

عرضت على زيد ليأخذ بعض ما يحاوله قبل اعتراض الشّواغل

فدبّ دبيب البغل يألم ظهره و قال: تعلّم، إنّني غير فاعل

تثاءب حتّى قلت: داسع نفسه و أخرج أنيابا له كالمعاول (4)

ص: 103


1- الأبيات لجميل بثينة، و هي في الأغاني (8/ 156)، و قالها عند ما شكا زوج بثينة إلى أبيها و أخيها إلمام جميل بها، فوجهوا إلى جميل فأعذروا إليه و شكوه إلى عشيرته و توعدوه و إياهم فلامه أهله و عنّفوه و قالوا: استخلص إليهم و نبرأ منك و من جريرتك فأقام مدة لا يلم بها فلقي ابني عمه وقا و مسعدة فشكا إليهما ما به و أنشدهما هذه الأبيات.
2- الأقيشر: هو المغيرة بن عبد اللّه بن معرض الأسدي عاصر الإسلام و توفي في خلافة عبد الملك عام 80 ه. انظر الأغاني (1/ 251).
3- البيتان في الإيضاح (39)، و المفتاح (266)، و لطائف التبيان (45)، و الإشارات و التنبيهات:(34)، و الخزانة (2/ 281)، و معاهد التنصيص (3/ 242).
4- من مجموع شعره (115)، عن الأغاني (14/ 240، 241)، و غريم عبد اللّه يقال له: «ذئب» كما ذكر صاحب الأغاني.

الأصل: حتى قلت: «هو داسع نفسه»، أي حسبته من شدة التثاؤب، و مما به من الجهد، يقذف نفسه من جوفه، و يخرجها من صدره، كما يدسع البعير جرّته (1).

ثم إنّك ترى نصبة الكلام و هيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ، و تباعده عن و همك، و تجتهد أن لا يدور في خلدك، و لا يعرض لخاطرك، و تراك كأنك تتوقّاه توقّي الشي ء تكره مكانه، و الثقيل تخشى هجومه.

و من لطيف الحذف قول بكر بن النّطّاح: [من السريع

العين تبدي الحبّ و البغضا و تظهر الإبرام و النّقضا

درّة، ما أنصفتني في الهوى، و لا رحمت الجسد المنضى

غضبى، و لا و اللّه يا أهلها، لا أطعم البارد أو ترضى (2)

يقوله في جارية كان يحبّها، و سعي به إلى أهلها فمنعوها منه. و المقصود قوله «غضبى»، و ذلك أن التقدير «هي غضبى» أو «غضبى هي» لا محالة، أ لا ترى أنّك ترى النّفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف، و كيف تأنس إلى إضماره؟ و ترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به؟

و من جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر، يخاطب امرأته و قد لامته على الجود: [من الكامل ]

قالت سميّة: قد غويت، بأن رأت حقّا تناوب ما لنا و وفود

غيّ لعمرك لا أزال أعوده ما دام مال عندنا «موجود»

المعنى: «ذاك غيّ لا أزال أعود إليه، فدعي عنك لومي».

و إذ عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ، فاعلم أن ذلك سبيله في كل شي ء، فما من اسم أو فعل تجده قد حذف، ثمّ أصيب به موضعه، و حذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها، إلّا و أنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، و ترى إضماره في النفس أولى و آنس من النّطق به.

ص: 104


1- جرّته: الجرة بالكسرة هيئة الجر و ما يفيض به البعير فيأكله ثانية «القاموس: جرر» (464). يدسع البعير بجرته: أي يعيد طعامه من جوفه و يمضغه مرة أخرى.
2- هذه الأبيات في الأغاني قالها بكر بن النطاح عند ما كان يهوى جارية من جواري القيان و تهواه، و كانت لبعض الهاشميين يقال لها درة، و هو يذكرها في شعره كثيرا، و كان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى مولاها و أعلمه أنه قد أفسدها و واطأها على أن تهرب معه إلى الجبل فمنعه من لقائها و حجبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف فقال بكر بن النطاح في ذلك هذه الأبيات. راجع الأغاني (19/ 125). المنضى: من النضو: المهزول.

و إذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ، و هو حذف اسم، إذ لا يكون المبتدأ إلّا اسما، فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصا، فإنّ الحاجة إليه أمسّ، و هو بما نحن بصدده أخصّ، و اللطائف كأنها فيه أكثر، و ممّا يظهر بسببه من الحسن و الرونق أعجب و أظهر.

و هاهنا أصل يجب ضبطه، و هو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدّى إليه، حاله مع الفاعل. فكما أنك إذا قلت: «ضرب زيد»، فأسندت الفعل إلى الفاعل، كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له، لا أن تفيد وجوب الضرب في نفسه و على الإطلاق. كذلك، إذا عدّيت الفعل إلى المفعول فقلت: «ضرب زيد عمرا»، كان غرضك أن تفيد التباس الضّرب الواقع من الأول بالثاني و وقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل و المفعول في أنّ عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتقّ منه بهما، فعمل الرفع في الفاعل، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، و النّصب في المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. و لم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضّرب و وجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول، أو يتعرّض لبيان ذلك، فالعبارة فيه أن يقال:

«كان ضرب» أو «وقع ضرب» أو «وجد ضرب» و ما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرّد في الشي ء.

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أنّ أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدّية، فهم يذكرونها تارة و مرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقّت منها للفاعلين، من غير أن يتعرّضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك، كان الفعل المتعدّي كغير المتعدّي مثلا، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا و لا تقديرا.

و مثال ذلك قول الناس: «فلان يحلّ و يعقد، و يأمر و ينهى، و يضرّ و ينفع»، و كقولهم: «هو يعطي و يجزل، و يقري و يضيف»، المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشي ء على الإطلاق و على الجملة، من غير أن يتعرّض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت: «صار إليه الحل و العقد، و صار بحيث يكون منه حل و عقد، و أمر و نهي، و ضرّ و نفع»، و على هذا القياس.

و على ذلك قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، المعنى: هل يستوي من له علم و من لا علم له؟ من غير أن يقصد النصّ على معلوم. و كذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ [غافر: 68]، و قوله

ص: 105

تعالى: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا [القمر: 43- 44]، و قوله وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى [القمر: 48]، المعنى هو الذي منه الإحياء و الإماتة و الإغناء و الإقناء. و هكذا كلّ موضع كان القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشي ء، و أن تخبر بأنّ من شأنه أن يكون منه، أو لا يكون إلّا منه، أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدّى هناك، لأن تعديته تنقض الغرض و تغيّر المعنى. أ لا ترى أنك إذا قلت: «هو يعطي الدنانير»، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السّامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، و كان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء، لا الإعطاء في نفسه، و لم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء، إلا أنه لم يثبت إعطاء الدّنانير. فاعرف ذلك، فإنّه أصل كبير عظيم النفع.

فهذا قسم من خلوّ الفعل عن المفعول، و هو أن لا يكون له مفعول يمكن النّصّ عليه.

و قسم ثان: و هو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم، إلّا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه. و ينقسم إلى جليّ لا صنعة فيه، و خفيّ تدخله الصنعة.

فمثال الجليّ قولهم: «أصغيت إليه»، و هم يريدون «أذني»، و «أغضيت عليه»، و المعنى «جفني».

و أما الخفيّ الذى تدخله الصّنعة فيتفنّن و يتنوّع.

فنوع منه، أن تذكر الفعل و في نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه، إما لجري ذكر، أو دليل حال، إلا أنك تنسيه نفسك و تخفيه، و توهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه، من غير إن تعدّيه إلى شي ء أو تعرّض فيه لمفعول.

و مثاله قول البحتري: [من الخفيف ]

شجو حسّاده و غيظ عداه أن يرى مبصر و يسمع واع (1)

المعني، لا محالة: أن يرى مبصر محاسنه، و يسمع واع أخباره و أوصافه، و لكنّك تعلم على ذلك أنه كأنّه يسرق علم ذلك من نفسه، و يدفع صورته عن وهمه، ).

ص: 106


1- البيت في ديوانه، و هو يمدح المعتز باللّه بن المتوكل على اللّه، و يعرض بالمستعين باللّه بن المعتصم باللّه من بني العباس. و البيت في التبيان (191)، و الإيضاح (110)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (81).

ليحصل له معنى شريف و غرض خاصّ. و ذاك أنه يمدح خليفة، و هو المعتزّ، و يعرّض بخليفة و هو المستعين، فأراد أن يقول: إن محاسن المعتز و فضائله، المحاسن و الفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر و يعيها سمع حتّى يعلم أنه المستحق للخلافة، و الفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حسّاده و ليس شي ء أشجى لهم و أغيظ، من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى و سامعا يعي، حتى ليتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، و أذن يعي معها، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إيّاها.

و هذا نوع آخر منه، و هو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده، قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام، إلا أنك تطرحه و تتناساه و تدعه يلزم ضمير النفس، لغرض غير الذي مضى. و ذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل، و تخلص له، و تنصرف بجملتها و كما هي إليه.

و مثاله قول عمرو بن معد يكرب: [من الطويل ]

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم نطقت و لكنّ الرّماح أجرّت (1)

«أجرّت» فعل متعدّ، و معلوم أنه لو عدّاه لما عدّاه إلّا إلى ضمير المتكلم نحو:

«و لكن الرّماح أجرّتني»، و أنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا شي ء آخر يتعدّى إليه، لاستحالة أن يقول: «فلو أن قومي أنطقتني رماحهم»، ثم يقول: «و لكن الرماح أجرّت غيري»، إلا أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول و لا تخرجه إلى لفظك. و السبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض، و ذلك أن الغرض هو أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار و حبس للألسن عن النطق، و أن يصحّح وجود ذلك. و لو قال: «أجرّتني»، و جاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجرارا، بل الذي عناه أن يبيّن أنها أجرته. فقد يذكر الفعل كثيرا و الغرض منه ذكر المفعول، مثاله أنك تقول: «أضربت زيدا؟» و أنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب، و إنّما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد، و أن يستجيز ذلك أو يستطيعه. فلما كان في تعدية «أجرّت» ما يوهم ذلك، وقف فلم يعدّ البتة، و لم ينطق بالمفعول، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرّماح و تصحيح أنه كان منها، و تسلم بكليتها لذلك. ).

ص: 107


1- عمر بن معد يكرب الزبيدي اليمني شاعر مخضرم، و البيت أورده القزويني في الإيضاح (110).

و مثله قول جرير: [من الطويل ]

أمنّيت المنى و خلبت حتّى تركت ضمير قلبي مستهاما (1)

الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية و خلابة، و أن يقول لها: أ هكذا تصنعين؟

و هذه حيلتك في فتنة الناس؟

و من بارع ذلك و نادره، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ في «كتاب الشعر» بإسناد، قال: لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه بأهل الرّدة، استبطأته الأنصار فكلّموه، فقال: إمّا كلّفتموني أخلاق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، فو اللّه ما ذاك عندي و لا عند أحد من الناس، و لكنّي و اللّه ما أوتى من مودّة لكم و لا حسن رأي فيكم، و كيف لا نحبّكم؟ فو اللّه ما وجدت مثلا لنا و لكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب: [من الطويل ]

جزى اللّه عنّا جعفرا حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلّت

أبوا أن يملّونا، و لو أنّ أمّنا تلاقي الّذي لاقوه منّا لملّت

هم خلطونا بالنّفوس و ألجئوا إلى حجرات أدفأت و أظلّت (2)

فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله: «لملّت»، و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت»، لأن الأصل: «لملّتنا» و «ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا و أظلّتنا»، إلّا أنّ الحال على ما ذكرت لك، من أنه في حدّ المتناسى، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، و كأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شي ء يقع عليه، كما يكون إذا قلت: «قد ملّ فلان»، تريد أن تقول: قد دخله الملال، من غير أن تخصّ شيئا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، و كما تقول: «هذا بيت يدفئ و يظلّ»، تريد أنه بهذه الصفة.

و اعلم أن لك في قوله: «أجرّت»، و «لملّت»، فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، و هي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم و من تكذيبهم عن القتال (3) ما يجرّ مثله، و ما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا، و تعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى، لأنك إذا قلت: ).

ص: 108


1- البيت في ديوانه (379)، و قبله: ترى صديان مشرعة شفاء فحام و ليس واردها و حاما
2- الأبيات في الأغاني (15/ 356)، لطفيل الغنوي، و الإيضاح (110، 111).
3- تكذيبهم عن القتال كذب عن أمر أراده أحجم عنه. القاموس:/ كذب/ (166).

«و لكن الرماح أجرتني»، لم يمكن أن يتأوّل على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجرّ، قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجرّ شاعرهم. و نظيره أنك تقول: «قد كان منك ما يؤلم»، تريد ما الشّرط في مثله أن يؤلم كل أحد و كلّ إنسان. و لو قلت: «ما يؤلمني» لم يفد ذلك، لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشي ء لا يؤلم غيرك.

و هكذا قوله: «و لو أنّ أمّنا تلاقي الذي لاقوه منا لملّت»، يتضمن أنّ من حكم مثله في كل أمّ أن تملّ و تسأم، و أن المشقة في ذلك إلى حدّ يعلم أن الأمّ تملّ له الابن و تتبرّم به، مع ما في طباع الأمّهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد.

و ذلك أنه و إن قال: «أمّنا»، فإن المعنى على أن ذلك حكم كلّ أمّ مع أولادها. و لو قلت: «لملّتنا»، لم يحتمل ذلك، لأنه يجري مجرى أن تقول: «لو لقيت أمّنا ذلك لدخلها ما يملّها منا»، و إذا قلت «ما يملها منا» فقيّدت، لم يصلح لأن يراد به معنى العموم و أنّه بحيث يملّ كلّ أمّ من كل ابن.

و كذلك قوله: «إلى حجرات أدفأت و أظلّت»، لأن فيه معنى قولك: «حجرات من شأن مثلها أن تدفئ و تظلّ»، أي: هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ و أظلّ. و لا يجي ء هذا المعنى مع إظهار المفعول؛ إذ لا تقول: «حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا و تظلنا»، هذا لغو من الكلام.

فاعرف هذه النّكتة، فإنك تجدها في كثير من هذا الفنّ مضمومة إلى المعنى الآخر، الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل، و الدلالة على أنّ القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله، لا أن تعلم التباسه بمفعوله.

و إن أردت أن تزداد تبيّنا لهذا الأصل، أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفّر العناية على إثبات الفعل لفاعله و لا يدخلها شوب، فانظر إلى قوله تعالى: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص: 23- 24]، ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى:

«وجد عليه أمة من الناس يسقون» أغنامهم أو مواشيهم، و «امرأتين تذودان» غنمهما و «قالتا لا نسقي» غنمنا، «فسقى لهما» غنمهما.

ثمّ إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كلّه إلا أن يترك ذكره و يؤتى

ص: 109

بالفعل مطلقا، و ما ذاك إلّا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، و من المرأتين ذود، و أنهما قالتا: لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، و أنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أ غنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، و موهم خلافه. و ذاك أنه لو قيل: «وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما»، جاز أن يكون لم ينكر الذّود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود، كما أنك إذا قلت:

«مالك تمنع أخاك؟»، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الرّوعة و الحسن ما وجدت، إلّا لأن في حذفه و ترك ذكره فائدة جليلة، و أن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه.

و ممّا هو كأنه نوع آخر غير ما مضى، قول البحتري: [من الطويل ]

إذا بعدت أبلت، و إن قربت شفت، فهجرانها يبلي، و لقيانها يشفي (1)

قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، و إن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، و يوجب اطّراحه. و ذاك لأنه أرد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه و يجلبه، كأنه كالطبيعة فيه، و كذلك حال الشّفاء مع القرب، حتى كأنّه قال: أ تدري ما بعادها؟ هو الداء المضني، و ما قربها؟ هو الشفاء و البرء من كل داء. و لا سبيل لك إلى هذه اللطيفة و هذه النكتة، إلا بحذف المفعول البتّة، فاعرفه.

و ليس لنتائج هذا الحذف، أعني حذف المفعول، نهاية، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة، و إلى لطائف لا تحصى.

و هذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار و الحذف يسمى «الإضمار على شريطة التفسير»، و ذلك مثل قولهم: «أكرمني و أكرمت عبد اللّه»، أردت:

«أكرمني عبد اللّه و أكرمت عبد اللّه»، ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف و مذهب ظاهر، و شي ء لا يعبأ به، و يظنّ أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه. و فيه- إذا أنت طلبت الشي ء من معدنه- من دقيق الصّنعة و من جليل الفائدة، ما لا تجده إلا في كلام الفحول. ].

ص: 110


1- البيت في ديوانه، و أمام البيت حاشية أخرى، كأنها أيضا منقولة من حواشي نسخة عبد القاهر التي نسخ عنها كاتب «ج» و هذا نص الحاشية: هذا مبنيّ على أن هذه المرأة من الحسن و الجمال بحيث لا يراها أحد إلا عشيقها، و كان حاله معها هذه الحالة. و هذا المعنى هو ما افتتح به المتنبي: أ تراها لكثرة العشاق تحسب الدمع خلقة في المآقي [شاكر].

فمن لطيف ذلك و نادره قول البحتري: [من الكامل ]

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرما، و لم تهدم مآثر خالد (1)

الأصل لا محالة: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه، ثمّ هو على ما تراه و تعلمه من الحسن و الغرابة، و هو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف و لا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: «لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها»، صرت إلى كلام غثّ، و إلى شي ء يمجّه السمع، و تعافه النفس. و ذلك أن في البيان، إذا ورد بعد الإبهام و بعد التحريك له، أبدا لطفا و نبلا لا يكون إذا لم يتقدّم ما يحرّك.

و أنت إذا قلت: «لو شئت»، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة في المعنى بشي ء، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: «لم تفسد سماحة حاتم»، عرف ذلك الشي ء، و مجي ء «المشيئة» بعد «لو» و بعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شي ء، كثير شائع، كقوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35]، و وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9]، و التقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل: لو شاء اللّه أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، و لو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا.

و قد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، و ذلك نحو قول الشاعر: [من الطويل ]

و لو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه، و لكن ساحة البصر أوسع (2)

فقياس هذا لو كان على حدّ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام:

35] أن يقول: «لو شئت بكيت دما»، و لكنه كأنه ترك تلك الطريقة و عدل إلى ع

ص: 111


1- البيت في ديوانه. السماحة: الكرم. حاتم: هو الطائي المعروف. خالد: هو ابن أصمع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس. و البيت في الإيضاح (112).
2- البيت للخريمي، أبو يعقوب إسحاق بن حسان شاعر عباسي من الموالي، و البيت من قصيدة يرثي بها أبا الهيذام عامر بن عمارة بن خريم أمير عرب الشام، و قائد المضرية في الفتنة بين القيسية و اليمنية أيام الرشيد، و هو في الإيضاح (112)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات و التنبيهات (82)، و ذكر تمام البيت: عليه و لكن ساحة الصبر أوسع

هذه، لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصا. و سبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما. فلما كان كذلك، كان الأولى أن يصرّح بذكره ليقرّره في نفس السامع و يؤنسه به.

و إذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبدا متى كان مفعول «المشيئة» أمرا عظيما، أو بديعا غريبا، كان الأحسن أن يذكر و لا يذكر و لا يضمر. يقول الرجل بخبر عن عزّة: «لو شئت أن أردّ على الأمير رددت» و «لو شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيت». فإذا لم يكن مما يكبره السامع، فالحذف كقولك: «لو شئت خرجت»، و «لو شئت قمت»، و «لو شئت أنصفت»، و «لو شئت لقلت»، و في التنزيل: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31]، و كذا تقول: «لو شئت كنت كزيد»، قال:

[من البسيط]

لو شئت كنت ككرز في عبادته أو كابن طارق حول البيت و الحرم (1)

و كذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول: «إن شئت قلت» و «إن أردت دفعت»، قال اللّه تعالى فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24]، و قال عزّ اسمه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39]، و نظائر ذلك من الآي، ترى الحذف فيها المستمرّ.

و مما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفه: [من الطويل ]

و إن شئت لم ترقل، و إن شئت أرقلت مخافة ملويّ من القّدّ محصد (2)

و قول حميد: [من الطويل ]ر.

ص: 112


1- من شعر عبد اللّه بن شبرمة القاضي الفقيه، يقوله لابن هبيرة و يذكر فيه: «كرز بن وبرة الحارثي الجرجاني العابد، و محمد بن طارق» قال ابن شبرمة لما سمع ابن هبيرة الشعر قال له: من كرز؟ و من ابن طارق؟ قال: فقلت له: أما كرز فكان إذا كان في سفر و اتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة، و أما ابن طارق: فلو اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب، و كان كرز يختم القرآن في كل يوم و ليلة ثلاث ختمات، و كان محمد بن طارق يطوف في كل يوم و ليلة سبعين أسبوعا كان يقدّر طوافه في اليوم عشرة فراسخ. و البيت في حلية الأولياء (5/ 81- 82)، و في ترجمة كرز بن و برة الحارثي، و بعده: قد حال دون لذيذ العيش حدهما و شمّرا في طلاب الفوز و الكرم
2- البيت في ديوانه (31)، و في شرح المعلقات العشر (73)، و هو من معلقته. الإرقال: دون العدو و فوق السير.

إذا شئت غنّتني بأجزاع بيشة أو الزّرق من تثليث أو بيلملما

مطوّقة و رقاء تسجع كلّما دنا الصّيف و انجاب الرّبيع فأنجما (1)

و قول البحتريّ: [من الطويل ]

إذا شاء غادى صرمة، أو غدا على عقائل سرب، أو تقنّص ربربا (2)

و قوله: [من الكامل ]

لو شئت عدت بلاد نجد عودة، فحللت بين عقيقه و زروده (3)

معلوم أنك لو قلت: «و إن شئت أن لا ترقل لم ترقل»، أو قلت: «إذا شئت أن تغنّيني بأجزاع بيشة غنّتني»، و «إذا شاء أن يغادي صرمة غادى»، و «لو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها» أذهبت الماء و الرّونق، و خرجت إلى كلام غثّ، و لفظ رثّ.

- و أمّا قول الجوهريّ: [من الطويل ]

فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري، فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا (4)

فقد نحا به نحو قوله: «و لو شئت أن أبكي دما لبكيته»، فأظهر مفعول «شئت»، و لم يقل: «فلو شئت بكيت تفكرا»، لأجل أن له غرضا لا يتمّ إلّا بذكر المفعول. و ذلك أنه لم يرد أن يقول: «و لو شئت أن أبكى تفكّرا بكيت كذلك»، و لكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحول، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول، حتى لو شئت بكاء فمريت (5) شئوني، و عصر عيني ليسيل منها دمع لم أجده، و لخرج بدل الدمع التّفكّر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدّى إلى «التفكر» البتة، و «البكاء» الثاني مقيّد معدّى إلى التفكر. و إذا كان الأمر كذلك، ).

ص: 113


1- البيتان في ديوانه، و هما في الأغاني (4/ 349)، و يروى البيت الأول في الأغاني: «من يلملما» بدل «أو بيلملما». الأجزاع: جمع جزعة، و هي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. بيشة: اسم قرية غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن. التثليث: موضع بالحجاز قرب مكة.
2- البيت في ديوانه. الصّرمة: القطعة من الإبل قيل: هي ما بين العشرين إلى الثلاثين، و قيل: هي ما بين الثلاثين إلى الخمسين و الأربعين، فإذا بلغت الستين فهي الصّدعة، و قيل: هي ما بين عشرة إلى بضع عشرة. و عقائل السرب: كرائمه، الربرب: قطيع البقر الوحشي.
3- البيت للبحتري في ديوانه، و هو في مفتاح العلوم (334)، و الإيضاح (111). العقيق و زرود: موضعان، و المخاطب في البيت السحاب.
4- الجوهري: هو أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري الجرجاني من شعراء الصاحب بن عباد.
5- مريت: مرى الناقة يمريها مسح ضرعها فأمرت هي در لبنها «القاموس: مرى» (1719).

صار الثاني كأنّه شي ء غير الأوّل، و جرى مجرى أن تقول: «لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين»، في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأوّل.

و اعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح: «أكرمت و أكرمني عبد اللّه»، و لكنه شبيه به في أنه إنّما حذف الذي حذف من مفعول «المشيئة» و «الإرادة»، لأنه الذي يأتي في جواب «لو» و أخواتها يدلّ عليه.

و إذا أردت ما هو صريح في ذلك، ثمّ هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق و فائدة جليلة، فانظر إلى بيت البحتري: [من الخفيف

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ دد و المجد و المكارم مثلا (1)

المعنى: قد طلبنا لك مثلا؛ ثم حذف، لأن ذكره في الثاني يدلّ عليه، ثمّ إنّ للمجي ء به كذلك من الحسن و المزيّة و الرّوعة ما لا يخفى. و لو أنه قال: «قد طلبنا لك في السؤدد و المجد و المكارم مثلا فلم نجده»، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا. و سبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح و الغرض بالحقيقة، هو نفي الوجود عن «المثل»، فأما «الطّلب»، فكالشي ء يذكر ليبنى عليه الغرض و يؤكّد به أمره. و إذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: «قد طلبنا لك في السؤدد و المجد و المكارم مثلا فلم نجده»، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ «المثل»، و أوقعه على ضميره. و لن تبلغ الكناية مبلغ التّصريح أبدا.

و يبيّن هذا، كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين (2)، و أنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد، قال:

«و السّنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب و يقصّر المجيب، أ لا ترى أن قيس ابن خارجة بن سنان لمّا ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس و الغبراء و قال: ما لي فيها أيّها العشمتان (3)؟ قالا: بل ما عندك؟ قال: عندي قرى كلّ نازل، و رضى كلّ ساخط، و خطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، و أنهى فيها عن التقاطع قالوا: فخطب يوما إلى الليل، فما أعاد كلمة و لا معنى. فقيل لأبي يعقوب (4): هلّا اكتفى بالأمر بالتواصل، عن النهي عن التقاطع؟ أو

ص: 114


1- قاله البحتري في مدح المعتز. اه الديوان (1/ 156).
2- انظر النص في البيان و التبيين 1/ 116.
3- العشمة الشيخ الفاني ا. ه القاموس:/ عشم/ (1469).
4- و هو الشاعر الخريم الذي تقدم ذكره.

ليس الأمر بالصّلة هو النّهي عن القطيعة؟ قل: أو ما علمت أن الكناية و التعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح و التكشيف» (1).

انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه. فقد بصّرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، كإيقاعه على ضميره.

و إذ قد عرفت هذا، فإنّ هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرّمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري (2)، فيعمل الأول من الفعلين، و ذلك قوله: [من الوافر]

و لم أمدح لأرضيه بشعري لئيما، أن يكون أصاب مالا (3)

أعمل «لم أمدح»، الذي هو الأول، في صريح لفظ «اللئيم»، و «أرضى»، الذي هو الثاني، في ضميره. و ذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللّئيم صريحا، و المجي ء به مكشوفا ظاهرا، هو الواجب من حيث كان أصل الغرض، و كان الإرضاء تعليلا له. و لو أنه قال: «و لم أمدح لأرضي بشعري لئيما»، لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل، و أبانه فيما ليس بالأصل، فاعرفه.

و لهذا الذي ذكرنا من أن للتّصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:

105]، و قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1- 2]، من الحسن و البهجة، و من الفخامة و النّبل، ما لا يخفى موضعه على بصير. و كان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل: «و بالحق أنزلناه و به نزل»: و «قل هو اللّه أحد هو الصمد» لعدمت الذي أنت واجده الآن.

ص: 115


1- في البيان و التبيين الكشف.
2- المقصود به البيت السابق.
3- البيت لذي الرمة في ديوانه (200)، و رواية الديوان هي: و لست بمادح أبدا لئيما بشعري أن يكون أفاد مالا و البيت من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة، و هو في الإيضاح (113)، و المراد أنه لا يمدح اللئام من الناس و لو كانوا أثرياء.

فصل [في تحليل مثال آخر للحذف

قد بان الآن و اتّضح لما نظر نظر المتثبّت- الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل، و الازدياد من الفضل، و من شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، و يتغلغل إلى دقائقها، و يربأ بنفسه عن مرتبة المقلّد الذي يجري مع الظاهر، و لا يعدو الذي يقع في أوّل الخاطر- أنّ الذي قلت في شأن «الحذف» و في تفخيم أمره، و التنويه بذكره، و أنّ مأخذه مأخذ يشبه السحر، و يبهر الفكر، كالذي قلت.

و هذا فنّ آخر من معانيه عجيب، و أنا ذاكره لك. قال البحتري في قصيدته التي أولها: [من الطويل ]أ عن سفه يوم الأبيرق أم حلم (1) و هو يذكر محاماة الممدوح عليه، صيانته له، و دفعه نوائب الزمان عنه: [من الطويل ]

و كم ذدت عنّي من تحامل حادث و سورة أيّام حززن إلى العظم (2)

الأصل لا محالة: حززن اللّحم إلى العظم، إلّا أنّ في مجيئه به محذوفا، و إسقاطه له من النّطق، و تركه في الضمير، مزيّة عجيبة و فائدة جليلة.

و ذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه به من أن يتوهّم في بدء الأمر شيئا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد. و معلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: «و سورة أيام حززن اللحم إلى العظم»، لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجي ء إلى قوله: «إلى العظم»، أن هذا الحزّ كان في بعض اللحم دون كله، و أنه قطع ما يلي الجلد و لم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك، ترك ذكر «اللحم» و أسقطه من اللفظ، ليبرئ السامع من هذا الوهم، و يجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف (3) الفهم، و يتصوّر في نفسه من أوّل الأمر أن الحزّ مضى في اللحم حتى لم يردّه إلّا العظم.

ص: 116


1- هو صدر بيت و عجزه: «وقوف بربع أو بكاء على رسم» قاله البحتري و هو يمدح أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني ا. ه الديوان (1/ 190).
2- البيت للبحتري في ديوانه، و أورده القزويني في الإيضاح (112)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (82)، و المخاطب في البيت أبو الصقر ممدوح البحتري.
3- الأنف من كل شي ء أوله أو أشهره. القاموس:/ أنف/ (1025).

أ فيكون دليل أوضح من هذا و أبين و أجلى في صحة ما ذكرت لك، من أنك قد ترى ترك الذّكر أفصح من الذكر، و الامتناع من أن يبرز اللفظ من الضمير، أحسن للتصوير؟

فصل القول على فروق في الخبر

أوّل ما ينبغي أن يعلم منه أنّه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتمّ الفائدة دونه، و خبر ليس بجزء من الجملة، و لكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، و الفعل كقولك: «خرج زيد»، فكل واحد من هذين جزء من الجملة، و هو الأصل في الفائدة.

و الثاني هو الحال: كقولك: «جاءني زيد راكبا»، و ذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، و من حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال، كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، و بالفعل للفاعل. أ لا تراك قد أثبتّ «الركوب» في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلّا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجي ء، و هو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، و لم تجرّد إثباتك للركوب و لم تباشره به، بل ابتدأت فأثبتّ المجي ء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع للمجي ء، و بشرط أن يكون في صلته. و أما في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك مثبت للمعنى إثباتا جرّدته له، و جعلته يباشر من غير واسطة، و من غير أن تتسبّب بغيره إليه، فاعرفه.

و إذ قد عرفت هذا الفرق، فالذي يليه من فروق الخبر، هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم، و بينه إذا كان بالفعل. و هو فرق لطيف تمسّ الحاجة في علم البلاغة إليه.

و بيانه، أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشي ء من غير أن يقتضي تجدّده شيئا بعد شي ء.

و أما الفعل فموضوعه على أنّه يقتضي تجدّد المعنى المثبت به شيئا بعد شي ء.

فإذا قلت: «زيد منطلق»، فقد أثبتّ الانطلاق فعلا له، من غير أن تجعله يتجدّد و يحدث منه شيئا فشيئا، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدّد

ص: 117

و يحدث، بل توجبهما و تثبتهما فقط، و تقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: «زيد منطلق» لأكثر من إثباته لزيد.

و أما الفعل، فإنه يقصد فيه إلى ذلك. فإذا قلت: «زيد ها هو ذا ينطلق»، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا، و جعلته يزاوله و يزجّيه.

و إن شئت أن تحسّ الفرق بينهما من حيث يلطف، فتأمل هذا البيت: [من البسيط]

لا يألف الدّرهم المضروب خرقتنا، لكن يمرّ عليها و هو منطلق (1)

هذا هو الحسن اللائق بالمعنى، و لو قلته بالفعل: «لكن يمر عليها و هو ينطلق»، لم يحسن.

و إذا أردت أن تعتبره حيث لا يخفى أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، فانظر إلى قوله تعالى: وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18]، فإن أحدا لا يشك في امتناع الفعل هاهنا، و أن قولنا: «كلبهم يبسط ذراعيه»، لا يؤدّي الغرض. و ليس ذلك إلا لأنّ الفعل يقتضي مزاولة و تجدّد الصفة في الوقت، و يقتضي الاسم ثبوت الصّفة و حصولها من غير أن يكون هناك مزاولة و تزجية فعل، و معنى يحدث شيئا فشيئا. و لا فرق بين «و كلبهم باسط»، و بين أن يقول: «و كلبهم واحد» مثلا، في أنك لا تثبت مزاولة، و لا تجعل الكلب يفعل شيئا، بل تثبته بصفة هو عليها. فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب.

و متى اعتبرت الحال في الصّفات المشبهة وجدت الفرق ظاهرا بينا، و لم يعترضك الشك في أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: لم يصلح مكانه «يطول» و «يقصر»، و إنما تقول: «يطول» و «يقصر»، إذا كان الحديث عن شي ء يزيد و ينمو كالشجر و النبات و الصبيّ و نحو ذلك، مما يتجدّد فيه الطول أو يحدث فيه القصر. فأمّا و أنت تحدّث عن هيئة ثابتة، و عن شي ء قد استقرّ طوله، و لم يكن ثمّ تزايد و تجدد، فلا يصلح فيه إلا الاسم.

و إذا ثبت الفرق بين الشي ء و الشي ء في مواضع كثيرة، و ظهر الأمر، بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى ).

ص: 118


1- البيت للنصر بن جؤيّة في الإشارات (65)، و معاهد التنصيص (1/ 207)، و شرح الواحدي على ديوان المتنبي (157)، و الإيضاح (95).

أحدهما قد صلح في مكان الآخر، و تعلم أنّ المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفيّ على الجليّ. و ينعكس لك هذا الحكم، أعني أنّك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثمّ لا يصلح الاسم مكانه، و لا يؤدّي ما كان يؤدّيه.

فمن البيّن في ذلك قول الأعشى: [من الطويل ]

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرّق

تشبّ لمقرورين يصطليانها و بات على النّار النّدى و المحلّق (1)

معلوم أنه لو قيل: «إلى ضوء نار متحرّقة»، لنبا عنه الطبع و أنكرته النفس، ثم لا يكون ذاك النبوّ و ذاك الإنكار من أجل القافية و أنها تفسد به، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض و لا يليق بالحال.

و كذلك قوله: [من الكامل ]

أ و كلّما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم (2)

و ذلك لأن المعنى في بيت الأعشى على أنّ هناك موقدا يتجدّد منه الإلهاب و الإشعال حالا فحالا، و إذا قيل: «متحرقة»، كان المعنى أن هناك نارا قد ثبتت لها و فيها هذه الصفة، و جرى مجرى أن يقال: «إلى ضوء نار عظيمة» في أنه لا يفيد فعلا يفعل و كذلك الحال في قوله: «بعثوا إليّ عريفهم يتوسم»، و ذلك لأن المعنى على توسّم و تأمّل و نظر يتجدّد من العريف هناك حالا فحالا و تصفّح منه الوجوه واحدا بعد واحد: و لو قيل: «بعثوا إليّ عريفهم متوسّما»، لم يفد ذلك حقّ الإفادة.

ص: 119


1- البيتان في ديوانه (149، 150)، و قبلهما: لمحقوقة أن تستجيبي لصوته و أن تعلمي أن المعان موفّق و لا بد من جار يجيز سبيلها كما جوّز السّكّي في الباب فيتق اليفاع: مرتفع من الأرض.
2- البيت لطريف العنبري، و هو طريف بن تميم العنبري أبو عمرو شاعر مقل، جاهلي قتله أحد بني شيبان، و كان يسمى: «ملقي القناع» لأنه أول من ألقى القناع بعكاظ. و البيت في الأصمعيات (117)، و الإيضاح (95)، و الإشارات و التنبيهات (65)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 106). و عكاظ: أكبر أسواق العرب في الجاهلية، و عريف القوم: رئيسهم أو القيّم بأمرهم، يريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته و عظمته.

و من ذلك قوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [فاطر: 3]، لو قيل: «هل من خالق غير اللّه رازق لكم»، لكان المعنى غير ما أريد.

و لا ينبغي أن يغرّك أنّا إذا تكلّمنا في مسائل المبتدأ و الخبر قدّرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول، في «زيد يقوم»، إنه في موضع «زيد قائم»، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيهما استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء، لم يكن أحدهما فعلا و الآخر اسما، بل كان ينبغي أن يكونا جميعا فعلين، أو يكونا اسمين.

و من فروق الإثبات أنك تقول: «زيد منطلق» و «زيد المنطلق»، «المنطلق زيد»، فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص و فائدة لا تكون في الباقي. و أنا أفسّر لك ذلك.

اعلم أنك إذا قلت: «زيد منطلق»، كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقا كان، لا من زيد و لا من عمرو، فأنت تفيده ذلك ابتداء.

و إذا قلت: «زيد المنطلق» كان كلامك مع من عرف أن انطلاقا كان، إما من زيد و إما من عمرو، فأنت تعلمه أنه كان من زيد دون غيره.

و النكتة أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان، و تثبت في الثاني الذي هو «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع أنه كان، و لكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك. فقد وافق الأوّل في المعنى الذي له كان الخبر خبرا، و هو إثبات المعنى للشي ء. و ليس يقدح في ذلك أنّك كنت قد علمت أن انطلاقا كان من أحد الرجلين، لأنّك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو، و كان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد، كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.

و تمام التحقيق أنّ هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلّغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا، فجوّزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل لك: «زيد المنطلق»، صار الذي كان معلوما على جهة الجواز، معلوما على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمّى «فصلا» بين الجزءين فقالوا: «زيد هو المنطلق».

و من الفرق بين المسألتين، و هو مما تمسّ الحاجة إلى معرفته، أنك إذا نكّرت

ص: 120

الخبر جاز أن تأتي بمبتدإ ثان، على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول، و إذا عرّفت لم يجز ذلك.

تفسير هذا أنك تقول: «زيد منطلق و عمرو»، تريد «و عمرو منطلق أيضا»، و لا تقول: «زيد المنطلق و عمرو»، ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقا مخصوصا قد كان من واحد، فإذا أثبته لزيد لم يصحّ إثباته لعمرو.

ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين، فإنه ينبغي أن تجمع بينهما في الخبر فتقول: «زيد و عمرو هما المنطلقان»، لا أن تفرّق فتثبته أوّلا لزيد، ثم تجي ء فتثبته لعمرو.

و من الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: «هو القائل بيت كذا»، كقولك:

جرير هو القائل: [من الطويل ]و ليس لسيفي في العظام بقيّة (1) فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره، فتقول: «جرير هو القائل هذا البيت و فلان»، حاولت محالا، لأنه قول بعينه، فلا يتصوّر أن يشرك جريرا فيه غيره.

و اعلم أنك تجد «الألف و اللام» في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوها:

أحدها: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، و ذلك قولك:

«زيد هو الجواد» و «عمرو هو الشجاع»، تريد أنه الكامل، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه، و ذلك لأنك لم تعتدّ بما كان من غيره، لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك، فلو قلت: «زيد هو الجواد و عمرو»، كان خلفا من القول.

و الوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على معنى المبالغة و ترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. و لا يكون ذلك إلّا إذا قيّدت المعنى بشي ء يخصّصه و يجعله في حكم

ص: 121


1- البيت في ديوانه (461) من قصيدة قالها للفرزدق و يعاتب جده الخطفي، و تمامه و البيت قبله: أنا ابن صريحي خندق غير دعوة يكون مكان القلب منها مكانيا ........... و للسيف أشوى وقعة من لسانيا الشوى دون القتل قد قصد أن لسانه أمرّ و أمضى من السيف.

نوع برأسه، و ذلك كنحو أن يقيّد بالحال و الوقت، كقولك: «هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا» (1). و هكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدّى، ثم اشترطت له مفعولا مخصوصا، كقول الأعشى: [من المتقارب هو الواهب المائة المصطفاة، إمّا مخاضا و إمّا عشارا (2) فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد، نوعا خاصّا من الوفاء، و كذلك تجعل هبة المائة من الإبل نوعا خاصّا، و كذا الباقي. ثم إنّك تجعل كل هذا خبرا على معنى الاختصاص، و أنه للمذكور دون من عداه.

أ لا ترى أن المعنى في بيت الأعشى: أنه لا يهب هذه الهبة إلّا الممدوح؟

و ربما ظنّ الظانّ أن «اللام» في «هو الواهب المائة المصطفاة» بمنزلتها في نحو «زيد هو المنطلق»، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة، كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص. و ليس الأمر كذلك، لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلّك على ذلك أنّ المعنى على أنه يتكرّر منه، و على أن يجعله يهب المائة مرة بعد أخرى، و أما المعنى في قولك: «زيد هو المنطلق»، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة، لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصوّر، كيف؟ و أنت تقول: جرير هو القائل:

و ليس لسيفي في العظام بقية تريد أن تثبت له قيل هذا البيت و تأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل، و بين أن تقصد إلى فعل واحد متعيّن، حاله في المعاني حال زيد في الرجال، في أنه ذات بعينها.

و الوجه الثالث: أن لا يقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور، لا كما كان في «زيد هو الشجاع»، تريد أن لا تعتدّ بشجاعة غيره و لا كما ترى في قوله: «هو

ص: 122


1- قالها جبار بن مسلم بن سلمى عند ما وقف على قبر عامر بن الطفيل (كان و اللّه لا يضل حتى يضل النجم و لا يعطش حتى يعطش البعير و لا يهاب حتى يهاب السيف و كان و اللّه خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا). الإصابة (1051).
2- البيت في ديوانه (40)، و الإيضاح (105)، تحقيق د. هنداوي، المخاض: الحوامل من النوق واحدتها «خلف» بفتح فكسر ففتح، من غير لفظ الجمع، العشار: المناسب من معانيها لما في البيت من تفصيل أنها الوالدات من الإبل، واحدتها «عشراء». كنفساء زنة و معنى، الأول في الإبل، و الثاني في النساء.

الواهب المائة المصطفاة»، و لكن على وجه ثالث، و هو الذي عليه قول الخنساء:

[من الوافر]

إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا (1)

لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن و لا جميل، و لم تقيّد الحسن بشي ء فيتصوّر أن يقصر على البكاء، كما قصر الأعشى هبة المائة على الممدوح، و لكنها أرادت أن تقرّه في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، و لا يشك فيه شاك.

و مثله قول حسان: [من الطويل ]

و إنّ سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم و والدك العبد (2)

أراد أن يثبت العبوديّة، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها و معروفا بها، و لو قال:

«و والدك عبد»، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة و على ذلك قول الآخر: [من الطويل ]

أسود إذا ما أبدت الحرب نابها و في سائر الدّهر الغيوث المواطر

و اعلم أن للخبر المعرّف «بالألف و اللام» معنى غير ما ذكرت لك، و له مسلك ثمّ دقيق و لمحة كالخلس، يكون المتأمل عنده كما يقال: «يعرف و ينكر»، و ذلك قولك: «هو البطل المحامي» و «هو المتّقى المرتجى»، و أنت لا تقصد شيئا مما تقدم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، و لم يعلم أنه ممن كان كما مضى في قولك: «زيد هو المنطلق»، و لا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك: «و والدك العبد»، و لكنّك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي؟ و هل حصّلت معنى هذه الصفة؟

و كيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له و فيه؟ فإن كنت قتلته علما، و تصوّرته حقّ تصوّره، فعليك صاحبك و اشدد به يدك، فهو ضالّتك و عنده بغيتك، و طريقه طريق قولك: «هل سمعت بالأسد؟ و هل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرف، فزيد هو هو بعينه».

ص: 123


1- البيت في ديوانها.
2- البيت في ديوانه (74)، من قصيدة يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه، و البيتان قبله: لقد علم الأقوام أن ابن هاشم هو الغصن ذو الأفتان لا الواحد الوغد و مالك فيهم محتد يعرفونه فدونك فالصق مثل ما لصق القرد سنام المجد: أعلاه.

و يزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصّفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف، كقول ابن الرومي: [من الطويل ]

هو الرّجل المشروك في جلّ ماله و لكنّه بالمجد و الحمد مفرد (1)

تقديره، كأنه يقول للسامع: فكّر في رجل لا يتميّز عفاته و جيرانه و معارفه عنه في ماله و أخذ ما شاءوا منه، فإذا حصّلت صورته في نفسك، فاعلم أنه ذلك الرجل.

و هذا فنّ عجيب الشأن، و له مكان من الفخامة و النّبل، و هو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقّه. و المعوّل فيه على مراجعة النفس و استقصاء التأمّل، فإذا علمت أنه لا يريد بقوله: «الرجل المشروك في جلّ ماله» أن يقول: هو الذي بلغك حديثه، و عرفت من حاله و قصّته أنّه يشرك في جلّ ماله، على حدّ قولك:

«هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا، و الذي وهب المائة المصطفاة من الإبل» و لا أن يقول إنه على معنى: «هو الكامل في هذه الصفة»، حتى كأنّ هاهنا أقواما يشركون في جلّ أموالهم، إلّا أنه في ذلك أكمل و أتم؛ لأن ذلك لا يتصوّر. و ذلك أن كون الرجل بحيث يشرك في جلّ ماله، ليس بمعنى يقع فيه تفاضل، كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك، و لو قيل: «الذي يشرك في ماله»، جاز أن يتفاوت. و إذا كان كذلك، علمت أنه معنى ثالث. و ليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب:

«ضع في نفسك معنى قولك: رجل مشروك في جلّ ماله، ثم تأمل فلانا، فإنك تستملي هذه الصورة منه، و تجده يؤديها لك نصّا، و يأتيك بها كملا».

و إن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصّادي إلى برد الماء، فاسمع قوله: [من الطويل ]

أنا الرّجل المدعوّ عاشق فقره إذا لم تكارمني صروف زماني

و إن أردت أعجب من ذلك فقوله: [من الكامل ]

أهدى إليّ أبو الحسين يدا أرجو الثّواب بها لديه غدا

و كذاك عادات الكريم إذا أولى يدا حسبت عليه يدا

إن كان يحسد نفسه أحد، فلأزعمنّك ذلك الأحدا (2)

فهذا كلّه على معنى الوهم و التقدير، و أن يصوّر في خاطره شيئا لم يره و لم يعلمه، ثم يجريه مجرى ما عهد و علم. ).

ص: 124


1- البيت في ديوانه (589).
2- الأبيات لابن الرومي في ديوانه (786).

و ليس شي ء أغلب على هذا الضرب الموهوم من «الذي»، فإنه يجي ء كثيرا على أنك تقدّر شيئا في وهمك، ثم تعبر عنه «بالذي»، و مثال ذلك قوله: [من الطويل ]

أخوك الّذي إن تدعه لملمّة يجبك، و إن تغضب إلى السّيف يغضب (1)

و قول الآخر: [من الطويل ]

أخوك الّذي إن ربته قال: إنّما أربت، و إن عاتبته لان جانبه (2)

فهذا و نحوه على أنك قدّرت إنسانا هذه صفته و هذا شأنه، و أحلت السامع على من يعنّ في الوهم، دون أن يكون قد عرف رجلا بهذه الصفة، فأعلمته أن المستحقّ لاسم الأخوّة هو ذلك الذي عرفه، حتى كأنك قلت: «أخوك زيد الذي عرفت أنّك إن تدعه لملمة يجبك».

و لكون هذا الجنس معهودا من طريق الوهم و التخيّل، جرى على ما يوصف بالاستحالة، كقولك للرجل و قد تمنّى: «هذا هو الذي لا يكون»، و «هذا ما لا يدخل في الوجود»، و كقوله: [من الكامل ]

ما لا يكون فلا يكون بحيلة أبدا و ما هو كائن سيكون (3)

و من لطيف هذا الباب قوله: [من الطويل ]

و إنّي لمشتاق إلى ظلّ صاحب يروق و يصفو إن كدرت عليه (4)

قد قدّر كما ترى ما لم يعلمه موجودا، و لذلك قال المأمون: «خذ مني الخلافة و أعطني هذا الصاحب». فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم.

و أمّا قولنا: «المنطلق زيد»، و الفرق بينه و بين أن تقول: «زيد المنطلق»، فالقول في ذلك أنك و إن كنت ترى في الظاهر أنّهما سواء من حيث كان الغرض في

ص: 125


1- البيت لأبي حوط، حجية بن المضرب الكندي، و في شرح الحماسة للتبريزي (3/ 98).
2- البيت لبشار بن برد في ديوانه، إن ربته أي: أتيت بما يرتاب فيه قال لك أربت أي: انتفت عنك الريبة.
3- البيت لعبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة يقوله لذي اليمينين، و ذو اليمينين طاهر بن الحسن بن رزيق مولى طلحة الطلحات الخزاعي و كان طاهر من أكبر أعوان المأمون و يحكى عنه في سبب التسمية بذي اليمينين أنه ضرب إنسانا بيساره فجعله قسمين. و البيت في الكامل للمبرد (26)، و قبله: لما رأيتك قاعدا مستثقلا أيقنت أنك للهموم قرين فارفض بها و تعرّ من أثوابها إن كان عندك للقضاء يقين
4- البيت لأبي العتاهية في ديوانه.

الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك، بل بين الكاملين فصل ظاهر.

و بيانه: أنك إذا قلت: «زيد المنطلق»، فأنت في حديث انطلاق قد كان، و عرف السامع كونه، إلّا أنه لم يعلم أ من زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت: «زيد المنطلق»، أزلت عنه الشك و جعلته يقطع بأنه كان من زيد، بعد أن كان يرى ذلك في سبيل الجواز.

و ليس كذلك إذا قدّمت «المنطلق» فقلت: «المنطلق زيد»، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد منك، فلم تثبته، و لم تعلم أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك: «المنطلق زيد»، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد.

و قد ترى الرجل قائما بين يديك و عليه ثوب ديباج، و الرجل ممن عرفته قديما ثم بعد عهدك به فتناسيته، فيقال لك: «اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا، أما تعرفه؟ لشدّ ما نسيت»، و لا يكن الغرض أن يثبت له لبس الديباج، لاستحالة ذلك، من حيث أن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر و إثبات مثبت لبسه له.

فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به، فجعل مبتدأ، و جعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبرا، فاعلم أنّ الغرض هناك، غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا، كقولك: «زيد المنطلق».

و اعلم أنه ربّما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب، حتّى يظنّ أن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ و خبرا، لم يختلف المعنى فيهما بتقديم و تأخير. و مما يوهم ذلك قول النحويين في «باب كان»: «إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيّهما شئت اسما، و الآخر خبرا، كقولك: «كان زيد أخاك» و «كان أخوك زيدا»، فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التّعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا و تثنّي بذاك، و حتى كأنّ الترتيب الذي يدّعى بين المبتدأ و الخبر و ما يوضع لهما من المنزلة في التقدّم و التأخّر، يسقط و يرتفع إذا كان الجزآن معا معرفتين.

و مما يوهم ذلك أنك تقول: «الأمير زيد»، و «جئتك و الخليفة عبد الملك».

فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد، و الخلافة لعبد الملك، كما يكون إذا قلت:

«زيد الأمير» و «عبد الملك الخليفة»، و تقوله لمن لا يشاهد، و من هو غائب عن حضرة الإمارة و معدن الخلافة.

ص: 126

و هكذا من يتوهّم في نحو قوله: [من الطويل ]

أبوك حباب سارق الضّيف برده و جدّي يا حجّاج فارس شمرا (1)

أنّه لا فصل بينه و بين أن يقال: «حباب أبوك، و فارس شمّر جدّي». و هو موضع غامض.

و الذي يبيّن وجه الصواب، و يدلّ على وجوب الفرق بين المسألتين:

أنّك إذا تأملت الكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية، و ما تجد الفرق قائما فيه قياما لا سبيل إلى دفعه، هو الأعمّ الأكثر.

و إن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما قدّمت لك من قولك: «اللابس الدّيباج زيد»، و أنت تشير له إلى رجل بين يديه، ثم انظر إلى قول العرب: «ليس الطيب إلّا المسك»، و قول جرير: [من الوافر] أ لستم خير من ركب المطايا (2) و نحو قول المتنبي: [من الوافر] أ لست ابن الألى سعدوا و سادوا (3) و أشباه ذلك ممّا لا يحصى و لا يعدّ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة، و قل: «ليس المسك إلا الطيب»، و «أ ليس خير من ركب المطايا إياكم؟»، «أ ليس ابن الألى سعدوا و سادوا إياك»؟ تعلم أن الأمر على ما عرّفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم و التأخير. ).

ص: 127


1- البيت لجميل في مجموع شعره، و في اللسان (شمر)، و يروى في اللسان: و جدّي يا عبّاس فارس شمرا بدل «يا حجاج». و شمّر: اسم فرس.
2- البيت في ديوانه (74) من قصيدة في مدح عبد الملك بن مروان. و تمام البيت و البيتان قبله: فإني قد رأيت عليّ حقا زيارتي الخليفة و امتداحي سأشكر أن رددت عليّ ريشي و أثبت القوادم في جناحي .............. و أندى العالمين بطون راح القوادم: الريش الكبير في الطائر، المطايا: الركائب، واحدتها مطية على وزن فعلية، أندى: أكرم، من الندى و هو الكرم، و الراح هنا الأكف واحدتها: راحة، الأكف: جمع كف. و البيت في الإيضاح: (142).
3- البيت في ديوانه (240)، و تمامه و البيت قبله: يريك النزع بين القوس منه و بين رمية الهدف اللهيبا ............... و لم يلدوا امرأ إلا بخيبا الألى: الذين، و الاستفهام للتقرير. و البيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 105).

و هاهنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبدا، و هي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أوّلا، و لا كان الخبر خبرا لأنه مذكور بعد المبتدأ، بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه و مثبت له المعنى، و الخبر خبرا لأنه مسند و مثبت به المعنى.

تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «زيد منطلق» فقد أثبتّ الانطلاق لزيد و أسندته إليه، فزيد مثبت له، و منطلق مثبت به، و أما تقديم المبتدأ على الخبر لفظا، فحكم واجب من هذه الجهة، أي من جهة أن كان المبتدأ هو الذي يثبت له المعنى و يسند إليه، و الخبر هو الذي يثبت به المعنى و يسند. و لو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدّم مبدوء به، لكان ينبغي أن يخرج عن كونه مبتدأ بأن يقال: «منطلق زيد»، و لوجب أن يكون قولهم: «إن الخبر مقدّم في اللّفظ و النّيّة به التأخير»، محالا. و إذا كان هذا كذلك ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ و خبرا فقد وجب وجوبا أن تكون مثبتا بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: «زيد أخوك»، كنت قد أثبتّ معنى لزيد، و إذا قدّمت و أخّرت فقلت: «أخوك زيد»، وجب أن تكون مثبتا بزيد معنى لأخوك، و إلّا كان تسميتك له الآن مبتدأ و إذ ذاك خبرا، تغييرا للاسم عليه من غير معنى، و لأدّى إلى أن لا يكون لقولهم «المبتدأ و الخبر» فائدة غير أن يتقدّم اسم في اللفظ على اسم، من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه. و ذلك ممّا لا يشكّ في سقوطه.

و ممّا يدلّ دلالة واضحة على اختلاف المعنى، إذا جئت بمعرفتين، ثم جعلت هذا مبتدأ و ذلك خبرا تارة، و تارة بالعكس، قولهم: «الحبيب أنت»، و «أنت الحبيب»، و ذاك أن معنى «الحبيب أنت»، أنه لا فصل بينك و بين من تحبّه إذا صدقت المحبّة، و أنّ مثل المتحابّين مثل نفس يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: «الحبيب أنت إلّا أنه غيرك». فهذا كما ترى فرق لطيف و نكتة شريفة، و لو حاولت أن تفيدها بقولك: «أنت الحبيب»، حاولت ما لا يصحّ، لأن الذي يعقل من قولك: «أنت الحبيب» هو ما عناه المتنبي في قوله: [من البسيط]

أنت الحبيب و لكنّي أعوذ به من أن أكون محبّا غير محبوب (1) ).

ص: 128


1- البيت في ديوانه (214) و هو آخر بيت في قصيدة في مدح كافور، و قبله: يا أيها الملك الغاني بتسمية في الشرق و الغرب عن وصف و تلقيب و معنى البيت: يقول: أنا محبك و أنت محبوب لي، و أعوذ بك من أن لا تحبني فإن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك كما قال و من الشقاوة أن تحب و لا يحبك من تحبه. التبيان للعكبري (1/ 126).

و لا يخفى بعد ما بين الغرضين. فالمعنى في قولك: «أنت الحبيب» أنك الذي أختصّه بالمحبة من بين الناس، و إذا كان كذلك، عرفت أنّ الفرق واجب أبدا، و أنه لا يجوز أن يكون «أخوك زيد» و «زيد أخوك» بمعنى واحد.

و هاهنا شي ء يجب النظر فيه، و هو أنّ قولك: «أنت الحبيب»، كقولنا «أنت الشجاع»، تريد أنّه الذي كملت فيه الشجاعة، أم كقولنا: «زيد المنطلق»، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الّذي سمع المخاطب به؟ و إذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: «أنت الشجاع»، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبّة في الدنيا إلا ما هو به حبيب، كما أنّ المعنى في «هو الشجاع» أنه لا شجاعة في الدنيا إلّا ما تجده عنده و ما هو شجاع به. و ذلك محال.

و أمر آخر و هو أن الحبيب «فعيل» بمعنى «مفعول»، فالمحبة إذن ليست هي له بالحقيقة، و إنما هي صفة لغيره قد لابسته و تعلّقت به تعلق الفعل بالمفعول.

و الصّفة إذا وصفت بكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له، دون من تلابسه ملابسة المفعول. و إذا كان كذلك، بعد أن تقول: «أنت المحبوب»، على معنى أنت الكامل في كونك محبوبا، كما أن بعيدا أن يقال: «هو المضروب»، على معنى أنه الكامل في كونه مضروبا.

و إن جاء شي ء من ذلك جاء على تعسّف فيه و تأويل لا يتصوّر هاهنا، و ذلك أن يقال مثلا: «زيد هو المظلوم»، على معنى أنّه لم يصب أحدا ظلم يبلغ في الشدة و الشّناعة الظّلم الذي لحقه، فصار كلّ ظلم سواه عدلا في جنبه، و لا يجي ء هذا التأويل في قولنا: «أنت الحبيب»، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا:

إن أحدا لم يحبّ أحدا محبتي لك، و أنّ ذلك قد أبطل المحبّات كلّها حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلّا فيه، و إنما الذي يريدون أن المحبة منّي بجملتها مقصورة عليك، و أنه ليس لأحد غيرك حظ في محبّة مني.

و إذا كان كذلك بان أنّه لا يكون بمنزلة «أنت الشجاع»، تريد الذي يتكامل الوصف فيه، إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين «أنت الحبيب» و بين «زيد المنطلق» فرقا، و هو أنّ لك في المحبة التي أثبتّها طرفا من الجنسية، من حيث كان المعنى أنّ المحبّة منّي بجملتها مقصورة عليك، و لم تعمد إلى محبة واحدة من محبّاتك. أ لا ترى أنك قد أعطيت بقولك: «أنت الحبيب» أنك لا تحبّ غيره، و أن لا محبّة لأحد سواه عندك؟ و لا يتصوّر هذا في «زيد المنطلق»، لأنه لا وجه هناك

ص: 129

للجنسية، إذ ليس ثمّ إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان، و احتاج أن يعيّن له الذي كان منه و ينصّ له عليه. فإن قلت: «زيد المنطلق في حاجتك»، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك، عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدّها في «أنت الحبيب».

و هاهنا أصل يجب أن تحكمه: و هو أن من شأن أسماء الأجناس كلّها إذا وصفت، أن تتنوّع بالصّفة، فيصير «الرّجل» الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت:

«رجل ظريف»، و «رجل طويل»، و «رجل قصير»، «رجل شاعر»، و «رجل كاتب»، أنواعا مختلفة يعدّ كل نوع منها شيئا على حدة، و تستأنف في اسم «الرجل» بكل صفة تقرنها إليه جنسية.

و هكذا القول في «المصادر»، تقول: «العلم» و «الجهل» و «الضّرب» و «القتل» و «السّير» و «القيام» و «القعود»، فتجد كل واحد من هذه المعاني جنسا كالرجل و الفرس و الحمار. فإذا وصفت فقلت: «علم كذا» و «علم كذا» كقولك:

«علم ضروريّ» و «علم مكتسب»، و «علم جليّ» و «علم خفيّ» و «ضرب شديد» و «ضرب خفيف» و «سير سريع» و «سير بطي ء» و ما شاكل ذلك، انقسم الجنس منها أقساما، و صار أنواعا، و كان مثلها مثل الشي ء المجموع المؤلّف تفرّقه فرقا و تشعّبه شعبا. و هذا مذهب معروف عندهم، و أصل متعارف في كل جيل و أمّة.

ثم إن هاهنا أصلا هو كالمتفرّع على هذا الأصل أو كالنّظير له، و هو أنّ من شأن «المصدر» أن يفرّق بالصّلات كما يفرق بالصّفات.

و معنى هذا الكلام أنك تقول «الضرب»، فتراه جنسا واحدا، فإذا قلت:

«الضّرب بالسيف»، صار بتعديتك له إلى السيف، نوعا مخصوصا. أ لا تراك تقول:

«الضّرب بالسيف غير الضّرب بالعصا»، تريد أنهما نوعان مختلفان، و أنّ اجتماعهما في اسم «الضرب» لا يوجب اتفاقهما، لأنّ الصلة قد فصلت بينهما و فرّقتهما. و من المثال البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الكامل ]

و توهّموا اللّعب الوغى، و الطّعن في ال هيجاء غير الطّعن في الميدان (1)

ص: 130


1- البيت في ديوانه (2/ 172) من قصيدة في مدح سيف الدولة، و مدحه إياها بآمد، و كان منصرفا من بلاد الروم، و ذلك في شهر صفر سنة خمس و أربعين و ثلاث مائة (156 م)، و قبله: و سعى فقصر عن مداه في العلى أهل الزمان و أهل كل زمان اتخذوا المجالس في البيوت و عنده أن السروج مجلس الفتيان الوغى: الهيجاء من أسماء الحرب أي: إذا لعبوا فيما بينهم بالطعان اعتقدوا أن ذلك هو الحرب و لكن أين هول الحرب من متعة اللعب.

لو لا أنّ اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه، و أن يحدث فيه انقسام و تنوّع، لما كان لهذا الكلام معنى، و لكان في الاستحالة كقولك: و «الطعن غير الطعن». فقد بان إذن أنه إنما كان كلّ واحد من الطعنين جنسا برأسه غير الآخر، بأن كان هذا في الهيجاء، و ذاك في الميدان.

و هكذا الحكم في كل شي ء تعدّى إليه «المصدر» و تعلّق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه، و أن يكون المتعدّي إلى هذا المفعول غير المتعدّي إلى ذاك. و على ذلك تقول: «ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل»، و هكذا إذا عدّيته إلى الحال كقولك: «ليس إعطاؤك معسرا كإعطائك موسرا» و «ليس بذلك و أنت مقلّ، كبذلك و أنت مكثر».

و إذ قد عرفت هذا من حكم «المصدر»، فاعتبر به حكم الاسم المشتقّ منه.

و إذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: «هو الوفيّ حين لا يفي أحد»، و «هو الواهب المائة المصطفاة» (1)، و قوله: [من الخفيف

و هو الضّارب الكتيبة، و الطّع نة تغلو، و الضّرب أغلى و أغلى (2)

و أشباه ذلك كلّها أخبار فيها معنى الجنسية، و أنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبرا فقلت: «أنت الشجاع».

و كما أنت لا تقصد بقولك: «أنت الشّجاع» إلى شجاعة بعينها قد كانت و عرفت من إنسان، و أردت أن تعرف ممن كانت، بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه، و لا تجعل لأحد غيره فيه حظّا، كذلك لا تقصد بقولك: «أنت الوفيّ حين لا يفي أحد» إلى وفاء واحد. كيف؟ و أنت تقول: «حين لا يفي أحد».

و هكذا محال أن يقصد في قوله: «هو الواهب المائة المصطفاة»، إلى هبة واحدة، لأنه يقتضي أن يقصد إلى مائة من الإبل قد وهبها مرة، ثم لم يعد لمثلها.

و معلوم أنه خلاف الغرض، لأنّ المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المائة أبدا، و الذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ، كما تقول: «هو الذي يعطي مادحه الألف و الألفين»، و كقوله: [من الرجز]

ص: 131


1- المصطفاة: تعقيب على بيت للأعشى.
2- البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 162)، و يروى في الديوان: «أغلى و أغلى» بدل: «أغلى و أعلى»، و البيت من قصيدة طويلة في رثاء أخت سيف الدولة الصغرى و يسليه ببقاء الكبرى. تغلو: من غلاء الثمن، أغلى و أغلى للتأكيد، أي: أنه يأتي الضرب بالسيف عند ما يخاف غير أنه يطعن بالرمح.

و حاتم الطّائيّ وهّاب المئي (1) و ذلك أوضح من أن يخفى.

و أصل آخر: و هو أنّ من حقّنا أن نعلم أنّ مذهب الجنسية في الاسم و هو خبر، غير مذهبها و هو مبتدأ.

تفسير هذا: أنّا و إن قلنا إن «اللام» في قولك: «أنت الشجاع» للجنس، كما هو له في قولهم: «الشّجاع موقّى، و الجبان ملقّى» (2)، فإنّ الفرق بينهما عظيم.

و ذلك أن المعنى قولك: «الشجاع موقى»، أنك تثبت الوقاية لكل ذات من صفتها الشّجاعة، فهو في معنى قولك: الشّجعان كلّهم موقّون. و لست أقول إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق، و إن كان ذلك ظنّ كثير من الناس، و لكني أريد أنّك تجعل الوقاية تستغرق الجنس و تشمله و تشيع فيه، و أما في قولك: «أنت الشجاع»، فلا معنى فيه للاستغراق، إذ لست تريد أن تقول: «أنت الشجعان كلهم» حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: «أنت الخلق كلهم» و «أنت العالم»، كما قال: [من السريع

و ليس للّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد (3)

و لكن لحديث «الجنسية» هاهنا مأخذ آخر غير ذلك، و هو أنّك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة و توجّهها إليه، لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق. و ذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة فتجمعها له و توجدها فيه، و لا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهّم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم، هذا كلّه محال، بل المعنى على أنك تقول: كنّا ».

ص: 132


1- البيت لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن، و قبله: حيدة خالي و لقيط و علي نوادر أبي زيد (91)، و اللسان (مأى) و غيرهما و هو مشهور، و في هامش المخطوطة ما نصه: «مائة تجمع على مئي و يكون الأصل: مؤوى ..... ثم تقلب الواو ياء كما يقال مضيّ في مضى يمضي: و الأصل مضوي، كعقود، و المعروف الجمع بالواو و النون كقولك: مائة و مئون مثل رئة و رئون، و ثبة و ثبون» (شاكر).
2- الشجاع موقى: مثل قاله حنين بن خشرم السعدي، الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام 116 رقم (297).
3- البيت لأبي نواس في ديوانه (82) من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع، و البيت في الإيضاح (356)، و الإشارات (313)، و رواية الديوان: و ليس له بمستنكر» بدل «ليس على اللّه بمستنكر».

قد عقلنا الشجاعة و عرفنا حقيقتها، و ما هي؟ و كيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه و بطشه حتّى يعلم أنّه شجاع على الكمال؟ و استقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه، حتى إذا صرنا إلى المخاطب، وجدناه قد استكمل هذه الصفة، و استجمع شرائطها، و أخلص جوهرها، و رسخ فيه سنخها (1). و يبيّن لك أن الأمر كذلك، اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، و لو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهّم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، و أن لا يخالطها ما يقدح فيها، و ليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس و ينضم بعضها إلى بعض. فالغرض إذن بقولنا: «أنت الشجاع»، هو الغرض بقولهم: «هذه هي الشجاعة على الحقيقة، و ما عداها جبن» و «هكذا يكون العلم، و ما عداه تخيّل»، و «هذا هو الشعر، و ما سواه فليس بشي ء». و ذلك أظهر من أن يخفى.

و ضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون «أنت الشجاع» بمعنى أنّك كأنّك جميع الشجعان، على حدّ «أنت الخلق كلهم»، و هو أنك في قولك: «أنت الخلق» و «أنت الناس كلّهم» و «قد جمع العالم منك في واحد»، تدّعي له جميع المعاني الشريفة المتفرّقة في الناس، من غير أن تبطل تلك المعاني و تنفيها عن الناس، بل على أن تدّعي له أمثالها. أ لا ترى أنك إذا قلت في الرجل: «إنه معدود بألف رجل»، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم و لا فضيلة لهم بوجه، بل تريد أنّه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعا، ما لا تجد مقداره مفرّقا إلا في ألف رجل، و أمّا في نحو «أنت الشجاع»، فإنّك تدّعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، و أنه قد أوتي فيها مزيّة و خاصيّة لم يؤتها أحد، حتى صار الذي كان يعدّه الناس شجاعة غير شجاعة، و حتى كأنّ كلّ إقدام إحجام، و كلّ قوة عرفت في الحرب ضعف. و على ذلك قالوا: «جاد حتى بخّل كلّ جواد، و حتّى منع أن يستحقّ اسم الجواد أحد»، كما قال: [من الوافر]

و أنّك لا تجود على جواد هباتك أن يلقّب بالجواد (2)

ص: 133


1- سنخها: أي أصلها.
2- البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (130)، و هو من قصيدة في مدح علي بن إبراهيم التنوخي و قبله: تهلّل قبل تسليمي عليه و ألقى ما له قبل الوساد فلومك يا عليّ لغير ذنب لأنك قد زريت على العباد الجواد: الكريم، هباتك فاعل يجود أي: هباتك لا تسمح لأحد أن يظهر كريما مقارنة بك.

و كما يقال: «جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود، و حتّى كأن قد كذب الواصفون الغيث بالجود»، كما قال: [من البسيط]

أعطيت حتّى تركت الرّيح حاسرة و جدت حتّى كأنّ الغيث لم يجد (1)

هذا فصل في «الذي» خصوصا

اعلم أن لك في «الذي» علما كثيرا، و أسرارا جمّة، و خفايا إذا بحثت عنها و تصوّرتها اطلعت على فوائد تؤنس النفس و تثلج الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين، و يؤدّيه إليك من حسن التبيين.

و الوجه في ذلك أن تتأمّل عبارات لهم فيه لم وضع، و لأيّ غرض اجتلب، و أشياء و صفوه بها. فمن ذلك قولهم: «إنّ الذي» اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل (2)، كما اجتلب «ذو» ليتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس»، يعنون بذلك أنك تقول: «مررت بزيد الذي أبوه منطلق» و «بالرجل الذي كان عندنا أمس»، فتجدك قد توصّلت ب «الذي» إلى أن أبنت زيدا من غيره، بالجملة التي هي «أبوه منطلق» و لو لا «الذي» لم تصل إلى ذلك كما أنك تقول: «مررت برجل ذي مال» فتتوصّل ب «ذي» إلى أن تبين الرجل من غيره بالمال، و لو لا «ذو» لم يتأتّ لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: «برجل مال» فهذه جملة مفهومة؟ إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها. فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة، و لم لم يكن حالها في ذلك حال النّكرة التي تصفها بها في قولك: «مررت برجل أبوه منطلق»: و «رأيت إنسانا تقاد الجنائب (3) بين يديه».

و قالوا: إنّ السبب في امتناع ذلك: أنّ الجمل نكرات كلّها، بدلالة أنها

ص: 134


1- البيت: للبحتري في مدح محمد بن حميد بن عبد الحميد الطوسي (الديوان 2/ 425). حاسرة: حسر البصر: كلّ و انقطع من طول المدى القاموس «حسر» (479).
2- ذكره ابن منظور في اللسان مادة «لذا» (15/ 245).
3- الجنائب: رجل جنيب كأنه يمشي في جانب و الجنيبة الدابة: القاموس «جنب» (88).

تستفاد، و إنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك، كانت وفق (1) النّكرة، فجاز وصفها بها، و لم يجز أن توصف بها المعرفة، إذ لم تكن وفقا لها.

و القول البيّن في ذلك أن يقال: إنه إنّما اجتلب حتّى إذا كان قد عرف رجل بقصة و أمر جرى له، فتخصّص بتلك القصّة و بذلك الأمر عند السامع، ثم أريد القصد إليه، ذكر «الّذي».

تفسير هذا أنك لا تصل «الذي» إلّا بجملة من الكلام قد سبق من السّامع علم بها، و أمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلا ينشده شعرا فتقول له من غد: «ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟».

هذا حكم الجملة بعد «الذي»، إذا أنت وصفت به شيئا. فكان معنى قولهم:

«إنه اجتلب ليتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل»، أنه جي ء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشي ء بجملة قد عرفها السامع له، و بين أن لا يكون الأمر كذلك.

فإن قلت: قد يؤتى بعد «الذي» بالجملة غير المعلومة للسامع، و ذلك حيث يكون «الذي» خبرا، كقولك: «هذا الذي كان عندك بالأمس» و «هذا الذي قدم رسولا من الحضرة»، أنت في هذا و شبهه تعلم المخاطب أمرا لم يسبق له به علم، و تفيده في المشار إليه شيئا لم يكن عنده، و لو لم يكن كذلك، لم يكن «الذي» خبرا، إذ كان لا يكون الشي ء خبرا حتى يفاد به.

فالقول في ذلك: أن الجملة في هذا النّحو، و إن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه، فإنه لا بدّ من أن يكون قد علمها على الجملة و حدّث بها. فإنّك على كلّ حال لا تقول: «هذا الذي قدم رسولا»، لمن لم يعلم أن رسولا قدم و لم يبلغه ذلك في جملة و لا تفصيل، و كذا لا تقول: «هذا الذي كان عندك أمس»، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان و ذهب عن وهمه، و إنّما تقوله لمن ذاك على ذكر منه، إلّا أنه رأى رجلا يقبل من بعيد، فلا يعلم أنه ذاك، و يظنه إنسانا غيره.

و على الجملة، فكلّ عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع «الذي» و بينها مع غير «الذي»، فليس من أحد به طرق (2) إلّا و هو لا يشكّ أن ليس المعنى في قولك: «هذا الذي قدم رسولا»، كالمعنى إذا قلت: «هذا قدم رسولا من الحضرة» ).

ص: 135


1- وفقا: وفقت أمرك صادفته موافقا (أي مطابقا). القاموس/ وفق/ (1199).
2- طرق: هو ضعف العقل و الطرق قوة العقل. القاموس/ طرق/ (1166).

و لا «الذي يسكن في محلّة كذا»، كقولك: «هذا يسكن محلة كذا»، و ليس ذاك إلا أنّك في قولك: «هذا قدم رسولا من الحضرة» مبتدئ خبرا بأمر لم يبلغ السامع و لم يبلّغه و لم يعلمه أصلا و في قولك: «هذا الّذي قدم رسولا»، معلم في أمر قد بلغه أنّ هذا صاحبه، فلم يخل إذن من الذي بدأنا به في أمر الجملة مع «الذي»، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها فاعرفه، فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيرا من المعاني، و دخل عليه الغلط في كثير من الأمور، و اللّه الموفّق للصواب.

فروق في الحال لها فضل تعلّق بالبلاغة

اعلم أنّ أوّل فرق في الحال أنها تجي ء مفردا و جملة، و القصد هاهنا إلى الجملة.

و أوّل ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجي ء تارة مع «الواو» و أخرى بغير «الواو»، فمثال مجيئها مع الواو قولك: «أتاني و عليه ثوب ديباج»، و «رأيته و على كتفه سيف»، و «لقيت الأمير و الجند حواليه»، و «جاءني زيد و هو متقلّد سيفه»، و مثال مجيئها بغير «الواو»: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه» و «أتاني عمرو يقود فرسه»، و في تمييز ما يقتضي «الواو» ممّا لا يقتضيه صعوبة.

و القول في ذلك أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ و خبر، فالغالب عليها أن تجي ء مع «الواو» كقولك: «جاءني زيد و عمرو أمامه» و «أتاني و سيفه على كتفه»: فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال، لم يصلح بغير «الواو» البتة، و ذلك كقولك: «جاءني زيد و هو راكب» و «رأيت زيدا و هو جالس»، و «دخلت عليه و هو يملي الحديث» و «انتهيت إلى الأمير و هو يعبّئ الجيش»، فلو تركت «الواو» في شي ء من ذلك لم يصلح. فلو قلت: «جاءني زيد هو راكب»، و «دخلت عليه هو يملي الحديث»، لم يكن كلاما.

فإن كان الخبر في الجملة من المبتدأ و الخبر ظرفا، ثم كان قد قدّم على المبتدأ كقولنا: «عليه سيف» و «في يده سوط»، كثر فيها أن تجي ء بغير «واو». فمما جاء منه كذلك قول بشّار: [من الطويل ]

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها خرجت مع البازي عليّ سواد (1)

ص: 136


1- البيت في ديوانه، و أورده القزويني في الإيضاح (170)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (136). أنكرتني: لم تعرف قدري، نكرتها: كرهتها البازي: الصقر و هو يعني خروجه في سواد الليل.

يعني عليّ بقية من الليل، و قول أمية: [من البسيط]

فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا في رأس غمدان دارا منك محلالا (1)

و قول الآخر: [من الطويل ]

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر تقوم عليها في يديك قضيب (2)

كلّ ذلك في موضع الحال، و ليس فيه «واو» كما ترى، و لا هو محتمل لها إذا نظرت. و قد يجي ء ترك «الواو» فيما ليس الخبر فيه كذلك، و لكنه لا يكثر، فمن ذلك قولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه»، في قول من رفع، و منه بيت «الإصلاح» (3): [من الكامل ]

نصف النّهار، الماء غامره و رفيقه بالغيب لا يدري (4)

و من ذلك ما أنشده الشيخ أبو عليّ في «الإغفال» (5): [من الطويل ]

و لو لا جنان اللّيل ما آب عامر إلى جعفر، سرباله لم يمزّق (6)

و مما ظاهره أنه منه قوله: [من البسيط]

ص: 137


1- ينسب البيت لأمية بن أبي الصلت، و لأبيه، و سيف بن ذي يزن مخلص اليمن من محتليها الحبش، و القصة الشعبية المنسوجة حوله تقوم على أساس هذه البطولة. و البيت أورده القزويني في الإيضاح (170).
2- البيت لواثلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة، و هو في الإيضاح (170).
3- الإصلاح: أي كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت المتوفى سنة (244 ه). كشف الظنون (1/ 108).
4- البيت: للمسيب بن علس، و هو خال الأعشى، و الأعشى راويته، و البيت في ديوان الأعشى (352)، و قبله: قتلت أباه فقال أتبعه أو أستفيد رغيبة الدهر و البيت في المفتاح (385)، و إصلاح المنطق لابن السكيت.
5- و اسمه الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني للشيخ أبي علي حسن بن أحمد الفارسي النحوي المتوفى سنة سبع و سبعين و ثلاثمائة. كشف الظنون (1/ 131).
6- البيت: لسلامة بن جندل، و هو سلامة بن جندل بن عبد عمرو من بني كعب بن سعد التميمي، شاعر جاهلي من الفرسان. و البيت في الأصمعيات (125) رقم (42)، و روايته: «لم يخرّق» بدل «لم يمزق»، و هو في الإيضاح (169)، و أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (272)، و السكاكي في المفتاح (385)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (135)، و شرح عقود الجمان (1/ 223). جنان الليل: شدة ظلمته و ادلهمامه. سرباله لم يخرق: ثيابه غير ممزقة أي: ما عاد سالما.

إذا أتيت أبا مروان تسأله و جدته، حاضراه الجود و الكرم

فقوله: «حاضراه الجود»، جملة من المبتدأ و الخبر كما ترى، و ليس به «واو»، و الموضع موضع حال، أ لا تراك تقول: «أتيته فوجدته جالسا»، فيكون «جالسا» حالا، ذاك لأن «وجدت» في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدّية إلى مفعولين، و لكن المتعدّية إلى مفعول واحد كقولك: «وجدت الضّالّة» إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو «حاضراه» تأثيرا في معنى الغنى عن «الواو»، و أنه لو قال:

«وجدته، الجود و الكرم حاضراه» لم يحسن حسنه الآن، و كان السبب في حسنه مع التقديم، أنه يقرب في المعنى من قولك: «وجدته حاضره الجود و الكرم» أو «حاضرا عنده الجود و الكرم».

و إن كانت الجملة من فعل و فاعل، و الفعل مضارع مثبت غير منفي، لم يكد يجي ء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من «الواو»، كقولك: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه»، و كقوله: [من البسيط]

و قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم قديديمة الجوزاء مسموم (1)

و قوله: [من الخفيف

و لقد أغتدي يدافع ركني أحوذيّ ذو ميعة إضريج (2)

و كذلك قولك: «جاءني زيد يسرع»، لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال، و بين أن يكون لمن هو من سببه، فإن ذلك كلّه يستمر على الغنى عن «الواو»، و عليه التنزيل و الكلام، و مثاله في التنزيل قوله عزّ و جلّ: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6]، و قوله تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17- 18]، و كقوله عزّ اسمه: وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186].

فأما قول ابن همام السّلولي: [من المتقارب

فلمّا خشيت أظافيره نجوت، و أرهنهم مالكا (3) ).

ص: 138


1- البيت لعلقمة بن عبدة، و هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة، شاعر جاهلي مجيد، كان من صدور الجاهلية و فحولها، و البيت في المفضليات رقم (120) ص (403). و قتود الرحل: خشب الرحل و أدواته، يسفعني: يحرقني و يغير لوني من شمسه و حرّه، الجوزاء: برج من أبراج الشمس يشتد الحر بنزولها فيه، مسموم: شديد السموم، و هي الريح الحارة. و روايته في المفضليات: «يوم تجي ء به الجوزاء» بدل «يوم قديديمة الجوزاء».
2- سبق تخريجه (ص 76).
3- البيت لعبد اللّه بن همام السلولي في الإيضاح (165)، و إصلاح المنطق (231، 249)، و خزانة الأدب (9/ 36)، و الشعر و الشعراء (2/ 655)، و معاهد التنصيص (1/ 285).

في رواية من روى «و أرهنهم»، و ما شبهوه به من قولهم: «قمت و أصكّ (1) وجهه» فليست الواو فيها للحال، و ليس المعنى «نجوت راهنا مالكا»، و «قمت صاكّا وجهه»، و لكن «أرهن» و «أصكّ» حكاية حال، مثل قوله: [من الكامل ]

و لقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، فمضيت، ثمّت قلت: لا يعنيني (2)

فكما أن «أمرّ» هاهنا في معنى «مررت»، كذلك يكون «أرهن» و «أصكّ» هناك في معنى «رهنت» و «صككت».

و يبيّن ذلك أنك ترى «الفاء» تجي ء مكان «الواو» في مثل هذا، و ذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد اللّه بن عتيك (3) حين دخل على أبي رافع اليهوديّ حصنه قال: «فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنّى هو من البيت، فقلت: أبا رافع! فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت، فأضربه بالسّيف و أنا دهش»، فكما أن «أضربه» مضارع قد عطفه بالفاء على ماض، لأنه في المعنى ماض، كذلك يكون «أرهنهم» معطوفا على الماضي قبله، و كما لا يشكّ في أنّ المعنى في الخبر:

«فأهويت فضربت»، كذلك يكون المعنى في البيت: «نجوت و رهنت»، إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال، أن يحكى الحال في أحد الخبرين، و يدع الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في «و لقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، فمضيت»، إلّا أن الماضي في هذا البيت مؤخّر معطوف، و في بيت ابن همام و ما ذكرناه معه، مقدّم معطوف عليه. فاعرفه.

فإن دخل حرف نفي على المضارع تغيّر الحكم، فجاء بالواو و بتركها كثيرا، و ذلك مثل قولهم: «كنت و لا أخشى بالذّئب» (4)، و قول مسكين الدارميّ: [من الرمل

ص: 139


1- أصك: صكه ضربه شديدا. القاموس «صكك» (1221).
2- البيت لشمر بن عمرو الحنفي أحد شعراء بني حنيفة باليمامة، و هو في الأصمعيات رقم (38) ص (116)، و رواه سيبويه في الكتاب، و الخزانة (1/ 173)، و تفسير الطبري (2/ 351). و في الأغاني أن شمر قتل المنذر بن ماء السماء غيلة، و كان الحارث بن جبلة الغساني قد بعث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه و يكون من قبله، فركن المنذر إلى ذلك و أقام الغلمان معه فاغتاله شمر، و تفرق من كان مع المنذر و انتهبوا عسكره. و معنى البيت: يقول: أتجاهل شتم اللئيم لأنه أحقر من أن يعني لي شيئا.
3- عبد اللّه بن عتيك الأنصاري استشهد باليمامة سنة (12) ه. أسد الغابة (3/ 204) و الإصابة (2/ 332).
4- أخشى: أخوف. مثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال بلفظ «لقد كنت و ما أخشى بالذئب». يضرب للعجوز الخرف الذي يخاف من هجوم الذئب عليه.

أكسبته الورق البيض أبا و لقد كان و لا يدعى لأب (1)

و قول مالك بن رفيع، و كان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزّبير: [من الوافر]

بغاني مصعب و بنو أبيه، فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد

أقادوا من دمي و توعّدوني، و كنت و ما ينهنهني الوعيد (2)

«كان» في هذا كلّه تامة و الجملة الداخل عليها «الواو» في موضع الحال. أ لا ترى أن المعنى: «وجدت غير خاش للذئب»، و «لقد وجد غير مدعوّ لأب» و «وجدت غير منهنه بالوعيد و غير مبال به»، و لا معنى لجعلها ناقصة، و جعل «الواو» مزيدة.

و ليس مجي ء الفعل المضارع حالا، على هذا الوجه، بعزيز في الكلام، أ لا تراك تقول: «جعلت أمشي و ما أدري أين أضع رجلي» و «جعل يقول و لا يدري»، و قال أبو الأسود: «يصيب و ما يدري»، و هو شائع كثير.

فأما مجي ء المضارع منفيّا حالا من غير «الواو» فيكثر أيضا و يحسن، فمن ذلك قوله: [من الطويل ]

ثووا لا يريدون الرّواح، و غالهم من الدّهر أسباب جرين على قدر (3)البيت في الأغاني (13/ 37) و بعده:

ما ذا تظنك تغني في أخي رصد من أسد خفان جابي العين ذي لبد

و كان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني و ابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفى منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة فقال له: الناظرة: العين.(4)

و قال أرطأة بن سهيّة، و هو لطيف جدّا: [من البسيط]

إن تلقني، لا ترى غيري بناظرة تنس السّلاح و تعرف جبهة الأسد (4)

ص: 140


1- البيت في مجموع شعره، و الإيضاح (166)، و الإشارات (139)، و شرح عقود الجمان (191)، و التبيان (121).
2- البيت في شرح عقود الجمان (191)، منسوب لمالك بن رفيع، و في الأمالي (3/ 127)، و مالك ابن أبي رفيع الأسدي كان صعلوكا فطلبه ابن الزبير فهرب منه و قال هذا الشعر و له رواية أخرى: «أتاني مصعب»، و شرح التصريح (1/ 192)، و لمالك بن رقية كالآتي: تفانى مصعب و بنو أبيه و كنت و لا ينهنهني الوعيد و الإيضاح (166).
3- البيت في الإيضاح (166)، و الإشارات (138)، و التبيان في علم البيان لابن الزملكاني (122) ط. بغداد، و قال الأستاذ محمود شاكر في نسخته من دلائل الإعجاز: هو لعكرشة العبسي أبي الشغب يرثي بنيه، و هو في شرح الحماسة للتبريزي (3/ 49، 50)، و مجالس ثعلب (242)، و الشعر بتمامه في مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم
4- ، و رواية البيت على الصواب كما أثبته «ثووا».

فقوله: «لا ترى» في موضع حال. و مثله في اللّطف و الحسن قول أعشى همدان، و صحب عبّاد بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال: [من الوافر]

أتينا أصبهان فهزّلتنا و كنّا قبل ذلك في نعيم

و كان سفاهة منّي و جهلا مسيري، لا أسير إلى حميم (1)

قوله: «لا أسير إلى حميم»، حال من ضمير المتكلم الذي هو «الياء» في «مسيري»، و هو فاعل في المعنى، فكأنه قال: و كان سفاهة منّي و جهلا، أن سرت غير سائر إلى حميم، و أن ذهبت غير متوجّه إلى قريب: و قال خالد بن يزيد بن معاوية: [من الكامل ]

لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السّماء دخلتها لا أحجب (2)

و هو كثير إلّا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضيّ إلا من كان صحيح الطّبع.

و مما يجي ء بالواو و غير «الواو»، الماضي، و هو لا يقع حالا إلا مع «قد» مظهرة أو مقدّرة. أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع، كقولك: «أتاني و قد جهده السير»، و أما بغير «الواو» فكقوله: [من البسيط]

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله و اللّيل قد مزّقت عنه السّرابيل (3)

و قول الآخر: [من الوافر]

فآبوا بالرّماح مكسّرات و أبنا بالسّيوف قد انحنينا (4)

و قال آخر، و هو لطيف جدّا: [من الكامل ]

يمشون قد كسروا الجفون (5) إلى الوغى متبسّمين و فيهم استبشار

و مما يجي ء بالواو في الأكثر الأشيع، ثم يأتي في مواضع بغير «الواو» فيلطف مكانه و يدلّ على البلاغة، الجملة قد دخلها «ليس» تقول: «أتانى و ليس عليه ثوب»

ص: 141


1- البيتان في مجموع شعر الأعشية (341)، و غير متتابعين و هما في الإيضاح (166)، و الإشارات (138)، و التبيان لابن الزملكاني (122) ..
2- البيت في الإيضاح (166)، و الإشارات و التنبيهات (138)، و البيت منسوب لخالد بن زيد بن معاوية من أحفاد معاوية بن أبي سفيان و كان عالما فيلسوفا كما في الإشارات و التبيان.
3- البيت لحندج بن حندج المري، و هو في الإيضاح (166).
4- البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 229، 234).
5- قوله: يكسرون أغماد السيوف كناية عن استقبالهم للحرب و هي صفة من صفات الخوارج و الجفون مفردها الجفن و هو غمد السيف.

و «رأيته و ليس معه غيره»، فهذا هو المعروف المستعمل، ثم قد جاء بغير «الواو» فكان من الحسن على ما ترى، و هو قول الأعرابي: [من الرجز]

لنا فتى و حبّذا الأفتاء تعرفه الأرسان و الدّلاء

إذا جرى في كفّه الرّشاء خلّى القليب ليس فيه ماء (1)

و مما ينبغي أن يراعى في هذا الباب: أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بغير «واو» و يحسن ذلك، ثم تنظر فترى ذلك إنّما حسن من أجل حرف دخل عليها.

مثاله قول الفرزدق: [من الطويل ]

فقلت عسى أن تبصريني كأنّما بنيّ حواليّ الأسود الحوارد (2)

قوله: «كأنما بنيّ» إلى آخره، في موضع الحال من غير شبهة، و لو أنك تركت «كأن» فقلت: «عسى أن تبصريني بنيّ حوالي كالأسود»، رأيته لا يحسن حسنه الآن، و رأيت الكلام يقتضي «الواو» كقولك: «عسى أن تبصريني و بنيّ حوالي كالأسود الحوارد».

و شبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بعقب مفرد، فلطف مكانها، و لو أنك أردت أن تجعلها حالا من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن، مثال ذلك قول ابن الرومي: [من السريع

و اللّه يبقيك لنا سالما، برداك تبجيل و تعظيم (3)

فقوله: «برداك تبجيل»، في موضع حال ثانية، و لو أنك أسقطت «سالما»، من البيت فقلت: «و اللّه يبقيك برداك تبجيل»، لم يكن شيئا.

و إذا قد رأيت الجمل الواقعة حالا قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر، فلا بدّ من أن يكون ذلك إنّما كان من أجل علل توجبه و أسباب تقتضيه، فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصلح إلا مع «الواو»، و أخرى لا تصلح فيها «الواو»، و ثالثة تصلح أن تجي ء فيها «بالواو» و أن تدعها فلا تجي ء بها، ثم لا يكون لذلك سبب و علّة، و في الوقوف على العلّة في ذلك إشكال و غموض، ذاك لأنّ الطريق إليه غير (1) الأفتاء: جمع فتي بتشديد الياء و هو الشاب، و الأرسان: الحبال. و الرشاء: حبل الدلو. و القليب:

البئر.

(2) لم أعثر عليه في ديوانه (طبعة دار صادر)، و هو في الإيضاح (171). الحوارد: جمع حارد و هو المهيب المنظر من حرد إذا غضب.

(3) البيت في ديوانه، و الإيضاح (171).

ص: 142

مسلوك، و الجهة التي منها تعرف غير معروفة، و أنا أكتب لك أصلا في «الخبر» إذا عرفته انفتح لك وجه العلّة في ذلك.

اعلم أن «الخبر» ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه، و خبر ليس بجزء من الجملة، و لكنّه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، و الفعل كقولك: «خرج زيد»، و كل واحد من هذين جزء من الجملة، و هو الأصل في الفائدة. و الثاني هو الحال كقولك: «جاءني زيد راكبا»، و ذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، من حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، و بالفعل للفاعل. أ لا تراك قد أثبتّ الركوب في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجي ء، و هو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، و لم تجرّد إثباتك للركوب و لم تباشره به ابتداء، بل بدأت فأثبتّ المجي ء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع لغيره، و بشرط أن يكون في صلته. و أمّا في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك أثبت المعنى إثباتا جرّدته له، و جعلته يباشره من غير واسطة، و من غير أن يتسبّب بغيره إليه.

و إذا قد عرفت هذا، فاعلم أن كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من «الواو»، فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، و كل جملة جاءت حالا، ثم اقتضت «الواو» فذاك لأنك مستأنف بها خبرا، و غير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأوّل في الإثبات.

و تفسير هذا: أنك إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، كان بمنزلة قولك: «جاءني زيد مسرعا»، في أنك تثبت مجيئا فيه إسراع، و تصل أحد المعنيين بالآخر، و تجعل الكلام خبرا واحدا، و تريد أن تقول: «جاءني كذلك، و جاءني بهذه الهيئة»، و هكذا قوله: [من البسيط]

و قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم قديديمة الجوزاء مسموم

كأنه قال: «و قد علوت قتود الرحل بارزا للشمس ضاحيا»، و كذلك قوله: [من البسيط] متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله لأنه في معنى: «متى أرى الصبح باديا لائحا بيّنا متجلّيا»، على هذا القياس أبدا. و إذا قلت: «جاءني و غلامه يسعى بين يديه» و «رأيت زيدا و سيفه على كتفه»،

ص: 143

كان المعنى على أنك بدأت فأثبتّ المجي ء و الرؤية، ثم استأنفت خبرا، و ابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه، و لكون السيف على كتفه. و لما كان المعنى على استئناف الإثبات، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجي ء بالواو كما جي ء بها في قولك: «زيد منطلق و عمرو ذاهب» و «العلم حسن و الجهل قبيح»، و تسميتنا لها «واو حال»، لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضمّ جملة إلى جملة.

و نظيرها في هذا «الفاء» في جواب الشرط نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، فإنها و إن لم تكن عاطفة، فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها، فاعرف ذلك، و نزّل الجملة في نحو:

«جاءني زيد يسرع» و «قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم»، منزلة الجزاء الذي يستغني عن «الفاء»، لأنّ من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط، و هو قولك: «إن تعطني أشكرك»، و نزّل الجملة في «جاءني زيد و هو راكب»، منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه، و يحتاج إلى «الفاء»، كالجملة في نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، قياسا سويّا و موازنة صحيحة.

فإن قلت: قد علمنا أن علّة دخول «الواو» على الجملة أن تستأنف الإثبات، و لا تصل المعنى الثاني بالأوّل في إثبات واحد، و لا تنزّل الجملة منزلة المفرد، و لكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل، بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات، أولى من بعض؟ و ما الذي منع في قولك: «جاءني زيد و هو يسرع، أو «و هو مسرع» أن يدخل الإسراع في صلة المجي ء و يضمّه في الإثبات، كما كان ذلك حين قلت: «جاءني زيد يسرع»؟.

فالجواب أن السّبب في ذلك أن المعنى في قولك: «جاءني زيد و هو يسرع»، على استئناف إثبات للسّرعة، و لم يكن ذلك في «جاءني زيد يسرع». و ذلك أنك إذا أعدت ذكر «زيد» فجئت بضميره المنفصل المرفوع، كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحا فتقول: «جاءني زيد و زيد يسرع» في أنك لا تجد سبيلا إلى أن تدخل «يسرع» في صلة المجي ء، و تضمّه إليه في الإثبات. و ذلك أنّ إعادتك ذكر «زيد» لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع، و حتى تبتدئ إثباتا للسرعة، لأنّك إن لم تفعل ذلك، تركت المبتدأ، الذي هو ضمير «زيد» أو اسمه الظاهر، بمضيعة، و جعلته لغوا في البين، و جرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد و عمرو يسرع أمامه»، ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاما و لم تبتدئ للسرعة إثباتا، و أن حال «يسرع» هاهنا، حاله إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، فجعلت السرعة له، و لم تذكر «عمرا»، و ذلك محال.

ص: 144

فإن قلت: إنما استحال في قولك: «جاءني زيد و عمرو يسرع أمامه» أن تردّ «يسرع» إلى «زيد» و تنزله منزلة قولك: «جاءني زيد يسرع»، من حيث كان في «يسرع» ضمير لعمرو، و تضمّنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد، و أن يقدّر حالا له، و ليس كذلك: «جاءني زيد و هو يسرع»، لأنّ السرعة هناك لزيد لا محالة، فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟.

قيل: ليس المانع أن يكون «يسرع» في قولك: «جاءني زيد و عمرو يسرع أمامه»؟ حالا من زيد أنّه فعل لعمرو، فإنك لو أخّرت «عمرا» فرفعته «بيسرع»، و أوليت «يسرع» زيدا فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه» و جدته قد صلح حالا لزيد، مع أنه فعل لعمرو، و إنما المانع ما عرفتك، من أنك تدع «عمرا» بمضيعة، و تجي ء به مبتدأ، ثم لا تعطيه خبرا.

و مما يدلّ على فساد ذلك أنّه يؤدّي إلى أن يكون «يسرع» قد اجتمع في موضعه النّصب و الرفع، و ذلك أنّ جعله حالا من «زيد» يقتضي أن يكون في موضع نصب، و جعله خبرا عن «عمرو» المرفوع بالابتداء يقتضي أن يكون في موضع رفع.

و ذلك بيّن التّدافع. و لا يجب هذا التّدافع إذا أخرت «عمرا» فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه»، لأنك ترفعه حينئذ بيسرع، على أنه فاعل له، و إذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعرابا، فيبقى مفرّغا لأن يقدّر فيه النصب على أنه حال من «زيد» و جرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد مسرعا عمرو أمامه».

فإن قلت: فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجي ء جملة من مبتدأ و خبر حالا إلا مع «الواو»، و قد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم.

فالجواب أنّ القياس و الأصل أن لا تجي ء جملة من مبتدأ و خبر حالا إلا مع «الواو»، و أمّا الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشي ء يخرج عن أصله و قياسه و الظاهر فيه، بضرب من التأويل و نوع من التشبيه، فقولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ»، إنّما حسن بغير «واو» من أجل أن المعنى: كلمته مشافها له، و كذلك قولهم: «رجع عوده على بدئه»، إنما جاء الرفع فيه و الابتداء من غير «واو»، لأن المعنى: رجع ذاهبا في طريقه الذي جاء فيه، و أما قوله: «وجدته حاضراه الجود و الكرم» فلأنّ تقديم الخبر الذي هو «حاضراه»، يجعله كأنه قال: «وجدته حاضرا عنده الجود و الكرم».

و ليس الحمل على المعنى، و تنزيل الشي ء منزلة غيره، بعزيز في كلامهم، و قد قالوا: «زيد اضربه»، فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر، لأن المعنى على

ص: 145

النصب نحو: «اضرب زيدا»، و وضعوا الجملة، من المبتدأ و الخبر موضع الفعل و الفاعل في نحو قوله تعالى: أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193]، لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو: «أ دعوتموهم أم صمتّم».

و يدل على أن ليس مجي ء الجملة من المبتدأ و الخبر حالا بغير «الواو» أصلا، قلّته (1)، و أنه لا يجي ء إلا في الشي ء بعد الشي ء.

هذا، و يجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة «الواو»، كما جاء الماضي على إرادة «قد».

و اعلم أنّ الوجه فيما كان مثل قول بشار: [من الطويل ]خرجت مع البازي عليّ سواد (2) أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش، فيرفع «سواد» بالظرف دون الابتداء، و يجري الظّرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة نحو:

«مررت برجل معه صقر صائدا به غدا»، و ذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع «صقرا» بما في «معه» من معنى الفعل، فلذلك يجوز أن يجرى الحال مجرى الصفة، فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالا، فيكون ارتفاع «سواد» بما في «عليّ» من معنى الفعل، لا بالابتداء.

ثم ينبغي أن يقدّر هاهنا خصوصا أنّ الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل، أعني أن يكون المعنى: «خرجت كائنا عليّ سواد، و باقيا عليّ سواد»، و لا يقدّر:

«يكون عليّ سواد»، و «يبقى عليّ سواد»، اللهمّ إلّا أن تقدر فيه فعلا ماضيا مع «قد» كقولك: «خرجت مع البازي قد بقي عليّ سواد»، و الأوّل أظهر.

و إذا تأمّلت الكلام وجدت الظرف و قد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلّا أن يقدّر تقدير اسم فاعل، و لذلك قال أبو بكر بن السّراج في قولنا: «زيد في الدار»، أنك مخيّر بين أن تقدر فيه فعلا فتقول: «استقر في الدار»، و بين أن تقدر اسم فاعل فتقول: «مستقر في الدار»، و إذا عاد الأمر إلى هذا، كان الحال في ترك «الواو» ظاهرة، و كان «سواد» في قوله: «خرجت مع البازي عليّ سواد»، بمنزلة «قضاء اللّه» في قوله: [من الطويل ]).

ص: 146


1- قلّته: فاعل للفعل «يدلّ».
2- راجع هامش (1) ص (142).

سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا عليّ قضاء اللّه ما كان جالبا (1)

في كونه اسما ظاهرا قد ارتفع باسم فاعل قد اعتمد على ذي حال، فعمل عمل الفعل.

و يدلّك على أن التقدير فيه ما ذكرت، و أنه من أجل ذلك حسن، أنك تقول:

«جاءني زيد و السّيف على كتفه» و «خرج و التاج عليه»، فتجده لا يحسن إلا بالواو، و تعلم أنك لو قلت: «جاءني زيد السيف على كتفه» و «خرج التاج عليه»، كان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال، و ذلك لأنه بمنزلة قولك: «جاءني و هو متقلّد سيفه» و «خرج و هو لابس التاج»، في أن المعنى على أنك استأنفت كلاما و ابتدأت إثباتا، و أنّك لم ترد: «جاءني كذلك» و لكن «جاءني و هو كذلك»، فاعرفه. ).

ص: 147


1- شعر سعد بن ناشب المازني، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 35).

لقول في الفصل و الوصل

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

اعلم أنّ العلم- بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها و المجي ء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى- من أسرار البلاغة (1)، و ممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلّص، و إلا قوم طبعوا على البلاغة، و أوتوا فنّا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد. و قد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدّا للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: «معرفة الفصل من الوصل»، ذاك (2) لغموضه و دقّة مسلكه، و أنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد، إلا كمل لسائر معاني البلاغة.

و اعلم أنّ سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد، ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها و نتعرّف حالها.

و معلوم أنّ فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، و أنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله، و المعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك.

و إذا كان هذا أصله في المفرد، فإنّ الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين:

أحدهما: أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب، و إذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد، و إذا كانت الجملة واقعة موقع المفرد، كان عطف الثانية عليها جاريا مجرى عطف المفرد على المفرد، و كان وجه الحاجة إلى «الواو» ظاهرا، و الإشراك بها

ص: 148


1- قوله: بما ينبغي إلى قوله بعد أخرى: اعتراض بين اعلم أن العلم ... من أسرار البلاغة.
2- ذاك: المقصود منه الفصل.

في الحكم موجودا. فإذا قلت: «مررت برجل خلقه حسن و خلقه قبيح» كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى، و ذلك الحكم كونها في موضع جرّ بأنّها صفة للنكرة. و نظائر ذلك تكثر، و الأمر فيها يسهل.

و الذي يشكل أمره هو الضرب الثاني، و ذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى، كقولك: «زيد قائم، و عمرو قاعد» و «العلم حسن، و الجهل قبيح»، لا سبيل لنا إلى أن ندّعي أن «الواو» أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه. و إذا كان كذلك، فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف و المغزى منه، و لم لم يستو الحال بين أن تعطف و بين أن تدع العطف فتقول: «زيد قائم، عمرو قاعد»، بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى و الثانية فيه؟.

و اعلم أنّه إنما يعرض الإشكال في «الواو» دون غيرها من حروف العطف، و ذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني، مثل أنّ «الفاء» توجب الترتيب من غير تراخ، و «ثم» توجبه مع تراخ، و «أو» تردّد الفعل بين شيئين و تجعله لأحدهما لا بعينه، فإذا عطفت بواحدة منها الجملة على الجملة، ظهرت الفائدة. فإذا قلت: «أعطاني فشكرته»، ظهر بالفاء أن الشكر كان معقّبا على العطاء و مسبّبا عنه، و إذا قلت:

«خرجت ثم خرج زيد»، أفادت «ثم» أن خروجه كان بعد خروجك، و أنّ مهلة وقعت بينهما، و إذا قلت: «يعطيك أو يكسوك»، دلّت «أو» على أنه يفعل واحدا منهما لا بعينه.

و ليس «للواو» معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأوّل. فإذا قلت: «جاءني زيد و عمرو» لم تفد بالواو شيئا أكثر من إشراك عمرو في المجي ء الذي أثبته لزيد، و الجمع بينه و بينه، و لا يتصوّر إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه و إذا كان ذلك كذلك، و لم يكن معنا في قولنا: «زيد قائم و عمرو قاعد» معنى تزعم أنّ «الواو» أشركت بين هاتين الجملتين فيه، ثبت إشكال المسألة.

ثم إنّ الذي يوجبه النظر و التأمّل أن يقال في ذلك: إنّا و إن كنّا إذا قلنا: «زيد قائم و عمرو قاعد»، فإنّا لا نرى هاهنا حكما نزعم أن «الواو» جاءت للجمع بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمرا آخر نحصل معه على معنى الجمع. و ذلك أنّا لا نقول:

«زيد قائم و عمرو قاعد»، حتى يكون عمرو بسبب من زيد، و حتى يكونا كالنظيرين

ص: 149

و الشريكين، و بحيث إذا عرف السامع حال الأوّل عناه أن يعرف حال الثاني. يدلّك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب، و لا هو ممّا يذكر بذكره و يتّصل حديثه بحديثه، لم يستقم. فلو قلت: «خرجت اليوم من داري»، ثم قلت: «و أحسن الذي يقول بيت كذا»، قلت ما يضحك منه، و من هنا عابوا أبا تمام في قوله: [من الكامل ]

لا و الّذي هو عالم أنّ النّوى صبر و أنّ أبا الحسين كريم (1)

و ذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين و مرارة النوى، و لا تعلّق لأحدهما بالآخر، و ليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك.

و اعلم أنّه كما يجب أن يكون المحدّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدّث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشّبيه و النظير أو النقيض للخبر عن الأوّل. فلو قلت: «زيد طويل القامة و عمرو شاعر»، كان خلفا، لأنه لا مشاكلة و لا تعلّق بين طول القامة و بين الشّعر، و إنما الواجب أن يقال: «زيد كاتب و عمرو شاعر»، و «زيد طويل القامة و عمرو قصير».

و جملة الأمر أنها لا تجي ء حتّى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا (2) لمعنى في الأخرى و مضامّا له، مثل أنّ «زيدا» و «عمرا» إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة، كانت الحال التي يكون عليها أحدهما، من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك، مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شكّ.

و كذا السبيل أبدا.

و المعاني في ذلك كالأشخاص، فإنّما قلت مثلا: «العلم حسن و الجهل قبيح»، لأنّ كون العلم حسنا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا.

و اعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحدا كقولنا: «هو يقول و يفعل و يضرّ و ينفع، و يسي ء و يحسن، و يأمر و ينهى، و يحلّ و يعقد، و يأخذ و يعطى، و يبيع).

ص: 150


1- البيت في ديوانه (282) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة، و قبله: زعمت هواك عفا الغداة كما عفت منها طلول باللوى و رسوم و البيت في مفتاح العلوم للسكاكي (381)، و الإيضاح (149)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (122)، و عزاه إليه، و الطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقي (1/ 87)، و شرح الصولي للديوان (2/ 419)، و معاهد التنصيص، و انظر نهاية الإيجاز (323)، و عقود الجمان (173) و الصبر: عصارة شجرة حامض.
2- لفقا له: لفق الثوب يلفقه: ضم شقة إلى أخرى. القاموس «لفق» (1190).

و يشتري، و يأكل و يشرب» و أشباه ذلك، ازداد معنى الجمع في «الواو» قوة و ظهورا، و كان الأمر حينئذ صريحا.

و ذلك أنك إذا قلت: «هو يضرّ و ينفع»، كنت قد أفدت «بالواو» أنك أوجبت له الفعلين جميعا، و جعلته يفعلهما معا. و لو قلت: «يضرّ ينفع»: من غير «واو» لم يجب ذلك، بل قد يجوز أن يكون قولك «ينفع» رجوعا عن قولك «يضر» و إبطالا له.

و إذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصّلة، ازداد الاشتباك و الاقتران حتى لا يتصوّر تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر، و ذلك في مثل قولك: «العجب من أنّي أحسنت و أسأت» و «يكفيك ما قلت و سمعت» و «أ يحسن أن تنهى عن شي ء و تأتي مثله؟»، و ذلك أنه لا يشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين في حكم فعل واحد. و من البيّن في ذلك قوله: [من البسيط]

لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم، و أن نكفّ الأذى عنكم و تؤذونا (1)

المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، و جامعها في الحصول.

و مما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام: [من الطويل ]

لهان علينا أن نقول و تفعلا و نذكر بعض الفضل منك و تفضلا (2)

و اعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله و رابط يربطه، و ذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتّصالها بالموصوف إلى شي ء يصلها به، و كالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل ما تتّصل من ذات نفسها بالتي قبلها، و تستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. و هي كلّ جملة كانت مؤكّدة للتي قبلها و مبيّنة لها، و كانت إذا حصّلت لم تكن شيئا سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف، و التأكيد غير المؤكد. فإذا قلت: «جاءني زيد الظريف»، و «جاءني القوم كلهم»، لم يكن «الظريف» و «كلّهم» غير زيد و غير القوم.

و مثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

ص: 151


1- من شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 121).
2- البيت في ديوانه (ص 237)، مطلع قصيدة في مدح محمد بن عبد الملك الزيات. و يروى: «فتفضلا» بدل من «و تفضلا» و بعده: أبا جعفر أجريت في كل تلعة لنا جعفرا من سيب كفيك سلسلا لهان: أي و اللّه لقد هان.

[البقرة: 1- 2] قوله: «لا ريب فيه»، بيان و توكيد و تحقيق لقوله «ذلك الكتاب»، و زيادة تثبيت له، و بمنزلة أن تقول: «هو ذلك الكتاب، هو ذلك الكتاب»، فتعيده مرة ثانية لتثبته، و ليس يثبت الخبر غير الخبر، و لا شي ء يتميّز به عنه فيحتاج إلى ضامّ يضمّه إليه، و عاطف يعطفه عليه.

و مثل ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ، تأكيد لقوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، و قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ، تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، كان في غاية الجهل، و كان مطبوعا على قلبه لا محالة.

و كذلك قوله عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ [البقرة: 8- 9]، إنّما قال: «يخادعون» و لم يقل:

«و يخادعون» لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم: «آمنّا»، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلام أكّد به كلام آخر هو في معناه، و ليس شيئا سواه.

و هكذا قوله عزّ و جلّ: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، و ذلك لأن معنى قولهم: «إنّا معكم»: إنّا لم نؤمن بالنبيّ صلى اللّه عليه و سلّم و لم نترك اليهوديّة. و قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، خبر بهذا المعنى بعينه، لأنه لا فرق بين أن يقولوا: «إنّا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلّا استهزاء»، و بين أن يقولوا: «إنّا لم نخرج من دينكم و إنّا معكم»، بل هما في حكم الشي ء الواحد، فصار كأنهم قالوا: «إنا معكم لم نفارقكم» فكما لا يكون «إنّا لم نفارقكم» شيئا غير «إنّا معكم»، كذلك لا يكون «إنّما نحن مستهزءون» غيره، فاعرفه.

و من الواضح البيّن في هذا المعنى قوله تعالى: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لقمان: 7]، لم يأت معطوفا نحو «و كأنّ في أذنيه وقرا»، لأنّ المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلّا أنّ الثاني أبلغ و آكد في الذي أريد. و ذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه، و يكون لها تأثير فيه، و أن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل.

ص: 152

و لا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ و آكد في جعله كذلك، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع و إن أراد ذلك، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة، من الذي يصحّ منه السمع إلّا أنه لا يسمع، إمّا اتفاقا و إما قصدا إلى أن لا يسمع.

فاعرفه و أحسن تدبّره.

و من اللطيف في ذلك قوله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31]، و ذلك أن قوله: «إن هذا إلّا ملك كريم»، مشابك لقوله: «ما هذا بشرا» و مداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه: وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد، و وجه هو فيه شبيه بالصفة.

فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا، و إذا كان كذلك كان، إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة، و تأكيدا لنفي أن يكون بشرا.

و الوجه الثاني أن الجاري في العرف و العادة أنه إذا قيل: «ما هذا بشرا، و ما هذا بآدميّ»، و الحال حال تعظيم و تعجّب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق، أن يكون الغرض و المراد من الكلام أن يقال إنه ملك، و أنه يكنى به عن ذلك، حتى أنه يكون مفهوم اللفظ، و إذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة، لأنّ حدّ «التأكيد» أن تحقّق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أ فلا ترى: أنه إنّما كان «كلّهم» في قولك: «جاءني القوم كلّهم» تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه، و هو الشمول، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ «القوم»، و لو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم»، و لا كان هو من موجبه، لم يكن «كلّ» تأكيدا، و لكان الشمول مستفادا من «كلّ» ابتداء.

و أمّا الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا، فقد أثبت له جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر. و إذا كان الأمر كذلك، كان إثباته «ملكا» تبيينا و تعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، و إغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول: «فإن لم يكن بشرا، فما هو؟ و ما جنسه؟» كما أنك إذا قلت: «مررت بزيد الظريف» كان «الظريف» تبيينا و تعيينا للّذي أردت من بين من له هذا الاسم، و كنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول: «أيّ الزيدين أردت؟».

و ممّا جاء فيه الإثبات «بإن و إلّا» على هذا الحدّ قوله عزّ و جلّ: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69]، و قوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ

ص: 153

الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4]، أ فلا ترى أنّ الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد و تثبيت لنفي ما نفي؟ فإثبات ما علّمه النبي صلى اللّه عليه و سلّم و أوحي إليه ذكرا و قرآنا، تأكيد و تثبيت لنفي أن يكون قد علّم الشعر و كذلك إثبات ما يتلوه عليهم و حيا من اللّه تعالى، تأكيد و تقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.

و اعلم أنّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: «إنه خفيّ غامض، و دقيق صعب» إلا و علم هذا الباب أغمض و أخفى و أدقّ و أصعب. و قد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: «إن الكلام قد استؤنف و قطع عمّا قبله»، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. و لقد غفلوا غفلة شديدة.

و ممّا هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة و حالها مع التي قبلها حال ما يعطف و يقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف، لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها.

مثال ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15]، الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، و ذلك أنه ليس بأجنبيّ منه، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142]، و قوله:

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54]، و ما أشبه ذلك مما يردّ فيه العجز على الصّدر، ثم إنّك تجده قد جاء غير معطوف، و ذلك لأمر أوجب أن لا يعطف، و هو أن قوله: «إنما نحن مستهزءون»، حكاية عنهم أنهم قالوا، و ليس بخبر من اللّه تعالى، و قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، خبر من اللّه تعالى أنه يجازيهم على كفرهم و استهزائهم. و إذا كان كذلك، كان العطف ممتنعا، لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من اللّه تعالى، معطوفا على ما هو حكاية عنهم، و لإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من اللّه تعالى، إلى كونه حكاية عنهم، و إلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، و أن اللّه تعالى معاقبهم عليه.

و ليس كذلك الحال في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ و «مكروا و مكر اللّه»، لأن الأول من الكلامين فيهما كالثّاني، في أنه خبر من اللّه تعالى و ليس بحكاية. و هذا هو العلّة في قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11- 12]، إنما جاء «إنّهم هم المفسدون» مستأنفا مفتتحا «بألا»، لأنه خبر من اللّه تعالى بأنّهم

ص: 154

كذلك، و الذي قبله من قوله: «إنما نحن مصلحون»، حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدّمت ذكره من الدخول في الحكاية، و لصار خبرا من اليهود و وصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون، و لصار كأنه قيل: قالوا: «إنما نحن مصلحون، و قالوا إنّهم المفسدون»، و ذلك ما لا يشكّ في فساده.

و كذلك قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13]، و لو عطف: «إنّهم هم السّفهاء» على ما قبله، لكان يكون قد أدخل في الحكاية، و لصار حديثا منهم عن أنفسهم بأنهم هم السّفهاء، من بعد أن زعموا أنهم إنّما تركوا أن يؤمنوا لئلّا يكونوا من السفهاء.

على أنّ في هذا أمرا آخر، و هو أن قوله: «أ نؤمن» استفهام، لا يعطف الخبر على الاستفهام.

فإن قلت: هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على «قالوا» من قوله: «قالوا إنّا معكم» لا على ما بعده، و كذلك كان يفعل في «إنّهم هم المفسدون»، و «إنّهم هم السّفهاء»، و كان يكون نظير قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8]، و ذلك أنّ قوله: «و لو أنزلنا ملكا» معطوف، من غير شك، على «قالوا» دون ما بعده؟.

قيل: إن حكم العطف على «قالوا» فيما نحن فيه، مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت. و ذلك أن «قالوا» هاهنا جواب شرط، فلو عطف قوله: «اللّه يستهزئ بهم» عليه، للزم إدخاله في حكمه من كونه جوابا، و ذلك لا يصحّ.

و ذاك أنّه متى عطف على جواب الشرط شي ء «بالواو» كان ذلك على ضربين:

أحدهما: أن يكونا شيئين يتصوّر وجود كلّ واحد منهما دون الآخر، و مثاله قولك «إن تأتني أكرمك أعطك و أكسك»، و الثاني: أن يكون المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه، و يكون الشّرط لذلك سببا فيه بوساطة كونه سببا للأول، و مثاله قولك: «إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته و خرجت»، فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، و قد صار «الرجوع» سببا في الخروج، من أجل كونه سببا في الاستئذان، فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين، نحو: «إذا رجع الأمير استأذنت، و إذا استأذنت خرجت».

و إذا قد عرفت ذلك، فإنه لو عطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على

ص: 155

«قالوا» كما زعمت، كان الذي يتصوّر فيه أن يكون من هذا الضّرب الثاني، و أن يكون المعنى: «و إذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون»، فإذا قالوا ذلك استهزأ اللّه بهم و مدّهم في طغيانهم يعمهون.

و هذا و إن كان يرى أنه يستقيم، فليس هو بمستقيم. و ذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء و فعلهم له و إرادتهم إيّاه في قولهم: «آمنّا»، لا على أنهم حدّثوا على أنفسهم بأنّهم مستهزءون، و العطف على «قالوا» يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء، لا عليه نفسه.

و يبيّن ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء و فعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزءون، أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم: «إنما نحن مستهزءون» و هم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، و أن يسلموا من شرّهم، و أن يوهموهم أنّهم منهم و إن لم يكونوا كذلك (1)، لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء و الخديعة في إظهار الإيمان، لا في قول: «إنّا استهزأنا» من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد و نيّة.

هذا، و هاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف و ترك العطف، و هو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا كيت و كيت، تحرّك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم و ما يصنع بهم، و أتنزل بهم النّقمة عاجلا أم لا تنزل و يمهلون، و توقع في أنفسهم التمنّي لأن يتبيّن لهم ذلك. و إذا كان كذلك، كان هذا الكلام الذي هو قوله: «اللّه يستهزئ بهم»، في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدّر وقوعه في أنفس السامعين. و إذا كان مصدره كذلك، كان حقّه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف، ليكون في صورته إذا قيل:

«فإن سألتم قيل لكم: «اللّه يستهزئ بهم و يمدّهم في طغيانهم يعمهون».

و إذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا، منزلته إذا صرّح بذلك السؤال، كثيرا، فمن لطيف ذلك قوله: [من الكامل ]

زعم العواذل أنّني في غمرة، صدقوا، و لكن غمرتي لا تنجلي (2)

لمّا حكى عن العواذل أنهم قالوا: «هو في غمرة»، و كان ذلك مما يحرّك

ص: 156


1- و التقدير أنهم لو كانوا ..... لكان لا يكون عليهم».
2- البيت في الإيضاح (157)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (125) بلا عزو، و الطيبي في التبيان (142)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (182)، و هو غير منسوب. الغمرة: الشدة.

السامع لأن يسأله فيقول: «فما قولك في ذلك، و ما جوابك عنه؟»، أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، و صار كأنه قال: «أقول: صدقوا، أنا كما قالوا، و لكن لا مطمع لهم في فلاحي»، و لو قال: «زعم العواذل أنني في غمرة و صدقوا»، لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسئول، و أن كلامه كلام مجيب.

و مثله قول الآخر في الحماسة: [من الكامل ]

زعم العواذل أنّ ناقة جندب بجنوب خبت عرّيت و أجمّت

كذب العواذل لو رأين مناخنا بالقادسيّة قلن: لجّ و ذلّت (1)

و قد زاد هذا أمر القطع و الاستئناف و تقدير الجواب، تأكيدا بأن وضع الظّاهر موضع المضمر، فقال: «كذب العواذل»: و لم يقل «كذبن»، و ذلك أنه لما أعاد ذكر «العواذل» ظاهرا، كان ذلك أبين و أقوى، لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، و أتى به مأتى ما ليس قبله كلام و مما هو على ذلك قول الآخر: [من الوافر] زعمتم أنّ إخوتكم قريش!- لهم إلف، و ليس لكم إلاف (2) و ذلك أنّ قوله: «لهم إلف» تكذيب لدعواهم أنّهم من قريش، فهو إذن بمنزلة أن يقول: «كذبتم، لهم إلف، و ليس لكم ذلك»: و لو قال: «زعمتم أنّ إخوتكم قريش و لهم إلف و ليس لكم إلاف»، لصار بمنزلة أن يقول: «زعمتم أن أخواتكم قريش و كذبتم»، في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له: «فما ذا تقول في زعمهم ذلك و في دعواهم؟» فاعرفه.

و اعلم أنّه لو أظهر «كذبتم»، لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله: «لهم إلف» عليه بالفاء، فيقول: «كذبتم فلهم إلف، و ليس لكم ذلك». فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتّة، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله: «زعمتم

ص: 157


1- البيتان في الإيضاح (157)، و هو في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 162)، و جندب هو الشاعر و نسبه في معاهد التنصيص (1/ 281)، و قال: «جندب بن عمار». خبت: موضع بالشام و بلدة بزبيد، أجمت: أي تركت أن تركب.
2- البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير، من شعراء الحماسة يهجو بني أسد، و أورده القزويني في الإيضاح (158)، و السكاكي في مفتاح العلوم (271)، و الإلف: الذي تألفه. إيلاف: العهد و الذمام.

أنّ إخوتكم قريش»، و ذلك يخرج إلى المحال، من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله:

«لهم إلف»، على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت: «كذبتم فلهم إلف»، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا، فاعرف ذلك.

و من اللطيف في الاستئناف، على معنى جعل الكلام جوابا في التقدير، قول اليزيديّ: [من السريع

ملّكته حبلي، و لكنّه ألقاه من زهد على غاربي

و قال إني في الهوى كاذب، انتقم اللّه من الكاذب (1) استأنف قوله: «انتقم اللّه من الكاذب»، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له: «فما تقول فيما اتّهمك به من أنك كاذب؟» فقال أقول «انتقم اللّه من الكاذب».

و من النادر أيضا في ذلك قول الآخر: [من الخفيف

قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل، سهر دائم و حزن طويل (2)

لما كان في العادة إذا قيل للرجل: «كيف أنت؟» فقال: «عليل»، أن يسأل ثانيا فيقال: «ما بك؟ و ما علتك»، قدّر كأنه قد قيل له ذلك، فأتى بقوله: «سهر دائم» جوابا عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال، فاعرفه:

و من الحسن البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الوافر]

و ما عفت الرّياح له محلّا، عفاه من حدا بهم و ساقا (3)

ص: 158


1- البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (151)، و عزاهما لليزيدي، و الطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 87)، و عقود الجمان (176)، إلقاء الحبل على الغارب: كناية عن الإهمال، و اليزيدي: عالم شاعر راوية توفي سنة (292 ه)، و البيتان في الأغاني لإبراهيم بن المدبر الشاعر الكاتب العباسي.
2- البيت أورده القزويني في الإيضاح (38، 156)، و هو بلا نسبة في التبيان للطيبي (1/ 146)، و معاهد التنصيص (1/ 100)، و الإشارات و التنبيهات (34)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)، و الشاهد من قوله: «عليل» لأن التقدير: أنا عليل، و في قوله: «سهر دائم» لأن التقدير: حالي سهر دائم و الحذف فيه للاختصار و الاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر.
3- البيت في ديوانه (2/ 40)، من قصيدة في مدح سيف الدولة و قد أمر له بفرس و جارية، و قبله: أ يدري الربع أي دم أرقا و أي قلوب هذا أكبر لب شاقا لنا و لأهله أبدا قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى و البيت أورده القزويني في الإيضاح (157)، و السكاكي في المفتاح (373). عفت: محت، محلا: مكانا، الحادي: من يسوق القافلة.

لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس و العفاء من الرياح، و أن تكون التي فعلت ذلك، و كان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل: «لم يفعله فلان»، أن يقال: «فمن فعله؟» قدّر كأن قائلا قال: «قد زعمت أن الرياح لم تعف له محلّا، فما عفاه إذن؟»، فقال مجيبا له: «عفاه من حدا بهم و ساقا».

و مثله قول الوليد بن يزيد: [من الهزج

عرفت المنزل الخالي عفا من بعد أحوال

عفاه كل حنّان عسوف الوبل هطّال (1)

لما قال: «عفا من بعد أحوال»، قدّر كأنه قيل له: «فما عفاه؟» فقال: «عفاه كلّ حنّان».

و اعلم أن السؤال إذا كان ظاهرا مذكورا في مثل هذا، كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، و يقتصر على الاسم وحده. فأمّا مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل.

تفسير هذا: أنه يجوز لك إذا قيل: «إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟» أن تقول: «من حدا بهم و ساقا» و لا تقول: «عفاه من حدا»، كما تقول في جواب من يقول: «من فعل هذا؟»: زيد، و لا يجب أن تقول: «فعله زيد».

و أمّا إذا لم يكن السؤال مذكورا كالذي عليه البيت، فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا: «و ما عفت الرياح له محلا، من حدا بهم و ساقا»: تزعم أنك أردت «عفاه من حدا بهم»، ثم تركت ذكر الفعل، أحلت (2)، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكورا، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن العلم به سبيل، فاعرف ذلك.

و اعلم أن الذي تراه في التّنزيل من لفظ «قال» مفصولا غير معطوف، هذا هو التقدير فيه، و اللّه أعلم. أعني مثل قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:

ص: 159


1- البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (157)، و عزاهما للوليد، و السكاكي في المفتاح (373)، و هما في شعر الوليد بن يزيد في المجموع، و الأغاني (7/ 32).
2- أي: جئت بالمحال.

24- 28]، جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السّؤال. فلما كان العرف و العادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: «دخل قوم على فلان فقالوا كذا»، أن يقولوا: «فما قال هو؟»، و يقول المجيب: «قال كذا»، أخرج الكلام ذلك المخرج، لأنّ الناس خوطبوا بما يتعارفونه، و سلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه.

و كذلك قوله: «قال أ لا تأكلون»، و ذلك أن قوله: «فجاء بعجل سمين. فقرّبه إليهم»، يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول، فكأنه قيل و اللّه أعلم: «فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟»، فأتى قوله: «قال أ لا تأكلون»، جوابا عن ذلك.

و كذا «قالوا لا تخف»، لأن قوله: «فأوجس منهم خيفة»، يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه و تسكينه مما خامره، فكأنه قيل: «فما قالوا حين رأوه و قد تغيّر و دخلته الخيفة؟» فقيل: «قالوا لا تخف».

و ذلك، و اللّه أعلم، المعنى في جميع ما يجي ء منه على كثرته، كالذي يجي ء في قصّة فرعون عليه اللّعنة، و في ردّ موسى عليه السلام عليه كقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 23- 31]، جاء ذلك كله، و اللّه أعلم، على تقدير السؤال و الجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منّا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال: «و ما رب العالمين؟»، وقع في نفسه أن يقول:

«فما قال موسى له؟» أتى قوله: «قال ربّ السماوات و الأرض»، مأتى الجواب مبتدأ مفصولا غير معطوف. و هكذا التقدير و التفسير أبدا في كل ما جاء فيه لفظ «قال» هذا المجي ء، و قد يكون الأمر في بعض ذلك أشدّ وضوحا.

- فممّا هو في غاية الوضوح قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 57- 58]، و ذلك لأنّه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب، و على أن نزّل السامعون كأنهم قالوا: «فما قال له الملائكة؟»، فقيل: «قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين».

و كذلك قوله عز و جل في سورة يس: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ

ص: 160

جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [يس: 13- 21]، التقدير الذي قدّرناه من معنى السؤال و الجواب بيّن ظاهر في ذلك كله، و نسأل اللّه التوفيق للصواب، و العصمة من الزّلل.

[فصل: في نكتة عطف الجملة على ما قبل التي تليها]

و إذ قد عرفت هذه الأصول و القوانين في شأن فصل الجمل و وصلها، فاعلم أنّا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب:

جملة حالها مع التي قبلها حال الصّفة مع الموصوف و التأكيد مع المؤكد، فلا يكون فيها العطف البتّة، لشبه العطف فيها، لو عطفت، بعطف الشي ء على نفسه.

و جملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله، إلّا أنه يشاركه في حكم، و يدخل معه في معنى، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه، فيكون حقّها العطف.

و جملة ليست في شي ء من الحالين، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شي ء، فلا يكون إيّاه و لا مشاركا له في معنى، بل هو شي ء إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به، و يكون ذكر الذي قبله و ترك الذكر سواء في حاله، لعدم التعلّق بينه و بينه رأسا. و حقّ هذا ترك العطف البتة.

فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال إلى الغاية، و العطف لما هو واسطة بين الأمرين، و كان له حال بين حالين، فاعرفه.

[فصل منه في أن امتياز العبارة بالتأثير]

هذا فن من القول خاصّ دقيق. اعلم أن مما يقلّ نظر الناس فيه من أمر «العطف» أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، و لكن تعطف على جملة بينها و بين هذه التي تعطف جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبي: [من الوافر]

ص: 161

تولّوا بغتة، فكأن بينا تهيّبني، ففاجأني اغتيالا

فكان مسير عيسهم ذميلا، و سير الدّمع إثرهم انهمالا (1)

قوله: «فكان مسير عيسهم»، معطوف على «تولّوا بغتة»، دون ما يليه من قوله: «ففاجأني»، لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ»، و ذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة، و يكون متوهّما، كما كان تهيّب البين كذلك.

و هذا أصل كبير. و السبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا، و بين المعطوف عليها الأولى، ترتبط في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أنّ قوله: «فكأنّ بينا تهيّبني»، مرتبط بقوله: «تولوا بغتة»، و ذلك أن الثانية مسبّب و الأولى سبب. أ لا ترى أن المعنى: «تولوا بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» و لا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي بغتة. و إذا كان كذلك، كانت مع الأولى كالشي ء الواحد، و كان منزلتها منها منزلة المفعول و الظّرف و سائر ما يجي ء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل، مما لا يمكن إفراده عن الجملة، و أن يعتدّ كلاما على حدته.

و هاهنا شي ء آخر دقيق، و هو أنك إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلا»، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، و لكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. أ لا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة، و على الوجه الذي توهّم من أجله أن البين تهيّبه، مستدعيا بكاءه، و موجبا أن ينهمل دمعه، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع، و أن يوفّق بينهما.

و كذلك الحكم في الأوّل، فنحن و إن كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة»، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، و إنما أردنا بقولنا «إن العطف عليه»، أن نعلمك أن الأصل ..

ص: 162


1- البيتان في ديوانه (1/ 183) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، و قبلهما: بقائي شاء ليس هم ارتحالا و حسن الصبر زموا لا الجمالا تولوا: أدبروا. البغتة: الفجأة. تهيبني: هابني. اغتيال: أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس: الإبل. انهمالا: انسكابا. الذميل: ضرب من السير سريع ..

و القاعدة، و أن نصرفك عن أن تطرحه، و تجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه، فتزعم أن قوله: «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأني»، فتقع في الخطأ كالذي أريناك.

فأمر العطف إذن، موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، و تعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك.

و ينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط و الجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به.

و ذلك أنك ترى، متى شئت، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى، ثم جعلتا بمجموعهما شرطا، و مثال ذلك قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [النساء: 112]، الشّرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، و لا في واحدة دون الأخرى، لأنّا إن قلنا أنّه في كل واحدة منهما على الانفراد، جعلناهما شرطين، و إذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين، و ليس معنا إلا جزاء واحد. و إن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى، لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط، و ذلك ما لا يخفى فساده.

ثم إنا نعلم من طريق المعنى أنّ الجزاء الذي هو احتمال البهتان و الإثم المبين، أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد، و لا لرمي البري ء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق، بل لرمي الإنسان البري ء بخطيئة أو إثم كان من الرامي، و كذلك الحكم أبدا. فقوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:

100]، لم يعلّق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقرونا إليها أن يدركه الموت عليها.

و اعلم أنّ سبيل الجملتين في هذا، و جعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة، سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة، ثم يجعل المجموع خبرا أو صفة أو حالا، كقولك: «زيد قام غلامه» و «زيد أبوه كريم» و «مررت برجل أبوه كريم» و «جاءني زيد يعدو به فرسه». فكما يكون الخبر و الصّفة و الحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما، كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما. و إذا علمت ذلك في الشّرط، فاحتذه في العطف، فإنك تجده مثله سواء.

ص: 163

و مما لا يكون العطف فيه إلّا على هذا الحدّ قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص: 44- 45]، لو جريت على الظاهر فجعلت كلّ جملة معطوفة على ما يليها، منع منه المعنى. و ذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله: «و ما كنت ثاويا في أهل مدين»، معطوفا على قوله: «فتطاول عليهم العمر»، و ذلك يقتضي دخوله في معنى «لكن»، و يصير كأنه قيل: «و لكنّك ما كنت ثاويا»، و ذلك ما لا يخفى فساده.

و إذا كان كذلك، بان منه أنّه ينبغي أن يكون قد عطف مجموع «و ما كنت ثاويا في أهل مدين» إلى «مرسلين»، على مجموع قوله: «و ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر» إلى قوله «العمر».

فإن قلت: فهلّا قدّرت أن يكون «و ما كنت ثاويا في أهل مدين» معطوفا على «و ما كنت من الشّاهدين»، دون أن تزعم أنّه معطوف عليه مضموما إليه ما بعده إلى قوله «العمر»؟

قيل: لأنّا إن قدّرنا ذلك، وجب أن ينوى به التقديم على قوله: «و لكنّا أنشأنا قرونا» و أن يكون الترتيب «و ما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأمر و ما كنت من الشاهدين، و ما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر و لكنّا كنا مرسلين»، و في ذلك إزالة «لكن» عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه. ذاك لأن سبيل «لكن» سبيل «إلّا»، فكما لا يجوز أن تقول: «جاءني القوم و خرج أصحابك إلّا زيدا و إلا عمرا» بجعل «إلا زيدا» استثناء «من جاءني القوم»، و «إلا عمرا» من «خرج أصحابك»، كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك «بلكن» فتقول: «ما جاءني زيد، و ما خرج عمرو و لكنّ بكرا حاضرا، و لكنّ أخاك خارج»، فإذا لم يجز ذلك، و كان تقديرك الذي زعمت يؤدّي إليه، وجب أن تحكم بامتناعه. فاعرفه.

هذا، و إنما تجوز نيّة التأخير في شي ء معناه يقتضي له ذلك التأخير، مثل أن كون الاسم مفعولا، يقتضي له أن يكون بعد الفاعل، فإذا قدّم على الفاعل نوي به التأخير، و معنى «لكن» في الآية، يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه، فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر؟.

ص: 164

هذه فصول شتّى في أمر «اللفظ» و «النظم» فيها فصل شحذ للبصيرة، و زيادة كشف عمّا فيها من السريرة

[فصل منه في أن معارضة الكلام في البلاغة بحسب معناه لا لفظه

و غلط النّاس في هذا الباب كثير. فمن ذلك أنّك تجد كثيرا ممن يتكلّم في شأن البلاغة، إذا ذكر أن للعرب الفضل و المزيّة في حسن النظم و التأليف، و أن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدّخلاء في كلامهم و المولّدون، جعل يعلّل ذلك بأن يقول: «لا غرو، فإن اللّغة لها بالطّبع و لنا بالتكلّف، و لكن يبلغ الدّخيل في اللغات و الألسنة مبلغ من نشأ عليها، و بدئ من أوّل خلقه بها»، و أشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللّغة. و هو خطأ عظيم و غلط منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم. و ذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، و تقصر قوى نظرهم عنها، و معلومات ليس في منن (1) أفكارهم و خواطرهم أن تفضي بهم إليها، و أن تطلعهم عليها، و ذلك محال فيما كان علما باللغة، لأنه يؤدّي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليها أهل اللغة. و ذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل.

و اعلم أنا لم نوجب المزيّة من أجل العلم بأنفس الفروق و الوجوه فنستند إلى اللغة، و لكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، و ما ينبغي أن يصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأن «الواو» للجمع، و «الفاء» للتعقيب بغير تراخ، و «ثم» له بشرط التراخي، و «إن» لكذا و «إذا» لكذا، و لكن لأن يتأتّى لك إذا نظمت شعرا و ألّفت رسالة أن تحسن التخيّر، و أن تعرف لكلّ من ذلك موضعه.

و أمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول، فضلا عن اعتقاده، و هو أنّ المزية لو كانت تجب من أجل اللّغة و العلم بأوضاعها و ما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين «الفاء» و «ثم» و «إن» و «إذا» و ما أشبه ذلك، مما يعبّر عنه وضع لغويّ، فكانت لا تجب بالفضل و ترك العطف، و بالحذف و التّكرار، و التقديم و التأخير، و سائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف، و يقتضيها الغرض الذي تؤمّ، و المعنى الذي تقصد، و كان ينبغي أن لا تجب المزيّة بما يبتدئه الشاعر و الخطيب في كلامه من استعارة اللّفظ للشي ء لم يستعر له، و أن لا تكون الفضيلة إلّا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب. و كفى بذلك جهلا.

ص: 165


1- المنة: بالضم القوة. القاموس «منن» (1594).

و لم يكن هذا الاشتباه و هذا الغلط إلّا لأنه ليس في جملة الخفايا و المشكلات أغرب مذهبا في الغموض، و لا أعجب شأنا، من هذه التي نحن بصددها، و لا أكثر تفلّتا من الفهم و انسلالا منها، و أنّ الذي قاله العلماء و البلغاء في صفتها و الإخبار عنها، رموز لا يفهمهما إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع، و من هو مهيّأ لفهم تلك الإشارات، حتى كأنّ تلك الطباع اللطيفة و تلك القرائح و الأذهان، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم، و لا يعرفها من ليس منهم.

و ليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن، و لم يمارسه، و لم يوفّر عنايته عليه، أن ينظر إلى قول الجاحظ و هو يذكر إعجاز القرآن:

«و لو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم و بلغائهم سورة قصيرة أو طويلة، لتبيّن له في نظامها و مخرجها من لفظها و طابعها، أنه عاجز عن مثلها، و لو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» (1).

و قوله و هو يذكر رواة الأخبار:

«و رأيت عامّتهم، فقد طالت مشاهدتي لهم، و هم لا يقفون على الألفاظ المتخيّرة، و المعاني المنتخبة، و المخارج السهلة، و الدّيباجة الكريمة، و على الطبع المتمكّن، و على السّبك الجيد، و على كل كلام له ماء و رونق» (2).

و قوله في بيت الحطيئة: [من الطويل ]

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد

«و ما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلّا من هو خير أهل الأرض، على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه، و طبعه، و نحته، و سبكه، فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع و النّظام و النّحت و السّبك و المخارج السّهلة، على معنى، أو يحلى منه بشي ء، و كيف بأن يعرفه؟ و لربما خفي على كثير من أهله».

و اعلم أنّ الداء الدّويّ (3)، و الذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط من قدّم الشعر بمعناه، و أقل الاحتفال باللفظ، و جعل لا يعطيه من المزيّة إن هو أعطى إلّا ما فضل عن المعنى يقول: «ما في اللفظ لو لا المعنى؟ و هل الكلام إلا بمعناه؟». فأنت تراه لا ).

ص: 166


1- و هو في كتابه «حجج النبوة» (رسائل الجاحظ 3/ 229).
2- المقصود عامة رواة الأخبار و العبارة من البيان و التبيين (4/ 42).
3- الداء الدوي: أي اللازم مكانه «القاموس: دوى» (1656).

يقدّم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة و أدبا، و اشتمل على تشبيه غريب و معنى نادر، فإن مال إلى اللفظ شيئا، و رأى أن ينحله بعض الفضيلة، لم يعرف غير «الاستعارة»، ثم لا ينظر في حال تلك «الاستعارة» أحسنت بمجرّد كونها استعارة، أم من أجل فرق و وجه أم للأمرين؟ لا يحفل بهذا و شبهه، قد قنع بظواهر الأمور، و بالجمل، بأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع، و إنّما همّه أن يروّج عنه. يرى أنّه إذا تكلم في الأخذ و السرقة، و أحسن أن يقول: «أخذه من فلان، و ألمّ فيه بقول كذا»، فقد استكمل الفضل، و بلغ أقصى ما يراد.

و اعلم أنّا و إن كنا إذا اتّبعنا العرف و العادة و ما يهجس في الضمير و ما عليه العامّة، أرانا ذلك أن الصّواب معهم، و أنّ التعويل ينبغي أن يكون على المعنى، و أنه الذي لا يسوغ القول بخلافه، فإنّ الأمر بالضدّ إذا جئنا إلى الحقائق، و إلى ما عليه المحصّلون، لأنّا لا نرى متقدّما في علم البلاغة، مبرّزا في شأوها، إلّا و هو ينكر هذا الرأي و يعيبه، و يزري على القائل به و يغضّ منه.

و من ذلك ما روي عن البحتري. روي أنّ عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر سأله عن مسلم و أبي نواس: أيّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقال: إن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب و ذويه، من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنّما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه و انتهى إلى ضروراته.

و عن بعضهم أنه قال: رآني البحتري و معي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت:

شعر الشّنفرى. فقال: و إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال: قد رأيت أبا عبّاسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدا للشعر و لا مميّزا للألفاظ، و رأيته يستجيد شيئا و ينشده، و ما هو بأفضل الشعر. فقلت له: أمّا نقده و تمييزه فهذه صناعة أخرى، و لكنه أعرف الناس بإعرابه و غريبه، فما كان ينشد؟ قال قول الحارث بن وعلة: [من الكامل ]

قومي هم قتلوا أميم، أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللا، و لئن سطوت لأوهنن عظمي (1)

ص: 167


1- البيتان للحارث بن وعلة الجرمي، و هما في مفتاح العلوم (281)، و الإيضاح (51)، و الدرر (5/ 123)، و سمط اللآلي (305، 584)، و شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (304)، و شرح شواهد المغني (1/ 63)، و شرح الحماسة للتبريزي (1/ 107)، و المؤتلف و المختلف للآمدي (197). و أميم: منادى مرخم أميمة، و كانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه.

فقلت: و اللّه ما أنشد إلّا أحسن شعر في أحسن معنى و لفظ. فقال: أين الشعر الّذي فيه عروق الذهب؟ فقلت: مثل ما ذا؟ فقال: مثل قول أبي ذؤاب: [من الكامل ]

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب

بأشدّهم كلبا على أعدائه و أعزّهم فقدا على الأصحاب (1)

- و في مثل هذا قال الشّاعر: [من الطويل ]

زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيّدها إلّا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر (2)

و قال الآخر (3): [من الخفيف

يا أبا جعفر تحكّم في الشّع ر و ما فيك آلة الحكّام

إنّ نقد الدّينار إلّا على الصّي رف صعب، فكيف نقد الكلام

قد رأيناك لست تفرق في الأش عار بين الأرواح و الأجسام

و اعلم أنّهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبا و حكمة و كان غريبا نادرا، فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص، أن لا يعتبر في قضيّته تلك إلا الأوصاف التي تخصّ ذلك الجنس و ترجع إلى حقيقته، و أن لا ينظر فيها إلى جنس آخر، و إن كان من الأول بسبيل، أو متّصلا به اتصال ما لا ينفكّ منه.

و معلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير و الصّياغة، و أنّ سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشي ء الذي يقع التّصوير و الصوغ فيه، كالفضة و الذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالا إذا أنت أردت النّظر في صوغ الخاتم، و في جودة العمل و رداءته، أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه ).

ص: 168


1- البيتان لربيعة بن سعد، و قيل: لداود بن ربيعة الأسدي، انظر الإشارات (288)، و البيت الأول في الإيضاح (332).
2- الشعر لمروان بن أبي حفصة. الزوامل: جمع زاملة و هو البعير يحمل عليه الرجل زاده و متاعه. و الأوساق جمع وسق: الحمل، الغرائر: جمع غرارة، و هي الجوالق، الكامل للمبرد (2/ 90)، و اللسان (زمل).
3- اختلف المؤرخون في اسمه ففي مقدمة ديوان أبي نواس اسمه أحمد بن يحيى بن علي، في (المصون: 12) هو يحيى بن علي أبو أحمد ... و الأبيات موجودة في المصون (12- 13) و في وفيات الأعيان (2/ 20).

ذلك العمل و تلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل و المزيّة في الكلام، أن تنظر في مجرّد معناه، و كما أنّا لو فضّلنا خاتما على خاتم، بأن تكون فضّة هذا أجود، أو فصّه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر و كلام. و هذا قاطع، فاعرفه.

و اعلم أنك لست تنظر في كتاب صنّف في شأن البلاغة، و كلام جاء عن القدماء، إلا وجدته يدلّ على فساد هذا المذهب، و رأيتهم يتشدّدون في إنكاره و عيبه و العيب به.

و إذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ، و يتشدّد غاية التشدد، و قد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعاني مشتركا، و سوّى فيه بين الخاصّة و العامّة فقال (1): «و رأيت ناسا يبهرجون أشعار المولدين، و يستسقطون من رواها، و لم أر ذلك قطّ إلا في راوية غير بصير بجوهر ما يروي، و و لو كان له بصر لعرف موضع الجيّد ممن كان، و في أي زمان كان. و أنا سمعت أبا عمرو الشّيباني، و قد بلغ من استجادته لهذين البيتين و نحن في المسجد الجامع يوم الجمعة، أن كلّف رجلا حتّى أحضره قرطاسا و دواة حتى كتبهما. قال الجاحظ: و أنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا، و لو لا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب، لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضا، و هما قوله: [من السريع

لا تحسبنّ الموت موت البلى و إنّما الموت سؤال الرّجال

كلاهما موت، و لكنّ ذا أشدّ من ذاك على كلّ حال

ثم قال: «و ذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، و المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ و العربيّ، و القرويّ و البدويّ، و إنما الشأن في إقامة الوزن و تخيّر اللّفظ، و سهولة المخرج، و صحّة الطبع، و كثرة الماء، و جودة السّبك، و إنّما الشعر صياغة و ضرب من التصوير».

فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني، و أبى أن يجب لها فضل: «و هي مطروحة في الطريق»، ثم قال: «و أنا أزعم أن ابن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا»، فأعلمك أنّ فضل الشعر بلفظه لا بمعناه، و أنه إذا عدم الحسن في لفظه و نظمه، لم يستحقّ هذا الاسم بالحقيقة. و أعاد طرفا من هذا الحديث في البيان» فقال (2): ).

ص: 169


1- المقطع من كتاب الحيوان 3/ 131 و يأتي بعدهما البيتان.
2- انظر كتاب البيان و التبيين للجاحظ (4/ 24).

«و لقد رأيت أبا عمرو الشيبانيّ يكتتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التّحفظ و التذكّر، و ربما خيّل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيّدا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء»، ثم قال: «و لو لا أن أكون عيّابا، ثم للعلماء خاصّة، لصوّرت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة، و من هو أبعد في و همك من أبي عبيدة».

و اعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلّا لأنّ الخطأ فيه عظيم، و أنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز و يبطل التّحدّي من حيث لا يشعر. و ذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه، من أن لا يجب فضل و مزيّة إلا من جانب المعنى، و حتى يكون قد قال حكمة أو أدبا، و استخرج معنى غريبا أو تشبيها نادرا، فقد وجب اطّراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة و البلاغة، و في شأن النظم و التأليف، و بطل أن يجب بالنظم فضل، و أن تدخله المزيّة، و أن تتفاوت فيه المنازل.

و إذا بطل ذلك، فقد بطل أن يكون في الكلام معجز، و صار الأمر إلى ما يقوله اليهود و من قال بمثل مقالهم في هذا الباب، و دخل في مثل تلك الجهالات، و نعوذ باللّه من العمى بعد الإبصار.

[فصل: لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير]

لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى، حتّى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها.

فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك، فليستا عبارتين عن معنى واحد، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين.

قيل لك: إن قولنا «المعنى» في مثل هذا، يراد به الغرض، و الذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول «زيد كالأسد»، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: «كأنّ زيدا الأسد»، فتفيد تشبيه أيضا بالأسد، إلّا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأوّل، و هي أن تجعله من فرط شجاعته و قوة قلبه، و أنه لا يروعه شي ء، بحيث لا يتميز عن الأسد، و لا يقصّر عنه، حتى يتوهّم أنّه أسد في صورة آدميّ.

و إذا كان هذا كذلك، فانظر هل كانت هذه الزيادة و هذا الفرق إلا بما توخّي في نظم اللفظ و ترتيبه، حيث قدّم «الكاف» إلى صدر الكلام و ركّبت مع «أن»؟ و إذا

ص: 170

لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنّظم، فاجعله العبرة في الكلام كلّه، و رض نفسك على تفهّم ذلك و تتبّعه، و اجعل فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما لا يقادر قدره، و تدخل في بحر عميق لا يدرك قعره.

فصل هو فنّ آخر يرجع إلى هذا الكلام

قد علم أنّ المعارض للكلام معارض له من الجهة التي منها يوصف بأنه فصيح و بليغ، و متخيّر اللفظ جيّد السّبك، و نحو ذلك من الأوصاف التي نسبوها إلى اللفظ.

و إذا كان هذا هكذا، فبنا أن ننظر فيما إذا أتي به كان معارضا ما هو؟ أ هو أن يجي ء بلفظ فيضعه مكان لفظ آخر، نحو أن يقول بدل «أسد» «ليث»، و بدل «بعد» «نأى»، و مكان «قرب» «دنا»، أم ذلك ما لا يذهب إليه عاقل و لا يقوله من به طرق (1)؟ كيف؟ و لو كان ذلك معارضة لكان الناس لا يفصلون بين الترجمة و المعارضة، و لكان كل من فسّر كلاما معارضا له. و إذا بطل أن يكون جهة للمعارضة، و أن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضا على وجه من الوجوه، علمت أن الفصاحة و البلاغة و سائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، و إلى ما يدلّ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلّا المعاني و الألفاظ، و كان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجرّدة، إلّا ما ذكرت، لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة إلى معاني الكلام المعقولة، دون ألفاظه المسموعة. و إذا عادت المعارضة إلى جهة المعنى، و كان الكلام يعارض من حيث هو فصيح و بليغ و متخيّر اللفظ، حصل من ذلك أنّ «الفصاحة» و «البلاغة» و «تخيّر اللفظ» عبارة عن خصائص و وجوه تكون معاني الكلام عليها، و عن زيادات تحدث في أصول المعاني، كالذي أريتك فيما بين «زيد كالأسد» و «كأن زيدا الأسد»، و بأن لا نصيب للألفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه.

و اعلم أنك لا تشفي العلّة و لا تنتهي إلى ثلج اليقين، حتى تتجاوز حدّ العلم بالشي ء مجملا، إلى العلم به مفصّلا، و حتى لا يقنعك إلّا النّظر في زواياه، و التغلغل في مكامنه، و حتى تكون كمن تتبّع الماء حتى عرف منبعه، و انتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، و مجرى عروق الشّجر الذي هو منه.

ص: 171


1- طرق بكسر الطاء القوة. القاموس/ طرق/ (1166).

و إنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية، كنسج الدّيباج و صوغ الشّنف (1) و السوار و أنواع ما يصاغ، و كلّ ما هو صنعة و عمل يد، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت، و يدخل في حدّ ما يعجز عنه الأكثرون.

و هذا القياس، و إن كان قياسا ظاهرا معلوما، و كالشي ء المركوز في الطّباع، حتى ترى العامّة فيه كالخاصّة، فإنّ فيه أمرا يجب العلم به: و هو أنه يتصوّر أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا و يبدع في نقشه و تصويره، فيجي ء آخر و يعمل ديباجا آخر مثله في نقشه و هيئته و جملة صفته، حتى لا يفصل الرائي بينهما، و لا يقع لمن لم يعرف القصّة و لم يخبر الحال إلّا أنّهما صنعة رجل واحد، و خارجان من تحت يد واحدة.

و هكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسّوار يصوغه هذا، و يجي ء ذاك فيعمل سوارا مثله، و يؤدّي صفته كما هي، حتى لا يغادر منها شيئا البتّة.

و ليس يتصوّر مثل ذلك في الكلام، لأنه لا سبيل إلى أن تجي ء إلى معنى بيت من الشّعر، أو فصل من النثر، فتؤدّيه بعينه و على خاصّيته و صفته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك، لا يخالفه في صفة و لا وجه و لا أمر من الأمور. و لا يغرّنّك قول الناس: «قد أتى بالمعنى بعينه، و أخذ معنى كلامه فأدّاه على وجه»، فإنه تسامح منهم، و المراد أنه أدّى الغرض، فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأوّل، حتى لا تعقل هاهنا إلا ما عقلته هناك، و حتى يكون حالهما في نفسك حال الصّورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين و الشّنفين، في غاية الإحالة، و ظنّ يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة، و هي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرّقت، و متّفقتها إذا جمعت و ألّف منها كلام. و ذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو «قعد» و «جلس»، و لكن فيما فهم من مجموع كلام و مجموع كلام آخر، نحو أن تنظر في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، و قول الناس: «قتل البعض إحياء للجميع»، فإنّه و إن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا: «إنهما عبارتان معبّرهما واحد»، فليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره، أو يقع لعاقل شكّ أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر. ).

ص: 172


1- الشنف: القرط الأعلى أو معلاق في قوف الأذن أي: أعلى الأذن. القاموس/ شنف/ (1067).

فصل: الكلام ضربان

الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللّفظ وحده، و ذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: «خرج زيد»، و بالانطلاق عن «عمرو» فقلت: «عمرو منطلق»، و على هذا القياس- ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، و لكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. و مدار هذا الأمر على «الكناية» و «الاستعارة» و «التّمثيل»، و قد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. أو لا ترى أنك إذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، أو قلت: «طويل النجاد»، أو قلت في المرأة: «نؤوم الضحى»، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرّد اللفظ، و لكن يدل اللّفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا هو غرضك، كمعرفتك من «كثير رماد القدر» أنه مضياف، و من «طويل النجاد» أنّه طويل القامة، و من «نؤوم الضحى» في المرأة أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها.

و كذا إذا قال: «رأيت أسدا»، و دلّك الحال على أنّه لم يرد السبع، علمت أنه أراد التشبيه، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميّز عن الأسد في شجاعته.

و كذلك تعلم من قوله: «بلغني أنك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، أنّه أراد التردد في أمر البيعة و اختلاف العزم في الفعل و تركه، على ما مضى الشرح فيه.

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة و هي أن تقول: «المعنى»، و «معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ و الّذي تصل إليه بغير واسطة، و «بمعنى المعنى»، أن تعقل من اللّفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسّرت لك.

و إذ قد عرفت ذلك، فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني و حلية عليها، أو يجعلون المعاني كالجواري، و الألفاظ كالمعارض (1) لها، و كالوشي المحبّر (2) و اللّباس الفاخر و الكسوة الرّائقة، إلى أشباه ذلك مما يفخّمون به أمر اللفظ، و يجعلون المعنى ينبل به و يشرف، فاعلم (3) أنه يصفون كلاما قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق

ص: 173


1- مفردها المعرض بفتح الراء و هو ثوب تجلى به الجارية يوم العرس.
2- المحبّر: الثوب الجديد «القاموس:/ حبر/ (473)
3- قوله فاعلم: جواب للشرط و هو قوله: «فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ».

معنى المعنى، فكنى و عرّض، و مثّل و استعار، ثم أحسن في ذلك كله و أصاب، و وضع كل شي ء منه في موضعه، و أصاب به شاكلته، و عمد فيما كنى به و شبّه و مثّل، لما حسن مأخذه، و دقّ مسلكه، و لطفت إشارته، و أن المعرض و ما في معناه، ليس هو اللفظ المنطوق به، و لكن معنى اللفظ الذي دللت به على المعنى الثاني، كمعنى قوله: [من الوافر] فإنّي، جبان الكلب مهزول الفصيل الذي هو دليل على أنه مضياف، فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض و الوشي و الحلي و أشباه ذلك، و المعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تكسى تلك المعارض، و تزيّن بذلك الوشي و الحلي.

و كذلك إذا جعلوا المعنى يتصوّر من أجل اللفظ بصورة، و يبدو في هيئة، و يتشكّل بشكل يرجع المعنى في ذلك كلّه إلى الدّلالات المعنوية، و لا يصلح شي ء منه حيث الكلام على ظاهره، و حيث لا يكون كناية و لا تمثيل و لا استعارة، و لا استعانة في الجملة بمعنى على معنى، و تكون الدلالة على الغرض من مجرّد اللفظ، فلو أن قائلا قال: «رأيت الأسد»، و قال آخر: «لقيت اللّيث»، لم يجز أن يقال في الثاني أنه صوّر المعنى في غير صورته الأولى، و لا أن يقال أبرزه في معرض سوى معرضه، و لا شيئا من هذا الجنس.

و جملة الأمر أن صور المعاني لا تتغيّر بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساع و مجاز، و حتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، و لكن يشار بمعانيها إلى معان أخر.

و اعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا، فأمّا إذا تغير النظم فلا بدّ حينئذ من أن يتغير المعنى، على ما مضى من البيان في «مسائل التقديم و التأخير»، و على ما رأيت في المسألة التي مضت الآن، أعني قولك: «إن زيدا كالأسد»، و «كأنّ زيدا الأسد»، ذاك لأنه لم يتغير من اللّفظ شي ء، و إنما تغيّر النظم فقط. و أما فتحك «إن» عند تقديم الكاف و كانت مكسورة فلا اعتداد بها، لأن معنى الكسر باق بحاله.

و اعلم أنّ السبب في أن أحالوا في أشباه هذه المحاسن التي ذكرتها لك على اللفظ، أنّها ليست بأنفس المعاني، بل هي زيادات فيها و خصائص. أ لا ترى أن ليست المزية التي تجدها لقولك: «كأنّ زيدا الأسد» على قولك «زيد كالأسد»، لشي ء خارج عن التشبيه الذي هو أصل المعنى، و إنما هو زيادة فيه و في حكم

ص: 174

الخصوصيّة في الشكل، نحو أن يصاغ خاتم على وجه، و آخر على وجه آخر، تجمعهما صورة الخاتم، و يفترقان بخاصّة و شي ء يعلم، إلّا أنه لا يعلم منفردا.

و لما كان الأمر كذلك، لم يمكنهم أن يطلقوا اسم المعاني على هذه الخصائص، إذ كان لا يفترق الحال حينئذ بين أصل المعنى، و بين ما هو زيادة في المعنى و كيفية له و خصوصية فيه. فلما امتنع ذلك توصّلوا إلى الدّلالة عليها بأن وصفوا اللّفظ في ذلك بأوصاف يعلم أنها لا تكون أوصافا له من حيث هو لفظ، كنحو وصفهم له بأنه لفظ شريف، و أنه قد زان المعنى، و أنّ له ديباجة، و أن عليه طلاوة، و أن المعنى منه في مثل الوشي، و أنه عليه كالحلي، إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه يعنى بمثله الصوت و الحرف. ثم إنّه لمّا جرت به العادة و استمرّ عليه العرف، و صار الناس يقولون اللفظ و اللفظ، لزّ (1) من ذلك بأنفس أقوام باب من الفساد، و خامرهم منه شي ء لست أحسن وصفه.

فصل [من دلالة المعنى على المعنى

و من الصفات التي تجدهم يجرونها على «اللفظ»، ثم لا تعترضك شبهة و لا يكون منك توقّف في أنها ليست له، و لكن لمعناه، قولهم: «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، و لفظه معناه، و لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك»، و قولهم: «يدخل في الأذن بلا إذن»، فهذا مما لا يشكّ العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، و أنّه لا يتصوّر أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة.

ذاك لأنه لا يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة و بمعاني الألفاظ التي يسمعها، أو يكون جاهلا بذلك .. فإن كان عالما لم يتصوّر أن يتفاوت حال الألفاظ معه، فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر، و إن كان جاهلا كان ذلك في وصفه أبعد.

و جملة الأمر أنّه إنّما يتصوّر أن يكون لمعنى أسرع فهما منه لمعنى آخر، إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر، و إذا كان مما يتجدّد له العلم به عند سمعه للكلام.

و ذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية، لأنّ طريق معرفتها التوقيف، و التقدّم بالتعريف.

ص: 175


1- لزّ و لززا: شده و ألصقه و اللز لزوق الشي ء بالشي ء. القاموس/ لزز/ 673.

و إذا كان ذلك كذلك، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني، و أنهم أرادوا أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأوّل الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني و وسيطا بينك و بينه، متمكّنا في دلالته، مستقلّا بوساطته، يسفر بينك و بينه أحسن سفارة، و يشير لك إليه أبين إشارة، حتى يخيّل إليك أنك فهمته من حاقّ (1) اللفظ، و ذلك لقلة الكلفة فيه عليك، و سرعة وصوله إليك، فكان من «الكناية» مثل قوله: [من المنسرح

لا أمتع العوذ بالفصال، و لا أبتاع إلّا قريبة الأجل (2)

و من «الاستعارة» مثل قوله: [من الطويل ]

و صدر أراح الليل عازب همّه، تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب (3)

و من «التمثيل» مثل قوله: [من المديد]

لا أذود الطّير عن شجر قد بلوت المرّ من ثمره (4)

إن أردت أن تعرف ما حاله بالضدّ من هذا، فكان منقوص القوّة في تأدية ما أريد منه، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السّفارة فيما بينك و بين معناك، و يوضح تمام الإيضاح عن مغزاك، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف: [من الطويل ]

سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا و تسكب عيناي الدّموع لتجمدا (5) ).

ص: 176


1- حاقّه: أي وسطه و حاق الجوع: صادقه. القاموس/ حقق/ (1129).
2- العوذ: جمع عائذ و هي التي مر على ولادتها عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، و الفصال: جمع فصيل، و هو ولد الناقة، و البيت لإبراهيم بن هرمة الشاعر المعروف، و معناه: أنه لا يمتع الأمهات من الإبل بأبنائها بل يذبحها، و لا يشتري منها إلا قريبة الأجل.
3- البيت للنابغة الذبياني في ديوانه (29)، من قصيدة: كليني لهم يا أميمة، و قبله: كليني لهم، يا أميمة ناصب و ليل أقاسيه بطي ء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض و ليس الذي يرعى النجوم بآيب و معنى البيت: أن الليل الطويل جدد همومه و أعادها بعد أن كادت أن تزول.
4- البيت لأبي نواس في ديوانه (64)، من قصيدة في مدح العباس بن عبيد اللّه بن أبي جعفر المنصور و قبله: أيها المنتاب من عفره لست من ليلى و لا سمره و المعنى: أي لا أشفق على من ذممت صحبته و لا أمنع غيري من إنسان قد بلوته فلم أجد عنده خيرا، كما أن ثمر الشجر إذا كان مرّا لم يطرد عنه الطير و لم يبل به.
5- البيت في ديوانه (106) طبعة دار الكتب العلمية، و الإيضاح (7)، و الإشارات و التنبيهات (12).

بدأ فدلّ بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن و الكمد، فأحسن و أصاب، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، و أن يجعل دلالة عليه و كناية عنه، كقولهم: «أبكاني و أضحكني»، على معنى «ساءني و سرّني»، و كما قال: [من السريع

أبكاني الدّهر، و يا ربّما أضحكني الدّهر بما يرضي (1)

ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله: «لتجمدا»، و ظنّ أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرّة و السلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة و الوقوع في الحزن و نظر إلى أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء و انتفاء الدموع عنها، و أنه إذا قال «لتجمدا»، فكأنه قال: «أحزن اليوم لئلّا أحزن غدا، و تبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا»، و غلط فيما ظنّ. و ذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين، مع أن الحال حال بكاء، و مع أن العين يراد منها أن تبكي، و يستراب في أن لا تبكي، و لذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا و هو يشكوها و يذمّها و ينسبها إلى البخل، و يعدّ امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما به من الهمّ، أ لا ترى إلى قوله: [من الطويل ]

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود (2)

فأتى بالجمود تأكيدا لنفي الجود، و محال أن يجعلها لا تجود بالبكاء و ليس هناك التماس بكاء، لأنّ الجود و البخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع، و لو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء، و يصحّ أن يدلّ به على أن الحال حال مسرة و حبور، لجاز أن يدعى به للرجل فيقال: «لا زالت عينك جامدة»، كما يقال:

«لا أبكى اللّه عينك»، و ذاك مما لا يشكّ في بطلانه.

و على ذلك قول أهل اللغة: «عين جمود، لا ماء فيها، و سنة جماد، لا مطر فيها، و ناقة جماد، لا لبن فيها»، و كما لا تجعل السّنة و النّاقة جمادا إلّا على معنى أنّ السّنة بخيلة بالقطر، و النّاقة لا تسخو بالدّرّ (3)، كذلك حكم العين لا تجعل «جمودا» ).

ص: 177


1- البيت لحطان بن المعلى، و انظره في الإيضاح (7) تحقيق د. هنداوي، و شرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 152)، و قد كنى الشاعر فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، و بإضحاكه له عن سروره.
2- البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه، و و واسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، و قد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع، انظر البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 151)، و الإشارات و التنبيهات (12)، و الإيضاح (8).
3- الدر: اللبن. القاموس/ درر/ (500).

إلّا و هناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، ما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت و سخت، و إذا لم تبك، مسيئة موصوفة بأن قد ضنّت و بخلت.

فإن قيل: إنه أراد أن يقول: «إنّ اليوم أتجرّع غصص الفراق، و أحمل نفسي على مرّه، و أحتمل ما يؤدّيني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني و يسكبها، لكي أتسبّب بذلك إلى وصل يدوم، و مسرة تتّصل، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلا، و لا تعرف عيني البكاء، و تصير في أن لا ترى باكية أبدا، كالجمود التي لا يكون لها دمع».

فإن ذلك (1) لا يستقيم و لا يستتبّ، لأنه يوقعه في التناقض، و يجعله كأنه قال:

«أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا، لأصير في الآجل بدوام الوصل و اتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي ثم لا تبكي، لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها»، و ذلك من التهافت و الاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيها.

و جملة الأمر أنا لا نعلم أحدا جعل جمود العين دليل سرور و أمارة غبطة، و كناية عن أن الحال حال فرح.

فهذا مثال فيما هو بالضدّ مما شرطوا من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك، من معناه إلى قلبك لأنك ترى اللّفظ يصل إلى سمعك، و تحتاج إلى أن تخبّ و توضع في طلب المعنى.

و يجري لك هذا الشرح و التفسير في «النظم» كما جرى في «اللفظ»، لأنه إذا كان النظم سويّا، و التأليف مستقيما، كان وصول المعنى إلى قلبك، تلو وصول اللفظ إلى سمعك. و إذا كان على خلاف ما ينبغي، وصل اللّفظ إلى السمع، و بقيت في المعنى تطلبه و تتعب فيه، و إذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا: «إنّه يستهلك المعنى».

و اعلم أن لم تضق العبارة و لم يقصر اللفظ و لم ينغلق الكلام في هذا الباب، إلّا لأنه قد تناهى في الغموض و الخفاء إلى أقصى الغايات، و أنت لا ترى أغرب مذهبا، و أعجب طريقا، و أحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه. و ما قولك في شي ء قد بلغ من أمره أن يدّعى على كبار العلماء أنّهم لم يعلموه و لم يفطنوا له؟ فقد ترى أنّ البحتري قال حين سئل عن مسلم و أبي نواس: أيّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب و ذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون علمه، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه و انتهى إلى ضروراته. .»

ص: 178


1- فإن ذلك جواب للشرط في بداية الفقرة و هو «فإن قيل ...»

ثمّ لم ينفكّ العالمون به و الذين هم من أهله، من دخول الشبهة فيه عليهم، و من اعتراض السّهو و الغلط لهم. روي عن الأصمعي أنّه قال (1): كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء و خلف الأحمر، و كان يأتيان بشارا فيسلّمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما و ينشدهما، و يسألانه و يكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزّوال، ثم ينصرفان. و أتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما: [من الخفيف

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (2)

حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح في التبكير»:

بكّرا فالنّجاح في التّبكير كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: إنّ ذاك النجاح في التبكير، كما يقول الأعراب البدويّون، و لو قلت: «بكّرا فالنجاح»، كان هذا من كلام المولّدين، و لا يشبه ذاك الكلام، و لا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبّل بين عينيه» (3)، فهل كان هذا القول من خلف و النّقد على بشّار، إلّا للطف المعنى في ذلك و خفائه؟.

و اعلم أن من شأن «إنّ» إذا جاءت على هذا الوجه، أن تغني غناء «الفاء» العاطفة مثلا، و أن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا. فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف، و مقطوعا موصولا معا. أ فلا ترى أنك لو أسقطت «إنّ» من قوله: «إنّ ذاك النجاح في التبكير»، لم تر الكلام يلتئم، و لرأيت الجملة الثانية لا تتّصل بالأولى و لا تكون منها بسبيل، حتى تجي ء بالفاء فتقول: «بكّرا صاحبيّ قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، و مثله قول بعض العرب: [من الرجز] ).

ص: 179


1- الخبر في الأغاني (3/ 190).
2- البيت لبشار بن برد في ديوانه (3/ 203)، و الإشارات و التنبيهات للجرجاني (31)، و الأغاني (3/ 185). و الهجير: من الزوال إلى العصر أو شدة الحرارة.
3- يقصد فقبل بشار بين عينيه و هي في (الأغاني 3/ 190).

فغنّها، و هي لك الفداء إنّ غناء الإبل الحداء (1)

فانظر إلى قوله: «إنّ غناء الإبل الحداء»، و إلى ملاءمته الكلام قبله، و حسن تشبّثه به، و إلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت:

«فغنّها و هي لك الفداء، غناء الإبل الحداء»، كيف تكون الصّورة؟ و كيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ و كيف يشئم هذا و يعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول: «فغنّها و هي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، و أن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، و الحسن الذي كنت ترى.

و روي عن عنبسة (2) أنه قال: قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها: [من الطويل ]

هي البرء، و الأسقام، و الهمّ، و المنى، و موت الهوى في القلب منّي المبرّح

و كان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي، و حبّك عندي يستجدّ و يربح

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (3)

قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة (4): يا غيلان (5)، أراه قد برح! قال: فشنق ناقته (6) و جعل يتأخّر بها و يفكّر، ثم قال: 4)

ص: 180


1- البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (964، 1047)، و الإيضاح (1/ 94) طبعة دار الكتاب اللبناني، و الإشارات للجرجاني (31)، و المفتاح للسكاكي: (262). و الضمير في قوله: «فغنها» للإبل أي: فغن لها. الحداء بضم الحاء و كسرها: مصدر حدا الإبل إذا ساقها و غنى لها.
2- عنبسة: هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني و هو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) و الكناسة هو سوق في الكوفة.
3- الأبيات لذي الرمة في ديوانه (45) ط، دار الكتب العلمية، و هي في الأغاني منسوبة إليه (18/ 33)، و الأبيات في الديوان ليست متتالية، و رواية الديوان: «و الهم ذكرها» بدل «الهم و المنى»، و «لو لا التنائي» بدل «في القلب مني». و شطر البيت الثاني هكذا: «و بعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ: ابتداء الشي ء، و الرسّ و الرسيس واحد: أول الحمى الذي يؤذن بها و يدل على ورودها ورس الهوى في قلبه و السقم في جسمه رسّا و رسيسا، و أرس: دخل و ثبت، و رس الحب و رسيسه: بقيته و أثره. اللسان (رسس).
4- ابن شبرمة: و هو عبد اللّه بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (44 ه). شذرات الذهب (1/ 707).
5- غيلان: و هو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة).
6- شنق ناقته: شنق البعير يشنقه و يشنقه: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه و هو راكبه. القاموس (18/ 34)

إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

قال: فلمّا انصرفت حدّثت أبي، قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر، و أخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول اللّه تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40]، و إنّما هو: لم يرها و لم يكد (1).

و اعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال: «ما كاد يفعل» و «لم يكد يفعل» في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد، و بعد أن كان بعيدا في الظّن أن يفعله، كقوله تعالى: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فلما كان مجي ء النفي في «كاد» على هذا السبيل، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال: «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح» فقد زعم: أن الهوى قد برح، و وقع لذي الرمة مثل هذا الظّن.

و ليس الأمر كالذي ظنّاه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: «لم يكد يفعل» و «ما كاد يفعل»، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله، و لا قارب أن يكون، و لا ظنّ أنه يكون. و كيف بالشك في ذلك؟ و قد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع، و على أنّه قد شارف الوجود. و إذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده، و أن يكون قولك: «ما قارب أن يفعل»، مقتضيا على البتّ أنه قد فعل. و إذ قد ثبت ذلك، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، و حال يبعد معها أن يكون، ثمّ تغير الأمر، كالذي تراه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فليس إلّا أن تلزم الظاهر، و تجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون.

فالمعنى إذن في بيت ذي الرمة على أن الهوى من رسوخه في القلب، و ثبوته فيه و غلبته على طباعه، بحيث لا يتوهّم عليه البراح، و أن ذلك لا يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون، كما تقول: «إذا سلا المحبّون و فتروا في محبتهم، لم يقع لي في وهم، و لم يجر منّي على بال: أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة، و ما يعدّ فترة، فضلا عن أن يوجد ذلك مني و أصير إليه. ).

ص: 181


1- الخبر في (الأغاني 18/ 34).

و ينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: «لم يرها و لم يكد»، فبدءوا فنفوا الرؤية، ثم عطفوا «لم يكد» عليه، ليعلموك أن ليس سبيل «لم يكد» هاهنا سبيل «ما كادوا» في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] في أنه نفي معقّب على إثبات، و أن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، و لكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون، فضلا عن أن تكون. و لو كان «لم يكد» يوجب وجود الفعل، لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول: «لم يرها و رآها»، فاعرفه.

و هاهنا نكتة، و هي أنّ «لم يكد» في الآية و البيت واقع في جواب «إذا»، و الماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل، كان مستقبلا في المعنى فإذا قلت: «إذا خرجت لم أخرج»، كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل. و إذا كان الأمر كذلك، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآي على الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجي ء «بلم أفعل» ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول: «إذا خرجت لم أخرج أمس»، و ذلك محال. و مما يتّضح فيه هذا المعنى قول الشاعر: [من المتقارب

ديار لجهمة بالمنحنى سقاهنّ مرتجز باكر

و راح عليهنّ ذو هيدب ضعيف القوى، ماؤه زاخر

إذا رام نهضا بها لم يكد كذي السّاق أخطأها الجابر (1)

و أعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقّة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر و ابن شبرمة، و حتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم؟ و ما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ و من العجب في هذا المعنى قول أبي النجم: [من الرجز]

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (2) ).

ص: 182


1- الأبيات في وصف سحاب، ارتجز الرعد: تدارك صوته و تتابع، و المراد السحاب، و يقال: ترجز السحاب إذا تحرك بطيئا لكثرة مائه، و الباكر: صاحب البكور و من يأتي غدوة. الهيدب: ذيل السحاب المتدلي. و الزاخر: الفائض الغزير.
2- البيت أورده السكاكي في المفتاح (504)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (25)، و عزاه لأبي النجم، و بدر الدين بن مالك في المصباح (144)، و القزويني في الإيضاح (28)، و الطيبي في التبيان (1/ 321)، و خزانة الأدب (1/ 359)، و الكتاب لسيبويه، و شرح عقود الجمان (1/ 53)، و الأغاني (23/ 36). و أبو النجم: هو الفضل بن قدامة بن عبيد اللّه بن بكر ابن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين، و في الطبقة الأولى منهم قال عنه أبو عمرو بن العلاء: كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج. توفي سنة (130 ه)، و انظر ترجمته في الأغاني (10/ 183).

قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع «كلّ» في شي ء إنما يجوز عند الضرورة، من غير أن كانت به إليه ضرورة. قالوا: لأنه ليس في نصب «كلّ» ما يكسر له وزنا، أو يمنعه من معنى أراده. و إذا تأملت وجدته لم يرتكبه و لم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، و إلّا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد. و ذاك أنه أراد أنها تدّعي عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتّة لا قليلا و لا كثيرا و لا بعضا و لا كلّا. و النصب يمنع من هذا المعنى، و يقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادّعته بعضه.

و ذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في «كل» و الفعل منفيّ، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان و بعضا لم يكن. تقول: «لم ألق كلّ القوم»، و «لم آخذ كلّ الدراهم»، فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم و لم تلق الجميع، و أخذت بعضا من الدراهم و تركت الباقي و لا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم، و لم تأخذ شيئا من الدراهم.

و تعرف ذلك بأن تنظر إلى «كلّ» في الإثبات و تتعرّف فائدته فيه. و إذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها.

تفسير ذلك، أنك إنما قلت: «جاءني القوم كلهم»، لأنك لو قلت: «جاءني القوم» و سكتّ، لكان يجوز أن يتوهّم السامع أنه قد تخلّف عنك بعضهم، إلا أنك لم تعتدّ بهم، أو أنّك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم فكأنما وقع من الجميع، لكونهم في حكم الشخص الواحد، كما يقال للقبيلة: «فعلتم و صنعتم»، يراد فعل قد كان من بعضهم أو واحد منهم. و هكذا الحكم أبدا.

فإذا قلت: «رأيت القوم كلّهم» و «مررت بالقوم كلّهم»، كنت قد جئت «بكل» لئلّا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره و لم تمرر به.

و ينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا «يفيد الشمول»، أنّ سبيله في ذلك سبيل الشي ء يوجب المعنى من أصله، و أنه لو لا مكان «كلّ» لما عقل الشمول و لم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه. كيف؟ و لو كان كذلك لم يكن يسمى «تأكيدا».

فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملا على خلاف ظاهره و متجوّزا فيه.

و إذ قد عرفت ذلك، فهاهنا أصل، و هو أن من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجّه إلى ذلك التقييد، و أن يقع له خصوصا.

ص: 183

تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أتاني القوم مجتمعين»، فقال قائل: «لم يأتك القوم مجتمعين»، كان نفيه ذلك متوجّها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه، حتّى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله، كان من سبيله أن يقول: «إنهم لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك: مجتمعين». هذا مما لا يشكّ فيه عاقل.

و إذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد، فإن التأكيد ضرب من التقييد. فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد، فإن نفيك ذلك يتوجّه إلى التأكيد خصوصا و يقع له. فإذا قلت: «لم أر القوم كلهم» أو «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كلّ القوم» أو «لم أر كلّ القوم»، كنت عمدت نفيك إلى معنى «كل» خاصة، و كان حكمه حكم «مجتمعين» في قولك: «لم يأتني القوم مجتمعين». و إذا كان النفي يقع «لكلّ» خصوصا فواجب إذا قلت: «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كل القوم»، أن يكون قد أتاك بعضهم كما يجب إذا قلت: «لم يأتني القوم مجتمعين»، أن يكونوا قد أتوك أشتاتا. و كما يستحيل أن تقول: «لم يأتني القوم مجتمعين»، و أنت تريد أنّهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين و لا منفردين كذلك محال أن تقول: «لم يأتني القوم كلهم»، و أنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا، فاعرفه.

و اعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، و وجدت النفي قد احتذاه فيه و تبعه. و ذلك أنك إذا قلت: «جاءني القوم كلهم»، كان «كلّ» فائدة خبرك هذا، و الذي يتوجّه إليه إثباتك، بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجي ء أنّه كان من القوم على الجملة، و إنما وقع في شموله «الكل»، و ذلك الذي عناك أمره من كلامك.

و جملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرّد إثبات المعنى للشي ء، إلّا كان الغرض الخاصّ من الكلام، و الّذي يقصد إليه و يزجّى القول فيه. فإذا قلت:

«جاءني زيد راكبا»، و «ما جاءني زيد راكبا» كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجي ء و تنفيه مطلقا. هذا ما لا سبيل إلى الشكّ فيه.

و اعلم أنه يلزم من شكّ في هذا فتوهّم أنه يجوز أن تقول: «لم أر القوم كلهم»، على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النّهي هذا المجرى فتقول: «لا تضرب القوم كلّهم»، على معنى لا تضرب واحدا منهم و أن تقول: «لا تضرب

ص: 184

الرجلين كليهما»، على معنى لا تضرب واحدا منهما. فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس: «لا تضربهما معا، و لكن اضرب أحدهما»، و «لا تأخذهما جميعا، و لكن واحدا منهما»، و كفى بذلك فسادا.

و إذ قد بان لك من حال النّصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذّنب بعضا و ترك بعضا، فاعلم أنّ الرّفع على خلاف ذلك، و أنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا، و أتى منه قليلا أو كثيرا، و أنك إذا قلت: «كلّهم لا يأتيك»، و «كلّ ذلك لا يكون»، و «كلّ هذا لا يحسن»، كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم، و أبيت أن يكون أو يحسن شي ء مما أشرت إليه.

و مما يشهد لك بذلك من الشّعر قوله: [من الطويل ]

فكيف؟ و كلّ ليس يعدو حمامه و لا لامرئ عمّا قضى اللّه مزحل (1)

المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه، بلا شبهة. و لو قلت:

«فكيف و ليس يعدو كلّ حمامه»: فأخرت «كلّا»، لأفسدت المعنى، و صرت كأنك تقول: «إن من الناس من يسلم من الحمام و يبقى خالدا لا يموت».

و مثله قول دعبل: [من الطويل ]

فو اللّه ما أدري بأيّ سهامها رمتني، و كلّ عندنا ليس بالمكدي

أبا الجيد، أم مجرى الوشاح، و إنّني لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد (2)

المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه.

و من البيّن في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبيّ صلى اللّه عليه و سلّم:

«أقصرت الصّلاة أم نسيت يا رسول اللّه؟ فقال صلى اللّه عليه و سلّم: كلّ ذلك لم يكن. فقال ذو اليدين: بعض ذلك قد كان» (3)، المعنى لا محالة على نفي الأمرين جميعا، و على أنه ).

ص: 185


1- هو شعر إبراهيم بن كنيف النبهاني، شرح حماسة التبريزي (1/ 136)، و أمالي القالي (1/ 170). و مزحل: مصدر ميمي من زحل إذا تباعد، يعني ليس منه مهرب.
2- هو في المجموع من شعره. و المكدي الذي يخيب و لا يصيب هدفه. و قوله: «لأتهم» أي: أتهم عينيها، و اعلم أن التاء في التهمة مبدلة من الواو، فقولهم «تهمة» أصلها: «و همة» و لكنهم في هذا الفعل أجروا التاء المبدلة مجرى الأصل، فقالوا: «أتهمه إتهاما» و يقال أيضا: «أوهمه» بمعنى أتهمه على الأصل. (شاكر).
3- أخرجه البخاري في الأيمان و النذور، باب «إذا حنث ناسيا في الأيمان» (6671)، و مسلم في المساجد، باب السهو في الصلاة و السجود له (572)، و ابن ماجة في الإقامة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب (1211).

عليه السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما، لا القصر و لا النّسيان. و لو قيل: «لم يكن كلّ ذلك»، لكان المعنى أنه قد كان بعضه.

و اعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في «كلّ» نحو: «لم يأتني القوم كلّهم» و «لم أر القوم كلّهم»، على أن الفعل قد كان من البعض، و وقع على البعض، قلت: «لم يأتني القوم كلّهم، و لكن أتاني بعضهم» و «لم أر القوم كلّهم، و لكن رأيت بعضهم» فأثبتّ بعد ما نفيت، و لا يكون ذلك مع رفع «كلّ» بالابتداء.

فلو قلت: «كلهم لم يأتني، و لكن أتاني بعضهم» و «كلّ ذلك لم يكن، و لكن كان بعض ذلك»، لم يجز، لأنّه يؤدّي إلى التناقض، و هو أن تقول: «لم يأتني واحد منهم، و لكن أتاني بعضهم».

و اعلم أنّه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل و ترك إعماله على الحقيقة، و إنما التأثير لأمر آخر، و هو دخول «كلّ» في حيّز النفي، و أن لا يدخل فيه. و إنما علقنا الحكم في البيت (1) و سائر ما مضى بإعمال الفعل و ترك إعماله، من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيّز النفي، و ترك إعماله يوجب خروجه منه، من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفا لا ينفصل عن الفعل، و هو «لم» لا أنّ كونه معمولا للفعل و غير معمول، يقتضي ما رأيت من الفرق. أ فلا ترى أنّك لو جئت بحرف نفي يتصوّر انفصاله عن الفعل، لرأيت المعنى في «كل» مع ترك إعمال الفعل، مثله مع إعماله، و مثال ذلك قوله: [من البسيط] ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه (2) و قول الآخر: [من البسيط] ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد (3) ).

ص: 186


1- علقنا الحكم في البيت: المقصود بيت أبي النجم سبق ذكره و صدره: قد أصبحت أم الخيار.
2- البيت للمتنبي في ديوانه (235)، من قصيدة قالها عند ما علم أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة و تمامه: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن». و المعنى: هم يتمنون موتي و لكن الأمور تسير على عكس رغباتهم، و البيت في الإيضاح (72)، و التبيان (2/ 478)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 88).
3- البيت: هو صدر بيت قاله أبو العتاهية من قصيدة يعاتب فيها نفسه و عجزه: إذا بدا لك رأي مشكل فقف (الديوان 165).

«كلّ» كما ترى غير معمل فيه الفعل، و مرفوع، إمّا بالابتداء، و إمّا بأنه اسم «ما»، ثم إنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت: «ما يدرك المرء كلّ ما يتمناه»، «ما يدعو كلّ رأي الفتى إلى رشد»، و ذلك أن التأثير لوقوعه في حيّز النفي، و ذلك حاصل في الحالين. و لو قدمت «كلّا» في هذا فقلت:

«كلّ ما يتمنى المرء لا يدركه» و «كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد» لتغير المعنى، و لصار بمنزلة أن يقول: «إنّ المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه»، و «لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه».

و اعلم أنك إذا أدخلت «كلّا» في حيّز النفي، و ذلك بأن تقدم النّفي عليه لفظا أو تقديرا، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل و الوصف نفسه. و إذا أخرجت «كلّا» من حيّز النفي و لم تدخله فيه، لا لفظا و لا تقديرا، كان المعنى على أنك تتبّعت الجملة، فنفيت الفعل و الوصف عنها واحدا واحدا. و العلة في أن كان ذلك كذلك، أنك إذا بدأت «بكل» كنت قد بنيت النّفي عليه، و سلّطت الكلّية على النفي و أعملتها فيه، و إعمال معنى الكلية في النّفي يقتضي أن لا يشذّ شي ء عن النّفي، فاعرفه.

و اعلم أن من شأن الوجوه و الفروق أن لا يزال تحدث بسببها و على حسب الأغراض و المعاني التي تقع فيها، دقائق و خفايا لا إلى حدّ و نهاية و أنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبّه لأكثرها، و لا يعلم أنها هي، و حتى لا تزال ترى العالم يعرض له السّهو فيه، و حتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، كلّ ذلك لشدة الخفاء و فرط الغموض.

فصل

و اعلم أنه إذا كان بيّنا في الشي ء أنه لا يحتمل إلّا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل، و حتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقّه و أنه الصواب، إلى فكر و روية فلا مزيّة. و إنّما تكون المزيّة و يجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر، ثم رأيت النّفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، و رأيت للذي جاء عليه حسنا و قبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني.

مثال ذلك قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم «الشركاء» حسنا و روعة و مأخذا من القلوب، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت: «و جعلوا الجنّ شركاء للّه»، و أنك ترى حالك حال من نقل عن

ص: 187

الصورة المبهجة و المنظر الرّائق و الحسن الباهر، إلى الشي ء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، و لا تصير النفس به إلى حاصل. و السبب في أن كان ذلك كذلك، هو أن للتقديم فائدة شريفة و معنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير.

بيانه، أنّا و إن كنّا نرى جملة المعنى و محصوله أنهم جعلوا الجنّ شركاء و عبدوهم مع اللّه تعالى، و كان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم «الشركاء» يفيد هذا المعنى و يفيد معه معنى آخر، و هو أنه ما كان ينبغي أن يكون للّه شريك، لا من الجن و لا غير الجن.

و إذا أخّر فقيل: «جعلوا الجنّ شركاء للّه»، لم يفد ذلك، و لم يكن فيه شي ء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع اللّه تعالى، فأمّا إنكار أن يعبد مع اللّه غيره، و أن يكون له شريك من الجن و غير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير «الشركاء» دليل عليه. و ذلك أن التقدير يكون مع التقديم: أن «شركاء» مفعول أوّل لجعل، و «للّه» في موضع المفعول الثاني، و يكون «الجن» على كلام ثان، و على تقدير أنه كأنه قيل: «فمن جعلوا شركاء للّه تعالى؟»، فقيل: «الجن». و إذا كان التقدير في «شركاء» أنّه مفعول أوّل، و «للّه» في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء للّه تعالى على الإطلاق، من غير اختصاص شي ء دون شي ء. و حصل من ذلك أنّ اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتّخاذه من الجنّ، لأنّ الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شي ء، كان الذي تعلّق بها من النفي عامّا في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة.

فإذا قلت: «ما في الدار كريم»، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كلّ من يكون الكرم صفة له. و حكم الإنكار أبدا حكم النفي. و إذا أخّر فقيل: «و جعلوا الجنّ شركاء للّه»، كان «الجن» مفعولا أوّل، و «الشركاء» مفعولا ثانيا. و إذا كان كذلك، كان «الشركاء» مخصوصا غير مطلق، من حيث كان محالا أن يجرى خبرا على الجن، ثم يكون عامّا فيهم و في غيرهم. و إذا كان كذلك، احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى «الجن» خصوصا، أن يكونوا «شركاء» دون غيرهم، جلّ اللّه تعالى عن أن يكون له شريك و شبيه بحال.

فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدّم «الشركاء»، و اعتبره فإنه ينبّهك لكثير من الأمور، و يدلّك على عظم شأن «النظم»، و تعلم به كيف يكون الإيجاز به و ما صورته؟ و كيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ، إذ قد ترى أن ليس إلا

ص: 188

تقديم و تأخير، و أنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى، ما إن حاولته مع تركه لم يحصل لك، و احتجت إلى أن تستأنف له كلاما، نحو أن تقول: «و جعلوا الجنّ شركاء للّه، و ما ينبغي أن يكون للّه شريك لا من الجن و لا من غيرهم»، ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف و الفخامة و من كرم الموقع في النفس، ما تجده له الآن و قد عقل من هذا الكلام الواحد.

و مما ينظر إلى مثل ذلك، قوله تعالى: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96]، إذا أنت راجعت نفسك و أذكيت حسّك، وجدت لهذا التنكير و أن قيل: «على حياة»، و لم يقل: «على الحياة»، حسنا و روعة و لطف موقع لا يقادر قدره، و تجدك تعدم ذلك مع التعريف، و تخرج عن الأريحيّة و الأنس إلى خلافهما.

و السبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها، و ذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحيّ، فأما العادم للحياة فلا يصحّ منه الحرص على الحياة و لا على غيرها. و إذا كان كذلك، صار كأنه قيل: «و لتجدنّهم أحرص الناس، و لو عاشوا ما عاشوا، على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت و راهنه، حياة في الذي يستقبل». فكما أنّك لا تقول هاهنا: «أنّ يزدادوا إلى حياتهم الحياة» بالتعريف، و إنما تقول: «حياة» إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق، كقولنا:

«كل أحد يحب الحياة، و يكره الموت»، كذلك الحكم في الآية.

و الذي ينبغي أن يراعى: أنّ المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه، إذا كان موجودا حال وصفك له بالحرص عليه، لم يتصوّر أن تجعله حريصا عليه من أصله. كيف؟ و لا يحرص على الراهن و لا الماضي، و إنما يكون الحرص على ما لم يوجد بعد.

و شبيه بتنكير الحياة في هذه الآية تنكيرها في قوله عز و جل: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، و ذلك أن السبب في حسن التنكير، و أن لم يحسن التعريف، أن ليس المعنى على الحياة نفسها، و لكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل، ارتدع بذلك عن القتل، فسلم صاحبه، صار حياة هذا المهموم بقتله (1) في مستأنف الوقت، مستفادة بالقصاص، و صار كأنّه قد حيي في باقي عمره به. و إذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته، وجب التنكير و امتنع التعريف، من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من

ص: 189


1- المهموم بقتله: أي الذي قصد قتله.

أصلها، و أن يكون القصاص قد كان سببا في كونها في كافة الأوقات. و ذلك خلاف المعنى و غير ما هو المقصود.

و يبيّن ذلك أنّك تقول: «لك في هذا غنى»، فتنكّر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به، فإن قلت: «لك فيه الغنى»، كان الظاهر أنك جعلت كلّ غناه به.

و أمر آخر، و هو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون همّ و إرادة، و ليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلّا و له عدوّ يهمّ بقتله ثم يردعه خوف القصاص. و إذا لم يجب ذلك، فمن لم يهمّ إنسان بقتله، فكفي ذلك الهمّ لخوف القصاص، فليس هو ممّن حيّ بالقصاص. و إذا دخل الخصوص، فقد وجب أن يقال «حياة» و لا يقال «الحياة»، كما وجب أن يقال «شفاء» و لا يقال «الشّفاء» في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69]، حيث لم يكن شفاء للجميع.

و اعلم أنه لا يتصوّر أن يكون الذي همّ بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلا في الجملة، و أن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله. و ذلك أنّ هذه الحياة إنّما هي لمن كان يقتل لو لا القصاص، و ذلك محال في صفة القاصد للقتل، فإنما يصحّ في وصفه ما هو كالضّدّ لهذا، و هو أن يقال: إنه كان لا يخاف عليه القتل لو لا القصاص. و إذا كان هذا كذلك، كان وجها ثالثا في وجوب التنكير.

فصل: منه في اشتراط الذوق و الأريحية في هذا الباب

و اعلم أنّه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع، و لا يجد لديه قبولا، حتى يكون من أهل الذّوق و المعرفة، و حتى يكون ممن تحدّثه نفسه بأنّ لما يومئ إليه من الحسن و اللّطف أصلا، و حتى يختلف الحال عليه عند تأمّل الكلام، فيجد الأريحيّة تارة، و يعرى منها أخرى، و حتّى إذا عجّبته عجب، و إذا نبّهته لموضع المزية انتبه.

فأمّا من كان الحالان و الوجهان عنده أبدا على سواء، و كان لا يتفقّد من أمر «النّظم» إلا الصّحة المطلقة، و إلّا إعرابا ظاهرا، فما أقلّ ما يجدي الكلام معه. فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر، و الذّوق الذي يقيمه به، و الطّبع الذي يميّز صحيحه من مكسوره، و مزاحفه من سالمه، و ما خرج من البحر ممّا لم يخرج منه في أنّك لا تتصدّى له، و لا تتكلّف تعريفه، لعلمك أنّه قد عدم الأداة

ص: 190

التي معها يعرف، و الحاسّة التي بها يجد. فليكن قدحك في زند وار، و الحكّ في عود أنت تطمع منه في نار.

و اعلم أن هؤلاء، و إن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلّة في قليل ما تعرف المزيّة فيه و كثيره، و أن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم و هذا التنكير، أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن، و أن له موقعا من النفس و حظّا من القبول، فأمّا أن تعلم لم كان كذلك؟ و ما السبب؟ فممّا لا سبيل إليه، و لا مطمع في الاطّلاع عليه، فهو بتوانيه و الكسل فيه، في حكم من قال ذلك.

و اعلم أنّه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل، وجب ترك النّظر في الكلّ. و أن تعرف العلّة و السبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه و إن قلّ فتجعله شاهدا فيما لم تعرف، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك، و تأخذها عن الفهم و التفهّم، و تعوّدها الكسل و الهوينا. قال الجاحظ:

«و كلام كثير قد جرى على ألسنة الناس، و له مضرّة شديدة و ثمرة مرّة. فمن أضرّ ذلك قولهم: «لم يدع الأوّل للآخر شيئا»، قال: فلو أنّ علماء كلّ عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمّن قبلهم، لرأيت العلم مختلّا.

و اعلم أنّ العلم إنما هو معدن، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وقر (1) قد أخرجت من معدن تبر (2)، أن تطلب فيه، و أن تأخذ ما تجد و لو كقدر تومة (3)، كذلك، ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم». و من اللّه تعالى نسأل التوفيق.

فصل هذا فنّ من المجاز لم نذكره فيما تقدّم

اعلم أن طريق المجاز و الاتساع في الذي ذكرناه قبل، أنك ذكرت الكلمة و أنت لا تريد معناها، و لكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه، فتجوّزت بذلك في ذات الكلمة و في اللفظ نفسه. و إذا قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل، و هو أن يكون التجوّز في حكم يجرى على الكلمة فقط، و تكون الكلمة

ص: 191


1- الوقر: الحمل الثقيل. القاموس/ وقر/ (635).
2- التبر: الذهب و الفضة قبل أن يصاغا. القاموس/ تبر/ (454).
3- التومة: اللؤلؤة. اللسان/ توم/ (12/ 74).

متروكة على ظاهرها، و يكون معناها مقصودا في نفسه و مرادا من غير تورية و لا تعريض.

و المثال فيه قولهم: «نهارك صائم و ليلك قائم» و «نام ليلي و تجلّى همي»، و قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، و قول الفرزدق: [من الطويل ]

سقتها خروق في المسامع، لم تكن علاطا، و لا مخبوطة في الملاغم (1)

أنت ترى مجازا في هذا كلّه، و لكن لا في ذوات الكم و أنفس الألفاظ، و لكن في أحكام أجريت عليها. أ فلا ترى أنّك لم تتجوّز في قولك: «نهارك صائم، و ليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم»، و لكن في أن أجريتهما خبرين على النهار و الليل.

و كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها، و لكن في إسنادها إلى التجارة.

و هكذا الحكم في قوله: «سقتها خروق» ليس التجوز في نفس «سقتها»، و لكن في أن أسندها إلى الخروق. أ فلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا و قد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه و حقيقته، فلم يرد بصائم غير الصوم، و لا بقائم غير القيام، و لا بربحت غير الرّبح، و لا بسقت غير السقي، كما أريد «بسالت» في قوله: [من الطويل ]و سالت بأعناق المطيّ الأباطح (2) غير السّيل.

و اعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك، من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى و تحدث فيه النباهة، قائم لك مثله هاهنا، فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى و موقعه في قوله: [من الرجز] فنام ليلي و تجلّى همّي (3) كحاله و موقعه إذا أنت تركت المجاز و قلت: «فنمت في ليلي و تجلّى همي»، كما لم يكن الحال في قولك: «رأيت أسدا»، كالحال في «رأيت رجلا كالأسد».

و من الذي يخفى عليه مكان العلوّ و موضع المزية و صورة الفرقان بين قوله تعالى:

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، و بين أن يقال: «فما ربحوا في تجارتهم؟». م

ص: 192


1- البيت ليس في ديوانه، لكنه في الكامل للمبرد (؟/ 128). الملاغم: ما حول الفم مما يبلغه اللسان و يصل إليه، من اللغام و هو زبد أفواه الإبل.
2- البيت في اللسان مادة/ طرق/ (9/ 218) من غير نسبة.
3- البيت لرؤبة في ديوانه (142)، من قصيدة في مدح الحارث بن سليم من آل عمرو، و تمامه، و البيت قبله: ورقاء دمى ذئبها المدمي حارث قد فرجت عني غمي ................ .. و قد تجلى كرب المحتم

و إن أردت أن تزداد للأمر تبيّنا، فانظر إلى بيت الفرزدق: [من الكامل ]

يحمي إذا اخترط السّيوف نساءنا ضرب تطير له السّواعد أرعل (1)

و إلى رونقه و مائه، و إلى ما عليه من الطّلاوة. ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة و قل: «نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل»، ثم اسبر حالك؟ هل ترى مما كنت تراه شيئا؟

و هذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، و مادّة الشاعر المفلق و الكاتب البليغ في الإبداع و الإحسان، و الاتساع في طرق البيان، و أن يجي ء بالكلام مطبوعا مصنوعا، و أن يضعه بعيد المرام، قريبا من الأفهام. و لا يغرّنّك من أمره أنك ترى الرجل يقول: «أتى بي الشوق إلى لقائك، و سار بي الحنين إلى رؤيتك، و أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، و أشباه ذلك مما تجده لسعته و شهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك أبدا، بل يدقّ و يلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، و الكاتب البليغ، و حتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، و النادر تأنق لها.

و جملة الأمر أن سبيله سبيل الضّرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ و ذات الكلمة، فكما أنّ من الاستعارة و التمثيل عاميّا مثل: «رأيت أسدا» و «وردت بحرا»، و «شاهدت بدرا»، و «سلّ من رأيه سيفا ماضيا»، و خاصيّا لا يكمل له كلّ أحد، مثل قوله:

و سالت بأعناق المطيّ الأباطح كذلك الأمر في هذا المجاز الحكميّ.

و اعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في: رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة:

16]، «ربحوا في تجارتهم»، و في «يحمي نساءنا ضرب»، «نحمي نساءنا بضرب» فإن ذلك لا يتأتى في كل شي ء. أ لا ترى أنّه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك:

«أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، فاعلا سوى الحق، و كذلك لا تستطيع في قوله:

[من مجزوء الوافر]

ص: 193


1- البيت في ديوانه (155) (ط) دار صادر، بيروت، و قبله: و المانعون إذا النساء ترادفت حذر السباء جمالها لا ترحل أرعل: مسترخ مائل.

و صيّرني هواك و بي لحيني يضرب المثل (1)

و قوله: [من مجزوء الوافر]

يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا (2)

أن تزعم أنّ «لصيّرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل، فجعل «للهوى» كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» و «يحمي نساءنا ضرب»، و لا تستطيع كذلك أن تقدر «ليزيد» في قوله: «يزيدك وجهه» فاعلا غير «الوجه»، فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته.

معنى ذلك أن «القدوم» في قولك» «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، موجود على الحقيقة، و كذلك «الصيرورة» في قوله: «و صيّرني هواك»، و «الزيادة» في قوله:

«يزيدك وجهه» موجودا على الحقيقة، و إذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة، لم يكن المجاز فيه نفسه، و إذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ، كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة، و أحسن ضبطها، حتى تكون على بصيرة من الأمر.

و من اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف: [من الوافر]

أبي عبر الفوارس يوم داج و عمّي مالك وضع السّهاما

فلو صاحبتنا لرضيت منّا إذا لم تغبق المائة الغلاما (3)

يريد إذا كان العام عام جدب و جفّت ضروع الإبل، و انقطع الدّر، حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد. فالفعل الذي هو «غبق» مستعمل في نفسه على حقيقته، غير مخرج عن معناه و أصله إلى معنى شي ء آخر، فيكون قد دخله مجاز في نفسه، و إنّما المجاز في أن أسند إلى الإبل و جعل فعلا لها، و إسناد الفعل إلى الشّي ء حكم في الفعل، و ليس هو نفس معنى الفعل، فاعرفه.

و اعلم أن من سبب اللّطف في ذلك أنه ليس كلّ شي ء يصلح لأن يتعاطى فيه

ص: 194


1- البيت سبق في عدة أبيات لابن البواب.
2- البيت لأبي نواس في ديوانه (235) (ط) بيروت، و الإيضاح (36)، و نهاية الإيجاز (177) بلا عزو، و المفتاح (805)، و الطيبي في التبيان (1/ 322)، و أورده صاحب الأغاني (25/ 41).
3- حاجز بن عوف بن الحارث الأزدي، جاهلي، صعلوك، عدّاء، و الرواية في الأغاني (13/ 235)، «أبي ربع الفوارس ...» أي: أخذ ربع الغنائم، و أما عبر الفوارس كما هنا فهي بمعنى، استدل لهم حتى يعرف من أمرهم ما يعنيه.

هذا المجاز الحكميّ بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر، و أنت تحتاج إلى أن تهيّئ الشي ء و تصلحه لذلك، بشي ء تتوخّاه في النظم. و إن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله: [من الطويل ]

تناس طلاب العامريّة إذ نأت بأسجح (1) مرقال (2) الضّحى قلق الضّفر (3)

إذا ما أحسّته الأفاعي تحيّزت شواة (4) الأفاعي من مثلّمة سمر (5)

تجوب له الظّلماء عين كأنّها زجاجة شرب (6) غير ملأى و لا صفر

يصف جملا، و يريد أنّه يهتدي بنور عينه في الظلماء، و يمكنه بها أن يخرقها و يمضي فيها، و لولاها لكانت الظلماء كالسّد و الحاجز الذي لا يجد شيئا يفرجه به، و يجعل لنفسه فيه سبيلا. فأنت الآن تعلم أنه لو لا أن قال: «تجوب له»: فعلّق «له» تجوب، و لما صلحت «العين» لأن يسند «تجوب» إليها، و لكان لا تتبيّن جهة التجوّز في جعل «تجوب» فعلا للعين كما ينبغي. و كذلك تعلم أنه لو قال مثلا:

«تجوب له الظلماء عينه»، لم يكن له هذا الموقع، و لاضطرب عليه معناه، و انقطع السّلك من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن. فتأمل هذا و اعتبره. فهذه التهيئة و هذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي، نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة و أنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهّد لها و تقدّم أو تؤخّر ما يعلم به أنك مستعير و مشبّه، و يفتح طريق المجاز إلى الكلمة.

أ لا ترى إلى قوله: [من الطويل ]

و صاعقة من نصله ينكفي بها على أرؤس الأقران خمس سحائب (7)

ص: 195


1- الأسجح: ليّن الخد و الحسن المعتدل. اللسان/ سجح/ (2/ 475).
2- المرقال: تقول ناقة مرقال: مسرعة. اه القاموس/ رقل/ (1302).
3- الضفر: ما يشربه البعير من مضفور (الحبل). اه القاموس/ ضفر/ (551).
4- الشواة: قحف الرأس. اه القاموس/ شوى/ (1678).
5- المثلمة السمر: هي الأخفاف المقطعة من كثرة المشي.
6- شرب: القوم الشاربون.
7- البيت للبحتري في ديوانه (1/ 179)، و الإيضاح (261)، و المفتاح (484)، و أورده الطيبي في التبيان (1/ 300)، و عزاه للبحتري، و في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 117)، و العلوي في الطراز (1/ 231)، و رواية الديوان: و صاعقة من كفه ينكفي بها على أرؤس الأعداء خمسة سحائب و يريد بخمس سحائب: الأنامل.

عنى بخمس السحائب، أنامله، و لكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة، و لم يرمها إليك بغتة، بل ذكر ما ينبئ عنها، و يستدلّ بها عليه، فذكر أن هناك صاعقة، و قال:

«من نصله»، فبيّن أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال: «أرؤس الأقران»، ثم قال: «خمس»، فذكر «الخمس» التي هي عدد أنامل اليد، فبان من مجموع هذه الأمور غرضه.

و أنشدوا لبعض العرب: [من الرجز]

فإن تعافوا العدل و الإيمانا فإنّ في أيماننا نيرانا (1)

يريد أن في أيماننا سيوفا نضربكم بها، و لو لا قوله أولا: «فإن تعافوا العدل و الإيمان»، و أن في ذلك دلالة على أنّ جوابه أنهم يحاربون و يقسرون على الطاعة بالسيف، ثم قوله: «فإن في أيماننا»، لما عقل مراده، و لما جاز له أن يستعير النيران للسيوف، لأنه كان لا يعقل الذي يريد، لأنّا و إن كنا نقول: «في أيديهم سيوف تلمع كأنها شعل نار» كما قال: [من الكامل ]

ناهضتهم و البارقات كأنّها شعل على أيديهم تتلهب (2)

فإن هذا التشبيه لا يبلغ مبلغ ما يعرف مع الإطلاق، كمعرفتنا إذا قال: «رأيت أسدا»، أنه يريد الشجاعة، و إذا قال: «لقيت شمسا و بدرا»، أنه يريد الحسن و لا يقوي تلك القوة، فاعرفه.

و مما طريق المجاز فيه الحكم، قول الخنساء: [من البسيط]

ترتع ما رتعت، حتّى إذا ادّكرت فإنّما هي إقبال و إدبار (3)

و ذاك أنها لم ترد بالإقبال و الإدبار غير معناهما، فتكون قد تجوّزت في نفس الكلمة، و إنما تجوّزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل و تدبر، و لغلبة ذاك عليها و اتّصاله منها، و أنه لم يكن لها حال غيرهما، كأنها قد تجسّمت من الإقبال و الإدبار. و إنّما

ص: 196


1- البيت في الإيضاح (260) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا نسبة، و المعنى: أن سيوفا تلمع كأنها شعل نيران.
2- البيت للبحتري في الإيضاح (261)، و الخطاب: للممدوح.
3- البيت في ديوانها (39) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، و قبله: و ما عجول على بقر تطيف به لها حنينان: إعلان و إسرار إقبال و إدبار: أي لا تنفك كقبل و تدبر كأنها خلقت منها.

كان يكون المجاز في نفس الكلمة، لو أنها كانت قد استعارت «الإقبال و الإدبار» لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللّغة. و معلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شي ء.

و اعلم أن ليس بالوجه أن يعدّ هذا على الإطلاق معدّ ما حذف منه المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، مثل قوله عز و جل: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، و مثل قوله النابغة الجعدي: [من المتقارب

و كيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب (1)

و قول الأعرابيّ: [من الوافر]

حسبت بغام راحلتي عناقا و ما هي ويب غيرك بالعناق (2)

و إن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف، و يقولون إنه في تقدير: «فإنما هي ذات إقبال و إدبار»، ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية و البيتين، في سبيل ما يحذف من اللفظ و يراد في المعنى، كمثل أن يحذف خبر المبتدأ و المبتدأ، إذا دلّ الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به.

و ليس الأمر كذلك في بيت الخنساء، لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا: «فإنما هي ذات إقبال و إدبار»، أفسدنا الشعر على أنفسنا، و خرجنا إلى شي ء مغسول، و إلى كلام عاميّ مرذول، و كان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا في بيت المتنبي: [من الوافر]

بدت قمرا، و مالت خوط بان، و فاحت عنبرا، و رنت غزالا (3)

ص: 197


1- البيت: للنابغة الجعدي (الديوان 26)، و في اللسان مادة/ خلل/ (11). الخلالة: الصداقة- أبو مرحب: كنية الذئب.
2- الشعر لذي الخرق الطهوي يخاطب الذئب. في نوادر أبي زيد (116)، و مجالس ثعلب (76، 185)، يقولها لذئب تبعه في طريقه و قبل البيت: أ لم تعجب لذئب بات يسري ليؤذن صاحبا له باللحاق و البغام: صوت الظبية و الناقة و حنينها، و العناق: أنثى المعز، قال الأستاذ محمود شاكر في هامش نسخته: و من هامش المطبوعة بخط الناسخ ما نصه: «يخاطب ذئبا أي: حسبت ناقتي عناقا و بغامها بغام عناق».
3- البيت في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة قالها في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني و بعده: و جارت في الحكومة ثم أبدت لنا من حسن قامتها اعتدالا بدت: ظهرت. الخوط: الغصن الناعم. رنت: نظرت. و البيت في الإيضاح (229) ط، دار الكتب العلمية، بيروت.

أنّه في تقدير محذوف، و أن معناه الآن كالمعنى إذا قلت: «بدت مثل قمر، و مالت مثل خوط بان، و فاحت مثل عنبر، و رنت مثل غزال»، في أنّا نخرج إلى الغثاثة، و إلى شي ء يعزّل البلاغة عن سلطانها و يخفض من شأنها، و يصدّ أوجهنا عن محاسنها، و يسدّ باب المعرفة بها و بلطائفها علينا.

فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنّه لو كان الكلام قد جي ء به على ظاهره و لم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة و الاتساع، و أن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالا و إدبارا، حتى كأنها قد تجسّمت منهما، لكان حقّه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ «الذات» فيقال: «إنما هي ذات إقبال و إدبار». فأمّا أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك و على تنزيله منزلة المنطوق به حتّى يكون الحال فيه كالحال في:

حسبت بغام راحلتي عناقا حين كان المعنى و القصد أن يقول: «حسبت بغام راحلتي بغام عناق»، فمما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة، نسّابة للمعاني.

فصل

هذه مسألة قد كنت عملتها قديما، و قد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالا بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:

37]، أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبّر و التفكّر و النّظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي و لا يسمع و لا ينظر و لا يتفكّر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، و فاته الذي هو فائدة القلب و المطلوب منه، كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره و سمعه و لا يفكر فيما يؤدّيان إليه، و لا يحصل من رؤية ما يرى و سماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له و لا بصر.

فأما تفسير من يفسّره على أنه بمعنى «من كان له عقل»، فإنه إنما يصحّ على أن يكون قد أراد الدّلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل»، كما يتوهمه الحشو و من لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، و إلى تحريف الكلام عن صورته، و إزالة المعنى عن جهته. و ذاك أنّ المراد به الحثّ على النّظر، و التقريع على تركه، و ذمّ من يخل به و يعقل عنه. و لا يحصل ذلك إلا بالطّريق الذي قدّمته، و إلّا بأن يكون

ص: 198

قد جعل من لا يفقه بقلبه و لا ينظر و لا يتفكّر، كأنه ليس بذي قلب، كما يجعل كأنه جماد، و كأنه ميّت لا يشعر و لا يحسّ و ليس سبيل من فسّر «القلب» هاهنا على «العقل»، إلّا سبيل من فسّر عليه «العين» و «السمع» في قول الناس: «هذا بيّن لمن كانت له عين، و لمن كان له سمع»، و فسّر «العمى» و «الصّمم» و «الموت» في صفة من يوصف بالجهالة، على مجرّد الجهل، و أجرى جميع ذلك على الظّاهر، فاعرفه.

و من عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز و التمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، و يبطلوا الغرض، و يمنعوا أنفسهم و السامع منهم العلم بموضع البلاغة، و بمكان الشّرف. و ناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، و جعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، و زند ضلالة قد قدحوا به، و نسأل اللّه تعالى العصمة و التوفيق.

[فصل: في الكناية و التعريض

هذا فنّ من القول دقيق المسلك، لطيف المأخذ، و هو أنّا نراهم كما يصنعون في نفس الصّفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية و التعريض، كذلك يذهبون في إثبات الصّفة هذا المذهب. و إذا فعلوا ذلك، بدت هناك محاسن تملأ الطّرف، و دقائق تعجز الوصف، و رأيت هنالك شعرا شاعرا، و سحرا ساحرا، و بلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق، و الخطيب المصقع. و كما أن الصفة إذا لم تأتك مصرّحا بذكرها، مكشوفا عن وجهها، و لكن مدلولا عليها بغيرها، و كان ذلك أفخم لشأنها، و ألطف لمكانها، كذلك إثباتك الصّفة للشي ء تثبتها له، إذا لم تلقه إلى السامع صريحا، و جئت إليه من جانب التعريض و الكناية و الرّمز و الإشارة، كان له من الفضل و المزيّة، و من الحسن و الرّونق، ما لا يقلّ قليله، و لا يجهل موضع الفضيلة فيه.

و تفسير هذه الجملة و شرحها: أنهم يرومون وصف الرجل و مدحه، و إثبات معنى من المعاني الشريفة له، فيدعون التصريح بذلك، و يكنون عن جعلها فيه بجعلها في شي ء يشتمل عليه و يتلبّس به، و يتوصّلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات، لا من الجهة الظاهرة المعروفة، بل من طريق يخفى، و مسلك يدقّ؟ و مثاله قول زياد الأعجم: [من الكامل ]

ص: 199

إنّ السّماحة و المروءة و النّدى في قبّة ضربت على ابن الحشرج (1)

أراد، كما لا يخفى، أن يثبت هذه المعاني و الأوصاف خلالا للممدوح و ضرائب (2)، فترك أن يصرّح فيقول: «إن السماحة و المروءة و الندى لمجموعة في ابن الحشرج، أو مقصورة عليه، أو مختصّة به»، و ما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها، و عدل إلى ما ترى من الكناية و التلويح فيجعل كونها في القبّة المضروبة عليه، عبارة عن كونها فيه، و إشارة إليه، فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة، و ظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة، و لو أنه أسقط هذه الواسطة من البين، لما كان إلا كلاما غفلا، و حديثا ساذجا.

فهذه الصّنعة في طريق الإثبات، هي نظير الصّنعة في المعاني، إذا جاءت كنايات عن معان أخر، نحو قوله: [من الوافر]

و ما يك فيّ من عيب فإنّي جبان الكلب مهزول الفصيل (3)

فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر، و مما يقع في الاختيار (4)، لأجل أنّه أراد أن يذكر نفسه بالقرى و الضيافة، فكنّى من ذلك بجبن الكلب و هزال الفصيل، و ترك أن يصرّح فيقول: «قد عرف أن جنابي مألوف، و كلبي مؤدّب لا يهرّ في وجوه من يغشاني من الأضياف، و أني أنحر المتالي (5) من إبلي و أدع فصالها هزلى» كذلك، إنّما راقك بيت زياد، لأنّه كنى عن إثباته السماحة و المروءة و الندى كائنة في الممدوح، بجعلها كائنة في القبّة المضروبة عليه. ).

ص: 200


1- البيت لزياد الأعجم من قصيدة له في المدح، و هو كناية عن وصف ممدوحه بالتمكين في صفات المروءة و السماحة و الندى، و البيت أورده القزويني في الإيضاح (290)، و عزاه لأبي زياد الأعجم، و السكاكي في المفتاح (517) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، و في الطراز (1/ 422)، و نهاية الإيجاز (271)، و الإشارات (245)، و المصباح (152). ابن الحشرج: من ولاة بني أمية، اسمه عبد اللّه.
2- ضرائب: الضريبة الخليفة يقال إنه لكريم الضرائب. اه اللسان/ ضرب/ (1/ 459).
3- البيت أورده القزويني في الإيضاح (288)، و هو لابن هرمة، و هو شاعر مخضرمي الدولتين، توفي سنة (145 ه)، و البيت غير منسوب في الحيوان (1/ 377)، و الحماسة (1/ 260)، و منسوب لابن هرمة في البيان و التبيين، و في ديوان ابن هرمة (198)، و التبيان (39)، و الطراز (1/ 423)، و الإشارات (242)، و أورده الرازي في نهاية الإيجاز (271)، و بدر الدين بن مالك في المصباح (150). الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
4- الاختيار: اختيار أبي تمام في حماسته.
5- المتالي: الأمهات إذا تلاها الأولاد. اه اللسان مادة/ تلا/ (14/ 103).

هذا، و كما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصّفة أن تجي ء على صور مختلفة، كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصّفة أن تجي ء على هذا الحدّ، ثم يكون في ذلك ما يتناسب، كما كان ذلك في الكناية عن الصفة نفسها.

تفسير هذا: أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم (1) يمدح به يزيد بن المهلّب، و هو في حبس الحجّاج: [من المنسرح

أصبح في قيدك السّماحة و المج د و فضل الصّلاح و الحسب

فتراه نظيرا لبيت «زياد»، و تعلم أن مكان «القيد» هاهنا هو مكان «القبة» هناك.

كما أنك تنظر إلى قوله: «جبان الكلب»، فتعلم أنه نظير لقوله: [من الطويل ]زجرت كلابي أن يهرّ عقورها (2) من حيث لم يكن ذلك «الجبن» إلا لأن دام منه الزّجر و استمرّ، حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير و النّبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعسّ دونها.

و تنظر إلى قوله: «مهزول الفصيل»، فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة:

لا أمتع العوذ بالفصال و تنظر إلى قول نصيب: [من المتقارب

لعبد العزيز على قومه و غيرهم منن ظاهره

فبابك أسهل أبوابهم و دارك مأهولة عامره

و كلبك آنس بالزّائرين من الأمّ بالابنة الزّائره (3)

ص: 201


1- يزيد بن الحكم: شاعر عالي الطبقة من أعيان العصر الأموي من أهل الطائف توفي سنة (105) ه.
2- البيت: لعوف بن الأحوص الكلابي، و هو شاعر جاهلي، (الوحشيات 6/ 2)، و المفضليات (176). و نسبه في الحماسة إلى أخيه شريح و عجز البيت: «رقعت له ثاري فلما اهتدى بها عقورها» عقر الفرس و البعير عقرا: قطع قوائمه/ اللسان مادة/ عقر (4/ 229).
3- الأبيات لنصيب الشاعر الأموي في مدح عبد العزيز بن مروان، و الأبيات في الإيضاح (288)، و المفتاح (516)، و أوردها محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (242)، و عزاها لنصيب، و التبيان (39). و نصيب كان عبدا أسود لرجل من أهل وادي القرى، أتى عبد العزيز بن مروان، بعد ذلك أصبح النصيب مولى بني مروان، كانت أمه سوداء، فوقع بها سيدها فولدت نصيبا، فوثب عليه عمه بعد موت أبيه و استعبده. ترجمته في الشعر و الشعراء (417، 419)، و طبقات الشعراء، و الأغاني، و الآلي، و معجم الأدباء، و الأبيات المذكورة، يمدح بها سيده عبد العزيز بن مروان.

فتعلم أنه من قول الآخر: [من الطويل ]

يكاد إذا ما أبصر الضّيّف مقبلا يكلّمه من حبّه و هو أعجم (1)

و أن بينهما قرابة شديدة و نسبا لاصقا، و أن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي «زياد» و «يزيد».

و ممّا هو إثبات للصّفة على طريق الكناية و التعريض، قولهم: «المجد بين ثوبيه، و الكرم في برديه»، و ذلك أن قائل هذا يتوصّل إلى إثبات المجد و الكرم للممدوح، بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه، كما توصّل «زياد» إلى إثبات السماحة و المروءة و الندى لابن الحشرج، بأن جعلها في القبّة التي هو جالس فيها.

و من ذلك قوله: [من البسيط] و حيثما يك أمر صالح فكن (2) و ما جاء في معناه من قوله: [من المتقارب

يصير أبان قرين السّماح و المكرمات معا حيث صارا (3)

و قول أبي نواس: [من الطويل ]

فما جازه جود و لا حلّ دونه و لكن يصير الجود حيث يصير (4)

ص: 202


1- البيت لابن هرمة، و هو غير منسوب في الحيوان (1/ 377)، و الحماسة (1/ 260)، و منسوب لابن هرمة في البيان و التبيين (3/ 205)، و هو في ديوان ابن هرمة (198)، و التبيان (39)، و الطراز، و الإيضاح (288)، و المفتاح (516).
2- البيت: لزهير بن أبي سلمى (الديوان 282) و هو عجز البيت، و صدر البيت: «هنّاك ربّك ما أعطاك من حسن» و هنّاك: هنّأك.
3- البيت: للكميت بن زيد صاحب الهاشميات ورد البيت في (سرقات أبي نواس 36).
4- البيت في ديوانه (94)، من قصيدة قالها عند ما قدم على الخصيب صادف في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدونه مدائح فيه فلما فرغوا، قال الخصيب أ لا تنشدنا أبا علي؟ فقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف ما يأفكون. قال: هات إذا فأنشده هذه فاهتز لها، و أمر له بجائزة سنية، و البيتان قبله: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا فأي فتى بعد الخصيب تزور فتى يشتري حسن الثناء بماله و يعلم أن الدائرات تدور و البيت فيه كناية عن كرم و سخاء ممدوحه حتى لا يخلو مجال لذكر الكرماء من ذكره معهم، و البيت في المفتاح (520)، و الإيضاح (291)، و أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (153)، و عزاه لابن هانئ، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (246)، و الطيبي في التبيان (1/ 331)، و عزوه جميعا لأبي نواس.

كل ذلك توصّل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإثباتها في المكان الذي يكون فيه، و إلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحله. و هكذا إن اعتبرت قول الشّنفرى يصف امرأة بالعفة: [من الطويل ]

يبيت بمنجاة من اللّؤم بيتها إذا ما بيوت بالملامة حلّت (1)

وجدته يدخل في معنى بين «زياد»، و ذلك أنه توصّل إلى نفي اللّؤم عنها و إبعادها عنه، بأن نفاه عن بيتها و باعد بينه و بينه، و كان مذهبه في ذلك مذهب «زياد» في التوصل إلى جمع «السماحة و المروءة و الندى» في ابن الحشرج، بأن جعلها في القبة المضروبة عليها. و إنّما الفرق أنّ هذا ينفي، و ذاك يثبت. و ذلك فرق لا في موضع الجمع، فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد.

و ممّا هو في حكم المناسب لبيت «زياد» و أمثاله التي ذكرت، و إن كان قد أخرج في صورة أغرب و أبدع، قول حسان رضي اللّه عنه: [من الطويل ]

بنى المجد بيتا فاستقرّت عماده علينا، فأعيى النّاس أن يتحوّلا (2)

و قول البحتري: [من الكامل ]

أو ما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثمّ لم يتحوّل (3)

ذاك لأنّ مدار الأمر على أنه جعل المجد و الممدوح في مكان، و جعله يكون حيث يكون. ).

ص: 203


1- البيت في المفضليات (108) رقم (20)، و قبله: لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها إذا ما مشت و لا بذات تلفت تبيت بعيد النوم تهدي عنوقها لجارتها إذا ما الهدية قلت و الشنفرى شاعر جاهلي من بني الحارث بن ربيعة. و الشنفرى اسمه، و قيل: لقب له، و معناه عظيم الشفة. و البيت أورده القزويني في الإيضاح (292)، و المفتاح (519)، و الطيبي في التبيان (1/ 332)، و الطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 126)، و نهاية الإيجاز (271)، و الطراز (1/ 424).
2- البيت في ديوانه (162) ط، دار ابن خلدون من قصيدة مطلعها: لك الخير غضي اللوم عني فإنني أحب من الأخلاق ما كان أجملا ذريني و علمي بالأمور و شيمتي فما طائري يوما عليك بأخيلا
3- البيت في ديوانه، و أورده القزويني في الإيضاح (293)، و الطيبي في التبيان (1/ 331)، و محمد ابن علي السكاكي في المفتاح (522)، و العلوي في الطراز (1/ 424)، و الإشارات للجرجاني (248)، و البيت في شرح ديوان أبي تمام لشاهين عطية (105).

و اعلم أنه ليس كلّ ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب.

معنى هذا: أن جعلهم الجود و الكرم و المجد يمرض بمرض الممدوح كما قال البحتريّ: [من الطويل ]

ظللنا نعود الجود من وعك الّذي وجدت، و قلنا اعتلّ عضو من المجد (1)

و إن كان يكون القصد منه إثبات الجود و المجد للممدوح، فإنه لا يصحّ أن يقال إنه نظير لبيت «زياد» كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس:

و لكن يصير الجود حيث يصير و غيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله:

و كلبك أرأف بالزّائرين (2) مثلا، نظيرا لقوله:

مهزول الفصيل و إن كان الغرض منهما جميعا الوصف بالقرى و الضيافة، و كانا جميعا كنايتين عن معنى واحد، لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها، لأنه في عروض أن تتّفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحا بالشجاعة مثلا أو بالجود أو ما أشبه ذلك. و قد يجتمع في البيت الواحد كنايتان، المغزى منهما شي ء واحد، ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى. مثال ذلك أنه لا يكون قوله: «جبان الكلب» نظيرا لقوله: «مهزول الفصيل»، بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه، و جنس على حدة، و كذلك قول ابن هرمة: [من المنسرح

لا أمتع العوذ بالفصال و لا أبتاع إلّا قريبة الأجل (3)

ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى، و إن كان المكنيّ بهما عنه واحدا، فاعرفه.

و ليس لشعب هذا الأصل و فروعه و أمثلته و صوره و طرقه و مسالكه حدّ و نهاية.

و من لطيف ذلك و نادره قول أبي تمام: [من الوافر] ).

ص: 204


1- البيت: للبحتري في مدح إبراهيم بن المدبّر (الديوان 1/ 365).
2- سبق تخريجه قريبا.
3- راجع ص (181) هامش (1).

أبين فما يزرن سوى كريم و حسبك أن يزرن أبا سعيد (1)

و مثله، و إن لم يبلغ مبلغه، قول الآخر: [من الوافر]

متى تخلو تميم من كريم و مسلمة بن عمرو من تميم

و كذلك قول بعض العرب: [من المتقارب

إذا الله لم يسق إلّا الكرام فسقّى وجوه بني حنبل

و سقّى ديارهم باكرا من الغيث في الزّمن الممحل (2)

و فنّ منه غريب، قول بعضهم في البرامكة: [من الطويل ]

سألت النّدى و الجود: ما لي أراكما تبدّلتما ذلّا بعزّ مؤيّد

و ما بال ركن المجد أمسى مهدّما؟ فقالا: أصبنا بابن يحيى محمّد

فقلت: فهلّا متّما عند موته فقد كنتما عبديه في كلّ مشهد؟

فقالا: أقمنا كي نعزّى بفقده مسافة يوم، ثمّ نتلوه في غد (3)

ص: 205


1- البيت في ديوانه (105) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، من قصيدة قالها في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، و قبله: قلائص شوقهن يزيد شوقا و يمنعن الرقاد من الرقود إذا انبعثت على أمل بعيد فقد أدنت من الأمل البعيد و البيت أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (155)، و العلوي في الطراز (1/ 424)، و السكاكي في المفتاح (521)، و القزويني في الإيضاح (593)، و التبيان (40). و أبو سعيد: هو محمد بن يوسف التعري الطائي.
2- البيتان أوردهما بدر الدين بن مالك في المصباح (155)، و نسبهما لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، و رواية المصباح: «الأمحل» بدل «الممحل»، و أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (248)، و القزويني في الإيضاح (293، 294)، و السكاكي في المفتاح (522)، و لسان العرب (ريب)، و تاج العروس (ريب)، و الأغاني (22/ 270)، و لزهير السكب التميمي المازني، و البيتان لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، و فيهما كناية عن وصف الممدوحين بالكرم. سقى: من السقيا و ضعف للمبالغة، الممحل: الجديب.
3- الأبيات أوردها محمد بن علي السكاكي في المفتاح (522)، و بدر الدين بن مالك في المصباح (156)، و رواية كل من المفتاح و المصباح: «بعز مؤبد» بدل من «عز مؤيد» التي في مطبوعة العلامة محمود محمد شاكر. و قال: عز مؤيد: من أيده إذا قواه و عززه، و كان في المطبوعة و المخطوطتين «مؤبد» بالباء الموحدة، و هو عندي ليس بشي ء.

فصل [من التوكيد]

و اعلم أن ممّا أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده، أنّ هاهنا فروقا خفيّة تجهلها العامة و كثير من الخاصّة، ليس أنهم يجهلونها في موضع و يعرفونها في آخر، بل لا يدرون أنّها هي، و لا يعلمونها في جملة و لا تفصيل.

روي عن ابن الأنباريّ (1) أنه قال: ركب الكنديّ (2) المتفلسف إلى أبي العباس (3) و قال له: إنّي لأجد في كلام العرب حشوا! فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: «عبد اللّه قائم»، ثم يقولون «إنّ عبد اللّه قائم»، ثم يقولون: «إنّ عبد اللّه لقائم»، فالألفاظ متكرّرة و المعنى واحد.

فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم: «عبد اللّه قائم»، إخبار عن قيامه و قولهم: «إنّ عبد اللّه قائم»، جواب عن سؤال سائل و قوله: «إنه عبد اللّه لقائم»، جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابا.

و إذا كان الكنديّ يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنّك بالعامّة، و من هم في عداد العامّة، ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟.

و اعلم أنّ هاهنا دقائق لو أنّ الكنديّ استقرى و تصفّح و تتبع مواقع «إنّ»، ثم ألطف النّظر و أكثر التدبّر، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها و أن لا تدخل. فأوّل ذلك و أعجبه ما قدّمت لك ذكره في بيت بشّار: [من الخفيف

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (4)

و ما أنشدته معه من قول بعض العرب: [من الرجز]

فغنّها و هي لك الفداء إنّ غناء الإبل الحداء (5)

ص: 206


1- ابن الأنباري: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري أبو بكر أديب نحوي لغوي مفسر من كتبه (الكافي في النحو)، (غريب الحديث) توفي عام 328 ه (شذرات الذهب 2/ 315)، و معجم المؤلفين (11/ 143).
2- الكندي: يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب و الإسلام في عصره اشتهر بالطب و الفلسفة و الموسيقى و غيرها، ألف و ترجم كتبا كثيرة توفي 260 ه (الأعلام).
3- إلى أبي العباس و المراد به أبو العباس المبرد صاحب الكامل. (8/ 195).
4- سبق ص (184)، هامش (1).
5- سبق ص (184)، هامش (2).

و ذلك أنه هل شي ء أبين في الفائدة، و أدلّ على أن ليس سواء دخولها و أن لا تدخل، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها و تأتلف معه و تتّحد به، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا، و كأن أحدهما قد سبك في الآخر؟

هذه هي الصّورة، حتى إذا جئت إلى «إنّ» فأسقطتها، و رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول، و تجافى معناه عن معناه، و رأيته لا يتّصل به و لا يكون منه بسبيل، حتى تجي ء «بالفاء» فتقول: «بكّرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، و «غنّها و هي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم لا ترى «الفاء» تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة، و لا تردّ عليك الذي كنت تجد «بإنّ» من المعنى.

و هذا الضرب كثير في التنزيل جدّا، من ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، و قوله عزّ اسمه: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]، و قوله سبحان: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103]، و من أبين ذلك قوله تعالى: وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] [المؤمنون:

27]، و قد يتكرّر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف 53]، و هي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.

و من خصائصها أنك ترى لضمير الأمر و الشأن معها من الحسن و اللّطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه، بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها، و ذلك في مثل قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 9] و قوله:

أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [التوبة: 63]، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ [الأنعام: 54]، و قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، و من ذلك قوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، و أجاز أبو الحسن (1) فيها وجها آخر، و هو أن يكون الضمير في «إنها» للأبصار، أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير. و الحاجة في هذا الوجه أيضا إلى «إنّ» قائمة، كما كانت في الوجه الأوّل فإنه لا يقال: «هي لا تعمى الأبصار» كما لا يقال:

«هو من يتّق و يصبر فإن اللّه لا يضيع».

ص: 207


1- أبو الحسن: المراد به الأخفش الأوسط و هو سعيد بن مسعد.

فإن قلت: أو ليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرّى من العوامل في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟.

قيل: هو و إن جاء هاهنا، فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط و الجزاء، بل تراه لا يجي ء إلا «بإنّ»، على أنّهم قد أجازوا في «قل هو اللّه أحد»، أن لا يكون الضمير للأمر.

و من لطيف ما جاء في هذا الباب و نادره، ما تجده في آخر هذه الأبيات، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيّين: [من الطويل ]

إذا طمع يوما عراني قريته كتائب يأس، كرّها و طرادها

أكد ثمادي، و المياه كثيرة أعالج منها حفرها و اكتدادها

و أرضى بها من بحر آخر، إنّه هو الرّيّ أن ترضى النّفوس ثمادها (1)

المقصود قوله: «إنّه هو الرّيّ»، و ذلك أن الهاء في «إنّه» تحتمل أمرين:

أحدهما: أن تكون ضمير الأمر، و يكون قوله: «هو» ضمير «أن ترضى»، و قد أضمره قبل الذكر على شريطة التفسير. الأصل: «إن الأمر، أن ترضى النفوس ثمادها، الريّ»، ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت «الأبصار» في «فإنها لا تعمى الأبصار» على مذهب أبي الحسن، ثم أتى بالمضمر مصرّحا به في آخر الكلام، فعلم بذلك أن الضمير السابق له، و أنه المراد به.

و الثاني: أن تكون الهاء في «إنه» ضمير «أن ترضى» قبل الذكر، و يكون «هو» فصلا، و يكون أصل الكلام: «إنّ أن ترضى النفوس ثمادها هو الرّيّ» ثم أضمر على شريطة التفسير.

و أيّ الأمرين كان، فإنه لا بدّ فيه من «إن»، و لا سبيل إلى إسقاطها، لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شي ء شنيع، و هو أن تقول: «و أرضى بها من بحر آخر هو هو الريّ أن ترضى النفوس ثمادها». هذا، و في «إنّ» هذه شي ء آخر يوجب الحاجة إليها، و هو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار.

أ لا ترى أنّك لو أسقطت «إنّ» و الضميرين معا، و اقتصرت على ذكر ما يبقى من

ص: 208


1- البيت الثاني في لسان العرب (كدد)، منسوب لثعلب و معناه: أرضى بالقليل و أقنع به. ثماد: جمع ثمد و هو الماء القليل، و كدّ الشي ء يكدّه و اكتدّه: نزعه بيده، يكون ذلك في الجامد و السائل.

الكلام، لم تقله إلا «بالفاء» كقولك: «و أرضى بها من بحر آخر، فالرّيّ أن ترضى النفوس ثمادها».

فلو أنّ الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع، لما ظنّ الذي ظن. هذا، و إذا كان خلف الأحمر و هو القدوة، و من يؤخذ عنه، و من هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول الجاهليّين فيخفى ذلك له، و يجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتّى يقع له أن ينتقد على بشار، فلا غرو أن تدخل الشّبهة في ذلك على الكنديّ.

و مما تصنعه «إنّ» في الكلام، أنك تراها تهيّئ النكرة و تصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ، أعني أن تكون محدّثا عنها بحديث من بعدها. و مثال ذلك قوله:

[من البسيط المنخلع ]

إنّ شواء و نشوة و خبب البازل الأمون (1)

قد ترى حسنها و صحة المعنى معها، ثم إنك إن جئت بها من غير: «إنّ» فقلت: «شواء و نشوة و خبب البازل الأمون» لم يكن كلاما.

فإن كانت النكرة موصوفة، و كانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها، فإنك تراها مع «إن» أحسن، و ترى المعنى حينئذ أولى بالصحة و أمكن، أ فلا ترى إلى قوله: [من الخفيف

إنّ دهرا يلفّ شملي بسعدى لزمان يهمّ بالإحسان (2)

ليس بخفيّ و إن كان يستقيم أن تقول: «دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح» أن ليس الحالان على سواء، و كذلك ليس بخفيّ أنك لو عمدت إلى قوله: [من المديد المشطور]

إنّ أمرا فادحا عن جوابي شغلك (3)

فأسقطت منه «إنّ» لعدمت منه الحسن و الطّلاوة و التمكّن الذي أنت واجده الآن، و وجدت ضعفا و فتورا. ).

ص: 209


1- الشعر لسلمى بن ربيعة التميمي. و البازل: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة و طعن في التاسعة و فطر نابه فهو حينئذ بازل و كذلك الأنثى بغير هاء، جمل بازل و ناقة بازل، و هو أقصى أسنان للبعير، سمي بازلا من البزل، و هو الشق، و ذلك أن نابه و إذا اطلع يقال له: بازل لشقه عن اللحم عن منبته شقا. و قال النابغة في السّنّ و سماها بازلا: مقذوفة بدخيس النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد اللسان (بزل). الأمون: الناقة الموثقة الخلق المأمونة العثار.
2- البيت: لحسان بن ثابت (الديوان 1/ 517) «بسعدى»، ورد في الديوان «بجمل».
3- الشعر لأم السليك بن السلكة ترش ولدها، و شعرها في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 191، 192).

و من تأثير «إنّ» في الجملة، أنها تغني إذا كانت فيها من الخبر، في بعض الكلام. و وضع صاحب الكتاب في ذلك بابا فقال: «هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة، لإضمارك ما يكون مستقرّا لها و موضعا لو أظهرته. و ليس هذا المضمر بنفس المظهر، و ذلك: «إنّ مالا» و «إنّ ولدا»، و «إنّ عددا»، أي: «إنّ لهم مالا» فالذي أضمرت هو «لهم» و يقول الرجل للرجل: «هل لكم أحد؟ إنّ الناس ألب عليكم؟»، فتقول: «إنّ زيدا و إنّ عمرا» أي: «لنا»، و قال الأعشى: [من المنسرح

إنّ محلّا و إنّ مرتحلا و إنّ في السّفر إذ مضوا مهلا (1)

و يقول: «إنّ غيرها إبلا و شاء» كأنه قال: «إنّ لنا، أو: عندنا، غيرها»، قال:

و انتصب «الإبل» و «الشّاء» كانتصاب «الفارس» إذا قلت: «ما في الناس مثله فارسا»، و قال: و مثل ذلك قوله: [من الرجز] يا ليت أيّام الصّبا رواجعا (2) قال: فهذا كقولهم: «ألا ماء باردا»، كأنه قال: «ألا ماء لنا باردا» و كأنّه قال:

«يا ليت أيّام الصبا أقبلت رواجع».

فقد أراك في هذا كلّه أنّ الخبر محذوف، و قد ترى حسن الكلام و صحّته مع حذفه و ترك النّطق به. ثم إنك إن عمدت إلى «إنّ» فأسقطتها، وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر، لا يحسن أو لا يسوغ. فلو قلت: «مال»، و «عدد» و «محلّ» و «مرتحل» ).

ص: 210


1- البيت للأعشى في ديوانه (170)، و الأعشى: هو ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش، و البيت في الإيضاح (89)، و الإشارات و التنبيهات (63)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 103)، و خزانة الأدب (10/ 452، 459)، و الخصائص (2/ 373)، و الشعر و الشعراء (75)، و أمالي ابن الحاجب (1/ 345).
2- الشعر للعجاج في ملحقات ديوانه (405) ط، دار صادر، و العجاج هو: عبد اللّه بن رؤبة بن لبيد ابن صخر بن كثيف بن ربيعة بن سعد بن مالك بن تميم، و كنيته أبو الشعثاء، و الشعثاء ابنته و كبرى أولاده، و لقب بالعجاج لقوله: حتى يعجّ عنده من عجعجا و البيت في لسان العرب (ليت) بلا نسبة. و المعنى: إنما أراد: يا ليت أيام الصبا لنا رواجع، نصبه على الحال، و حكى النحويون أن بعض العرب يستعملها بمنزلة وجدت فيعديها إلى مفعولين، و يجريها مجرى الأفعال، فيقول: ليت زيدا شاخصا فيكون البيت على هذه اللغة. لسان العرب (ليت).

و «غيرها إبلا و شاء» لم يكن شيئا. و ذلك أنّ «إنّ» كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر، و أنها حاضنته، و المترجم عنه، و المتكفّل بشأنه.

و اعلم أن الذي قلنا في «إن» من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى «الفاء» لا يطّرد في كلّ شي ء و كلّ موضع، بل يكون في موضع دون موضع، و في حال دون حال، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي «الفاء»، و ذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ، و ذاك أنّ قبله إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان: 50- 52]. و معلوم أنك لو قلت: «إنّ هذا ما كنتم به تمترون، فالمتقون في جنات و عيون»، لم يكن كلاما و كذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لأنك لو قلت: «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100- 101] فالذين سبقت لهم منا الحسنى»، لم تجد لإدخالك «الفاء» فيه وجها و كذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج: 17]، «الذين آمنوا» اسم «إنّ»، و ما بعده معطوف عليه، و قوله «إن اللّه يفصل بينهم يوم القيامة»، جملة في موضع الخبر، و دخول «الفاء» فيها محال، لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ و مثله سواء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30].

فإذا، إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء «الفاء»، إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحّح به ما قبله، يحتجّ له، و يبيّن وجه الفائدة فيه. أ لا ترى أن الغرض من قوله:

إنّ ذاك النّجاح في التبكير جلّه أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه: «بكّرا»، و أن يحتجّ لنفسه في الأمر بالتبكير، و يبيّن وجه الفائدة فيه؟

و كذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ، بيان للمعنى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، و لم أمروا بأن يتّقوا و كذلك قوله إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، بيان للمعنى في أمر النبي صلى اللّه عليه و سلّم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. و هذا سبيل كلّ ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى «الفاء»، فاعرف ذلك.

ص: 211

فأما الذي ذكر عن أبي العباس (1)، من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها، و جواب منكر إذا كان معها اللّام، فالذي يدلّ على أن لها أصلا في الجواب، أنّا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ و الخبر إذا كانت جوابا للقسم، نحو: «و اللّه إنّ زيدا منطلق»، و امتنعوا من أن يقولوا: «و اللّه زيد منطلق».

ثمّ إنّا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيّنا في الكثير من مواقعها، أنّه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: 83- 84]، و كقوله عز و جل في أول السورة:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) [الكهف: 13]، و كقوله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216]، و قوله تعالى:

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 56] [غافر: 66]، و قوله: وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89]، و أشباه ذلك ممّا يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى اللّه عليه و سلّم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا و ناظروا فيه. و على ذلك قوله تعالى: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16]، و ذاك أنه يعلم أن المعنى: فأتياه، فإذا قال لكما ما شأنكما؟ و ما جاء بكما؟ و ما تقولان؟

فقولا: إنّا رسول رب العالمين. و كذا قوله: وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 104]، هذا سبيله.

و من البيّن في ذلك قوله تعالى في قصّة السّحرة: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 125]، و ذلك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123]، فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية.

ثم إنّ الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء، هو الذي دوّن في الكتب، من أنّها للتأكيد، و إذا كان قد ثبت ذلك، فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظنّ في خلافه البتة، و لا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنّه كائن غير كائن، و أن الذي تزعم أنه لم يكن كائن- فأنت لا تحتاج هناك إلى «إنّ»، و إنما تحتاج إليها إذا كان له ظنّ في الخلاف، و عقد قلب على نفي ما تثبت أو إثبات ما تنفي. و لذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، و لشي ء قد جرت عادة الناس بخلافه، كقول أبي نواس: [من السريع ]د.

ص: 212


1- المقصود به المبرد.

عليك باليأس من النّاس إنّ غنى نفسك في الياس (1)

فقد ترى حسن موقعها، و كيف قبول النفس لها، و ليس ذلك إلّا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس، و لا يدعون الرّجاء و الطّمع، و لا يعترف كل أحد و لا يسلّم أن الغنى في اليأس. فلما كان كذلك، كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد، فلذلك كان من حسنها ما ترى.

- و مثله سواء قول محمد بن وهيب: [من الطويل ]

أ جارتنا إنّ التّعفّف بالياس و صبرا على استدرار دنيا بإبساس

حريّان أن لا يقذفا بمذلّة كريما، و أن لا يحوجاه إلى النّاس

أ جارتنا إنّ القداح كواذب و أكثر أسباب النّجاح مع الياس (2)

هو: كما لا يخفى، كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال، بل ينكره و يعتقد خلافه. و معلوم أنه لم يقله إلا و المرأة تحدوه و تبعثه على التعرّض للناس، و على الطّلب.

و من طيف مواقعها أن يدّعى على الخاطب ظنّ لم يظنّه، و لكن يراد التهكم به، و أن يقال: «إن حالك و الذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك». و مثال ذلك قول الأوّل: [من السريع

جاء شقيق عارضا رمحه، إنّ بني عمّك فيهم رماح (3)

يقول: إن مجيئه هكذا مدلّا بنفسه و بشجاعته قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد، و على اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد، حتى كأن ليس مع أحد منّا رمح يدفعه به، و كأنّا كلّنا عزل.

و إذا كان كذلك، وجب إذا قيل إنها جواب سائل، أن يشترط فيه أن يكون .

ص: 213


1- البيت في ديوانه (144) ط، دار العرب للبستاني، و هو في الباب الرابع (باب العتاب)، و رواية الديوان: ألا ليت شعري هكذا أنت للناس فأقدع عنك القلب يا صاح بالياس
2- الأبيات في الأغاني (19/ 82، 83)، لمحمد بن وهيب (ط) دار الكتب العلمية، بيروت. من قصيدة عددها (72) بيتا، استحسنها الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك، و أمر له باثنين و سبعين ألف درهم.
3- البيت لحجل بن نضلة الباهلي، و هو شاهر جاهلي، و هو في الإيضاح (224)، و المفتاح (263)، و المصباح لبدر الدين بن مالك (6)، و البيت الذي يليه: هل أحدث الدهر لنازلة أم هل رنت أم شقيق سلام.

للسائل ظنّ في المسئول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به. فأمّا أن يجعل مجرّد الجواب أصلا فيه فلا، لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل: «كيف زيد؟» أن تقول: «صالح»، و إذا قال: «أين هو؟» أن تقول: «في الدار»- و أن لا يصح حتّى تقول: «إنه صالح»، «إنّه في الدار»، و ذلك ما لا يقوله أحد.

و أمّا جعلها إذا جمع بينها و بين «اللام» نحو: «إنّ عبد اللّه لقائم»- للكلام مع المنكر، فجيّد، لأنه إذا كان الكلام مع المنكر، كانت الحاجة إلى التأكيد أشدّ.

و ذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك، إذا كان هناك من يدفعه و ينكر صحّته، إلّا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع، فإنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أنه يكون من السامعين. و جملة الأمر أنك لا تقول: «إنه لكذلك»، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع (1) فيه عن الإنكار.

و اعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظّن قد كان منك أيّها المتكلم في الذي كان أنّه لا يكون. و ذلك قولك للشي ء هو بمرأى من المخاطب و مسمع: «إنّه كان من الأمر ما ترى، و كان منّي إلى فلان إحسان و معروف، ثمّ أنّه جعل جزائي ما رأيت»، فتجعلك كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذي ظننت، و تبيّن الخطأ الذي توهمت.

و على ذلك، و اللّه أعلم، قوله تعالى حكاية عن أمّ مريم رضي اللّه عنها: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36]، و كذلك قوله عز و جل حكاية عن نوح عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشعراء: 117]. و ليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق و الأمور الخفيّة، بالشي ء يدرك بالهوينا.

و نحن نقتصر الآن على ما ذكرنا، و نأخذ في القول عليها إذا اتّصلت بها «ما».

فصل في مسائل «إنّما»

قال الشيخ أبو علي في «الشّيرازيّات» (2): «يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ [الأعراف: 33]،

ص: 214


1- يزع: وزعته: كففته ا. ه القاموس/ وزع/ 995.
2- أبو علي: هو الشيخ أبو علي الفارسي و له كتاب الشيرازيات في النحو ا. ه، كشف الظنون (2/ 1068).

إن المعنى: ما حرّم ربّي إلّا الفواحش. قال: و أصبت ما يدلّ على صحّة قولهم في هذا، و هو قول الفرزدق: [من الطويل ]

أنا الذّائد الحامي الذّمار، و إنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (1)

فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبا أو منفيّا. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم، أ لا ترى أنك لا تقول: «يدافع أنا» و «لا يقاتل أنا»، و إنما تقول:

«أدافع» و «أقاتل» إلا أنّ المعنى لما كان: «ما يدافع إلّا أنا»، فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه «إلّا»، حملا على المعنى. و قال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ [البقرة: 173]، [النحل: 115]، النّصب في «الميتة» هو القراءة، و يجوز: «إنّما حرّم عليكم». قال أبو إسحاق: و الذي أختاره أن تكون «ما» هي التي تمنع «إنّ» من العمل، و يكون المعنى: «ما حرّم عليكم إلّا الميتة»، لأن «إنّما» تأتي إثباتا لما يذكر بعدها، و نفيا لما سواه، و قول الشاعر:

و إنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلّا أو مثلي». انتهى كلام أبي علي.

اعلم أنّهم، و إن كانوا قد قالوا هذا الذي كتبته لك، فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه، و أن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد. و فرق بين أن يكون في الشّي ء معنى الشي ء، و بين أن يكون الشي ء الشي ء على الإطلاق.

يبيّن لك أنهما لا يكونان سواء، أنه ليس كلّ كلام يصلح فيه «ما» و «إلّا»، يصلح فيه «إنّما». أ لا ترى أنّها لا تصلح في مثل قوله تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62]، و لا في نحو قولنا: «ما أحد إلّا و هو يقول ذاك»، إذ لو قلت: «إنّما من إله اللّه» و «إنّما أحد و هو يقول ذاك»، قلت ما لا يكون له معنى. ).

ص: 215


1- البيت في ديوانه (2/ 153)، من قصيدة قالها عند ما بلغ نساء مجاشع فحش جرير بهن فأتين الفرزدق مقيدا فقلن: قبح اللّه قيدك، فقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم، فأحفظنه ففض قيده و قد كان قيد نفسه قبل ذلك و حلف أن لا يطلق قيده حتى يجمع القرآن، و رواية الديوان: «أنا الضامن الراعي عليهم و إنما ....». و البيت في الإيضاح (126)، و المفتاح (403)، و معاهد التنصيص (1/ 260)، و خزانة الأدب (4/ 465)، و لسان العرب (قلا)، و بلا نسبة في الأشباه و النظائر (2/ 111)، و لسان العرب (أنن)، و تاج العروس (ما)، و المصباح (96).

فإن قلت: إن سبب ذلك أن «أحدا» لا يقع إلّا في النّفي و ما يجري مجرى النفي من النهي و الاستفهام، و أن «من» المزيدة في «ما من إله إلّا اللّه»، كذلك لا تكون إلّا في النفي.

قيل: ففي هذا كفاية، فإنه اعتراف بأن ليسا سواء، لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في «إنّما» من النّفي مثل ما يكون في «ما» و «إلّا» و كما وجدت «إنما» لا تصلح فيما ذكرنا، كذلك تجد «ما» و «إلّا» لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه «إنما، و ذلك في مثل قولك: «إنما هو درهم لا دينار»، لو قلت: «ما هو إلّا درهم لا دينار»، لم يكن شيئا. و إذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا «إنما» في معنى «ما» و «إلا»، لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق، و أن يسقطوا الفرق فإني أبيّن لك أمرهما، و ما هو أصل في كل واحد منهما، بعون اللّه و توفيقه.

اعلم أن موضع «إنما» على أن تجي ء لخبر لا يجهله المخاطب و لا يدفع صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة.

تفسير ذلك أنّك تقول للرجل: «إنّما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم»:

لا تقوله لمن يجهل ذلك و يدفع صحّته، و لكن لمن يعلمه و يقرّ به، إلّا أنك تريد أن تنبّهه للذي يجب عليه من حقّ الأخ و حرمة الصاحب، و مثله قوله: [من الخفيف

إنّما أنت والد، و الأب القا طع أحنى من واصل الأولاد (1)

لم يرد أن يعلم كافورا أنه والد، و لا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام، و لكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد.

و مثل ذلك قولهم: «إنّما يعجل من يخشى الفوت»، و ذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أنّ من لم يخش الفوت لم يعجل.

و مثاله من التنزيل قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:

36]، و قوله عزّ و جلّ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس:

ص: 216


1- البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 226)، ط، دار الكتب العلمية، بيروت. من قصيدة مطلعها: جسم الصلح ما اشتهته الأعادي و أذاعته ألسن الحساد و أرادته أنفس حال تدبي رك ما بينها و بين المراد و القاطع: أي المقاطع، أي: أنت والده، و الوالد دائما أحن على الولد من حنو الولد على والده و إن كان الوالد مقاطعا و الابن واصلا.

11]، و قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، كلّ ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم. و ذلك أنّ كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممّن يسمع و يعقل ما يقال له و يدعى إليه، و أنّ من لم يسمع و لم يعقل لم يستجب و كذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذار و يكون له تأثير، إذا كان مع من يؤمن باللّه و يخشاه و يصدّق بالبعث و الساعة، فأمّا الكافر الجاهل، فالإنذار و ترك الإنذار معه واحد. فهذا مثال ما الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب و لا ينكره بحال.

و أمّا مثال ما ينزّل هذه المنزلة، فكقوله: [من الخفيف

إنّما مصعب شهاب من اللّ ه تجلّت عن وجهه الظّلماء (1)

ادّعى في كون الممدوح بهذه الصفة، أنه أمر ظاهر معلوم للجميع، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنّها ثابتة لهم، و أنهم قد شهروا بها، و أنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد، كما قال: [من الطويل ]

و تعذلني أفناء سعد عليهم و ما قلت إلّا بالّذي علمت سعد (2)

و كما قال البحتريّ:

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة حتّى يسلّمها إليه عداه (3)

و مثله قولهم: «إنما هو أسد»، و «إنّما هو نار»، و «إنما هو سيف صارم»، و إذا أدخلوا «إنما» جعلوا ذلك في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر و لا يدفع و لا يخفى. ).

ص: 217


1- البيت لعبيد اللّه به قيس الرقيات يمدح مصعب بن الزبير بن العوام و بعده: ملكه ملك رأفة ليس فيه جبروت منه و لا كبرياء يتقي اللّه في الأمور و قد أفلح من كان همه الاتقاء و البيت أورده القزويني في الإيضاح (129)، و السكاكي في المفتاح (407)، و أورده بدر الدين ابن مالك في المصباح (98)، و فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز (361)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (95)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144).
2- البيت للحطيئة في ديوانه، و أورده القزويني في الإيضاح (129)، و السكاكي في المفتاح (408)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144).
3- البيت في ديوانه من قصيدة يمدح فيها صاعد بن مخلد و ابنه أبا عيسى العلاء. و أورده القزويني في الإيضاح (129)، و السكاكي في المفتاح (408)، و أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (99) بلا عزو، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 144).

و أما الخبر بالنّفي و الإثبات نحو: «ما هذا إلا كذا»، و «إن هو إلّا كذا»، فيكون للأمر ينكره المخاطب و يشكّ فيه. فإذا قلت: «ما هو إلّا مصيب» أو «ما هو إلّا مخطئ»، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلت، و إذا رأيت شخصا من بعيد فقلت: «ما هو إلّا زيد»، لم تقله إلّا و صاحبك يتوّهم أنه ليس بزيد، و أنه إنسان آخر، و يجدّ في الإنكار أن يكون «زيدا».

و إذا كان الأمر ظاهر كالذي مضى، لم تقله كذلك، فلا تقول للرجل ترقّقه على أخيه و تنبّهه للذي يجب عليه من صلة الرّحم و من حسن التّحابّ: «ما هو إلّا أخوك» و كذلك لا يصلح في «إنّما أنت والد»: «ما أنت إلّا والد»، فأما نحو: «إنّما مصعب شهاب»، فيصلح فيه أن تقول: «ما مصعب إلّا شهاب»، لأنه ليس من المعلوم على الصحّة، و إنما ادّعى الشاعر فيه أنه كذلك. و إذا كان هذا هكذا، جاز أن تقوله بالنّفي و الإثبات، إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حدّ المبالغة، من حيث لا تكون قد ادّعيت فيه أنه معلوم، و أنه بحيث لا ينكره منكر، و لا يخالف فيه مخالف.

- قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إبراهيم: 10] إنّما جاء، و اللّه أعلم، «بإن» و «إلا» دون «إنّما»، فلم يقل:

«إنّما أنتم بشر مثلنا»، لأنهم جعلوا الرسل كأنّهم بادّعائهم النبوّة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم، و ادّعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر. و لما كان الأمر كذلك، أخرج اللّفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب و يدعى خلافه، ثم جاء الجواب من الرّسل الذي هو قوله تعالى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11]، كذلك «بإن» و «إلّا» دون «إنما»، لأن من حكم من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه، أن يعيد كلام الخصم على وجهه، و يجي ء به على هيئته و يحكيه كما هو. فإذا قلت للرجل: «أنت من شأنك كيت و كيت»، قال: «نعم، أنا من شأني كيت و كيت، و لكن لا ضير عليّ، و لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم»، فالرسل صلوات اللّه عليهم كأنهم قالوا:

«إنّ ما قلتم من أنّا بشر مثلكم كما قلتم، لسنا ننكر ذلك و لا نجهله، و لكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون اللّه تعالى قد منّ علينا و أكرمنا بالرسالة.

و أما قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110]، [فصلت: 6] فجاء «بإنما»، لأنه ابتداء كلام قد أمر النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم بأن يبلّغه إياهم و يقوله معهم، و ليس

ص: 218

هو جوابا لكلام سابق قد قيل فيه: «إن أنت إلّا بشر مثلنا»، فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام، و يراعى فيه حذوه، كما كان ذلك في الآية الأولى.

و جملة الأمر أنك متى رأيت شيئا هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي، فذلك التقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه، فمن ذلك قوله تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 22- 23] إنما جاء، و اللّه أعلم، بالنفي و الإثبات، لأنه لما قال تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، و كان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى اللّه عليه و سلّم: «إنك لن تستطيع أن تحوّل قلوبهم عما هي عليه من الإباء، و لا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم، و استمرارهم على جهلهم، و صدّهم بأسماعهم عما تقوله لهم و تتلوه عليهم» كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى اللّه عليه و سلّم حال من قد ظنّ أنه يملك ذلك، و من لا يعلم يقينا أنه ليس في وسعه شي ء أكثر من أن ينذر و يحذّر، فأخرج اللّفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشكّ، فقيل: «إن أنت إلّا نذير». و يبيّن ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل و مقاولته: «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت، و أن تفهم الجماد، و أن تحول الأعمى بصيرا، و ليس بيدك إلّا تبيّن و تحتجّ، و لست تملك أكثر من ذلك» لا تقول هاهنا: «فإنّما الذي بيدك أن تبيّن و تحتج»، ذلك لأنك لم تقل له «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت»، حتى جعلته بمثابة من يظنّ أنه يملك وراء الاحتجاج و البيان شيئا. و هذا واضح، فاعرفه.

و مثل هذا في أن الذي تقدّم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه، و من كونه «بإن» و «إلّا»، قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188].

فصل هذا بيان آخر في «إنّما»

اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشي ء، و نفيه عن غيره، فإذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره.

فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: «جاءني زيد لا عمرو»، إلا أن لها مزيّة،

ص: 219

و هي أنك تعقل معها إيجاب الفعل لشي ء و نفيه عن غيره دفعة واحدة في حال واحدة. و ليس كذلك الأمر في: «جاءني زيد لا عمرو»، فإنك تعقلهما في حالين و مزيّة ثانية، و هي أنها تجعل الأمر ظاهرا في أنّ الجائي «زيد»، و لا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام «بلا» فقلت: «جاءني زيد لا عمرو».

ثم اعلم أن قولنا في «لا» العاطفة: «إنها تنفي عن الثاني ما وجب للأول»، ليس المراد به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شارك الأول في الفعل، بل أنها تنفي أن يكون الفعل الذي قلت إنه كان من الأوّل، قد كان من الثاني دون الأوّل. أ لا ترى أن ليس المعنى في قولك: «جاءني زيد لا عمرو»، أنه لم يكن من عمرو مجي ء إليك مثل ما كان من «زيد»، حتّى كأنه عكس قولك: «جاءني زيد و عمرو»، بل المعنى أن الجائي هو زيد لا عمرو، فهو كلام تقوله مع من يغلط في الفعل قد كان من هذا، فيتوهم أنه كان من ذلك.

و النّكتة أنه لا شبهة في أن ليس هاهنا جائيان، و أنه ليس إلّا جاء واحد، و إنما الشّبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو، فأنت تحقّق على المخاطب بقولك:

«جاءني زيد لا عمرو»، أنه «زيد» و ليس بعمرو.

و نكتة أخرى: و هي أنك لا تقول: «جاءني زيد لا عمرو»، حتى يكون قد بلغ المخاطب أنه كان مجي ء إليك من جاء، إلّا أنه ظنّ أنه كان من «عمرو»، فأعلمته أنه لم يكن من «عمرو» و لكن من «زيد».

و إذ عرفت هذه المعاني في الكلام «بلا» العاطفة، فاعلم أنها بجملتها قائمة لك في الكلام «بإنما». فإذا قلت: «إنما جاءني زيد»، لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع «زيد» غيره، و لكن أن تنفي أن يكون المجي ء الذي قلت إنه كان منه، كان من «عمرو». و كذلك تكون الشّبهة مرتفعة في أن ليس هاهنا جائيان، و أن ليس إلّا جاء واحد، و إنما تكون الشّبهة في أن ذلك الجائي «زيد» أم «عمرو». فإذا قلت: «إنما جاءني زيد»، حقّقت الأمر في أنه «زيد». و كذلك لا تقول: «إنما جاءني زيد»، حتى يكون قد بلغ المخاطب أن قد جاءك جاء، و لكنه ظن أنه «عمرو» مثلا، فأعلمته أنه «زيد».

فإن قلت: فإنّه قد يصحّ أن تقول: «إنّما جاءني من بين القوم زيد وحده، و إنما أتاني من جملتهم عمرو فقط»، فإن ذلك شي ء كالتكلّف، و الكلام هو الأول، ثم الاعتبار به إذا أطلق فلم يقيّد «بوحده» و ما في معناه. و معلوم أنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، و لم تزد على ذلك، أنّه لا يسبق إلى القلب من المعنى إلا ما قدّمنا

ص: 220

شرحه، من أنك أردت النصّ على «زيد» أنّه الجائي، و أن تبطل ظنّ المخاطب أن المجي ء لم يكن منه، و لكن كان من «عمرو» حسب ما يكون إذا قلت: «جاءني زيد لا عمرو»، فاعرفه.

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فإنّا نذكر جملة من القول في «ما» و «إلّا» و ما يكون من حكمهما.

اعلم أنك إذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»: احتمل أمرين:

أحدهما: أن تريد اختصاص «زيد» بالمجي ء و أن تنفيه عمن عداه، و أن يكون كلاما تقوله، لا لأنّ بالمخاطب حاجة إلى أن يعلم أن «زيدا» قد جاءك، و لكن لأنّ به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره.

و الثاني: أن تريد الذي ذكرناه في «إنّما»، و يكون كلاما تقوله ليعلم أن الجائي «زيد» لا غيره. فمن ذلك قولك للرجل يدّعي أنك قلت قولا ثم قلت خلافه: «ما قلت اليوم إلّا ما قلته أمس بعينه» و يقول: «لم تر زيدا، و إنما رأيت فلانا»، فتقول:

«بل لم أر إلّا زيدا». و على ذلك قوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ [المائدة: 117]، لأنه ليس المعنى: إنّي لم أزد على ما أمرتني به شيئا، و لكن المعنى: إنّي لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم و قلت خلافه.

و مثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله: [من السريع

قد علمت سلمى و جاراتها ما قطّر الفارس إلّا أنا (1)

المعنى: أنا الذي قطّر الفارس، و ليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطّره، و أنه لم يشركه فيه غيره.

و هاهنا كلام ينبغي أن تعلمه، إلا أني أكتب لك من قبله مسألة، لأن فيها عونا عليه. قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]، في تقديم اسم اللّه عز و جل معنى خلاف ما يكون لو أخّر. و إنّما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في «ما» و «إلا»، و حصّلت الفرق بين أن تقول: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، و بين قولك: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا».

ص: 221


1- البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (167)، و الأغاني (15/ 169)، و شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (411)، و له أو للفرزدق في شرح شواهد المغني (2/ 719)، و بلا نسبة في الأشباه و النظائر (7/ 243)، و لسان العرب (قطر)، و الإيضاح (126)، بتحقيق د. هنداوي، و المفتاح (403) بلا نسبة. و قطّره بالتضعيف: ألقاه على جنبه، و قطره من باب القتل: صرعه.

و الفرق بينهما أنك إذا قلت: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، فقدّمت المنصوب، كان الغرض بيان الضّارب من هو، و الإخبار بأنه عمرو خاصّة دون غيره و إذا قلت: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، فقدّمت المرفوع، كان الغرض بيان المضروب من هو، و الإخبار بأنه «زيد» خاصة دون غيره.

و إذا قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية، و إذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم اللّه تعالى إنما كان لأجل أنّ الغرض أن يبيّن الخاشون من هم، و يخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم. و لو أخّر ذكر اسم اللّه و قدّم «العلماء» فقيل: «إنّما يخشى العلماء اللّه»، لصار المعنى على ضدّ ما هو عليه الآن، و لصار الغرض بيان المخشيّ من هو، و الإخبار بأنه اللّه تعالى دون غيره، و لم يجب حينئذ أن تكون الخشية من اللّه تعالى مقصورة على العلماء، و أن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية، بل كان يكون المعنى أنّ غير العلماء يخشون اللّه تعالى أيضا إلا أنّهم مع خشيتهم اللّه تعالى يخشون معه غيره، و العلماء لا يخشون غير اللّه تعالى.

و هذا المعنى و إن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى: وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39]، فليس هو الغرض في الآية، و لا اللّفظ بمحتمل له البتة. و من أجاز حملها عليه، كان قد أبطل فائدة التقديم، و سوّى بين قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) و بين أن يقال: «إنما يخشى العلماء اللّه»، و إذا سوّى بينهما، لزمه أن يسوّي بين قولنا: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و بين: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، و ذلك ما لا شبهة في امتناعه.

فهذه هي المسألة، و إذ قد عرفتها فالأمر فيها بيّن: أن الكلام «بما» و «إلا» قد يكون في معنى الكلام «بإنما»، أ لا ترى إلى وضوح الصورة في قولك: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، أنه في الأول لبيان من الضارب، و في الثاني لبيان من المضروب، و إن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة، فتريد «بما ضرب زيدا إلّا عمرو» أنه لم يضربه اثنان، و «بما ضرب عمرو إلّا زيدا»، أنه لم يضرب اثنين.

ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره، و لم يكن «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلا زيدا»، سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل و المفعول، و لا يقع فيهما جميعا. ثم إنه يقع في الذي يكون بعد «إلا» منهما دون الذي قبلها، لاستحالة أن يحدث معنى الحرف

ص: 222

في الكلمة من قبل أن يجي ء الحرف. و إذا كان الأمر كذلك، وجب أن يفترق الحال بين أن تقدّم المفعول على «إلّا» فتقول: «ما ضرب زيدا إلا عمرو»، و بين أن تقدم الفاعل فتقول: «ما ضرب عمرو إلّا زيدا»، لأنّا إن زعمنا أنّ الحال لا يفترق، جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه. و ذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى «إلّا» في الاسم من قبل أن تجي ء بها، فاعرفه.

و إذا قد عرفت أن الاختصاص مع «إلا» يقع في الذي تؤخّره من الفاعل و المفعول، فكذلك يقع مع «إنما» في المؤخّر منهما دون المقدّم. فإذا قلت: «إنّما ضرب زيدا عمرو»، كان الاختصاص في الضارب، و إذا قلت: «إنّما ضرب عمرو زيدا»، كان الاختصاص في المضروب، و كما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم و التأخير مع «إلّا»، كذلك لا يجوز مع «إنّما».

و إذا استبنت هذه الجملة، عرفت منها أنّ الذي صنعه الفرزدق في قوله:

و إنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (1) شي ء لو لم يصنعه لم يصحّ له المعنى. ذاك لأنّ غرضه أن يخصّ المدافع لا المدافع عنه. و لو قال: «إنّما أدافع عن أحسابهم»، لصار المعنى أنّه يخص المدافع عنه، و أنّه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم، كما يكون إذا قال: «و ما أدافع إلّا عن أحسابهم»، و ليس ذلك معناه، إنما معناه أن يزعم أنّ المدافع هو لا غيره، فاعرف ذلك، فإن الغلط كما أظنّ يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون: «إنه فصل الضمير للحمل على المعنى»، فيرى أنه لو لم يفصله، لكان يكون معناه مثله الآن.

هذا و لا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة، فيجعل مثلا نظير قول الآخر: [من الهزج

كأنّا يوم قرّى إنّ ما نقتل إيّانا (2)

ص: 223


1- راجع ص (217) هامش (1).
2- البيت من الكتاب لسيبويه (2/ 111، 362) و نسبه سيبويه إلى بعض اللصوص، و البيت لذي الأصبع العدواني أو أبي بجيلة. انظر الخصائص (2/ 194)، و بعده: و قتلنا منهم كل فتى أبيض حسانا و قرى: بالضم و تشديد الراء: موضع في بلاد بني الحارث بن كعب، فكأنهم قتلوا أنفسهم كما ذكر الشنتمرى أو يكون شبه أعداءهم الذين قتلوهم بأنفسهم في السيادة و الحسن.

لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك، من حيث أن «أدافع» و «يدافع» واحد في الوزن، فاعرف هذا أيضا.

و جملة الأمر أنّ الواجب أن يكون اللّفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق. و ذلك لا يكون إلّا بأن يقدم «الأحساب» على ضميره، و هو لو قال: «و إنما أدافع عن أحسابهم»، استكن ضميره في الفعل، فلم يتصوّر تقديم «الأحساب» عليه، و لم يقع «الأحساب» إلا مؤخرا عن ضمير الفرزدق، و إذا تأخّرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة.

فإن قلت: إنه كان يمكنه أن يقول: «و إنما أدافع عن أحسابهم أنا»، فيقدم «الأحساب» على «أنا».

قيل: إنه إذا قال: «أدافع» كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، و كان «أنا» الظاهر تأكيدا له، أعني للمستكنّ، و الحكم يتعلّق بالمؤكّد دون التأكيد، لأن التأكيد كالتكرير، فهو يجي ء من بعد نفوذ الحكم، و لا يكون تقديم الجارّ مع المجرور، الذي هو قوله «عن أحسابهم» على الضمير الذي هو تأكيد، تقديما له على الفاعل، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل، و لا يكون لك إذا قلت: «و إنما أدافع عن أحسابهم»، سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل، من حيث أن الفاعل مستكن في الفعل، فكيف يتصوّر تقديم شي ء عليه، فاعرفه.

و اعلم أنّك إن عمدت إلى الفاعل و المفعول فأخّرتهما جميعا إلى ما بعد «إلّا»، فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي «إلا» منهما. فإذا قلت: «ما ضرب إلّا عمرو زيدا»، كان الاختصاص في الفاعل، و كان المعنى أنك قلت: «إن الضارب عمرو لا غيره» و إن قلت: «ما ضرب إلّا زيدا عمرو»، كان الاختصاص في المفعول، و كان المعنى أنك قلت: «إن المضروب زيد لا من سواه».

و حكم المفعولين حكم الفاعل و المفعول فيما ذكرت لك. تقول: «لم يكس إلّا زيدا جبّة»، فيكون المعنى أنه خص «زيدا» من بين الناس بكسوة الجبة فإن قلت: «لم يكس إلّا جبة زيدا»، كان المعنى: أنه خصّ الجبة من أصناف الكسوة.

و كذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ و مجرور، كقول السّيد الحميريّ: [من السريع

ص: 224

لو خيّر المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارسا (1)

الاختصاص في «منكم» دون «فارسا» و لو قلت: «ما اختار إلّا فارسا منكم»، صار الاختصاص في «فارسا».

و اعلم أنّ الأمر في المبتدأ و الخبر، إن كانا بعد «إنّما» على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل و المفعول، إذا أنت قدّمت أحدهما على الآخر.

معين ذلك: أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدّمه على المبتدأ، كان الاختصاص فيه و إن قدّمته على المبتدأ، صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ.

تفسير هذا، و أنّك تقول: «إنّما هذا لك»، فيكون الاختصاص في «لك» بدلالة أنك تقول: «إنّما هذا لك لا لغيرك» و تقول: «إنما لك هذا»، فيكون الاختصاص في «هذا»، بدلالة أنك تقول: «إنّما لك هذا لا ذاك»، و الاختصاص يكون أبدا في الذي إذا جئت «بلا» العاطفة كان العطف عليه.

و إن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحا، فانظر إلى قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40]، و قوله عزّ و علا: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [التوبة: 93]، فإنك ترى الأمر ظاهرا أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو «البلاغ» و «الحساب»، دون الخبر الذي هو «عليك» و «علينا» و أنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو «على الذين»، دون المبتدأ الذي هو «السّبيل».

و اعلم أنه إذا كان الكلام «بما» و «إلا» كان الذي ذكرته من أنّ الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدّمه، و في المبتدأ إن قدّمت الخبر أوضح و أبين، تقول (2):

«ما زيد إلا قائم»، فيكون المعنى أنك اختصصت «القيام» من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها بجعله صفة له. و تقول: «ما قائم إلّا زيد»، فيكون المعنى أنك اختصصت زيدا بكونه موصوفا بالقيام. فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف، و في الثاني الموصوف على الصفة.

و اعلم أن قولنا في الخبر إذا أخّر نحو: «ما زيد إلّا قائم»، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها، و نفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني

ص: 225


1- البيت أورده القزويني في الإيضاح (132)، و السكاكي في المفتاح (410)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (97)، و عزاه للحميري.
2- كان الذي ذكرته ... أوضح و أبين» هكذا السياق.

أنك نفيت عنه الأوصاف تنافي القيام، نحو أن يكون «جالسا» أو «مضطجعا» أو «متكئا»، أو ما شاكل ذلك و لم ترد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل، إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: «ما هو إلّا قائم» أن يكون «أسود» أو «أبيض» أو «طويلا» أو «قصيرا» أو «عالما» أو «جاهلا»، كما أنّا إذا قلنا: «ما قائم إلّا زيد»، لم نرد أنّه ليس في الدنيا قائم سواه، و إنما نعني ما قائم حيث نحن، و بحضرتنا، و ما أشبه ذلك.

و اعلم أنّ الأمر بيّن في قولنا: «ما زيد إلّا قائم»، أن ليس المعنى على نفي الشّركة، و لكن على نفي أن لا يكون المذكور، و يكون بدله شي ء آخر. أ لا ترى أن ليس المعنى أنّه ليس له مع «القيام» صفة أخرى، بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام، و أن ليس القيام، منفيّا عنه، و كائنا مكانه فيه «القعود» أو «الاضطجاع» أو نحوهما.

فإن قلت: فصورة المعنى إذن صورته إذا وضعت الكلام «بإنما» فقلت: «إنّما هو قائم»، و نحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف «بلا» فتقول: «إنما هو قائم لا قاعد»، و لا نرى ذلك جائزا مع «ما» و «إلّا»، إذا ليس من كلام الناس أن يقولوا: «ما زيد إلا قائم لا قاعد».

فإنّ ذلك إنّما لم يجز من حيث أنك إذا قلت: «ما زيد إلا قائم»، فقد نفيت عنه كلّ صفة تنافي «القيام»، و صرت كأنك قلت: «ليس هو بقاعد و لا مضطجع و لا متّكئ»، و هكذا حتّى لا تدع صفة يخرج بها من «القيام». فإذا قلت من بعد ذلك «لا قاعد»، كنت قد نفيت «بلا» العاطفة شيئا قد بدأت فنفيته، و هي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته، لا لأن تفيد بها النّفي في شي ء قد نفيته. و من ثمّ لم يجز أن تقول: «ما جاءني أحد لا زيد»، على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم «أحد» فتنفيه على الخصوص، بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول: «ما جاءني أحد و لا زيد»، فتجي ء «بالواو» من قبل «لا»، حتى تخرج بذلك من أن تكون عاطفة، فاعرف ذلك.

و إذ قد عرفت فساد أن تقول: «ما زيد إلّا قائم لا قاعد»، فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول: «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو» و «ما ضربت إلّا زيدا لا عمرا»، و ما شاكل ذلك. و ذلك أنّك إذا قلت: «ما جاءني إلّا زيد»، فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره، فإذا قلت: «لا عمرو»، كنت قد طلبت أن تنفي «بلا» العاطفة شيئا قد تقدمت فنفيته، و ذلك، كما عرّفتك، خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه.

ص: 226

فإن قيل: فإنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد»، فقد نفيت فيه أيضا أن يكون المجي ء قد كان من غيره، فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضا أن تعطف بلا فتقول:

«إنّما جاءني زيد لا عمرو».

قيل: إنّ الذي قلته من أنك إذا قلت: «إنّما جاءني زيد» فقد نفيت فيه أيضا المجي ء عن غيره غير مسلّم لك على حقيقته. و ذلك أنه ليس معك إلّا قولك:

«جاءني زيد»، و هو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتّة، كما كان في قولك: «ما جاءني إلّا زيد»، و إنّما فيه أنك وضعت يدك على «زيد» فجعلته «الجائي»، و ذلك و إن أوجب انتفاء المجي ء عن غيره، فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شي ء، و إنّما أوجبه من حيث كان «المجي ء» الذي أخبرت به مجيئا مخصوصا، إذا كان لزيد لم يكن لغيره. و الذي أبيناه أن تنفي «بلا» العاطفة الفعل عن شي ء و قد نفيته عنه لفظا.

و نظير هذا أنّا نعقل من قولنا: «زيد هو الجائي»، أنّ هذا المجي ء لم يكن من غيره، ثمّ لا يمنع ذلك من أن تجي ء فيه «بلا» العاطفة فتقول: «زيد هو الجائي لا عمرو»، لأنا لم نعقل ما عقلناه من انتفاء المجي ء عن غيره، و بنفي أوقعناه على شي ء، و لكن بأنه لمّا كان المجي ء المقصود مجيئا واحدا، كان النصّ على «زيد» بأنه فاعله و إثباته له، نفيا له عن غيره، و لكن من طريق المعقول، لا من طريق أن كان في الكلام نفي، كما كان ثمّ، فاعرفه.

فإن قيل: فإنك إذا قلت: «ما جاءني إلا زيد»، و لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر، كان المجي ء أيضا مجيئا واحدا.

قيل: إنه و إن كان واحدا، فإنك إنّما تثبت أن «زيدا» الفاعل له، بأن نفيت المجي ء عن كلّ من سوى زيد، كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر. و إذا كان كذلك، كان ما قلناه من أنك إن جئت «بلا» العاطفة فقلت: «ما جاءني إلا زيد لا عمرو»، كنت قد نفيت الفعل عن شي ء قد نفيته عنه مرّة صحيحا ثابتا، كما قلناه، فاعرفه.

اعلم أنّ حكم «غير» في جميع ما ذكرنا، حكم «إلّا». فإذا قلت: «ما جاءني غير زيد»، احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر، و أن تريد نفي أن لا يكون قد جاء، و جاء مكانه واحد آخر و لا يصحّ أن تقول: ما جاءني غير زيد لا عمرو»، كما لم يجز: «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو».

ص: 227

فصل في نكتة تتّصل بالكلام الذي تضعه «بما» و «إلّا»

اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول: «ما ضرب إلا عمرو زيدا»، فتوقع الفاعل و المفعول جميعا بعد «إلّا»، ليس بأكثر الكلام، و إنما الأكثر إن تقدّم المفعول على «إلا»، نحو: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، حتّى أنهم ذهبوا فيه أعني في قولك: «ما ضرب إلّا عمرو زيدا» إلى أنّه على كلامين، و أنّ «زيدا» منصوب بفعل مضمر، حتى كأنّ المتكلّم بذلك أبهم في أوّل أمره فقال: «ما ضرب إلّا عمرو» ثم قيل له: «من ضرب؟» فقال: «ضرب زيدا».

و هاهنا، إذا تأملت، معنى لطيف يوجب ذلك، و هو أنّك إذا قلت: «ما ضرب زيدا إلّا عمرو»، كان غرضك أن تختصّ «عمرا» «بضرب» «زيد»، لا بالضرب على الإطلاق. و إذا كان كذلك، وجب أن تعدّي الفعل إلى المفعول من قبل أن تذكر «عمرا» الذي هو الفاعل، لأن السامع لا يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدّى حتى تكون قد بدأت فعدّيته أعني لا يفهم عنك أنك أردت أن تختصّ «عمرا» بضرب «زيد»، حتى تذكره له معدّى إلى «زيد»، فأمّا إذا ذكرته غير معدّى فقلت:

«ما ضرب إلّا عمرو»، فإنّ الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم أنّه لم يكن من أحد غير «عمرو» ضرب، و أنه ليس هاهنا مضروب إلّا و ضاربه عمرو، فاعرفه أصلا في شأن التقديم و التأخير.

فصل [من إنّما]

إن قيل: قد مضيت في كلامك كلّه على أنه «إنّما» للخبر لا يجهله المخاطب، و لا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه، و إنّا لنراها في كثير من الكلام، و القصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمرا قد غلط فيه بالحقيقة، و احتاج إلى معرفته، كمثل ما ذكرت في أوّل الفصل الثاني من قولك: «إنّما جاءني زيد لا عمرو»، و تراها كذلك تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة، و دلالة المتعلّم منها على ما لا يعلم.

قيل: أمّا ما يجي ء في الكلام من نحو: «إنما جاء زيد لا عمرو»، فإنه و إن كان يكون إعلاما لأمر لا يعلمه السامع، فإنه لا بدّ مع ذلك من أن يدّعى هناك فضل

ص: 228

انكشاف و ظهور في أن الأمر كالذي ذكر. و قد قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت: «إنّها تجي ء للخبر لا يجهله السامع و لا ينكر صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة». و أمّا ما ذكرت من أنها تجي ء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه و بشي ء يدلّ عليه.

مثال ذلك: أن صاحب الكتاب قال في باب «كان»:

«إذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك، و إنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: «حليما»، فقد أعلمته مثل ما علمت. و إذا قلت: «كان حليما»، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصفة» (1).

و ذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر، و لا خبر من غير مبتدأ، كان معلوما أنك إذا قلت: «كان زيد» فالمخاطب ينتظر الخبر، و إذا قلت:

«كان حليما»، أنه ينتظر الاسم، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا شي ء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه.

و ممّا الأمر فيه بيّن، قوله في باب «ظننت»:

«و إنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» (2).

و ذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت»، إذا كنت تنحو نحو المعنى، إلّا ما كان جملة مفيدة، فلا تقول: «قال فلان زيد» و تسكت، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة، كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا.

و مثل ذلك قولهم: «إنّما يحذف الشي ء إذا كان في الكلام دليل عليه»، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى، فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشي ء لم يعلمه السامع، فلأنّ الدليل عليه حاضر معه، و الشي ء بحيث يقع العلم به عن كثب.

و اعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف (3) من الدقائق.

و ممّا يجب أن يعلم: أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا من المذكور و لا يكون من غيره، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه، كما يحسن فيما لا يختصّ بالمذكور و يصحّ من غيره. ».

ص: 229


1- انظر الكتاب لسيبويه (1/ 47).
2- انظر الكتاب لسيبويه (1/ 62).
3- الحرف: هو «إنما».

تفسير هذا: أنّه لا يحسن أن تقول: «إنّما يتذكّر أولو الألباب لا الجهال»، كما يحسن أن تقول: «إنّما يجي ء زيد لا عمرو».

ثم إنّ النّفي فيما نحن فيه، النّفي يتقدّم تارة و يتأخّر أخرى، فمثال التأخير ما تراه في قولك: «إنما جاءني زيد لا عمرو»، و كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22]، و كقول لبيد: [من الرمل إنّما يجزي الفتى ليس الجمل (1) و مثال التّقديم قولك: «ما جاءني زيد، و إنّما جاءني عمرو»، و هذا ممّا أنت تعلم به مكان الفائدة فيها، و ذلك أنّك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها و قلت: «ما جاءني زيد و جاءني عمرو»، لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، و أن المعنى الآن مع دخولها، أنّ الكلام مع من غلط في عين الجائي، فظنّ أنه كان زيدا لا عمرا.

و أمر آخر، و هو ليس ببعيد: أن يظنّ الظانّ أنّه ليس في انضمام «ما» إلى «إنّ» فائدة أكثر من أنّها تبطل عملها، حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها «كافّة»، و مكانها هاهنا يزيد هذا الظّن و يبطله. و ذلك أنك ترى أنك لو قلت:

«ما جاءني زيد، و إنّ عمرا جاءني»، لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي «عمرو» لا «زيد»، بل يكون دخول «إنّ» كالشي ء الذي لا يحتاج إليه، و وجدت المعنى ينبو عنه.

ثم اعلم إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون و أعلق ما ترى بالقلب، إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه، و لكن التعريض بأمر هو مقتضاه، نحو أنّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] [الزمر: 9]، أن يعلم السامعون ظاهر معناه، و لكن أن يذمّ الكفّار، و أن يقال إنهم من فرط العناد و من غلبة الهوى عليهم، في حكم من ليس بذي عقل، و إنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا و يتذكّروا، كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. و كذلك قوله:

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، و قوله عز اسمه:

ص: 230


1- البيت للبيد بن أبي ربيعة العامري في ديوانه (145) من طويلته اللامية الساكنة في رثاء أخيه و صدره: فإذا جوزيت قرضا فاجزه و مطلع القصيدة: إن تقوى ربنا خير نفل- و بإذن اللّه ريثي و عجل أحمد اللّه فلا ندّ له- بيديه الخير ما شاء فعل الجمل: عنى به الجاهل.

إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18]، المعنى على أنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كأنه ليس له إذن تسمع و قلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار.

و مثال ذلك من الشعر قوله: [من مجزوء الرمل

أنا لم أرزق محبّتها، إنّما للعبد ما رزقا (1)

الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه، و يعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطّمع من وصلها، و ييأس من أن يكون منها إسعاف.

و من ذلك قوله: [من البسيط] و إنّما يعذر العشّاق من عشقا (2) يقول: إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه، و أنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق، و لو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره.

و قوله: [من الكامل ]

ما أنت بالسّبب الضّعيف، و إنّما نجح الأمور بقوّة الأسباب

فاليوم حاجتنا إليك، و إنّما يدعى الطّيب لساعة الأوصاب (3)

يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السّبب إليه.

و يقول في الثاني: إنّا قد وضعنا الشي ء في موضعه، و طلبنا الأمر من جهته، حين استعنّا بك فيما عرض من الحاجة، و عوّلنا على فضلك، كما أنّ من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السّقم، كان قد أصاب بالتعويل موضعه، و طلب الشي ء من معدنه.

ثم إنّ العجب في أنّ هذا التعريض الذي ذكرت لك، لا يحصل من دون «إنما». فلو قلت: «يتذكر أولو الألباب»، لم يدلّ ما دلّ عليه في الآية، و إن كان الكلام لم يتغيّر في نفسه، و ليس إلّا أنه ليس فيه «إنما».

ص: 231


1- البيت بلا نسبة في الإيضاح (130)، و شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 145)، و المعنى: أنه قد علم أن لا مطمع له في رحلها فيئس من أن يكون منها إسعاف به.
2- البيت في الإيضاح (130) بلا نسبة.
3- البيتان في الإيضاح بلا نسبة (130)، و يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه، و في الثاني: إنا قد طلبنا الأمر من جهته حيث استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة، و عولنا على فضلك، كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله.

و السبب في ذلك أن هذا التعريض، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، و التصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. و إذا أسقطت من الكلام فقيل: «يتذكّر أولو الألباب»، كان مجرّد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكّرون، و لم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. و محال أن يقع تعريض لشي ء ليس له في الكلام ذكر، و لا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول: «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما»، يقع إذن إن وقع، بمدح إنسان بالتيقّظ، و بأنه فعل ما فعل، و تنبّه لما تنبّه له، لعقله و لحسن تمييزه، كما يقال:

«كذلك يفعل العاقل»، و «هكذا يفعل الكريم».

و هذا موضع فيه دقّة و غموض، و هو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه، و يبحث عن حقيقة الأمر فيه.

و ممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما»، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشي ء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه معلوم، و يدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع، كقوله: [من الخفيف إنما مصعب شهاب من اللّه (1) و من اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن: [من الطويل ]

ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما أجدّت لغزو، إنّما أنت حالم (2)

و من ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة: 11]، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما، و لذلك أكّد الأمر في تكذيبهم و الردّ عليه، فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه، و بين «إنّ» الذي هو التأكيد، فقيل: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12].

ص: 232


1- راجع ص (219) هامش (1).
2- البيت لعويف بن معاوية بن عقبة بن حصن الفزاري، و يسمى عويف القوافي لبيت قال فيه: سأكذب من قد كان يزعم أنني إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا انظر الأغاني ترجمة عويف القوافي (19/ 205)، و البيت في معجم الشعراء ص (339)، في ترجمة قتب بن حصن الفزاري.

فصل [في الحكاية و النظم و الترتيب

اعلم أنه لا يصلح تقدير الحكاية في «النّظم و الترتيب»، بل لن تعدو الحكاية الألفاظ و أجراس الحروف، و ذاك أنّ الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكيّ عنه، و لا بدّ من أن تكون حكايته فعلا له، و أن يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكيّ عنه، نحو أن يصوغ إنسان خاتما فيبدع فيه صنعة، و يأتي في صناعته بخاصّة تستغرب، فيعمد واحد فيعمل خاتما على تلك الصورة و الهيئة، و يجي ء بمثل صنعته فيه، و يؤدّيها كما هي، فيقال عند ذلك: «إنه قد حكى عمل فلان، و صنعة فلان».

و «النظم و الترتيب» في الكلام كما بينّا، عمل يعمله مؤلّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها، و هو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخّى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش و الوشي. و إذا كان الأمر كذلك، فإنّا إن تعدّينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم و الترتيب، أدّى ذلك إلى المحال، و هو أن يكون المنشد شعر امرئ القيس، قد عمل في المعاني و ترتيبها و استخراج النّتائج و الفوائد، مثل عمل امرئ القيس، و أن يكون حاله إذا أنشد قوله: [من الطويل ]

فقلت له، لمّا تمطّى بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل (1)

حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضّة، فيجي ء بمثلها من ذهبه و فضّته. و ذلك يخرج بمرتكب، إن ارتكبه، إلى أن يكون الرّاوي مستحقّا لأن يوصف بأنه: «استعار» و «شبّه»، و أن يجعل كالشاعر في كلّ ما يكون به ناظما، فيقال: إنه جعل هذا فاعلا، و ذاك مفعولا، و هذا مبتدأ، و ذاك خبرا، و جعل هذا حالا، و ذاك صفة، و أن يقال: «نفى كذا» و «أثبت كذا»، و «أبدل كذا من كذا».

و «أضاف كذا إلى كذا»، و على هذا السّبيل، كما يقال ذاك في الشاعر. و إذا قيل ذلك، لزم منه أن يقال فيه: «صدق، و كذب»، كما قال في المحكيّ عنه، و كفى بهذا بعدا و إحالة. و يجمع هذا كلّه، أنه يلزم منه أن يقال: «إنّه قال شعرا»، كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله: «إنه قد صاغ خاتما».

ص: 233


1- البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة في ديوانه (117)، و قبله: ألا رب خصم فيك ألوى رددته نصيح على تعذاله غير مؤتل و ليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

و جملة الحديث أنّا نعلم ضرورة أنه لا يتأتّى لنا أن ننظم كلاما من غير رويّة و فكر، فإن كان راوي الشعر و منشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته، فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلّا برويّة، و إلّا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر «النظم». و هذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشّاكّ.

و هذا، و سبب دخول الشّبهة على من دخلت عليه، أنّه لما رأى المعاني لا تتجلّى للسامع إلّا من الألفاظ، و كان لا يوقف على الأمور التي بتوخّيها يكون «النظم»، إلّا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتّبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس و جرت العادة (1) بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال: «قد نظم ألفاظا فأحسن نظمها، و ألّف كلما فأجاد تأليفها» جعل الألفاظ الأصل في «النظم»، و جعله يتوخّى فيها أنفسها، و ترك أن يفكّر في الذي بيّنّاه من أن «النظم» هو توخّي معاني النّحو في معاني الكلم، و أنّ توخّيها في متون الألفاظ محال. فلما جعل هذا في نفسه، و نشب هذا الاعتقاد به، خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدّى ألفاظ الشّعر على النّسق الذي سمعها عليه، كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه.

و هذه شبهة قد ملكت قلوب الناس، و عشّشت في صدورهم، و تشرّبتها نفوسهم، حتى إنك لترى كثيرا منهم و هو من حلولها عندهم محلّ العلم الضروريّ، بحيث إن أومأت له إلى شي ء مما ذكرناه اشمأزّ لك، و سكّ (2) سمعه دونك، و أظهر التعجّب منك. و تلك جريرة ترك النّظر، و أخذ الشي ء من غير معدنه، و من اللّه التوفيق.

فصل [في النظم و الترتيب ]

اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم و أوضاع لغة، و لكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلم. و ذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص، فهي تتناول الشي ء من الجهة التي تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت: «غلام زيد»، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة التي تختصّ منها بزيد، و هي كونه مملوكا.

ص: 234


1- البيت: لعبيد اللّه بن قيس الرقيات (الديوان 91) و تقدم ذكره.
2- سكّ: سدّ. اه القاموس/ سكّ/ 1217.

و إذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختصّ منها الشّعر بقائله.

و إذا نظرنا وجدناه يختصّ به من جهة توخّيه في معاني الكلم التي ألّفه منها، ما توخّاه من معاني النّحو، و رأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص، و رأينا حالها معه حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الدّيباج، و حال الفضّة و الذهب مع من يصوغ منهما الحليّ. فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسم، و الحليّ بصائغها من حيث الفضّة و الذهب، و لكن من جهة العمل و الصّنعة، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أنّ الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلم و أوضاع اللغة.

و تزداد تبيّنا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت: «امرؤ القيس قائل هذا الشعر»، من أين جعلته قائلا له؟ أ من حيث نطق بالكلم و سمعت ألفاظها من فيه، أم من حيث صنع في معانيها ما صنع، و توخّى فيها ما توخّى؟ فإن زعمت أنّك جعلته قائلا له من حيث أنه نطق بالكلم و سمعت ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص، فاجعل راوي الشعر قائلا له، فإنه ينطق بها و يخرجها من فيه على الهيئة و الصّورة التي نطق بها الشاعر، و ذلك ما لا سبيل لك إليه.

فإن قلت: إنّ الراوي و إن كان قد نطق بألفاظ الشّعر على الهيئة و الصّورة التي نطق بها الشاعر، فإنه هو لم يبتدئ فيها النّسق و الترتيب، و إنما ذلك شي ء ابتدأه الشاعر، فلذلك جعلته القائل له دون الرّاوي.

قيل لك: خبّرنا عنك، أ ترى أنه يتصوّر أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله: [من الطويل ]قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل (1) هذا الترتيب، من غير أن يتوخّى في معانيها ما تعلم أنّ امرأ القيس توخّاه من كون «نبك» جوابا للأمر، و كون «من» معدّية له إلى «ذكرى»، و كون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، و كون «منزل» معطوفا على «حبيب»، أم ذلك محال؟.

ص: 235


1- البيت لامرئ القيس في ديوانه (110)، و هو مطلع معلقته الشهيرة، و تمامه: بسقط اللوى بين الدخول فحومل سقط اللوى: منقطع الرمل، و الدخول و حومل قيل: إنهما موضعان في شرق اليمامة.

فإن شككت في استحالته لم تكلّم. و إن قلت: نعم، هو محال.

قيل لك: فإذا كان محالا أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو، كان قولك: «إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيبا»، قولا بما لا يتحصّل.

و جملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شي ء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة و صفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم، و لم يؤخّر ما أخّر، و بدئ بالذي ثنّي به، أو ثنّي بالذي ثلّث به، لم تحصل لك تلك الصورة و تلك الصّفة. و إذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة و الصّفة: أ في الألفاظ يحصل له ذلك، أم في معاني الألفاظ؟ و ليس في الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر، أن ليس ذلك في الألفاظ، و إنما الذي يتصوّر أن يكون مقصودا في الألفاظ هو «الوزن»، و ليس هو من كلامنا في شي ء، لأنّا نحن فيما لا يكون الكلام كلاما إلّا به، و ليس للوزن مدخل في ذلك.

فصل [في ربط اللفظ بالمعنى

و اعلم أني على طول ما أعدت و أبدأت، و قلت و شرحت، في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث «اللفظ»، لربّما ظننت أني لم أصنع شيئا، و ذاك أنك ترى الناس كأنّه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده، على التقليد البحت، و على التوهّم و التخيّل، و إطلاق اللّفظ من غير معرفة بالمعنى، قد صار ذاك الدّأب و الدّيدن، و استحكم الداء منه الاستحكام الشديد. و هذا الذي بيّناه و أوضحناه، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم و بين أن يعرفوه، و كأنّك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم، و تتكرّهه نفوسهم، و حتى كأنّه كلّما كان الأمر أبين، كانوا عن العلم به أبعد، و في توهّم خلافه أقعد، و ذاك لأن الاعتقاد الأوّل قد نشب في قلوبهم، و تأشّب (1) فيها، و دخل بعروقه في نواحيها، و صار كالنبات السّوء الذي كلما قلعته عاد فنبت.

و الذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوهم يفردون «اللفظ» عن «المعنى»، و يجعلون له حسنا على حدة، و رأوهم قد قسّموا الشّعر فقالوا: «إنّ منه ما حسن

ص: 236


1- تأشب: أشب الشجر: التف. القاموس مادة/ أشب/ (75).

لفظه و معناه، و منه ما حسن لفظه دون معناه، و منه ما حسن معناه دون لفظه»، و رأوهم يصفون «اللّفظ» بأوصاف لا يصفون بها «المعنى»، ظنّوا أنّ للّفظ، من حيث هو لفظ حسنا و مزيّة و نبلا و شرفا، و أن الأوصاف التي نحلوه إيّاها هي أوصافه على الصّحّة، و ذهبوا عمّا قدّمنا شرحه من أنّ لهم في ذلك رأيا و تدبيرا، و هو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض، و بين الصّورة التي يخرج فيها، فنسبوا ما كان من الحسن و المزيّة في صورة المعنى إلى «اللفظ»، و وصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له، كقولهم: «إنّه حلي المعنى، و إنه كالوشي عليه، و إنه قد كسب المعنى دلّا (1) و شكلا (2)، و إنه رشيق أنيق، و إنه متمكّن، و إنّه على قدر المعنى لا فاضل و لا مقصّر»، إلى أشباه ذلك مما لا يشكّ أنّه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ و صدى صوت، إلّا أنّهم كأنهم رأوا بسلا (3) حراما أن يكون لهم في ذلك فكر و رويّة، و أن يميّزوا فيه قبيلا من دبير.

و ممّا الصّفة فيه للمعنى، و إن جرى في ظاهر المعاملة على «اللّفظ»، إلا أنه يبعد عند الناس كلّ البعد أن يكون الأمر فيه كذلك، و أن لا يكون من صفة «اللفظ» بالصّحة و الحقيقة و صفنا اللّفظ بأنه «مجاز».

و ذاك أنّ العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين «الحقيقة» و «المجاز»: إنّ «الحقيقة»، أن يقرّ اللفظ على أصله في اللغة، و «المجاز»، أن يزال عن موضعه، و يستعمل في غير ما وضع له، فيقال: «أسد» و يراد «شجاع»، و «بحر» و يراد جواد.

و هو و إن كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصّة فيه كالعامّة، فإنّ الأمر بعد على خلافه. و ذاك أنّا إذا حقّقنا، لم نجد لفظ «أسد» قد استعمل على القطع و البتّ في غير ما وضع له. ذاك لأنه لم يجعل في معنى «شجاع» على الإطلاق، و لكن جعل الرجل بشجاعته أسدا. فالتجوّز في أن ادّعيت للرجل أنّه في معنى الأسد، و أنه كأنه هو في قوّة قلبه و شدة بطشه، و في أن الخوف لا يخامره، و الذّعر لا يعرض له. و هذا إن أنت حصّلت، تجوّز منك في معنى اللفظ لا اللفظ، و إنما يكون اللّفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه، و منقولا عمّا وضع له، أن لو كنت تجد عاقلا يقول: «هو أسد»، و هو لا يضمر في نفسه تشبيها له بالأسد، و لا يريد إلّا ما يريده إذا قال: «هو شجاع». و ذلك ما لا يشكّ في بطلانه. ).

ص: 237


1- الدل: دل المرأة و دلالها التغنج. القاموس مادة/ دلل/ (1292)
2- الشكل: بالكسر و الفتح غنج المرأة و دلها و غزلها. القاموس مادة/ شكل/ (1318).
3- البسل: الحرام و الحلال (ضد). القاموس مادة/ بسل/ (1248).

و ليس العجب إلّا أنهم لا يذكرون شيئا من «المجاز» إلّا قالوا: «إنه أبلغ من الحقيقة». فليت شعري، إن كان لفظ «أسد» قد نقل عمّا وضع له في اللغة، و أزيل عنه، و جعل يراد به «الشجاع» هكذا غفلا ساذجا، فمن أين يجب أن يكون قولنا:

«أسد»، أبلغ من قولنا «شجاع»؟.

و هكذا الحكم في «الاستعارة»، هي، و إن كانت في ظاهر المعاملة من صفة «اللفظ»، و كنا نقول: «هذه لفظة مستعارة» و «قد استعير له اسم الأسد» فإنّ مآل الأمر إلى أنّ القصد بها إلى المعنى.

يدلّك على ذلك أنا نقول: «جعله أسدا» و «جعله بدرا»، و «جعله بحرا»، فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى، لم يكن لهذا الكلام وجه، لأن «جعل» لا تصلح إلّا حيث يراد إثبات صفة للشي ء، كقولنا: «جعلته أميرا» و «جعلته واحد دهره»، تريد أثبتّ له ذلك. و حكم «جعل» إذا تعدّى إلى مفعولين حكم «صيّر»، فكما لا تقول:

«صيرته أميرا»، إلا على معنى أنّك أثبتّ له صفة الإمارة، كذلك لا يصحّ أن تقول:

«جعلته أسدا»، إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد و لا يقال: «جعلته زيدا»، بمعنى «سمّيته زيدا»، و لا يقال للرجل: «اجعل ابنك زيدا» بمعنى: «سمّه زيدا» و «ولد لفلان ابن فجعله زيدا»، و إنّما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصّل.

فأمّا قوله تعالى: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف:

19]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، و ذلك أن المعنى على أنّهم أثبتوا للملائكة صفة «الإناث»، و اعتقدوا وجودها فيهم. و عن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم، أعني إطلاق اسم «البنات»، و ليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ «الإناث» أو لفظ «البنات» اسما من غير اعتقاد معنى و إثبات صفة. هذا محال لا يقوله له عاقل. أما تسمع قول اللّه تعالى: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]؟ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة و لم يعتقدوا إثبات صفة و معنى بإجرائه عليهم، فأيّ معنى لأن يقال: «أشهدوا خلقهم»؟ هذا، و لو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، و لم يزيدوا على أن وضعوا اسما، لما استحقّوا إلا اليسير من الذمّ، و لما كان هذا القول منهم كفرا. و الأمر في ذلك أظهر من أن يخفى.

و جملة الأمر أنه إن قيل: «إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط، و من قبيح التورّط، و من الذهاب مع الظّنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا

ص: 238

الشأن»، ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب. و هل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول اللّه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] و يؤمنون به، و يدينون بأن القرآن معجز، ثم يصدّون بأوجههم عن برهان الإعجاز و دليله، و يسلكون غير سبيله؟ و لقد جنوا، لو دروا ذاك، عظيما.

[فصل: غلط الناس في معنى الحقيقة و المجاز.]

و اعلم أنه و إن كانت الصّورة في الذي أعدنا و أبدأنا فيه من أنّه لا معنى للنّظم غير توخّي معاني النّحو فيما بين الكلم، قد بلغت في الوضوح و الظهور و الانكشاف إلى أقصى الغاية، و إلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلّف لما لا يحتاج إليه، فإنّ النفس تنازع إلى تتبّع كلّ ضرب من الشّبهة يرى أنه يعرض للمسلّم نفسه عند اعتراض الشك.

و إنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنّه يجري في القياس و ضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض، بضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، و رأى أنّ الذي ينسج الدّيباج و يعمل النّقش و الوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه، شيئا غير أن يضمّ بعضه إلى بعض، و يتخيّر للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش و الصورة جرى (1) في ظنّه أن حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض، و في تخيّر المواقع لها، حال خيوط الإبريسم سواء، و رأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضّم فيها ضمّا، و لا الموقع موقعا، حتى يكون قد توخّي فيها معاني النحو، و أنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخّى فيها معاني النحو، لم تكن صنعت شيئا تدعى به مؤلّفا، و تشبّه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا، و لم يتصوّر أن تكون قد تخيّرت لها المواقع.

و فساد هذا و شبهه من الظّنّ، و إن كان معلوما ظاهرا، فإنّ هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة، و هو أنه يتصوّر أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصّورة التي أرادها الناظم له و يفسدها عليه، من غير أن يحوّل منه لفظا عن موضعه، أو يبدله بغيره، أو يغيّر شيئا من ظاهر أمره على حال.

ص: 239


1- السياق: و إنا لنرى في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس .... و رأى أن الذي ينسج الديباج .... جرى في ظنه ...».

مثال ذلك: أنك إن قدّرت في بيت أبي تمام: [من الطويل ]

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه و أري الجنى اشتارته أيد عواسل (1)

أنّ «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» خبر، كما يوهمه الظاهر، أفسدت عليه كلامه، و أبطلت الصّورة التي أرادها فيه. و ذلك أنّ الغرض أن يشبّه مداد قلمه بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، و كذلك الغرض أن يشبّه مداده بأري الجنى، على معنى أنه إذا كتب في العطايا و الصّلات أوصل به إلى النّفوس ما تحلو مذاقته عندها، و أدخل السّرور و اللّذة عليها. و هذا المعنى إنّما يكون إذا كان «لعابه» مبتدأ، و «لعاب الأفاعي» خبرا. فأمّا تقديرك أن يكون «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه»، خبرا فيبطل ذلك و يمنع منه البتّة، و يخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمّام، و هو أن يكون أراد أن يشبّه «لعاب الأفاعي» بالمداد، و يشبّه كذلك «الأري» به.

فلو كان حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم، لكان ينبغي أن لا تتغيّر الصّورة الحاصلة من نظم كلم، حتّى تزال عن مواقعها كما لا تتغير الصّورة الحادثة عن ضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، حتّى تزال الخيوط عن مواضعها.

و اعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله: «لعاب الأفاعي القاتلات لعابه»، سبيل قولهم: «عتابك السّيف». و ذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئا بشي ء، و جامع بينهما في وصف، و ليس المعنى في «عتابك السيف»، على أنك تشبه عتابه بالسيف، و لكن على أن تزعم أنه يجعل «السيف» بدلا من «العتاب».

أ فلا ترى أنه يصحّ أن تقول: «مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي»، و لا يصحّ أن تقول:

«عتابك كالسيف»، اللهم إلّا أن تخرج إلى باب آخر، و شي ء ليس هو غرضهم بهذا الكلام، فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما. ثم إنك إن قلت: «السيف عتابك»، خرجت به إلى معنى ثالث، و هو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه و شدة تأثيره مبلغا صار له السّيف كأنه ليس بسيف. ).

ص: 240


1- البيت في ديوانه (242) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، من قصيدة يمدح فيها محمدا بن عبد الملك الزيات، و مطلعها: متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل و قلبك منها مدّة الدهر آهل تطل الطلول الدمع في كل موقف و تمثل بالصبر الديار المواثل و البيت أورده السكاكي في المفتاح (316)، و القزويني في الإيضاح (84)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (59)، و عزاه لأبي تمام، و لطائف التبيان (64)، و شرح الصولي (2/ 333).

و اعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني و الألفاظ إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه، ظنّ لذلك أنّ المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها. فإنّ هذا الذي بيّنّاه يريه فساد هذا الظنّ. و ذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها، لكان محالا أن تتغيّر المعاني و الألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها. فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر الألفاظ و تزول عن إمكانها، علمنا أن الألفاظ هي التابعة، و المعاني هي المتبوعة.

و اعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ و خبرا، ثم يقدّم الذي هو الخبر، إلّا أشكل الأمر عليك فيه، فلم تعلم أن المقدّم خبر، حتى ترجع إلى المعنى و تحسن التدبّر.

أنشد الشّيخ أبو علي في «التّذكرة» (1): [من الخفيف نم و إن لم أنم كراي كراكا (2) ثم قال: «ينبغي أن يكون «كراي» خبرا مقدّما، و يكون الأصل: «كراك كراي»، أي نم، و إن لم أنم فنومك نومي، كما تقول: «قم، و إن جلست، فقيامك قيامي، هذا هو عرف الاستعمال في نحوه» ثم قال: «و إذا كان كذلك، فقد قدّم الخبر و هو معرفة، و هو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا» قال: «فهو كبيت الحماسة:

[من الطويل ]

بنونا بنو أبنائنا، و بناتنا بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

فقدّم خبر المبتدأ و هو معرفة، و إنّما دلّ على أنه ينوي التأخير المعنى، و لو لا ذلك لكانت المعرفة، إذا قدّمت، هي المبتدأ لتقدّمها، فافهم ذلك». هذا كلّه لفظه.

و اعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضّرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير ا

ص: 241


1- و هو للإمام الحسن بن أحمد الفارسي، و هو كبير من مجلدات لخصه ابن جني. كشف الظنون (1/ 384).
2- صدر بيت لأبي تمام في ديوانه (461)، و بعده: طال صبري تفديك نفسي و قلّت نفس مثلي عن أن تكون فداكا و رواية الديوان: نم فإن لم أنم كراي كراكا شاهدي منك أن ذاك كذاكا

أن تغيّر من لفظه شيئا، أو تحوّل كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، و هو الذي وسّع مجال التأويل و التفسير، حتى صاروا يتأوّلون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، و يفسّرون البيت الواحد عدّة تفاسير. و هو، على ذاك، الطريق المزلّة الّذي ورّط كثيرا من الناس في الهلكة، و هو مما يعلم به العاقل شدّة الحاجة إلى هذا العلم، و يكشف معه عوار الجاهل به، و يفتضح عنده المظهر الغنى عنه. ذاك لأنه قد يدفع إلى الشي ء لا يصحّ إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر، ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم، فيتسكّع عند ذلك في العمى، و يقع في الضلال.

مثال ذلك أنّ من نظر إلى قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110]، ثمّ لم يعلم أن ليس المعنى في «ادعوا» الدّعاء، و لكن الذّكر بالاسم، كقولك: «هو يدعى زيدا» و «يدعى الأمير»، و أنّ في الكلام محذوفا، و أن التقدير: قل ادعوه اللّه، أو ادعوه الرحمن، أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشّرك، من حيث أنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره، خرج ذلك به، و العياذ باللّه تعالى، إلى إثبات مدعوّين، تعالى اللّه عن أن يكون له شريك. و ذلك من حيث كان محالا أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شي ء واحد، فتعطف أحدهم على الآخر، فتقول مثلا: «ادع لي زيدا أو الأمير»، و «الأمير» هو زيد. و كذلك محال أن تقول: «أيّا ما تدعوا» و ليس هناك إلا مدعوّ واحد، لأن من شأن «أيّ» أن تكون أبدا واحدا من اثنين أو جماعة، و من ثمّ لم يكن له بدّ من الإضافة، إمّا لفظا و إمّا تقديرا.

و هذا باب واسع. و من المشكل فيه قراءة من قرأ: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]، بغير تنوين. و ذلك أنهم قد حملوها على وجهين:

أحدهما: أن يكون القارئ له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين، و لم يحرّكه، كقراءة من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1- 2]، بترك التنوين من «أحد»، و كما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ: وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40]، بالنصب، فقيل له: ما تريد؟ فقال: أريد سابق النّهار. قيل:

فهلّا قلته؟ فقال: فلو قلته لكان أوزن و كما جاء في الشعر من قوله: [من المتقارب

فألفيته غير مستعتب و لا ذاكر اللّه إلّا قليلا (1) ).

ص: 242


1- هو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، و الأغاني (11/ 17)، و البيت في كتاب سيبويه (1/ 85).

إلى نظائر ذلك، فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الأخرى، سواء.

و الوجه الثاني: أن يكون الابن صفة، و يكون التنوين قد سقط على حدّ سقوطه في قولنا: «جاءني زيد بن عمرو»، و يكون في الكلام محذوف. ثم اختلفوا في المحذوف، فمنهم من جعله مبتدأ فقدّر: «و قالت اليهود هو عزيز بن اللّه» و منهم من جعله خبرا فقدّر؟ «و قالت اليهود عزيز بن اللّه معبودنا».

و في هذا أمر عظيم، و ذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاما أنت تريد أن تكذّبه فيه، فإنّ التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبرا، دون ما كان صفة.

تفسير هذا: أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال: «زيد بن عمرو سيّد»، ثم كذّبته فيه، لم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو، و لكن أن يكون سيّدا.

و كذلك إذا قال: «زيد الفقيه قد قدم»، فقلت له: «كذبت» أو «غلطت». لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيها، و لكن أن يكون قد قدم. هذا ما لا شبهة فيه، و ذلك أنّك إذا كذّبت قائلا في كلام أو صدّقته، فإنما ينصرف التكذيب منك و التصديق إلى إثباته و نفيه، و الإثبات و النّفي يتناولان الخبر دون الصّفة. يدلّك على ذلك أنك تجد الصّفة ثابتة في حال النفي، كثبوتها في حال الإثبات. فإذا قلت: «ما جاءني زيد الظّريف»، كان «الظرف» ثابتا لزيد كثبوته إذا قلت: «جاءني زيد الظّريف» و ذلك أن ليس ثبوت الصّفة للذي هي صفة له، بالمتكلّم و بإثباته لها فتنتفي بنفيه، و إنما ثبوتها بنفسها، و بتقرّر الوجود فيها عند المخاطب، مثله عند المتكلم، لأنّه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة، كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللّبس على المخاطب.

تفسير ذلك: أنّك إذا قلت: «جاءني زيد الظريف»، فإنّك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظّريف، إذا كان فيمن يجي ء إليك واحد آخر يسمى «زيدا»، فأنت تخشى إن قلت: «جاءني زيد» و لم تقل «الظريف»، أن يلتبس على المخاطب فلا يدري أ هذا عنيت أم ذاك؟ و إذا كان الغرض من ذكر الصّفة إزالة اللّبس و التبيين، كان محالا أن تكون غير معلومة عند المخاطب، و غير ثابتة، لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشّي ء للمخاطب بوصف هو لا يعلمه في ذلك الشي ء. و ذلك ما لا غاية وراءه في الفساد.

و إذا كان الأمر كذلك، كان جعل «الابن» صفة في الآية، مؤدّيا إلى الأمر العظيم،

ص: 243

و هو إخراجه عن موضع النّفي و الإنكار، إلى موضع الثّبوت و الاستقرار، جلّ اللّه و تعالى عن شبه المخلوقين، و عن جميع ما يقول الظالمون، علوّا كبيرا.

فإن قيل: إنّ هذه قراءة معروفة، و القول بجواز الوصفية في «الابن» كذلك معروف و مدوّن في الكتب، و ذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلا يدخل به «الابن» في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه.

قيل: إن القراءة كما ذكرت معروفة، و القول بجواز أن يكون «الابن» صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت، و لكنّ الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق لحق الخبر دون الصفة ليس بالشي ء الذي يعترض فيه شكّ أو تتسلّط عليه شبهة. فليس يتّجه أن يكون «الابن» صفة ثمّ يلحقه الإنكار مع ذلك، إلّا على تأويل غامض، و هو أن يقال: إن الغرض الدّلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم و رسوخهم في هذا الشّرك، أنهم كانوا يذكرون «عزيرا» هذا الذكر، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم و غلوا في تعظيمه: «إنّي أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما، فهم يقولون أبدا: زيد الأمير»، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه، إلّا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه، إذا أنت لم تقدّر له خبرا معيّنا، و لكن تريد أنّهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا.

و ممّا هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]. و ذلك أنّهم قد ذهبوا في رفع «ثلاثة» إلى أنها خبر مبتدأ محذوف، و قالوا: إن التقدير: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة». و ليس ذلك بمستقيم.

و ذلك أنا إذا قلنا: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كان ذلك، و العياذ باللّه، شبه الإثبات أنّ هاهنا آلهة، من حيث أنك إذا نفيت، فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ، و لا تنفي معنى المبتدأ، فإذا قلت: «ما زيد منطلقا»، كنت نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد، و لم تنف معنى زيد و لم توجب عدمه. و إذا كان ذلك كذلك، فإذا قلنا: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كنا قد نفينا أن تكون عدّة الآلهة ثلاثة، و لم ننف أن تكون آلهة، جلّ اللّه تعالى عن الشّريك و النّظير كما أنك إذا قلت:

«ليس أمراؤنا ثلاثة»، كنت قد نفيت أن تكون عدّة الأمراء ثلاثة، و لم تنف أن يكون لكم أمراء. هذا ما لا شبهة فيه. و إذا أدّى هذا التقدير إلى هذا الفساد، وجب أن يعدل عنه إلى غيره.

و الوجه، و اللّه أعلم، أن تكون «ثلاثة» صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ، و يكون

ص: 244

التقدير: «و لا تقولوا لنا آلهة ثلاثة- أو: في الوجود آلهة ثلاثة»، ثم حذف الخبر الذي هو «لنا» أو «في الوجود» كما حذف من: «لا إله إلا اللّه» و ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62]، فبقي «و لا تقول آلهة ثلاثة»، ثم حذف الموصوف الذي هو «آلهة»، فبقي: «و لا تقولوا ثلاثة». و ليس في حذف ما قدّرنا حذفه ما يتوقّف في صحّته. أما حذف الخبر الذي قلنا أنه «لنا» أو «في الوجود»، فمطّرد في كلّ ما معناه التّوحيد، و نفي أن يكون مع اللّه، تعالى عن ذلك، إله.

و أمّا حذف الموصوف بالعدد، فكذلك شائع، و ذلك أنه كما يسوغ أن تقول:

«عندي ثلاثة»، و أنت تريد «ثلاثة أثواب»، ثم تحذف، لعلمك أن السامع يعلم ما تريد، كذلك يسوغ أن تقول: «عندي ثلاثة»، و أنت تريد «أثواب ثلاثة، لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميّزا، و بين أن تجعله موصوفا بالعدد، في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد.

يبيّن ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره، ثم لا تستطيع أن تقدّره إلا موصوفا، و ذلك في قولك: «عندي اثنان»، و «عندي واحد»، يكون المحذوف هاهنا موصوفا لا محالة، نحو: «عندي رجلان اثنان» و «عندي درهم واحد»، و لا يكون مميّزا البتّة، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة «الواحد» و «الاثنين» إلى الجنس، فتركوا أن يقولوا: «واحد رجال» و «اثنا رجال» على حدّ «ثلاثة رجال»، و لذلك كان قول الشاعر: [من الرجز] ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (1) شاذّا. هذا، و لا يمتنع أن يجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف، فيجعل التّقدير: «و لا تقولوا ثلاثة آلهة»، ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى، و يكون المعنى، و اللّه أعلم، «و لا تقولوا لنا ثلاثة آلهة، أو في الوجود ثلاثة آلهة».

فإن قلت: فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدّر: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»؟.

فذاك لأنّا إذا جعلنا التّقدير: «و لا تقولوا لنا، أو: في الوجود، آلهة ثلاثة، أو

ص: 245


1- الرجز: لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية (خزانة الأدب 7/ 400، 404)، و غير منسوب في (شرح الحماسة للتبريزي 4/ 166). و رواية أبي تمام في الحماسة: «سحق جراب فيه ثنتا حنظل». فذاك: جواب السؤال.

ثلاثة آلهة»، كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة، كما نفيناه في «لا إله إلا اللّه»، و ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 62] و إذا زعموا أن التقدير «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة، و لم ينفوا وجود الآلهة.

فإن قيل: فإنه يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر، و ذاك أنه يجوز إذا قلت:

«ليس لنا أمراء ثلاثة»، أن يكون المعنى: ليس لنا أمراء ثلاثة، و لكن لنا أميران اثنان.

و إذا كان كذلك: كان تقديرك و تقديرهم جميعا خطأ.

قيل: إنّ هاهنا أمرا قد أغفلته، و هو أن قولهم «آلهتنا»، يوجب ثبوت آلهة، جلّ اللّه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. و قولنا: «ليس لنا آلهة ثلاثة»، لا يوجب ثبوت اثنين البتّة.

فإن قلت: إن كان لا يوجبه، فإنه لا ينفيه.

قيل: ينفيه ما بعده من قوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: 171].

فإن قيل: فإنه كما ينفي الإلهين، كذلك ينفي الآلهة. و إذا كان كذلك، وجب أن يكون تقديرهم صحيحا كتقديرك.

قيل: هو كما قلت ينفي الآلهة، و لكنهم إذا زعموا أن التقدير: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، و كان ذلك- و العياذ باللّه من الشّرك- يقتضي إثبات آلهة، كانوا قد دفعوا هذا النّفي و خالفوه و أخرجوه إلى المناقضة. فإذا كان كذلك، كان محالا أن يكون للصّحّة سبيل إلى ما قالوه. و ليس كذلك الحال فيما قدّرناه، لأننا لم نقدّر شيئا يقتضي إثبات إليهن، تعالى اللّه، حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما.

يبيّن لك ذلك: أنّه يصحّ لنا أن نتبع ما قدّرناه نفي الاثنين، و لا يصحّ لهم.

تفسير ذلك: أنه يصح أن تقول: «و لا تقولوا لنا آلهة ثلاثة و لا إلهان»، لأن ذلك يجري مجرى أن تقول: «ليس لنا آلهة ثلاثة و لا إلهان»، و هذا صحيح و لا يصحّ لهم أن يقولوا: «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة و لا إلهان»، لأنّ ذلك يجري مجرى أن يقولوا:

«و لا تقولوا آلهتنا إلهان». و ذلك فاسد، فاعرفه و أحسن تأمّله.

ثم إن هاهنا طريقا آخر، و هو أن تقدّر: «و لا تقولوا اللّه و المسيح و أمّه ثلاثة»، أي نعبدهما كما نعبد اللّه.

ص: 246

يبين ذلك قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:

73] و قد استقرّ في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف، و أن يجعلوهما شبيهين له، قالوا: «هم ثلاثة»، كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر و جعله في معناه: «هما اثنان»، و على هذا السبيل كأنهم يقولون:

«هم يعدّون معدّا واحدا»، و يوجب لهم التساوي و التّشارك في الصفة و الرّتبة، و ما شاكل ذلك.

و اعلم أنه لا معنى لأن يقال: إنّ القول حكاية، و أنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة، لأنه يجري مجرى أن تقول: «إنّ من دين الكفّار أن يقولوا: الآلهة ثلاثة»، و ذلك لأن الخطاب في الآية للنّصارى أنفسهم. أ لا ترى إلى قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]. و إذا كان الخطاب للنصارى، كان تقدير الحكاية محالا، «فلا تقولوا» إذن في معنى: «لا تعتقدوا»، و إذا كان في معنى الاعتقاد، لزم إذا قدر «و لا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، ما قلنا إنّه يلزم من إثبات الآلهة. و ذلك لأنّ الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه. فإذا قلت: «لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة»، كنت نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدّة، لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء. هذا ما لا يشكّ فيه عاقل. و إنما يكون النّهي عن ذلك إذا قلت: «لا تعتقد أن هاهنا أمراء»، لأنك حينئذ تصير كأنك قلت: لا تعتقد وجود أمراء.

هذا، و لو كان الخطاب مع المؤمنين، لكان تقدير الحكاية لا يصحّ أيضا. ذاك لأنه لا يجوز أن يقال: «إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم، و يخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت و كيت»، كيف؟ و قد قال اللّه تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]؟ و من أين يصحّ النهي عن حكاية قول المبطل، و في ترك حكايته ترك له و كفره، و امتناع من النّعي عليه، و الإنكار لقوله، و الاحتجاج عليه، و إقامة الدّليل على بطلانه، لأنه لا سبيل إلى شي ء من ذلك إلّا من بعد حكاية القول و الإفصاح به، فاعرفه.

ص: 247

[تنبيه ]

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به النّاس تبصيرا أنّهم في عمياء من أمرهم حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه، يفرغوا خواطرهم لتأمّل ما استخرجناه، و أنّهم- ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك، و لم يجرّدوا عناياتهم له- في غرور، كمن يعد نفسه الرّيّ من السّراب اللامع، و يخادعها بأكاذيب المطامع.

يقال لهم: إنكم تتلون قول اللّه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88]، و قوله عزّ و جلّ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13]، و قوله: بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]، فقولوا الآن: أ يجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيّه صلى اللّه عليه و سلّم بأن يتحدّى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف، كانوا قد أتوا بمثله؟.

و لا بدّ من «لا»، لأنهم إن قالوا: «يجوز»، أبطلوا التحدّي، من حيث أن التّحدّي، كما لا يخفى، مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف، و لا تصحّ المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب، و يبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا. و ذلك لأنه لا يتصوّر أن يقال: «إنّه كان عجز، حتى يثبت معجوز عنه معلوم. فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له: «قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي»، و هو لا يشير له إلى وصف يعلمه في فعله، و يراه قد وقع عليه. أ فلا ترى أنه لو قال رجل لآخر: «إنّي قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها»، لم تتّجه له عليه حجّة، و لم يثبت به أنّه قد أتى بما يعجزه، إلا من بعد أن يريه الخاتم، و يشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصّنعة، لأنه لا يصحّ وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شي ء، حتى يريد ذلك الشي ء و يقصد إليه، ثم لا يتأتّى له. و ليس يتصوّر أن يقصد إلى شي ء لا يعلمه، و أن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة و لا تفصيل.

ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن، و أمرا لم يوجد في غيره، و لم يعرف قبل نزوله. و إذا كان كذلك، فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في «الكلم المفردة»، لأن تقدير كونه فيها يؤدّي إلى المحال، و هو أن تكون

ص: 248

الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، قد حدث في مذاقة حروفها و أصدائها أوصاف لم تكن، لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، و تكون قد اختصّت في أنفسها بهيئات و صفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوّة في القرآن، لا يجدون لها تلك الهيئات و الصفات خارج القرآن.

و لا يجوز أن تكون في «معاني الكلم المفردة»، التي هي لها بوضع اللغة، لأنّه يؤدي إلى أن يكون قد تجدّد في معنى «الحمد» و «الرب»، و معنى «العالمين» و «الملك» و «اليوم» و «الدين»، و هكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن. و هذا ما لو كان هاهنا شي ء أبعد من المحال و أشنع لكان إيّاه.

و لا يجوز أن يكون هذا الوصف في «ترتيب الحركات و السّكنات»، حتى كأنهم تحدّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة كلمات القرآن، و حتّى كأنّ الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض، لأنّه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في: «إنا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربّك و جاهر»، «و الطاحنات طحنا».

و كذلك الحكم إن زعم زاعم «أن الوصف الذي تحدّوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع، و فواصل، كالذي تراه في القرآن»، لأنّه أيضا ليس بأكثر من التّعويل على مراعاة وزن. و إنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشّعر، و قد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدّي إلّا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك، و لم يتعذّر عليهم. و قد خيّل إلى بعضهم- إن كان الحكاية صحيحة- شي ء من هذا، حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي، مثل «يعلمون» و «يؤمنون» و أشباه ذلك.

و لا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان.

و جملة الأمر أنه لن يعرض هذا و شبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشّأن، أو للخذلان، أو لشهوة الإغراب في القول. و من هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أنّ البرهان الذي بان لهم، و الأمر الذي بهرهم، و الهيبة التي ملأت صدورهم، و الرّوعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا: إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أسفله لمعذق، و إنّ أعلاه لمثمر» (1)، إنّما كان لشي ء راعهم من مواقع ).

ص: 249


1- ذكرها في (سيرة ابن هشام) ... و أن الوليد بن المغيرة قال: «إن لقوله حلاوة، و إن أصله لعذق، و إن فرعه لجناة» هذه رواية ابن إسحاق. أما ابن هشام فرواه: إن أصله لغدق» انظر النهاية في غريب الحديث (3/ 137) و انظر الخبر مفصلا في سيرة ابن هشام (1/ 216).

حركاته، و من ترتيب بينها و بين سكناته؟ أم لفواصل في أواخر آياته؟ من أين تليق هذه الصّفة و هذا التشبيه بذلك؟.

أم ترى أنّ ابن مسعود حين قال في صفة القرآن: «لا يتفه و لا يتشانّ» (1)، و قال: «إذا وقعت في آل حم، وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ» (2)، أي أتتبّع محاسنهن، قال ذلك من أجل أوزان الكلمات، و من أجل الفواصل في أواخر الآيات؟.

أم ترى أنهم لذلك قالوا: «لا تفنى عجائبه، و لا يخلق على كثرة الرّدّ».

أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة: «و لو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم و بلغائهم سورة واحدة، لتبيّن له في نظامها و مخرجها، من لفظها و طابعها أنه عاجز عن مثلها، لو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها»، لغا و لغط فليس كلامه (3) هذا مما ذهبوا إليه في شي ء.

و ينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي و بين ما قاله الناس في معناها، كموازنتهم بين: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، و بين: «قتل البعض إحياء للجميع»، خطأ منهم، لأنا لا نعلم لحديث التّحريك و التّسكين و حديث الفاصلة مذهبا في هذه الموازنة، و لا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام و كلام في الفصاحة و البلاغة و دقّة النّظم و زيادة الفائدة، و لو لا أنّ الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا الشأن، و أنّهم بترك النّظر، و إهمال التدبّر و ضعف النّية، و قصر الهمّة، قد طرّقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كلّ محال و كلّ باطل، و جعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظّا من قبولهم، و يبوّءونه مكانا من قلوبهم، لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف، و يعاد و يبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها و تعريف.

ثمّ إن هذه الشّناعات التي تقدّم ذكرها، تلزم أصحاب «الصّرفة» (4) أيضا، و ذاك

ص: 250


1- يتشان: الخبر بهذا اللفظ في غريب الحديث لابن الأثير و هو في مسند أحمد بن حنبل رقم (3845). «إن هذا القرآن لا يختلف و لا يستشنّ و لا يتفه لكثرة الرد» و لا يتشان: لا يبلى.
2- خبر عبد اللّه بن مسعود هذا موجود في تفسير ابن كثير في أول سورة غافر (4/ 75) بدون إسناد، دمثات: جمع دمثة: و هي المحقبة اللينة السهلة المعشبة. لغا و لغط: أتى بكلام لا يعتد به و أصوات مبهمة لا يفهم معناها.
3- كلامه: الضمير هنا يعود على الجاحظ.
4- أصحاب الصرفة أصحاب الضلال.

أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن و عن أن يأتوا بمثله، لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، و صرفت هممهم و خواطرهم عن تأليف كلام مثله، و كان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشي ء قد كان يعلمه، و حيل بينه و بين أمر قد كان يتّسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، و لا يكون منهم ما يدلّ على إكبارهم أمره، و تعجّبهم منه، و على أنّه قد بهرهم، و عظم كل العظم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم و التّعجّب للذي دخل من العجز عليهم، و رأوه من تغيّر حالهم، و من أن حيل بينهم و بين شي ء قد كان عليهم سهلا، و أن سدّ دونه باب كان لهم مفتوحا، أ رأيت لو أن نبيّا قال لقومه: «إنّ آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، و تمنعون كلّكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم»، و كان الأمر كما قال، ممّ يكون تعجّب القوم، أ من وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم؟.

و نعود إلى النّسق فنقول: فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شي ء ممّا عدّدناه، لم يبق إلّا أن يكون في «النّظم»، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا «النظم» و «الاستعارة»، و لا يمكن أن تجعل «الاستعارة» الأصل في الإعجاز و أن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدّي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة، و إذا امتنع ذلك فيها، ثبت أن «النظم»، مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه. و إذا ثبت أنه في «النظم»، و «التأليف»، و كنّا قد علمنا أن ليس «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو و أحكامه فيما بين الكلم، و أنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، و جامعا يجمع شملها و يؤلفها، و يجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو و أحكامه فيها، طلبنا ما كلّ محال دونه، فقد بان و ظهر أنّ المتعاطي القول في «النظم»، و الزاعم أنّه يحاول بيان المزيّة فيه، و هو لا يعرض فيما يعيده و يبديه للقوانين و الأصول التي قدّمنا ذكرها، و لا يسلك إليه المسالك التي نهجناها، في عمياء من أمره، و في غرور من نفسه، و في خداع من الأماني و الأضاليل. ذاك لأنه إذا كان لا يكون «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو و أحكامه فيما بين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزيّة في «النظم»، ثم لا يطلبها في معاني النحو و أحكامه التي «النّظم» عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم.

فإن قيل: قولك «إلا النظم»، يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة و ضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، و ذلك ما لا مساغ له.

ص: 251

قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة و نظائرها فيما هو به معجز. و ذلك لأنّ هذه المعاني التي هي «الاستعارة»، و «الكناية» و «التمثيل»، و سائر ضروب «المجاز» من بعدها من مقتضيات «النظم»، و عنه يحدث و به يكون، لأنه لا يتصوّر أن يدخل شي ء منها في الكلم و هي أفراد لم يتوخّ فيما بينها حكم من أحكام النحو،. فلا يتصوّر أن يكون هاهنا «فعل» أو «اسم» قد دخلته الاستعارة، من دون أن يكون قد ألّف مع غيره، أ فلا ترى أنه إن قدّر في «اشتعل» من قوله تعالى:

وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، أن لا يكون «الرأس»، فاعلا له، و يكون «شيبا» منصوبا عنه على التمييز، لم يتصوّر أن يكون مستعارا؟ و هكذا السبيل في نظائر «الاستعارة»، فاعرف ذلك.

و اعلم أنّ السبب في أن لم يقع النظر منهم موقعه، أنّهم حين قالوا: «نطلب المزية»، ظنوا أن موضعها «اللفظ» بناء على أن «النظم نظم الألفاظ، و أنه يلحقها دون المعاني، و حين ظنّوا أنّ موضعها ذلك و اعتقدوه، وقفوا على «اللفظ»، و جعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شي ء سواه. إلّا أنّهم، على ذاك لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنّوه بحرف، بل لم يتكلّموا بشي ء إلّا كان ذلك نقضا و إبطالا لأن يكون «اللفظ»، من حيث هو لفظ، موضعا للمزية، و إلا رأيتهم قد اعترفوا، من حيث لم يدروا، بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع و مكان تكون فيه، إلّا معاني النحو و أحكامه.

و ذلك أنهم قالوا: «إنّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، و إنّما تظهر بالضّم على طريقة مخصوصة»، فقولهم: «بالضّم»، لا يصح أن يراد به النّطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتّصال يكون بين معنييهما، لأنه لو جاز أن يكون لمجرّد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: «ضحك، خرج» أن يحدث في ضم «خرج» إلى «ضحك» فصاحة! و إذا بطل ذلك، لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة توخّي معنى من معاني النحو فيما بينهما.

و قولهم: «على طريقة مخصوصة»، يوجب ذلك أيضا، و ذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرّد اللّفظ معنى.

و هذا سبيل كلّ ما قالوه، إذا أنت تأمّلته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو و أحكامه من حيث لم يشعروا، ذلك لأنه أمر ضروريّ لا يمكن الخروج منه.

ص: 252

و مما تجدهم يعتمدونه و يرجعون إليه قولهم: «إنّ المعاني لا تتزايد، و إنّما تتزايد الألفاظ»، و هذا كلام إذا تأمّلته لم تجد له معنى يصحّ عليه، غير أن تجعل «تزايد الألفاظ» عبارة عن المزايا التي تحدث من توخّي معاني النحو و أحكامه فيما بين الكلم، لأن التّزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ و نطق لسان، محال.

ثم إنّا نعلم أنّ المزية المطلوبة في هذا الباب، مزيّة فيما طريقه الفكر و النّظر من غير شبهة، و محال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر، و يستعان عليها بالرّويّة، اللّهم إلا أن تريد تأليف النّغم، و ليس ذلك مما نحن فيه بسبيل.

و من هاهنا لم يجز، إذا عدّ الوجوه التي تظهر بها المزيّة، أن يعدّ فيها الإعراب، و ذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلّهم، و ليس هو مما يستنبط بالفكر، و يستعان عليه بالرويّة. فليس أحدهم، بأنّ إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب، و المضاف إليه الجرّ، بأعلم من غيره، و لا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدّة ذهن و قوّة خاطر، إنّما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك، العلم بما يوجب الفاعلية للشي ء إذا كان إيجابها من طريق المجاز، كقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، و كقول الفرزدق: [من الطويل ]سقتها خروق في المسامع (1) و أشباه ذلك، ممّا يجعل الشي ء فيه فاعلا على تأويل يدقّ، و من طريق تلطّف، و ليس يكون هذا علما بالإعراب، و لكن بالوصف الموجب للإعراب.

و من ثمّ لا يجوز لنا أن نعتدّ في شأننا هذا بأن يكون المتكلّم قد استعمل من اللغتين في الشي ء ما يقال «إنه أفصحهما»، أو بأن يكون قد تحفّظ مما تخطئ فيه العامّة، و لا بأن يكون قد استعمل الغريب، لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، و بأنفس الكلم المفردة، و بما طريقه طريق الحفظ، دون ما يستعان عليه بالنّظر، و يوصل إليه بإعمال الفكر. و لئن كانت العامّة و أشباه العامّة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك، فإن من ضعف النّحيزة (2) إخطار مثله في الفكر، و إجراءه في الذّكر، و أنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز، أ ترى أن العرب تحدّوا أن يختاروا الفتح في الميم من «الشّمع»، و الهاء من «النّهر» على الإسكان، و أن يتحفظوا من ).

ص: 253


1- راجع هامش (1) ص (196).
2- النحيزة: أي الطبيعة. اه القاموس مادة/ نحز/ (677).

تخليط العامة في مثل: «هذا يسوى ألفا»، أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشيّ في كلام يعارضون به القرآن؟ كيف و أنت تقرأ السّورة من السّور الطّوال فلا تجد فيها من الغريب شيئا، و تتأمّل ما جمعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه إلا في القليل، إنّما كان غريبا من أجل استعارة هي فيه، كمثل وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، و مثل: خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80]، و مثل: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها، إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16]، و ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ [القمر: 13]، و جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم: 24].

ثم إنّه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريبا، لكان محالا أن يدخل ذلك في الإعجاز، و أن يصحّ التّحدّي به. ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدّي به من أن يتحدّى من له علم بأمثاله من الغريب، أو من لا علم له بذلك.

فلو تحدّي به من يعلم أمثاله، لم يتعذّر عليه أن يعارضه بمثله. أ لا ترى أنه لا يتعذّر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى «الطويل» أن تعارض من يقول: «الشّوقب» (1)، بأن تقول أنت «الشّوذب» (2)، و إذا قال «الأمقّ» (3) أن تقول «الأشقّ» (4)؟ و على هذا السبيل.

و لو تحدّي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب، كان ذلك بمنزلة أن يتحدّى العرب إلى أن يتكلّموا بلسان التّرك.

هذا، و كيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة، و قد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله و تجنّبه؟ أ فلا ترى إلى قول عمر رضي اللّه عنه في زهير: «إنه كان لا يعاظل بين القول، و لا يتتبّع حوشيّ الكلام»؟ فقرن تتبّع «الحوشيّ»، و هو الغريب من غير شبهة إلى «المعاظلة» التي هي التعقيد.

و قال الجاحظ في «كتاب البيان و التّبيين»: «و رأيت النّاس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسان يزيد بن المهلّب إلى الحجّاج: «إنّا لقينا العدوّ فقتلنا طائفة و أسرنا طائفة، و لحقت طائفة بعراعر الأودية و أهضام الغيطان، و بتنا بعرعرة ).

ص: 254


1- الرجل الطويل. القاموس مادة «الشقب» (131).
2- الطويل. القاموس مادة «شذب» (128).
3- الطويل. القاموس «مادة مقق» (193).
4- الطويل: القاموس مادة «شقق» (1159).

الجبل، و بات العدوّ بحضيضه». فقال الحجاج: ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام فقيل له: إن يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه قال: أين ولدت؟ فقال:

بالأهواز. فقال: فأنّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي» (1).

قال: «و رأيتهم يديرون في كتبهم: أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر، فانتهرها مرارا، فقال له يحيى: أن سألتك ثمن شكرها و شبرك، أنشأت تطلّها و تضهلها» (2).

ثم قال: «و إن كانوا إنّما قد رووا هذا الكلام لكي يدلّ على فصاحة و بلاغة، فقد باعده اللّه من صفة البلاغة و الفصاحة (3).

و اعلم أنك كلّما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا، و هو ظنّهم الذي ظنّوه في «اللّفظ»، و جعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلّها أوصافا له في نفسه، و من حيث هو لفظ، و تركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه، و بين ما كانوا قد كسبوه إيّاه من أجل أمر عرض في معناه. و لما كان هذا دأبهم، ثم رأوا الناس و أظهر شي ء عندهم في معنى «الفصاحة»، تقويم الإعراب، و التحفّظ من اللحن، لم يشكّوا أنّه ينبغي أن يعتدّ به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام و كلام في الفصاحة، و ذهب عنهم أن ليس هو من «الفصاحة» التي يعنينا أمرها في شي ء، و أنّ كلامنا في فصاحة تجب للّفظ لا من أجل شي ء يدخل في النطق، و لكن من أجل لطائف تدرك بالفهم، و أنّا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر، من بعد أن يكونا قد برئا من اللّحن، و سلما في ألفاظهما من الخطأ.

و من العجب أنّا إذا نظرنا في الإعراب، وجدنا التفاضل فيه محالا، لأنه لا يتصوّر أن يكون للرفع و النصب في كلام، مزيّة عليهما في كلام آخر، و إنما الذي يتصوّر أن يكون هاهنا: كلامان قد وقع في إعرابهما خلل، ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر، و كلامان قد استمرّ أحدهما على الصّواب و لم يستمرّ الآخر، و لا يكون هذا تفاضلا في الإعراب، و لكن تركا له في شي ء، و استعمالا له في آخر، فاعرف ذلك.

ص: 255


1- البيان و التبيين (377/ 1، 378)، و شرح الجاحظ. عرار الأودية: أسافلها. عرار الجبال: أعاليها. أهضام الغيطان: مداخلها، و الغيطان: جمع «غائط» و هو الحائط ذو الشجر.
2- للجاحظ في البيان و التبيين 1/ 378. و فسر الجاحظ المفردات قالوا: «الضهل»: القليل، و «الشّكر»: الفرج، و الشّبر: النكاح، و «تطلّها»: تذهب بحقها، يقال: دم مطلول، و يقال: «بئر ضهول» أي: قليلة الماء.
3- في البيان 1/ 378. و الفصاحة زيادة من البيان.

و جملة الأمر أنك لا ترى ظنّا هو أنأى بصاحبه عن أن يصحّ له كلام، أو يستمرّ له نظام، أو تثبت له قدم، أو ينطق منه إلّا بالمحال فم، من ظنّهم هذا الذي حام بهم حول «اللفظ»، و جعلهم لا يعدونه، و لا يرون للمزية مكانا دونه.

و اعلم أنه قد يجري في العبارة منّا شي ء، هو يعيد الشّبهة جذعة عليهم، و هو أنه يقع في كلامنا أنّ «الفصاحة» تكون في المعنى دون اللفظ، فإذا سمعوا ذلك قالوا: كيف يكون هذا، و نحن نراها لا تصلح صفة إلا للّفظ، و نراها لا تدخل في صفة المعنى البتّة، لأنا نرى الناس قاطبة يقولون: «هذا لفظ فصيح، و هذه ألفاظ فصيحة»، و لا نرى عاقلا يقول: «هذا معنى فصيح، و هذه معان فصاح». و لو كانت «الفصاحة» تكون في المعنى، لكان ينبغي أن يقال ذاك، كما أنّا لما كان الحسن يكون فيه قيل:

«هذا معنى حسن، و هذه معان حسنة». و هذا شي ء يأخذ من الغرّ مأخذا:

و الجواب عنه أن يقال: إن غرضنا من قولنا: «إن الفصاحة تكون في المعنى»، أنّ المزيّة الّتي من أجلها استحقّ اللفظ الوصف بأنه «فصيح»، هي في المعنى دون اللفظ، لأنّه لو كانت بها المزيّة التي من أجلها يستحقّ اللّفظ الوصف بأنه فصيح، تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللّفظة: «إنها فصيحة»، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال. و معلوم أنّ الأمر بخلاف ذلك، فإنّا نرى اللّفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع، و نراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع و ليس فيها من الفصاحة قليل و لا كثير. و إنما كان كذلك، لأن المزيّة التي من أجلها نصف اللّفظ في شأننا هذا بأنّه فصيح، مزيّة تحدث من بعد أن لا تكون، و تظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم. و هذا شي ء إن أنت طلبته فيما و قد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما، و لم تحدث لها تأليفا، و طلبت محالا. و إذا كان كذلك، وجب أن يعلم قطعا و ضرورة أن تلك المزيّة في المعنى دون اللّفظ.

و عبارة أخرى في هذا بعينه، و هي أن يقال: قد علمنا علما لا تعترض معه شبهة: أن «الفصاحة» فيما نحن فيه، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم دون واضع اللغة.

و إذا كان كذلك، فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو له في اللّغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزيّة يعبّر عنها بالفصاحة؟ و إذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا، و لا أن يحدث فيه وصفا. كيف؟ و هو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، و أبطل أن يكون متكلّما، لأنه لا يكون متكلّما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت عليه.

ص: 256

و إذا ثبت من حاله أنّه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة، و كنّا قد اجتمعنا على أن «الفصاحة» فيما نحن فيه، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم البتة وجب أن نعلم قطعا و ضرورة أنهم و إن كانوا قد جعلوا «الفصاحة» في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ، فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه، و من حيث هو صدى صوت و نطق لسان، و لكنّهم جعلوها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم في المعنى، لأنه إذا كان اتفاقا أنها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم، و لم نره أفاد في اللفظ شيئا، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزيّة أفادها في المعنى.

و جملة الأمر أنّا لا نوجب «الفصاحة» للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، و لكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، و معلّقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة «اشتعل» من قوله تعالى: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، أنّها في أعلى رتبة من الفصاحة، لم توجب تلك «الفصاحة» لها وحدها، و لكن موصولا بها «الرأس» معرّفا بالألف و اللام، و مقرونا إليهما «الشيب» منكّرا منصوبا.

هذا، و إنّما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن يوجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان «استعارة»، فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ، فلا يعرض توهّم ذلك فيه لعاقل أصلا.

أ فلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شي ء، إذا هو نظر إلى قوله عز و جل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: 4]، و إلى إكبار النّاس شأن هذه الآية في الفصاحة، أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول:

«إنّها فصيحة؟» و سبب الفصاحة فيها أمور لا يشكّ عاقل في أنها معنوية:

أولها: أن كانت «على» فيها متعلّقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني.

و الثاني: أن كانت الجملة التي هي «هم العدوّ» بعدها عارية من حرف عطف.

و الثالث: التعريف في «العدوّ» و أن لم يقل: «هم عدوّ».

و لو أنّك علّقت «على» بظاهر، و أدخلت على الجملة التي هي «هم العدوّ» حرف عطف، و أسقطت «الألف و اللام» من «العدوّ» فقلت: «يحسبون كلّ صيحة واقعة عليهم، و هم عدوّ»، لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. و لو أنك أخطرت ببالك أن يكون «عليهم» متعلّقا بنفس «الصيحة»، و يكون حاله معها كحاله إذا قلت: «صحت عليه»، لأخرجته عن أن يكون كلاما، فضلا عن أن يكون فصيحا.

و هذا هو الفيصل لمن عقل.

ص: 257

و من العجيب في هذا، ما روي عن أمير المؤمنين عليّ رضوان اللّه عليه أنه قال: «ما سمعت كلمة عربية من العرب إلّا و سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، و سمعته يقول: «مات حتف أنفه» (1)، و ما سمعتها من عربيّ قبله، لا شبهة في أن وصف اللفظ «بالعربي» في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح. و إذا كان الأمر كذلك، فانظر هل يقع في و هم متوهّم أن يكون رضي اللّه عنه قد جعلها «عربية» من أجل ألفاظها؟ و إذا نظرت لم تشكّ في ذلك.

و اعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكّون فيما قلناه، تجري على ألسنتهم ألفاظ و عبارات لا يصحّ لها معنى سوى توخّي معاني النحو و أحكامه فيما بين معاني الكلم، ثم تراهم لا يعلمون ذلك.

فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتّب في نفسه ما يريد أن يتكلّم به. و إذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك «ضرب» فيجعله خبرا عن «زيد»، و يجعل «الضرب» الذي أخبر بوقوعه منه واقعا على «عمرو» و يجعل «يوم الجمعة» زمانه الذي وقع فيه، و يجعل «التأديب» غرضه الذي فعل «الضرب» من أجله، فيقول: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له». و هذا كما ترى هو توخّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكلم.

و لو أنك فرضت أن لا تتوخّى في «ضرب» أن تجعله خبرا عن «زيد» و في «عمرو» أن تجعله مفعولا به الضرب، و في «يوم الجمعة» أن تجعله زمانا لهذا الضرب، و في «التأديب»، أنه تجعله غرض زيد من فعل الضرب ما تصوّر في عقل، و لا وقع في وهم، أن تكون مرتّبا لهذه الكلم. و إذ قد عرفت ذلك، فهو العبرة في الكلام كله، فمن ظنّ ظنّا يؤدّي إلى خلافه، ظنّ ما يخرج به عن المعقول. و من ذلك إثباتهم التعلّق و الاتصال فيما بين الكلم و صواحبها تارة، و نفيهم لهما أخرى و معلوم علم الضرورة أن لن يتصوّر أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن يعتبر حال

ص: 258


1- الحديث «مات حتف أنفه»: أخرجه أحمد في مسنده (4/ 36) من حديث عبد اللّه بن عتيك بلفظ «سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل اللّه- عز و جل- ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث- الوسطى و السبابة و الإبهام، فجمعهن- و قال: «و أين المجاهدون؟ فخرّ عن دابته، فمات- فقد وقع أجره على اللّه أو لدغته دابة فمات وقع أجره على اللّه أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على اللّه- عز و جل- و اللّه إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، «فمات فقد وقع أجره على اللّه- و من قتل قعصا فقد استوجب المآب». أخرجه البيهقي في سننه (9/ 166)، و الطبراني في الكبير برقم 1778.

معنى هذه مع معنى تلك، و يراعى هناك أمر يصل إحداهما بالأخرى، كمراعاة كون:

«نبك»، جوابا للأمر في قوله: «قفا نبك»، و كيف بالشّكّ في ذلك؟ و لو كانت الألفاظ يتعلّق بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، و مع اطّراح النّاظر في معانيها، و لأدّى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجّان من قراءة أنصاف الكتب، ضحكوا عن جهالة، و أن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال: [من الكامل ].

عذلا شبيها بالجنون كأنّما قرأت به الورهاء شطر كتاب (1)

لأنهم لم يضحكوا إلّا من عدم التعلّق، و لم يجعله أبو تمام جنونا إلا لذلك.

فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور.

فصل [في أن الفصاحة و البلاغة للمعاني

و هذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون «الفصاحة» صفة للفظ من حيث هو لفظ.

لا تخلو «الفصاحة» من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسّمع، أن تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة في اللّفظ محسوسة، لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا. و إذا بطل أن تكون محسوسة، وجب الحكم ضرورة بأنّها صفة معقولة. و إذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة، فإنّا لا نعرف للّفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس، إلّا دلالته على معنى. و إذا كان كذلك، لزم منه العلم بأنّ وصفنا اللّفظ بالفصاحة، وصف له من جهة معناه، لا من جهة نفسه، و هذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك، و اللّه الموفّق للصواب.

و بيان آخر، و هو أنّ القارئ إذا قرأ قوله تعالى: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم:

4]، فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلّا من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره. فلو

ص: 259


1- البيت في ديوانه (27)، باب المديح، و هو من قصيدة في مدح مالك بن طوق التغلبي، و قبله: من كل ريم لم ترم سوءا و لم تخلط صبا أيامها بتصابي أذكت عليك شهاب نار في الحشا بالعذل وهنا أخت آل شهاب الورهاء: الحمقاء.

كانت «الفصاحة» صفة للفظ «اشتعل»، لكان ينبغي أن يحسّها القارئ فيه حال نطقه به. فمحال أن تكون للشي ء صفة، ثم لا يصحّ العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. و من ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ و هل سمع السامعون، في قديم الدهر و حديثه، بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف؟

فإن قالوا: إنّ الفصاحة التي ادّعيناها للفظ «اشتعل» تكون فيه في حال نطقنا به، إلّا أنّا لا نعلم في تلك الحال أنها فيه، فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا به.

قيل: هذا فنّ آخر من العجب، و هو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شي ء، ثم لا يكون في الإمكان و لا يسع في الجواز، أن يعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشي ء إلّا من بعد أن يعدم، و يكون العلم بها و بكونها فيه محجوبا عنا حتى يعدم، فإذا عدم علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين كان.

ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدّعونها للّفظ هي مدّعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها، إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعو لكلّ واحد من حروف «اشتعل» فصاحة، فيجعلوا «الشين» على حدته فصيحا، و كذلك «التاء»، و «العين» و «اللام». و إذا كانت الفصاحة مدّعاة لمجموع الكلمة، لم يتصوّر حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلّها و ينقضي أمر النطق بها. ذاك لأنه لا يتصوّر أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة، حتى تجعل «الفصاحة» موجودة فيها في حال وجودها. و ما بعد هذا إلا أن نسأل اللّه تعالى العصمة و التوفيق، فقد بلغ الأمر في الشّناعة إلى حدّ، إذا تنبّه العاقل لفّ رأسه حياء من العقل، حين يراه قد قال قولا هذا مؤدّاه، و سلك مسلكا إلى هذا مفضاه.

و ما مثل من يزعم أن «الفصاحة» صفة للّفظ من حيث هو لفظ و نطق لسان، ثم يزعم أنه يدّعيها لمجموع حروفه دون آحادها، إلّا مثل من يزعم أن هاهنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر، و إذا فرّق و نظر إليه خيطا خيطا، لم تكن فهي حمرة أصلا! و من طريق أمرهم، أنك ترى كافّتهم لا ينكرون أن اللّفظ المستعار إذا كان فصيحا، كانت فصاحته تلك من أجل استعارته، و من أجل لطف و غرابة كانا فيها، و تراهم مع ذلك لا يشكّون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللّفظ صفة و لا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعارا و كان متروكا على حقيقته، و أن التأثير من الاستعارة

ص: 260

إنما يكون في المعنى. كيف؟ و هم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشي ء، نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية. و إذا كان الأمر كذلك، فلو لا إهمالهم أنفسهم و تركهم النّظر، لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم، و يكشف الغطاء عن أعينهم.

فصل [في علاقة الفكر بمعاني النحو]

و مما ينبغي أن يعلمه الإنسان و يجعله على ذكر، أنّه لا يتصوّر أن يتعلّق الفكر بمعاني الكلم أفرادا و مجرّدة من معاني النّحو، فلا يقوم في وهم و لا يصحّ في عقل، أن يتفكّر متفكّر في معنى «فعل» من غير أن يريد إعماله في «اسم»، و لا أن يتفكّر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعمال «فعل» فيه، و جعله فاعلا له أو مفعولا، أو يريد فيه حكما سوى ذلك من الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة أو حالا، أو ما شاكل ذلك.

و إن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أيّ كلام شئت، و أزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعا يمتنع معه دخول شي ء من معاني النحو فيها، فقل في: [من الطويل ]

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل (1) «من نبك قفا حبيب ذكرى منزل»، ثم انظر هل يتعلّق منك فكر بمعنى كلمة منها؟

و اعلم أني لست أقول إن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلا، و لكني أقول إنه لا يتعلّق بها مجرّدة من معاني النحو، و منطوقا بها على وجه لا يتأتّى معه تقدير معاني النحو و توخّيها فيها، كالذي أريتك، و إلّا فإنك إذا فكّرت في الفعلين أو الاسمين، تريد أن تخبر بأحدهما عن الشي ء أيّهما أولى أن تخبر به عنه و أشبه بغرضك، مثل أن تنظر: أيّهما أمدح و أذمّ، أو فكّرت في الشيئين تريد أن تشبّه الشي ء بأحدهما أيّهما أشبه به كنت قد فكّرت في معاني أنفس الكلم، إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلّا من بعد أن توخّيت فيها معنى من معاني النحو، و هو أن أردت جعل الاسم الذي فكّرت فيه خبرا عن شي ء أردت فيه مدحا أو ذمّا أو تشبيها، أو غير ذلك

ص: 261


1- راجع ص (236) هامش (1).

من الأغراض و لم تجي ء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، و من غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر. فاعرف ذلك.

و إن أردت مثالا فخذ بيت بشّار: [من الطويل ]

كأنّ مثال النّقع فوق رءوسنا و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه (1)

و انظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفردا عارية من معاني النحو التي تراها فيها و أن يكون قد وقع «كأنّ» في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التّشبيه منه على شي ء و أن يكون فكّر في «مثار النقع»، من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني و فكّر في «فوق رءوسنا»، من غير أن يكون قد أراد أن يضيف «فوق» إلى «الرءوس» و في «الأسياف» من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على «مثار» و في «الواو» من دون أن يكون أراد العطف بها و أن يكون كذلك فكّر في «الليل»، من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا «لكأنّ» و في «تهاوى كواكبه»، من دون أن يكون أراد أن يجعل «تهاوى» فعلا للكواكب، ثم يجعل الجملة صفة لليل، ليتمّ الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلّا مرادا منها هذه الأحكام و المعاني التي تراها فيها؟

و ليت شعري، كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ و معنى «القصد إلى معاني الكلم»، أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه. و معلوم أنك، أيّها المتكلم، لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّمه بها، فلا تقول: «خرج زيد»، لتعلمه معنى «خرج» في اللغة، و معنى «زيد». كيف؟ و محال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. و لهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، و لا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلاما. و كنت لو قلت «خرج»، و لم تأت باسم، و لا قدّرت فيه ضمير الشي ء، أو قلت: «زيد»، و لم تأت بفعل و لا اسم آخر و لم تضمره في نفسك، كان ذلك و صوتا تصوّته سواء، فاعرفه.

و اعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضّة فيذيبز.

ص: 262


1- البيت في ديوانه، و ذكره الطيبي في التبيان (1/ 278) و عزاه لبشار، و أورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 106)، و القزويني في الإيضاح، و السكاكي في المفتاح (444، 461)، و أورده الرازي في نهاية الإيجاز (155)، و محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (180)، و العلوي في الطراز.

بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. و ذلك أنّك إذا قلت: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له»، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم، هو معنى واحد لا عدّة معان، كما يتوهّمه الناس. و ذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، و إنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل الذي هو «ضرب»، و بين ما عمل فيه، و الأحكام الّتي هي محصول التعلّق.

و إذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من «عمرو»، و كون «يوم الجمعة» زمانا للضرب، و كون «الضرب» ضربا شديدا، و كون «التأديب» علّة للضرب، أ يتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل الذي هو أصل الفائدة، و هو إسناد «ضرب» إلى «زيد»، و إثبات «الضرب» به له، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولا به، و كون «يوم الجمعة» مفعولا فيه و كون «ضربا شديدا» مصدرا، و كون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟

و إذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر، لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد، و «ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو و ما صفته، و «التأديب» علة له و بيان أنه كان الغرض منه. و إذا كان ذلك كذلك، بان منه و ثبت، أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدّة معان، و هو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا، و على صفة كذا، و لغرض كذا. و لهذا المعنى قول إنّه كلام واحد.

و إذ قد عرفت هذا، فهو العبرة أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، و رأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم يصبّها في قالب، و يخرجها لك سوارا أو خلخالا. و إن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض، كنت كمن يكسر الحلقة و يفصم السوار. و ذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع» بالليل على حدة، و «الأسياف» بالكواكب على حدة، و لكنه أراد أن يشبّه النّقع و الأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر (1) الكواكب و تتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد، و البيت من أوّله إلى آخره كلام واحد.

فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أ تقول: إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول: إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ ).

ص: 263


1- انكدر: أسرع. القاموس مادة «كدر» (603).

من أجل ذلك كأنّها لفظة واحدة؟ فإن كنت لا تشكّ أن الاتّحاد الذي تراه هو في المعاني، إذ كان من فساد العقل، و من الذّهاب في الخبل، أن يتوهّم متوهّم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة.

فقد أراك ذلك، إن لم تكابر (1) عقلك، أن «النظم» يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، و أن نظمها هو توخّي معاني النحو فيها. و ذلك أنه إذا ثبت الاتّحاد، و ثبت أنه في المعاني، فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتّحدت المعاني في بيت بشّار. و إذا نظرنا لم نجدها اتّحدت إلّا بأن جعل «مثار النقع» اسم «كأن»، و جعل الظّرف الذي هو «فوق رءوسنا» معمولا «لمثار» و معلّقا به، و أشرك «الأسياف» في «كأن» بعطفه لها على «مثار»، ثم بأن قال: «ليل تهاوى كواكبه»، فأتى بالليل نكرة، و جعل جملة قوله: «تهاوى كواكبه» له صفة، ثم جعل مجموع: «ليل تهاوى كواكبه»، خبرا «لكأنّ».

فانظر هل ترى شيئا كان الاتّحاد به غير ما عدّدناه؟ و هل تعرف له موجبا سواه؟

فلو لا الإخلاد إلى الهوينا، و ترك النّظر و غطاء ألقي على عيون أقوام، لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية و ما فوق الكفاية. و نسأل اللّه تعالى التوفيق.

و اعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر «اللفظ» أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التّخيّل، و ألقوا مقادتهم إلى الأوهام، حتى عدلت بهم عن الصواب كلّ معدل، و دخلت بهم من فحش الغلط في كلّ مدخل، و تعسّفت بهم في كلّ مجهل، و جعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكلّ محال، و يقتحمون في كلّ جهالة، حتى أنك لو قلت لهم: إنه لا يتأتّى للناظم نظمه إلّا بالفكر و الرويّة، فإذا جعلتم «النظم» في الألفاظ، لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكّر في نظم الكلام، فكرا في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك، و أن يتعلّقوا فيه بما في العادة و مجرى الجبلّة من أن الإنسان يخيّل إليه إذا هو فكّر، أنه كأنّه ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أنّه يسمعها سماعة لها حين يخرجها من فيه، و حين يجري بها اللسان.

و هذا تجاهل، لأنّ سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيّل دائما في الشي ء قد رآه و شاهده أنه كأنّه يراه و ينظر إليه، و أنّ مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن ).

ص: 264


1- تعظّم. اللسان مادة «كبر» (5/ 129).

يكون رائيا له، و أن يكون الشي ء موجودا في نفسه، كذلك لا يكون تخيّله أنّه كأنّه ينطق بالألفاظ، موجبا أن يكون ناطقا بها، و أن تكون موجودة في نفسه، حتّى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها.

ثمّ إنّا نعمل على أنه ينطق بالألفاظ في نفسه، و أنه يجدها فيها على الحقيقة، فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ما ذا يروم، ليت شعري، بذلك الفكر؟

و معلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شي ء بشي ء، أو يصف شيئا بشي ء، أو يضيف شيئا إلى شي ء، أو يشرك شيئا في حكم شي ء، أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشي ء، أو يجعل وجود شي ء شرطا في وجود شي ء، و على هذا السبيل؟ و هذا كلّه فكر في أمور معقولة زائدة على اللفظ.

و إذا كان هذا كذلك، لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين: إمّا أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر و يجعل الفكر كلّه في الألفاظ و إمّا أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني.

فإن ذهب إلى الأوّل لم يكلّم، و إن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوّز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا، في الألفاظ. و ذلك ممّا لا يخفى مكان الشّنعة (1) و الفضيحة فيه.

و شبيه بهذا التوهّم منهم، أنّك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تترتّب في نفسه إلّا بترتّب الألفاظ في سمعه، ظنّ عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، و أن التّرتّب فيها مكتسب من الألفاظ، و من ترتّبها في نطق المتكلم.

و هذا ظن فاسد ممن يظنّه، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام و المؤلّف له، و الواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع، و إذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون التّرتّب فيها تبعا لترتّب الألفاظ و مكتسبا عنه، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني، و أن تقع في نفس الإنسان أوّلا، ثم تقع المعاني من بعدها و تالية لها، بالعكس مما يعلمه كلّ عاقل إذا هو لم يؤخذ عن نفسه، و لم يضرب حجاب بينه و بين عقله. و ليت شعري، هل كانت الألفاظ إلّا من أجل المعاني؟ و هل هي إلّا خدم لها، و مصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها، و أوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني و أن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن ).

ص: 265


1- شنع فلان استقبحه. القاموس «شنع» (949).

عرفت الأشياء، و قبل أن كانت. و ما أدري ما أقول في شي ء يجرّ الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال، و ردي ء الأقوال.

هذا سؤال لهم من جنس آخر في «النظم». قالوا: لو كان «النظم» يكون في معاني النحو، لكان البدويّ الذي لم يسمع بالنحو قطّ، و لم يعرف المبتدأ و الخبر و شيئا ممّا يذكرونه، لا يتأتّى له نظم كلام. و إنّا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدّم في علم النحو.

قيل: هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا: «إنّا نعلم أنّ الصحابة رضي اللّه عنهم و العلماء في الصّدر الأوّل، لم يكونوا يعرفون «الجوهر» و «العرض»، و «صفة النفس» و «صفة المعنى» و سائر العبارات التي وضعتموها، فإن كان لا تتمّ الدّلالة على حدوث العالم و العلم بوحدانيّة اللّه، إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها، فينبغي لكم أن تدّعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه، و أن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم.

و جوابنا هو مثل جواب المتكلمين، و هو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات، لا بمعرفة العبارات. فإذا عرف البدويّ الفرق بين أن يقول: «جاءني زيد راكبا»، و بين قوله: «جاءني زيد الرّاكب»، لم يضرّه أن لا يعرف أنه إذا قال: «راكبا»، كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في «راكب»: «إنه حال»، و إذا قال: «الراكب»، أنه صفة جارية على «زيد» و إذا عرف في قوله: «زيد منطلق» أن «زيدا» مخبر عنه، و «منطلق» خبر، لم يضرّه أن لا يعلم أنّا نسمّي «زيدا» مبتدأ و إذا عرف في قولنا: «ضربته تأديبا له»، أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب، و أنه ضربه ليتأدب، لم يضرّه أن لا يعلم أنا نسمي «التأديب» مفعولا له.

و لو كان عدمه العلم بهذه العبارات، يمنعه العلم بما وضعناها له و أردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه، و أن لا يفصل فيما يتكلّم به بين نفي و إثبات، و بين «ما» إذا كان استفهاما و بينه إذا كان بمعنى «الذي»، و إذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني.

أ ترى الأعرابيّ حين سمع المؤذّن يقول: «أشهد أنّ محمدا رسول اللّه» بالنصب، فأنكر و قال: صنع ما ذا؟ أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا و يجعله و الأوّل في حكم اسم واحد، و أنه إذا صار و الأوّل في حكم اسم واحد، احتيج إلى اسم آخر أو فعل، حتى يكون كلاما، و حتى يكون قد ذكر ما له فائدة؟ إن كان لم يعلم ذلك، فلما ذا قال: «صنع ما ذا؟»، فطلب ما يجعله خبرا؟

ص: 266

و يكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال: [من الطويل ]قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل (1) قاله و هو لا يعلم ما نعنيه بقولنا: أن «قفا» أمر، و «نبك» جواب الأمر، و «ذكرى» مضاف إلى «حبيب»، و «منزل» معطوف على الحبيب و أن تكون هذه الألفاظ قد ترتّبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. و ذلك يوجب أن يكون قال:

«نبك» بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم، و أتى به مؤخرا عن «قفا»، من غير أن عرف لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن.

و من أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات، ثم لم يرتدع، و لم يتبيّن أنه على خطأ، فليس إلّا تركه و الإعراض عنه.

و لو لا أنّا نحبّ أن لا ينبس أحد في معنى السّؤال و الاعتراض بحرف إلّا أريناه الذي استهواه، لكان ترك التشاغل بإيراد هذا و شبهه أولى. ذاك لأنّا قد علمنا علم ضرورة أنّا لو بقينا الدهر الأطول نصعّد و نصوّب، و نبحث و ننقّب، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها، و لفظة قد انتظمت مع أختها، من غير أن توخّي فيما بينهما معنى من معاني النحو، طلبنا ممتنعا، و ثنينا مطايا الفكر ظلّعا. فإن كان هاهنا من يشكّ في ذلك، و يزعم أنه قد علم لاتّصال الكلم بعضها ببعض، و انتظام الألفاظ بعضها مع بعض، معاني غير معاني النحو، فإنا نقول له: هات، فبيّن لنا تلك المعاني، و أرنا مكانها، و اهدنا لها، فلعلّك قد أوتيت علما قد حجب عنّا، و فتح لك باب قد أغلق دوننا: [من الوافر]

و ذاك له إذا العنقاء صارت مربّبة و شبّ ابن الخصيّ (2)

ص: 267


1- راجع هامش رقم (1) ص (236).
2- البيت لأبي تمام في ديوانه (330) من قصيدة في مدح الحسن بن وهب، و قبله: و يتبع نعمتي بك عين ضغن كما نظر اليتيم إلى الوصيّ رجاء أنه يوري بزندي لديك و أنه يعزى فرييّ و البيت فيه تعليق أمر مستحيل على أمر مستحيل. و العنقاء: طائر ضخم، و قيل: طائر خرافي مثله مثل الغول. مرببة: أي يربّيها الناس كما يربى الحمام و هذا محال، الخصيّ: لا ولد له فأنى يكون له ولد يشيب.

فصل [في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدهما فصيح و الآخر غير فصيح

قد أردت أن أعيد القول في شي ء هو أصل الفساد و معظم الآفة، و الذي صار حجازا بين القوم و بين التأمّل، و أخذ بهم عن طريق النّظر، و حال بينهم و بين أن يصغوا إلى ما يقال لهم، و أن يفتحوا للذي تبيّن أعينهم، و ذلك قولهم: «إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا، و الآخر غير فصيح. و ذلك، قالوا، يقتضي أن يكون للّفظ نصيب في المزيّة، لأنها لو، كانت مقصورة على المعنى، لكان محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر، مع أن المعبّر عنه واحد».

و هذا شي ء تراهم يعجبون به و يكثرون ترداده، مع أنهم يؤكّدونه فيقولون:

«لو لا أنّ الأمر كذلك، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر له، لأنّه إن كان اللّفظ إنما يشرف من أجل معناه، فإنّ لفظ المفسّر يأتي على المعنى و يؤدّيه لا محالة، إذ لو كان لا يؤدّيه، لكان لا يكون تفسيرا له».

ثم يقولون: «و إذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشّعر، لزم مثله في الآية من القرآن» و هم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع، ظنّوا أنّهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام، و أنه نقض ليس بعده إبرام، و ربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك و التعجّب ممن يرى أنّ إلى الكلام عليه سبيلا، و أنّه يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلا.

و الجواب، و باللّه التوفيق، أن يقال للمحتج بذلك: قولك إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، يحتمل أمرين:

أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل «الليث» و «الأسد»، و مثل «شحط» و «بعد»، و أشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى.

و الثاني: أن تريد كلامين.

فإن أردت الأوّل خرجت من المسألة، لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة، و من غير أن يعتبر حالها مع غيرها.

ص: 268

و إن أردت الثاني، و لا بدّ لك من أن تريده، فإن هاهنا أصلا، من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض. و هو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحليّ، كالخاتم و الشّنف و السّوار، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا، لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن أتى بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتما، و الشّنف إن كان شنفا، و أن يكون مصنوعا بديعا قد أغرب صانعه فيه.

كذلك سبيل المعاني، أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عامّيا موجودا في كلام الناس كلّهم، ثم تراه نفسه و قد عمد إليه البصير بشأن البلاغة و إحداث الصّور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصّنع الحاذق، حتى يغرب في الصّنعة، و يدقّ في العمل، و يبدع في الصّياغة. و شواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، و أمثلته نصب عينيك من أين نظرت.

تنظر إلى قول النّاس: «الطبع لا يتغيّر»، و «لست تستطيع أن تخرج الإنسان عمّا جبل عليه»، فترى معنى غفلا عامّيا معروفا في كل جيل و أمة، ثم تنظر إليه في قول المتنبي: [من المتقارب

يراد من القلب نسيانكم و تأبى الطّباع على النّاقل (1)

فتجده قد خرج في أحسن صورة، و تراه قد تحوّل جوهرة بعد أن كان خرزة، و صار أعجب شي ء بعد أن لم يكن شيئا.

و إذ قد عرفت ذلك، فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: «إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا و الآخر غير فصيح»، كأنهم قالوا: إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى و تزيينه، و إحداث خصوصيّة فيه تأثير لا يكون للأخرى.

و اعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين حسن و مزيّة لا يكونان له في الأخرى، و أن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك، فإن أنكر لم يكلّم، لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله:

و تأبى الطباع على الناقل ل

ص: 269


1- البيت في ديوانه (2/ 17) من قصيدة في مدح سيف الدولة و يذكر استنقاذه أبا وائل بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع و ثلاثين و ثلاث و مائة و مطلعها: إلام طماعية العاذل و لا رأي في الحب للعاقل

مزية على الذي يعقل من قولهم: «الطبع لا يتغير»، و «لا يستطيع أن يخرج الإنسان عمّا جبل عليه» و أن لا يرى لقول أبي نواس: [من السريع

و ليس للّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

مزيّة على أن يقال: «غير بديع في قدرة اللّه تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلّهم في رجل واحد». و من أدّاه قول يقوله إلى مثل هذا، كان الكلام معه محالا، و كنت إذا كلّفته أن يعرف، كمن يكلّف أن يميّز بحور الشعر بعضها من بعض، فيعرف المديد من الطّويل، و البسيط من السّريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله.

و إن اعترف بأنّ ذلك يكون، قلنا له: أخبرنا عنك، أ تقول في قوله:

و تأبى الطّباع على الناقل (1) أنه غاية في الفصاحة؟ فإذا قال: نعم. قيل له: أ فكان كذلك عندك من أجل حروفه، أم من أجل حسن و مزيّة حصلا في المعنى فإن قال: من أجل حروفه: دخل في الهذيان و إن قال: من أجل حسن و مزيّة حصلا في المعنى، قيل له: فذاك ما أردناك عليه حين قلنا: إن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تقع في معناه، لا من أجل جرسه و صداه.

و اعلم أنه ليس شي ء أبين و أوضح و أحرى أن يكشف الشبهة عن متأمّله في صحة ما قلناه، من «التشبيه». فإنّك تقول: «زيد كالأسد» أو «مثل الأسد» أو «شبيه بالأسد»، فتجد ذلك كلّه تشبيها غفلا ساذجا ثم تقول: «كأن زيدا الأسد»، فيكون تشبيها أيضا، إلّا أنّك ترى بينه و بين الأول بونا بعيدا، لأنك ترى له صورة خاصّة، و تجدك قد فخّمت المعنى و زدت فيه، بأن أفدت أنه من الشّجاعة و شدّة البطش، و أنّ قلبه قلب لا يخامره الذّعر و لا يدخله الرّوع، بحيث يتوهّم أنه الأسد بعينه ثم تقول: «لئن لقيته ليلقينّك منه الأسد»، فتجده قد أفاد هذه المبالغة، لكن في صورة أحسن، و صفة أخصّ، و ذلك أنك تجعله في «كأن»، يتوهّم أنه الأسد، و تجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر عن حدّ التوهّم إلى حدّ اليقين ثم نظرت إلى قوله: [من الطويل ]).

ص: 270


1- راجع هامش رقم (1) ص (271).

أأن أرعشت كفّا أبيك و أصبحت يداك يدي ليث فإنّك غالبه (1)

وجدته قد بدا لك في صورة آنق و أحسن ثم نظرت إلى قول أرطاة بن سهيّة:

[من البسيط]

إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السّلاح و تعرف جبهة الأسد (2)

وجدته قد فضل الجميع، و رأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصّور كلّها.

و اعلم أن من الباطل و المحال ما يعلم الإنسان بطلانه و استحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشكّ. ثم إنّه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه و الدّلالة عليه، رأى المسلك إليه يغمض و يدقّ. و هذه الشبهة أعني قولهم: «إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أنّ الفصاحة وصف للّفظ من حيث هو لفظ، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر»، إلى آخره من ذاك.

و قد علقت لذلك بالنّفوس و قويت فيها، حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر «اللفظ» كلمة مما نحن فيه، إلا كان هذا أوّل كلامه، و إلّا عجّب و قال: «إنّ التفسير بيان للمفسّر، فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسّر شي ء لا يؤدّيه التفسير و لا يأتي عليه، لأن في تجويز ذلك القول بالمحال، و هو أن لا يزال يبقى من معنى المفسّر شي ء لا يكون إلى العلم به سبيل. و إذا كان الأمر كذلك، ثبت أن الصحيح ما قلناه، من أنه لا يجوز أن يكون للّفظ المفسّر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. و إذ لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى، لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه».

فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة، قد استقصيته لك.

و إذ قد عرفته فاسمع الجواب، و إلى اللّه تعالى الرّغبة في التوفيق للصواب.

ص: 271


1- البيت للفرزدق في ديوانه (1/ 105) ط، دار صادر، بيروت، من خمسة أبيات قالها حيث كان له ثلاثة أولاد يقال:: لواحد منهم لبطة و الآخر: حنظلة، و الثالث: سبطة، و كان لبطة من العققة فقال له هذه الأبيات، و هذا البيت مطلعها و بعده: إذا غلب ابن الشباب أبا له كبيرا فإن اللّه لا بد غالبه رأيت تباشير العقوق هي التي من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه و لما رآني قد كبرت و أني أخو الحي و استغنى عن المسح شاربه أصاخ لغربان النعي و إنه لأزور عن بعض المقالة جانبه
2- البيت سبق ص (145)، و هو في الأغاني (13/ 37)، و بعده: ما ذا تظنك تغني في أخي رصد من أسد خفان جابي العين ذي لبد و كان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني ابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفي منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة، فقال له عدة أبيات منها هذا البيت. الناظرة: العين.

اعلم أن قولهم: «إنّ التفسير يجب أن يكون كالمفسّر»، دعوى لا تصحّ لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيّنّاه، من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصّور، و يدفعوه أصلا، و حتّى يدّعوا أنه لا فرق بين «الكناية» و «التصريح»، و أنّ حال المعنى مع «الاستعارة» كحاله مع ترك الاستعارة، و حتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أنّ «المجاز» يكون أبدا أبلغ من الحقيقة، فيزعموا أن قولنا: «طويل النجاد» و «طويل القامة» واحد، و أن حال المعنى في بيت ابن هرمة. [من المنسرح و لا أبتاع إلّا قريبة الأجل (1) كحاله في قولك: أنا مضياف و أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول: «رأيت رجلا هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد»، و لم تكن قد زدت في المعنى بأن ادّعيت له أنه أسد بالحقيقة و لا بالغت فيه و حتى يزعموا أنه لا فضل و لا مزيّة لقولهم: «ألقيت حبله على غاربه»، على قولك في تفسيره: «خلّيته و ما يريد، و تركته يفعل ما يشاء» و حتّى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، مزيّة على أن يقال: «اشتدّت محبتهم للعجل و غلبت على قلوبهم»- و أن تكون صورة المعنى في قوله عز و جل:

وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، صورته في قول من يقول: «و شاب رأسي كلّه» و «ابيض رأسي كلّه» و حتى لا يروا فرقا بين قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، و بين: «فما ربحوا في تجارتهم» و حتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه، من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي:

و تأبى الطّباع على النّاقل (2) و بين قولهم: «إنّك لا تقدر أن تغيّر طباع الإنسان» و يجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس: [من السريع

و ليس للّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

كحاله في قولنا: «إنه ليس ببديع في قدرة اللّه أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد» و يرتكبوا ذلك في الكلام كلّه، حتّى يزعموا أنّا إذا قلنا في قوله تعالى:

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أن المعنى فيها: «أنه لما كان الإنسان إذا همّ بقتل آخر ).

ص: 272


1- سبق ص (181) هامش (1).
2- راجع ص (271) هامش (1).

لشي ء غاظه منه، فذكر أنّه إن قتله قتل ارتدع، صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل بالقصاص» كنا قد أدّينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية، حتى لا نعرف فضلا، و حتى يكون حال الآية و التفسير حال اللّفظتين إحداهما غريبة و الأخرى مشهورة، فتفسّر الغريبة بالمشهورة، مثل أن تقول مثلا في «الشّرجب» (1) إنه الطويل، و في «القطّ» إنه الكتاب، و في «الدّسر» إنه المسامير. و من صار الأمر به إلى هذا، كان الكلام معه محالا.

و اعلم أنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين، أجزاء أحدهما مخالفة في معانيها لأجزاء الآخر، ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء، حتى يقعد فيقول: «إنّه لو كان يكون الكلام فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن توجد تلك المزيّة في تفسيره». و مثله في العجب أنّه ينظر إلى قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، فيرى إعراب الاسم الذي هو «التجارة»، قد تغير فصار مرفوعا بعد أن كان مجرورا، و يرى أنّه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه، و هو «الواو» في «ربحوا»، و «في» من قولنا: «في تجارتهم»، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغيّر كما تغيّر اللفظ!! و اعلم أنه ليس للحجج و الدّلائل في صحة ما نحن عليه حدّ و نهاية، و كلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر. و قد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج، و من البسط و الشّرح، فتأمل ما أكتبه لك.

اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزيّة و الحسن فيه إلى اللفظ و قسم يعزى ذلك فيه إلى النّظم.

فالقسم الأول: «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل الكائن على حدّ الاستعارة»، و كلّ ما كان فيه، على الجملة، مجاز و اتّساع و عدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضرب من هذه الضّروب إلّا و هو إذا وقع على الصّواب و على ما ينبغي، أوجب الفضل و المزية.

فإذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، كان له موقع و حظّ من القبول لا يكون إذا قلت: «هو كثير القرى و الضيافة».

و كذا إذا قلت: «هو طويل النجاد»، كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت:

«هو طويل القامة». ).

ص: 273


1- الطويل و الفرس الكريم، ا. ه القاموس «شرجب» (129).

و كذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان له مزيّة لا تكون إذا قلت: «رأيت رجلا يشبه الأسد و يساويه في الشجاعة».

و كذلك إذا قلت: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، كان له موقع لا يكون إذا قلت: «أراك تتردد في الذي دعوتك إليه، كمن يقول: أخرج و لا أخرج، فيقدّم رجلا و يؤخّر أخرى».

و كذلك إذا قلت: «ألقى حبله على غاربه»، كان له مأخذ من القلب لا يكون إذا قلت: «هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء و يذهب حيث يريد».

لا يجهل المزيّة فيه إلا عديم الحسّ ميّت النفس، و إلّا من لا يكلّم، لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى.

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدا واحدا، و تعرف محصولها و حقائقها، و أن تنظر أوّلا إلى «الكناية»، و إذا نظرت إليها وجدت حقيقتها و محصول أمرها أنّها إثبات لمعنى، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. أ لا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم: «هو كثير رماد القدر»، و عرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى و الضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، و لكنّك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنّه كلام قد جاء عنهم في المدح، و لا معنى للمدح بكثرة الرّماد، فليس إلا أنّهم أرادوا أن يدلّوا بكثرة الرّماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة، و يطبخ فيها للقرى و الضّيافة. و ذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها، و إذا كثر إحراق الحطب كثر الرّماد لا محالة.

و هكذا السبيل في كلّ ما كان «كناية». فليس من لفظ الشّعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله:

و لا أبتاع إلّا قريبة الأجل (1) التمدّح بأنه مضياف، و لكنّك عرفته بالنّظر اللطيف، و بأن علمت أنه لا معنى للتمدّح بظاهر ما يدلّ عليه اللّفظ من قرب أجل ما يشتريه، فطلبت له تأويلا، فعلمت أنه أراد أنّه يشتري ما يشتريه للأضياف، فإذا اشترى شاة أو بعيرا، كان قد اشترى ما قد دنا أجله، لأنه يذبح و ينحر عن قريب. ).

ص: 274


1- راجع ص (181) هامش (1).

و إذ قد عرفت هذا في «الكناية»، «فالاستعارة» في هذه القضيّة. و ذاك أنّ موضوعها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السّامع ذلك المعنى من اللّفظ، و لكنه يعرفه من معنى اللّفظ.

بيان هذا، أنا نعلم أنك لا تقول: «رأيت أسدا، إلّا و غرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته و جرأته، و شدّة بطشه و إقدامه، و في أن الذّعر لا يخامره، و الخوف لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى، لم يعقله من لفظ «أسد»، و لكنه يعقله من معناه، و هو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله «أسدا»، مع العلم بأنه «رجل»، إلا أنك أردت أنه بلغ من شدّة مشابهته للأسد و مساواته إيّاه، مبلغا يتوهّم معه أنه أسد بالحقيقة. فاعرف هذه الجملة و أحسن تأمّلها.

و اعلم أنك ترى الناس و كأنهم يرون أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، و أنت تريد التشبيه، كنت نقلت لفظ «أسد» عما وضع له في اللغة، و استعملته في معنى غير معناه، حتّى كأن ليس «الاستعارة» إلّا أن تعمد إلى اسم الشي ء فتجعله اسما لشبيه، و حتى كأن لا فصل بين «الاستعارة»، و بين تسمية المطر «سماء»، و النّبت «غيثا»، و المزادة «راوية»، و أشباه ذلك مما يوقع فيه اسم الشي ء على ما هو منه بسبب، و يذهبون عمّا هو مركوز في الطّباع من أن المعنى فيه المبالغة، و أن يدّعي في الرجل أنه ليس برجل، و لكنه أسد بالحقيقة، و أنّه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى، و أنه لا يشرك في اسم «الأسد»، إلّا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا ترى أحدا يعقل إلّا و هو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع.

و من أجل أن كان الأمر كذلك، رأيت العقلاء كلّهم يثبتون القول بأن من شأن «الاستعارة» أن تكون أبدا أبلغ من الحقيقة، و إلّا فإن كان ليس هاهنا إلّا نقل اسم من شي ء إلى شي ء، فمن أين يجب، ليت شعري، أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، و يكون لقولنا: «رأيت أسدا»، مزيّة على قولنا: «رأيت شبيها بالأسد»؟ و قد علمنا أنّه محال أن يتغيّر الشي ء في نفسه، بأن ينقل إليه اسم قد وضع لغيره، من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شي ء بوجه من الوجوه، بل يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصليّ أصلا. و في أي عقل يتصوّر أن يتغيّر معنى «شبيها بالأسد»، بأن يوضع لفظ «أسد» عليه، و ينقل إليه؟

و اعلم أن العقلاء بنوا كلامهم، إذا قاسوا و شبّهوا، على أن الأشياء تستحق الأسامي لخواصّ معان هي فيها دون ما عداها، فإذا أثبتوا خاصّة شي ء لشي ء، أثبتوا له

ص: 275

اسمه، فإذا جعلوا «الرجل» بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد و لا يعدم منها شيئا، قالوا: «هو أسد» و إذا وصفوه بالتّناهي في الخير و الخصال الشريفة، أو بالحسن الذي يبهر قالوا: «هو ملك» و إذا وصفوا الشي ء بغاية الطّيب قالوا: «هو مسك».

و كذلك الحكم أبدا.

ثمّ إنهم إذا استقصوا في ذلك نفوا عن المشبّه اسم جنسه فقالوا: «ليس هو بإنسان، و إنما هو أسد»، و «ليس هو آدميّا، و إنما هو ملك»، كما قال اللّه تعالى:

ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31].

ثمّ إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا: «هو أسد في صورة إنسان» و «هو ملك في صورة آدميّ». و قد خرج هذا للمتنبي في أحسن عبارة، و ذلك في قوله: [من الخفيف

نحن ركب ملجنّ في زيّ ناس فوق طير لها شخوص الجمال (1)

ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست «الاستعارة» نقل اسم عن شي ء إلى شي ء، و لكنها ادّعاء معنى الاسم لشي ء، إذ لو كانت نقل اسم و كان قولنا: «رأيت أسدا»، بمعنى: رأيت شبيها بالأسد، و لم يكن ادّعاء أنّه أسد بالحقيقة لكان محالا أن يقال: «ليس هو بإنسان، و لكنه أسدا» أو «هو أسد في صورة إنسان»، كما أنّه محال أن يقال: «ليس هو بإنسان، و لكنه شبيه بأسد» أو يقال: «هو شبيه بأسد في صورة إنسان».

و اعلم أنّه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ «النقل» في «الاستعارة»، فمن ذلك قولهم: «إنّ الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل»: و قال القاضي أبو الحسن (2): «الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن الأصلي، و نقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها». ).

ص: 276


1- البيت في ديوانه (1/ 166) من قصيدة في مدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي، و مطلعها: صلة الهجر لي و هجر الوصال فكساني في السقم نكس الهلال الركب: جمع راكب، ملجن: أي من الجن لغة، الزي: الهيئة. أي: نحن كالجن نألف المجاهل و ركائبنا كالطير في قطع المسافات. المعنى: يقول نحن ركب و هم ركاب الإبل يقال: ركب و ركبان من الجن في زي الناس فوق طير إلا أنها في صورة الجمال يرد لسرعة سيرها كأنها تطير كما يطير الطير. و البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 159)، و الإيضاح (260)، و رواية الإيضاح: «نحن قوم الجن في زي ناس»، و المفتاح (480)، و أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (211) و عزاه للمتنبي.
2- علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392) صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي و خصومه». شذرات الذهب (3/ 56).

و من شأن ما غمض من المعاني و لطف، أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس، فيقع لذلك في العبارات التي يعبّر بها عنه، ما يوهم الخطأ، و إطلاقهم في «الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له»، من ذلك، فلا يصحّ الأخذ به. و ذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على «الرجل»، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بيّنّا، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة، لأنك إنّما تكون ناقلا، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك، و نفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه، مع إرادة معناه، فمحال متناقض.

و اعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة، و ذلك مثل قول لبيد: [من الكامل ]

و غداة ريح قد كشفت و قرّة إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (1)

لا خلاف في أن «اليد» استعارة، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ لفظ «اليد» قد نقل عن شي ء إلى شي ء. و ذلك أنه ليس المعنى على أنه شبّه شيئا باليد، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه، و إنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، شبه الإنسان قد أخذ الشي ء بيده يقبله و يصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد، استعار لها «اليد». و كما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ «اليد»، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. أ لا ترى أنه محال أن تقول: إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟ و كذلك سبيل نظائره، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشي ء عضوا من أعضاء الإنسان، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة: [من الطويل ]

إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت نواجذ أفواه المنايا الضّواحك (2)

فإنه لما جعل «المنايا» تضحك، جعل لها «الأفواه و النواجذ» التي يكون الضّحك فيها و كبيت المتنبّي: [من الطويل ]ر.

ص: 277


1- البيت في ديوانه (230) ط، دار القاموس الحديث، و أورده القزويني في الإيضاح (277)، و المبرد في الكامل و عزاه للبيد، و أساس البلاغة (يدي). و البيت من معلقته المشهورة، و القرة و القر: البرد، يقول: كم من غداة تهب فيها الشمال و هي أبرد الرياح، و قد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم.
2- البيت لتأبط شرا في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 49)، القرن بالكسر: المثل و الكفؤ، و تهللت: لاحت و ظهرت من البشر و السرور.

خميس بشرق الأرض و الغرب زحفه و في أذن الجوزاء منه زمازم (1)

لما جعل «الجوزاء» تسمع على عادتهم في جعل النّجوم تعقل، و وصفهم لها بما يوصف به الأناسيّ أثبت لها «الأذن» التي بها يكون السمع من الأناسيّ.

فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنّه استعار لفظ «النواجذ» و لفظ «الأفواه»، لأن ذلك يوجب المحال، و هو أن يكون في المنايا شي ء قد شبّهه بالنواجذ، و شي ء قد شبّهه بالأفواه، فليس إلّا أن تقول: إنه لمّا ادّعى أنّ المنايا تسرّ و تستبشر إذا هو هزّ السيف، و جعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في الأمر، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور.

و كذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ «الأذن»، لأنه يوجب أن يكون في «الجوزاء» شي ء قد أراد تشبيهه بالأذن. و ذلك من شنيع المحال.

فقد تبيّن من غير وجه أنّ «الاستعارة» إنما هي ادّعاء معنى الاسم للشي ء، لا نقل الاسم عن الشي ء. و إذا ثبت أنها ادّعاء معنى الاسم للشي ء، علمت أن الذي قالوه من «أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة، و نقل لها عمّا وضعت له» كلام قد تسامحوا فيه، لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم، لم يكن الاسم مزالا عما وضع له، بل مقرّا عليه.

و اعلم أنك تراهم لا يمتنعون إذا تكلموا في «الاستعارة» من أن يقولوا: «إنه أراد المبالغة فجعله أسدا»، بل هم يلجئون إلى القول به. و ذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى، و أنه المستعار في الحقيقة، و أن قولنا: «استعير له اسم الأسد»، إشارة إلى أنه استعير له معناه، و أنه جعل إياه.

و ذلك أنّا لو لم نقل ذلك، لم يكن «لجعل» هاهنا معنى، لأن «جعل» لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشي ء، كقولنا: «جعلته أميرا» و «جعلته لصّا»، تريد أنك أثبت له الإمارة، و نسبته إلى اللصوصية و ادّعيتها عليه و رميته بها.

و حكم «جعل»، إذا تعدّى إلى مفعولين، حكم «صيّر»، فكما لا تقول:

ص: 278


1- البيت في ديوانه: (2/ 139)، من قصيدة في مدح سيف الدولة، و يذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث و أربعين و ثلاث مائة و مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم و تعظم في عين الصغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم و الخميس: الجيش العظيم له الميمنة و الميسرة و القلب و الجناحان، و الزحف: التقدم. الجوزاء: أنجم معروفة، و الزمازم: جمع زمزمة، و هي صوت لا يفهم لتداخله، و المعنى: يقول هذا الجيش لكثرته قد عم الشرق و الغرب و بلغ صوتهم الجوزاء و خصها بالذكر من سائر البروج لأنها على صورة الإنسان هذا قول الواحدي.

«صيّرته أميرا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة، كذلك لا يصحّ أن تقول:

«جعلته أسدا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد. و أمّا ما تجده في بعض كلامهم من أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، فمما تسامحوا فيه أيضا، لأن المعنى معلوم، و هو مثل أن تجد الرجل يقول: «أنا لا أسمّيه إنسانا»، و غرضه أن يقول: إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنسانا. فأما أن يكون «جعل» في معنى «سمّى»، هكذا غفلا، فممّا لا يخفى فساده. أ لا ترى أنك لا تجد عاقلا يقول:

«جعلته زيدا»، بمعنى: سميته زيدا و لا يقال للرجل: «اجعل ابنك زيدا»، بمعنى:

سمّه زيدا و «ولد ابن فجعله عبد اللّه»، أي: سمّاه عبد اللّه. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر.

و أكثر ما يكون منهم هذا التسامح، أعني قولهم إنّ «جعل» يكون بمعنى «سمّى» في قوله تعالى: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف:

19]، فقد ترى في التفسير أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، و على ذاك فلا شبه في أن ليس المعنى على مجرّد التسمية، و لكن على الحقيقة التي وصفتها لك. و ذاك أنّهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، و اعتقدوا وجودها فيهم، و عن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم «البنات» و ليس المعنى أنّهم وضعوا لها لفظ «الإناث» و لفظ «البنات»، من غير اعتقاد معنى و إثبات صفة. هذا محال.

أو لا ترى إلى قوله تعالى: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]، فلو كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة، و لم يعتقدوا إثبات صفة لما قال اللّه تعالى: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ. هذا و لو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، و لم يكن غير أن وضعوا اسما لا يريدون به معنى، لما استحقّوا إلّا اليسير من الذمّ، و لما كان هذا القول منهم كفرا. و التّفسير الصحيح و العبارة المستقيمة، ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمه اللّه، فإنه قال: إنّ «الجعل» هاهنا في معنى القول و الحكم على الشي ء، تقول: «قد جعلت زيدا أعلم الناس»، أي وصفته بذلك و حكمت به.

و نرجع إلى الغرض فنقول: فإذا ثبت أن ليست «الاستعارة» نقل الاسم، و لكن ادّعاء معنى الاسم و كنّا إذا عقلنا من قول الرجل: «رأيت أسدا»، أنه أراد به المبالغة في وصفه بالشجاعة، و أن يقول: إنه من قوة القلب، و من فرط البسالة و شدّة البطش، و في أن الخوف لا يخامره، و الذّعر لا يعرض له، بحيث لا ينقص عن الأسد لم نعقل ذلك من لفظ «أسد»، و لكن من ادّعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن «الاستعارة كالكناية، في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق اللّفظ.

ص: 279

و إذ قد عرفت أنّ طريق العلم بالمعنى في «الاستعارة» و «الكناية» معا، المعقول، فاعلم أن حكم «التّمثيل» في ذلك حكمهما، بل الأمر في «التمثيل» أظهر.

و ذلك أنه ليس من عاقل يشكّ إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد (1) إلى مروان ابن محمّد، حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته:

«أمّا بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّتهما شئت، و السّلام» (2).

يعلم أنّ المعنى أنه يقول له: بلغني أنّك في أمر البيعة بين رأيين مختلفين، ترى تارة أن تبايع،، و أخرى أن تمتنع من البيعة، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت و أنّه لم يعرف ذلك من لفظ «التقديم و التأخير»، أو من لفظ «الرّجل»، و لكن بأن علم أنه لا معنى لتقديم الرّجل و تأخيرها في رجل يدعى إلى البيعة، و أنّ المعنى على أنه أراد أن يقول: إنّ مثلك في تردّدك بين أن تبايع، و بين أن تمتنع، مثل رجل قائم ليذهب في أمر، فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب، و أخرى أنه في أن لا يذهب، فجعل يقدّم رجلا تارة، و يؤخّر أخرى.

و هكذا كلّ كلام كان ضرب مثل، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ، و لكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلّة على الأغراض و المقاصد. و لو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من اللفظ، ما كان لقولهم: «ضرب كذا مثلا لكذا»، معنى، فما اللفظ «يضرب مثلا» و لكن المعنى. فإذا قلنا في قول النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «إيّاكم و خضراء الدّمن» (3)، إنه ضرب عليه السلام «خضراء الدّمن» مثلا للمرأة الحسناء في منبت السّوء، لم يكن المعنى أنه صلى اللّه عليه و سلّم ضرب لفظ «خضراء الدّمن» مثلا لها. هذا ما لا يظنّه من به مسّ، فضلا عن العاقل.

فقد زال الشكّ و ارتفع في أنّ طريق العلم بما يراد إثباته و الخبر به في هذه الأجناس الثلاثة، التي هي «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» المعقول دون اللّفظ،

ص: 280


1- هو أبو عبد الملك بلغ من العمر (40) سنة و دامت ولايته خمسة أشهر توفي (126) ه. شذرات الذهب (1/ 171).
2- انظر البيان و التبيين (1/ 301) مع بعض الإضافة، و ورد الحديث عنها سابقا.
3- ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/ 272)، و قال: رواه الدارقطني في الأفراد، و العسكري في الأمثال، و ابن عدي في الكامل.

من حيث يكون القصد بالإثبات فيها إلى معنى ليس هو معنى اللّفظ، و لكنه معنى يستدلّ بمعنى اللفظ عليه، و يستنبط منه، كنحو ما ترى من أن القصد في قولهم:

«هو كثير رماد القدر»، إلى كثرة القرى، و أنت لا تعرف ذلك من هذا اللفظ الذي تسمعه، و لكنك تعرفه بأن تستدلّ عليه بمعناه، و على ما مضى الشرح فيه.

و إذ قد عرفت ذلك، فينبغي أن يقال لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا: «إنّ الفصاحة وصف يجب للكلام من أجل مزيّة تكون في معناه، و أنها لا تكون وصفا له من حيث اللّفظ مجرّدا عن المعنى»، و احتجّوا بأن قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا وصف بأنه فصيح، كان ذلك من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون تفسيره فصيحا مثله» أخبرونا عنكم، أ ترون أنّ من شأن هذه الأجناس، إذا كانت في الكلام، أن تكون له بها مزيّة توجب له الفصاحة، أم لا ترون ذلك؟

فإن قالوا: لا نرى ذلك لم يكلّموا و إن قالوا: نرى للكلام، إذا كانت فيه، مزيّة توجب له الفصاحة.

قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية، أ تكون في اللفظ أم في المعنى؟

فإن قالوا: في اللفظ دخلوا في الجهالة، من حيث يلزم من ذلك أن تكون «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» أوصافا للفظ، لأنه لا يتصوّر أن تكون مزيّتها في اللفظ حتى تكون أوصافا له. و ذلك محال، من حيث يعلم كلّ عاقل أنه لا يكنى باللفظ عن اللفظ، و أنه إنّما يكنى بالمعنى عن المعنى. و كذلك يعلم أنه لا يستعار اللفظ مجرّدا عن المعنى، و لكن يستعار المعنى، ثم اللفظ يكون تبع المعنى، على ما قدّمنا الشرح فيه. و يعلم كذلك أنّه محال أن يضرب «المثل» باللفظ، و أن يكون قد ضرب لفظ: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى» مثلا لتردّده في أمر البيعة.

و إن قالوا: هي في المعنى.

قيل لهم: فهو ما أردناكم عليه، فدعوا الشكّ عنكم، و انتبهوا من رقدتكم، فإنّه علم ضروريّ قد أدّى التقسيم إليه، و كلّ علم كان كذلك، فإنه يجب القطع على كلّ سؤال يسأل فيه بأنّه خطأ، و أنّ السّائل ملبوس عليه.

ثم إن الذي يعرف به وجه دخول الغلط عليهم في قولهم: «إنّه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون تفسيره فصيحا مثله»، هو أنّك إذا نظرت إلى كلامهم هذا وجدتهم كأنهم قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا كان

ص: 281

فيه كناية أو استعارة أو تمثيل، كان لذلك فصيحا، لوجب أن يكون إذا لم توجد فيه هذه المعاني فصيحا أيضا». ذاك لأن تفسير «الكناية» أن نتركها و نصرّح بالمكنّي عنه فنقول: إن المعنى في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، أنه كثير القرى و كذلك الحكم في «الاستعارة»، فإنّ تفسيرها أن نتركها، و نصرّح بالتشبيه فنقول في «رأيت أسدا»: إن المعنى: رأيت رجلا يساوي الأسد في الشجاعة و كذلك الأمر في «التمثيل»، لأنّ تفسيره أن نذكر المتمثّل له فنقول في قوله: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»: إن المعنى أنه قال: أراك تتردّد في أمر البيعة فتقول تارة أفعل، و تارة لا أفعل، كمن يريد الذّهاب في وجه، فتريه نفسه تارة أن الصواب في أن يذهب، و أخرى أنه في أن لا يذهب، فهو يقدّم رجلا و يؤخر أخرى. و هذا خروج عن المعقول، لأنه بمنزلة أن تقول لرجل قد نصب لوصف علّة: «إن كان هذا الوصف يجب لهذه العلة، فينبغي أن يجب مع عدمها».

ثم إنّ الذي استهواهم، هو أنهم نظروا إلى تفسير ألفاظ اللغة بعضها ببعض، فلما رأوا اللفظ إذا فسّر بلفظ، مثل أن يقال في «الشرجب» إنه الطويل، لم يجز أن يكون في المفسّر من حيث المعنى، مزيّة لا تكون في التفسير ظنوا أن سبيل ما نحن فيه ذلك السبيل. و ذلك غلط منهم، لأنه إما كان للمفسّر، فيما نحن فيه، الفضل و المزيّة على التّفسير، من حيث كانت الدّلالة في المفسّر دلالة معنى على معنى، و في التفسير دلالة لفظ على معنى. و كان من المركوز في الطّباع، و الرّاسخ في غرائز العقول، أنه متى أريد الدّلالة على معنى، فترك أن يصرّح به و يذكر باللّفظ الذي هو له في اللغة، و عمد إلى معنى آخر فأشير به إليه، و جعل دليلا عليه كان للكلام بذلك حسن و مزيّة لا يكونان إذا لم يصنع ذلك، و ذكر بلفظه صريحا.

و لا يكون هذا الذي ذكرت أنّه سبب فضل المفسّر على التفسير، من كون الدّلالة في المفسّر دلالة معنى على معنى، و في التفسير دلالة لفظ على معنى، حتى يكون للفظ المفسّر معنى معلوم يعرفه السامع، و هو غير معنى لفظ التفسير في نفسه و حقيقته، كما ترى من أنّ الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، غير الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير القرى»، و لو لم يكن كذلك، لم يتصوّر أن يكون هاهنا دلالة معنى على معنى.

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فقد حصل لنا منها أن المفسّر يكون له دلالتان:

دلالة اللّفظ على المعنى، و دلالة المعنى الذي دلّ اللّفظ عليه على معنى لفظ آخر و لا

ص: 282

يكون للتفسير إلّا دلالة واحدة، و هي دلالة اللفظ. و هذا الفرق هو سبب أن كان للمفسّر الفضل و المزيّة على التفسير.

و محال أن يكون هذا قضيّة المفسّر و التّفسير في ألفاظ اللغة، ذاك لأن معنى المفسّر يكون دالّا مجهولا عند السامع، و محال أن يكون للمجهول دلالة.

ثم إن معنى المفسّر يكون هو معنى التفسير بعينه، و محال إذا كان المعنى واحدا أن يكون للمفسّر فضل على التفسير، لأن الفضل كان في مسألتنا بأن دلّ لفظ المفسّر على معنى، ثم دلّ معناه على معنى آخر. و ذلك لا يكون مع كون المعنى واحدا و لا يتصوّر.

بيان هذا: أنّه محال أن يقال إن معنى «الشّرجب» الذي هو المفسّر، يكون دليلا على معنى تفسير الذي هو «الطويل» على وزان قولنا إن معنى: «كثير رماد القدر»، يدل على معنى تفسيره الذي هو «كثير القرى»، لأمرين:

أحدهما: أنك لا تفسّر «الشرجب» حتى يكون معناه مجهولا عند السامع، و محال أن يكون للمجهول دلالة.

و الثاني: أن المعنى في تفسيرنا «الشرجب» بالطويل، أن نعلم السامع أن معناه هو معنى الطويل بعينه. و إذا كان كذلك، كان محالا أن يقال: إن معناه يدل على معنى الطويل، بل الذي يعقل أن يقال: إنّ معناه هو معنى الطويل. فاعرف ذلك.

و انظر إلى لعب الغفلة بالقوم، و إلى ما رأوا في منامهم من الأحلام الكاذبة! و لو أنهم تركوا الاستنامة إلى التقليد، و الأخذ بالهوينا، و ترك النّظر، و أشعروا قلوبهم أن هاهنا كلاما ينبغي أن يصغى إليه لعلموا، و لعاد إعجابهم بأنفسهم في سؤالهم هذا و في سائر أقوالهم، عجبا منها و من تطويح الظنون بها.

و إذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم و فحش غلطهم، فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، و المبالغة التي تحسّها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها، و لكنّها في طريق إثباته لها، و تقريره إيّاها، و أنّك إذا سمعتهم يقولون: «إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزيّة و فضلا، و توجب لها شرفا و نبلا، و أن تفخّمها في نفوس السامعين» فإنهم لا يعنون أنفس المعاني، كالتي يقصد المتكلم بخبره إليها، كالقرى و الشجاعة و التردّد في الرأي، و إنما يعنون إثباتها لما تثبت له و يخبر بها عنه.

فإذا جعلوا للكناية مزيّة على التصريح، لم يجعلوا تلك المزيّة في المعنى المكني

ص: 283

عنه، و لكن في إثباته للذي يثبت له، و ذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغيّر في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها، و يترك أن تذكر بالألفاظ التي هي لها في اللغة. و من هذا الذي يشكّ أن معنى طول القامة و كثرة القرى لا يتغيّران بأن يكنى عنهما بطول النّجاد و كثرة رماد القدر، و تقدير التغيير فيهما يؤدّي إلى أن لا تكون الكناية عنهما، و لكن عن غيرهما؟

و قد ذكرت هذا في صدر الكتاب، و ذكرت أن السبب في أن كان يكون للإثبات إذا كان من طريق «الكناية» مزيّة لا تكون إذا كان من طريق التصريح، أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر، كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها و دليلها، و ما هو علم على وجودها، و ذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها، و ذلك لأنّه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد.

و ذكرت أن السّبب في أن كانت «الاستعارة» أبلغ من الحقيقة، أنك إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ و أشدّ في تسويته أنك إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ و أشدّ في تسويته بالأسد في الشّجاعة. ذاك لأنه محال أن يكون من الأسود، ثم لا تكون له شجاعة الأسود. و كذلك الحكم في «التمثيل»، فإذا قلت: «أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، كان أبلغ في إثبات التردّد له من أن تقول: «أنت كمن يقدّم رجلا و يؤخر أخرى».

و اعلم أنّه قد يهجس في نفس الإنسان شي ء يظنّ من أجله أنّه ينبغي أن يكون الحكم في المزيّة التي تحدث بالاستعارة، أنها تحدث في المثبت دون الإثبات.

و ذلك أن تقول: إنّا إذا نظرنا إلى «الاستعارة»، وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوّة الشبه، و أنه قد تناهى إلى أن صار المشبّه لا يتميّز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله شبّه به. و إذا كان كذلك، كانت المزيّة الحادثة بها حادثة في الشّبه. و إذا كانت حادثة في الشّبه، كانت في المثبت دون الإثبات.

و الجواب عن ذلك أن يقال: إن الاستعارة، لعمري، تقتضي قوّة الشّبه، و كونه بحيث لا يتميّز المشبه عن المشبّه به، و لكن ليس ذاك سبب المزيّة. و ذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزيّة، لكان ينبغي إذا جئت به صريحا فقلت: «رأيت رجلا مساويا للأسد في الشجاعة، و بحيث لو لا صورته لظننت أنّك رأيت أسدا»، و ما شاكل ذلك من ضروب المبالغة، أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك: «رأيت أسدا».

و ليس يخفى على عاقل أنّ ذلك لا يكون.

ص: 284

فإن قال قائل: إن المزيّة من أجل أنّ المساواة تعلم في «رأيت أسدا» من طريق المعنى، و في «رأيت رجلا مساويا للأسد» من طريق اللفظ.

قيل: قد قلنا فيما تقدم، إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه، بأن يكنى عنه بمعنى آخر و أنه لا يتصوّر أن يتغيّر معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النّجاد، و معنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثير الرّماد. و كما أنّ ذلك لا يتصوّر، فكذلك لا يتصوّر أن يتغير معنى مساواة الرّجل الأسد في الشجاعة، بأن يكنى عن ذلك و يدلّ عليه بأن تجعله «أسدا». فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله: [من البسيط]

فأسبلت لؤلؤا من نرجس، و سقت وردا، و عضّت على العنّاب بالبرد (1)

فرأيته قد أفادك أن «الدّمع» كان لا يخرم من شبه اللؤلؤ، و «العين» من شبه النرجس شيئا، فلا تحسبنّ أن سبب الحسن الذي تراه فيه، و الأريحية التي تجدها عنده، أنه أفادك ذلك فحسب. و ذاك أنك تستطيع أن تجي ء به صريحا فتقول:

«فأسبلت دمعا كأنه اللّؤلؤ بعينه، من عين كأنها النّرجس حقيقة»، ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئا. و لكن اعلم أنّ سبب أن راقك، و أدخل الأريحيّة عليك، أنه أفادك في إثبات شدّة الشبه مزيّة، و أوجدك فيه خاصّة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها، و يجد في نفسه هزّة عندها، و هكذا حكم نظائره كقول أبي نواس: [من السريع

تبكي فتذري الدّرّ عن نرجس، و تلطم الورد بعنّاب (2)

و قول المتنبي: [من الوافر]

بدت قمرا، و مالت خوط بان، و فاحت عنبرا، و رنت غزالا (3)

و اعلم أن منشأ «الاستعارة» أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء، ازدادت الاستعارة حسنا، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألّف تأليفا إن ).

ص: 285


1- البيت للوأواء الدمشقي، في ديوانه، و يروى: «فأمطرت» بدل «فأسبلت» و هي الرواية المشهورة.
2- البيت في ديوانه (349)، من أربعة أبيات قالها في جنان و هي: يا قمرا أبرزه مأتم يندب شجوا بين أتراب يبكي فيذري الدر من نرجس و يلطم الورد بعناب أبرزه المأتم لي كارها برغم بواب و حجاب لا زال موتا دأب أحبابه و كان إن أبصره و ابى
3- البيت للمتنبي في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني و مطلعها: بقائي شاء ليس هم ارتحالا و حسن الصبر زموا لا الجمالا تولوا بغتة فكأن بينا تهيبني ففاجأني اغتيالا بدت: ظهرت، الخوط: الغصن الناعم، رنت: نظرت. راجع البيت ص (202) هامش (2).

أردت أن تفصح فيه بالتشبيه، خرجت إلى شي ء تعافه النفس و يلفظه السمع، و مثال ذلك قول ابن المعتز: [من مجزوء الكامل

أثمرت أغصان راحته لجناة الحسن عنّابا (1)

أ لا ترى أنّك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه و تفصح به، احتجت إلى أن تقول: «أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن، شبيه العنّاب من أطرافها المخضوبة»، و هذا ما لا تخفى غثاثته. من أجل ذلك كان موقع «العناب» في هذا البيت أحسن منه في قوله:

و عضّت على العنّاب بالبرد و ذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط، لأنك لو قلت:

«و عضّت على أطراف أصابع العنّاب بثغر كالبرد»، كان شيئا يتكلّم بمثله و إن كان مرذولا. و هذا موضع لا يتبيّن سرّه إلّا من كان ملهب الطبع حادّ القريحة. و في الاستعارة علم كثير، و لطائف معان، و دقائق فروق، و سنقول فيها إن شاء اللّه في موضع آخر.

و اعلم أنّا حين أخذنا في الجواب عن قولهم: «إنه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحا مثله»، قلنا:

«إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين، قسم تعزى المزيّة فيه إلى اللفظ، و قسم تعزى فيه إلى النظم»، و قد ذكرنا في القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل، إذا هو تأمّلها، شكّ في بطلان ما تعلّقوا به، من أنه يلزمنا في قولنا: «إنّ الكلام يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه»، أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحا مثله، و أنه تهوّس منهم، و تقحّم في المحالات.

و أمّا القسم الذي تعزى فيه المزية إلى «النّظم» فإنهم إن ظنّوا أن سؤالهم الذي اغترّوا به يتّجه لهم فيه، كان أمرهم أعجب، و كان جهلهم في ذلك أغرب. و ذلك أن «النظم»، كما بيّنا، إنّما هو توخّي معاني النحو و أحكامه و فروقه و وجوهه، و العمل ».

ص: 286


1- البيت في ديوانه (40) ط، دار صادر، بيروت، و هو من قصيدة مطلعها: جار هذا الدهر أو آبا و قراك الهم أو صابا و وفود النجم واقفة لا ترى في الغرب أبوابا و الجناة: القاطفون. العناب: أراد أنامله التي تشبه العناب باحمرارها. و رواية الديوان: «لجناة الحسن» بدل «بجنان الحسن».

بقوانينه و أصوله، و ليست معاني النّحو معاني ألفاظ، فيتصوّر أن يكون لها تفسير.

و جملة الأمر، أن «النظم» إنما هو أن «الحمد» من قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مبتدأ، و «للّه» خبره، و «ربّ» صفة لاسم اللّه تعالى و مضاف إلى «العالمين» و «العالمين» مضاف إليه، و «الرحمن الرحيم» صفتان كالرب، و «مالك» من قوله: «مالك يوم الدّين» صفة أيضا، و مضاف إلى يوم. و «يوم» مضاف إلى «الدين»، و «إيّاك» ضمير اسم اللّه تعالى، و هو ضمير يقع موقع الاسم إذا كان الاسم منصوبا، معنى ذلك أنك لو ذكرت اسم اللّه مكانه لقلت: «اللّه نعبد»، ثم إنّ «نعبد» هو المقتضى معنى النصب فيه، و كذلك حكم «إيّاك نستعين». ثم إنّ جملة «إيّاك نستعين» معطوف بالواو على جملة «إيّاك نعبد»، و «الصّراط» مفعول، و «المستقيم» صفة للصّراط، و «صراط الّذين» بدل من «الصراط المستقيم»، «و أنعمت عليهم» صلة الذين، «و غير المغضوب عليهم» صفة «الذين»، و «الضّالين» معطوف على «المغضوب عليهم».

فانظر الآن هل يتصوّر في شي ء من هذه المعاني أن يكون معنى اللفظ؟ و هل يكون كون «الحمد» مبتدأ معنى لفظ الحمد؟ أم يكون كون «رب» صفة و كونه مضافا إلى «العالمين» معنى لفظ «الرب»؟.

فإن قيل: إنّه إن لم تكن هذه المعاني أنفس الألفاظ، فإنها تعلم على كل حال من ترتيب الألفاظ، و من الإعراب، فبالرفعة في «الدال» من «الحمد» يعلم أنه مبتدأ، و بالجر في «الباء» من «رب» يعلم أنه صفة، و بالياء في «العالمين» يعلم أنه مضاف إليه، و على هذا قياس الكلّ.

قيل: ترتيب اللفظ لا يكون لفظا، و الإعراب و إن كان يكون لفظا، فإنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا لفظان كلاهما علامة إعراب، ثم يكون أحدهما تفسيرا للآخر. و زيادة القول في هذا من خطل الرأي، فإنه مما يعلمه العاقل ببديهة النظر، و من لم يتنبّه له في أول ما يسمع، لم يكن أهلا لأن يكلّم. و نعود إلى رأس الحديث فنقول:

قد بطل الآن من كل وجه و كل طريق، أن تكون «الفصاحة» وصفا للفظ من حيث هو لفظ و نطق لسان. و إذا كان هذا صورة الحال و جملة الأمر، ثم لم تر القوم تفكّروا في شي ء مما شرحناه بحال، و لا أخطروه لهم ببال، بان و ظهر أنهم لم يأتوا الأمر من بابه، و لم يطلبوه من معدنه، و لم يسلكوا إليه طريقه، و أنّهم لم يزيدوا على

ص: 287

أن أوهموا أنفسهم وهما كاذبا أنهم قد أبانوا الوجه الذي به كان القرآن معجزا، و الوصف الذي به بان من كلام المخلوقين، من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولا يشفى من شاكّ غليلا، و يكون على علم دليلا، و إلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلا.

و اعلم أنه إذا نظر العاقل إلى هذه الأدلّة فرأى ظهورها، استبعد أن يكون قد ظنّ ظانّ في «الفصاحة» أنّها من صفة اللفظ صريحا. و لعمري إنه لكذلك ينبغي، إلّا أنّا إنما ننظر إلى جدّهم و تشدّدهم و بتّهم الحكم «بأن المعاني لا تتزايد و إنما تتزايد الألفاظ»، فلئن كانوا قد قالوا «الألفاظ» و هم لا يريدونها أنفسها، و إنما يريدون لطائف معان تفهم منها، لقد كان ينبغي أن يتبعوا ذلك من قولهم ما ينبئ عن غرضهم، و أن يذكروا أنهم عنوا بالألفاظ ضربا من المعنى، أن غرضهم مفهوم خاصّ.

هذا، و أمر «النظم» في أنه ليس شيئا غير توخّي معاني النحو فيما بين الكلم، و أنك ترتّب المعاني، أوّلا في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك، و أنّا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني، لم يتصوّر أن يجب فيها نظم و ترتيب في غاية القوة و الظهور، ثمّ ترى الذين لهجوا بأمر «اللفظ» قد أبوا إلّا أن يجعلوا «النّظم» في الألفاظ. ترى الرّجل منهم يرى و يعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجي ء بالألفاظ مرتّبة إلّا من بعد أن يفكّر في المعاني و يرتّبها في نفسه على ما أعلمناك، و ثم تفتّشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته، و تراه ينظر إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تقع مرتّبة في نفسه إلا من بعد أن تقع الألفاظ مرتبة في سمعه، نسي حال نفسه، و اعتبر حال من يسمع منه. و سبب ذلك قصر الهمّة، و ضعف العناية، و ترك النّظر، و الأنس بالتقليد. و ما يغني وضوح الدّلالة مع من لا ينظر فيها، و إنّ الصّبح ليملأ الأفق، ثم لا يراه النائم و من قد أطبق جفنه؟.

و اعلم أنك لا ترى في الدّنيا علما قد جرى الأمر فيه بديئا و أخيرا على ما جرى عليه في «علم الفصاحة و البيان».

أما البدي ء، فهو أنك لا ترى نوعا من أنواع العلوم إلّا و إذا تأملت كلام الأوّلين الذين علّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، و التصريح أغلب من التّلويح. و الأمر في «علم الفصاحة» بالضد من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه، وجدت جلّه أو كلّه رمزا و وحيا، و كناية و تعريضا، و إيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلّا من غلغل الكفر و أدقّ النّظر، و من يرجع من طبعه إلى ألمعيّة يقوى معها على الغامض، و يصل بها إلى الخفي، حتى كأنّ بسلا حراما أن تتجلّى معانيهم سافرة

ص: 288

الأوجه لا نقاب لها، و بادية الصّفحة لا حجاب دونها، و حتى كأن الإفصاح بها حرام، و ذكرها إلا على سبيل الكناية و التعريض غير سائغ.

و أما الأخير، فهو أنّا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم في شي ء من العلوم أن يحفظوا كلاما للأوّلين و يتدارسوه، و يكلّم به بعضهم بعضا، من غير أن يعرفوا له معنى، و يقفوا منها على غرض صحيح، و يكون عندهم، إن يسألوا عنه، بيان له و تفسير إلا «علم الفصاحة»، فإنّك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظا للقدماء و عبارات، من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا، أو يستطيعوا- إن يسألوا عنها- أن يذكروا لها تفسيرا يصحّ.

فمن أقرب ذلك، أنك تراهم يقولون إذا هم تكلموا في مزيّة كلام على كلام:

«إن ذلك يكون بجزالة اللّفظ» و إذا تكلّموا في زيادة نظم على نظم: «إن ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة و على وجه دون وجه»، ثم لا تجدهم يفسّرون الجزالة بشي ء، و يقولون في المراد «بالطريقة» و «الوجه» ما يحلى منه السامع بطائل.

و يقرءون في كتب البلغاء ضروب كلام قد وصفوا «اللّفظ» فيها بأوصاف يعلم ضرورة إليه من حيث هو لفظ و نطق لسان و صدى حرف، و كقولهم: «لفظ متمكّن غير قلق و لا ناب به موضعه، و إنّه جيّد السبك صحيح الطّابع، و أنه ليس فيه فضل عن معناه» و كقولهم: «إن من حقّ اللفظ أن يكون طبقا للمعنى، لا يزيد عليه و لا ينقص عنه» و كقول بعض من وصف رجلا من البلغاء: «كانت ألفاظه قوالب لمعانيه»، هذا إذا مدحوه و قولهم إذا ذمّوه: «هو لفظ معقّد، و إنه بتعقيده قد استهلك المعنى»، و أشباه لهذا، ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن يطلب لما قالوه معنى، و تعلم له فائدة، و يجشّم فيه فكر، و أن يعتقد على الجملة أقلّ ما في الباب، أنه كلام لا يصحّ حمله على ظاهره، و أن يكون المراد «باللفظ» فيه نطق اللسان.

فالوصف بالتّمكّن و القلق في «اللفظ» محال، فإنما يتمكن الشّي ء و يقلق إذا كان شيئا يثبت في مكان، و «الألفاظ» حروف لا يوجد منها حرف حتى يعدم الذي كان قبله. و قولهم: «متمكّن» أو «قلق» وصف للكلمة بأسرها، لا حرف حرف منها.

ثم إنه لو كان يصحّ في حروف الكلمة أن تكون باقية بمجموعها، لكان ذلك فيها محالا أيضا، من حيث أنّ الشي ء إنما يتمكن و يقلق في مكان الذي يوجد فيه، و مكان الحروف إنّما هو الحلق و الفم و اللسان و الشفتان، فلو كان يصحّ عليها أن توصف بأنها تتمكّن و تقلق، لكان يكون ذلك التمكّن و ذلك القلق منها في أماكنها من الحلق و الفم و اللسان و الشفتين.

ص: 289

و كذلك قولهم: «لفظ ليس فيه فضل عن معناه»، محال أن يكون المراد به «اللّفظ»، لأنه ليس هاهنا اسم أو فعل أو حرف يزيد على معناه أو أن ينقص عنه.

كيف؟ و ليس بالذّرع وضعت الألفاظ على المعاني.

و إن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل، فكذلك. و ذلك أنه ليس هاهنا جملة من مبتدأ و خبر أو فعل و فاعل، يحصل بها الإثبات أو النّفي، أتمّ أو أنقص مما يحصل بأخرى. و إنّما فضل اللفظ عن المعنى: أن تزيد الدّلالة بمعنى على معنى، فتدخل في أثناء ذلك شيئا لا حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه. و كذلك السبيل في «السّبك و الطّابع» و أشباههما، لا يحتمل شي ء من ذلك أن يكون المراد به «اللّفظ» من حيث هو لفظ.

فإن أردت الصدق، فإنّك لا ترى في الدنيا شأنا أعجب من شأن الناس مع «اللفظ»، و لا فساد رأي مازج النفوس و خامرها و استحكم فيها و صار كإحدى طبائعها، من رأيهم في «اللفظ». فقد بلغ من ملكته لهم و قوّته عليهم، أن تركهم و كأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم، و غيّبوا عن عقولهم، و حيل بينهم و بين أن يكون لهم فيما يسمعونه نظر، و يرى لهم إيراد في الإصغاء و صدر، فلست ترى إلا نفوسا قد جعلت ترك النّظر دأبها، و وصلت بالهوينا أسبابها، فهي تغترّ بالأضاليل و تتباعد عن التحصيل، و تلقي بأيديها إلى الشّبه، و تسرع إلى القول المموّه.

و لقد بلغ من قلّة نظرهم أن قوما منهم لما رأوا الكتب المصنّفة في اللّغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، و رأوا أبا العباس ثعلبا قد سمّى كتابه «الفصيح» (1)، مع أنه لم يذكر فيه إلّا اللغة و الألفاظ المفردة، و كان محالا إذا قيل: إن «الشّمع» بفتح الميم، أفصح من «الشّمع» بإسكانه، و أن يكون ذلك من أجل المعنى، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئا في الذي سمّي به سبق إلى قلوبهم أنّ حكم الوصف بالفصاحة أينما كان و في أيّ شي ء كان، أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتّة، و أن يكون وصفا للّفظ في نفسه، و من حيث هو لفظ و نطق لسان و لم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، أنها في اللّغة أثبت، و في استعمال الفصحاء أكثر.

أو أنها أجرى على مقاييس اللغة و القوانين التي وضعوها، و أنّ الذي هو معنى «الفصاحة» في أصل اللغة، هو الإبانة عن المعنى، بدلالة قولهم: «فصيح» و «أعجم»، ).

ص: 290


1- كتاب في الأدب و اللغة لثعلب النحوي المتوفى سنة (291 ه)، و له شروح كثيرة منها شرح المبرد، كشف الظنون (2/ 1272).

و قولهم: «أفصح الأعجمي»، و «فصح اللّحّان» و «أفصح الرّجل بكذا»، إذا صرّح به و أنه لو كان وصفهم الكلمات المفردة بالفصاحة من أجل وصف هو لها من حيث هي ألفاظ و نطق لسان، لوجب إذا وجدت كلمة يقال إنها كلمة فصيحة على صفة في اللّفظ؛ أن لا توجد كلمة على تلك الصّفة، إلا وجب لها أن تكون فصيحة، و حتى يجب إذا كانت «فقهت الحديث» بالكسر أفصح منه بالفتح، أن يكون سبيل كلّ فعل مثله في الزّنة أن يكون الكسر فيه أفصح من الفتح.

ثم إنّ فيما أودعه ثعلب كتابه، ما هو أفصح، من أجل أن لم يكن فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه، و مثل أنّ «وقفت» أفصح من «أوقفت»، أ فترى أنّه حدث في «الواو» و «القاف» و «الفاء» بأن لم يكن معها الهمزة، فضيلة وجب لها أن تكون أفصح؟ و كفى برأي هذا مؤدّاه تهافتا و خطلا! و جملة الأمر أنه لا بدّ لقولنا «الفصاحة» من معنى يعرف، فإن كان ذلك المعنى وصفا في ألفاظ الكلمات المفردة، فينبغي أن يشار لنا إليه، و توضع اليد عليه.

و من أبين ما يدلّ على قلة نظرهم، أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه «الفصاحة»، أن «الاستعارة» عنوان ما يجعل به «اللفظ» فصيحا، و أن «المجاز» جملته، و «الإيجاز» من معظم ما يوجب للّفظ الفصاحة. و أنت تراهم يذكرون ذلك و يعتمدونه، ثم يذهب عنهم أن إيجابهم «الفصاحة» للفظ بهذه المعاني، اعتراف بصحّة ما نحن ندعوهم إلى القول به، من أنّه يكون فصيحا لمعناه.

أما «الاستعارة»، فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه، من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى «اللفظ»، و اللّفظ تبع، من حيث أنا لا نقول: «رأيت أسدا»، و نحن نعني رجلا، إلّا على أنّا ندّعي أنّا رأينا أسدا بالحقيقة، من حيث نجعله لا يتميّز عن الأسد في بأسه و بطشه و جرأة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا «الاستعارة» وصفا للّفظ من حيث هو لفظ، مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»، كنت نقلت اسم «الأسد» إلى «الرجل»، أو جعلته هكذا غفلا ساذجا في معنى شجاع. أ فترى أن لفظ «الأسد» لما نقل عن السبع إلى «الرجل» المشبه به، أحدث هذا النقل في أجراس حروفه و مذاقتها وصفا صار بذلك الوصف فصيحا؟

ثم إن من «الاستعارة» قبيلا (1) لا يصحّ أن يكون المستعار فيه «اللفظ» البتّة،).

ص: 291


1- القبيل: الكفيل و العريف و الضامن القاموس «قبل» (1351).

و لا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى. و ذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد: [من الكامل ]

و غداة ريح قد كشفت و قرّة، إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (1)أكؤس: جمع الكأس، و في مطبوعة الشيخ محمود شاكر: أكواس.(2)

ذاك أنه ليس هاهنا شي ء يزعم أنّ شبهه باليد، حتى يكون لفظ «اليد» مستعارا له، و كذلك ليس فيه شي ء يتوهّم أن يكون قد شبّهه بالزمام، و إنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، بالإنسان يكون زمام البعير في يده، فهو يصرّفه على إرادته، و لما أراد ذلك جعل للشّمال يدا، و على الغداة زماما.

و قد شرحت هذا قبل شرحا شافيا.

و ليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف «الفصاحة» للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. و المحاسن التي تظهر به، و الصّور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق و أعجب. و إن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره، فانظر إلى قوله: [من الرجز] سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى (2) و ذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ، و لا أراد ذلك في «الأكواس»، و لكن لما كان يقال: «سكر الكرى»، و «سكر النوم»، استعار للكرى «الأكواس»، كما استعار الآخر «الكاس» في قوله: [من البسيط] و قد سقى القوم كأس النّعسة السّهر (3) ثمّ إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل، جعل الليل ساقيا، و لما جعله ساقيا جعل له كفّا، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ.

و من اللّطيف النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات، و هي للحكم بن قنبر: [من الطويل ]

و لو لا اعتصامي بالمنى كلّما بدا لي اليأس منها، لم يقم بالهوى صبري

و لو لا انتظاري كلّ يوم جدى غد، لراح بنعشي الدّافنون إلى قبري

ص: 292


1- سبق ص (278) هامش
2- .
3- البيت لأبي دهبل الجمحي، و هو في ديوانه.

و قد رابني و هن المنى و انقباضها و بسط جديد اليأس كفّيه في صدري

ليس المعنى على أنه استعار لفظ «الكفين» لشي ء، و لك على أنّه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، و تمكّن في صدره. لو ما أراد ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل بفضل القدرة على الشي ء. و بأنّه ممكّن منه، و أن يفعل فيه كلّ ما يريد، كقولهم: «قد بسط يديه في المال ينفقه و يصنع فيه ما يشاء»، و «قد بسط العمل يده في الناحية و في ظلم الناس»، فليس لك إلّا أن تقول: إنه لما أراد ذلك، جعل لليأس «كفّين»، و استعارهما له، فأمّا أن توقع الاستعارة فيه على «اللفظ»، فما لا تخفى استحالته على عاقل.

و القول في «المجاز» هو القول في «الاستعارة»، لأنه ليس هو بشي ء غيرها، و إنما الفرق أنّ «المجاز» أعمّ، من حيث أن كلّ استعارة مجاز، و ليس كلّ مجاز استعارة.

و إذا نظرنا من «المجاز» فيما لا يطلق عليه أنه «استعارة»، ازداد خطأ القوم قبحا و شناعة. و ذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنّما كان قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67]، أفصح من أصله الذي هو قولنا: «و النهار لتبصروا أنتم فيه، أو مبصرا أنتم فيه»، من أجل أنه حدث في حروف «مبصر» بأن جعل الفعل للنّهار على سعة الكلام وصف لم يكن. و كذلك يلزم أن يكون السبب في أن كان قول الشاعر: [من الرجز] فنام ليلي و تجلّى همّي (1) أفصح من قولنا: فنمت في ليلي أن كسب هذا المجاز لفظ «نام» و لفظ «الليل» مذاقة لم تكن لهما. و هذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه، و أن يأنف من أن يهمل النّظر إهمالا يؤدّيه إلى مثله، و نسأل اللّه تعالى العصمة و التوفيق.

و إذ قد عرفت ما لزمهم في «الاستعارة» و «المجاز»، فالذي يلزمهم في «الإيجاز» أعجب. و ذلك أنه يلزمهم إن كان «اللّفظ» فصيحا لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزا لأمر يرجع إلى نفسه. و ذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز إلّا أن يدلّ بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، و إذا لم تجعله وصفا للّفظ من أجل معناه، أبطلت معناه، أعني أبطلت معنى الإيجاز. ).

ص: 293


1- راجع ص (197) هامش (1).

ثم إن هاهنا معنى شريفا قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، و هو أنّ العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثّر معاني الألفاظ أو يقلّلها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغيّر على الجملة عمّا أراده واضع اللّغة، و إذا ثبت ذلك، ظهر منه أنّه لا معنى لقولنا: «كثرة المعنى مع قلّة اللفظ»، غير أن «المتكلم يتوصّل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد، لو أنه أراد الدّلالة عليها باللّفظ لاحتاج إلى لفظ كثير.

و اعلم أنّ القول الفاسد و الرأي المدخول، إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة و صيت و علوّ منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته و نشرته، و فشا و ظهر، و كثر الناقلون له و المشيدون بذكره صار ترك النّظر فيه سنّة، و التقليد دينا، و رأيت الذين هم أهل ذلك العلم و خاصّته و الممارسون له، و الذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط و الخطأ فيه لو أنهم نظروا فيه كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبوله و العمل به و الرّكون إليه، و وجدتهم قد أعطوه مقادتهم، و ألانوا له جانبهم، و أوهمهم النّظر إلى منتماه و منتسبه، ثم اشتهاره و انتشاره و إطباق الجمع بعد الجمع عليه أن الضّنّ به أصوب، و المحاماة عليه أولى. و لربّما بل كلّما ظنّوا أنه لم يشع و لم يتّسع، و لم يروه خلف عن سلف، و آخر عن أوّل، إلّا لأن له أصلا صحيحا، و أنه أخذ من معدن صدق، و اشتقّ من نبعة كريمة، و أنه لو كان مدخولا لظهر الدّخل (1) الذي فيه على تقادم الزّمان و كرور الأيام. و كم من خطأ ظاهر و رأي فاسد حظي بهذا السّبب عند النّاس، حتى بوّءوه في أخصّ موضع من قلوبهم، و منحوه المحبة الصادقة من نفوسهم، و عطفوا عليه عطف الأمّ على واحدها. و كم من داء دويّ قد استحكم بهذه العلّة، حتى أعيا علاجه، و حتّى بعل به (2) الطبيب.

و لو لا سلطان هذا الذي وصفت على الناس، و أنّ له أخذة تمنع القلوب عن التدبّر، و تقطع عنها دواعي التفكّر لما كان لهذا الّذي ذهب إليه القوم في أمر «اللفظ» هذا التمكّن و هذه القوة، و لا كان يرسخ في النفوس هذا الرّسوخ، و تنشعب عروقه هذا الشّعب، مع الذي بان من تهافته و سقوطه و فحش الغلط فيه، و أنّك لا ترى في أديمه من أين نظرت، و كيف صرّفت و قلّبت مصحّا، و لا تراه باطلا فيه شوب من الحق، و زيفا فيه شي ء من الفضّة، و لكن ترى الغشّ بحتا و الغيظ صرفا، و نسأل اللّه التوفيق. ).

ص: 294


1- الدخل: الفساد و قوله «لظهر الدخل»: جواب الشرط: و هو «كلّما ظنوا».
2- بعل الطبيب بأمره: دهش و جرم و لم يدر ما يصنع. القاموس «برم» (249). الأخذة: رقية كالسحر. القاموس «أخذ» (421).

و كيف لا يكون في إسار الأخذة، و محولا بينه و بين الفكرة من يسلّم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات، و أنها إنّما تكون فيها إذا ضمّ بعضها إلى بعض، ثم لا يعلم أنّ ذلك يقتضي أن تكون وصفا لها، من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، و من حيث هي ألفاظ و نطق لسان؟

ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه، إلّا و هو يعلم ضرورة أنّ المعنى في «ضمّ بعضها إلى بعض»، تعليق بعضها ببعض، و جعل بعضها بسبب من بعض، لا أن ينطق بعضها في أثر بعض، من غير أن يكون فيما بينها تعلّق، و يعلم كذلك ضرورة إذا فكّر، أن التعلّق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها. أ لا ترى أنّا لو جهدنا كلّ الجهد أن نتصوّر تعلّقا فيما بين لفظين لا معنى تحتهما، لم نتصوّر؟ و من أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين: «مؤتلف» و هو الاسم مع الاسم، و الفعل مع الاسم، و «غير مؤتلف» و هو ما عدا ذلك كالفعل مع الفعل، و الحرف مع الحرف. و لو كان التعلّق يكون بين الألفاظ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف، و أن لا يكون في الدنيا كلمتان إلّا و يصحّ أن يأتلفا، لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ.

و إذا كان كلّ واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفرادا، و أنّها إنّما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض، و كان يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض، تعليق معانيها بعضها ببعض، لا كون بعضها في النّطق على إثر بعض كان واجبا، و إذا علم ذلك، أن يعلم أنّ الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، لأنه محال أن يكون سبب ظهور الفصاحة فيها، تعلّق معانيها بعضها ببعض، ثم تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها. و إذا كان العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه، فليس إلّا أن اعتزامهم على التّقليد قد حال بينهم و بين الفكرة، و عرض لهم منه شبه الأخذة.

و اعلم أنّك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشي ء فيحسبه الشي ء.

و ذاك أنهم قد اعتمدوا في كلّ أمرهم على النّسق الذي يرونه في الألفاظ، و جعلوا لا يحفلون بغيره، و لا يعوّلون في الفصاحة و البلاغة على شي ء سواه، حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه و نطق بألفاظه على النّسق الذي وضعها الشاعر عليه، كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته و بلاغته إلّا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا.

و نحن إذا تأمّلنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شي ء منها على

ص: 295

شي ء، إنما يقع في النفس أنّه «نسق»، إذا اعتبرنا ما توخّي من معاني النحو في معانيها، فأمّا مع ترك اعتبار ذلك، فلا يقع و لا يتصوّر بحال. أ فلا ترى أنك لو فرضت في قوله: [من الطويل ]قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل (1) أن لا يكون «نبك» جوابا للأمر، و لا يكون معدّى «بمن» إلى «ذكرى»، و لا يكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، و لا يكون «منزل» معطوفا بالواو على «حبيب» لخرج ما ترى فيه من التقديم و التأخير عن أن يكون «نسقا»؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشي ء على الشي ء نسقا و ترتيبا، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب ن يقدّم هذا و يؤخّر ذاك، فأمّا أن يكون مع عدم الموجب نسقا، فمحال، لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب «نسقا»، لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النّطق على أي وجه كان «نسقا»، حتى إنّك لو قلت: «نبك قفا حبيب ذكرى من»، لم تكن قد أعدمته النسق و النظم، و إنما أعدمته الوزن فقط. و قد تقدّم هذا فيما مضى، و لكنّا أعدناه هاهنا، لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته.

و اعلم أن «الاحتذاء» عند الشعراء و أهل العلم بالشّعر و تقديره و تمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له و غرض أسلوبا- و «الأسلوب» الضّرب من النّظم و الطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك «الأسلوب» فيجي ء به في شعره، فيشبّه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها، فيقال: «قد احتذى على مثاله»، و ذلك مثل أنّ الفرزدق قال: [من الطويل ]

أ ترجو ربيع أن تجي ء صغارها بخير، و قد أعيا ربيعا كبارها (2)

و احتذاه البعيث فقال: [من الطويل ]

أ ترجو كليب أن يجي ء حديثها بخير، و قد أعيا كليبا قديمها (3) ).

ص: 296


1- البيت سبق في أكثر من موضع و سبق تخريجه، راجع ص (236) هامش رقم (1).
2- البيت في ديوانه (1/ 272) ط، دار صادر، بيروت، من ثلاث أبيات هو أولها في هجاء بني ربيع ابن الحارث رهط مرة بن محكان و البيتان اللذان بعده: عتلّون، صخابوا العشى كأنهم جداء من المعزى شديد يعارها إذا النجم وافى مغرب الشمس حاردت مقاري عبيد و اشتكى القدر جارها
3- البيت من قصيدة البعيث في النقائض (109، 125).

و قالوا: إنّ الفرزدق لما سمع هذا البيت قال: [من الوافر]

إذا ما قلت قافية شرودا تنحّلها ابن حمراء العجان (1)

و مثل ذلك أنّ البعيث قال في هذه القصيدة: [من الطويل ]

كليب لئام النّاس قد تعلمونه و أنت إذا عدّت كليب لئيمها

و قال البحتريّ: [من الطويل ]

بنو هاشم في كل شرق و مغرب كرام بني الدّنيا و أنت كريمها

و حكى العسكريّ في «صنعة الشعر» (2) أن ابن الرّوميّ قال: قال لي البحتري:

قول أبي نواس: [من الطويل ]

و لم أدر من هم غير ما شهدت لهم بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس (3)

مأخوذ من قول أبي خراش الهذليّ: [من الطويل ]

و لم أدر من ألقى عليه رداءه؟ سوى أنّه قد سلّ من ماجد محض

قال فقلت: قد اختلف المعنى! فقال: أما ترى حذو الكلام حذوا واحدا؟

و هذا الذي كتبت من جليّ الأخذ في «الحذو»، و ممّا هو في حدّ الخفيّ قول البحتريّ: [من الطويل ]

و لن ينقل الحسّاد مجدك بعد ما تمكّن رضوى و اطمأن متالع (4)

و قول أبي تمام: [من الكامل ]

و لقد جهدتم أن تزيلوا عزّه فإذا أبان قد رسا و يلملم (5)

قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق: [من الكامل ]ن.

ص: 297


1- هو في ديوانه، و النقائض (125)، و «تنحّلها»: انتحلها، و ابن حمراء العجان: يعني البعيث لأن أمه أعجمية غير عربية.
2- أبو هلال العسكري صاحب «الصناعتين»، كشف الظنون (2/ 1082).
3- هو في ديوانه ص (83)، و ساباط هو ساباط كسرى بالمدائن و البسابس: القفار. و في رواية «ما هم» بدل «من هم»، و به بدل لهم.
4- البيت في ديوانه، و رضوى و متالع: جبلان.
5- البيت في ديوانه ص (258) من قصيدة يمدح فيها مالك بن طوق حين عزل عن الجزيرة مطلعها: أرض مصرّدة و أخرى تثجم تلك التي رزقت و أخرى تحرم و المصرّدة: الممنوعة، و تثجم: تمطر. و أما «أبان» و «يلملم» فهما جبلان.

فادفع بكفّك، إن أردت بناءنا، ثهلان ذا الهضبات، هل يتحلحل؟ (1)

و جملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر «محتذيا» إلّا بما يجعلونه به آخذا و مسترقا، قال ذو الرمة: [من الوافر]

و شعر قد أرقت له غريب أجنّبه المساند و المحالا

فبتّ أقيمه و أقدّ منه قوافي لا أريد لها مثالا (2)

قال يقول: لا أحذوها على شي ء سمعته.

فأمّا أن يجعل إنشاد الشّعر و قراءته «احتذاء»، فما لا يعلمونه كيف؟ و إذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كلّ لفظة لفظا في معناه، كمثل أن يقول في قوله:

[من البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها، و اقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

ذر المآثر لا تذهب لمطلبها، و اجلس فإنك أنت الآكل اللّابس (3)

لم يجعلوا ذلك «احتذاء» و لم يؤهّلوا صاحبه لأن يسموه «محتذيا»، و لكن يسمّون هذا الصنيع «سلخا» (4)، و يرذّلونه و يسخّفون المتعاطي له. فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبيّ يقرأ قصيدة امرئ القيس: إنه احتذاه في قوله: ».

ص: 298


1- البيت للفرزدق في ديوانه ص (157) من قصيدة مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا، دعائمه أعزّ و أطول و ثهلان: جبل، و يتحلحل: يتحرك، يقال: حلحل القوم أزالهم عن مواضعهم، و التحلحل: التحرّك، انظر البيت في اللسان (حلل)، و جاء برواية «ذو» بدلا من «ذا» و الصواب ذا. و في مقاييس اللغة (2/ 20)، و تاج العروس (ثهل)، (حلل)، و بلا نسبة في أساس البلاغة (ثهل).
2- البيتان لذي الرّمة في ديوانه ص (200)، و الأول في أساس البلاغة (فعل)، و الثاني في لسان العرب (سند). و الأرق: السهر. المساند في الشّعر كالسّناد و هو من عيوب الشّعر. المحال من الكلام: ما صرف عن وجهه. و قوله: أقيمه، أي: أقيم الشّعر شعرا لا يقوله غيره. و البيتان من قصيدة له يمدح فيها بلال بن أبي بردة مطلعها: أراح فريق جيرتك الجمالا كأنهم يريدون احتمالا و الاحتمال: الرحيل.
3- البيت للحطيئة في ديوانه ص (108)، و الأزهية ص (175)، و الأغاني (2/ 155)، و خزانة الأدب (6/ 299)، و شرح شواهد الشافية (ص 120)، و شرح شواهد المغني (2/ 916)، و شرح المفصل (6/ 15)، و الشعر و الشعراء (ص 334)، و لسان العرب (ذرق)، (طعم)، (كسا)، و تاج العروس (طعم)، (كسا)، و كتاب العين (1/ 143)، و بلا نسبة في تلخيص الشواهد (ص 418)، و كتاب العين (2/ 26).
4- السلخ: و هو نوع من أنواع السرقات الشعرية و هو الإلمام و من أنواع السرقات «النسخ، المسخ ...».

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل (1)

و العجب من أنّهم لم ينظروا فيعلموا أنه لو كان منشد الشّعر «محتذيا»، لكان يكون قائل شعر، كما أن الذي يحذو النّعل بالنعل يكون قاطع نعل.

و هذا تقرير يصلح لأن يحفظ للمناظرة ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس، كان قد أتى بمثله على سبيل «الاحتذاء»: أخبرنا عنك؟ لما ذا زعمت أنّ المنشد قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس؟ أ لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها، أم لأنه راعى «النّسق» الذي راعاه في النّطق بها؟.

فإن قلت: «إنّ ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها»، أحلت، لأنه إنما يصحّ أن يقال في الثاني أنه أتى بمثل ما أتى بمثل ما أتى به الأوّل، إذا كان الأوّل قد سبق إلى شي ء فأحدثه ابتداء، و ذلك في الألفاظ محال، إذ ليس يمكن أن يقال: إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي هي في قوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل (2) قبل امرئ القيس أحد.

و إن قلت: إنّ ذلك لأنه قد راعى في نطقه بهذه الألفاظ «النّسق» الذي راعاه امرؤ القيس.

قيل: إن كنت لهذا قضيت في المنشد أنّه قد أتى بمثل شعره، فأخبرنا عنك؟

إذا قلت: «إن التّحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء»، ما تعني به؟ أ تعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ القرآن، بمثل الترتيب و النسق الذي تراه في ألفاظ القرآن؟

فإن قال: ذلك أعني.

قيل له: أعلمت أنّه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في أثر بعض على التوالي

ص: 299


1- البيت في ديوانه (ص 117)، و جاءت بلفظ «بجوزه» بدلا من «بصلبه»، و البيت في الإيضاح (ص 265)، و البيتان في المعاني و البيان للطيبي (ص 320)، و تمطى بصلبه: تمدد بظهره و يروى بجوزه أي بجسده. و أردف أعجازا: تابع أواخره بأوائله. و ناء بكلكل: ناء: بمعنى حط و بمعنى بعد و الأولى أولى بالمقام أي: حط بصدره.
2- صدر بيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة و سبق تخريجه.

نسقا و ترتيبا، حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجي ء بها مضموما بعضها إلى بعض، غرض فيها و مقصود، لا يتمّ ذلك الغرض و ذلك المقصود إلّا بأن يتخيّر لها مواضع، فيجعل هذا أوّلا، و ذلك ثانيا؟ فإنّ هذا ما لا شبهة فيه على عاقل. و إذا كان الأمر كذلك، لزمك أن تبيّن الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النّسق الذي تراه.

و لا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي و الموجب للذي تراه من النّسق، المعاني و جعله قد وجب لأمر يرجع إلى اللّفظ، لم تجد شيئا يحيل في وجوبه عليه البتّة، اللهمّ إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن، يزعم أنّ «النسق» الذي تراه في ألفاظ القرآن إنما كان معجزا، من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.

و إذا قال ذلك، لم يمكنه أن يقول: «إن التحدّي، وقع إلى أن يأتوا بمثله في فصاحته و بلاغته»، لأنّ الوزن ليس هو من الفصاحة و البلاغة في شي ء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كلّ قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة و البلاغة.

فإن دعا بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ، إلى أن يجعله في مجرّد الوزن كان قد دخل في أمر شنيع، و هو أن يكون قد جعل القرآن معجزا، لا من حيث هو كلام، و لا بما به كان لكلام فضل على كلام! فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، و لا به كان كلام خيرا من كلام.

و هكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو «الجريان و السّهولة»، ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاما، و لا هو بالذي يتناهى أمره إن عدّ في الفضيلة إلى أن يكون الأصل، و إلى أن يكون المعوّل عليه في المفاضلة بين كلام و كلام، فما به كان الشاعر مفلقا، و الخطيب مصقعا، و الكاتب بليغا.

و رأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن، قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه و سلّم تحدّاهم و فيهم الشعراء و الخطباء و الذين يدلّون بفصاحة اللسان، و البراعة و البيان، و قوّة القرائح و الأذهان، و الذين أوتوا الحكمة و فصل الخطاب و لم نرهم قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه و سلّم تحدّاهم و هم العارفون بما ينبغي أن يصنع، حتّى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان.

ص: 300

و لما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم السلام و قالوا: إنّ اللّه تعالى قد جعل معجزة كلّ نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم، و فيما كانوا يتباهون به، و كانت عوامّهم تعظّم به خواصّهم قالوا: إنّه لما كان السّحر الغالب على قوم فرعون، و لم يكن قد استحكم في زمان استحكامه في زمانه، جعل تعالى معجزة موسى عليه السلام في إبطاله و توهينه و لمّا كان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطبّ، جعل اللّه تعالى معجزته في إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى و لما انتهوا إلى ذكر نبيّنا محمد صلى اللّه عليه و سلّم و ذكر ما كان الغالب على زمانه، لم يذكروا إلا البلاغة و البيان و التصرّف في ضروب النّظم.

و قد ذكرت في الذي تقدّم غير ما ذكرته هاهنا، مما يدلّ على سقوط هذا القول، و ما دعاني إلى إعادة ذكره إلّا أنه ليس لتهالك النّاس في حديث «اللّفظ»، و المحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه و ضنّ أنفسهم به حدّ، فأحببت لذلك أن لا أدع شيئا مما يجوز أن يتعلّق به متعلّق، و يلجأ إليه لاجئ، و يقع منه في نفس سامع شكّ، إلّا استقصيت في الكشف عن بطلانه.

و هاهنا أمر عجيب، و هو أنه معلوم لكل من نظر، أن الألفاظ من حيث هي ألفاظ و كلم و نطق لسان، لا تختصّ بواحد دون آخر، و أنها إنما تختصّ إذا توخّى فيها النظم. و إذا كان كذلك، كان من رفع «النّظم» من البين، و جعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف و جريانها، جاعلا له فيما لا يصحّ إضافته إلى اللّه تعالى. و كفى بهذا دليلا على عدم التوفيق، و شدّة الضّلال عن الطريق.

فصل [في ختام كتابه دلائل الإعجاز يصف به عمله

قد بلغنا في مداواة النّاس من دائهم، و علاج الفساد الذي عرض في آرائهم كلّ مبلغ، و انتهينا إلى كلّ غاية، و أخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسّفون فيها إلى السّنن اللّاحب، و نقلناهم عن الآجن المطروق إلى النّمير الذي يشفي غليل الشّارب، و لم ندع لباطلهم عرقا ينبض إلا كويناه، و لا للخلاف لسانا ينطق إلّا أخرسناه، و لم نترك غطاء كان على بصر ذي عقل إلّا حسرناه، فيا أيها السامع لما قلناه، و الناظر فيما كتبناه، و المتصفّح لما دوّنّاه، إن كنت سمعت سماع صادق الرّغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، و نظرت نظر تامّ العناية في أن يورد و يصدر عن معرفة، و تصفّحت

ص: 301

تصفّح من إذا مارس بابا من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السّنام، و يضرب بالمعلّى من السّهام، فقد هديت لضالّتك، و فتح لك الطريق إلى بغيتك، و هيئ لك الأداة التي بها تبلغ بها، و أوتيت الآلة التي معها تصل. فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، و أعوذ بالحظّ عليك، و وازن بين حالك الآن و قد تنبهت من رقدتك، و أفقت من غفلتك، و صرت تعلم إذا أنت خضت في أمر «اللّفظ» و «النظم» معنى ما تذكر، و تعلم كيف تورد و تصدر، و بينها و أنت من أمرها في عمياء، و خابط خبط عشواء، قصاراك أن تكرّر ألفاظا لا تعرف لشي ء منها تفسيرا، و ضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع لها تبيينا، فإنّك تراك تطيل التعجّب من غفلتك، و تكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدّتك. و نسأل اللّه تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، و نقصده و ننتحيه، لوجهه خالصا، و إلى رضاه عز و جل مؤدّيا، و لثوابه مقتضيا، و للزّلفى عنده موجبا، بمنّه و فضله و رحمته.

ص: 302

فصل [في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ]

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث «اللفظ» كالداء الذي يسري في العروق، و يفسد مزاج البدن، وجب أن يتوخّى دائبا فيهم ما يتوخّاه الطبيب في النّاقة، من تعهّده بما يزيد في منّته، و يبقيه على صحّته، و يؤمنه النّكس في علّته.

و قد علمنا أن أصل الفساد و سبب الآفة، هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصّور، و تحدث فيها خواصّ و مزايا من بعد أن لا تكون.

و إنّك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصّانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم و عمل شنف و غيرهما من أصناف الحليّ. فإنّ جهلهم بذلك من حالها، هو الذي أغواهم و استهواهم، و ورّطهم فيما تورّطوا فيه من الجهالات، و أدّاهم إلى التّعلّق بالمحالات. و ذلك أنهم لما جهلوا شأن الصّورة، وضعوا لأنفسهم أساسا، و بنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى و اللفظ، و لا ثالث- و إنه إذا كان كذلك، وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصّة، و أن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث أنّ ذلك، زعموا، يؤدّي إلى التناقض، و أن يكون معناهما متغايرا و غير متغاير معا.

و لمّا أقرّوا هذا في نفوسهم، حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى «اللّفظ» على ظاهره، و أبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى «اللّفظ»، مثل قولهم: «لفظ متمكّن غير قلق و لا ناب به موضعه»، إلى سائر ما ذكرناه قبل، فيعلموا أنّهم لم يوجبوا للّفظ ما أوجبوه من الفضيلة، و هم يعنون نطق اللّسان و أجراس الحروف، و لكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا «اللفظ»، و هم يريدون الصّورة التي تحدث في المعنى، و الخاصّة التي حدثت فيه، و يعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال.

ص: 303

«و ذهب الشّيخ إلى استحسان المعاني، و المعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربيّ و العجميّ، و الحضريّ و البدويّ، و إنما الشعر صياغة و ضرب من التّصوير».

و ما يعنونه إذا قالوا: «إنه يأخذ الحديث فيشنّفه و يقرّطه، و يأخذ المعنى خرزة فيردّه جوهرة، و عباءة فيجعله ديباجة، و يأخذه عاطلا فيردّه حاليا». و ليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء و يشتبه هذا الاشتباه، و لكن إذا تعاطى الشي ء غير أهله، و تولّى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، و اشتدّ البلاء. و لو لم يكن من الدّليل على أنهم لم ينحلوا «اللّفظ» الفضيلة و هم يريدونه نفسه و على الحقيقة إلّا واحد، و هو وصفهم له بأنه يزين المعنى، و أنّه حلي له لكان فيه الكفاية.

و ذاك أن الألفاظ أدلّة على المعاني، و ليس للدّليل إلّا أن يعلمك الشي ء على ما يكون عليه، فأمّا أن يصير الشي ء بالدليل، على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، و لا يتصوّر في وهم.

و ممّا إذا تفكّر فيه العاقل أطال التعجّب من أمر النّاس، و من شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا «الأخذ» و «السرقة»: «إنّ من أخذ معنى عاريا، فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به» (1)، و هو كلام مشهور متداول يقرأه الصّبيان في أوّل كتاب «عبد الرحمن»، ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في «اللّفظ»، يفكّر في ذلك فيقول: من أين يتصوّر أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدلّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجي ء الواحد منّا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان؟

ثم هب أنه يصحّ له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على معنى، أن يصير أحقّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئا، و لا يحدث فيه صفة، و لا يكسبه فضيلة؟ و إذا كان كذلك، فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون «اللفظ» في قولهم «فكساه لفظا من عنده» (2)، عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟

فإن قالوا: بلى يكون، و هو أن يستعير للمعنى لفظا.

قيل: الشأن في أنّهم قالوا: «إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده، كان أحق به»، و «الاستعارة» عندكم مقصورة على مجرّد اللّفظ، و لا ترون المستعير يصنع ».

ص: 304


1- كلام في مقدمة «الألفاظ الكتابية» لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني.
2- الكلام لعبد الرحمن في كتابه «الألفاظ الكتابية».

بالمعنى شيئا، و ترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه. و إذا كان كذلك، فمن أين، ليت شعري، يكون أحقّ به؟ فاعرفه.

ثم إن أردت مثالا في ذلك، فإنّ من أحسن شي ء فيه، ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة، و ذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك: [من الطويل ]

أ مسلم، إنّي يا ابن كلّ خليفة، و يا جبل الدّنيا، و يا واحد الأرض

شكرتك، إنّ الشّكر حبل من التّقى، و ما كلّ من أوليته صالحا يقضي

و أنبهت لي ذكري، و ما كان خاملا، و لكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض (1)

فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال: [من الطويل ]

لقد زدت أوضاحي امتدادا، و لم أكن بهيما، و لا أرضي من الأرض مجهلا

و لكن أياد صادفتني جسامها أغرّ، فأوفت بي أغرّ محجّلا (2)

و في «كتاب الشعر و الشعراء» للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن. قال:

و من الأمثال القديمة قولهم: «حرّا أخاف على جاني كمأة لا قرّا» (3)، يضرب مثلا للذي يخاف من شي ء فيسلم منه و يصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: [من الكامل ]

و حذرت من أمر فمرّ بجانبي لم ينكني، و لقيت ما لم أحذر (4) ).

ص: 305


1- الأبيات في الأغاني (20/ 405) يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك، و جاء البيت الأول برواية أخرى لفظها: أ مسلم إني يا ابن كلّ خليفة و يا فارس الهيجا و يا جبل الأرض و البيت الأول في زهر الآداب (2/ 925)، و طبقات الشعراء (ص 64)، و لسان العرب (نفض)، و بلا نسبة في الإنصاف. و الثاني: في تاج العروس (بعض)، و الثالث: في لسان العرب (شكر) و جاء بلفظ: و نوّهت لي ذكري و ما كان خاملا و لكن بعض الذكر أنبه من بعض
2- البيتان لأبي تمام في ديوانه (ص 237) من قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد الملك الزيّات، و جاء البيت الثاني بلفظ: «ألفت» بدلا من «أوفت»، و الأوضاح: جمع وضح و هو الغرّة في جبهة الفرس و التحجيل. و المجهل: المفازة التي لا أعلام فيها ألفت: لقيت، و قال الشيخ شاكر: «و أرضي» يعني دياره و ديار قومه ليست بمجهل من الأرض، يعني شهرتهم و من ضبط «أرضى» فعلا مضارعا فقد أخطأ المعنى.
3- في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (1/ 373)، و في مجمع الأمثال (212/ 1).
4- نكي العدوّ نكاية: أصاب منه، و نكيت في العدوّ نكاية إذا قلت فيهم و جرحت و هزمت و غلبت. اللسان (نكى). و البيت لسهم بن حنظلة في المؤتلف و المختلف للآمدي (ص 135).

و قال لبيد: [من المنسرح ]

أخشى على أربد الحتوف، و لا أرهب نوء السّماك و الأسد (1)

قال: و أخذه البحتريّ فأحسن و طغى اقتدارا على العبارة، و اتّساعا في المعنى، فقال: [من الكامل ]

لو أنّني أوفي التّجارب حقّها فيما أرت، لرجوت ما أخشاه

و شبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب (2) أيضا، أنشد لإبراهيم بن المهديّ: [من السريع

يا من لقلب صيغ من صخرة في جسد من لؤلؤ رطب

جرحت خدّيه بلحظي، فما برحت حتّى اقتصّ من قلبي (3)

ثم قال: قال عليّ بن هارون: أخذه أحمد بن أبي فنن معنى و لفظا فقال:

أدميت باللّحظات وجنته فاقتصّ ناظره من القلب (4)

قال: و لكنه بنقاء عبارته و حسن مأخذه، قد صار أولى به.

ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرّد اللفظ، و لكن صورة و صفة و خصوصية تحدث في المعنى، و شيئا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنّه على كل حال لم يقل في البحتري أنه «أحسن فطغى اقتدارا على العبارة»، من أجل حروف.

ص: 306


1- البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص 39)، و في الكامل (3/ 229)، و في الأغاني (17/ 59، 60، 67)، و هو من مجموعة أبيات قالها يرثي أخاه أربد الذي قتل بسحابة ارتفعت فرمته بصاعقة فأحرقته نتيجة دعوة النبي صلى اللّه عليه و سلّم، و مما قاله لبيد في رثاء أخيه قوله: ما إن تعرى المنون من أحد لا والد مشفق و لا ولد فجعني الرعد و الصواعق بال فارس يوم الكريهة النّجد يا عين هلّا بكيت أربد إذ قمنا و قام الخصوم في كبد (تعرى المنون) للبناء للمفعول تترك و تهمل و يقال لكل شي ء أهملته و ضليت سبيله قد عريته. و النّجد: البطل ذو النجدة أو المنجد. و الكبد: الشدّة و المشقة هكذا فسر أبو عبيدة قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، و معنى البيت الذي معنا: أن الشاعر يخشى المنون على أربد و لم يظن أن تصيبه صاعقة ذت و تكون السبب الأول من أسباب موته.
2- المراد به كتاب «الشعر و الشعراء» «للمرزباني»، و تقدم التعريف به.
3- لإبراهيم بن المهدي أخو هارون الرشيد (المتوفى سنة 224 ه) الشذرات (2/ 53).
4- لأحمد بن أبي فنن من شعراء الدولة العباسية. البيتان: تقدم تخريجهما.

لو أنني أوفي التّجارب حقّها و كذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة، من أجل حروف.

أدميت باللّحظات و جنته و اعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبّر عنه واحدا، و العبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى و أحسن، فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح و أحسن، اللّفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين، فلمّا رأوا أنّه إذا قيل في «الكلمتين» إن معناهما واحد، لم يكن بينهما تفاوت، و لم يكن للمعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنّوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل. و لقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصوّر أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورة في الآخر البتّة، اللهم إلّا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، و لا يعرض لنظمه و تأليفه، كمثل أن يقول في بيت حطيئة: [من البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها و اقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها و اجلس فإنّك أنت الآكل اللّابس (1)

و ما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد، و أن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية، و لا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحلّ من يوصف بأنه أخذ معنى. ذلك لأنه لا يكون ذلك صانعا شيئا يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام، و مستأنف عبارة و قائل شعر. ذاك لأنّ بيت حطيئة لم يكن كلاما و شعرا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه، مجرّدة معرّاة من معاني النظم و التأليف، بل منها متوخّى فيها ما ترى من كون «المكارم» مفعولا «لدع»، و كون قوله «لا ترحل لبغيتها» جملة أكدت الجملة قبلها، و كون «اقعد» معطوفا بالواو على مجموع ما مضى، و كون جملة «أنت الطاعم الكاسي»، معطوفة بالفاء على «اقعد»، فالذي يجي ء فلا يغيّر شيئا من هذا الّذي به كان كلاما و شعرا، لا يكون قد أتى بكلام ثان و عبارة ثانية، بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئا البتّة.

و جملة الأمر أنه كما لا تكون الفضّة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من

ص: 307


1- سبق تخريجه.

أصناف الحلي بأنفسهما، و لكن بما يحدث فيهما من الصّورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء و أفعال و حروف، و كلاما و شعرا، من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخّي معاني النحو و أحكامه.

فإذن ليس لمن يتصدّى لما ذكرنا، من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها، إلا أن يستركّ عقله، و يستخفّ، و يعدّ معدّ الذي حكي أنه قال: «إني قلت بيتا هو أشعر من بيت حسّان، قال حسّان: [من الكامل ]

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم، لا يسألون عن السّواد المقبل (1)

و قلت:

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم أبدا و لا يسلون من ذا المقبل

فقيل: هو بيت حسّان، و لكنّك قد أفسدته.

و اعلم أنه إنما أتي القوم من قلّة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد، و في كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر، و في أن يقول الشاعران على الجملة في معنى واحد، و في الأشعار التي دوّنوها في هذا المعنى. و لو أنّهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب، و تدبّروا ما فيها حقّ التدبّر، لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم، و كشف الغطاء عن أعينهم.

و قد أردت أن أكتب جملة من الشّعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد، و هو ينقسم قسمين:

قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا، و ترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق و تعجب.

و قسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى و صوّر.

و أبدا بالقسم الأول الّذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلا، و في الآخر مصوّرا

ص: 308


1- البيت له في ديوانه (ص 140)، و في التبيان للطيبي (ص 329)، و خزانة الأدب (2/ 412)، و الدرر (4/ 76)، و شرح أبيات سيبويه (1/ 69)، و شرح شواهد المغني (1/ 378)، و مغني اللبيب (1/ 129)، و همع الهوامع (2/ 9)، و تاج العروس (جبن)، و بلا نسبة في شرح الأشموني (3/ 562). يقول: قد أنست كلابهم بكثرة من يأتيهم، فلا تهر على أحد أي: أن منازلهم لا تخلو من الطراق و العفاة، حتى تعودت كلابهم أن ترى من يقصد منازلهم. لا يسألون عن السواد المقبل: أي: أنهم في سعة لا يبالون من نزل بهم من الناس و لا يهمهم الجمع الكثير، و هو السواد، إذا قصدوا إليهم.

مصنوعا، و يكون ذلك إمّا لأن متأخّرا قصّر عن متقدم، و إمّا لأن هدي متأخّر لشي ء لم يهتد إليه المتقدّم.

و مثال ذلك قول المتنبّي: [من السريع

بئس اللّيالي سهدت من طربي شوقا إلى من يبيت يرقدها (1)

مع قول البحتري: [من الكامل ]

ليل يصادفني و مرهفة الحشا ضدّين أسهره لها و تنامه (2)

و قول البحتري: [من البسيط]

و لو ملكت زماعا ظلّ يجذبني قودا لكان ندى كفّيك من عقلي (3)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

و قيّدت نفسي في ذراك محبّة و من وجد الإحسان قيدا تقيّدا (4)

و قول المتنبي: [من الكامل ]

إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض و من فوقها و البأس و الكرم المحض (5) ن

ص: 309


1- البيت له في ديوانه (ص 50)، و التبيان (1/ 206)، و جاءت الرواية بلفظ: «سهدت» بدلا من «سهرت»، و بئس للذّم. سهدت: سهرت. أي: أنا أسهر الليالي أرقا متشوقا إلى الحبيب الذي ينام مل ء عينيه و هو غير مشوق لي. فهو يذم الليالي التي سهر فيها و لم ينم لما أخذه من القلق و خفة الشّوق إلى من يحب.
2- يمدح به ابن بسطام (الديوان 3/ 2037).
3- الزّمع و الزّماع: المضاء في الأمر و العزم عليه و يقال: أزمعت الأمر و لا يقال أزمعت عليه و الزّماع هنا العزم على الرحيل. و العقل: جمع عقال و هو الحبل الذي يشدّ به البعير.
4- البيت في ديوانه (2/ 127)، و التبيان (1/ 202)، و البيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة و يهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين و أربعين و ثلاث مائة (953 م) و أنشده إياها في ميدانه بحلب و هما على فرسيها و القصيدة مطلعها: لكل امرئ من دهره ما تعوّدا و عادة سيف الدولة الطعن في العدى و الذري الستر و الكنف، و المعنى: يقول: أقمت عندك حبالك و بين سبب الإقامة بالمصراع الأخير و أن إحسانه إليه هو الذي قيده و فيه نظر إلى قول الطائي: و تركي سرعة الصدر اغتباطا يدل على موافقة الورود و كقوله: هممي معلقة عليك رقابها مغلولة أن الوفاء إسار
5- البيت له في ديوانه (2/ 114)، و في شرح التبيان على ديوان للعكبري (1/ 414)، و هو مطلع قصيدة قالها في سيف الدولة يعوده من مرض، اعتل: مرض، و من فوقها: البشر، و المحض: الخالص، و اليأس: الشدة و السّطوة. و المعنى: إذا اعتل سيف الدولة اعتلت لعلته الأرض و من عليها من الناس و القوة و الكرم الخالص لأنه قوام كل شي ء فإذا اعتلّ اعتلّ له كل شي ء و هو منقول من قول لمسلم بن الوليد: نالتك يا خير الخلائق علة يفديك من مكروهها الثقلان فبكل قلب من شكاتك علة موصوفة الشكوى بكل لسان

مع قول البحتري: [من الكامل ]

ظللنا نعود الجود من وعكك الّذي وجدت و قلنا اعتلّ عضو من المجد (1)

و قول المتنبي: [من الكامل ]

يعطيك مبتدرا فإن أعجلته أعطاك معتذرا كمن قد أجرما (2)

مع قول أبي تمام: [من الكامل ]

أخو عزمات فعله فعل محسن إلينا و لكن عذره عذر مذنب (3)

و قول المتنبي: [من الطويل ]

كريم متى استوهبت ما أنت راكب و قد لقحت حرب فإنّك نازل (4)

مع قول البحتريّ: [من البسيط]

ماض على عزمه في الجود لو وهب الشّ باب يوم لقاء البيض ما ندما (5)

و قول المتنبي: [من الخفيف

و الّذي يشهد الوغى ساكن القل ب كأن القتال فيها ذمام (6)

ص: 310


1- يمدح به إبراهيم بن المدبر (الديوان 2/ 234).
2- البيت له في ديوانه (ص 57)، و في التبيان (2/ 329)، و جاء البيت بلفظ «مبتدئا» بدلا من «مبتدرا» و الجرم: التعدّي، مبتدرا: بادئا سابقا، و الجرم: الذنب و الجمع أجرام و قد جرم و أجرم فهو مجرم و جريم. و المعنى: أنه يعطى من قبل أن تسأله فإن أعجلته أعطاك معتذرا إليك كأنه قد أتى بذنب.
3- البيت في الديوان (ص 31)، و جاء البيت في الديوان بلفظ: «أزمات» بدلا من (عزمات). و الأزمات: الشدائد. و البيت من قصيدة قالها يمدح عياش بن لهيعة الحضرميّ مطلعها: تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي و ليس حنيني إن عذلت بمصحبي
4- البيت له في ديوانه (ص 130) من قصيدة قالها يمدح فيها سيف الدولة بعد دخول رسول الروم عليه و مطلعها: دروع لملك الروم هذي الرسائل يرد بها عن نفسه و يشاغل و لحقت الحرب: نشبت، أي: لكرمك إذا سئلت فرسك في غمرة الحرب و أنت بحاجة إليها فإنك تنزل عنها و تعطيها للسائل.
5- في مدح رافع بن هزيمة (الديوان 2/ 84).
6- البيت في ديوانه (2/ 9)، و التبيان (2/ 270)، و الواو: عطف، و الوغى: الحرب و أصوات الحرب يقال بالعين و الغين و الحاء، و الذمام: العهد و ساكن القلب: مطمئنه. و المعنى: يقول و الذي يشهد الحرب غير مضطرب الجأش كأن القتال عاهده أن لا يقتل فهو يسكن إلى القتل سكونه إلى الذمام فهو يحضرها ثابت النفس غير حافل بشدّتها.

مع قول البحتريّ: [من الطويل ]

لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم على أنّ ذاك الزّيّ زيّ محارب (1)

و قول أبي تمام: [من الكامل ]

الصّبح مشهور بغير دلائل من غيره ابتغيت و لا أعلام (2)

مع قول المتنبي: [من الوافر]

و ليس يصحّ في الأفهام شي ء إذا احتاج النّهار إلى دليل (3)

و قول أبي تمام: [من الوافر]

و في شرف الحديث دليل صدق لمختبر على الشّرف القديم (4)

مع قول المتنبي: [من البسيط]

أفعاله نسب لو لم يقل معها جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن (5) ع

ص: 311


1- الجأش: القلب. و فلان قويّ الجأش أي: القلب، و رجل رابط الجأش أي: يربط نفسه عن الفرار يكفّها لجرأته و شجاعته.
2- البيت من قصيدة له في ديوانه (ص 262) يهنئ الواثق بالخلافة و يعزّيه بالمعتصم أبيه مطلعها: ما للدموع تروم كلّ مرام و الجفن ثاكل هجعة و منام و الثاكل: الفاقد.
3- البيت في ديوانه (2/ 95) من أبيات قالها يعارض بها بعض الحاضرين في مجلس سيف الدولة و منها: أتيت بمنطق العرب الأصيل و كان بقدر ما عاينت قيلي فعارضه كلام كان منه بمنزلة النساء من البعول و هذا الدّرّ مأمون التشظّي و أنت السيف مأمون الفلول و ليس يصح في الأفهام شي ء إذا احتاج النهار إلى دليل و جاءت الرواية بلفظ: «الأفهام» بدلا من «الأذهان».
4- البيت في ديوانه (ص 271) من قصيدة له يمدح فيها بعض بني عبد الكريم الطائيين مطلعها: أرامة كنت مألف كلّ ريم لو استمتعت بالأنس القديم ورامة: موضع بالبادية قد لهجت فيه الشعراء لطيب مكانه. و الأنس: الحيّ.
5- البيت في ديوانه (1/ 216)، و التبيان (2/ 464) من قصيدة يمدح فيها أبا عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن محمد الخطيب الخصيبي و هو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية مطلعها: أفاضل الناس أغراض لدى الزمن يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن و المعنى يقول: هو معروف عند الناس بأفعاله الكريمة و قد عرف أنه من ولد الخصيب فلو لم ينتسب مع أفعاله لعرفناه كما يستدل بالغصن على الأصل، و هذا كقول حبيب: فروع لا تزف إليك إلا شهدت لها على طيب الأروم و كقول الآخر: إذا جهلت من امرئ أعراقه و أصوله فانظر إلى ما يصنع

و قول البحتري: [من الكامل ]

و أحبّ آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب (1)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

و كلّ امرئ يولي الجميل محبّب و كلّ مكان ينبت العزّ طيّب (2)

و قول المتنبي: [من الطويل ]

يقرّ له بالفضل من لا يودّه و يقضي له بالسّعد من لا ينجّم (3)

مع قول البحتري: [من الكامل ]

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة حتّى يسلّمها إليه عداه (4)

و قول خالد الكاتب: [من المتقارب

رقدت و لم ترث للسّاهر و ليل المحبّ بلا آخر (5)

مع قول بشار: [من الطويل ]

لخدّك من كفّيك في كلّ ليلة إلى أن ترى ضوء الصّباح و ساد

تبيت تراعي اللّيل ترجو نفاده و ليس لليل العاشقين نفاد (6) ).

ص: 312


1- البيت في التبيان (1/ 131)، و جاء البيت بلفظ «الفتى» بدلا من «فتى».
2- البيت في ديوانه (2/ 232)، من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة في شوّال سنة سبع و أربعين و ثلاث مائة (958 م) مطلعها: أغالب فيك الشوق و الشوق أغلب و أعجب من ذا الهجر و الوصل أعجب أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب و البيت في التبيان (1/ 131)، و يولي الجميل: يصنعه و يعطيه. و المعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل و يحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله قال ابن جني: كل من حصل في خدمتك علا قدره و مثال البيت قول البحتري: و أحب أوطان البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب
3- البيت في الديوان (2/ 54)، و في التبيان (1/ 276)، و يقرّ: يعترف. و من لا يودّه: المقصود عدوّه، و يقال: رجل منجّم: هو الذي ينظر في النجوم. و المعنى: يقول من لا يودّه يقرّ بفضله و لا يدفعه لبيانه و من لا ينجم يقضي له بالسعد و لا ينكره لاتصاله فلظهوره و وضوحه لا ينكر فضله و لظهور آثار السعادة عليه يحكم له بالسعادة من لا يعرف أحكام النجوم من السعادة و النحوسة و هو مأخوذ من قول الآخر: و الفضل ما شهدت به الأعداء
4- قاله البحتري في مدح صاعد بن مخلد (الديوان 1/ 191).
5- أمالي القالي (1/ 100)، و معه بيت آخر: و لم تدر بعد ذهاب الرّقاد ما صنع الدّمع من ناظري
6- (الديوان 3/ 127).

و قول أبي تمام: [من الوافر]

ثوى بالمشرقين لها ضجاج أطار قلوب أهل المغربين (1)

و قول البحتري: [من الطويل ]

تناذر أهل الشّرق منه وقائعا أطاع لها العاصون في بلد الغرب (2)

مع قول مسلم: [من البسيط]

لمّا نزلت على أدنى ديارهم ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد (3)

و قول محمد بن بشير: [من البسيط]

افرغ لحاجتنا ما دمت مشغولا فلو فرغت لكنت الدّهر مبذولا (4)

مع قول أبي علي البصير: [من الطويل ]

فقل لسعيد أسعد اللّه جدّه لقد رثّ حتّى كاد ينصرم الحبل

فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل (5)

و قول البحتري: [من الكامل ]

من غادة منعت، و تمنع وصلها فلو انّها بذلت لنا لم تبذل (6)

مع قول ابن الرومي: [من مجزوء الكامل

و من البليّة أنّني علّقت ممنوعا منوعا (7)

و قول أبي تمام: [من الطويل ]).

ص: 313


1- البيت في ديوانه (ص 304) من قصيدة له يمدح إسحاق بن إبراهيم و يذكر إيقاعه بالمعمرة و أصحاب بابك و كانوا تواعدوا إلى موضع علم به فوقف لهم فيه فكل من جاء قتل و جزت أذنه حتى وجّه إلى المعتصم بستين ألف أذن. و القصيدة مطلعها: خشنت عليه أخت بني خشين و أنجح فيك قول العاذلين و الضجاج مثل الضّجيج: هو الفزع و الصياح مصحوب بالاستغاثة.
2- يقال: تناذر القوم: أنذر بعضهم بعضا و خوّف بعضهم بعضا. الوقائع: جمع وقيعة: الحرب و القتال قيل: المعركة و قيل: الوقعة و الوقيعة: صدمة الحرب.
3- من قصيدة في مدح داود بن يزيد المهلبي (الديوان 161).
4- تقدم التعريف بقائله.
5- انظر معجم الشعراء للمرزباني (314).
6- الديوان يمدح محمد بن علي بن عيسى القمي الكاتب، و في الديوان وردت «وصلها» بدل «نيلها».
7- (الديوان 4/ 1462).

لئن كان ذنبي أنّ أحسن مطلبي أساء ففي سوء القضاء لي العذر (1)

مع قول البحتري: [من البسيط]

إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر (2)

و قول أبي تمام: [من البسيط] قد يقدم العير من ذعر على الأسد (3) مع قول البحتري: [من الطويل ]

فجاء مجي ء العير قادته حيرة إلى أهرت الشّدقين تدمى أظافره (4)

و قول معن بن أوس: [من الطويل ]

إذا انصرفت نفسي عن الشّي ء لم تكد إليه بوجه آخر الدّهر تقبل (5)

مع قول العباس بن الأحنف: [من البسيط]

نقل الجبال الرّواسي من أماكنها أخفّ من ردّ قلب حين ينصرف (6)

و قول أميّة بن أبي الصلت: [من الطويل ]

عطاؤك زين لامرئ إن أصبته بخير و ما كلّ العطاء يزين (7) ).

ص: 314


1- البيت في ديوانه (ص 483) من قصيدة له مطلعها: تصدّت و حبل البين مستحصد شزر و قد سهّل التوديع ما أوعر الهجر
2- (الديوان 2/ 182) طبعة الجوائب يمدح علي بن مرّ الأرمني.
3- عجز بيت له في ديوانه من بعض أبيات قالها في محمد بن يزيد و صدره: أطلت روعك حتى صرت لي غرضا
4- العير: الحمار و الجمع أعيار و عيار. و الهرت: سعة الشّدق و الهريت: الواسع الشّدقين و المقصود الأسد. و دمي يدمى كرضي يرضى من الرضوان: خرج منه دم. قال الشيخ محمد رشيد رضا: و لعلّ المعنى هنا يصيب أظافره دم الفرائس.
5- شرح الحماسة للمرزوقي (3/ 1131).
6- (الديوان 211) طبعة صادر و روايته في الديوان: نقل الجبال الرواسي عن مواضعها أخف من نقل نفس حين تنصرف
7- البيت لأمية بن أبي الصلت قاله حينما أعطاه ابن جدعان جارية فلام القوم أميّة على أخذها لأن ابن جدعان في حاجة إليها لتخدمه فرجع بها أميّة إليه فأخبره ابن جدعان بما قاله القوم و قال له فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أميّة البيتين هذا أولهما و ثانيهما قوله: و ليس بشين لامرئ يذل وجهه إليك كما بعض السؤال يشين و البيت في الأغاني (8/ 342)، و هو في ديوانه (ص 63)، و الاشتقاق (144)، و ديوان المعاني (1/ 46)، و بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 831).

مع قول أبي تمام: [من البسيط]

تدعى عطاياه و فرا و هي إن شهرت كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا

ما زلت منتظرا أعجوبة عنتا حتّى رأيت سؤالا يجتني شرفا (1)

و قول جرير: [من الطويل ]

بعثن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء و هنّ صديق (2)

مع قول أبي نواس: [من الطويل ]

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت له عن عدوّ في ثياب صديق (3)

و قول كثير: [من الطويل ]

إذا ما أرادت خلّة أن تزيلنا أبينا و قلنا الحاجبيّة أوّل (4)

مع قول أبي تمام: [من الكامل ]

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل (5)

و قول المتنبي: [من الطويل ]

و عند من اليوم الوفاء لصاحب شبيب و أوفى من ترى أخوان (6)

ص: 315


1- البيتان لأبي تمّام في ديوانه (ص 190) قالهما يمدح فيهما أبا دلف القاسم بن عيسى العجليّ مطلعها: أمّا الرسوم فقد اذكرن ما سلفا فلا تكفّن عن شانيك أو يكفا و الوفر: الكثير. و العنن: الظاهرة معترضة يقال: عنّ الشي ء: أي اعتراض.
2- البيت في ديوانه (ص 299)، من قصيدة يمدح فيها الحجاج مطلعها: بتّ أرائي صاحبيّ تجلّدا و قد علقتني من هواك علوق و جاء البيت بلفظ: «دعون» بدلا من «بعثن».
3- (الديوان 621).
4- (الديوان 255).
5- البيت في ديوانه (ص 463)، و هو في الإيضاح (205)، و نسبه ابن جني في كتابه الخصائص للطائي الكبير (ص 117)، و البيت من بعض أبيات منها: البين جرّعني نقيح الحنظل و البين أثكلني و إن لم أثكل كم منزل في الأرض يألفه الفتى و ضينه أبدا لأول منزل و الحنظل: نبت ثمره شديد المرارة.
6- البيت في ديوانه (2/ 240). و المعنى لم يعد أحد من الناس جديرا بأن تأمنه فإن أو فى الأصحاب مثل شبيب غادر و هو أخوه بالغدر.

مع قول أبي تمام: [من الطويل ]

فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها سجيّة نفس كلّ غانية هند (1)

و قول البحتري: [من الطويل ]

فلم أر في رنق الصّرى لي موردا فحاولت ورد النّيل عند احتفاله (2)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

قواصد كافور توارك غيره و من قصد البحر استقلّ السّواقيا (3)

و قول المتنبي: [من المنسرح

كأنّما يولد النّدى معهم لا صغر عاذر و لا هرم (4)

مع قول البحتري: [من الطويل ]

عريقون في الإفضال يؤتنف النّدى لناشئهم من حيث يؤتنف العمر (5) ).

ص: 316


1- البيت في ديوانه (ص 115) من قصيدة له يمدح محمد بن الهيثم بن شبانة، مطلعها: تجرّع أسى قد أقفر الجرع الفرد ودع حسي عين يحتلب ماءه الوجد و السّجيّة: الطبيعة و الخلق.
2- البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 514)، و الرّنق: تراب في الماء من القذى، و ترنّق: كدر، و ماء رنق: كدر، و الصّرى و الصّرى: الماء الذي طال استنقاعه و جاء في نسخة الشيخ رشيد: الصّرى: نهر.
3- البيت في ديوانه (ص 204)، و في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (2/ 514)، و هو من قصيدة قالها يمدح كافورا و ذلك بعد أن استقبله فأخلى له دارا و خلع عليه و حمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه و أنشده إيّاها في جمادى الآخرة سنة ست و أربعين و ثلاث مائة (957 م)، و مطلعها: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن يكن أمانيا و قواصد: حال من الجرد، و يعني بالبحر كافورا و بالسواقي: غيره من الملوك و هي جمع ساقية و هي النهر الصغير. و المعنى: يريد أن الجرد و هي التي تحتنا (يقصد الخيل قليلة الشعر) قاصدة هذا البحر و تركت السواقي و طالب البحر بغير خلاف يرى غيره لأن السواقي تستمد من البحر و يقال: أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال له الويل جعلني ساقية و جعل الأسود بحرا و إن كان المتنبي قصد هذا فلقد أبان عن نقض عهد و قلة مروءة لأنه مدح خلقا فلم يعطه أحد ما أعطاه علي بن حمدان و لا كان فيهم من له شرفه و فضله لأنه عربي من سادات تغلب عالم بالشعر و لم يمدح مثله من الشرف و الحسب إلا محمد بن عبد اللّه الكوفي الحسني.
4- البيت له في ديوانه (1/ 139)، و في شرح التبيان (ص 354)، و الندى: الكرم، عاذر فاعل عذر، و الهرم: الكبر و العجز عن التصرّف. و المعنى: يقول كرمهم موجود معهم فهم أجواد في أوائل أعمارهم و أواخرهم و هو منقول من قول البحتري: عريقون في الأفضال يؤتنف الندى لناشئهم من حيث يؤتنف العمر
5- البيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (2/ 354).

و قول البحتري: [من الطويل ]

فلا تغلين بالسّيف كلّ غلائه ليمضي فإنّ الكفّ لا السّيف تقطع (1)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

إذا الهند سوّت بين سيفي كريهة فسيفك في كفّ تزيل التّساويا (2)

و قول البحتري: [من الكامل ]

ساموك من حسد فأفضل منهم غير الجواد و جاد غير المفضل

فبذلت فينا ما بذلت سماحة و تكرّما و بذلت ما لم تبذل (3)

مع قول أبي تمام: [من الطويل ]

أرى النّاس منهاج النّدى بعد ما عفت مهايعه المثلى و محّت لواحبه

ففي كلّ نجد في البلاد و غائر مواهب ليست منه و هي مواهبه (4)

و قول المتنبي: [من البسيط]

بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها و عزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا (5)

مع قول البحتري: [من الكامل ]ا.

ص: 317


1- (الديوان 1/ 197) و الرواية فيه «يقطع» بدلا من «تقطع».
2- البيت في الديوان (2/ 206)، و في التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري (2/ 519)، و الكريهة: الشدّة في الحرب، و المعنى: قال أبو الفتح: إذا طبعت الهند سيفين فجعلتهما سواء في الحدّة و المضاء فالسّيف الذي يصاحبك يكون أمضى لأنك تزيل مساواتهما بشدّة الضرب و كذا قال الواحدي و قال الخطيب: هذا المعنى ثم قال و يحتمل معنى آخر و هو أن الهند سوّت بين السيفين فإذا ضربت بالسيف علم أن فضيلته في المضاء أعظم من فضيلة السيف المضروب به.
3- أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه «فعل مشاركة من السموّ» في العطاء فبذلوا و لا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة و بذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه (رشيد).
4- البيتان في الديوان (ص 49) من قصيدة قالها يمدح أبا العباس عبد اللّه بن طاهر بن الحسين بن مصعب مطلعها: هنّ عوادي يوسف و صواحبه فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه و عفت: أي درست. و المهايع: الطرق الواسعة البينة و اللواحب: الجمع لاحب و هو الطريق الواضح.
5- البيت في الديوان (1/ 141) يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي، و شرح التبيان للعكبري (1/ 83). و الحلة: الثوب، مطلوبا: تمييز و المعنى: يقول: من لين حديثها و رقتها و جمالها تطمع العاشق بنفسها فإذا طلب عزّ ذلك الطلب فهو صعب المنال لعفافها و صيانتها.

تبدو بعطفة مطمع حتّى إذا شغل الخليّ ثنت بصدفة مؤيس (1)

و قول المتنبي: [من الكامل ]

إذكار مثلك ترك إذكاري له إذ لا تريد لما أريد مترجما (2)

مع قول أبي تمام: [من الخفيف

و إذا المجد كان عوني على المر ء تقاضيته بترك التّقاضي (3)

و قول أبي تمام: [من الكامل ]

فنعمت من شمس إذا حجبت بدت من خدرها فكأنّها لم تحجب (4)

مع قول قيس بن الخطيم: [من المنسرح

قضى لها اللّه حين صوّرها ال خالق أن لا يكنّها سدف (5)

و قول المتنبي: [من الخفيف

راميات بأسهم ريشها الهد ب تشقّ القلوب قبل الجلود (6)

مع قول كثير: [من الطويل ]

رمتني ريشه الكحل لم يجز ظواهر جلدي و هو في القلب جارح (7) ).

ص: 318


1- الصّدوف: الميل عن الشي ء، صدف عنه يصدف صدفا و صدوفا: عدل.
2- البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 332)، و المعنى: يقول مثلك إذا لم أذكره حاجتي فهو تذكار له لأنه يعلم ما يريد فلا يحتاج إلى من يترجم له عمّا في مرادي فترك أذكاره أذكار.
3- البيت في الديوان (ص 176)، و جاء في شرح التبيان للعكبري (2/ 332)، و البيت من قصيدة قالها يمدح أحمد بن أبي دؤاد و مطلعها: بدّلت عبرة من الإيماض يوم شدّوا الرحال بالأغراض و الإيماض: مسارقة النظر. و الأغراض: أداة الرحل.
4- (الديوان 1/ 101) يمدح طوق بن مالك بن طوق «من خدرها» وردت في الديوان «من نورها».
5- البيت في الأغاني (3/ 24)، من أبيات قالها قيس بعد حرب قامت بين مالك بن العجلان و بني عمرو بن عوف. و من هذه الأبيات: ردّ الخليط الجمال فانصرفوا ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا لو وقفوا ساعة نسائلهم ريث يضحّي جماله السّلف و السدف: الظلمة يقال أسدف الليل إذا أرخى ظلمته.
6- البيت في الديوان (1/ 62)، و راميات: نعت بدورا. الأسهم: يعني بها النظرات و العيون، الهدب: الرمش، شبهها بريش السهم في مؤخرته، و هذه الأسهم تختلف عن غيرها بأنها تشق القلوب دون أن تخترق الجلود و الصدور.
7- الديوان: (188).

و قول بعض شعراء الجاهلية، و يعزى إلى لبيد: [من الكامل ]

و دعوت ربّي بالسّلامة جاهدا ليصحّني فإذا السّلامة داء (1)

مع قول أبي العتاهية: [من الرجز]

أسرع في نقص امرئ تمامه تدبر في إقبالها أيّامه (2)

و قوله: [من مجزوء الكامل

أقلل زيارتك الحبي ب تكون كالثّوب استجدّه

إنّ الصديق يملّه أن لا يزال يراك عنده (3)

مع قول أبي تمام: [من الطويل ]

و طول مقام المرء في الحيّ مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدّد (4)

و قول الخريميّ: [من الرمل

زاد معروفك عندي عظما أنّه عندك محقور صغير

تتناساه كأن لم تأته و هو عند النّاس مشهور كبير (5)

مع قول المتنبي: [من المنسرح

تظنّ من فقدك اعتدادهم أنّهم أنعموا و ما علموا (6)

ص: 319


1- البيت للنمر بن تولب في ملحق ديوانه (ص 400) و للبيد بن ربيعة في نهاية الأرب (3/ 70)، و لعمرو بن قميئة في ملحق ديوانه (ص 204)، و زهر الآداب (1/ 223)، و لبعض شعراء الجاهلية في الكامل (1/ 284)، و بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 75)، و كتاب الصناعتين (ص 39) ط 1 دار الكتب العلمية. و يسبقه بيت يقول فيه: كانت قناتي لا تلين لغامز فألانها الإصباح و الإمساء
2- (الديوان: 23 مع اختلاف في روايته).
3- لم أقف عليهما في ديوان أبي العتاهية.
4- البيت في الديوان (ص 98)، من قصيدة له مطلعها: غدت تستجير الدمع خوف نوى غد و عاد قتادا عندها كلّ مرقد و القتاد: شجر ذو شوك كالإبر. و هذه القصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي. و الديباجة من الديباج: ضرب من الثياب و الجمع دبابيج و ديابيج.
5- البيتان في الشعر و الشعراء لابن قتيبة (33) و شرح ديوان المتنبي للواحدي (152)، مع اختلاف الرواية. الخريميّ هو: «أبو يعقوب: إسحاق بن حسان بن قوهي الأعور».
6- البيت في الديوان (1/ 139)، و المعنى: أي عند ما تراهم لا يعتدّون بما يفعلون من جميل تعتقد أنهم لم يعلموا بصنيعهم للمعروف.

و قول البحتري: [من الوافر]

أ لم تر للنّوائب كيف تسمو إلى أهل النّوافل و الفضول (1)

مع قول المتنبي: [من البسيط]

أفاضل النّاس أغراض لذا الزّمن يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن (2)

و قول المتنبي: [من الطويل ]

تذلّل لها و اخضع على القرب و النّوى فما عاشق من لا يذلّ و يخضع (3)

مع قول بعض المحدثين: [من مجزوء الكامل

كن إذا أحببت عبدا للّذي تهوى مطيعا

لن تنال الوصل حتّى تلزم النّفس الخضوعا (4)

و قول مضرّس بن ربعيّ: [من الطويل ]س.

ص: 320


1- (الديوان 1/ 31) يمدح الفتح بن خاقان.
2- البيت في الديوان (1/ 213)، و في شرح التبيان للعكبري (2/ 459)، و البيت من قصيدة يمدح فيها أبا عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن محمد الخطيب الخصيبي و هو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية. و هذا البيت هو مطلع هذه القصيدة. و الأغراض: الأهداف و المفرد غرض، و الفطن: جمع فطنة و هي العقل و الذكاء. و المعنى: يقول: الفضلاء من الناس أهداف للزمان يرميهم بنوائبه و صروفه و يقصدهم بالمحن فلا يزالون محزونين، و إنما يخلو من الحزن و الفكر من كان خاليا من الفطنة و البصيرة و هذا من أحسن الكلام و هو من كلام الحكيم، قال الحكيم: على قدر الهم تكون الهموم و ذلك أن العاقل يفكّر في عواقب الأمور فلا يزال مهموما و أمّا الجاهل فلا يفكر في شي ء من هذا و قد أكثر الشعراء فيه، قال ذو الأصبع: أطاف بنا ريب الزمان فداسنا له طائف بالصالحين بصير و قال البحتري: أ لم تر للنوائب كيف تسمو إلى أهل النوافل و الفضول
3- البيت في الديوان (1/ 74)، و في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (1/ 429). و النوى: البعد. و المعنى: الزم الطاعة و الانقياد في القرب و البعد و ارض و سلم لفعلها فهذا من علامة الحب و قد أكثرت الشعراء من هذا المعنى فمنه قول أبي نواس: سنة العشاق واحدة فإذا أحببت فاستكن و قوله: كن إذا أحببت عبدا للذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتى تلزم النفس الخضوعا
4- البيتان أوردهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي. و في التبيان (1/ 429)، و نسبهما إلى أبي نواس.

لعمرك إنّي بالخليل الّذي له عليّ دلال واجب لمفجّع

و إنّي بالمولى الّذي ليس نافعي و لا ضائري فقدانه لممتّع (1)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب (2)

و قول المتنبي: [من البسيط]

مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا مظلومة الرّيق في تشبيهه ضربا (3)

مع قوله: [من الطويل ]

إذا نحن شبّهناك بالبدر طالعا بخسناك حظّا أنت أبهى و أجمل

و نظلم إن قسناك باللّيث في الوغى لأنّك أحمى للحريم و أبسل (4)

[القسم الثاني في البيتين صنعة و تصويرا]

ذكر ما أنت ترى فيه في كلّ واحد من البيتين صنعة و تصويرا و أستاذيّة على الجملة فمن ذلك، و هو من النادر، قول لبيد: [من الرمل

ص: 321


1- ذكرهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي و نسبهما إلى المضرّس و قال الشيخ شاكر: هكذا نسب الشعر لمضرّس بن ربعي و هو خطأ و سهو فيما أرجح إنما هو للبراء بن ربعي الفقعسيّ، يرثي أخاه سكيما، و هو في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 167، 168)، و في مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (43) اه.
2- البيت في الديوان (2/ 229)، و في شرح التبيان على ديوان المتنبي (1/ 126)، و هو من قصيدة قالها يمدح فيها كافورا و كان قد حمل إليه ستمائة دينار، و مطلعها: أغالب فيك الشوق و الشوق أغلب و أعجب من ذا الهجر و الوصل أعجب أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب و تنائي: تبعد، و النأى: البعد و نأى ينأى: بعد، و النأي: المفارقة و أنأيت الرجل: أبعدته، المعنى: يقول هذه الأيّام مولعة بتقريب من أبغض و إبعاد من أحب، فما تغلط مرّة بتقريب الحبيب و إبعاد البغيض، و ذلك كما قيل في بخيل: يا عجبا من خالد كيف لا يغلط فينا مرّة بالصواب
3- البيت في الديوان (1/ 141)، و في التبيان للعكبري في شرح ديوان المتنبي (1/ 81)، و هو من قصيدة يمدح فيها المغيث بن عليّ بن بشر العجلي. و القدّ: القامة. و الضّرب بفتح الراء: العسل الأبيض الغليظ. و المعنى: يريد أن من شبّهها بالغصن ظلمها و من شبّه ريقها بالعسل ظلمها لأنها ذات قوام أعدل و أحسن من الغصن و ذات رضاب أحلى من العسل الخالص.
4- لعلي بن الجهم يمدح المتوكل، الديوان (165/ 166). و رواية الديوان «للذمار» بدلا من «للحريم».

و اكذب النّفس إذا حدّثتها إنّ صدق النّفس يزري بالأمل (1)

مع قول نافع بن لقيط:

و إذا صدقت النّفس لم تترك لها أملا و يأمل ما اشتهى المكذوب (2)

و قول رجل من الخوارج أتي به الحجّاج في جماعة من أصحاب قطريّ فقتلهم، و منّ عليه ليد كانت عنده، و عاد إلى قطريّ، فقال له قطريّ: عاود قتال عدوّ اللّه الحجّاج. فأبى و قال: [من الكامل ]

أ أقاتل الحجّاج عن سلطانه بيد تقرّ بأنّها مولاته

ما ذا أقول إذا وقفت إزاءه في الصّف و احتجّت له فعلاته

و تحدّث الأقوام أنّ صنائعا غرست لديّ فحنظلت نخلاته (3)

مع قول أبي تمام: [من الطويل ]

أسربل هجر القول من لو هجوته إذن لهجاني عنه معروفه عندي (4)

و قول النابغة: [من الطويل ]

إذا ما غدا بالجيش حلّق فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله إذا ما التقى الصّفّان أوّل غالب (5)

ص: 322


1- البيت في الديوان (ص 145)، و في لسان العرب (كذب)، (خزا)، و جمهرة اللغة (ص 596)، و تاج العروس (كذب)، (خزا)، و جمهرة الأمثال (1/ 51)، و خزانة الأدب (5/ 112)، و فصل المقال (ص 173)، و كتاب الأمثال (ص 116)، و كتاب الأمثال لمجهول (ص 22)، و المستقصى (1/ 289)، و مجمع الأمثال (2/ 139).
2- جاءت قصيدة طويلة له في لسان العرب (مرط) لكن البيت غير موجود بها. و القصيدة مطلعها كما وردت في اللسان: بانت لطيّتها الغداة جنوب و طربت إنك ما علمت طروب و لقد تجاورنا فتهجر بيتنا حتى تفارق أو يقال مريب
3- الحنظل: الشجر المرّ، و حنظلت الشجرة: صار ثمرها مرّا، قال الشيخ شاكر: «الأبيات لعامر بن حطّان الخارجي و هو أخو عمران بن حطّان».
4- البيت في الديوان (ص 122) من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافعي و يعتذر إليه، مطلعها: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي و محّت كما محّت و شائع من برد و أقوت: خلت من السكان، و المغاني: المنازل جمع مغنى. محّ الثوب: بلي. و الوشائع: جمع وشيعة و هي الغزل الملفوف. و البرد: الثوب المخطّط. و جاء البيت في الديوان بلفظ «أ ألبس» بدلا من «أسربل».
5- البيتان في الديوان (ص 30)، و جاء البيت الأول بلفظ: «غزوا» بدلا من «غدا» و جاء الثاني بلفظ «الجمعان» بدلا من «الصفان»، و البيتان غير متتاليين في الديوان. و هما في الأغاني (25/ 120)، و الأول منهما في خزانة الأدب (4/ 289)، و الشعر و الشعراء (ص 175)، و لسان العرب (عصب)، (حلق)، و بلا نسبة في شرح التصريح (2/ 227)، و شرح المفصّل (1/ 68). و الثاني: في أساس البلاغة (جنح)، و مقاييس اللغة (3/ 99). و في الأول: عصائب: الجماعة من الطير. أي: أن الجوارح من الطيور تحلّق فوق القتلى لتنال منهم. و في الثاني: جوانح: أي: مائلات. و هذه القصيدة مطلعها: كليني لهم يا أميمة ناصب و ليل أقاسيه بطي ء الكواكب قالها يمدح فيها عمرو بن الحارث الأصفر بن الحارث الأعرج حين لجأ إليه في الشام.

مع قول أبي نواس: [من الرمل المجزوء]

و إذا مجّ القنا علقا و تراءى الموت في صوره

راح في ثنيي مفاضته أسد يدمى شبا ظفره

تتأيّى الطّير غدوته ثقة بالشّبع من جزره (1)

المقصود البيت الأخير.

و حكى المرزباني قال: «حدثني عمرو الورّاق قال: رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: [من الرمل المجزوء] أيّها المنتاب عن عفره (2) فحسدته، فلما بلغ إلى قوله:

تتأيّى الطّير غدوته ثقة بالشّبع من جزره (3)

قلت له: ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول: «إذا ما غدا بالجيش»، البيتين، فقال: اسكت، فلئن كان سبق فما أسأت الأتباع».

و هذا الكلام من أبي نواس دليل بيّن في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة.

ص: 323


1- الأبيات في الديوان (ص 66)، و الأغاني (25/ 118) من قصيدة له مطلعها: أيها المنتاب من عفره لست من ليلى و لا سمره يمدح العباس بن عبيد اللّه بن أبي جعفر المنصور. و المفاضة: الدرع الواسعة. و الشبا: اسم جمع لشباة و هي إبرة العقرب شبه بها ظفره و المراد قوته. و البيت الأخير من قولهم: تركوهم جزرا للسباع: أي: قطعا من جزر الشي ء يجزره جزرا: قطعه، و جزر الناقة: نحرها و قطّعها، و في هذا قال عنترة في ابني ضمضم: إن يفعلا فلقد تركت أباهما جزر السباع و كل نسر قشعم و تأيى الشخص: قصد شخصه و تعمّده، و التأيّي: التنظّر و التّؤدة و تأيّيت عليه: تثبّت و تمكثت.
2- مطلع قصيدة لأبي نواس و عجز البيت: لست من ليلى و لا سحره
3- سبق تخريجه.

ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئا، لكان قوله: «فما أسأت الاتّباع» محالا، لأنه على كل حال لم يتّبعه في اللفظ. ثم إنّ الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى. و ذلك أنّ هاهنا معنيين:

أحدهما: أصل، و هو: علم الطّير بأن الممدوح إذا غزا عدوّا كان الظفر له، و كان هو الغالب.

و الآخر فرع، و هو: طمع الطير في أن تتّسع عليها المطاعم من لحوم القتلى.

و قد عمد النابغة إلى «الأصل»، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب، فذكره صريحا، و كشف عن وجهه، و اعتمد في «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى، و أنها لذلك تحلّق فوقه على دلالة الفحوى.

و عكس أبو نواس القصّة، فذكر «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا، فقال كما ترى:

ثقة بالشّبع من جزره (1) و عوّل في «الأصل»، الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح، على الفحوى.

و دلالة الفحوى على علمها أنّ الظفر يكون للممدوح، هي في أن قال: «من جزره»، و هي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح، حتى تعلم أنّ الظفر يكون له.

أ فيكون شي ء أظهر من هذا في النّقل عن صورة إلى صورة؟

أرجع إلى النّسق- و من ذلك قول أبي العتاهية: [من الخفيف

شيم فتّحت من المدح ما قد كان مستغلقا على المدّاح (2)

مع قول أبي تمام: [من الكامل ]

نظمت له خرز المديح مواهب ينفثن في عقد اللّسان المفحم (3)

ص: 324


1- عجز بيت لأبي نوّاس صدره: يتأيى الطير غدوته و البيت سبق تخريجه.
2- الديوان (515).
3- البيت في ديوانه (ص 295) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة مطلعها: نثرت فريد مدامع لم تنظم و الدمع يحمل بعض شجو المغرم و النفث: البصاق اليسير. و المفحم: العييّ عن قول الشعر. و جاء البيت في نسخة «المقحم» بالقاف و معناها: الضعيف.

و قول أبي و جزة: [من الوافر]

أتاك المجد من هنّا و هنّا و كنت له بمجتمع السّيول (1)

مع قول منصور النّمري: [من البسيط]

إنّ المكارم و المعروف أودية أحلّك اللّه منها حيث تجتمع (2)

و قول بشار: [من البسيط]

الشّيب كره و كره أن يفارقني أعجب بشي ء على البغضاء مودود (3)

مع قول البحتري: [من الوافر]

تعيب الغانيات عليّ شيبي و من لي أن أمتّع بالمعيب (4)

و قول أبي تمام: [من الوافر]

يشتاقه من كماله غده و يكثر الوجد نحوه الأمس (5)

مع قول ابن الرومي: [من الطويل ]

إمام يظلّ الأمس يعمل نحوه تلفّت ملهوف و يشتاقه الغد (6) ).

ص: 325


1- البيت أبي و جزة السعدي يزيد بن عبيد في ديوان المعاني للعسكري (1/ 59).
2- البيت في الأغاني (13/ 163) من قصيدة أنشدها سلما بن عمرو بن حمّاد و هو شاعر خليع ماجن و سمّي الخاسر لأنه باع مصحفا و اشترى بثمنه دفترا فيه شعر. و البيت له في تاريخ بغداد (13/ 69) منها: أي امرئ بات من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن المكارم و المعروف أودية أحلك اللّه منها حيث تجتمع إذا رفعت امرأ فاللّه رافعه و من وضعت من الأقوام متضع نفسي فداؤك و الأبطال معلمة يوم الوغى و المنايا بينهم قرع
3- البيت في تاريخ بغداد (13/ 98)، و جاء برواية أخرى لفظها: أكره شيبي و أخشى أن يزايلني أعجب بشي ء على البغضاء مودود و هو لمسلم بن الوليد و يليه بيتان هما: نام العواذل و استكفين لائمتي و قد كفاهن نهض البيض في السّود أمّا الشباب فمفقود له خلف و الشيب يذهب مفقودا بمفقود
4- (الديوان 1/ 250) يمدح هيثم بن هارون بن المعمر.
5- البيت في الديوان (ص 159)، و جاء البيت بلفظ «جماله» بدلا من «كماله» من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب مطلعها: هل أثر من ديارهم دعس حيث تلاقى الأجراع و الوعس و الدعس: الواضح من الآثار. و الأجرع: جمع جرع و هو كثير الرمل و الوعس.
6- (الديوان 2/ 660).

لا تنظر إلى أنه قال: «يشتاقه الغد»، فأعاد لفظ أبي تمام، و لكن انظر إلى قوله:

يعمل نحوه تلفّت ملهوف و قول أبي تمام: [من الطويل ]

لئن ذمّت الأعداء سوء صباحها فليس يؤدّي شكرها الذّئب و النّسر (1)

مع قول المتنبي: [من المتقارب

و أنبتّ منهم ربيع السّباع فأثنت بإحسانك الشّامل (2)

و قول أبي تمام: [من البسيط]

و ربّ نائي المغاني روحه أبدا لصيق روحي و دان ليس بالدّاني (3)

مع قول المتنبي: [من الوافر]

لنا و لأهله أبدا قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى (4)

ص: 326


1- البيت في الديوان (ص 484) و بعده: بها عرفت أقدارها بعد جهلها بأقدارها قيس بن عيلان و الفزر و الفزر: سعد بن مناة بن تميم. و قيس عيلان: قبيلة عربية مشهورة. و البيت من قصيدة مطلعها: تصدّت و حبل البين مستحصد شزر و قد سهّل التوديع ما أوعر الهجر و تصدّت: تعرضت. و المستحصد: المفتول فتلا محكما. و الشزر: الشديد الفتل.
2- البيت في الديوان (2/ 19)، و في شرح التبيان للعكبري على ديوان أبي الطّيب (2/ 39)، و البيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة و يذكر استنقاذه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع و ثلاثين و ثلاث مائة (948 م)، و القصيدة مطلعها: إلام طماعية العاذل و لا رأي في الحب للعاقل و الشاعر يريد أن يقول: لو قدرت السباع على النطق لأثنت بما شملها من إحسانك بكثرة القتلى فكأنك بما أوليتها من لحوم القتلى أنبت لها ربيعا، و هذا ترشيح للاستعارة بأن السباع لا تأكل الحشيش، و لما استعار الربيع استعار النبت و هذا البيت من أحسن ما قاله المتنبي و هو مبني على الاستعارة و مثله: و كان بها مثل الجنون فأصبحت و من جثث القتلى عليها تمائم
3- البيت في الديوان (ص 314)، من قصيدة يمدح فيها سليمان بن وهب و يشفع في رجل يقال له سليمان بن رزين ابن أخي دعبل. و النائي: البعيد. و المغاني: المنازل. و الداني: القريب.
4- البيت في الديوان (2/ 40)، و في شرح التبيان للعكبري (1/ 467)، و البيت من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة و قد أمر له بفرس و جارية مطلعها: أ يدري الرّبع أيّ دم أراقا و أيّ قلوب هذا الركب شاقا لنا و لأهله أبدا قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى لأهله: الضمير للربع، و تلاقى: تتلاقى. و المعنى: يقول لنا و للراحلين من أهله قلوب تتلاقى أبدا بما هي عليه من الشوق و التذكار لسالف العهد و أيّام الوصال في أجسام متنافية و أجسام غير متلاقية و هو منقول من ابن المعتز: أنا على البعاد و التفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي.

و قول أبي هفّان: [من الرمل

أصبح الدّهر مسيئا كلّه ما له إلّا ابن يحيى حسنه (1)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

أزالت بك الأيّام عتبي كأنّما بنوها لها ذنب و أنت لها عذر (2)

و قول عليّ بن جبلة: [من الكامل ]

و أرى اللّيالي ما طوت من قوّتي ردّته في عظتي و في إفهامي (3)

مع قول ابن المعتز: [من المتقارب

و ما ينتقص من شباب الرّجال يزد في نهاها و ألبابها (4)

و قول بكر بن النطاح: [من الطويل ]

و لو لم يكن في كفّه غير روحه لجاد بها فليتّق اللّه سائله (5)

مع قول المتنبي: [من المنسرح

إنّك من معشر إذا وهبوا ما دون أعمارهم فقد بخلوا (6)

ص: 327


1- البيت ذكره العكبري في شرحه لديوان المتنبي (1/ 373).
2- البيت في الديوان (1/ 237) من قصيدة يمدح فيها عليّ بن أحمد بن عامر الأنطاكي، و في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (1/ 373). و المعنى: يقول إن الأيام لها إساءات كثيرة فلمّا سمحت بمثلك زال عتبي عليها فكأنها أتت بك عذرا. و معنى المصراع الأول من قول حبيب: نوالك رد حسادي فلولا و أصلح بين أيّامي و بيني و الثاني من قوله أيضا: كثرت خطايا الدهر فيّ و قديري بنداك و هو إليّ منها تائب
3- علي بن جبلة بن مسلم الملقب بالعكوك. الأبناوي- من أبناء الشيعة الخراسانية، شاعر عراقي مجيد ولد سنة 160 ه و قتله المأمون سنة 213 ه و له ديوان مطبوع. (وفيات الأعيان 1/ 348). الأعلام للزركلي (4/ 268).
4- البيت في الديوان (ص 31)، و نهاها: عقولها و مفردها نهية، و ألبابها: قلوبها و المفرد: قلب. و البيت من قصيدة طويلة مطلعها: ألا من لعين و تسكابها تشكّى القذى و بكاها بها
5- البيت جاء في ديوان أبي تمام (ص 219)، و قال الشيخ شاكر إنه مقحم في الديوان، و هو من لامية يمدح فيها المعتصم باللّه و مطلعها: أجل أيها الربع الذي خفّ آهله لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله
6- البيت في ديوانه (1/ 181) من قصيدة له قالها يمدح أبا الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، و قد فصده الطبيب فغاص المبضع فوق حقه فأضرّ به ذلك و مطلع القصيدة: أبعد نأي المليحة البخل في البعد ما لد تكلّف الإبل و البيت في التبيان شرح العكبري على ديوان المتنبي (2/ 175). و المعنى قال أبو الفتح: بخلوا عند أنفسهم لأنهم لم يفعلوا الواجب عليهم عندهم و يجوز أن يكون بخلوا نسبهم الناس إلى البخل لاقتصارهم على ما دون أعمارهم أي: من عادتهم بذل أعمارهم و الأول أقوى اه.

و قول البحتري: [من الطويل ]

و من ذا يلوم البحر إن بات زاخرا يفيض و صوب المزن إن راح يهطل (1)

مع قول المتنبي: [من البسيط]

و ما ثناك كلام النّاس عن كرم و من يسدّ طريق العارض الهطل (2)

و قول الكندي: [من الكامل ]

عزّوا و عزّ بعزّهم من جاوروا فهم الذّرى و جماجم الهامات

إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها أو يطلبوا لا يدركوا بترات (3)

مع قول المتنبي: [من الطويل ]

تفيت اللّيالي كلّ شي ء أخذته و هنّ لما يأخذن منك غوارم (4) ر

ص: 328


1- (الديوان 2/ 125) يمدح محمد بن عبد اللّه الطاهر.
2- البيت في الديوان 2/ 91) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة مطلعها: أجاب دمعي و ما الداعي سوى طل دعا فلبّاه قبل الركب و الإبل و البيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان أبي الطيب المتنبي (2/ 82)، و ثناه: ردّه و صرفه و ثنيته عن حاجته: صرفته عنها و العارض: السحاب، و في الآية: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا و الهطل و الهطلان: المطر المتفرق العظيم القطر، و في التهذيب الهطلان: تتابع القطر المتفرّق، و الهطل: تتابع المطر و الدمع و سيلانه. اللسان (هطل). و المعنى: يقول: لا يصرفك كلام الناس في إفساد ما بيننا كما لا يقدرون أن يصرفوك عن الكرم و من يقدر على هذا إلا كمن يقدر أن يرد صوب السحاب الممطر فالذي يصرفك عن جودك كالذي يرد السحاب لأن جودك أغزر من فيض السّحاب.
3- ربما للفيلسوف يعقوب بن إسحاق، و الوتر: الظلم.
4- البيت في الديوان (2/ 139) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة و يذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث و أربعين و ثلاث مائة (954 م) و منها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم هل الحدث الحمراء تعرف لونها و تعلم أيّ الساقيين الغمائم و البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 296) و تفيت: أي تجبره على ترك، و فاعله للمخاطب و هو من الفوت. و الغوارم: جمع غارمة. و المعنى: قال الواحدي: الليالي إذا أخذت شيئا ذهبت به فإن أخذت منك غرمت لأنك تلزمها الغرامة قال: و يجوز أن يكون تفيت مخاطبة على رواية من روى أخذته بالتاء يقول: إذا سلبت الليالي شيئا أفتّه عليها فلم تقدر على استرداده منك و هي إذا أخذت منك شيئا عزمت يعني: أنت أقوى من الدهر فإنه لا يقدر على مخالفتك و هذا من قول الآخر: فما أدرك الساعون فينا بوترهم و لا فاتنا من سائر الفاس واتر

و قول أبي تمام: [من الكامل ]

إذا سيفه أضحى على الهام حاكما غدا العفو منه و هو في السّيف حاكم (1)

مع قول المتنبي: [من الكامل ]

له من كريم الطّبع في الحرب منتض و من عادة الإحسان و الصّفح غامد (2)

فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عيانا أنّ للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك، صورة و صفة غير صورته و صفته في البيت الآخر و أن العلماء لم يريدوا حيث قالوا: «إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك»، أنّ الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل من ذاك و أنّ المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته و صفته التي كان عليها في البيت الأوّل و أن لا فرق و لا فصل و لا تباين بوجه من الوجوه و أنّ حكم البيتين مثلا حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشي ء واحد، كالليث و الأسد و لكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشّيئين يجمعهما جنس واحد، ثم يفترقان بخواصّ و مزايا و صفات، كالخاتم و الخاتم، و الشّنف و الشّنف، و السّوار و السّوار، و سائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة و العمل.

و من هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجيّ و بيت أبي تمام، فلا يعلم أنّ صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا؟ كيف، و الخارجيّ يقول:

«و احتجّت له فعلاته» (3)

ص: 329


1- البيت في الديوان (ص 270) من قصيدة يمدح فيها أحمد بن أبي دؤاد مطلعها: أ لم يأن أن تروى الظماء الحوائم و أن ينظم الشمل المبرّد ناظم لئن أرقأ الدمع اليعور و قد جرى لقد رويت منه خدود نواعم
2- البيت في ديوانه (2/ 70) من قصيدة له مطلعها: عواذل ذات الخال فيّ حواسد و إن ضجيع الخود منّي لماجد و البيت في شرح التبيان على ديوان المتنبي للعكبري (1/ 188) و انتضيت السيف: سللته و جردته، و نضا سيفه أيضا و نضوت البلاد: قطعتها. قال تأبط شراّ: و لكنني أروي من الخمر هامتي و أنضو الفلا بالشاحب المتشلشل و غامد من غمد السيف. و المعنى: يقول كرم طبعه ينضيه و يغمده ما تعوّد من العفو و الإحسان فليس كسيوف الحديد التي تنتضى و تغمد.
3- بعض بيت قاله رجل من الخوارج لفظه: ما ذا أقول إذا وقفت إزاءه في الصف و احتجّت له فعلاته و هو من مجموعة أبيات قالها لقطريّ بن الفجاءة حينما أمره أن يقاتل الحجاج فأبى و أنشد الأبيات، و قال الشيخ شاكر: الأبيات لعامر بن حطّان الخارجيّ و هو أخو عمران بن حطّان.

و يقول أبو تمام:

«إذن لهجاني عنه معروفه عندي» (1) و متى كان «احتجّ» و «هجا» واحدا في المعنى؟

و كذلك الحكم في جميع ما ذكرناه، فليس يتصوّر في نفس عاقل أن يكون قول البحتري: [من الكامل ]

و أحبّ آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب (2)

و قول المتنبي:

و كلّ مكان ينبت العزّ طيّب (3)- سواء و اعلم أن قولنا «الصّورة»، إنما هو تمثيل و قياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصّورة، فكان تبيّن إنسان من إنسان و فرس من فرس، بخصوصيّة تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، و كذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبيّن خاتم من خاتم و سوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين و بينه في الآخر بينونة في عقولنا و فرقا، عبّرنا عن ذلك الفرق و تلك البينونة بأن قلنا: «للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك». و ليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، و يكفيك قول الجاحظ: «و إنما الشعر صياغة و ضرب من التّصوير».

ص: 330


1- عجز بيت له في ديوانه (ص 122) و صدره: أسربل هجر القول من لو هجوته و يروى «أ ألبس» بدلا من «أسربل» و هو من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافقي و يعتذر إليه مطلعها: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي و محّت كما محّت و شائع من برد
2- ذكره العكبري في التبيان و هو يشرح ديوان المتنبي (1/ 131)، في البيت الذي يقول: و كلّ امرئ يولي الجميل محبّب و كل مكان ينبت العزّ طيّب و جاء البيت بلفظ «فتى» بدلا من «الفتى».
3- عجز بيت في الديوان (2/ 232) و صدره: و كل امرئ يولي الجميل محبّب و هو من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة مطلعها: أغالب فيك الشوق و الشوق أغلب و أعجب من ذا الهجر و الوصل أعجب و البيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 131)، و يولي الجميل يصنعه و يعطيه، و المعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل و يحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله.

و اعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته و صفته في البيت الآخر، و كان التّالي من الشاعرين يجيئك به معادا على وجهه لم يحدث فيه شيئا، و لم يغيّر له صفة، لكان قول العلماء في شاعر: «إنّه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن و أجاد»، و في آخر: «إنّه أساء و قصّر»، و لغوا من القول، من حيث كان محالا أن يحسن أو يسي ء في شي ء لا يصنع به شيئا.

و كذلك كان يكون جعلهم البيت نظيرا للبيت و مناسبا له، خطأ منهم، لأنه محال أن يناسب الشي ء نفسه، و أن يكون نظيرا لنفسه.

و أمر ثالث، و هو أنّهم يقولون في واحد: «إنه أخذ المعنى فظهر أخذه»، و في آخر: «إنّه أخذه فأخفى أخذه»، و لو كان المعنى يكون معادا على صورته و هيئته، و كان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئا غير أن يبدّل لفظا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالا، لأن اللّفظ لا يخفي المعنى، و إنّما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها.

مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن (1)، ذكر فيما ذكر فيه «تناسب المعاني»، بيت أبي نواس: [من الرمل المجزوء]

خلّيت و الحسن تأخذه تنتقي منه و تنتخب (2)

و بيت عبد اللّه بن مصعب: [من الوافر]

كأنّك جئت محتكما عليهم تخيّر في الأبوّة ما تشاء (3)

و ذكر أنّهما معا من بيت بشار: [من الطويل ]

خلقت ما فيّ غير مخيّر هواي، و لو خيّرت كنت المهذّبا (4)

و الأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر. ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه و قال: [من الوافر]

ص: 331


1- يعني القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز في كتابه «الوساطة بين المتنبي و خصومه» (الوساطة 160).
2- البيت في الديوان (ص 349)، و هو من أبيات قالها يمدح فيها امرأة تدعى جنان يقول: ما هوى إلا له سبب يبتدي منه و ينشعب فتنت قلبي محجبة وجهها بالحسن منتقب خليت و الحسن تأخذه تنتقي منه و تنتخب فاكتست منه طرائفه و استزادت فضل ما تهب
3- لعبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير.
4- (الديوان 1/ 246) من قصيدة يلوم فيها يحيى بن زيد.

فلو صوّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطّباع (1)

و من العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأمّلت قول أبي العتاهية: [من الكامل ]

جزي البخيل عليّ صالحة عنّي بخفّته على ظهري

أعلى و أكرم عن يديه يدي فعلت، و نزّه قدره قدري

و رزقت من جدواه عافية أن لا يضيق بشكره صدري

و غنيت خلوا من تفضّله أحنو عليه بأحسن العذر

ما فاتني خير امرئ وضعت عنّي يداه مئونة الشّكر (2)

ثم نظرت إلى قول الذي يقول: [من المنسرح

أعتقني سوء ما صنعت من الرّقّ فيا بردها على كبدي

فصرت عبدا للسّوء منك و ما أحسن سوء قبلي إلى أحد (3)

و مما هو في غاية النّدرة من هذا الباب، ما صنعه الجاحظ بقول نصيب: [من الطويل ]و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب (4) حين نثره فقال، و كتب به إلى ابن الزّيات: «نحن أعزك اللّه نسحر بالبيان، و نموه بالقول، و الناس ينظرون إلى الحال، و يقضون بالعيان، فأثر في أمرنا أثرا ينطق إذا سكتنا، فإنّ المدّعي بغير بيّنة متعرّض للتكذيب». و هذه جملة من وصفهم الشعر و عمله و إدلالهم به- أبو حيّة النّميرى: [من الكامل ]

إنّ القصائد قد علمن بأنّني صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل

و إذا ابتدأت عروض نسج ريّض جعلت تذلّ لما أريد و تسهل

حتّى تطاوعني، و لو يرتاضها غيري لحاول صعبة لا تقبل (5)

ص: 332


1- البيت في الديوان (ص 324)، و هو من قصيدة يمدح فيها مهدي بن أصرم، و قبله: و رأيك مثل رأي السيف صحّت مشورة حدّه عند المصاع و المصاع: المجالدة.
2- الأبيات في أسرار البلاغة (ص 156)، و جاء البيت الأول بلفظ «بخفته» بدلا من «لخفته»، و في نسخة للشيخ رشيد رضا: «أن لا يضيق» بدل من «عافية» و هذا في البيت الثالث.
3- البيتان في أسرار البلاغة بلا نسبة (ص 156).
4- عجز بيت لنصيب بن رباح، في ديوانه (ص 59) و صدره: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله و في الأغاني (2/ 42)، و أمالي المرتضى (1/ 61)، و خزانة الأدب (5/ 296)، و شرح شذور الذهب (ص 38)، و الشعر و الشعراء (1/ 418)، و لسان العرب (حدث).
5- الأبيات لأبي حية النميري، شعره مجموع جمعه داود سلوم في العراق.

تميم بن مقبل: [من الطويل ]

إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى لها قائلا بعدي أطبّ و أشعرا

و أكثر بيتا سائرا ضربت له حزون جبال الشّعر حتّى تيسّرا

أغرّ غريبا يمسح النّاس وجهه كما تمسح الأيدي الأغرّ المشهّرا (1)

عديّ بن الرّقاع: [من الكامل ]

و قصدة قد بتّ أجمع بينها حتّى أقوّم ميلها و سنادها

نظر المثقّف في كعوب قناته حتّى يقيم ثقافة منادها (2)

كعب بن زهير: [من الطويل ]

فمن اللقوافي، شانها من يحوكها، إذا ما توى كعب و فوّز جرول (3)

يقوّمها حتّى تلين متونها فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل (4)

بشّار: [من الطويل ]

عميت جنينا، و الذّكاء من العمى، فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا

و غاص ضياء العين للعلم رافدا لقلب إذا ما ضيّع النّاس حصّلا

و شعر كنور الرّوض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا (5)

ص: 333


1- الأغرّ المشهر: هو الفرس الذي يعرف بين الخيل و هذا مثل قول جرير: و غرّ قد نسقت مشهّرات طوالع، لا تطيق لها جوابا
2- البيتان في الأغاني (9/ 360) من قصيدة له أنشدها الوليد بن عبد الملك أوّلها: عرف الديار توهّما فاعتادها من بعد ما شمل البلى أبلادها و السّناد: من عيوب الشعر و هو في اصطلاح العروضيين اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح و الكسر، و الردف هو حرف اللين الذي قبل الروي. اللسان (سند). الثّقاف: حديدة تكون مع القواس و الرماح يقوّم بها الشي ء المعوجّ أي: ما تسوّى به الرّماح. و المنآد: المائل المعوج.
3- البيت في ديوانه (ص 59)، و الأغاني (2/ 157)، (17/ 88)، و لسان العرب (فوز)، (ثوا)، و التنبيه و الإيضاح (2/ 248)، و تاج العروس (فوز)، (حوك)، (جرول)، (ثوى). و شانها: أي جاء بها شائنة أي: معيبة، و توى: مات و كذا فوّز، قال ابن برّي: لا يقال فوّز حتى يتقدم الكلام كلام فيقال مات فلان و فوّز فلان بعده، و جرول: يعني الحطيئة.
4- البيت في الأغاني (2/ 158)، و هو لا يتبع البيت السابق بل يفصل بينهما بيتان آخران هما: يقول فلا تعيا بشي ء يقوله و من قائليها من يسي ء و يعمل كفيتك لا تلقى من الناس واحدا تنخّل منها مثل ما يتنخّل
5- الأبيات في الأغاني (3/ 134)، و الموئل: الملجأ و في الآية: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفرّاء: الموئل: المنجي و هو الملجأ. و غاض ضياء العين: غاب نور العين. و النور: الزهر الأبيض واحدته نورة. و قال هذه الأبيات بعد أن قال: إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب و يقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه و تذكو قريحته. و الحزن و الحزن: نقيض الفرح، و السّهل: نقيض الحزن.

و له: [من المنسرح ]

زور ملوك عليه أبّهة يغرف من شعره و من خطبه (1)

للّه ما راح في جوانحه من لؤلؤ لا ينام عن طلبه

يخرج من فيه للنّدى، كما يخرج ضوء السّراج من لهبه (2)

أبو شريح العمير: [من الوافر]

فإن أهلك فقد أبقيت بعدي قوافي تعجب المتمثّلينا

لذيذات المقاطع محكمات لو أنّ الشّعر يلبس لارتدينا (3)

الفرزدق: [من الوافر]

بلغنا الشّمس حين تكون شرقا و مسقط قرنها من حيث غابا

بكلّ ثنيّة و بكلّ ثغر غرائبهنّ تنتسب انتسابا (4)

ابن ميّادة: [من الطويل ]ة.

ص: 334


1- الزور: الزائر يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و غيره لأنه مفرد في الأصل.
2- النديّ كالنّادي: مجلس القوم نهارا، و النادي مجتمع القوم و أهل المجلس.
3- قال الشيخ شاكر في تعليقه على هذين البيتين: لم أعرف أبا شريح العمير، و هو في مجموعة المعاني (178) لشاعر جاهلي، و في البيان و التبيين (1/ 222)، و ديوان المعاني (1/ 8)، و غير منسوب و انفرد صاحب حماسة الشجري بنسبته إلى ابن ميادة و هذا خطأ أو سهو؛ لأنه فيما أرجح أخذه من البيان و التبيين لأن الجاحظ عقد بابا فقال: «و وصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب، و كالعلل و المعاطف، و الديباج و الوشي و أشباه ذلك. و أنشدني أبو الجماهير جندب بن مدرك الهلالي» و ذكر أبياتا ثم قال: «و أنشدني لابن ميادة: نعم إنني مهد ثناء و مدحة كبرد اليماني يربح البيع تاجره و أنشد ثم ذكر البيتين، فاختلط الأمر على الشجري في نقله إلى حماسته، فنسبه لابن ميادة. و هذا شعر فاخر انتهى كلام الشيخ- رحمه اللّه-.
4- البيتان في الديوان (1/ 104) من قصيدة قالها يناقض جريرا مطلعها: أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا و الثنية: واحدة الثنايا من السّنّ و الثنيّة من الأضراس: أول ما في الفم و الثنية: طريق العقبة أو الطريقة في الحيل كالنّقب. و الثغر: الأسنان في منابتها. يريد أن يقول: إن غرائب قصائده مشهورة فقد طافت بكل طريق و ترددت على كل لسان فلم تترك مكانا إلا هبطته و لا ثغرا إلا شرفته بنطقها و بين هذا و ذاك فإن نسبتها إليه معروفة غير مجهولة.

فجرنا ينابيع الكلام و بحره فأصبح فيه ذو الرّواية يسبح

و ما الشّعر إلّا شعر قيس و خندف و شعر سواهم كلفة و تملّح (1)

و قال عقال بن هشام القينيّ يردّ عليه: [من الطويل ]

ألا أبلغ الرّمّاح نقض مقالة بها خطل الرّمّاح أو كان يمزح

لئن كان في قيس و خندف ألسن طوال و شعر سائر ليس يقدح

لقد خرق الحيّ اليمانون قبلهم بحور الكلام تستقى و هي طفّح

و هم علّموا من بعدهم فتعلّموا و هم أعربوا هذا الكلام و أوضحوا

فللسّابقين الفضل لا يجحدونه و ليس لمسبوق عليهم تبجّج (2)

أبو تمام: [من الطويل ]

كشفت قناع الشّعر عن حرّ وجهه و طيّرته عن وكره و هو واقع

بغرّ يراها من يراها بسمعه و يدنو إليها ذو الحجى و هو شاسع

يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه إذا أنشدت، شوقا إليها، مسامع (3)

ص: 335


1- البيتان في الأغاني (2/ 303) من أبيات قالها حينما غمزه عقال بن هاشم و صغّر من شأنه، و جاء البيت الثاني بلفظ: «قول» بدلا من «شعر». و خندف: اسم قبيلة سميت كذلك لأن خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار و هي ليلى بنت حلوان خندفت (هرولت) في أثر إبل إلياس التي خرجت ليلا، و قالت خندف لزوجها: ما زلت أخندف (أهرول) في أثركم. فقال: فأنت خندف فذهب اسما لها و لولدها نسبا و سميت بها القبيلة. اللسان (خندف). و التملّح: تكلّف الملاحة و الظرف.
2- الأبيات في الأغاني (2/ 303) قالها عقال بن هاشم يجيب ابن ميادة، و سمّاه «الرّمّاح». و خطل خطلا فهو خاطل أي: أحمق سريع الطّعن. و سهم خطل: يعجل فيذهب يمينا و شمالا لا يقصد قصد الهدف فهو يريد أن يصفه بصفة الحمق و العجلة. و القدح: العيب و منها قدح في عرض أخيه: عابه. و المقصود: شعر غير معيب. و التبجّح: الافتخار.
3- الأبيات في ديوانه (ص 489)، من قصيدة له يصف قومه و يفتخر بهم مطلعها: ألا صنع البين الذي هو صانع فإن تك مجزاعا فما البين جازع و حرّ الوجه: ما أقبل عليك منه و قيل: الخدّ و منه يقال: لطم حرّ وجهه، و قيل: حرّ الوجه: ما بدا من الوجنة. و جاء البيت الأول بلفظ «فكره» بدلا من «و كره». و الضمير «هو» للشاعر في قوله قبل البيت: فكم شاعر قد رامني فقذعته بشعري و هو خزيان ضارع و قذعته: رميته بسوء القول و شتمته، و الضارع: الذليل. و ذو الحجى: صاحب العقل و الفطنة و الجمع أحجاء. و الشاسع: البعيد.

و له: [من الكامل ]

حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة و بلاغة، و تدرّ كلّ وريد

كالدّرّ و المرجان ألّف نظمه بالشّذر في عنق الفتاة الرّود

كشقيقة البرد المنمنم و شيه في أرض مهرة أو بلاد تزيد

يعطي بها البشرى الكريم و يرتدي بردائها في المحفل المشهود

بشرى الغنيّ أبي البنات تتابعت بشرائه بالفارس المولود (1)

و له: [من الكامل ]

جاءتك من نظم اللّسان قلادة سمطان، فيها اللؤلؤ المكنون

أحذاكها صنع الضّمير يمدّه جفر إذا نضب الكلام معين (2)

أخذ لفظ «الصّنع» من قول أبي حيّة:

بأنني صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل (3) و نقله إلى الضمير. و قد جعل حسّان أيضا اللسان «صنعا»، و ذلك في قوله: [من البسيط]

أهدى لهم مدحا قلب مؤازره فيما أحبّ لسان حائك صنع (4) ).

ص: 336


1- الأبيات في ديوانه (ص 85)، و فصل بين البيت الأول و الثاني ببيت في الديوان يقول فيه: كالطعنة النجلاء في يد ثائر بأخيه أو كالضّربة الأخدود ففي الأول الحذاء: المقصود القصيدة التي لا عيب فيها و لا يتعلق بها شي ء لجودتها. و الوريد: عرق تحت اللسان، و الوريدان عرقان في العنق يقال للغضبان: انتفخ وريده. و الوريد: عرق في صفحة العنق. و في الثاني: الشّذر: قطع من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة الحجارة و هو أيضا صغار اللؤلؤ، و قيل: خرز يفصّل به النظم، و شذّر النظم: فصّله. و الرّؤد بالهمزة- من النساء: الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. و في البيت الثالث: البرد: ثوب فيه خطوط و الجمع أبراد و برود. و النمنمة: خطوط متقاربة قصار، و كتاب منمنم: منقش و نمنم الشي ء أي: زخرفه و رقشه.
2- البيتان في الديوان (ص 312) من قصيدة له يمدح الواثق باللّه مطلعها: و أبى المنازل إنّها لشجون و على العجومة إنها لتبين و البيتان غير متتاليين في الديوان. و أحذاكها: ألبسك إيّاها، و الجفر: البئر ذات الماء، و المعين: الماء الجاري على وجه الأرض.
3- عجز بيت لأبي حية النميري صدره: إن القصائد قد علمن بأنني
4- الديوان (1/ 100).

و لأبي تمام: [من الطويل ]

إليك أرحنا عازب الشّعر بعد ما تمهّل في روض المعاني العجائب

غرائب لاقت في فنائك أنسها من المجد فهي الآن غير غرائب

و لو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرت حياضك منه في السّنين الذّواهب

و لكنّه صوب العقول، إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب (1)

البحتري [من الطويل ]

أ لست الموالي فيك نظم قصائد هي الأنجم اقتادت مع اللّيل أنجما

ثناء كأنّ الرّوض منه منوّرا ضحى، و كأنّ الوشي منه منمنما (2)

و له: [من البسيط]

أحسن أبا حسن بالشّعر، إذ جعلت عليك أنجمه بالمدح تنتشر

فقد أتتك القوافي غبّ فائدة كما تفتّح غبّ الوابل الزّهر (3)

و له: [من الطويل ]

إليك القوافي نازعات قواصدا يسيّر ضاحي وشيها و ينمنم

و مشرقة في النّظم غرّ يزينها بهاء و حسنا أنّها فيك تنظم (4)

و له: [من الطويل ]

بمنقوشة نقش الدّنانير ينتقى لها اللّفظ مختارا كما ينتقى التّبر (5)

ص: 337


1- الأبيات له في الديوان (ص 47)، من قصيدة يمدح فيها أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي مطلعها: على مثلها من أربع و ملاعب أذيلت مصونات الدموع السواكب و العازب من الكلأ: الذي لم يرع قط و لا وطئ. و عازب الشعر: الشعر ذو المعاني البعيدة المرمى التي لا يهتدي إليها إلا الفحول من الشعراء. و يقال: راحت الإبل، فرواحها هاهنا أن تأوي بعد غروب الشمس إلى مراحها الذي تبيت فيه. و الفناء: هو ساحة أمام البيت.
2- منمنما: مزخرفا و منقشا.
3- في نسخة «تنتثر» و هو الصحيح.
4- تسيّر من السّيراء و السّيراء: ضرب من البرود، و قيل: هو ثوب مسيّر فيه خطوط تعمل من القزّ كالسيور و قيل: برود يخالطها حرير.
5- الديوان (1/ 344) يمدح الخضر بن أحمد.

و له: [من الطويل ]

أ يذهب هذا الدّهر لم ير موضعي و لم يدر ما مقدار حلّي و لا عقدي

و يكسد مثلي و هو تاجر سؤدد يبيع ثمينات المكارم و المجد

سوائر شعر جامع بدد العلى تعلّقن من قبلي و أتعبن من بعدي

يقدّر فيها صانع متعمّل لإحكامها تقدير داود في السّرد (1)

و له: [من الكامل ]

تاللّه يسهر في مديحك ليله متململا و تنام دون ثوابه

يقظان ينتخل الكلام كأنّه جيش لديه يريد أن يلقى به

فأتى به كالسّيف رقرق صيقل ما بين قائم سنخه و ذبابه (2)

و من نادر وصفه للبلاغة قوله: [من الخفيف

في نظام من البلاغة ما شكّ امرؤ أنّه نظام فريد

و بديع كأنّه الزّهر الضّاحك في رونق الرّبيع الجديد

مشرق في جوانب السّمع ما يخ لقه عوده على المستعيد

حجج تخرس الألدّ بألفا ظ فرادى كالجوهر المعدود

و معان لو فصّلتها القوافي هجّنت شعر جرول و لبيد

جزن مستعمل الكلام اختيارا و نجنبن ظلمة التّعقيد

و ركبن اللّفظ القريب فأدرك ن به غاية المراد البعيد

كالعذارى غدون في الحلل الصّف ر إذا رحن في الخطوط السّود (3) -.

ص: 338


1- التبديد: التفريق؛ يقال: شمل مبدّد أي: مفرّق، و بدّد الشي ء: فرّقه، و جاءت الخيل بداد أي: متفرقة. و تعلقن: أي فتنت الشعراء قبلي.
2- السّرد: الثقب و المسرودة: الدرع و قيل: السّرد: الحلق. و في الآية: وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ. و السّنخ: الأصل من كل شي ء و سنخ الكلمة أصل بنائها و سنخ السّكين: طرف سيلانه الدّاخل في النصاب و سنخ السيف: سيلانه. و الذباب: طرف السيف.
3- قال الشيخ شاكر معلقا على الأبيات: في ديوانه و الأبيات يقولها في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيّات الكاتب الوزير، و ذكر قبل البيت الأوّل «عبد الحميد الكاتب» فقال لابن الزيّات: لتفنّنت في الكتابة حتّى عطّل الناس فنّ عبد الحميد و الفريد: اللؤلؤ. و جرول: الحطيئة. و لبيد بن ربيعة: الفحل. و في الديوان و المطبوعة قوله: «حزن مستعمل الكلام» بالحاء المهملة و هكذا يجري في الكتب و هو عندي خطأ لا شك فيه و تصحيف مفسد للكلام و الشعر معا، و إنما هي «جزن» بالجيم المعجمة من «جاز المكان» إذا تعدّاه و تركه خلفه. يقول: إن معانيه تعدّين مبتذل اللفظ و الكلام و تركنه «و تجنّبن ظلمة التعقيد و ركبن اللفظ القريب» و هو اللفظ المختار الجيّد الذي لا ابتذال فيه و لا تعقيد. و هو في بعض النسخ «جزن» بالجيم و هو الصواب المحض، و أمّا «حزن» فهو تصحيف يتّقى، و كلام يرعب عن مثله. و في بعض نسخ الديوان: «كالعذارى غدون في الحلل البيض» و هي جيدة. انتهى كلام الشيخ شاكر- رحمه اللّه-.

الغرض من كتب هذه الأبيات، الاستظهار، حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر و التّقحّم على غير بصيرة، فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف، و في سلامتها مما يثقل على اللّسان علم بالنظر فيها فساد ظنّه و قبح غلطه، من حيث يرى عيانا أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال، و لا صفاتهم صفات تصلح له على حال.

إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب «تميم» لحزون جبال الشعر، لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان و لا كان تقويم «عديّ» لشعره و تشبيهه نظره فيه بنظر المثقّف في كعوب قناته لذلك و أنّه محال أن يكون له جعل «بشّار» نور العين قد غاض فصار إلى قلبه، و أن يكون اللّؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه و أن ليس هو صوب العقول (1) الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب و أن ليس هو الدّرّ و المرجان مؤلّفا بالشّذر في العقد و لا الذي له كان «البحتري» مقدّرا «تقدير داود في السّرد». كيف؟ و هذه كلّها عبارات عمّا يدرك بالعقل و يستنبط بالفكر، و ليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل، إنما الطريق إلى ذلك الحسّ.

و لو لا أنّ البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد، و أنّ الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شي ء يسمعونه، حتى لو أن إنسانا قال:

«باقلّى (2) حارّ»، يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم، لأقبلوا بأوجههم عليه و ألقوا أسماعهم إليه لكان اطّراحه و ترك الاشتغال به أصوب، لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتّة. ذاك لأنه أول شي ء يؤدّي إلى أن يكون القرآن معجزا، لا بما به كان قرآنا و كلام اللّه عز و جل، لأنه على كل حال إنّما كان قرآنا و كلام اللّه عز و جل بالنّظم الذي هو عليه. و معلوم أن ليس «النّظم» من مذاقة الحروف و سلامتها مما يثقل على اللسان في شي ء.

ثم إنّه اتّفاق من العقلاء أنّ الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حدّ عجز عنه المخلوقون، هو الفصاحة و البلاغة. و ما رأينا عاقلا جعل القرآن فصيحا أو بليغا، بأن

ص: 339


1- الصّوب: نزول المطر، من صاب المطر صوبا: انصبّ.
2- الباقلّى: الفول واحدته: باقلّاة و باقلاءة.

لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان، لأنه لو كان يصحّ ذلك، لكان يجب أن يكون السّوقيّ الساقط من الكلام، و السفساف الرّدي ء من الشعر، فصيحا إذا خفّت حروفه.

و أعجب من هذا، أنّه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كلّ ضمّة و كسرة فتحة فقال: «الحمد للّه»، بفتح الدال و اللام و الهاء، و جرى على هذا في القرآن كلّه، أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به، بل كان ينبغي أن يزيد فيه، لأنّ الفتحة كما لا يخفى أخفّ من كلّ واحدة من الضمة و الكسرة.

فإن قال: إن ذلك يحيل المعنى.

قيل له: إذا كان المعنى و العلّة في كونه معجزا خفّة اللّفظ و سهولته، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا، لأنه إذا كان معجزا لوصف يخصّ لفظه دون معناه، كان محالا أن يخرج عن كونه معجزا، مع قيام ذلك الوصف فيه.

و دع هذا، وهب أنه لا يلزم شي ء منه، فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه و قلّة تمييز القائل به، أنه يقتضي إسقاط «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» و «المجاز» و «الإيجاز» جملة، و اطّراح جميعها رأسا، مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها، و الأعضاد التي تستند الفصاحة إليها، و الطّلبة التي يتنازعها المحسنون، و الرّهان الذي تجرّب فيه الجياد، و النّضال الذي تعرف به الأيدي الشّداد، و هي التي نوّه بذكرها البلغاء و رفع من أقدارها العلماء، و صنّفوا فيها الكتب، و وكّلوا بها الهمم، و صرفوا إليها الخواطر، حتّى صار الكلام فيها نوعا من العلم مفردا، و صناعة على حدة، و لم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها و جعلها العمد و الأركان فيما يوجب الفضل و المزيّة، و خصوصا «الاستعارة» و «الإيجاز»، فإنّك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون، و أوّل ما يوردون.

و تراهم يذكرون من «الاستعارة» قوله عز و جل: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، و قوله: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، و قوله عزّ و جلّ:

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37]، و قوله عز و جل: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]، و قوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80]، و قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (1) [محمد: 4]، و قوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16].

ص: 340


1- أوزار الحرب: أسلحتها: قال الأعشى: و أعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا و خيلا ذكورا و قيل الأوزار: أثقال الشهداء لأنه عز و جلّ يمحّصهم من الذنوب.

و من «الإيجاز» قوله تعالى: وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (1) [الأنفال: 58]، و قوله تعالى: وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14]، و قوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ (2) [الأنفال: 57]، و تراهم على لسان واحد في أن «المجاز» و «الإيجاز» من الأركان في أمر الإعجاز.

و إذا كان الأمر كذلك عند كافّة العلماء الذين تكلّموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور، فيزعم أنّ الوصف الذي كان له القرآن معجزا، هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان، أ يصحّ له القول بذلك إلّا من بعد أن يدّعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه، و الخطأ فيما أجمعوا عليه؟ و إذا نظرنا وجدناه لا يصحّ له ذلك إلّا بأن يقتحم هذه الجهالة، اللّهم إلّا أن يخرج إلى الضّحكة فيزعم مثلا أن من شأن «الاستعارة» و «الإيجاز» إذا دخلا الكلام، أن يحدث بهما في حروفه خفة، و تتجدّد فيها سهولة، و نسأل اللّه تعالى العصمة و التوفيق.

و اعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف و سلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، و أن تكون مما يؤكّد أمر الإعجاز، و إنما الذي ننكره و نفيّل رأي من يذهب إليه، أن يجعله معجزا به وحده، و يجعله الأصل و العمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات.

ثم إنّ العجب كلّ العجب ممن يجعل كلّ الفضيلة في شي ء هو إذا انفرد لم يجب به فضل البتّة، و لم يدخل في اعتداد بحال. و ذلك أنّه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ و سلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد، حتى يكون قد ألف منها كلام، ثم كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه و الغرض الذي أريد به، و أنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى، و يؤلّف منها كلاما، لم تر عاقلا يعتدّ السهولة فيها فضيلة، لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها، و إنما تراد لتجعل أدلّة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد، أو اختلّ أمرها فيه، لم يعتدّ بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، و كانت السهولة و غير السهولة فيها واحدا.

و من هاهنا رأيت العلماء يذمّون من يحمله تطلّب السّجع و التجنيس على أن

ص: 341


1- أي: إن كان بينك و بين قوم هدنة فخفت منهم نقضا للعهد فلا تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك و بينهم؛ فيكونوا معك في علم النقض و العود إلى الحرب مستوين.
2- يقال: شرد البعير: نفر و التشريد: الطّرد. و المعنى: أي: فرّق و بدّد جمعهم و قيل: فزّع بهم من خلفهم.

يضم لهما المعنى، و يدخل الخلل عليه من أجلهما، و على أن يتعسّف في الاستعارة بسببهما، و يركب الوعورة، و يسلك المسالك المجهولة، كالذي صنع أبو تمام في قوله: [من البسيط]

سيف الإمام الّذي سمّته هييته لمّا تخرّم أهل الأرض مخترما

قرّت بقرّان عين الدين و انتشرت بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما (1)

و قوله: [من الكامل ]

ذهبت بمذهبه السّماحة و التوت فيه الظّنون، أ مذهب أم مذهب (2)

و يصنعه المتكلفون في الأسجاع. و ذلك أنّه لا يتصوّر أن يجب بهما، و من حيث هما، فضل، و يقع بهما مع الخلوّ من المعنى اعتداد. و إذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام: «أ مذهب أم مذهب»، فاستضعفته، و إلى تجنيس القائل: [من البسيط] حتّى نجا من خوفه و ما نجا (3) و قول المحدث: [من الخفيف

ناظراه فيما جنى ناظراه، أو دعاني أمت بما أو دعاني (4)

فاستحسنته، لم تشكّ بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللّفظ، و لكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأوّل، و قويت في الثاني. و ذلك؛ أنّك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب و مذهب، على أن أسمعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت، إلا متكلّفة متمحّلة، و رأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن

ص: 342


1- البيتان في الديوان (ص 284) من قصيدة قالها يمدح إسحاق بن إبراهيم المصعبي. و يفصل بين البيتين بيت آخر نصه: إنّ الخليفة لما صال كنت له خليفة الموت في من جار أو ظلما و تخرّم: تشقق و يقال: رجل مخروم: أي قطعت و ترة أنفه. و يقال: اخترم فلان عنا: مات و ذهب، و اخترمهم الدهر و تخرّمهم أي: اقتطعهم و استأصلهم. و شترت العين: استرخت و انشقت، و اصطلم: استؤصل.
2- البيت في ديوانه من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب و يصف غلاما أهداه إليه.
3- البيت في أسرار البلاغة غير منسوب، و قال الشيخ شاكر- رحمه اللّه- في تعليقه: «نجا» الأولى من «النجو» و هو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم ينج من «النجاة».
4- البيت في أسراء البلاغة (ص 7)، و هو لشدّاد بن إبراهيم الجزري أو لأبي الفتح البستي.

الفائدة و قد أعطاها، و يوهمك أن لم يزدك و قد أحسن الزيادة و وفّاها. و لهذه النّكتة كان التجنيس، و خصوصا المستوفى منه، مثل «نجا» و «نجا»، من حليّ الشّعر.

و القول فيما يحسن و فيما لا يحسن من التجنيس و السجع يطول، و لم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما، و لكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرّد السّهولة و سلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان.

و جملة الأمر، أنّا ما رأينا في الدّنيا عاقلا اطّرح النّظم و المحاسن التي هو السبب فيها من «الاستعارة» و «الكناية» و «التمثيل»، و ضروب «المجاز» و «الإيجاز»، و صدّ بوجهه عن جميعها، و جعل الفضل كلّه و المزيّة أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل. كيف؟ و هو يؤدي إلى السخف و الخروج من العقل كما بينا.

و اعلم أنه قد آن لنا نعود إلى ما هو الأمر الأعظم و الغرض الأهمّ، و الّذي كأنّه هو الطّلبة، و كل ما عداه ذرائع إليه. و هو المرام، و ما سواه أسباب للتسلّق عليه، و هو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزيّة على نظم، و أن يعظم أمر التفاضل فيه و يتناهى إلى الغايات البعيدة. و نحن نسأل اللّه تعالى العون على ذلك، و التوفيق له و الهداية إليه.

فصل [في أن النظم هو توخي المعاني ]

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ما أظنّ بك أيها القارئ لكتابنا، إن كنت وفّيته حقّه من النظر، و تدبّرته حقّ التدبّر، إلّا أنّك قد علمت علما أبى أن يكون للشكّ فيه نصيب، و للتوقّف نحوك مذهب، أن ليس «النّظم» شيئا إلّا توخّي معاني النحو و أحكامه و وجوهه و فروقه فيما بين معاني الكلم و أنك قد تبيّنت أنه إذا رفع معاني النحو و أحكامه مما بين الكلم حتّى لا تراد فيها في جملة و لا تفصيل، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في إثر بعض في البيت من الشعر و الفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب و مقتض، و عن أن يتصوّر أن يقال في كلمة منها إنّها مرتبطة بصاحبة لها، و متعلقة بها، و كائنة بسبب منها و أنّ حسن تصوّرك لذلك، قد ثبت فيه قدمك، و ملأ من الثّقة نفسك، و باعدك من أن تحنّ إلى الذي كنت عليه، و أن يجرّك الإلف و الاعتياد إليه و أنّك جعلت ما قلناه نقشا في صدرك، و أثبتّه في سويداء قلبك، و صادقت بينه و بين نفسك. فإن كان الأمر كما ظننّاه، رجونا أن يصادف الذي نريد

ص: 343

أن نستأنفه بعون اللّه تعالى منك نيّة حسنة تقيك الملل، و رغبة صادقة تدفع عنك السّأم، و أريحيّة يخفّ معها عليك تعب الفكر و كدّ النّظر، و اللّه تعالى وليّ توفيقك و توفيقنا بمنه و فضله. و نبدأ فنقول:

فإذا ثبت الآن أن لا شكّ و لا مرية في أن ليس «النظم» شيئا غير توخّي معاني النحو و أحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبه في معاني النحو و أحكامه و وجوهه و فروقه، و لم يعلم أنها معدنه و معانه (1)، و موضعه و مكانه، و أنّه لا مستنبط له سواها، و أن لا وجه لطلبه فيما عداها، غارّ نفسه بالكاذب من الطمع، و مسلم لها إلى الخدع، و أنه إن أبى أن يكون فيها، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه، و لزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به، و أن يلحق بأصحاب «الصّرفة» (2) فيدفع الإعجاز عن أصله، و هذا تقرير لا يدفعه إلّا معاند يعدّ الرجوع عن باطل قد اعتقده عجزا، و الثّبات عليه من بعد لزوم الحجة جلدا، و من وضع نفسه في هذه المنزلة، كان قد باعدها من الإنسانيّة. و نسأل اللّه تعالى العصمة و التوفيق.

و هذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا له.

اعلم أنّ معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا فيما بين شيئين، و الأصل و الأوّل هو «الخبر». و إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه، عرفته في الجميع. و من الثّابت في العقول و القائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به و مخبر عنه، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي». و «الإثبات»، يقتضي مثبتا و مثبتا له، و «النفي» يقتضي منفيّا و منفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له و منفي عنه، حاولت ما لا يصحّ في عقل، و لا يقع في وهم. و من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شي ء مظهر أو مقدّر مضمر، و كان لفظك به، إذا أنت لم ترد ذلك، و صوتا تصوّته سواء.

و إن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك، فانظر إليك إذا قيل لك: «ما فعل زيد»؟ فقلت: «خرج»، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن ينوى فيه ضمير «زيد»؟ و هل تكون، إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك، إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟ ).

ص: 344


1- المعان: المباءة و المنزل و معان القوم: منزلهم. اللسان (معن).
2- هم المعتزلة، الحيوان للجاحظ (4/ 89).

و كذلك فانظر إذا قيل لك: «كيف زيد؟»، فقلت: «صالح»، هل يكون نقولك «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السّامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟ فإنه ممّا لا يبقى معه لعاقل شكّ أن «الخبر» معنى لا يتصوّر إلّا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا، و الآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيّا، و الآخر منفيّا عنه و أنه لا يتصوّر مثبت من غير مثبت له، و منفيّ من دون منفيّ عنه.

و لما كان الأمر كذلك، أوجب ذلك أن لا يعقل إلّا من مجموع جملة فعل و اسم كقولنا: «خرج زيد»، أو اسم و اسم، كقولنا: «زيد منطلق»، فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، و بغير هذا الدليل. و هو شي ء يعرفه العقلاء في كل جيل و أمّة، و حكم يجري عليه الأمر في كل لسان و لغة.

و إذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلّا فيما بين شيئين: مخبر به و مخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. و ذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به و مخبر عنه، و كذلك لا يتصوّر أن يكون خبر حتّى يكون له «مخبر» يصدر عنه و يحصل من جهته، و يكون له نسبة إليه، و تعود التّبعة فيه عليه، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا، و بالكذب إن كان كذبا. أ فلا ترى أنّ من المعلوم أنه لا يكون إثبات و نفي حتى يكون مثبت و ناف يكون مصدرهما من جهته، و يكون هو المزجيّ لهما، و المبرم و الناقض فيهما، و يكون بهما موافقا و مخالفا، و مصيبا و مخطئا، و محسنا و مسيئا.

- و جملة الأمر، أن «الخبر» و جميع الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، و يصرّفها في فكره، و يناجي بها قلبه، و يراجع فيها عقله، و توصف بأنها مقاصد و أغراض، و أعظمها شأنا «الخبر»، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثيرة، و تقع فيه الصّناعات العجيبة، و فيه يكون، في الأمر الأعمّ، المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة، كما شرحنا فيما تقدّم، و نشرحه فيما نقول من بعد إن شاء اللّه تعالى.

و اعلم أنك إذا فتّشت أصحاب «اللّفظ» عمّا في نفوسهم، و جدتهم قد توهّموا في «الخبر» أنه صفة للفظ، و أن المعنى في كونه إثباتا، أنه لفظ يدلّ على وجود لمعنى من الشي ء أو فيه و في كونه نفيا، أنه لفظ يدلّ على عدمه و انتفائه عن الشي ء.

و هو شي ء قد لزمهم، و سرى في عروقهم، و امتزج بطباعهم، حتى صار الظنّ بأكثرهم أنّ القول لا ينجع فيهم.

و الدليل على بطلان ما اعتقدوه، أنّه محال أن يكون «اللّفظ» قد نصب دليلا

ص: 345

على شي ء، ثم لا يحصل منه العلم بذلك الشي ء، إذ لا معنى لكون الشي ء دليلا إلّا إفادته إيّاك العلم بما هو دليل عليه. و إذا كان هذا كذلك علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه، من أن المعنى في وصفنا «اللفظ» بأنه خبر، أنه قد وضع لأن يدلّ على وجود المعنى أو عدمه، لأنه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شكّ في خبر يسمعه، و أن لا تسمع الرّجل يثبت و ينفي إلّا علمت وجود ما أثبت و انتفاء ما نفى، و ذلك مما لا يشكّ في بطلانه. فإذا لم يكن ذلك مما يشكّ في بطلانه، وجب أن يعلم أنّ مدلول «اللفظ» ليس هو وجود المعنى أو عدمه، و لكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه، و أنّ ذلك، أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه، حقيقة الخبر، إلّا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشي ء أو فيه يسمّى «إثباتا»، و إذا كان بعدم المعنى و انتفائه عن الشي ء يسمى «نفيا».

و من الدليل على فساد ما زعموه، أنه لو كان معنى «الإثبات»، الدلالة على وجود المعنى و إعلامه السامع أيضا، و كان معنى «النفي» الدلالة على عدمه و إعلامه السامع أيضا، لكان ينبغي إذا قال واحد: «زيد عالم»، و قال آخر: «زيد ليس بعالم»، أن يكون قد دلّ هذا على وجود العلم و هذا على عدمه، و إذا قال الموحّد: «العالم محدث» و قال الملحد: «هو قديم»، أن يكون قد دلّ الموحّد على حدوثه، و الملحد على قدمه، و ذلك ما لا يقوله عاقل.

تقرير لذلك بعبارة أخرى:

لا يتصوّر أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلّفة إلى دليل يدلّ عليها زائد على اللفظ. كيف؟ و قد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد النّاس في محاوراتهم علم ضرورة، و من ذهب مذهبا يقتضي أن لا يكون «الخبر» معنى في نفس المتكلم، و لكن يكون وصفا للّفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشي ء أو فيه، أو انتفاء وجوده عنه، كان قد نقض منه الأصل الذي قدّمناه، من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ، لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ. ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت و انتفاء المنفيّ باللفظ، و لكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ. و ما من عاقل إلّا و هو يعلم ببديهة النّظر أنّ المعلوم بغير اللفظ، لا يكون مدلول اللفظ.

طريقة أخرى: الدّلالة على الشي ء هي لا محالة إعلامك السامع إيّاه، و ليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولا عليه. و إذا كان كذلك، و كان ممّا يعلم ببدائه

ص: 346

المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم و مقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره، ما هو؟ أ هو أن يعلم السامع المخبر به و المخبر عنه، أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه؟

فإن قيل: إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه، فإذا قال:

«ضرب زيد» كان مقصوده أن يعلم السّامع وجود الضرب من زيد، و ليس الإثبات إلّا إعلامه السامع وجود المعنى.

قيل له: فالكافر إذا أثبت مع اللّه تعالى عمّا يقول الظالمون، إلها آخر، يكون قاصدا أن يعلم، نعوذ باللّه تعالى، أن مع اللّه تعالى إلها آخر؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، و كفى بهذا فضيحة.

و جملة الأمر، أنه ينبغي أن يقال لهم: أ تشكّون في أنّه لا بدّ من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علما لا يكون معه شكّ، و يكون ذلك معنى اللفظ و حقيقته؟

فإذا قالوا: لا نشكّ.

قيل لهم: فما ذلك المعنى؟

فإن قالوا: هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتا، و انتفاؤه عنه إذا كان نفيا لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدّعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول: «خرج زيد»، علموا علما لا شكّ معه، وجود الخروج من زيد. و كيف يدّعون ذلك، و هو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا، و أن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه، و أن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاصّ وصفه أنّه يحتمل الصّدق و الكذب، و أن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد و أخبار التواتر من أن العلم يقع بالتّواتر دون الآحاد سهوا منهم، و يقتضي الغنى عن المعجزة، لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه، فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه، لم تقع الحاجة إلى دليل يدلّ على كونه كذلك، فاعرفه.

و اعلم أنّه إنما لزمهم ما قلناه، من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا، من حيث أنه إذا كان معنى الخبر عندهم، إذا كان إثباتا، أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، وجب أن يكون كذلك أبدا، و أن لا

ص: 347

يصحّ أن يقال: «ضرب زيد»، إلا إذا كان الضرب قد وجد من زيد. و كذلك يجب في النّفي أن لا يصح أن يقال: «ما ضرب زيد»، إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه، لأن تجويز أن يقال: «ضرب زيد»، من غير أن يكون قد كان منه ضرب، و أن يقال: «ما ضرب زيد»، و قد كان منه ضرب، يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدلّ عليه. و ذلك ما لا يشكّ في فساده.

و لا يلزمنا ذلك على أصلنا، لأن معنى «اللفظ» عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتا، و الحكم بعدمه إذا كان نفيا، و اللّفظ عندنا لا ينفكّ من ذلك و لا يخلو منه. و ذلك لأن قولنا: «ضرب» و «ما ضرب»، يدلّ من قول الكاذب على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق، لأنّا إن لم نقل ذلك، لم يخل من أن يزعم أنّ الكاذب يخلي اللّفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للّفظ معنى غير ما وضع له، و كلاهما باطل.

و معلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب: «أنه يثبت ما ليس بثابت، و ينفي ما ليس بمنتف»، و القول بما قالوه يؤدّي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال، من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا: إن الكاذب يدلّ على وجود ما ليس بموجود، و على عدم ما ليس بمعدوم. و كفى بهذا تهافتا و خطلا، و دخولا في اللّغو من القول.

و إذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره: أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود، و بالعدم فيما ليس بمعدوم، و هو أسدّ كلام و أحسنه.

و الدليل على أن اللّفظ من قول الكاذب يدلّ على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق، أنهم جعلوا خاصّ وصف الخبر أنه يحتمل الصّدق و الكذب، فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة، لما كان لحدّهم هذا معنى. و لا يجوز أن يقال: إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبّر عنه، لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئا، ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد، و لا يمكننا أن نزعم في الكاذب أنه أراد أمرا، ثم أتى بعبارة لا تصلح لما أراد.

و مما ينبغي أن يحصّل في هذا الباب، أنهم قد أصّلوا في «المفعول» و كلّ ما زاد على جزئي الجملة، أنه يكون زيادة في الفائدة. و قد يتخيّل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم، أنهم أرادوا بذلك أنك تضمّ بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى، و ينبني عليه أن ينقطع عن الجملة، حتى يتصوّر أن يكون فائدة على

ص: 348

حدة، و هو ما لا يعقل، إذ لا يتصوّر في «زيد» من قولك» «ضربت زيدا»، أن يكون شيئا برأسه، حتى تكون بتعديتك «ضربت» إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى. و إذا كان ذلك كذلك، وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا: أن الكلام يخرج بذكر «المفعول» إلى معنى غير الذي كان، و أن وزان الفعل قد عدّي إلى مفعول معه، و قد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول، وزان الاسم المخصص بالصّفة مع الاسم المتروك على شياعه، كقولك: «جاءني رجل ظريف»، مع قولك: «جاءني رجل»، في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى و فائدة إلى فائدة، و لكن كمن يريد هاهنا شيئا و هناك شيئا آخر. فإذا قلت: «ضربت زيدا»، كان المعنى غيره إذا قلت: «ضربت» و لم تزد «زيدا».

و هكذا يكون الأمر أبدا، كلّما زدت شيئا، وجدت المعنى قد صار غير الذي كان. و من أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد، إذا أتي به مطلقا في الشّرط، و معدى إلى شي ء في الجزاء، كقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7]، و قوله عز و جل: وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء: 130]، مع العلم بأن الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء، من حيث كان الشرط سببا و الجزاء مسبّبا، و أنه محال أن يكون الشي ء سببا لنفسه. فلو لا أنّ المعنى في «أحسنتم» الثانية، غير المعنى في الأولى، و أنها في حكم فعل ثان، لما ساغ ذلك، كما لا يسوغ أن تقول: «إن قمت قمت، و إن خرجت خرجت»، و مثله من الكلام قوله: «المرء بأصغريه، إن قال قال ببيان، و إن صال صال بجنان»، و يجري ذلك في الفعلين قد عدّيا جميعا، إلّا أن الثاني منهما قد تعدّى إلى شي ء زائد على ما تعدّى إليه الأوّل، و مثاله قولك: «إن أتاك زيد أتاك لحاجة»، و هو أصل كبير. و الأدلّة على ذلك كثيرة، و من أولاها بأن يحفظ: أنك ترى البيت قد استحسنه الناس و قضوا لقائله بالفضل فيه، و بأن الذي غاص على معناه بفكره، و أنه أبو عذره، ثم لا ترى ذلك الحسن و تلك الغرابة كانا، إلّا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة. و مثال ذلك قول الفرزدق:

[من الطويل ]

و ما حملت أمّ امرئ في ضلوعها أعقّ من الجاني عليها هجائيا (1)

فلو لا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئا غير الذي كان، و يتغيّر في ذاته، لكان محالا أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن و المزيّة، و أن يكون معناه خاصّا ا

ص: 349


1- البيت في ديوانه (2/ 361)، من قصيدة له قيل إنها أول من هجا به جريرا و البعيث مطلعها: أ لم تر أني يوم جو سويقة بكيت فنادتني هنيدة ما ليا

بالفرزدق، و أن يقتضى له بالسّبق إليه، إذ ليس في الجملة التي بنى عليها ما يوجب شيئا من ذلك، فاعرفه.

و النّكتة التي يجب أن تراعى في هذا، أنه لا تتبيّن لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق، إلا عند آخر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله «هجائيا» بل «الياء» التي هي ضمير الفرزدق، لم يكن الذي تعقله منه ممّا أراده الفرزدق بسبيل، لأن غرضه تهويل أمر هجائه، و التحذير منه، أنّ من عرّض أمّه له، كان قد عرّضها لأعظم ما يكون من الشّرّ.

و كذلك حكم نظائره من الشعر، فإذا نظرت إلى قول القطامي: [من البسيط]

فهنّ ينبذن من قول يصبن به مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي (1)

وجدتك لا تحصل على معنى يصحّ أن يقال إنه غرض الشاعر و معناه، إلّا عند قوله «ذي الغلّة».

و يزيدك استبصارا فيما قلناه، أن تنظر فيما كان من الشعر جملا قد عطف بعضها على بعض بالواو، كقوله: [من الكامل ]

النّشر مسك، و الوجوه دنا نير، و أطراف الأكفّ عنم (2)

و ذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله: «النشر مسك»، لا يصير بانضمام قوله:

«و الوجوه دنانير»، إليه شيئا غير الذي كان، بل تراه باقيا على حاله. كذلك ترى ما تعقل من قوله: «و الوجوه دنانير»، لا يلحقه تغيير بانضمام قوله: و «أطراف الأكفّ عنم»، إليه.

و إذ قد عرفت ما قرّرناه من أنّ من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها

ص: 350


1- البيت في ديوانه (ص 81)، و الإيضاح (ص 237)، و لسان العرب (صدى)، و أسرار البلاغة (نبذ).
2- البيت للمرقش الأكبر في ديوانه، و المفضليات (238)، و في مفتاح العلوم (ص 661) بتحقيقنا، و كذلك الإيضاح (228)، من قصيدة له مطلعها: هل بالديار أن تجيب صمم لو كان رسم ناطقا كلّم و البيت في الإشارات (ص 182)، و الأسرار (ص 123)، و اللسان (قوم)، و معجم الشعراء (ص 102)، و تاج العروس (قوم)، و بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 978)، و الاشتقاق (ص 46). و النشر: الريح، يقول ريحههن كالمسك. دنانير: ممنوع من الصرف و يقرؤه كثير من الناس هنا مصروفا، و هو خطأ رواية، و العنم: شجر أحمر لين الأغصان شبه حمرة أطراف الأصابع به.

شيئا غير الذي كان، و أنه يتغير في ذاته، فاعلم أنّ ما كان من الشعر مثل بيت بشّار:

[من الطويل ]

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه (1)

و قول امرئ القيس: [من الطويل ]

كأنّ قلوب الطّير رطبا و يابسا لدى و كرها العنّاب و الحشف البالي (2)

و قول زياد: [من الطويل ]

و إنّا و ما تلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق (3)

كان له مزيّة على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدّي معنى، و إن لم يكن معنى يصحّ أن يقال إنه معنى فلان، و لا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعد جملة تؤدّي معنى، فضلا عن أن تؤدّي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قوله: «كأن مثار النّقع» إلى: «و أسيافنا»، جزء واحد و «ليل تهاوى كواكبه» بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام. و هكذا سبيل البيتين الآخرين. فقوله: «كأن قلوب الطّير رطبا و يابسا لدى و كرها»، جزء و قوله: «العناب و الحشف البالي» الجزء الثاني و قوله: «و إنّا و ما تلقي لنا إن هجوتنا» جزء، و قوله: «لكالبحر، الجزء الثاني، و قوله: «مهما تلق في البحر يغرق»، و إن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلّق بقوله: «لكالبحر»، فإنها لمّا كانت مبيّنة لحال هذا التشبيه، صارت كأنها متعلّقة بهذا التشبيه، و جرى مجرى أن تقول:

«لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شي ء إلّا غرق».

ص: 351


1- البيت لبشار في ديوانه (1/ 318)، و المصباح (106)، و يروى (رءوسهم) بدلا من (رءوسنا)، و أسرار البلاغة (ص 174، 194، 195، 198)، و التبيان للطيبي (ص 278)، و مثار النقع: الغبار الذي أثاره المتحاربون، و تهاوى: تتساقط. و يرى عبد القاهر أن الشاعر جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه و عبّر عن هيئة السيوف و قد سلت من الأغماد و هي تعلو و ترسب و تجي ء و تذهب ... و يرى أنه نظم هذه الدقائق في نفسه ثم أحضرت صورها بلفظة واحدة و نبّه عليها بأحسن التنبيه و أكمله بكلمة و هي قوله (تهاوى) لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها و كان لها في تهاويها تواقع و تداخل ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة. (أسرار البلاغة).
2- سبق تخريجه انظر (ص 79).
3- سبق في (ص 79) فانظره.

فصل

و إذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها و من الذي بني عليها في الكثير، معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص، فإنّ ذلك يقتضي لا محالة أن يكون «الخبر» في نفسه معنى هو غير المخبر به و المخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر، و أن يكون المستنبط و المستخرج و المستعان على تصويره بالفكر. فليس يشكّ عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله:

و ما حملت أمّ امرئ في ضلوعها (1) نسبة إلى الفرزدق، و أن يكون الفكر منه كان فيه نفسه، و أن يكون معناه الذي قيل إنّه استنبطه و استخرجه و غاص عليه. و هكذا السبيل أبدا، لا يتصوّر أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر، و أن يبلغ من أمره أن يصير خاصّا به، فاعرفه.

و من الدليل القاطع فيه، ما بيّنّاه في «الكناية»، و «الاستعارة» و «التمثيل» و شرحناه، من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن و المزية، و أنّ المعاني تتصوّر من أجلها بالصّور المختلفة، و أن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول، و مركوز في غرائز النفوس. و بيّنّا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها، حادثة في المعنى المخبر به، المثبت أو المنفيّ، لعلمنا باستحالة أن تكون المزيّة التي تجدها لقولنا: «هو طويل النجاد» على قولنا «طويل القامة» في الطول، و التي تجدها لقولنا: «هو كثير رماد القدر» على قولنا: «هو كثير القرى و الضيافة» في كثرة القرى. و إذا كان ذلك محالا، ثبت أن المزيّة و الحسن يكونان في إثبات ما يراد أن وصف به المذكور، و الإخبار به عنه. و إذا ثبت ذلك، ثبت أنّ «الإثبات» معنى، لأن حصول المزيّة و الحسن فيما ليس بمعنى، محال.

هذا ممّا نقل من مسودّته بخطّه بعد وفاته رحمه اللّه. ).

ص: 352


1- صدر بيت له في ديوانه و عجزه: أعق من الجاني عليها هجائيا و البيت سبق تخريجه (ص 342).

[فصل

[فصل

و به ثقتي و عليه اعتمادي اعلم أنّ هاهنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب و ينكر من آخر، و هو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، و لكن لأن يضمّ بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما فوائد. و هذا علم شريف، و أصل عظيم.

و الدليل على ذلك، أنّا إن زعمنا أن الألفاظ، التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدّى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، و هو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: «رجل» و «فرس» و «دار»، لما كان يكون لنا علم بهذه الأجناس و لو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها حتى لو لم يكونوا قالوا:

«فعل» و «يفعل»، لما كنّا نعرف الخبر في نفسه و من أصله- و لو لم يكونوا قد قالوا:

«افعل»، لما كنّا نعرف الأمر من أصله، و لا نجده في نفوسنا و حتى لو لم يكونوا قد و ضعوا الحروف، لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا و لا نهيا و لا استفهاما و لا استثناء. كيف؟ و المواضعة لا تكون و لا تتصوّر إلا على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، لأن المواضعة كالإشارة، فكلما أنّك إذا قلت: «خذ ذاك»، لم تكن هذه الإشارة لتعرّف السامع المشار إليه في نفسه، و لكن ليعلم أنّه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها و تبصرها. كذلك حكم «اللفظ» مع ما وضع له. و من هذا الذي يشكّ أنا لم نعرف «الرجل» و «الفرس» و «الضرب» و «القتل» إلّا من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل، لكان ينبغي إذا قيل: «زيد» أن تعرف المسمّى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة.

و إذا قلنا في العلم باللغات من مبتدأ الأمر أنه كان إلهاما، فإن الإلهام لا يرجع إلى معاني اللغات، و لكن إلى كون ألفاظ اللّغات سمات لتلك المعاني، و كونها مرادة بها. أ فلا ترى إلى قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 31]، أ فترى أنه قيل لهم:

«أنبئوني بأسماء هؤلاء»، و هم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟

و إذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا

ص: 353

فيما بين شيئين، و الأصل و الأوّل هو «الخبر»، و إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. و من الثّابت في العقول و القائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به و مخبر عنه، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي»، و «الإثبات» يقتضي مثبتا و مثبتا له، و «النفي» يقتضي منفيّا و منفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه، من غير أن يكون هناك مثبت له و منفيّ عنه، حاولت ما لا يصحّ في عقل، و لا يقع في وهم. من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شي ء، و كنت إذا قلت: «ضرب»، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك، من غير أن تريد الخبر به عن شي ء مظهر أو مقدّر، و كان لفظك به، إذا أنت لم ترد ذلك، و صوتا تصوّته، سواء.

و إن أردت أن يستحكم معرفة ذلك في نفسك، فانظر إليك إذا قيل لك: «ما فعل زيد»؟ فقلت: «خرج»، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن تنوي فيه ضمير «زيد»؟ و هل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟ و كذلك فانظر إذا قيل لك: «كيف زيد»؟، فقلت: «صالح»:

هل يكون لقولك: «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السامع شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟

إذا ثبت ذلك، فإنه ما لا يبقى معه لعاقل شكّ، أنّ الخبر معنى لا يتصوّر إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتا، و الآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيّا، و الآخر منفيّا عنه و أنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له، و منفيّ من دون منفيّ عنه. فلما كان الأمر كذلك، أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل و اسم، كقولنا: «خرج زيد»، أو اسم و اسم، كقولنا: «زيد منطلق». فليس في الدّنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، و بغير هذا الدليل، و هو شي ء يعرفه العقلاء في كل جيل و أمّة، و حكم يجري عليه الأمر في كل لسان و لغة.

و إذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلا فيما بين شيئين: مخبر به و مخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث، و ذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به و مخبر عنه، و كذلك لا يتصوّر حتّى يكون له مخبر يصدر عنه و يحصل من جهته، و تعود التّبعة فيه عليه، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا، و بالكذب إن كان كذبا. أ فلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إثبات و نفي، حتى يكون مثبت و ناف يكون مصدرهما من جهته، و يكون

ص: 354

هو المزجيّ لهما، و المبرم و الناقض فيهما. و يكون بهما موافقا و مخالفا، و مصيبا و مخطئا، و مسيئا و محسنا.

و جملة الأمر أن الخبر و جميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، و يصرّفها في فكره، و يناجي بها قلبه، و يراجع فيها عقله، و توصف بأنّها مقاصد و أغراض. و أعظمها شأنا الخبر، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثرة، و تقع فيه الصناعات العجيبة، و فيه تكون المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة على ما شرحنا.

ثم إنّا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة.، و لطائف مستخرجة و يجعلون لها اختصاصا بقائل دون قائل، و كمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر: «إنه معنى لم يسبق إليه فلان، و أنه الذي فطن له و استخرجه، و أنه الذي غاص عليه بفكره، و أنّه أبو عذره، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعمّ شيئا غير الخبر الذي هو إثبات المعنى للشي ء و نفيه عنه. يدلّك على ذلك أنك لا تنظر إلى شي ء من المعاني الغريبة التي تختصّ بقائل دون قائل، إلّا وجدت الأصل فيه و الأساس الإثبات و النّفي. و إن أردت في ذلك مثالا فانظر إلى بيت الفرزدق: [من الطويل ]

و ما حملت أمّ امرئ في ضلوعها أعقّ من الجاني عليها هجائيا (1)

فإنك إذا نظرت لم تشكّ في أن الأصل و الأساس هو قوله: «و ما حملت أم امرئ»، و أن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت، مستند إليه و مبنيّ عليه، و أنك إن رفعته لم تجد لشي ء منها بيانا، و لا رأيت لذكرها معنى، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذيانا. و السّبب الذي من أجله كان كذلك، أن من حكم كلّ ما عدا جزئي الجملة «الفعل و الفاعل» و «المبتدأ و الخبر»، أن يكون تخصيصا للمعنى المثبت أو المنفي، فقوله: «في ضلوعها»، يفيد أوّلا أنه لم يرد نفي الحمل على الإطلاق، و لكن الحمل في الضّلوع، و قوله: «أعقّ»، يفيد أنّه لم يرد هذا الحمل الذي هو حمل في الضّلوع أيضا على الإطلاق، و لكن حملا في الضلوع محموله أعقّ من الجاني عليها هجاءه. و إذا كان ذلك كلّه تخصيصا للحمل، لم يتصوّر أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل، لأنه لا يتصوّر تخصيص شي ء لم يدخل في نفي و لا إثبات، و لا ما كان في سبيلهما من الأمر به، و النهي عنه، و الاستخبار عنه.

و إذ قد ثبت أن الخبر و سائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، و يصرّفها في فكره، و يناجي بها قلبه، و يراجع فيها لبّه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها ).

ص: 355


1- سبق تخريجه (ص 342).

واقعة من المنشئ لها، و صادرة عن القاصد إليها. و إذا قلنا في الفعل: «إنه موضوع للخبر»، لم يكن المعنى فيه أنه موضوع لأن يعلم به الخبر في نفسه و جنسه، و من أصله، و ما هو؟ و لكن المعنى أنه موضوع، حتى إذا ضممته إلى اسم، عقل به و من ذلك الاسم، الخبر، بالمعنى الذي اشتقّ ذلك الفعل منه من مسمّى ذلك الاسم، واقعا منك أيّها المتكلّم، فاعرفه.

فصل [تحليلي للنظم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اعلم أنّك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم»، و ذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلّا و هو يعلم أن هاهنا نظما أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصّرهم ذلك تسدر أعينهم (1)، و تضلّ عنهم أفهامهم. و سبب ذلك أنهم أوّل شي ء عدموا العلم به نفسه، من حيث حسبوه شيئا غير توخّي معاني النحو، و جعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقي الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضا مزمنا، و داء متمكّنا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم (2) إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخّي معاني النحو، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم، حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. و ذلك أنّهم يروننا ندّعي المزيّة و الحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شي ء يتصوّر أن يتفاضل الناس في العلم به، و يروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو و وجوهه على شي ء نزعم أنّ من شأن هذا أن يوجب المزيّة لكلّ كلام يكون فيه، بل يروننا ندّعي المزيّة لكل ما ندّعيها له من معاني النحو و وجوهه و فروقه في موضع دون موضع، و في كلام دون كلام، و في الأقلّ دون الأكثر، و في الواحد من الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك، دخلتهم الشّبهة و قالوا: كيف يصير المعروف مجهولا؟ و من أين يتصوّر أن يكون للشي ء في كلام مزيّة عليه في كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟

فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع ثم لا يقتضي فضلا، و لا يوجب مزيّة، اتّهمونا في دعوانا ما ادّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى:

ص: 356


1- سدر بصره: تحيّر.
2- حلق من شعر يشد بها.

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، من أنّ له حسنا و مزيّة، و أنّ فيه بلاغة عجيبة، و ظنّوه و هما منّا و تخيّلا.

و لسنا نستطيع في كشف الشّبهة في هذا عنهم، و تصوير الذي هو الحقّ عندهم، ما استطعناه في نفس النظم، لأنّا ملكنا في ذلك أن نضطرّهم إلى أن يعلموا صحّة ما نقول. و ليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهيّن، و لا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كلّ أحد مسعفا، و السّعي منجحا، لأنّ المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها و تصوّر لهم شأنها، أمور خفيّة، و معان روحانيّة، أنت لا تستطيع أن تنبّه السامع لها، و تحدث له علما بها، حتى يكون مهيّئا لإدراكها، تكون فيه طبيعة قابلة لها، و يكون له ذوق و قريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه و الفروق أن تعرض فيها المزيّة على الجملة و من إذا تصفّح الكلام و تدبّر الشعر، فرّق بين موقع شي ء منها و شي ء، و من إذا أنشدته قوله: [من السريع

لي منك ما للنّاس كلّهم نظر و تسليم على الطّرق (1)

و قول البحتريّ: [من الكامل ]

و سأستقلّ لك الدّموع صبابة و لو أنّ دجلة لي عليك دموع (2)

و قوله: [من الطويل ]

رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها و قالت: نجوم لو طلعن بأسعد (3)

و قول أبي نواس: [من البسيط]

ص: 357


1- البيت لشمروخ، و هو: أبو عمارة محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي، و هي أبيات من معجم الشعراء (438)، و الزهرة (10)، و مصارع العشاق (174)، غير منسوب و أبياته هي: يا من بدائع حسن صورته تثنى إليه أعنة الحدق لي منك ما للناس كلهم نظر و تسليم على الطرق لكنهم سعدوا بأمنهم و شقيت حين أراك بالفرق سلموا من البلوى ولي كبد حرى و دمعة هائم ملق «شاكر».
2- البيت في الديوان (1/ 282) يودع إبراهيم بن حسن بن سهل.
3- البيت في ديوانه، و فلتات الشيب أول ما أسرع إليه من الشيب.

ركب تساقوا على الأكوار بينهم كأس الكرى، فانتشى المسقيّ و السّاقي

كأنّ أعناقهم، و النّوم واضعها على المناكب، لم تعمد بأعناق (1)

و قوله: [من الكامل ]

يا صاحبيّ عصيت مصطبحا و غدوت للّذّات مطّرحا

فتزوّدوا منّي محادثة، حذر العصا لم يبق لي مرحا (2)

و قول إسماعيل بن يسار: [من السريع

حتّى إذا الصّبح بدا ضوؤه و غابت الجوزاء و المرزم

خرجت و الوطء خفيّ كما ينساب من مكمنه الأرقم (3)

- أنق لها، و أخذته الأريحيّة عندها، و عرف لطف موقع «الحذف» و «التنكير» في قوله:

نظر و تسليم على الطّرق و ما في قول البحتري: «لي عليك دموع» من شبه السّحر، و أنّ ذلك من أجل تقديم «لي» على «عليك»، ثم تنكير «الدّموع» و عرف كذلك شرف قوله:

و قالت: نجوم لو طلعن بأسعد و علوّ طبقته، و دقّة صنعته.

و البلاء، و الدّاء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنّه ليكون أن يقع للرجل الشي ء من هذه الفروق و الوجوه في شعر يقوله، أو رسالة يكتبها، الموقع

ص: 358


1- البيتان في ديوانه (123)، في آخر باب المدائح (الفصل الثالث)، (ط) دار العرب للبستاني و هما في أربعة أبيات ينعت قوما قد سكروا من النعاس فمالت أعناقهم و البيتان بعدهما: ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة حتى أناخوا إليكم قبل إشراق من كل جائلة النسعين ضامرة مشتاقة حملت أنفاس مشتاق
2- البيتان لأبي نواس في ديوانه (246)، في باب الخمريات و هما يتصدران مجموعة أبيات آخرها: يثني العجاج على مفارقة بمعقب لم يعد أن وقحا و لقد حزنت فلم أمت حزنا و لقد فرحت فلم أطر فرحا
3- البيتان في الأغاني (4/ 408، 409، 410)، لإسماعيل بن يسار و غنى الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار فقال: من يقول هذا؟ قالوا: رجل من أهل الحجاز يقول له: إسماعيل بن يسار النسائي، فكتب في إشخاصه إليه، فلما دخل عليه استنشده القصيدة التي منها هذان البيتان فأنشده، فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه و سريره، و أمر المغنين فغنوه الصوت و شرب عليه أقداحا، و أمر لإسماعيل بكسوة و جائزة سنية، و سرحه إلى المدينة.

الحسن. ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأمّا الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه، فلست تملك إذا من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته وري، و قلب إذا أريته رأى، فأمّا و صاحبك من لا يرى ما تريه، و لا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام في غير مرمى، و معنّ نفسك في غير جدوى، و كما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التي بها يفهم، إلّا أنه إنما يكون البلاء إذا ظنّ العادم لها أنّه أوتيها، و أنه ممّن يكمل للحكم، و يصحّ منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم غبّه لا ستحيى منه. فأمّا الذي يحسّ بالنقص من نفسه، و يعلم أنه قد عدم علما قد أوتيه من سواه، فأنت منه في راحة، و هو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره، و أن يتكلّف ما ليس بأهل له.

و إذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة، و قوانين مضبوطة قد اشترك الناس في العلم بها، و اتّفقوا على أن البناء عليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه، لم تستطع ردّه عن هواه، و صرفه عن الرأي الذي رآه، إلا بعد الجهد، و إلا بعد أن يكون حصيفا عاقلا ثبتا إذا نبّه انتبه، و إذا قيل: إنّ عليك بقيّة من النظر، وقف و أصغى، و خشي أن يكون قد غرّ، احتاط باستماع ما يقال له، و أنف من أن يلجّ من غير بيّنه، و يستطيل بغير حجّة، و كان من هذا وصفه يعزّ و يقلّ فكيف بأن تردّ الناس عن رأيهم في هذا الشأن، و أصلك الذي تردّهم إليه، و تعوّل في محاجّتهم عليه، استشهاد القرائح، و سبر النفوس و فليها، و ما يعرض فيها من الأريحيّة عند ما تسمع، و كان ذلك الذي يفتح لك سمعهم، و يكشف الغطاء عن أعينهم، و يصرف إليك أوجههم، و هم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي و يفتي و يقضي، إلّا و عندهم أنهم ممّن صفت قريحته، و صحّ ذوقه، و تمّت أداته. فإذا قلت لهم: «إنكم قد أتيتم من أنفسكم»، ردّوا عليك مثله و قالوا: «لا، بل قرائحنا أصحّ، و نظرنا أصدق، و حسّنا أذكى، و إنّما الآفة فيكم لأنّكم خيّلتم إلى أنفسكم أمورا لا حاصل لها، و أوهمكم الهوى و الميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلا على الآخر، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولا» فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك غير التعجّب. فليس الكلام إذن بمغن عنك، و لا القول بنافع، و لا الحجّة مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه،. و من إذا أبى عليك أبى ذاك طبعه فردّه إليك، و فتح سمعه لك، و رفع الحجاب بينك و بينه، و أخذ به إلى حيث أنت، و صرف ناظره إلى الجهة الّتي أومأت، فاستبدل بالنّفار أنسا، و أراك من بعد الإباء قبولا.

و لم يكن الأمر على هذه الجملة إلّا لأن ليس في أصناف العلوم الخفية، و الأمور

ص: 359

الغامضة الدقيقة، أعجب طريقا في الخفاء من هذا. و إنك لتتعب في الشي ء نفسك، و تكدّ فيه فكرك، و تجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قلت قتلته علما، و أحكمته فهما، كنت بالّذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، و يعرض فيه من شك، كما قال أبو نواس: [من الطويل ]

ألا لا أرى مثل امترائي في رسم تغصّ به عيني و يلفظه وهمي

أتت صور الأشياء بيني و بينه فظنّي كلا ظنّ، و علمي كلا علم (1)

و إنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا و تفسّره، و لا ترى أنّ فيه شيئا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته، مثال ذلك بيت المتنبي: [من الكامل ]

عجبا له! حفظ العنان بأنمل ما حفظها الأشياء من عاداتها (2)

مضى الدهر الطويل و نحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا، و لا يقع لنا أن فيه خطأ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. و ذلك أنه كان ينبغي أن يقول: «ما حفظ الأشياء من عاداتها»، فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، و أنه يزعم أنّه لا يكون منها أصلا، و إضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: «ما حفظها الأشياء»، و يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظا.

و نظير هذا أنك تقول: «ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي»، و لا تقول:

«ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي»، و كذلك تقول: «ليس ذمّ النّاس من شأني»، و لا تقول: «ليس ذمّي الناس من شأني»، لأن ذلك يوجب إثبات الذّمّ و وجوده منك. و لا يصحّ قياس المصدر في هذا على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ أنه كما يجوز أن يقال: «ما من عادتها أن تحفظ الأشياء»، كذلك ينبغي أن يجوز: «ما من عادتها حفظها الأشياء»، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي

ص: 360


1- البيتان في ديوانه (313)، في باب الخمريات، و هما في مقدمة سبعة أبيات و بعدهما: فطب بحديث من نديم موافق و ساقية سن المراهق للحلم إذا هي قامت و السداسي طالها و بين النحيف الجسم و الحسن الجسم
2- البيت في ديوانه (1/ 231) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد بن عمران و مطلعها: سرب محاسنه حرمت ذواتها داني الصفات بعيد موصوفاتها أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي بشرا رأيت أرق من عبراتها و العنان: سير اللجام، الأنمل: رءوس الأصابع.

وجوده، و أنه قد كان منه، يبيّن ذلك أنك تقول: «أمرت زيدا بأن يخرج غدا»، و لا تقول: «أمرته بخروجه غدا».

و مما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله: [من البسيط]

و لا تشكّ إلى خلق فتشمته شكوى الجريح إلى الغربان و الرّخم (1)

و ذلك أنك إذا قلت: «لا تضجر ضجر زيد»، كنت قد جعلت زيدا يضجر ضربا من الضّجر، مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه. هذا هو موجب العرف. ثم إن لم تعتبر خصوص وصف، فلا أقلّ من أن تجعل الضّجر على الجملة من عادته، و أن تجعله قد كان منه. و إذا كان كذلك، اقتضى قوله:

شكوى الجريح إلى الغربان و الرّخم أن يكون هاهنا «جريح»، قد عرف من حاله أن يكون له «شكوى إلى الغربان و الرخم»، و ذلك محال. و إنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال: «لا تشكّ إلى خلق، فإنك إن فعلت كان مثل ذلك أن تصوّر في و همك أن بعيرا دبرا كشف عن جرحه، ثم شكاه إلى الغربان و الرّخم».

و من ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأوّل في الشي ء تأويلا و قضى فيه بأمر، فتعتقده اتّباعا له، و لا ترتاب أنه على ما قضى و تأوّل، و تبقى على ذلك الاعتقاد الزّمان الطويل، ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمر على خلاف ما قدّر. و مثال ذلك أن أبا القاسم الآمديّ، ذكر بيت البحتري: [من البسيط]

فصاغ ما صاغ من تبر و من ورق و حاك ما حاك من وشي و ديباج (2)

ثم قال (3): «صوغ الغيث و حوكه للنبات ليس باستعارة، بل هو حقيقة، و لذلك لا يقال: «هو صائغ» و لا «كأنه صائغ»، و كذلك لا يقال: «هو حائك»

ص: 361


1- البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (2/ 262) من قصيدة قالها بالكوفة يرثي أبا شجاع فاتك و يذكر مسيره من مصر. و مطلعها: حكام نحن نساري النجم في الظلم و ما سراه على خف و لا قدم و لا يحس بأجفان يحس بها فقد الرقاد غريب بات لم ينم تشك: أي تتشكى. الرخم: اسم طائر.
2- الديوان (1/ 387) يمدح إسحاق بن كنداج.
3- أي الآمدي صاحب كتاب الموازنة (1/ 497- 498) طبعة دار المعارف.

و «كأنّه حائك»، قال: «على أن لفظ «حائك» في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله: [من الطويل ]

إذا الغيث غادى نسجه خلت أنّه خلت حقب حرس له و هو حائك (1)

قال: و هذا قبيح جدّا».

و الذي قاله البحتري: «فحاك ما حاك»، حسن مستعمل، و السبب في هذا الذي قاله أنه ذهب إلى أنّ غرض أبي تمّام أن يقصد «بخلت» إلى «الحوك»، و أنه أراد أن يقول: «خلت الغيث حائكا»، و ذلك سهو منه، لأنه لم يقصد «بخلت» إلى ذلك، و إنما قصد أن يقول: إنّه يظهر في غداة يوم من حوك الغيث و نسجه بالذي ترى العيون من بدائع الأنوار و غرائب الأزهار، ما يتوهّم معه أن الغيث كان في فعل ذلك و في نسجه و حوكه، حقبا من الدهر. فالخيلولة واقعة على كون زمان الحوك حقبا، لا على كون ما فعله الغيث حوكا، فاعرفه.

و ممّا يدخل في ذلك ما حكي عن الصّاحب من أنه قال: «كان الأستاذ أبو الفضل (2) يختار من شعر ابن الرومي و ينقّط عليه، قال فدفع إليّ القصيدة التي أوّلها:

[من الطويل ]أ تحت ضلوعي جمرة تتوقّد (3) و قال: تأمّلها فتأمّلتها، فكان قد ترك خير بيت فيها، و هو: [من الطويل ]

بجهل كجهل السّيف و السّيف منتضى و حلم كحلم السّيف و السّيف مغمد (4)

فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه؟» قال: «ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّا من تركه. قال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يعده أربع مرّات فقال: «بجهل كجهل السيف و هو منتضى، حلم كحلم السيف و هو مغمد»، لفسد البيت. ).

ص: 362


1- البيت في ديوانه (211) من قصيدة في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، و مطلعها: قرى دارهم الدموع السوافك و إن عاد صبحي بعدهم و هو حالك و إن بكرت في ظعنهم و حدوجهم زيانب من أحبابنا و عواقك الحقبة: مدة من الدهر، الحرس: الدهر.
2- يعني ابن العميد. و الصاحب يعني ابن عباد. و «ينقط عليه» يضع نقطة علامة على اختياره.
3- (الديوان 2/ 484).
4- هو في ديوانه القصيدة في (584).

و الأمر كما قال الصاحب، و السبب في ذلك أنك إذا حدّثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر و لا تضمره.

تفسير هذا أنّ الذي هو الحسن الجميل أن تقول: «جاءني غلام زيد و زيد»، و يقبح أن تقول: «جاءني غلام زيد و هو»، و من الشاهد في ذلك قول دعبل: [من البسيط]

أضياف عمران في خصب و في سعة و في حباء و خير غير ممنوع

و ضيف عمرو و عمرو يسهران معا، عمرو لبطنته و الضّيف للجوع (1)

و قول الآخر: [من الطويل ]

و إن طرّة راقتك فانظر، فربّما أمر مذاق العود و العود أخضر (2)

و قول المتنبي

بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه إليك، و أهل الدّهر دونك و الدّهر (3)

ليس بخفيّ على من له ذوق أنه لو أتى موضع الظّاهر في ذلك كله بالضمير فقيل: «و ضيف عمرو و هو يسهران معا»، و «ربّما أمرّ مذاق العود و هو أخضر»، و «أهل الدهر دونك و هو»، لعدم حسن و مزيّة لا خفاء بأمرهما، و ليس لأن الشعر ينكسر، و لكن تنكره النفس.

و قد يرى في بادئ الرأي أن ذلك من أجل اللّبس، و أنك إذا قلت: «جاءني غلام زيد و هو»، كان الذي يقع في نفس السامع أن الضمير للغلام، و أنك على أن تجي ء له بخبر، إلّا أنه لا يستمرّ، من حيث أنّا نقول: «جاءني غلمان زيد و هو»، فتجد الاستنكار و نبوّ النفس، مع أن لا لبس مثل الذي وجدناه. و إذا كان كذلك، وجب أن يكون السبب غير ذلك. ر

ص: 363


1- البيتان في الكامل للمبرد (3/ 4) و هما منسوبان لدعبل.
2- البيت بلا نسبة في أسرار البلاغة (118)، و طرّة الجارية: أن يقطع لها في مقدم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج، تتجمل به.
3- البيت في ديوانه (1/ 108) و هو آخر بيت في قصيدة يمدح بها عبد اللّه بن يحيى البحتري، و مطلعها: أريقك أم ماء الغمامة أم خمر بقي برود و هو في كبدي جمر أ ذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة و ذيا الذي قلته البرق أم ثغر

و الذي يوجبه التأمل أن يردّ إلى الأصل الذي ذكره الجاحظ: من أنّ سائلا سأل عن قول قيس بن خارجة: «عندي قرى كلّ نازل، و رضى كلّ ساخط، و خطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، و أنهى فيها من التقاطع»، فقال:

أ ليس الأمر بالصّلة هو النهي عن التقاطع؟ قال فقال أبو يعقوب: أما علمت أن الكناية و التعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح و التكشيف»، و ذكرت هناك أن هذا الذي ذكر، من أن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105]، و قوله:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1- 2]، عمل لولاها لم يكن. و إذا كان هذا ثابتا معلوما، فهو حكم مسألتنا.

و من البيّن الجليّ في هذا المعنى و هو كبيت ابن الروميّ سواء، لأنه تشبيه مثله بيت الحماسة: [من الهزج

شددنا شدّة اللّيث غدا و اللّيث غضبان (1)

و من الباب قول النابغة: [من الرجز]

نفس عصام سوّدت عصاما و علّمته الكرّ و الإقداما (2)

لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، و أن له موقعا في النفس، و باعثا للأريحية، لا يكون إذا قيل: «نفس عصام سودته» شي ء منه البتّة.

«تم الكتاب» «في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمان و ستين و خمسمائة غفر اللّه لكاتبه و لوالديه و لجميع المؤمنين و المؤمنات برحمته إنه أرحم الراحمين و خير الغافرين»

ص: 364


1- للفند الزماني (شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1/ 13). و له رواية أخرى «مشينا مشية الليث».
2- البيت في ديوانه (69) في المدائح و الاعتذاريات و هو أول بيتين مفردين في الديوان و ثانية: و صيرته ملكا هماما حتى علا و جاوز الأقواما نفس عصام: نفس شرفت بذاتها فنالت العلى بكدها و اجتهادها. الكر: القتال و المواجهة و الإقدام.

فهرس المحتويات

المقدمة 3

المدخل في دلائل الإعجاز- و هو مقدمة الكتاب لمؤلفه 7

فاتحة المؤلف في بيان مكانة العلم 13

الكلام في الشعر- مناقشة من زهد في روايته و حفظه و ذم علمه و تتبعه 18

فصل: في تحقيق القول على البلاغة و الفصاحة 38

فصل: منه في أن نظم الكلام بحسب المعاني و الفرق بين نظم الكلم و نظم الحروف 42

فصل: منه في أن النظم متوقف على التركيب النحوي 45

فصل: منه في شبهة الذين حصروا الفصاحة في صفة اللفظ 46

فصل: في اللفظ يراد به غير ظاهره- الكناية و المجاز 51

فصل: في ترجيح الكناية و الاستعارة و التمثيل على الحقيقة 53

فصل: في تفاوت الكناية و الاستعارة و التمثيل 55

فصل: في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني و الأغراض 64

فصل: في النظم يتحد في الوضع، و يدق فيه الصنع 68

فصل: القول في التقديم و التأخير 76

المسند إليه. تقديمه مع الاستفهام التقريري و الإنكاري 87

الاستفهام له التقديم و الصدارة و تقديم ما يقارنه من اسم و فعل 89

فصل: النكرة. تقديمها على الفعل و عكسه 98

القول في الحذف 100

فصل: في تحليل مثال آخر للحذف 116

فصل: الفروق في الخبر- تقسيم الخبر 117

فصل: في الذي خصوصا 134

فروق في الحال 136

الاستئناف البياني في باب الفصل و الوصل 148

فصل: في نكتة عطف الجملة على ما قبل التي تليها 161

فصل منه في أن امتياز العبارة بالتأثير 161

فصل منه في أن معارضة الكلام في البلاغة بحسب معناه لا لفظه 165

فصل: لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير 170

ص: 365

فصل: فن آخر يرجع إلى هذا الكلام 171

الكلام ضربان 173

فصل: من دلالة المعنى على المعنى 175

فصل منه في اشتراط الذوق و الأريحية في هذا الباب 190

فصل: في المجاز الحكمي 191

فصل: في الكناية و التعريض 199

فصل: في إن و مواضعها، و الفروق التي تجهلها العلماء فيها 206

فصل: في مسائل «إنما» و مواقعها 214

بيان آخر في «إنما» و كونها بمعنى «لا» العاطفة 219

فصل: في نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه بما و إلا 228

فصل: في العود إلى مباحث إنما 228

فصل: من باب اللفظ و النظم في الحكاية 233

فصل: منه في اختصاص القول بقائله 234

فصل: منه في فساد ملكة الفهم بالتقليد 236

غلط الناس في معنى الحقيقة و المجاز. 239

فصل: في أن الفصاحة و البلاغة للمعاني 259

فصل: في علاقة الفكر بمعاني النحو 261

فصل: في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدهما فصيح و الآخر غير فصيح 268

فصل: في ختام كتابه دلائل الإعجاز يصف به عمله 301

فصل: كشف شبهة التعبير عن المعنى بلفظين فصيح و غير فصيح 303

القسم الثاني في البيتين صنعة و تصويرا 321

فصل: في أن النظم هو توخي المعاني. 343

فصل 352

فصل: تحليلي للنظم 356

ص: 366

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.